الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
يوم الأحد السابع من شهر ذي القعدة 7/ 11/ 1428 هـ أول الجزء الثاني والعشرين من شرح صحيح الإمام مسلم المسمَّى "البحر المحيط الثجّاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجَّاج" رحمه الله تعالى.
14 - (كِتَابُ الاعْتِكَافِ)
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى مناسبة "كتاب الاعتكاف" لكتاب الصوم؛ فإن الاعتكاف الذي نُقل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان في رمضان، كما تبيّن في الأحاديث السابقة، فتنبّه.
قال الفيّوميّ رحمه الله: عَكَفَ على الشيء عُكُوفًا، وعَكْفًا، من بابي قَعَدَ، وضَرَبَ: لازمه، وواظبه، وقُرئ بهما في السبعة في قوله تعالى:{يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138]، وعَكَفْتُ الشيءَ أَعْكُفُهُ وأَعْكِفُهُ: حبَسْتُهُ، ومنه الاعتكاف، وهو افتعالٌ؛ لأنه حَبْسُ النفس عن التصرّفات العاديّة، وعَكَفتُهُ عن حاجته؛ منعتُهُ. انتهى
(1)
.
وقال في "المجموع": أصل الاعتكاف في اللغة اللَّبْثُ، والحبس، والملازمة، قال الشافعيّ في "سنن حرملة": الاعتكاف: لزوم المرء شيئًا، وحبس نفسه عليه بِرًّا كان أو إثمًا، قال الله تعالى:{مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52]، وقال تعالى:{يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138]، وقال تعالى في البرّ:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]، وسُمِّي الاعتكاف الشرعيّ اعتكافًا؛ لملازمة المسجد، يقال: عَكَفَ يَعْكُفُ، ويَعْكِفُ بضم الكاف، وكسرها، لغتان مشهورتان، عَكْفًا،
(1)
"المصباح المنير" 2/ 424.
وعُكُوفًا: أي أقام على الشيء ولازمه، وعَكَفته أَعْكِفه بكسر الكاف عَكْفًا لا غير
(1)
، قالوا: فلفظ عَكَف يكون لازمًا ومتعديًا، كما ذكرنا، كرَجَعَ، ورجعته، ونَقَصَ، ونقصته، ويسمى الاعتكاف جوارًا، ومنه حديث عائشة الذي سبق قريبًا في أحاديث ليلة القدر عن صحيح البخاري، وهو قولها: وهو مجاور في المسجد. والاعتكاف في الشرع: هو اللبث في المسجد من شخص مخصوص بنيّة مخصوصة
(2)
.
وقال في "الفتح": الاعتكاف: لغةً لزوم الشيء، وحبس النفس عليه، وشرعًا: الْمُقام في المسجد، من شخص مخصوص، على صفة مخصوصة، وليس بواجب إجماعًا إلَّا على من نذره، وكذا مَن شَرَع فيه فقطعه عامدًا عند قوم، واختُلِف في اشتراط الصوم له، وانفرد سُوَيد بن غَفَلَة باشتراط الطهارة له. انتهى
(3)
.
وقال ابن قُدامة رحمه الله: الاعتكاف في اللغة: لزوم الشيء، وحَبْس النفس عليه بِرًّا كان أو غيره، ومنه قوله تعالى:{مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52]، وقال:{يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138].
قال الخليل: عَكَفَ يَعْكُفُ، وَيعْكِفُ، وهو في الشرع: الإقامة في المسجد على صفة نذكرها، وهو قربة، وطاعة، قال الله تعالى:{أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} [البقرة: 125]، وقال:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ} [البقرة: 187]، وقالت عائشة رضي الله عنها: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر. مُتَّفَقٌ عليه.
ورَوَى ابن ماجة في "سننه" عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال في المعتكف:"هو يَعْكِف الذنوب، ويُجْرَى له من الحسنات، كعامل الحسنات كلِّها"، وهذا الحديث ضعيف، وفي إسناده فَرْقَد السَّبَخِيّ
(4)
، قال أبو داود:
(1)
هذا فيه نظر، فقد تقدّم عن "المصباح" بالوجهين، ونحوه في عبارة "القاموس"، فتنبّه.
(2)
"المجموع شرح المهذّب" 6/ 468.
(3)
"الفتح" 4/ 271.
(4)
والراوي عنه عُبيدة العميّ: مجهول.
قلت لأحمد رحمه الله: تَعْرِف في فضل الاعتكاف شيئًا؟ قال: لا إلَّا شيئًا ضعيفًا، ولا نعلم بين العلماء خلافًا في أنه مسنون. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: اختُلف هل الاعتكاف والمجاورة بمعنى واحد أم لا؟:
قال وليّ الدين رحمه الله: وأما المجاورة فهي بمعنى الاعتكاف، صَرَّح غير واحد من أهل اللغة والغريب بأنها الاعتكاف في المسجد، منهم الجوهريّ في "الصحاح"، وابن الأثير في "النهاية". قال: وحَكَى والدي: رحمه الله في "شرح الترمذيّ" خلافًا في أن المجاورة الاعتكافُ أو غيره، فقال عمرو بن دينار: الجوار والاعتكاف واحد، وسئل عطاء بن أبي رَبَاح: أرأيت الجوار والاعتكاف أمختلفان هما أم شيء واحد؟ قال: بل هما مختلفان، كانت بيوت النبيّ صلى الله عليه وسلم في المسجد، فلما اعتَكَف في شهر رمضان خرج من بيوته إلى بطن المسجد، فاعتكف فيه، قيل له: فان قال إنسان: عليّ اعتكاف أيام، ففي جوفه لا بدّ؟ قال: نعم، وإن قال: عليّ جوار أيام، فبابه، أو في جوفه إن شاء. كذا رواه عبد الرزاق في "المصنّف" عنهما.
قال والدي: وقول عمرو بن دينار هو الموافق للأحاديث. انتهى.
وذهب أبو القاسم السُّهيليّ إلى الثاني، فقال في "الروض": إن بينهما فرقًا، وهو أن الاعتكاف لا يكون إلَّا داخل المسجد، والجوار قد يكون خارجه، كذلك قال ابن عبد البر وغيره. انتهى
(2)
.
(1) - (بَابُ اعْتِكَافِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2780]
(1171) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتكِفُ في الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ").
(1)
"المغني" لابن قُدامة رحمه الله 3/ 63.
(2)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 4/ 159.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ
(1)
الرَّازِيُّ) الْجَمّال - بالجيم - أبو جعفر الرازيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 239) أو التي قبلها (خ م د) تقدم في "الإيمان" 26/ 212.
2 -
(حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) الحارثيّ، أبو إسماعيل المدنيّ، كوفيّ الأصل، صدوق يَهِم، صحيح الكتاب [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الصلاة" 42/ 1086.
3 -
(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عيّاش الأسديّ مولى آل الزبير، ثقةٌ فقيهٌ، إمامٌ في المغازي [51](ت 141 أو بعد ذلك)(ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.
4 -
(نَافِعٌ) مولى ابن عمر، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهورٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
5 -
(ابْنُ عُمَرَ) عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما، المتوفى سنة (3 أو 74)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فانفرد به هو والبخاريّ، وأبو داود.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، فرازيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.
5 -
(ومنها): أن فيه ابن عمر رضي الله عنهما اشتهر بشدّة اتّباعه للأثر، وهو أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: "أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ) تقدّم أن الاعتكاف في اللغة: هو ملازمة الشيء، والإقامة فيه، ولَمّا كان المعتكف ملازمًا للعمل بطاعة الله تعالى مدة اعتكافه لزمه هذا الاسم، وهو في عرف الشرع: ملازمة طاعةٍ مخصوصة، على شرط مخصوص، في موضع مخصوص، على ما يأتي
(1)
بكسر الميم، وسكون الهاء.
تفصيله، وأجمعوا على أنه ليس بواجب، وهو قربة من القُرب، ونافلة من النوافل، عَمِل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأزواجه من بعده (فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ") زاد في الرواية التالية:"قال نافع: وقد أراني عبد الله رضي الله عنه المكان الذي كان يعتكف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد"، وزاد ابن ماجة من وجه آخر عن نافع:"إن ابن عمر كان إذا اعتكف طُرح له فراشه وراء أسطوانة التوبة"، وزاد في حديث عائشة رضي الله عنها الآتي:"حتى توفّاه الله عز وجل، ثمّ اعتَكَف أزواجه من بعده".
قال في "الفتح": فيؤخذ من الحديث الأول اشتراط المسجد له، ومن الثاني أنه لَمْ يُنْسَخ، وليس من الخصائص، وأما قول ابن نافع عن مالك: فَكَّرتُ في الاعتكاف، وترك الصحابة له مع شدة اتّباعهم للأثر، فوقع في نفسي أنه كالوصال، وأراهم تركوه لشدته، ولم يبلغني عن أحد من السلف أنه اعتكف إلَّا عن أبي بكر بن عبد الرَّحمن. انتهى.
وكأنه أراد صفة مخصوصة، وإلا فقد حكيناه عن غير واحد من الصحابة، ومن كلام مالك أَخَذ بعض أصحابه أن الاعتكاف جائزٌ، وأنكر ذلك عليهم ابن العربيّ، وقال: إنه سنة مؤكدة، وكذا قال ابن بطال: في مواظبة النبيّ صلى الله عليه وسلم ما يدلّ على تأكده، وقال أبو داود عن أحمد: لا أعلم عن أحد من العلماء خلافًا أنه مسنون. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 2780 و 2781](1171)، و (البخاريّ) في "الاعتكاف"(2025)، و (أبو داود) في "الاعتكاف"(2465)، و (ابن ماجة) في "الاعتكاف"(1773)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 133)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 259)، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 5/ 477.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب الاعتكاف في الجملة، وهو مجمع عليه، كما حكاه غير واحد، وحَكَى ابن العربيّ عن أصحابهم أنهم يقولون في كتبهم: الاعتكاف جائز، قال: وهو جهل. انتهى.
وفي "سنن ابن ماجة" عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المعتكف: "هو يعكف الذنوب، ويجرى له من الحسنات كعامل الحسنات كلها"، وهو ضعيف؛ لأن في سنده فَرْقدًا السَّبَخيّ ضعيف.
ورَوَى أبو الشيخ في "فضائل الأعمال" عن أبي بكر رضي الله عنه قال: خبّرني رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه من اعتكف يومًا وليلة يريد بذلك وجه الله خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه"، وهو أيضًا ضعيف.
2 -
(ومنها): بيان تأكده في العشر الأواخر من رمضان، وسببه طلب ليلة القدر، فإنها عند الجمهور منحصرة في العشر الأخير، وقد تقدّم أدلّة ذلك في أحاديث الباب الماضي.
3 -
(ومنها): أن قوله: "في العشر الأواخر" هي الليالي، وكان يعتكف الأيام معها أيضًا، فلم يكن يقتصر على اعتكاف الليالي، وإنما اقتصر على ذكرها على عادة العرب في التأريخ بها، وهذا يدلّ على دخوله محل الاعتكاف قبل غروب الشمس ليلة الحادي والعشرين، وإلا لَمْ يكن اعتكف عشرًا، أو شهرًا، وبه قال الأئمة الأربعة، وحكاه الترمذيّ عن الثوريّ.
وقال آخرون: بل يبدأ العشر بكمالها، وهذا هو المعتبر عند الجمهور لمن أراد الاعتكاف من أول النهار، وهو قول الأوزاعيّ، وأبي ثور، وإسحاق ابن راهويه، وابن المنذر رحمه الله، والليث بن سعد في أحد قوليه، وحكاه الترمذيّ عن أحمد بن حنبل، وحكاه النوويّ في "شرحه" عن الثوريّ، وصححه ابن العربيّ، وقال ابن عبد البرّ: لا أعلم أحدًا من فقهاء الأمصار قال به إلَّا الأوزاعيّ، والليث، وقال به طائفة من التابعين. انتهى.
واحتجّوا بحديث عائشة رضي الله عنها الآتي في الباب التالي: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الصبح، ثم دخل مُعتَكفه"، متّفقٌ عليه.
وتأوله الجمهور على أنه دخل المعتكَف، وانقطع فيه، وتخلى بنفسه بعد
صلاته الصبح، لا أن ذلك وقت ابتداء الاعتكاف، بل كان من قبل المغرب معتكفًا لابثًا في المسجد، فلما صلى الصبح انفرد.
4 -
(ومنها): بيان جواز أن يقال: رمضان من غير ذكر الشهر، وبه قال البخاريّ، ونقله النوويّ عن المحققين، قالوا: ولا كراهة في ذلك.
وقالت طائفة: لا يقال: رمضان على انفراده، وإنما يقال: شهر رمضان، وهو قول المالكية، وتعلقوا في ذلك بأن رمضان اسم من أسماء الله تعالى، فلا يُطْلَق على غيره إلَّا أن يُقَيَّد، وقال أكثر أصحاب الشافعيّ، وابن الباقلانيّ: إن كانت قرينة تصرفه إلى الشهر فلا كراهة، دالا فيكره، فيقال: صمنا رمضان، ونحوه، ويكره جاء رمضان ونحوه، فهذه ثلاثة مذاهب.
قال النوويّ رحمه الله: والأول هو الصواب، والمذهبان الأخيران فاسدان؛ لأن الكراهة إنما تثبت بنهي شرعيّ، ولم يثبت فيه نهيّ، وقولهم: إنه اسم من أسماء الله تعالى ليس بصحيح، ولم يصح فيه شيء، وإن كان قد جاء فيه أثر ضعيف، وأسماء الله تعالى توقيفيةٌ، لا تطلق إلَّا بدليل صحيح، ولو ثبت أنه اسم لَمْ يلزم منه كراهة. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو تحقيقٌ حسنٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
5 -
(ومنها): أن في قول عائشة رضي الله عنها: "حتى قبضه الله" استمرار هذا الحكم، وعدم نسخه، وأكدت ذلك بقولها:"ثم اعتكف أزواجه من بعده"، فأشارت إلى استمرار حكمه حتى في حقّ النساء، فكُنّ أمهاتُ المؤمنين يعتكفن بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم من غير نكير، وإن كان هو في حياته قد أنكر عليهنّ الاعتكاف بعد إذنه لبعضهنّ، كما هو في الحديث الصحيح، فذاك لمعنى آخر، وهو كما قيل: خوف أن يكنّ غير مُخْلِصات في الاعتكاف، بل أردن القُرْب منه صلى الله عليه وسلم لغيرتهن عليه، أو لغيرته عليهنّ، أو ذهاب المقصود من الاعتكاف بكونهنّ معه في المعتكَف، أو لتضييقهن المسجد بأبنيتهن، والله أعلم.
6 -
(ومنها): أن فيه استحبابَ الاستمرار على ما اعتاده من فعل الخير، وأنه لا يقطعه، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو:"يا عبد الله لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فتركه"، متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في بيان حكم الاعتكاف:
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: أجمع أهل العلم على أن الاعتكاف سنة، لا يجب على الناس فرضًا إلَّا أن يوجب المرء على نفسه الاعتكاف نذرًا، فيجب عليه، ومما يدلُّ على أنه سنةٌ فعلُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومداومته عليه تقربًا إلى الله تعالى وطلبًا لثوابه واعتكاف أزواجه معه وبعده. ويدلّ على أنه غير واجب أن أصحابه لَمْ يعتكفوا، ولا أمَرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم إلَّا من أراده، وقال صلى الله عليه وسلم:"من أراد أن يعتكف، فليعتكف العشر الأواخر"، ولو كان واجبًا لَمَا عَلّقه بالإرادة، وأما إذا نذره فيلزمه؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من نذر أن يطيع الله فليطعه"، رواه البخاريّ، وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أوف بنذرك"، متّفقٌ عليه
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد عُلم بما سبق أن الاعتكاف سنةٌ، وليس بواجب إلَّا بالنذر، وهذا مجمع عليه، وأقوى دليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:"من أراد أن يعتكف فليعتكف العشر الأواخر"، فجعله إلى إرادة الشخص، وهذا شان الاستحباب لا الوجوب، فتنبّه والله تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في اشتراط المسجد للاعتكاف:
قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب الاعتكاف في العشر الأواخر، والاعتكاف في المساجد كلّها"، قال في "الفتح": أي مشروطية المسجد له من غير تخصيص بمسجد دون مسجد؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} الآية [البقرة: 187]، ووجه الدلالة من الآية أنه لو صح في غير المسجد لَمْ يختص تحريم المباشرة به؛ لأن الجماع مناف للاعتكاف بالإجماع، فعُلم من ذكر المساجد أن المراد أن الاعتكاف لا يكون إلَّا فيها، ونَقَل ابن المنذر رحمه الله الإجماع على أن المراد بالمباشرة في الآية الجماع، ورَوَى الطبري وغيره من طريق قتادة، في سبب نزول الآية: كانوا إذا اعتكفوا،
(1)
"المغني" 3/ 63.
فخرج رجل لحاجته، فلقي امرأته جامعها إن شاء، فنزلت.
واتَّفَق العلماء على مشروطية المسجد للاعتكاف، إلَّا محمد بن عمر بن لبابة المالكيّ، فأجازه في كلّ مكان، وأجاز الحنفية للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها، وهو المكان المعَدّ للصلاة فيه، وفيه قول للشافعي قديم، وفي وجه لأصحابه، وللمالكية: يجوز للرجال والنساء؛ لأن التطوع في البيوت أفضل.
وذهب أبو حنيفة، وأحمد إلى اختصاصه بالمساجد التي تقام فيها الصلوات، وخصّه أبو يوسف بالواجب منه، وأما النفل ففي كلّ مسجد.
وقال الجمهور بعمومه من كلّ مسجد إلَّا لمن تلزمه الجمعة، فاستَحَبّ له الشافعيّ في الجامع، وشرَطه مالك؛ لأن الاعتكاف عندهما ينقطع بالجمعة، ويجب بالشروع عند مالك.
وخصّه طائفة من السلف كالزهريّ بالجامع مطلقًا، وأومأ إليه الشافعيّ في القديم.
وخصّه حُذيفة بن اليمان بالمساجد الثلاثة، وعطاء بمسجد مكة والمدينة، وابن المسيِّب بمسجد المدينة. انتهى
(1)
.
وقال الإمام ابن قُدامة رحمه الله: ولا يجوز الاعتكاف إلَّا في مسجد يُجَمَّع فيه؛ يعني تقام الجماعة فيه، وإنما اشتُرِط ذلك؛ لأن الجماعة واجبة، واعتكاف الرجل في مسجد لا تقام فيه الجماعة يُفضي إلى أحد أمرين: إما ترك الجماعة الواجبة، وإما خروجه إليها، فيتكرر ذلك منه كثيرًا، مع إمكان التحرز منه، وذلك مناف للاعتكاف إذ هو لزوم المعتكَف، والإقامةُ على طاعة الله فيه، ولا يصح الاعتكاف في غير مسجد؛ إذا كان المعتكف رجلًا، لا نعلم في هذا بين أهل العلم خلافًا.
والأصل فيه قول الله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]، فخصّها بذلك، فلو صح الاعتكاف في غيرها لَمْ يختص تحريم المباشرة فيها، فإن المباشرة محرمة في الاعتكاف مطلقًا. انتهى
(2)
.
(1)
"الفتح" 5/ 476.
(2)
"المغني" 3/ 123.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أقرب الأقوال، وأظهرها أن الاعتكاف لا يجوز إلَّا في مسجد تقام فيه الجماعة، كما حقّقه ابن قُدامة رحمه الله فتأمّل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في مدّة الاعتكاف، وفي اشتراط الصوم فيه:
قال في "الفتح": واتَّفَقوا على أنه لا حدّ لأكثره، واختلفوا في أقله فمن شَرَط فيه الصيام قال: أقله يوم، ومنهم من قال: يصح مع شرط الصيام في دون اليوم، حكاه ابن قدامة، وعن مالك: يشترط عشرة أيام، وعنه: يوم أو يومان، ومن لَمْ يشترط الصوم قالوا: أقله ما يُطْلَق عليه اسم لَبْث، ولا يشترط القعود، وقيل: يكفي المرور مع النية، كوقوف عرفة.
ورَوَى عبد الرزاق عن يعلى بن أمية الصحابي رضي الله عنه: إني لأمكث في المسجد الساعةَ، وما أمكث إلَّا لأعتكف. انتهى
(1)
.
وقال ابن قُدامة رحمه الله: المشهور في المذهب أن الاعتكاف يصح بغير صوم، رُوي ذلك عن عليّ، وابن مسعود، وسعيد بن المسيِّب، وعمر بن عبد العزيز، والحسن، وعطاء، وطاوس، والشافعيّ، وإسحاق.
وعن أحمد رواية أخرى: أن الصوم شرط في الاعتكاف، قال: إذا اعتكف يجب عليه الصوم؛ وروي ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وبه قال الزهريّ، ومالك، وأبو حنيفة، والليث، والثوريّ، والحسن بن حيّ؛ لما رُوي عن عائشة رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا اعتكاف إلَّا بصوم"، رواه الدارقطنيّ.
وعن ابن عمر: أن عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية، فسال النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"اعتكف، وصم"، رواه أبو داود.
واحتجّ الأولون بما رواه البخاريّ عن ابن عمر رضي الله عنهما عن عمر رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أوف بنذرك"، ولو كان الصوم شرطًا لما صَحَ اعتكافه بالليل.
(1)
"الفتح" 5/ 476.
والجواب عما احتجّ به الآخرون: أنه لا يصحّ، أما حديثهم عن عمر فتفرد به عبد الله بن بديل، وهو ضعيف، قال أبو بكر النيسابوريّ: هذا حديث منكر، والصحيح عنه ما أخرجه البخاريّ الذي ذكرناه آنفًا.
وأما حديث عائشة رضي الله عنها فموقوف عليها، ومن رفعه فقد وَهِمَ، ولو صحّ فالمراد به الاستحباب، فإن الصوم فيه أفضل
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من بيان الأقوال، وأدلتّها أن الأرجح أنه لا يُشترط الصوم للاعتكاف؛ لقوّة دليله، وأنه لا حدّ لأقل الاعتكاف، بل ما يُطلق عليه الاسم؛ لإطلاق الأدلّة، لكن كونه في العشر الأواخر من رمضان هو الأولى؛ اقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): في اختلاف أهل العلم في خروج المعتكِف من محل اعتكافه:
قال ابن قُدامة رحمه الله: ليس للمعتكف الخروج من معتكفه إلَّا لما لا بُدّ له منه، قالت عائشة رضي الله عنها: السنة للمعتكف أن لا يخرج إلَّا لما لا بدّ له منه، رواه أبو داود، وقالت أيضًا:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يُدني إليّ رأسه، فأُرَجِّله، وكان لا يدخل البيت إلَّا لحاجة الإنسان"، مُتَّفَقٌ عليه. ولا خلاف في أن له الخروج لما لا بُدّ له منه، قال ابن المنذر رحمه الله: أجمع أهل العلم على أن للمعتكف أن يخرج من معتكفه للغائط والبول، ولأن هذا مما لا بدّ منه، ولا يمكن فعله في المسجد، فلو بطل الاعتكاف بخروجه إليه لَمْ يصح لأحد الاعتكاف، ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يعتكف، وقد علمنا أنه كان يخرج لقضاء حاجته، والمراد بحاجة الإنسان البول والغائط، كُنِي بذلك عنهما؛ لأن كلّ إنسان يحتاج إلى فعلهما، وفي معناه الحاجة إلى المأكول والمشروب؛ إذا لَمْ يكن له من يأتيه به، فله الخروج إليه إذا احتاج إليه، وإن بَغَتَهُ القيء، فله أن يخرج ليتقيأ خارج المسجد، وكل ما لا بدّ له منه، ولا يمكن فعله في المسجد، فله الخروج إليه، ولا يفسد اعتكافه، وهو عليه ما لَمْ يَطُل، وكذلك
(1)
راجع: "المغني" 3/ 120 - 121.
له الخروج إلى ما أوجبه الله تعالى عليه، مثل من يعتكف في مسجد لا جمعة فيه، فيحتاج إلى خروجه ليصلي الجمعة، ويلزمه السعي إليها، فله الخروج إليها، ولا يبطل اعتكافه.
وبهذا قال أبو حنيفة، وقال الشافعيّ: لا يعتكف في غير الجامع؛ إذا كان اعتكافه يتخلله جمعة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة وأحمد -رحمهما الله تعالى - كما بيّنه ابن قُدامة رحمه الله هو الأرجح، فيجوز الاعتكاف في مسجد لا تقام فيه الجمعة؛ لإطلاق النصّ {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} ، ويجوز أن يخرج لأداء الجمعة إلى مسجد الجمعة؛ لأنه أمر ضروريّ شرعًا، فيجوز الخروج له، كما جاز الخروج لحاجة الإنسان؛ لحديث عائشة رضي الله عنها المذكور، فتبصر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2781]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، أَن نَافِعًا حَدَّثَهُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنها: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ"، قَالَ نَافِعٌ: "وَقَدْ أَرَانِي عَبْدُ اللهِ رضي الله عنه الْمَكَانَ الَّذِي كَانَ يَعْتَكِفُ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَسْجِدِ")
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السَّرْح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ) بن أبي النِّجَاد الأيليّ، أبو يزيد الأمويّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
(1)
"المغني" 3/ 132 - 133.
والباقيان ذُكرا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2782]
(1172) - (وَحَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ خَالِدٍ السَّكُونِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْتكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ) بن فارس الْكِنْديّ، أبو مسعود العسكريّ، نزيل الريّ، صدوقٌ [10](ت 235)(م) تقدم في "الإيمان" 5/ 121.
2 -
(عُقْبَةُ بْنُ خَالِدٍ السَّكُونِيُّ) أبو مسعود الكوفيّ الْمُجَدَّرُ، صدوقٌ صاحب حديث [8](ت 188)(ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 3/ 1593.
3 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن حفص بن عاصم بن عُمر بن الخطّاب العُمريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [5] مات سنة بضع و (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
4 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ) بن محمد بن أبي بكر الصدّيق التيميّ، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضل [6](ت 126) أو قبلها (ع) تقدم في "الحيض" 27/ 822.
5 -
(أَبُوهُ) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصدّيق التيميّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [3](ت 106) على الصحيح (ع) تقدم في "الحيض" 3/ 695.
6 -
(عَائِشَةُ) بنت الصدّيق أم المؤمنين رضي الله عنهما، ماتت (57)(ع) تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315، وشرح الحديث واضح يُعلم مما سبق.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 2782 و 2783 و 2784، (1172)، و (البخاريّ) في "الاعتكاف"(2019 و 2020 و 2026)، و (أبو داود) في "الصوم"(2462)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(792)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(3338)، و (أحمد) في "مسنده"(50 و 56 و 92 و 204 و 232 و 279)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 259)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 201)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 315 و 320)، و"الصغرى"(3/ 459)، و"المعرفة"(3/ 360)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والماب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2783]
(
…
) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ (ع) وَحَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، أَخْبَرَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، جَمِيعًا عَنْ هِشَامٍ (ع) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَاللَّفْظُ لَهُمَا، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ).
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، أبو زكرياء النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226) على الصحيح (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(أَبُو مُعَاوِيةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ، أثبت الناس في الأعمش، من كبار [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
3 -
(حَفْصُ بْنُ غِيَاثِ) بن طَلْق بن معاوية النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ، ثقةٌ فقيه، تغيّر حفظه قليلًا في الآخر [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.
4 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظٌ، صاحب تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
5 -
(أَبُو كُرَيْب) محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247) وهو ابن (87) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
6 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنّيّ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
7 -
(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) بن الزبير الأسديّ، أبو المنذر رحمه الله المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ، ربّما دلّس [5](ت 5 أو 146) وله (87) سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 350.
8 -
(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العوّام، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهور [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.
والباقيان ذكرا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2784]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ عز وجل، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
2 -
(لَيْثُ) بن سعد الفهميّ مولاهم، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمام مشهور [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2/ ص 412.
3 -
(عُقَيْلُ) بن خالد الأمويّ مولاهم، أبو خالد الأيليّ، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 133.
4 -
(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم الإمام الحجة المثبت المشهور، من كبار [4](ت 125)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقولها: (حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ عز وجل، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ) أشارت بالأول
إلى أن الاعتكاف لَمْ يُنسخ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ما تركه حتى توفّاه الله عز وجل، وأشارت بالثاني أنه ليس من خصائص النبيّ صلى الله عليه وسلم.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(2) - (بَابُ مَتَى يَدْخُلُ مَنْ أَرَادَ الِاعْتِكَافَ فِي مُعْتَكَفِهِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2785]
(1173) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ، ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ، وَإِنَّهُ أَمَرَ بِخِبَائِهِ، فَضُرِبَ، أَرَادَ الِاعْتِكَافَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَأَمَرَتْ زَيْنَبُ بِخِبَائِهَا، فَضُرِبَ، وَأَمَرَ فَيْرُهَا مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِخبَائِهِ، فَضُرِبَ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْفَجْرَ نَظَرَ، فَإِذَا الْأَخْبِيَةُ، فَقَالَ: "آلْبِرَّ تُرِدْنَ؟ " فَأَمَرَ بِخِبَائِهِ فَقُوِّضَ، وَتَرَكَ الِاعْتِكَافَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، حَتَّى اعْتَكَفَ في الْعَشْرِ الْأَوَّلِ مِنْ شَوَّالٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ) بن قيس الأنصاريّ، أبو سعيد المدنيّ القاضي، ثقةٌ ثبت [5](ت 144)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.
2 -
(عَمْرَةُ) بنت عبد الرَّحمن بن سعد بن زُرَارة الأنصاريّة المدنيّة، ثقةٌ [3] ماتت قبل المائة، وقيل: بعدها (ع) تقدمت في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 417.
والباقون تقدّموا قبل حديث.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رواته رواة الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من يحيى.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّة.
5 -
(ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَمْرَةَ) في رواية الأوزاعيّ عند البخاريّ، عن يحيى بن سعيد:"حدّثتني عمرة بنت عبد الرَّحمن"(عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها) أنَّها (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ، ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ) بضم الميم، بصيغة اسم المفعول: أي محلّ اعتكافه، وفي رواية البخاريّ:"فيصلي الصبح، ثم يدخله"، وفي رواية له:"كان يعتكف في كلّ رمضان، فماذا صلّى الغداة دخل".
واستُدلّ به على أن مبدأ الاعتكاف من أول النهار، وسيأتي نقل الخلاف فيه.
(وَإِنَّهُ أَمَرَ بِخِبَائِهِ) بكسر المعجمة، ثم موحّدة: ما يُعمل من وَبَر، أو صوف، وقد يكون من شعر، والجمع أخبيةٌ بغير همز، مثلُ كساء وأَكسية، ويكون على عمودين، أو ثلاثة، وما فوق ذلك فهو بيت، قاله الفيّوميّ
(1)
. (فَضُرِبَ) بالبناء للمفعول، وقد بيّنت في رواية البخاريّ أنَّها الضاربة له، ولفظه:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، فكنت أضرب له خِباءه".
وقوله: (أَرَادَ الِاعْتِكَافَ) جملة في محلّ نصب على الحال من ضمير "أَمَرَ"(فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَأَمَرَتْ زَيْنَبُ بِخِبَائِهَا) وفي رواية البخاريّ من طريق حماد بن زيد، عن يحيى:"فاستأذنت حفصة عائشة أن تضرب خباءً، فاذنت لها، فضَرَبت خباءً، فلما رأته زينب بنت جحش ضَرَبت خباءً آخر"، وفي رواية له من طريق الأوزاعيّ، عن يحيى:"فاستأذنته عائشة، فأَذِن لها، وسألت حفصة عائشة أن تستأذن لها، ففعلت"، وفي رواية ابن فضيل، عن
(1)
"المصباح المنير" 1/ 163.
يحيى: "فاستأذنت عائشة أن تعتكف، فأَذِن لها، فضَرَبت قبة، فسمعت بها حفصة، فضربت قبةً"، زاد في رواية عمرو بن الحارث:"لتعتكف معه"، وهذا يشعر بأنها فعلت ذلك بغير إذن، لكن رواية ابن عيينة عند النسائيّ:"ثم استاذنته حفصة، فأذن لها"، وقد ظهر من رواية حماد، والأوزاعيّ أن ذلك كان على لسان عائشة رضي الله عنها.
وقوله: "فلما رأته زينب بنت جحش ضربت خباء آخر"، وفي رواية ابن فضيل:"وسمعت بها زينب، فضَرَبت قبة أخرى"، وفي رواية عمرو بن الحارث:"فلما رأته زينب ضربت معهنّ، وكانت امرأة غَيُورًا"، قال الحافظ رحمه الله: ولم أقف في شيء من الطرق أن زينب استأذنت، وكان هذا هو أحد ما بَعَث على الإنكار الآتي. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ثبت في رواية النسائي في "الكبرى" من طريق ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد: أنَّها استأذنت، فتنبه.
(فَضُرِبَ، وَأَمَرَ غَيْرُهَا مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِخِبَائِهِ فَضُرِبَ) هكذا النسخ بتذكير الضمير، ولعله نظرًا للفظ "غيرها"، وقد أَورد الحديث في "الفتح" من رواية مسلم بلفظ:"بخبائها"، وهو الظاهر.
وقوله: (وَأَمَرَ غَيْرُهَا مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
…
إلخ) هذا يقتضي تعميم الأزواج بذلك، وليس كذلك، وقد فُسِّرت الأزواج في الروايات الأخرى بعائشة، وحفصة، وزينب فقط، وبَيَّن ذلك قوله في رواية البخاريّ من طريق ابن فُضيل، عن يحيى:"فلما انصرف من الغداة أبصر أربع قباب"؛ يعني قبة له وثلاثًا للثلاثة، وفي رواية ابن عيينة عند النسائيّ:"فلما صلى الصبح إذا هو بأربعة أبنية، قال: لمن هذه؟ قالوا: لعائشة، وحفصة، وزينب".
(فَلَمَا صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْفَجْرَ نَظَرَ، فَإِذَا الْأَخْبِيَةُ)"إذا" هي الفُجائيّة، و"الأخبية" مبتدأ حُذف خبره؛ أي: مضروبة؛ أي فلما نظر فاجأه وجود الأخبية.
وفي رواية البخاريّ من طريق مالك عن يحيى: "فلما انصرف إلى المكان
(1)
"الفتح" 5/ 482.
الذي أراد أن يعتكف فيه إذا أخبية"، وفي رواية الأوزاعيّ: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى انصرف إلى بنائه الذي بُنِي له ليعتكف فيه".
(فَقَالَ: "آلْبِرَّ) أي الطاعة، وهو بهمزة استفهام ممدودة، وبغير مدّ ونصب "البِرَّ" على أنه مفعول مقدّم لقوله:(تُرِدْنَ؟ ") بضم أوله، من الإرادة، وفي رواية مالك:"آلبر تقولون بهنّ؟ ": أي تظنون، و"تقول" يكون بمعنى "تظنّ"، ويُجرى مجراها، فينصب المبتدأ والخبر مفعولين، قال الأعشى:
أَمَّا الرَّحِيلُ فَدُونَ بَعْدَ غَدٍ
…
فَمَتَى تَقُولُ الدَّارَ تَجْمَعُنَا
أي: تَظُنّ، ومنه قوله:
مَتَى تَقُولُ الْقُلُصَ الرَّوَاسِمَا
…
يَحْمِلْنَ أُمَّ قَاسِمٍ وَقَاسِمَا
أي: تَظُنُّ، وإلى هذا أشار ابن مالك في "الخلاصة" بقوله:
وَكَـ "تَظُنُّ" اجْعَلْ "تَقُولُ" إِنْ وَلي
…
مُسْتَفْهَمًا بِهِ وَلَمْ يَنْفَصِلِ
بِغَيْرِ ظَرْفٍ أَوْ كَظَرْفٍ أَوْ عَمَلْ
…
وَإِنْ بِبَعْضِ ذِي فَصَلْتَ يُحْتَمَلْ
وَأُجْرِيَ الْقَوْلُ كَظَنٍّ مُطْلَقَا
…
عِنْدَ سُلَيْمٍ نَحْوُ "قُلْ ذَا مُشْفِقَا"
(1)
ووقع في رواية الأوزاعيّ عند البخاريّ: "آلبر أردن بهذا؟ "، وفي رواية ابن عيينة:"آلبر تقولون يُرِدْنَ بهذا؟ "، والخطاب للحاضرين من الرجال وغيرهم، وفي رواية ابن فُضيل:"ما حملهنّ على هذا؟ آلبرُّ؟ انزعوها، فلا أراها، فنُزِعت"، و"ما" استفهامية، و"آلبرُّ" في هذه الرواية مرفوع، وقوله:"فلا أراها" زعم ابن التين أن الصواب حذف الألف من "أراها" قال: لأنه مجزوم بالنهي، وليس كما قال، قاله في "الفتح"
(2)
.
وقال الإمام ابن عبد البرّ رحمه الله: وأما قوله في حديث مالك: "آلبر تقولون بهنّ؟ " فمعناه تظنون بهنّ البرّ، وأنا أخشى عليهنّ أن يُرِدن الكون معي على ما يريد النساء من الانفراد بالأزواج في كلّ حين، وإن لَمْ يكن حين جماع، فكأنهنّ مع إرادتهن لذلك لَمْ يكن اعتكافهن خالصًا لله تعالي، فكَرِه لهنّ ذلك، وهو معنى قوله في غير حديث مالك:"آلبر تُرِدْنَ - أو يُردن"، كأنه توبيخ؛ أي:
(1)
راجع: "الخلاصة"، و"حاشية الخضري" 1/ 227 - 229.
(2)
"الفتح" 5/ 483.
ما أظنهنّ يُرِدن البرّ، وقد يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم كَرِه لأزواجه الاعتكاف؛ لشدة مؤنته؛ لأن ليله ونهاره سواء. انتهى
(1)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "آلبرّ تُردن؟ " هذا الكلام إنكار لفعلهنّ، وقد كان صلى الله عليه وسلم أَذِن لبعضهنّ في ذلك، كما رواه البخاريّ، قال: وسبب إنكاره أنه خاف أن يكنّ غير مخلصات في الاعتكاف، بل أردن القرب منه لغيرتهن عليه، أو لغيرته عليهنّ، فكره ملازمتهنّ المسجد، مع أنه يجمع الناس، ويحضره الأعراب والمنافقون، وهنّ محتاجات إلى الخروج والدخول؛ لما يَعْرِض لهنّ، فيُبتذَلْنَ بذلك، أو لأنه صلى الله عليه وسلم رآهنّ عنده، وهو في المسجد، فصار كأنه في منزلة بحضوره مع أزواجه، وذهب المهمّ من مقصود الاعتكاف، وهو التخلي عن الأزواج، ومتعلقات الدنيا، وشبه ذلك، أو لأنهنّ ضيّقن المسجد بأبنيتهنّ. انتهى
(2)
.
(فَأَمَرَ) بالبناء للفاعل؛ أي: أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم (بِخِبَائِهِ) أي: بتقويض خبائه (فَقُوِّضَ) بضم القاف وتشديد الواو المكسورة بعدها ضاد معجمة، مبنيًّا للمفعول؛ أي: نُقِضَ (وَتَرَكَ الِاعْتِكَافَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ) وكأنه صلى الله عليه وسلم خَشِي أن يكون الحامل لهنّ على ذلك المباهاة، والتنافس، الناشئ عن المغيرة حرصًا على القرب منه صلى الله عليه وسلم خاصّةً، فيخرج الاعتكاف عن موضوعه، أو لَمّا أَذِن لعائشة وحفصة أَوّلًا كان ذلك خفيفًا بالنسبة إلى ما يُفضي إليه الأمر من توارد بقية النسوة على ذلك، فيضيق المسجد على المصلين، أو بالنسبة إلى أن اجتماع النسوة عنده يصيره كالجالس في بيته، وربما شغلنه عن التخلي لما قصد من العبادة، فيفوت مقصود الاعتكاف
(3)
.
(حَتَّى اعْتَكَفَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَّلِ مِنْ شَوَّالٍ) وفي رواية الأوزاعيّ عند البخاريّ: "فرجع، فلما أفطر اعتكف"، وفي رواية ابن فضيل:"فلم يعتكف في رمضان، حتى اعتكف في آخر العشر من شوال".
قال في "الفتح": ويُجمع بين الروايتين بأن المراد بقوله: "آخر العشر من
(1)
"الاستذكار" 3/ 397.
(2)
"إكمال المعلم" 4/ 155.
(3)
"الفتح" 5/ 483.
شوال" انتهاء اعتكافه. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 2785 و 2786](1173)، و (البخاريّ) في "الاعتكاف"(2033 و 2034 و 2041 و 2045)، و (أبو داود) في "الصوم"(2464)، (الترمذيّ) في "الصوم"(791)، و (النسائيّ) في "المساجد"(2/ 44)، و (ابن ماجة) في "الصيام"(1771)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 84 و 226)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2217 و 2224)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 260)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(8/ 312)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 579)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة) في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان.
2 -
(ومنها): مشروعيّة قضاء الاعتكاف في شوّال لمن فاته في شهر رمضان.
قال الإمام ابن عبد البرّ رحمه الله: معنى الحديث عندي - والله أعلم - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد عزم على اعتكاف العشر الأواخر من رمضان، فلما رأى ما كَرهه من تنافس زينب وحفصة وعائشة في ذلك، وخَشِي أن يدخل نيتهن داخلةَ انصَرَف، ثم وَفَّى الله عز وجل، بما نواه من فعل البرّ، فاعتكف عشرًا من شوال، وفي ذلك جواز الاعتكاف في غير رمضان، وهوأمر لا خلاف فيه. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): أن فيه دليلًا على جواز الاعتكاف بغير صوم؛ لأن أول شوّال هو يوم الفطر، وصومه حرام، قاله الإسماعيلي.
(1)
"الاستذكار" 3/ 397.
4 -
(ومنها): أن فيه دليلًا على أن النوافل المعتادة إذا فاتت تقضى استحبابًا.
5 -
(ومنها): أنه استدلّ به المالكية على وجوب قضاء العمل لمن شَرَع فيه، ثم أبطله، ولا دلالة فيه؛ لما سيأتي.
6 -
(ومنها): ما قاله ابن المنذر رحمه الله وغيره: في الحديث أن المرأة لا تعتكف حتى تستأذن زوجها، وأنها إذا اعتكفت بغير إذنه كان له أن يُخرجها، وإن كان بإذنه فله أن يرجع فيمنعها، وعن أهل الرأي: إذا أذن لها الزوج، ثم منعها، أَثِمَ بذلك، وامتَنَعَت، وعن مالك: ليس له ذلك، وهذا الحديث حجة عليهم.
7 -
(ومنها): جواز ضرب الأخبية في المسجد.
8 -
(ومنها): جواز اتخاذ المعتكف لنفسه موضعًا من المسجد ينفرد فيه مدّةَ اعتكافه، ما لَمْ يُضَيِّق على الناس، وإذا اتخذه يكون في آخر المسجد ورحابه؛ لئلا يُضَيِّق على غيره، وليكون أخلى له، وأكمل في انفراده، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
9 -
(ومنها): أن الأفضل للنساء أن لا يعتكفن في المسجد.
10 -
(ومنها): بيان جواز الخروج من الاعتكاف بعد الدخول فيه، وأنه لا يلزم بالنية، ولا بالشروع فيه، ويُستنبط منه سائر التطوعات، خلافًا لمن قال باللزوم.
11 -
(ومنها): بيان أن أول الوقت الذي يدخل فيه المعتكف بعد صلاة الصبح، والراجح أنه من أول الليل، كما سيأتي تحقيقه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.
12 -
(ومنها): بيان أن المسجد شرط للاعتكاف؛ لأن النساء شُرع لهنّ الاحتجاب في البيوت، فلو لَمْ يكن المسجد شرطًا ما وقع ما ذُكِر من الإذن والمنع، ولاكتُفِي لهنّ بالاعتكاف في مساجد بيوتهنّ.
وقال إبراهيم ابن علية: في قوله: "آلبر تُرِدن" دلالة على أنه ليس لهنّ
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 69.
الاعتكاف في المسجد؛ إذ مفهومه أنه ليس ببر لهنّ، قال الحافظ: وما قاله ليس بواضح.
13 -
(ومنها): أن فيه بيان شؤم الْغَيْرة؛ لأنَّها ناشئة عن الحسد المفضي إلى ترك الأفضل لأجله.
14 -
(ومنها): أن فيه تركَ الأفضل إذا كان فيه مصلحةٌ، وأن من خشي على عمله الرياء جاز له تركه وقطعه.
15 -
(ومنها): أن الاعتكاف لا يجب بالنية، وأما قضاؤه صلى الله عليه وسلم له، فعلى طريق الاستحباب؛ لأنه كان إذا عَمِلَ عملًا أثبته، ولهذا لَمْ يُنْقَل أن نساءه اعتكفن معه في شوال.
16 -
(ومنها): أن المرأة إذا اعتكفت في المسجد استُحِبّ لها أن تجعل لها ما يسترها، ويُشترط أن تكون إقامتها في موضع لا يضيق على المصلين.
17 -
(ومنها): أن فيه بيانَ مرتبة عائشة رضي الله عنها حيث كانت حفصة رضي الله عنه لَمْ تستأذن إلَّا بواسطتها، وَيحْتَمِل أن يكون سبب ذلك كونه كان تلك الليلة في بيت عائشة رضي الله عنها، قاله في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في الوقت الذي يدخل فيه المعتكف مُعتَكَفه:
ذهب الأوزاعيّ، والليث، والثوريّ في أحد قوليه إلى أنه يدخل بعد صلاة الصبح؛ لهذا الحديث.
وذهب الأئمة الأربعة، وطائفة إلى أنه إذا أراد اعتكاف شهر، أو اعتكاف عشر يدخل قبيل غروب الشمس، وأوّلوا الحديث على أنه دخل من أول الليل، ولكن إنما تخلى بنفسه في المكان الذي أعدّه لنفسه بعد صلاة الصبح، لا أن ذلك وقت ابتداء الاعتكاف، بل كان من قبل المغرب معتكفًا لابثًا في جملة المسجد، فلما صلى الصبح انفرد.
قال الحافظ رحمه الله: وهذا الجواب يُشكل على مَن منع الخروج من العبادة
(1)
"الفتح" 5/ 483 - 484.
بعد الدخول فيها، وأجاب عن هذا الحديث بأنه صلى الله عليه وسلم لَمْ يدخل المعتكف، ولا شرع في الاعتكاف، وإنما هَمّ به، ثم عَرَضَ له المانع المذكور، فتركه، فعلى هذا فاللازم أحد الأمرين: إما أن يكون شرع في الاعتكاف، فيدلّ على جواز الخروج منه، وإما أن لا يكون شَرَع، فيدلّ على أن أول وقته بعد صلاة الصبح. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: الأظهر أنه صلى الله عليه وسلم شرع في الاعتكاف أول الليل؛ لما يأتي تحقيقه، فتنبّه.
وقال السنديّ رحمه الله في "حاشية النسائيّ": ظاهره أن المعتكف يَشرَع في الاعتكاف بعد صلاة الصبح، ومذهب الجمهور أنه يَشرَع من ليلة الحادي والعشرين، وقد أخذ بظاهر الحديث قوم، إلَّا أنهم حملوه على أنه يَشْرَع من صبح الحادي والعشرين، فرَدّ عليهم الجمهور بأن المعلوم أنه كان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر، ويحثّ أصحابه عليه، وعدد العشر عدد الليالي، فتدخل فيها الليلة الأولى، وإلما لا يتم هذا العدد أصلًا، وأيضًا من أعظم ما يُطْلَب بالاعتكاف إدراك ليلة القدر، وهي تكون ليلة الحادي والعشرين، كما جاء في حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه فينبغي له أن يكون معتكفًا فيها، لا أن يعتكف بعدها.
وأجاب النووي عن الجمهور بتأويل الحديث أنه دخل المعتَكَف، وانقطع فيه، وتخلى بنفسه بعد صلاة الصبح، لا أن ذلك وقت ابتداء الاعتكاف، بل كان من قبل المغرب معتكفًا، لابثًا في جملة المسجد، فلما صلى الصبح انفرد. انتهى.
ولا يخفى أن قولها: "كان إذا أراد أن يعتكف" يفيد أنه كان يدخل المعتَكَف حين يريد الاعتكاف، لا أنه يدخل فيه بعد الشروع في الاعتكاف، وعلى هذا التأويل لَمْ يكن بيانَا لكيفية الشروع، ثم لازم هذا التأويل أن يقال: السنة للمعتكف أن يلبث أول ليلة في المسجد، ولا يدخل في المعتكف، وإنما يدخل فيه من الصبح، وإلا يلزم ترك العمل بالحديث، وعند تركه لا حاجة إلى التأويل، والجمهور لا يقولون بهذه السنة، فيلزمهم ترك العمل بالحديث.
وأجاب القاضي أبو يعلى من الحنابلة بحمل الحديث على أنه كان يفعل
ذلك في يوم العشرين، ليستظهر ببعض يوم زيادة قبل يوم العشر.
قال السندي: وهذا الجواب هو الذي يفيده النظر في أحاديث الباب، فهو أولى، وبالاعتماد أحرى بقي أنه يلزم منه أن يكون السنة الشروع في الاعتكاف من صبح العشرين استظهارًا باليوم الأول، ولا بُعْد في التزامه، وكلام الجمهور لا ينافيه، فإنهم ما تعرضوا له إثباتًا، ولا نفيًا، وإنما تعرضوا للدخول ليلة الحادي والعشرين، وهو حاصل، غاية الأمر أن قواعدهم تقتضي أن يكون هذا الأمر سنة عندهم، فَلْنَقُلْ به، وعدم التعرض ليس دليلًا على العدم، ومثل هذا الإيراد يرد على جواب النوويّ، مع ظهور مخالفته للحديث. انتهى كلام السنديّ رحمه الله
(1)
.
وذكر في "المنهل" ما حاصله: استَدَلّ بهذا الحديث من قال: إن أول وقت الاعتكاف من أول النهار، وبه قال جماعة، وذهب آخرون إلى أنه يدخل معتكفه قبل غروب الشمس؛ لما رواه الشيخان عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأوسط من رمضان، حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين، وهي الليلة التي يخرج في صبيحتها من اعتكافه قال:"من كان اعتكف معي، فليعتكف العشر الأواخر".
قالوا: فإن العشر بدون هاء عدد الليالي، قال الله تعالى:{وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 2]، وأول الليالي العشر ليلة إحدى وعشرين.
وأجابوا عن حديث الباب بأنه صلى الله عليه وسلم دخل المسجد أول الليل، ولكنه لَمْ يَخْلُ بنفسه في المكان الذي أَعَدّه للاعتكاف إلَّا بعد صلاة الصبح، وإنما لم يدخله ليلًا؛ لأن الدخول فيه للخلوة، والليل وقت خلوة بنفسه، فلم يحتج فيه إلى الخلوة. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الراجح عندي أن الاعتكاف يكون من أول الليل، ولا ينافيه حديث الباب؛ لإمكان الجمع بحمله على أن المراد خلوته في المكان المعدّ بعد الصبح، فلا ينافي أنه دخل المسجد أول الليل.
(1)
"حاشية السنديّ على النسائيّ" 2/ 44 - 45.
(2)
"المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود" 10/ 231.
وحاصل المسألة: أن من أراد أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان يدخل المسجد من أول ليلة الحادي والعشرين، كما يدلُّ عليه حديث:"كان يعتكف العشر الأواخر"؛ إذ المراد بها عدد الليالي، كما تقدم، ثم إذا صلى الصبح دخل المكان الذي أعدّه؛ ليخلو فيه، كما دل عليه:"ثم دخل في المكان الذي يريد أن يعتكف فيه".
فحصل الجمع بين الحديثين، وأما ما ادّعاه السنديّ من أن هذا التأويل يخالف الحديث فغير صحيح، بل هو أقرب من تأويله بزيادة يوم قبل العشر؛ إذ هو يستلزم اعتكاف إحدى عشرة، ومخالفة هذا للحديث أظهر مما ادعاه، فتأمّل بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2786]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ (ع) وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ (ع) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ (ع) وَحَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ (ع) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَن ابْنِ إِسْحَاقَ، كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَن عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيةَ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَعَمْرٍو بْنِ الْحَارِثِ، وَابْنِ إِسْحَاقَ ذِكْرُ عَائِشَةَ، وَحَفْصَةَ، وَزَيْنَبَ رضي الله عنهن أَنَّهُنَّ ضَرَبْنَ الْأَخْبِيَةَ لِلِاعْتِكَافِ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية عشر:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى العدنيّ المكيّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(سُفْيَانُ) بن عُيينة، تقدّم قبل باب أيضًا.
3 -
(عَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ) - بتشديد الواو - العامريّ، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ [11](ت 245)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 34/ 239.
4 -
(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله، تقدّم في الباب الماضي.
5 -
(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ [7] مات قبل (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.
6 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعِ) النيسابوريّ، تقدّم قريبًا.
7 -
(أَبُو أَحْمَدَ) الزَبيريّ، محمد بن عبد الله بن الزُّبير بن عُمر بن دِرْهم الأسديّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 314.
8 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ الكوفيّ الإمام الحجة المثبت الفقيه المشهور [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
9 -
(سَلَمَةُ بْنُ شَبِيب) الْمِسْمَعيّ النيسابوريّ، نزيل مكة، ثقةٌ، من كبار [11] مات سنة بضع و (240)(م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 60.
10 -
(أَبُو الْمُغِيرَةِ) عبد القدّوس بن الحجّاج الحمصيّ، تقدّم قبل باب.
11 -
(الْأَوْزَاعِيُّ) عبد الرَّحمن بن عمرو، تقدّم قبل باب أيضًا.
12 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة، تقدّم قبل باب أيضًا.
13 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
14 -
(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرَّحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجة [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
15 -
(ابْنُ إِسْحَاقَ) محمد بن إسحاق بن يسار المطّلبيّ، أبو بكر المدنيّ، نزيل العراق، ثقةٌ، إمام في المغازي، لكنه يدلّس، ورُمي بالتشيّع والقدر، من صغار [5](ت 150)، أو بعدها (خت م 4) تقدم في "الصلاة" 42/ 1085.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) أي: الخمسة المذكورون؛ يعني أن كلًّا من سفيان بن عُيينة، وعمرو بن الحارث، وسفيان الثوريّ، والأوزاعيّ، وابن إسحاق رووا هذا الحديث عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ.
[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد، ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى" (2/ 260) فقال:
(3347)
- أنبأ محمد بن منصور، عن سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن
عمرة، عن عائشة، قالت: أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتكف في العشر الأواخر، من شهر رمضان، فاستأذنته عائشة، فأَذِن لها، ثم استأذنته حفصة، فأذن لها، وكانت زينب لَمْ تكن استأذنته، فسمعت بذلك، فاستأذنت، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح أتى معتكفه، فلما صلى الصبح؛ إذا هو بأربعة أبنية، قال:"لمن هذه؟ " قالوا: لعائشة وحفصة وزينب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"البر تقولون يُرِدْنَ بهذا؟ " فلم يعتكف في ذلك العشر، واعتَكَف في العشر من شوال. انتهى.
وأما رواية عمرو بن الحارث عنه، فقد ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" (2/ 262) فقال:
(3076)
- حدّثنا الربيع بن سليمان، حدّثنا ابن وهب، أخبرنا عمرو بن الحارث، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، قالت: حدّثتنا عائشة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أراد الاعتكاف، فاستأذنته عائشة لتعتكف معه، فأَذِن لها، فضُرِب خباؤها، فسألتها حفصة لتستأذنه لها لتعتكف معه، فلما رأته زينب ضربت معهنّ، وكانت امرأة غَيُورًا، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبيتهنّ، فقال: "ما هذا؟ آلبر يُرِدن بهذا!، فترك الاعتكاف، حتى أفطر من رمضان، ثم إنه اعتكف في عشر من شوال. انتهى.
وأما رواية الأوزاعيّ، عن يحيي، فقد ساقها البخاريّ: رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(1904)
- حدّثنا محمد بن مقاتل أبو الحسن، أخبرنا عبد الله، أخبرنا الأوزاعيّ، قال: حدّثني يحيى بن سعيد، قال: حدّثتني عمرة بنت عبد الرَّحمن، عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذَكَر أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فاستأذنته عائشة، فأذن لها، وسالت حفصة عائشة أن تستأذن لها، ففعلت، فلما رأت ذلك زينب ابنة جحش أَمَرت ببناء، فَبُني لها، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى انصرف إلى بنائه، فبَصُرَ بالأبنية، فقال:"ما هذا؟ " قالوا: بناء عائشة وحفصة وزينب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"آلبرّ أردن بهذا؟ ما أنا بمعتكف"، فرجع، فلما أفطر اعتكف عشرًا من شوّال. انتهى.
وأما روايتا سفيان الثوريّ، وابن إسحاق، عن يحيى بن سعيد، فلم أجد
من ساقهما، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(3) - (بَابُ الِاجْتِهَادِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2787]
(1174) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، جَمِيعًا عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ) ابن راهويه المروزيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو يَعْفُورٍ
(1)
عبد الرَّحمن بن عُبيد بن نِسطاس
(2)
الكوفيّ، ثقةٌ [5](ع) تقدم في "الإيمان" 38/ 260.
3 -
(مُسْلِمُ بْنُ صُبَيْحٍ) - بالتصغير - الْهَمْدانيّ، أبو الضحى الكوفيّ العطّار، مشهور بكنيته، ثقةٌ فاضلٌ [4](ت 100)(ع) تقدم في "الطهارة" 22/ 635.
4 -
(مَسْرُوقُ) بن الأجدع بن مالك الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو عائشة الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ مخضرمٌ [2](ت 2 أو 63)(ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 217.
والباقون ذُكروا في السند الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما، ثم فصّل؛ لما سبق غير مرّة.
(1)
بفتح الياء التحتانيّة، وسكون العين المهملة، بعدها فاء مضمومة، وهو أبو يعفور الأصغر، وأما أبو يعفور الأكبر فاسمه وقدان، ويقال: واقد، كوفي ثقةٌ من الطبقة الرابعة، مات سنة (70) وقد تقدّم في (6/ 1197).
(2)
بكسر النون، وسكون السين المهملة.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له ابن ماجة، والثاني ما أخرج له البخاريّ، وأبو داود.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخيه، فالأول مروزيّ، والثاني عدنيّ، ثم مكيّ، وعائشة رضي الله عنها، فمدنيّة.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين الكوفيين رَوَى بعضهم عن بعض: أبو يعفور، عن مسلم، عن مسروق، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها) أنَّها (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ) أي: ليالي العشر الأخير من رمضان، وصرّح بكونه الأخير في حديث عليّ رضي الله عنه، عند ابن أبي شيبة، والبيهقيُّ من طريق عاصم بن ضمرة، عنه. قاله في "الفتح". (أَحْيَا اللَّيْلَ) أي: استغرقه بالسهر في الصلاة وغيرها، فأحياه بالطاعة، وأحيا نفسَهُ بسهره فيه، وإنما عبّرت بـ "أحيا"؛ لأن النوم أخو الموت، والظاهر أن المراد أنه أحيا الليل كلّه، ويَحْتَمل أن يكون معظمه (وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ) أي: أيقظهم للصلاة في الليل، والجِدِّ في العبادة زيادةً على العادة.
وروى الترمذيّ، ومحمد بن نصر من حديث زينب بنت أم سلمة رضي الله عنهما:"لَمْ يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضان عشرة أيام يَدَعُ أحدًا من أهله، يُطيق القيام إلَّا أقامه".
(وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ) أي: اعتزل النساء، وبذلك جزم عبد الرزّاق، عن الثوريّ، واستشهد بقول الشاعر [من البسيط]:
قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا شَدُّوا مَآزِرَهُمْ
…
عَنِ النِّسَاءِ وَلَوْ بَاتَتْ بِأَطْهَارِ
وذكر ابن أبي شيبة، عن أبي بكر بن عيّاش نحوه. وقال الخطابي: يَحْتَمِل أن يريد به الجِدّ في العبادة، كما يقال: شددت لهذا الأمر مِئْزَري؛ أي: تشمّرت له، وَيحْتَمِل أن يراد التشمير، والاعتزال معًا، ويَحْتَمِل أن يراد الحقيقة والمجاز، كمن يقول: طويل النجاد لطويل القامة، وهو طويل النجاد حقيقةً، فيكون المراد شدّ مئزره حقيقة، فلم يَحُلّه، واعتزل النساء، وشمّر للعبادة.
قال الحافظ رحمه الله: وقد وقع في رواية عاصم بن ضمرة: "شدّ مئزره، واعتزل النساء"، فعطفه بالواو، فيتقوّى الاحتمال الأول. انتهى
(1)
.
قال القرطبيّ رحمه الله: ذهب بعضهم إلى أن اعتزاله النساء كان بالاعتكاف، وفيه نظر؛ لقوله فيه:"وأيقظ أهله"، فإنه يُشعر بأنه كان معهم في البيت، فلو كان معتكفًا لكان في المسجد، ولم يكن معه أحد. وفيه نظر، فقد ثبت حديث:"اعتكفت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم امرأة من أزواجه"، وعلى تقدير أنه لَمْ يعتكف أحد منهنّ، فيَحْتَمِل أن يوقظهنّ من موضعه، وأن يوقظهنّ عندما يدخل البيت لحاجته، قاله في "الفتح".
اختلف العلماء في معنى شَدّ الْمِئْزَر، فقيل: هو الاجتهاد في العبادات زيادة على عادته صلى الله عليه وسلم في غيره، ومعناه: التشمير في العبادات، يقال: شدَدْتُ لهذا الأمر مئزري: أي تشمرت له، وتفرغت، وقيل: هو كناية عن اعتزال النساء؛ للاشتغال بالعبادات. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 2787](1174)، و (البخاريّ) في "الاعتكاف"(2024)، و (أبو داود) في "الصوم"(1376)، و (النسائيّ) في "قيام الليل"(3/ 217) و"الكبرى"(1/ 421 و 2/ 270)، و (ابن ماجة)(1768)، و (الحميديّ) في "مسنده"(187)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 40 و 66)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2214)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 253)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 261)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 313)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(1)
"الفتح" 4/ 803.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 70 - 71.
1 -
(منها): بيان استحباب الاجتهاد في العبادة في العشر الأواخر من رمضان.
2 -
(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الاجتهاد في العبادة، مع أن الله غَفَرَ له ما تقدّم من ذنبه، وما تأخّر.
3 -
(ومنها): فضل ليالي العشر الأواخر من رمضان على غيرها من الليالي.
4 -
(ومنها): استحباب إيقاظ الأهل فيها لِيُحيُوها بالعبادة.
5 -
(ومنها): أنه يستحب أن يُزاد من العبادات في العشر الأواخر من رمضان، واستحباب إحياء لياليه بالعبادات. قال النووي: وأما قول أصحابنا: يكره قيام الليل كله، فمعناه الدوام عليه، ولم يقولوا بكراهة ليلة وليلتين والعشر، ولهذا اتفقوا على استحباب إحياء ليلتي العيدين، وغير ذلك. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: إحياء ليلتي العيدين يحتاج إلى دليل، وحديث الباب إنما يدلّ على إحياء العشر، وليلة العيدين ليستا منها، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2788]
(1175) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، عَن الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، قَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ يَقُولُ: سَمِعْتُ الْأَسْوَدَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَجْتَهِدُ في الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب.
2 -
(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فُضيل بن حسين البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237) وله أكثر من ثمانين سنةً (خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
3 -
(عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ) العبديّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [8](ت 176) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.
4 -
(الْحَسَنُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ) بن عُروة النخعيّ، أبو عُروة الكوفيّ، ثقةٌ فاضلٌ [6](ت 139)(م 4) تقدم في "الإيمان" 38/ 263.
5 -
(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ كثير الإرسال [5](ت 96)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.
6 -
(الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ) بن قيس النخعيّ، أبو عمرو الكوفيّ، مخضرمٌ ثقةٌ فقيهٌ [2](ت 4 أو 75)(ع) تقدم في "الطهارة" 32/ 674.
و"عائشة رضي الله عنها " ذُكرت قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما، ثم فصّل؛ لما مرّ غير مرّة.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه أبي كامل، كما أسلفته آنفًا.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالتحديث والسماع سوى موضع.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، هو خالة.
شرح الحديث:
عن عائشة رضي الله عنها أنَّها قالت: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَجْتَهِدُ) أي: يبالغ في طلب الغاية من العبادة، وهو افتعال من الْجَهْد بفتح فسكون، وهو النهاية والغاية، قال الفيّوميّ رحمه الله: "الْجُهْدُ بالضمّ في الحجاز، وبالفتح في غيرهم: الْوُسْعُ، والطّاقَةُ، وقيل: المضموم: الطاقةُ، والمفتوح: المشقّةُ، والْجَهْدُ بالفتح لا غير: النهاية والغاية، وهو مصدرٌ من جَهَدَ في الأمر جَهْدًا، من باب نفع: إذا طلب حتى بلغ غايته في الطلب. انتهى
(1)
.
(فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ) أي: من رمضان (مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ) وفي رواية أبي داود: "وغيرها" بضمير المؤنّث، وهو الظاهر؛ لأنه عائد على العشر، وهي عدد المؤنّث، ووجه التذكير هنا على تأويله بالمذكور.
(1)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 112.
والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر اجتهادًا لا يجتهده في غيرها، من أيام رمضان، أو من غيرها.
وقال في "المرقاة": إنه يبالغ في طلب ليلة القدر في هذه العشر ما لا يجتهد في غير العشر رجاءَ أن يكون ليلة القدر فيها، قال: كذا قيل، والأظهر أنه يجتهد في زيادة الطاعة والعبادة؛ للاغتنام في أوقاته، والاهتمام في طاعته، وحسن الاختتام في بركاته. انتهى
(1)
.
وفيه الترغيب والحثّ على مزيد الاجتهاد في العشر الأواخر أكثر من غيرها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 2788](1175)، و (أبو داود) في "الصوم"(2439)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(756)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 270)، و (ابن ماجة) في "الصيام"(1729)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 122 و 255)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2215)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 253)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 261)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 313) و"الصغرى"(3/ 402)، و (البغويّ) في "تفسيره"(4/ 510)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(4) - (بَابُ صَوْمِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2789]
(1176) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَإِسْحَاقُ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَن الْأَعْمَشِ،
(1)
"المرقاة" 4/ 515.
عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَن الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَائِمًا فِي الْعَشْرِ قَطُّ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم أيضًا قبل بابين.
3 -
(إِسْحَاقُ) ابن راهويه، تقدّم قبل حديث.
4 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم، تقدّم قبل باب.
5 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم قريبًا.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ، قرن بينهم، ثمّ فصّل؛ لما سبق غير مرّة.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه: أبي بكر، وإسحاق، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، والثاني ما أخرج له ابن ماجة، وأما شيخه أبو كريب فمن التسعة الذين روى لهم الجماعة بلا واسطة، كما سبق غير مرّة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، سوى إسحاق، فمروزيّ، وعائشة فمدنيّة.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها) أنَّها (قَالَتْ: مَا) نافية (رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَائِمًا فِي الْعَشْرِ قَطُّ) تعني عشر ذي الحجة، وفي الرواية التالية:"لَمْ يصم العشر"، قال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: هذا الحديث مما يُوهم كراهة صوم العشر، والمراد بالعشر هنا الأيام التسعة من أول ذي الحجة. قالوا: وهذا مما يُتَأَوَّل، فليس في صوم هذه التسعة كراهة، بل هي مستحبة استحبابًا شديدًا، لا سيما التاسع منها، وهو يوم عرفة، وقد سبقت الأحاديث في فضله، وثبت في "صحيح
البخاريّ" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أيّامٍ العملُ المصالح فيها أفضل منه في هذه"؛ يعني العشر الأوائل من ذي الحجة، فيتأول قولها: "لَمْ يصم العشر" أنه لَمْ يصمه لعارض مرضٍ، أو سفبر، أو غيرهما، أو أنَّها لَمْ تره صائمًا فيه، ولا يلزم من ذلك عدم صيامه في نفس الأمر، ويدل على هذا التأويل حديث هُنَيدة بن خالد، عن امرأته، عن بعض أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كلّ شهر، أول اثنين من الشهر، والخميس"، ورواه أبو داود، وهذا لفظه، وأحمد، والنسائيّ، وفي روايتهما: "وخميسين"
(1)
. انتهى
(2)
.
وقال في "المرعاة": هذا الحديث بظاهره يخالف ما تقدّم في "باب الأضحية" من فضيلة مطلق العمل المتضمّن للصيام في عشر ذي الحجة، ومن فضيلة خصوص الصيام فيها، وما في حديث أبي قتادة من استحباب الصوم في التاسع منها، وهو يوم عرفة، وما في حديث حفصة من عدم تركه صلى الله عليه وسلم صيام العشر، وفي حديث هُنيدة بن خالد عن امرأته، عن بعض أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة
…
"الحديث، أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائيّ.
والجواب عن هذا أن المراد من قولها: "لَمْ يصم العشر" أنه لَمْ يصمها لعارض مرض، أو سفر، أو غيرهما، أو أنَّها لَمْ تره صائمًا فيها، ولا يلزم من ذلك عدم صيامه في نفس الأمر، وإذا تعارض النفي والإثبات، فالإثبات أولى بالقبول.
قال البيهقيّ رحمه الله بعد رواية حديث هُنيدة، وحديث عائشة رضي الله عنه ما لفظه: والمثبت أولى من النافي، مع ما مضى من حديث ابن عبّاس في فضيلة العمل المصالح في عشر ذي الحجة.
وقيل: المراد نفي جمع العشر، وفيها يوم العيد، وهذا لا ينافي حوم بعضها.
(1)
صححه الشيخ الألبانيّ رحمه الله في "صحيح سنن أبي داود" 2/ 325.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 71 - 72.
وقيل: يَحْتَمِل أن يكون ذلك؛ لكونه يترك العمل في بعض الأحيان، وهو يُحبّ أن يعمله؛ خشيةَ أن يُظنّ وجوبه. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أقرب الأجوبة، وأظهرها حمل نفيها على علمها، فلا يلزم من نفي علمها نفي صومه صلى الله عليه وسلم، كما مرّ التوجيه بذلك لقولها:"ما سبّح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى"، متّفقٌ عليه.
والحاصل أن قول عائشة رضي الله عنها هذا لا ينافي استحباب صوم تسع ذي الحجة، ولا سيّما اليوم التاسع لغير الحاجّ؛ للأدلة الكثيرة على ذلك:
(فمنها): ما تقدّم في فضل صوم يوم عرفة، وأنه يكفّر ذنوب سنتين.
(ومنها): حديث هُنيدة بن خالد المذكور، وهو حديث صحيح، راجع الكلام فيه في "شرحي على النسائيّ"
(2)
.
(ومنها): ما أخرجه البخاريّ من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما مرفوعًا: "ما الْعَمَلُ في أَيَّامٍ العشر أَفْضَلَ من العمل في هذه"، قالوا: ولا الْجِهَادُ؟ قال: "ولا الْجِهَادُ، إلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فلم يَرْجِعْ بِشَيْءٍ"، وأخرجه أبو داود، ولفظه: "ما من أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فيها أَحَبُّ إلى اللهِ، من هذه الْأَيَّامِ - يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ - قالوا: يا رَسُولَ اللهِ، ولا الْجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ؟ قال: ولا الْجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ
…
" الحديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 2789 و 2790](1176)، و (أبو داود) في "الصوم"(2439)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(756)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 165)، و (ابن ماجة) في "الصيام"(1729)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"
(1)
"مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 7/ 52.
(2)
راجع: "ذخيرة العقبى" 21/ 282.
(2/ 299 و 3/ 155)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 42 و 124 و 190)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2103)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 265)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2790]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَن الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَن الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَصُمِ الْعَشْرَ)
(1)
.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْعَبْدِيُّ) محمد بن أحمد بن نافع، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن مهديّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم قبل باب.
[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: سفيان هو الثوريّ، وفي بعض النسخ شعبة بدل سفيان، وكذا نقله القاضي عياض عن رواية الفارسيّ، ونقل الأول عن جمهور الرواة لـ "صحيح مسلم". انتهى
(2)
.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبله.
[تنبيه]: قد انتقد الدارقطنيّ رحمه الله هذا الإسناد، فقال - بعد إيراده سند المصنّف -: قال أبو الحسن: وخالفه منصورٌ، عن إبراهيم مرسلًا، قال: والصحيح عن الثوريّ، عن إبراهيم قال: حُدِّثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك رواه أصحاب منصور، عن منصور مرسلًا، منهم فضيل بن عياض، وجرير. انتهى.
وقال الإمام الترمذيّ رحمه الله بعدما أخرجه - ما نصّه: هكذا رَوَى غير
(1)
قال الدارقطنيّ في "التتبّع": وخالفه منصور، رواه عن إبراهيم مرسلًا. انتهى.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 72.
واحد عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها، ورَوَى الثوريّ وغيره هذا الحديث عن منصور، عن إبراهيم:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُرَ صائمًا في العشر"، ورَوَى أبو الأحوص، عن منصور، عن إبراهيم، عن عائشة، ولم يذكر فيه "عن الأسود"، وقد اختلفوا على منصور في هذا الحديث، ورواية الأعمش أصحّ، وأوصل إسنادًا، قال: وسمعت محمد بن أبان يقول: سمعت وكيعًا يقول: الأعمش أحفظ الإسناد إبراهيم من منصور. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر أن تصحيح المصنّف رحمه الله لهذا السند أرجح من انتقاد الدارقطنيّ؛ لأن الأعمش مقدّم في إبراهيم على منصور، كما قال وكيعٌ، فروايته أولى بالحفظ، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
* * *
(1)
"سنن الترمذيّ" 3/ 129.
بسم الله الرحمن الرحيم
15 - (كِتَابُ الْحَجِّ)
(1)
قال الجامع عفا الله عنه: قدّم المصنّف رحمه الله "الصلاة"، ثم أتبعها بـ "الزكاة"؛ لأنَّها قرينتها في كتاب الله تعالى، حيث يقول:{وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} ، ثم أتبعها بـ "الصيام"، ثم بـ "الحجِّ"؛ لأن ترتيبها وقع كذلك في بعض روايات حديث: "بُني الإسلام على خمسة
…
" وغيره من الأحاديث.
مسائل تتعلّق بهذه الترجمة:
(المسألة الأولى): في ضبط "الحجِّ"، ومعناه لغةً، وشرعًا: أما ضبطه، فإنه يقال: بفتح الحاء، وكسرها، لغتان، قُرئ بهما في السبع، وأكثر السبعة على الفتح، وكذا "الحجّة" فيها لغتان، وأكثر المسموع الكسر، وهو القياس. قاله النوويّ رحمه الله. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": "الحجِّ" - بفتح الحاء المهملة، وكسرها - لغتان، نقل الطبريّ أن الكسر لغة أهل نجد، والفتح لغيرهم. ونقل عن حسين الْجُعْفيّ أن الفتح الاسمُ، والكسر المصدر، وعن غيره عكسه. انتهى
(3)
.
وقال في "العمدة": قال الزّجّاج: يُقرأ بفتح الحاء، وكسرها - أي: في القرآن - والأصل الفتح. وقُرئ بهما في السبعة، وأكثرهم على الفتح. وفي أمالي الهجريّ: أكثر العرب يكسرون الحاء فقط، وقال ابن السّكّيت: بفتح الحاء القصد، وبالكسر القوم الْحُجّاج. والحجّة بالفتح الفَعْلة من الحجِّ، وبكسر الحاء: التلبية والإجابة.
(1)
وفي نسخة: "كتاب المناسك".
(2)
"المجموع" 7/ 7.
(3)
"الفتح" 4/ 152.
وقال في "اللسان": والحجّ بالكسر الاسم، والحجّة المرّة الواحدة، وهو من الشواذّ؛ لأن القياس بالفتح.
والحاجّ: الذي يحجّ، وربما يُظهرون التضعيف في ضرورة الشعر، قال الراجز:
بِكُلِّ شَيْخٍ عَامِرٍ أَوْ حَاجِجِ
ويُجمع على حُجُج، بضمّتين، نحو بازل وبُزُل، وعائذ وعُوذ
(1)
.
وأما معناه لغة: فهو القصد، وعن الخليل، قال: الحجِّ كثرة القصد إلى من تُعظّمه
(2)
.
وقال في "المصباح": حَجّ حجًّا، من باب قتل: قصد، فهو حاجّ، هذا أصله، ثمّ قُصِرَ استعمالُهُ في الشرع على قصد الكعبة للحجّ، أو العمرة، ومنه يقال: ما حجَّ، ولكن دَجَّ، فالحجّ: القصد للنسك، والدَّجُّ: القصد للتجارة، والاسم الحجِّ بالكسر، والحجّة: المرّة بالكسر على غير قياس، والجمع حِجَج، مثلُ سِدْرَة وسِدَر، قال ثعلب: قياسه الفتح، ولم يُسمع من العرب، وبها سمّي الشهر ذو الحجّة بالكسر، وبعضهم يفتح في الشهر، وجمعه ذوات الحجة، وجمع الحاجّ حُجّاج، وحَجِيج. انتهى
(3)
.
وقال الأزهريّ: وأصل الحجِّ من قولك حَجَجت فلانًا أحُجّه حجًّا: إذا عُدت إليه مرّة بعد أخرى، فقيل: حجّ البيت؛ لأن الناس يأتونه كلّ سنة. وفي "العباب": رجلٌ محجوجٌ: أي مقصود، وقد حجّ بنو فلان فلانًا: إذا أطالوا الاختلاف إليه. ومنه قول المْخُبَّل السَّعديّ [من الطويل]:
وَأَشْهَدُ مِنْ عَوْفٍ حُلُولًا كَثِيرَةً
…
يَحُجُّونَ سِبَّ الزَبْرِقَانِ الْمُزَعْفَراَ
يقول: يأتونه مرّة بعد أخرى؛ لسؤدده، والْحُلُول بضمّ الحاء المهملة، يقال: قوم حُلُول: أي نُزُولٌ، وكذلك حلالٌ بالكسر، والسِّبُّ بكسر السين المهملة، وتشديد الباء الموحّدة: العمامة، والزِّبْرِقَان - بكسر الزاي، وسكون الباء الموحّدة، وكسر الراء، وبالقاف المخفّفة، وفي آخره نون - هو في الأصل
(1)
"عمدة القاري" 7/ 386. بزيادة من "اللسان".
(2)
"المغني" لابن قدامة 5/ 5.
(3)
"المصباح" في مادة: "حج".
اسم القمر، وهو لقبٌ، واسمه الحصين، قال ابن السّكّيت: لُقّب الزبرقان؛ لصفرة عمامته
(1)
.
وأما معناه شرعًا: فالحجّ قصدٌ إلى زيارة البيت الحرام على وجه التعظيم بأفعال مخصوصة، وسببه البيت؛ لأنه يضاف إليه، ولهذا لا يجب في العمرة إلَّا مرّة واحدة؛ لعدم تكرار السبب. انتهى.
وقال ابن قُدامة رحمه الله: الحج أحد الأركان الخمسة التي بُنِي عليها الإسلام، والأصل في وجوبه الكتاب، والسنة، والإجماع؛ أما الكتاب، فقول الله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} ، رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما: ومن كفر باعتقاده أنه غير واجب.
وقال الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} .
وأما السنة، فقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "بُنِي الإسلام على خمس
…
" الحديث، وذَكَر فيها الحج، وروى مسلم بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج، فحجوا"، فقال رجل: أكلّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم"، ثم قال: "ذَرُوني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه"، في أخبار كثيرة سوى هذين، وأجمعت الأمة على وجوب الحجِّ على المستطيع في العمر مرّة واحدة. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: يوجد في بعض النسخ ما لفظه: "كتاب المناسك"، بدل "كتاب الحج".
و"المناسك" جمع مَنسك - بفتح السين، وكسرها -: وهي العبادة، أو مكانها، أو زمانها، فهو صالح للزمان، والمكان، والحدث، وجميعها مرادٌ
(1)
"عمدة القاري" 1/ 214 و 7/ 386.
(2)
"المغني" لابن قُدامة رحمه الله -3/ 159 - 161.
هنا؛ إذ الكتاب مسوق لبيان أعمال الحجِّ، وأزمنته، وأمكنته، ثمّ سمّيت أمور الحجِّ كلّها مناسك.
قال الفيّوميّ رحمه الله: نَسَكَ لله يَنسُك نَسْكًا، من باب قتل: تطوّع بقربة، والنسك - بضمّتين -: اسم منه، وفي التنزيل:{إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي} ، والمنسك - بفتح السين، وكسرها: يكون زمانًا، ومصدرًا، ويكون اسم المكان الذي تُذبح فيه النَسِيكة، وهي الذبيحة، وزنًا ومعنىي، وفي التنزل:{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} بالفتح، والكسر في السبعة. ومناسك الحجِّ: عباداته. وقيل: مواضع العبادات، ومن فَعَل كذا عليه نُسُكٌ: أي دمٌ يُريقه، ونَسَكَ: تزهّد، وتعبّد، فهو ناسك، والجمع نُسّاك، مثلُ عابد وعُبّاد. انتهى
(1)
.
وقال في "العمدة": المنسك المذبح، وقد نَسَك ينسُك نسكًا: إذا ذبح، والنسيكة: الذبيحة، وجمعها نُسُك، والنُّسُكُ أيضًا: الطاعة، والعبادة، وكلّ ما يُتقرّب به إلى الله عز وجل. والنسك: ما أَمَرت به الشريعة، والورع، وما نهت عنه، والناسك: العابد، وسئل ثعلبٌ عن الناسك ما هو؟ فقال: هو مأخوذ من النَّسِيكة، وهي سبيكة الفضّة، المصفّاة، كأنّ الناسك صفّى نفسه لله تعالى. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية): في اختلاف أهل العلم في وقت ابتداء فرض الحجِّ: قال العلّامة القرطبيّ رحمه الله في "المفهم": واختُلف في زمان فرض الحجِّ، فقيل: سنة خمس من الهجرة، وقيل: سنة تسع، وهو الصحيح؛ لأن فتح مكّة كان في التاسع عشر من رمضان سنة ثمان من الهجرة، وحجّ بالناس في تلك السنة عَتّاب بن أَسيد، ووقف بالمسلمين، ووقف المشركون على ما كانوا عليه في الجاهليّة، فلما كانت سنة تسع فُرض الحجِّ، ثم إن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أبا بكر، فحجّ بالناس تلك السنة، ثم أتبعه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بسورة براءة، فقرأها على الناس في الموسم، ونبذ للناس عهدهم، ونادى في الناس أن لا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان. ووافقت حجة أبي بكر في تلك السنة أن كانت في شهر ذي القعدة، على ما كانوا يديرون الحجِّ في كلّ شهر من
(1)
"المصباح المنير" في مادة: "نسك".
(2)
"عمدة القاري" 7/ 386.
شهور السنة، فلما كانت سنة عشر حجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجته المسمّاة بحجة الوداع، على ما يأتي بيانها في حديث جابر وغيره، ووافق النبيّ صلى الله عليه وسلم تلك السنة أن وقع الحجِّ في ذي الحجة في زمانه، ووقته الأصليّ، الذي فرضه الله فيه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض
…
" الحديث
(1)
. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
وقال في "الفتح": واختُلف في وقت ابتداء فرضه، فقيل: قبل الهجرة، وهو شاذّ، وقيل: بعدها، ثم اختلف في سَنَته، فالجمهور على أنَّها سنة ستّ؛ لأنَّها نزل فيها قوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ، وهذا ينبني على أن المراد بالإتمام ابتداء الفرض، ويؤيّده قراءة علقمة، ومسروق، وإبراهيم النخعيّ بلفظ:"وأقيموا"، أخرجه الطبريّ بأسانيد صحيحة عنهم. وقيل: المراد بالإتمام الإكمال بعد الشروع، وهذا يقتضي تقدّم فرضه قبل ذلك. وقد وقع في قصّة ضمام بن ثعلبة ذكر الأمر بالحجّ، وكان قدومه على ما ذكر الواقديّ سنة خمس، وهذا يدلّ - إن ثبت - على تقدّمه على سنة خمس، أو وقوعه فيها. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: أرجح الأقوال عندي هو القول بأن فرض الحج كان سنة ستّ، أو قبلها؛ لوضوح قصّة كعب بن عجرة رضي الله عنه التي نزل بسببها قوله عز وجل:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} الآية، فتأمل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في كون الحجِّ على الفور، أم على التراخي؟:
قال الإمام النوويّ رحمه الله في "شرح المهذّب" ما حاصله: ذهب إلى أن الحجِّ على التراخي: الشافعيُّ، والأوزاعيّ، والثوريّ، ومحمد بن الحسن، ونقله الماروديّ عن ابن عبّاس، وأنس، وجابر، وعطاء، وطاوس، رضي الله عنهم.
وذهب إلى أنه على الفور مالك، وأبو يوسف، والمزنيّ، وهو قول
(1)
الحديث متّفقٌ عليه.
(2)
"المفهم" 3/ 255 - 256.
(3)
"الفتح" 4/ 152 - 153.
جمهور أصحاب أبي حنيفة، ولا نصّ لأبي حنيفة في ذلك.
واحتجّ لهم بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وهذا أمر، والأمر يقتضي الفور، وبحديث ابن عباس رضي الله عنهما:"من أراد الحجِّ فليعجل"، وبالحديث الآخر:"من لَمْ يمنعه من الحجِّ حاجة، أو مرضٌ حابسٌ، أو سلطان جائرٌ، فليمت إن شاء يهوديًّا، أو نصرانيًّا"، ولأنها عبادة تجب الكفّارة بإفسادها، فوجبت على الفور كالصوم، ولأنها عبادة تتعلّق بقطع مسافة بعيدة كالجهاد، ولأنه إذا لزمه الحجِّ، وأخّره، إما أن تقولوا: يموت عاصيًا، وإما غير عاص، فإن قلتم: ليس بعاص خرج الحجِّ عن كونه واجبًا، وإن قلتم: عاصٍ، فإما أن تقولوا: عصى بالموت، أو بالتأخير، ولا يجوز أن يعصي بالموت؛ إذ لا صُنْعَ له فيه، فثبت أنه بالتأخير، فدلّ على وجوبه على الفور.
واحتجّ الأولون القائلون بالتراخي بأن فريضة الحجِّ نزلت بعد الهجرة، وفتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكّة في رمضان سنة ثمان، وانصرف عنها في شوّال من سنته، واستخلف عتّاب بن أَسِيد، فاقام للناس الحجِّ سنة ثمان، بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيمًا بالمدينة هو، وأزواجه، وعامّة أصحابه، ثم غزا غزوة تبوك في سنة تسع، وانصرف عنها قبل الحجِّ، فبعث أبا بكر رضي الله عنه، فأقام للناس الحجِّ سنة تسع، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، وأزواجه، وعامّة أصحابه قادرون على الحجِّ، غير مشتغلين بقتال، ولا غيره، ثمّ حجّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بأزواجه، وأصحابه كلّهم سنة عشر، فدلّ على جواز تأخيره. هذا دليل الشافعيّ، وجمهور أصحابه.
قال البيهقيّ: وهذا الذي ذكره الشافعيّ مأخوذ من الأخبار، قال: فأما نزول فرض الحجِّ بعد الهجرة، فكما قال.
واستدلّ أصحابنا له بحديث كعب بن عجرة رضي الله عنه، قال: وقف عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحُدَيبية، ورأسي يَتَهافَت قملًا، فقال:"يؤذيك هوامّك؟ "، قلت: نعم يا رسول الله، قال أبو داود: فقال: "قد آذاك هوامّ رأسك؟ "، قال: نعم، قال:"فاحلق رأسك"، قال: ففيّ نزلت هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} الآية، رواه الشيخان. فثبت بهذا الحديث أن قوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} الآية نزلت سنة
ستّ من الهجرة، وهذه الآية دالّة على وجوب الحجِّ، وقد أجمع المسلمون على أن الحديبية كانت سنة ستّ من الهجرة في ذي القعدة، وثبت بالأحاديث الصحيحة، واتفاق العلماء أن النبيّ صلى الله عليه وسلم غزا حُنينًا بعد فتح مكّة، وقسم غنائمها، واعتمر من سنته في ذي القعدة، وكان إحرامه بالعمرة من الجعرانة، ولم يبق بينه وبين الحجِّ إلَّا أيامٌ يسيرة، فلو كان على الفور لَمْ يرجع من مكّة حتى يحجّ مع أنه هو، وأصحابه كانوا حينئذ موسرين، فقد غنموا الغنائم الكثيرة، ولا عذر لهم، ولا قتال، ولا شغل آخر، وإنما أخّره صلى الله عليه وسلم عن سنة ثمان بيانًا لجواز التأخير، وليتكامل الإسلام، والمسلمون، فيحجّ بهم حجّةَ الوداع، ويحضرها الخلق، فيبلّغوا عنه المناسك، ولهذا قال في حجة الوداع:"ليبلّغ الشاهد منكم الغائب، ولتأخذوا عني مناسككم"، ونزل فيها قوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية.
قال أبو زرعة الرازيّ، فيما رويناه عنه: حضر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع مائة ألف، وأربعة عشر ألفًا، كلّهم قد رآه، وسمع منه. فهذا قول الإمام أبي زرعة الذي لَمْ يحفظ أحدٌ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كحفظه، ولا ما يقاربه.
[فإن قيل]: إنما أخّره إلى سنة عشر؛ لتعذّر الاستطاعة؛ لعدم الزاد والراحلة، أو الخوف على المدينة، والاشتغال بالجهاد.
[فجوابه]: ما سبق قريبًا.
واحتجّ أصحابنا أيضًا بحديث أنس رضي الله عنه، قال: نُهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يُعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل، فيسأله، ونحن نسمع، فجاء رجل من أهل البادية، فقال: يا محمد أتانا رسولك، فزعم لنا أنك تزعم، أن الله أرسلك، قال:"صدق"، قال: فمن خلق السماء؟ قال: "الله"، قال: فمن خلق الأرض؟ قال: "الله"، قال: فمن نصب هذه الجبال، وجعل فيها ما جعل؟ قال:"الله"، قال: فبالذي خلق السماء، وخلق الأرض، ونصب هذه الجبال، آلله أرسلك؟ قال:"نعم"، قال: وزعم رسولك، أن علينا خمس صلوات، في يومنا وليلتنا، قال:"صدق"، قال: فبالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟ قال:"نعم"، قال: وزعم رسولك، أن علينا
زكاة في أموالنا، قال:"صدق"، قال: فبالذي أرسلك، الله أمرك بهذا؟ قال:"نعم"، قال: وزعم رسولك، أن علينا صوم شهر رمضان، في سنتنا، قال:"صدق"، قال: فبا لذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟ قال:"نعم"، قال: وزعم رسولك، أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلًا، قال:"صدق"، قال: ثم ولَّي، قال: والذي بعثك بالحق، لا أزيد عليهن، ولا أنقص منهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لئن صدق ليدخلن الجَنَّة". رواه مسلم بهذا اللفظ، وروى البخاريّ أصله.
وفي راوية للبخاريّ أن هذا الرجل ضمام بن ثعلبة، وقدوم ضمام على النبيّ صلى الله عليه وسلم كان سنة خمس من الهجرة، قاله محمد بن حبيب، وآخرون، وقال غيرهم: سنة سبع، وقال أبو عبيد: سنة تسع، وقد صرّح في الحديث بوجوب الحجِّ.
وأما الجواب عن احتجاج الحنفيّة بالآية الكريمة، وأن الأمر يقتضي الوجوب، فجوابه نعم يقتضي الفور، لكن إذا لَمْ تقم قرينة تصرفه إلى التراخي، وقد قامت هنا، وهي ما قدّمناه من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه.
وأما الحديث: "من أراد الحجِّ فليعجل"، فإنه ضعيف، وأيضًا إنه حجة لنا؛ لأنه فوّض فعله إلى إرادته، واختياره، ولو كان على الفور لَمْ يفوّضه إلى اختياره.
وأما حديث: "فليمت إن شاء يهوديًا" فجوابه أنه ضعيف، وأيضًا الذمّ لمن أخّره إلى الموت، ونحن نوافق على تحريم تأخيره إلى الموت، والذي نقول بجوازه هو التأخير بحيث يُفعل قبل الموت، أوأنه محمول على من تركه معتقدًا عدم وجوبه مع الاستطاعة، فهذا كافرٌ، ويؤيّد هذا قوله:"فليمت، إن شاء يهوديًا، أو نصرانيًّا"، وظاهره أنه يموت كافرًا، ولا يكون ذلك إلَّا إذا اعتقد عدم وجوبه مع الاستطاعة، وإلا فقد أجمعت الأمة على أن من تمكن من الحجِّ، فلم يحجّ، ومات، لا يحكم بكفره، بل عاصٍ، فوجب تأويل الحديث لو صحّ.
والجواب عن قياسهم على الصوم أنه مُضيَّق، فكان فعله مُضَيَّقًا بخلاف الحجِّ.
والجواب عن قياسهم على الجهاد أنه لا نسلّم وجوب الجهاد على الفور، بل هو موكول إلى رأي الإمام بحسب المصلحة في الفور والتراخي، وأيضًا في تأخير الجهاد ضررٌ على المسلمين، بخلاف الحجِّ.
والجواب عن قولهم: إذا أخّره، ومات هل يموت عاصيًا؟ الصحيح عندنا موته عاصيًا، وإنما عصى لتفريطه بالتأخير إلى الموت، وإنما جاز له التأخير بشرط سلامة العاقبة، كما إذا ضرب ولده، أو زوجته، أو ضرب المعلّم الصبيّ، أو عزّر السلطان إنسانًا، فمات، فإنه يجب الضمان؛ لأنه مشروط بسلامة العاقبة. انتهى كلام النوويّ رحمه الله باختصار، وتصرّف
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا.
وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: ومن الدليل على أن الحجِّ على التراخي إجماع العلماء على ترك تفسيق القادر على الحجِّ إذا أخّره العامَ والعامين، ونحوهما، وأنه إذا حجّ من بعد أعوام من حين استطاعته، فقد أدّى الحجِّ الواجب عليه في وقته، وليس هو عند الجميع كمن فاتته الصلاة حتى خرج وقتها، فقضاها بعد خروج وقتها، ولا كمن فاته صيام رمضان لمرض، أو سفر، فقضاه، ولا كمن أفسد حجّه، فقضاه، فلما أجمعوا على أنه لا يقال لمن حجّ بعد أعوام من وقت استطاعته: أنت قاضٍ لما وجب عليك، علمنا أن وقت الحجِّ موسّع فيه، وأنه على التراخي، لا على الفور. انتهى كلام ابن عبد البرّ
(2)
، وهو تحقيق نفيسٌ أيضًا.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذكر من الأقوال وأدلّتها أن الأرجح قول من قال: إن وجوب الحجِّ على التراخي؛ لوضوح أدلّته، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في بيان فوائد الحجِّ: لقد اعتنى العلماء بذكر فوائد الحجِّ، ومنهم الشاه وليّ الله الدهلويّ رحمه الله،
(1)
راجع: "المجموع شرح المهذّب" 7/ 86 - 92.
(2)
راجع: "تفسير القرطبي" 4/ 144.
فقد أفاد، وأجاد في كتابه "حجة المبالغة"(2/ 42) فلنقتصر على ما ذكره، قال رحمه الله: المصالح المرعيّة في الحجِّ أمور:
(منها): تعظيم بيت الله تعالى، فإنه من شعائر الله، وتعظيمه تعظيم لله تعالى.
(ومنها): تحقيق معنى العرضة، فإدن لكلّ دولة، أو ملّة اجتماعًا، يتوارده الأقاصي والأداني، ليعرف بعضهم بعضًا، ويستفيدوا أحكام الملّة، ويعظّموا شعائرها، والحجّ عرضة المسلمين، وظهور شوكتهم، واجتماع جنودهم، وتنويه ملّتهم، وهو قوله تعالى:{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} الآية [البقرة: 125].
(ومنها): موافقة ما توارث الناس عن سيدنا إبراهيم، وإسماعيل عليه السلام فإنهما إماما الملّة الحنيفية، ومُشَرّعاها للعرب، والنبيّ صلى الله عليه وسلم بُعث لتظهر به الملّة الحنيفيّة، وتعلو به كلمتها، وهو قوله تعالى:{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} الآية [الحج: 78].
فمن الواجب المحافظة على ما استفاض عن إماميها، كخصال الفطرة، ومناسك الحجِّ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"قِفُوا على مشاعركم، فإنكم على إرث، من إرث أبيكم إبراهيم"
(1)
.
(ومنها): الاصطلاح على حال يتحقّق بها الرفق لعامّتهم، وخاصّتهم، كنزول مني، والمبيت بمزدلفة، فإنه لو لَمْ يُصطَلَح على مثل هذا لشقّ عليهم، ولو لَمْ يسجّل عليه، لَمْ تجتمع كلمتهم عليه مع كثرتهم، وانتشارهم.
(ومنها): الأعمال التي تُعلِنُ بأن صاحبها موحّد، تابعٌ للحقّ، متديّن بالملّة الحنيفيّة، شاكر لله تعالى على ما أنعم على أوائل هذه الملّة، كالسعي بين الصفا والمروة.
(ومنها): أن أهل الجاهليّة كانوا يحجّون، وكان الحجِّ أصل دينهم، ولكنّهم خلطوا فيه أعمالًا ما هي مأثورة عن إبراهيم عليه السلام، وإنما هي اختلاق منهم، وفيها إشراك لغير الله بالله تعالى، كتعظيم إساف، ونائلة، وكالإهلال لمناة الطاغية، وكقولهم في التلبية: لبيك لا شريك لك، إلَّا شريكًا هو لك،
(1)
حديث صحيحٌ، أخرجه النسائيّ رحمه الله برقم (3014).
تملكه، وما ملك، ومن حقّ هذه الأعمال أن يُنهى عنها، ويؤكّد ذلك، وأعمالًا انتحلوها، فخرًا، وعجبًا، كقول الحُمْس: نحن قُطّان بيت الله، فلا نخرج من حرم الله، فنزل:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} الآية [البقرة: 199].
(ومنها): أنهم ابتدعوا قياسات فاسدة، هي من باب التعمّق في الدين، وفيها حرجٌ للناس، ومن حقّها أن تُنسخ، وتُهجَر، كقولهم: يجتنب المحرم دخول البيوت من أبوابها، وكانوا يتسوّرون من ظهورها، ظنًّا منهم أن الدخول من الباب ارتفاق ينافي هيئة الإحرام، فنزل قوله تعالى:{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} الآية [البقرة: 189]، وككراهيتهم التجارة في موسم الحجِّ، ظنًّا منهم أنَّها تُخِلّ بإخلاص العمل لله تعالي، فنزل قوله تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} الآية [البقرة: 198]، وكاستحبابهم أن يحجّوا بلا زاد، ويقولون: نحن المتوكّلون، وكانوا يضيّقون على الناس، ويعتدون، فنزل قوله تعالى:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} الآية [البقرة: 197]. انتهى كلام وليّ الله ببعض تصرّف
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1) - (بَابُ مَا يُبَاحُ لِلْمُحْرِمِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَمَا لَا يُبَاحُ وَبَيَانِ تَحْرِيمِ الطِّيبِ عَلَيْهِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2791]
(1177) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَجُلًا سَأَل رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَلْبَسُوا الْقُمُصَ، وَلَا الْعَمَائِمَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا الْبَرَانِسَ، وَلَا الْخِفَافَ، إِلَّا أَحَدٌ
(2)
لَا يَجِدُ النَّعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ
(3)
،
(1)
راجع: "المرعاة" 8/ 293 - 294.
(2)
وفي نسخة: "إلَّا أحدًا".
(3)
وفي نسخة: "فليلبس خفّين".
وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ، وَلَا الْوَرْسُ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، أبو زكريّاء النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 226)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 9/ 3.
2 -
(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، أبو عبد الله المدنيّ، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين الحجة المجتهد [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 378.
3 -
(نَافِعٌ) أبو عبد الله المدنيّ، مولى ابن عمر، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهور [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
4 -
(ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، مات سنة (3) 74) (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (173) من رباعيّات الكتاب.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجة.
3 -
(ومنها): أنه أصحّ الأسانيد على الإطلاق، كما نُقل عن الإمام البخاريّ رحمه الله.
4 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، كما أسلفته آنفًا.
5 -
(ومنها): أن ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2635).
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَجُلًا سَأَل رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال الحافظ رحمه الله: لَمْ أقف على اسمه في شيء من الطرق، وفي رواية الليث، عن نافع بلفظ:"قام رجل، فقال: يا رسول الله ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب في الإحرام؟ " وفي
رواية عمر بن نافع، عن أبيه:"أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما نلبس من الثياب إذا أحرمنا"، وفي رواية أيوب، عن نافع:"نادى النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: ما نلبس إذا أحرمنا".
وهذا مشعر بأن السؤال عن ذلك كان قبل الإحرام.
وقد حَكَى الدارقطنيّ، عن أبي بكر النيسابوريّ أن في رواية ابن جريجٍ، والليث، عن نافع أن ذلك كان في المسجد، قال الحافظ: ولم أر ذلك في شيء من الطرق عنهما، نعم أخرج البيهقيّ 5/ 49 من طريق عبد الله بن عون، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قام رجل من هذا الباب -يعني بعض أبواب مسجد المدينة -، فقال: يا رسول الله ما يلبس المحرم؟
و 5/ 49 من طريق حمّاد بن زيد، عن أيوب، ومن طريق عبد الوهّاب بن عطاء، عن عبد الله بن عون، كلاهما عن نافع، عن ابن عمر: نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يخطب بذلك المكان - وأشار نافع إلى مقدّم المسجد - فذكر الحديث. فظهر أن ذلك كان بالمدينة.
ووقع في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند الشيخين: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات، فقال: "من لَمْ يجد الإزار
…
" الحديث، فيحمل على التعدّد، ويؤيّده أن حديث ابن عمر أجاب به السائل، وحديث ابن عبّاس ابتدأ به في الخطبة. انتهى
(1)
.
(مَا يَلْبَسُ)"ما" استفهاميّة، أو موصولة، أو موصوفة في محلّ نصب مفعول ثان لـ "سأل"، و"يلبس" بفتح المثنّاة، والموحّدة، من اللبس بضم اللام، يقال: لَبِس الثوب يلبسه، من باب علم يعلم لُبْسًا بالضمّ، وأما اللبس بفتح اللام، فهو مصدر لَبَستُ عليه الأمرَ ألبِسه، من باب ضرب: إذا خلطت عليه، ومنه اشتباهه، ولا يناسب هنا.
وقوله: (الْمُحْرِمُ) أجمعوا على أن المراد به الرجل، لا المرأة؛ لأنَّها لا تُمنع من لبس هذه الأنواع. قال ابن المنذر رحمه الله: أجمعوا على أن للمرأة لبس
(1)
"الفتح" 4/ 182.
جميع ما ذُكر، وإنما تشترك مع الرجل في منع الثوب الذي مسّه الزعفران، أو الورس، وسيأتي الكلام على ذلك، إن شاء الله تعالى.
وقوله: (مِنَ الثِّيَابِ؟) أي: من أنواع الثياب، وهو بيان لـ "ما"، أو للمسؤول عنه.
[تنبيه]: قوله: "ما يلبس المحرم من الثياب إلخ" هذا هو المشهور في الرواية عن نافع، عن ابن عمر، وقد رواه أبو عوانة من طريق ابن جريجٍ، عن نافع، بلفظ:"ما يترك المحرم". قال الحافظ: وهي شاذّة، والاختلاف فيها على ابن جريجٍ، لا على نافع.
وأخرجه أحمد 2/ 8 عن سفيان بن عيينة، عن الزهريّ، عن سالم، عن ابن عمر، فقال مرّةً:"ما يترك؟ " ومرّةً: "ما يلبس".
وأخرجه أبو داود، عن ابن عيينة بلفظ:"ما يترك؟ " من غير شكّ. ورواه سالم، عن ابن عمر بلفظ:"أن رجلًا قال: ما يجتنب المحرم؟ ".
وأخرجه أحمد 2/ 34، وابن خزيمة، وأبو عوانة في "صحيحيهما" من طريق عبد الرزّاق، عن معمر، عن الزهريّ، عنه.
وأخرجه البخاريّ في أواخر الحجِّ من طريق إبراهيم بن سعد، عن الزهريّ بلفظ نافع، فالاختلاف فيه على الزهريّ يُشعر بأن بعضهم رواه بالمعنى، فاستقامت رواية نافع؛ لعدم الاختلاف فيها.
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَلْبَسُوا)"لا" ناهية، ولذا جُزم الفعل بها، كذا هو في رواية نافع بالخطاب، وواو الجماعة، وفي رواية سالم التالية:"لا يلْبَس المحرم القميص"، وهو بالرفع على الخبر على الأشهر، وهو في معنى النهي، وروي بالجزم على أنه نهي.
وهذا الجواب مطابق للسؤال على إحدى الروايتين، وهي قول السائل:"ما يترك المحرم؟ " أو "ما يجتنب المحرم؟ " وأما على الرواية المشهورة؛ أي: قول السائل: "ما يلبس المحرم"، فإن المسؤول عنه ما يلبسه المحرم، فأجيب بذكر ما لا يلبسه، والحكمة فيه أن ما يجتنبه المحرم، ويمتنع عليه لبسه محصور، فذِكْرُه أولي، ويبقى ما عداه على الإباحة، بخلاف ما يُباح لبسه، فإنه كثير، غير محصور، فذكره تطويل، وفيه تنبيه على أن السائل لَمْ يُحسن
السؤال، وأنه كان الأليق السؤال عما يتركه، فعدل عن مطابقته إلى ما هو أولى، وبعض علماء المعاني يسمّي هذا بـ "أسلوب حكيم"، وقريب منه قوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} الآية [البقرة: 215]، فالسؤال عن جنس المنفَق، فعدل عنه في الجواب إلى جنس المنفق عليه؛ لأنه أهمّ، وكان اعتناء السائل بالسؤال عنه أولى.
ومثله قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} الآية.
قال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: هذا من بديع الكلام، وجَزْله، فإنه صلى الله عليه وسلم سُئل عما يلبسه المحرم، فقال: لا تلبسوا كذا وكذا، فحصل في الجواب أنه لا يلبس المذكورات، ويلبس ما عداها، فكان التصريح بما لا يُلبَس أولى؛ لأنه منحصر، فأما الملبوس الجائز للمحرم، فغير منحصر، فضبط الجميع بقوله:"لا يلبس كذا وكذا" يعني، ويلبس ما سواه. انتهى
(1)
.
وقال البيضاويّ: سئل عما يلبس، فأجاب بما لا يُلبس ليدلّ بالالتزام من طريق المفهوم على ما يجوز، وإنما عدل عن الجواب؛ لأنه أخصر، وأحصر. وفيه إشارة إلى أن حقّ السؤال عما لا يلبس.
وقال الشيخ ابن دقيق العيد في "شرح العمدة": فيه دليل على أن المعتبر في الجواب ما يحصل به المقصود، كيف كان، ولو بتغيير، أو زيادة، ولا يشترط المطابقة. انتهى.
(الْقُمُصَ) بضمّتين، وهو جمع قَمِيص، وهو نوع من الثياب معروف، وهو الدرع، وذكر ابن الهمام في أبواب النفقة من "فتح القدير" أنهما سواء، إلَّا أن القميص يكون مجيَّبًا من قبل الكتف، والدرع من قبل الصدر. انتهى.
ونبّه به وبالسراويل على جميع ما في معناهما، وهو ما كان مُحيطًا، أو مخيطًا معمولًا على قدر البدن، أو قدر عضو منه، وذلك مثل الجبّة، والقميص، والقباء، والتُّبّان، وا لقفّاز.
(وَلَا الْعَمَائِمَ) جمع عمامة - بكسر العين -: هي ما يُلفّ على الرأس،
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 73.
سميت بذلك لأنَّها تعمّ جميع الرأس، ونبّه به على كلّ ساتر للرأس مخيطًا، أو غير مخيط، حتى العصابة، فإنها حرام.
(وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ) جمع سِرْوال، وهو واحد جاء بلفظ الجمع. وقيل: جمع سِرْوالة، وهو ئوب خاصّ بالنصف الأسفل من البدن، قال في "القاموس": السراويل فارسيّة معرّبة، جمعها سراويلات، أو هي جمع سِرْوال، وسِرْوالة. انتهى، وقال صاحب "المحكم": السراويل فارسيّ معرّب، يذكّر، ويؤنّث، ولم يَعْرِف الأصمعيّ فيها إلَّا التأنيث، والجمع سراويلات، والسراوين - بالنون -: السراويل، زعم يعقوب أن النون فيها بدلٌ من اللام. وقال أبو حاتم السجستانيّ: وسمعت من الأعراب من يقول: الشراويل - بالشين المعجمة - انتهى.
(وَلَا الْبَرَانِسَ) - بفتح الموحدة، وكسر النون -: جمع بُرْنُس - بضمّتين - قال الأزهريّ، وصاحب "المحكم"، وغيرهما: البرنس كلّ ثوب رأسه ملتزق به، درّاعة كانت، أو جبّة، أو مِمْطَرًا
(1)
، من البِرْس بكسر الباء، وهو القطن، والنون زائدة.
قال النوويّ رحمه الله: نبّه بالعمائم، والبرانس على كلّ ساتر للرأس، مخيطًا كان، أو غيره حتى العصابة، فإنها حرام، فإن احتاج إليها لشجّة، أو صُداع، أو غيرهما شدّها، ولزمته الفدية. انتهى.
وقال الخطّابيّ رحمه الله: ذكر العمامة، والبرنس معًا ليدلّ على أنه لا يجوز تغطية الرأس لا بالمعتاد، ولا بالنادر، قال: ومن النادر الْمِكْتَل يحمله على رأسه، قال الحافظ: إن أراد أنه يجعله على رأسه كلابس القبع صحّ ما قال، وإلا فمجرّد وضعه على رأسه على هيئات الحامل لحاجته لا يضرّ، ومما لا يضرّ أيضًا الانغماس في الماء، فإنه لا يسمى لابسًا، وكذا ستر الرأس باليد. انتهى.
وقال الحافظ وليّ الدين: والمشهور من مذهب الشافعيّ أنه لا تحريم في
(1)
"الممطر" بكسر الميم الأولى، وفتح الطاء: ما يُلبس في المطر، يُتوقّى به. ذكره في "المرعاة" 9/ 333.
حمل المكتل، ولا فدية فيه، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، وقال المالكيّة: لا بأس أن يحمل على رأسه ما لا بدّ له منه، كخَرْجِه، وجرابه، ولا يَحْمِل ذلك لغيره تطوّعًا، ولا بإجارة، فإن فعل افتدى، ولا يحمل لنفسه تجارة، قال أشهب: إلَّا أن يكون عيشه بذلك. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تفرقة المالكية بين ما يحمله لنفسه، ولغيره يحتاج إلى دليل، فتأمّل، والله تعالى أعلم.
(وَلَا الْخِفَافَ) - بالكسر -: جمع خُفّ، وفي رواية سالم:"ولا الخفّين": تثنية خُفّ بضم، فتشديد (إِلَّا أَحَدٌ) بالرفع، وهو الوجه المختار؛ لأن الاستثناء متّصل منفيّ، فيكون مرفوعًا على البدليّة من ضمير "تلبسوا"، وفي نسخة:"إلَّا أحدًا" بالنصب، وهو أيضًا جائز، فيكون منصوبًا على الاستثناء، كما قال في "الخلاصة":
مَا اسْتَثْنَتِ "الَّا" مَعْ تَمَامٍ يَنْتَصِبْ
…
وَبَعْدَ نَفْيٍ أَوْ كَنَفْيٍ انْتُخِبْ
إِتْبَاعُ مَا اتَّصَلَ وَانْصِبْ مَا انْقَطَعْ
…
وَعَنْ تَمِيمٍ فِيهِ إِبْدَالٌ وَقَعْ
وقال الزين ابن المنيّر رحمه الله يستفاد منه جواز استعمال "أحد" في الإثبات، خلافًا لمن خصّه بضرورة الشعر، كقوله:
وَقَدْ ظَهَرْتَ فَلَا تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ
…
إِلَّا عَلَى أَحَدٍ لَا يَعْرِفُ الْقَمَرَا
قال: والذي يظهر لي بالاستقراء أنه لا يُستعمل في الإثبات إلَّا إن كان يعقبه نفيٌ، وكان الإثبات حينئذ في سياق النفي.
(لَا يَجِدُ النَّعْلَيْنِ) المراد بعدم الوجدان أن لا يقدر على تحصيله إما لفقده، أو ترك بذل المالك له، أو عجزه عن الثمن، إن وجد من يبيعه، أو الأجرة، ولو بيع بغبن لَمْ يلزمه شراؤه، أو وُهب له لَمْ يجب قبوله إلَّا إن أُعير له.
واستُدلّ به على أن من وجد النعلين لا يلبس الخفّين المقطوعين، وهو قول الجمهور، وأجازه الحنفيّة، وبعض الشافعيّة. وقال ابن العربيّ: إن صارا كالنعلين جاز، وإلا متى سترا من ظاهر الرجل شيئًا لَمْ يجز إلَّا للفاقد. وقال الزرقانيّ: فإن لبسهما مع وجود النعلين افتدى عند مالك، والليث، وعن
الشافعيّ قولان، قاله في "الفتح"
(1)
.
(فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ) وفي نسخة: "فليلبس خفّين" بالتنكير (وَلْيَقْطَعْهُمَا) ظاهر الأمر للوجوب، لكنه لما شُرع للتسهيل لَمْ يناسب التثقيل، وإنما هو للرخصة، قاله في "الفتح"، وهو محلّ تأمّل، وهو تعالى أعلم.
(أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ)"أسفل" ظرف لـ "يقطع"، وفي رواية سالم:"حتى يكونا أسفل من الكعبين"؛ يعني أن فاقد النعلين إذا أراد أن يلبس الخفين يقطعهما بحيث يصير الكعبان، وما فوقهما من الساق مكشوفًا، لا قطع موضع الكعبين فقط.
قال في "الفتح": والمراد كشف الكعبين في الإحرام، وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم.
ويؤيّده ما روى ابن أبي شيبة، عن جرير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: إذا اضطرّ المحرم إلى الخفّين خرق ظهورهما، وترك فيهما قدر ما يستمسك رجلاه.
وقال محمد بن الحسن، ومن تبعه من الحنفيّة: الكعب هنا هو العظم الذي في وسط القدم عند معقد الشراك، وقيل: إن ذلك لا يُعرف عند أهل اللغة، وقيل: إنه لا يثبت عن محمد، وإن السبب في نقله عنه أن هشام بن عبيد الله الرازيّ سمعه يقول في مسألة المحرم إذا لَمْ يجد النعلين حيث يقطع خفيه، فأشار محمد بيده إلى موضع القطع، ونقله هشام إلى غسل الرجلين في الطهارة، وبهذا يتعقّب على من نقل عن أبي حنيفة كابن بطّال أنه قال: إن الكعب هو الشاخص في ظهر القدم، فإنه لا يلزم من نقل ذلك عن محمد بن الحسن - على تقدير صحّته عنه - أن يكون قول أبي حنيفة. ونقل عن الأصمعيّ، وهو قول الإماميّة أن الكعب عظم مستدير تحت عظم الساق حيث مفصل الساق والقدم، وجمهور أهل اللغة على أن في كلّ قدم كعبين.
وظاهر الحديث أنه لا فدية على من لبسهما؛ إذا لَمْ يجد النعلين، وعن الحنفيّة تجب. وتُعُقّب بأنها لو وجبت لبيّنها النبيّ صلى الله عليه وسلم لأنه وقت الحاجة.
(1)
"الفتح" 4/ 424.
واستدلّ به على اشتراط القطع، خلافًا للمشهور عن أحمد، فإنه أجاز لبس الخفّين من غير قطع؛ لإطلاق حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما عند البخاريّ في أواخر الحجِّ بلفظ:"ومن لَمْ يجد نعلين، فليلبس خفّين".
وتُعُقّب بأنه موافق على قاعدة حمل المطلق على المقيّد، فينبغي أن يقول بها هنا.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أخرج النسائيّ من طريق أيوب، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما بلفظ:"وإذا لَمْ يجد النعلين، فليلبس الخفّين، وليقطعهما أسفل من الكعبين"، فلو صحّت هذه الزيادة، فلا حاجة إلى القول بالتقييد بحديث ابن عمر رضي الله عنهما؛ لكنها لا تثبت في حديث ابن عباس، كما بيّنته في "شرح النسائيّ"، فراجعه تستفد.
وأجاب الحنابلة بأشياء: منها: دعوى النسخ في حديث ابن عمر، فقد روى الدارقطنيّ، من طريق عمرو بن دينار أنه روى عن ابن عمر حديثه، وعن جابر بن زيد عن ابن عبّاس حديثه، وقال: انظروا أيّ الحديثين قبلُ؟ ثم حكى الدارقطنيّ، عن أبي بكر النيسابوريّ أنه قال: حديث ابن عمر قبلُ؛ لأنه كان بالمدينة قبل الإحرام، وحديث ابن عباس بعرفات.
وأجاب الشافعيّ عن هذا في "الأمّ"، فقال: كلاهما صادق حافظ، وزيادة ابن عمر لا تخالف ابن عباس؛ لاحتمال أن تكون عزبت عنه، أو شكّ، أو قالها، فلم يقلها عنه بعض رواته. انتهى.
وسلك بعضهم الترجيح بين الحديثين، قال ابن الجوزيّ: حديث ابن عمر اختُلِف في وقفه ورفعه، وحديث ابن عباس لَمْ يُختلف في رفعه. انتهى.
قال الحافظ: وهو تعليل مردود، بل لَمْ يُختلف على ابن عمر في رفع الأمر بالقطع إلَّا في رواية شاذّة، على أنه اختُلف في حديث ابن عبّاس أيضًا، فرواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس موقوفًا، ولا يرتاب أحد من المحدّثين أن حديث ابن عمر أصحّ من حديث ابن عبّاس؛ لأن حديث ابن عمر جاء بإسناد وُصف بكونه أصحّ الأسانيد، واتفق عليه عن ابن عمر غير واحد من الحفّاظ، منهم نافع، وسالم، بخلاف حديث ابن عبّاس، فلم يأت مرفوعًا إلَّا من رواية جابر بن زيد عنه، حتى قال الأصيليّ:
إنه شيخٌ بصريّ، لا يُعرف، كذا قال، وهو معروف، موصوفٌ بالفقه عند الأئمة.
واستدلّ بعضهم بالقياس على السراويل، كما سيأتي البحث عنه فيه في حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما إن شاء الله تعالى -.
وأجيب بأن القياس مع وجود النصّ فاسد الاعتبار.
واحتجّ بعضهم بقول عطاء: إن القطع فساد، والله لا يحبّ الفساد.
وأجيب بأن الفساد إنما يكون فيما نَهَى الشرع عنه، لا فيما أَذن فيه.
وقال ابن الجوزيّ: يُحمل القطع على الإباحة، لا على الاشتراط؛ عملًا بالحديثين، قال الحافظ: ولا يخفى تكلّفه. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تبيّن بما ذُكر أن ما ذهب إليه الجمهور من وجوب قطع الخفين، حتى يكونا أسفل من الكعبين، هو الحقّ؛ حملًا لحديث ابن عباس رضي الله عنهما حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وبه يحصل العمل بالحديثين، من غير إلغاء أحدهما، والله تعالى أعلم بالصواب.
[تنبيه]: زاد الثوريّ في روايته لهذا الحديث عن أيوب، عن نافع:"ولا القباء"، أخرجه عبد الرزّاق عنه، قال الحافظ العراقيّ: وهو صحيح محفوظ من حديث سفيان الثوريّ، عن أيوب، ورواه الطبرانيّ من وجه آخر عن الثوري، وأخرجه الدارقطنيّ، والبيهقيّ من طريق حفص بن غياث، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع أيضًا بلفظ:"والأقبية"، قال العراقيّ: إسناده صحيح.
و"القباء" بالقاف والموحدة: معروف، ويطلق على كلّ ثوب مفرج، ومنعُ لبسه متّفقٌ عليه، إلَّا أن أبا حنيفة قال: يشترط أن يدخل يديه في كميه، لا إذا القاه على كتفيه، ووافقه أبو ثور، والخرقيّ من الحنابلة، وحكى الماورديّ نظيره إن كان كمه ضيّقًا، فإن كان واسعًا فلا. قاله في "الفتح"
(1)
.
(وَلَا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَاب شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ) بالتعريف، وفي رواية سالم:"زعفران" بالتنكير والتنوين؛ لأنه منصرف؛ إذ ليس فيه إلَّا الألف والنون فقط،
(1)
"الفتح" 4/ 186.
وهو لا يمنع الصرف، وهو بفتح الزاي، وسكون العين المهملة، وفتح الفاء، والراء -: اسم عربيّ. وقيل: اسم عجميّ تصرّفت فيه العرب، فقالوا: ثوب مزعفرٌ، وقد زعفر ثوبه يزعفره زعفرةً، ويجمع على زعافر.
واستُدلّ بقوله: "مسّه" على تحريم ما صُبغ كلّه، أو بعضه، ولو خفيت رائحته، قال مالك في "الموطّأ": إنما يكره لبس المصبّغات؛ لأنَّها تنفض، وقال الشافعيّة: إذا صار الثوب بحيث لو أصابه الماء لَمْ تفح له رائحة لَمْ يُمنع، والحجة فيه حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما، عند البخاريّ، وفيه: "ولم ينه عن شيء من الثياب، إلَّا المزعفرة التي تَرْدَعُ الجلدَ
(1)
…
" الحديث.
وأما المغسول، فقال الجمهور: إذا ذهبت الرائحة جاز، خلافًا لمالك، ففي "الموطأ": سئل مالك عن ثوب مسّه طيب، ثم ذهب ريح الطيب منه، هل يُحرِم فيه؛ قال: نعم، ما لَمْ يكن فيه صباغ زعفران، أو ورس. انتهى.
واستُدلّ للجمهور بما رواه أبو معاوية عن عبيد الله بن عمر، عن نافع في هذا الحديث:"إلَّا أن يكون غسيلًا"، أخرجه يحيى بن عبد الحميد الحِمّانيّ في "مسنده" عنه.
وروى الطحاويّ عن أحمد بن أبي عمران أن يحيى بن معين أنكره على الحمانيّ، فقال له عبد الرَّحمن بن صالح الأزديّ: قد كتبته عن أبي معاوية، وقام في الحال، فأخرج له أصله، فكتبه عنه يحيى بن معين. انتهى.
وهي زيادة شاذّة؛ لأن أبا معاوية، وإن كان متقنًا، لكن في حديثه عن غير الأعمش مقال، قال أحمد: أبو معاوية مضطرب الحديث في عبيد الله، ولم يجئ بهذه الزيادة غيره.
قال الحافظ: والحمّانيّ ضعيف، وعبد الرَّحمن الذي تابعه فيه مقال.
ورد العينيّ إعلال هذا الحديث بما ذُكر، وصحح الحديث، وقال: وقد روى أحمد في مسنده من حديث ابن عبّاس حديثًا يدلّ على جواز لبس المزعفر للمحرم؛ إذا لَمْ يكن فيه نفضٌ، ولا ردع
(2)
.
(1)
أي: تلطخ، يقال: ردع: إذا التطخ، والردع أثر الطيب. قاله في "الفتح" 4/ 188.
(2)
3303 - حدثنا يزيد، أخبرنا الحجاج، عن عطاء، أنه كان لا يرى بأسًا، أن يحرم =
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: فيما قال العينيّ نظر لا يخفى، فإن أبا معاوية زيادةً على ما ذُكِر من اضطرابه في حديث غير الأعمش كما قال أحمد، فإنه مدلّس، كما صرّح به يعقوب بن شيبة، وابن سعد، وقد عنعنه هنا، فكيف يصحّ؟.
وأما الحديث الذي ذكره عن "المسند" ففي سنده حجاج بن أرطاة كثير التدليس عن الضعفاء، وفيه أيضًا حسين بن عبد الله بن عبيد الله، وهو ضعيف، كما قاله الحافظ الهيثميّ في "مجمع الزوائد" 3/ 219.
فالحقّ ما قاله الإمام مالك رحمه الله، من عدم جواز لبس المصبوغ بزعفران، أو ورس، وإن كان مغسولًا؛ لإطلاق حديث الباب، وعدم صحّة ما احتجّ به الجمهور، كما عرفته آنفًا، والله تعالى أعلم.
واستدلّ به المهلّب على منع استدامة الطيب، وفيه نظر.
واستَنْبَط من منع لبس الثوب المزعفر منع أكل الطعام الذي فيه الزعفران. وهذا قول الشافعيّة، وعن المالكيّة خلاف، وقال الحنفيّة: لا يحرم؛ لأن المراد اللبس، والتطيّب، والآكل لا يُعدّ متطيّبًا.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الحنفيّة أقوي، فتأمله، والله تعالى أعلم.
(وَلَا الْوَرْسُ") - بفتح الواو، وسكون الراء، بعدها سين مهملة - قال في "القاموس": نبات كالسمسم، ليس إلَّا باليمن، يُزرع، فيبقى عشرين سنة، نافع للكلف طلاءً، والبَهَق شُربًا، وقال الجوهريّ: الورس نبت أصفر يكون باليمن، وقال الحافظ: الورس نبت أصفر طيّب الريح، يُصبغ به.
قال ابن العربيّ: الورس ليس بطيب، ولكنه نبّه به على اجتناب الطيب، وما يشبهه في ملاءمة الشمّ، فيؤخذ منه تحريم أنواع الطيب على المحرم، وهو مجمع عليه، فيما يُقصد به التطيّب.
= الرجل، في ثوب مصبوغ بزعفران، قد غسل، ليس فيه نفض، ولا ردع.
حدثنا يزيد، أخبرنا الحجاج، عن الحسين بن عبد الله بن عبيد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "ولا تلبسوا من الثياب شيئًا مسه الزعفران ولا الورس" أجمعت الأمة على تحريم لباسهما؛ لكونهما طيبًا، وألحقوا بهما جميع أنواع ما يُقْصد به الطيب، وسبب تحريم الطيب أنه داعية إلى الجماع، ولأنه ينافي تذلل الحاج، فإن الحاجّ أشعث أغبر، وسواء في تحريم الطيب الرجل والمرأة، وكذا جميع محرمات الإحرام سوى اللباس، كما سبق بيانه.
قال: ومحرمات الإحرام سبعة: اللباس بتفصيله السابق، والطيب، وإزالة الشعر والظفر، ودهن الرأس واللحية، وعقد النِّكَاح، والجماع، وسائر الاستمتاع حتى الاستمناء، والسابع: إتلاف الصيد.
قال: وإذا تطيّب، أو لبس ما نُهِيَ عنه لزمته الفدية، إن كان عامدًا بالإجماع، وإن كان ناسيًا فلا فدية عند الثوريّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأوجبها أبو حنيفة، ومالك.
قال الجامع عفا الله عنه: ما ذهب إليه الأولون من عدم الفدية بالنسيان، وكذا بالجهل هو الأرجح عندي، لحديث يعلى بن منية رضي الله عنه الآتي قريبًا.
قال: ولا يحرم المعصفر عند مالك، والشافعيّ، وحرّمه الثوريّ، وأبو حنيفة، وجعلاه طيبًا، وأوجبا فيه الفدية.
قال: ويكره للمحرم لبس الئوب المصبوغ بغير طيب ولا يحرم. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 2791 و 2792 و 2793](1177)، و (البخاريّ) في "العلم"(13) و"الصلاة"(366) و"الحج" (1542 و 1838
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 75.
و 1842) و"اللباس"(5794 و 5803 و 5805 و 5806 و 5847 و 5852)، و (أبو داود) في "المناسك"(1823)، و (الترمذيّ) في "الحج"(833)، و (ابن ماجة) في "المناسك"(2929 و 2930 و 2932)، و (النسائيّ) في "المناسك"(5/ 131 و 135) و"الكبرى"(2/ 334 و 346)، و (مالك) في "الموطّإ"(716 و 717)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 300)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1839)، و (الحميديّ) في "مسنده"(627)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 3 و 4 و 22 و 29 و 32 و 41 و 54 و 59 و 63 و 65 و 77 و 119)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2597 و 2599 و 2600)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3784)، و (الدارميّ) في "سننه"(1798 و 1800)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 263 - 264)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(5/ 263)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 181)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(461)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 135)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 235)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 49 - 50) و"الصغرى"(4/ 25) و"المعرفة"(4/ 11)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما يلبسه المحرم من اللباس، وهو ما عدا هذه المذكورات.
2 -
(ومنها): بيان تحريم لبس هذه الأمور المذكورة، وما في معناها على المحرم، وهو مجمع عليه، فنبّه بالقميص على كلّ مخيط معمول على قدر البدن، وبالسراويل على ما هو معمول على قدر عضو منه، وبالعمامة على الساتر للرأس، وإن لَمْ يكن مخيطًا، وبالبرنس على الساتر له، وإن كان لبسه نادرًا، ومن ذلك يفهم تحريم ستر الرأس مطلقًا، وكذا يحرم ستر بعضه إذا كان قدرًا يقصد ستره لغرض، بخلاف الخيط ونحوه، ولا يضرّ الانغماس في الماء، والستر بكفه، وبالخفّ على كلّ ساتر للرجل من مداس، وجمجم، وجورب، وغيرها.
قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: ويقدح في دعوى الإجماع ما رواه سعيد بن منصور في "سننه" عن عطاء بن أبي رباح أنه رخّص للمحرم في لبس الخفّ في الدلجة.
قال الحافظ العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذيّ": ولا يُعرف ذلك لغير عطاء، إلَّا أن الطحاويّ روى في "بيان المشكل" أن عمر رضي الله عنه رأى على عبد الرَّحمن بن عوف رضي الله عنه خفّين، وهو محرم، فقال: وخفّين أيضًا، وأنت محرم؟ فقال: فعلته مع من هو خير منك. قال العراقيّ: فلعلّ هذا مستند عطاء، ويحتمل عدم وجدان عبد الرَّحمن للنعلين. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): بيان أنه لا يجوز للمحرم لبس الخفين المقطوعين إلَّا عند فقد النعلين، وهو الراجح من أقوال أهل العلم، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.
4 -
(ومنها): بيان تحريم لبس الثياب المصبوغة بالورس والزعفران للمحرم.
[تنبيه]: قال العلماء -رحمهم الله تعالى -: الحكمة في تحريم اللباس المذكور على المحرم، ولباسه الإزار والرداء أن يبعد عن الترفّه، ويتّصف بصفة الخاشع الذليل، وليتذكّر أنه محرم في كلّ وقت، فيكون أقرب إلى كثرة أذكاره، وأبلغ في مراقبته، وصيانته لعبادته، وامتناعه من ارتكاب المحظورات، وليتذكّر به الموت، ولباس الأكفان، وليتذكّر البعث يوم القيامة، حفاة، عُراة، مهطعين إلى الداعي. ذكره وليّ الدين رحمه الله
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في لبس الخفيّن لمن لَمْ يجد النعلين:
ذهبت طائفة إلى أن من لَمْ يجد نعلين يجوز له لبمس الخفّين بشرط قطعهما حتى يكونا أسفل من الكعين، وبهذا قال مالك، وأبو حنيفة، والشافعيّ، والجمهور، وهو رواية عن أحمد، والمشهور عنه جواز لبسهما بحالهما عند فقد النعلين، ولا يجب قطعهما. واستدلّ له بحديث ابن عبّاس، وجابر رضي الله عنهم المذكور في الباب؛ إذ ليس فيهما ذكر القطع، وزعم أصحابه أن حديث ابن عمر المصرّح بقطعهما منسوخ، وقالوا: قطعهما إضاعة مال، وقال
(1)
"طرح التثريب" 5/ 45 - 46.
(2)
المصدر المذكور 5/ 55.
عمرو بن دينار: ولا أدري أيّ الحديثين نسخ الآخر، انظروا أيهما قبلُ.
وقال الجمهور: يجب حمل حديث ابن عباس، وجابر على حديث ابن عمر؛ لأنهما مطلقان، وفي حديث ابن عمر زيادة لَمْ يذكراها يجب الأخذ بها، قال الشافعيّ: ابن عمر، وابن عباس، كلاهما صادقٌ حافظ، وليس زيادة أحدهما على الآخر شيئًا لَمْ يؤدّه الآخر، إما عزب عنه، وإما شكّ فيه، فلم يؤدّه، وإما سكت عنه، وإما أدّاه فلم يُؤَدَّى عنه، لبعض هذه المعاني اختلفا. انتهى.
وقولهم: إنه إضاعة مال: مردود، فإن الإضاعة إنما تكون في المنهيّ عنه، وأما ما ورد به الشرع فهو حقّ يجب الإذعان له. واللَّه أعلم.
وحَكَى الخطّابيّ، عن عطاء بن أبي رباح أنه لا يقطعهما؛ لأن في قطعهما إفسادًا، ثم قال: يشبه أن يكون لَمْ يبلغه حديث ابن عمر، قال: والعجب من أحمد في هذا، فإنه لا يكاد يخالف سنة تبلغه، وقلّت سنة لَمْ تبلغه.
وقال ابن العربيّ: أما عطاء فوَهِم في الفتوى، وأما أحمد فعلى صراط مستقيم، قال: وهذه القولة لا أراها صحيحة، فإنّ حَمْلَ المطلق على المقيّد أصل أحمد. انتهى ما ذكره وليّ الدين رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: ما ذهب إليه الجمهور هو الأرجح عندي؛ لوضوح حجته.
والحاصل أن الراجح حمل حديث ابن عباس على حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وهو أن من لَمْ يجد نعلين لبس الخفّين، ولكن يقطعهما حتى يكونا أسفل الكعبين، فبهذا يُجمَع بين الحديثين، وهو الطريق الذي يحصل به العمل بالحديثين، فيكون أولى من إبطال أحدهما بدعوى النسخ بلا بيّنة واضحة، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في وجوب الفدية على من لبس الخفّين لفقد النعلين:
(1)
"طرح التثريب" 5/ 53 - 54.
ذهبت طائفة إلى أنه إذا فقد النعلين، ولبس الخفّين مقطوعين أسفل من الكفين، لَمْ تلزمه فدية؛ إذ لو كانت لازمة لبيّنها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا موضع بيانها، وهو من جهة المعنى واضح، فإنه لَمْ يرتكب محظورًا، وبهذا قال مالك، والشافعيّ، وآخرون - رحمهم اللَّه تعالى -.
وقال أبو حنيفة، وأصحابه: عليه الفدية، كما إذا احتاج إلى حلق الرأس يحلقه، وَيفدِي. ذكره وليّ الدين رحمه الله.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: ما قاله الأولون هو الأرجح؛ عملًا بظاهر الحديث، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): دلّ الحديث على أنه لا يجوز لبس الخفّين مقطوعين إلَّا عند فقد النعلين، وهو الأصحّ عند أصحاب الشافعيّ، وبه قال مالك، والليث، وكذا قال الحنابلة: لو لبس واجد النعل خفًّا مقطوعًا تحت الكعب لزمته الفدية.
وذهب بعض الشافعيّة إلى جواز لبسه مع وجودهما؛ لأنه صار في معناهما، وهو قول أبي حنيفة، أو بعض أصحابه، حكاه ابن عبد البرّ، وابن العربيّ عن أبي حنيفة، وحكاه المحبّ الطبريّ عن بعض أصحابه. وحكي عن أبي حنيفة نفسه موافقة مالك، والجمهور.
وقال ابن العربيّ: والذي أقول: إنه إن كشف الكعب لبسهما إن لَمْ يجد نعلين، وإن وجد النعلين لَمْ يجز لبسهما، حتى يكون كهيئة النعل لا يستران من ظاهر الرجل شيئًا. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: عندي أن ما ذكره ابن العربيّ رحمه الله أقرب، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): هذا الحكم خاصّ بالرجل، أما المرأة فلها لبس الخفّين مطلقًا، قال ابن المنذر رحمه الله: وبه قال كلّ من يُحفظ عنه من أهل العلم. انتهى.
لكن في "سنن أبي داود": أن ابن عمر كان يصنع ذلك -يعني يقطع الخفّين - للمرأة المحرمة، ثم حدّثته صفيّة بنت أبي عُبيد أن عائشة رضي الله عنها حدّثتها: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد كان رخّص للنساء في الخفّين، فترك ذلك.
قال ابن عبد البرّ: لا يقول به أحد من أهل العلم فيما علمت، وهذا إنما كان من ورع ابن عمر، وكئرة اتباعه، فاستعمل ما حفظ على عمومه حتى بلغه فيه الخصوص. انتهى، وهو تحقيق حسنٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2792]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَعَمْرٌ والنَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، كلُّهُمْ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَن الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ؟ قَالَ: "لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْقَمِيصَ، وَلَا الْعِمَامَةَ، وَلَا الْبُرْنُسَ، وَلَا السَّرَاوِيلَ، وَلَا ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ، وَلَا زَعْفَرَان
(1)
، وَلَا الْخُفَّيْنِ، إِلَّا أَنْ لَا يَجِدَ نَعْلَيْنِ، فَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَمْرُو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير الغداديّ، نزيل الرَّقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.
2 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ) أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
3 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ فقيهٌ إمام، من كبار [8](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 383.
4 -
(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم الإمام الحجة الحافظ الفقيه المشهور، من كبار [4](ت 125)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 348.
5 -
(سَالِمُ) بن عبد الله بن عمر المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيةٌ عابدٌ فاضلٌ، من كبار [3](ت 106)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 162.
والباقيان ذُكرا قبله.
(1)
وفي نسخة: "ورسٌ أو زعفران".
والحديث متّفقٌ عليه، وشرحه، ومسائله تقدّمت قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2793]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِزَعْفَرَانٍ، أَوْ وَرْسٍ، وَقَالَ: "مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ) العدويّ مولى ابن عمر، أبو عبد الرَّحمن المدنيّ، ثقةٌ [4](ت 127)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.
والباقون ذُكروا قبل حديث.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2794]
(1178) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، وَقتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، جَمِيعًا عَنْ حَمَّادٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرٍو، عَن جَابِرِ بْنِ زيدٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَخْطُبُ، يَقُولُ: "السَّرَاوِيلُ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْإِزَارَ، وَالْخُفَّانِ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ"، يَعْنِي الْمُحْرِمَ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ) سليمان بن داود الْعَتَكيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.
2 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
3 -
(حَمَّادُ بْنُ زَيْدِ) بن درهم الْجَهْضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عابدٌ، من كبار [8](ت 179) وله (81) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
4 -
(عَمْرُو) بن دينار الأثرم الْجُمَحيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 126)(عِ) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.
5 -
(جَابِرُ بْنُ زْيدٍ) الأزديّ، ثمّ الْجَوْفيّ، أبو الشَّعْثاء البصريّ، ثقةٌ فقيهٌ [3] (ت 93) وقيل: سنة مائة (ع) تقدم في "الحيض" 9/ 739.
6 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله الْحَبر البحر رضي الله عنهما المتوفّى سنة (68)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
و"يحيى بن يحيى" ذُكر قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ، قَرَن بينهم، ثم فرّق؛ لما سبق غير مرّة.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه: يحيي، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجة، وأبي الربيع، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجة.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: عمرو، عن جابر.
4 -
(ومنها): أن فيه ابن عبّاس رضي الله عنهما ذو المناقب الجمّة، دعا له النبيّ صلى الله عليه وسلم بالفهم في القرآن، فكان يُسمّى البحر والحبر؛ لسعة علمه، وهو أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والمشهورين بالفتوى.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما) أنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَخْطُبُ) زاد في رواية شعبة التالية: "بعرفات"(يَقُولُ) جملة في محلّ نصب على الحال من المفعول ("السَّرَاوِيلُ) مبتدأ على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه؛ أي: لبس السراويل، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":
وَمَا يَلِي الْمُضَافَ يَأْتِي خَلَفَا
…
عَنْهُ فِي الإِعْرَابِ إِذَا مَا حُذِفَا
وخبره قوله: (لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْإِزَارَ) يعني أنه يجوز لبس السراويل لمن لا يجد الإزار.
وقد أخذ بظاهره الإمام أحمد رحمه الله، فجوّز لبس السراويل من غير قطع، وهو الأصحّ عند أكثر الشافعيّة، وهو الحقّ؛ لقوّة دليله، كما سيأتي في المسألة الثالثة - إن شاء اللَّه تعالى -.
والمراد بعدم وجدان الإزار أن لا يقدر على تحصيله، إما لفقده في ذلك الموضع، أو لعدم بذل المالك إياه، أو لعجزه عن الثمن إن باعه، أو الأجرة إن آجره. وهكذا المراد في عدم وجدان النعلين.
(وَالْخُفَّانِ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ") إعرابه كسابقه؛ يعني أن من فقد النعلين جاز له أن يلبس الخفّين، ولكن تقدّم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قوله:"وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين"، فيجب على من يلبس الخفّين لفقد النعلين أن يقطعهما حتى يكونا أسفل الكعبين، وبهذا قال الجمهور؛ خلافًا لأحمد.
وقوله: (يَعْنِي الْمُحْرِمَ) العناية من بعض الرواة، ولم يتبيّن لي من هو؟ يعني أن جواز لبس السراويل لمن لَمْ يجد الإزار، والخفّين لمن لَمْ يجد النعلين للمحرم فقط، وأما غيره فلا يشترط في جواز لبسه ذلك عدم وجدان الإزار، والنعلين، بل يجوز له اللبس مطلقًا، والله تعالى أعلم.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "يعني المحرم" هذا صريح في الدلالة للشافعيّ، والجمهور في جواز لبس السراويل للمحرم؛ إذا لَمْ يجد إزارًا، ومنعه مالك؛ لكونه لَمْ يُذكَر في حديث ابن عمر رضي الله عنهما السابق، والصواب إباحته لحديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا، مع حديث جابر رضي الله عنه بعده، وأما حديث ابن عمر فلا حجة فيه؛ لأنه ذَكَرَ فيه حالة وجود الإزار، وذَكَر في حديث ابن عباس وجابر رضي الله عنهم حالة العدم، فلا منافاة. انتهى
(1)
، واللَّه تعالى أعلم - بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 75 - 76.
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 2794 و 2795 و 2796](1178)، و (البخاريّ) في "الحجِّ"(1740 و 1841 و 1843) و"اللباس"(5804 و 5853)، و (أبو داود) في "المناسك"(1829)، و (الترمذيّ) في "الحجِّ"(834)، و (النسائيّ) في "المناسك"(5/ 132 و 135 و 8/ 205) و"الكبرى"(5/ 483)، و (ابن ماجة) في "المناسك"(2931)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 100 - 101)، و (الحميديّ) في "مسنده"(627)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 215 و 221 و 228 و 279 و 285 و 336)، و (الدارمي) في "المناسك"(1799)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3781 و 3782)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 264)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 111)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(12/ 177)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 133 و 135)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 49) و"الصغرى"(4/ 27)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في جواز لبس السراويل لمن لَمْ يجد الإزار:
ذهب الإمامان: مالك، وأبو حنيفة إلى أنه لا يجوز لبس السراويل مطلقًا، وذهب الجمهور إلى جوازه لمن لا يجد الإزار، وهو الحقّ.
قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: ولم يبلغ ذلك مالكًا، فأنكره، ففي "الموطّإ": أنه سئل عما ذُكر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من لَمْ يجد إزارًا فليلبس سراويل"، فقال مالك: لَمْ أسمع بهذا، ولا أرى أن يلبس المحرم سراويل؛ لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس السراويلات فيما نهى عنه من لبس الثياب التي لا ينبغي للمحرم أن يلبسها، ولم يستثن، كما استثنى في الخفّين. وبه قال أبو حنيفة، كما حكاه ابن المنذر رحمه الله، والخطّابيّ.
قال ابن عبد البرّ: وقال عطاء بن أبي رباح، والشافعيّ، وأصحابه، والثوريّ، وأحمد بن حنبل، وإسحاق ابن راهويه، وأبو ثور، وداود: إذا لَمْ يجد المحرم إزارًا لبس السراويل، ولا شيء عليه. وحكاه النوويّ عن الجمهور، قال: ولا حجة في حديث ابن عمر؛ لأنه ذكر فيه حالة وجود الإزار، وذكر في حديثي ابن عباس، وجابر رضي الله عنهم حالة العدم، فلا منافاة. واللَّه تعالى أعلم.
قال وليّ الدين: لَمْ يأمر بقطع السراويل عند الإزار، كما في الخفّ، وبه قال أحمد، وهو الأصحّ عند أكثر الشافعيّة.
وقال إمام الحرمين، والغزاليّ: لا يجوز لبس السراويل على حاله، إلَّا إذا لَمْ يتأتّ فتقه، وجعلهْ إزارًا، فإن تأتّى ذلك لَمْ يجز لبسه، وإن لبسه لزمته الفدية.
وقال الخطّابيّ: يُحكى عن أبي حنيفة أنه قال: يشقّ السراويل، ويتّزر به. قال الخطابيّ: والأصل في المال أن تضييعه محرّم، والرخصة إذ جاءت في لبس السراويل، فظاهرها اللبس المعتاد، وستر العورة واجبٌ، فإذا فتق السراويل، واتّزر به، لَمْ تستتر العورة، فأما الخفّ، فإنه لا يغطّي عورةً، وإنما هو لباس رفق، وزينة، فلا يشتبهان، قال: ومرسل الإذن في لباس السراويل إباحة لا تقتضي غرامة. اهـ. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن المذهب الصحيح هو ما عليه الجمهور، من جواز لبس السراويل لمن لَمْ يجد الإزار بدون قطع، أو فتق، وأنه لا فدية عليه؛ لحديثي ابن عباس وجابر رضي الله عنهم المذكورين في الباب، فقد أباح الشارع لبسه بدون أن يأمر بقطعه، كما أمر في الخفّ، ولم يأمر بالفدية، فجاز لبسه كما هو، ولا تجب الفدية بذلك، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2795]
(
…
) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، يَعْنِي ابْنَ جَعْفَرٍ (ع) وَحَدَّثَنِي أَبُو غَسَّانَ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، قَالَا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ، فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ).
(1)
"طرح التثريب" 5/ 52.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) بندار، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غُندر، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ صحيح الكتاب [9](ت 3 أو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
3 -
(أَبُو غَسَّانَ الرَّازِيُّ) محمد بن عمرو بن بكر، زُنَيج، ثقةٌ [10](ت 240) أو بعدها (م د ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
4 -
(بَهْزُ) بن أسد الْعَمّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9] مات بعد (200) وقيل: قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.
5 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الحجة المثبت الناقد الشهير [7](ت 160) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 381.
و"عمرو بن دينار" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية شعبة، عن عمرو بن دينار هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(1741)
- حدّثنا أبو الوليد، حدّثنا شعبة، قال: أخبرني عمرو بن دينار، سمعت جابر بن زيد، سمعت ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات: "من لَمْ يجد النعلين، فليلبس الخفين، ومن لَمْ يجد إزارًا، فليلبس سراويل" - للمحرم. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2796]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ (ع) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ (ع) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ (ع) وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَن ابْنِ جُرَيْجٍ (ع) وَحَدَّثَنى عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ:"يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ"، غَيْرُ شُعْبَةَ وَحْدَهُ).
رجال هذا الإسناد: أربعة عشر:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(هُشَيْمُ) بن بَشِير السلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ، كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7](ت 183) وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
3 -
(أَبُو كُرَيْبِ) محمد بن العلاء، تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(وَكِيعُ) بنَ الجرّاح، تقدّم قريبًا.
5 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم في الباب الماضي.
6 -
(عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ) المروزيّ، تقدّم قريبًا.
7 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السبيعيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
8 -
(ابْنُ جُرَيْجِ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم أيضًا قريبًا.
9 -
(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) السعديّ المروزيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
10 -
(إِسْمَاعِيلُ) ابن عليّة، تقدّم أيضًا قريبًا.
11 -
(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة السَّخْتيانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ) يعني الخمسة المذكورين في التحويلات، وهم: ابن عيينة، وهُشيم، والثوريّ، وابن جريجٍ، وأيوب السختيانيّ.
وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ: "يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ"، غَيْرُ شُعْبَةَ وَحْدَهُ) يعني أن شعبة تفرّد بتعيين محل الخطبة، وهو عرفات.
[تنبيه]: أما رواية ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، فقد ساقها ابن ماجة رحمه الله في "سننه" (8/ 493) فقال:
(2922)
- حدّثنا هشام بن عمار، ومحمد بن الصباح قالا: حدّثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد أبي الشعثاء، عن ابن عباس، قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب، قال هشام: على المنبر، فقال:"من لَمْ يجد إزارًا، فليلبس سراويل، ومن لَمْ يجد نعلين، فليلبس خفين"، وقال هشام في حديثه:"فليلبس سراويل، إلَّا أن يفقد". انتهى.
وأما رواية هشيم فلم أر من ساقها، فليُنظر.
وأما رواية سفيان الثوريّ، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(5357)
- حدّثنا أبو نعيم، حدّثنا سفيان، عن عمرو، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من لَمْ يجد إزارًا، فليلبس سراويل، ومن لَمْ يجد نعلين، فليلبس خفين". انتهى.
وأما رواية ابن جريجٍ، عن عمرو، فقد ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" (1/ 336) فقال:
(3115)
- حدّثنا محمد بن بكر، أنا ابن جريجٍ، وروح، قالا: ثنا ابن جريجٍ، قال: أخبرني عمرو بن دينار، أن أبا الشعثاء أخبره، قال: حدّثني ابن عباس، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يخطب، يقول:"من لَمْ يجد إزارًا، ووجد سراويل، فليلبسها، ومن لَمْ يجد نعلين، ووجد خفين، فليلبسهما". انتهى.
وأخرجه أيضًا الدارميّ رحمه الله في "سننه"(2/ 55) ولفظه:
(1799)
- أخبرنا أبو عَاصِمٍ، عن ابن جُرَيْجٍ، عن عَمْرِو بن دِينَارٍ، عن أبي الشَّعْثَاءِ، أخبرني ابن عَبَّاسٍ، أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من لَمْ يَجِدْ إِزَارًا، فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ"، قال: قلت، أو قِيلَ: أَيَقْطَعُهُمَا؟ قال: لَا. انتهى.
وأما رواية أيوب السختيانيّ، عن عمرو فقد ساقها النسائيّ في "سننه" (2/ 334) فقال:
(3652)
- أخبرني أيوب بن محمد الوزان الرَّقّيّ، قال: أنبأ إسماعيل، عن أيوب، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من لَمْ يجد إزارًا، فليلبس سراويل، ومن لَمْ يجد نعلين، فليلبس خفين". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2797]
(1179) - (وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا، فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ يُونُسَ) هو: أحمد بن عبد الله بن يونس التميميّ الْيَرْبوعيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نُسب لجدّه، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [10](ت 227) عن (94) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.
2 -
(زُهَيْرُ) بن مُعاوية بن حُدَيج الْجُعفيّ، أبو خيثمة الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 2 أو 3 أو 174)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.
3 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ يدلّس [4](ت 226)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
4 -
(جَابِرُ) بن عبد الله بن عمرو بن حَرَام السَّلميّ الأنصاريّ الصحابي ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بعد (75) وهو ابن (94) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (174) من رباعيّات الكتاب، وشرح الحديث واضح يُعلم مما سبق.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 2797](1179)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 282)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 323 و 395)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 265)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 228)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 51)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2798]
(1180) - (حَدَّثنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثنَا هَمَّامٌ، حَدَّثنَا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ
(1)
، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى
(1)
وفي نسخة: "يعلى بن منية".
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ، عَلَيْهِ جُبَّةٌ، وَعَلَيْهَا خَلُوقٌ، أَوْ قَالَ: أَثَرُ صُفْرَةٍ، فَقَالَ: كَيْفَ تَأْمُرُنِي أَنْ أَصْنَعَ فِي عُمْرَتِي؟ قَالَ: وَأُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْوَحْيُ، فَسُتِرَ بِثَوْبٍ، وَكَانَ يَعْلَى يَقُولُ: وَدِدْتُ أَنِّي أَرَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحيُ، قَالَ فَقَالَ: أَيَسُرُّكَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ أنزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ؟ قَالَ: فَرَفَعَ عُمَرُ طَرَفَ الثَّوْبِ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ، لَهُ غَطِيطٌ، قَالَ: وَأَحْسَبُهُ قَالَ: كَغَطِيطِ الْبَكْرِ، قَالَ: فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ، قَالَ:"أَيْنَ السَّائِلُ عَن الْعُمْرَةِ؟ اغْسِلْ عَنْكَ أَثَرَ الصُّفْرَةِ، أَوْ قَالَ: أَثَرَ الْخَلُوقِ، وَاخْلَعْ عَنْكَ جُبَّتَكَ، وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ مَا أَنْتَ صَانِعٌ فِي حَجِّكَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الْحَبَطيّ، أبو محمد الأُبُلّيّ، صدوقٌ يَهِمُ، ورُمي بالقدر، من صغار [9](ت 5 أو 236) وله بضع و (90) سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.
2 -
(هَمَّامُ) بن يحيى بن دينار الْعَوْذيّ، أبو عبد الله، أو أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [7](ت 4 أو 165)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
3 -
(عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ) أسلم القُرشيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ فاضلُ، لكنه كثير الإرسًال [3](ت 114)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.
4 -
(صَفْوَانُ بْنُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ) التميميّ المكيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الجمعة" 16/ 2011.
5 -
(أَبُوهُ) يعلى بن أميّة بن أبي عُبيدة بن همّام التميميّ، حليف قُريش، وهو يعلى ابن مُنية، وهي أمه، الصحابيّ الشهير، مات سنة بضع و (40)(ع) تقدم في "صلاة المسافرين" 1/ 1573.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فانفرد به هو وأبو داود، والنسائيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمكيين، من عطاء، والباقيان بصريّان.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ.
شرح الحديث:
(عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ) وفي نسخة: "ابن مُنْيَةَ" - بضمّ الميم، وسكون النون، بعدها تحتانيّةٌ مفتوحة - وهي أمه، وقيل: جدّته (عَنْ أَبِيهِ) يعلى (رضي الله عنه) أنه (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ) وفي رواية للبخاريّ: "جاء أعرابيّ".
قال الحافظ رحمه الله: لَمْ أقف على اسمه، لكن ذكر ابن فتحون في "الذيل" عن "تفسير الطرطوشيّ" أن اسمه عطاء ابن منية، قال ابن فتحون: إن ثبتٌ ذلك، فهوأخو يعلى ابن منية راوي الخبر، ويجوز أن يكون خطأ من اسم الراوي، فإنه من رواية عطاء، عن صفوان بن يعلى ابن منية، عن أبيه، ومنهم من لَمْ يذكر بين عطاء ويعلى أحدًا.
قال: ووقع في شرح شيخنا سراج الدين ابن الملقّن ما نصّه: هذا الرجل يجوز أن يكون عمرو بن سَوَاد؛ إذ في "كتاب الشفا" للقاضي عياض عنه، قال: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم وأنا متخلّقٌ، فقال:"ورس ورس حط حط، وغشيني بقضيب بيده في بطني، فأوجعني" الحديث، فقال شيخنا: لكن عمرو هذا لا يُدرك ذا، فإنه صاحب ابن وهب. انتهى كلامه.
قال: وهو معترض من وجهين:
أما أَوّلًا: فليست هذه القصّة شبيهة بهذه القصّة، حتى يُفسّر صاحبها بها.
وأمما ثانيًا: ففي الاستدراك غفلة عظيمة؛ لأن من يقول: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يُتخيّل فيه أنه صاحب ابن وهب، صاحب مالك، بل إن ثبتٌ فهو آخر، وافق اسمه اسمه، واسم أبيه اسم أبيه، والفرض أنه لَمْ يثبت؛ لأنه انقلب على شيخنا، وإنما الذي في "الشفاء" سواد بن عمرو، وقيل: سوادة بن عمرو، أخرج حديثه المذكور عبد الرزاق في "مصنّفه"، والبغويّ في "معجم الصحابة".
وروى الطحاويّ من طريق أبي حفص بن عمرو، عن يعلى أنه مرّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو متخلّق، فقال:"ألك امرأة؟ "، قال: لا، قال:"اذهب فاغسله"، فقد يَتَوهّم من لا خِبْرة له أن يعلى بن أميّة هو صاحب القصّة، وليس
كذلك، فإن راوي هذا الحديث يعلى بن مرّة الثقفيّ، وهي قصّة أخرى، غير قصّة صاحب الإحرام.
نعم روى الطحاويّ في موضع آخر أن يعلى بن أميّة صاحبُ القصّة، قال: حدثنا سليمان بن شعيب، حدثنا عبد الرَّحمن هو ابن زياد الوضّاحيّ، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن عطاء بن أبي رباح، أن رجلًا يقال له: يعلى بن أمية أحرم، وعليه جبّة، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن ينزعها، قال قتادة: قلت لعطاء: إنما كنّا نرى أن نشقّها، فقال عطاء: إن اللَّه لا يُحبّ الفساد. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
(إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ) قال النوويّ رحمه الله: فيها لغتان مشهورتان: إحداهما إسكان العين، وتخفيف الراء، والثانية: كسر العين، وتشديد الراء، والأولى أفصح، وبهما قال الشافعيّ، وأكثر أهل اللغة، وهكذا اللغتان في تخفيف الحديبية، وتشديدها، والأفصح التخفيف، وبه قال الشافعيّ، وموافقوه. انتهى.
وهو اسم موضع بين مكة والطائف، وهو إلى مكة أقرب.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الْجِعْرَانَةُ": موضع بين مكة والطائف، وهي على سبعة أميال من مكة، وهي بالتخفيف، واقتَصَرَ عليه في "البارع"، ونقله جماعة عن الأصمعيّ، وهو مضبوط كذلك في "الْمُحْكَم"، وعن ابن المدينيّ: العراقيون يُثَقِّلون الجعرانة، والحديبية، والحجازيون يخففونهما، فأخذ به المحدّثون، على أن هذا اللفظ ليس فيه تصريح بأن التثقيل مسموع من العرب، وليس للتثقيل ذكر في الأصول المعتمدة عن أئمة اللغة، إلَّا ما حكاه في "الْمُحْكَم" تقليدًا له في الحديبية، وفي "العباب": والجعرانة: بسكون العين، وقال الشافعيّ: المحدّثون يُخطئون في تشديدها، وكذلك قال الخطابيّ. انتهى
(2)
.
(عَلَيْهِ جُبَّةٌ) بضمّ الجيم، وتشديد الموحدة، قال الفيّوميّ رحمه الله: الْجُبّة: من الملابس معروفةٌ، والجمع: جُبَبٌ، مثلُ غُرْفة وغُرَف. انتهى
(3)
.
(1)
"الفتح" 4/ 410.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 102.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 89.
وفي "المعجم الوسيط": الْجُبّة: ثوب سابغ، واسع الكمّين، مشقوق الْمُقَدَّم، يُلبس فوق الثياب، والدِّرْعُ. انتهى
(1)
.
(وَعَلَيْهَا خَلُوقٌ) - بفتح الخاء المعجمة، وضمّ اللام: نوع من الطيب يُعْمَلُ فيه زعفران، قاله النوويّ رحمه الله
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: الْخَلُوق بفتح الخاء: أخلاطٌ من الطيب، تُجمع بالزعفران. انتهى
(3)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: الْخَلُوق، مثلُ رَسُول: ما يُتَخَلَّق به، من الطيب، قال بعض الفقهاء: هو مائع فيه صُفْرَةٌ، والْخِلَاقُ، مثلُ كِتَاب بمعناه. انتهى
(4)
.
وفي رواية عمرو عن عطاء الآتية: "وهو متضمّخ بالخلوق"، وفي لفظ:"وأنا متضمّخٌ بالخلوق"، وفي رواية ابن جريجٍ عن عطاء:"مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ"، وهو: بالضاد، والخاء المعجمتين؛ أي: متلوّثٌ به، مكثرٌ منه، يقال: تضمّخ بالطيب: إذا تلطّخ، وتلوّث به.
وفي رواية قيس بن سعد، عن عطاء:"وهو مصفّرٌ لحيته، ورأسه"؛ أي: وهو بتشديد الفاء المكسورة؛ أي: مستعملٌ للصفرة في لحيته، وتلك الصفرة هي الْخَلُوق.
(أَوْ) للشكّ من الراوي (قَالَ: أَثَرُ صُفْرَةٍ) - بضمّ الصاد المهملة، وسكون الفاء: هو الْخَلُوق المذكور.
(فَقَالَ) الرجل (كَيْفَ تَأْمُرُني أَنْ أَصْنَعَ فِي عُمْرَتِي؟) وفي رواية ابن جُريج: "كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جُبّة بعدما تضمّخ بطيب؟ " وفي رواية قيس: "فقال: يا رسول الله إني أحرمت بعمرة، وأنا كما ترى"(قَالَ) يعلى (وَأُنْزِلَ) بالبناء للمفعول (عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْوَحْيُ) أي: حامله، وهو جبريل عليه السلام.
[تنبيه]: قال في "الفتح": لَمْ أقف في شيء من الروايات على بيان الْمُنْزَل حينئذ من القرآن، وقد استدلّ به جماعة من العلماء على أن من الوحي ما لا يُتلَي، لكن وقع عند الطبرانيّ في "الأوسط" من طريق أخرى أن المنزَل
(1)
"المعجم الوسيط" 1/ 104.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 76 - 77.
(3)
"المفهم" 3/ 259.
(4)
"المصباح المنير" 1/ 180.
حينئذ قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، ووجه الدلالة منه على المطلوب عموم الأمر بالإتمام، فإنه يتناول الهيئآت والصفات، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال في موضع آخر: ويستفاد منه أن المأمور به، وهو الإتمام يستدعي وجوب اجتناب ما يقع في العمرة. انتهى.
(فَسُتِرَ) بالبناء للمفعول أيضًا (بِثَوْبٍ) سيأتي في رواية رباح بن أبي معروف، عن عطاء أن الذي ستره هو عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، ولفظه:"وكان عمر يستره إذا أُنزل عليه الوحي يُظلّه"(وَكَانَ يَعْلَى يَقُولُ: وَدِدْتُ) بكسر الدال الأول؛ أي: تمنّيت (أَنِّي أَرَى) بالبناء للفاعل (النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) وقوله: (وَقَدْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ) جملة في محلّ نصب على الحال من "النبيّ صلى الله عليه وسلم "، وفي رواية رباح:"فقلت لعمر رضي الله عنه: إني أُحبّ إذا أُنزل عليه الوحي أن أُدخل رأسي معه في الثوب"، وفي رواية ابن جريجٍ:"أن يعلى كان يقول لعمر بن الخطّاب صلى الله عليه وسلم: ليتني أرى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم حين يُنْزَل عليه".
(قَالَ) يعلى (فَقَالَ) فيه حذف الفاعل، وهو عمر بن الخطّاب رضي الله عنه بيّنته الروايات الأخرى، ويدلّ عليه أيضًا قوله الآتي: "فرفع عمر
…
إلخ".
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "فقال: أيسُرّك
…
إلخ" هكذا هو في جميع النسخ: "فقال: أيَسُرُّك"، ولم يبين القائلَ من هو؛ ولا سَبَقَ له ذِكْر، وهذا القائل هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما بيّنه في الرواية التي بعد هذه. انتهى
(2)
.
(أَيَسُرُّكَ) بفتح أوله، وضمّ السين المهملة، وتشديد الراء، يقال: سَرّه يَسُرُّهُ سُرُورًا بالضمّ، والاسم السَّرُورُ بالفتح: إذا أفرحه، والْمَسَرَّةُ منه، وهو ما يُسَرُّ به الإنسان، والجمع: الْمَسَارّ، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(3)
.
(أَنْ تَنْظُرَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وقوله: (وَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ؟) في محل نصب على الحال كالسابق (قَالَ: فَرَفَعَ عُمَرُ) بن الخطّاب (طَرَفَ الثَّوْبِ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ) صلى الله عليه وسلم (لَهُ غَطِيطٌ) بفتح الغين المعجمة، وكسر الطاء: صوت النائم، أو الْمُغْمَى عليه الذي يُردّده مع
(1)
"الفتح" 5/ 32.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 78.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 274.
نفسه (قَالَ) الراوي (وَأَحْسَبُهُ قَالَ: غَغَطِيطِ الْبَكْرِ) - بفتح، فسكون -: هو الفَتِيّ من الإبل، وسبب هذا الغطيط: شدّة الوحي، كما قال اللَّه تعالى:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)} [المزمل: 5]. وفي "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها، أنَّها قالت:"ولقد رأيته صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيُفصَم عنه، وإن جبينه ليتفصّد عرقًا".
(قَالَ) يعلى (فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ) بضمّ أوله، وتشديد الراء مبنيّا للمفعول؛ أي: أزيل، وكُشف عنه صلى الله عليه وسلم ما اعتراه بسبب شدّة الوحي شيئًا بعد شيء (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَيْنَ السَّائِلُ عَن الْعُمْرَةِ؟) وفي رواية ابن جُريج:(فَقَالَ: "أَيْنَ الَّذِي سَأَلَنِي عن العمرة آنِفًا؟ ") بالمدّ، والقصر، كَكَتِفٍ، وقرئ بهما قوله تعالى:{مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد: 16] أي: مذ ساعة؛ أي: في أوّل وقت يقرُبُ منّا، قاله في "القاموس".
(اغْسِلْ عَنْكَ أَثَرَ الصُّفْرَةِ) وفي رواية ابن جريجٍ: "فالْتُمِس الرجل، فجيئ به، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أما الطيب، فاغسله ثلاث مرّات".
وفي رواية الشيخين: "فاغسله ثلاث مرّات". قال القاضي عياض وغيره: يحتمل أنه من لفظ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيكون نصًّا في تكرار الغسل. ويحتمل أنه من كلام الصحابيّ، وأنه صلى الله عليه وسلم أعاد لفظ "اغسله" ثلاث مرّات على عادته أنه إذا تكلّم بكلمة أعادها ثلاث مرّات لتُفهم. انتهى.
وفي رواية للبخاريّ: قلت لعطاء: أراد الإنقاء حين أمره أن يغسل ثلاث مرّات؟ فقال: نعم. قال الحافظ: القائل هو ابن جريجٍ، وهو دالّ على أنه فهم من السياق أن قوله:"ثلاث مرّات" من لفظ النبيّ صلى الله عليه وسلم، لكن يحتمل أن يكون من كلام الصحابيّ، وأنه صلى الله عليه وسلم أعاد لفظة "اغسله" مرّة، ثم مرّة على عادته أنه كان إذا تكلّم بكلمة أعادها ثلاثًا؛ لتُفهم عنه. نبّه عليه عياضٌ. انتهى.
وفي رواية أبي داود، والبيهقيّ: "أمره أن ينزعها نزعًا، ويغتسل مرّتين، أو ثلاثًا لا.
قال النوويّ: إنما أمره بالثلاث مبالغة في إزالة لونه، وريحه، والواجب الإزالة، فإن حصلت بمرّة كفت، ولم تجب الزيادة، ولعلّ الطيب الذي كان على هذا الرجل كثير، ويؤيّده قوله:"متضمّخٌ".
قال القاضي: ويحتمل أنه قال له ثلاث مرّات: "اغسله"، فكرّر القول ثلاثًا.
والصواب ما سبق. واللَّه أعلم. انتهى كلام النوويّ.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: صوّب النوويّ كون "ثلاث مرات" من لفظ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو الحقّ، فعلى هذا ففي قوله:"فإن حصلت بمرة كفت، ولم تجب الزيادة" نظر لا يخفي، بل الظاهر لزوم الثلاث، عملًا بظاهر الأمر، فتأمّل. واللَّه تعالى أعلم.
(أَوْ) للشكّ من الراوي (قَالَ: أَثَرَ الْخَلُوقِ) أي: قال: اغسل أثر الخلوق.
قال النوويّ رحمه الله: فيه تحريم الطيب على المحرم ابتداءً ودوامًا؛ لأنه إذا حَرُم دوامًا فالابتداء أولى بالتحريم.
وفيه أن العمرة يحرم فيها من الطيب واللباس وغيرهما من المحرمات السبعة السابقة ما يحرم في الحج.
وفيه أن من أصابه طيبٌ ناسيًا، أو جاهلًا، ثم عَلِمَ وجبت عليه المبادرة إلى إزالته.
وفيه أن من أصابه في إحرامه طيب ناسيًا، أو جاهلًا لا كفّارة عليه، وهذا مذهب الشافعيّ، وبه قال عطاءٌ، والثوريّ، وإسحاق، وداود، وقال مالك، وأبو حنيفة، والمزنيّ، وأحمد في أصح الروايتين عنه: عليه الفدية، لكن الصحيح من مذهب مالك أنه إنما تجب الفدية على المتطيّب ناسيًا، أو جاهلًا إذا طال لبثه عليه. انتهى
(1)
.
(وَاخْلَعْ عَنْكَ جُبَّتَكَ) أي: انزعها فَوْرًا، وأخرجها من رأسك، قال النوويّ رحمه الله: فيه دليلٌ لمالك، وأبي حنيفة، والشافعيّ، والجمهور أن المحرم إذا صار عليه مخيط ينزعه، ولا يلزمه شَقّه، وقال الشعبيُّ، والنخعيّ: لا يجوز نزعه؛ لئلا يصير مُغَطِّيًا رأسه، بل يلزمه شَقّه، وهذا مذهب ضعيف. انتهى
(2)
.
(وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ مَا أَنْتَ صَانِعٌ فِي حَجِّكَ") قال النوويّ رحمه الله: معناه من اجتناب المحرمات، ويَحْتَمِل أنه صلى الله عليه وسلم أراد مع ذلك الطواف، والسعي،
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 77.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 77.
والحلق بصفاتها وهيئاتها، وإظهار التلبية، وغير ذلك مما يشترك فيه الحج والعمرة، ويُخَصّ من عمومه ما لا يدخل في العمرة من أفعال الحج، كالوقوف، والرمي، والمبيت بمنى ومزدلفة، وغير ذلك. انتهى
(1)
.
وفي رواية عمرو التالية: "فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما كنت صانعًا في حجّك؟ قال: كنت أنرع عني هذه الثياب، وأغسل عنيّ هذا الخلوق، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما كنت صانعًا في حجك، فاصنعه في عمرتك".
وهذا يدلّ على أن ذلك الرجل كان عالِمًا بصفة الحجِّ دون العمرة قبل ذلك، فلهذا قال له صلى الله عليه وسلم:"واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك".
قال ابن العربيّ: كأنهم كانوا في الجاهليّة يخلعون الثياب، ويجتنبون الطيب في الإحرام إذا حجّوا، وكانوا يتساهلون في ذلك في العمرة، فأخبره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن مجراهما واحد.
وقال ابن المنيّر في "الحاشية": قوله: "اصنع": معناه اترك؛ لأن المراد بيان ما يجتنبه المحرم، فيؤخذ منه فائدة حسنة، وهي أن الترك فعل، قال: وأما قول ابن بطّال: أراد الأدعية، وغيرها مما يشترك فيه الحجِّ والعمرة، ففيه نظر؛ لأن المتروك مشتركة، بخلاف الأعمال، فإن في الحجِّ أشياء زائدة على العمرة، كالوقوف، وما بعده.
وقال النوويّ كما قال ابن بطّال، وزاد: ويُسْتَثَنَى من الأعمال ما يختصّ به الحجِّ.
وقال الباجيّ: المأمور به غير نزع الثوب، وغسل الخلوق؛ لأنه صرّح له بهما، فلم يبق إلَّا الفدية.
قال الحافظ: كذا قال، ولا وجه لهذا الحصر، بل الذي تبيّن من طريق أخرى أن المأمور به الغسل والنزع، وذلك أن عند مسلم، والنسائيّ من طريق سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، في هذا الحديث: فقال: "ما كنت صانعًا في حجك؟ "، قال: أنزع هذه الثياب، وأغسل عنّي هذا الخلوق، فقال:"ما كنت صانعًا في حجك، فاصنعه في عمرتك". انتهى.
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 77 - 78.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا الذي دلّت عليه هذه الرواية هو التفسير الصحيح لقوله صلى الله عليه وسلم: "واصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك"؛ لأن هذه الرواية بيّنت الاختصار الواقع في الحديث، فما قاله كلّ من ابن المنيّر، وابن بطّال، والنوويّ، والباجيّ، من التفسير مبنيٌّ على عدم انتباههم إلى هذه الرواية الموضحة للمراد من الحديث.
والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم سأله عما كان يصنع في حجه بالنسبة للجبّة، والخلوق، فكأنه قال له: ماذا تصنع إذا أحرمت بالحجّ، وعليك جبة، وخلوق؟ فقال: أُبعدهما عنّي بالنزع، والغسل، فقال:"ما كنت صانعًا في حجك، فاصنعه في عمرتك"؛ أي: لأنه لا فرق بينهما في هذا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث يعلى بن أميّة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 2798 و 2799 و 2800 و 2801 و 2802](1180)، و (البخاريّ) في "الحج"(1536 تعليقًا و 1789 و 1848) و"المغازي"(4329) و"فضائل القرآن"(4985)، و (أبو داود) في "المناسك"(821 و 822 و 1819 و 1920)، و (الترمذيّ" في "الحجِّ " (835 و 836)، و (النسائيّ) في "المناسك"(5/ 130 و 142 - 143) وفي "الكبرى"(3648 و 3689 و 3690)، و (ابن ماجة) في "الديات"(2656)، و (مالك) في "الموطّإ"(1/ 328 - 329)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 312 و 313)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1323)، و (الحميديّ) في "مسنده"(790 و 791)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 222 و 224)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(447 و 449)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(22/ 654 و 655 و 656 و 657 و 658)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3778 و 3779)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 265 - 266)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 231)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 56 - 57)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1979)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان حكم لبس الجبّة في حالة الإحرام، وهو ما بيّنه في الحديث، وذلك وجوب نزعه في الحال.
2 -
(ومنها): أن بعض الإحكام ثبتٌ بالوحي، وإن لَمْ يكن مما يتلي، لكن وقع في "الأوسط" للطبرانيّ أن الذي نزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم قوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} الآية.
3 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: في هذا الحديث دليل للقاعدة المشهورة أن القاضي والمفتي إذا لَمْ يعلم حكم المسألة أمسك عن جوابها حتى يعلمه أو يظنه بشرطه. انتهى.
4 -
(ومنها): أن من الإحكام التي ليست في القرآن ما هو بوحي لا يتلى.
5 -
(ومنها): ما قيل: إنه يستدلّ به على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يكن يحكم بالاجتهاد، إلَّا إذا لَمْ يحضره الوحي، قال النوويّ رحمه الله: ولا دلالة فيه؛ لأنه يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم لَمْ يظهر له بالاجتهاد حكم ذلك، أو أن الوحي بدره قبل تمام الاجتهاد. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: الصحيح أنه له صلى الله عليه وسلم اجتهادًا، وإنما هذا في بعض الوقائع، كما وجّهه النوويّ رحمه الله في كلامه آنفًا، وقد حقّقت البحث في هذا في "التحفة المرضيّة" و"شرحها" في الأصول، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
6 -
(ومنها): أن المفتي، والحاكم إذا لَمْ يعرفا الحكم أمسكا عنه حتى يتبيّن لهما.
7 -
(ومنها): أنه استَدَلّ به من منع استدامة الطيب بعد الإحرام؛ للأمر بغسل أثره من الثوب والبدن، وهو قول مالك، ومحمد بن الحسن.
وأجاب الجمهور بأن قضة يعلى كانت بالجعرانة، كما ثبت في هذا الحديث، وهي سنة ثمان بلا خلاف، وقد ثبتٌ عن عائشة رضي الله عنها أنَّها طيّبت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيديها عند إحرامه، كما سيأتي، وكان ذلك في حجة الوداع، سنة عشر بلا خلاف، فَإنما يؤخذ بالآخر، فالآخر من الأمر.
وبأن المأمور بغسله في قصّة يعلى إنما هو الْخَلُوق، لا مطلق الطيب، فلعلّ علّة الأمر فيه ما خالطه من الزعفران، وقد ثبتٌ النهي عن تزعفر الرجل مطلقًا، محرمًا، وغير محرم.
وتقدّم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "ولا يلبس من الثياب شيئًا مسّه ورْسٌ أو زعفران". وفي حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما: "ولم يُنْهَ إلَّا عن الثياب المزعفرة"، والأصح ما ذهب إليه الجمهور، وسيأتي مزيد بسط في هذا قريبًا - إن شاء الله تعالى -.
8 -
(ومنها): أن من أصابه طيب في إحرامه، ناسيًا، أو جاهلًا، ثم علم، فبادر إلى إزالته، فلا كفّارة عليه، وهو المذهب الراجح. وسيأتي أيضًا بيان الخلاف في ذلك في محلّه - إن شاء اللَّه تعالى -.
9 -
(ومنها): أن من أحرم وهو لابس مخيطًا، كالجبة، والقميص، جهلًا، أو نسيانًا لزمه نزعه، وليس عليه تمزيقه، ولا شقّه، وأنه إذا نزعه من رأسه لا يلزمه دم، وعليه الجمهور، وهو الحقّ، وسيأتي بيان الخلاف في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف العلماء فيمن أحرم، وعليه جبّة، أو قميص، هل ينزعه، أو يشقّه؟:
ذهب الجمهور من فقهاء الأمصار إلى أنه ينزعه، ولا يشقّه، وهو قول عطاء، وطاوس، وبه قال مالك، وأصحابه، والشافعيّ، وأصحابه، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، والثوريّ، وسائر فقهاء الأمصار، أصحاب الرأي والآثار.
وذهبت طائفة إلى أنه لا ينبغي أن ينزعه كما ينزع الحلال، بل يشقّه؛ لأنه إذا فعل ذلك غطّى رأسه، وذلك لا يجوز.
وممن قال بذلك الحسن، والشعبيّ، والنخعيّ، وأبو قلابة، وسعيد بن جبير، على اختلاف عنه. وروي عن عليّ نحوه.
قال الحافظ أبو عمر رحمه الله: وحجّتهم ما رواه عبد الرزّاق، عن داود بن قيس، عن عبد الرَّحمن بن عطاء بن أبي لَبِيبة، أنه سمع ابني جابر بن عبد اللَّه،
يحدّثان عن أبيهما رضي الله عنه قال: بينما النبيّ صلى الله عليه وسلم جالسٌ مع أصحابه شقّ قميصه، حتى خرج منه، فقيل له؟ فقال:"واعدتهم يقلّدون هدهي اليوم، فنسيت".
ورواه أسد بن موسي، عن حاتم بن إسماعيل، عن عبد الرَّحمن بن عطاء بن عبد الملك، عن جابر بن عبد اللَّه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وزاد:"فلبست قميصي، ونسيت، فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي"، وكان بعث ببُدْنه، وأقام بالمدينة.
واحتجّ الجمهور بحديث يعلى بن أميّة رضي الله عنه المذكور في الباب، قال أبو عمر: ولا خلاف بين أهل الحديث أنه حديث صحيح، وحديث جابر الذي يرويه عبد الرَّحمن بن عطاء، وهو ضعيفٌ لا يُحتجّ به، وهو مردود أيضًا بحديث عائشة رضي الله عنها، أنَّها قالت:"كنت أفتل قلائد هدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم يقلّده، ويبعث به، ولا يحرم عليه شيء، أحلّه اللَّه له، حتى ينحر الهدي"، متّفقٌ عليه.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الصواب ما قاله الجمهور، من أن من أحرم جاهلًا، أو ناسيًا بقميص، أو جبة، أو نحوهما عليه نزعه، نزعًا معتادًا، ولا يشقّه، ولا يخرقه؛ لحديث يعلى رضي الله عنه هذا، وأما ما احتجّ به المخالفون فمما لا يُلتفت إليه؛ لعدم صحته، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في خلاف العلماء في لزوم الفدية من لبس ناسيًا أو جاهلًا:
ذهب الأئمة: عطاء، والثوريّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وداود - رحمهم اللَّه تعالى - إلى أن من لبس في إحرامه ما ليس له لبسه، كالقميص، والجبة، والقباء، ونحوها جاهلًا، أو ناسيًا، فبادر إلى نزعه، لا فدية عليه.
وذهب الإمام أبو حنيفة، والمزنيّ في رواية عنه إلى أنه يلزمه إذا غطّى رأسه متعمّدًا، أو ناسيًا يومًا إلى الليل، فإن كان أقلّ من ذلك، فعليه صدقة يتصدّق بها.
وذهب الإمام مالك إلى الفرق بين من بادر، فنزع، فلم يوجب عليه الفدية، وبين من تمادى وطال لبسه، فأوجبها عليه.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: ما لم ذهب إليه الأولون هو الحقّ؛ لحديث يعلى رضي الله عنه المذكور في الباب، حيث لَمْ يأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم بالفدية، ولو كانت الفدية لازمة له لبيّنها له النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2799]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَي، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ، وَأنا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَيْهِ مُقَطَّعَاتٌ، يَعْنِي جُبَّةً، وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِالْخَلُوقِ، فَقَالَ؛ إِنِّي أَحْرَمْتُ بِالْعُمْرَةِ، وَعَلَيَّ هَذَا، وَأصنا مُتَضَمِّخٌ بِالْخَلُوقِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَا كُنْتَ صَانِعًا فِي حَجِّكَ؟ " قَالَ: أَنْزِعُ عَنِّي هَذِهِ الثِّيَابَ، وَأَغْسِلُ عَنِّي هَذَا الْخَلُوقَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَا كُنْتَ صَانِعًا فِي حَجِّكَ، فَاصْنَعْهُ فِي عُمْرَتِكَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، تقدّم قبل باب.
والباقون ذُكروا في الباب، و"سفيان" هو ابن عيينة، و"عمرو" هو: ابن دينار، و"عطاء" هو: ابن أبي رَبَاح.
وقوله: (وَعَلَيْهِ مُقَطَّعَاتٌ) بضمّ الميم، وفتح الطاء المشدّدة، وهي الثياب المخيطة، وأوضحه بقوله:"يعني جبّة".
وقال في "النهاية": أي: ثياب قصارٌ؛ لأنَّها قطعت عن بلوغ التمام، وقيل: المقطّع من الثياب: كلّ ما يفصل، ويُخاط من قميص، وغيره، وما لا يقطّع منها كالأزُر، والأردية. انتهى
(1)
.
(1)
"النهاية" 4/ 81.
وقال السنديّ رحمه الله: الْمُقَطَّع من الثياب: الْمُفصَّل على البدن؛ أي: الذي يفصَّل أَوّلًا على البدن، ثم يُخاط، من قميص، أو غيره. انتهى
(1)
.
وقوله: (وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ) بالضاد والخاء المعجمتين؛ أي: متلوِّثٌ به، مُكثرٌ منه.
وقوله: (بِالْخَلُوقِ) بفتح الخاء المعجمة، آخره قاف: طيب مركَّبٌ يُتّخَذ من الزعفران وغيره
(2)
.
وقوله: (مَا كُنْتَ صَانِعًا فِي حَجِّكَ؟)"ما" استفهاميّة، وهو سؤال منه صلى الله عليه وسلم عن الذي يصنعه رحمه الله إذا أحرم بالحجّ؛ أي: أيُّ شيء كنت تصنعه؟ وهذا يدلّ على أن الرجل كان عالِمًا بمحظورات الحجِّ، وإنما يجهل محظورات العمرة.
وقال الباجيّ رحمه الله: هذا يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم عَلِم من حال السائل أنه عالمٌ بما يُفعل في الحجِّ، وإلا فلا يصحّ أن يقول له ذلك؛ لأنه إذا لَمْ يعلم ما يَفْعَل الحاجّ لَمْ يُمكنه أن يمتثله المعتمر. انتهى
(3)
.
وقوله: (أَنْزِعُ عَنِّي هَذِهِ الثِّيَابَ) بكسر الزاي، يقال: نزعته من موضعه نَزْعًا، من باب ضرب: قَلَعته، وانتزعته مثله
(4)
.
وقوله: (مَا كُنْتَ صَانِعًا
…
إلخ) "ما" هنا موصولة مبتدأ، خبره جملة "فاصنعه"، أو هو من باب الاشتغال.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2800]
(
…
) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ (ع) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكرٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ (ع) وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، أَخْبَرَنَا عِيسَي، عَن ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي
(1)
"حاشية السنديّ على النسائيّ " 5/ 142.
(2)
"زهر الربى على المجتبى" 5/ 142 - 143.
(3)
راجع: "المرعاة" 9/ 348.
(4)
"المصباح المنير" 2/ 600.
عَطَاءٌ، أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ يَعْلَى كَانَ يَقُولُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: لَيْتَنِي أَرَى نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم حينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْجِعْرَانَةِ، وَعَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَوْبٌ، قَدْ أُظِلَّ بِهِ عَلَيْهِ، مَعَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فِيهِمْ عُمَرُ، إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ عَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ، مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ
(1)
، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِي جُبَّةٍ، بَعْدَمَا تَضَمَّخَ بِطِيبٍ؟ فَنَظَرَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاعَةً، ثُمَّ سَكَتَ، فَجَاءَهُ الْوَحْيُ، فَأَشَارَ عُمَرُ بِيَدِهِ إِلَى يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ تَعَالَ، فَجَاءَ يَعْلَي، فَأَدْخَلَ رَأسَهُ، فَإِذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُحْمَرُّ الْوَجْهِ، يَغِطُّ سَاعَةً، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، فَقَالَ:"أَيْنَ الَّذِي سَأَلَنِى عَن الْعُمْرَةِ آنِفًا؟ " فَالْتُمِسَ الرَّجُلُ، فَجِيءَ بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا، ثُمَّ اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ مَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ").
رجال هذا الإسناد: أحد عشر:
1 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الْكِسّيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ) بن عثمان الْبُرْسانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب، و"إسماعيل بن إبراهيم" هو: ابن عُليّة، و"عيسى" هو: ابن يونس بن أبي إسحاق، و"عطاء" هو: ابن أبي رَبَاح.
وقوله: (أَنَّ يَعْلَى كَانَ يَقُولُ
…
إلخ) ظاهر هذه العبارة توهم الانقطاع؛ لأن صفوان لَمْ يقل: أخبرني يعلي، إلَّا أن الرواية السابقة بيّنت أنه أخذه عنه، حيث قال:"عن صفوان بن يعلي، عن أبيه"، فإنها ظاهرة في الاتّصال، وأما ما قاله في "الفتح": وليست رواية صفوان عن يعلى لهذا الحديث بواضحة؛ لأنه قال فيها: "أن يعلى قال لعمر"، ولم يقل: أن يعلى أخبرني أنه قال لعمر، فإن يكن صفوان حضر مراجعتهما، وإلا فهو منقطع، لكن سيأتي في أبواب العمرة من وجه آخر "عن صفوان بن يعلي، عن أبيه"، فذكر الحديث.
انتهى، ففيه نظر لا يخفي، فتأمله، والله تعالى وليّ التوفيق.
(1)
وفي نسخة: "رجلٌ عليه جبةٌ متضمّخٌ بطيب".
وقوله: (لَيْتَنِي أَرَى
…
إلخ) أتمنّى رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (قَدْ أُظِلَّ بِهِ عَلَيْهِ) بضمّ أوله مبنيًّا للمفعول؛ أي: جُعل عليه كالظُّلّة.
وقوله: (يَغِطُّ) بفتح أوله، وكسر الغين المعجمة، وتشديد الطاء المهملة؛ أي: ينفُخ، والغطيط: صوت النفَس المتردّد من النائم، أو الْمُغْمَى عليه، وسببه شدّة ثقل الوحي، كما قال تعالى:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)} .
وقوله: (ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ) - بضمّ السين، وتشديد الراء، مبنيًّا للمفعول؛ أي: أُزيل ما به، وكشف عنه شيئًا بعد شيء.
وقوله: (أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ، فَاغْسِلْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) هوأعمّ من أن يكون الطيب بثوبه، أو ببدنه، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: إنما أمره بالثلاث مبالغةً في إزالة لونه وريحه، والواجب الإزالة، فإن حَصَلت بمرّة كَفَت، ولم تجب الزيادة، ولعلّ الطيب الذي كان على هذا الرجل كثيرٌ، ويؤيّده قوله:"متضمّخٌ"، قال القاضي عياض: ويَحْتَمِل أنه قال له ثلاث مرّات: "اغسله"، فكرّر القول ثلاثًا، والصواب ما سبق. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "فإن حصلت بمرّة كَفَت" فيه نظر، فتأمله، والله تعالى أعلم.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2801]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ الْعَمِّيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ رَافِع، قَالَا: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ قَيْسًا، يُحَدِّثُ عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه:
(1)
"الفتح" 4/ 411.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 79.
أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ، قَدْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، وَهُوَ مُصَفِّرٌ لِحْيَتَهُ وَرَأْسَهُ، وَعَلَيْهِ جُبَّة، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ: إِنِّي أَحْرَمْتُ بِعُمْرَةٍ، وَأَنَا كَمَا تَرَي، فَقَالَ:"انْزِعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ، وَاغْسِلْ عَنْكَ الصُّفْرَةَ، وَمَا كنْتَ صَانِعًا فِي حَجِّكَ، فَاصْنَعْهُ في عُمْرَتِكَ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ
(1)
الْعَمِّيُّ) أبو عبد الملك البصريّ، ثقةٌ [11](م د ت ق) تقدم في "الإيمان" 27/ 220.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم قبل بابين.
3 -
(وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ) الأزديّ، أبو عبد الله أو أبو العباس البصريّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 315.
4 -
(أَبُوهُ) جرير بن حازم بن زيد بن عبد الله الأزديّ، أبو النضر البصريّ، والد وهب، ثقةٌ، إلَّا في قتادة [6](ت 170)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 81.
5 -
(قَيْسُ) بن سعد المكيّ، أبو عبد الملك، ويقال: أبو عبد الله الحبشيّ، ثقةٌ [6] مات سنة بضع و (11)(خت م د س ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.
والباقون ذُكروا قبله، و"عطاء" هو: ابن أبي رَبَاح.
[تنبيه]: انتقد الدارقطنيّ رحمه الله هذا الإسناد، والذي يليه، فقال: اتفقا على حديث عطاء، عن صفوان بن يعلي، عن أبيه، حديث الجبة في الإحرام، وفيه:"واصنع في عمرتك ما تصنع في حجك" من حديث ابن جريجٍ، وهَمّام، وغيرهما عن عطاء، ورواه الثوريّ عن ابن جريجٍ، وابن أبي ليلى جميعًا عن عطاء، عن يعلى بن أمية مرسلًا، وكذا قال قتادة، ومطر الوراق، ومنصور بن زاذان، وعبد الملك بن سليمان، وغير واحد عن عطاء، ليس فيه صفوان.
وتعقّبه الحافظ رحمه الله، فقال: قلت: في رواية ابن جريجٍ: أخبرني عطاء، أن صفوان بن يعلى أخبره، عن يعلى به، ورواية جميع مَن ذَكَره عن عطاء، عن يعلى معنعنة، فدَلّ على أنه لَمْ يروه عن يعلى إلَّا بواسطة ابنه، وابن جريجٍ
(1)
بضم الميم، وفتح الراء، بصيغة اسم المفعول.
من أعلم الناس بحديث عطاء، وقد صَرّح بسماعه منه، فالتعليل بمثل هذا غير مُتَّجِهِ، كما قدمنا غير مرّة. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد أجاد الحافظ رحمه الله في هذا التعقّب، وحاصله أن صنيع مسلم في إيراده هذه الرواية من طريق عمرو بن دينار، وقيس بن سعد، ورباح بن أبي معروف، كلهم عن عطاء بن أبي رباح، عن صفوان بن يعلي، عن أبيه، متّصلًا بذكر صفوان بين عطاء، ويعلى صحيحة، وذلك لأن ابن جُريج أعلم الناس بحديث عطاء، وقد ذكر في روايته أن عطاء أخبره، أن صفوان بن يعلى أخبره
…
إلخ، فصرّح بسماعه منه، فتبيّن به أن عطاء لَمْ يروه عن يعلى إلَّا بواسطة صفوان، فتأيّد بهذا أن ذكر عمرو، وقيس، ورباح في روايتهم صفوان صحيح، وأن الرواية متّصلة به.
على أن مثل هذا الإرسال لا يضرّ؛ لأن الحديث صحيح متّصل من رواية همام، وابن جريجٍ، كلاهما عن عطاء، عن صفوان، عن أبيه يعلي، كما اتّفق عليه الشيخان، فتأمل، والله تعالى أعلم بالصواب.
وقوله: (مُصَفِّرٌ لِحْيَتَهُ وَرَأسَهُ) بتشديد الفاء المكسورة؛ أي: مستعمل للصفرة في لحيته ورأسه.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى الكلام فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2802]
(
…
) - (وَحَدَّثنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، حَدَّثَنَا رَبَاحُ بْنُ أَبِي مَعْرُوفٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءً، قَالَ: أَخْبَرَنِي صَفْوَانُ بْنُ يَعْلَى، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: كنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَاهُ رَجُلٌ عَلَيْهِ جُبَّةٌ بِهَا أَثَرٌ مِنْ خَلُوقٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَحْرَمْتُ بِعُمْرَةٍ، فَكَيْفَ أفعَلُ؟ فَسَكَتَ عَنْهُ، فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ، وَكَانَ عُمَرُ يَسْتُرُهُ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ يُظِلُّهُ، فَقُلْتُ
(1)
"هدي الساري مقدّمة فتح الباري" 1/ 357.
لِعُمَرَ رضي الله عنه إِنِّي أُحِبُّ إِذَا لينزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، أَنْ أُدْخِلَ رَأْسِي مَعَهُ فِي الثَّوْبِ، فَلَمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ خَمَّرَهُ عُمَرُ رضي الله عنه بِالثَّوْبِ، فَجِئْتُهُ، فَأَدْخَلْتُ رَأسِي مَعَهُ فِي الثَّوْبِ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ:(أَيْنَ السَّائِلُ آنِفًا عَن الْعُمْرَةِ؟ "، فَقَامَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ، فَقَالَ: "انْزِعْ عَنْكَ جُبَّتَكَ، وَاغْسِلْ أَثَرَ الْخَلُوقِ الَّذِي بِكَ، وَافْعَلْ فِي عُمْرَتِكَ مَا كُنْتَ فَاعِلًا في حَجِّكَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الْكَوْسج التميميّ، أبو يعقوب المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
2 -
(أَبُو عَلِيٍّ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ) الحنفيّ البصريّ، صدوقٌ، لَمْ يَثبُت أن يحيى بن معين ضعّفه [9](ت 209)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 40/ 1451.
3 -
(رَبَاحُ
(1)
بْنُ أَبِي مَعْرُوفٍ) بن أبي سَارَة المكيّ، صدوقٌ له أوهام [7].
رَوَى عن عطاء، وقيس بن سعد، ومجاهد، وابن أبي مليكة، وأبي الزبير، وغيرهم.
ورَوَى عنه الثوريّ، وأبوأحمد الزبيريّ، ووكيع وابن أبي فُديك، وأبو داود الطيالسيّ، وأبو نعيم، وغيرهم.
قال عمرو بن عليّ: كان يحيى وعبد الرَّحمن لا يحدثان عنه، وكان عبد الرَّحمن يحدّث عنه، ثم تركه، وقال ابن معين: ضعيف، وقال ابن عمار، وأبو زرعة، وأبو حاتم: صالح، وقال النسائيّ: ضعيفٌ، وقال في موضع آخر: ليس بالقويّ، وقال ابن عديّ: ما أرى برواياته بأسًا، ولم أجد له شيئًا منكرًا، وقال العجليّ: لا بأس به، وقال ابن سعد: كان قليل الحديث، وقال الساجيّ عن أحمد: كان صالِحًا، وقال ابن حبان: كان ممن الغالب عليه التقَشُّف، ولزوم الورع، وكان يَهِمُ في الشيء بعد الشيء، وذكره في "الثقات" أيضًا، وقال: كان ممن يُخطئ ويَهِمُ.
(1)
بفتح الراء، والموحّدة المخفّفة.
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم (1180) و (1208) و (1536).
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (فَسَكَتَ عَنْهُ، فَلَمْ يَرْجعْ إِلَيْهِ) أي: لَمْ يردّ عليه الجواب.
وقوله: (خَمَّرَهُ عُمَرُ رضي الله عنه بِالثَّوْبِ) أي: غطّاه.
وقوله: (فَأَدْخَلْتُ رَأْسِي مَعَهُ فِي الثَّوْبِ
…
الخ) قال النوويّ رحمه الله: إدخال يعلى رأسه، ورؤيته النبيّ صلى الله عليه وسلم في تلك الحال، وإذن عمر له في ذلك، محمول على أنهم عَلِموا من النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه لا يَكْرَه الاطلاع عليه في ذلك الوقت، وتلك الحال؛ لأن فيه تقويةَ الإيمان بمشاهدة حالة الوحي الكريم. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(2) - (بَابُ مَوَاقِيتِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ)
قال النوويّ رحمه الله: ذكر مسلم رحمه الله في هذا الباب ثلاثة أحاديث: حديث ابن عباس رضي الله عنهما أكملها؛ لأنه صَرَّح فيه بنقله المواقيت الأربعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلهذا ذكره مسلم في أول الباب، ثم حديث ابن عمر رضي الله عنهما؛ لأنه لَمْ يحفظ ميقات أهل اليمن، بل بلغه بلاغًا، ثم حديث جابر؛ لأن أبا الزبير قال: أحسب جابرًا رفعه، وهذا لا يقتضي ثبوته مرفوعًا. انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2803]
(1181) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَخَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، وَأَبُو الرَّبِيعِ، وَقُتَيْبَةُ، جَمِيعًا عَنْ حَمَّادٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 80.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 81.
دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: وَقتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، قَالَ:"فَهُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ، مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ، فَمِنْ أَهْلِهِ، وَكَذَا فَكَذَلِكَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(خَلَفُ بْنُ هِشَامِ) بن ثَعْلب البزّار المقرئ البغداديّ، ثقةٌ له اختيارات في القراءات [10](ت 229)(م د) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
3 -
(أَبُو الرَّبِيعِ) سليمان بن داود الزهرانيّ، تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(قتيْبَةُ) بن سعيد، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
5 -
(حَمَّادُ بْنُ زيدٍ) تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
6 -
(عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ) تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
7 -
(طَاوُسُ) بن كيسان الْحِمْيريّ مولاهم، أبو عبد الرَّحمن اليمانيّ، يقال: اسمه ذكوان، وطاوس لقبه، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ [3](ت 106) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
8 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله رضي الله عنهما، تقدّم في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه أربعة من الشيوخ قرن بينهم، ثم فصّل.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيوخه الثلاثة: يحيي، وخلف، وأبي الربيع.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه ابن عباس رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما) أنه (قَالَ: وَقَّتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: حدّد، وأصل التوقيت: أن يُجْعَل للشيء وقت يختصّ به، ثم اتّسع فيه، فأُطلق على المكان أيضًا، قال ابن الأثير رحمه الله: التوقيت، والتأقيت: أن يُجعل للشيء وقتٌ يختصّ به، وهو بيان مقدار المدّة، يقال: وَقّتَ الشيءَ - بالتشديد - يوقِّته، ووَقَتَ - بالتخفيف - يَقِته: إذا بيّن حدّه، ثمّ اتُّسِع فيه، فقيل للموضع: ميقات. انتهى
(1)
.
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: قيل: إن التوقيت في الأصل ذكر الوقت، والصواب أن يقال: تعليق الحكم بالوقت، ثم استُعْمِل في التحديد للشيء مطلقًا؛ لأن التوقيت تحديد بالوقت، فيصير التحديد من لوازم الوقت.
وقوله هنا: "وَقَّتَ " يَحْتَمِل أن يريد به التحديد؛ أي: حدّ هذه المواضع للإحرام.
وَيحْتَمِل أن يريد به تعليق الإحرام بوقت الوصول إلى هذه الأماكن بشرط إرادة الحجِّ، أو العمرة. انتهى
(2)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله: "وَقّت"؛ أي: حدّد، وقد يكون بمعنى أوجب، ومنه قوله تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]. انتهى.
قال الحافظ رحمه الله: ويؤيّده الرواية بلفظ: "فَرَضَ". انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: معنى وَقَّت: حدَّد وعيَّن، فظاهره يدلّ على أن هذه الحدود لا يتعداها مريد الإحرام حتى يحرم عندها، وقد أجمع المسلمون على أن المواقيت مواضع معروفة في الجهات التي يدخل منها إلى مكة
(4)
.
(لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ) أي: مدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ يعني سُكّانها، وكذا من مرّ على ميقاتهم، كما يأتي (ذَا الْحُلَيْفَةِ) - بضمّ الحاء المهملة، وفتح اللام - تصغير
(1)
راجع: "النهاية" 5/ 212.
(2)
"إحكام الأحكام" 3/ 457 بنسخة الحاشية "العدّة".
(3)
"الفتح" 5/ 394.
(4)
"المفهم" 3/ 262.
الْحَلَفَة - بفتح اللام، وكسرها -، وهي واحد الْحَلْفاء: وهو نبت معروف.
و"ذو الحليفة": موضع معروف بقرب المدينة، بينه وبينها نحو ستّة أميال، قاله النوويّ، وقبله الغزاليّ، والقاضي عياض، ثم قال: وقيل: سبعة أميال، وكذا قال الشافعيّ، كما في "المعرفة"، والمجد في "القاموس"، وياقوت الحمويّ في "معجم البلدان"
(1)
.
وقال ابن حزم: أربعة أميال، وذكر ابن الصبّاغ، وتبعه الرافعيّ من الشافعيّة أن بينهما ميلًا. قال المحبّ الطبريّ: وهو وهَم، والحسّ يردّ ذلك، وقال الإسنويّ في "المهمات": الصواب المعروف المشاهد أنَّها ثلاثة أميال، أو تزيد قليلًا.
قال وليّ الدين: والقائلون بما ذكرناه أولًا أتقن في ذلك، وذكره المحبّ الطبريّ عالم الحجاز، وصوّبه الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ"، وهو من مَأمَنِ مياه بني جُشَم، بينهم وبين خَفَاجَةِ العقيليين، وهوأبعد المواقيت من مكّة، بينهما نحو عشر مراحل، أو تسع.
وأما ذو الحليفة المذكور في حديث رافع بن خَدِيج: "كنا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة من تهامة
…
"، فهو موضع آخر، قال الداوديّ: ليس هو المهل الذي بقرب المدينة، ذكره وفي الدين في "الطرح"
(2)
.
وقال السمهوديّ رحمه الله في "وفاء الوفاء": وقد اختبرت ذلك بالمساحة، فكان من عَتَبَة باب المسجد النبويّ المعروف بـ "باب السلام" إلى عَتَبَة باب مسجد الشجرة بذي الحليفة تسعة عشر ألف ذراع وسبعمائة ذراع واثنين وثلاثين ذراعًا ونصف ذراع بذراع اليد - وذراع اليد على ما ذكره المحبّ الطبريّ، والنوويّ، وغيرهما أربعة وعشرون إصبعًا، كلّ إصبع ستّ شَعِيرات مضمومة بعضها إلى بعض - وذلك خمسة أميال وثلثا ميل ينقص مائة ذراع. انتهى
(3)
.
وقال الحافظ رحمه الله: ذو الحليفة مكان معروف، بينه وبين مكة مائتا ميل
(1)
راجع: "مرعاة المفاتيح" 8/ 342.
(2)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 5/ 9.
(3)
"وفاء الوفاء"(ص 1194).
غير ميلين، قاله ابن حزم في "المحلّى"
(1)
، وقال غيره: بينهما عشر مراحل، قال: وبها مسجد يُعرف بمسجد الشجرة خراب، وبها بئر، يقال لها: بئر عليّ. انتهى.
وقال العينيّ رحمه الله: وبذي الحليفة عدّة آبار، ومسجدان لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، المسجد الكبير الذي يُحْرِم منه الناس، والمسجد الآخر مسجد الْمُعَرَّس. انتهى.
وقال صاحب "تيسير العلّام": ذو الحليفة، وتسمّى الآن آبار عليّ، وتبعد عن مكّة بالمراحل (10) وبالفراسخ (80) وبالأميال (240) وبالكيلوات (430) والمرحلة هي مسيرة يوم وليلة بسير الإبل المحمّلة الأثقال سيرًا معتادًا، ويقدّر بها العرب الأوائل، فأخذها عنهم العلماء. انتهى.
وزاد في "توضيح الإحكام": وتبلغ المسافة بينها وبين المسجد النبويّ (13) كيلًا، وهي أبعد المواقيت. انتهى
(2)
.
(وَلِأَهْلِ الشَّامِ) هي البلاد المعروفة، وهي من العَرِيش إلى بالس، وقيل: إلى الفرات، قاله النوويّ في "شرح سنن أبي داود"، وقال السمعانيّ: هي بلاد بين الجزيرة والغور إلى الساحل، ويجوز فيها التذكير والتأنيث، والهمز وتركه، وأما شآم بفتح الهمزة والمدّ، فأباه أكثرهم، إلَّا في النسب. انتهى
(3)
.
(الْجُحْفَةَ) يعني أن أهل الشام، وكذا من سلك طريقهم، كما يأتي من الموضع المسمّى بالجُحفة، وهي بضمّ الجيم، وإسكان الحاء المهملة، وفتح الفاء قرية كبيرة كانت عامرة، ذات مِنْبَرٍ، وهي الآن خربة، بينها وبين البحر الأحمر بالأميال (6) وبالكيلوات (10). قال ابن حزم: وهي فيما بين المغرب والشمال من مكّة، ومنها إلى مكة اثنان وثمانون ميلًا.
وقال في "تيسير العلّام": تبعد من مكة بالمراحل (5) وبالفراسخ (4) وبالأميال (120) وبالكيلوات (201) ويُحْرِم منها أهل مصر، والشام، والمغرب، ومَنْ وراءهم، من أهل الأندلس، والروم، والتكرور، قيل: إنها
(1)
راجع: "المحلى" 7/ 70.
(2)
"توضيح الإحكام" 3/ 275.
(3)
راجع: "طرح التثريب" 5/ 9 - 10.
ذهبت أعلامها، ولم يبق إلَّا رسوم خفيّة، لا يكاد يعرفها إلَّا سكّان بعض البوادي، فلذا - واللَّه تعالى أعلم - اختار الناس الإحرام احتياطًا من المكان المسمّى برابغ - براء، وموحّدة، وغين معجمة، بوزن فَاعِل - لأنَّها قرية قبل حذائها بقليل، وقيل: لا يُحرمون من الجحفة لوخمها، وكثرة حُمّاها، فلا ينزلها أحد إلَّا حُمّ، وسمّاها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر عند الشيخين:"مَهْيَعَة" - بفتح الميم، وإسكان الهاء، وفتح التحتانيّة، والعين المهملة، بوزن عَلْقَمة -. وقيل: - بكسر الهاء، مع إسكان الياء، على وزن لَطِيفة - والصحيح المشهور الأول.
وسمّيت الجحفة لأن السيل أجحف بها، قال ابن الكلبيّ: كان العماليق يسكنون يثرب، فوقع بينهم وبين بني عَبِيل - بفتح الموحّدة - وهم إخوة عاد حرب، فأخرجوهم من يثرب، فنزلوا مَهْيَعَة، فجاء سيل، فاجتحفهم؛ أي: استأصلهم، فسميت جحفة
(1)
.
(وَلِأَهْلِ نَجْدٍ) - بفتح النون، وإسكان الجيم، وآخره دال مهملة -: قال في "الصحاح": هو ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق.
وقال في "المشارق": ما بين جُرَش إلى سواد الكوفة، وحدّه مما يلي المغرب الحجازُ، وعن يسار الكعبة اليمنُ، قال: ونجد كلها من عمل اليمامة.
وقال في "النهاية": النجد ما ارتفع من الأرض، وهو اسم خاصّ لما دون الحجاز مما يلي العراق.
وقال في "الفتح": أما نجد، فهو كلّ مكان مرتفع، وهو اسم لعشرة مواضع، والمراد منها هنا التي أعلاها تهامة، واليمن، وأسفلها الشام، والعراق. انتهى
(2)
.
(قَرْنَ الْمَنَازِلِ) - بفتح القاف، وسكون الراء المهملة - بلا خلاف بين أهل العلم، من أهل الحديث، واللغة، والتاريخ، والأسماء، وغيرهم، كما قاله النوويّ، قال: وغَلِط الجوهريّ في "صحاحه" غلطتين فاحشتين، فقال: بفتح الراء، وزعم أن أويسًا القَرَنيّ رحمه الله منسوب إليه، والصواب إسكان الراء، وأن
(1)
راجع: "الفتح" 4/ 161.
(2)
"الفتح" 4/ 162.
أُويسًا منسوب إلى قبيلة معروفة، يقال لهم: بنو قَرَن، وهم بطن من مراد، القبيلة المعروفة، ينسب إليها المراديّ.
قال الحافظ وليّ الدين: وحَكَى القاضي في "المشارق" عن تعليق القابسيّ أن من قال: قرن بالإسكان أراد الجبل المشرف على الموضع، ومن قال: قرَن بالفتح أراد الطريق الذي يفترق منه، فإنه موضع فيه طرق مفترقة. انتهى، وهذا يدلّ على أن فيه خلافًا.
ويقال له: قرن المنازل، وقرن الثعالب، قال النوويّ: وهو على مرحلتين من مكة، قالوا: وهو أقرب المواقيت إلى مكة، وقال في "المشارق": هو على يوم وليلة من مكة، وهو قريب مما مرّ عن النوويّ.
قال وليّ الدين: وفيما حكاه النوويّ من أن قرنًا أقرب المواقيت إلى مكة نظر، فقد ذكر ابن حزم أن بينها وبين مكة اثنين وأربعين ميلًا، وأن بين يلملم ومكة ثلاثين ميلًا، فتكون يلملم أقرب المواقيت إلى مكة، واللَّه أعلم. انتهى.
وقال في "الفتح" بعد أن نقل ما تقدّم عن تعليق القابسيّ ما نصّه: والجبل المذكور بينه وبين مكة من جهة المشرق مرحلتان، وحكى الرويانيّ عن بعض قدماء الشافعيّة أن المكان الذي يقال له: قرن موضعان: أحدهما في هبوط، وهو الذي يقال له: قرن المنازل، والآخر في صعود، وهو الذي يقال له: قرن الثعالب، والمعروف الأول، وفي "أخبار مكة" للفاكهيّ أن قرن الثعالب جبل مشرف على أسفل منى، بينه وبين مسجد منى ألف وخمسمائة ذراع، وقيل له: قرن الثعالب؛ لكثرة ما كان يأوي إليه من الثعالب، فظهر أن قرن الثعالب ليس من المواقيت.
وقد وقع ذكره في حديث عائشة في إتيان النبيّ صلى الله عليه وسلم الطائف، يدعوهم إلى الإسلام، ورَدِّهِم عليه، قال:"فلم أَسْتَفِقْ إلَّا وأنا بقرن الثعالب. . ." الحديث، ذكره ابن إسحاق في "السيرة النبويّة".
ووقع في مرسل عطاء عند الشافعيّ: "ولأهل نجد قرن، ولمن سلك نجدًا من أهل اليمن، وغيرهم قرن المنازل".
ووقع في عبارة القاضي حسين في سياقه لحديث ابن عبّاس هذا: "ولأهل نجد اليمنِ، ونجد الحجازِ قرن"، وهذا لا يوجد في شيء من طرق حديث ابن
عباس، وإنما يوجد ذلك من مرسل عطاء، وهو المعتمد، فإن لأهل اليمن إذا قصدوا مكة طريقين: إحداهما طريق أهل الجبال، وهم يَصِلُون إلى قرن، أو يُحاذونه، فهو ميقاتهم، كما هو ميقات أهل المشرق. والأخرى طريق أهل تهامة، فيمرّون بيلملم، أو يحاذونه، وهو ميقاتهم، لا يشاركهم فيه إلا من أتى عليه من غيرهم. انتهى ما في "الفتح"
(1)
.
وقال صاحب "توضيح الأحكام": قرن المنازل، ويسمّى السيل الكبير، ومسافته من بطن الوادي إلى مكة المكرمة (78) كيلو متر. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: وقع في شرح النوويّ ما لفظه: "ولأهل نجد قرن" دون الإضافة إلى "المنازل"، قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع في أكثر النسخ: "قرن" من غير ألف بعد النون، وفي بعضها "قرنًا" بالألف، وهو الأجود؛ لأنه موضع، واسم لجبل، فوجب صرفه، والذي وقع بغير ألف يُقرأ منونًا، وإنما حذفوا الألف كما جرت عادة بعض المحدثين يكتبون، يقول: سمعت أنسًا، بغير ألف، ويُقرأ بالتنوين، ويَحْتَمِل على بُعْدٍ أن يُقرأ قرن منصوبًا بغير تنوين، ويكون أراد به البقعة، فيترك صرفه. انتهى
(3)
.
(وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ) المراد بعض أهل اليمن، وهو تهامة، فأما نجد، فإن ميقاته قرن؛ وذلك لأن اليمن يشمل نجدًا وتهامة، فأُطلق اليمن، وأريد بعضه، وهو تهامة منه خاصة، وقوله فيما مضى:"نجد" تناول نجد الحجاز، ونجد اليمن، وكلاهما ميقاته قرن، قاله وليّ الدين رحمه الله
(4)
.
(يَلَمْلَمَ) - بفتح التحتانيّة، واللام، وسكون الميم، بعدها لام مفتوحة، ثم ميم، وهو جبل من جبال تهامة، على مرحلتين من مكة، وقال ابن حزم: هو جنوب من مكة، ومنه إلى مكة ثلاثون ميلًا، وفي "شرح المهذّب": يُصرف، ولا يُصرف، قال العينيّ: إن أريد الجبل فمنصرف، وإن أريد البقعة، فغير منصرف البتّة، بخلاف قرن، فإنه على تقدير إرادة البقعة يجوز صرفه؛ لأجل
(1)
"الفتح" 4/ 162.
(2)
"توضيح الأحكام" 3/ 276.
(3)
"شرح النوويّ" 8/ 83.
(4)
"طرح التثريب" 5/ 11.
سكون وسطه، ويقال فيه "ألملم" بالهمزة، وهو الأصل، والياء تسهيل لها، وحكى ابن سِيدَهْ فيه:"يَرمرم" براءين بدل اللامين.
وقال صاحب "تيسير العلام": وتبعد عن مكة بالمراحل (2) وبالفراسخ (16) وبالأميال (48) وبالكيلوات (80). انتهى.
[تنبيه]: أبعد المواقيت من مكة ذو الحليفة ميقات أهل المدينة، فقيل: الحكمة في ذلك أن تعظم أجور أهل المدينة، وقيل: رفقًا بأهل الآفاق؛ لأن أهل المدينة أقرب الآفاق إلى مكة؛ أي: ممن له ميقات معيّن، ذكره في "الفتح".
وقد نظم بعضهم هذه المواقيت في بيتين، فقال [من الكامل]:
عِرْقُ الْعِرَاقِ يَلَمْلَمُ الْيَمَنِ
…
وَبِذِي الْحُلَيْفَةِ يُحْرِمُ الْمَدَنِي
لِلشَّامِ جَحْفَةُ إِنْ مَرَرْتَ بِهَا
…
وِلأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنٌ فَاسْتَبِنِ
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَهُنَّ لَهُنَّ) أي: المواقيت المذكورة للجماعات المذكورة، أو لأهلهنّ، على حذف مضاف.
وقال القاضي عياض رحمه الله: كذا جاءت الرواية في "الصحيحين" وغيرهما عند أكثر الرواة، قال: ووقع عند بعض رواة البخاريّ، ومسلم:"فهنّ لهم"، وكذا رواه أبو داود، وغيره، وكذا ذكره مسلم من رواية ابن أبي شيبة، وهو الوجه؛ لأنه ضمير أهل هذه المواضع، قال: ووجه الرواية المشهورة، أن الضمير في "لهنّ" عائد على المواضع، والأقطار المذكورة، وهي المدينة، والشام، واليمن، ونجد؛ أي: هذه المواقيت لهذه الأقطار، والمراد لأهلها، فحَذَف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "هُنّ": ضمير جماعة المؤنث العاقل في الأصل، وقد يعاد على مما لا يعقل، وأكثر ذلك في العشرة فما دونها، فإذا جاوزوها قالوه بهاء المؤنث، كما قال تعالى:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} [التوبة: 36]، ثم قال:{مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} ، ثم قال:{فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} ؛ ومعنى ذلك الكلام: أنها محدودة؛ لا يتعداها أحد يريد الإحرام بأحد النُّسُكَين.
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 323.
واختلف فيمن مرَّ على واحد من هذه المواقيت مريدًا للإحرام فجاوزه، فعن مالك: يرجع ما لم يحرم، أو يشارف مكة، فإذا رجع لم يلزمه دم، فلو أحرم لم يرجع ولزمه الدم. وبه قال ابن المبارك، والثوري على خلاف عنه. وجماعة من الفقهاء منهم أبو حنيفة يأمرونه بالرجوع؛ فإن رجع سقط عنه الدم.
فأما من جاوز الميقات غير مريد للإحرام، ثم بدا له في النسك، فجمهور العلماء: على أنه يحرم من مكانه، ولا شيء عليه، وقال أحمد، وإسحاق: يرجع إلى الميقات.
فأما من مرَّ على الميقات قاصدًا دخول مكة من غير نسك، وكان ممن لا يتكرر دخوله إلى مكة، فهل يلزمه الإحرام منه؟ أو لا يلزمه؟ وإذا لم يلزمه، فهو على الاستحباب، ثم إذا لم يفعله، فهل يلزمه دم أو لا يلزمه؟ اختلف فيه أصحابنا.
وظاهر الحديث: أنه إنما يلزم الإحرام من أراد مكة لأحد النُّسكين خاصة. وهو مذهب الزهري، وأبي مصعب وجماعة من أهل العلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: مذهب الزهريّ رحمه الله ومن قال بقوله هو الحقّ، وسيأتي تمام البحث في هذا في موضعه - إن شاء الله تعالى -.
(وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ) يعني أن هذه المواقيت تكون محلّ إحرام لكلّ شخص أتى عليها من غير أهل البلاد المذكورة.
قال في "الفتح": ويدخل في ذلك من دخل بلدًا ذات ميقات، ومن لم يدخل، فالذي لا يدخل لا إشكال فيه، إذا لم يكن له ميقات معيّن، والذي يدخل فيه خلاف؛ كالشاميّ إذا أراد الحجّ، فدخل المدينة، فميقاته ذو الحليفة لاجتيازه عليها، ولا يؤخر حتى يأتي الجحفة التي هي ميقاته الأصليّ، فإن أخّر أساء، ولزمه دم عند الجمهور، وأطلق النوويّ الاتفاق، ونفى الخلاف في "شرحيه لمسلم، والمهذّب" في هذه المسألة، فلعلّه أراد في مذهب الشافعيّ، وإلا فالمعروف عند المالكيّة أن للشاميّ مثلًا إذا جاوز ذا الحليفة بغير إحرام إلى ميقاته الأصليّ، وهو الجحفة جاز له ذلك، وإن كان الأفضل خلافه، وبه
(1)
"المفهم" 3/ 263 - 264.
قالت الحنفيّة، وأبو ثور، وابن المنذر من الشافعيّة
(1)
.
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: قوله: "لأهل الشام الجحفة" يشمل من مرّ من أهل الشام بذي الحليفة، ومن لم يمرّ، وقوله:"ولمن أتى عليهنّ من غير أهلهنّ" يشمل الشاميّ إذا مرّ بذي الحليفة وغيره، فههنا عمومان قد تعارضا. انتهى ملخّصًا
(2)
.
قال الحافظ رحمه الله: ويحصل الانفكاك عنه بأن قوله: "هنّ لهنّ" مفسّر لقوله مثلًا: "لأهل المدينة ذو الحليفة"، وأن المراد بأهل المدينة ساكنوها، ومن سلك طريق سفرهم، فمرّ على ميقاتهم، ويؤيّده عراقيّ خرج من المدينة، فليس له مجاوزة ميقات المدينة غير محرم، ويترجّح بهذا قول الجمهور، وينتفي التعارض. انتهى
(3)
.
وقال الحافظ وليّ الدين رحمه الله بعد ذكر كلام ابن دقيق العيد رحمه الله ما نصّه: لو سلك ما ذكرته أوَّلًا من أن المراد بأهل المدينة من سلك طريق سفرهم، ومرّ على ميقاتهم، لم يَرِد هذا الإشكال، ولم يتعارض هنا دليلان، ومن المعلوم أن من ليس بين يديه ميقات لأهل بلده التي هي محلّ سكنه؛ كاليمني من المدينة، ليس له مجاوزة ميقات أهل المدينة غير محرم، وذلك يدلّ على ما ذكرناه أنه ليس المراد بأهل المدينة سُكّانها، وإنما المراد بأهلها من حجّ منها، وسلك طريق أهلها، ولو حملناه على سكانها لوردت هذه الصورة، وحصل الاضطراب في هذا، فنفرّق في الغريب الطارئ على المدينة مثلًا بين أن يكون بين يديه ميقات لأهل بلده أم لا، فنحمل أهل المدينة تارة على سكانها، وتارة
(1)
عدّ ابن المنذر من مقلدي الشافعيّ غير صحيح، بل هو مجتهد مستقلّ غير مقلّد، تشهد بذلك كتبه، ومخالفته للشافعي لا تقلّ عن مخالفته للأئمة الآخرين، ومجرد كونه انتسب إلى الشافعي في أول أمره، لا يستلزم أن يكون دائمًا كذلك، وإلا للزم كون الشافعي نفسه مالكيًا، فإنه تلميذه، ومن الآخذين عنه، وكذا كون أحمد شافعيًا، فإنه ممن أخذ عنه، وهكذا، فتأمّل بالإنصاف، ولا تتحيّر بالاعتساف.
(2)
إحكام الأحكام 3/ 461 - 462، بنسخة الحاشية.
(3)
"الفتح" 4/ 163.
على سكانها والواردين عليها، ويصير هذا تفريقًا بغير دليل، وإذا حملنا أهل المدينة على ما ذكرناه لم يحصل في ذلك اضطراب، ومشى اللفظ على مدلول واحد في الأحوال كلّها، واللَّه أعلم. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله وليّ الدين رحمه الله حسنٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.
وقال صاحب "مرعاة المفاتيح" - بعد ذكر ما تقدّم -: وقد عُلم مما ذكرنا أن ههنا ثلاث صور، أو ثلاث مسائل:
(إحداها): أن يمرّ من ليس ميقاته بين يديه؛ كاليمنيّ، والعراقيّ، والنجديّ يمرّ أحدهم بذي الحليفة، وهذا لا خلاف فيه بين الأئمة أنه يلزمه الإحرام من ذي الحليفة، ولا يجوز له المجاوزة عنها بغير إحرام؛ لأنه ليس ميقاته بين يديه، وعليه حملت المالكيّة:"ولمن أتى عليهنّ من غير أهلهنّ".
(والثانية): أن يمرّ من ميقاته بين يديه؛ كالشاميّ مثلًا بذي الحليفة، واختلفوا فيه، فقالت الشافعيّة، والحنابلة، وإسحاق: يلزمه الإحرام من ذي الحليفة، ولا يجوز له التأخير إلى ميقاته؛ أي: الجحفة؛ لظاهر الحديث، خلافًا للمالكية، والحنفيّة، وأبي ثور، وابن المنذر.
(والثالثة): أن المدنيّ إذا جاوز عن ميقاته إلى الجحفة، فهل يجوز له ذلك، أم لا؟ وبالأول قالت الحنفيّة، كما في كتب فروعهم، وبالثاني قال الجمهور، وهو القول الراجح المُعَوَّلُ عليه عندنا. انتهى كلام صاحب "المرعاة"
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: الصواب عندي أن من مرّ على أيّ ميقات من المواقيت المحدّدة شرعًا، وهو مريد لأحد النسكين، لا يجوز له أن يتجاوزها بغير إحرام، مطلقًا، سواء كان من أهل تلك المواقيت، أم من غيرهم، وسواء كان ميقاته أمامه، أم لا، عملًا بظاهر النصّ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
(مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) وفيه دلالة على جواز دخول مكة بغير إحرام
(1)
"مرعاة المفاتيح" 8/ 350 - 351.
لمن لم يرد الحجّ، أو العمرة، وهذا هو المذهب الصحيح، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك، في محلّه "بَابُ جواز دخول مكة بغير إحرام" - إن شاء اللَّه تعالى -.
(فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ، فَمِنْ أَهْلِهِ، وَكَذَا فَكَذَلِكَ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ، وهو صحيح، ومعناه: وهكذا، فهكذا من جاوز مسكنه الميقات، حتى أهل مكة يُهِلُّون منها. انتهى
(1)
.
ولفظ عبد الله بن طاوس: "ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ"، قال في "الفتح"؛ أي: فميقاته من حيث أنشأ الإحرام؛ إذِ السفرُ من مكانه إلى مكة، وهذا متّفق عليه، إلا ما روي عن مجاهد أنه قال: ميقات هؤلاء نفس مكّة. انتهى، قال ابن عبد البرّ: إنه قول شاذّ.
وقال العينيّ: الفاء في جواب الشرط؛ أي: فمُهَلُّهُ من حيث قصد الذهاب إلى مكة؛ يعني أنه يهلّ من ذلك الموضع. انتهى.
وقال القاري: ولم يذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم حكم أهل المواقيت نفسها، والجمهور على أن حكمها حكم داخل المواقيت، خلافًا للطحاويّ، حيث جعل حكمها حكم الآفاقيّ. انتهى.
(حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا") ولفظ البخاريّ: "حتى أهل مكة من مكة"، قال العينيّ: يجوز في لفظ "أهل" الجرّ؛ لأن "حتى" تكون حرفًا جارًّا بمنزلة "إلى"، ويجوز الرفع على أنه مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره:"حتى أهل مكة يهلون من مكة"، كما في قولك: جاء القوم حتى المشاة؛ أي: حتى المشاة جاءوا. انتهى.
ولفظ النسائيّ: "حَتَّى يَأْتِيَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ" يعني أن الحكم المذكور، وهو إنشاء الإحرام من مكانه يكون على أهل مكة؛ أي فليس لهم أن يؤخّروا الإحرام عن مكّة.
قال في "الفتح": قوله: حتى أهل مكة من مكة؛ أي: لا يحتاجون إلى
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 84.
الخروج إلى الميقات للإحرام منه، بل يُحرمون من مكة؛ كالآفاقيّ الذي بين الميقات، ومكة، فإنه يُحرم من مكانه، ولا يحتاج إلى الرجوع إلى الميقات ليُحرم منه. وهذا خاصّ بالحاجّ، وأما المعتمر فلا بدّ له من الخروج إلى أدنى الحلّ؛ كالتنعيم، ونحوه.
قال المحبّ الطبريّ: لا أعلم أحدًا جعل مكة ميقاتًا للعمرة، فتعيّن حمله على القارن.
واختلف في القارن، فذهب الجمهور إلى أن حكمه حكم الحاجّ في الإهلال من مكة. وقال ابن الماجشون: يجب عليه الخروج إلى أدنى الحلّ. ووجهه أن العمرة إنما تندرج في الحجّ فيما محلّه واحدٌ؛ كالطواف والسعي، عند من يقول بذلك، وأما الإحرام فمحله فيهما مختلف.
وجواب هذا الاستشكال أن المقصود من الخروج إلى الحلّ في حقّ المعتمر أن يَرِدَ على البيت الحرام من الحلّ، فيصحّ كونه وافدًا عليه، وهذا يحصل للقارن لخروجه إلى عرفة، وهي من الحلّ، ورجوعه إلى البيت لطواف الإفاضة، فحصل المقصود بذلك أيضًا.
[تنبيه]: الأفضل في كلّ ميقات أن يُحرم من طرفه الأبعد من مكة، فلو أحرم من طرفه الأقرب جاز، قاله في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: كون الأفضل الإحرام من الطرف الأبعد يحتاج إلى دليل، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 2803 و 2804](1181)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1524 و 1526 و 1529 و 1530 و 1845)، و (أبو داود) في
(1)
"الفتح" 4/ 164.
"المناسك"(1737)، و (النسائيّ) في "المناسك"(5/ 126) وفي "الكبرى"(2/ 328)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 114 - 115)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 265)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 340)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 238)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2590)، و (الدارميّ) في "سننه"(1792)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 428)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 268)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 110)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(5/ 165) و"الكبير"(11/ 21)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 29) و"الصغرى"(3/ 523)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مواقيت الحجّ والعمرة لأهل هذه البلاد، وغيرها ممن أتى عليها.
2 -
(ومنها): أنه لا يجوز لأحد يريد مكة للحج والعمرة أن يتجاوز هذه المواقيت إلا متلبّسًا بالإحرام منها.
3 -
(ومنها): أنه يدلّ على أنه لا يجوز تأخير الإحرام من هذه المواضع المحدّدة، وفيه ردّ على الحنفيّة حيث جوّزوا لمن كان داخل الميقات التأخير إلى آخر الحلّ، ولأهل مكّة إلى آخر الحرم، فإنه مخالف لصريح قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث:"فمن كان دونهنّ، فمن أهله، وكذا كذلك، حتى إن أهل مكة يُهلّون منها".
4 -
(ومنها): أنه لا يجوز لأحد أن ينشئ الإحرام قبل هذه المواقيت، حيث إن النبيّ صلى الله عليه وسلم حدّها له، فلذا لا يرى بعض المحققين؛ كالبخاريّ، جواز الإحرام قبلها أصلًا، وهو الأرجح عندي؛ لظواهر النصوص.
5 -
(ومنها): أن في التحديد المذكور تعظيم شأن هذا البيت، وتشريفه بجعل هذا الْحِمَى الذي لا يتجاوزه حاجّ، أو معتمر، حتى يأتي بهذه الهيئة، خاشعًا لله تعالى، معظّمًا لشعائره، ومحارمه.
6 -
(ومنها): أن في تعدّد هذا التحديد رحمةً من الله تعالى بخلقه، وتسهيلًا لهم، إذ لو كان الميقات واحدًا لجميع البلدان لشقّ ذلك على مريدي النسك.
7 -
(ومنها): أن فيه عَلَمًا من أعلام النبوّة، حيث حدّد النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه
المواقيت قبل إسلام أهلها؛ إشارة إلى أنهم سيدخلون في الإسلام، وأنهم سيحجّون، فيضطرّون إلى مواقيت ينشؤون منها الإحرام، فجاء الأمر كما أشار إليه صلى الله عليه وسلم.
8 -
(ومنها): أنه يؤخذ منه أن من سافر غير قاصد للنسك، فجاوز الميقات، ثم بدا له بعد ذلك النسك أنه يُحرِم من حيث تجدّد له القصد، ولا يرجع إلى الميقات؛ لقوله:"فمن حيث أنشأ".
9 -
(ومنها): أنه استدلّ به ابن حزم رحمه الله على أن من ليس له ميقات، فميقاته من حيث شاء، قال في "الفتح": ولا دلالة فيه؛ لأنه يختصّ بمن دون الميقات؛ أي: إلى جهة مكة. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لولا أثر عمر بن الخطّاب رضي الله عنه عنه في تحديد ذات عرق بمحاذاة الميقات، لكان لما قاله ابن حزم وجه، لكن الحقّ هو ما عليه الجمهور؛ لما ذُكر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم تقديم الإحرام على المواقيت المذكورة:
ذهب الجمهور إلى أن تقديم الإحرام على هذه المواقيت جائز، وإن كان خلاف الأولى، بل ادَّعَى ابن المنذر وغيره الإجماع على ذلك، ولكن يردّه وجود الخلاف فيه، كما سيأتي.
وذهبت طائفة إلى أن التقديم لا يجوز، نقل ذلك عن إسحاق، وداود، وابن حزم، وغيرهم، وهو مذهب البخاريّ.
قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب فرض مواقيت الحجّ والعمرة".
1522 -
حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا زُهير، قال: حدثني زيد بن جُبَير، أنه أتى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في منزله، وله فُسطاط، وسُرادق، فسألتُهُ من أين يجوز أن أعتمر؟ قال:"فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأهل نجد قرنًا، ولأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشأم الجحفة".
قال الحافظ رحمه الله: ومعنى فرض: قدّر، وأوجب، وهو ظاهر نصّ
المصنّف، وأنه لا يُجيز الإحرام بالحجّ والعمرة من قبل الميقات، ويزيد ذلك وضوحًا ما سيأتي بعد قليل، حيث قال:"باب ميقات أهل المدينة، ولا يُهلّون قبل ذي الحليفة"، وقد نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على الجواز، وفيه نظر، فقد نُقل عن إسحاق، وداود، وغيرهما عدم الجواز، وهو ظاهر جواب ابن عمر، ويؤيّده القياس على الميقات الزمانيّ، فقد أجمعوا على أنه لا يجوز التقدّم عليه. انتهى المقصود من كلام الحافظ رحمه الله.
وقد اعترض العينيّ على كلام الحافظ هذا كعادته بما لا يُلتفت إليه؛ حيث إنه مجرّد تحامل، وتعصّب، فالحقّ هو الذي قرّره الحافظ بأن مذهب الإمام البخاريّ أنه لا يجوز أن يحرم قبل الميقات، فقوله:"ولا يهلّون قبل ذي الحليفة" صريح في كونه لا يرى جواز الإحرام قبل الميقات، وهو الظاهر، وأما ادّعاء الإجماع فقد عرفت أنه باطل، فقد خالف فيه جماعة من أهل العلم.
قال الصنعانيّ رحمه الله: قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل الميقات أنه محرم، وهل يكره؟ قيل: نعم؛ لأن قول الصحابة: وقّت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، يقضي بالإهلال من هذه المواقيت، ويقضي بنفي النقص، والزيادة، فإن لم تكن الزيادة محرّمة، فلا أقلّ من أن يكون تركها أفضل، ولولا ما قيل من الإجماع بجواز ذلك لقلنا بتحريمه؛ لأدلّة التوقيت.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد عرفت فيما سبق أن ادّعاء الإجماع غير صحيح، فتنبّه.
قال: ولأن الزيادة على المقدّرات، من المشروعات، كأعداد الصلاة، ورمي الجمار، لا تُشرع؛ كالنقص منها، وإنما لم نجزم بتحريم ذلك؛ لما ذكرنا من الإجماع؛ ولأنه روي عن عدّة من الصحابة تقديم الإحرام على الميقات، فأحرم ابن عمر من بيت المقدس، وأحرم أنس من العقيق، وأحرم ابن عبّاس من الشام، وأهلّ عمران بن حصين من البصرة، وأهلّ ابن مسعود من القادسيّة.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الاستدلال من الصنعاني عجيب،
كيف يحتجّ هنا بما نُقل عن ابن عباس، وغيره في معارضة الأحاديث المرفوعة، ويردّ قوله: من أراد من أهل مكة أن يعتمر خرج إلى التنعيم، ويجاوز الحرم بأنه أثر موقوف، لا يقاوم المرفوع، مع أنه يوافق المرفوع في كونه صلى الله عليه وسلم أعمر عائشة من التنعيم؟ وكذا ردّه قول المحبّ الطبريّ: إنه لا يعلم أحدًا جعل مكة ميقاتًا للعمرة، فقال: جوابه أنه صلى الله عليه وسلم جعلها ميقاتًا لها بهذا الحديث؟ فهلا قال هنا: إن هذه الآثار عن الصحابة لا تقاوم المرفوع، إن هذا تناقض عجيب.
قال: وورد في تفسير الآية أن الحجّ والعمرة تمامهما بهما من دُويرة أهلك عن عليّ، وابن مسعود، وإن كان قد تُؤُوّل بأن مرادهما أن ينشأ لهما مفردًا من بلده، كما أنشأ صلى الله عليه وسلم لعمرة الحديبية والقضاء سفرًا من بلده، ويدلّ لهذا التأويل أنّ عليًّا رضي الله عنه لم يفعل ذلك، ولا أحد من الخلفاء الراشدين، ولم يُحرموا بحجّ، ولا عمرة إلا من الميقات، بل لم يفعله صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون ذلك تمام الحجّ، ولم يفعله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من الخلفاء، ولا جماهير الصحابة؟.
قال: نعم، الإحرام من بيت المقدس بخصوصه ورد فيه حديث أم سلمة رضي الله عنها، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من أهلّ من المسجد الأقصى بعمرة، أو بحجّة، غُفر له ما تقدّم من ذنبه"
(1)
، وله ألفاظ عند أبي داود، وابن ماجه.
قال: فيكون هذا مخصوصًا ببيت المقدس، فيكون الإحرام منه خاصّة أفضل من الإحرام من المواقيت، ويدلّ له إحرام ابن عمر منه، ولم يفعل ذلك من المدينة، على أن منهم من ضعّف الحديث، ومنهم من تأوّله بأن المراد ينشئ لهما السفر من هنالك. انتهى كلام الصنعانيّ رحمه الله
(2)
.
وقال العلامة ابن قدامة رحمه الله ما ملخّصه: أما ما نُقل عن عمر، وعليّ رضي الله عنهما أنهما قالا: إتمام العمرة أن تنشئها من بلدك، فمعناه أن تنشئ لها سفرًا من
(1)
حديث ضعيفٌ، كما سيأتي قريبًا، فلا يصلح للاحتجاج به، كما زعمه الصنعانيّ، فتنبّه.
(2)
"سبل السلام" 2/ 325 - 326.
بلدك تقصد له، ليس أن تحرم بها من أهلك، قال أحمد: كان سفيان يفسّره بهذا، وكذلك فسره به أحمد، ولا يصحّ أن يفسّر بنفس الإحرام، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه ما أحرموا بها من بيوتهم، وقد أمرهم الله تعالى بإتمام العمرة، فلو حمل على ذلك لكان النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه تاركين لأمر الله، ثم إن عمر وعليًّا ما كانا يُحرمان إلا من الميقات، أفتراهما يريان أن ذلك ليس بإتمام لها، ويفعلانه؟ هذا لا ينبغي أن يتوهّمه أحد، ولذلك أنكر عمر على عمران إحرامه من البصرة، واشتد عليه. انتهى كلام ابن قدامة بتصرف، واختصار
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أما الحديث المذكور في الإحرام من بيت المقدس، فإنه ضعيف، لا يصلح لمعارضة الأحاديث الصحيحة؛ لتفرّد حُكيمة بنت أميّة الأخنسية به، قال عنها في "التقريب": مقبولة؛ أي لا بدّ لها من متابع، وليس لها متابع، والراوي عنها يحيى بن أبي سفيان قال عنه أبو حاتم: ليس بالمشهور.
وأعله المنذريّ في "مختصر سنن أبي داود" 2/ 285 بالاضطراب
(2)
، قال: وقد اختلف الرواة في متنه، وإسناده اختلافًا كثيرًا، وكذا أعلّه الحافظ ابن كثير بالاضطراب
(3)
، فلا يعارض أحاديث المواقيت الصحاح
(4)
.
قال الجامع: وعلى تقدير صحته فليس دليلًا على مسألتنا هذه، فإنه لم يقل: من أهلّ منها، وإنما قال:"الحجة منها أفضل إلخ"، وهذا لا يستلزم الإحرام منها، وإنما هو بيان لفضل الحجّة من تلك البلدة، فتنبّه.
(1)
"المغني" 5/ 68.
(2)
هذا هو الصواب، وقد صحح الحديث في "الترغيب والترهيب" 2/ 119 و 120، قال: رواه ابن ماجه بإسناد صحيح. وتصحيحه هذا غير صحيح؛ لما عرفت من اضطرابه، وجهالة حكيمة. فتنبّه. نبه على ذلك الشيخ الألباني في "الضعيفة" 1/ 248 رقم 211.
(3)
وأما تضعيف ابن قدامة له في "مغنيه" بابن أبي فُديك، وابن إسحاق، فليس كذلك، فإن الكلام فيهما لا يعلّ الحديث، فإنهما من رجال الصحيح، وإنما علة الحديث ما ذكرنا، فتنبّه.
(4)
راجع: "نيل الأوطار" 4/ 253.
فتبيّن بهذا أنه لا يصحّ في إباحة تقديم الإحرام على المواقيت شيء.
والحاصل أنه ليس لمن قال بإباحة تقديم الإحرام على الميقات دليلٌ، لا من نصّ، ولا من إجماع، بل هي اجتهادات ممن فعله، تُعارض ما صحّ عن الشارع الحكيم تحديده، مع أنه قد ثبت إنكار غيرهم عليهم فعلهم ذلك، فلا يُعارض به ما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ الحجة في فعله، وقوله، لا في فعل غيره، أو قوله.
فالقول الراجح هو ما ذهب إليه من قال بعدم جواز تقديم الإحرام على المواقيت المحدّدة، كإسحاق، والبخاريّ، وداود الظاهريّ، وابن حزم، كما تقدم، كما أنه لا يجوز تقديمه على المواقيت الزمانيّة بالإجماع، فكذا هذا، إذ لا فرق بينهما.
وما أحسن ما قال الشاطبيّ رحمه الله في كتابه "الاعتصام"، ومن قبله الهرويّ في "ذمّ الكلام" عن الزبير بن بكّار: قال: حدّثني ابن عُيينة، قال: سمعت مالك بن أنس، وأتاه رجل، فقال: يا أبا عبد الله، من أين أُحرم؟ قال: من ذي الحليفة، من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أريد أن أُحرم من المسجد، من عند القبر، قال: لا تفعل، فإني أخشى عليك الفتنة، فقال: فأيّ فتنة في هذه؟ إنما هي أميالٌ أزيدها، قال: وأيّ فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني سمعت الله يقول:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]. انتهى
(1)
.
فالواجب على المسلم أن يحرص على موافقة حجه، وعمرته أمر الشارع الحكيم؛ ليقع على الوجه المطلوب شرعًا، ولا يخالف بعلّة أن فلانًا قال كذا، وأن فلانًا فعل؛ إذ الحجة هو الذي صحّ عمن قال الله تعالى في حقّه:{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} الآية [النور: 54]، وقال:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، وقال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الآية [الحشر: 7]، وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
(1)
"الاعتصام" 1/ 167.
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]، وقال:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]، وقال:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} الآية [الأحزاب: 36]. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم مجاوزة الميقات من غير إحرام:
(اعلم): أنهم اختَلَفوا فيمن جاوز الميقات مريدًا للنسك، فلم يُحْرِم، فقال الجمهور: يأثم، ويلزمه دم، فأما لزوم الدم فبدليل غير هذا، وأما الإثم فلترك الواجب، وورد الحديث من طريق ابن عمر بلفظ:"فرضها"، وسيأتي بلفظ:"يُهِلّ"، وهو خبر بمعنى الأمر، والأمر لا يَرِدُ بلفظ الخبر، إلا إذا أريد تأكيده، وتأكيد الأمر للوجوب، وعند البخاريّ في "كتاب العلم" بلفظ:"من أين تأمرنا أن نُهِلّ؟ "، ويأتي للمصنّف من طريق عبد الله بن دينار، عن ابن عمر:"أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل المدينة. . ." الحديث.
وذهب عطاء، والنخعيّ إلى عدم الوجوب، ومقابله قول سعيد بن جبير: لا يصحّ حجه، وبه قال ابن حزم.
وقال الجمهور: لو رجع إلى الميقات قبل التلبس بالنسك سقط عنه الدم، قال أبو حنيفة: بشرط أن يعود ملبيًا، ومالك: بشرط أن لا يَبْعُد، وأحمد: لا يسقط بشيء، قاله في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن مجاوزة الميقات من غير إحرام لمن أراد النسك لا يجوز؛ لمخالفته أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم الوارد في الأحاديث الصحيحة، وأن ما ذهب إليه الجمهور من سقوط الدم عمن جاوز الميقات بغير إحرام، ثم رجع إلى الميقات هو الأرجح؛ لزوال السبب الموجب له، فتأمل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في ميقات أهل مكة للعمرة:
(1)
"الفتح" 5/ 398.
ذهب الجمهور إلى أن أهل مكة يجب عليهم الخروج إلى أدنى الحلّ؛ كالتنعيم، عملًا بقصّة عائشة رضي الله عنها، حيث أمرها النبيّ صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى التنعيم للعمرة.
قال الإمام أبو محمد بن حزم رحمه الله: ومن أراد العمرة - وهو بمكة - إما من أهلها، أو من غير أهلها، ففَرْضٌ عليه أن يخرج للإحرام بها إلى الحلّ، ولا بدّ، فيخرج إلى أي الحلّ شاء، ويهلّ بها؛ فلأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر بالخروج من مكة إلى التنعيم ليعتمر بها منه، واعتمر عليه السلام من الجعرانة، فوجب ذلك في العمرة خاصّة. انتهى
(1)
.
وقال العلّامة ابن قدامة عند قول الخرقيّ - رحمهما الله تعالى -: "وأهل مكة إذا أرادوا العمرة، فمن الحلّ، وإذا أرادوا الحجّ فمن مكة" ما حاصله: أهل مكة من كان بها، سواء كان مقيمًا بها، أو غير مقيم؛ لأن كل من أتى على ميقات كان ميقاتًا له، فكذلك كلّ من كان بمكة، فهي ميقاته للحجّ؛ وإن أراد العمرة، فمن الحلّ، لا نعلم في هذا خلافًا، ولذلك أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن أبي بكر أن يُعمر عائشة رضي الله عنها من التنعيم. متّفق عليه، وكانت بمكة يومئذ، والأصل في هذا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"حتى أهل مكة يهلّون منها"، يعني للحج، وقال أيضًا:"ومن كان أهله دون الميقات، فمن حيث يُنشئ، حتى يأتي ذلك على أهل مكة"، وهذا في الحج، فأما في العمرة فميقاتهم في حقّهم الحلّ، من أي الجوانب شاء؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بإعمار عائشة من التنعيم، وهو أدنى الحلّ إلى مكة.
وقال ابن سيرين: بلغني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وقّت لأهل مكة التنعيم.
وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما: يا أهل مكة من أتى منكم العمرة، فليجعل بينه وبينها بطن محسّر، يعني إذا أحرم بها من ناحية المزدلفة.
وإنما لزم الإحرام من الحلّ ليجمع في النسك بين الحلّ والحرم، فإنه لو أحرم من الحرم لَمَا جمع بينهما فيه؛ لأن أفعال العمرة كلها في الحرم،
(1)
راجع: "المحلّى" 7/ 98 - 99.
بخلاف الحجّ، فإنه يفتقر إلى الخروج إلى عرفة، فيجتمع له الحلّ والحرم، والعمرة بخلاف ذلك.
ومن أيّ الحلّ أحرم جاز، وإنما أعمر النبيّ صلى الله عليه وسلم عائشة من التنعيم لأنه أقرب الحلّ إلى مكة. انتهى كلام ابن قدامة رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن ميقات أهل مكة للعمرة هو الحلّ، سواء كان التنعيم، أو غيره، فيكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"حتى أهل مكة من مكة للحجّ والعمرة" محمول على الحج المفرد، والقران، لا على العمرة، بدليل عمرة عائشة رضي الله عنها من التنعيم؛ ولم يخالف في هذا أحد من أهل العلم.
وأما ما قاله الصنعاني - بعد أن نقل كلام المحبّ الطبريّ أنه لا يعلم أحدًا جعل مكة ميقاتًا للعمرة في حقّ المكيّ -: ما حاصله جوابه أنه صلى الله عليه وسلم جعلها ميقاتًا لها بهذا الحديث، ثم ذكر أثر ابن عباس المتقدم، وقوله أيضًا:"من أراد من أهل مكة أن يعتمر خرج إلى التنعيم، ويجاوز الحرم"، قال: فأجاب عنه بأنها آثار موقوفة لا تقاوم المرفوع.
قال: وأما ما ثبت من أمره صلى الله عليه وسلم لعائشة بالخروج إلى التنعيم لتحرم بعمرة، فلم يُرد إلا تطييب قلبها بدخولها إلى مكة معتمرة كصواحباتها إلى آخر كلامه، فجوابه كما يلي:
أما قوله: جوابه أنه صلى الله عليه وسلم جعلها ميقاتًا إلخ، فجوابه نعم، إنه صلى الله عليه وسلم جعلها ميقاتًا للمفرد بالحج، وللقارن، وأما العمرة فجعل الحلّ ميقاتًا لها، بدليل حديث عائشة رضي الله عنها، يؤيد ذلك أثر ابن عباس رضي الله عنهما، وما أخرجه الفاكهيّ وغيره عن محمد بن سيرين، قال: بلغنا: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقّت لأهل مكة التنعيم"، وعن عطاء قال: من أراد العمرة ممن هو من أهل مكة أو غيرها، فليخرج إلى التنعيم، أو إلى الجعرانة، فليُحرم منها.
وأثر ابن سيرين وإن كان مرسلًا إلا أنه اعتضد بقول ابن عباس، وبقول أهل العلم كافّة، كما تقدم عن المحبّ الطبريّ أنه لا يعلم في ذلك خلافًا،
(1)
راجع: "المغني" 5/ 59 - 60.
والمرسل إذا اعتضد يكون حجة، كما هو معلوم في مصطلح أهل الحديث.
وأما قوله: إنه صلى الله عليه وسلم أعمر عائشة من التنعيم تطييبًا لقلبها، فمما لا ينبغي لمثله أن يقوله، فهل النبيّ صلى الله عليه وسلم يطيّب قلبها بخلاف ما شرعه الله تعالى؟ كلّا، ثم كلّا، فلو لم يكن الاعتمار من التنعيم هو المشروعَ لَمَا أمرها به.
وحاصل أمر عائشة رضي الله عنها، أنها ممن شمله التوقيت المتقدّم؛ لأننا إن قلنا: إنها آفاقية، فميقاتها ذو الحليفة، وإن قلنا: إنها مكية - وهو الحقّ؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "حتى أهل مكة من مكة" يشمل المقيم بها، والوارد إليها، بدليل أن الصحابة الذين فسخوا الحج بعمل العمرة من أهل المدينة أهلّوا من مكة بأمره صلى الله عليه وسلم فميقاتها مكة، فلما أمرها بالإحرام من التنعيم علمنا أن ميقات أهل مكة للعمرة هو الحلّ، وإنما لم نقل بتعيّن التنعيم ميقاتًا، لقول عائشة رضي الله عنها، كما رواه الطحاويّ، من طريق ابن أبي مليكة عنها، أنها قالت:"وكان أدنانا من الحرم التنعيم، فاعتمرت منه"، فدلّ على أن المقصود هو الخروج إلى الحلّ مطلقًا.
والحاصل أن ميقات أهل مكة للعمرة المفردة من التنعيم، أو غيره من الحلّ، لا يجوز غير ذلك، وأما المفرد بالحجّ، أو القارن، فميقاتهم مكة؛ عملًا بما صحّ لدينا من الأحاديث في كلّ ذلك، دون أن يكون هناك اختلاف بينها، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: اختلفوا هل يتعيّن التنعيم لمن اعتمر من مكة؟ قال الطحاويّ رحمه الله: ذهب قوم إلى أنه لا ميقات للعمرة لمن بمكة إلا التنعيم، ولا ينبغي مجاوزته، كما لا ينبغي مجاوزة المواقيت التي للحجّ.
وخالفهم آخرون، فقالوا: ميقات العمرة الحلّ، وإنما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم عائشة بالإحرام من التنعيم؛ لأنه كان أقرب الحلّ من مكة، ثم روى من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة في حديثها، قال:"وكان أدنانا من الحرم التنعيم، فاعتمرت منه"، فثبت بذلك أن ميقات مكة للعمرة الحلّ، وأن التنعيم وغيره في ذلك سواء. ذكره في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
"الفتح" 4/ 443.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2804]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، وَقَالَ: "هُنَّ لَهُمْ، وَلِكُلِّ آتٍ أَتَى عَلَيْهِنَّ، مِنْ غَيْرِهِنَّ، مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ، فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(يَحْيَى بْنُ آدَمَ) بن سليمان الأمويّ مولاهم، أبو زكريّا الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ، من كبار [9](ت 203)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
3 -
(وُهَيْبُ) بن خالد بن عجلان الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، تغيّر قليلًا بآخره [7](ت 165) أو بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ طَاوُسٍ) بن كيسان، أبو محمد اليمانيّ، ثقةٌ فاضلٌ عابدٌ [6](ت 132)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (وَقَالَ: هُنَّ لَهُمْ) أي: المواقيت المذكورة لأهل البلاد المذكورة، ووقع في رواية أخرى بلفظ:"هنّ لهنّ" أي: المواقيت للجماعات المذكورة، أو لأهلهن على حذف المضاف، والأول هو الأصل، ووقع أيضًا بلفظ:"هنّ لأهلهنّ"، وقوله:"هنّ" ضمير جماعة المؤنث، وأصله لمن يعقل، وقد استُعْمِل فيما لا يعقل، لكن فيما دون العشرة، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقوله: (وَلِكُلِّ آتٍ أَتَى عَلَيْهِنَّ، مِنْ غَيْرِهِنَّ) ولكلّ من أتى عليهنّ أي: على المواقيت من غير أهل البلاد المذكورة.
(1)
"الفتح" 5/ 396.
وقوله: (مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) فيه دلالة على جواز دخول مكة بغير إحرام.
وقوله: (وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ) أي: بين الميقات ومكة.
وقوله: (فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ) أي: فميقاته من حيث أنشأ الإحرام؛ إذ السفر من مكانه إلى مكة، وهذا متفق عليه، إلا ما رُوي عن مجاهد أنه قال: ميقات هؤلاء نفس مكة.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فمن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ"؛ أي: من كان منزله دون المواقيت إلى مكة فيحرم من منزله، فخفف عنه الخروج إلى الميقات، وحينئذ يصير منزله ميقاتًا خاصًّا به؛ إذا ابتدأ الإحرام منه، فلو مرَّ من منزله بعد المواقيت بميقات من المواقيت المعينة العامة، وهو يريد الإحرام، وجب عليه أن يحرم منه، ولا يؤخر الإحرام إلى بيته لقوله صلى الله عليه وسلم:"هن لهن، ولكل آت أتى عليهن من غيرهن"، ويخالف هذا من كان ميقاته الجحفة ومرَّ بذي الحليفة؛ فإن له أن يؤخر الإحرام إلى الجحفة؛ لأن الجحفة ميقات منصوب نصبًا عامًا، لا يتبدل، بخلاف المنزل، فإنه إضافي، يتبدل بتبدل الساكن، فانفصلا، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
وقوله: (حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ) يجوز في "أهلِ" الرفع والجرّ، كما سبق.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "حتى أهل مكة من مكة"؛ يعني: أنهم يهلون منها، ولا يخرجون إلى ميقات من المواقيت المذكورة، فأما الإحرام بالحج فيصح من البلد نفسه ومن أي موضع كان من الحل أو الحرم، وأما العمرة فلا بدَّ فيها من الجمع بين الحل والحرم. انتهى
(2)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
"المفهم" 3/ 264 - 265.
(2)
"المفهم" 3/ 265.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2805]
(1182) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَأهْلُ الشَّامِ مِنَ الْجُحْفَةِ، وَأَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ". قَالَ عَبْدُ اللهِ: وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ").
رجال هذا الإسناد: أربعة، وقد تقدّم نفس السند في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (175) من رباعيّات الكتاب.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ) أي: بعد أن سأله سائل عن محلّ الإهلال، ففي رواية النسائيّ، من طريق الليث، عن نافع:"أن رجلًا قام في المسجد، فقال: يا رسول اللَّه، من أين تأمرنا أن نُهلّ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُهلّ أهل المدينة من ذي الحليفة. . .".
("يُهِلُّ) بضمّ الياء، من الإهلال، يقال: أهلّ المحرم: إذا رفع صوته بالتلبية، وكلّ من رفع صوته، فقد أهلّ إهلالًا، واستَهَلّ استهلالًا، بالبناء للفاعل فيهما. قاله في "المصباح".
وهو خبر بمعنى الأمر؛ لأن خبر الشارع آكد في الطلب من الأمر، والمراد به أنه لا يقدّم الإهلال، ولا يؤخّر عن هذه المواقيت، وبهذا قال بعض أهل العلم، وهو الراجح عندي كما تقدَّم تحقيقه، وقال الجمهور: المراد أنه لا يؤخّر عنها، إذ التقديم عندهم جائز. (أَهْلُ الْمَدِينَةِ) النبويّة، وكذا من مرّ عليها من غير أهلها (مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَأَهْلُ الشَّامِ مِنْ الْجُحْفَةِ، وَأَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ"، قَالَ عَبْدُ اللهِ) بن عمر رضي الله عنهما (وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ") وفي رواية سالم التالية: "قال ابن عمر رضي الله عنهما: وذُكِر لي، ولم أسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ويهلّ إلخ"، وفي الراوية التي بعدها: "زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أسمع ذلك منه قال: ومُهلّ أهل اليمن يلملم"، ورواية عبد الله بن دينار: "وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: وأخبرتُ أنه قال: ويُهلّ. . . إلخ".
وهذا كلّه يشعر بأن الذي بَلَّغَ ابن عمر ذلك جماعةٌ، وقد ثبت ذلك من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما الماضي، ومن حديث جابر رضي الله عنهما الآتي، ومن حديث عائشة رضي الله عنها عند النسائيّ، ومن حديث الحارث بن عمرو السهميّ عند أحمد، وأبي داود، والنسائيّ، أفاده في "الفتح"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 2805 و 2806 و 2807 و 2808](1182)، و (البخاريّ) في "العلم"(133) و"الحج"(1522 و 1525 و 1528) و"الاعتصام بالكتاب والسنة"(7344)، و (أبو داود) في "المناسك"(1737)، و (الترمذيّ) في "الحجّ"(831)، و (النسائيّ) في "المناسك"(5/ 122 و 125) و"الكبرى"(2/ 328 و 329 و 4/ 454)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(2914)، و (مالك) في "الموطّإ"(732)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 279 و 288)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 280)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 9 و 47 و 48 و 55 و 65 و 82 و 130 و 151)، و (الدارميّ) في "سننه"(1790)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2589)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3759 و 3760 و 3761)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 117 و 119)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 364 و 10/ 180)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 429)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 268 - 269)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 26) و"المعرفة"(3/ 528 و 529)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2806]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَن الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَيُهِلُّ أَهْلُ الشَّامِ مِنَ الْجُحْفَةِ، وَيُهِلُّ أَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ". قَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: وَذُكِرَ لِي، وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ").
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
وكلّهم تقدّموا في الباب الماضي، و"ابْنُ أَبِي عُمَرَ" هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، و"سُفْيَانُ" هو: ابن عيينة، و"سالم" هو: ابن عمر.
وقوله: (وَذُكِرَ لِي، وَلَمْ أَسْمَعْ. . . إلخ) هو بمعنى قوله الماضي: "وبلغني. . . إلخ".
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2807]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مُهَلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ذُو الْحُلَيْفَةِ، وَمُهَلُّ أَهْلِ الشَّامِ مَهْيَعَةُ، وَهِيَ الْجُحْفَةُ، وَمُهَلُّ أَهْلِ نَجْدٍ قَرْنٌ". قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: وَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ أَسْمَعْ ذَلِكَ مِنْهُ، قَالَ: "وَمُهَلُّ أَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) تقدّم قريبًا.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله، تقدَّم أيضًا قريبًا.
3 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: ("مُهَلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ") بضمّ الميم، وفتح الهاء، وتشديد اللام؛ أي: موضع إهلالهم.
وقوله: (مَهْيَعَةُ) بوزن عَلْقَمة، وقيل: بوزن لَطِيفة، قاله في "الفتح"، وقال النوويّ رحمه الله: هي بفتح الميم، وإسكان الهاء، وفتح المثناة تحتُ، وحَكَى القاضي عياض عن بعضهم كسر الهاء، والصحيح المشهور إسكانها، وهي على نحو ثلاث مراحل من مكة على طريق المدينة. انتهى
(1)
.
وقوله: (وَهِيَ الْجُحْفَةُ) تفسير للمراد بالمهيعة، قال في "الفتح": وسُمّيت الجحفة؛ لأن السيل أجحف بها، قال ابن الكلبيّ: كان العماليق يسكنون يَثْرِب، فوقع بينهم وبين بني عَبِيل - بفتح المهملة، وكسرة الموحدة - وهم إخوة عاد حَرْبٌ، فأخرجوهم من يثرب، فنزلوا مَهْيَعة، فجاء سيل فاجتحفهم؛ أي: استأصلهم، فسميت الجحفة. انتهى
(2)
.
وقوله: (وَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ أَسْمَعْ ذَلِكَ مِنْهُ قَالَ. . . إلخ) معنى "زعموا"؛ أي: قالوا، والزعم يُستعمَل بمعنى القول المحقَّق، وقوله:"ولم أسمعه" جملة معترضة بين اسم "أنّ" وخبرها، وهو "قال".
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2808]
(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرُونَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَنْ يُهِلُّوا مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَأَهْلَ الشَّامِ مِنَ الْجُحْفَةِ، وَأَهْلَ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ، وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: وَأخْبِرْتُ أَنَّهُ قَالَ: "وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ، تقدّم قريبًا.
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 81.
(2)
"الفتح" 3/ 385.
2 -
(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير، تقدّم قريبًا.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ) تقدّم في الباب الماضي.
والباقون ذُكروا في الباب.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديثين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2809]
(1183) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ؛ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما يُسْأَلُ عَنْ الْمُهَلِّ، فَقَالَ: سَمِعْتُ، ثُمَّ انْتَهَى، فَقَالَ: أُرَاهُ، يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن راهويه، تقدّم قبل باب.
2 -
(رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ) تقدّم قريبًا.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس، تقدّم في الباب الماضي.
5 -
(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له ابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمكيين من ابن جريج، وجابر رضي الله عنه سكن مكة، وأما شيخه فمروزيّ، وروح فبصريّ.
4 -
(ومنها): أنه مسلسل بالتحديث والإخبار، والسماع من أوله إلى آخره.
5 -
(ومنها): أن جابرًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.
شرح الحديث:
عن أبي الزُّبَيْرِ (أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما يُسْأَلُ) بالبناء للمفعول؛ أي: يسأله الناس (عَنْ الْمُهَلِّ) بضمّ الميم، وفتح الهاء، وتشديد اللام: اسم لموضع الإهلال، وهو رفع الصوت بالتلبية، والمراد به محلّ إنشاء الإحرام (فَقَالَ: سَمِعْتُ، ثُمَّ انْتَهَى، فَقَالَ: أُرَاهُ، يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) قال النوويّ رحمه الله: معنى هذا الكلام أن أبا الزبير قال: سمعت جابرًا، ثم انتهى؛ أي: وقف عن رفع الحديث إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال:"أُراه" بضم الهمزة؛ أي: أظنه رفع الحديث، فقال:"أراه يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم"، كما قال في الرواية الأخرى:"أحسبه رفع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وقوله:"أحسبه رفع" لا يحتج بهذا الحديث مرفوعًا؛ لكونه لم يجزم برفعه. انتهى
(1)
.
وقوله في الرواية التالية: (وَمُهَلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ) أي: موضع إنشاء إحرامهم بالحجّ، أو العمرة، و"العراق": - بكسر العين المهملة، وتخفيف الراء -: إقليم معروف، ويذكّر، ويؤنّث، قيل: هو معرّب، وقيل: سمي عِرَاقًا؛ لأنه سَفَلَ من نجد، ودنا من البحر، أخذًا من عِرَاق الْقِرْبَة، والْمَزَادَة، وغير ذلك، وهو ما ثَنَوْهُ، ثم خَرَزُوه مَثْنِيًّا، وينسب إلى العراق على لفظه، فيقال: عراقيّ، والاثنان عراقيّان، وللشافعيّ رحمه الله تصنيف لطيفٌ، نَصَب الخلاف فيه مع أبي حنيفة، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، واختار ما رَجَحَ عنده دليله، ويسمّى اختلاف العِرَاقِيَّين؛ لأن كلّ واحد منهما منسوب إلى العراق، فهما عراقيّان، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(2)
.
فقوله: "مُهَلُّ" مبتدأ خبره قوله: (مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ) - بكسر العين المهملة، وسكون الراء، بعدها قاف -: موضع على نحو مرحلتين من مكة، ويقال: هو من نجد الحجاز، أفاده الفيّوميّ رحمه الله.
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 86.
(2)
راجع: "المصباح المنير" في مادة: "عرق".
وقال غيره: سُمّي الموضع بذلك؛ لأن فيه عِرْقًا، وهو الجبل الصغير، وهي أرض سبخة، تُنبت الطَّرْفاء، وقيل: العِرْق من الأرض السبخة، تُنبت الطرفاء. ويُسمى الضَّريبة - بفتح الضاد، وكسر الراء، بعدها ياء، ثم باء - وهي الحدّ الفاصل بين تهامة، ونجد، وتبعد عن مكة بالمراحل (2) وبالفراسيخ (16) وبالأميال (48) وبالكيلوات (80) ويحرم منه الآن أهل العراق، وإيران، وحجاج الشرق كله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 2809 و 2810](1183)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(2915)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 114)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 181 و 3/ 333 و 336)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2592)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 429)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 270)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 118)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 27)؛ و"المعرفة"(3/ 530)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في مُهَلّ أهل العراق:
(اعلم): أنه اتفق أهل العلم على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَصّ على المواقيت الأربعة المذكورة في حديث ابن عبّاس، وابن عمر رضي الله عنهم، وهي ذو الحليفة، والجحفة، وقرن، ويلملم.
واختلفوا في ذات عرق، هل صارت ميقاتًا لأهل العراق بتوقيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونصّه، أم باجتهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟
قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب ذات عرق لأهل العراق".
1531 -
حدّثني علي بن مسلم، حدّثنا عبد الله بن نمير، حدّثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: لَمّا فُتِح هذان المصران، أتوا عمر،
فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حَدَّ لأهل نجد قرنًا، وهو جَوْرٌ عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرنًا، شَقّ علينا، قال:"فانظروا حَذْوَها من طريقكم، فَحَدَّ لهم ذات عرق".
قال الحافظ رحمه الله: وظاهره أن عمر رضي الله عنه حدّ لهم ذات عِرْق باجتهاد منه.
وقد روى الشافعيّ من طريق أبي الشعثاء، قال:"لم يوقّت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق شيئًا، فاتخذ الناس بحيال قرن ذات عرق".
ورَوَى أحمد عن هُشيم، عن يحيى بن سعيد وغيره، عن نافع، عن ابن عمر، فذكر حديث المواقيت، وزاد فيه:"قال ابن عمر: فآثر الناس ذات عرق على قرن"، وله عن سفيان، عن صدقة، عن ابن عمر، فذكر حديث المواقيت، "قال: فقال له قائل: فأين العراق؟ فقال ابن عمر: لم يكن يومئذ عراق".
وفي "كتاب الاعتصام" من "صحيح البخاريّ" من طريق عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال:"لم يكن عراق يومئذ".
ووقع في "غرائب مالك" للدارقطنيّ، من طريق عبد الرزّاق، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر قال:"وقّت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل العراق قرنًا"، قال عبد الرزاق: قال لي بعضهم: إن مالكًا محاه من كتابه، قال الدارقطنيّ: تفرّد به عبد الرزّاق، قال الحافظ: والإسناد إليه ثقات أثبات.
وأخرجه إسحاق ابن راهويه في "مسنده" عنه، وهو غريبٌ جدًّا، وحديث الباب يردّه.
وروى الشافعيّ من طريق طاوسًا، قال:"لم يوقّت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات عرق، ولم يكن حينئذ أهل المشرق"، وقال في "الأمّ":"لم يثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه حدّ ذات عرق، وإنما أجمع عليه الناس".
وهذا كلّه يدلّ على أن ميقات ذات عرق ليس منصوصًا، وبه قطع الغزاليّ، والرافعيّ في "شرح المسند"، والنوويّ في "شرح مسلم"، وكذا وقع في "المدوّنة" لمالك.
وصحح الحنفيّة، والحنابلة، وجمهور الشافعيّة، والرافعيّ في "الشرح الصغير"، والنوويّ في "شرح المهذّب" أنه منصوص، وقد وقع ذلك في حديث جابر رضي الله عنه عند مسلم، إلا أنه مشكوك في رفعه، أخرجه من طريق ابن جريج،
أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرًا يُسألُ عن الْمُهَلّ، فقال: سمعت أحسبه رفع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر، وأخرجه أبو عوانة في "مستخرجه" بلفظ:"فقال: سمعت أحسبه يريد النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وقد أخرجه أحمد من رواية ابن لَهِيعة، وابنُ ماجه من رواية إبراهيم بن يزيد كلاهما، عن أبي الزبير، فلم يشكّا في رفعه.
ووقع في حديث عائشة، وفي حديث الحارث بن عمرو السهميّ كلاهما عند أحمد، وأبي داود، والنسائيّ.
وهذا يدلّ على أن للحديث أصلًا، فلعلّ من قال: إنه غير منصوص لم يبلغه، أو رأى ضعف الحديث باعتبار أن كلّ طريق لا يخلو عن مقال، ولهذا قال ابن خزيمة: رُويت في ذات عرق أخبارٌ لا يثبت شيء منها عند أهل الحديث، وقال ابن المنذر: لم نجد في ذات عرق حديثًا ثابتًا. انتهى.
قال الحافظ: لكن الحديث بمجموع الطرق يَقْوَى كما ذكرنا.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الحافظ إنما هو بالنسبة لحديث جابر، وإلا فحديث عائشة رضي الله عنها الذي عند النسائيّ صحيح، لا كلام فيه، قال ابن حزم في "المحلّى" - بعد أن أخرج الحديث من طريق النسائيّ - ما نصّه: قال أبو محمد: هشام بن بهرام، ثقة، والمعافى ثقة، كان سفيان يسميه الياقة الحمراء، وباقيهم أشهر من ذلك. انتهى
(1)
.
والحاصل أن حديث عائشة رضي الله عنها صحيح لا كلام عليه، والله تعالى أعلم.
قال الحافظ: وأما إعلال من أعلّه بأن العراق لم تكن فُتحت يومئذ، فقال ابن عبد البرّ: هي غفلة؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم وقّت المواقيت لأهل النواحي قبل الفتوح، لكنه علم أنها ستفتح، فلا فرق في ذلك بين الشام والعراق. انتهى، وبهذا أجاب الماورديّ، وآخرون.
قال الحافظ: لكن يظهر لي أن مراد من قال: لم يكن العراق يومئذ؛ أي: لم يكن في تلك الجهة ناسٌ مسلمون، والسبب في قول ابن عمر ذلك، أنه روى الحديث بلفظ: "أن رجلًا قال: يا رسول الله، من أين تأمرنا أن
(1)
راجع: "المحلّى" 7/ 71.
نُهلّ؟ "، فأجابه، وكلّ جهة عيّنها في حديث ابن عمر كان من قبلها ناس مسلمون، بخلاف المشرق، والله أعلم. انتهى.
وقال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: روى مسلم في "صحيحه" عن أبي الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يُسأل عن الْمُهلّ؟ فقال: سمعت أحسبه رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث، وفيه:"ومهلّ أهل العراق من ذات عرق"، وقال النووي في "شرح مسلم": هو غير ثابت؛ لعدم جزمه برفعه.
وأما قول الدارقطنيّ: إنه حديث ضعيف؛ لأن العراق لم تكن فُتحت في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكلامه في تضعيفه صحيح، ودليله ما ذكرته، وأما استدلاله لضعفه بعدم فتح العراق، ففاسد؛ لأنه لا يمتنع أن يُخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم لعلمه بأنه سيفتح، ويكون ذلك من معجزات النبوّة، والإخبارِ بالمغيّبات المستقبلات، كما أنه صلى الله عليه وسلم وقّت لأهل الشام الجحفة في جميع الأحاديث الصحيحة، ومعلوم أن الشام لم يكن فتح يومئذ، وقد ثبتت الأحاديث الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بفتح الشام، واليمن، والعراق، وأنهم يأتون إليهنّ يبِسّون، والمدينة خيرٌ لهم، لو كانوا يعلمون، وأنه عليه السلام أخبر بأنه زُويت له مشارق الأرض، ومغاربها، وقال: سيبلغ ملك أمتي ما زُوي لي منها، وأنهم سيفتحون مصر، وهي أرض يُذكر فيها القيراط، وأن عيسى عليه السلام ينزل على المنارة البيضاء، شرقيَّ دمشق، وكلّ هذه الأحاديث في "الصحيح". انتهى.
وقال في "شرح المهذّب": إسناده صحيح، لكنه لم يجزم برفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلا يثبت رفعه لمجرّد هذا، ورواه ابن ماجه من رواية إبراهيم بن يزيد الْخُوزيّ بإسناده عن جابر، مرفوعًا بغير شكّ، بلفظ:"أهل المشرق"، لكن الْخُوزيّ ضعيف، لا يُحتجّ بروايته، ورواه الإمام أحمد في "مسنده" عن جابر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بلا شكّ أيضًا، لكنه من رواية الحجّاج بن أرطاة، وهو ضعيف.
قال وليّ الدين: في قول النوويّ: "إن حديث جابر غير ثابت؛ لأنه لم يجزم برفعه" نظر، فإن قوله:"أحسبه" معناه أظنه، والظنّ في باب الرواية يتنزّل منزلة اليقين، فليس ذلك قادحًا في رفعه. وأيضًا فلو لم يصرّح برفعه، لا يقينًا، ولا ظنًّا، فهو منزّل منزلة المرفوع؛ لأن هذا لا يقال من قبل الرأي، وإنما
يؤخذ توقيفًا من الشارع، لا سيّما وقد ضمّه جابر رضي الله عنه إلى المواقيت المنصوص عليها يقينًا باتفاق.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قول وليّ الدين: والظن في باب الرواية إلخ فيه نظر لا يخفى؛ إذ كثيرًا ما يردّ المحدّثون أحاديث كثيرة لعدم جزم راويها، كما لا يخفى على من تتبّع كتب السنّة، وكذا قوله: لا يقال من قبل الرأي إلخ فيه نظر أيضًا؛ إذ يشكل عليه تحديد عمر رضي الله عنه ذات عرق بالاجتهاد، فليُتأمّل.
قال: وروى أبو داود، والنسائيّ بإسناد صحيح، كما قال النوويّ، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"وَقَّت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الْحُليفة، ولأهل الشام ومصر الْجُحفة، ولأهل العراق ذات عرق، ولأهل نجد قرنًا، ولأهل اليمن يلملم".
قال: وذكر ابن عديّ، عن يحيى بن محمد بن صاعد أن الإمام أحمد كان يُنكر على أفلج بن حُميد هذا الحديث، قال ابن عديّ: قد حدّث عنه ثقات الناس، وهو عندي صالح، وأحاديثه أرجو أن تكون مستقيمة كلّها، وهذا الحديث ينفرد به مُعافَى بن عمران عنه، وإنكار أحمد قوله:"ولأهل العراق ذات عرق"، ولم ينكر الباقي من إسناده ومتنه. انتهى.
وصححه أبو العباس القرطبيّ، وقال الذهبيّ: هو صحيح غريب، وقال العراقيّ: إن إسناده جيّدٌ.
وروى أبو داود أيضًا عن الحارث بن عمرو السهميّ حديثًا، وفيه:"ووقّت - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات عرق لأهل العراق"، قال البيهقيُّ: في إسناده من هو غير معروف.
قال وليّ الدين: زُرارة بن كَرِيم - بفتح الكاف - رَوَى عنه جماعة، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، والراوي عنه في سنن أبي داود عتبة بن عبد الملك كذلك، وباقي رجاله لا يحتاج إلى الفحص عنهم، فليس في إسناده من هو غير معروف، فإن كان فيهم من ليس معروفًا عند البيهقيّ، فهو معروف عند غيره.
وروى أحمد، والدارقطنيّ من رواية الحجّاج بن أرطاة، عن عمرو بن
شُعيب، عن أبيه، عن جدّه، قال:"وقّت رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فذكر الحديث، وفيه:"وقال: لأهل العراق ذات عرق".
وروى الشافعيّ، والبيهقيّ بإسناد حسن، عن عطاء، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا:"أنه وقّت لأهل المشرق ذات عرق".
قال الحافظ وليّ الدين: فهذه الأحاديث التي ذكرتها، وإن كان في كلّ منها ضعف، فمجموعها لا يقصر عن بلوغ درجة الاحتجاج به، وكذا ذكره النوويّ في "شرح المهذّب"، فالأرجح عندي أنه منصوص أيضًا.
قال ابن قُدامة: ويجوز أن يكون عمر، ومن سأله لم يعلموا توقيت النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات عرق، فقال ذلك برأيه، فأصاب، ووافق قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد كان كثير الإصابة رضي الله عنه. اهـ. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن توقيت النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات عرق لأهل العراق صحيح؛ لصحّة حديث عائشة رضي الله عنها عند أبي داود والنسائيّ، كما سلف آنفًا، وأما حديث جابر رضي الله عنه المذكور عند مسلم في هذا الباب، فليس بصحيح؛ لوقوع الشك في رفعه، فتبصّر، وبالله تعالى التوفيق.
[تنبيه]: قال في "الفتح": وأما ما أخرجه أبو داود، والترمذيّ، من وجه آخر عن ابن عبّاس: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وقّت لأهل المشرق العقيق
(2)
". فقد تفرّد به يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف، وإن كان حَفِظه فقد جُمِع بينه وبين حديث جابر وغيره بأجوبة:
(منها): أن ذات عرق ميقات الوجوب، والعقيق ميقات الاستحباب؛ لأنه أبعد من ذات عرق.
(1)
راجع: "طرح التثريب" 5/ 12 - 14.
(2)
العقيق المذكور هنا واد يتدفّق ماؤه في غور تهامة، وهو غير العقيق المذكور في حديث عمر الذي أخرجه البخاريّ في "صحيحه"، عن عكرمة، أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول: إنه سمع عمر رضي الله عنه يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: "أتاني الليلة آت من ربي، فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة". أفاده في "الفتح" 4/ 169.
(ومنها): أن العقيق ميقات لبعض العراقيين، وهم أهل المدائن، والآخر ميقات لأهل البصرة، وقع ذلك في حديث لأنس عند الطبرانيّ، وإسناده ضعيف.
(ومنها): أن ذات عرق كانت أَوّلًا في موضع العقيق الآن، ثم حُوّلت، وقربت إلى مكة، فعلى هذا، فذات عرق، والعقيق شيء واحد. ويتعيّن الإحرام من العقيق، ولم يقل به أحد، وإنما قالوا: يستحبّ احتياطًا.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه التأويلات كلها لا حاجة إليها؛ لأن الحديث ضعيفٌ كما سبق، فلماذا هذه التأويلات المتكلّفة؟ والله المستعان.
قال: وحَكَى ابن المنذر عن الحسن بن صالح أنه كان يُحرم من الرَّبَذَة، وهو قول القاسم بن عبد الرحمن، وخُصيف الجزريّ، قال ابن المنذر: وهو أشبه في النظر، إن كانت ذات عرق غير منصوصة، وذلك أنها تُحاذي ذا الحليفة، وذات عرق بعدها، والحكم فيمن ليس له ميقات أن يحرم من أول ميقات يحاذيه، لكن لما سنّ عمر ذات عرق، وتبعه عليه الصحابة، واستمرّ عليه العمل، كان أولى بالاتباع. انتهى ما في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد عرف أن الصحيح توقيت النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات عرق لأهل العراق، وأما عمر فلما لم يبلغه ذلك، اجتهد، فأصاب المنصوص، وقد كان رضي الله عنه موفّقًا في كثير من اجتهاداته، كما هو مشهور في "الصحيحين"، وغيرهما، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه آخر]: قال في "الفتح" أيضًا ما حاصله: استُدلّ بتحديد عمر رضي الله عنه ذات عرق على أن من ليس له ميقات أن عليه أن يحرم إذا حاذى ميقاتًا من هذه المواقيت الخمسة، ولا شكّ أنها محيطة بالحرم، فذو الحليفة شاميّة، ويلملم يمانية، فهي مقابلها، وإن كانت إحداهما أقرب إلى مكة من الأخرى، وقرن شرقيّة، والجحفة غربيّة، فهي مقابلها، وإن كانت إحداهما كذلك، وذات عرق تحاذي قرنًا، فعلى هذا فلا تخلو بقعة من بقاع الأرض من أن تحاذي
(1)
"الفتح" 4/ 168.
ميقاتًا من هذه المواقيت، فبطل قول من قال: من ليس له ميقات، ولا يحاذي ميقاتًا، هل يحرم من مقدار أبعد من المواقيت، أو أقربها؟ ثم حكى فيه خلافًا، والفرض أن هذه الصورة لا تتحقّق؛ لما قلته، إلا أن يكون قائله فرضه فيمن لم يَطّلِع على المحاذاة، كمن يجهلها.
وقد نقل النوويّ في "شرح المهذّب" أنه يلزمه أن يُحرم على مرحلتين، اعتبارًا بقول عمر هذا في توقيته ذات عرق.
وتُعُقّب بأن عمر إنما حدّها لأنها تحاذي قرنًا، وهذه الصورة إنما هي حيث يجهل المحاذاة، فلعلّ القائل بالمرحلتين أخذ بالأقلّ؛ لأن ما زاد عليه مشكوك فيه، لكن مقتضى الأخذ بالاحتياط أن يعتبر الأكثر الأبعد.
ويحتمل أن يفرّق بين من عن يمين الكعبة، وبين من عن شمالها؛ لأن المواقيت التي عن يمينها أقرب من التي عن شمالها، فيقدر لليمين الأقرب، وللشمال الأبعد، والله أعلم.
ثم إن مشروعية المحاذاة مختصّة بمن ليس له أمامه ميقات معيّنٌ، فأما من له ميقات معيّن، كالمصريّ مثلًا يمرّ ببدر، وهي تحاذي ذا الحليفة، فليس عليه أن يحرم منها، بل له التأخير حتى يأتي الجحفة، والله تعالى أعلم. انتهى ما في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه الجمهور من أن من ليس له ميقات معيّن إذا لم يأت على ميقات من المواقيت المذكورة عليه أن يحرم من حذاء أقرب المواقيت إلى طريقه هو الحقّ؛ لما تقدّم من أثر عمر رضي الله عنه، فقد وافقه عليه الصحابة رضي الله عنهم، فيما وقّت به ذات عرق، حيث أمر أهل العراق بأن ينظروا حذو قرن من طريقهم، فيحرموا منه.
وأما قول ابن حزم: إنه يحرم من حيث شاء؛ وادَّعَى أنه يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن كان دون ذلك إلخ" فبعيد؛ لأنه ليس دون المواقيت المذكورة، فكيف يتناوله الحديث؟ بل ما دلّ عليه ما نُقل عن عمر رضي الله عنه، ووافقه الصحابة عليه هو الصواب.
(1)
راجع: "الفتح" 4/ 166 - 169.
لأننا وإن قلنا بصحة توقيت ذات عرق مرفوعًا، إلا أن عمر رضي الله عنه لما لم يسمع النصّ قال:"انظروا حذوها من طريقكم"، ووافقه الصحابة الذين لم يسمعوا التوقيت من النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، فهو أولى بالاتباع، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
(1)
[2810](. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَكْرٍ، قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ: أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما يُسْأَلُ عَن الْمُهَلِّ، فَقَالَ: سَمِعْتُ، أَحْسَبُهُ رَفَعَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "مُهَلُّ أهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ الْجُحْفَةُ
(2)
، وَمُهَلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ، وَمُهَلُّ أهْلِ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ، وَمُهَلُّ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ) بن ميمون، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الْكِسّيّ، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ) الْبُرْسانيّ، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (فَقَالَ: سَمِعْتُ) فاعل "قال" ضمير جابر رضي الله عنه؛ أي: قال جابر: "سمعت"، ثم شكّ أبو الزبير في رفع جابر رضي الله عنه الحديث، فعدل إلى قوله:"أحسبه رفع إلخ"؛ أي: أظنّ جابرًا رفع الحديث إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقوله:"فقال: مُهَلّ إلخ"؛ أي: قال صلى الله عليه وسلم: "مُهلّ أهل المدينة إلخ".
وقوله: (وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ الْجُحْفَةُ) وفي نسخة: "من الجحفة"، أراد بالطريق الآخر طريق أهل الشام، يعني أنهم يُهلّون من الجحفة.
(1)
كتب في بعض النسخ هنا (ح) ولا يوجد في بعضها، وهو الأولى.
(2)
وفي نسخة: "من الجحفة".
وقوله: (وَمُهَلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ) قال النوويّ رحمه الله: هذا صريح في كونه ميقات أهل العراق، لكن ليس رفع الحديث ثابتًا كما سبق، وقد سبق الإجماع على أن ذات عرق ميقات أهل العراق، ومن في معناهم، قال الشافعيّ رحمه الله: ولو أَهَلُّوا من العقيق كان أفضل، والعقيق أبعد من ذات عرق بقليل، فاستحبه الشافعيّ؛ لأثر فيه، ولأنه قيل: إن ذات عرق كانت أوّلًا في موضعه، ثم حُوِّلت، وقُرِّبت إلى مكة، والله أعلم.
[تنبيه]: (اعلم): أن للحج ميقاتَ مكان، وهو ما سبق في هذه الأحاديث، وميقات زمان، وهو شوال، وذو القعدة، وعشر ليال من ذي الحجة، ولا يجوز الإحرام بالحجّ في غير هذا الزمان، هذا مذهب الشافعيّ، ولو أحرم بالحج في غير هذا الزمان لم ينعقد حجًّا، وانعقد عمرةً، وأما العمرة فيجوز الإحرام بها وفعلها في جميع السنة، ولا يكره في شيء منها، لكن شرطها أن لا يكون في الحج، ولا مقيمًا على شيء من أفعاله، ولا يكره تكرار العمرة في السنة، بل يستحبّ عند الشافعيّة، والجمهور، وكَرِهَ تكرارَها في السنة ابنُ سيرين، ومالك، ويجوز الإحرام بالحجّ مما فوق الميقات أبعد من مكة، سواء دويرة أهله وغيرها، وأيهما أفضل؟ فيه قولان للشافعيّ: أصحهما: من الميقات أفضلُ؛ للاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، كذا ذكره النوويّ رحمه الله، وهو تحقيقٌ حسنٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(3) - (بَابُ التَّلْبِيَةِ، وَصِفَتِهَا، وَوَقْتِهَا)
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: "التلبية": مصدر لَبّى: إذا قال: لبيك. قال الفيّوميّ رحمه الله: وألبّ بالمكان إلبابًا: أقام، ولبّ لبًّا، من باب قتل لغة فيه، وثُنّي هذا المصدر، مضافًا إلى كشاف المخاطب، وقيل: لبيك، وسعديك؛ أي: أنا ملازم طاعتك لزومًا بعد لُزوم، وعن الخليل أنهم ثنّوه على جهة التأكيد، وقال: اللبّ: الإقامة، وأصل لبيك: لبّين لك، فحُذفت النون للإضافة، وعن يونس أنه غير مثنى، بل اسم مفرد، يتّصل به الضمير بمنزلة "على"، و"لدى"،
إذا اتّصل به الضمير، وأنكره سيبويه، وقال: لو كان مثل "على"، و"لدى" ثبتت الياء مع المضمر، وبقيت الألف مع الظاهر، وحكي من كلامهم:"لبّيْ زيد" بالياء مع الإضافة إلى الظاهر، فثبوت الياء مع الإضافة إلى الظاهر يدلّ على أنه ليس مثل "على"، و"لدى". ولبّى الرجل تلبية: إذا قال: لبيك، ولبّى بالحجّ كذلك. قال ابن السكّيت: وقالت العرب: لبّأْتُ بالحجّ بالهمز، وليس أصله الهمز، بل الياء، وقال الفرّاء: وربّما خرجت بهم فصاحتهم حتى هَمَزُوا ما ليس بمهموز، فقالوا: لبّأْتُ بالحجّ، ورثأتُ الميت، ونحو ذلك، كما يتركون الهمز إلى غيره فصاحة، وبلاغة. انتهى كلام الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": "التلبية": مصدر لبّى؛ أي: قال: لبيك، ولا يكون عامله إلا مضمرًا. وهو لفظ مثنى عند سيبويه، ومن تبعه. وقال يونس بن حبيب: هو اسم مفرد، وألفه إنما انقلبت ياء لاتصالها بالضمير، كـ "لديّ"، و"عليّ". وردّ بأنها تقلب ياء مع المظهر. وعن الفرّاء: هو منصوب على المصدر، وأصله لبًّا لك، فثُنّي على التأكيد؛ أي: إلبابًا بعد إلباب، وهذه التثنية ليست حقيقية، بل هي للتكثير، أو المبالغة، ومعناه: إجابةً بعد إجابة، أو إجابةً لازمةً. قال ابن الأنباريّ: ثنّوا "لبيك" كما ثنّوا "حَنَانيك"؛ أي: تحننًا بعد تحنّن. وقيل: معنى "لبيك": اتجاهي، وقصدي إليك، مأخوذ من قولهم: داري تلب دارك؛ أي: تواجهها. وقيل: معناها: مَحَبَّتِي لك، مأخوذ من قولهم: امرأة لبّة: إذا كانت محبّةً ولدها، عاطفة عليه. وقيل: معناها: إخلاصي لك، مأخوذ من قولهم: حسبٌ لباب، إذا كان خالصًا محضًا، ومن ذلك لبّ الطعامِ، ولُبابه. وقيل: معناها: أنا مقيم على طاعتك، وإجابتك، مأخوذ من قولهم: لبّ الرجلُ بالمكان، وألبّ: إذا أقام فيه، ولزمه. قال ابن الأنباريّ: وبهذا قال الخليل، والأحمر، وقال إبراهيم الحربيّ: معنى "لبيك": قربًا منك، وطاعة، والإلباب: القرب. وقال أبو نصر: معناه: أنا مُلبّ بين يديك؛ أي: خاضع. حكى هذه الأقوال القاضي عياض، وغيره.
قال الزمخشريّ في "الفائق": وهو منصوب على المصدر، للتكثير،
(1)
"المصباح المنير" 2/ 547.
ولا يكون عامله إلا مضمرًا، كأنه قال: أُلِبُّ إلبابًا بعد إلباب.
قال ابن عبد البرّ: ومعنى "التلبية": إجابة لله فيما فرض عليهم من حجّ بيته، والإقامة على طاعته، فالمحرم بتلبيته مستجيب لدعاء الله إياه في إيجاب الحجّ عليه، ومن أجل الاستجابة - واللَّه أعلم - لبّى؛ لأن من دُعي، فقال: لبيك، فقد استجاب. ثم قال: وقال جماعة، من أهل العلم: إن معنى التلبية إجابة إبراهيم؛ حين أذّن في الناس بالحجّ. وقال القاضي عياض: قيل: وهذه الإجابة لقوله تعالى لإبراهيم عليه السلام: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27]. انتهى.
قال الحافظ: وهذا أخرجه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم بأسانيدهم في "تفاسيرهم" عن ابن عبّاس، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، وقتادة، وغير واحد، والأسانيد إليهم قويّة، وأقوى ما فيه عن ابن عباس ما أخرجه أحمد بن منيع في "مسنده"، وابن أبي حاتم من طريق قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عنه، قال:"لما فرغ إبراهيم؛ من بناء البيت، قيل له: أذّن في الناس بالحجّ، قال: ربّ، وما يبلغ صوتي؟ قال: أذّن، وعليّ البلاغ، قال: فنادى إبراهيم: يا أيها الناس كتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق، فسمعه من بين السماء والأرض، أفلا ترون أن الناس يجيئون من أقصى الأرض، يُلبّون؟ ".
ومن طريق ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عبّاس، وفيه:"فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال، وأرحام النساء، وأول من أجاب أهل اليمن، فليس حاجّ يحجّ من يومئذ إلى أن تقوم الساعة إلا من كان أجاب إبراهيم يومئذ".
قال ابن المنيّر في "الحاشية": وفي مشروعية التلبية تنبيه على إكرام اللَّه تعالى لعباده بأن وفودهم على بيته إنما كان باستدعاء منه سبحانه وتعالى. انتهى ما في "الفتح" بزيادة من "طرح التثريب"
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
(1)
"الفتح" 4/ 191 - 192، و"طرح التثريب" 5/ 89 - 90.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2811]
(1184) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ، وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ"، قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَزِيدُ فِيهَا: "لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ، لَبَّيْكَ، وَالرَّغْبَاءُ
(1)
إِلَيْكَ وَالْعَمَلُ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
وقد تقدّموا قريبًا مع بيان لطائفه، وهو (177) من رباعيّات الكتاب.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنه: أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَبَّيْكَ) تقدم الكلام في اشتقاقها، ومعناها قريبًا. (اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ)؛ أي: يا ألله أنا مقيم ببابك إقامة بعد إقامة، ومجيبٌ نداءك إجابةً بعد إجابة، فتثنية "لبيك" تفيد التكرار والتأكيد، كما قوله تعالى:{ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} الآية [الملك: 4]؛ أي: كرات كثيرة، وتكرار "لبيك" لزيادة التأكيد، كما أن دخول جملة "اللَّهم" بين المؤكِّد والمؤكَّد لذلك أيضًا.
(لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ) قيل: إنه استئناف، فيُسْتَحسن الوقف على "لبيك" الثانية، كما يُستحسن على الرابعة، قال القاري: التلبية الأولى المؤكدة بالثانية لإثبات الألوهيّة، وهذه بطرفيها لنفي الشركة الندّيّة، والمثليّة في الذات والصفات. انتهى
(2)
.
(إِنَّ الْحَمْدَ) رُوي بكسر الهمزة على الاستئناف، وفتحها على التعليل، وجهان مشهوران لأهل الحديث واللغة، قال الجمهور: والكسر أجود، وحكاه الزمخشريّ عن أبي حنيفة، وابن قُدامة عن أحمد بن حنبل، وحكاه ابن عبد البرّ عن اختيار أهل العربيّة.
(1)
وفي نسخة: "والرُّغْبَى".
(2)
راجع: "المرعاة" 8/ 443.
وقال الخطابيّ: الفتح رواية العامّة، وحكاه الزمخشريّ عن الشافعيّ، وقال ثعلب: الاختيار الكسر، وهو أجود في المعنى من الفتح؛ لأن من كسر جعل معناه: إن الحمد، والنعمة لك على كلّ حال، ومن فتح قال: معناه: لبيك لهذا السبب، وكذا رجّح الكسر ابن دقيق العيد، والنوويّ، قال ابن دقيق العيد: لأنه يقتضي أن تكون الإجابة مطلقة غير معلّلة، وأن الحمد، والنعمة للَّه على كلّ حال، والفتح يدلّ على التعليل، فكأنه يقول: أجبتك لهذا السبب، والأول أعمّ، وأكثر فائدة.
وقال ابن الهمام: الكسر أوجه، ويجوز الفتح، أما الكسر فهو على استئناف الثناء، وتكون التلبية للذات، والفتح على أنه تعليل للتلبية؛ أي: لبيك؛ لأن الحمد والنعمة لك.
ومال الباجيّ إلى أنه لا مزيّة لأحد الوجهين على الآخر. وقال ابن عبد البرّ: المعنى عندي واحد؛ لأنه يحتمل أن يكون من فتح الهمزة أراد: لبيك لأن الحمد على كلّ حال، والملك لك، والنعمة وحدك، دون غيرك، حقيقة، لا شريك لك.
وتعقّب بأن التقييد ليس في الحمد، وإنما هو في التلبية، فمعنى الفتح تلبيته بسبب أن له الحمد، ومعنى الكسر تلبيته مطلقًا، غير معلّل، ولا مقيّد، فهو أبلغ في الاستجابة للَّه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن هذا التعقّب فيه نظر؛ لأن التقييد والإطلاق هنا سواء في المعنى؛ لأن ما قُيّد بما لا حصر له، ولا نهاية، مثل الإطلاق، ولا فرق، فثبوت الحمد للَّه تعالى لا نهاية، ولا حصر له، فالتلبية المقيدة به، كالتلبية المطلقة في المعنى، فما قاله ابن عبد البرّ لا غبار عليه.
والحاصل أنه لا فرق في الحقيقة هنا بين الكسر، والفتح، والله تعالى أعلم بالصواب.
(وَالنِّعْمَةَ لَكَ) المشهور فيه النصب، قال عياض: ويجوز الرفع على الابتداء، ويكون الخبر محذوفًا والتقدير: إن الحمد لك، والنعمةَ مستقرّة لك،
قال ابن الأنباريّ: إن شئت جعلت خبر "إنّ" محذوفًا، والموجود خبر المبتدإ تقديره: إن الحمد لك، والنعمة مستقرّة لك.
(وَالْمُلْكَ) بالنصب أيضًا على المشهور، ويجوز الرفع، وتقديره: والملك كذلك، قاله الحافظ.
وقال الحافظ وليّ الدين: فيه وجهان أيضًا، أشهرهما النصب عطفًا على اسم "إنّ"، والثاني الرفع على الابتداء، والخبر محذوف؛ لدلالة الخبر المتقدم عليه، ويَحْتَمِل أن تقديره: والملك كذلك.
وقال القاري: بالنصب عطف على "الحمد"، ولذا يستحبّ الوقف عند قوله:"والملك".
قال ابن المنيّر: قرن الحمد والنعمة، وأفرد "الملك"؛ لأن الحمد متعلَّق النعمة، ولهذا يقال: الحمد لله على نعمه، فيجمع بينهما، كأنه قال: لا حمد إلا لك؛ لأنه لا نعمة إلا لك، وأما الملك فهو معنى مستقلّ بنفسه، ذُكر لتحقيق أن النعمة كلها لله؛ لأنه صاحب الملك، قال القاري: ولا مانع من أن يكون "الملك" مرفوعًا، وخبره قوله:(لَا شَرِيكَ لَكَ") أي: فيه.
(قَالَ) نافع (وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَزِيدُ فِيهَا) أي: على التلبية المذكورة، وقوله:(لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ إلخ) فاعل "يزيد" مرفوع محكيّ؛ لقصد لفظه، وقوله:(وَسَعْدَيْكَ) لا يستعمل إلا بعد "لبيك"؛ لأنه توكيد له
(1)
، وقال القاضي عياض رحمه الله: إعرابها، وتثنيتها كما سبق في "لبّيك"، ومعناه: مساعدةً لطاعتك بعد مساعدة. انتهى. (وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ) أي: الخير كلّه بيد الله تعالى، ومن فضله (لَبَّيْكَ) أعاده للتأكيد (وَالرَّغْبَاءُ) وفي نسخة:"والرُّغْبَى"(إِلَيْكَ) قال وليّ الدين رحمه الله: فيه ثلاثة أوجه: فتح الراء، والمدّ، وهو أشهرها، وضمّ الراء مع القصر، وهو مشهور أيضًا، وفتح الراء، مع القصر، وهو غريب، حكاه أبو عليّ الجبائيّ، وغيره، ونظير الوجهين الأولين العَلْياء، والعُلْيا، والنَّعْماء، والنُّعْمَى، ومعنى اللفظة: الطلب، والمسألة؛ أي: إنه تعالى هو المطلوب المسؤول منه، فبيده جميع الأمور، وهو المقصود بالعمل المستحقّ العبادة،
(1)
راجع: "حاشية الخضري على الخلاصة" 2/ 12.
قال شَمِر: رَغَبُ النفسِ: سَعَةُ الأمل، وطلب الكثير. انتهى
(1)
.
وقوله: (وَالْعَمَلُ)؛ أي: الطاعة، يعني أن العمل كله للَّه تعالى وحده؛ لأنه المستحقّ للعبادة وحده، وفيه حذف يَحْتَمِل أن يقدر كالذي قبله؛ أي: والعمل إليك؛ أي: إليك القصد به، والانتهاء به إليك؛ لتجازي عليه، ويَحْتَمِل أن يقدّر: والعمل لك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 2811 و 2812 و 2813 و 2814](1184)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1549) و"اللباس"(5915)، و (أبو داود) في "المناسك"(1812)، و (الترمذيّ) في "الحج"(825)، و (النسائيّ) في "المناسك"(5/ 160) و"الكبرى"(2/ 352 و 353)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(2918)، و (مالك) في "الموطّإ"(738)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 303)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 203 و 204 و 205)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 291)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 3 و 28 و 34 و 41 و 43 و 47 و 48 و 77 و 79 و 120)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 34)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(4/ 173 و 214)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3799)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 431 - 432)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 270 و 271 و 317)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 114 و 121 و 124)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 288 و 379) و "الصغير"(1/ 110) و"الكبير"(17/ 46)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4/ 24 و 93 و 155)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 238 و 341)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 124 - 125)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 225)، و (البيهقيّ) في
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 5/ 92.
"الكبرى"(5/ 44) و"الصغرى"(4/ 16) و"المعرفة"(4/ 3 و 4 و 5)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1865)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان كيفية التلبية.
2 -
(ومنها): أن فيه دلالة على أن مشروعيّة الحجّ لإظهار الفاقة، والتضرع إلى اللَّه تعالى، والابتهال، والثناء، والتوحيد، والتمجيد.
3 -
(ومنها): استحباب الإحرام بعد أداء ركعتين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أحرم بعدهما، كما في الرواية التالية.
4 -
(ومنها): أن وقت الإهلال حينما يركب دابته، أو سيارته، أو نحو ذلك، كما يأتي أيضًا في الرواية التالية.
5 -
(ومنها): أن الإحرام يكون عند الميقات المحدّد، لا قبله، ولا بعده؛ إذ لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم التقديم عليه، ولا التأخير عنه، فما قاله بعض أهل العلم من استحباب الإهلال من دُويرة أهله مخالف للسنة قولًا، وفعلًا، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف العلماء في حكم الزيادة على التلبية المذكورة:
قال الإمام أبو جعفر الطحاويّ رحمه الله بعد إخراجه أحاديث التلبية من حديث ابن عمر، وابن مسعود، وعائشة، وجابر، وعمرو بن معديكرب رضي الله عنهم: أجمع المسلمون على هذه التلبية، غير أن قومًا قالوا: لا بأس أن يزيد فيها من الذكر للَّه ما أحبّ، وهو قول محمد، والثوريّ، والأوزاعيّ، واحتجّوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه يعني الذي أخرجه النسائيّ، وابن ماجه، وصححه ابن حبّان، والحاكم - قال:"كان من تلبية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لبيك إله الحقّ لبيك". وبزيادة ابن عمر المذكورة هنا.
وخالفهم آخرون، فقالوا: لا ينبغي أن يزاد على ما علّمه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الناس، كما في حديث عمرو بن معديكرب، ثم فعله هو، ولم يقل: لبّوا بما شئتم مما هو من جنس هذا، بل علّمهم كما علّمهم التكبير في الصلاة، فكذا لا ينبغي أن يتعدّى في ذلك شيئًا مما علّمه. ثم أخرج حديث عامر بن سعد بن
أبي وقّاص، عن أبيه، أنه سمع رجلًا يقول:"لبيك ذا المعارج"، فقال: إنه لذو المعارج، وما هكذا كنا نلبّي على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: فهذا سعد قد كره الزيادة في التلبية، وبه نأخذ. انتهى.
قال الحافظ: ويدلّ على الجواز ما وقع عند النسائيّ من طريق عبد الرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:"كان من تلبية النبيّ صلى الله عليه وسلم. . ."، فذكره. ففيه دلالة على أنه قد كان يلبّي بغير ذلك، وما رواه مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال:"كان عُمر يُهلّ بهذا - يعني تلبية النبيّ صلى الله عليه وسلم المذكورة في الباب - ويزيد: لبيك اللَّهم لبيك، وسعديك، والخير كله في يديك، والرغباء إليك، والعمل".
وروى سعيد بن منصور، من طريق الأسود بن يزيد، أنه كان يقول:"لبيك غفار الذنوب".
وفي حديث جابر الطويل في صفة حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم: "حتى إذا استوت به ناقته على البيداء أهلّ بالتوحيد، لبيك اللَّهم لبيك. . . إلخ"، قال:"وأهلّ الناس بهذا الذي يُهلّون به، فلم يردّ عليهم شيئًا منه، ولزم تلبيته".
وأخرجه أبو داود من الوجه الذي أخرجه مسلم، قال:"والناس يزيدون: "ذا المعارج"، ونحوه من الكلام، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يسمع، فلا يقول لهم شيئًا"، وفي رواية البيهقيّ:"ذا المعارج، وذا الفواضل".
وهذا يدلّ على أن الاقتصار على التلبية المرفوعة أفضل لمداومته هو صلى الله عليه وسلم عليها، وأنه لا بأس بالزيادة؛ لكونه لم يردّها عليهم، وأقرّهم عليها.
وهو قول الجمهور، وبه صرّح أشهب، وحكى ابن عبد البرّ عن مالك الكراهة، قال: وهو أحد قولي الشافعيّ، وقال الشيخ أبو حامد: حكى أهل العراق عن الشافعيّ - يعني في القديم - أنه كره الزيادة على المرفوع، وغَلِطوا، بل لا يكره، ولا يستحبّ، وحَكَى الترمذيّ عن الشافعيّ، قال: فإن زاد في التلبية شيئًا من تعظيم اللَّه فلا بأس، وأحبُّ إليّ أن يقتصر على تلبية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وذلك أن ابن عمر حفظ التلبية عنه، ثم زاد من قبله زيادة، ونصب البيهقيّ الخلاف بين أبي حنيفة، والشافعيّ، فقال: الاقتصار على المرفوع أحبّ، ولا ضيق على أحد أن يزيد عليها، قال: وقال أبو حنيفة: إن زاد
فحسن، وحَكَى في "المعرفة" عن الشافعيّ قال: ولا ضيق على أحد في قول ما جاء عن ابن عمر، وغيره، من تعظيم الله، ودعائه، غير أن الاختيار عندي أن يفرد ما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك. انتهى.
وهذا أعدل الوجوه، فيفرد ما جاء مرفوعًا، وإذا أختار قول ما جاء موقوفًا، أو أنشأه هو من قبل نفسه، مما يليق قاله على انفراده حتى لا يختلط بالمرفوع، وهو شبيه بحال الدعاء في التشهد، فإنه قال فيه:"ثم ليتخير من المسألة، والثناء ما شاء"؛ أي: بعد أن يفرغ من المرفوع، كما تقدّم ذلك في موضعه. انتهى كلام الحافظ رحمه الله.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الحافظ تبعًا للإمام الشافعيّ - رحمهما الله تعالى - تحقيق نفيسٌ جدًّا.
وحاصله أن الأولى الالتزام بتلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن زاد مما سبق من زيادة ابن عمر رضي الله عنهما، أو غيره، أو ثناء على الله تعالى بما يليق بجلاله من عند نفسه بعد أن يفرغ من تلبيته صلى الله عليه وسلم، فلا بأس، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حقيقة الإحرام في الحجّ والعمرة، وحكمه:
(اعلم): أن الإحرام لغة هو الدخول في التحريم، يقال: أحرم الشخص: نوى الدخول في شيء حرُم عليه به ما كان حلالًا له، وهذا كما يقال: أَنْجَد: إذا أتى نجدًا، وأَتْهَم: إذا أتى تهامة، قاله الفيّوميّ.
وشرعًا: نية الدخول في النسك مع التلبية، أو سَوْق الهدي، لا نية أن يحجّ، أو يعتمر، فإن ذلك لا يسمى إحرامًا، وكذا التجرّد، وترك سائر المحظورات لكونه محرمًا بدونها، قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله: لا يكون الرجل محرمًا بمجرّد ما في قلبه من قصد الحجِّ ونيته، فإن القصد ما زال في القلب منذ خرج من بلده، بل لا بدّ من قول، أو عمل يصير به محرمًا، هذا هو الصحيح من القولين. انتهى.
وقال العلامة ابن دقيق العيد رحمه الله: الإحرام: الدخول في أحد النسكين، والتشاغل بأعمالهما، وقد كان شيخنا العلامة أبو محمد بن عبد السلام
يستشكل معرفة حقيقة الإحرام جدًّا، ويبحث فيه كثيرًا، وإذا قيل: إنه النيّة اعترض عليه بأن النية شرط في الحجّ الذي الإحرام ركنه، وشرط الشيء غيره، ويعترض على أنه التلبية بأنها ليست بركن، والإحرام ركن، هذا أو قريب منه، وكان يحرم على تعيين فعل تتعلق به النية في الابتداء. انتهى
(1)
.
وقال العلامة الشوكاني رحمه الله عند قول صاحب "حدائق الأزهار": وإنما ينعقد - أي الإحرام - بالنية مقارنة لتلبية، أو تقليد، ما نصّه:
أقول: الإحرام هو مصير الشخص من الحالة التي كان يحلّ له فيها ما يحرم عليه بعدها إلى الحالة التي يحرم عليه فيها ما كان يحلّ له فيها، ولو لم يكن إلا مجرّد الكفّ عن محظورات الإحرام لكان ذلك معنى معقولًا لكلّ عاقل، كالصوم فإنه ليس إلا الكفّ عن تناول المفطرات، فمن قال: إنه لا يعقل معنى الإحرام، وإنه ليس هناك إلا مجرّد النية، وإن النية لا تُنوى، وإلا لزم التسلسل، فقد أخطأ خطأ بيّنًا، ومعلوم أن الشريعة المطهرة بعضها أوامر، وبعضها نواهٍ، والتعبّد في النواهي ليس إلا بالكفّ، فيلزمه أن يطرد هذا التشكيك الركيك في شطر الشريعة.
وأما إيجاب النيّة فقد عرّفناك غير مرّة أن كلّ عمل يحتاج إلى النيّة، والعمل يشمل الفعل، والترك، والقول، والفعل، وعرّفناك أن ظاهر الأدلة يقتضي أن النية شرط في جميع ما تقدّم من العبادات؛ لدلالة أدلّتها على أن عدمها يؤثّر في العدم، وهذا هو معنى الشرط عند أهل الأصول.
وأما كون النية تقارن التلبية، فقد ثبت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في دواوين الإسلام من غير وجه أنه أهلّ ملبيًا، وقد قدَّمنا لك أن أفعاله، وأقواله في الحجّ محمولة على الوجوب؛ لأنها بيان لمجمل القرآن، وامتثال لأمره صلى الله عليه وسلم لأمته أن يأخذوا عنه مناسكهم، فمن ادَّعى في شيء منها أنه غير واجب، فلا يقبل منه ذلك إلا بدليل.
وأما كونها تقارن التقليد، فلما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في عام الحديبية "أنه لما
(1)
راجع: "مجموع الفتاوى" 26/ 108.
كان بذي الحليفة قلّد الهدي، وأشعره، وأحرم بالعمرة". انتهى
(1)
.
وقال العلامة ابن رشد رحمه الله: اتفقوا على أن الإحرام لا يكون إلا بنيّة، واختلفوا هل تجزئ النية فيه من غير تلبية؟ فقال مالك، والشافعيُّ: تجزئ النية من غير تلبية، وقال أبو حنيفة: التلبية في الحج كالتكبيرة في الإحرام بالصلاة، إلا أنه يجزئ عنده كلّ لفظ يقوم مقام التلبية، كما في افتتاح الصلاة عنده. انتهى.
وقال العلامة ابن قدامة رحمه الله: يستحبّ للإنسان النطق بما أحرم به؛ ليزول الالتباس، فإن لم ينطق بشيء، واقتصر على مجرّد النية كفاه في قول إمامنا، ومالك، والشافعيّ، وقال أبو حنيفة: لا ينعقد بمجرد النية حتى ينضاف إليها التلبية، أو سوق الهدي؛ لحديث خلّاد بن السائب الأنصاري، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"أتاني جبريل، فقال: يا محمد مُرْ أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية"، رواه الترمذيّ، والنسائيّ وقال الترمذيّ: حديث حسن صحيح. انتهى
(2)
.
وقال صاحب "المرعاة": قد تواترت الروايات المصرّحة بأنه صلى الله عليه وسلم أحرم من ذي الحليفة، وسمى، وعيّن ما أحرم به، من إفراد، أو قران، أو تمتّع، واتفقت على تعيين النسك في التلبية الأولى التي تكون عند عقد الإحرام، وإن اختلفت في نوعه، وصرّحت أيضًا بأنه صلى الله عليه وسلم لبّى عند ذلك، كما ورد في الروايات، وقال:"خذوا عني مناسككم"، فعلينا أن نأخذ عنه من مناسكنا الإحرام، والتلبية، والتسمية، وهذا القدر هو الذي قام عليه الدليل، أما كون الإحرام شرطًا، أو ركنًا، وكون التلبية مسنونة، أو مستحبّة، أو واجبة يصحّ الحج بدونها، وتجبر بدم، وكذا كون الذكر الدالّ على تعظيم الله سوى التلبية مجزئًا، والتلفّظ بالنيّة، بأن يقول: نويت العمرة، أو نويت الحجّ، أو نويت العمرة، والحجّ، أو اللَّهم إني أريد العمرة، أو الحجّ، أو اللَّهم إني أهلّ، أو أحرم بكذا، فكلّ ذلك لم يرد فيه دليلٌ خاصّ، والخير كله في اتباعه صلى الله عليه وسلم،
(1)
راجع: "السيل الجرّار على حدائق الأزهار" 2/ 171.
(2)
راجع: "المغني" 5/ 91 - 92.
فعلى كل من وصل إلى ميقاته، ممن يريد الحج، أو العمرة أن يُحرم، وينوي بقلبه الدخول في النسك الذي يريده، ويعزم عليه بقلبه؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيّات، وإنما لكلّ امرئ ما نوى"، ويُشرع التلفظ بما نوى كما نقل، فإن كانت نية العمرة، قال: لبيك عمرة، أو اللَّهم لبيك عمرة، وإن كانت نية الحج قال: لبيك حجًا، أو اللَّهم لبيك حجًا؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، ولا يشرع التلفظ بما نوى إلا في الإحرام خاصّة؛ لوروده عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأما الصلاة، والطواف، والصيام، وغير ذلك من العبادات، فلا ينبغي له أن يتلفّظ بشيء منها بالنية؛ لأن ذلك لم يثبت، ولو كان التلفظ بالنية مشروعًا لبيّنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأوضحه للأمة بفعله، أو قوله، ولَسَبَق إليه السلف الصالح. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله صاحب "المرعاة" رحمه الله تحقيق نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في حكم التلبية:
قال في "الفتح": وفيها مذاهب أربعة، يمكن توصيلها إلى عشرة:
(الأول): أنها سنة من السنن، لا يجب بتركها شيء، وهو قول الشافعيّ، وأحمد.
(ثانيها): واجبة، ويجب بتركها دم، حكاه الماورديّ، عن ابن أبي هريرة، من الشافعيّة، وقال: إنه وجد للشافعيّ نصًّا يدلّ عليه، وحكاه ابن قدامة عن بعض المالكيّة، والخطابيّ عن مالك، وأبي حنيفة، وأغرب النوويّ، فحكى عن مالك أنها سنة، ويجب بتركها دم، ولا يُعرف ذلك عندهم، إلا أن ابن الجلّاب قال: التلبية في الحجّ مسنونة، غير مفروضة. وقال ابن التين: يريد أنها ليست من أركان الحجّ، وإلا فهي واجبة، ولذلك يجب بتركها الدم، ولو لم تكن واجبة لم يجب، وحكى ابن العربيّ أنه يجب عندهم بترك تكرارها دم، وهذا قدر زائد على أصل الوجوب.
(ثالثها): واجبة، لكن يقوم مقامها فعل يتعلّق بالحجّ، كالتوجّه على الطريق، وبهذا صدّر ابن شاس، من المالكية كلامه في "الجواهر" له، وحكى
صاحب "الهداية" من الحنفية مثله، لكن زاد القول الذي يقوم مقام التلبية من الذكر، كما في مذهبهم من أنه لا يجب لفظ معيّن.
وقال ابن المنذر: قال أصحاب الرأي: إن كبّر، أو هلّل، أو سبّح، ينوي بذلك الإحرام فهو محرم.
(رابعها): أنها ركن في الإحرام، لا ينعقد بدونها، حكاه ابن عبد البرّ عن الثوريّ، وأبي حنيفة، وابن حبيب من المالكيّة، والزبيريّ من الشافعيّة، وأهل الظاهر، قالوا: هي نظير تكبيرة الإحرام للصلاة، ويقوّيه ما تقدّم من بحث ابن عبد السلام عن حقيقة الإحرام، وهو قول عطاء، أخرجه سعيد بن منصور، بإسناد صحيح عنه، قال: التلبية فرض الحجّ. وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر، وطاوس، وعكرمة، وحكى النوويّ عن داود أنه لا بدّ من رفع الصوت بها، وهذا قدر زائد على أصل كونها ركنًا. انتهى ما في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أرجح الأقوال عندي قول من قال بوجوب التلبية في الحجّ، أو العمرة مع رفع الصوت؛ لما أخرجه النسائيّ عن خلّاد بن السائب، عن أبيه، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:"جاءني جبريل، فقال: يا محمد مُر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية"، وهو حديث صحيح، والأمر للوجوب.
ثم إن هذا الوجوب يحصل بمرة واحدة عند الإحرام، فما زاد على ذلك يكون سنة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2812]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَادٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ؛ يَعْنِي ابْنَ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، وَنَافِعٍ مَوْلَى
(1)
"الفتح" 4/ 194.
عَبْدِ اللهِ
(1)
، وَحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ
(2)
، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً، عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ أَهَلَّ، فَقَالَ:"لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ"، قَالُوا: وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: هَذِهِ تَلْبِيَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ نَافِعٌ: كَانَ عَبْدُ اللهِ رضي الله عنه يَزِيدُ مَعَ هَذَا: "لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ لَبَّيْكَ، وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالْعَمَلُ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ) بن الزِّبْرقان المكيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ يَهِمُ [10](ت 234)(خ م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.
2 -
(حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) الحارثيّ مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ كوفيّ الأصل، صدوقٌ يَهِمُ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الصلاة" 42/ 1086.
3 -
(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عيّاش الأسديّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ إمام في المغازي [5](ت 141) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.
4 -
(سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ) بن الخطّاب، تقدّم في الباب الماضي.
5 -
(حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمر بن الخطّاب المدنيّ، شقيق سالم، ثقة [3](ع) تقدم في "الصلاة" 22/ 945.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (كَانَ إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً) وفي رواية النسائيّ: "إذا استوت به الناقة قائمةً"؛ أي: اعتدلت قائمة من بروكها.
وقوله: (أَهَلَّ) أي: رفع صوته بالتلبية.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
وفي نسخة: "مولى عبد الله بن عمر".
(2)
وفي نسخة: "وحمزة بن عبد الله بن عمر".
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2813]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، يَعْنِي ابْنَ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: تَلَقَّفْتُ التَّلْبِيَةَ مِنْ فِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(1)
، فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِهِمْ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) الْعَنَزيّ، أبو موسى البصريّ المعروف بالزَّمِن، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
2 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ) بن فَرُّوخ القطّان، أبو سعيد البصريّ الإمام الحجة الناقد الشهير [9](ت 198)، تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 385.
3 -
(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر بن حفص العمريّ، تقدّم قريبًا.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (تَلَقَّفْتُ التَّلْبيَةَ) بقاف، ثم فاء؛ أي: أخذتها بسرعة، قال القاضي عياض رحمه الله: ورُوي "تلقَّنتُ" بالنون، قال: والأول رواية الجمهور، قال: ورُوي "تلقّيتُ" بالياء، ومعانيها متقاربة. انتهى
(2)
.
وقوله: (من في رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي نسخة: "من رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وقوله: (فَذَكَرَ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير "عُبيد الله".
وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِهِمْ) هكذا النسخ بضمير الجمع، والظاهر أنه بضمير التثنية، ويرجع إلى مالك وموسى بن عقبة؛ أي: ذكر عبيد الله عن نافع مثل ما ذكر مالك، وموسى بن عُقبة عنه، فتأمل.
ويَحْتَمِل أن يكون جاريًا على مذهب من يقول: إن أقل الجمع اثنان، وهو الذي رجّحته في "التحفة المرضيّة" في الأصول، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية عبيد الله بن عمر، عن نافع هذه ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:
(1)
وفي نسخة: "من رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(2)
"إكمال المعلم" 4/ 178 - 179.
(2909)
- حدّثنا عليّ بن محمد، حدّثنا أبو معاوية، وأبو أسامة، وعبد الله بن نُمير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: تَلَقَّفْت التلبية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، قال: وكان ابن عمر يزيد فيها: لبيك لبيك لبيك وسعديك، والخير في يديك لبيك، والرغباء إليك والعمل. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2814]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: فَإِنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَخْبَرَنِي، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُهِلُّ مُلَبِّدًا، يَقُولُ: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ"، لَا يَزِيدُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ، وَإِنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَرْكَعُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكعَتَيْنِ، ثُمَّ إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ النَّاقَةُ قَائِمَةً، عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ، أَهَلَّ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ، وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يُهِلُّ بِإهْلَالِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ، وَيَقُولُ: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ لَبَّيْكَ، وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالْعَمَلُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
وقد تقدّم بهذا السياق في الباب الماضي.
وقوله: (يُهِلُّ) بضمّ الياء من الإهلال، وهو رفع الصوت بالتلبية.
قال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: الإهلال رفع الصوت بالتلبية عند الدخول في الإحرام، وأصل الإهلال في اللغة رفع الصوت ومنه استَهَلّ المولود؛ أي: صاح، ومنه قوله تعالى:{وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173]؛ أي: رُفع
الصوت عند ذبحه بغير ذكر الله تعالى، وسُمِّي الهلال هلالًا؛ لرفعهم الصوت عند رؤيته. انتهى
(1)
.
ووقوله: (مُلَبِّدًا)"التلبيد" أن يَجْعَل في رأسه صمغًا، أو غيره ليتلبّد شعره؛ أي: يلتصق بعضه ببعض، فلا يتخلَّله غبار، ولا يصيبه الشعث، ولا القمل، وإنما يفعله من يطول مكثه في الإحرام.
وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: التلبيد ضَفْرُ الرأس بالصَّمْغ، أو الْخِطْميّ وشبههما، مما يضم الشعر، ويُلزِق بعضه ببعض، ويمنعه التَّمَعُّط، والقَمْل، فيستحب؛ لكونه أرفق به.
قال: وفيه استحباب تلبيد الرأس قبل الإحرام، وقد نَصّ عليه الشافعيّ وأصحابنا، وهو موافق للحديث الآخر في الذي خَرّ عن بعيره:"فإنه يُبْعَث يوم القيامة مُلَبَّدًا". انتهى
(2)
.
فجملة قوله: "يُهلّ" حال من المفعول، و"ملبّدًا" حال من فاعل "يهلّ".
ولأبي داود، والحاكم من طريق نافع، عن ابن عمر:"أنه صلى الله عليه وسلم لبّد رأسه بالعسل"، قال ابن عبد السلام: يَحْتَمِل أنه بفتح المهملتين، ويَحْتَمِل أنه بكسر المعجمة، وسكون المهملة، وهو ما يُغسل به الرأس، من خطميّ، أو غيره. قال الحافظ: ضبطناه في روايتنا في "سنن أبي داود" بالمهملتين. انتهى
(3)
.
(كانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَرْكَعُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ)؛ أي: يصلي ركعتين، والظاهر أنهما صلاة الظهر، قال العلامة ابن القيّم رحمه الله: لم يُنقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر، وقال: المحفوظ أنه إنما أهلّ بعد صلاة الظهر، وقال أيضًا: قد قال ابن عمر رضي الله عنهما: ما أهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند الشجرة حين قام به بعيره، وقد قال أنس رضي الله عنه: إنه صلى الظهر، ثم ركب، والحديثان في "الصحيح"، فإذا جمعت أحدهما إلى الآخر تبيّن أنه إنما أهلّ بعد صلاة الظهر. انتهى مخلصًا.
وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله في "مناسكه": يستحبّ أن يُحرم عقب
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 89.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 89 - 90.
(3)
"الفتح" 4/ 180.
صلاة، إما فرض، وإما تطوّع، إن كان وقت تطوّع، في أحد القولين، وفي الآخر: إن كان يصلّي فرضًا أحرم عقبه، وإلا فليس للإحرام صلاة تخصّه، وهذا أرجح. انتهى.
وقال النوويّ رحمه الله: فيه استحباب صلاة الركعتين عند إرادة الإحرام، ويصليهما قبل الإحرام، ويكونان نافلة، هذا مذهبنا، ومذهب العلماء كافّة، إلا ما حكاه القاضي وغيره عن الحسن البصريّ أنه استحب كونهما بعد صلاة فرض، قال: لأنه روي أن هاتين الركعتين كانتا صلاة الصبح، والصواب ما قاله الجمهور، وهو ظاهر الحديث، قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: وهذه الصلاة سنة لو تركها فاتته الفضيلة، ولا إثم عليه، ولا دم، قال أصحابنا: فإن كان إحرامه في وقت من الأوقات المنهيّ فيها عن الصلاة لم يصلّهما، هذا هو المشهور، وفيه وجه لبعض أصحابنا أنه يصليهما فيه؛ لأن سببهما إرادة الإحرام، وقد وُجد ذلك. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأرجح أن يفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما ذكره ابن عمر رضي الله عنهما في حديثه هذا، حيث قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يركع بذي الحليفة ركعتين"، لكن إن كان ذلك الوقت وقت صلاة الفرض يكفيه ذلك عن الركعتين؛ لأنه حصلت السنّة، كما أوضحه أنس رضي الله عنه في حديثه المذكور.
والحاصل أنه يُستحبّ لمن يريد الإحرام أن يصلي ركعتين فرضًا كانتا، أم نفلًا، فتأمّل، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: (أَهَلَّ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ)؛ أي: بكلمات التلبية التي مرّ بيانها في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الباب.
والحديث متّفق عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 92 - 93.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2815]
(1185) - (وَحَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْيَمَامِيُّ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ، يَعْنِي ابْنَ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا أَبُو زُمَيْلٍ، عَن ابْنِ عَبَاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَيْلَكُمْ قَدْ قَدْ"، فَيَقُولُونَ: إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، يَقُولُونَ هَذَا، وَهُمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيُّ) أبو الفضل البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [11](ت 240)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 34/ 241.
2 -
(النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْيَمَامِيُّ) الْجُرَشيّ، أبو محمد مولى بني أمية، ثقةٌ له أفراد [9](خ م د ت ق) تقدم في "الإيمان" 34/ 241.
3 -
(عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ) الْعِجليّ، أبو عمّار اليماميّ، بصريّ الأصل، ثقةٌ، في روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطراب [5] مات قبيل (160)(خت م س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.
4 -
(أَبُو زُمَيْلٍ) - بضمّ الزاي مصغّرًا - سماك بن الوليد الْحَنفيّ اليماميّ، ثم الكوفيّ، ثقة [3](بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 34/ 241.
5 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) البحر الحبر رضي الله عنهما، تقدّم في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالتحديث.
4 -
(ومنها): أن فيه ابن عبّاس رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما) أنه (قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ويلَكُمْ قَدْ قَدْ") - بسكون الدال، وكسرها، مع التنوين فيهما -؛ أي: كفاكم هذا الكلام، فاقتصروا عليه، ولا تقولوا: إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك، قاله القاري رحمه الله
(1)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: كان المشركون يقولون هذ الكلام، فإذا انتهى كلامهم إلى "لا شريك لك" قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"قد قد"؛ أي: اقتصروا عليه، ولا تجاوزوا عنه إلى ما بعده. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "قَدْ قَد" رُوي بإسكان الدال، وكسرها مع التنوين، ومعناه: كفاكم هذا الكلام، فاقتَصِرُوا عليه، ولا تزيدوا، وهنا انتهى كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم عاد الراوي إلى حكاية كلام المشركين، فقال:"إلا شريكًا هو لك" إلى آخره، معناه: أنهم كانوا يقولون هذه الجملة، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: اقتصروا على قولكم: "لبيك لا شريك لك". انتهى
(3)
.
(فَيَقُولُونَ: إِلَّا شَرِيكًا) قال الطيبيّ رحمه الله: الظاهر فيه الرفع على البدلية من المحلّ، كما في كلمة التوحيد، فاختير في الكلمة السفلى اللغة السافلة، كما اختير في الكلمة العليا العالية. انتهى
(4)
.
وقوله: (هُوَ لَكَ) جملة في محلّ نصب صفة لـ "شريكًا"، وكذا جملة قوله:(تَمْلِكُهُ) وقوله: (وَمَا مَلَكَ)"ما" موصولة، قاله القاري.
قال الجامع عفا الله عنه: أراد القاري بذلك أنه معطوف على الضمير المنصوب في "تملكه"؛ أي: تملك ذلك الشريك، وتملك أيضًا الذي ملكه، هكذا تقرير كلامه.
وعندي أن الأولى كون "ما" نافيةً، والجملة معطوفة على "تملكه"، والمعنى إنك تملك ذلك الشريك، ولا يملك هو شيئًا، فهم يعترفون بأنه لا
(1)
"مرقاة المفاتيح" 5/ 458.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1957.
(3)
"شرح النوويّ" 8/ 90.
(4)
"الكاشف" 5/ 1957.
يستحقّ شيئًا من العبادة؛ لأنه لا يملك شيئًا لنفسه، ولا لغيره، وإنما المالك هوالله سبحانه وتعالى، ومع ذلك يشركونه في العبادة معه سبحانه وتعالى، جهلًا وغباوة، وحماقةً، بل وعنادًا وعتوًّا واستكبارًا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وهذا التقرير الذي ذكرته هو الموافق لمعنى قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)} [الأعراف: 191، 192]، وقوله تعالى:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)} [الفرقان: 3].
(يَقُولُونَ) أي: المشركون، وهو مقول ابن عبّاس رضي الله عنهما (هَذَا) أي: القول المذكور، وهو قولهم:"إلا شريكًا" مع ما قبله وما بعده (وَهُمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ) جملة حاليّة من الفاعل.
[تنبيه]: أخرج هذا الحديث البيهقيّ مطوّلًا، في "السنن الكبرى" (5/ 45) فقال:
(8819)
- أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، أنبأ أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفّار، ثنا أحمد بن محمد البرتي القاضي، ثنا أبو حذيفة، ثنا عكرمة، عن أبي زُمَيل، عن ابن عباس، قال: إن المشركين كانوا يطوفون بالبيت، فيقولون: لبيك لبيك لا شريك لك، فيقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"قد قد"، فيقولون: إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك، ويقولون: غفرانك غفرانك، قال: فأنزل الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)} [الأنفال: 33]، فقال ابن عباس: كان فيهم أمانان: نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، والاستغفار، قال: فذهب نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، وبقي الاستغفار، {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 34] قال: فهذا عذاب الآخرة، وذلك عذاب الدنيا. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 2815](1185)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 45)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 432)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 272)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(8/ 45) و"الكبير"(12/ 20)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة التلبية في الحجّ والعمرة.
2 -
(ومنها): بيان أن الحج كان من العبادة القديمة الموروثة للعرب من دين إبراهيم عليه السلام.
3 -
(ومنها): بيان جهل المشركين وعنادهم حيث يعلمون أن الله عز وجل هو المالك لكل شيء، ولا تملك الأصنام شيئًا، ومع ذلك يشركونها في عبادته، فيقولون: لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك. . . إلخ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
4 -
(ومنها): وجوب إنكار المنكر لمن علم كونه منكرًا بقدر المستطاع، فقد أنكر صلى الله عليه وسلم على المشركين هنا بالقول؛ إذ هو الذي يستطيعه في ذلك الوقت، وإلا فالإزالة باليد مقدّمة على اللسان، فقد أخرج مسلم من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، مرفوعًا:"من رأى منكم منكرًا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(4) - (بَابُ أَمْرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِالإِحْرَامِ مِنْ عِنْدِ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2816]
(1186) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ رضي الله عنه يَقُولُ: بَيْدَاؤُكُمْ هَذِهِ الَّتِي تَكْذِبُونَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا، مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ، يَعْنِي ذَا الْحُلَيْفَةِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلّهم تقدّموا في الباب الماضي.
شرح الحديث:
(عَنْ سَالِم بْنِ عَبْدِ اللهِ) بن عمر (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ) عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما (يَقُولُ: بَيْدَاؤُكُمْ) بالمدّ (هَذِهِ) التي فوق عَلَمي ذي الحليفة لمن صَعِد الوادي، قاله أبو عبيد البكريّ وغيره، وأضافها إليهم؛ لكونهم كَذَبوا بسببها كَذِبًا يَحْصُل لها به الشرف، قاله الزرقانيّ رحمه الله
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: هذه البيداء هي الشَّرَف الذي قُدّام ذي الحليفة إلى جهة مكة، وهي بقرب ذي الحليفة، وسُمِّيت بيداء؛ لأنه ليس فيها بناء، ولا أَثَرٌ، وكل مَفَازة تُسَمَّى بيداء، وأما هنا فالمراد بالبيداء ما ذكرناه. انتهى
(2)
.
وقال البكريّ: البيداء هذه فوق عَلَمي ذي الحليفة لمن صَعِد من الوادي، وفي أول البيداء بئر ماء. انتهى
(3)
.
(الَّتِي تَكْذِبُونَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا) وفي الرواية التالية: "كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا قيل له: الإحرام من البيداء، قال: البيداء التي تكذبون فيها على
(1)
"شرح الزرقانيّ" 2/ 328.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 94.
(3)
راجع: "المرعاة" 9/ 447.
رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فقوله: "فيها"؛ أي: في شأنها، ونسبة الإحرام إليها بأنه كان من عنده، وقال الزرقانيّ رحمه الله؛ أي: بسببها، فـ "في" للتعليل، نحو: قوله تعالى: {لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32]، وقوله: {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ} [النور: 14]، وحديث: "دخلت النار امرأة في هرة"، فتقولون: إنه أحرم منها، ولم يُحرم منها. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "تكذبون فيها"؛ أي: تقولون: إنه صلى الله عليه وسلم أحرم منها، ولم يُحرم منها، وإنما أحرم قبلها من عند مسجد ذي الحليفة، ومن عند الشجرة التي كانت هناك، وكانت عند المسجد، وسماهم ابن عمر كاذبين؛ لأنهم أخبروا بالشيء على خلاف ما هو، وقد سبق في أول هذا الشرح في مقدمة "صحيح مسلم" أن الكذب عند أهل السنة هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو، سواء تعمده، أم غَلِطَ فيه، أو سها، وقالت المعتزلة: يُشترط فيه العمدية، وعندنا أن العمدية شرط لكونه إثمًا، لا لكونه يُسَمَّى كذبًا، فقول ابن عمر رضي الله عنهما جارٍ على قاعدتنا، وفيه أنه لا بأس بإطلاق هذه اللفظة، انتهى
(2)
.
وقال في "العمدة": [فإن قلت]: كيف يجوز لابن عمر أن يُطلِق الكذب على الصحابة؟
[قلت]: الكذب يجيء بمعنى الخطإ؛ لأنه يشبهه في كونه ضدّ الصواب، كما أن ضدّ الكذب الصدق، وافترقا من حيث النية والقصد؛ لأن الكاذب يَعْلَم أن الذي يقوله كذبٌ، والمخطئ لا يَعْلَم، ولا يُظَنّ به أنه كان يَنْسُب الصحابة إلى الكذب. انتهى
(3)
.
(مَا أهَلَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: ما رفع صوته بالتلبية (إِلَّا مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ، يَعْنِي ذَا الْحُلَيْفَةِ) أي: حين ركب راحلته، لا حين فرغ من الركعتين، وفي الرواية التالية:"ما أهلّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم إلا من عند الشجرة، حين قام به بعيره".
قال الحافظ رحمه الله: وكان ابن عمر رضي الله عنهما ينكر رواية ابن عباس رضي الله عنهما عند
(1)
"شرح الزرقانيّ" 2/ 328.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 94.
(3)
"عمدة القاري" 9/ 159.
البخاريّ بلفظ: "رَكِبَ راحلته حتى استوى على البيداء أَهَلّ"، وقد أزال الإشكال ما رواه أبو داود، والحاكم من طريق سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: عَجِبتُ لاختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إهلاله، فقال: إني لأعلم الناس بذلك، إنما كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة واحدة، فمن هنا اختلفوا، خرج صلى الله عليه وسلم حاجًّا، فلما صلى في مسجد ذي الحليفة ركعتين، أوجب في مجلسه، فأَهَلّ بالحج حين فَرَغ منهما، فسمع ذلك منه قوم، فحَفِظُوه، ثم ركب، فلما استقلّت به راحلته أهلّ، وأدرك ذلك قومٌ لم يشهدوا في المرة الأولى، فسمعوه حين ذاك، فقالوا: إنما أهلّ حين استقلت به راحلته، ثم مضى، فلما علا شرف البيداء أهلّ، وأدرك ذلك قوم لم يشهدوه، فنَقَلَ كل واحد ما سمع، وإنما كان إهلاله في مصلاه، وأيمُ الله، ثم أهلّ ثانيًا وثالثًا.
وأخرجه الحاكم من وجه آخر من طريق عطاء، عن ابن عبّاس نحوه دون القصّة، فعلى هذا فكان إنكار ابن عمر على من يخص الإهلال بالقيام على شرف البيداء، وقد اتَّفَقَ فقهاء الأمصار على جواز جميع ذلك، وإنما الخلاف في الأفضل. انتهى
(1)
.
قال الزرقانيّ رحمه الله بعد ذكر ما تقدّم ما نصّه: وحديث ابن عباس رضي الله عنهما، وإن زال به الإشكال، لكن فيه خُصَيف بن عبد الرحمن ضعيف عند الجمهور، ومحمد بن إسحاق الراوي عنه مدلِّس، وفيه مقال، وإن صرح بالتحديث، ولذا قال النوويّ، والمنذريّ: حديث ضعيف.
وعلى تسليم توثيق خُصيف وتلميذه، فقد عارضه حديث ابن عمر وأنس في "الصحيحين" وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم إنما أهلّ حين استوت به ناقته قائمةً. انتهى
(2)
، وهو تعقّبٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(1)
"الفتح" 4/ 421.
(2)
"شرح الزرقانيّ على الموطأ" 2/ 328.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 2816 و 2817](1186)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1541)، و (أبو داود) في "المناسك"(1771)، و (الترمذيّ) في "الحجّ"(819)، و (النسائيّ) في "المناسك"(5/ 162) و"الكبرى"(2/ 255)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 332)، و (الحميديّ) في "مسنده"(659)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 10 و 28 و 66 و 85 و 111 و 154)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2611)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3762)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 423)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2/ 272)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 122)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 38)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1869)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أمر أهل المدينة بالإحرام من عند مسجد ذي الحليفة؛ اقتداءً بالنبيّ صلى الله عليه وسلم.
2 -
(ومنها): أن فيه دلالةً على أن ميقات أهل المدينة من عند مسجد ذي الحليفة، ولا يجوز لهم تأخير الإحرام إلى البيداء، وبهذا قال جميع العلماء، قاله النوويّ رحمه الله.
3 -
(ومنها): بيان أن الإحرام من الميقات أفضل من دويرة أهله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ترك الإحرام من مسجده، مع كمال شرفه.
[فإن قيل]: إنما أحرم من الميقات؛ لبيان الجواز.
[قلنا]: هذا غلط لوجهين:
[أحدهما]: أن البيان قد حَصَل بالأحاديث الصحيحة في بيان المواقيت.
[والثاني]: أن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يُحْمَل على بيان الجواز في شيء يتكرر فعله كثيرًا، فيفعله مرّةً أو مرات على الوجه الجائز؛ لبيان الجواز، ويواظب غالبًا على فعله على أكمل وجوهه، وذلك كالوضوء مرةً ومرتين وثلاثًا كله ثابت، والكثير أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثًا ثلاثًا، وأما الإحرام بالحج فلم يتكرر، وإنما جَرَى منه صلى الله عليه وسلم مرةً واحدةً، فلا يفعله إلا على أكمل وجوهه، قاله
النوويّ رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2817]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، يَعْنِي ابْنَ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما إِذَا قِيلَ لَهُ: الْإِحْرَامُ مِنْ الْبَيْدَاءِ، قَالَ: الْبَيْدَاءُ الَّتِي تَكْذِبُونَ فِيهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مِنْ عِنْدِ الشَّجَرَةِ، حِينَ قَامَ بِهِ بَعِيرُهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
وقوله: (حِينَ قَامَ بِهِ بَعِيرُهُ) - بفتح الموحّدة، وكسر العين المهملة -: مثلُ الإنسان يقع على الذكر والأنثى، يقال: حَلَبت بَعِيري، والْجَمَلُ بمنزلة الرجل يختص بالذكر، والناقة بمنزلة المرأة تختص بالأنثى، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: تبيّن بما ذُكر من أن البعير يُطلق على الذكر والأنثى أنه لا تخالف بين هذه الرواية، والرواية السابقة بلفظ:"ثم إذا استوت به ناقته قائمةً عند مسجد ذي الحليفة أَهَلَّ"، فالمراد بالبعير هنا هي الناقة، وبمعنى ذلك الرواية التي قبلها:"كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة أَهَلّ"، فالراحلة هي الناقة، وقد ذكر أهل اللغة أن الراحلة تُطلق أيضًا على الذكر والأنثى
(3)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 92.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 53.
(3)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 222.
(5) - (بَابُ الإِهْلَالِ مِنْ حَيْثُ تَنْبَعِثُ الرَّاحِلَةُ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2818]
(1187) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ، أنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعًا، لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ يَصْنَعُهَا، قَالَ: مَا هُنَّ يَا ابْنَ جُرَيْجٍ؟ قَالَ: رَأَيْتُكَ لَا تَمَسُّ مِنَ الْأَرْكَانِ إِلَّا الْيَمَانِيَيْنِ، وَرَأَيْتُكَ تَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ، وَرَأَيْتُكَ تَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ، وَرَأَيْتُكَ إِذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوُا الْهِلَالَ، وَلَمْ تُهْلِلْ أَنْتَ حَتَّى يَكُونَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: أَمَّا الْأَرْكَانُ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمَسُّ إِلَّا الْيَمَانِيَيْنِ، وَأَمَّا النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ، فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتي لَيْسَ فِيهَا شَعَرٌ، وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا، وَأَمَّا الصُّفْرَةُ، فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصْبُغُ بِهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَصْبُغَ بِهَا، وَأمَّا الإِهْلَالُ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ) أبو سَعْد المدنيّ، واسم أبيه كيسان، ثقةٌ فاضلٌ [3] مات في حدود (120) أو قبلها، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.
2 -
(عُبَيْدُ بْنُ جُرَيْجٍ) التيميّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ [3].
رَوَى عن ابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، والحارث بن مالك بن الْبَرْصاء.
وروى عنه زيد بن أبي عَتّاب، وسليمان بن موسى، ويزيد بن أبي حبيب، ويزيد بن عبد الله بن قُسَيط.
قال أبو زرعة، والنسائيّ: ثقة، وقال العجليّ: مكيّ تابعيّ ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، والترمذيّ في "الشمائل"، وابن ماجه، وليس له عندهم إلا هذا الحديث فقط.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، إلا شيخه، وقد دخلها.
3 -
(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ عن تابعيّ، وهو من رواية الأقران؛ لأنهما من الطبقة الثالثة.
4 -
(ومنها): أن ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ) قال في "الفتح" هو مدنيّ مولى بني تيم، وليس بينه وبين ابن جريج الفقيه المكيّ مولى بني أمية نَسَبٌ، فإن الفقيه هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وقد يُظَنّ أن هذا عمه، وليس كذلك، وهذا الإسناد كله مدنيون، وفيه رواية الأقران؛ لأن عبيدًا وسعيدًا تابعيان من طبقة واحدة. انتهى
(1)
.
(أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ) كنية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعًا) أي: أربع خصال (لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ يَصْنَعُهَا) يعني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد بعضهم، والظاهر من السياق انفراد ابن عمر بما ذُكِر دون غيره، ممن رآهم عبيد بن جُريج، وقال المازريّ: يَحْتَمِل أن يكون مراده: لا يصنعهن غيرك مجتمعةً، وإن كان يصنع بعضها.
(قَالَ) ابن عمر رضي الله عنهما (مَا هُنَّ يَا ابْنَ جُرَيْجٍ؟)"ما" استفهاميّة؛ أي: أيُّ شيء هذه الخصال؟ (قَالَ) عبيد (رَأَيْتُكَ لَا تَمَسُّ) من مَسَسِت أَمَسُّ بكسر الماضي، وفتح المستقبل مَسًا ومسيسًا، وهو الذي اختاره ثعلب في مَسِست أمسّ بكسر الماضي في "الفصيح"، وفي "الصحاح"، و"أفعال ابن القطاع" عن
(1)
"الفتح" 1/ 462.
أبي عبيدة، والمطَرِّزيّ في "شرحه" عن ابن الأعرابيّ، وابن فارس في "مُجْمَله"، وابن السِّكِّيت في "كتاب الإصلاح" مَسِسْتُ بالكسر، ومَسَست بالفتح، وبالكسر أفصح، وحكاه أيضًا ابن سِيدَهْ، وزعم ابن درستويه في كتاب "تصحيح الفصيح" أن مَسَسْتُ بالفتح خطأ، مما تلحن فيه العامة، ذكره في "العمدة"
(1)
.
(مِنَ الْأَرْكَانِ) أي: أركان الكعبة الأربعة، وظاهره أن غير ابن عمر من الصحابة الذين رآهم عبيد كانوا يستلمون الأركان كلها، وقد صَحّ ذلك عن معاوية وابن الزبير رضي الله عنهم.
(إِلَّا الْيَمَانِيَيْنِ) تثنية يَمَانٍ، بتخفيف الياء، هذا هو الأفصح الذي اختاره ثعلب، ولم يذكر ابن فارس غيره، وذكر الْمُطَرِّزيّ في كتابه "غرائب أسماء الشعر" عن ثعلب، عن سلمة، عن الفراء، عن الكسائيّ، قال: العرب تقول في النسبة إلى اليمن: رجل يَمَانٍ، وَيمَنِيّ، وَيَمَانِيّ، وفي "الجامع": النسبة إلى اليمن يَمَانٍ على غير قياس، والقياس يَمَنِيّ. وفي "الْمُحْكَم": يَمَانٍ على نادر المعدول، وألفه عوض عن الياء؛ لأنه يدلّ على ما تدل عليه الياء، وبنحوه ذكره في "المغرب"، وفي "الصحاح": قال سيبويه: وبعضهم يقول: يمانيّ بالتشديد، قال أمية بن خلف [من الوافر]:
يَمَانِيًّا بَظَلُّ يَشُدُّ كِيرًا
…
وَيَنْفُخُ دَائِمًا لَهَبَ الشُّوَاظِ
(2)
وسُميت باليمن؛ لأنها تلي يمين الكعبة، كما قيل للشام شام؛ لأنها عن شمال الكعبة
(3)
.
والمراد بهما الركن الأسود، والذي يسامته من مقابلة الصفا، وقيل للأسود: يمان تغليبًا
(4)
.
وقال النوويّ رحمه الله في "شرحه": قوله: "إلا اليمانيين" هما بتخفيف الياء، هذه اللغة الفصيحة المشهورة، وحَكَى سيبويه وغيره من الأئمة تشديدها في لغة قليلة، والصحيح التخفيف، قالوا: لأن نسبه إلى اليمن، فحقّه أن يقال:
(1)
"عمدة القاري" 3/ 37.
(2)
راجع: "عمدة القاري" 3/ 37.
(3)
"لسان العرب" 13/ 464.
(4)
"الفتح" 1/ 463.
اليمنيّ، وهو جائز، فلما قالوا: اليماني أبدلوا من إحدى ياءي النسب ألفًا، فلو قالوا: اليمانيّ بالتشديد لزم منه الجمع بين البدل والمبدل، والذين شدّدوها قالوا: هذه الألف زائدة، وقد تزاد في النسب، كما قالوا في النسب إلى صَنْعاء صنعانيّ، فزادوا النون الثانية، وإلى الرّيّ رازيّ، فزادوا الزاي، وإلى الرَّقَبَة رَقَبانيّ
(1)
، فزادوا النون.
والمراد بالركنين اليمانيين: الركن اليمانيّ، والركن الذي فيه الحجر الأسود، ويقال له العراقيّ؛ لكونه إلى جهة العراق، وقيل للذي قبله: اليمانيّ؛ لأنه إلى جهة اليمن، ويقال لهما: اليمانيان، تغليبًا لأحد الاسمين، كما قالوا: الأبوان للأب والأم، والقمران للشمس والقمر، والعمران لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ونظائره مشهورة، فتارةً يُغَلِّبون بالفضيلة، كالأبوين، وتارة بالخفة كالعمرين، وتارة بغير ذلك.
قال العلماء: ويقال للركنين الآخرين اللذين يليان الْحِجْر - بكسر الحاء -: الشاميان؛ لكونهما بجهة الشام، قالوا: فاليمانيان باقيان على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم، بخلاف الشاميين، فلهذا لم يُسْتَلَما، واستُلِم اليمانيان؛ لبقائهما على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ثم إن العراقيّ من اليمانيين اختَصَّ بفضيلة أخرى، وهي الْحَجَر الأسود، فاختص لذلك مع الاستلام بتقبيله، ووضع الجبهة عليه، بخلاف اليمانيّ، والله أعلم.
قال القاضي عياض: وقد اتَّفَقَ أئمة الأمصار والفقهاء اليوم على أن الركنين الشاميين لا يُسْتَلمان، وإنما كان الخلاف في ذلك العصر الأول، من بعض الصحابة، وبعض التابعين، ثم ذهب. انتهى
(2)
.
وقال في "العمدة": واليمانيّان: الركن اليماني، والركن الذي فيه الحجر الأسود، ويقال له: الركن العراقيّ؛ لكونه إلى جهة العراق، والذي قبله يمانيّ؛
(1)
قال في "القاموس": الأرقبُ: الأسد، والغليظ الرَّقَبَ، كالرَّقَبَانيّ، والرَّقَبَان محرّكةً، والاسم: الرَّقَبَةُ محرَّكة. انتهى.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 94 - 95.
لأنه من جهة اليمن، ويقال لهما: اليمانيان تغليبًا لأحد الاسمين، وهما باقيان على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم.
[فإن قلت]: لِمَ لا قالوا: الأسودين، ويأتي فيه التغليب أيضًا؟
[قلت]: لو قيل كذلك ربما كان يشتبه على بعض العوام أن في كل من هذين الركنين الحجر الأسود، وكان يفهم التثنية، ولا يفهم التغليب؛ لقصور فهمه بخلاف اليمانيين. انتهى
(1)
.
(وَرَأَيْتُكَ تَلْبَسُ) بفتح أوله، وثالثه، من باب تَعِبَ، لُبْسًا بضم، فسكون (النِّعَالَ) بكسر النون: جمع نعل، وهي الْحِذاءُ، وهي مؤنّثةٌ، وتُجمَع أيضًا على أَنْعُل، مثلُ سَهْم وسِهَام، وأسهُمٍ
(2)
.
وقال في "الفتح": النعال: جمع نَعْل، وهي مؤنّثة، قال ابن الأثير: هي التي تُسمّى الآن تاسومةً، وقال ابن العربيّ: النعل لباس الأنبياء، وإنما اتخذ الناس غيرها لما في أرضهم من الطين، وقد يُطلق النعل على كلّ ما يقي القدم، قال صاحب "المحكم": النعل، والنعلة: ما وقيت به القدم. انتهى
(3)
.
(السِّبْتِيَّةَ) - بكسر المهملة-: هي التي لا شعر فيها، مشتقة من السَّبْت، وهو الحلق، قاله في "التهذيب"، وقيل: السبت جلد البقر المدبوغ بالقَرَظ، وقيل: بالسُّبْت بضم أوله، وهو نبت يُدْبَغ به، قاله صاحب "المنتهى"، وقال الهرويّ: قيل لها: سبتية؛ لأنها انسبتت بالدباغ؛ أي: لانت به، يقال: رطبةٌ منسبتةٌ؛ أي: لَيِّنَةٌ، قاله في "الفتح"
(4)
.
وقال النوويّ رحمه الله: وأما "السبتية" - فبكسر السين، وإسكان الباء الموحدة - وقد أشار ابن عمر رضي الله عنهما إلى تفسيرها بقوله:"التي ليس فيها شعر"، وهكذا قال جماهير أهل اللغة، وأهل الغريب، وأهل الحديث: إنها التي لا شعر فيها، قالوا: وهي مشتقة من السَّبْت - بفتح السين - وهو الْحَلْق، والإزالة، ومنه قولهم: سَبَتَ رأسَهُ؛ أي: حلقه، قال الهرويّ، وقيل: سُمِّيت
(1)
"عمدة القاري" 3/ 38.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 613.
(3)
"الفتح" 13/ 341 "كتاب اللباس" رقم (5850).
(4)
"الفتح" 1/ 462.
بذلك؛ لأنها انسبتت بالدباغ؛ أي: لانت، يقال: رَطْبَةٌ مُنْسَبِتةٌ؛ أي: لَيِّنَةٌ، قال أبو عمرو الشيبانيّ: السبت كلُّ جلد مدبوغ، وقال أبو زيد: السبت جلود البقر مدبوغةً كانت، أو غير مدبوغة، وقيل: هو نوع من الدباغ يَقْلَع الشعر، وقال ابن وهب: النعال السبتية كانت سُودًا لا شعر فيها، قال القاضي عياض: وهذا ظاهر كلام ابن عمر في قوله: "النعال التي ليس فيها شعر"، قال: وهذا لا يخالف ما سبق، فقد تكون سُودًا مدبوغةً بالقرظ، لا شعر فيها؛ لأن بعض المدبوغات يبقى شعرها، وبعضها لا يبقى، قال: وكانت عادة العرب لباس النعال بشعرها غير مدبوغة، وكانت المدبوغة تُعْمَل بالطائف وغيره، وإنما كان يلبسها أهل الرَّفَاهية، كما قال عنترة يمدح رجلًا [من الكامل]:
بَطَلٌ كَأَنَّ ثِيَابَهُ فِي سَرْحَةٍ
…
يُحْذَى نِعَاَل السِّبْتِ لَيْسَ بِتَوْءَمِ
يعني أنه لم يولد توأمًا
(1)
.
وقال كُثَيِّر [من الوافر]:
كَأَنَّ مَشَافِرَ النَّجَدَاتِ مِنْهَا
…
إِذَا مَا قَارَفَتْ قَمْعَ الذُّبَابِ
بِأَيْدِي مَأْتَمٍ مُتَصَاعِدَاتٌ
…
نِعَالُ السِّبْتِ أَوْ عَذْبُ الثِّيَابِ
شَبَّهَ اضطراب مشافر الإبل، وهي تنفي الذباب عنها بنعال السِّبت في أيدي المأتم، والمأتم النساء اللواتي يبكين، ويَنُحْنَ على الميت.
وقوله: "أو عذب الثياب" يريد خِرَقًا يَحْبِسها النساء بأيديهنّ عند النياح، ويَحْبِسْن أيضًا النِّعَال بأيديهنّ، كان هذا من فعل المأتم في الجاهلية، قاله ابن عبد البرّ رحمه الله
(2)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله: والسين في جميع هذا مكسورة، قال: والأصح عندي أن يكون اشتقاقها، وإضافتها إلى السِّبْت الذي هو الجلد المدبوغ، أو إلى الدباغة؛ لأن السين مكسورة في نسبتها، ولو كانت من السَّبْت الذي هو الحلق، كما قاله الأزهريّ وغيره لكانت النسبة سَبْتِيّة، بفتح السين، ولم يروها أحد في هذا الحديث، ولا في غيره، ولا في الشِّعر فيما علمت إلا
(1)
"التمهيد" لابن عبد البر 21/ 77.
(2)
"التمهيد" 21/ 77 - 78.
بالكسر. انتهى كلام القاضي رحمه الله
(1)
.
(وَرَأَيْتُكَ تَصْبُغُ) - بضم الباء الموحّدة، وفتحها - لغتان مشهورتان، حكاهما الجوهريّ وغيره، قال المازريّ: قيل: المراد في هذا الحديث صَبْغُ الشعر، وقيل: صَبْغ الثوب، قال: والأشبه أن يكون صبغ الثياب؛ لأنه أخبر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صبغ، ولم يُنْقَل عنه صلى الله عليه وسلم أنه صبغ شعره.
قال القاضي عياض: هذا أظهر الوجهين، وإلا فقد جاءت آثار عن ابن عمر بَيَّنَ فيها تصفير ابن عمر لحيته، واحتج بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يُصَفِّر لحيته بالوَرْس والزعفران، رواه أبو داود
(2)
.
وذكر أيضًا في حديث آخر احتجاجه بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصبغ بها ثيابه حتى عمامته
(3)
. انتهى
(4)
.
وقال ابن عبد البرّ رحمه الله في "الاستذكار": اختَلَفَ العلماء في تأويل هذا الحديث، فقال قوم: أراد الخضاب بها، واحتجوا بما وقع في بعض روايات هذا الحديث بلفظ:"وأما تصفيري لحيتي، فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصَفِّر لحيته"، وفي رواية محمد بن إسحاق لهذا الحديث عن سعيد بن أبي سعيد، عن عبيد بن جريج قال: قلت لابن عمر: يا أبا عبد الرحمن رأيتك تُصَفِّر لحيتك، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُصَفِّر بالوَرْس، فأنا أُحِبّ أن أُصَفِّر به كما كان يصنع، ورواه حماد بن سلمة، عن عبيد الله بن عمر، عن سعيد بن أبي سعيد المقبريّ، عن ابن جريج
(5)
، قال: رأيت ابن عمر يُصَفِّر لحيته، قلت له: رأيتك تصفر لحيتك، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفّر لحيته.
قال وفي حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَخْضِب، ولكنه قد كان فيه شعرات بِيضٌ، فكان يغسلها بالحناء والسدر.
(1)
"إكمال المعلم" 4/ 185 - 186.
(2)
حديث صحيحٌ، رواه أبو داود في "سننه" 2/ 404.
(3)
رواه أبو داود في "سننه" بإسناد صحيح 2/ 374.
(4)
"إكمال المعلم" 4/ 184.
(5)
هو عبيد بن جُريج، فتنبّه.
وقال آخرون: معنى قول عبيد بن جريج: "رأيتك تصبغ بالصفرة"، أراد أنه كان يُصَفِّر ثيابه، ويلبس ثيابًا صُفْرًا، وأما الخضاب فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخضب.
ثم أخرج بسنده عن حميد الطويل قال: سئل أنس بن مالك عن الخضاب، فقال: خضب أبو بكر بالحنّاء والكتم، فخضب عمر بالحناء، قيل له: فرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لم يكن في لحيته عشرون شعرة بيضاء
(1)
، قال حميد رضي الله عنه كُنّ سبع عشرة شعرةً.
وأخرج أيضًا عن قتادة، قال: سألت سعيد بن المسيِّب: أخضب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لم يبلغ ذلك.
وذكر مالك عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يلبس الثوب المصبوغ بالْمِشْق، والمصبوغ بالزعفران.
ثم قال أبو عمر رحمه الله: حديث ابن عمر هذا يدلّ على أن قوله في حديث عُبيد بن جريج كان في صبغ الثياب بالصُّفْرة، لا في خضاب الشعر. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن الأصحّ كون المراد بقوله: "تصبغ بالصفرة" صبغ الشعر والثياب؛ لما تقدّم من أن ابن عمر كان يُصفّر لحيته، ويحتجّ بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يُصَفِّر لحيته بالوَرْس والزعفران، وهو حديث صحيحٌ رواه أبو داود.
ولِمَا صحّ أيضًا في حديثه الآخر من احتجاجه بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصبُغ بها ثيابه حتى عمامته. انتهى.
ويُجمع بين هذا وبين نفي أنس رضي الله عنه خضابه صلى الله عليه وسلم بأن ابن عمر رضي الله عنهما أخبر
(1)
حديث أنس رضي الله عنه هذا أخرجه البخاريّ في "صحيحه" عن محمد بن سيرين، قال: سألت أنس: أخضب النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: لم يبلغ الشيب إلا قليلًا"، وعن ثابت قال: سئل أنس عن خضاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه لم يبلغ ما يُخْضَب.
(2)
"الاستذكار" 4/ 53 - 54.
بما شاهده، ويدلّ على أن ذلك كان في بعض الأحيان، وأما نفي أنس رضي الله عنه فهو محمول على الأكثر الأغلب من حاله صلى الله عليه وسلم، أشار إلى هذا في "الفتح"
(1)
، وسيأتي الجمع بين هذا الحديث وحديث النهي عن التزعفر للرجال في "كتاب اللباس" حيث يذكر المصنّف رحمه الله هناك حديث النهي عن التزعفر للرجال - إن شاء الله تعالى -.
(بِالصُّفْرَةِ) متعلّق بـ "تصبغ"، وهو بضمّ الصاد المهملة، وسكون الفاء: لون دون الحمرة.
(وَرَأَيْتُكَ إِذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوُا الْهِلَالَ) أي: رفعوا أصواتهم بالتلبية من أول ذي الحجة (وَلَمْ تُهْلِلْ أَنْتَ حَتَّى يَكُونَ) ولفظ البخاريّ: "حتى كان"، ويجوز في "تكون" أن تكون تامةً، وأن تكون ناقصةً، فإن كانت تامة يكون "يومُ" مرفوعًا؛ لأنه اسم "يكون"، وإن كانت ناقصة تكون خبر "يكون"
(2)
.
(يَوْمُ التَّرْوِيَةِ) أي: الثامن من ذي الحجة، ومراده: فتُهِلّ أنت حينئذ، وتَبَيَّن من جواب ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان لا يُهِلّ حتى يركب قاصدًا إلى منى
(3)
.
قال النوويّ رحمه الله: يوم التروية بالتاء المثناة فوقُ، وهو الثامن من ذي الحجة، سُمِّي بذلك؛ لأن الناس كانوا يتروون فيه من الماء؛ أي: يحملونه معهم من مكة إلى عرفات؛ ليستعملوه في الشرب وغيره. انتهى
(4)
.
وقال في "العمدة": اختلفوا في سبب التسمية بيوم التروية على قولين، حكاهما الماورديّ وغيره:
[أحدهما]: لأن الناس يتروون فيه من الماء من زمزم؛ لأنه لم يكن بمنى ولا بعرفة ماء.
[والثاني]: أنه اليوم الذي رأى فيه آدم عليه السلام حواء.
قال: وفيه قول آخر، وهو أن جبريل عليه السلام أرى فيه إبراهيم أول
(1)
"الفتح" 13/ 416 "كتاب اللباس" رقم (5894).
(2)
راجع: "عمدة القاري" 3/ 38.
(3)
"الفتح" 1/ 462.
(4)
"شرح النوويّ" 8/ 96.
المناسك، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: سُمِّي بذلك؛ لأن إبراهيم عليه السلام أتاه الوحي في منامه أن يذبح ابنه، فتَرَوَّى في نفسه: أمن الله تعالى هذا أم من الشيطان؟ فأصبح صائمًا، فلما كان ليلة عرفة أتاه الوحي، فعرف أنه الحقّ من ربه، فسُمِّيت عرفة، رواه البيهقيّ في "فضائل الأوقات" من رواية الكلبيّ، عن أبي صالح عنه
(1)
، ثم قال: هكذا قال في هذه الرواية.
ورَوَى أبو الطفيل، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن إبراهيم عليه السلام لما ابْتُلِي بذبح ابنه أتاه جبريل عليه السلام، فأراه مناسك الحج، ثم ذهب به إلى عرفة، قال: وقال ابن عباس: سميت عرفة؛ لأن جبريل عليه السلام قال لإبراهيم عليه السلام: هل عرفتَ؟ قال: نعم، فمن ثَمّ سُمِّيت عرفة. انتهى
(2)
.
(فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما مجيبًا لعبيد بن جُريج عما سأله عنه (أَمَّا الْأَرْكَانُ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمَسُّ إِلَّا الْيَمَانِيَيْنِ، وَأَمَّا النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ، فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعَرٌ، وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا) أي: في النعال، قال النوويّ: معناه: يتوضّأ، ويلبسها، ورجلاه رطبتان. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال النوويّ، وفيه نظر، بل الظاهر أنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضّأ، ويغسل رجليه، وهما في نعليه، فتأمل، والله تعالى أعلم.
(فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا، وَأَمَّا الصُّفْرَةُ، فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصْبُغُ بِهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَصْبُغَ بِهَا، وَأَمَّا الْإِهْلَالُ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ) أي: حتى تستوي قائمة، يقال: بعثتُ الناقةَ: أَثَرتُها، فانبعثت هي، وبعثته، فانبعث في السير؛ أي: أسرع، والمعنى هنا: استواؤها قائمةً، وفي الحقيقة هو كناية عن ابتداء الشروع في أفعال الحج.
والراحلةُ: هي الْمَرْكَبُ من الإبل ذكرًا كان أو أنثى، كما تقدّم
(3)
.
قال المازريّ رحمه الله: أجاب ابن عمر رضي الله عنهما السائل بضرب من القياس، حيث لم يتمكن من الاستدلال بنفس فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسألة بعينها، فاستَدَلّ بما في معناه، ووجه قياسه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما أحرم عند الشروع في
(1)
والكلبيّ ضعيف.
(2)
"عمدة القاري" 3/ 38 - 39.
(3)
"عمدة القاري" 3/ 39.
أفعال الحج، والذهاب إليه، فأَخَّر ابن عمر الإحرام إلى حال شروعه في الحجّ، وتوجهه إليه، وهو يوم التروية، فإنهم حينئذ يخرجون من مكة إلى منى.
قال: ووافق ابن عمر على هذا الشافعيّ، وأصحابه، وبعض أصحاب مالك وغيرهم، وقال آخرون: الأفضل أن يُحرم من أول ذي الحجة، ونقله القاضي عن أكثر الصحابة، والعلماء، والخلاف في الاستحباب، وكل منهما جائز بالإجماع. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 2818 و 2819 و 2820 و 2821 و 2822](1187)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(166)، و"الحجّ"(1514 و 1552) و"اللباس"(5851)، و (أبو داود) في "المناسك"(1772)، و (الترمذيّ) في "الشمائل"(74)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 80 - 81) و"المناسك"(5/ 163 - 164)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(3626)، و (مالك) في "الموطّإ"(1/ 333)، و (الحميديّ) في "مسنده"(651)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 443)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 17 - 18 و 29 و 37)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 71)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2725)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3763)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 184)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(3/ 15)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 424)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 273)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 31 و 76) و"المعرفة"(4/ 53)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1870)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن الأفضل في الإحرام أن يكون وقت انبعاث الراحلة
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 96.
متوجّهةً إلى مكةً، لا عقب الركعتين، قال النوويّ رحمه الله قوله في هذا الحديث:"حتى تنبعث به راحلته"، وفي الحديث السابق:"ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهلّ"، وفي الحديث الذي قبله:"كان إذا استوت به راحلته قائمةً عند مسجد ذي الحليفة أهلّ"، وفي رواية:"حين قام به بعيره"، وفي رواية:"يُهِلّ حين تستوي به راحلته قائمةً".
هذه الروايات كلها متفقة في المعنى، وانبعاثها هو: استواؤها قائمةً، وفيها دليل لمالك، والشافعيّ والجمهور، أن الأفضل أن يُحْرِم إذا انبعثت به راحلته.
وقال أبو حنيفة: يُحْرِم عقب الصلاة، وهو جالس قبل ركوب دابته، وقبل قيامه، وهو قول ضعيف للشافعيّ، وفيه حديث من رواية ابن عباس رضي الله عنهما، لكنه ضعيف. انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): أن فيه بيان أن التلبية لا تتقدّم على الإحرام.
3 -
(ومنها): أن فيه جواز لبس النعال السّبتيّة، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: لا أعلم خلافًا في جواز لبسها في غير المقابر، وأما في المقابر فقد جاء فيها النهي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وعن العلماء. انتهى.
4 -
(ومنها): ما قال أبو عمر رحمه الله: في هذا الحديث دليلٌ على أن الاختلاف في الأفعال والأقوال والمذاهب كان في الصحابة موجودًا، وهو عند العلماء أصحُّ ما يكون في الاختلاف، إذا كان بين الصحابة، وأما ما أجمع عليه الصحابة، واختَلَف فيه مَن بعدهم، فليس اختلافهم بشيء، وإنما وقع الاختلاف بين الصحابة والله أعلم في التأويل الْمُحْتَمِل فيما سمعوه، ورأوه، أو فيما انفرد بعلمه بعضهم دون بعض، أو فيما كان منه صلى الله عليه وسلم على طريق الإباحة في فعله لشيئين مختلفين. انتهى
(2)
.
5 -
(ومنها): ما قاله أبو عمر رحمه الله أيضًا: وفي هذا الحديث دليلٌ على أن الحجة عند الاختلاف السنّة، وإنها حجة على من خالفها، وليس من خالفها
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 94.
(2)
"التمهيد" لابن عبد البر 21/ 75 - 76.
بحجة عليها، ألا ترى أن ابن عمر رضي الله عنهما لما قال له عُبيد بن جريج: رأيتك تصنع أشياء لا يصنعها أحد من أصحابك، لم يستوحش من مفارقة أصحابه؛ إذ كان عنده في ذلك علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل له ابن جريج: الجماعة أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منك، ولعلك وَهِمْتَ كما يقول اليوم مَن لا علم له، بل انقاد للحقّ إذ سمعه، وهكذا يلزم الجميع، وبالله التوفيق
(1)
.
6 -
(ومنها): ما قاله رحمه الله أيضًا: وأما قوله في الحديث: "فقال ابن عمر: لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يُهِلّ حتى تنبعث به راحلته"، فإن ابن عمر رضي الله عنهما قد جاء بحجة قاطعة، نَزَعَ بها، وأخذ بالعموم في إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يخص مكة من غيرها، وقال: لا يُهِلّ الحاج إلا في وقت يتصل له عمله، وقصده إلى البيت، ومواضع المناسك والشعائر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلّ، واتصل له عمله، وقد تابع ابن عمر على إهلاله هذا في إهلال المكي من غير أهلها جماعة من أهل العلم، كما سيأتي تحقيقه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في وقت الإهلال بالحجّ:
قال الإمام ابن قُدامة رحمه الله: المستحب أن يحرم عقب الصلاة، فإن حضرت صلاة مكتوبة أحرم عقيبها، وإلا صلى ركعتين تطوعًا، وأحرم عقيبهما، استَحَبّ ذلك عطاء، وطاوس، ومالك، والشافعيّ، والثوريّ، وأبو حنيفة، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر، وروي ذلك عن ابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهما.
وقد رُوي عن أحمد أن الإحرام عقب الصلاة، وإذا استوت به راحلته، وإذا بدأ بالسير سواء؛ لأن الجميع قد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من طرق صحيحة، قال الأثرم: سألت أبا عبد الله: أيما أحب إليك: الاحرام في دبر الصلاة، أو إذا استوت به راحلته؟ فقال: كل ذلك قد جاء، في دبر الصلاة، وإذا علا البيداء، وإذا استوت به ناقته، فوَسَّع في ذلك كله.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ركب النبيّ صلى الله عليه وسلم راحلته حتى استوت على البيداء أهلّ هو وأصحابه، وقال أنس رضي الله عنه: لَمّا ركب راحلته، واستوت به أهلّ،
(1)
"التمهيد" لابن عبد البر 21/ 75 - 76.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: أهلّ النبي صلى الله عليه وسلم حين استوت به راحلته قائمةً، رواهنّ البخاري.
ثم قال بعد ذكر الاختلاف: وهذا على سبيل الاستحباب، وكيفما أحرم جاز، لا نعلم أحدًا خالف في ذلك. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله
(1)
.
وقال ابن عبد البرّ رحمه الله بعد ذكر حديث ابن عمر رضي الله عنهما المذكور في الباب ما نصّه: وأخذ بالعموم في إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يخص مكة من غيرها، وقال: لا يُهِلّ الحاج إلا في وقت يتصل له عمله، وقصده إلى البيت، ومواضع المناسك والشعائر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلّ، واتصل له عمله، وقد تابع ابن عمر على إهلاله هذا في إهلال المكي من غير أهلها جماعة من أهل العلم، ذَكَر عبد الرزاق قال: حدّثنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا يُهِلّ أحد من مكة بالحج حتى يريد الرواح إلى منى، قال ابن طاوس: وكان أبي إذا أراد أن يُحرم من المسجد استلم الركن، ثم خرج، قال ابن جريج: وقال عطاء: إهلال أهل مكة أن يُهِلّ أحدهم حين تتوجه به دابته نحو منى، فإن كان ماشيًا فحين يتوجه نحو منى، قال ابن جريج: قال لي عطاءٌ: أهلّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ دخلوا في حجتهم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم عشية التروية حين توجهوا إلى منى، قال ابن جريج: وأخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله، وهو يخبر عن حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: فأمرنا بعدما طفنا أن نُحِل، قال: وإذا أردتم أن تنطلقوا إلى منى فأهلُّوا، قال: فأحللنا من البطحاء.
قال: وفي هذه المسألة مذهب آخر لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، تابعه عليه أيضًا جماعة من العلماء.
ذكر مالك في "الموطأ" عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب قال: يا أهل مكة ما شأن الناس يأتون شُعْثًا، وأنتم مُدَهِّنون؟ أهلُّوا إذا رأيتم الهلال.
وذكر مالك، عن هشام بن عروة، أن عبد الله بن الزبير أقام بمكة تسع
(1)
"المغني" 3/ 229 - 231.
سنين يُهِلّ بالحج لهلال ذي الحجة، وعروة بن الزبير معه يفعل ذلك.
قال مالك: من أهلّ بمكة من أهلها، ومن كان مقيمًا بها من أهل المدينة وغيرهم، فليؤخر الطواف الواجب بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، حتى يرجع من منى، ويكون إهلاله من جوف مكة، لا يخرج إلى الحرم، وكذلك فعل ابن عمر، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أهلّوا من مكة أخّروا الطواف، والسعي حتى رجعوا من منى.
وذكر عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن هشام بن عروة قال: أقام عبد الله بن الزبير تسع سنين يُهِلّ بالحج إذا رأى هلال ذي الحجة، ويطوف بين الصفا والمروة قبل أن يخرج إلى منى.
قال: وأخبرنا هشام بن حسان، قال: كان عطاء بن أبي رباح يُعجبه إذا توجه إلى منى أن يُهِلّ، ثم يمضي على وجهه.
وقال عطاء: إذا أحرم عشية التروية، فلا يطف بالبيت حتى يروح إلى منى.
قال هشام: وقال الحسن: أي ذلك فعل فلا بأس، إن شاء أهلّ حين يتوجه إلى منى، وإن شاء قبل ذلك، وإن أهلّ قبل يوم التروية، فإنه يطوف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة.
قال أبو عمر: ليس يريد الطواف الواجب؛ لأن الطواف الواجب لا يكون إلا بعد رمي جمرة العقبة، ولكنه يطوف ما بدا له بالبيت، ويركع إن شاء، وهو قول مالك أيضًا.
قال أبو عمر: قد روي عن ابن عمر في هذا الباب أنه فعل فيه أيضًا بقول أبيه، وهو كله واسع جائز لمن فعله، لا يختلف الفقهاء في جواز ذلك.
ذكر عبد الرزاق، عن عبد العزيز بن أبي رَوّاد، عن نافع، قال: أهلّ ابن عمر مرةً بالحج حين رأى الهلال، ومرةً أخرى بعد الهلال من جوف الكعبة، ومرة أخرى حين راح منطلقًا إلى منى، قال: وأخبرنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه أهلّ بالحج من مكة ثلاث مرات، فذكر مثله، قال: وأخبرنا معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر مثله، وعن معمر، وابن جريج، عن خُصَيف، عن مجاهد، عن ابن عمر نحوه، قال مجاهد: فقلت
لابن عمر: قد أهللت فينا إهلالًا مختلفًا، قال: أما أول عام الأول فأخذت بأخذ أهل بلدي، ثم نظرت فإذا أنا أَدْخُل على أهلي حرامًا، وأخرج حرامًا، وليس كذلك كنا نصنع، إنما كنا نُهِل ثم نُقبل على شأننا، قلت: فبأيّ ذلك نأخذ؟ قال: نُحرِم يوم التروية.
قال: وأخبرنا ابن عيينة، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: إن شاء المكيّ ألا يحرم بالحج إلا يوم منى فعل، قال: وكذلك إن كان أهله دون الميقات إن شاء أهلّ من أهله، وإن شاء من الحرم. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من استعراض أقوال أهل العلم وأدلّتهم في هذه المسألة أن الأرجح هو مذهب ابن عمر رضي الله عنهما وجماعة، أنه لا يُحرم إلا حين تنبعث به راحلته، سواء كان مكيًّا أو آفاقيًّا؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فخير الهدي هدي محمدّ صلى الله عليه وسلم، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في استلام الأركان:
قال أبو عمر رحمه الله: السنة التي عليها جمهور الفقهاء أن الركنين اليمانيين يُستلمان دون غيرهما، وأما السلف فقد اختلفوا في ذلك، فرُوي عن جابر، وأنس، وابن الزبير، والحسن، والحسين، أنهم كانوا يستلمون الأركان كلها، وعن عروة مثل ذلك، واختُلِف عن معاوية، وابن عباس في ذلك، فقال أحدهما: ليس من البيت شيء مهجور، والصحيح عن ابن عباس أنه كان لا يستلم إلا الركنين الأسود واليمانيّ، وهما المعروفان باليمانيين، وهي السنة، وعلى ذلك جماعة الفقهاء، منهم مالك، والشافعيّ، وأبو حنيفة، والثوريّ، والأوزاعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وداود، والطبريّ.
وحجتهم حديث ابن عمر رضي الله عنهما المذكور في الباب، وما كان مثله عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن أرجح الأقوال قول من قال: لا يُستلم من الأركان إلا اليمانيان؛ لعدم ثبوته عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فتبصّر،
(1)
"التمهيد" 21/ 86 - 90.
(2)
"التمهيد" 21/ 76 - 77.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2819]
(. . .) - (حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي أَبُو صَخْرٍ، عَن ابْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: حَجَجْتُ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنهما بَيْنَ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ ثِنْتَيْ عَشرَةَ مَرَّةً، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، لَقَدْ رَأَيْتُ مِنْكَ أَرْبَعَ خِصَالٍ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، بِهَذَا الْمَعْنَى، إِلَّا فِي قِصَّةِ الْإِهْلَالِ، فَإِنَّهُ خَالَفَ رِوَايَةَ الْمَقْبُرِيِّ، فَذَكَرَهُ بِمَعْنًى سِوَى ذِكْرِهِ إِيَّاهُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ) نزيل مصر، أبو جعفر السعديّ مولاهم، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253) وله (83) سنةً (م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(أَبُو صَخْرٍ) ابن أبي المخارق، حُميد بن زياد الْخَرّاط، صاحب الْعَباء المدنيّ، ثم المصريّ، صدوقٌ يَهِمُ [6](ت 189)(بخ م د ت عس ق) تقدم في "الطهارة" 5/ 558.
4 -
(ابْنُ قُسَيْطٍ) - مصغّرًا - هو: يزيد بن عبد الله بن قُسيط بن أسامة الليثيّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ [4](ت 122) وله (90) سنةً (ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 20/ 1301.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ) الفاعل ضمير ابن قُسيط؛ أي: ساق ابن قُسيط الحديث بمعنى حديث سعيد المقبريّ.
وقوله: (فَإِنَّهُ خَالَفَ رِوَايَةَ الْمَقْبُرِيِّ. . . إلخ) سيأتي نصّ ما ذكره ابن قسيط مخالفًا لرواية المقبري في التنبيه التالي.
وقوله: (فَذَكَرَهُ بِمَعْنًى سِوَى ذِكْرِهِ إِيَّاهُ)"ذَكَرَه" الأول بصيغة الماضي، وفاعله ضمير ابن قُسيط، والمنصوب ضمير الحديث، وأما "ذِكْرِه" الثاني فهو بصيغة المصدر، وأُضيف إليه "سوى"، وهو نعت لـ "معنًى"، والضمير المضاف إليه للمقبريّ، و"إيّاه" يعود إلى الحديث.
[تنبيه]: رواية ابن قُسيط، عن عبيد بن جُريج هذه ساقها أبو عَوَانة رحمه الله في "مسنده" (2/ 278) فقال:
وحدّثنا ابن أخي ابن وهب، قال: حدثني عَمِّي، قال: أخبرني أبو صَخْر، عن يزيد بن قُسيط، عن عُبيد بن جُريج، قال: حججت مع عبد الله بن عمر بين حجّ وعمرة ثنتا
(1)
عشرة مرةً، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، لقد رأيت منك أربع خصال، ما رأيتهنّ من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غيرك قال: وماذا يا ابن جريج؟ قال: رأيتك إذا أهللتَ، فدخلت العُرُش
(2)
قَطَعْت التلبية، ورأيتك إذا طُفْت بالبيت، كان أكثر ما تَمَسّ من الأركان الركن اليماني، ورأيتك تَحْتَذِي السِّبْت، وهو محلوق الشعر، ورأيتك تُغَيِّر بالصفرة، فقال: صدقت يا ابن جريج، خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دَخَل الْعُرُش قطع التلبية، فلا تزال تلبيتي حتى أموت، وطُفْتُ معه البيت، فكان أكثر ما يَمَسّ من الأركان الركن اليماني، فلا أزل أمسّه أبدًا، وهذا حذاؤه يا ابن جريج، ولا أزال أحتذيه، وهذا تغييره يا ابن جريج فلا أزال أغيره أبدًا.
قال أبو عوانة: قصة الإهلال مخالفة لقصة سعيد المقبريّ. انتهى.
[تنبيه آخر]: أخرج هذه الرواية أيضًا ابن خزيمة في "صحيحه" مع بيان ما دلّت عليه من الفوائد، ودونك نصّه (4/ 205):
(2696)
- حدّثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، حدّثنا عمي، حدّثني أبو صخر، عن ابن قُسيط، عن عُبيد بن حُنين
(3)
قال: حججت مع عبد الله بن
(1)
هكذا النسخة "ثنتا" بالألف، وهو على لغة من يُلزِم المثنّى الألف في الأحوال كلها، فتنبّه.
(2)
أي: بيوت مكة، قال في "المصباح" 2/ 402: العَرْشُ: السرير، وعَرْشُ البيت: سقفه، والْعَرْشُ أيضًا: شِبْهُ بيت من جَرِيد يُجعل فوقه الثُّمام، والجمع عُرُشٌ، مثلُ فَلْس وفُلُوس، والْعَرِيشُ مثله، وجمعه عُرُشٌ بضمّتين، مثلُ بَرِيد وبُرُد، وعلى الثاني: تمتّعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفلان كافرٌ بالْعُرُش؛ لأن بيوت مكة كانت عِيدانًا تُنْصَب، ويُظلّل عليها، وعلى الأول: وكان ابن عمر يقطع التلبية إذا رأى عُرُش مكة، يعني البيوت. انتهى.
(3)
هكذا نسخة "صحيح ابن خزيمة": "ابن حُنين" مكرّرًا عدّة مرّات، والظاهر أنه =
عمر بن الخطاب بين حجة وعمرة اثنتي عشرة مرة، قال: قلت له: يا أبا عبد الرحمن، لقد رأيت منك أربع خصال، فذكر الحديث، وقال: رأيتك إذا أهللت، فدخلت العُرُش، قَطَعت التلبية، قال: صدقت يا ابن حنين، خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخل العُرُش قطع التلبية، فلا تزال تلبيتي حتى أموت.
قال أبو بكر - هو ابن خزيمة -: قد كنت أرى للمعتمر التلبية حتى يستلم الحجر، أولَ ما يبتدئ الطواف لعمرته؛ لخبر ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر.
(2697)
- حدّثنا يعقوب بن إبراهيم الدَّوْرَقِيّ، ومحمد بن هشام قالا: حدّثنا هُشيم، أخبرني ابن أبي ليلى، قال محمد بن هشام: عن ابن أبي ليلى، قال أبو بكر: فلما تدبرت خبر عبيد بن حنين، كان فيه ما دلّ على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد كان يقطع التلبية عند دخول عُرُوش مكة، وخبر عُبيد بن حُنين أثبت إسنادًا من خبر عطاء؛ لأن ابن أبي ليلى ليس بالحافظ، وإن كان فقيهًا عالمًا، فأرى للمحرم كان بحج أو عمرة، أو بهما جميعًا قطع التلبية عند دخول عروش مكة، فإن كان معتمرًا لم يَعُدْ إلى التلبية، وإن كان مفردًا، أو قارنًا عاد إلى التلبية عند فراغه من السعي بين الصفا والمروة؛ لأن فعل ابن عمر كالدالّ على أنه رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم قطع التلبية في حجته إلى الفراغ من السعي بين الصفا والمروة.
حدّثناه الربيع بن سليمان، حدّثنا بشر بن بكر، عن الأوزاعيّ، قال: قال عطاء بن أبي رباح: كان ابن عمر يَدَعُ التلبية إذا دخل الحرم، ويراجعها بعدما يقضي طوافه بين الصفا والمروة.
(2698)
- حدّثنا محمد بن مهديّ العطار، حدّثنا عمرو - يعني ابن أبي سلمة - حدّثني ابن زَبْر - وهو عبد الله بن العلاء بن زَبْر - حدّثني القاسم بن محمد، قال: رأيت عبد الله بن عمر يقطع التلبية إذا دخل الحرم، ويعاود إذا طاف بالبيت، وإذا فرغ من الطواف بين الصفا والمروة.
= تصحيف من "ابن جُريج"، وهو عُبيد بن جُريج المذكور قبلُ، فليُحرّر، وأما عُبيد بن حُنين فراو آخر مدنيّ من طبقته، فليُتأمل، والله تعالى أعلم.
قال أبو بكر
(1)
: وأخبار النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة دالّة على أنه لم يقطع التلبية عند دخوله الحرم قطعًا لم يعاود، سأذكر تلبيته إلى أن رمى جمرة العقبة في موضعها من هذا الكتاب، إن وفق الله لذلك وشاء. انتهى كلام ابن خزيمة رحمه الله، وهو بحث نفيسٌ، وسنعود إلى إتمام البحث فيه في موضعه المناسب له - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2820]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ، وَانْبَعَثَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً، أَهَلَّ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) تقدّم قريبًا.
3 -
(عُبَيْدُ اللهِ) بن عُمر الْعُمريّ، تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(نَافِعٌ) مولى ابن عمر تقدّم قبل باب.
5 -
و (ابن عمر رضي الله عنهما) ذُكر قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.
(1)
هو ابن خزيمة.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما) أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا وَضَعَ رِجْلَهُ) ولفظ البخاريّ رحمه الله: "إذا أدخل رجله في الْغَرز، واستوت به ناقته"(فِي الْغَرْزِ) - بفتح الغين المعجمة، وسكون الراء، بعدها زاي - هو: ركاب كُور البعير إذا كان من جِلْد، أو خَشَب، أو حديد، وقيل: هو الكُور مطلقًا؛ كالرِّكاب للسرج
(1)
، قال في "المصباح": الْغَرْزُ مثالُ فَلْس: ركاب الإبل. انتهى
(2)
.
(وَانْبَعَثَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ)؛ أي: استوت به قائمةً، وفي الرواية التالية:"أهلّ حين استوت به ناقته قائمةً"؛ أي: رفعته مستويًا على ظهرها، فالباء للتعدية، وقيل:"به" حال، وكذا قوله:(قَائِمَةً) قاله القاري رحمه الله
(3)
.
(أَهَلَّ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ)؛ أي: رفع صوته بالتلبية، ونوى أحد النسكين، أو كليهما معًا (مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ) أي: من عند مسجد ذي الحليفة، والمراد أنه بدأ بالإهلال منه، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يُنكر بذلك على من روى أنه صلى الله عليه وسلم إنما أهلّ حين استوى على البيداء.
وقد اختلفت الروايات عن الصحابة رضي الله عنهم في مبدإ إهلاله صلى الله عليه وسلم.
(فمنها): ما يدلّ على أنه أهلّ في دبر الصلاة في مسجد ذي الحليفة، كما في رواية ابن عبّاس عند أحمد، والترمذيّ، والنسائيّ، والبيهقيّ، وفي رواية أبي داود المازني عن ابن حزم
(4)
.
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 97.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 445.
(3)
"مرقاة المفاتيح" 5/ 450.
(4)
قال أبو محمد بن حزم رحمه الله في "المحلَّى" 7/ 93: نا أحمد بن محمد بن الجسور، نا أحمد بن الفضل الدينوريّ، نا محمد بن جرير الطبريّ، حدّثني محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطيّ، نا يعقوب بن محمد، نا محمد بن موسى، نا إسحاق بن سعيد بن جبير، عن جعفر بن حمزة بن أبي داود المازنيّ، عن أبيه، عن جدّه أبي داود، وهو بدريّ، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج، فلما كان بذي الحليفة صلى في المسجد أربع ركعات، ثم لبى دبر الصلاة، ثم خرج إلى باب المسجد، فإذا راحلته قائمة، فلما انبعثت به أهلّ، ثم مضى فلما علا البيداء أهلّ. =
(ومنها): ما يدلّ على أنه أهلّ حين استوت به ناقته خارج مسجد ذي الحليفة عند الشجرة، كما وقع في روايات ابن عمر رضي الله عنهما عند أحمد، والشيخين، وغيرهم، وفي حديث أنس عند البخاريّ، وأبي داود، والبيهقيّ، والطحاويّ، وقال الزيلعيّ بعد ذكر حديث أنس: وأخرج - أي البخاريّ - أيضًا عن عطاء، عن جابر أن إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة حين استوت به راحلته. انتهى.
(ومنها): ما يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم أهلّ حين استوت به على البيداء؛ أي: بعدما علا على شَرَف البيداء، كما وقع في روايات ابن عبّاس رضي الله عنهما أيضًا عند أحمد، والبخاريّ، ومسلم، والترمذيّ، والطحاويّ، وفي حديث أنس عند أحمد، والنسائيّ، وأبي داود، وفي حديث سعد بن أبي وقّاص عند أبي داود، والنسائيّ، والبيهقيّ، والحاكم.
وقد جُمع بين هذه الروايات المختلفة بأن الناس كانوا يأتون أرسالًا، جماعة بعد أخرى، فرأى قوم شروعه صلى الله عليه وسلم في الإهلال بعد الفراغ من صلاته بمسجد ذي الحليفة، فنقلوا عنه أنه أهلّ بذلك المكان، ثمّ أهلّ لَمّا استقلّت به راحلته، فسمعه آخرون، فظنّوا أنه شرع في الإهلال في ذلك الوقت؛ لأنهم لم يسمعوا إهلاله بالمسجد، فقالوا: إنما أهلّ عندما استقلّت به راحلته، ثم روى كذلك من سمعه يُهلّ على شرف البيداء، وإلى هذا الجمع مال ابن القيّم، حيث قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر ركعتين، ثم أهلّ بالحجّ والعمرة في مصلّاه، ثم ركب على ناقته، وأهلّ أيضًا، ثم أهلّ لَمّا استقلّت به على البيداء. انتهى مختصرًا ملخّصًا.
ويؤيّد هذا الجمع ما رواه أحمد، وأبو داود، والحاكم، والبيهقيّ، والطحاويّ عن سعيد بن جبير قال: قلت لعبد الله بن عباس: يا أبا العباس عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أوجب، فقال: إني لأعلم الناس بذلك، إنها إنما كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة واحدة، فمن هناك اختلفوا، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجًّا، فلما صلى في
= قال عليّ - هو ابن حزم -: ومن حيث أهلّ أجزأه؛ لأنه فعل، لا أمرٌ. انتهى.
مسجده بذي الحليفة ركعتيه أوجب في مجلسه، فأهلّ بالحجّ حين فرغ من ركعتيه، فسمع ذلك منه أقوام، فحفظته عنه، ثم ركب، فلما استقَلّت به ناقته أهلّ، وأدرك ذلك منه أقوام، وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون أرسالًا، فسمعوه حين استقلت به ناقته يُهِلّ، فقالوا: إنما أهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استقلت به ناقته، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما علا على شرف البيداء أهلّ، وأدرك ذلك منه أقوام، فقالوا: إنما أهلّ حين علا على شرف البيداء، وايمُ الله لقد أوجب في مصلاه، وأهلّ حين استقلت به ناقته، وأهلّ حين علا على شرف البيداء. انتهى.
قال في "الفتح": وقد أزال الإشكال؛ أي: إشكال اختلاف الروايات في مكان إهلاله صلى الله عليه وسلم ما رواه أبو داود، والحاكم من طريق سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: عجبت. . . إلخ، فذكره، ثم قال: فعلى هذا فكان إنكار ابن عمر على من يخصّ الإهلال بالقيام على شرف البيداء. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قد سلك كثير من العلماء كابن القيّم، والحافظ، والشوكانيّ، وغيرهم طريقة الجمع بين هذه الأحاديث، ودليلهم حديث ابن عبّاس المذكور، وفيه نظر لا يخفى؛ لأنه من رواية خُصيف بن عبد الرحمن، وهو ضعيف، فلا يمكن الجمع بروايته، والحقّ أن الترجيح هو الأحقّ، فيُقدّم حديث ابن عمر المذكور في الباب على غيره من الأحاديث؛ لكونه أرجح، وقد أجاد أبو محمد بن حزم رحمه الله في ذلك، فقال: حديث ابن عبّاس في طريقه خصيف، وهو ضعيف، وحديث أبي داود الأنصاريّ المازنيّ من طريق قوم غير مشهورين، والأحاديث الدالّة على إحرامه صلى الله عليه وسلم بعدما استقلّت به راحلته، وإحرامه بعد الاستواء على البيداء كلها صحيحة، متّفقٌ على صحّتها، إلا أن في أحاديث ابن عمر زيادة على حديث جابر، وأنس، وعائشة رضي الله عنهم، وهو أنه صلى الله عليه وسلم أهلّ من عند مسجد ذي الحليفة حين أدخل رجله في الْغَرْز، واستقلّت به الراحلة، وهذا صريح في الدلالة على أنه لم يكن عقب الركوب، ولا في مصلّاه، ولو صحّ حديث ابن عبّاس، وأبي داود لوجب تقديم العمل به على حديث ابن عمر؛ لما فيه من الزيادة، لكن لَمّا كان حديث ابن عمر متّفقًا على صحّته، ولم يصحّ حديثهما وجب المصير إليه دونهما، ولَمّا
كان في حديث ابن عمر زيادة على حديث من سواه ممن اتُّفق على صحّة روايته، وهي كون الإهلال من عند المسجد، فيكون ذلك قبل الاستواء على البيداء، وجب العمل به، ويكون من رواه عند الاستواء على البيداء إنما سمعه حالتئذ يلبّي، فظنّ أن ذلك أول إهلاله.
قال: ويُمكن أن يُقضى بحديث ابن عمر على حديث ابن عبّاس، ويكون قوله:"في مصلّاه" زيادة من الراوي ليس من قول ابن عبّاس، ويصدُق على من أحرم من عند المسجد عند استقلال ناقته به أنه لَمّا فرغ من ركعتيه أهلّ، ولا يلزم من ذلك التعقيب، وهذا الجمع أولى من إسقاط حديث من أصله، والله أعلم. انتهى كلام ابن حزم رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: تحقيق ابن حزم رحمه الله المذكور حسنٌ إلا قوله: "ويمكن أن يُقضى بحديث ابن عمر. . . إلخ"، ففيه نظر لا يخفى، إذ هذا الجمع فرع الصحّة، وقد سبق أن الحديث ضعيف، فلا حاجة إلى تكلّف الجمع، بل يُعمل بما اتّفق على صحّته، وهو حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
والحاصل أن الأفضل هو الإحرام حين تنبعث به راحلته، ويضع رجله على الغرز، كما صحّ ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تقدّم تحقيق هذا، فتبصّر، والله تعالى وليّ التوفيق.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى بيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2821]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْن مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّهُ كَانَ يُخْبِرُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ قَائِمَةً).
(1)
راجع: "المرعاة على المشكاة" 9/ 448 - 449.
رجال هذا الإسناد: ستة:
- (هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) الحمّال، أبو موسى البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 243)(م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.
2 -
(حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ) الأعور المصّيصيّ، ترمذيّ الأصل، نزيل بغداد، ثم المصّيصة، ثقةٌ ثبتٌ، اختلط بآخره [9](ت 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 94.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم قبل بابين.
4 -
(صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ) الغفاريّ مولاهم، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [4] مات بعد (130) أو بعد (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
والباقيان ذُكرا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2822]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللهِ أَخْبَرَهُ؛ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَكِبَ رَاحِلَتَهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، ثُمَّ يُهِلُّ حِينَ تَسْتَوِي بِهِ قَائِمَةً).
رجال هذا الإسناد: ستة:
وقد تقدّم نفسه قبل باب، والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(6) - (بَابُ الْمَبِيتِ بِذِي الحُلَيْفَةِ، وَالصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهَا)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2823]
(1188) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ حَرْمَلَةُ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ؛
أَنَّ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَخْبَرَهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ أَنَّهُ قَالَ: بَاتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِذِي الْحُلَيْفَةِ مُبْدَأَهُ، وَصَلَّى فِي مَسْجِدِهَا).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى) بن حسّان المصريّ المعروف بابن التستريّ، صدوقٌ تُكلّم في بعض سماعاته، قال الخطيب: بلا حجة [10](ت 243)(خ م س ق) تقدم في "الإيمان" 8/ 134.
2 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن عمر بن الخطّاب العدويّ، أبو بكر المدنيّ، شقيق سالم، ثقةٌ [3](ت 106)(ع) تقدم في "صلاة المسافرين" 22/ 1760.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: بَاتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِذِي الْحُلَيْفَةِ مُبْدَأَهُ) قال القاضي عياض رحمه الله: هو بفتح الميم، وضمها، والباء ساكنة فيهما؛ أي: ابتداء حجه، و"مبدأه" منصوب على الظرف؛ أي: في ابتدائه، قال النوويّ رحمه الله: وهذا المبيت ليس من أعمال الحجّ، ولا من سننه، قال القاضي: لكن من فعله تأسيًا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم فحسنٌ. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: لقد أحسن القاضي رحمه الله في قوله هذا، فإن الاقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم فيما فعله، ولا سيّما في المناسك، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"لتأخذوا عني مناسككم"، رواه مسلم، فقد أكّد على أصحابه، بل على أمته كلّهم بأخذ مناسكه صلى الله عليه وسلم، فكلُّ ما فعله، من مبيت، أو غيره فنحن مأمورون بذلك.
والحاصل أن المستحبّ لمن جاء من ذي الحليفة أن يبيت هناك، ويصلي في مسجدها، كما بات النبيّ صلى الله عليه وسلم فيها، وصلّى في مسجدها، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} الآية [الأحزاب: 21] وسيأتي تمام البحث في هذا في "باب التعريس بذي الحليفة" - إن شاء الله تعالى -.
(وَصَلَّى فِي مَسْجِدِهَا) قيل: يَحْتَمِل أن تكون الصلاة للإحرام، ويَحْتَمل أن تكون للفرض، والظاهر أنها للفرض؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما أحرم بعد الفريضة، وفي حديث أنس رضي الله عنه:"أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعًا وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين"، متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 2823](1188)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1532)، و (النسائيّ) في "المناسك"(5/ 126)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 426)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 274)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 416)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(7) - (بَابُ الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ عِنْدَ الإِحْرَامِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2824]
(1189) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، أَخْبَرَنَا
(1)
سُفْيَانُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحُرْمِهِ حِينَ أَحْرَمَ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ) بن الزِّبْرِقان، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم قريبًا.
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
3 -
(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم، تقدّم في السند الماضي.
4 -
(عُرْوَةُ) بن الزبير، تقدّم قريبًا.
5 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت أيضًا قريبًا.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من الزهريّ، والباقيان مكيّان.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، عن خالته.
5 -
(ومنها): أن عروة أحد الفقهاء السبعة، وعائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها) أنها (قَالَتْ: طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية القاسم عنها التالية: "كنت أطيّب رسول الله صلى الله عليه وسلم".
قال وليّ الدين رحمه الله: حقيقة قولها: "كنت أطيّب إلخ" تطييب بدنه، ولا يتناول ثيابه، وقد دل على اختصاص ذلك ببدنه الرواية التي فيها:"حتى أجد وبيص الطيب في رأسه، ولحيته"، وقد اتفق الشافعيّة على أنه لا يستحبّ تطييب الثياب عند إرادة الإحرام، وشذّ المتولي، فحكى قولًا باستحبابه، وصححه في "المحرّر"، و"المنهاج"، وفي جوازه خلاف عندهم، والأصحّ الجواز، فإذا قلنا بجوازه، فنزعه، ثم لبسه، ففي وجوب الفدية وجهان، صحح البغويّ وغيره الوجوب. انتهى كلام وليّ الدين.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لا دليل على منع تطييب الثياب عند الإحرام، والأعجب تصحيح البغويّ وجوب الفدية؛ فأين الدليل على ذلك من الكتاب، أو السنة، أو الإجماع؟ والله تعالى أعلم.
(لِحُرْمِهِ حِينَ أَحْرَمَ) قال النوويّ رحمه الله: ضبطوا "لِحُرْمِهِ" بضم الحاء وكسرها، وقد سبق بيانه في "شرح المقدمة"، والضم أكثر، ولم يذكر الهرويّ
وآخرون غيره، وأنكر ثابت الضم على المحدثين، وقال: الصواب الكسر، والمراد بـ "حِرمه" الإحرام بالحجّ.
وفيه دلالة على استحباب الطيب عند إرادة الإحرام، وأنه لا بأس باستدامته بعد الإحرام، وإنما يحرم ابتداؤه في الإحرام، وبهذا قال جماهير الصحابة، والتابعين، وجماهير المحدثين، والفقهاء، وقال آخرون بمنعه، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك، وترجيح الراجح بدليله، في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى -.
(وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ)؛ أي: لأجل إحلاله من إحرامه قبل أن يطوف طواف الإفاضة، وفي رواية عمرة:"ولحلّه قبل أن يُفِيض"، وللنسائيّ:"وحين يريد أن يزور البيت"، وله أيضًا:"ولحلّه بعدما يرمي جمرة العقبة قبل أن يطوف بالبيت".
فتبيّن أن المراد طواف الإفاضة، ففيه دلالة لاستباحة الطيب بعد رمي جمرة العقبة، والحلق، وقبل الطواف، وبهذا قال جماهير العلماء إلا مالكًا، فإنه كرهه قبل طواف الإفاضة، وهو محجوج بهذا الحديث، وسيأتي تمام البحث في هذا في "المسألة الخامسة" - إن شاء الله تعالى -.
وقال في "الفتح": واستُدِلّ به على حل الطيب وغيره من محرمات الإحرام بعد رمي جمرة العقبة، ويستمر امتناع الجماع ومتعلقاته على الطواف بالبيت، وهو دال على أن للحج تحللين، فمن قال إن الحلق نسك كما هو قول الجمهور، وهو الصحيح عند الشافعية يوقف استعمال الطيب وغيره من المحرمات المذكورة عليه، ويؤخذ ذلك من كونه صلى الله عليه وسلم في حجته، رَمَى، ثم حَلَق، ثم طاف، فلولا أن الطيب بعد الرمي والحلق لما اقتصرت على الطواف في قولها:"قبل أن يطوف بالبيت".
قال النووي في "شرح المهذب": ظاهر كلام ابن المنذر وغيره أنه لم يقل بأن الحلق ليس بنسك إلا الشافعيّ، وهو في رواية عن أحمد، وحُكِي عن أبي يوسف
(1)
.
(1)
"الفتح" 4/ 419.
وفي قولها: (وَلحِلّه) دليل على أنه حصل له تحللٌ، وفي الحجّ تحللان يحصلان بثلاثة أشياء: رمي جمرة العقبة، والحلق، وطواف الإفاضة مع سعيه، إن لم يكن سعى عقب طواف القدوم، فإذا فعل الثلاثة حصل التحللان، وإذا فعل اثنين منهما حصل التحلل الأول؛ أيَّ اثنين كانا، ويحل بالتحلل الأول جميع المحرمات، إلا الاستمتاع بالنساء، فإنه لا يحل إلا بالثاني، وقيل: يباح منهنّ غير الجماع بالتحلل الأول، وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة السابعة - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفق عليه.
[تنبيه]: قال الحافظ أبو عمر رحمه الله ما حاصله: هذا الحديث لم يُختلف فيه عن عائشة رضي الله عنها والأسانيد متواترة به، وهي صحاح، وقال الإمام ابن حزم رحمه الله بعد ذكر جُمَل من طرقه عن عائشة ما نصّه: فهذه آثار متواترة، متظاهرة، رواه عنها عروة، والقاسم، وسالم بن عبد اللَّه، وعبد اللَّه بن عبد اللَّه بن عمر، وعمرة، ومسروق، وعلقمة، والأسود، ورواه عن هؤلاء الناسُ الأعلام. انتهى
(1)
، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 2824 و 2825 و 2826 و 2827 و 2828 و 2829 و 2830 و 2831 و 2832 و 2833 و 2834 و 2835 و 2836 و 2837 و 2838 و 2839 و 2840](1189 و 1190)، و (البخاريّ) في "الغسل"(267 و 270 و 271) وفي "الحجّ"(1538 و 1539) وفي "اللباس"(5918 و 5923)، و (أبو داود) في "المناسك"(1745 و 1746)، و (الترمذيّ) في "الحج"(917)، و (النسائيّ) في "المناسك"(5/ 137) و"الكبرى"(2/ 338 و 458 و 459)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(2926 و 2927 و 2928 و 3042)، و (مالك) في
(1)
راجع: "طرح التثريب في شرح التقريب" 5/ 74 - 75.
"الموطإ"(727)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 120)، و (الحميديّ) في "مسنده"(211)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 207)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 39 و 181 و 186 و 214 و 238)، و (الدارميّ) في "سننه"(1801 و 1802 و 1803)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2581 و 2582 و 2583 و 2933)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 321 و 417)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 274 و 275 و 276)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(8/ 52)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(8/ 164)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 34 و 136) و"الصغرى"(3/ 540) و"المعرفة"(3/ 543)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان إباحة الطيب للمحرم عند إرادة إحرامه.
2 -
(ومنها): أنه لا بأس باستدامة الطيب بعد الإحرام، ولا يضرّ بقاء لونه، ورائحته، وإنما يحرم في الإحرام ابتداؤه، وهو قول الجمهور، وهو الحقّ، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك في المسألة التالية - إن شاء اللَّه تعالى -.
3 -
(ومنها): استحباب الطيب بعد التحلّل الأول قبل الطواف، وقد نصّ عليه الشافعيّ، وتابعه أصحابه.
4 -
(ومنها): استحباب الطيب للرجال والنساء مطلقًا؛ لأنه إذا فُعل في هذه الحالة التي من شأنها الشعث، فغيرها أولى.
5 -
(ومنها): بيان مشروعيّة خدمة المرأة زوجها.
6 -
(ومنها): أنه استُدلّ بقولها: "كنت أطيّب" على أن "كان" لا تقتضي التكرار؛ لأنها لم يقع منها ذلك إلا مرّة واحدة، وقد صرّحت في رواية عروة عنها بأن ذلك كان في حجة الوداع، كذا استدلّ به النوويّ في "شرح مسلم".
وتُعُقّب بأن المدّعَى تكراره إنما هو التطيّب، لا الإحرام، ولا مانع من أن يتكرّر التطيّب لأجل الإحرام مع كون الإحرام مرّة واحدة، ولا يخفى ما فيه.
وقال النوويّ في موضع آخر: المختار أنها لا تقتضي تكرارًا، ولا استمرارًا. وكذا قال الفخر في "المحصول". وجزم ابن الحاجب بأنها تقتضيه،
قال: ولهذا استفدنا من قولهم: "كان حاتم يَقري الضيف" أن ذلك كان يتكرّر منه.
وقال جماعة من المحقّقين: إنها تقتضي التكرار ظهورًا، وقد تقع قرينة تدلّ على عدمه، لكن يستفاد من سياقه لذلك المبالغة في إثبات ذلك، والمعنى أنها كانت تكرر فعل التطيّب لو تكرّر منه فعل الإحرام لما اطّلعت عليه من استحبابه لذلك، على أن هذه اللفظة لم تتّفق الروايات عنها عليها، فقد حُذفت في أكثر الطرق، واللَّه تعالى أعلم
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله هؤلاء الجماعة، من أن "كان" تقتضي التكرار إلا لدليل، هو الحقّ، وقد بيّنت ذلك في "التحفة المرضيّة"، و"شروحها" في الأصول، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
7 -
(ومنها): أنه استُدلّ به على حلّ الطيب وغيره، من محرمات الإحرام بعد رمي جمرة العقبة، ويستمرّ امتناع الجماع، ومتعلقاته على الطواف بالبيت، وهو دالّ على أن للحجّ تحلّلين، فمن قال: إن الحلق نسك، كما هو قول الجمهور، وهو الصحيح عند الشافعيّة يوقّف استعمال الطيب وغيره من المحرّمات المذكورة عليه، ويؤخذ ذلك من كونه صلى الله عليه وسلم في حجته رمى، ثم حلق، ثم طاف، فلولا أن الطيب بعد الرمي، والحلق لما اقتصرت على الطواف في قولها:"قبل أن يطوف بالبيت". قال النوويّ في "شرح المهذّب": ظاهر كلام ابن المنذر وغيره أنه لم يقل بأن الحلق ليس بنسك إلا الشافعيّ، وهي رواية عن أحمد، وحكي عن أبي يوسف، واللَّه تعالى أعلم.
8 -
(ومنها): طهارة المسك؛ لقوله في الرواية الآتية: "كنت أطيّب النبيّ صلى الله عليه وسلم. . . بطيب فيه مسك"، وهذا مجمع عليه، إلا في قول شاذّ، لا يُعتدّ به
(2)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الطيب عند الإحرام:
(1)
راجع: "الفتح" 4/ 178.
(2)
راجع: "طرح التثريب في "شرح التقريب" 5/ 83.
ذهب الجمهور إلى استحباب التطيّب عند إرادة الإحرام، ولو بقي لونه ورائحته بعد الإحرام.
وممن قال بذلك الأئمةُ: أبو حنيفة، والشافعيّ، وأبو يوسف، وأحمد بن حنبل، وحكاه ابن المنذر عن سعد بن أبي وقّاص، وابن الزبير، وابن عبّاس، وإسحاق، وأبي ثور، وأصحاب الرأي. وحكاه الخطّابيّ عن أكثر الصحابة. وحكاه ابن عبد البرّ عن أبي سعيد الخدريّ، وعبد اللَّه بن جعفر، وعائشة، وأمّ حبيبة، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، والشعبيّ، والنخعيّ، وخارجة بن زيد، ومحمد ابن الحنفيّة، قال: واختُلف في ذلك عن الحسن، وابن سيرين، وسعيد بن جبير. وقال به الثوريّ، والأوزاعيّ، وداود. وحكاه النوويّ عن جمهور العلماء من السلف والخلف، والمحدّثين، والفقهاء، وعدّ منهم غير من قدّمنا معاوية، وحكاه ابن قُدامة عن ابن جريج. قال ابن المنذر: وبه أقول.
وذهب مالك إلى منع أن يتطيّب قبل الإحرام بما تبقى رائحته بعده، لكنه قال: إن فعل فقد أساء، ولا فدية عليه، وحكى الشيخ أبو الظاهر قولًا بوجوب الفدية، وعلّله بأن بقاء الطيب كاستعماله.
وقال محمد بن الحسن: يكره أن يتطيّب قبل الإحرام بما تبقى عينه بعده، وحكاه صاحب "الهداية" من الحنفيّة عن الشافعيّ، ولا يُعرف ذلك في مذهبه.
وحكى ابن المنذر عن عطاء كراهة الطيب قبل الإحرام، وحكاه النوويّ عن الزهريّ. قال القاضي عياض: وحكي أيضًا عن جماعة من الصحابة، والتابعين.
وقال ابن عبد البرّ: وممن كره الطيب للمحرم قبل الإحرام عمر بن الخطّاب، وعثمان بن عفّان، وعبد اللَّه بن عمر، وعثمان بن أبي العاصي، وعطاء، وسالم بن عبد اللَّه، على اختلاف عنه، والزهريّ، وسعيد بن جبير، والحسن، وابن سيرين، على اختلاف عنهم. وهو اختيار أبي جعفر الطحاويّ؛ إلا أن مالكًا كان أخفّهم في ذلك قولًا، ذكر ابن عبد الحكم عنه، قال: وترك الطيب عند الإحرام أحبّ إلينا. انتهى.
وقال الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ": والذي في "الصحيح" عن ابن عمر أنه قال: "ما أحبّ أن أُصبح محرمًا أنضخ طيبًا"، وليس في هذا التصريح بالمنع منه. انتهى.
وتأوّل هؤلاء حديث عائشة رضي الله عنها هذا على أنه تطيّب، ثم اغتسل بعده، فذهب الطيب قبل الإحرام، قالوا: ويؤيّد هذا قولها في الرواية الأخرى في "صحيح مسلم": "طيّبتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إحرامه، ثم طاف على نسائه، ثم أصبح محرمًا"، فظاهره أنه إنما تطيّب لمباشرة نسائه، ثم زال بالغسل بعده، لا سيّما، وقد نُقل أنه كان يتطهّر من كلّ واحدة قبل الأخرى، فلا يبقى مع ذلك طيب، ويكون قولها:"ثم أصبح ينضخ طيبًا"؛ أي: قبل غسله. وقد ثبت في رواية لمسلم أن ذلك الطيب كان ذَرِيرةً، وهي فُتاةُ قَصَب طيب، يُجاء به من الهند، وهي مما يذهبه الغسل. قالوا: وقولها: "كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو محرم"، المراد منه أثره، لا جرمه، هذا كلام المالكية.
قال النوويّ: ولا يوافَقون عليه، بل الصواب ما قاله الجمهور: إن الطيب مستحبّ للإحرام؛ لقولها: "طيّبته لحرمه"، وهذا ظاهر في أن الطيب للإحرام، لا للنساء، ويعضده قولها:"كأني أنظر إلى وَبيص الطيب". والتأويل الذي قالوه غير مقبول؛ لمخالفته الظاهر بلا دليل يحملنا عليه. انتهى.
وقال ابن عبد البرّ على لسان الذاهبين إلى استحباب الطيب للإحرام: لا معنى لحديث ابن المنتشر - يعني الذي فيه: "ثم طاف على نسائه" - لأنه ليس ممن يعارض به هؤلاء الأئمة، ولو كان ما كان في لفظه حجة؛ لأن قوله:"طاف على نسائه" يَحْتَمِل أن يكون طوافه لغير جماع؛ ليعلّمهنّ كيف يُحرمن، وكيف يعملن في حجّهنّ، أو لغير ذلك، والدليل على ذلك ما رواه منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها، قالت:"كان يرى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث، وهو محرم".
قالوا: والصحيح في حديث ابن المنتشر ما رواه شعبة عنه، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، فقال فيه:"فيطوف على نسائه، ثم يصبح محرمًا، ينضخ طيبًا". قالوا: والنضخ في كلام العرب: اللطخ، والظهور، ومنه قوله تعالى:{فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66)} [الرحمن: 66]. ذكر هذا كله وليّ الدين رحمه الله.
وقال الحافظ رحمه الله: واحتجّ المالكيّة بأمور:
(منها): أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل بعد أن تطيّب، لقوله في رواية ابن المنتشر المتقدّمة في "الغسل":"ثم طاف بنسائه، ثم أصبح محرمًا"، فإن المراد بالطواف الجماع، وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يغتسل عند كلّ واحدة، ومن ضرورة ذلك أن لا يبقى للطيب أثر.
ويردّه قولها في الرواية الماضية أيضًا: "ثم أصبح محرمًا، ينضخ طيبًا"، فهو ظاهر في أن نضخ الطيب - وهو ظهور رائحته - كان في حال إحرامه، ودعوى بعضهم أن فيه تقديمًا وتاخيرًا، والتقدير: طاف على نسائه، ينضخ طيبًا، ثم أصبح محرمًا خلافُ الظاهر، ويردّه قوله في رواية الحسن بن عبيد اللَّه، عن إبراهيم عند مسلم:"كان إذا أراد أن يُحرم يتطيّب بأطيب ما يجد، ثم أراه في رأسه، ولحيته بعد ذلك"، وللنسائيّ، وابن حبّان:"رأيت الطيب في مفرقه بعد ثلاث، وهو محرم".
وقال بعضهم: إن الوَبِيص كان بقايا الدهن المطيّب الذي تطيّب به، فزال، وبقي أثره، من غير رائحة.
ويردّه قول عائشة رضي الله عنها: "ينضخ طيبًا".
وقال بعضهم: بقي أثره، لا عينه، قال ابن العربيّ: ليس في شيء من طرق حديث عائشة أن عينه بقيت. انتهى.
وقد روى أبو داود، وابن أبي شيبة، من طريق عائشة بنت طلحة، عن عائشة، قالت:"كنّا نضمّخ وجوهنا بالمسك المطيّب قبل أن نحرم، ثم نحرم، فنعرق، فيسيل على وجوهنا، ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ينهانا"، فهذا صريحٌ في بقاء عين الطيب، ولا يقال: إن ذلك خاصّ بالنساء؛ لأنهم أجمعوا على أن الرجال والنساء سواء في تحريم استعمال الطيب إذا كانوا محرمين.
وقال بعضهم: كان ذلك طيبًا لا رائحة له، تمسّكًا برواية الأوزاعيّ، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة:"بطيب لا يشبه طيبكم"، قال بعض رواته: تعني لا بقاء له، أخرجه النسائيّ
(1)
.
(1)
برقم (41/ 2688).
ويردّ هذا التأويل ما في الذي قبله. ولمسلم من رواية منصور بن زاذان، عن عبد الرحمن بن القاسم:"بطيب فيه مسك"، وله من طريق الحسن بن عبيد اللَّه، عن إبراهيم:"كأني أنظر إلى وبيص المسك"، وللشيخين من طريق عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه:"بأطيب ما أجد"، وللطحاويّ، والدارقطنيّ من طريق نافع، عن ابن عمر، عن عائشة رضي الله عنها:"بالغالية الجيّدة"، وهذا يدلّ على أن قولها:"بطيب، لا يُشبه طيبكم"؛ أي: أطيب منه، لا كما فهمه القائل: تعني ليس له بقاء.
وادَّعَى بعضهم أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم، قاله المهلّب، وأبو الحسن القصّار، وأبو الفرج من المالكيّة، قال بعضهم: لأن الطيب من دواعي النكاح، فنَهَى الناس عنه، وكان هو أملك الناس لإربه، ففعله، ورجحه ابن العربيّ بكثرة ما ثبت له من الخصائص في النكاح. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"حُبّب إليّ النساء والطيب"، أخرجه النسائيّ من حديث أنس رضي الله عنه.
وتُعُقّب بأن الخصائص لا تثبت بالقياس.
وقال المهلّب: إنما خُصّ بذلك لمباشرته الملائكة لأجل الوحي.
وتُعقّب بأنه فرع ثبوت الخصوصيّة، وكيف بها؟ ويردّها حديث عائشة بنت طلحة المتقدّم.
ورَوَى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها، قالت:"طيّبت أبي بالمسك لإحرامه حين أحرم"، وبقولها:"طيّبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديّ هاتين"، أخرجه الشيخان من طريق عمر بن عبد الله بن عروة، عن جده، عنها، وعند البخاريّ من طريق سفيان، عن عبد الرحمن بن القاسم، بلفظ:"وأشارت بيديها".
واعتذر بعض المالكيّة بأن عمل أهل المدينة على خلافه.
وتُعُقّب بما رواه النسائيّ، من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن سليمان بن عبد الملك لَمّا حجّ، جمع ناسًا من أهل العلم، منهم القاسم بن محمد، وخارجة بن زيد، وسالم، وعبد اللَّه ابنا عبد اللَّه بن عمر، وعمر بن عبد العزيز، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، فسألهم عن التطيّب قبل الإفاضة، فكلّهم أمر به.
فهؤلاء فقهاء أهل المدينة، من التابعين، قد اتفقوا على ذلك، فكيف يدّعي مع ذلك العمل على خلافه؟ انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: قد تبيّن مما تقدّم من التحقيقات أن ما ذهب إليه الجمهور، من جواز استعمال الطيب عند إرادة الإحرام، ولو كان يبقى أثره بعد الإحرام هو الحق؛ لكونه سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا ثبتت السنّة بطل القياس، ولقد أحسن من قال، وأجاد في المقال [من الوافر]:
إِذَا جَالَتْ خُيُولِ النَّصِّ يَوْمًا
…
تُجَارِي فِي مَيَادِينِ الْكِفَاحِ
غَدَتْ شُبَهُ الْقِيَاسِيِّينَ صَرْعَى
…
تَطِيرُ رُؤُوسُهُنَّ مَعَ الرِّيَاحِ
واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): دلّ الحديث على إباحة التطيّب بعد رمي جمرة العقبة، والحلق، وقبل طواف الإضافة، وهو المراد بالطواف هنا، وإنما قلنا: بعد رمي جمرة العقبة والحلق؛ لأنه صلى الله عليه وسلم رتّب هذه الأفعال يوم النحر هكذا، فرمى، ثم حلق، ثم طاف، فلولا أن التطيّب كان بعد الرمي والحلق لما اقتصرت على الطواف في قولها:"قبل أن يطوف بالبيت".
قال النوويّ في "شرح مسلم": وهذا مذهب الشافعيّ، والعلماء كافّة، إلا مالكًا، فكرهه قبل طواف الإفاضة، وهو محجوج بهذا الحديث، وكذا حكاه القاضي عياض عن عامّة العلماء.
وقال الترمذيّ في "جامعه": رُوي عن عمر بن الخطّاب أنه قال: حَلّ كلّ شيء إلا النساء، والطيب.
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا، من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وغيرهم، وهو قول أهل الكوفة. انتهى.
وهذا الذي حكاه عن أهل الكوفة ليس بمعروف عنهم، وفي كتب الحنفية كـ "الهداية"، وغيرها الجزم بحلّ الطيب قبل الطواف.
ثم إن مالكًا مع قوله باستمرار تحريم الطيب يقول: إنه لا فدية عليه لو تطيّب، بخلاف الصيد، فإنه ممنوع منه عنده قبل الطواف كالطيب عنده، ومع
(1)
"الفتح" 4/ 178 - 180.
ذلك فيقول بلزوم الفدية لو اصطاد، وهو محتاج إلى الفرق بينهما.
وحُكي عن بعض أهل الكوفة القول بتحريم الطيب قبل الطواف، وبلزوم الفدية لو تطيّب، وهو القياس، أعني لزوم الفدية على القول بالتحريم، وبالفدية يقول الشافعية تفريعًا على قول شاذّ، حكاه بعضهم أن الطيب يستمرّ تحريمه إلى أن يطوف، وأنكر جماعة منهم هذا القول، وقطعوا بجوازه، واللَّه أعلم. قاله وليّ الدين رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: الحقّ الذي لا شكّ فيه هو ما ذهب إليه الجمهور من جواز الطيب قبل الطواف؛ لصحّة حديث الباب بذلك، ولا التفات إلى الرأي المخالف له، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): استدلّ بقولها: "لحِلّه قبل أن يطوف" على أنه حصل له التحلّل قبل الطواف، قال النوويّ في "شرح مسلم": وهذا متّفق عليه، ويوافقه كلامه في "شرح المهذّب"، فإنه أورد فيه من "سنن أبي داود" حديث أم سلمة رضي اللَّه تعالى عنها، مرفوعًا:"فإذا أمسيتم قبل أن تطوفوا هذا البيت، صِرْتم حُرُمًا، كهيئتكم قبل أن ترموا الجمرة، حتى تطوفوا به". وقال: إنه حديث صحيح. ثم حكى عن البيهقيّ أنه قال: لا أعلم أحدًا من الفقهاء قال به، ثم قال النوويّ: فيكون الحديث منسوخًا، دلّ الإجماع على نسخه، فإن الإجماع لا يَنسخ، ولا يُنسخ، لكن يدلّ على ناسخ.
قال وليّ الدين: وكذا قال البيهقيّ في "الخلافيّات": يشبه إن كان قد حفظه ابن يسار صار منسوخًا، ويستدلّ بالإجماع في جواز لبس المخيط بعد التحلّل الأول على نسخه. انتهى.
لكن الخلاف في ذلك موجود، قال ابن المنذر في "الإشراف" لَمّا حكى الخلاف فيما أُبيح للحاجّ بعد الرمي، وقبل الطواف: وفيه قول خامس، وهو أن المحرم إذا رمى الجمرة يكون في ثوبه حتى يطوف بالبيت، كذلك قال أبو قلابة. وقال عروة بن الزبير: من أخّر الطواف بالبيت يوم النحر إلى يوم النفر،
(1)
"طرح التثريب" 5/ 77 - 78.
فإنه لا يلبس القميص، ولا العمامة، وقد اختلف فيه عن الحسن البصريّ، وعطاء، والثوريّ. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: حديث أم سلمة رضي الله عنها الذي أشار إليه هو ما أخرجه أبو داود في "سننه"، ولفظه:
1999 -
حدثنا أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين - المعنى واحد - قالا: حدثنا ابن أبي عدي، عن محمد بن إسحق، حدثنا أبو عبيدة بن عبد اللَّه بن زمعة، عن أبيه، وعن أمه زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة، يحدثانه جميعًا ذاك عنها، قالت: كانت ليلتي التي يصير إليّ فيها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، مساء يوم النحر، فصار إليّ، ودخل عليّ وهب بن زمعة، ومعه رجل من آل أبي أمية، مُتَقَمِّصَين، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لوهب:"هل أفضت أبا عبد اللَّه؟ "، قال: لا، واللَّه يا رسول اللَّه، قال صلى الله عليه وسلم:"انزع عنك القميص"، قال: فنزعه من رأسه، ونزع صاحبه قميصه من رأسه، ثم قال: ولِمَ يا رسول اللَّه؟ قال: "إن هذا يوم رُخِّصَ لكم، إذا أنتم رميتم الجمرة أن تَحِلُّوا - يعني من كل ما حُرِمتُم منه - إلا النساء، فإذا أمسيتم، قبل أن تطوفوا هذا البيت، صرتم حُرُمًا، كهيئتكم قبل أن ترموا الجمرة، حتى تطوفوا به".
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا الحديث وإن صححه بعض العلماء، وقد كنت تابعتهم في "شرح النسائيّ"، إلا أن الصواب أنه غير صحيح؛ لأن فيه ثلاث علل:
[الأولى]: تفرّد أبي عُبيدة بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطّلب القرشيّ، وفيه جهالة، ولذا قال عنه في "التقريب": مقبول.
[الثانية]: تفرّد ابن إسحاق به أيضًا، وهو وإن كان إمامًا في المغازي إلا أنه إذا تفرّد بأحاديث الأحكام، ففيه نكارة، قال الإمام الذهبيّ رحمه الله في "السير" في ترجمته: وأما في أحاديث الأحكام، فينحطّ حديثه فيها عن رتبة الصحّة إلى رتبة الحسن، إلا فيما شذّ فيه، فإنه يعدّ منكرًا. انتهى كلام الذهبي باختصار
(1)
.
(1)
"سير أعلام النبلاء" 7/ 41.
وقد تفرّد بهذا الحديث، فيُعدّ منكرًا.
[الثالثة]: الاضطراب الواقع في إسناده، وقد أجاد بعض أهل التحقيق من المعاصرين
(1)
في دراسة هذا الحديث دراسة وافية، فتوصّل فيها إلى أن هذا الحديث شديد الضعف؛ لهذه العلل، وقد أجاد في ذلك وأفاد، فجزاه الله عن خدمة السنّة خير الجزاء.
والحاصل أن الحديث ضعيف، لا يثبت بمثله مخالفة ما عليه جماهير أهل العلم من أن الحاجّ إذا تحلّل التحلّل الأول جاز له كلّ شيء إلا النساء، فتأمل بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): قال وليّ الدين العراقيّ رحمه الله: وإذا قلنا بقول الجمهور، فاختلف العلماء في كيفيّة ذلك التحلّل، فقال ابن حزم الظاهريّ: حلّ من كلّ وجه، وليس للحجّ إلا تحلّل واحد، فيباح له سائر المحرّمات على المحرم، إلا الجماع، فإنه مستمرّ التحريم إلى أن يطوف طواف الإفاضة، وليس ذلك لأنه بقي عليه شيء من إحرامه، بل انقضى إحرامه كلّه، ولكن الجماع محرّم على من هو في الحجّ، وإن لم يكن مُحْرِمًا.
وسبقه إلى ذلك الشيخ أبو حامد شيخ العراقيين، من الشافعيّة، فقال: ليس للحجّ إلا تحلّل واحد، فإذا رمى جمرة العقبة زال إحرامه، وبقي حكمه حتى يحلق، ويطوف، كما أن الحائض إذا انقطع دمها زال الحيض، وبقي حكمه، وهو تحريم وطئها، حتى تغتسل، حكاه عنه صاحبه القاضي أبو الطيّب، وقال: هذا غلطٌ؛ لأن الطواف أحد أركان الحجّ، فكيف يزول الإحرام، وبعض الأركان باق؟ وهذان القائلان، وإن اتفقا على تحلّل واحد، فقد اختلفا في ذلك التحلّل، فقال الشيخ أبو حامد: هو بما سنحكيه بعد هذا عن الشافعيّة، وقال ابن حزم: هو دخول وقت الرمي بطلوع الشمس يوم النحر، فإذا دخل وقت الرمي حلّ المحرم، سواء رمى، أو لم يرم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم
(1)
وهو الشيخ الفاضل محمد سعيد بن عبد الله الكثيري، وقد قدّم له العلامة المحدث الشيخ مقبل بن هادي الوادعيّ رحمه الله، وفضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن السعد.
صحّ عنه جواز تقديم الطواف، والذبح، والرمي، والحلق بعضها على بعض، فإذا دخل وقتها بطل الإحرام، وإن لم يفعل شيئًا منها، وسبقه إلى ذلك أبو سعيد الإصطخريّ، من أئمّة الشافعيّة، فقال: إذا دخل وقت الرمي حصل التحلّل الأول، وإن لم يرم.
وحكى صاحب "التقريب" وجهًا شاذًّا أنا إذا لم نجعل الحلق نسكًا حصل التحلّل الأول بمجرّد طلوع الفجر يوم النحر، وقائلا هذين القولين لا يوافقان ابن حزم على أن للحجّ تحلّلًا واحدًا، فمقالته مركّبة من أمرين، قال بكلّ منهما بعض الشافعيّة، ولا نعلم له سلفًا في مجموع مقالته، واللَّه أعلم.
وقال جمهور الفقهاء، من أصحاب المذاهب الأربعة: للحجّ تحلّلان، ثم اختلفوا في أمرين:
(أحدهما): فيما يحصل به التحلّل الأول، فقالت الشافعيّة: إن قلنا: إن الحلق نسك، وهو الصحيح المشهور، حصل التحلّل الأول بفعل أمرين من ثلاثة أمور: وهي رمي جمرة العقبة، والحلق، وطواف الإفاضة مع سعيه، إن لم يكن سعى عقب طواف القدوم، فإذا فعل اثنين منها؛ أيُّ اثنين كانا، حصل التحلّل الأول.
وإن قلنا: إن الحلق ليس نسكًا، حصل التحلّل الأول بواحد من الرمي، والطواف، فأيهما فعله أوّلًا حلّ التحلّل الأول، وعند أصحابنا يجوز تقديم بعض هذه الأمور على بعض، وترتيبها بتقديم الرمي، ثم الحلق، ثم الطواف
(1)
مستحبّ فقط، قالوا: ولو لم يرم جمرة العقبة حتى خرجت أيام التشريق فات الرمي، ولزمه دم، ويصير كأنه رمى بالنسبة لحصول التحلّل به، والأصحّ عند الرافعيّ، والنوويّ أنه يتوقّف تحلّله على الإتيان ببدله، لكن نصّ الشافعيّ على خلافه.
وحكى الرافعيّ وجهًا شاذًّا أنه يحصل التحلّل الأول بالرمي وحده، أو الطواف وحده، ولو قلنا: الحلق نسك.
(1)
رمز بعضهم لهذا الترتيب بقوله: (ر ذ حط) فالراء للرمي، والذال للذبح، والحاء للحلق، والطاء للطواف.
وقالت الحنابلة: يحصل التحلّل الأول بالرمي، والحلق.
وقالت المالكيّة: للحجّ تحلّلان، يحصل أحدهما برمي جمرة العقبة، والآخر بطواف الإفاضة، ولو قدّم طواف الإفاضة على جمرة العقبة، قال مالك، وابن القاسم: يجزئه، وعليه هدي. وعن مالك أيضًا: لا يجزئه، وهو كمن لم يُفِضْ. وقال أصبغ: أحبّ إليّ أن يعيد الإفاضة، وهو في يوم النحر آكد.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: قول مالك، وابن القاسم المذكور مما لا يُلتفت إليه؛ لمخالفته النصّ الصحيح الصريح، حيث إنه صلى الله عليه وسلم سئل عن تقديم بعض هذه الأفعال على بعضها، فقال:"افعل ولا حرج"، فكيف يقال: لا يجزئه، أو يجزئه، ولكن عليه هدي؟ هذا شيء عجيب، واللَّه تعالى أعلم.
وقالت الحنفيّة: إن التحلّل الأول بالحلق خاصّة، دون الرمي، والطواف، فليسا من أسباب التحلّل، وفرّقوا بأن التحلّل هو الجناية في غير أوانها، وذلك مختصّ بالحلق، وأما ذبح الهدي، فليس مما يتوقّف عليه التحلّل، إلا أن الحنفية، والحنابلة قالوا: إن المتمتع إذا كان معه هديٌ لا يحلّ من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر، وقد خالفهم الجمهور في ذلك.
وقال الترمذيّ في "جامعه" في الكلام على هذا الحديث: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وغيرهم، يرون أن المحرم إذا رمى جمرة العقبة يوم النحر، وذبح، وحلق، أو قصر، فقد حلّ له كلّ شيء، حرم عليه إلا النساء، وهو قول الشافعيّ، وأحمد، وإسحاق.
قال الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ": فيه نظر من حيث إن المذكورين لا يتوقّف عندهم التحلّل الأول بالذبح، ثم حكى مقالة أبي حنيفة، وأحمد في المتمتّع الذي ساق الهدي، وقد تقدّمت. انتهى.
وقال الإسنويّ في "المهمّات": اتفق الأصحاب على أنه لا مدخل للذبح في التحلّل.
قال وليّ الدين: يشكل على ذلك ما أجاب به أصحابنا من حديث عائشة رضي الله عنها في "الصحيح": "من أحرم بعمرة، وأهدى، فلا يحلّ حتى ينحر هديه"، فقالوا: تقديره: ومن أحرم بعمرة، وأهدى، فليهلّ بالحجّ، ولا يحلّ
حتى ينحر هديه، قال: وممن ذكره النوويّ، وقال: ولا بدّ من هذا التأويل. انتهى، ومقتضاه أن الحاجّ لا يحلّ حتى ينحر هديه.
وفي سنن الدارقطنيّ، والبيهقيّ، من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا رميتم، وحلقتم، وذبحتم، فقد حلّ لكم كلّ شيء إلا النساء"، لكنه حديث ضعيف، مداره على الحجاج بن أرطاة، وهو ضعيف، ومع ذلك فاضطرب في إسناده، ولفظه، ورواه أبو داود بلفظ:"إذا رمى أحدكم جمرة العقبة، فقد حلّ له كل شيء، إلا النساء". ومقتضى كلام النوويّ في "شرح المهذّب" أن في رواية أبي داود ذكر الحلق أيضًا، وليس كذلك.
(الأمر الثاني): فيما يحلّ بالتحلّل الأول، وقد اتفق هؤلاء على أنه يحلّ به ما عدا الجماع، ومقدّماته، وعقد النكاح، والصيد، والطيب، وأجمعوا على أنه لا يحلّ الجماع، واختلفوا في بقيّة هذه الأمور:
فقال الشافعيّة: يحلّ الصيد، والطيب، واختلفوا في عقد النكاح، والمباشرة فيما دون الفرج، وفيه قولان للشافعيّ، أصحّهما التحريم، كذا صححه النوويّ، ونقله عن الأكثرين، وذكر الرافعيّ أن القائلين به أكثر عددًا، وقولهم أوفق لظاهر النصّ في "المختصر"، لكنه صحّح في "الشرح الصغير" الحلّ، واقتضى كلامه في "المحرّر" التفصيل بين المسألتين، فصرّح بإباحة عقد النكاح بالأول، وجعل المباشرة داخلة فيما يحلّ بالثاني، وكلام الحنابلة موافق للمرجّح عندنا، وعبارة الشيخ مجد الدين ابن تيمية في "المحرّر": ثم قد حلّ من كلّ شيء، إلا النساء، وعنه: يحلّ إلا الوطء في الفرج، وكذا مذهب الحنفيّة، قال صاحب "الهداية": وقد حلّ له كل شيء، إلا النساء، ثم قال: ولا يحلّ الجماع فيما دون الفرج عندنا خلافًا للشافعيّ، فنصب الخلاف معه على أحد قوليه، وأما عقد النكاح فهو جائزٌ عندهم في الإحرام.
وقال المالكيّة: يستمرّ تحريم النساء، والصيد، والطيب، إلا أنهم أوجبوا في الصيد الجزاء، ولم يوجبوا في الطيب الفدية، كما تقدّم.
قال ابن حزم: وهذا عجيب، فإن احتجّوا بالأثر الوارد في تطييب النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يطوف بالبيت قلنا: لا يخلو هذا الأثر من أن يكون صحيحًا، ففرض عليكم ألا تخالفوه، وقد خالفتموه، أو غير صحيح، فلا تراعوه،
وأوجبوا الفدية على من تطيّب، كما أوجبتموه على من تصيّد.
وقال ابن عبد البرّ: راعى مالك الاختلاف في هذه المسألة، فلم ير الفدية على من تطيّب بعد رمي جمرة العقبة، وقبل الإفاضة، وقال أبو العبّاس القرطبيّ: اعتذر أصحابنا عن هذا الحديث بادّعاء خصوصيّة النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك.
والجواب عنه: الأصل التشريع، وعدم التخصيص، والقول بالتخصيص يحتاج إلى دليل، وليس ثَمّ دليل على ذلك.
وقال ابن المنذر: اختلف أهل العلم فيما أبيح للحاجّ بعد رمي جمرة العقبة قبل الطواف بالبيت، فقال عبد الله بن الزبير، وعائشة، وعلقمة، وسالم بن عبد اللَّه، وطاوس، والنخعيّ، وعبد اللَّه بن حسن، وخارجة بن زيد، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي: يحلّ له كلّ شيء، إلا النساء. وروينا ذلك عن ابن عباس.
وقال عمر بن الخطّاب، وابن عمر: يحلّ كلّ شيء، إلا النساء، والطيب. وقال مالك: له كلّ شيء، إلا النساء، والطيب، والصيد، وقد اختلف فيه عن إسحاق، فذكر إسحاق بن منصور عنه ما ذكرناه، وذكر أبو داود الخفّاف عنه أنه قال: يحلّ له كلّ شيء، إلا النساء، والصيد. ثم قال: وفيه قول خامس، فذكر كلامه المتقدّم، وهو أن المحرم إذا رمى الجمرة يكون في ثوبه حتى يطوف بالبيت، ذكره وليّ الدين رحمه الله بتصرّف
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: قد سبق أن الراجح عندي هو ما قاله الجمهور من أن التحلّل الأول يبيح كل شيء إلا النساء، وقد أسلفت أن حديث أم سلمة رضي الله عنها من أن الحاجّ إذا لم يطف يوم النحر، ودخل عليه المساء عاد حرامًا ضعيف، لا يصلح للاحتجاج به، فتنّبه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2825]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: طَيَّبْتُ
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 5/ 78 - 82.
رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِي لِحُرْمِهِ حِينَ أَحْرَمَ، وَلِحِلِّهِ حِينَ أَحَلَّ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) الْقعنبيّ الحارثيّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، مدنيّ الأصل، وقد سكنها مدّةً، ثقةٌ عابد، من صغار [9](ت 221) بمكة (خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 17/ 617.
2 -
(أفلَحُ بْنُ حُمَيْدِ) بن نافع الأنصاريّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ، يقال له: ابن صُفيراء، ثقةٌ [7](ت 158) أو بعدها (خ م د س ق) تقدم في "الحيض" 9/ 737.
3 -
(الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن أبي بكر الصدّيق، تقدّم قريبًا.
4 -
(عائشة رضي الله عنها)، ذُكرت قبله.
[تنبيه]: هذا الإسناد من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (178) من رباعيّات الكتاب.
وقوله: (قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ) فيه تصريح بأن التحلل الأول يَحْصُل بعد رمي جمرة العقبة والحلق قبل الطواف، وهذا مُتّفقٌ عليه، قاله النوويّ رحمه الله.
قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر أن النوويّ رحمه الله أراد اتّفاق أهل مذهبه، وإلا فقد عرفت أن الخلاف فيه موجود، لكن هذا هو الصحيح، فتنبّه.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2826]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أنَّهَا قَالَتْ: كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، تقدّم أيضًا قبل باب.
3 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ) بن محمد بن أبي بكر الصدّيق، تقدّم قريبًا.
والباقيان ذُكرا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2827]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: طَيَّبْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِحِلِّهِ وَلِحُرْمِهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير الْهَمدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظ فاضل [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
2 -
(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنّيّ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
3 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) العمريّ، تقدّم قبل باب.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (لِحِلِّهِ وَلِحُرْمِهِ) تقدّم ضبطهما، والمراد عند إرادة الإحرام بالحج، وبعد الإحلال منه؛ لأن التطيّب بعد الإحرام لا يجوز، وكذا قبل التحلّل، فتنبّه.
والحديث متّفقٌ عليه، وسبق القول فيه قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2828]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا، وقَالَ ابْنُ حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ،
أَخْبَرَنِي
(1)
عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُرْوَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ، وَالْقَاسِمَ يُخْبِرَانِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: طَيَّبْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِي بِذَرِيرَةٍ، فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، لِلْحِلِّ وَالْإِحْرَامِ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ) الْبُرسانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم قبل باب.
5 -
(عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُرْوَةَ) بن الزبير بن العوّام الأسديّ المدنيّ، ثقةٌ قليل الحديث
(2)
[6].
رَوَى عن أبيه، وجدّه، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وعمرو بن سُليم الزُّرَقيّ.
وروى عنه ابن جريج، وابن إسحاق، والقاسم بن عبد الواحد، ويزيد بن الهاد، وغيرهم.
ذكره ابن حبان في "الثقات"، والبخاريّ في "تاريخه"، وابن أبي حاتم هكذا، وقال يعقوب بن شيبة: أنكر مصعب أن يكون لعبد الله بن عروة عقب، قال يعقوب: ولعل ابن جريج أراد بقوله: عمر بن عبد الله بن عروة عمر بن عروة.
قال الحافظ المزيّ: كذا قال، ولا التفات إلى ذلك؛ لأنه جاء منسوبًا هكذا في عدّة أحاديث من غير رواية ابن جريج أيضًا، قال الحافظ: وقد صرّح ابن جريج بالسماع منه، ولو كان هو عمر بن عروة لم يَلحَقه ابن جريج؛ لأنه قُتل مع عمه عبد الله بن الزبير، وقد ذكر ابن سعد عمر بن عبد الله بن عروة في
(1)
وفي نسخة: "أخبرنا".
(2)
هكذا صرّح في "الفتح" 13/ 444 بأنه ثقةٌ، فقوله في "التقريب": مقبول غير مقبول، فتنبّه.
الطبقة الرابعة من أهل المدينة، وقال: أمه أم حكيم بنت عبد الله بن الزبير، قال: وكان كبيرًا قليل الحديث، ولم يُعْقِب، وكذا ذكره ابن حبان في أتباع التابعين. انتهى
(1)
.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وليس له عندهم إلا هذا الحديث فقط.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ) هو جدّه عروة بن الزبير، وَ"الْقَاسِمَ" هو: ابن محمد بن أبي بكر الصدّيق.
وقوله: (بِذَرِيرَةٍ) بالذال المعجمة، وراءين، بوزن عَظِيمة: وهي نوع من الطيب مركَّبٌ، قال الداودي: تُجْمَع مفرداته ثم تُسْحَق، وتُنْخَل، ثم تُذَرّ في الشعر والطوق، فلذلك سُمِّيت ذَرِيرةً، كذا قال، وعلى هذا فكل طيب مركب ذريرةٌ، لكن الذريرة نوع من الطيب مخصوص، يعرفه أهل الحجاز وغيرهم، وجزم غير واحد منهم النوويّ بأنه فُتَاتُ قَصَب طيِّب، يجاء به من الهند، قاله في "الفتح"
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الذَّرِيرَةُ" ويقال أيضًا: "الذّرُورُ": نوع من الطيب، قال الزمخشريّ: هي فُتاتُ قَصَب الطيب، وهو قَصَبٌ يُؤتى به من الهند، كقصب النُّشّاب، وزاد الصغانيّ: وأُنبُوبه محشُوّ من شيء أبيض، مثلِ نَسْج الْعَنكبوت، ومَسْحُوقه عَطِرٌ إلى الصُّفْرة والبياض. انتهى
(3)
.
وقوله: (لِلْحِلِّ وَالْإِحْرَامِ) كذا وقع مختصرًا، وأخرجه الإسماعيليّ من رواية رَوح بن عُبادة، عن ابن جريج بلفظ:"حين أحرم، وحين رمى جمرة العقبة يوم النحر قبل أن يطوف بالبيت"
(4)
.
[تنبيه]: قوله: "بِيَدِي بِذَرِيرَةٍ، فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، لِلْحِلِّ وَالْإِحْرَامِ" اجتمع فيه أربع جارّات، وكلّها يتطلبه "طيّبت"، فيكون "بيدي" متعلّقًا به، و"بذريرة" متعلّقًا بحال، أو بالعكس؛ لئلا يتعلّق حرفا جرّ بمعنى على فعل واحد، وهو لا يجوز إلا في أفعل التفضيل، كما هو مقرّر في محلّه، وأما "في حجة
(1)
راجع: "تهذيب التهذيب" 7/ 412.
(2)
"الفتح" 13/ 444.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 207.
(4)
"الفتح" 13/ 444 - 445.
الوداع"، فيَحْتَمِل أن يتعلّق بـ "طيّبتُ"، أو بخبر مبتدإ محذوف؛ أي: ذلك كائن في حجة الوداع، وكذا قوله: "للحلّ والإحرام"، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2829]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، جَمِيعًا عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها بِأَيِّ شَيْءٍ طَيَّبْتِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ حِرْمِهِ؟ قَالَتْ: بِأَطْيَبِ الطِّيبِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.
2 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قريبًا.
3 -
(عُثْمَانُ بْنُ عُرْوَةَ) بن الزبير بن العوّام المدنيّ، أخو هشام، وكان أصغر منه، لكنه مات قبله، ثقةٌ [6] ما قبل (140)(خ م س ق) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 414.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (عِنْدَ حِرْمِهِ) أنه يجوز كسر حائه، وضمّها؛ أي: عند إرادته الإحرام.
وقولها: (بِأَطْيَبِ الطِّيبِ) هو المسك، كما جاء تفسيره عند المصنّف رحمه الله في "الأدب" من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه بلفظ:"والمسك أطيب الطيب".
وفي الرواية التالية: "كنت أطيّب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأطيب ما أقدر عليه"، وفي رواية:"طيّبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحِرمه حين أحرم، ولحلّه قبل أن يُفيض بأطيب ما وجدتُّ"، وفي رواية:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يُحرِم يتطيّب بأطيب ما يجد"، وفي رواية: "كأني أنظر إلى وَبِيص المسك في مَفْرِق
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو محرم"، وفي رواية: "كنت أطيّب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يُحرم، ويوم النحر قبل أن يطوف بطيب فيه مسك"، وكلها عند المصنّف.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2830]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُرْوَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عُرْوَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِأَطْيَبِ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، ثُمَّ يُحْرِمُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة بن زيد القرشيّ مولاهم، الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201) وهو ابن ثمانين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
3 -
(هِشَامُ) بن عروة، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُرْوَةَ) قال في "الفتح": هكذا أدخل هشام بينه وبين أبيه عروة في هذا الحديث أخاه عثمان، وذكر الحميديّ عن سفيان بن عيينة أن عثمان قال له: ما يروي هشام هذا الحديث إلا عني. انتهى.
وقد ذكر مسلم فيما سبق في "مقدمة كتابه" أن الليث، وداود العطار، وأبا أسامة، وافقوا وهيب بن خالد، عن هشام في ذكر عثمان، وأن أيوب، وابن المبارك، وابن نمير، وغيرهم رووه عن هشام، عن أبيه، بدون ذكر عثمان.
قال الحافظ: ورواية الليث عند النسائيّ، والدارميّ، ورواية داود العطار عند أبي عوانة، ورواية أبي أسامة وصلها مسلم، ورواية أيوب عند النسائيّ.
وذَكَرَ الدارقطنيّ أن إبراهيم بن طَهْمان، وابن إسحاق، وحماد بن سلمة، في آخرين، رووه أيضًا عن هشام بدون ذكر عثمان، قال: ورواه ابن عيينة عن
هشام، عن عثمان قال: ثم لقيت عثمان، فحدّثني به، وقال لي: لم يروه هشام إلا عني، قال الدارقطنيّ: لم يسمعه هشام عن أبيه، وإنما سمعه من أخيه، عن أبيه.
وأخرج الإسماعيليّ، عن سفيان قال: لا أعلم عند عثمان إلا هذا الحديث. انتهى.
وقد أورد له أحمد في "مسنده" حديثًا آخر في فضل الصفّ الأول، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه في "شرح المقدّمة"
(2)
، فراجعه، تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2831]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، أَخْبَرَنَا الضَّحَّاكُ، عَنْ أَبِي الرِّجَالِ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: طَيَّبْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِحُرْمِهِ حِينَ أَحْرَمَ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ بأَطْيَبِ مَا وَجَدْتُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم قريبًا.
2 -
(ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ) - بضمّ الفاء مُصَغَّرًا - محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فُديك الدِّيليّ مولاهم المدنيّ، صدوقٌ، من صغار [8](ت 200) على الصحيح (ع) تقدم في "الحيض" 16/ 775.
3 -
(الضَّحَّاكُ) بن عثمان بن عبد الله الحزاميّ، أبو عثمان المدني، صدوق يهم [7] تقدّم في "الحيض" 16/ 774.
4 -
(أَبُو الرِّجَالِ) - بكسر الراء، وتخفيف الجيم - لقب، وهو: محمد بن عبد الرحمن بن حارثة بن النعمان الأنصاريّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ [5](خ م س ق) تقدم في "صلاة المسافرين" 46/ 1890.
(1)
"الفتح" 13/ 442 "كتاب اللباس" رقم (5928).
(2)
راجع: "قرة عين المحتاج في شرح مقدّمة صحيح مسلم بن الحجّاج" 2/ 410 - 416.
5 -
(أُمُّهُ) عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، تقدّمت قريبًا.
وقوله: (لِحُرْمِهِ حِينَ أَحْرَمَ) أي: حين أراد الإحرام.
وقوله: (وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ. . . إلخ) وللبخاريّ من طريق القاسم عنها: "ولحلّه حين أحلّ"؛ أي: لَمّا وَقَع الإحلال، وإنما أوّلناه كذلك؛ لأن الطيب بعد وقوع الإحرام لا يجوز، والطيب عند إرادة الحلّ لا يجوز؛ لأن المحرم ممنوع من الطيب، أفاده في "الفتح"
(1)
.
والحديث مضى تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2832]
(1190) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو الرَّبِيعِ، وَخَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وقَالَ الْآخَرُونَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَن الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفْرِقِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَلَمْ يَقُلْ خَلَفٌ: وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: وَذَاكَ طِيبُ إِحْرَامِهِ).
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورِ) بن شعبة، أبو عثمان الخراسانيّ، نزيل مكة، ثقةٌ مصنّف [10](ت 227)(ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 338.
2 -
(أَبُو الرَّبِيعِ) سليمان بن داود العتكيّ الزهرانيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ) المقرئ البغداديّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل بابين.
5 -
(حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) تقدّم قريبًا.
6 -
(مَنْصُورُ) بن المعتمر، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [6](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة"ج 1 ص 296.
(1)
راجع: "الفتح" 4/ 716.
7 -
(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد النخعيّ، تقدّم قريبًا.
8 -
(الْأَسْوَدُ) بن يزيد بن قيس، خال إبراهيم، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقيان ذُكرا في الباب.
وقولها: (كَأَنِّي أَنْظُرُ) أرادت رضي الله عنها بذلك قوّة تحقّقها لذلك، بحيث إنها لشدّة استحضارها له كأنها ناظرة إليه، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقولها: (إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ) بفتح الواو، وكسر الموحّدة، وآخره صاد مهملة: هو البريق، واللَّمَعَان، وقال الإسماعيليّ رحمه الله: إن الوبيص زيادة على البريق، وأن المراد به التلألؤ، وأنه يدلّ على وجود عين قائمة، لا الريح فقط. انتهى
(2)
.
وقولها: (فِي مَفْرِقِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بفتح الميم، وكسر الراء وزانُ مسجِد، ويجوز فتحها: وسط الرأس، حيث يُفرَق فيه الشعر.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2833]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَن الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَن الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يُهِلُّ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم قريبًا.
2 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقولها: (فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال في "الفتح": قيل: ذكرته بصيغة
(1)
"الفتح" 4/ 416.
(2)
راجع: "الفتح" 4/ 416.
الجمع؛ تعميمًا لجوانب الرأس التي يُفرَق فيها الشعر. انتهى
(1)
.
وقولها: (وَهُوَ يُهِلُّ) جملة حاليّة؛ أي: والحال أنه صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بالتلبية.
والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2834]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، قَالُوا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا
(2)
الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ، فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يُلَبِّي).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ) عبد الله بن سعيد بن حُصين الْكِنْديّ الكوفيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 17.
2 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قريبًا.
3 -
(أَبُو الضُّحَى) مسلم بن صُبيح - مصغّرًا - الكوفيّ العطّار، تقدّم قريبًا.
4 -
(مَسْرُوقُ) بن الأجدع الكوفيّ المخضرم، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب.
والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2835]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا
(3)
الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَن الْأَسْوَدِ، وَعَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَكَأَنِّي أَنْظُرُ، بِمِثْلِ حَدِيثِ وَكِيعٍ).
(1)
"الفتح" 4/ 417.
(2)
وفي نسخة: "أخبرنا".
(3)
وفي نسخة: "أخبرنا".
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ) هو: أحمد بن عبد الله بن يونس، نُسب لجدّه، تقدّم قريبًا.
2 -
(زُهَيْرُ) بن معاوية بن حُديج، أبو خيثمة، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (وَعَنْ مُسْلِمٍ. . . إلخ) هو: ابن صُبيح، أبو الضحى، المذكور في السند الماضي، وهو معطوف على "عن إبراهيم"، فيكون للأعمش فيه إسنادان: أحدهما: عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها، والثاني: عن مسلم بن صُبيح، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها.
[تنبيه]: رواية زهير، عن الأعمش التي أحالها المصنّف هنا على رواية وكغ عنه، ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" (3/ 277) فقال:
(2723)
- حدّثنا محمد بن علي بن حبيش، ثنا أحمد بن يحيى الحلوانيّ، ثنا أحمد بن يونس، ثنا زهير، ثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، وعن مسلم، عن مسروق، عن عائشة، قالت:"كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارقه"، وهو يلبي"، قال زهير: قيل لسليمان: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. انتهى.
والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2836]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنَ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَن الْحَكَمِ، قَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ، يُحَدِّثُ عَن الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: كَأَنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ، فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ الزَّمِن، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد المعروف ببندار، تقدّم قريبًا.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنَ جَعْفَرٍ) المعروف بغُنْدر، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الشهير، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(الْحَكَمُ) بن عُتيبة الكِنْديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، ربّما دلّس [5](ت 113)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2837]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: إِنْ كُنْتُ لَأَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ، فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُحْرِمٌ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ) - بكسر الميم، وسكون الغين المعجمة - أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 146.
2 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ) بن يزيد بن قيس النخعيّ الكوفيّ، ثقةٌ [3](ت 99)(ع) تقدم في "الحيض" 1/ 686.
والباقون ذُكروا في الباب، و"ابن نُمير" هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، و"أبوه": عبد الله بن نُمير.
وقولها: (إِنْ كُنْتُ لَأَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ)"إن" هي المخفّفة من الثقيلة؛ أي: إني كنت، واللام في "لأنظر" هي الفارقة بين "إن" النافية، و"إن" المخفّفة، كما قال في "الخلاصة":
وَخُفِّفَتْ "إِنَّ" فَقَلَّ الْعَمَلُ
…
وَتَلْزَمُ اللَّامُ إِذَا مَا تُهْمَلُ
وَرُبَّمَا اسْتُغْنِيَ عَنْهَا إِنْ بَدَا
…
مَا نَاطِقٌ أَرَادَهُ مُعْتَمِدَا
والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2838]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَهُوَ السَّلُولِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، وَهُوَ ابْنُ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، سَمِعَ ابْنَ الْأَسْوَدِ، يَذْكُرُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ يَتَطَيَّبُ بِأَطْيَبِ مَا يَجِدُ
(1)
، ثُمَّ أَرَى وَبِيصَ الدُّهْنِ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ السَّلُولِيُّ) مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوقٌ تُكُلّم فيه بالتشيّع [9](ت 204) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 22/ 638.
[تنبيه]: قوله: (السَّلُولِيُّ) بفتح السين المهملة، وضمّ اللام: نسبة إلى بني سَلُول، نزلوا الكوفة، ولهم بها خُطّة، نُسبت إليهم، قاله في "اللباب"
(2)
.
2 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ) - بفتح السين المهملة، وكسر الموحّدة - الكوفيّ، صدوقٌ يَهِمُ [7].
رَوَى عن أبيه، وجدّه أبي إسحاق، وعبد الجبار الشباميّ.
وروى عنه أبو كريب، وشُريح بن سلمة، وإسحاق بن منصور السَّلُوليّ، وغيرهم.
قال ابن معين: ليس بشيء، وقال النسائيّ: ليس بالقويّ، وقال الْجُوزَجَانيّ: ضعيف الحديث، وقال أبو حاتم: حسن الحديث، يُكتب حديثه، وقال ابن عديّ: له أحاديث صالحةٌ، وليس بمنكر الحديث، يُكتب حديثه، قال الحافظ: قرأت بخط الذهبيّ: إبراهيم لم يُدرك جدّه أبا إسحاق، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الدارقطنيّ: ثقةٌ، وقال ابن المدينيّ: ليس كأقوى ما يكون، وقال الآجريّ: سألت أبا داود عنه، فقال: ضعيف.
(1)
وفي نسخة: "بأطيب ما أجد".
(2)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 448.
وقال أبو نصر الكلاباذيّ: مات سنة (198).
أخرج له البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم (1190) و (2337) و (2460).
3 -
(أَبُوهُ) يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق السبيعيّ، وقد يُنسب لجدّه، ثقةٌ [7].
رَوَى عن أبيه، وجدّه، والشعبيّ، وابن المنكدر، وعمار الدُّهْنيّ، وعبد الله بن محمد بن عَقِيل.
وروى عنه ابنه إبراهيم، وابنا عمه: إسرائيل وعيسى ابنا يونس بن أبي إسحاق، وابن عيينة، وحسّان بن إبراهيم الكرمانيّ، وغيرهم.
قال عبد الجبار بن العلاء، عن ابن عيينة: لم يكن في ولد أبي إسحاق أحفظ منه، وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه، وقال الدارقطنيّ: ثقة، وقال العقيليّ: يخالف في حديثه، ولعله أُتِيَ من منصور بن وَرْدان، يعني الراوي عنه.
وقال ابن حبان في "الثقات": كان أحفظ ولد أبي إسحاق، مستقيم الحديث، على قلته، مات سنة سبع وخمسين ومائة، وقال ابن سعد: مات في زمن أبي جعفر.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب الأحاديث الثلاثة المذكورة آنفًا في ترجمة ابنه.
4 -
(أَبُو إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد الله بن عُبيد السَّبِيعيّ الْهَمْدانيّ، الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ، اختلط، ويُدلّس [3](ت 129) أو قبل ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.
والباقون ذُكروا في الباب، و"ابن الأسود" هو: عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد المذكور في السند الماضي.
والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2839]
(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، عَن الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، عَن الْأَسْوَدِ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الْمِسْكِ فِي مَفْرِقِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُحْرِمٌ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ الْوَاحِدِ) بن زياد الْعَبْديّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(الْحَسَنُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ) بن عروة النخعيّ الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب.
والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2840]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَن الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قريبًا.
2 -
(الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ أَبُو عَاصِمٍ) النبيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [9](ت 212) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
3 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم قريبًا.
و"الحسن" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ، عن الحسن بن عبيد الله هذه، ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" (4/ 213) فقال:
(1376)
- أخبرنا عبد الله بن محمد الأزديّ، قال: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أخبرنا أبو عاصم، عن سفيان، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت:"كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو محرم". انتهى.
والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2841]
(1191) - (وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، وَيَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
عائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كُنْتُ أُطَيِّبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
(1)
قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَيَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، بِطِيبٍ فِيهِ مِسْكٌ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعِ) بن عبد الرحمن البَغَويّ، أبو جعفر الأصم الحافظ، نزيل بغداد [10].
روى عن ابن عيينة، وابن عُلَيّة، وهُشيم، وأبي بكر بن عياش، وابن أبي حازم، ومروان بن شجاع الجزريّ، وغيرهم.
ورَوَى عنه الجماعة، لكن البخاري بواسطة، وابن خزيمة، والْقَبّانيّ، والسرّاج، وابن بنته أبو القاسم البغويّ، وابن صاعد، وإسحاق بن إبراهيم بن جَمِيل راوية "المسند" عنه.
قال النسائيّ، وصالحُ جَزَرة: ثقةٌ، وقال أبو القاسم البغويّ: أُخبرت عن جدي أنه قال: أنا أختم منذ أربعين سنة في كل ثلاث، قال: ومات سنة (244) في شوال، وكان مولده في سنة (160)، وقال غير أبي القاسم: مات سنة (3)، وذكر ابن حبان في "الثقات" وفاته كأبي القاسم، وقال ابن أبي حاتم: كَتَب عنه أبي وأبو زرعة، ونَقَل عنهما أن كنيته أبو عبد الله، وقال أبي: هو صدوقٌ، وقال الدارقطنيّ: لا بأس به، وقال مَسْلَمة بن قاسم، وهبة الله السجزيّ: ثقةٌ، وقال البغويّ: كان جدّي من الأبدال، وما خَلَّف تِبْنَةً في لَبِنَةٍ، ولقد بِعْنا جميع ما يملك سوى كتبه بأربعة وعشرين درهمًا، وقال الخليليّ: يقرب من أحمد بن حنبل، وأقرانه في العلم، وقد روى عنه البخاريّ خارج "الصحيح".
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط برقم (1191) و (1399).
2 -
(يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ) هو: ابن إبراهيم بن كثير الْعَبديّ مولاهم، أبو يوسف البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 252) وله (96) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.
(1)
وفي نسخة: "أطيّب رسول الله صلى الله عليه وسلم".
3 -
(هُشَيْمُ) بن بشير، تقدّم قريبًا.
4 -
(مَنْصُورُ) بن زاذان الثقفيّ، أبو المغيرة الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [6](ت 126) على الصحيح (ع) تقدم في "الصلاة" 35/ 1019.
والباقون ذُكروا في الباب، و"القاسم" هو: ابن محمد بن أبي بكر الصدّيق.
والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2842]
(1192) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو كَامِلٍ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، قَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما عَن الرَّجُلِ يَتَطَيَّبُ، ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا، فَقَالَ: مَا أحِبُّ أَنْ أُصْبِحَ مُحْرِمًا أَنْضَخُ طِيبًا؛ لَأَنْ أطَّلِيَ بِقَطِرَانٍ أحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ، فَدَخَلْتُ عَلَى عَائشَةَ رضي الله عنها، فَأخْبَرْتُهَا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنْ أُصْبِحَ مُحْرِمًا، أَنْضَخُ طِيبًا؛ لَأَنْ أَطَّلِيَ بِقَطِرَانٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَنَا طَيَّبْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ إحْرَامِهِ، ثُمَّ طَافَ فِي نِسَائهِ، ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو كَامِلٍ) فُضيل بن حسين الْجَحْدريّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو عَوَانَةَ) الوضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
3 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ [5](ع) تقدم في "الجمعة" 19/ 2028.
4 -
(أَبُوهُ) محمد بن المنتشر الأجدع الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ [4](ع) تقدم في "الجمعة" 19/ 2028.
والباقيان ذُكرا في الباب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما، ثم فصّل.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه أبي كامل، فما أخرج له ابن ماجه، وعلّق له البخاريّ.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والابن عن أبيه.
شرح الحديث:
(عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْن الْمُنْتَشِرِ) بصيغة اسم الفاعل (عَنْ أَبِيهِ) محمد بن المنتشر، أنه (قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما عَن الرَّجُلِ يَتَطَيَّبُ) أي: يستعمل الطيب في ثوبه، أو بدنه (ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا) بحجّ، أو عمرة، أو بهما معًا، فما حكمه؟ (فَقَالَ) ابن عمر رضي الله عنهما (مَا) نافية (أُحِبُّ أَنْ أُصْبِحَ مُحْرِمًا)"أُصْبحَ" مضارع أصْبَحَ، وهي من أخوات كان، ترفع الاسم وتنصب الخبر، ومعناها اتصاف المخبر عنه بالخبر في الصباح، و"مُحرمًا" خبرها، ويَحْتَمِل أن تكون تامّةً؛ أي: أدخل في "الصباح"، و"محرمًا" على هذا حال (أَنْضَخُ) بفتح حرف المضارعة، والضاد المعجمة، بعدها خاء معجمة؛ أي: يفور، ومنه قوله تعالى:{فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66)} [الرحمن: 66] وهذا هو المشهور، وضبطه بعضهم بالحاء المهملة، قاله الإسماعيلي، وهما متقاربان في المعنى، وقال ابن الأثير: وقد اختلف في أيهما أكثر، والأكثر بالمعجمة أقلّ من المهملة، وقيل: بالمعجمة الأثر يبقى في الثوب والجسد، وبالمهملة الفعل نفسه، وقيل: بالمعجمة ما فعل متعمدًا، وبالمهملة من غير تعمد، وذكر صاحب المطالع عن ابن كيسان أنه بالمهملة لما رقّ كالماء، وبالمعجمة لما ثخن كالطيب، وقال النووي: هو بالمعجمة أقلّ من المهملة، وقيل عكسه، وقال ابن بطال: من رواه بالخاء؛ أي: المعجمة، فالنضخ عند العرب كاللطخ، يقال: نضخ ثوبه بالطيب، هذا قول الخليل، وفي كتاب الأفعال: نضخت العين بالماء نضخًا إذا فارت، واحتج بقوله تعالى:{فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66)} ، ومن رواه بالحاء - أي المهملة - فقال صاحب "العين": نضحت العين بالماء: إذا رأيتها تفور،
وكذلك العين الناظرة: إذا رأيتها مُغْرَوْقِةً، وفي "الصحاح": قال أبو زيد: النضخ بالإعجام: الرشّ، مثل النضح بالإهمال، وهما بمعنى، وقال الأصمعيّ: يقال: أصابه نَضْخٌ من كذا، وهو أكثر من النضخ بالمهملة، ذكره في "العمدة"
(1)
.
وقاوا في "الفتح" بعد ذكر بعض ما تقدّم: وظاهره أن عين الطيب بقيت بعد الإحرام، قال الإسماعيليّ: بحيث صار كأنه يتساقط منه الشيء بعد الشيء. انتهى
(2)
.
وقوله: (طِيبًا) منصوب على التمييز.
(لَأَنْ أَطَّلِيَ) يقال: طَلَيْتُه بالنُّورة، أو غيرها من باب رَمَى: إذا لَطَخْتَهُ بها، واطَّلَيت: على افتعلتُ: إذا فعلت ذلك بنفسك، ولا يذكر معه المفعول، وهو يَحْتَمِل أن يكون ثلاثيًّا مبنيًّا للمفعول، فالهمزة مضمومة، والطاء ساكنة، واللام مفتوحة، أو للفاعل، فالهمزة مفتوحة، واللام مكسورة، ويُقدّر مفعوله؛ أي: نفسي، ويَحْتَمِل أن يكون من باب الافتعال، فالطاء مشدّدة، وهي مبدلة من تاء الافتعال، كما قال في "الخلاصة":
طَا تَا افْتِعَالٍ رُدَّ إِثْرَ مُطْبَقِ
…
فِي ادَّانَ وَازْدَدْ وَادَّكِرْ دَالًا بَقِي
واللام في "لأن" لام الابتداء مفتوحةٌ والمصدر المؤوّل مبتدأ خبره قوله: "أَحَبُّ".
(بِقَطِرَانٍ) قال الفيوميّ رحمه الله: "القَطِرَانُ": ما يَتَحَلَّل من شَجَر الأبْهَل، ويُطْلَى به الإبلُ وغيرها، وقَطْرَنْتُها: إذا طليتها، وفيه لغتان فتح القاف، وكسر الطاء، وبها قرأ السبعة في قوله تعالى:{سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} [إبراهيم: 50]، والثانية: كسر القاف، وسكون الطاء. انتهى
(3)
.
وقال السنديّ رحمه الله: "الْقَطِرَانُ": دُهْنٌ يُسْتَحْلَبُ من شجر يُطْلَى به الأجْرَبُ، والكلام كناية عن صيرورته أجرب. انتهى
(4)
.
(أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ) قال محمد بن المنتشر: (فَدَخَلْتُ عَلَى
(1)
"عمدة القاري" 3/ 318.
(2)
"الفتح" 1/ 640.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 508.
(4)
"شرح السنديّ على النسائيّ" 1/ 204.
عَائِشَةَ رضي الله عنها، فَأَخْبَرْتُهَا أنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنْ أُصْبِحَ مُحْرِمًا، أَنْضَخُ طِيبًا؛ لَأَنْ أَطَّلِيَ بِقَطِرَانٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها ردًّا على ابن عمر رضي الله عنهما حيث خالف رأيه النصّ، وفي رواية للبخاريّ:"قال: فذكرته لعائشة، فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن"، وهي كنية ابن عمر رضي الله عنهما، وإنما استرحمت له إشعارًا بأنه قد سها فيما قاله؛ إذ لو استحضر فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك
(1)
.
(أَنَا طَيَّبْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ إِحْرَامِهِ) أي: عند إرادته الإحرام، لا بعد تلبّسه به؛ لأنه لا يجوز للمحرم التطيّب بعده (ثُمَّ طَافَ فِي نِسَائِهِ) ولفظ البخاريّ:"فيطوف على نسائه"، وهو كناية عن الجماع، وقال الإسماعيليّ: يَحْتَمِل أن يُراد به الجماع، وأن يراد به تجديد العهد بهنّ.
قال الحافظ: والاحتمال الأول يرجحه حديث أنس: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار، وهن إحدى عشرة"، قال قتادة: قلت لأنس: أوَ كانَ يطيقه؟ قال: كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين، فقولها:"فطاف" مثل قوله: "يدور". انتهى كلام الحافظ بتصرف
(2)
.
(ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا) أي: ينضح طيبًا، ولفظ البخاريّ:"ثم يُصبح محرمًا ينضخ طيبًا"، وبها يتم رد عائشة رضي الله عنها على ابن عمر رضي الله عنهما.
قال في "الفتح": وظاهره أن عين الطيب بقيت بعد الإحرام، قال الإسماعيليّ: بحيث إنه صار كأنه يتساقط منه الشيء بعد الشيء. انتهى.
وقال النوويّ رحمه الله: قد يقال: قد قال الفقهاء: أقلُّ القسم ليلة لكل امرأة، فكيف طاف على الجميع في ليلة واحدة؟ وجوابه من وجهين:
[أحدهما]: أن هذا كان برضاهنّ، ولا خلاف في جوازه برضاهنّ كيف كان.
[والثاني]: أن القَسْم في حقّ النبيّ صلى الله عليه وسلم هل كان واجبًا في الدوام؟ فيه خلاف لأصحابنا، قال أبو سعيد الإصطخريّ: لم يكن واجبًا، وإنما كان يَقْسِم بالسوية، ويُقْرِع بينهنّ تكرّمًا وتبرعًا، لا وجوبًا، وقال الأكثرون: كان واجبًا،
(1)
"الفتح" 1/ 640.
(2)
"الفتح" 1/ 640.
فعلى قول الإصطخريّ لا إشكال، والله أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله الإصطخريّ هو الحقّ، وسيأتي البحث في ذلك مستوفًى في محلّه - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 2842 و 2843 و 2844](1192)، و (البخاريّ) في "الغسل"(267 و 270)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 203 و 209)، و"المناسك"(5/ 141)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 106)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 175)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2588)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 279)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 35)، و"المعرفة"(3/ 548)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب الطيب للمحرم عند إرادة الإحرام.
2 -
(ومنها): بيان أن بقاء أثر الطيب بعد الغسل لا يضر.
3 -
(ومنها): جواز التطيب عند الإحرام بما يبقى أثره بعده، وتقدم الخلاف فيه.
4 -
(ومنها): رَدّ الصحابة رضي الله عنهم بعضهم على بعض إذا خالف الاجتهاد النصّ.
5 -
(ومنها): مشروعية خدمة الزوجة لزوجها.
6 -
(ومنها): استحباب مجامعة الرجل زوجته عند إرادة الإحرام.
7 -
(ومنها): جواز الطواف على نسائه، إذا أَذنت صاحبة النوبة.
8 -
(ومنها): عدم كراهة كثرة الجماع عند الطاقة.
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 103.
9 -
(ومنها): فيه استحباب التزوج بأكثر من واحدة إلى أربع إذا استطاع القيام بحقوقهن.
10 -
(ومنها): بيان أن غسل الجنابة ليس على الفور، وإنما يتضيق على الإنسان عند القيام إلى الصلاة، وهذا بالإجماع.
[فإن قلت]: ما سبب وجوب الغسل؟
[قلت]: الجنابة مع إرادة القيام إلى الصلاة، كما أن سبب الوضوء الحدث مع إرادة القيام إلى الصلاة، وليس الجنابة وحدها، كما هو رأي لبعضهم، وإلَّا لزم أن يجب الغسل عقب الجماع، والحديث ينافي هذا، ولا مجرد إرادة الصلاة، وإلَّا لزم أن يجب الغسل بدون الجنابة، أفاده في "العمدة"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2843]
(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ، ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا، يَنْضَخُ طِيبًا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ) البصريّ، ثقةٌ [10](ت 248) أو بعدها (م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.
2 -
(خَالِدُ بْنَ الْحَارِثِ) بن عُبيد بن سُليم الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.
والباقون ذُكروا في الباب.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
راجع: "عمدة القاري" 3/ 318 - 319.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2844]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ مِسْعَرٍ، وَسُفْيَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: لَأَنْ أُصْبِحَ مُطَّلِيًا بِقَطِرَانٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُصْبِحَ مُحْرِمًا أَنْضَخُ طِيبًا، قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها، فَأَخْبَرْتُهَا بِقَوْلِهِ، فَقَالَتْ: طَيَّبْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَطَافَ فِي نِسَائِهِ، ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مِسْعَر) بن كِدَام بن ظُهير الْهِلاليّ، أبو سلمة الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [7](ت 3 أو 155)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
والباقون ذُكروا في الباب، و"سفيان" هو: الثوريّ.
وقوله: (مُطَّلِيًا) بضمّ الميم، وتشديد الطاء، وتخفيف الياء، بصيغة اسم الفاعل من اطّلى، بوزن افتَعَل، ويَحْتَمِل أن يكون بفتح الميم، وسكون الطاء، وتشديد الياء، اسم مفعول من طَلَى، ثلاثيًّا، كرَمَى، كما تقدّم تحقيقه قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(8) - (بَابُ تَحْرِيمِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2845]
(1193) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ: أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَلَمَّا أَنْ رَأَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا فِي وَجْهِي، قَالَ: "إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ، إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
3 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
4 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عُتبة بن مسعود الْهُذليّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 94) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
5 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله الحبر البحر رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.
6 -
(الصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيُّ) هو: الصعب بن جَثّامة بن قيس بن عبد الله بن يعمر الليثيّ الحجازيّ، أخو مُحَلِّم.
رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه عبد الله بن عباس، قال أبو حاتم: هاجر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان ينزل بِوَدَّان، ومات في خلافة أبي بكر الصديق، وقال خليفة: اسم جَثّامة وهب، وأمه فاختة بنت حرب بن أمية، وقال ابن حبان: مات في آخر ولاية عمر بن الخطاب، وقال ابن منده: كان فيمن شهد فتح فارس. انتهى، وفارس كان فتحها زمن عثمان.
قال الحافظ: ويدلّ على ذلك ما رواه ابن السكن، من طريق بَقِيّة بن الوليد، عن صفوان بن عمرو، حدّثني راشد بن سعد، قال: لَمّا فُتِحَت إصطخر نادى منادٍ: ألا إن الدجال قد خرج، فرجع الناس، فلقيهم الصعب بن جَثّامة، فقال: لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يخرج الدجال حتى يذهل الناس عن ذكره، وحتى يترك الأئمة ذكره على المنابر"، قال ابن السكن: هذا حديث صالح الإسناد، قال الحافظ: إنما أشار بقوله: صالح الإسناد إلى ثقة رجاله، لكنّ راشدًا لم يُدرك زمن الصعب، والغرض أنه عاش بعد أبي بكر.
ومما يؤيِّد ذلك أن يعقوب بن سفيان قال في "تاريخه": ثنا عمار، عن سلمة، عن ابن إسحاق، حدّثني عمر بن عبد الله، عن عروة، قال: لَمّا ركب أهل العراق في الوليد - يعني ابن عقبة - كانوا خمسة، منهم الصعب بن جثامة، قال: وقد أخطأ من قال: مات الصعب في خلافة أبي بكر خطأ بَيِّنًا. انتهى.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط برقم (1193) و (1745) وكرّره ثلاث مرّات، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، وتابعيّ، عن تابعيّ.
5 -
(ومنها): أن فيه عبيد الله بن عبد الله أحد الفقهاء السبعة المشهورين في المدينة.
6 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب الستّة إلا ثلاثة أحاديث: هذا عنهم إلا أبا داود، وحديث:"سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذراريّ المشركين يُبيّتون. . ." عندهم جميعًا، وحديث:"لا حمى إلا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم" عند البخاريّ، وأبي داود، والنسائيّ في "الكبرى"، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) قال في "الفتح": لم يُختَلف على مالك في سياقه معنعنًا، وأنه من مسند الصعب رضي الله عنه، إلا ما وقع في "موطأ ابن وهب"، فإنه قال في روايته:"عن ابن عباس، أن الصعب بن جثّامة أهدى"، فجعله من مسند ابن عبّاس. نبّه على ذلك الدارقطنيّ في "الموطّآت"، وكذا أخرجه مسلم من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال:"أهدى الصعب"، والمحفوظ في حديث مالك الأول، وللبخاريّ في "كتاب الهبة" من طريق شعيب، عن الزهريّ، قال:"أخبرني عبيد الله بن عبد الله، أن ابن عباس أخبره، أنه سمع الصعب - وكان من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم يخبر أنه أهدى. . ."(عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) بْنِ عُتْبَةَ بن مسعود (عَن ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (عَنِ الصَّعْبِ) بفتح الصاد،
وسكون العين المهملتين، بعدهما موحّدة (ابْنِ جَثَّامَةَ) - بجيم مفتوحة، ثم ثاء مثلّثة مشدَّدة رضي الله عنه (اللَّيْثيّ) - بفتح اللام، وسكون الياء، آخره ثاء مثلّثة -: نسبة إلى ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وكان ابن أخت أبي سفيان بن حرب، أمه زينب بنت حرب بن أُميّة، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم آخى بينه وبين عوف بن مالك، قاله في "الفتح"
(1)
. (أَنَّهُ أَهْدَى) بالبناء للفاعل (لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا وَحْشِيًّا) قال في الفتح": لم تَخْتَلف الرواة عن مالك في ذلك، وتابعه عامّة الرواة عن الزهريّ، وخالفهم ابن عيينة، عن الزهريّ، فقال: "لحم حمار وحش"، أخرجه مسلم، لكن بيّن الحميديّ، صاحب سفيان أنه كان يقول في هذا الحديث: "حمار وحش"، ثم صار يقول: "لحم حمار وحش"، فدلّ على اضطرابه فيه. وقد توبع على قوله: "لحم حمار وحش" من أوجه فيها مقال، منها: ما أخرجه الطبرانيّ من طريق عمرو بن دينار، عن الزهريّ، لكن إسناده ضعيف.
وقال إسحاق في "مسنده": أخبرنا الفضل بن موسى، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن الزهريّ، فقال:"لحم حمار"، وقد خالفه الواسطيّ، عن محمد بن عمرو، فقال:"حمار وحش"، كالأكثر.
وأخرجه الطبرانيّ من طريق ابن إسحاق، عن الزهريّ، فقال:"رجل حمار وحش"، وابن إسحاق حسن الحديث، إلا أنه لا يُحتجّ به إذا خولف.
ويدلّ على وهم من قال فيه عن الزهريّ ذلك أن ابن جريج قال: قلت للزهريّ: الحمار عقير؟ قال: لا أدري، أخرجه ابن خزيمة، وابن حبان في "صحيحيهما".
وقد جاء عن ابن عباس من وجه آخر أن الذي أهداه الصعب لحم حمار، فأخرجه مسلم من طريق الحَكَمِ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال:"أهدى الصعب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل حمار"، وفي رواية عنده:"عجز حمار وحش، يقطر دمًا"، وأخرجه أيضًا من طريق حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد، قال تارة:"حمار وحش"، وتارةً:"شقّ حمار"، ويقوّي ذلك ما أخرجه
(1)
"الفتح" 5/ 94 - 95.
مسلم أيضًا من طريق طاوس، عن ابن عباس، قال: قدم زيد بن أرقم، فقال له عبد الله بن عباس يستذكره: كيف أخبرتني عن لحم صيد أُهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حرام؟ قال: أُهدي له عضو من لحم صيد، فردّه، وقال:"إنا لا نأكله، إنا حُرُم".
وأخرجه أبو داود، وابن حبان من طريق عطاء، عن ابن عباس، أنه قال:"يا زيد بن أرقم، هل علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فذكره.
واتفقت الروايات كلها على أنه ردّه عليه، إلا ما رواه ابن وهب، والبيهقيّ من طريقه بإسناد حسن، من طريق عمرو بن أُميّة:"أن الصعب أهدى للنبيّ صلى الله عليه وسلم عجز حمار وحش، وهو بالجحفة، فأكل منه، وأكل القوم"، قال البيهقيّ: إن كان هذا محفوظًا، فلعله رَدَّ الحيّ، وقبل اللحم.
قال الحافظ: وفي هذا الجمع نظر؛ لما بيّنته، فإن كانت الطرق كلها محفوظة، فلعله ردّه حيًّا؛ لكونه صِيد لأجله، وردّ اللحم تارة؛ لذلك، وقبله تارة أخرى، حيث عَلِم أنه لم يصده لأجله.
وقد قال الشافعيّ في "الأمّ": إن كان الصعب أهدى له حمارًا حيًّا، فليس للمحرم أن يذبح حمار وحش حيّ، وإن كان أهدى له لحمًا، فقد يَحْتَمِل أن يكون عَلِم أنه صِيد له.
ونقل الترمذيّ عن الشافعيّ أنه رده لظنه أنه صِيدَ من أجله، فتركه على وجه التنزّه. ويَحْتَمِل أن يُحْمَل القبول المذكور في حديث عمرو بن أمية على وقت آخر، وهو حال رجوعه صلى الله عليه وسلم من مكة، ويؤيده أنه جازم فيه بوقوع ذلك بالجحفة، وفي غيرها من الروايات بالأبواء، أو بودّان.
وقال القرطبيّ: يَحْتَمِل أن يكون الصعب أحضر الحمار مذبوحًا، ثم قطع منه عُضْوًا بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقدّمه له، فمن قال: أهدى حمارًا، أراد بتمامه مذبوحًا، لا حيًّا، ومن قال: لحم حمار، أراد ما قدّمه للنبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: ويَحْتَمِل من قال: حمارًا أَطلق، وأراد بعضه مجازًا. قال: ويَحْتَمِل أنه أهداه له حيًّا، فلما ردّه عليه ذكّاه، وأتاه بعضو منه، ظانًّا أنه إنما ردّه عليه لمعنى يختصّ بجملته، فأعلمه بامتناعه أن حكم الجزء من الصيد حكم الكلّ، قال: والجمع مهما أمكن أولى من توهيم بعض الروايات.
وقال النوويّ: ترجم البخاريّ بكون الحمار حيًّا، وليس في سياق الحديث تصريحٌ بذلك، وكذا نقلوا هذا التأويل عن مالك، وهو باطلٌ؛ لأن الروايات التي ذكرها مسلم صريحة في أنه مذبوح. انتهى.
قال الحافظ: وإذا تأملت ما تقدّم لم يحسن إطلاق بطلان التأويل المذكور، ولا سيما في رواية الزهريّ التي هي عمدة هذا الباب، وقد قال الشافعيّ في "الأم": حديث مالك أن الصعب أهدى حمارًا أثبت من حديث من روى أنه أهدى لحم حمار، وقال الترمذيّ: روى بعض أصحاب الزهريّ في حديث الصعب: "لحم حمار وحش"، وهو غير محفوظ. انتهى
(1)
، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم.
(وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ) جملة في محل نصب على الحال، من الفاعل، أو المفعول، و"الأبواء" - بفتح الهمزة، وسكون الموحّدة، وبالمدّ -: جبل من عمل الْفُرُع - بضم الفاء، وسكون الراء، بعدها مهملة - قيل: سمي الأبواء لوبائه على القلب، وقيل: لأن السيول تتبوّؤه؛ أي: تحمله.
وقال الفيّوميّ: و"الأبواء" على أفعال - بفتح الهمزة -: منزل بين مكة والمدينة، قريب من الجحفة، من جهة الشمال، دون مرحلة. انتهى.
(أَوْ بِوَدَّانَ)"أو" للشكّ من الراوي، وهو بفتح الواو، وتشديد الدال، آخره نون: موضع بقرب الجحفة، وفي حديث عمرو بن أميّة أنه كان بالجحفة، وودّان أقرب إلى الجحفة من الأبواء، فإن من الأبواء إلى الجحفة للآتي من المدينة ثلاثة وعشرين ميلًا، ومن ودّان إلى الجحفة ثمانية أميال، وبالشك جزم أكثر الرواة، وجزم ابن إسحاق، وصالح بن كيسان، عن الزهريّ بودّان، وجزم معمر، وعبد الرحمن بن إسحاق، ومحمد بن عمرو بالأبواء.
قال الحافظ: والذي يظهر لي أن الشكّ فيه من ابن عباس رضي الله عنهما؛ لأن الطبرانيّ أخرج الحديث من طريق عطاء عنه على الشكّ أيضًا. انتهى
(2)
.
[فائدة]: ودّان هذه قريةٌ من نواحي الفُرْع، بينها وبين الأبواء نحو من
(1)
"الفتح" 5/ 96.
(2)
"الفتح" 5/ 96 - 97.
ثمانية أميال، قريبة من الجحفة، أكثر نُصَيب
(1)
من ذكرها في شعره، فقال لسليمان بن عبد الملك [من الطويل]:
أَقُولُ لِرَكْبٍ قَافِلِينَ عَشِيَّةً
…
قِفَا ذَاتَ أَوْشَالٍ وَمَوْلَاكَ قَارِبُ
قِفُوا خَبِّرُونِي عَنْ سُلَيْمَانَ إِنَّنِي
…
لِمَعْرُوفِهِ مِنْ آلِ وَدَّانَ رَاغِبُ
فَعَاجُوا فَأثْنَوْا بِالَّذِي أَنْتَ أَهْلُهُ
…
وَلَوْ سَكَتُوا أَثْنَتْ عَلَيْكَ الْحَقَائِبُ
(فَرَدَّهُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: ردّ ذلك الحمار على الصعب بن جثّامة رضي الله عنه (قَالَ) الصعب (فَلَمَّا أَنْ)"أن" زائدة، كما في قوله تعالى:{وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ} [العنكبوت: 33]
(2)
. (رَأَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا فِي وَجْهِي) وفي رواية البخاريّ عن عبد الله بن يوسف، عن مالك:"فلما رأى ما في وجهه"، وفي رواية الليث، عن الزهريّ، عند الترمذيّ:"فلما رأى ما في وجهه من الكراهية"، وكذا لابن خزيمة من طريق ابن جريج المذكورة.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ) وفي رواية للبخاريّ من طريق شعيب، وابن جريج، عن الزهريّ:"ليس بنا ردٌّ عليك"، وفي رواية عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهريّ، عند الطبرانيّ:"إنا لم نردّه عليك كراهيةً له، ولكنا حُرُمٌ"، وفي رواية النسائيّ:"أما إنه لم نردّه عليك".
قال القاضي عياض رحمه الله: ضبطناه في الروايات "لم نردّه" بفتح الدال، وردّه محقّقو مشايخنا من أهل العربيّة، وقالوا:"لم نردُّهُ" بضم الدال، وهكذا وجدته بخطّ بعض الأشياخ أيضًا، وهو الصواب عندهم، على مذهب سيبويه في مثل هذا في المضاعف، إذا دخله الهاء أن يُضمّ ما قبلها في الأمر، ونحوه من المجزوم، مراعاة للواو التي توجبها له ضمة الهاء بعدها، لخفاء الهاء، فكأن ما قبلها ولي الواو، ولا يكون ما قبل الواو إلا مضمومًا، قال: وليس الفتح بغلط، بل ذكره ثعلب في "الفصيح". نعم تعقّبوه عليه بأنه ضعيف، وأوهم صنيعه أنه فصيح، وأجازوا أيضًا الكسر، وهو أضعف الأوجه.
(1)
مصغّرًا، كزُبير: اسم شاعر، قاله في "القاموس" 1/ 133.
(2)
راجع: "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 75.
هذا في المذكر، وأما في المؤنث، مثل "لم تردها" مفتوح الدال، مراعاة للألف.
وقال العينيّ رحمه الله: في مثل هذه الصيغة قبل دخول الهاء عليها أربعة أوجه: الفتح؛ لأنه أخف الحركات، والضمّ؛ إتباعًا لضمة عين الفعل، والكسر؛ لأنه الأصل في تحريك الساكن، والفكّ. وأما بعد دخول الهاء فيجوز فيه غير الكسر. انتهى
(1)
.
قال الحافظ: ووقع في رواية الكشميهنيّ بفكّ الإدغام: "لم نردُدْهُ" بضمّ الأولى، وسكون الثانية، ولا إشكال فيه. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: قال ابن حمدون رحمه الله في "حاشيته على شرح المكودي لألفية ابن مالك رحمه الله" في "باب الإدغام"، ما نصه:
(تتمة): حكاية جرت عادتهم بذكرها هنا، لمناسبتها، نَقَلَها صاحبُ "الأنيس المطرب" عن الفقيه البوعصامي في ترجمته، وذلك أن بعضهم سأل الفقيه المذكور عن حركة آخر الفعل المضارع المجزوم المضعف الآخر، وعن الأمر منه، نحو لم يَشُدّ، وشُدّ؟ فقال: إن لهذه المسألة قصةً اتفقت للراعي رحمه الله مع بعض أصحابه.
قال الراعي: كان لي صاحب في خواص الملك، فسألني يومًا عن الفعل المضارع المجزوم المضعف، وعن الأمر منه؟ فلما شرعت في الجواب، فَهِمتُ منه، كأنه إنما سألني مختبرًا ما عندي، وأنه غير محتاج إلى جوابي، فسكت عنه، فأعاد السؤال مرارًا، فحلفت يمينًا مغلظة أن لا أخبره حتى ينزل من موضع عالٍ هو به، ويقعد على الأرض وسط المدرسة من غير حائل بينه، وبين الأرض، ويخضع لي، كما يخضع الصبيّ لمؤدبه، وإلا فهؤلاء العلماء فيهم كفاية عني في هذه المسألة وغيرها.
فردّد الأمر في نفسه مرارًا، وأطرق، ثم قال: لا بأس بالذلّ في طلب العلم، فإنه عِزّ على الحقيقة، ثم فعل ما طُلب منه، والطَّلَبَةُ ينظرون.
(1)
"عمدة القاري" 8/ 358.
(2)
"الفتح" 5/ 97.
فقلت: يا عبد الله لم تجئني هذه المسألة رَخِيصَة، وسأحدثك كيف استوفيتها.
اعلم أني رَحَلتُ يومًا لشيخنا وسيدنا أبي الحسن علي بن محمد الأندلسي الْغَرْنَاطيّ رحمه الله، وكان فقيرًا مُقِلًّا، وكان أبوه، وأخوه يعيشان من نقل الحطب على حمارين لهما، وكان أبي تاجرًا في سوق القُمَاش.
فكنت أخدم الشيخ خدمة العبيد الناصحين، فأتيت له صبيحة يوم بارد، فقلت: هل من حاجة؟ قال: نعم، ليس عندنا ماء، ثم أخرج إليّ سَطْلًا من نحاس وقُلَّةً يسعان أربعين رطلًا من الماء، والماء من بيته على مسافة بعيدة، فأتيت بنحو اثنتي عشرة نَقْلَة حتى امتلأ الزِّير، وجميع أواني الدار.
ثم سلمت عليه، وأردت الخروج، وأنا في غاية التعب، قد ابْتَلَّتْ ثيابي، وامتلأت بالطين، وأنا أرتعد من البرد، فلما رأى ما بي، قال: اقعُد حتى أعطيك مسألة جليلة، فقعدت معه.
فقال: ذكر صاحب "الدرّ المكنون" أنه وصل رجل إلى أشبيلية يقصد قراءة الحديث على أبي بكر الحافظ، فلما قرأ عليه قوله صلى الله عليه وسلم:"ما لم تصفَرِّ الشمس"، وفي الحلقة جماعة من الطلبة، فيهم أبو بكر الشلوبين، فقال الشيخ: كيف تضبطون الراء من قوله: "ما لم تصفرِّ الشمس"، فقالوا بأجمعهم بالفتح، ما عدا أبا بكر، فإنه بقي ساكتًا.
فأنشد الشيخ:
أوْرَدَها سَعْدٌ وَسَعْدٌ مُشْتَمِلْ
…
مَا هَكَذَا يَا سَعْدُ تُورَدُ الإبِلْ
ثم التفت إلى أبي بكر، وقال: ما تقول أنت؟ فقال: إن العرب على ثلاث فِرَقٍ: مُتْبِعُون، وكاسرون، وفاتحون.
فالمتبعون، يتبعون الحرف المضعّف لحركة الحرف الذي قبله؛ فإن كانت ضمة ضموه، نحو: لم يردُّ، ورُدُّ، وإن كانت فتحة، أو ألفًا فتحوا، نحو: لم يَعَضَّ، وعَضَّ، وقوله تعالى:{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233]، وإن كانت كسرة كسروه، نحو لم يفِرّ، وفِرّ يا عمرو، إلا في ثلاث مواضع، فإنهم لا يتبعون لما قبله.
(أحدها): إذا اتصل بالفعل ضمير مذكر غائب، فإن المتبعين إنما يتبعون
لحركة الضمير، فيقولون: لم يَفِرُّهُ، وفِرُّهُ، بضم الراء فيهما، ولم يَعَضُّهُ، بضم الضاد، وعليه يخرج قوله تعالى:{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} [الواقعة: 79] إن قلنا: إن "لا ناهية"، لا نافية.
(ثانيها): إذا اتَّصَل بالفعل ضمير مؤنث غائب، نحو رُدَّهَا، ولم يَرُدَّهَا، وفرّها، بفتح الحرف المدغم فيه اتباعًا لحركة الهاء، وإنما أتبعوا حركة الهاء في الموضعين لخفة الهاء، فلم يعتدوا بها فاصلًا، فكأن الضمةَ باشرت واو الصلة، والفتحةَ باشرت ألف الصلة.
(ثالثها): إن لقي آخرَ الفعل ساكنٌ من كلمة أخرى، لامُ تعريف، أو غيرُها، فيرجع المتبعون هنا للكسر، نحو غُضّ الطرفَ، وعليه يقال:"ما لم تصفرِّ الشمس" بكسر الراء، لا غير.
[والفرقة الثانية]: الكاسرون؛ يَكسِرُون آخرَ الفعل مطلقًا على أصل التقاء الساكنين، فيقولون: ردِّ زيدًا، ولم يردّ، بكسر الدال فيهما، فعلى هذه اللغة، إنما يقال:"ما لم تصفرّ" بالكسر أيضًا، وهذه اللغة لغة كعب، ونُمَير.
[والفرقة الثالثة]: الفاتحون، وهم على قسمين: فُصَحاء، وغير فصحاء، فالفصحاء ينتقلون إلى الكسر إذا عارضهم ساكن من كلمة أخرى، فيقولون: مُدّ الحبل، وشُدّ الرَّحْلَ، بكسر المدغم فيه منها، فيقال حينئذ:"ما لم تصفرِّ" بالكسر أيضًا، وغير الفصحاء لا يزالون على أصلهم من الفتح، ولو لقي آخرَ الفعل ساكنٌ؛ وعليه فيقال:"ما لم تصفرَّ" بفتح الراء، وعليه فجميع العرب يكسرون آخر الفعل إذا لقيه ساكن، إلا غير الفصحاء، ممن لغتهم الفتح، فإنهم يفتحونه.
فلما فرغ الشلوبين، أنشد الشيخ [من الخفيف]:
ذُو المَعَالِي فَلْيَعْلُوَنْ مَنْ تَعَالَى
…
هَكَذَا هَكَذَا وَإلَّا فَلَا لَا
وقد نظم هذا التفصيل العلامة القاضي الولي الصالح أبو العباس سيدي أحمد بن الحاجّ، فقال [من الرجز]:
إنْ جُزِمَ الْفِعْلُ الَّذِي قَدْ شُدِّدَا
…
آخِرُهُ كَلا تَضُرَّ أَحَدَا
فَاكْسِرهُ مُطْلَقًا لِقَوْمٍ وافْتَحَا
…
لآخَرِينَ ثُمَّ إنَّ الفُصَحَا
مِنْ هَؤلاءِ حَيْثُ يَلْقَى ساكِنَا
…
يَأْتُونَ بِالْكَسْرِ كَسُرِّ الْحَزَنَا
ثَالِثَةُ اللُّغَاتِ أنْ يُتْبَعَ مَا
…
يَلِي فَإثْرَ ضَمَّةٍ لَهُ اضْمُمَا
وَافْتَحْهُ بَعْدَ فَتْحَةٍ أوْ أَلِفِ
…
وبَعْدَ كسْرَةٍ لَهُ الْكَسْرُ يَفِي
إلا بِنَحْوِ مُسَّهُ وَفِرُّهُ
…
فَالضَّمُّ عِنْدَهُمْ كَلا تُمِرَّهُ
وَنَحْوُ رُدَّهَا وَحُبَّهَا افْتَحَا
…
لِصِلَةٍ وَخِفَّةٍ قَدْ أُوضِحَا
وَنَحْوُ غُضِ الطَّرْفَ عَضِ اللَّحْمَا
…
فَاكْسِرْهُ لِلسَّاكِنِ فَابغِ الْعِلْمَا
انتهى
(1)
.
(إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ") همزة "أنا" مفتوحة، على تقدير لام التعليل؛ أي: لأنّا، و"حُرُم" بضمتين: جمع حَرَام؛ أي: محرمون.
وفي رواية صالح بن كيسان الآتي بعد هذا: "إنا حرم، لا نأكل الصيد". وفي رواية شعيب، وابن جريج عند البخاريّ:"ليس بنا ردّ عليك". وفي رواية عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهريّ، عند الطبرانيّ:"إنا لم نردّه عليك كراهية له، ولكنا حُرُم". وفي رواية سعيد، عن ابن عباس:"لولا أنا محرمون لقبلناه منك". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث الصعب بن جَثّامة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 2845 و 2846 و 2847](1193)، و (البخاريّ) في "الحج"(1825)، و"الهبة"(2573 و 2596)، و (الترمذيّ) في "الحج"(849)، و (النسائيّ) في "المناسك"(5/ 183)، و"الكبرى"(2/ 370)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(309)، و (مالك) في "الموطأ"(1/ 353)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 323)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 37 و 38)، و (الدارميّ) في "سننه"(1828)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 170)، و (الطبراني) في "الكبير"(7441)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"
(1)
"الفتح الودودي على المكودي" 2/ 206 - 207.
(3969)
، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 280)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 115)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 191)، و"الصغرى"(4/ 112)، و"المعرفة"(4/ 196)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما لا يجوز للمحرم أكله من الصيد، وهو الذي صاده الحلال لأجل المحرم، وبهذا تجمع الأحاديث في هذا الباب، فيُحْمَل حديث أبي قتادة الآتي الدالّ على الإباحة على ما إذا لم يصده الحلال للمحرم، وحديث الصعب هذا على أنه قصد المحرم بصيده، وتحمل الآية الكريمة:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} الآية [المائدة: 96] على الاصطياد، وعلى لحم ما صِيد للمحرم، للأحاديث المذكورة المبيّنة للمراد من الآية. وهذا مذهب الشافعي، وجماعة، كما تقدّم، وهو الراجح، وسيأتي تفاصيل المذاهب في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.
وقد حَمَل البخاريّ رحمه الله حديث الصعب رضي الله عنه على أنه كان حيًّا، حيث ترجم في "الصحيح" بقوله:"باب إذا أهدى للمحرم حمارًا وحشيًّا حيًّا لم يَقْبَل". لكن روايات حديث الصعب لا تؤيّد هذا التأويل.
قال النوويّ رحمه الله: وحكي هذا التأويل أيضًا عن مالك، وغيره، وهو تأويل باطل، وهذه الطرق التي ذكرها مسلم صريحة في أنه مذبوح، وإنما أهدى بعض لحم صيد، لا كله. انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية، وإنما الممنوع عليه قبول الصدقة لنفسه.
3 -
(ومنها): استحباب قبول الهديّة، إذا لم يكن هناك مانع من قبولها.
4 -
(ومنها): جواز ردّها بعد القبول لسبب اقتضى ذلك.
5 -
(ومنها): جواز الحكم بعلامة، لقوله:"فلما رأى ما في وجهي. . . إلخ".
6 -
(ومنها): الاعتذار عن ردّ الهدية؛ تطييبًا لقلب المهدي.
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 344.
7 -
(ومنها): أن الهدية لا تدخل في الملك إلا بالقبول.
8 -
(ومنها): تحريم الاصطياد على المحرم.
9 -
(ومنها): تحريم تملكه، بشراء، أو هدية، أو نحوهما، وفي ملكه إياه بالإرث خلاف.
10 -
(ومنها): أن المحرم إذا ملك صيدًا وجب عليه إرساله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في بيان حكم الصيد للمحرم:
قال العلامة ابن قدامة رحمه الله: يحل للمحرم صيد البحر، اصطياده، وأكله، وبيعه، وشراؤه، وصيد البحر: الحيوان الذي يعيش في الماء، ويبيض فيه، ويَفْرُخ فيه، كالسمك، والسلحفاة، والسرطان، ونحو ذلك، فإن كان جنس من الحيوان نوع منه في البحر، ونوع في البرّ، كالسلحفاة، فلكلّ نوع حكم نفسه، كالبقر منها الوحشيّ محرم، والأهليّ مباح. انتهى.
وأما صيد البر فقد أجمع العلماء على منعه للمحرم بحجّ، أو عمرة، وهذا الإجماع في مأكول اللحم الوحشيّ، كالظبي، والغزال، ونحو ذلك، وتحرم عليه الإشارة إلى الصيد، والدلالة عليه؛ لحديث أبي قتادة رضي الله عنه الآتي.
قال ابن قدامة: لا خلاف بين أهل العلم في تحريم قتل الصيد، واصطياده على المحرم، وقد نصّ الله تعالى عليه في كتابه، فقال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95]، وقال تعالى:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]، وتحرم عليه الإشارة إلى الصيد، والدلالة عليه، قال: ولا تحلّ له الإعانة عليه بشيء. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أنه لا اختلاف بين أهل العلم في حلّ صيد البحر بجميع أنواعه؛ لقول الله عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} الآية [المائدة: 96]، وكذلك لا خلاف بينهم في تحريم صيد البرّ بجميع أصنافه؛ لقوله تعالى:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم أكل لحم الصيد للمحرم:
(اعلم): أنهم اختلفوا في هذه المسألة على ثلاثة مذاهب:
(الأول): أنه لا يجوز له الأكل مطلقًا، وهو قول عليّ، وابن عباس، وابن عمر، والليث ابن سعد، والثوريّ، وإسحاق ابن راهويه، وطاوس، وجابر بن زيد.
واحتجّ لهم بعموم قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} بناء على أن المراد بالصيد الحيوان المصيد.
وبحديث الصعب بن جثّامة رضي الله عنه هذا، وبحديث زيد بن أرقم رضي الله عنه الآتي: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أُهدي له عضو من لحم صيد، فرده، فقال:"إنا لا نأكله، إنا حرم".
وبما أخرجه أبو داود، وغيره من حديث عليّ رضي الله عنه أنه قال لناس من أشجع: أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُهدي له رجل حمار وحشٍ، وهو محرم، فأبى أن يأكله؟ قالوا: نعم.
(الثاني): أنه يجوز له الأكل مطلقًا؛ أي: وإن صِيد لأجله، إذا لم يكن بإذنه وإعانته، أو دلالته، وإشارته، وإليه ذهب أبو حنيفة، وحكي ذلك عن عمر بن الخطاب، وأبي هريرة، والزبير بن العوّام، وعائشة، وطلحة بن عبيد الله، وكعب الأحبار، ومجاهد، وسعيد بن جبير.
واحتُجّ لهم بحديث أبي قتادة المذكور هنا، وحديث طلحة بن عبيد الله الآتي، وحديث البهزيّ حيث أهدى للنبيّ صلى الله عليه وسلم حمار وحش صاده، وهو حديث صحيح، أخرجه النسائيّ، وغيره.
(الثالث): التفصيل بين ما صاده الحلال لأجل المحرم، وما صاده لا لأجله، فيمنع الأول، دون الثاني، وهو مذهب الجمهور، منهم الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعيّ، وأحمد، وحكي ذلك عن عثمان بن عفان، وعطاء، وأبي ثور، وإسحاق في رواية. وهذا المذهب هو الراجح، كما يأتي قريبًا.
(الرابع): ما نُقِل عن مالك، وهو التفصيل بين ما صِيد للمحرم قبل إحرامه يجوز له الأكل منه، أو بعد إحرامه فلا.
(الخامس): ما نُقل عن عثمان، وهو التفصيل بين ما يصاد لأجله من المحرمين، فيمتنع عليه، ولا يمتنع على محرم آخر.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أرجح المذاهب عندي هو التفصيل الذي تقدم عن الجمهور، وهو أنه إن صاده الحلال لأجل المحرم، مُنِعَ، وما صاده لا لأجله، لم يُمْنَع؛ لأن فيه الجمع بين الأحاديث المختلفة في الباب.
قال في "الفتح": جمع الجمهور بين ما اختلف من هذه الأحاديث، بأن أحاديث القبول محمولة على ما يصيده الحلال لنفسه، ثم يهدي منه للمحرم، وأحاديث الردّ محمولة على ما صاده الحلال لأجل المحرم.
قالوا: والسبب في الاقتصار على الإحرام عند الاعتذار للصعب أن الصيد لا يحرم على المرء إذا صِيد له إلا إذا كان محرمًا، فبيّن الشرط الأصليّ، وسكت عما عداه، فلم يدلّ على نفيه، وقد بيّنه في الأحاديث الأُخر.
قال الحافظ: ويؤيّد هذا الجمع حديث جابر رضي الله عنه، مرفوعًا: "صَيْدُ البرّ لكم حلال ما لم تصيدوه، أو يُصَدْ
(1)
لكم"، أخرجه الترمذيّ، وابن خزيمة
(2)
.
وفي رواية النسائيّ في حديث الصعب رضي الله عنه: "إنا حرم، لا نأكل الصيد"، فبيّن العلتين جميعًا، قاله في "الفتح".
والحاصل أن الأرجح تحريم لحم الصيد للمحرم إذا صاده الحلال له، وجوازه إذا لم يصده له، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تكملة]: لا يجوز للمحرم قتل الصيد إلا إن صال عليه، فقتله دفعًا، فيجوز، ولا ضمان عليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2846]
(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، وَقُتَيْبَةُ، جَمِيعًا عَن اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ،
(1)
كذا وقع في "الكبرى" للنسائيّ، والمشهور في الرواية:"أو يصاد" بألف بعد الصاد، راجع:"شرحي على النسائيّ" 24/ 387.
(2)
لكن الحديث ضعيف، وقد بيّنت ذلك في "شرح النسائيّ" 24/ 385 برقم 2828، فراجعه.
كُلُّهُمْ عَن الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ: أَهْدَيْتُ لَهُ حِمَارَ وَحْشٍ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ، وَفِي حَدِيثِ اللَّيْثِ، وَصَالِحٍ: أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ أَخْبَرَهُ).
رجال هذا الإسناد: اثنا عشر:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ) بن المهاجر التُّجيبيّ المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.
2 -
(قُتَيْبَةُ) بن سعيد، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(اللَّيْثُ بْنُ سَعْدِ) بن عبد الرحمن الفهميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمام مشهور [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.
4 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكِسّيّ، تقدّم في الباب الماضي.
5 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الْحِمْيريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقة حافظ مصنّف، تغيّر في الآخر، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
6 -
(مَعْمَرُ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصري، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
7 -
(حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ) ابن عليّ بن محمد الْهُذليّ، أبو عليّ الخلّال نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ له تصانيف [11](ت 242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
8 -
(يَعْقُوبُ) ابن إبراهيم بن سعد الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
9 -
(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجة [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
10 -
(صَالِحُ) بن كيسان، تقدّم قبل بابين.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَن الزُّهْرِيِّ) أي: كلُّ هؤلاء الثلاثة: الليث بن سعد، ومعمر بن راشد، وصالح بن كيسان رووه عن الزهريّ بسنده السابق بلفظ:"أهديتُ له حمار وحش. . .".
بِهَذَا الْإِسْنَادِ: (أَهْدَيْتُ لَهُ حِمَارَ وَحْشٍ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ، وَفِي حَدِيثِ اللَّيْثِ، وَصَالِحٍ: أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ أَخْبَرَهُ).
[تنبيه]: رواية الليث بن سعد، عن الزهريّ هذه ساقها أبو نعيم في "مستخرجه" (3/ 280) فقال:
(2731)
- حدّثنا أحمد بن يوسف، ثنا أحمد بن إبراهيم بن ملحان، ثنا يحيى بن بكير، حدّثني الليث بن سعد (ح) وثنا أبو علي بن الصواف، وحبيب بن الحسن، قالا: ثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، ثنا أحمد بن يونس (ح) وثنا إبراهيم بن عبد الله، ثنا محمد بن إسحاق، ثنا قتيبة، قالا: ثنا الليث، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، أنه أخبره: أن الصعب بن جَثّامة أخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرّ بالأبواء، أو بوَدّان، فأهديتُ له حمارًا وحشيًّا، فردّه عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى في وجهي الكراهية، قال:"إنه ليس بنا رَدٌّ عليك، ولكنا حُرُمٌ"، لفظ يحيى بن بكير. انتهى.
وأما رواية معمر، عن الزهريّ، فساقها الطبرانيّ في "المعجم الكبير" (8/ 83) فقال:
(7429)
- حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الدَّبَرَيّ، أنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، عن الصعب بن جَثّامة، قال: مَرَّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا بالأبواء، فأهديتُ له حمار وحش، فرَدّه عليّ، فلما رأى الكراهية في وجهي، قال:"إنه ليس بنا رَدٌّ عليك، ولكنا حُرُمٌ". انتهى.
وأما رواية صالح بن كيسان، عن الزهريّ، فساقها أيضًا الطبرانيّ في "المعجم الكبير" (8/ 85) فقال:
(7440)
- حدّثنا أحمد بن زهير التستريّ، ثنا عبيد الله بن سعد، ثنا عَمَّي، ثنا أبي، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن عبد الله بن عباس أخبره، أن الصعب بن جَثّامة بن قيس أخبره، أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمار وحش، وهو بِوَدّان، فَرَدَّه. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2847]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَن الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: أَهْدَيْتُ لَهُ مِنْ لَحْمِ حِمَارِ وَحْشٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: ابن محمد بن بُكير، تقدّم قريبًا.
3 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة، عن الزهريّ هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"(5/ 192) فقال بعد ذكر رواية مالك، وشعيب بن أبي حمزة، والليث بن سعد، وغيرهم عن الزهري، كما رواه المصنّف هنا، ما نصّه:
وخالفهم ابن عيينة، فرواه كما أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، أنا حاجب بن أحمد، ثنا عبد الرحيم بن منيب، ثنا سفيان، عن الزهريّ، عن عبيد الله، عن ابن عباس، أخبره الصعب بن جثامة، أنه أهدى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم لحم حمار وحش، فردّه، فرأى الكراهية في وجهه، فقال:"ليس بنا رَدّ عليك، ولكنا حُرُمٌ".
قال البيهقيّ: رواه مسلم في "الصحيح" عن يحيى بن يحيى، وأبي بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد، عن سفيان، وقال في الحديث:"أهديت له من لحم حمار وحش".
ورواه الحميديّ، عن سفيان، على الصحة كما رواه سائر الناس، عن الزهريّ.
(9710)
- أخبرناه أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو بكر بن إسحاق، أنا بشر بن موسى، ثنا الحميديّ، ثنا سفيان، قال: سمعناه من الزهريّ عَوْدًا وبَدْءًا عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، قال: أخبرني الصعب بن جَثّامة،
قال: مَرّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا بالأبواء، أو بوَدّان، فأهديت له حمار وحش، فردّه عليّ، فلما رأى في وجهي الكراهية، قال:"إنه ليس بنا رَدٌّ عليك، ولكنا حُرُمٌ".
قال: كذا وجدته في كتابي، وهو سماع الحميديّ من سفيان فيما خلا، ثم اضطرب فيه بعدُ.
أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان، أنا عبد الله بن جعفر، ثنا يعقوب بن سفيان، قال: قال أبو بكر الحميديّ: وكان سفيان يقول في الحديث: أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحم حمار وحش، وربما قال سفيان: يَقْطُر دمًا، وربما لم يقل، وكان سفيان فيما خلا ربما قال: حمار وحش، ثم صار إلى لحم حتى مات. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بهذا أن سفيان بن عيينة رحمه الله كان يضطرب في هذا الحديث، فكان تارة يوافق الجماعة في قوله:"أهديت له حمار وحش"، وتارة يخالفهم، فيقول:"لحم حمار وحش".
والحاصل أن أكثر الرواة عن الزهريّ على أنه حمار وحش، ويَحْتَمل أن تتعدّد الواقعة، ففي بعضها أهدى له حمار وحش، وفي بعضها أهدى لحم حمار، وقد تقدّم تحقيق ذلك في شرح الحديث الأول، وهي رواية مالك، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2848]
(1194) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَن الْأَعْمَشِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَهْدَى الصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِمَارَ وَحْشٍ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: "لَوْلَا أَنَّا مُحْرِمُونَ، لَقَبِلْنَاهُ مِنْكَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
3 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
4 -
(حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ) قيس، ويقال: هند بن دينار الأسديّ مولاهم، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ جليلٌ، لكنه كثير الإرسال والتدليس [3](ت 119)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 1/ 1.
5 -
(سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرِ) بن هشام الأسديّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عابدٌ [3](ت 95)(ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 329.
والباقيان ذُكرا قبله.
والحديث أخرجه (المصنف) هنا [8/ 2848](1194)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 280 و 290 و 338 و 362)، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: ظاهر رواية سعيد بن جبير هذه والتي بعدها أن الحديث من مسند ابن عبّاس رضي الله عنهما، وقد تقدّم أن الصحيح أنه من مسند الصعب بن جثّامة رضي الله عنه، كما في روايات عبيد الله بن عبد الله السابقة، وفي بعضها التصريح بأن الصعب أخبره، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2849]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ مَنْصُورًا، يُحَدِّثُ عَن الْحَكَمِ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَن الْحَكَمِ (ح) وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، جَمِيعًا عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، فِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ عَن الْحَكَمِ: أَهْدَىَ الصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رِجْلَ حِمَارِ وَحْشٍ، وَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ عَن الْحَكَم: عَجُزَ حِمَارِ وَحْشٍ، يَقْطُرُ دَمًا، وَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ حَبِيبٍ: أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شِقُّ حِمَارِ وَحْشٍ، فَرَدَّهُ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة عشر:
1 -
(الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ) بن طَرْخان التيميّ، أبو محمد البصريّ، يُلقّب بالطُّفَيل، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187) وقد جاوز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.
2 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) العنبريّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
3 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر العنبريّ، أبو المثنّى البصريّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
والباقون إلى حبيب تقدّموا في الباب الماضي، وحبيب ومن بعده ذُكروا في هذا الباب، و"مَنْصُورٌ" هو: ابن المعتمر، و"محمد بن جعفر" هو المعروف بغُنْدَر، و"الْحَكَمُ" هو: ابن عُتيبة.
وقوله: (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، جَمِيعًا عَنْ حَبِيبٍ) هكذا النسخ بتقديم "جميعًا" على "عن حبيب"، والظاهر أنه غلط من النسّاخ؛ لأن عادة المصنّف رحمه الله أن يذكر لفظة "جميعًا" بعد راويين قرن بينهما، ولا قرين لشعبة في روايته عن حبيب بن أبي ثابت، فالصواب ذكرها بعد "عن حبيب"، فيكون كل من الحكم وحبيب رويا هذا الحديث عن سعيد بن جبير، فتأمل، والله تعالى أعلم.
والحديث أخرجه (المصنف) هنا [8/ 2849](1194)، و (النسائي)(5/ 184)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 280 و 290 و 341 و 345)، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية منصور، عن الحكم، عن سعيد بن جبير هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى" (2/ 371) فقال:
(3805)
- أنا محمد بن قُدامة الْمِصِّيصيّ، قال: حدّثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: أَهْدَى الصعب بن جَثّامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رِجْلَ حمار وحشيّ تقطر دمًا، وهو محرم، وهو بقُدَيد، فرَدّها عليه. انتهى.
وأما رواية شعبة، عن الحكم، عن سعيد، فساقها أبو نعيم في "مستخرجه" (3/ 281) فقال:
(2736)
- ثنا أبو بكر بن خلاد، ثنا الحارث بن أبي أسامة، ثنا أبو النضر (ح) وثنا أبو عليّ بن الصوّاف، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدّثني أبي، ثنا غندر، قالا: ثنا شعبة، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس؛ أن الصعب أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بقُديد، وهو محرم، عَجُز حمار، فردّه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطر دمًا. انتهى.
وأما رواية شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد، فساقها البيهقيّ في "الكبرى" (5/ 193) فقال:
(9712)
- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو عمرو بن مطر، ثنا يحيى بن محمد الحنائيّ، ثنا عبيد الله بن معاذ، ثنا أبي، ثنا شعبة، عن حبيب، سمع سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: أُهْدِيَ للنبيّ صلى الله عليه وسلم شِقُّ حمارِ وَحْشٍ، وهو محرم، فردّه. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2850]
(1195) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَن ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَدِمَ زيدُ بْنُ أَرْقَمَ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ يَسْتَذْكِرُهُ: كَيْفَ أَخْبَرْتَنِي عَنْ لَحْمِ صَيْدٍ، أُهْدِيَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ حَرَامٌ؟ قَالَ: قَالَ: أُهْدِيَ لَهُ عُضْوٌ مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ، فَرَدَّهُ، فَقَالَ: "إِنَّا لَا نَأْكُلُهُ، إِنَّا حُرُمٌ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، تقدّم قريبًا.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمِ) بن يَنّاق المكيّ، ثقةٌ [5] مات بعد المائة بقليل (ع) تقدم في "صلاة العيدين" 1/ 2044.
5 -
(طَاوُسُ) بن كيسان، تقدّم أيضًا قريبًا.
6 -
(زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ) بن زيد بن قيس الأنصاريّ الخزرجيّ الصحابيّ الشهير مات رضي الله عنه (6 أو 68)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 7/ 1208.
و"ابن عبّاس رضي الله عنهما" ذُكر قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، وتابعيّ، عن تابعيّ.
4 -
(ومنها): أن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، وقد أنزل الله تعالى بتصديقه "سورة المنافقون"، وأول مشاهده الخندق، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما) أنه (قَالَ: قَدِمَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ) بفتح القاف، وكسر الدال المهملة، ولم يظهر لي من أين، وإلى أين قَدِم؟ فالله تعالى أعلم.
(فَقَالَ لَهُ) أي: لزيد بن أرقم رضي الله عنه (عَبْدُ الله بْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما؛ وهو التفات؛ إذ الظاهر أن يقول: فقلت له (يَسْتَذْكِرُهُ) جملة حاليّة من الفاعل؛ أي: يطلب منه أن يذكر له ما سبق له من الإخبار (كَيْفَ أَخْبَرْتَنِي عَنْ لَحْمِ صَيْدٍ، أُهْدِيَ) بالبناء للمفعول (إِلَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ حَرَامٌ؟) جملة حاليّة؛ أي: والحال أنه صلى الله عليه وسلم محرم (قَالَ) ابن عبّاس رضي الله عنهما (قَالَ) زيد بن أرقم رضي الله عنه (أُهْدِيَ) بالبناء للمفعول، ولم يُعلم المُهدي (لَهُ) صلى الله عليه وسلم (عُضْوٌ مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ، فَرَدَّهُ) أي: ردّ ذلك العضو على صاحبه (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم للمهدي، معتذرًا إليه في ردّ هديّته، وفيه أنه ينبغي الاعتذار لمن امتنع من قبول الهديّة؛ لمانع؛ تطييبًا لقلب المهدي ("إِنَّا) بكسر الهمزة؛ لحكايتها بالقول (لَا نَأْكُلُهُ) أي: لحم الصيد، وقوله:(إِنَّا حُرُمٌ") بكسر الهمزة أيضًا جملة تعليليّة لعدم أكلهم له؛ أي: لا نأكل لحم الصيد؛ لكوننا حُرُمًا، بضمّتين: جمع حَرَام؛ أي: محرمين.
[فإن قلت]: هذا الحديث بإطلاقه يشمل المنع من أكل لحم الصيد للمحرم مطلقًا، سواء صِيد له، أم لا.
[قلت]: يُجاب بما سبق من أنه مقيّد بما إذا صاده لأجل المحرم، فيُحمل هذا الحديث على أن ذلك الرجل الذي أهداه، إنما صاده لأجل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، وهم محرمون؛ جمعًا بين الأحاديث، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان، تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 2850](1195)، و (أبو داود) في "المناسك"(1850)، و (النسائيّ) في "المناسك"(5/ 184)، وفي "الكبرى"(3803 و 3804)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(4/ 426)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 367 و 369 و 371 و 374)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2639)، و (الطبرانيّ) في "المعجم الكبير"(5/ 164) و (2640)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 282)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 194)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2851]
(1196) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ يَقُولُ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْقَاحَةِ، فَمِنَّا الْمُحْرِمُ، وَمِنَّا غَيْرُ الْمُحْرِمِ، إِذْ بَصُرْتُ بِأَصْحَابِي يَتَرَاءَوْنَ شَيْئًا، فَنَظَرْتُ، فَإِذَا حِمَارُ وَحْشِ، فَأَسْرَجْتُ فَرَسِي، وَأَخَذْتُ رُمْحِي، ثُمَّ رَكِبْتُ، فَسَقَطَ مِنِّي سَوْطِي، فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي، وَكَانُوا مُحْرِمِينَ: نَاوِلُونِي السَّوْطَ، فَقَالُوا: وَاللهِ لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، فَنَزَلْتُ، فَتَنَاوَلْتُهُ، ثُمَّ رَكِبْتُ، فَأَدْرَكْتُ الْحِمَارَ مِنْ خَلْفِهِ، وَهُوَ وَرَاءَ أَكَمَةٍ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي، فَعَقَرْتُهُ، فَأَتيْتُ بِهِ أَصْحَابِي، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُلُوهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَأْكُلُوهُ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَمَامَنَا، فَحَرَّكْتُ فَرَسِي، فَأَدْرَكْتُهُ، فَقَالَ:"هُوَ حَلَالٌ، فَكُلُوهُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
2 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ حجة إمام، من كبار [8](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.
3 -
(صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ) الغفاريّ مولاهم، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [4] مات بعد (130) أو بعد (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
4 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، نزيل مكة، ثقةٌ [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
5 -
(أَبُو مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ) نافع بن عبّاس - بموحّدة، ومهملة، أو تحتانيّة، ومعجمة - الأقرع المدنيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 77/ 399.
6 -
(أَبُو قَتَادَةَ) الحارث، ويقال: عمرو، أو النعمان بن رِبْعيّ بن بُلْدُمة الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (54) على الأصحّ (ع) تقدم في "الطهارة" 18/ 619.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان فصل بينهما بكتابة (ح).
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه ابن أبي عمر، كما أسلفته آنفًا.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من صالح، وهو أيضًا مسلسلٌ بالتحديث والسماع.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.
5 -
(ومنها): أن أبا محمد قيل له: مولى أبي قتادة؛ للزومه إياه، وإلا فهو مولى عقيلة بنت طلق الغفاريّة، وليس له في الكتب الستّة إلا هذا الحديث.
6 -
(ومنها): أن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، وهو فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهد أُحدًا، وما بعدها، ولم يصحّ شهوده بدرًا.
شرح الحديث:
(عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ) أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ) وفي رواية لأحمد من طريق سعد بن إبراهيم: "سمعت رجلًا، كان يقال له: مولى أبي قتادة، ولم يكن مولى"؛ أي: لأبي قتادة، وفي رواية ابن أبي إسحاق، عن عبد الله بن أبي سلمة، أن نافعًا مولى بني غفار.
قال الحافظ: فتحصّل من ذلك أنه لم يكن مولى لأبي قتادة حقيقةً، وقد
صرّح بذلك ابن حبان، فقال: هو مولى عقيلة بنت طلق الغفارية، وكان يقال له: مولى أبي قتادة، نُسب إليه، ولم يكن مولاه.
فيَحْتَمِل أنه نُسب إليه لكونه كان زوج مولاته، أو للزومه إياه، أو نحو ذلك، كما وقع لمقسم مولى ابن عباس، والله أعلم. انتهى
(1)
.
(يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ) رضي الله عنه (يَقُولُ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية عبد الله بن أبي قتادة الآتية أن ذلك كان عام الحديبية، وروى الواقديّ أن ذلك كان في عمرة القضية، والأول أصحّ.
وفي الرواية الآتية من طريق عثمان بن موهَب، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، قال:"خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجًّا، وخرجنا معه. . .". فقال الإسماعيليّ: هذا غلط، فإن القصّة كانت في عمرة، وأما الخروج إلى الحج فكان في خلق كثير، وكان كلهم على الجادّة، لا على ساحل البحر، ولعل الراوي أراد: خرج محرمًا، فعبّر عن الإحرام بالحج غلطًا.
قال الحافظ: لا غلط في ذلك، بل هو من المجاز السائغ، وأيضًا فالحجّ في الأصل قصد البيت، فكأنه قال: خرج، قاصدًا للبيت، ولهذا يقال للعمرة: الحجّ الأصغر، قال: ثم وجدت الحديث من رواية محمد بن أبي بكر المقدّميّ عن أبي عوانة، بلفظ:"خرج حاجًا أو معتمرًا"، أخرجه البيهقيّ، فتبيّن بهذا أن الشك فيه من أبي عوانة، وقد جزم يحيى بن أبي كثير بأن ذلك كان في عمرة الحديبية، وهذا هو المعتمد. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: حاصل قصّة أبي قتادة رضي الله عنه هذه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما خرج في عمرة الحديبية، فبلغ الرَّوْحاء - وهي من ذي الحليفة على أربعة وثلاثين ميلًا - أخبروه بأن عدوًّا من المشركين بوادي غَيقة
(3)
، يُخشى منهم أن يقصدوا غرّته، فجهّز طائفة من أصحابه، فيهم أبو قتادة إلى جهتهم ليأمن شرّهم، فلما أمنوا ذلك
(1)
"الفتح" 5/ 88.
(2)
"الفتح" 5/ 90.
(3)
بفتح الغين المعجمة، بعدها ياء ساكنة، ثم قاف مفتوحة، ثم هاء، قال السكونيّ:"هو ماء لبني غفار بين مكة والمدينة، وقال يعقوب: هو قَلِيب لبني ثعلبة يَصُبّ فيه ماء رضوى، ويصبّ هو في البحر"، قاله في "المرعاة" 9/ 393.
لحق أبو قتادة، وأصحابه بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، فأحرموا، إلا هو، فاستمرّ هو حلالًا؛ لأنه إما لم يجاوز الميقات، وإما لم يقصد العمرة، وبهذا يرتفع الإشكال الذي ذكره الأثرم، قال: كنت أسمع أصحابنا يتعجّبون من هذا الحديث، ويقولون: كيف جاز لأبي قتادة أن يجاوز الميقات، وهو غير محرم؟ ولا يدرون ما وجهه. قال: حتى وجدته في رواية من حديث أبي سعيد، فيها:"خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحرمنا، فلما كنا بمكان كذا إذا نحن بأبي قتادة، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم بعثه في وجه. . ." الحديث، قال: فإذًا أبو قتادة إنما جاز له ذلك لأنه لم يخرج يريد مكة.
قال الحافظ: وهذه الرواية التي أشار إليها تقتضي أن أبا قتادة لم يخرج مع النبيّ صلى الله عليه وسلم من المدينة، وليس كذلك - أي: لأن عامّة الروايات من حديث أبي قتادة على أن أبا قتادة خرج مع النبيّ صلى الله عليه وسلم من المدينة، وأن بعثه أبا قتادة ومن معه كان من الرَّوْحاء -.
ثم وجدت في "صحيح ابن حبّان"، والبزّار من طريق عياض بن عبد الله، عن أبي سعيد، قال:"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا قتادة على الصدقة، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، وهم محرمون، حتى نزلوا بعسفان". فهذا سبب آخر، ويَحْتَمِل جمعهما.
والذي يظهر أن أبا قتادة إنما أخّر الإحرام لأنه لم يتحقّق أنه يدخل مكة، فساغ له التأخير.
وقد استدلّ بقصّة أبي قتادة على جواز دخول الحرم بغير إحرام لمن لم يرد حجًّا، ولا عمرة. وقيل: كانت هذه القصّة قبل أن يوقّت النبيّ صلى الله عليه وسلم المواقيت.
وأما قول عياض، ومن تبعه: إن أبا قتادة لم يكن خرج مع النبيّ صلى الله عليه وسلم من المدينة، وإنما بعثه أهل المدينة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يعلمونه أن بعض العرب قصدوا الإغارة على المدينة، فهو ضعيف مخالف لما ثبت في هذه الطريق الصحيحة طريق عثمان بن موهب الآتية. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
(1)
"الفتح" 4/ 492.
وقال الشيخ محمد عابد السنديّ في "المواهب اللطيفة": الحاصل أن أبا قتادة رضي الله عنه خرج مع النبيّ صلى الله عليه وسلم من المدينة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بأخذ الصدقات، وكانت طريقهم متّحدةً، فأحرموا كلّهم غيره بناءً على أنه لم يقصد إذ ذاك مكة، ثم سار مع النبيّ صلى الله عليه وسلم بناءً على اتّحاد الطريق حتى بلغوا الرَّوْحاءَ، فأُخبروا بالعدوّ، فوجّهه صلى الله عليه وسلم مع أصحاب له محرمين، فلمّا أَمِنُوا رجع على حالته التي كان عليها، فساغ له التأخير لذلك. انتهى كلام السنديّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أحسن الأجوبة في ترك أبي قتادة الإحرام أنه كان قبل تحديد المواقيت؛ لأن القصّة كانت عام الحديبية، وتحديد المواقيت كان عام حجة الوداع، كما بيانه في موضعه، فلا استشكال، ولا حاجة إلى هذه الأجوبة المتكلّفة، فتبصّر، والله تعالى وليّ التوفيق.
(حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْقَاحَةِ) قال النوويّ رحمه الله: "القاحة" - بالقاف، وبالحاء المهملة المخففة - هذا هو الصواب المعروف في جميع الكتب، والذي قاله العلماء من كل طائفة، قال القاضي: كذا قَيَّدها الناس كلُّهم، قال: ورواه بعضهم عن البخاريّ
(2)
بالفاء، وهو وَهْمٌ، والصواب القاف، وهو وادٍ على نحو ميل من السُّقْيَا، وعلى ثلاث مراحل من المدينة. انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح": "القاحة" - بالقاف، والمهملة -: وادٍ على نحو ميل من السُّقْيَا إلى جهة المدينة، ويقال لواديها: وادي العباديد، وقد بيّن البخاريّ أنها من المدينة على ثلاث؛ أي: ثلاث مراحل، قال القاضي عياض: رواه الناس بالقاف، إلا القابسيّ، فضبطوه عنه بالفاء، وهو تصحيف.
قال الحافظ رحمه الله: ووقع عند الْجَوْزقيّ من طريق عبد الرحمن بن بشر، عن سفيان:"بالصِّفَاح" بدل "القاحة"، و"الصِّفَاح" بكسر المهملة، بعدها فاء،
(1)
راجع: "المرعاة شرح المشكاة" 9/ 393 - 394.
(2)
هكذا في "الإكمال"، و"شرح النوويّ"، وسيأتي عن "الفتح" بلفظ:"عن القابسيّ"، والظاهر أن هذا هو الصواب؛ لأن صاحب "الفتح" أعلم بما وقع عند البخاريّ، فلو كان عنده لتكلّم فيه، والله تعالى أعلم.
(3)
"شرح النوويّ" 8/ 107 - 108.
وآخره مهملة، وهو تصحيف، فإن الصِّفاح موضع بالرَّوْحاء، وبين الروحاء، وبين السُّقْيا مسافة طويلة، وسيأتي أن الرَّوْحاء هو المكان الذي ذهب أبو قتادة وأصحابه منه إلى جهة البحر، ثم التقوا بالقاحة، وبها وقع له الصيد المذكور، وكأنه تأخر هو ورُفْقته للراحة، أو غيرها، وتقدمهم النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى السُّقْيا حتى لحقوه. انتهى
(1)
.
(فَمِنَّا الْمُحْرِمُ، وَمِنَّا غَيْرُ الْمُحْرِمِ) أي: فبعضنا محرم بالعمرة، وبعضنا غير محرم.
[فإن قلت]: كيف كان أبو قتادة وغيره منهم غير محرمين، وقد جاوزوا ميقات المدينة، وقد تقرر أن من أراد حجًّا أو عمرةً لا يجوز له مجاوزة الميقات غير محرم؟
[أجيب]: بأجوبة:
(أحدها): أن المواقيت لم تكن وُقِّتت بعدُ.
(وثانيها): لكون النبيّ صلى الله عليه وسلم بَعَث أبا قتادة ورفقته لكشف عدوّ لهم بجهة الساحل، كما ذكره مسلم في الرواية الآتية.
(وثالثها): أنه لم يكن خرج مع النبيّ صلى الله عليه وسلم من المدينة، بل بعثه أهل المدينة بعد ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ ليُعلمه أن بعض العرب يقصدون الإغارة على المدينة.
وقيل: إنه خرج معهم، ولكنه لم ينو حجًّا ولا عمرةً، قال القاضي عياض: وهذا بعيدٌ، والله أعلم. انتهى
(2)
.
(إِذْ بَصُرْتُ بِأَصْحَابِي) بضمّ الصاد المهملة، وتُكسر، قال الفيّوميّ رحمه الله: بَصِرتُ بالشيء بالضمّ، والكسر لغةٌ بَصَرًا بفتحتين: علمتُ، فأنا بصير به، يتعدّى بالباء في اللغة الفُصحى، وقد يتعدّى بنفسه، وهو ذو بَصَرٍ، وبَصِيرة؛ أي: علمٍ وخِبْرة، ويتعدّى بالتضعيف إلى ثانٍ، فيقال: بصّرته به تبصيرًا. انتهى.
(1)
"الفتح" 5/ 87.
(2)
"المفهم" 3/ 280، و"إكمال المعلم" 4/ 198 - 199، و"شرح النوويّ" 8/ 109 - 110.
(يَتَرَاءَوْنَ شَيْئًا) أي: ينظرون، ويرون شيئًا، ومنه حديث:"إن أهل الجنّة ليتراءون أهل عليّين، كما ترون الكوكب الدرّي في أفق السماء"، أو المراد: يتكلّفون النظر إليه، ومنه حديث:"تراءين الهلال"؛ أي: تكلّفنا النظر إليه، هل نراه أو لا؟
وقال ابن الأثير رحمه الله: والترائي: تفاعُلٌ من الرؤية، يقال: تراءى القوم: إذا رأى بعضهم بعضًا، وتراءى لي الشيءُ؛ أي: ظهر حتى رأيته. انتهى
(1)
.
وفي الرواية الآتية من طريق يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله أبي قتادة، عن أبيه:"قال: فبينما أنا مع أصحابه يضحك بعضهم إلى بعض. . .".
وفي رواية للبخاريّ في "الصيد": "فينا أنا على ذلك إذ رأيت الناس متشوّفين لشيء، فذهبت أنظر، فإذا هو حمار وحش، فقلت لهم: ما هذا؟ قالوا: لا ندري، قلت: هو حمارٌ وحشيٌّ، فقالوا: هو ما رأيت. . .".
وفي رواية أبي حازم عند البخاريّ في "الهبة": "فأبصروا حمارًا وحشيًّا، وأنا مشغول أخصف نعلي، فلم يؤذنوني به، وأحبّوا لو أني أبصرته، فالتفتّ، فأبصرته. . .".
(فَنَظَرْتُ) أي: إلى ذلك الشيء الذي يتراءونه (فَإِذَا حِمَارُ وَحْشٍ)"إذا" هي الفُجائيّة؛ أي: ففجأني وجود حمار وحش، وهو نوع من الصيد على صفة الحمار الأهليّ، وبينهما بعض الميزات، وجمعه حُمَرٌ بضمّتين، ونُسب إلى الوحش؛ لتوحّشه، وعدم استئناسه.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "فإذا حمار وحش" وكذا ذُكِر في أكثر الروايات: "حمار وحش"، وفي رواية أبي كامل الجحدريّ:"إذ رأوا حُمُرَ وحشٍ، فحَمَل عليها أبو قتادة، فعقر منها أتانًا، فأكلوا من لحمها"، فهذه الرواية تُبَيِّن أن الحمار في أكثر الروايات المراد به أنثى، وهي الأتان، وسميت حمارًا مجازًا. انتهى
(2)
.
(فَأَسْرَجْتُ فَرَسِي) أي: شَدَدْتُ عليها السرج، وهو رَحْلها، وجمعه سُرُوجٌ، مثلُ فَلْسٍ وفُلُوس.
(1)
"النهاية" 2/ 177.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 111 - 112.
وفي رواية للبخاريّ: "فركب فرسًا له، يقال له الجرادة، قال الحافظ: هو بفتح الجيم، وتخفيف الراء، والجراد اسم جنس، ووقع في السيرة لابن هشام أن اسم فرس أبي قتادة: الحزوة؛ أي: بفتح المهملة، وسكون الزاي، بعدها واو، فإما أن يكون له اسمان، وإما أن أحدهما تصحيف، والذي في "الصحيح" هو المعتمد. انتهى.
(وَأَخَذْتُ رُمْحِي) بضمّ، فسكون: قَنَاةٌ في رأسها سِنَانٌ، يُطْعَنُ بها، جمعها رِمَاحٌ، وأَرْماحٌ
(1)
. (ثُمَّ رَكِبْتُ، فَسَقَطَ مِنِّي سَوْطِي) بفتح، فسكون: هو ما يُضْرَب به من جلد، سواء كان مضفورًا، أو لا
(2)
. (فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي، وَكَانُوا مُحْرِمِينَ: نَاوِلُونِي السَّوْطَ) أي: أعطونيه (فَقَالُوا: وَاللهِ لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ) أي: على قتل هذا الحمار الوحشيّ (بِشَيْءٍ) لأن صيده محرّم علينا؛ للإحرام (فَنَزَلْتُ) أي: الفرس (فَتَنَاوَلْتُهُ) أي: أخذت السوط.
وفي رواية أبي حازم المذكورة: "فأبصروا حمارًا وحشيًّا، وأنا مشغول أخصف نعلي، فلم يؤذنوني به، وأحبّوا لو أني أبصرته، فالتفتّ، فأبصرته، فقمت إلى الفرس، فأسرجته، ثم ركبتُ، ونسيتُ السوط والرمح، فقلت لهم: ناولوني السوط والرمح، فقالوا: لا والله لا نُعينك عليه بشيء، فغضِبتُ، فنزلت، فأخذته".
(ثُمَّ رَكِبْتُ، فَأَدْرَكْتُ الْحِمَارَ مِنْ خَلْفِهِ، وَهُوَ وَرَاءَ أَكَمَةٍ) بفتحات: تَلٌّ، وقيل: شُرْفةٌ كالرابية، وهو ما اجتَمَع من الحجارة في مكان واحد، وربّما غَلُظ، وربما لم يَغلُظ، والجمع أَكَمٌ، وأَكَمات، مثلُ قَصَبة وقَصَبٍ وقَصَبَات، وجمع الأَكَمِ إِكَامٌ، مثلُ جَبَل وجِبال، وجمع الإِكَام أُكُمٌ بضمّتين، مثلُ كتاب وكُتُب، وجمع الأُكُم آكامٌ، مثلُ عُنُق وأَعناق، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(3)
.
(فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي، فَعَقَرْتُهُ) أي: قتلته، وأصل العقر الْجَرح، وفي رواية:"فشددت على الحمار، فعقرته، ثم جئت به، وقد مات"، وفي أخرى:"حتى عقرته، فأتيت إليهم، فقلت لهم: قوموا، فاحتَمِلُوه، فقالوا: لا نمسّه، فحملته حتى جئتهم به".
(1)
راجع: "المعجم الوسيط"371.
(2)
راجع: "المعجم الوسيط"463.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 18.
(فَأَتَيْتُ بِهِ أَصْحَابِي، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُلُوهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَأْكُلُوهُ) وفي رواية: "فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبَى بَعْضُهُمْ"، وفي رواية:"فأكلنا من لحمه"، وفي رواية:"فَأكلوا، فندموا". وفي رواية: "فوقعوا يأكلون منه، ثم إنهم شكّوا في أكلهم إياه، وهم حُرُم، فرُحْنا، وخبأت العضد معي"، وفي رواية:"فجعلوا يَشْوُون منه"، وفي رواية عند سعيد بن منصور:"فظللنا نأكل منه ما شئنا، طبيخًا، وشواء، ثم تزوّدنا منه".
(وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَمَامَنَا) أي: تقدّمهم، حيث تأخروا عنه (فَحَرَّكْتُ فَرَسِي، فَأَدْرَكْتُهُ، فَقَالَ: "هُوَ حَلَالٌ، فَكُلُوهُ") أي: بعد أن سألوه، ففي الرواية التالية:"فأدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَسَألُوهُ عَنْ ذَلِكَ، فقال: إنما هي طعمة أطعمكموها الله"، وفي رواية عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه الآتية:"فقلت: يا رسول الله، إني أصبت حمار وحش، وعندي منه، فقال للقوم: كلوا، وهم محرمون"، وفي رواية:"فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هل منكم أحد أمره أن يَحْمِل عليها، أو أشار إليها؟ قالوا: لا، قال: فكلوا ما بقي من لحمها"، وفي رواية للبخاريّ:"فرُحنا، وخبأت العضد معي". وفيه: "معكم منه شيء؟ فناولته العضد، فأكلها حتى تعرّقها"، وفي رواية:"قال: معنا رجله، فأخذها، فأكلها"، وفي رواية:"قد رفعنا لك الذراع، فأكل منها".
[تنبيه]: روى الإمام أحمد، وابن ماجه، وعبد الرزّاق في "مصنّفه"، والدارقطنيّ، وإسحاق ابن راهويه، وابن خزيمة، والبيهقيّ من طريق معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، فأحرم أصحابي، ولم أحرم أنا، فرأيت حمار وحش، فحملت عليه، فاصطدته، فذكرت شأنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلت له: إنما اصطدته له، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه، فأكلوه، ولم يأكل منه حين أخبرته أني اصطدته له.
قال ابن خزيمة، وأبو بكر النيسابوريّ، والدارقطنيّ، والجوزقيّ: تفرّد بهذه الزيادة معمر.
قال ابن خزيمة: إن كانت هذه الزيادة محفوظةً احتَمَلَ أن يكون صلى الله عليه وسلم أكل
من لحم ذلك الحمار قبل أن يُعلمه أبو قتادة أنه اصطاده من أجله، فلما أعلمه امتنع. انتهى.
قال الحافظ: وفيه نظرٌ؛ لأنه لو كان حرامًا ما أقرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم على الأكل منه إلى أن أعلمه أبو قتادة بأنه صاده لأجله.
ويَحْتَمِل أن يكون ذلك لبيان الجواز، فإن الذي يحرم على المحرم إنما هو الذي يَعْلَم أنه صِيد من أجله، وأما إذا أُتِيَ بلحم لا يدري ألحم صَيدٍ أو لا، فحَمَله على أصل الإباحة، فأكل منه لم يكن ذلك حرامًا على الآكل.
قال: وعندي بعد ذلك فيه وقفة، فان الروايات المتقدمة ظاهرة في أن الذي تأخر هو العضد، وأنه صلى الله عليه وسلم أكلها حتى تعرَّقها؛ أي: لم يبق منها إلا العظم، ووقع عند البخاريّ في "الهبة":"حتى نَفّدَها" أي: فرّغها، فأيُّ شيء يبقى منها حينئذ، حتى يأمر أصحابه بأكله؟ لكن رواية أبي محمد الآتية في "الصيد":"أبقي معكم شيء منه؟ قلت: نعم، قال: كلوا، فهو طُعْمةٌ أطعمكموها الله"، فأشعر بأنه بقي منها غير العضد، والله أعلم. انتهى
(1)
.
قال صاحب "المرعاة": معمر ثقةٌ لا يضرّ تفرّده، وقد تقدّم وجه الجمع بين الروايتين في كلام ابن خزيمة، ويشهد للزيادة المذكورة في رواية معمر حديث جابر رضي الله عنه مرفوعًا:"لحم الصيد لكم حلال ما لم تصيدوه، أو يُصَد لكم"، وهو حديث صحيح رواه أحمد، وأصحاب "السنن". انتهى، وهو بحث مفيدٌ
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي قتادة رضي الله عنه هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 2851 و 2852 و 2853 و 2854 و 2855
(1)
"الفتح" 5/ 92 - 93.
(2)
"المرعاة شرح المشكاة" 9/ 397 - 398.
و 2856 و 2857 و 2858 و 2859] (1196)، و (البخاريّ) في "الحج"(1821 و 1822 و 1823 و 1824)، و"الهبة"(2570)، و"الجهاد والسير"(2854 و 2914)، و"المغازي"(4149)، و"الأطعمة"(5406 و 5407)، و"الذبائح والصيد"(5491 و 5492)، و (أبو داود) في "المناسك"(1852)، و (النسائيّ) في "المناسك"(2816 و 2824 و 2825 و 2826)، و"الصيد والذبائح"(4345 و 4857)، وفي "الكبرى"(3798 و 3807 و 3809)، و"الصيد والذبائح"(4857)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(3093)، (ومالك) في "الموطأ" في "الحج"(786 و 788)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 204)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 296 و 301 و 306 و 308)، و (الدارمي) في "سننه"(1826)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 405)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 282)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 105)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(3/ 87)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(2/ 838)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(12/ 211 و 220)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 178 و 187)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده
(1)
:
1 -
(منها): بيان ما يجوز أكله للمحرم من الصيد، وهو الذي صاده الحلال، دون أن يساعده المحرم عليه بشيء، وهذا يقوّي من حمل الصيد في قوله تعالى:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ} الآية [المائدة: 96] على الاصطياد.
2 -
(ومنها): أن فيه تفريق الإمام أصحابه للمصلحة، واستعمال الطليعة في الغزو.
3 -
(ومنها): أن تمني المحرِم أن يقع من الحلال الصيدُ؛ ليأكل منه لا يقدح في إحرامه، فقد قال أبو قتادة:"وأحبّوا لو أني أبصرته".
4 -
(ومنها): جواز الاجتهاد في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال ابن العربيّ رحمه الله: هو اجتهاد بالقرب من النبيّ صلى الله عليه وسلم، لا في حضرته.
(1)
المراد فوائد حديث أبي قتادة رحمه الله برواياته المختلفة، لا خصوص السياق المشروح هنا، فتنبّه.
5 -
(ومنها): العمل بما أدّى إليه الاجتهاد، ولو تضادّ المجتهدان، ولا يُعاب واحد منهما على ذلك؛ لقوله:"فلم يَعِب ذلك علينا"، وكأن الآكل متمَسِّك بأصل الإباحة، والممتنع نظر إلى الأمر الطارئ.
6 -
(ومنها): الرجوع إلى النصّ عند تعارض الأدلّة، حيث إنهم لَمّا اختلفوا في أكله سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم.
7 -
(ومنها): جواز ركض الفرس في الاصطياد.
8 -
(ومنها): جواز التصيّد في الأماكن الوَعْرة، والاستعانة بالفارس.
9 -
(ومنها): تسمية الفرس، حيث إن فيه:"فركب فرسًا، يقال له: الجرادة"، وألحق البخاريّ به الحمار، فترجم له في "الجهاد"، وقال ابن العربيّ: قالوا: تجوز التسمية لما لا يَعْقِل، وإن كان لا يتفطن له، ولا يُجيب إذا نودي، مع أن بعض الحيوانات ربما أدمن على ذلك بحيث يصير يميّز اسمه إذا دعي به.
10 -
(ومنها): حمل الزاد في السفر.
11 -
(ومنها): إمساك نصيب الرفيق الغائب.
12 -
(ومنها): تبليغ السلام عن قرب، وعن بعد، وليس فيه دلالة على جواز ترك ردّ السلام ممن بلغه؛ لأنه يَحْتَمِل أن يكون وقع، وليس في الخبر ما ينفيه.
13 -
(ومنها): أن ذكاة الصيد عَقْره.
14 -
(ومنها): مشروعية الاستيهاب من الأصدقاء، وقبول الهدية من الصَّدِيق، وقال القاضي عياض رحمه الله: عندي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم طلب من أبي قتادة ذلك؛ تطييبًا لقلب من أكل منه؛ بيانًا للجواز بالقول والفعل؛ لإزالة الشبهة التي حصلت لهم.
15 -
(ومنها): الرفق بالأصحاب، والرفقاء في السير.
16 -
(ومنها): استعمال الكناية في الفعل كما تُسْتَعمل في القول؛ لأنهم استعملوا الضحك في موضع الإشارة؛ لما اعتقدوه من أن الإشارة لا تحلّ.
17 -
(ومنها): جواز سوق الفرس للحاجة، والرفق به مع ذلك؛ لقوله:"وأسير شأوًا".
18 -
(ومنها): مشروعيّة نزول المسافر وقت القائلة.
19 -
(ومنها): ذكر الْحُكْم مع الحكمة، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إنما هي طُعْمة أطعمكموها الله".
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2582]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى أبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه: أنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ، تَخَلَّفَ مَعَ أَصْحَابٍ لَهُ مُحْرِمِينَ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ، فَرَأَى حِمَارًا وَحْشِيًّا، فَاسْتَوَى عَلَى فَرَسِهِ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطَهُ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ، فَسَأَلَهُمْ رُمْحَهُ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ، ثُمَّ شَدَّ عَلَى الْحِمَارِ، فَقَتَلَهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبَى بَعْضُهُمْ، فَأَدْرَكُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ:"إِنَّمَا هِيَ طُعْمَةٌ، أَطْعَمَكُمُوهَا اللهُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو النَّضْرِ) سالم بن أبي أُميّة، مولى عمر بن عبيد الله التيميّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ، يرسل [5](ت 129)(ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 551.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه: أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وكان ذلك في عام الحديبية.
وقوله: (فَاسْتَوَى عَلَى فَرَسِهِ) أي: ركبه، واستقرّ على ظهره.
وقوله: (فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطَهُ) أي: وقد نسيه، كما في رواية، أو سقط منه، كما في أخرى، ويُجْمَع بينهما بأن أريد بالسقوط النسيان، أو العكس تجوّزًا، قاله السنديّ رحمه الله.
وقوله: (فَأَبَوْا عَلَيْهِ) أي: امتنعوا عليه من مناولته له؛ لكونهم محرمين، ففي رواية أبي عوانة:"فإذا حمار وحشٍ، فركبت فرسي، وأخذت الرمح، والسوط، فسقط منّي السوط، فقلت: ناولوني، فقالوا: ليس نعينك عليه بشيء، إنا محرمون".
وفي رواية للبخاريّ: "فحملت عليه"، وفي رواية:"فقمت إلى الفرس، فأسرجته، ثم ركبت، ونسيت السوط والرمح، فقلت: ناولوني السوط والرمح، فقالوا: لا والله، لا نعينك عليه بشيء، فغضبت، فنزلت، فأخذتهما، ثم ركبت". وفي رواية: "فركب فرسًا يقال له: الجرادة، فسألهم أن يناولوه سوطه، فأبوا، فتناوله"، وفي رواية:"وكنت نسيت سوطي، فقلت لهم: ناولوني سوطي، فقالوا: لا نعينك عليه، فنزلت، فأخذته"، وعند ابن أبي شيبة:"فاختلس من بعضهم سوطًا".
قال الحافظ: والرواية الأولى أقوى، ويمكن الجمع بينهما بأنه رأى في سوط نفسه تقصيرًا، فأخذ سوط غيره، واحتاج إلى اختلاسه؛ لأنه لو طلبه منه اختيارًا لامتنع. انتهى.
وفيه دلالة على أنهم كانوا قد علموا أنه يحرم على المحرم الإعانة على قتل الصيد.
وقوله: (ثُمَّ شَدَّ عَلَى الْحِمَارِ) أي: حمل عليه.
وقوله: (فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبَى بَعْضُهُمْ) في رواية: "فأتيت به أصحابي، فقال بعضهم: كلوا، وقال بعضهم: لا تأكلوا"، قال الحافظ: قد تقدّم من عدّة أوجه أنهم أكلوا، والظاهر أنهم أكلوا أول ما أتاهم، ثم طرأ عليهم الشكّ، كما في لفظ عثمان بن موهب، عن عبد الله بن أبي قتادة عند البخاريّ:"فأكلنا من لحمها، ثم قلنا: أنأكل من لحم صيد، ونحن محرمون؟ "، وأصرح من ذلك رواية أبي حازم عند البخاريّ في "الهبة" بلفظ:"ثم جئتُ به، فوقعوا فيه يأكلون، ثم إنهم شكُّوا في أكلهم إياه، وهم حُرُم".
وقوله: (إِنَّمَا هِيَ طُعْمَةٌ) بضمّ الطاء؛ أي: طعام.
وقوله: (أَطْعَمَكُمُوهَا اللهُ) أي: رزقكم الله إياها، والمقصود بنسبة الطعام
إلى الله تعالى قطع التسبب عنهم؛ أي: فلا إثم عليكم، وإلا فكلّ الطعام مما يُطعم الله تعالى عباده، فافهم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2853]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه فِي حِمَارِ الْوَحْشِ، مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي النَّضْرِ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ؟ ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ) العَدَويّ، مولاهم، أبو عبد الله، أو أبو أُسامة المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ، كان يرسل [5](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.
2 -
(عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ) الهلاليّ مولاهم، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ، فاضلٌ عابدٌ، من صغار [3](ت 94)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: رواية عطاء بن يسار، عن أبي قتادة هذه لم أر من ساقها تامّةً، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2854]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا صالِحُ بْنُ مِسْمَارٍ السُّلَمِيُّ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: انْطَلَقَ أبِي مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَأَحْرَمَ أَصْحَابُهُ، وَلَمْ يُحْرِمْ، وَحُدِّثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ عَدُوًّا بِغَيْقَةَ، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَبَيْنَمَا أَنَا مَعَ أَصْحَابِهِ، يَضْحَكُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، إِذْ نَظَرْتُ، فَإِذَا أنا بِحِمَارِ وَحْشٍ، فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ، فَطَعَنْتُهُ، فَأَثْبَتُّهُ، فَاسْتَعَنْتُهُمْ، فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُونِي، فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهِ، وَخَشِينَا أَنْ
نُقْتَطَعَ، فَانْطَلَقْتُ أَطْلُبُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَرْفَعُ فَرَسِي شَأْوًا، وَأَسِيرُ شَأْوًا، فَلَقِيتُ رَجُلًا مِنْ بَنِي غِفَارٍ، فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، فَقُلْتُ: أَيْنَ لَقِيتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: تَرَكْتُهُ بِتَعْهِنَ، وَهُوَ قَائِلٌ السُّقْيَا، فَلَحِقْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَصْحَابَكَ يَقْرَءُونَ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَرَحْمَةَ اللهِ، وَإِنَّهُمْ قَدْ خَشُوا أَنْ يُقْتَطَعُوا دُونَكَ، انْتَظِرْهُمْ، فَانْتَظَرَهُمْ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَصَدْتُ، وَمَعِي مِنْهُ فَاضِلَةٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْقَوْمِ:"كُلُوا" وَهُمْ مُحْرِمُونَ).
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(صَالِحُ بْنُ مِسْمَارٍ السُّلَمِيُّ) أبو الفضل، ويقال: أبو العبّاس المروزيّ الْكُشْمِيهنِيّ
(1)
، ويقال: الرازيّ، صدوقٌ، من صغار [10].
رَوَى عن وكيع، وابن عيينة، وابن أبي فُديك، ومعاذ بن هشام، ومَعْن بن عيسى، والنضر بن شُمَيل، وأبي أسامة، وأبي ضَمْرة أنس بن عياض، وغيرهم.
وروى عنه مسلم، والترمذيّ، ومحمد بن الصباح الْجَرْجَرائي، سمع منه بمكة، وأبو حاتم، وابن جرير، وغيرهم.
قال أبو حاتم: صدوقٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة خمسين ومائتين، أو قبلها بقليل، أو بعدها بقليل، وقال أبو إسحاق الصَّرِيفِينيّ: تُوُفّي بكشميهن سنة (246).
تفرّد به المصنّف، والترمذيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1196) وحديث (2003):"كلُّ مسكر خمر، وكلّ مسكر حرام".
2 -
(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدستوائيّ البصريّ، وقد سكن اليمن، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
3 -
(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ
(1)
بضم الكاف، وسكون الشين، وكسر الميم، وسكون الياء التحتانيّة، وفتح الهاء، وآخره نون: نسبة إلى قرية من قُرى مَرْوَ القديمة، وقد خَرِبَت، قاله في "اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 254.
ثبتٌ، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154) وله (78) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
4 -
(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) صالح بن المتوكّل، أبو نصر البصريّ، ثم اليماميّ، ثقةٌ ثبتٌ، يدلّس ويُرسل [5](ت 132)، أو قبل ذلك (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.
5 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ) الأنصاريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 95)(ع) تقدم في "الطهارة" 18/ 619.
و"أبو قتادة" ذُكر قبله.
وقوله: (انْطَلَقَ أَبِي مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ) هكذا ساقه مرسلًا، وكذا أخرجه البخاريّ عن معاذ بن فضالة، عن هشام، عن يحيى، وأخرجه أحمد عن ابن عُلَيّة، عن هشام، عن يحيى، لكن أخرجه أبو داود الطيالسيّ، عن هشام، عن يحيى، فقال: عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، أنه انطلق مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي رواية معاوية بن سلّام: أخبرني يحيى، أخبرني عبد الله بن أبي قتادة، أن أباه "أخبره. . ."، فصرّح بالإخبار عن أبيه.
وقوله: (عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ) صحّ من رواية الواقديّ من وجه آخر، عن عبد الله بن أبي قتادة، أن ذلك كان في عمرة القضيّة.
وقوله أيضًا: "عام الحديبية" فيه أن ترك أبي قتادة الإحرام، ومجاوزته الميقات بلا إحرام، كان قبل أن تقرّر المواقيت، فإن تقريرها كان عام حجة الوداع سنة عشر، كما تقدم، فلا حاجة إلى الاستشكال بأنه كيف جاز له تأخير الإحرام عن الميقات؟ وقد تقدم غير هذا من التأويلات، وهذا أحسنها.
وقوله: (فَأَحْرَمَ أَصْحَابُهُ، وَلَمْ يُحْرِمْ) الضمير لأبي قتادة، بيّنته الرواية الآتية:"أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الحديبية، قال: فأهلّوا بعمرة غيري".
وقوله: (وَحُدِّثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ عَدُوًّا بِغَيْقَةَ) ببناء الفعل للمفعول، وفي رواية البخاريّ من طريق عليّ بن المبارك، عن يحيى:"وأُنبئنا بعدو بغَيْقَةَ، فتوجهنا نحوهم".
و"غَيْقَةُ" بغين معجمة مفتوحة، ثم ياء مثنّاة تحتانيّة ساكنة، ثم قاف
مفتوحة: موضع من بلاد بني غفار، بين مكة والمدينة، قال القاضي عياض: وقيل: هي بئر ماء لبني ثعلبة. انتهى
(1)
.
قال في "الفتح": وفي هذا السياق حذفٌ بيّنته رواية عثمان بن موهب، عن عبد الله بن أبي قتادة الآتية بلفظ:"خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجًّا، وخرجنا معه، فصَرَفَ من أصحابه، فيهم أبو قتادة، فقال: خذوا ساحل البحر حتى تلقوني، قال: فأخذوا ساحل البحر، فلما انصرفوا أحرموا كلهم، إلا أبا قتادة. . ."، قال: وسيأتي الجمع هناك بين قوله في هذه الرواية: "خرج حاجًّا"، وبين قوله في هذا الحديث:"عام الحديبية" - إن شاء الله تعالى -. قال: وبَيَّن المطلب عن أبي قتادة، عند سعيد بن منصور مكان صرفهم، ولفظه:"خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا بلغنا الرَّوْحَاء".
وقوله: (قَالَ: فَبَيْنَمَا أَنَا مَعَ أَصْحَابِهِ) أي: أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم الذين صرفهم معه إلى جهة العدوّ، وفي رواية النسائيّ:"فبينما أنا مع أصحابي. . . إلخ" هذا يدلّ على أن عبد الله رواه عن أبيه، كما تقدم.
وقوله: (يَضْحَكُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ) وفي رواية عليّ بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عند البخاريّ:"فبصُر أصحابي بحمار وحش، فجعل بعضهم يضحك إلى بعض"، زاد في رواية أبي حازم:"وأحبّوا أَبُو أني أبصرته".
قال الحافظ رحمه الله: هكذا في جميع الطرق، والروايات، ووقع في رواية العذريّ في مسلم:"فجعل بعضهم يضحك إليّ"، فشدّدت الياء من "إليّ"، قال عياض: وهو خطأ، وتصحيف، وإنما سقط عليه لفظة "بعض"، ثم احتجّ لضعفها بأنهم لو ضَحِكُوا إليه، لكانت أكبر إشارة، وقد قال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم:"هل منكم أحد أمره، أو أشار إليه؟ "، قالوا: لا، وإذا دلّ المحرم الحلال على الصيد لم يأكل منه اتفاقًا، وإنما اختلفوا في وجوب الجزاء. انتهى.
وتعقّبه النوويّ بأنه لا يمكن ردّ هذه الرواية لصحّتها، وصحة الرواية الأخرى، وليس في واحدة منهما دلالة، ولا إشارة، فإن مجرّد الضحك ليس فيه إشارة.
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 108 - 109.
قال بعض العلماء: وإنما ضحكوا تعجبًا من عروض الصيد لهم، ولا قدرة لهم عليه؛ لمنعهم منه.
قال الحافظ: قوله: فإن مجرد الضحك ليس فيه إشارة صحيح، ولكن لا يكفي في ردّ دعوى القاضي، فإن قوله:"يضحك بعضهم إلى بعض" هو مجرّد الضحك. وقوله: "يضحك بعضهم إليّ" فيه مزيد أمر على مجرّد الضحك. والفرق بين الموضعين أنهم اشتركوا في رؤيته، فاستووا في ضحك بعضهم إلى بعض، وأبو قتادة لم يكن رآه، فيكون ضحك بعضهم إليه بغير سبب باعثًا له على التفطّن إلى رؤيته.
ويؤيد ما قال القاضي ما وقع في رواية أبي النضر، عن مولى أبي قتادة، بلفظ:"إذ رأيت الناس متشوفين لشيء، فذهبت أنظر، فإذا حمار وحش، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: لا ندري، فقلت: هو حمار وحش، فقالوا: هو ما رأيت".
ووقع حديث أبي سعيد عند البزّار، والطحاويّ، وابن حبان في هذه القصّة:"وجاء أبو قتادة، وهو حِلٌّ، فنكسوا رؤوسهم، كراهية أن يُحِدُّوا أبصارهم له، فيفطن، فيراه". انتهى.
فكيف يُظنّ بهم مع ذلك أنهم ضحكوا إليه؟ فتبيّن أن الصواب ما قاله القاضي.
قال: وفي قول الشيخ: قد صحّت الرواية نظر؛ لأن الاختلاف في إثبات هذه اللفظة، وحذفها لم يقع في طريقين مختلفين، وإنما وقع في سياق إسناد واحد مما عند مسلم، فكان مع من أثبت لفظ "بعض" زيادة علم سالمة من الإشكال، فهي مقدّمة.
وبيّن محمد بن جعفر في روايته عن أبي حازم، عن عبد الله بن أبي أوفى، كما عند البخاريّ في "الهبة" أن قصّة صيده للحمار كانت بعد أن اجتمعوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، ونزلوا في بعض المنازل، ولفظه:"كنت يومًا جالسًا مع رجال من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم في منزل في طريق مكة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم نازل أمامنا، والقوم محرمون، وأنا غير محرم". وبيّن في هذه الرواية السبب الموجب لرؤيتهم إياه، دون أبي قتادة بقوله: "فأبصروا حمارًا وحشيًّا، وأنا
مشغول أخصف نعلي، فلم يؤذنوني به، وأحبّوا لو أني أبصرته، والتفتّ، فأبصرته".
ووقع في رواية أبي سعيد المذكورة أن ذلك وقع، وهم بعسفان، وفيه نظر، والصحيح ما في رواية البخاريّ، من طريق صالح بن كيسان، عن أبي محمد، مولى أبي قتادة، عنه، قال:"كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم بالقاحة، ومنا المحرم، وغير المحرم، فرأيت أصحابي، يتراءون شيئًا، فنظرت، فإذا حمار وحش. . ." الحديث.
و"القاحة" - بقاف، ومهملة خفيفة، بعد الألف -: موضع قريبٌ من السقيا. انتهى.
وقوله: "وخشينا أن نُقتَطَع" بالبناء للمفعول؛ أي: نصير مقطوعين عن النبيّ صلى الله عليه وسلم منفصلين عنه؛ لكونه سبقهم، وكذا قوله بعد هذا:"وخَشُوا أن يقتطعوا دونك"، وبيّن ذلك رواية علي بن المبارك، عن يحيى، عند أبي عوانة بلفظ:"وخشينا أن يقتطعنا العدو". وللبخاريّ: "وأنهم خشوا أن يقتطعهم العدوّ دونك"، وهذا يُشعر بأن سبب إسراع أبي قتادة لإدراك النبيّ صلى الله عليه وسلم خشية على أصحابه أن ينالهم بعض أعدائهم. وفي رواية أبي النضر عند البخاريّ في "الصيد":"فأبى بعضهم أن يأكل، فقلت: أنا أستوقف لكم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأدركته، فحدثته الحديث". ففي هذا أن سبب إدراكه أن يستفتيه عن قصّة أكل الحمار. ويمكن الجمع بأن يكون ذلك بسبب الأمرين، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقوله: (فَإِذَا أَنَا بِحِمَارِ وَحْشٍ) قد تقدم أن رؤيته له كانت متأخرة عن رؤية أصحابه، وصرح بذلك فضيل بن سليمان في روايته، عن أبي حازم كما عند البخاريّ في "الجهاد"، ولفظه:"فرأوا حمارًا وحشيًّا قبل أن يراه أبو قتادة، فلما رأوه تركوه حتى رآه، فركب. . .".
وقوله: (فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ) وفي رواية محمد بن جعفر: "فقمت إلى الفرس، فأسرجته، ثم ركبت، ونسيت السوط والرمح، فقلت لهم: ناولوني السوط والرمح، فقالوا: لا، والله لا نعينك عليه بشيء، فغضبت، فنزلت، فأخذتهما،
(1)
"الفتح" 5/ 81 - 82.
ثم ركبت"، وفي رواية فضيل بن سليمان: "فركب فرسًا له، يقال له: الْجَرَادة، فسألهم أن يناولوه سوطه، فأبوا، فتناوله"، وفي رواية أبي النضر: "وكنت نسيت سوطي، فقلت لهم: ناولوني سوطي، فقالوا: لا نعينك عليه، فنزلت، فأخذته".
ووقع عند النسائيّ من طريق شعبة، عن عثمان بن موهب، وعند ابن أبي شيبة، من طريق عبد العزيز بن رُفيع، وأخرج مسلم إسنادهما، كلاهما عن أبي قتادة:"فاختَلَسَ من بعضهم سوطًا"، والرواية الأولى أقوى.
ويمكن أن يُجمَع بينهما بأنه رأى في سوط نفسه تقصيرًا، فأخذ سوط غيره، واحتاج إلى اختلاسه؛ لأنه لو طلبه منه اختيارًا لامتنع، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقوله: (فَطَعَنْتُهُ، فَأَثْبَتُّهُ) بالمثلثة، ثم الموحدة، ثم المثناة؛ أي: جعلته ثابتًا في مكانه، لا حِرَاك به، وفي رواية أبي حازم:"فشددت على الحمار، فعقرته، ثم جئت به، وقد مات".
وقوله: (فَاسْتَعَنْتُهُمْ، فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُونِي) وفي رواية أبي النضر الماضية: "حتى عَقَرته، فأتيت إليهم، فقلت لهم: قوموا، فاحتملوا، فقالوا: لا نمسه، فحملته، حتى جئتهم به".
وقوله: (فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهِ) وفي رواية فضيل، عن أبي حازم:"فأكلوا، فَنَدِموا"، وفي رواية محمد بن جعفر، عن أبي حازم:"فوقعوا يأكلون منه، ثم إنهم شَكُّوا في أكلهم إياه، وهم حُرُمٌ، فرُحْنا، وخبأت العَضُد معي"، وفي رواية مالك، عن أبي النضر:"فأكل منه بعضهم، وأبى بعضهم"، وفي حديث أبي سعيد:"فجعلوا يشوون منه"، وفي رواية المطلب، عن أبي قتادة، عند سعيد بن منصور:"فظللنا نأكل منه ما شئنا، طَبِيخًا وشِوَاءً، ثم تزوّدنا منه".
وقوله: (وَخَشِينَا أَنْ نُقْتَطَعَ) أي: نصير مقطوعين عن النبيّ صلى الله عليه وسلم منفصلين عنه؛ لكونه سبقهم، وكذا قوله بعد هذا:"وخَشُوا أن يُقْتَطُعوا دونك"، وبَيَّن ذلك رواية علي بن المبارك، عن يحيى عند أبي عوانة، بلفظ: "وخَشِينا أن
(1)
"الفتح" 5/ 83.
يَقتطعنا العدوّ"، وفيها عند البخاريّ: "وإنهم خَشُوا أن يقتطعهم العدوّ دونك"، وهذا يُشعر بأن سبب إسراع أبي قتادة لإدراك النبيّ صلى الله عليه وسلم خشيةٌ على أصحابه أن ينالهم بعض أعدائهم.
وفي رواية أبي النضر عند البخاريّ في "الصيد": "فابى بعضهم أن يأكل، فقلت: أنا أستوقف لكم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأدركته، فحدثته الحديث. . ."، ففي هذا أن سبب إدراكه أن يستفتيه عن قصة أكل الحمار، ويمكن الجمع بأن يكون ذلك بسبب الأمرين، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقوله: (أَرْفَعُ فَرَسِي شَأْوًا، وَأَسِيرُ شَأْوًا)"أرفع. . . إلخ" بالتخفيف، والتشديد؛ أي: أكلّفه السير السريع، و"شأوًا" بالشين المعجمة، بعدها همزة ساكنة؛ أي: تارةً، والمراد أنه يركضه تارةً، ويسير بسهولة أخرى، قاله في "الفتح".
وفي "اللسان": الشأو: الطَّلَقُ، والشوط، والشأو: الغاية، والأمد، قال: ويقال: عَدَا الفرسُ شأوًا، أو شأوين: أي: طلقًا أو طلقين. انتهى. و"الطلق" - بفتحتين، أو بكسر، فسكون -: الشوط.
وقوله: (فَلَقِيتُ رَجُلًا مِنْ بَنِي غِفَارٍ) قال الحافظ: لم أقف على اسمه.
وقوله: (قَالَ: تَرَكْتُهُ بِتَعْهِنَ) - بكسر المثناة، وبفتحها، بعدها عين مهملة ساكنة، ثم هاء مكسورة، ثم نون -، ورواية الأكثر بالكسر، وبه قيّدها البكريّ في "معجم البلاد"، ووقع في رواية عند الكشميهنيّ بكسر أوله، وثالثه، ولغيرهما بفتحهما، وحكى أبو ذرّ الهرويّ أنه سمعها من العرب بذلك المكان بفتح الهاء، ومنهم من يضمّ التاء، ويفتح العين، ويكسر الهاء. وقيل: هو من تغييراتهم، والصواب الأول، وأغرب أبو موسى المدينيّ، فضبطه بضم أوله، وثانيه، وبتشديد الهاء، قال: ومنهم من يكسر التاء، وأصحاب الحديث يسكنون العين، ووقع في رواية الإسماعيليّ:"بِدِعْهِن" بالدال المهملة بدل المثناة، قاله في "الفتح".
وقوله: (وَهُوَ قَائِلٌ السُّقْيَا)؛ أي: يريد القيلولة بالموضع المسمّى بالسُّقْيا -
(1)
"الفتح" 5/ 84.
بضم السين المهملة، وسكون القاف، بعدها تحتانيّة مقصورة -: قرية جامعة بين مكة والمدينة.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "قائل" روي بوجهين:
أصحّهما، وأشهرهما بهمزة بين الألف واللام، من القيلولة؛ أي: تركته في الليل بتعهن، وعزمُهُ أن يَقِيل بالسقيا، فمعنى قوله:"وهو قائل"؛ أي: سيقيل.
والوجه الثاني: أنه "قابل" بالموحدة، وهو غريب، وكأنه تصحيف، فإن صحّ فمعناه أن تعهن موضع مقابل للسقيا، فعلى الأول الضمير في قوله:"وهو" للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وعلى الثاني الضمير للموضع، وهو تعهن، ولا شكّ أن الأول أصوب، وأكثر فائدة.
وأغرب القرطبيّ، فقال:"وهو قائل" اسم فاعل من القول، أو من القائلة، والأول هو المراد هنا، و"السقيا" مفعول بفعل مضمر، وكأنه كان بتعهن، وهو يقول لأصحابه: اقصدوا السقيا.
ووقع عند الإسماعيليّ من طريق ابن علية، عن هشام:"وهو قائم بالسقيا"، فأبدل اللام في "قائل" ميمًا، وزاد الباء في "السقيا". قال الإسماعيليّ: الصحيح "قائل" باللام. قال الحافظ: وزيادة الباء توهي الاحتمال الأخير المذكور. انتهى
(1)
.
وقوله: (إِنَّ أَصْحَابَكَ يَقْرَءُونَ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَرَحْمَةَ اللهِ) - بفتح الياء، من قرأت ثلاثيًّا، قال الفيّوميّ: وقرأتُ على زيد السلامَ أقرؤه عليه قراءة، وإذا أمرت منه قلتَ: اقرأ عليه السلام. قال الأصمعيّ: وتعديته بنفسه خطأٌ، فلا يقال: أقرئه السلام؛ لأنه بمعنى: "اتلُ عليه". وحكى ابن القطّاع أنه يتعدّى بنفسه رباعيًّا، فيقال: فلان يُقرِئك السلامَ. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحاصل أنه إذا تعدى بحرف الجرّ، كهذا الحديث، فهو ثلاثيّ مفتوح الأول، لا غير، وإذا تعدى بنفسه، فهو رباعيّ، لا غير، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 5/ 84 - 85.
وفيه استحباب إرسال السلام إلى الغائب، سواء كان أفضل من المرسل، أم لا؟ لأنه إذا أرسله إلى من هو أفضل، فمن دونه أولى، قال النوويّ: قال أصحابنا: ويجب على الرسول تبليغه، ويجب على المرسل إليه ردّ الجواب حين يبلّغه على الفور. انتهى.
وقوله: (وَإِنَّهُمْ قَدْ خَشُوا) بفتح الخاء، وضم الشين المعجمتين، لا بفتحها، كما ظُنَّ، وأصله "خَشِيوا" بكسرها، فنقلت ضمة الياء إليها؛ استثقالًا للصعود من الكسرة إلى الضمّة، ثم حذفت الياء؛ لالتقاء الساكنين، فصار "خَشُوا" بفتح، فضمّ، فليُتنبّه.
وقوله: (أَنْ يُقْتَطَعُوا دُونَكَ) بالبناء للمفعول؛ أي: أن يقطعهم العدو دون أن يصلوا إليك.
وقوله: (انْتَظِرْهُمْ) بصيغة فعل الأمر، من الانتظار.
وقوله: (فَانْتَظَرَهُمْ) بصيغة فعل الماضي؛ أي: انتظر النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه.
وقوله: (إِنِّي أَصَدْتُ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في بعض النسخ، وهو بفتح الصاد المخففة، ويقال: بتشديد الصاد، وفي بعض النسخ: صِدْتُ، وفي بعضها: اصطَدْتُ، وكله صحيح. انتهى.
وقوله: (وَمَعِي مِنْهُ فَاضِلَةٌ) الضمير في منه يعود على الصيد المحذوف الذي دل عليه أصَدتُّ؛ أي: قطعة فضلت منه؛ أي: بقيت، وعند النسائيّ:"فأنبأته أن عندنا من لحمه فاضلةً" أي: قطعة فاضلة، أي: بقيت بعد أكله، والله تعالى أعلم.
وقوله: (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْقَوْمِ: "كُلُوا") صيغة الأمر هنا للإباحة، لا للوجوب؛ لأنها وقعت جوابًا عن سؤالهم عن الجواز، لا عن الوجوب، فوقعت الصيغة على مقتضى السؤال.
قال في "الفتح": ولم يذكر في هذه الرواية أنه صلى الله عليه وسلم أكل من لحمها، وذُكر عند البخاريّ في روايتي أبي حازم، عن عبد الله بن أبي قتادة، ولم يَذكر ذلك أحد من الرواة عن عبد الله بن أبي قتادة غيره، ووافقه صالح بن حسان عند أحمد، وأبي داود الطيالسيّ، وأبي عوانة، ولفظه:"فقال: كلوا، وأطعموني"، وكذا لم يذكرها أحد من الرواة عن أبي قتادة نفسه إلا المطلب، عند سعيد بن منصور.
قال: ووقع لنا من رواية أبي محمد، وعطاء بن يسار، وأبي صالح، ومن رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن، عند إسحاق، ومن رواية عباد بن تميم، وسعد بن إبراهيم عند أحمد. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وبقية مباحثه تقدمت قبل حديثين، فراجعها تزدد علمًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2855]
(. . .) - (حَدَّثَنِي أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَوْهَبٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَاجًّا، وَخَرَجْنَا مَعَهُ، قَالَ: فَصَرَفَ مِنْ أَصْحَابِهِ، فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ، فَقَالَ: خُذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ، حَتَّى تَلْقَوْنِي، قَالَ: فَأَخَذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا قِبَلَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحْرَمُوا كُلُّهُمْ، إِلَّا أَبَا قَتَادَةَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُحْرِمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَسِيرُونَ، إِذْ رَأَوْا حُمُرَ وَحْشٍ، فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَبُو قَتَادَةَ، فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا، فَنَزَلُوا، فَأَكَلُوا مِنْ لَحْمِهَا، قَالَ: فَقَالُوا: أَكَلْنَا لَحْمًا، وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ، قَالَ: فَحَمَلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِ الْأَتَانِ، فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا كُنَّا أَحْرَمْنَا، وَكَانَ أَبُو قَتَادَةَ لَمْ يُحْرِمْ، فَرَأَيْنَا حُمُرَ وَحْشٍ، فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَبُو قَتَادَةَ، فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا، فَنَزَلْنَا، فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهَا، فَقُلْنَا: نَأْكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ
(2)
، وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ، فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا، فَقَالَ: "هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ
(3)
أَمَرَهُ، أَوْ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ؟ " قَالَ: قَالُوا: لَا، قَالَ:"فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فضيل بن حسين الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
(1)
"الفتح" 5/ 92.
(2)
وفي نسخة: "من لحم صيد".
(3)
وفي نسخة: "هل معكم أحدٌ".
2 -
(أَبُو عَوَانَةَ) وضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ البزّاز، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176) تقدم في "المقدمة"(ع) 2/ 4.
3 -
(عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَوْهَبٍ) التيميّ مولاهم المدنيّ الأعرج، وقد يُنسب إلى جدّه، ثقةٌ [4](ت 160)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 4/ 114.
والباقيان ذُكرا قبله.
قوله: (عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَوْهَبٍ) - بفتح الهاء - مدنيّ تابعيّ ثقةٌ، روى هنا عن تابعيّ أكبر منه قليلًا.
وقوله: (خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَاجًّا) قال الإسماعيليّ رحمه الله: هذا غلط؛ فإن القصة كانت في عمرة، وأما الخروج إلى الحجّ فكان في خلق كثير، وكان كلهم على الجادّة، لا على ساحل البحر، ولعل الراوي أراد خرج مُحرمًا، فعبّر عن الإحرام بالحج غلطًا.
وتعقّبه الحافظ، فقال: لا غلط في ذلك، بل هو من المجاز السائغ، وأيضًا فالحج في الأصل قصد البيت، فكأنه قال: خرج قاصدًا للبيت، ولهذا يقال للعمرة: الحج الأصغر، قال: ثم وجدت الحديث من رواية محمد بن أبي بكر المقدَّميّ، عن أبي عوانة بلفظ:"خرج حاجًّا أو معتمرًا"، أخرجه البيهقيّ فتبيّن أن الشك فيه من أبي عوانة، وقد جزم يحيى بن أبي كثير بأن ذلك كان في عمرة الحديبية، وهذا هو المعتمد. انتهى.
وقوله: (أَحْرَمُوا كُلُّهُمْ، إِلَّا أَبَا قَتَادَةَ) كذا بالنصب في رواية المصنّف، وكذا هو عند البخاريّ في الكشميهنيّ، ولغيره:"إلا أبو قتادة" بالرفع، قال ابن مالك رحمه الله في "التوضيح": حق المستثنى بـ "إلا" من كلام تامّ موجَب أن ينصب مفردًا كان أو مكملًا معناه بما بعده، فالمفرد نحو قوله تعالى:{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)} [الزخرف: 67] والْمُكْمَل نحو: {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)} [الحجر: 59، 60]، ولا يَعرِف أكثر المتأخرين من البصريين في هذا النوع إلا النصب، وقد أغفلوا وروده مرفوعًا بالابتداء، مع ثبوت الخبر، ومع حذفه، فمن أمثلة الثابت الخبر قول عبد الله بن أبي قتادة:"أحرموا كلهم إلا أبو قتادة لم يحرم"، فـ "إلا" بمعنى "لكن"، و"أبو قتادة" مبتدأ، و"لم يُحْرِم" خبره، ونظيره من
كتاب الله تعالى: {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} [هود: 81]، فإنه لا يصح أن يجعل {امْرَأَتَكَ} بدلًا من {أَحَدٌ} لأنها لم تَسْرِ معهم، فيتضمنها ضمير المخاطبين، وتكلَّف بعضهم بأنه وإن لم يُسْرَ بها لكنها شَعَرت بالعذاب فتبعتهم، ثم التفتت فهلكت، قال: وهذا على تقدير صحته لا يوجب دخولها في المخاطبين بقوله: {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} ، وهذا - والحمد لله - بَيِّنٌ، والاعتراف بصحّته متعيّنٌ.
وفي المبتدإ الثابت الخبر بعد "إلا" ما جاء في "جامع المسانيد" من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ما للشياطين من سلاح أبلغ في الصالحين من النساء، إلا المتزوّجون، أولئك المطهّرون المبرّؤون من الخنا".
وجعل ابن خروف من هذا القبيل قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24)} [الغاشية: 23، 24].
ومن أمثلة المحذوف الخبر قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تدري نفس بأيّ أرض تموت إلا الله"، رواه البخاريّ، وقوله صلى الله عليه وسلم:"كلُّ أمتي مُعَافًى إلا المجاهرون"؛ أي: لكن المجاهرون بالمعاصي لا يُعَافَون، ومنه من كتاب الله تعالى قوله تعالى:{فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة: 249] أي: لكن قليل منهم لم يشربوا.
ومثله قول الشاعر:
لِدَمٍ ضَائِعٍ تَغَيَّبَ عَنْهُ
…
أَقْرَبُوهُ إِلَّا الصَّبَا وَالدَّبُورُ
أي: لكن الصبا والدبور لم يتغيّبا عنه.
قال: وللكوفيين في هذا الثاني مذهب آخر، وهو أن يجعلوا "إلا" حرف عطف، وما بعدها معطوفٌ على ما قبلها. انتهى
(1)
.
قال الحافظ: وفي نسبة الكلام المذكور لعبد الله بن أبي قتادة دون أبي قتادة نظر، فإن سياق الحديث ظاهر في أنه قول أبي قتادة، حيث قال:"أن أباه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حاجًّا، فخرجوا معه، فصَرَف طائفةً منهم، فيهم أبو قتادة - إلى أن قال -: أحرموا كلهم إلا أبو قتادة"، وقول أبي قتادة: "فيهم
(1)
"شواهد التوضيح" ص 41 - 44.
أبو قتادة" من باب التجريد، وكذا قوله: "إلا أبو قتادة"، ولا حاجة إلى جعله من قول ابنه؛ لأنه يستلزم أن يكون الحديث مرسلًا.
قال: ومن توجيه الرواية المذكورة، وهي قوله:"إلا أبو قتادة" أن يكون على مذهب من يقول: عليّ بن أبو طالب. انتهى.
وقوله: (فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَبُو قَتَادَةَ، فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا) في هذا السياق زيادة على جميع الروايات؛ لأنها متفقة على إفراد الحمار بالرؤية، وأفادت هذه الرواية أنه من جملة الْحُمُر، وأن المقتول كان أتانًا؛ أي: أنثى، فعلى هذا في إطلاق الحمار عليها تجوّز.
وقوله: (فَحَمَلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِ الْأَتَانِ) وفي رواية أبي حازم عند البخاريّ في "الهبة": "فرُحْنا، وخبأتُ العضد معي"، وفيه:"معكم منه بشيء؟ فناولته العضد، فأكلها حتى تعرَّقها"، وله في "الجهاد":"قال: معنا رجله، فأخذها، فأكلها"، وفي رواية المطَّلب:"قد رفعنا لك الذراع، فأكل منها".
وقوله: (فَقَالَ: "هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ، أَوْ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ؟ " قَالَ: قَالُوا: لَا) وفي رواية شعبة، عن عثمان التالية:"أمنكم أحدٌ أمره أن يَحمِل عليها، أو أشار إليها"، وفي رواية:"أشرتم، أو أعنتم، أو اصطدتم؟ "، ولأبي عوانة من هذا الوجه:"أشرتم، أو اصطدتم، أو قتلتم؟ ".
وقوله: (قَالَ: "فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا") صيغة الأمر هنا للإباحة، لا للوجوب، كما تقدّم بيانه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2856]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ (ح) وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ الله، عَنْ شَيْبَانَ، جَمِيعًا عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَوْهَبٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، فِي رِوَايَةِ شَيْبَانَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمِنْكُمْ أَحَدٌ أمَرَهُ أنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا؟ "، وَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ: قَالَ: "أَشَرْتُمْ، أَوْ أَعَنْتُمْ، أَوْ أَصَدْتُمْ؟ "، قَالَ شُعْبَةُ: لَا أَدْرِي قَالَ: "أَعَنْتُمْ، أَوْ أَصَدْتُمْ؟ ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ) القرشيّ الطحّان، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ [11] مات في حدود (250)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
2 -
(عُبَيْدُ اللهِ) بن موسى بن أبي المختار باذام الْعَبْسيّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ كان يتشيّع [9](ت 213) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
3 -
(شَيْبَانُ) بن عبد الرحمن النحويّ، أبو معاوية البصريّ، نزيل الكوفة، ثقة، صاحب كتاب [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
والباقون ذُكروا في الباب وفيما قبله.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (أشرتم، أو أعنتم، أو أصدتم) رُوي بتشديد الصاد وتخفيفها، ورُوي:"صِدْتُمْ"، قال القاضي عياض رحمه الله: رويناه بالتخفيف في "أَصَدتم"، ومعناه: أمرتم بالصيد، أو جعلتم من يصيده، وقيل: معناه أثرتم الصيد من موضعه، يقال: أصدت الصيد مخففًا؛ أي: أثرته، قال: وهو أولى من رواية من رواه: "صِدْتُمْ"، أو "اصَّدتم" بالتشديد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد عَلِم أنهم لم يصيدوا، وإنما سألوه عما صاده غيرهم. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: رواية شعبة، عن عثمان بن عبد الله بن موهب هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" (5/ 302) فقال:
حدّثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، قال: سمعت عثمان بن عبد الله بن موهب، قال: سمعت عبد الله بن أبي قتادة، يحدث عن أبيه أبي قتادة، أنهم كانوا في مسير لهم، فرأيت حمار وحش، فركبت فرسًا، وأخذت الرمح فقتلته، قال: وفينا المحرم، قال: فأكلوا منه، قال: فأشفقوا، قال: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال: فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"أشرتم، أو أعنتم، أو أصدتم؟ " قال شعبة: لا أدري قال: "أعنتم، أو أصدتم؟ " ثم قالوا: لا، فأمرهم بأكله. انتهى.
وأما رواية شيبان، عن عثمان، فلم أر من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"إكمال المعلم" 4/ 203.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2857]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، وَهُوَ ابْنُ سَلَّامٍ، أَخْبَرَنِي يَحْيَى، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ، أَنَّ أَبَاهُ رضي الله عنه أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةَ الْحُدَيْبِيَةِ، قَالَ: فَأَهَلُّوا بِعُمْرَةٍ غَيْرِي، قَالَ: فَاصْطَدْتُ حِمَارَ وَحْشٍ، فَأَطْعَمْتُ أَصْحَابِي، وَهُمْ مُحْرِمُونَ، ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْبَأَتُهُ أَنَّ عِنْدَنَا مِنْ لَحْمِهِ فَاضِلَةً، فَقَالَ: "كُلُوهُ"، وَهُمْ مُحْرِمُونَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمنِ الدَّارِمِيُّ) أبو محمد السمرقنديّ الحافظ، ثقةٌ ثبتٌ متقنٌ فاضلٌ [11](ت 255) وله (74) سنةً (م د ت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.
2 -
(يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ) التِّنِّيسيّ البصريّ، نزيل تِنِّيس، ثقةٌ [9](ت 208)(خ م د ت س) تقدم في "الحيض" 7/ 723.
3 -
(مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ) بن أبي سلّام، أبو سلّام الدمشقيّ، وكان يسكن حمص، ثقةٌ [7] مات في حدود (170)(ع) تقدم في "الإيمان" 49/ 309.
والباقون ذُكروا قبله، و"يحيى" هو: ابن أبي كثير.
[تنبيه]: رواية معاوية بن أبي سلّام، عن يحيى بن أبي كثير هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى" (5/ 178) فقال:
(9627)
- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو الوليد، ثنا عبد الله بن محمد، ثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارميّ، ثنا يحيى بن حسان، ثنا معاوية بن سلام، أخبرني يحيى، أخبرني عبد الله بن أبي قتادة، أن أباه أخبره، أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الحديبية، فأهلُّوا بعمرة غيري، قال: فاصطدت حمار وحش، فأطعمت أصحابي، وهم محرمون، ثم أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنبأته أن عندنا من لحمه فاضلةً، قال:"كلوه"، وهم محرمون. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2858]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ النُّمَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُمْ مُحْرِمُونَ، وَأَبُو قَتَادَةَ مُحِلٌّ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَقَالَ: "هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟
(1)
" قَالُوا: مَعَنَا رِجْلُهُ، قَالَ: فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَكَلَهَا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ) أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ [10](245)(م 4) تقدم في "الإيمان" 1/ 103.
2 -
(فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ النُّمَيْرِيُّ) أبو سليمان البصريّ، صدوق، له خطأٌ كثير [8](ت 183)(ع) تقدم في "الصيام" 8/ 2534.
3 -
(أَبُو حَازِمٍ) سلمة بن دينار التمّار الأعرج المدنيّ، ثقةٌ عابدٌ [5](ت 140) أو قبلها، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: رواية أبي حازم، عن عبد الله بن أبي قتادة هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(2854)
- حدّثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا فُضيل بن سليمان، عن أبي حازم، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، أنه خرج مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فتخلّف أبو قتادة مع بعض أصحابه، وهم محرمون، وهو غير محرم، فرأوا حمارًا وحشيًّا قبل أن يراه، فلما رأوه تركوه، حتى رآه أبو قتادة، فركب فرسًا له، يقال له: الْجَرَادة، فسألهم أن يناولوه سوطه، فأبوا، فتناوله، فحمل فعقره، ثم أكل فأكلوا، فقَدِموا، فلما أدركوه، قال:"هل معكم منه شيء؟ " قال: معنا رجله، فأخذها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأكلها. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
وفي نسخة: "هل عندكم منه شيءٌ؟ ".
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2859]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، وَإِسْحَاقُ، عَنْ جَرِيرٍ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: كَانَ أَبُو قَتَادَةَ فِي نَفَرٍ مُحْرِمِينَ، وَأَبُو قَتَادَةَ مُحِلٌّ، وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: قَالَ: "هَلْ أَشَارَ إِلَيْهِ إِنْسَانٌ مِنْكُمْ، أَوْ أَمَرَهُ بِشَيْءٍ؟ "، قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:"فَكُلُوا").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو الْأَحْوَصِ) سلّام بن سُليم الْحَنَفيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.
2 -
(إِسْحَاقُ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
4 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ) أبو عبد الله المكيّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ [4](ت 103)(ع) تقدم في "الجمعة" 15/ 2010.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: رواية عبد العزيز بن رُفيع، عن عبد الله بن أبي قتادة هذه ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" (9/ 286) فقال:
(3974)
- أخبرنا حامد بن محمد بن شعيب البلخيّ، حدّثنا منصور بن أبي مزاحم، حدثنا أبو الأحوص، عن عبد العزيز بن رُفيع، عن عبد الله بن أبي قتادة، قال: كان أبو قتادة في ناس محرمين، وأبو قتادة حِلٌّ، فأبصر القوم حمار وحش، فلم يؤذنوه حتى أبصره أبو قتادة، فقعد على ظهر فرس، واختَلَس من بعضهم سوطًا، فحَمَل على الحمار، فصرعه، فأتاهم به، فأكلوه، وحملوا، فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوه عما صنع أبو قتادة، فقال صلى الله عليه وسلم:"هل أشار إليه إنسان منكم بشيء، أو أمره؟ " قالوا: لا، قال:"فكلوه". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2860]
(1197) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَن ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، وَنَحْنُ حُرُمٌ، فَأُهْدِيَ لَهُ طَيْرٌ
(1)
، وَطَلْحَةُ رَاقِدٌ، فَمِنَّا مَنْ أَكَلَ، وَمِنَّا مَنْ تَوَرَّعَ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ طَلْحَةُ، وَفَّقَ مَنْ أَكَلَهُ، وَقَالَ: أَكَلْنَاهُ
(2)
مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ) بن عبد الله بن الْهُدَير التيميّ المدنيّ، ثقةٌ فاضل [3](ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.
2 -
(مُعَاذُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيُّ) من آل طلحة، لأبيه صحبة، وهو صدوقٌ [3](خ م س) تقدم في "الطهارة" 4/ 555.
3 -
(أَبُوهُ) عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله بن عثمان بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة التيميّ، صحابيّ أسلم يوم الحديبية، وقيل: يوم الفتح، وكان يقال له: شارب الذهب.
روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن عمه طلحة بن عبيد الله، وعثمان بن عفان.
ورَوى عنه ابناه: عثمان، ومعاذ، والسائب بن يزيد، وابن المسيب، ومحمد بن إبراهيم التيميّ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وغيرهم.
قُتل مع عبد الله بن الزبير، ودُفن بالْحَزَوَّرَة، فلما زيد في المسجد دخل قبره في المسجد الحرام.
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (1197) وحديث (1724):"نهي عن لقطة الحاجّ".
4 -
(طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ) بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة التيميّ، أبو محمد المدنيّ، أحد العشرة المبشّرين بالجنّة رضي الله عنه، استُشْهِد يوم الْجَمَل سنة (36) وهو ابن (63)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 109.
(1)
وفي نسخة: "فأُهدي لنا طيرٌ".
(2)
وفي نسخة: "وأكلنا".
والباقون ذُكروا في الباب، و"يحيى بن سعيد" هو: القطّان.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُباعيّات المصنف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، من ابن المنكدر، وابن جريج مكيّ، ويحيى بصريّ، وزهير بغداديّ.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، وتابعي عن تابعيّ، والابن عن أبيه.
4 -
(ومنها): أن طلحة رضي الله عنه أحد العشرة المبشّرين بالجنة رضي الله عنهم، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ) عبد الرحمن بن عثمان رضي الله عنه، أنه (قَالَ: كُنَّا مَعَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ الله) أحد العشرة رضي الله عنه (وَنَحْنُ حُرُمٌ) بضمّتين: جمع حَرَام، بمعنى محرم، والجملة في محل نصب على الحال (فَأُهدِيَ لَهُ طَيْرٌ) ببناء الفعل للمفعول، والضمير لطلحة رضي الله عنه، وفي نسخة:"فأُهدي لنا طير"(وَطَلْحَةُ رَاقِدٌ) جملة حالية؛ أي: والحال أنه نائم (فَمِنَّا مَنْ أَكَلَ) من ذلك الطير (وَمِنَّا مَنْ تَوَرَّعَ) أي: كفّ عن الأكل منه؛ لكونهم محرمين، وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فمنا من تورّع"؛ أي: كفّ ورَعًا؛ أي: لم يتوقّف جازمًا بالمنع، ولكنّه تردّد، وتخوّف، فتورّع، والوَرَعُ والرَّعَةُ: الانكفاف عما يريب. انتهى
(1)
.
(فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ طَلْحَةُ) رضي الله عنه من نومه (وَفَّقَ مَنْ أَكَلَهُ) أي: صوّب أكل من أكله، يقال: وفّقه الله توفيقًا: سدّده، قاله الفيّوميّ رحمه الله. (وَقَالَ) طلحة رضي الله عنه، مستدلًّا على تصويبه فعل من أكل (أَكَلْنَاهُ) أي: جنس الطير، فليس المراد أنهم أكلوا الذي أُهدي له في ذلك الوقت (مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: ونحن محرمون، فهو حلال لكم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"المفهم" 3/ 283.
مسألتان، تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: ذكر الدارقطنيّ رحمه الله الاختلاف في إسناد هذا الحديث، ونصّ "العلل":
(519)
- وسئل عن حديث عبد الرحمن بن عثمان التيميّ، عن طلحة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في إباحة لحم الصيد للمحرم.
فقال: يرويه محمد بن المنكدر، واختُلِف عنه، فرواه ابن جريج، عن محمد بن المنكدر، عن معاذ بن عبد الرحمن بن عثمان، عن أبيه، عن طلحة، وتابعه ربيعة بن عمر، عن ابن المنكدر.
ورواه فُليح بن سليمان، عن ابن المنكدر، عن عبد الرحمن بن عثمان، عن طلحة، ولم يذكر معاذًا.
ورواه أبو حنيفة، عن ابن المنكدر، عن عثمان بن محمد، عن طلحة.
ورواه الثوريّ، عن ابن المنكدر، عن شيخ لم يسمّه، عن طلحة.
والصواب حديث ابن جريج، وهو حَفِظ إسناده، ورواه سلمة بن صالح الأحمر، عن ابن المنكدر، فقال: عن عبد الرحمن بن عثمان، أو عثمان بن عبد الرحمن، حدثناه عبد الملك بن أحمد، قال: ثنا حفص بن عمرو، وثنا أبو الحسن بن مبشر، قال: ثنا أحمد بن سنان، وثنا محمد بن سهل بن الفضيل، ثنا حميد بن الربيع، وثنا أبو ذرّ، ثنا عُمَر بن شَبّة، قالوا: ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، أخبرني، وقال ابن سنان: حدّثني محمد بن المنكدر، عن معاذ بن عبد الرحمن بن عثمان، عن أبيه، قال: كنا مع طلحة، ونحن حُرُم، فأُهدي له طير، وطلحة راقد، فمنا من أكل، ومنا من تورّع، فلما استيقظ طلحة وافق من أكله، وقال: أكلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن رواية المصنّف صحيحة لا كلام فيها، وإنما الكلام فيما خالفها، وإنما ذكرت كلام الدارقطنيّ رحمه الله؛ لبيان
(1)
"العلل الواردة في الأحاديث النبوية" للدارقطني رحمه الله 4/ 215 - 216.
وقوع الاختلاف، لا لبيان العلّة في رواية المصنّف، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 2860](1197)، و (النسائيّ) في "المناسك"(5/ 182) وفي "الكبرى"(3799)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 161 و 162)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2638)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 286)، و (الدارميّ) في "سننه"(1829)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(9) - (بَابُ بَيَانِ مَا يُؤْمَرُ بِقَتْلِهِ مِنَ الدَّوَابِّ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [2861](1198) - (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، قَالَا: أَخْبَرَنَا
(1)
ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ مِقْسَمٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "أَرْبَعٌ كُلُهُنَّ فَاسِقٌ، يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْحِدَأَةُ، وَالْغُرَابُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ"، قَالَ: فَقُلْتُ لِلْقَاسِمِ: أَفَرَأَيْتَ الْحَيَّةَ؟ قَالَ: تُقْتَلُ بِصُغْرٍ لَهَا).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى) المصريّ، تقدّم قبل بابين.
3 -
(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله، تقدّم أيضًا قبل بابين.
4 -
(مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرِ) بن عبد الله بن الأشجّ، أبو المِسْور المدنيّ، صدوقٌ [7](ت 159)(بخ م د س) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
5 -
(أَبُوهُ) بكير بن عبد الله بن الأشجّ المخزوميّ مولاهم، أبو عبد الله، أو أبو يوسف المدنيّ، نزيل مصر، ثقةٌ [5](ت 120)(ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.
6 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مِقْسَمٍ) المدنيّ، ثقةٌ مشهور [4](خ م د س ق) تقدم في "الجنائز" 23/ 2222.
7 -
(الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن أبي بكر الصدّيق، تقدّم قبل باب.
8 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت أيضًا قبل باب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحاد الأخذ والأداء، كما سبق غير مرّة.
2 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من مخرمة بن بُكير، والباقون مصريّون.
3 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: بكير، عن عبيد الله، عن القاسم، وفيه رواية الابن عن أبيه.
4 -
(ومنها): أنه مسلسل بالتحديث، والإخبار، والسماع، إلا في موضع.
5 -
(ومنها): أن القاسم أحد الفقهاء السبعة، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
عَنْ بُكير بن عبد الله بن الأشجّ، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ مِقْسَمٍ) بكسر الميم، وسكون القاف (يَقُولُ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "أَرْبَعٌ) أي: من الدوابّ، وهو مبتدأ؛ لتخصّصه بالصفة المقدّمة، وقوله: (كُلُّهُنَّ) توكيد لـ "أربعٌ"، وقوله: (فَاسِقٌ) خبر المبتدإ، أو "كلّهُنّ" مبتدأ و"فاسق" خبره، والجملة خبر المبتدإ، وقوله: "يُقْتَلْنَ" بالبناء للمفعول خبر بعد الخبر.
[تنبيهات]:
(الأول): إنما أفرد "فاسق" باعتبار كلًّا منهنّ، يعني أن كلًّا منهنّ فاسق،
وقال في "الفتح": قيل: "فاسق" صفة لـ "كلُّ"، وفي "يُقتلن" الضمير راجع إلى معنى "كلّ". انتهى
(1)
.
(الثاني): سيأتي في الرواية الآتية: "خمسٌ فواسقُ، يُقتلن. . . إلخ"، قال النوويّ رحمه الله: هو بإضافة "خمس" لا بتنوينه، وجوّز ابن دقيق العيد الوجهين، وأشار إلى ترجيح الثاني، فإنه قال: رواية الإضافة تُشعر بالتخصيص، فيخالفها غيرها في الحكم من طريق المفهوم، ورواية التنوين تقتضي وصف الخمس بالفسق من جهة المعنى، فيُشعر بان الحكم المرتب على ذلك، وهو القتل مُعَلَّل بما جُعل وصفًا، وهو الفسق، فيدخل فيه كل فاسق من الدوابّ، ويؤيده رواية يونس التي في حديث الباب
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: الفسق لغة هو الخروج مطلقًا، وهو في لسان الشرع؛ اسم ذَمِّ؛ إذ هو خروج عن الطاعة، أو عن الحرمة، وتسميته صلى الله عليه وسلم هذه الخمس فواسق؛ لأنهن خرجن عن الحرمة التي لغيرهن من الحيوانات، لا سيما على المحرم، وفي الحرم، وفي الصلاة. ويَحْتَمِل أن يقال: سميت فواسق: لخروجهن عن جِحَرَتهن لإضرار بني آدم، وأذاهم. انتهى
(3)
.
وقال النووي وغيره: تسمية هذه الخمس فواسق تسمية صحيحةٌ جارية على وفق اللغة، فان أصل الفسق لغة الخروج، ومنه فَسَقَت الرَّطْبة: إذا خرجت عن قشرها، وقوله تعالى:{فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] أي: خرج، وسُمّي الرجل فاسقًا لخروجه عن طاعة ربه، فهو خروج مخصوص، وزعم ابن الأعرابيّ أنه لا يُعْرَف في كلام الجاهلية، ولا شعرهم فاسق، يعني بالمعنى الشرعيّ، وأما المعنى في وصف الدواب المذكورة بالفسق، فقيل: لخروجها عن حكم غيرها من الحيوان في تحريم قتله، وقيل: في حل أكله؛ لقوله تعالى: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145]، وقوله:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]، وقيل: لخروجها عن حكم غيرها بالإيذاء والإفساد، وعدم الانتفاع، ومن ثَمَّ اختَلَفَ أهل الفتوى، فمن قال
(1)
"الفتح" 5/ 102.
(2)
"الفتح" 5/ 102.
(3)
"المفهم" 3/ 284 - 285.
بالأول ألحق بالخمس كل ما جاز قتله للحلال في الحرم وفي الحلّ، ومن قال بالثاني ألحق ما لا يؤكل إلا ما نُهِي عن قتله، وهذا قد يجامع الأول، ومن قال بالثالث يخص الإلحاق بما يحصل منه الإفساد.
ووقع في حديث أبي سعيد رضي الله عنه عند ابن ماجه: "قيل له: لم قيل للفأرة: فُويسقة؟ فقال: لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم استيقظ لها، وقد أخذت الفتيلة؛ لتحرق بها البيت"، فهذا يومئ إلى أن سبب تسمية الخمس بذلك؛ لكون فعلها يُشبه فعل الفُسَّاق، وهو يرجح القول الأخير، والله أعلم. انتهى
(1)
.
(الثالث): قال في "الفتح": قوله: "خمسٌ. . . إلخ": التقييد بالخمس، وإن كان مفهومه اختصاص المذكورات بذلك، لكنه مفهوم عدد، وليس بحجة عند الأكثرين، وعلى تقدير اعتباره، فيَحْتَمِل أن يكون قاله صلى الله عليه وسلم أوّلًا، ثم بيّن بعد ذلك أن غير الخمس يشترك معها في الحكم، فقد ورد في بعض طرق عائشة رضي الله عنها بلفظ:"أربع"، وفي بعض طرقها بلفظ:"ستّ". فأما طريق "أربع" فأخرجها مسلم من طريق القاسم، عنها، فأسقط الغراب، وأما طريق "ست"، فأخرجها أبو عوانة في "المستخرج" من طريق المحاربيّ، عن هشام، عن أبيه، عنها، فأثبتها، وزاد الحيّة، ويشهد لها ما رواه مسلم عن شيبان بن فرّوخ، عن أبي عوانة، عن زيد بن جبير، قال: سأل رجل ابن عمر: ما يقتل المحرم، من الدوابّ، وهو محرم؟ قال: حدثتني إحدى نسوة النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يأمر بقتل الكلب العقور، والفأرة، والعقرب، والحُديّا، والغراب، والحيّة".
وأغرب عياض، فقال: وفي غير كتاب مسلم ذكر الأفعى، فصارت سبعًا.
وتُعُقّب بأن الأفعى داخلة في مسمى الحية، والحديث الذي ذُكِرَت فيه أخرجه أبو عوانة في "المستخرج" من طريق ابن عون، عن نافع في آخر حديث الباب، قال: قلت لنافع: فالأفعى؟ قال: ومن يشكّ في الأفعى؟ انتهى.
وقد وقع في حديث أبي سعيد، عند أبي داود نحو رواية شيبان، وزاد السَّبُع العادي، فصارت سبعًا.
(1)
"الفتح" 5/ 102 - 103.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند ابن خزيمة، وابن المنذر زيادة ذكر الذئب، والنَّمِر على الخمس المشهورة، فتصير بهذا الاعتبار تسعًا، لكن أفاد ابن خزيمة عن الذهليّ أن ذكر الذئب، والنمر من تفسير الراوي للكلب العقور.
ووقع ذكر الذئب في حديث مرسل، أخرجه ابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور، وأبو داود من طريق سعيد بن المسيّب، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"يقتل المحرم الحية، والذئب"، ورجاله ثقات. وأخرج أحمد من طريق حجاج بن أرطاة، عن وَبَرَة، عن ابن عمر، قال:"أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الذئب للمحرم"، وحجاج ضعيف، وخالفه مِسْعَر، عن وَبَرَة، فرواه موقوفًا، أخرجه ابن أبي شيبة.
قال الحافظ رحمه الله: فهذا جميع ما وقفت عليه في الأحاديث المرفوعة، زيادة على الخمس المشهورة، ولا يخلو شيء من ذلك من مقال. انتهى
(1)
.
وقوله: (يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ) وفي حديث ابن عمر: "خمس لا جُناح على من قتلهنّ في الحرم، والإحرام"، وفي لفظ:"خمس ليس على المحرم في قتلهنّ جُناح"؛ أي: إثمٌ.
فعرف بهذا أنه لا إثم في قتلها على المحرم، ولا على الحلال، في الحرم، ولا في غيره، ويعرف حكم الحلال أيضًا بكونه لم يَقُم به مانع، وهو الإحرام، فهو بالجواز أولى.
ثم إنه ليس في نفي الجناح، وكذا الحرج في طريق سالم دلالة على أرجحية الفعل على الترك، لكن ورد في طريق زيد بن جبير، بلفظ:"أَمَرَ"، وكذا في طريق معمر، ولأبي عوانة من طريق ابن نمير، عن هشام، عن أبيه بلفظ:"ليقتل المحرم"، وظاهر الأمر الوجوب، ويَحْتَمِل الندب، والإباحة.
وروى البزّار من طريق أبي رافع، قال:"بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته، إذ ضرب شيئًا، فإذا هي عقرب، فقتلها، وأمر بقتل العقرب، والحية، والفأرة، والحدأة للمحرم".
لكن هذا الأمر ورد بعد الحظر؛ لعموم نهي المحرم عن القتل، فلا يكون
(1)
"الفتح" 5/ 101 - 102.
للوجوب، ولا للندب، ويؤيّد ذلك رواية الليث، عن نافع، بلفظ:"أَذِنَ"، أخرجه مسلم، والنسائيّ، عن قتيبة، عنه، لكن لم يسق مسلم لفظه، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي داود، وغيره:"خمس قتلهنّ حلال للمحرم". انتهى
(1)
.
(الْحِدَأَةُ) مقصورًا، بوزن عِنَبة، واحدة الْحِدَإ بكسر أوله، وفتح ثانيه، بعدها همزة بغير مدّ، وحكى صاحب "المحكم" المدّ فيه ندورًا، والهاء فيه ليست للتأنيث، بل هي للوحدة، كالهاء في "التمرة"، وحكى الأزهريّ "حِدَوَة" بواو بدل الهمزة، ووقع في رواية هشام بن عروة، عن أبيه بلفظ "الْحُدَيَّا" بضمّ الحاء، وفتح الدال، وتشديد الياء بصيغة التصغير مقصورًا، وكذا في حديث ابن عمر من طريق زيد بن جبير.
وقد أنكر ثابت في "الدلائل" هذه الصيغة، وقال: الصواب الْحُديأة، أو الْحُديّة؛ أي: بهمزة، وزيادة هاء، أو بالتشديد بغير همزة، قال: والصواب أن الحديّاة ليست من هذا، وإنما هي من التحدّي، يقولون: فلان يتحدّى فلانًا؛ أي: ينازعه ويغالبه، وعن أبي حاتم: أهل الحجاز يقولون لهذا الطائر: الحديّا، ويجمعونه الحدادي، وكلاهما خطأ، وأما الأزهريّ فصوّبه، وقال: الحديّاة تصغير الحدى. انتهى
(2)
.
ومن خواصّ الحدأة أنها تقف في الطيران، ويقال: إنها لا تختطف إلا من جهة اليمين، قاله في "الفتح"
(3)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: الْحِدأة مهموزٌ، مثلُ عِنَبَة: طائر خبيث، والجمع بحذف الهاء، وحِدّانٌ أيضًا، مثلُ غِزْلانٍ. انتهى
(4)
.
[تنبيه]: يلتبس بالحدأة الْحَدَأة بفتح أوله، وهو فأس له رأسان.
(وَالْغُرَابُ) زاد في رواية سعيد بن المسيِّب، عن عائشة الآتية:"الأبقع"، وهو الذي في ظهره، أو بطنه بياض، وأَخذ بهذا القيد بعض أصحاب
(1)
"الفتح" 5/ 103 - 104.
(2)
"الفتح" 7/ 593 "كتاب بدء الخلق" رقم (3314).
(3)
"الفتح" 5/ 105.
(4)
"المصباح المنير" 1/ 125.
الحديث، كما حكاه ابن المنذر وغيره، قال الحافظ: ثم وجدت ابن خزيمة قد صرّح باختياره، وهو قضيّة حمل المطلق على المقيّد.
وأجاب ابن بطال بأن هذه الزيادة لا تصحّ؛ لأنها من رواية قتادة، عن سعيد، وهو مدلس، وقد شذّ بذلك.
وقال ابن عبد البرّ: لا تثبت هذه الزيادة، وقال ابن قُدامة: الروايات المطلقة أصحّ.
وفي جميع هذا التعليل نظر:
أما دعوى التدليس، فمردودة بأن شعبة لا يروي عن شيوخه المدلّسين إلا ما هو مسموع لهم، وهذا من رواية شعبة، بل صرّح النسائيّ في روايته من طريق النضر بن شُميل، عن شعبة بسماع قتادة.
وأما نفي الثبوت، فمردود بإخراج مسلم.
وأما الترجيح فليس من شرط قبول الزيادة، بل الزيادة مقبولة من الثقة الحافظ، وهو كذلك هنا.
نعم قال ابن قدامة: يلتحق بالأبقع ما شاركه في الإيذاء، وتحريم الأكل.
وقد اتفق العلماء على إخراج الغراب الصغير الذي يأكل الحبّ من ذلك، ويقال له: غراب الزرع، ويقال له: الزاغ، وأفتوا بجواز أكله، فبقي ما عداه من الغربان ملتحقًا بالأبقع.
ومنها الغُدَاف على الصحيح كما في "الروضة"، بخلاف تصحيح الرافعيّ، وسمى ابن قدامة الغداف غراب البين، والمعروف عند أهل اللغة أنه الأبقع، قيل: سمي غراب البين؛ لأنه بان عن نوح عليه السلام لما أرسله من السفينة ليكشف خبر الأرض، فلقي جيفة، فوقع عليها، ولم يرجع إلى نوح، وكان أهل الجاهلية يتشاءمون به، فكان إذا نعب مرتين، قالوا: آذن بشرّ، وإذا نعب ثلاثًا قالوا: آذن بخير، فأبطل الإسلام ذلك.
وكان ابن عباس رضي الله عنهما إذا سمع الغراب قال: اللَّهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك.
وقال صاحب "الهداية": المراد بالغراب في الحديث الغُداف، والأبقع؛ لأنهما يأكلان الْجِيَف، وأما غراب الزرع، فلا، وكذا استثناه ابن قُدامة، وما
أظنّ فيه خلافًا، وعليه يحمل ما جاء في حديث أبي سعيد عند أبي داود، إن صحّ، حيث قال فيه:"ويرمي الغراب، ولا يقتله"، وروى ابن المنذر وغيره نحوه عن عليّ، ومجاهد.
قال ابن المنذر: أباح كل من يُحفظ عنه العلم قتل الغراب في الإحرام إلا ما جاء عن عطاء، قال في محرم كسر قرن غراب، فقال: إن أدماه، فعليه الجزاء، وقال الخطابيّ: لم يتابع أحد عطاء على هذا. انتهى.
ويَحْتَمِل أن يكون مراده غراب الزرع.
وعند المالكية اختلاف آخر في الغراب، والحدأة، هل يتقيّد جواز قتلهما بأن يبتدئ بالأذى، وهل يختصّ ذلك بكبارها؟ والمشهور عنهم - كما قال ابن شاس - لا فرق، وفاقًا للجمهور.
ومن أنواع الغربان الأعصم، وهو الذي في رجليه، أو في جناحيه، أو بطنه بياض، أو حمرة، وله ذِكْر في قصّة حفر عبد المطلب لزمزم، وحكمه حكم الأبقع.
ومنها: العقعق، وهو قدر الحمامة على شكل الغراب، قيل: سمي بذلك؛ لأنه يعقّ فراخه، فيتركها بلا طعام، وبهذا يظهر أنه نوع من الغربان، والعرب تتشاءم به أيضًا.
ووقع في "فتاوى قاضي خان" الحنفيّ: مَن خرج لسفر، فسمع صوت العقعق، فرجع كَفَر.
وَحُكْمُهُ حُكْمُ الأبقع على الصحيح، وقيل: حكم غراب الزرع، وقال أحمد: إن أكل الجيف، وإلا فلا بأس به، قاله في "الفتح"
(1)
.
(وَالْفَاْرَةُ) - بهمزة ساكنة، ويجوز فيها التسهيل - ولم يختلف العلماء في جواز قتلها للمحرم، إلا ما حُكي عن إبراهيم النخعيّ، فإنه قال: فيها جزاء، إذا قتلها المحرم، أخرجه ابن المنذر، وقال: هذا خلاف السنة، وخلاف قول جميع أهل العلم.
ورَوَى البيهقيّ بإسناد صحيح عن حماد بن زيد، قال: لما ذكروا له هذا
(1)
"الفتح" 5/ 104 - 105.
القول: ما كان بالكوفة أفحش ردًّا للآثار من إبراهيم النخعيّ؛ لقلة ما سمع منها، ولا أحسن اتباعًا لها من الشعبيّ؛ لكثرة ما سمع.
ونقل ابن شاس عن المالكية خلافًا في جواز قتل الصغير منها الذي لا يتمكن من الأذى. والفأر أنواع: منها الْجُرَذ - بالجيم، بوزن عُمَر، والْخُلْد - بضم المعجمة، وسكون اللام -. وفأرة الإبل، وفأرة السمك، وفأرة الغيط، وحكمها في تحريم الأكل، وجواز القتل سواء.
وقد وقع عند النسائيّ إطلاق اسم الفويسقة عليها، ووقع في حديث أبي سعيد عند ابن ماجه: قيل له: لم قيل للفأرة فويسقة؟ فقال: لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم استيقظ لها، وقد أخذت الفتيلة لتحرق بها البيت، وقيل: إنما سميت بذلك لأنها قطعت حبال سفينة نوح عليه السلام، والله تعالى أعلم.
(وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ") الكلب معروف، والأنثى كلبة، والجمع أكلُب، وكلاب، وكَلِيب - بالفتح، كأعبُد، وعِباد، وعَبيد، وفي الكلب بهيمية، وسبعية، وفيه منافع للحراسة، والصيد كما سيأتي في بابه - إن شاء الله تعالى -.
وفيه من اقتفاء الأثر، وشمّ الرائحة، وخفّة النوم، والتودّد، وقبول التعليم ما ليس لغيره، وقيل: إن أول من اتخذه للحراسة نوح عليه السلام.
و"العقور" - بفتح العين - مبالغة عاقر، وهو الجارح المفترس.
وقال القرطبيّ رحمه الله: و"العَقور" هو الذي يَعقِر كثيرًا؛ أي: يَجرح، يقال: سَرْجٌ مِعْقَرٌ؛ إذا كان يجرح الدابّة، قال الشاعر [من الكامل]:
فَلَثَمْتُهَا فَتَنَفَّسَتْ
…
كَتَنَفُّسِ الظَّبْيِ الْعَقِيرِ
أي: المجروح، وقيل: الدّهِشِ. انتهى
(1)
.
وقد سبق البحث في نجاسة الكلب، وعدمه مستَوفًى في "كتاب الطهارة"، فراجعه تستفد.
(قَالَ) عبيد الله بن مِقْسَم (فَقُلْتُ لِلْقَاسِمِ) بن محمد (أفَرَأَيْتَ) أي: أخبرني (الْحَيَّةَ؟) أي: أتقتل أم لا؟
و"الحيّة" هو الجنس المعروف، وهي الأفعى
(2)
، وتطلق الحية على الذكر
(1)
"المفهم" 3/ 286.
(2)
قاله في "المصباح" 1/ 161.
والأنثى، فيقال: هو الحيّة، وهي الحيّة، وإنما دخلته الهاء؛ لأنه واحد من جنس؛ كبطّة، ودجاجة، على أنه قد رُوى عن العرب: رأيت حيًّا على حيّة؛ أي: ذكرًا على أنثى، واشتقاقها من الحياة في قول بعضهم، ولهذا قالوا في النسبة إليها: حيويّ، ولو كان من الواوي لقالوا: حوويّ، والحيّوت بتشديد الياء ذكر الحيّات، وأنشد الأصمعيّ:
وَيَأْكُلُ الْحَيَّةَ وَالْحَيُّوتَا
(قَالَ) القاسم (تُقْتَلُ بِصُغْرٍ لَهَا) بضمّ الصاد، وسكون الغين؛ أي: بمذلّة، وإهانة وقهر لها، كما قال تعالى:{وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [9/ 2861 و 2862 و 2863 و 2864 و 2865 و 2866 و 2867](1198)، و (البخاريّ) في "جزاء الصيد"(1829)، و"بدء الخلق"(3314)، و (الترمذيّ) في "الحجّ"(837)، و (النسائيّ) في "المناسك"(5/ 208 و 210) و"الكبرى"(2/ 386 و 388)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(3087)، و (مالك) في "الموطّإ"(1/ 357)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1521)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(8374)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 33 و 87 و 122 و 159 و 164 و 261)، و (إسحاق ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 515)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 36 - 37)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 410 - 411)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 286 - 287)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(4/ 191)، و (ابن حبّان)(12/ 448 - 449)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 216)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 166)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 231)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 209 و 9/ 316)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1991)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في المراد بالكلب العقور هنا:
(اعلم): أنهم اختلفوا في ذلك، وهل لوصفه بكونه عقورًا مفهوم، أم لا؟
فروى سعيد بن منصور بإسناد حسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: الكلب العقور: الأسد. وعن سفيان، عن زيد بن أسلم أنهم سألوه عن الكلب العقور؟ فقال: وأيّ كلب أعقر من الحيّة؟ وقال زفر: المراد بالكلب العقور هنا: الذئب خاصّة، وقال مالك في "الموطأ": كل ما عَقَر الناس، وعدا عليهم، وأخافهم، مثل الأسد، والنمر، والفهد، والذئب، هو العقور. وكذا نقل أبو عبيد عن سفيان، وهو قول الجمهور.
وقال أبو حنيفة: المراد بالكلب هنا الكلب خاصّة، ولا يلتحق به في هذا الحكم سوى الذئب.
واحتجّ أبو عبيد للجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهم سلّط عليه كلبًا من كلابك"، فقتله الأسد، وهو حديث حسن، أخرجه الحاكم، من طريق أبي نوفل بن أبي عقرب، عن أبيه.
واحتجّ أيضًا بقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} الآية [المائدة: 4]، فاشتقّها من اسم الكلب، فلهذا قيل لكلّ جارح: عقور.
واحتَجّ الطحاويّ للحنفية بأن العلماء اتفقوا على تحريم قتل البازي، والصقر، وهما من سباع الطير، فدلّ ذلك على اختصاص التحريم بالغراب، والحدأة، وكذلك يختصّ التحريم بالكلب، وما شاركه في صفته، وهو الذئب.
وتُعُقّب بردّ الاتفاق، فمان مخالفيهم أجازوا قتل كلّ ما عدا، وافترس، فيدخل فيه الصقر، وغيره، بل معظمهم قال: ويلتحق بالخمس كل ما نُهِي عن أكله، إلا ما نُهي عن قتله.
واختُلِف في غير العقور، مما لم يؤمر باقتنائه، فصرّح بتحريم قتله القاضيان: حسين، والماوَرْدِيُّ، وغيرهما، ووقع في "الأم" للشافعيّ الجواز.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما قاله الإمام مالك رحمه الله، وذهب إليه الجمهور من تفسير الكلب بكل ما عقر الناس. . . إلخ هو الأرجح؛ لقوّة حجته؛ والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): اتفق العلماء على جواز قتل هذه الخمسة المذكورة في هذا الحديث في الحلّ والحرم للمحرم، وغيره، إلا ما شذّ مما سنحكيه.
واختلفوا في المعنى في ذلك على مذاهب:
(الأول مذهب الشافعية، والحنابلة): قالوا: المعنى كونهنّ مما لا يؤكل، ولا يُنتفع به، فكلّ ما لا يؤكل، ولا هو متولّد من مأكول وغيره، ولا منفعة فيه، فقتله جائز للمحرم، ولا فدية فيه.
وعبارة الشافعيّ في ذلك - كما حكاه البيهقيّ - في "المعرفة": فكلّ ما جَمَعَ من الوحش أن يكون غير مباح اللحم في الإحلال، وأن يكون يضرّ قَتَلَه المحرم؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أمر أن تقتل الفأرة، والغراب، والحدأة، مع ضعف ضرّهما إذا كانت مما لا يؤكل لحمه كان ما جمع أن لا يؤكل لحمه، وضرّه أكثر من ضرّها أولى أن يكون قتله مباحًا. انتهى.
وقال أصحابه: هذا الضرب ثلاثة أقسام:
(أحدها): ما يستحبّ قتله للمحرم وغيره، وهي المؤذية؛ كالحيّة، والفأرة، والعقرب، والخنزير، والكلب العقور، والغراب، والحدأة، والذئب، والأسد، والنمر، والدبّ، والنسر، والعقاب، والبرغوث، والبقّ، والزنبور، والقراد، والحلمة، والقرقس، وأشباهها.
(القسم الثاني): ما فيه نفع، ومضرّة؛ كالفهد، والعقاب، والبازي، والصقر، ونحوها، فلا يستحبّ قتله؛ لما فيه من المنفعة، وهو أنه يُعَلَّمُ الاصطياد، ولا يكره؛ لما فيه من المضرّة، وهو أنه يعدو على الناس، والبهائم.
(القسم الثالث): ما لا يظهر فيه نفع، ولا ضرر؛ كالخنافس، والجعلان، والدود، والسرطان، والبغاثة، والرخمة، والذباب، وأشباهها، فيكره قتلها، ولا يحرم كما قاله جمهورهم، وحَكَى إمام الحرمين وجهًا أنه يحرم قتل الطيور، دون الحشرات، وحَكَى ابن عبد البرّ: هذا التقسيم عن الشافعيّ نفسه من رواية الحسن بن محمد الزعفرانيّ عنه.
وكلام الحنابلة في ذلك مثل كلام الشافعية، قال الشيخ مجد الدين ابن تيمية في "المحرّر": ولا يضمن بالإحرام ما لا يؤكل لحمه، لكن يكره له قتله إذا لم يكن مؤذيًا، وجوّز الشيخ موفق الدين ابن قُدامة في "المغني" في قول الخرقيّ في "مختصره":"وكلّ ما عدا عليه، أو آذاه" وجهين:
(أحدهما): أنه أراد ما بدأ المحرمَ، فعدا عليه في نفسه، أو ماله.
(والثاني): أنه أراد ما طبعه الأذى، والعدوان، وإن لم يوجد منه أذى في الحال، وكلام ابن حزم الظاهريّ يوافق ذلك أيضًا، وإن كان لا ينظر إلى المعنى، ولا يُعدّي بالقياس، لكنه اعتمد أن التحريم إنما ورد في الصيد، فلا يتعدى ذلك لغيره، وأجاب عن الاقتصار على هذه الخمس بما سيأتي ذكره بعدُ.
ونقل الشيخ تقيّ الدين في "شرح العمدة" كون المعنى عند الشافعيّ منع الأكل بواسطة بعض الشارحين، وأراد به النوويّ، ثم قال: وهذا عندي فيه نظر، فإن جواز القتل غير جواز الاصطياد، وإنما يرى الشافعيّ جواز الاصطياد، وعدم وجوب الجزاء بالقتل لغير المأكول، وأما جواز الإقدام على قتل ما لا يؤكل، مِمَّا ليس فيه ضرر، فغير هذا. انتهى.
قال وليّ الدين: وفيه نظر، فقد حَكَى الربيع عن الشافعيّ أنه قال: لا شيء على المحرم في قتله من الطير كلّ ما لا يحلّ أكله، قال: وله أن يقتل من داوبّ الأرض، وهوامها كل ما لا يحلّ أكله. انتهى، فصرّح بأن له قتل ما لا يحلّ أكله من الطير، والهوامّ.
(الثاني مذهب المالكية): قالوا: المعنى في ذلك كونهنّ مؤذيات، فيلتحق بالمذكورات كلّ مؤذٍ.
قال ابن شاس في "الجواهر" - بعد أن قرر تحريم صيد المأكول وغيره -: ولا يُستَثْنَى من ذلك إلا ما تناوله الحديث، وهو هذه الخمس، قال: والمشهور أن الغراب، والحدأة يقتلان، وإن لم يبتدئا بالأذى، وروى أشهب المنع من ذلك، وقاله ابن القاسم، قال: إلا أن يؤذي، فيقتل إلا أنه إن قتلهما من غير أذى، فلا شيء عليه.
وقال أشهب: إن قتلهما من غير ضرر وداهما، واختُلِف أيضًا في قتل صغارهما ابتداء، وفي وجوب الجزاء بقتلهما، وأما غيرهما من الطير، فإن لم يؤذ فلا يقتل، فإن قتل ففيه الجزاء، وإن آذى فهل يقتل أم لا؟ قولان، وإذا قلنا: لا يقتل، فقتل، فقولان أيضًا: المشهور نفي وجوب الجزاء. وقال أشهب: عليه في الطير الفدية، وإن ابتدأت بالضرر، وقال أصبغ: من عدا عليه
شيء من سباع الطير، فقتله وداه بشاة، قال ابن حبيب: وهذا من أصبغ غلط، وحمل بعض المتأخرين قول أصبغ هذا على أنه كان قادرًا على الدفع بغير القتل، فأما لو تعيّن القتل في الدفع لا يختلف فيه.
وأما العقرب، والحيّة، والفأرة، فيقتلن حتى الصغير، وما لم يؤذ منها لأنه لا يؤمن منها الأذى، إلا أن تكون من الصغر بحيث لا يمكن منها الأذى، فيختلف في حكمها، وهل يلحق صغير غيرها من الحيوان المباح القتل لأذية بصغارها في جواز القتل ابتداء؟ فيه خلاف، والمشهور من المذهب أن المراد من الكلب العقور الكلب الوحشيّ، فيدخل فيه الأسد، والنمر، وما في معناهما، وقيل: المراد الكلب الإنسيّ المتخذ، وعلى المشهور يقتل صغير هذه، وما لم يؤذ من كبيرها. انتهى كلامه.
وذكر الشيخ تقيّ الدين أن المشهور عند المالكيّة قتل صغار الغراب، والحدأة، وشنّع عليهم ابن حزم الظاهريّ في تفرقتهم بين صغار الغربان، والحديا، وبين صغار السباع، والحيّات، وبين سباع الطير، وبين سباع ذوات الأربع، وقال: هلّا قاسوا سباع الطير على الحدأة، كما قاسوا سباع ذوات الأربع على الكلب العقور؟
وقوّى الشيخ تقيّ الدين في "شرح العمدة" التعليل بالأذى على التعليل بحرمة الأكل، فقال:(واعلم): أن التعدية بمعنى الأذى إلى كلّ مؤذ قويّ بالإضافة إلى تصرّف القياسيين، فإنه ظاهر من جهة الإيماء بالتعليل بالفسق، وهو الخروج عن الحدّ، وأما التعليل بحرمة الأكل، ففيه إبطال ما دلّ عليه إيماء النصّ، من التعليل بالفسق؛ لأن مقتضى العلة أن يتقيّد الحكم بها وجودًا وعدمًا، فإن لم يتقيّد وثبت الحكم عند عدمها بطل تأثيرها بخصوصها، وهو خلاف ما دلّ عليه ظاهر النصّ من التعليل بها. انتهى.
(الثالث مذهب الحنفية): اقتصروا على الخمس المذكورة في هذا الحديث إلا أنهم ضمّوا إليها الحية أيضًا، وهي منصوصة، كما تقدم، وضموا إليها الذئب أيضًا، قال صاحب "الهداية" منهم: وقد ذُكر الذئب في بعض الروايات. وقيل: المراد بالكلب العقور: الذئب، ويقال: إن الذئب في معناه. انتهى، وعلى هذا الأخير، فيقال: لم اقتصر في الإلحاق على الذئب، ولم لا
ألحق بالكلب العقور كل ما هو في معناه من نمر، وخنزير، ودبّ، وقرد، وغيرها؟ وذِكْر الذئب ذكره ابن عبد البرّ من طريق إسماعيل القاضي، حدثنا نصر بن عليّ، أخبرنا يزيد بن هارون، أخبرنا الحجاج، عن وَبَرة، قال: سمعت ابن عمر يقول: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الذئب
…
" الحديث. قال القاضي إسماعيل: فإن كان محفوظًا، فإن ابن عمر جعل الذئب في هذا الموضع كلبًا عقورًا؛ أي: لذكره بدله، قال: وهذا غير ممتنع في اللغة، والمعنى.
ورواه البيهقيّ من رواية مالك بن يحيى، عن يزيد بن هارون، وفيه: قال يزيد بن هارون: يعني المحرم. ثم قال البيهقيّ: الحجاج بن أرطاة لا يحتجّ به، وقد رويناه من حديث ابن المسيب مرسلًا جيدًا، ثم رواه كذلك. وقال ابن عبد البرّ: وقول الأوزاعيّ، والثوريّ، والحسن بن حيّ نحو قول أبي حنيفة. انتهى.
ومحلّ المنع عند الحنفية فيما عدا الخمس، والذئب إذا لم تبدأه السباع، فإن بدأته، فقتلها دفعًا، فلا شيء عليه عندهم، إلا زفر، فإنه قال: يلزمه دم، وذكر الشيخ ابن دقيق العيد في "شرح العمدة" أن المذكور في كتب الحنفية الاقتصار على الخمس، ونقل غير واحد من المصنفين المخالفين لأبي حنيفة أن أبا حنيفة ألحق الذئب بها، وعَدُّوا ذلك من مناقضاته، ثم قال: ومقتضى مذهب أبي حنيفة الذي حكيناه أنه لا يجوز اصطياد الأسد، والنمر، وما في معناها من بقية السباع العادية، والشافعية يردون هذا بظهور المعنى في المنصوص عليه من الخمس، وهو الأذى الطبيعيّ، والعدوان المركب في هذه الحيوانات، والمعنى إذا ظهر في المنصوص عليه عدّى القائسون ذلك الحكم إلى كل ما وجد فيه المعنى؛ كالستة التي في الربا، وقد وافق أبو حنيفة على التعدية فيها، وإن اختلف هو والشافعي في المعنى الذي يعدّى به. قال: وأقول: المذكورُ ثَمَّ تعليق الحكم بالألقاب، وهو لا يقتضي مفهومًا عند الجمهور، فالتعدية لا تنافي مقتضى اللفظ، وهنا لو عدّينا لبطلت فائدة التخصيص بالعدد، وعلى هذا المعنى عوّل بعض مصنفي الحنفية في التخصيص بالخمس المذكورات، أعني مفهوم العدد. انتهى.
قال وليّ الدين: وفي نقله الذئب من غير كتب الحنفية نظر، فهو مصرح به في "الهداية"، وغيرها من كتبهم، وما نقله عن مقتضى مذهبهم من منع اصطياد الأسد، ونحوه، قد صرّحوا به في كتبهم، وقالوا: إن على قاتله الجزاء، وممن صرح به صاحب "الهداية"، إلا أن يقتله لصياله عليه، فلا شيء عليه، إلا عند زفر، فإنه أوجب الجزاء بقتله للدفع عند الصيال، لكن صاحب "الهداية" قال بعد كلامه المتقدم أوّلًا: والضب، واليربوع، ليسا من الخمسة المستثناة؛ لأنهما لا يبتدئان بالأذى، وليس في قتل البعوض، والنمل، والبراغيث، والقراد شيء؛ لأنها ليست بصيود، وليست بمتولدة من البدن، بل هي مؤذية بطباعها. انتهى.
ومقتضاه موافقة من قال: إنه يلحق بالمذكورات كل مؤذ بالطبع، فإن كون الضبّ، واليربوع ليسا من الخمسة أمر معلوم، وإنما أراد ليس لهما حكمها، وعلل ذلك بأنهما لا يبتدئان بالأذى، ومقتضى ذلك ثبوت الحكم لكل ما يبتدئ بالأذى، ثم قوّى ذلك بما ذكره في البعوض، ونحوه، ولا سيما تعليله بأنها مؤذية بطباعها.
ثم إن الشيخ ابن دقيق العيد رحمه الله اقتصر في ردّ ذلك على القياس مع ورود النصّ فيه، رواه أبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، عن أبي سعيد الخدريّ رحمه الله عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"يقتل المحرم السبع العادي، والكلب العقور، والفأرة، والعقرب، والحدأة، والغراب"، لفظ الترمذيّ، وقال: هذا حديث حسن.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: بل هو حديث ضعيف؛ لأن في سنده يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف، كان يتلفن لكبره، وكان شيعيًّا، فلا يصلح الحديث للاحتجاج به، فتنبّه.
قال: والعمل على هذا عند أهل العلم، قالوا: يقتل المحرم السبع العادي.
ولفظ أبي داود: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عما يقتل المحرم؟ قال: "الحية، والعقرب، والفويسقة، ويرمي الغرابَ، ولا يقتله، والكلب العقور، والحدأة، والسبع العادي"، ولم يذكر ابن ماجه "الحدأة"، ولا "الغراب"، وزاد: فقيل
له: لم قيل لها الفويسقة؟ قال: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استيقظ لها، وقد أخذت الفتيلة لتحرق بها البيت.
فتناول قوله صلى الله عليه وسلم: "السبع العادي" الأسد، والنمر، وغيرهما من السباع، بل قوله:"الكلب العقور" يتناول هذه الأشياء، كما سنحكيه بعد ذلك.
وما ذكره من أن مفهوم العدد حجة محكيّ عن الشافعيّ رحمه الله، لكن ذهب القاضي أبو بكر الباقلّاني، وإمام الحرمين، وغيرهما إلى أنه ليس بحجة، وجزم به البيضاويّ في "مختصره"، وكذا قال الإمام فخر الدين: إنه ليس بحجة، إلا أنه قال: قد يدلّ عليه لدليل منفصل.
ثم إن المشهور عن الحنفية أنهم لا يقولون بالمفاهيم مطلقًا؛ لا هذا المفهوم، ولا غيره، وبتقدير قولهم بالمفهوم، فهم لم يقفوا عند هذا المفهوم، بل ضمّوا إليها الحية، والذئب أيضًا، كما تقدم، والنصّ على الحية في "صحيح مسلم" وغيره، كما تقدم، وفي حديث أبي سعيد الخدريّ ذكر السبع العادي، وهو ينافي الوقوف عند هذا المفهوم، فإنها مع الحية، والسبع العادي، ليست خمسًا، بل سبع، كيف؟ وقد جاء في بعض الروايات "خمس"، وفي بعضها "أربع"، فلو كان هذا المفهوم حجة لتدافع هذان المفهومان، وسقطا. انتهى منقولًا مما كتبه الحافظ وليّ الدين رحمه الله في كتابه "طرح التثريب"
(1)
بتصرّف.
وقال أبو محمد بن حزم رحمه الله: وجائز للمحرم في الحل والحرم: وللمُحِلِّ في الحرم والحل قتلُ كل ما ليس بصيد من الخنازير، والأسد، والسباع، والقمل، والبراغيث، وقِرْدَان بعيره، أو غير بعيره، والحلم كذلك، وَنَسْتَحِبُّ لهم قتل الحيات، والفيران، والحدإ، والغِرْبَان، والعقارب، والكلاب العقورة، صغار كل ذلك وكباره سواء، وكذلك الوزغ، وسائر الهوامّ، ولا جزاء في شيء من كل ما ذكرنا، ولا في القمل، فإن قتل ما نُهِيَ عن قتله من هدهد، أو صُرَد، أو ضفدع، أو نمل، فقد عصى، ولا جزاء في ذلك.
برهان ذلك أن الله تعالى أباح قتل ما ذكرنا، ثم لم ينه المحرم إلا عن
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 5/ 58 - 63.
قتل الصيد فقط، ولا نهى إلا عن صيد الحرم فقط، ولا جعل الجزاء إلا في الصيد فقط، فمن حَرَّمَ ما لم يأت النص بتحريمه، أو جعل جزاءً فيما لم يات النص بالجزاء فيه فقد شرع في الدين ما لم يأذن به الله.
ثم ناقش أدلة العلماء الذين تقدمت أقوالهم مناقشة حادَّة على عادته، وقد أجاد في ذلك بما لا تجده في غير كتابه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: بعد النظر فيما سبق من المذاهب وأدلتها قد ترجح عندي ما ذهب إليه أبو محمد بن حزم رحمه الله لقوة حجته.
وحاصله أن الصيد لا يجوز قتله، وهو الذي شُرع صيده للأكل، وأما غيره من أنواع السباع والهوام، والحشرات فيجوز قتله إلا إذا وُجِد نصّ خاص بمنع قتلها كالنحلة، والهدهد، والصَرد، ونحوها، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): [إن قلت]: فعلى القول بأن مفهوم العدد حجة ما جوابكم عن تخصيص هذه المذكورات بالذكر؟
[قلت]: قال الشيخ ابن دقيق العيد رحمه الله في "شرح العمدة": مَن علّل بالأذى إنما اختصّت بالذكر لينبّه بها على ما في معناها، وأنواع الأذى مختلفة، فيكون كل نوع منها منبّهًا على جواز قتل ما فيه ذلك النوع، فنبّه بالحية، والعقرب على ما يشاركهما في الأذى باللسع؛ كالبرغوث مثلًا عند بعضهم، ونبّه بالفأرة على ما أذاه بالنقب والتقريض؛ كابن عرس، ونبّه بالغراب، والحدأة على ما أذاه بالاختطاف؛ كالصقر، والبازي، ونبّه بالكلب العقور على كل عادٍ بالعقر، والافتراس بطبعه؛ كالأسد، والنمر، والفهد.
وأما من قال بالتعدية إلى كل ما لا يؤكل لحمه، فقد أحالوا التخصيص في الذكر بهذه الخمس على الغالب، فإنها الملابسات للناس، المخالطات في الدُّور، بحيث يعمّ أذاها، فكان ذلك سببًا للتخصيص، والتخصيص لأجل الغلبة إذا وقع لم يكن له مفهوم على ما عُرف في الأصول، إلا أن خصومهم جعلوا هذا المعنى معترضًا عليه في تعدية الحكم إلى بقية السباع المؤذية، وتقريره أن إلحاق المسكوت بالمنطوق قياسًا شرطه مساواة الفرع للأصل، أو رجحانه، أما إذا انفرد الأصل بزيادة يمكن أن تعتبر فلا إلحاق، ولما كانت هذه الأشياء
عامة الأذى، كما ذكرتم ناسب أن يكون ذلك سببًا لإباحة قتلها؛ لعموم ضررها، فهذا المعنى معدوم فيما لا يعمّ ضرره، مما لا يخالط في المنازل، ولا تدعو الحاجة إلى إباحة قتله، كما دعت إلى إباحة قتل ما يخالط من المؤذيات، فلا يلحق به.
وأجاب الأولون عن هذا بوجهين:
(أحدهما): أن الكلب العقور نادر، وقد أبيح قتله.
(والثاني): معارضة الندرة في غير هذه الأشياء بزيادة قوة الضرر، ألا ترى أن تأثير الفأرة بالنقب مثلًا، أو الحدأة بخطف شيء يسير، لا يساوي ما في الأسد، والفهد، من إتلاف النفس، فكان بإباحة القتل أولى. انتهى.
ولم يعرّج على ذكر الحديث الشامل لسائر السباع، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"يقتل المحرم السبع العادي"، وقد تقدّم ذكره.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تقدم أنه ضعيف، لا يصلح للاحتجاج به، فتنبّه.
وقال ابن حزم: [فإن قيل]: فما وجه اقتصار رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الخمس؟
[قلنا]: ظاهر الخبر يدلّ على أنها محضوض على قتلهنّ، مندوب إليه، ويكون غيرهنّ مباحًا قتله أيضًا، وليس هذا الخبر مما يمتنع أن يكون غير تلك الخمس مأمورًا بقتله أيضًا؛ كالوزغ، والأفاعي، والحيات، والرتيلاء، والثعابين، وقد يكون صلى الله عليه وسلم تقدّم بيانه في هذه، فأغنى عن إعادتها عند ذكره هذه الخمس. انتهى كلام ابن حزم رحمه الله، وهو بحثٌ مفيدٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): قال النوويّ رحمه الله في "شرحه": وفي هذه الأحاديث دلالة للشافعيّ، وموافقيه في أنه يجوز أن يقتل في الحرم كل من يجب عليه قتل بقصاص، أو رجم بالزنا، أو قتل في المحاربة، وغير ذلك، وأنه يجوز إقامة كلّ الحدود فيه، سواء كان موجبُ القتل والحدّ جرى في الحرم، أو خارجه، ثم لجأ صاحبه إلى الحرم، وهذا مذهب مالك، والشافعيّ، وآخرين.
وقال أبو حنيفة، وطائفة: ما ارتكبه من ذلك في الحرم يقام عليه فيه،
وما فعله خارجًا، ثم لجأ إليه، إن كان إتلاف نفس لم يُقَم عليه في الحرم، بل يُضَيَّق عليه، ولا يُكلّم، ولا يُجالَس، ولا يبايع، حتى يضطرّ إلى الخروج منه، فيقام خارجه، وما كان دون النفس يقام فيه، قال القاضي عياض: رُوي عن ابن عباس، وعطاء، والشعبيّ، والحكم نحوه، لكنهم لم يفرّقوا بين النفس، ودونها، وحجتهم قول الله تعالى:{وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97].
وحجة الأولين هذه الأحاديث لمشاركة فاعل الجناية لهذه الدوابّ في اسم الفسق، بل فسقه أفحش؛ لكونه مكلَّفًا؛ ولأن التضييق الذي ذكروه لا يبقى لصاحبه أمان، فقد خالفوا ظاهر ما فسّروا به الآية.
قال القاضي: ومعنى الآية عندنا، وعند أكثر المفسّرين أنه إخبار كما كان قبل الإسلام، وعطف على ما قبله من الآيات، وقيل: آمِنٌ من النار.
وقالت طائفة: يخرج، ويقام عليه الحدّ، وهو قول ابن الزبير، والحسن، ومجاهد، وحماد. انتهى.
وقال الشيخ ابن دقيق العيد في "شرح العمدة" بعد ذكر هذا الاستدلال: وهذا عندي قويّ، ليس بالهين، وفيه غور، فليتنبّه له. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن مذهب الأولين هو الأرجح؛ لقوة دليله، كما أشار إليه ابن دقيق العيد رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2862]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ (ح) وَحَدَّثنا ابْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ قتَادَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّب، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ:"خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْحَيَّةُ، وَالْغُرَابُ الْأَبْقَعُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالْحُدَيَّا").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(قَتَادَةُ) بن دِعامة السدوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [4](ت 117) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
2 -
(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) بن حَزْن بن أبي وهب المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهور، من كبار [3](ت 94)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
والباقون ذُكروا في الباب، والذي قبله.
وقوله: (خَمْسٌ فَوَاسِقُ) بتنوين "خمسٌ"، و"فواسق" بالرفع على الوصفيّة.
وقوله: (وَالْغُرَابُ الْأَبْقَعُ) هو الذي في ظهره وبطنه بياض.
وقوله: (وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ) بفتح، فضمّ: مبالغة في العقر؛ أي: الذي يَجْرَح.
وقوله: (وَالْحُدَيَّا) بضمّ الحاء المهملة مصغّرًا.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2863]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، وَهُوَ ابْنُ زَيْدٍ، حَدَّثنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ: الْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْحُدَيَّا، وَالْغُرَابُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلّهم تقدّموا قبل باب، و"أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ" هو: سليمان بن داود الْعَتَكيّ.
وقوله: (وَالْعَقْرَبُ) هذا اللفظ للذكر والأنثى، وقد يقال لها: عقربة، وعقرباء، وليس منها العقربان، بل هي دُويبة طويلة، كثيرة القوائم، قال صاحب "المحكم": ويقال: إن عينها في ظهرها، وإنها لا تضرّ ميتًا، ولا نائمًا، حتى يتحرّك، ويقال: لدغته العقرب، بالغين المعجمة، ولسعته بالمهملتين، وقد تقدّم اختلاف الرواة في ذكر الحية بدلها قبل حديث، ومن جمعهما.
قال الحافظ: والذي يظهر لي أنه صلى الله عليه وسلم نبّه بإحداهما على الأخرى عند الاقتصار، وبيّن حكمهما معًا، حيث جمع.
قال ابن المنذر: لا نعلمهم اختلفوا في جواز قتل العقرب، وقال نافع لما قيل له: فالحية؟ قال: لا يختلف فيها. وفي رواية: ومن يشكّ فيها؟
وتعقبه ابن عبد البرّ بما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق شعبة أنه سأل الحكم، وحمادًا؟ فقالا: لا يقتل المحرم الحية، ولا العقرب، قال: ومن حجتهما أنهما من هوامّ الأرض، فيلزم من أباح قتلهما مثل ذلك في سائر الهوامّ، وهذا اعتلال لا معنى له، نعم عند المالكية خلاف في قتل صغير الحية، والعقرب التي لا تتمكن من الأذى. انتهى
(1)
.
وقال وليّ الدين رحمه الله: في أكثر الروايات ذكر العقرب، وفي بعضها، وهو عند مسلم ذكر الحية بدلها، وفي حديث أبي هريرة عند أبي داود، وحديث أبي سعيد عند أبي داود، وابن ماجه الجمع بينهما، وفي "الصحيحين" من حديث عبد الله بن مسعود الأمر بقتل الحية في غار المرسلات، وذلك في منى، وهي من الحرم، وكانوا محرمين، ففي "سنن النسائي" أن ذلك كان ليلة عرفة، وفي "صحيح مسلم" عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمَر محرمًا بقتل حية بمنى، وفي "سنن البيهقيّ" أيضًا عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "يَقْتُل المحرم الحية"، وهي أولى بالأمر بالقتل من العقرب، فكأنه نَبَّه في الرواية المشهورة بالعقرب على الحية من طريق الأولى.
وقال ابن المنذر: لا نعلمهم اختلفوا في ذلك. انتهى.
وتقدم عند المالكية خلاف في قتل ما صَغُر من الحيات والعقارب، بحيث إنه لا يمكن منه الأذى، ولم يذكر غيرهم هذا الخلاف.
وروى البيهقيّ في "سننه" عن أيوب، قلت لنافع: الحية؟ قال: الحية لا يُختلف فيها، وأصله في "صحيح مسلم"، إلا أنه لم يَسُقْ لفظه، وذكره ابن عبد البر بلفظ:"قال: الحية لا يختلف في قتلها"، ثم قال ابن عبد البر: ليس كما قال نافع، وقد اختَلَف العلماء في جواز قتل الحية للمحرم، لكنه شذوذ، ثم حكى عن الحكم بن عتيبة، وحماد بن أبي سليمان، أنهما قالا: لا يقتل المحرم الحية، ولا العقرب، رواه شعبة عنهما، قال: ومن حجتهما أن هذين
(1)
"الفتح" 5/ 105 - 106.
من هوامّ الأرض، فمن قال بقتلهما لزمه مثل ذلك في سائر هوامّ الأرض، قال: وهذا لا وجه له، ولا معنى؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أباح للمحرم قتلهما. انتهى.
وحكى ابن حزم عن الطحاويّ أنه قال: لا يقتل المحرم الحية، ولا الوزغ، ولا شيئًا غير الخمس المنصوص عليها. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2864]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثنَا هِشَامٌ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
وكلهم ذُكروا في الباب، وفي البابين السابقين، و"ابن نُمير" هو: عبد الله بن نمير.
[تنبيه]: رواية ابن نُمير، عن هشام بن عروة هذه ساقها أبو عوانة في "مسنده" (2/ 412) فقال:
(3636)
- حدّثنا أبو الأزهر، نا ابن نُمير، نا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليقتل المحرم الفأرة، والغراب، والحدأة، والكلب العقور، والعقرب". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2865]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَن الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خَمْسٌ فَوَاسِقُ، يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ: الْفَأْرَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْغُرَابُ، وَالْحُدَيَّا، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ").
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 5/ 67 - 68.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ) أبو سعيد البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 235) على الأصحّ (85)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 6/ 75.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) العيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
3 -
(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
والباقيان ذُكرا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2866]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، قَالَتْ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ خَمْسِ فَوَاسِقَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَم، ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ
…
إلخ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير عبد الرزّاق.
[تنبيه]: رواية عبد الرزّاق، عن معمر هذه ساقها إسحاق ابن راهويه رحمه الله في "مسنده" (2/ 185) فقال:
(688)
- أخبرنا عبد الرزاق، نا معمر، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة، قالت:"أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق في الحلّ والحرم: الحدأة، والغراب، والفأرة، والعقرب، والكلب العقور". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2867]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، وَحَرْمَلَةُ، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَني يُونُسُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْر، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ كُلُّهَا فَوَاسِقُ
(1)
، تُقْتَلُ فِي الْحَرَمِ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن السرح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
2 -
(حَرْمَلَةُ) بن يحيى التجيبيّ، تقدّم قبل بابين.
3 -
(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله، تقدّم أيضًا قبل بابين.
4 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم أيضًا قبل بابين.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ) - بتشديد الموحدة -: جمع دابّة، وهو ما دَبّ من الحيوان، وقد أخرج بعضهم منها الطير؛ لقوله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} الآية [الأنعام: 38]، وهذا الحديث يردّ عليه، فإنه ذكر في الدوابّ الخمس: الغراب والحدأة، ويدلّ على دخول الطير أيضًا عموم قوله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، وقوله تعالى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} الآية [العنكبوت: 60]، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم في صفة بدء الخلق:"وخلق الدوابّ يوم الخميس"، ولم يُفرد الطير بذكر، وقد تصرف أهل العرف في الدابة، فمنهم من يخصها بالحمار، ومنهم من يخصها بالفرس، وفائدة ذلك تظهر في الحَلِف، قاله في "الفتح"
(2)
.
وقوله: (كُلُّهَا فَوَاسِقُ) وفي نسخة: "كلّها فاسق"، قيل:"فاسقٌ" صفة
(1)
وفي نسخة: "كلها فاسقٌ يُقتلن".
(2)
"الفتح" 5/ 102.
لـ"كلُّ"، وفي "يُقْتَلْنَ" ضمير راجع إلى معنى "كُلّ"
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2868]
(1199) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ جَمِيعًا، عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثنا سُفْيَان بْنُ عُيَيْنَةَ، عَن الزُّهْرِيّ، عَنْ سَالِم، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "خَمْسٌ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ فِي اَلْحُرُمِ وَالْإِحْرَامِ: الْفَأْرَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ"، وَقَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ في رِوَايَتِهِ: "فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ")
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
3 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
4 -
(سَالِمُ) بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب، وأبوه تقدّما قبل ثلاثة أبواب، و"الزهريّ" ذُكر في السند الماضي.
وقوله: (خَمْسٌ لَا جُنَاحَ) بضمّ الجيم؛ أي: لا إثم.
وقوله: (وَقَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ فِي رِوَايَتِهِ: "فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ") بيّن به اختلاف شيخيه: زهير، وابن أبي عمر في ضبط "الحرم"، فالأول قال:"في الْحُرُم" بضمّتين، وقد تقدّم أنه جمع "حَرَام" بفتحتين، والثاني قال:"في الْحَرَم" بفتحتين، وهذا هو الضبط الصحيح، كما أوضحه وليّ الدين رحمه الله في "شرح التقريب"، ونصّه: وبَيَّنَ مسلم أن لفظ شيخيه الراويين عن سفيان بن عيينة اختَلَف عليه، فقال أحدهما، وهو ابن أبي عمر:"الْحَرَم" أي: بفتح الحاء
(1)
"الفتح" 5/ 102.
والراء، كما في روايتنا، وقال الآخر، وهو زهير بن حرب:"الْحُرُم" بضم الحاء والراء؛ أي: في المواضع الْحُرُم، جمع حَرَام كما قال:{وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} ، كذا بَيَّنَ القاضي في "المشارق" الضبطين، فقال: وفي رواية: "في الْحَرَم والإحرام"؛ أي: في حَرَم مكة، وجاء في رواية زهير:"في الْحُرُم والإحرام"؛ أي: في المواضع الْحُرُم، جمع حَرَام، كما قال:{وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} . انتهى.
قال: ولم يَفْهَم النووي في "شرح مسلم" ذلك على وجهه، فقال: اختلفوا في ضبط "الحرم" في رواية زهير، فضبطه جماعة من المحققين بفتح الحاء والراء؛ أي: الْحَرَم المشهور، وهو حرم مكة، والثاني بضم الحاء والراء، ولم يذكر القاضي في "المشارق" غيره، قال: وهو جمع حَرَام، كما قال تعالى:{وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} ، قال: والمراد به المواضع المحرمة، والفتح أظهر. انتهى.
وليس في رواية زهير اختلاف، والذي ضبطها به القاضي مُتَعَيِّنٌ، ولو كانت بالفتح لاتَّحَدت مع رواية ابن أبي عمر، وقد بيّن مسلم رحمه الله المغايرة بينهما، وكأن النوويّ رحمه الله لم يتأمل لفظ مسلم، ولا أول كلام القاضي، وإن كان أحدٌ ضبط رواية زهير "الْحَرَم" بفتحهما، فيتعين أن تكون رواية ابن أبي عمر "الْحُرُم" بضمهما، فإن مسلمًا رحمه الله قد صرح بالمغايرة بين لفظي شيخيه، وأن أحدهما قال: بفتحهما، والآخر بضمهما، فرواية ضمهما واقعة في "صحيح مسلم" بلا شك.
قال: وأما قوله في حديث عائشة رضي الله عنها: "في الْحِلّ والْحَرَم" فهو بفتح الحاء والراء بلا شكّ. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ جدًّا.
وتمام شرح الحديث يُعلم مما مضى في شرح حديث عائشة رضي الله عنها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(1)
"طرح التثريب" 5/ 70 - 71.
(المسألة الثانية): في "تخريجه":
أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 2868 و 2872 و 2873 و 2874 و 2875 و 2876](1199)، و (البخاريّ) في "الحج"(1826)، وفي "بدء الخلق"(3299 و 3311 و 3313)، وفي "المغازي"(4017)، و (أبو داود) في "المناسك"(1846)، و"الأدب"(5252)، و (النسائيّ) في "المناسك"(5/ 190)، و"الكبرى"(2/ 374)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(3088)، و"الطبّ"(3535)، و (مالك) في "الموطإ"(798 و 799 و 800)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 48 و 65)، و (الدارميّ) في "سننه"(1816)، و (أبو عوا نة) في "مسنده"(2/ 409)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 288 - 289)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(23/ 194 و 209)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 311)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): قال الحافظ وليّ الدين العراقيّ رحمه الله: حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا أخرجه الشيخان، والنسائيّ، من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر، وفي رواية البخاريّ ضمّ عبد الله بن دينار إلى نافع.
وقال ابن عبد البرّ: لا خلاف عن مالك في إسناد هذا الحديث، ولفظه. انتهى.
[فإن قلت]: قد ذكر مالك عبد الله بن دينار تارةً، ولم يذكره أخرى.
[قلت]: ليس هذا اختلافًا، فله فيه شيخان، حدّث به في الأكثر عن نافع، وتارة عن عبد الله بن دينار، وتارة عنهما، وقد أخرجه مسلم من رواية إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، فهو معروف عنه، من غير طريق مالك، وأخرجه مسلم، والنسائيّ من طريق الليث بن سعد، وأيوب السختيانيّ، ويحيى بن سعيد، وأخرجه مسلم، وابن ماجه من حديث عبيد الله بن عمر، وأخرجه مسلم وحده من حديث ابن جريج، وجرير بن حازم، كلهم عن نافع.
قال مسلم: ولم يقل أحد منهم: عن نافع، عن ابن عمر، سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا ابن جريج وحده، وقد تابع ابن جريج على ذلك ابن إسحاق، ثم رواه من طريقه، عن نافع، وفيه: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وأخرجه مسلم، وأبو داود، والنسائيّ من رواية سفيان بن عيينة، عن الزهريّ، عن سالم، عن أبيه، وأخرجه الشيخان، والنسائيّ من رواية يونس بن
يزيد، عن الزهريّ، عن سالم، عن أبيه، عن حفصة، واتفق عليه الشيخان من رواية زيد بن جُبير، عن ابن عمر، قال: حدثتني إحدى نسوة النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية لمسلم: "والحيّة"، قال: وفي "الصلاة" أيضًا.
قال: ولا يضرّ هذا الاختلاف، فالحديث مقبول، سواء كان من رواية ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو بواسطة حفصة، أو غيرها، من أمهات المؤمنين - رضي الله تعالى عنهنّ -. وقد تقدّم من حديث ابن جريج في "صحيح مسلم" التصريح بسماع ابن عمر له من النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2869]
(1200) - (حَدَّثَني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ الله، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَتْ حَفْصَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ كُلُّهَا فَاسِقٌ، لَا حَرَجَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ: الْعَقْرَبُ، وَالْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
وكلّهم ذُكروا في السند السابق، وقبله.
وقوله: (قَالَتْ حَفْصَةُ
…
إلخ) وفي رواية الإسماعيليّ: "عن حفصة"، وفي رواية زيد بن جبير، عن ابن عمر التالية:"أخبرتني إحدى نسوة رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وفي روايته الثالثة:"حدّثتني إحدى نسوة النبيّ صلى الله عليه وسلم "، وهذا كلّه قد يوهم أن عبد الله بن عمر ما سمع هذا الحديث من النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولكن سيأتي في بعض طرق نافع عنه:"قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم "، أخرجه مسلم من طريق ابن جريج، قال: أخبرني نافع، وقال مسلم بعده: لم يَقُل أحد، عن نافع، عن ابن عمر:"سمعتُ" إلا ابن جريج، وتابعه محمد بن إسحاق، ثم ساقه من طريق ابن إسحاق، عن نافع كذلك.
فالظاهر أن ابن عمر رضي الله عنهما سمعه من أخته حفصة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسمعه
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 5/ 56 - 57.
أيضًا من النبيّ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّث به حين سئل عنه، فقد وقع عند أحمد من طريق أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "نادى رجل
…
"، ولأبي عوانة في "المستخرج" من هذا الوجه: "أن أعرابيًّا نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما نقتل من الدواب إذا أحرمنا؟ "
والظاهر أن المبهمة في رواية زيد بن جبير هي حفصة رضي الله عنها، ويَحْتَمِل أن تكون عائشة رضي الله عنها، وقد رواه ابن عيينة، عن ابن شهاب، فأسقط حفصة من الإسناد، والصواب إثباتها في رواية سالم، والله أعلم، أفاده في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ظاهر كلام الحافظ رحمه الله أن رواية سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم التي قبل هذه الرواية خطأ؟ إذ حُذفت منه حفصة رضي الله عنها من السند، وهو محلّ نظر، فإن سفيان إمام حافظ، وإن خالفه يونس، والحديث قد ثبت أنه مما سمعه ابن عمر رضي الله عنهما بنفسه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما سيأتي عند مسلم، فلماذا يقال: إن سالمًا حدّث بالوجهين: بذكر حفصة، وإسقاطها، حيث سمعه من أبيه كذلك، كما حدّث به نافع، وغيره، فليُتأمّل، والله تعالى أعلم.
وقوله: (لَا حَرَجَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ) أي: لا إثم، قال ابن الأثير رحمه الله: الْحَرَج في الأصل: الضِّيق، ويقع على الإثم والحرام، وقيل: الحرج: أضيق الضيق. انتهى
(2)
.
والحديث أخرجه (المصنف) هنا [9/ 2869](1200)، والبخاري (1828)، و (النسائي)(5/ 210)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2665)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع المآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2870]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا زيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ: مَا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ مِنَ الدَّوَابِّ؟ فَقَالَ: أَخْبَرَتْنِي إِحْدَى نِسْوَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَمَرَ، أَو أُمِرَ أَنْ يَقْتُلَ الْفَأْرَةَ، وَالْعَقْرَبَ، وَالْحِدَأَةَ، وَالْكَلْبَ الْعَقُورَ، وَالْغُرَابَ).
(1)
راجع: "الفتح" 5/ 100.
(2)
"النهاية" 1/ 361.
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ) هو أحمد بن عبد الله بن يونس، نُسب لجدّه، تقدّم قبل باب.
2 -
(زُهَيْرُ) بن معاوية بن حُدَيح، تقدّم أيضًا قبل باب.
3 -
(زيدُ بْنُ جُبَيْرِ) بن حَرْمَل - بفتح الحاء المهملة، وسكون الراء - الطائيّ الكوفيّ، من بني جُشَم بن معاوية، ثقةٌ [4].
رَوَى عن ابن عمر، وخِشْف بن مالك، وأبي يزيد الضبيّ، وأبي الْبَخْتَريّ.
وروى عنه شعبة، والثوريّ، وزهير بن معاوية، وإسرائيل، وحجاج بن أرطاة، وأبو عوانة.
قال أحمد: صالح الحديث، وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال الدُّوريّ: قلت لابن معين: أليس في حديثه شيءٌ؟ قال: لا والله، قلت: هو أخو حكيم بن جبير؟ قال: لا والله، ما بينهما قرابة، وقال ابن أبي مريم، عن ابن معين: ثقة، يروي ستة أحاديث، أو سبعة، وقال العجليّ: ثقةٌ، ليس بتابعيّ، في عداد الشيوخ، وقال النسائيّ: ليس به بأسٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات" في التابعين، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أحمد: زيد وحكيم ليسا بأخوين، زيد جُشَمِيٌّ، وهو أحبّ إليّ من آدم بن عليّ، وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: صدوقٌ، وفي نسخة: ثقةٌ صدوقٌ.
أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وأعاده بعده.
و"ابن عمر رضي الله عنهما " ذُكر قبله.
وقوله: (حَدَّثَنَا زيدُ بْنُ جُبَيْرٍ) قال في "الفتح": ليس له في "صحيح البخاريّ" روايةٌ عن غير ابن عمر، ولا له فيه إلا هذا الحديث، وآخر تقدم في المواقيت، وقد خالف نافعًا، وعبد الله بن دينار في إدخال الواسطة بين ابن عمر وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، ووافق سالِمًا إلا أن زيدًا أبهمها، وسالِمًا سماها. انتهى
(1)
.
(1)
"الفتح" 5/ 100.
وقوله: (أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ
…
إلخ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفه. انتهى
(1)
.
وقوله: (أَخْبَرَتْنِي إِحْدَى نِسْوَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي الرواية التالية: "حَدّثتني إحدى نسوة النبيّ صلى الله عليه وسلم، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "، والمبهمة في الروايتين هي المفسّرة في رواية سالم التي قبل هذا، وهي حفصة رضي الله عنها.
وقوله: (أَنَّهُ أَمَرَ، أَو أُمِرَ أَنْ يَقْتُلَ الْفَأْرَةَ
…
إلخ) "أمر" الأول بالبناء للفاعل، والثاني بالبناء للمفعول، و"أو" للشكّ من الراوي، والضمير في "أنه" و"أَمَرَ" على الأول للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وعلى الثاني للمحرم، وقوله: "أن يَقْتُلَ
…
إلخ" بالياء مبنيًّا للفاعل، و"الفارة
…
إلخ" منصوب على المفعوليّة، وفي نسخة: "تُقْتَلَ" بالتاء مبنيًّا للمفعول، و"الفأرة" على هذا نائب فاعله.
وكُتب في هامش النسخة التركيّة ما نصّه: قوله: "أن يقتل" بالتذكير، والتأنيث، معلومًا، ومجهولًا، على أن يكون الأول للأول، والثاني للثاني، بعكس مقتضى صيغتي أَمَرَ، وأُمِرَ، فإنّ أَمَرَ بصيغة المعلوم يطلب الثاني منهما، أعني المؤنّث المجهول، وأُمِرَ بصيغة المجهول يطلب الأول منهما، أعني المذكّر المعلوم، وقوله: "الفأرة، والعقرب
…
إلخ" معربٌ على حسب عامله. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "يطلب
…
إلخ" فيه نظر، بل المبنيّ للمعلوم والمجهول يصلح للأول والثاني كليهما، كما لا يخفى على من تأمله، والله تعالى أعلم.
والحديث متّفقٌ عليه، أخرجه (المصنف) هنا [9/ 2870](1200)، و (البخاري)(1827)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 285 و 380)، وقد مضى تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2871]
(
…
) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ زيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ: مَا يَقْتُلُ الرَّجُلُ مِنَ الدَّوَابّ، وَهُوَ مُحْرِمٌ؟ قَالَ:
(1)
"تنبيه المعلم" ص 213.
(2)
راجع: "نسخة محمد ذهني" 4/ 19.
حَدَّثَتْنِي إِحْدَى نِسْوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كانَ يَأْمُرُ بِقَتْلِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ، وَالْفَأْرَةِ، وَالْعَقْرَب، وَالْحُدَيَّا، وَالْغُرَاب، وَالْحَيَّة، قَالَ: وَفِي الصَّلَاةِ أَيْضًا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الأُبُلّيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو عَوَانَةَ) وضّاح بن عبد الله اليشكريّ، تقدّم في الباب الماضي.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (قَالَ: وَفِي الصَّلَاةِ أَيْضًا) قال القرطبيّ رحمه الله: يعني أنه يجوز لمن كان في الصلاة أن يقتل هذه الدوابّ في الصلاة، ولا يخرُج عن الصلاة بقتلها، اللهمّ إلا أن يحتاج في محاولة ذلك إلى عمل كثير يخرُج به عن سنّة الصلاة وهيئتها، فإن فعل ذلك استأنف صلاته. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": ذكر الصلاة؛ ليُنَبّه بذلك على جواز قتل المذكورات في جميع الأحوال. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2872]
(1199) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ").
رجال هذا الإسنادة أربعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
3 -
(نَافِعٌ) مولى ابن عمر، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
(1)
"المفهم" 3/ 286.
(2)
"الفتح" 5/ 100.
و"ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما" ذُكر قبله.
[تنبيه]: هذا الإسناد من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (179) من رباعيّات الكتاب.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2873]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ الله، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حَدَّثنا
(1)
ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: قُلْتُ لِنَافِعٍ: مَاذَا سَمِعْتَ ابْنَ عُمَرَ يُحِلُّ لِلْحَرَامِ قَتْلَهُ مِنَ الدَّوَابِّ؟ فَقَالَ لِي نَافِعٌ: قَالَ عَبْدُ اللهِ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ فِي قَتْلِهِنَّ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) الحمّال البزّاز، أبو موسى البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 243)(م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ) الْبُرْسانيّ، تقدّم قبل باب.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم أيضًا قبل باب.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (يُحِلُّ لِلْحَرَامِ) بضمّ حرف المضارعة، من الإحلال، و"الحرام" بمعنى المحرم.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والة تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
وفي نسخة: "أخبرنا".
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2874]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه قُتَيْبَةُ، وَابْنُ رُمْحٍ، عَن اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، يَعْنِي ابْنَ حَازِمٍ، جَمِيعًا عَنْ نَافِع (ح) وَحَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ (ح) وَحَدَّثنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثنَا أَبِي جَمِيعًا، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ (ح) وَحَدَّثَني أَبُو كَامِلٍ، حَدَّثنَا حَمَّاد، حَدَّثنَا أَيُّوبُ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ نَافعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا ابْنُ جُرَيْجٍ وَحْدَهُ، وَقَدْ تَابَعَ ابْنَ جُرَيْجٍ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ إِسْحَاقَ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية عشر:
1 -
(جَرِيرُ بْنَ حَازِمِ) بن زيد، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نمير، تقدّم قبل باب.
4 -
(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر الْعُمَريّ، تقدّم أيضًا قبل باب.
5 -
(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة السَّخْتيانيّ، تقدّم قريبًا.
6 -
(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) أبو خالد الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 45.
7 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) الأنصاريّ، أبو سعيد المدنيّ القاضي، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت 144)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.
والباقون ذُكروا في الباب، وفيما قبله، و"حمّاد" هو: ابن زيد.
وقوله: (جَمِيعًا عَنْ نَافِعٍ) يعني أن كلًّا من الليث بن سعد، وجرير بن حازم روى عن نافع مولى ابن عمر.
وقوله: (جَمِيعًا، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ) يعني أن كلًّا من عليّ بن مُسهر، وعبد الله بن نُمير روى عن عبيد الله بن عُمر الْعُمَريّ.
[تنبيه]: أما رواية الليث، عن نافع، فقد ساقها النسائيّ رحمه الله في "المجتبى" (5/ 189) فقال:
(2830)
- أخبرنا قتيبة بن سعيد، قال: حدّثنا الليث، عن نافع، عن ابن عمر:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَذِنَ في قتل خمس من الدواب للحرام: الغراب، والحدأة، والفأرة، والكلب العقور، والعقرب". انتهى.
وأما رواية جرير بن حازم، عن نافع، فقد ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده" (10/ 183) فقال:
(5810)
- حدّثنا شيبان، حدثنا جريرٌ، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رجل - ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر -: يا رسول الله، ما يقتل المحرم من الدوابّ؟ قال:"الغراب، والحدأة، والكلب العقور"، قال جرير: وقال لي أيوب: قلت لنافع: فالحية؟ قال: تلك لا يَختَلِف فيها اثنان. انتهى.
وأما رواية عليّ بن مُسهر، عن نافع، فقد ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه" (3/ 349) فقال:
(14821)
- حدّثنا أبو بكر، قال: حدّثنا عليّ بن مُسْهر، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع
(1)
، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس من الدواب لا جناح على من قتلهنّ، وهو حرام: الفأرة، والعقرب، والغراب، والحدأة، والكلب العقور". انتهى.
وأما رواية عبيد الله بن عُمر، عن نافع، فقد ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه" (9/ 221) فقال:
(3079)
- حدّثنا عليّ بن محمد، حدثنا عبد الله بن نُمير، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس من الدوابّ لا جناح على من قتلهنّ، أو قال: في قتلهنّ، وهو حرام: العقرب، والغراب، والْحُدَيّاة، والفارة، والكلب العقور". انتهى.
(1)
وقع في بعض نسخ "المصنف" هنا زيادة "عن ابن جبير" بين نافع، وبين ابن عمر، وهو غلطٌ، فليُتنبّه، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وأما رواية أيوب، عن نافع، فقد ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى" (5/ 209) فقال:
(9816)
- أخبرنا عليّ بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد، ثنا عثمان بن عمر، ثنا مسدَّدٌ، ثنا حماد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: أن رجلًا سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما يَقْتُل المحرم من الدوابّ؟ قال: "الفأرة، والعقرب، والغراب، والحدأة، والكلب العقور"، قلت لنافع: الحية؟ قال: الحية لا يختلف فيها. انتهى.
وأما رواية يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن نافع، فقد ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" (2/ 409) فقال:
(3622)
- حدّثنا محمد بن عبد الملك الواسطيّ، وعمار، قالا: حدّثنا يزيد بن هارون، نا يحيى بن سعيد، أن نافعًا أخبره، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خمس لا جناح في قَتْل مَنْ قُتِل منهنّ: الفأرة، والغراب، والحدأة، والكلب العقور، والعقرب". انتهى.
[تنبيه آخر]: الإسناد الأول، والثاني، والخامس من الرباعيّات، وهي (180 و 181 و 182) من رباعيّات الكتاب، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
ولَمّا ذكر المصنّف رحمه الله أن ابن جريج تفرّد من بين هؤلاء - وهم: مالك، والليث، وجرير بن حازم، وعبيد الله الْعُمريّ، وأيوب، ويحيى بن سعيد - عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما بقوله:"سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وقد تابعه على ذلك محمد بن إسحاق، ساق رواية ابن إسحاق، فقال:
بالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2875]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِيهِ فَضْلُ بْنُ سَهْلٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ، وَعُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الله، عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "خَمْسٌ لَا جُنَاحَ في قَتْلِ مَا قُتِلَ مِنْهُنَّ فِي الْحَرَمِ"، فَذَكَرَ بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(فَضْلُ بْنُ سَهْلِ) بن إبراهيم الأعرج البغداديّ، خُرَاسانيّ الأصل، ثقةٌ [11](ت 255) وقد جاوز السبعين (خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 43.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ) بن يسار المطّلبيّ مولاهم، أبو بكر المدنيّ، نزيل العراق، إمام المغازي، ثقةٌ، لكنه يدلّس، ورُمي بالتشيّع والقدر، من صغار [5](ت 150) أو بعدها (خت م 4) تقدم في "الصلاة" 42/ 1085.
3 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمر بن الخطاب، تقدّم قبل بابين.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: رواية محمد بن إسحاق، عن نافع، وعُبيد الله بن عمر هذه ساقها الإمام أحمد هـ رحمه الله في "مسنده" (2/ 32) فقال:
(4876)
- حدّثنا عبد الله
(1)
، حدّثني أبي، ثنا يزيد
(2)
، أنا محمد
(3)
، عن نافع، وعبيد الله بن عبد الله بن عمر، حدثاه عن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خمس لا جناح على أحد في قتلهنّ: الغراب، والفأرة، والحدأة، والعقرب، والكلب العقور". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2876]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَيَحْيَى بْنُ أيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وقَالَ الْآخَرُونَ: حَدَّثنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خَمْسٌ مَنْ قَتَلَهُنَّ، وَهُوَ حَرَامٌ، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِيهِنَّ: الْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالْغُرَابُ، وَالْحُدَيَّا"، وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى بْنِ يَحْيَى).
(1)
هو ولد الإمام أحمد.
(2)
هو ابن هارون.
(3)
هو ابن إسحاق.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(ابْنُ حُجْرٍ) هو: عليّ بن حُجر السعديّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ) مولى ابن عمر المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه مستوفًى، وكذا بيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(10) - (بَابُ جَوَازِ حَلْقِ الرَّأْسِ لِلْمُحْرِمِ إِذَا كَانَ بِهِ أَذًى، وَوُجُوبِ الْفِدْيَةِ لِحَلْقِه، وَبَيَانِ قَدْرِهَا)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2877]
(1201) - (وَحَدَّثَني عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثنَا حَمَّادٌ، يَعْنِي ابْنَ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيع، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا، يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أتى عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الْحُدَيْبِيَة، وَأَنَا أُوقِدُ تَحْتَ - قَالَ الْقَوَارِيرِيُّ: قِدْرٍ لِي، وَقَالَ أَبُو الرَّبِيع: بُرْمَةٍ لِي -، وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ:"أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟ " قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ:"فَاحْلِقْ، وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَو أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَو انْسُكْ نَسِيكَةً"، قَالَ أَيُّوبُ: فَلَا أَدْرِي بِأَيِّ ذَلِكَ بَدَأَ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(حَمَّادُ بْنُ زيدٍ) الجهضميّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [8](ت 179)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
3 -
(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة السَّختيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ حجة عابدٌ [5](ت 131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.
4 -
(أَبُو الرَّبِيعِ) سليمان بن داود العتكيّ الزَّهرانيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.
5 -
(مُجَاهِدُ) بن جَبْر المخزوميّ، أبو الحجاج المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه إمام [3](ت 1 أو 2 أو 3 أو 104)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.
6 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى) الأنصاريّ المدنيّ، ثم الكوفيّ، ثقةٌ [2](ت 86)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
7 -
(كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ) الأنصاريّ، أبو محمد المدنيّ الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه بعد (50) وله نيّف و (70) سنة (ع) تقدم في "الطهارة" 23/ 643.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخيه، فما أخرج لهما الترمذيّ، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالتحديث، والسماع، فسيأتي قول مجاهد: حدّثني عبد الرحمن بن أبي ليلى، حدّثني كعب بن عجرة رضي الله عنه.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين، روى بعضهم عن بعض: أيوب، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى) صرح سيف في روايته الآتية عن مجاهد بسماعه من عبد الرحمن بن أبي ليلى، وبأن كعبًا حدث به عبد الرحمن.
[تنبيه]: قال في "الفتح": قال ابن عبد البرّ في رواية حميد بن قيس: كذا رواه الأكثر عن مالك. وروه ابن وهب، وابن القاسم، وابن عُفير عن مالك بإسقاط عبد الرحمن بين مجاهد، وكعب بن عجرة.
قال الحافظ: ولمالك فيه إسنادان آخران في "الموطإ" أحدهما: عن عبد الكريم الجزريّ، عن مجاهد، وفي سياقه ما ليس في سياق حميد بن
قيس، وقد اختلف فيه على مالك أيضًا على العكس مما اختلف على طريق حميد بن قيس.
قال الدارقطنيّ: رواه أصحاب "الموطأ" عن مالك، عن عبد الكريم، عن عبد الرحمن، لم يذكروا مجاهدًا، حتى قال الشافعيّ: إن مالكًا وَهِم فيه.
وأجاب ابن عبد البرّ: بأن ابن القاسم، وابن وهب في "الموطإ"، وتابعهما جماعة عن مالك، خارج "الموطإ"، منهم بشر بن عمر الزهرانيّ، وعبد الرحمن بن مهديّ، وإبراهيم بن طهمان، والوليد بن مسلم أثبتوا مجاهدًا بينهما.
قال الحافظ: وهذا الجواب لا يردّ على الشافعيّ، وطريق ابن القاسم المشار إليها عند النسائيّ، وطريق ابن وهب عند الطبريّ، وطريق عبد الرحمن بن مهديّ عند أحمد، وسائرها عن الدارقطنيّ في "الغرائب".
والإسناد الثالث لمالك فيه عن عطاء الخراسانيّ، عن رجل من أهل الكوفة، عن كعب بن عجرة.
قال ابن عبد البرّ: يَحْتَمِل أن يكون عبد الرحمن بن أبي ليلى، أو عبد الله بن معقل، ونقل ابن عبد البرّ عن أحمد بن صالح المصريّ، قال: حديث كعب بن عجرة في الفدية سنة معمول بها، لم يروها من الصحابة غيره، ولا رواها عنه إلا ابن أبي ليلى، وابن معقل، قال: وهي سنة أخذها أهل المدينة، عن أهل الكوفة، قال الزهريّ: سألت عنها علماءنا كلهم، حتى سعيد بن المسيب، فلم يبيّنوا كم عدد المساكين.
قال الحافظ: فيما أطلقه ابن صالح نظر، فقد جاءت هذه السنة من رواية جماعة من الصحابة غير كعب، منهم: عبد الله بن عمرو بن العاص، عند الطبريّ، والطبرانيّ، وأبو هريرة عند سعيد بن منصور، وابن عمر عند الطبريّ، وفَضَالة الأنصاريّ، عمن لا يتّهَم من قومه، عند الطبريّ أيضًا.
ورواه عن كعب بن عجرة غير المذكورين: أبو وائل، عند النسائيّ، ومحمد بن كعب القرظيّ، عند ابن ماجه، ويحيى بن جعدة، عند أحمد، وعطاء، عند الطبريّ، وجاء عن أبي قلابة، والشعبيّ أيضًا، عن كعب، وروايتهما عند أحمد، لكن الصواب أن بينهما واسطة، وهو ابن أبي ليلى على الصحيح.
وقد أورد البخاريّ حديث كعب هذا في أربعة أبواب متوالية، وأوردها أيضًا في "المغازي"، و"الطبّ"، و"كفّارات الأيمان" من طرق أخرى، مدار الجميع على ابن أبي ليلى، وابن معقل، فيقيّد إطلاق أحمد بن صالح بالصحة، فإن بقية الطرق التي ذكرتها لا تخلو عن مقال، إلا طريق أبي وائل، وسأذكر ما في هذه الطرق من فائدة زائدة - إن شاء الله تعالى. انتهى كلام الحافظ رحمه الله.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وسأذكر أنا أيضًا في هذا الشرح ما ذكره الحافظ من الفوائد في شرحه، فإن شرحي هذا نسخة من شرحه رحمه الله مع ما يفتح الله تعالى عليّ فيه من غيره، ولذا كثيرًا ما أقول: لولا فتح الباري ثم "فتح الباري"
(1)
ما قضيت أوطاري.
(عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه) أنه (قَالَ: أتى عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ) أي: زمن صلح الحديبية، وفي رواية:"أن رسول ألله صلى الله عليه وسلم وقف عليه، ورأسه يتهافت قملًا"، وفي رواية:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرّ به، وهو بالحديبية"، وفي رواية:"أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ادنه، فدنوت، فقال: ادنه، فدنوت"، وفي أخرى:"فحُملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنت أرى أن الجهد بلغ منك ما أرى"، وفي أخرى: لأ أنه خرج مع النبيّ صلى الله عليه وسلم محرمًا، فقمل رأسه، ولحيته، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه، فدعا الحلّاق، فحلق رأسه".
والجمع بين هذا الاختلاف أن يقال: مرّ به أولًا، وهو يوقد تحت قدر، فرآه على تلك الصورة رؤية إجمالية عن بُعْد يسير، وقال: أتؤذيك هوامّك هذه؟ ولكنه لم يقدّر قَدْر ما بلغ به من الوجع الشديد، ثم بلغه ما هو فيه من البلاء، وشدّة الأذى، فأرسل إليه، واستدعاه، حتى أتاه محمولًا، فاستدناه، فدنا، كما في رواية ابن عون، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى الآتية، وحك رأسه بإصبعه الكريمة، كما في رواية أبي وائل، عن كعب، عند النسائيّ، فخاطبه، وقال له:
(1)
فتح الباري الأول هو ما يفتح الله، عليّ من الفوائد العلميّة، والثاني هو الكتاب المشهور للحافظ ابن حجر رحمه الله.
"ما كنت أرى أن الجهد بلغ منك ما أرى"، ودعا الحلّاق، فحَلَق رأسه بحضرته، فنقل بعض الرواة ما لم ينقله الآخر.
وقال في "الفتح" عند قوله: "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لعلك"، ما نصّه: في رواية أشهب المقدَّم ذكرها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له"، وفي رواية عبد الكريم:"أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو محرم، فآذاه القمل"، وفي رواية سيف: "وقف عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية، ورأسي يتهافت قَمْلًا، فقال: أيؤذيك هوامّك؟ قلت: نعم، قال: فاحلق رأسك
…
" الحديث، وفيه: "قال: فيّ نزلت هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَو بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 184]"، زاد في رواية أبي الزبير، عن مجاهد، عند الطبرانيّ: "أنه أهل في ذي القعدة"، وفي رواية مغيرة، عن مجاهد، عند الطبريّ: "أنه لقيه، وهو عند الشجرة، وهو محرم"، وفي رواية أيوب، عن مجاهد: "أتى عليّ النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا أوقد تحت بُرْمَة، والقمل يتناثر على رأسي"، زاد في رواية ابن عون، عن مجاهد: "فقال: ادنُ، فدنوت، فقال: أيؤذيك؟ "، وفي رواية ابن بشر، عن مجاهد فيه: "قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية، ونحن محرمون، وقد حَصَرَنا المشركون، وكانت لي وَفْرَ، فجعلت الهوامّ تتساقط على وجهي، فقال: أيؤذيك هوامّ رأسك؟ قلت: نعم، فأُنزلت هذه الآية"، وفي رواية أبي وائل، عن كعب: "أحرمتُ، فكثر قمل رأسي، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأتاني، وأنا أطبخ قِدْرًا لأصحابي"، وفي رواية ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "رآه، وإنّه ليسقط القمل على وجهه، فقال؟ أيؤذيك هوامّك؟ قال: نعم، فأمره أن يحلق، وهم بالحديبية، ولم يُبَيِّن لهم أنهم يَحِلُّون، وهم على طمع أن يدخلوا مكة، فأنزل الله الفدية"، وأخرجه الطبرانيّ من طريق عبد الله بن كثير، عن مجاهد بهذه الزيادة، ولأحمد، وسعيد بن منصور، في رواية أبي قلابة: "قملتُ حتى ظننت أن كل شعرة من رأسي فيها القمل من أصلها إلى فرعها"، زاد سعيد: "وكنت حسن الشعر"، وأول رواية عبد الله بن مَعْقِل عند البخاريّ: "جلست إلى كعب بن عجرة، فسألته عن الفدية، فقال: نزلت فيّ خاصة، وهي لكم عامة، حُمِلتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى"، زاد مسلم من هذا الوجه: "فسألته عن هذه الآية: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} الآية".
ولأحمد من وجه آخر في هذه الطريق: "وقع القمل في رأسي، ولحيتي حتى حاجبي وشاربي فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليّ، فدعاني، فلما رآني قال: لقد أصابك بلاءٌ، ونحن لا نشعر، ادعُ إليّ الحجام، فحلقني".
ولأبي داود من طريق الحكم بن عُتيبة، عن ابن أبي ليلى، عن كعب:"أصابتني هوامّ حتى تخوفت على بصري"، وفي رواية أبي وائل، عن كعب عند الطبريّ:"فحك رأسي بإصبعه، فانتثر منه القمل"، زاد الطبريّ من طريق الحكم:"إن هذا لأذى، قلت: شديد يا رسول الله".
قال الحافظ رحمه الله: والجمع بين هذا الاختلاف في قول ابن أبي ليلى، عن كعب:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مَرّ به، فرآه"، وفي قول عبد الله بن معقل:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أرسل إليه فرآه"، أن يقال: مرّ به أولًا فرآه على تلك الصورة فاستدعى به إليه، فخاطبه، وحَلَق رأسه بحضرته، فنقل كل واحد منهما ما لم ينقله الآخر، ويوضحه قوله في رواية ابن عون السابقة، حيث قال فيها:"فقال: ادنُ، فدنوت"، فالظاهر أن هذا الاستدناء كان عقب رؤيته إياه إذ مرَّ به، وهو يوقد تحت القدر. انتهى.
وقال الطبريّ رحمه الله: يحتمل أن يكون وقف عليه صلى الله عليه وسلم، وأمره بذلك، ثم حُمِل إليه لمّا كثر عليه، فأمره ثانيًا، فلا يكون بين قوله:"فحُملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وبين قوله:"مرّ به" تضادّ.
وقال العينيّ رحمه الله بعد ذكر اختلاف الروايات: لا تعارض في شيء من ذلك، ووجهه: أنه مرّ به، وهو محرم في أول الأمر، وسأله عن ذلك، ثم حُمل إليه ثانيًا بإرساله إليه، وأما إتيانه فبعد الإرسال، وأما رؤيته فلا بدّ منها في الكلّ. انتهى باختصار يسير.
(وَأَنَا أُوقِدُ) جملة في محلّ نصب على الحال (تَحْتَ - قَالَ الْقَوَارِيرِيُّ) شيخه الأول (قِدْرٍ لِي)"الْقِدر" بكسر القاف، وسكون الدال: إناء يُطبَخ فيها، وهي مؤنّثةٌ، ولهذا تدخل الهاء في التصغير، فيقال: قُديرةٌ، وجمعها قُدُورٌ، مثلُ حِمْلٍ وحُمُول
(1)
. (وَقَالَ أَبُو الرَّبِيعِ) شيخه الثاني (بُرْمَةٍ لِي)"الْبُرْمة" بضمّ
(1)
"المصباح المنير" 2/ 495.
الموحّدة، وسكون الراء: القِدْرُ من الحجارة، والجمع: بُرَمٌ، مثلُ غُرْفة وغُرَف، وبِرَامٌ، قا له في "المصباح"
(1)
، وفي "القاموس": جمعه بُرْمٌ - أي: بضمّ، فسكون - وكَصُرَد - أي: بضمّ، ففتح - وجِبَال. انتهى
(2)
.
(وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي) أي: يتساقط القمل من كثرته على وجهي، و"القَمْلُ" بفتح القاف، وسكون الميم: معروفٌ، الواحدة قَمْلةٌ، وقَمِلَ قَمَلًا، فهو قَمِلٌ، من باب تَعِبَ: كَثُرَ عليه القمل
(3)
.
وفي رواية: "فَآذَاهُ الْقَمْلُ فِي رَأسِهِ"، وفي رواية لأحمد، وسعيد بن منصور في رواية أبي قلابة:"قَمِلت حتى ظننت أن كلّ شعرة من رأسي فيها القمل، من أصلها إلى فرعها"، زاد سعيد:"وكنت حسن الشعر"، وفي رواية لأحمد من وجه آخر: "وقع القمل في رأسي، ولحيتي، حتى حاجبي، وشاربي، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليّ، فدعاني، فلما رآني، قال: لقد أصابك بلاء، ونحن لا نشعر
…
".
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟ " قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا سؤال عن تحقيق العلة التي يترتب عليها الحكم، فلما أخبره بالمشقة التي نالته خَفّف عنه.
و"الْهَوَامّ" بتشديد الميم: جمع هامّة، وهي ما يَدُبّ من الأخشاش، والمراد بها ما يلازم جسد الإنسان غالبًا إذا طال عهده بالتنظيف، وقد عُيِّن في كثير من الروايات أنها القمل، واستُدِلّ به على أن الفدية مرتبة على قتل القمل.
وتُعُقِّب بذكر الحلق، فالظاهر أن الفدية مرتبة عليه، وهما وجهان عند الشافعية، يظهر أثر الخلاف فيما لو حَلَق، ولم يقتل قملًا.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم " (فَاحْلِقْ) وفي رواية لأحمد: "ادع إليّ الحجام، فحلقني".
قال ابن قدامة رحمه الله: لا نعلم خلافًا في إلحاق الإزالة بالحلق، سواء كان بموسى، أو مِقَصّ، أو نُورة، أو غير ذلك، وأغرب ابن حزم، فأخرج النتف عن ذلك، فقال: يلحق جميع الإزالات بالحلق إلا النتف، قاله في "الفتح".
(1)
"المصباح" 1/ 45.
(2)
"القاموس المحيط" 4/ 78.
(3)
"المصباح" 2/ 516.
(وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَو أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ) وفي رواية سيف الآتية: "أو تصدّق بفَرَق بين ستة مساكين"، وفي رواية ابن أبي نَجيح ومن معه:"وأطعم فرقًا بين ستّة مساكين"، والفرق: ثلاثة آصع، وسيأتي ما يدلّ على أن التفسير من ابن عيينة.
وفي رواية أبي قلابة: "أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين"، وفي رواية عبد الله بن معقل:"أو إطعام ستة مساكين نصف صاع طعامًا لكلّ مسكين"، وللطبرانيّ:"لكل مسكين نصف صاع تمر"، ولأحمد عن بهز، عن شعبة:"نصف صاع طعام"، وفي رواية:"نصف صاع حنطة"، وفي رواية:"يطعم فرقًا من زبيب، بين ستة مساكين".
قال ابن حزم رحمه الله: لا بدّ من ترجيح إحدى هذه الروايات؛ لأنها قصّة واحدة، في مقام واحد، في حقّ رجل واحد.
قال الحافظ رحمه الله: المحفوظ رواية شعبة أنه قال في الحديث: "نصف صاع من طعام"، والاختلاف عليه في كونه تمرًا، أو حنطة لعله من تصرّف الرواة، وأما الزبيب، فلم أره إلا في رواية الحكم، وقد أخرجها أبو داود، وفي إسنادها ابن إسحاق، وهو حجة في المغازي، لا في الأحكام إذا خالف، والمحفوظ رواية التمر، فقد وقع الجزم بها عند مسلم من طريق أبي قلابة، ولم يختلف فيه على أبي قلابة، وكذا أخرجه الطبريّ من طريق الشعبيّ، عن كعب، وأحمد من طريق سليمان بن قرم، عن ابن الأصبهانيّ، ومن طريق أشعث، وداود عن الشعبيّ، عن كعب، وكذا في حديث عبد الله بن عمرو عند الطبرانيّ.
وعُرِف بذلك قُوّة قول من قال: لا فرق في ذلك بين التمر والحنطة، وأن الواجب ثلاثة آصع، لكلّ مسكين نصف صاع.
ولمسلم عن ابن أبي عمر، عن سفيان ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، وغيره، عن مجاهد في هذا الحديث:"وأطعم فرقًا بين ستة مساكين"، والفرق: ثلاثة آصع، وأخرجه الطبريّ من طريق يحيى بن آدم، عن ابن عيينة، فقال فيه:"قال سفيان: والفرق: ثلاثة آصع"، فأشعر بان تفسير الفرق مدرج، لكنه مقتضى الروايات الأخر، ففي رواية سليمان بن قَرْم، عن ابن الأصبهانيّ عند
أحمد: "لكل مسكين نصف صاع"، وفي رواية يحيى بن جَعْدة عند أحمد أيضًا:"أو أطعم ستة مساكين مُدّين مُدّين".
وأما ما وقع في بعض النسخ عند مسلم، من رواية زكريا، عن ابن الأصبهانيّ:"أو يطعم ستة مساكين لكل مسكين صاع"، فهو تحريف ممن دون مسلم، والصواب ما في النسخ الصحيحة:"لكل مسكينين" بالتثنية، وكذا أخرجه مسدَّدٌ في "مسنده" عن أبي عوانة، عن ابن الأصبهاني على الصواب، قاله في "الفتح"
(1)
.
(أَو انْسُكْ نَسِيكَةً") - بفتح النون، وكسر الكاف -: الذبيحة وزنًا ومعنى، يقال: نِسَكَ لله يَنْسُك، من باب نَصَر: تطوّع بقربة، و"النُّسُك" بضمتين: اسم منه، وفي التنزيل:{إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي} الآية [الأنعام: 162]، و "الْمَنْسِك" بفتح السين وكسرها: يكون زمانًا ومصدرًا، ويكون اسم المكان الذي تذبح فيه النَّسِيكة، وفي التنزيل:{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} [الحج: 34] بالفتح والكسر في السبعة، ومناسك الحج: عباداته، وقيل: مواضع العبادات، ومن فعل كذا فعليه نُسُكٌ؛ أي: دم يُريقه، ونَسَكَ: تزهد، وتعبد، فهو ناسك، والجمع نُسّاك مثل عابد وعُبّاد
(2)
.
وقال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله: النُّسُك: جمع نَسِيكة، وهي الذبيحة يَنسِكها العبد لله تعالى، ويُجمع أيضًا على نسائك، والنسك: العبادة في الأصل، ومنه قوله تعالى:{وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128] أي: متعبداتنا، وقيل: إن أصل النسك في اللغة الغَسْلُ، ومنه نَسَكَ ثوبه: إذا غسله، فكأن العابد غسل نفسه من أدران الذنوب بالعبادة، وقيل: النسك سبائك الفضة، كلُّ سبيكة منها نسيكة، فكأن العابد خَلَّص نفسه من دنس الآثام وسَبَكها. أنتهى
(3)
.
وفي رواية ابن أبي نجيح: "أو اذبح شاةً"، وللبخاريّ:"أَوِ انْسُكْ شَاةً"، وفي رواية:"بشاة" بزيادة الموحدة، فعلى الأول "شاة" مفعول به لما قبله؛
(1)
"الفتح" 5/ 72.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 603 - 604.
(3)
"الجامع لأحكام القرآن" 2/ 386.
أي: اذبح شاة، وعلى الثاني التقدير: تقرب بشاة، إذ النسك يطلق على العبادة، وعلى الذبح المخصوص.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "انسك نسيكةً"، وفي رواية:"ما تيسر"، وفي رواية:"شاةً": الجميع بمعنى واحد، وهو شاة، وشرطها أن تجزئ في الأضحية، ويقال للشاة وغيرها مما يجزئ في الأضحية: نسيكةٌ، ويقال: نَسَكَ يَنسُك، وَينسِك، بضم السين وكسرها في المضارع، والضم أشهر. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": وفيه أن المراد بالنسك المذكورة في الآية في قوله تعالى: {أَو نُسُكٍ} شاةٌ، وروى الطبري من طريق مغيرة، عن مجاهد في آخر هذا الحديث:"فأنزل الله: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَو صَدَقَةٍ أَو نُسُكٍ} الآية [البقرة: 196]، والنسك شاة"، ومن طريق محمد بن كعب القرظيّ، عن كعب:"أمرني أن أحلق، وأفتدي بشاة".
قال القاضي عياض، ومن تبعه، تبعًا لأبي عمر بن عبد البرّ: كلّ من ذكر النسك في هذا الحديث مفسّرًا، فإنما ذكروا شاةً، وهو أمر لا خلاف فيه بين العلماء.
قال الحافظ: يَعْكُر عليه ما أخرجه أبو داود من طريق نافع، عن رجل من الأنصار، عن كعب بن عجرة رضي الله عنه "أنه أصابه أذى، فحلق، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يُهدي بقرة"، وللطبراني من طريق عبد الوهاب بن بُخْت، عن نافع، عن ابن عمر، قال:"حلق كعب بن عجرة رأسه، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفتدي، فافتدى ببقرة"، ولعبد بن حُميد من طريق أبي معشر، عن نافع، عن ابن عمر، قال:"افتدى كعب من أذى كان برأسه، فحلقه ببقرة، قلّدها، وأشعرها"، ولسعيد بن منصور من طريق ابن أبي ليلى، عن نافع، عن سليمان بن يسار:"قيل لابن كعب بن عجرة: ما صنع أبوك حين أصابه الأذى في رأسه؟ قال: ذبح بقرة".
فهذه الطرف كلها تدور على نافع، وقد اختلف عليه في الواسطة الذي بينه
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 123.
وبين كعب، وقد عارضها ما هو أصحّ منها، من أن الذي أُمِر به كعب، وفَعَلَه في النسك إنما هو شاة.
وروى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد من طريق المقبريّ، عن أبي هريرة:"أن كعب بن عجرة ذبح شاة لأذى كان أصابه"، وهذا أصوب من الذي قبله.
واعتمد ابن بطال على رواية نافع، عن سليمان بن يسار، فقال: أخذ كعب بأرفع الكفارات، ولم يخالف النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما أمره به من ذبح الشاة، بل وافق، وزاد، ففيه أن من أُفتي بأيسر الأشياء، فله أن يأخذ بأرفعها، كما فعل كعب.
قال الحافظ: هو فرع ثبوت الحديث، ولم يثبت؛ لما قدّمته. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
(قَالَ أَيُّوبُ) بن أبي تميمة السَّختيانيّ (فَلَا أَدْرِي بِأَيِّ ذَلِكَ بَدَأَ) يعني أنه لم يستحضر ما بدأ به شيخه مجاهد في ذكر الأشياء الثلاثة: الصوم، أو الإطعام، أو النسك، ولكنه لا يضرّ؛ لأن الأمر فيه على التخيير.
وفي "الموطّإ"، وأبي داود، والنسائيّ من طريق عبد الكريم الجزريّ، عن مجاهد:"أيَّ ذلك فعلتَ أجزأ عنك".
قال في "الفتح": رواية عبد الكريم هذه صريحة في التخيير بين الثلاثة، وكذلك رواية أبي داود التي فيها:"إن شئت، وإن شئت"، ووافقتها رواية عبد الوارث، عن ابن أبي نجيح، أخرجها مسدّد في "مسنده"، ومن طريقه الطبرانيّ، لكن رواية عبد الله بن معقل عند البخاريّ أنما هو بين الإطعامِ والصيامِ لمن لم يجد النسك، ولفظه:"أتجد شاة؟ "، قال: لا، قال:"فصم، أو أطعم"، ولأبي داود في رواية أخرى:"أمعك دم؟ "، قال: لا، قال:"فإن شئت، فصم"، ونحوه للطبراني من طريق عطاء، عن كعب، ووافقهم أبو الزبير، عن مجاهد، عند الطبرانيّ، وزاد بعد قوله: ما أجد هديًا: قال:
(1)
"الفتح" 5/ 73.
"فأطعم"، قال: ما أجد، قال:"صم"، ولهذا قال أبو عوانة في "صحيحه": فيه دليل على أن من وجد نسكًا لا يصوم. يعني ولا يطعم.
قال: لكن لا أعرف من قال بذلك من العلماء، إلا ما رواه الطبريّ، وغيره، عن سعيد بن جبير، قال: النسك شاة، فإن لم يجد قُوّمت الشاة دراهم، والدراهم طعامًا، فتصدّق به، أو صام لكلّ نصف صاع يومًا، أخرجه من طريق الأعمش عنه، قال: فذكرته لإبراهيم، فقال: سمعت علقمة مثله، فحينئذ يحتاج إلى الجمع بين الروايتين، وقد جمع بينهما بأوجه:
(منها): ما قال ابن عبد البرّ رحمه الله: إن فيه الإشارة إلى ترجيح الترتيب لا لإيجابه.
(ومنها): ما قال النوويّ رحمه الله: ليس المراد أن الصيام، أو الإطعام لا يجزئ إلا لفاقدي الهدي، بل المراد أنه استخبره: هل معه هدي، أم لا؟ فإن كان واجده أعلمه أنه مخيّر بينه وبين الصيام والإطعام، وإن لم يجده أعلمه أنه مخيّر بينهما.
ومحصّله أنه لا يلزم من سؤاله عن وجدان الذبح تعيينه؛ لاحتمال أنه لو أعلمه أنه يجده لأخبره بالتخيير بينه وبين الإطعام والصوم.
(ومنها): ما قال غيرهما: يحتمل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا أذن له في حلق رأسه بسبب الأذى، أفتاه بأن يكفّر بالذبح على سبيل الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم، أو بوحي غير متلوّ، فلما أعلمه أنه لا يجد، نزلت الآية بالتخيير بين الذبح، والإطعام، والصيام، فخيّره حينئذ بين الصيام، والإطعام؛ لعلمه بأنه لا ذبح معه، فصام؛ لكونه لم يكن معه ما يطعمه.
ويوضّح ذلك رواية مسلم في حديث عبد الله بن معقل المذكور، حيث قال:"أتجد شاة؟ "، قلت: لا، فنزلت هذه الآية:{فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَو صَدَقَةٍ أَو نُسُكٍ} [البقرة: 196]، فقال:"صم ثلاثة أيام، أو أطعم"، وفي رواية عطاء الخراسانيّ قال:"صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين"، قال:"وكان قد عَلِم أنه ليس عندي ما أنسك به"، ونحوه في رواية محمد بن كعب القرظيّ، عن كعب، وسياق الآية يشعر بتقديم الصيام على غيره، وليس ذلك لكونه أفضل في هذا المقام من غيره، بل السرّ فيه أن الصحابة الذين خوطبوا شفاهًا بذلك كان
أكثرهم يقدر على الصيام أكثر مما يقدر على الذبح والإطعام.
وعُرف من رواية أبي الزبير أن كعبًا افتدى بالصيام.
ووقع في رواية ابن إسحاق ما يشعر بأنه افتدى بالذبح؛ لأن لفظه: "صم، أو أطعم، أو انسك شاة، قال: فحلقت رأسي، ونسكت"، وروى الطبرانيّ من طريق ضعيفة عن عطاء، عن كعب في آخر هذا الحديث:"فقلت: يا رسول الله، خِرْ لي، قال: أطعم ستة مساكين". انتهى ما في "الفتح"
(1)
، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 2877 و 2878 و 2879 و 2880 و 2881 و 2882 و 2883 و 2884](1201)، و (البخاريّ) في "الحج"(1814 و 1815 و 1816 و 1817 و 1818)، و"المغازي"(4159 و 4190 و 4191)، و"التفسير"(4517)، و"المرضى"(5665)، و"الطبّ"(5703)، و"كفارات الأيمان"(6708)، و (أبو داود) في "المناسك"(1856 و 1857 و 1859 و 1860)، و (الترمذيّ) في "الحج"(953)، و"التفسير"(2973 و 2974)، و (النسائيّ) في "المناسك"(2852 و 2853)، وفي "الكبرى"(3834 و 3835)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(3079 و 3080)، و (مالك) في "الموطإ" في (954 و 955 و 956)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1065)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 310)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 241 و 244)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2676 و 2677 و 2678)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3978 و 3980 و 3981 و 3982 و 3983)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 414)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 291 و 292)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(7/ 91)،
(1)
"الفتح" 5/ 68 - 69.
و"الكبير"(19/ 107 و 110 و 111 و 112 و 114 و 115)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(2/ 231 و 232)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 298)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(15/ 69 و 187 و 214)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان حكم المحرم الذي يؤذيه القمل، وهو أنه يجوز له أن يحلق رأسه، ويفدي بإحدى هذه الأشياء الثلاثة: صوم ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين مدّان، أو ذبح شاة.
2 -
(ومنها): تحريم حلق الرأس على المحرم، والرخصة له في حلقها إذا آذاه القمل، أو غيره من الأوجاع.
3 -
(ومنها): تلطّف الكبير بأصحابه، وعنايته بأحوالهم، وتفقّده لهم، وإذا رأى ببعض أتباعه ضررًا سأل عنه، وأرشد إلى المخرج منه.
4 -
(ومنها): أن السنّة مبيّنة لمجمل الكتاب لإطلاق الفدية في القرآن، وتقييدها بالسنة.
5 -
(ومنها): أنه استَنْبَط منه بعض المالكية إيجاب الفدية على من تعمّد حلق رأسه بغير عذر، فإن إيجابها على المعذور من التنبيه بالأدنى على الأعلى، لكن لا يلزم من ذلك التسوية بين المعذور وغيره، ومن ثمّ قال الشافعيّ، والجمهور: لا يتخيّر العامد، بل يلزمه الدم، وخالف في ذلك أكثر المالكية، واحتجّ لهم القرطبيّ بقوله في حديث كعب:"أو اذبح نسكًا"، قال: فهذا يدلّ على أنه ليس بهدي، قال: فعلى هذا يجوز أن يذبحها حيث شاء.
قال الحافظ: لا دلالة فيه، إذ لا يلزم من تسميتها نُسُكًا، أو نَسِيكة أن لا تسمى هديًا، أو لا تعطى حكم الهدي، وقد وقع تسميتها هديًا في رواية عند البخاريّ، حيث قال:"أو تُهدي شاة"، وفي رواية مسلم:"وأَهْدِ هديًا"، وفي رواية للطبريّ:"هل لك هدي؟ قلت: لا أجد"، فظهر أن ذلك من تصرّف الرواة، ويؤيده قوله في رواية مسلم:"أو اذبح شاة".
6 -
(ومنها): أنه استُدلّ به على أن الفدية لا يتعين لها مكان، وبه قال أكثر التابعين. وقال الحسن: تتعين مكة، وقال مجاهد: النسك بمكة، ومنى، والإطعام بمكة، والصيام حيث شاء، وقريب منه قول الشافعيّ، وأبي حنيفة:
الدم، والإطعام لأهل الحرم، والصيام حيث شاء؛ إذ لا منفعة فيه لأهل الحرم، وألحق بعض أصحاب أبي حنيفة، وأبو بكر بن الجهم من المالكية الإطعام بالصيام.
7 -
(ومنها): أنه استُدلّ به على أن الحجّ على التراخي؛ لأن حديث كعب دلّ على أن نزول قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] كان ذلك بالحديبية، وهي في سنة ست، قال في "الفتح": وفيه بحث
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الاستدلال عندي واضح، وقد ذكر البيهقيّ رحمه الله ذلك في "السنن"، فأخرج بإسناده عن الشافعيّ رحمه الله قال: نزلت فريضة الحجّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة، وافتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في شهر رمضان، وانصرف عنها في شوال، واستَخْلَف عليها عَتّاب بن أَسِيد رضي الله عنه، فأقام الحج للمسلمين بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قادرٌ على أن يحج، وأزواجه، وعامة أصحابه، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تبوك، فبعث أبا بكر رضي الله عنه، فأقام الحج للناس سنة تسع، ورسول الله عليه السلام بالمدينة قادر على أن يحجّ، لم يحج هو، ولا أزواجه، ولا أحد من أصحابه، حتى حج سنة عشر، فاستدللنا على أن الحج فرضه مرةً في العمر، أوله البلوغ، وآخره أن يأتي به قبل موته.
قال البيهقيّ رحمه الله: وهذا الذي ذكره الشافعيّ رحمه الله موجود في الأخبار والتواريخ، أما ما ذكره من نزول فريضة الحج بعد الهجرة، فكما قال، واستَدَلّ أصحابنا بحديث كعب بن عجرة رضي الله عنه المذكور هنا على أنها نزلت زمن الحديبية، ثم أخرج حديث كعب رضي الله عنه. انتهى كلام البيهقيّ رحمه الله
(2)
، وهو بحثٌ مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
8 -
(ومنها): أنه وقع في رواية للبخاريّ من طريق ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد:"فأمره أن يَحْلِق، وهو بالحديبية، ولم يتبيّن لهم أنهم يُحِلّون بها، وهم على طمع أن يدخلوا مكة".
(1)
"الفتح" 5/ 74.
(2)
"السنن الكبرى" للبيهقيّ رحمه الله 4/ 341.
قال في "الفتح": هذه الزيادة ذكرها الراوي لبيان أن الحلق كان استباحة محظور بسبب الأذى، لا لقصد التحلل بالحصر، وهو واضح، قال ابن المنذر: يؤخذ أن من كان على رجاء من الوصول إلى البيت أن عليه أن يقيم حتى ييأس من الوصول فيحلّ، واتفقوا على أن من يئس من الوصول، وجاز له أن يحلّ، فتمادى على إحرامه، ثم أمكنه أن يصل أن عليه أن يمضي إلى البيت ليُتمّ نسكه.
وقال المهلَّب وغيره ما معناه: يستفاد من قوله: "ولم يتبيّن لهم أنهم يحلّون" أن المرأة التي تعرف أوان حيضها، والمريض الذي يعرف أوان حُمّاه بالعادة فيهما إذا أفطرا في رمضان مثلًا في أول النهار، ثم انكشف الأمر بالحيض، والحمّى في ذلك النهار أن عليهما قضاء ذلك اليوم لأن الذي كان في علم الله أنهم يحلّون بالحديبية لم يُسْقِط عن كعب الكفارة التي وجبت عليه بالحلّ قبل أن ينكشف الأمر لهم، وذلك لأنه يجوز أن يتخلف ما عرفاه بالعادة، فيجب القضاء عليهما لذلك، قاله في "الفتح"
(1)
، وهو بحثٌ مفيدٌ، والله تعالى أعلم.
9 -
(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: وقد تبيّن بمجموع روايات هذا الحديث: أنهْ كان محرمًا، وأنه لما أباح له الحلق أعلمه بما يترتب على ذلك من الفدية، وأنها ثلاثة أنواع مخيَّر بينها، وأن الصيام ثلاثة أيام، وأن الإطعام لستة مساكين: مُدَّين، مُدَّين لكل مسكين، وأن النسك شاة، فصار هذا الحديث مفسرًا لما في قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا
…
} الآية، من مجمل، وصار هذا الحديث مع الآية أصلًا: في أن المحرم إذا استباح شيئًا من ممنوعات الإحرام التي لا تفسده، فانتفع بذلك، لزمته الفدية. قال أحمد بن صالح: حديث كعب بن عجرة معمول به عند الجميع.
قال القاضي عياض: ولم يقع في شيء منه خلاف إلا في الإطعام، فروي عن أبي حنيفة، والثورى: أن الصاع إنما هو في التمر والشعير، وأما البر: فنصف صاع، وعن أحمد رواية: مُدّ من البر، ونصف صاع من غيره،
(1)
"الفتح" 5/ 74 - 75.
وكذلك روي عن الحسن، وعن بعض السَّلف: أن الإطعام لعشرة مساكين، والصيام عشرة أيام، ولم يتابعوا عليه. واتفق غير هؤلاء وكل من جاء بعدهم: على إطعام ستة مساكين، وصيام ثلاثة أيام.
قال القرطبيّ: وتلك الأقوال كلها مخالفة لنص الحديث المتقدم، وهو حجة على كل من خالفه.
قال: ويستوي عندنا لزوم الفدية في حق العامد، والناسي، والمخطئ، وخالف في الناسي الشافعي في أحد قوليه، وداود وإسحاق؛ فقالا: لا دم عليه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في الصوم والإطعام في فدية الأذى:
قال الإمام ابن عبد البرّ رحمه الله: كل من ذَكَر النسك في هذا الحديث مُفَسَّرًا فإنما ذكره بشاة، وهو أمر لا خلاف فيه بين العلماء، وأما الصوم والإطعام فاختلفوا فيه، فجمهور فقهاء المسلمين على أن الصوم ثلاثة أيام، وهو محفوظ صحيح في حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه هذا.
وجاء عن الحسن، وعكرمة، ونافع أنهم قالوا: الصوم في فدية الأذى عشرة أيام، والإطعام عشرة مساكين، ولم يقل أحد بهذا من فقهاء الأمصار، ولا أئمة الحديث، وقد جاء من رواية أبي الزبير، عن مجاهد، عن عبد الرحمن، عن كعب بن عُجرة، أنه حدّثه أنه كان أهلّ في ذي القعدة، وأنه قَمِلَ رأسه، فأتى عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو يوقد تحت قِدْر له، فقال له:"كأنك يؤذيك هوام رأسك؟ " فقال: أجل، قال:"احلق، وأهد هديًا"، فقال: ما أجد هديًا، قال:"فأطعم ستة مساكين"، فقال: ما أجد، قال:"صم ثلاثة أيام".
قال ابن عبد البرّ: كان ظاهر هذا الحديث على الترتيب، وليس كذلك، ولو صح هذا كان معناه الاختيار أوّلًا فأولًا، وعامة الآثار عن كعب بن عجرة رضي الله عنه وردت بلفظ التخيير، وهو نصُّ القرآن، وعليه مضى عمل العلماء
(1)
"المفهم" 3/ 287 - 288.
في كل الأمصار، وفتواهم، وبالله تعالى التوفيق. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله، وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في الإطعام في فدية الأذى:
(اعلم): أنهم اختلفوا في ذلك، فقال مالك، والشافعيّ، وأبو حنيفة، وأصحابهم: الإطعام في ذلك مُدّان بمدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم
(1)
، وهو قول أبي ثور، وداود.
ورُوي عن الثوريّ أنه قال: في الفدية من البرّ نصف صاع، ومن التمر والشعير والزبيب صاع، ورُوي عن أبي حنيفة أيضًا مثله، جَعَل نصف صاع برّ عدل صاع تمر.
قال ابن المنذر: وهذا غلطٌ؛ لأن في رواية مسلم من طريق أبي قلابة عن ابن أبي ليلى، عن كعب أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له:"أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين".
وقال أحمد بن حنبل مرةً كما قال مالك، والشافعيّ، ومرةً قال: إن أطعم بُرًّا فمُدّ لكل مسكين، وإن أطعم تمرًا فنصف صاع. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: الأرجح هو ما قاله الأولون من أن الواجب مُدّان لكل مسكين؛ لوضوح النصّ فيه، وأما المخالفون له، فلم يأتوا بحجة مقنعة، فتبصّر.
[تنبيه]: لا يجزئ أن يُغَدِّي المساكين، ويُعَشِّيهم في كفارة الأذى حتى يعطي كل مسكين مُدّين بمد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبذلك قال مالك، والثوريّ، والشافعيّ، ومحمد بن الحسن، وقال أبو يوسف: يجزيه أن يغدِّيهم ويُعَشِّيهم
(2)
، وهو مخالف لظاهر النصّ، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
قدّر العلماء المعاصرون الصاع النبويّ بالمعيار المعاصر، فقال الشيخ البسّام رحمه الله في "توضيح الأحكام" 3/ 78: الصاع النبويّ (2500) غرامًا من الحنطة الرزينة الجيّدة. انتهى.
(2)
"الجامع لأحكام القرآن" 2/ 384.
(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في موضع الفدية المذكورة:
(اعلم): أنهم اختلفوا في ذلك، فقال عطاء: ما كان من دم فبمكة، وما كان من طعام، أو صيام فحيث شاء، وبنحو ذلك قال أصحاب الرأي، وعن الحسن: أن الدم بمكة، وقال طاوس، والشافعيّ: الإطعام والدم لا يكونان إلا بمكة، والصوم حيث شاء؛ لأن الصيام لا منفعة فيه لأهل الحرم، وقد قال الله سبحانه وتعالى:{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]، رفقًا لمساكين جيران بيته، فالإطعام فيه منفعة، بخلاف الصيام، والله أعلم.
وقال مالك: يفعل ذلك أين شاء، وهو الصحيح من القول، وهو قول مجاهد، والذبح هنا عند مالك نُسُك، وليس بهدي؛ لنص القرآن والسنة، والنسك يكون حيث شاء، والهدي لا يكون إلا بمكة
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما قاله الأولون من أن الدم يتعيّن كونه بمكة هو الأرجح، لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم صحّ عنه أنه سمّاه هديًا، فقد وقع في رواية البخاريّ:"أو تُهد شاةً"، وفي رواية لمسلم:"وأهد هديًا"، وفي رواية للطبرانيّ:"هل لك هدي؟ "، قاله في "الفتح"، وقد قال الله تعالى:{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} ، فالحقّ ما قالوه من تعيّنه بمكة، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2878]
(
…
) - (حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرِ السَّعْدِيُّ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَن ابْنِ عُلَيَّةَ، عَن أَيُّوبَ، في هَذَا الْإِسْنَاد، بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْراهِيمَ) الدورقيّ، تقدّم قبل باب.
3 -
(ابْنُ عُلَيّةَ) إسماعيل بن إبراهيم، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في السند الماضي والباب الذي قبله.
(1)
راجع: "الجامع لأحكام القرآن" 2/ 385 - 386.
[تنبيه]: رواية ابن عُليّة، عن أيوب هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى" (2/ 447) فقال:
(4110)
- أخبرني عليّ بن حُجْر، قال: أنبأ إسماعيل، عن أيوب، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، قال: أتى عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، وأنا أُوقد تحت قدر، والقمل يتناثر على جبهتي، أو حاجبي، فقال:"أتؤذيك هوامّك؟ " فقلت: نعم، قال:"فاحلق رأسك، وانسِك نَسِيكةً، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين"، قال: لا أدري ما بهن بدأ. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2879]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَن ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: فِيَّ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَو بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَو صَدَقَةٍ أَو نُسُكٍ}، قَالَ: فَأَتَيْتُهُ، فَقَالَ: "ادْنُهْ"، فَدَنَوْتُ، فَقَالَ: "ادْنُهْ"، فَدَنَوْتُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟ " قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: وَأَظُنُّهُ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَمَرَني بِفِدْيَةٍ، مِنْ صِيَامٍ، أَو صَدَقَةٍ، أَو نُسُكٍ مَا تيَسَّرَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، نُسب لجدّه، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ [9](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.
3 -
(ابْنُ عَوْنٍ) هو: عبد الله بن عون بن أَرْطبان، أبو عون البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [5](ت 150) على الصحيح (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة"جـ 1 ص 303.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: ("ادْنُهْ) فعل أمر من دنا يدنو دُنُوًّا، والهاء للسكت، كما قال في "الخلاصة":
وَقِفْ بِهَا السَّكْتِ عَلَى الْفِعْلِ الْمُعَلْ
…
بِحَذْفِ آخِرٍ كَـ "أَعْطِ مَنْ سَأَلْ"
وَلَيْسَ حَتْمًا فِي سِوَى مَا كَـ "عِ" أَو
…
كَـ "يَعِ" مَجْزُومًا فَرَاعِ مَا رَاعَوْا
وقوله: ("أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟ ") بتشديد الميم: جمع هامّة، وهي ما يدِبّ من الأحشاش، وهو القمل هنا.
وقوله: (قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: وَأَظُنُّهُ قَالَ: نَعَمْ) الضمير في "أظنّه"، وفي "قال: نعم" لكعب بن عُجرة رضي الله عنه، وأشار ابن عون بذلك إلى أنه شكّ في هذا دون ما قبله.
وقوله: (أَو نُسُكٍ مَا تَيَسَّرَ) بجرّ نسك عطفًا على "صيام"، وهو منوّن، وليس مضافًا إلى "ما تيسّر"، والمراد بما تيسّر هنا هي الشاة، كما في فُسّر في الروايات الأخرى.
قال النوويّ رحمه الله بعد إيراد روايات الباب: هذه روايات الباب، وكلها متفقة في المعنى، ومقصودها أن من احتاج إلى حلق الرأس لضرر، من قمل، أو مرض، أو نحوهما فله حلقه في الإحرام، وعليه الفدية، قال الله تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَو بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَو صَدَقَةٍ أَو نُسُكٍ} ، وبَيَّن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن الصيام ثلاثة أيام، والصدقة ثلاثة آصع لستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، والنسك شاة، وهي شاة تجزئ في الأضحية، ثم إن الآية الكريمة، والأحاديث متفقة على أنه مُخَيَّر بين هذه الأنواع الثلاثة، وهكذا الحكم عند العلماء، أنه مخير بين الثلاثة، وأما قوله في رواية:"هل عندك نسك؟ " قال: ما أقدر عليه، فأمره أن يصوم ثلاثة أيام، فليس المراد به أن الصوم لا يجزئ إلا لعادم الهدي، بل هو محمول على أنه سال عن النسك، فإن وجده أخبره بأنه مخير بينه وبين الصيام والإطعام، وإن عَدِمه فهو مخير بين الصيام والإطعام.
قال: واتفق جماهير العلماء على القول بظاهر هذا الحديث، إلا ما حُكي عن أبي حنيفة، والثوريّ أن نصف الصاع لكل مسكين إنما هو في الحنطة، فأما التمر والشعير وغيرهما، فيجب صاع لكل مسكين، وهذا خلاف نصّه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ثلاثة آصع من تمر.
وعن أحمد بن حنبل روايةٌ أنه لكل مسكين مُدّ من حنطة، أو نصف صاع من غيره، وعن الحسن البصريّ، وبعض السلف أنه يجب إطعام عشرة
مساكين، أو صوم عشرة أيام، وهذا ضعيفٌ، منابذٌ للسنة، مردودٌ. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2880]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سَيْفٌ، قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا، يَقُولُ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى، حَدَّثَنِي كعْبُ بْنُ عُجْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ عَلَيْه، وَرَأْسُهُ يَتَهَافَتُ قَمْلًا، فَقَالَ: "أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: "فَاحْلِقْ رَأْسَكَ"، قَالَ: فَفِئ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَو بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَو صَدَقَةٍ أَو نُسُكٍ}، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَو تَصَدَّقْ بِفَرَقٍ، بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، أَو انْسُكْ مَا تيَسَّرَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
3 -
(سَيْفُ) بن سليمان، أو ابن أبي سليمان المخزوميّ المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، سكن البصرة أخيرًا [6] مات بعد (150)(خ م د س ق) تقدم في "الصلاة" 16/ 906.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه مسلسلٌ بالتحديث والسماع من أوله إلى آخره.
وقوله: (وَقَفَ عَلَيْهِ) أي: اطّلع على كعب رضي الله عنه.
وقوله: (يَتَهَافَتُ قَمْلًا) أي: يتساقط، و"قَمْلًا" تمييز محوّلٌ عن الفاعل، والأصل يتهافت قمل رأسه.
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 121.
قال الفيّوميّ رحمه الله: هَفَتَ الشيءُ يَهْفِتُ، من باب ضرب: خَفّ، وتطاير، وتهافت الْفَرَاشُ في النار من ذلك: إذا تطاير، وتهافت الناس على الماء: إذا ازدحموا، قال ابن فارس: التهافتُ: التساقطُ شيئًا بعد شيء، وقال الجوهريّ: التهافتُ: التساقط قطعةً قطعةً. انتهى
(1)
.
وقوله: (بِفَرَقٍ) بفتح الفاء والراء، وقد تسكن، قاله ابن فارس، وقال الأزهريّ: كلام العرب بالفتح، والمحدِّثون قد يسكنونه، وآخره قاف: مكيال معروف بالمدينة، وهو ستة عشر رطلًا، ووقع في رواية ابن عيينة، عن ابن أبي نَجِيح، عند أحمد وغيره:"الفرق ثلاثة آصع"، وفي الرواية الآتية بعد حديث من طريق أبي قلابة، عن ابن أبي ليلى:"أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين"، وإذا ثبتٌ أن الفَرَق ثلاثة آصع، اقتضى أن الصاع خمسة أرطال وثلث، خلافًا لمن قال: إن الصاع ثمانية أرطال، أفاده في "الفتح"
(2)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2881]
(
…
) - (وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثنَا سُفْيَانُ، عَن ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، وَأَيُّوبَ، وَحُمَيْدٍ، وَعَبْدِ الْكَرِيم، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَن ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِه، وَهُوَ بِالْحُدَيْبِيَة، قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَهُوَ يُوقِدُ تَحْتَ قِدْرٍ، وَالْقَمْلُ يَتَهَافَتُ عَلَى وَجْهِه، فَقَالَ: "أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ هَذِهِ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَاحْلِقْ رَأسَكَ، وَأَطْعِمْ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ - وَالْفَرَقُ ثَلَاثَةُ آصُعٍ - أَو صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَو انْسُكْ نَسِيكَةً"، قَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ: "أَو اذْبَحْ شَاةً").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ) بن أبي يحيى العدنيّ، ثم المكيّ، تقدّم في الباب الماضي.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 638 - 639.
(2)
"الفتح" 5/ 70.
2 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
3 -
(ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ) هو: عبد الله بن أبي نَجِيح يسار الثقفيّ مولاهم، أبو يسار المكيّ، ثقةٌ رُمي بالقدر، وربّما دلّس [6](ت 131) أو بعدها (ع) تقدم في "الجنائز" 6/ 2134.
4 -
(وَحُمَيْدُ) بن قيس الأعرج القارئ الأسديّ مولاهم، وقيل: مولى عفراء، أبو صفوان المكيّ، ليس به بأس [6].
رَوَى عن مجاهد، ومحمد بن إبراهيم التيميّ، وعمرو بن شعيب، والزهريّ، ومحمد بن المنكدر، وصفية بنت أبي عبيد، وغيرهم.
ورَوَى عنه السفيانان، ومالك، وأبو حنيفة، ومعمر، وجعفر الصادق، وجعفر بن سليمان الضُّبَعيّ، وجماعة.
قال ابن سعد: كان ثقةً، كثير الحديث، وكان قارئ أهل مكة، وقال أبو طالب: سألت أحمد عنه، فقال: هو ثقةٌ، هو أخو سندل، وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: ليس هو بالقويّ في الحديث، وقال المفضل الغلابيّ، عن ابن معين: ثَبْتٌ، روى عنه مالك، وأخوه سندل لبس بثقة، وقال الدُّوريّ وغيره، عن ابن معين: حميد بن قيس الأعرج ثقة، وحميد الذي رَوَى عنه خلف بن خليفة ليس بشيء، وقال أبو زرعة: حميد الأعرج ثقةٌ، وقال أبو حاتم: مكيّ ليس به بأس، وابن أبي نجيح أحبّ إلي منه، وقال أبو زرعة الدمشقيّ: حميد بن قيس من الثقات، وقال أبو داود: ثقةٌ، وقال النسائيّ: ليس به بأسٌ، وقال ابن خِرَاش: ثقةٌ صدوقٌ، وقال العجليّ: مكيّ ثقةٌ، وقال الترمذيّ في "العلل الكبير": قال البخاريّ: هو ثقةٌ، وكذا قال يعقوب بن سفيان، وقال ابن عديّ: لا بأس بحديثه، وإنما يؤتى مما يقع في حديثه من الإنكار من جهة من يروي عنه.
قال ابن حبان: مات سنة (130)، وقال ابن سعد: توفي في خلافة أبي العباس.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم (1201) و (1536):"نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع السنين"، و (1554):"أمر بوضع الجوائح".
5 -
(عَبْدِ الْكَرِيمِ) بن مالك الْجَزَريّ الأمويّ مولاهم، أبو سعيد الْخِضْرميّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ [5](ت 127)(ع) تقدم في "الصيام" 15/ 2609.
والباقون ذُكروا في الباب، و"أيوب" هو: السختيانيّ.
وقوله: (وَأَطْعِمْ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ) أي: مقسومة على ستة مساكين.
وقوله: (وَالْفَرَقُ ثَلَاثَةُ آصُعٍ) قال النوويّ رحمه الله: "الآصع": جمع صاع، وفي الصاع لغتان: التذكير والتأنيث، وهو مكيال يسع خمسة أرطال وثلثًا بالبغداديّ، هذا مذهب مالك، والشافعيّ، وأحمد، وجماهير العلماء، وقال أبو حنيفة: يسع ثمانية أرطال، وأجمعوا على أن الصاع أربعة أمداد.
قال: وهذا الذي قدّمناه من أن الآصع جمع صاع صحيح، وقد ثبتٌ استعمال الآصع في هذا الحديث الصحيح، من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك هو مشهور في كلام الصحابة، والعلماء بعدهم، وفي كتب اللغة، وكتب النحو والتصريف، ولا خلاف في جوازه وصحته.
وأما ما ذكره ابن مكيّ في كتابه "تثقيف اللسان": أن قولهم في جمع الصاع: آصع لحنٌ من خطأ العوامّ، وأن صوابه أَصْوُعٌ فغلط منه، وذُهُول وعجبٌ قوله هذا مع اشتهار اللفظة في كتب الحديث واللغة والعربية، وأجمعوا على صحتها، وهو من باب المقلوب، قالوا: فيجوز في جمع صاع آصُعٌ، وفي دار آدُرٌ، وهو باب معروف في كتب العربية؛ لأن فاء الكلمة في آصع صاد، وعينها واوٌ، فقُلِبت الواو همزة، ونقلت إلى موضع الفاء، ثم قُلِبت الهمزة ألفًا حين اجتمعت هي وهمزة الجمع، فصار آصُعًا، ووزنه عندهم أَعْفُل، وكذلك القول في آدُر ونحوِه. انتهى
(1)
.
وقوله: (أَو انْسُكْ نَسِيكَةً) وفي رواية: "ما تَيَسَّر"، وفي رواية: شاةً، والجميع بمعنى واحد، وهو شاةٌ، وشرطها أن تجزئ في الأضحية، ويقال للشاة وغيرها مما يجزئ في الأضحية: نَسِيكة، ويقال: نِسَكَ يَنْسِك: بضم السين وكسرها في المضارع، والضم أشهر.
وقوله: (قَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ: أَو اذْبَحْ شَاةً) أشار به إلى الاختلاف الواقع
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 122.
بين شيوخ ابن عيينة الأربعة، فقد اتّفق الثلاثة: أيوب السختيانيّ، وحُميد بن قيس، وعبد الكريم الجزريّ، على:"أو انسك نسيكة"، وخالفهم ابن أبي نجيح، فقال:"أو اذبخ شاةً"، والمعنى واحد.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2882]
(
…
) - (وَحَدَّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الله، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه: أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِهِ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَة، فَقَالَ لَهُ: "آذَاكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟ " قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "احْلِقْ رَأسَكَ، ثُمَّ اذْبَحْ شَاةً نُسُكًا، أَو صُمْ ثَلَاَثةَ أَيَّامٍ، أَو أَطْعِمْ ثَلَاَثةَ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ، عَلَى سِتَّةِ مَسَاكينَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عبد الرحمن بن يزيد الطحّان المزنيّ مولاهم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 407.
2 -
(خَالِدُ) بن مِهْران الْحَذّاء، أبو الْمَنَازل البصريّ، ثقةٌ يرسل، تغيّر حفظه لَمّا قَدِمَ من الشام [5](ت 1 أو 142)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.
3 -
(أَبُو قِلَابَةَ) عبد الله بن زيد بن عمرو، أو عامر الْجَرْميّ البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، كثير الإرسال، فيه نَصْبٌ يسير [3](ت 104) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2883]
(
…
) - (وَحَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ الْأَصبَهَانِيِّ، عَنْ
عَبْدِ اللهِ بْنِ مَعْقِلٍ، قَالَ: قَعَدْتُ إِلَى كعْبٍ رضي الله عنه، وَهُوَ فِي الْمَسْجِد، فَسَأَلْتُهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ:{فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَو صَدَقَةٍ أَو نُسُكٍ} ، فَقَالَ كعْبٌ رضي الله عنه: نَزَلَتْ فِيَّ، كَانَ بِي أَذًى مِنْ رَأسِي، فَحُمِلْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ: "مَا كُنْتُ أُرَى أَن الْجَهْدَ بَلَغَ مِنْكَ
(1)
مَا أَرَى، أتجِدُ شَاةً؟ " فَقُلْتُ: لَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:{فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَو صَدَقَةٍ أَو نُسُكٍ} ، قَالَ:"صَوْمُ ثَلَاَثةِ أيَّامٍ، أَو إِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، نِصْفَ صَاعٍ طَعَامًا، لِكُلِّ مِسْكِينٍ"، قَالَ: فَنَزَلَتْ فِفي خَاَصَّةً، وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ الْأَصبَهَانِيِّ) هو: عبد الرحمن بن عبد الله بن الأصبهانيّ الجهنيّ، ويقال الجدليّ، كان يتّجر إلى أصبهان الكوفيّ، ثقةٌ [4].
رَوَى عن أنس، وأبي حازم الأشجعيّ، وعكرمة، وزيد بن وهب، وأبي صالح السمّان، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، والشعبيّ، وعبد الله بن مَعْقل بن مُقَرِّن، وغيرهم.
وروى عنه ابن أخيه محمد بن سليمان، وإسماعيل بن أبي خالد، وهو من أقرانه، وابن إسحاق، وشعبة، والثوريّ، وشريك، وأبو عوانة، وابن عيينة، وجماعة.
قال ابن معين، وأبو زرعة، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: لا بأس به، صالح الحديث، وقال العجليُّ: ثقةٌ، وقال البخاريّ في "التاريخ الكبير": أصله من أصبهان حين افتتحها أبو موسى، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات في إمارة خالد القَسْريّ على العراق.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط هذا برقم (1201) وأعاده بعده، وحديث (2634): "ما منكن من امرأة تُقدّم بين يديها من ولدها ثلاثةً
…
".
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَعْقِلِ) - بفتح أوله، وسكون المهملة، بعدها قاف - ابن
(1)
وفي نسخة: "بلغ بك".
مُقَرِّن المزنيّ، أبو الوليد الكوفيّ، ثقةٌ، من كبار [3](ت 88)(ع) تقدم في "الزكاة" 20/ 2347.
والباقون ذُكروا في الباب والذي قبله.
وقوله: (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ) قال في "الفتح": ولشعبة في هذا الحديث إسناد آخر، أخرجه الطبرانيّ، من طريق حفص بن عُمر، عنه، عن أبي بِشْر، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن كعب رضي الله عنه.
وقوله: (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَعْقِلٍ) في رواية أحمد: سمعت عبد الله بن معقل، أخرجه عن عفان، وعن بهز، فَرّقَهما عن شعبة، حدّثنا عبد الرحمن، وهو بفتح الميم، وسكون المهملة، وكسر القاف، هو ابن مُقَرِّن بالقاف، وزن محمد، لكن بكسر الراء، لأبيه صحبة، وهو من ثقات التابعين بالكوفة، وليس له في البخاريّ سوى هذا الحديث، وأخر عن عديّ بن حاتم، وله عند مسلم ثلاثة أحاديث، حديث كعب هذا، وحديث عديّ بن حاتم: "من استطاع منكم أن يستتر من النار، ولو بشقّ تمرة
…
"، وحديث الضحاك بن ثابت في المزارعة، مات سنة ثمان وثمانين من الهجرة.
[تنبيه]: عبد الله بن مَعْقِل هذا يلتبس بعبد الله بن مُغَفَّل بالغين المعجمة، وزن محمد، ويجتمعان في أن كلًّا منهما مُزَنيّ، لكن يفترقان بأن الراوي عن كعب تابعيّ، والآخر صحابيّ، وفي التابعين من اتفق مع الراوي عن كعب في اسمه واسم أبيه ثلاثة: أحدهم يروي عن عائشة رضي الله عنها، وهو محاربيّ، والآخر يروي عن أنس رضي الله عنه في المسح على العمامة، وحديثه عند أبي داود، والثالث أصغر منهما، أخرج له ابن ماجه، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقوله: (قَعَدْتُ إِلَى كعْبٍ رضي الله عنه) ولفظ البخاريّ: "جلست إلى كعب بن عجرة".
وقوله: (وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ) ولأحمد عن بهز: "قعدت إلى كعب بن عجرة في هذا المسجد"، وزاد في رواية سليمان بن قَرْم، عن ابن الأصبهانيّ:"يعني مسجد الكوفة".
(1)
"الفتح" 5/ 71.
وفيه الجلوس في المسجد، ومذاكرة العلم، والاعتناء بسبب النزول؛ لما يترتب عليه من معرفة الحكم، وتفسير القرآن.
وقوله: (مَا كُنْتُ أُرَى أَنَّ الْجَهْدَ بَلَغَ مِنْكَ
(1)
مَا أَرَى) "أُرَى" الأولى بضم الهمزة؛ أي: أظن، و"أَرَى" الثانية بفتح الهمزة من الرؤية، والجهد بالفتح: المشقة، قال النوويّ: والضم لغة في المشقة أيضًا، وكذا حكاه عياض عن ابن دُريد، وقال صاحب "العين": بالضم الطاقة، وبالفتح المشقة، فيتعين الفتح هنا بخلاف لفظ الجهد الماضي في حديث بدء الوحي، حيث قال:"حتى بلغ مني الجهد"، فإنه محتمل للمعنيين.
وفي رواية البخاريّ: "ما كنت أُرى الوجع بلغ بك ما أَرى، أو ما كنت أرى الجهد بلغ بك"، وهو شكّ من الراوي، هل قال: الوجع، أو الجهد، وفي رواية المستملي والحمويّ:"يبلغ بك".
وقوله: (نِصْفَ صَاعٍ طَعَامًا، لِكُلِّ مِسْكِينٍ) وللبخاريّ: "لكل مسكين نصف صاع"، كررها مرتين، وللطبرانيّ:"لكل مسكين نصف صاع تمر"، ولأحمد:"نصف صاع طعام"، وفي رواية:، نصف صاع حنطة"، ورواية الحكم عن ابن أبي ليلى تقتضي أنه نصف صاع من زبيب، فإنه قال: "يطعم فرقًا من زبيب بين ستة مساكين". قال ابن حزم: لا بُدّ من ترجيح إحدى هذه الروايات؛ لأنها قصة واحدة في مقام واحد في حق رجل واحد، وقد تقدّم وجه التوفيق، وبالله تعالى الوفيق.
وقوله: (قَالَ: فَنَزَلَتْ فِيِّ خَاصَّةً، وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً) أشار كعب بن عُجرة رضي الله عنه بهذا إلى القاعدة المشهورة، وهي أن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، فإن الآية تنزل بسبب قضيّة شخص واحد، أو أشخاص معيَّنين، فيكون حكمها عامًّا لجميع الأمة.
والحديث متفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
وفي نسخة: "بلغ بك".
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2884]
(
…
) - (وَحَذَثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ زَكَرِيَّاءَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، حَدثنَا عَبْد الرَّحْمنِ بْنُ الْأَصْبَهَانِيّ، حَدَّثَني عَبْدُ اللهِ بْنُ مَعْقِلٍ، حَدَّثَني كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُحْرِمًا، فَقَمِلَ رَأسُهُ وَلِحْيَتُهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَرْسَلَ إِلَيْه، فَدَعَا الْحَلَّاقَ، فَحَلَقَ رَأسَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: "هَلْ عِنْدَكَ نُسُكٌ؟ " قَالَ: مَا أَقْدِرُ عَلَيْه، فَأَمَرَهُ أَنْ يَصُومَ ثَلَاَثةَ أَيَّام، أَو يُطْعِمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينَيْنِ صَاعٌ، فَأَنزَلَ اللهُ فِيهِ خَاصَّةً: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَو بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ}، ثُمَّ كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(زَكَرِيَّاءُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ) خالد، ويقال: هُبيرة بن ميمون بن فَيْرُوز الْهَمْدانيّ الوَادعيّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ، يدلّس [6](ت 7 أو 8 أو 149)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 449.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (خَرَجَ مَعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم مُحْرِمًا) أي: بالعمرة زمن الحديبية.
وقوله: (فَقَمِلَ رَأسُهُ وَلحْيَتُهُ) تقدّم أنه من باب تَعِب؛ أي: كثُر قملهما.
وقوله: (هَلْ عِنْدَكَ نُسُكٌ؟) أي: شاة تذبحها فدية للأذى.
وقوله: (لِكُلِّ مِسْكِينَيْنِ صَاعٌ) بصيغة التثنية، وقد تقدّم أنه تصحّف في بعض النسخ إلى: لكلّ مسكين بالإفراد، وهو غلط.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(11) - (بَابُ جَوَازِ الْحِجَامَةِ لِلْمُحْرِمِ)
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2885]
(1202) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ، وَعَطَاءٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن راهويه تقدّم قبل بابين.
2 -
(عَمْرُو) بن دينار، تقدّم قريبًا.
3 -
(طَاوُسُ) بن كيسان، تقدّم قبل بابين.
4 -
(عَطَاءُ) بن أبي رَبَاح أسلم، تقدّم قريبًا.
5 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما، تقدّم قبل بابين.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتحاد كيفية أخذه عنهم، ثم فصّل؛ لاختلافهم فيها.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيوخه، فالأولان ما أخرج لهما الترمذيّ، والثالث ما أخرج له ابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمكيين، غير شيوخه، فالأول كوفيّ، والثاني بغداديّ، والثالث مروزيّ، وطاوس يمانيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّين.
5 -
(ومنها): أن فيه ابن عبّاس رضي الله عنهما من المكثرين السبعة، والعبادلة الأربعة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ) أي: فعل الحجامة، قال في "اللسان": الحَجْم: المصّ، يقال: حَجَمَ الصبيُّ ثديَ أمه: إذا مصّه، وما حَجَمَ الصبيّ ثدي أمه؛ أي: ما مصّه، وثديٌ محجوم؛ أي: ممصوص، والحجّام: المصّاص، قال الأزهريّ: يقال للحجّام حجام؛ لامتصاصه فم الْمِحجمة، وقد حَجَم يحجِمُ، ويحجُم - أي: من بابي ضرب، ونصر - حَجْمًا، قال الأزهريّ: المِحجمة: قارورته، وتطرح الهاء، فيقال: مِحجَمٌ، وجمعه مَحَاجم، قال زُهَيرٌ:
وَلَمْ يُهَرِيقُوا بَيْنَهُمْ مِلْءَ مِحْجَمِ
وقال ابن الأثير: المِحْجَم الآلة التي يجمع فيها دم الحجامة عند المصّ. انتهى باختصار. (وَهُوَ مُحْرِمٌ) جملة في محل نصب على الحال من الفاعل، زاد ابن جريج، عن عطاء:"صائم بِلَحْي جَمَلٍ"، وزاد زكريا بن إسحاق:"على رأسه"، وهذه الزيادات موافقة لحديث اَبن بُحينة التالي، بلفظ:"احتجم بطريق مكة وسط رأسه".
[تنبيه]: روى البخاريّ رحمه الله هذا الحديث، ونصّه:
(1835)
- حدّثنا عليّ بن عبد الله، حدّثنا سفيان، قال: قال لنا عمرو: أولُ شيء سمعت عطاء يقول: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو محرم، ثم سمعته يقول: حدّثني طاوس، عن ابن عباس، فقلت: لعله سمعه منهما. انتهى.
قال في "الفتح": قوله: "قال لنا عمرو: أولُ شيء" أي: أول مرة، في رواية الحميديّ، عن سفيان: حدّثنا عمرو، وهو ابن دينار، أخرجه أبو نعيم، وأبو عوانة، من طريقه.
وقوله: "ثم سمعته" هو مقول سفيان، والضمير لعمرو، وكذا قوله:"فقلت: لعله سمعه"، وقد بَيَّنَ ذلك الحميديّ، عن سفيان، فقال: حدّثنا بهذا الحديث عمرو مرتين، فذكره، لكن قال: فلا أدري أسمعه منهما، أو كانت إحدى الروايتين وَهَمًا، زاد أبو عوانة: قال سفيان: ذُكر لي أنه سمعه منهما جميعًا، وأخرجه ابن خزيمة، عن عبد الجبار بن العلاء، عن ابن عيينة، نحو
رواية عليّ بن عبد الله، وقال في آخره: فظننت أنه رواه عنهما جميعًا، وقد أخرجه الإسماعيليّ من طريق سليمان بن أيوب، عن سفيان، قال: عن عمرو، عن عطاء، فذكره، قال: ثم حدّثنا عمرو، عن طاوس به، فقلت لعمرو: إنما كنت حدّثتنا عن عطاء، قال: اسكت يا صبيّ، لم أَغْلَط، كلاهما حدّثني.
قال الحافظ: فإن كان هذا محفوظًا، فلعل سفيان تردّد في كون عمرو سمعه منهما لَمّا خَشِي من كون ذلك صدر منه حالة الغضب، على أنه قد حدّث به فجمعهما، قال أحمد في "مسنده": حدّثنا سفيان، قال: قال عمرو أوّلًا، فحفظناه، قال طاوس: عن ابن عباس فذكره، فقال أحمد: وقد حدّثنا به سفيان، فقال: قال عمرو: عن عطاء، وطاوس، عن ابن عباس.
قلت
(1)
: وكذا جمعهما عن سفيان: مسدّد عند البخاريّ في "الطبّ"، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو خيثمة، وإسحاق ابن راهويه، عند مسلم، وقتيبة، عند الترمذيّ، والنسائيّ، وتابع سفيان على روايته له عن عمرو، لكن عن طاوس وحده زكريا بن إسحاق، أخرجه أحمد، وأبو عوانة، وابن خزيمة، والحاكم، وله أصل عن عطاء أيضًا، أخرجه أحمد، والنسائيّ، من طريق الليث، عن أبي الزبير، ومن طريق ابن جريج، كلاهما عنه. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 2885](1202)، و (البخاريّ) في "جزاء الصيد"(1835) و" الصوم"(1938) و"البيوع"(2103) و"الإجارة"(2278 و 2279) و"الطبّ"(5691 و 5695 و 5701)، و (أبو داود) في "المناسك"(1835 و 1836) و"الصوم"(2373)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(775 و 776 و 777)، و"الحج"(839)، و (النسائيّ) في "المناسك" (2846 و 2847
(1)
القائل: الحافظ ابن حجر رحمه الله.
(2)
"الفتح" 5/ 125 - 126.
و 2848) وفي "الكبرى"(3828 و 3829 و 3830)، و (ابن ماجه) في "الصوم"(1682) و"المناسك"(3081)، و (مالك) في "الموطّإ"(1/ 349)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 319)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 241)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 320 و 321 و 5/ 39)، و (الحميديّ) في "مسنده"(500)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 221 و 292 و 299 و 372 و 345)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 37)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2651 و 2657)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3951)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 211)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(442)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(3/ 51 و 9/ 29) و"الكبير"(10853 و 11500)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2360)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 293)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 412 و 413)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 239)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 623)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 263 و 5/ 65)، و"المعرفة"(4/ 33)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1984)، و (الضياء) في "المختارة"(6/ 44 و 7/ 12)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في أقوال أهل العلم في حكم الحجامة للمحرم:
قال القرطبي رحمه الله: لا خلاف بين العلماء في جواز الحجامة للمحرم حيث كانت من رأس، أو جسد للضرورة، وأما لغير الضرورة في جسده، حيث لا يحلق شعرًا، فجمهورهم على جوازه، ومالك يمنعه. واتفقوا على أنه إذا احتجم برأسه، فحلق لها شعرًا أنه يفتدي، وجمهورهم على أن حكم شعر الجسد كذلك، إلا داود، فإنه لا يرى في حلق شعر الجسد لضرورة الحجامة دمًا، والحسن يوجب عليه الدم بالحجامة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله.
وقال النوويّ رحمه الله: وفي هذا الحديث دليل لجواز الحجامة للمحرم، وقد أجمع العلماء على جوازها له في الرأس وغيره، إذا كان له عذر في ذلك، وإن قطع الشعر حينئذ، لكن عليه الفدية لقطع الشعر، فإن لم يقطع فلا فدية عليه، ودليل المسألة قوله تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَو بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} الآية، وهذا الحديث محمول على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان له عذر في الحجامة في وسط الرأس؛ لأنه لا ينفك عن قطع شعر، أما إذا أراد المحرم الحجامة لغير
حاجة، فإن تضمنت قلع شعر، فهي حرام؛ لتحريم قطع الشعر، وإن لم تتضمن ذلك بأن كانت في موضع لا شعر فيه، فهي جائزة عندنا، وعند الجمهور، ولا فدية فيها، وعن ابن عمر، ومالك كراهتها، وعن الحسن البصريّ: فيها الفدية، دليلنا أن إخراج الدم ليس حرامًا في الإحرام.
وفي هذا الحديث بيان قاعدة من مسائل الإحرام، وهي أن الحلق واللباس وقتل الصيد ونحو ذلك من المحرمات يباح للحاجة، وعليه الفدية، كمن احتاج إلى حلق أو لباس لمرض أو حرّ أو برد، أو قتل صيد للحاجة، وغير ذلك. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": إذا أراد المحرم الحجامة لغير حاجة، فإن تضمنت قطع شعر، فهي حرام؛ لقطع الشعر، وإن لم تتضمنه جازت عند الجمهور، وكرهها مالك، وعن الحسن: فيها الفدية، وإن لم يقطع شعرًا، وإن كان لضرورة جاز قطع الشعر، وتجب الفدية، وخصّ أهل الظاهر الفدية بشعر الرأس، وقال الداوديّ: إذا أمكن مسك المحاجم بغير حلق لم يجز الحلق.
واستُدِلّ بهذا الحديث على جواز الفصد، وبطّ الجرح
(2)
والدّمّل، وقطع العرق، وقلع الضرس، وغير ذلك من وجوه التداوي، إذا لم يكن في ذلك ارتكاب ما نُهي عنه المحرم من تناول الطيب، وقطع الشعر، ولا فدية عليه في شيء من ذلك. انتهى، وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2886]
(1203) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا الْمُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ الْأَعْرَجِ، عَن ابْنِ بُحَيْنَةَ: أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ بِطَرِيقِ مَكَةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَسَطَ رَأسِهِ).
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 123.
(2)
يقال: بطّ الجُرحَ: إذا شقه. "ق".
رجال هذا الإسناد: ستةٌ:
1 -
(الْمُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ) أبو يعلى الرازيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فقيهٌ سنّيّ، طُلب للقضاء، فامتنع، أخطأ من زعم أن أحمد رماه بالكذب [10](ت 211) على الصحيح (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 43.
2 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو أيوب المدني، ثقةٌ [8](ت 177)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.
3 -
(عَلْقَمَةُ بْنُ أَبِي عَلْقَمَةَ) واسمه بلال المدنيّ، مولى عائشة، وهو علقمة ابن أم علقمة، واسمها مَرْجانة - بفتح الميم - ثقةٌ عَلّامة [5].
رَوَى عن أمه مَرْجانة، وأنس بن مالك، وسعيد بن المسيِّب، والأعرج، وغيرهم.
وروى عنه عبد الرحمن بن أبي الزناد، ومالك، وسليمان بن بلال، والدّراورديّ، وحمزة بن عبد الواحد، وعبد العزيز بن عبد الله بن حمزة بن صهيب.
قال ابن معين، وأبو داود، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، لا بأس به، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد: مات في أول خلافة المنصور، وله أحاديث صالحة، وكان له كتاب، يُعَلِّم النحو، والعربية والعروض، وقال ابن حبان في "الثقات": مات في آخر خلافة أبي جعفر، وقد روى عن أنس أحرفًا، فلا أدري أدَلّسها أو سمعها منه؟
(1)
، وقال ابن عبد البرّ: كان ثقةٌ مأمونًا، واسم أمه مَرْجانة.
أخرج له الجماعة، وليس له عند الشيخين إلا هذا الحديث.
4 -
(عَبْدُ الرَّحْمنُ الْأَعْرَجُ) هو: ابن هُرْمُز، أبو داود المدنيّ، مولى ربيعة بن الحارث، ثقةٌ ثبت فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.
5 -
(ابْنُ بُحَيْنَةَ) هو: عبد الله ابن بُحَينة - بضم الموحدة، وفتح الحاء المهملة، بعدها ياء ساكنة، ثم نون، بعدها هاء - اسم أم عبد الله، ولذا كتبت
(1)
وقال في "الفتح" 5/ 126: هو مدنيّ تابعيّ صغير، سمع أنسًا. انتهى.
الألف في "ابن بُحينة"، وهو عبد الله بن مالك بن القِشْب الأزديّ، أبو محمد، حليف بني المطّلب، يعرف بابن بُحينة، الصحابيّ المعروف، مات رضي الله عنه بعد (50) ع) تقدم في "الصلاة" 46/ 1110.
وشيخه ذُكر قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخه، فقد أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فكوفيّ، وشيخ شيخه فبغداديّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ) في رواية النسائيّ من طريق محمد بن خالد، عن سليمان بن بلال:"أخبرني علقمة بن أبي علقمة"(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ الْأَعْرَج، عَن ابْنِ بُحَيْنَةَ) وفي رواية البخاريّ في "الطبّ" عن إسماعيل بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن علقمة أنه سمع عبد الرحمن الأعرج، أنه سَمِعَ عبد الله ابن بُحينة، وفي رواية النسائيّ:"قال: سمعتُ عَبْدَ اللهِ ابْنَ بُحَيْنَةَ رضي الله عنه، يُحَدِّثُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ، وَسَطَ رَأسِهِ. (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، وقوله: (وَسَطَ رَأسِهِ) بالنصب على أنه مفعول به و"احتجم"، لا منصوب على الظرفية.
قال الفيوميّ رحمه الله: يقال: ضربت وَسَطَ رأسه بالفتح؛ لأنه اسم لما يكتنفه من جهاته غير، ويصحّ دخول العوامل عليه، فيكون فاعلًا، ومفعولًا، ومبتدأ، فيقال: اتسع وسَطُهُ، وضربتُ وسَطَ رأسه، وجلستُ في وسَطِ الدار، ووسَطُهُ خيرٌ من طَرَفه، قالوا: والسكون فيه لغة.
وأما وَسْطٌ بالسكون، فهو بمعنى "بَيْنَ"، نحو جلست وسْطَ القوم؛ أي: بينهم. انتهى.
فتبيّن بهذا أن "وسَط" هنا نُصب على أنه مفعول به، وليس منصوبًا على الظرفية.
وقال النوويّ رحمه الله: "وسط الرأس" - بفتح السين - قال أهل اللغة: كلُّ ما كان يَبِين بعضه من بعض، كوسط الصفّ، والقِلادة، والسُّبْحة، وحَلْقة الناس، ونحو ذلك، فهو وَسْط بالإسكان، وما كان مُصْمَتًا لا يَبِين بعضُه من بعض؛ كالدار، والساحة، والرأس، والراحة، فهو وَسَطٌ بفتح السين، قال الأزهريّ، والجوهريّ، وغيرهما: وقد أجازوا في المفتوح الإسكان، ولم يجيزوا في الساكن الفتح. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "وسط رأسه" بفتح السين المهملة، ويجوز تسكينها؛ أي: متوسطه، وهو ما فوق اليأفوخ، فيما بين أعلى القرنين. قال الليث: كانت هذه الحجامة في فأس الرأس. وأما التي في أعلاه، فلا؛ لأنها ربما أعمت.
[تنبيه]: روى البخاريّ رحمه الله هذا الحديث بلفظ: "احتجَم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُحْرِمٌ بِلَحْي جَمَلٍ في وسط رأسه".
قالَ في "الفتح": وهو بفتح اللام، ويجوز كسرها، وسكون الحاء المهملة، وياء مثنّاة تحتيّة، وفي بعض الروايات:"بِلَحْيَيْ جَمَل" أي: بياءين بصيغة التثنية، و"جَمَل" - بفتح الجيم، والميم -: اسم موضع بطريق مكة، كما بيّنه هنا، قال الحافظ: ذكر البكريّ في "معجمه" في رسم العقيق، قال: هي بئر جمل التي ورد ذكرها في حديث أبي جهم في "التيمم"، وقال غيره - يعني ابن وضاح - هي عقبة الجحفة على سبعة من السُّقيا. انتهى.
وقال صاحب "القاموس": "لَحْيُ جمل": موضع بين الحرمين، وإلى المدينة أقرب، وزعم أن السقيا - بالضم -: موضع بين المدينة، ووادي الصفراء، وما ظنه بعضهم من أن المراد بلحي جمل أحد فَكَّي الجمل الذي هو ذكر الإبل، وأن فكّه كان هو آلة الحجامة؛ أي: احتجم بعظم جمل، فهو غلط، لا شكّ فيه.
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 123.
وجزم الحازميّ وغيره بأن ذلك كان في حجة الوداع.
وهذا الحديث صرّح بأن حجامته صلى الله عليه وسلم كانت في وسط رأسه، وصرّح في حديث أنس عند النسائيّ:"احتَجَم، وهو محرم على ظهر القدم، من وَثْءٍ كان به"، وهذا صريحٌ في كونها على ظهر قدمه، وفي حديث جابر رضي الله عنه عند أحمد أنها كانت بِوَرِكِه، أو ظهره، والجمع بين هذه الروايات أن تحمل على أنها تعدّدت الحجامة منه صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ رحمه الله: اتفقت الروايات عن ابن عباس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم احتجم، وهو محرم في رأسه، ووافقها حديث ابن بُحينة رضي الله عنه هذا، وخالف ذلك حديث أنس رضي الله عنه، أخرجه أبو داود، والترمذيّ، في "الشمائل"، والنسائيّ، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان من طريق معمر، عن قتادة، عنه، قال:"احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم، على ظهر القدم، من وجع كان به"، ورجاله رجال الصحيح، إلا أن أبا داود حَكَى عن أحمد أن سعيد بن أبي عروبة، رواه عن قتادة، فأرسله، وسعيد أحفظ من معمر.
قال الحافظ: وليست هذه بعلة قادحة، والجمع بين الحديثين واضح بالحمل على التعدد، أشار إلى ذلك الطبريّ. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله ابن بُحينة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 2886](1203)، و (البخاريّ) في "جزاء الصيد"(1836) و"الطبّ"(5699)، و (النسائيُّ) في "المناسك"(2851)، وفي "الكبرى"(3833)، و (ابن ماجه) في "الطبّ"(3481)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 26)، وفي "مسنده"(2/ 340)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 345)، و (الدارميّ) في "سننه"(1820)، و (الحاكم) في "مستدركه"(3/ 486)، و (أبو
(1)
راجع: "الفتح" 13/ 88 "كتاب الطبّ" رقم (5700).
عوانة) في "مسنده"(2/ 412)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 294)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3953)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 98 و 8/ 15)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 65)، و"المعرفة"(4/ 34)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1985)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(12) - (بَابُ جَوَازِ مُدَاوَاةِ الْمُحْرِمِ عَيْنَيْهِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2887]
(1204) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، جَمِيعًا عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثنَا أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى، عَنْ نبيْهِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، حَتَّى إِذَا كنَّا بِمَلَلٍ، اشْتَكلى عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ عَيْنَيْه، فَلَمَّا كنَّا بِالرَّوْحَاءِ اشْتَدَّ وَجَعُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ يَسْأَلهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَنِ اضْمِدْهُمَا بِالصَّبِر، فَإِنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الرَّجُلِ إِذَا اشْتَكَى عَيْنَيْه، وَهُوَ مُحْرِمٌ، ضَمَّدَهُمَا بِالصَّبِرِ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى) بن عمرو بن سعيد بن العاص الأمويّ، أبو موسى المكيّ، ثقةٌ [6](ت 132)(ع) تقدم في "الحيض" 11/ 750.
3 -
(نُبَيْهُ
(1)
بْنُ وَهْبِ) بن عثمان بن أبي طلحة بن عبد العُزّى بن عثمان بن عبد الدار بن قُصَيّ الْعَبْدريّ المدنيّ، ثقةٌ، من صغار [3].
رَوَى عن أبي هريرة، وأبان بن عثمان، ومحمد ابن الحنفية، وكعب مولى سعيد بن العاص.
(1)
بضم النون، وفتح الموحّدة، آخره هاء، مصغّرًا.
وروى عنه أولاده: عبد الأعلى، وعبد الجبار، وعبد العزيز، ونافع مولى ابن عمر، وأبو الزناد، وأيوب بن موسى القرشيّ، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم.
قال النسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن سعد: روى عنه نافع، وليس به بأس، توفي في فتنة الوليد بن يزيد، وكان ثقةً قليل الحديث، أحاديثه حسان، وقال ابن أبي عاصم: كان من أشراف بني عبد الدار معروف الدار والنسب بمكة، وذكره ابن حبان في "الثقات" في أتباع التابعين، وقال أبو زرعة حديثه عن عمرو بن عثمان مرسلٌ، وحَكَى ابن عبد البرّ عن ابن معين: ثقةٌ.
أخرج له المصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط هذا برقم (1204) وأعاده بعده، وحديث (1409) في نكاح المحرم، وكرّره خمس مرّات.
4 -
(أَبَانُ بْنُ عُثمَانَ) بن عفّان الأمويّ، أبو سعيد، أو أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 105)(بخ م 4).
روى عن أبيه، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد.
وعنه: ابنه عبد الرحمن، وعمر بن عبد العزيز، والزهري وغيرهم.
عدّه يحيى القطان في فقهاء المدينة، ووثّقه العجلي وابن سعد.
روى له البخاري في "الأدب المفرد"، والمصنف، والأربعة. وله في هذا الكتاب حديثان فقط، كرّر أحدهما مرتين والآخر خمس مرات.
5 -
(عُثْمَانُ) بن عفّان بن أبي العاص بن أُميّة بن عبد شمس الأمويّ، أمير المؤمنين، استُشهد رضي الله عنه في ذي الحجة بعد عيد الأضحى سنة (35)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم، ثم فصّل؛ لما تقدّم غير مرّة.
2 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من نُبيْهٍ.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ، وهو من رواية الأقران.
4 -
(ومنها): أن صحابيه أحد الخلفاء الأربعة، والعشرة المبشرين بالجنة، وأحد السابقين إلى الإسلام، وكان يُلَقَّبُ بذي النورين؛ لأنه تزوج بابنتي النبيّ صلى الله عليه وسلم: رُقَيَّة، ثم أم كلثوم رضي الله عنهم، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة، وهو أطول الخلفاء الراشدين عمرًا، فقد تُوفّي، وهو ابن ثمانين سنة، وقيل: أكثر، وقيل: أقلّ، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ نُبَيْهِ) بضمّ النون، مصغّرًا (ابْنِ وَهْبٍ) أنه (قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ) بن عفّان، في "أبان" وجهان: الصرف، وعدمه، والصحيح الأشهر الصرف، فمن صرفه قال: وزنه فَعَال، ومن منعه قال: وزنه أفعَل، قاله النوويّ.
وقال بعضهم: من لم يصرف أبان، فهو أتان.
وأما عثمان فممنوع من الصرف؛ للعلمية، وزيادة الألف والنون، وأما عفّان، ففيه وجهان أيضًا: الصرف، وعدمه، فالصرف على تقدير أن نونه أصلية، من العفن، وعدمه على تقدير زيادتها مع الألف، من العفّة، والله تعالى أعلم.
(حَتَّى إِذَا كنَّا بِمَلَلٍ) - بفتح الميم، بلامين - وهو موضع على ثمانية وعشرين مِيلًا من المدينة، وقيل: اثنان وعشرون، حكاهما القاضي عياض في "المشارق".
(اشْتَكَى عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ) بن معمر القرشيّ التيميّ، روى عن أبان بن عثمان، وعنه نُبَيه بن وهب، يقال: مات سنة اثنتين وثمانين، ذكره المدايني فقال: وفد على عبد الملك بن مروان سنة اثنتين وثمانين، فمات بدمشق، وليست لعمر رواية في الكتب الستّة، ولذا لم يذكره صاحبا "التهذيبين"، أفاده في "تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأربعة"
(1)
.
(عَيْنَيْهِ) منصوب على المفعوليّة لـ "اشتكى"؛ لأنه متعدّ، قال في "القاموس": شكا أمره إلى الله شَكْوَى، وينَوَّنُ، وشَكاةً، وشَكاوةً، وشَكِيّةً، وشِكاية بالكسر، وتشكى، واشتكى، وتشاكَوْا: شكا بعضُهم إلى بعض، والشَّكْوُ، والشَّكْوَى، والشَّكْوَاءُ، والشكَاةُ، والشَّكاءُ: المرض. انتهى
(2)
.
(1)
"تعجيل المنفعة" 1/ 299.
(2)
"القاموس المحيط" 4/ 349.
(فَلَمَّا كُنَّا بِالرَّوْحَاءِ) بالفح، على وزن حمراء: موضع بين مكة والمدينة، قاله في "المصباح"
(1)
، وقال في "القاموس": والرَّوْحاء: موضع بين الحرمين، على ثلاثين، أو أربعين ميلًا من المدينة. انتهى
(2)
.
(اشْتَدَّ وَجَعُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبانَ بْنِ عُثْمَانَ يَسْأَلهُ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، أو المفعول (فَأَرْسَلَ) أي: أبان (إِلَيْهِ) أي: إلى عمر بن عبيد الله (أَنِ اضْمِدْهُمَا)"أن" هنا يَحْتمل أن تكون مصدريّة، ويقدّر قبلها حرف جرّ؛ أي: بأن اضمدهما، ويَحْتَمِل أن تكون مفسّرة، ك"أي" التفسيريّة، كما قيل في قوله تعالى:{فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ} [المؤمنون: 27] وقوله: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا} الآية [الأعراف: 43]
(3)
.
وقوله: "اضمدهما" قال النوويّ رحمه الله: هو بكسر الميم، وقوله بعده "ضَمّدهما" هو بتخفيف الميم، وتشديدها، يقال: ضَمَدَ، وضَمَّدَ بالتخفيف، والتشديد، وقوله:"اضْمِدهما" جاء على لغة التخفيف، ومعناه: اللطخ. انتهى
(4)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله: أصل الضّمْد: الشدّ، يقال: ضمد رأسه، وجُرْحَهُ: إذا شدّه بالضِّمَاد، وهي خرقة يُشدّ بها العضو الْمَؤُوف
(5)
، ثم قيل لوضع الدواء على الجرح، وغيره، وإن لم يُشدّ. انتهى
(6)
.
وقوله: (بِالصَّبِرِ) بكسر الباء، ويجوز إسكانها: الدواء المرّ، وقال في "القاموس":"الصَّبِرُ"، كَكَتِفٍ، ولا يُسكّن إلا في ضرورة الشعر: عُصَارة شجرٍ مُرّ. انتهى
(7)
.
وقال الفيّوميّ: هو بكسر الباء في الأشهر، وسكونها للتخفيف لغةٌ قليلةٌ، ومنهم من قال: لم يُسمع تخفيفه في السَّعَة، وحكى ابن السِّيدِ في "كتاب مثلّث
(1)
"المصباح المنير" 1/ 245.
(2)
"القاموس المحيط" 1/ 335.
(3)
راجع: "مغني اللبيب" لابن هشام الأنصاريّ رحمه الله 1/ 74.
(4)
"شرح النوويّ" 8/ 124.
(5)
"المؤوف": اسم مفعول من آفه: إذا أصابته الآفة.
(6)
"النهاية" 3/ 99.
(7)
"القاموس المحيط" 2/ 67.
اللغة" جواز التخفيف، كما في نظائره بسكون الباء مع فتح الصاد، وكسرها، فيكون فيه ثلاث لغات. انتهى
(1)
.
ثم ذكر أبان رحمه الله حجته على ما قاله بالفاء التعليليّة، فقال:(فَإِنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الرَّجُلِ إِذَا اشْتَكَى عَيْنَيْهِ) أي: أصابه مرضهما (وَهُوَ مُحْرِمٌ) جملة حاليّة من الفاعل (ضَمَّدَهُمَا بِالصَّبِرِ) أي: جعل عليهما صَبِرًا، وداواهما به، يقال: ضَمَدَ الجرحَ يَضمِده، وَيضمُدُه، من بابي ضرب، ونصر، وضَمَّده بالتشديد: إذا شدّه بالضِّمَادة، وهي بالكسر: العصابة؛ كالضِّمَاد، أفاده في "القاموس".
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "إذا اشتكى" شرط، و"ضمدهما" جوابه، وهو الْمُحَدَّث به، يعني إذا اشتكى الرجل من عينيه ضَمَد، وقوله:"ضَمَدهما"، أصل الضمد: الشدّ، يقال: ضَمَد رأسه وجرحه: إذا شدّهما بالضمَاد، وهي خرقة يُشدّ بها العضو المؤوف
(2)
، ثم قيل لوضع الدواء على الجرح وغيره، وإن لم يُشدّ. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عثمان بن عفّان رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 2887 و 2888](1204)، و (أبو داود) في "المناسك"(1838 و 1839)، و (الترمذيّ) في "الحج"(952)، و (النسائيّ) في "المناسك"(2711)، وفي "الكبرى"(3691)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 14)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 59 و 65 و 68 و 69)، و (الدارمي) في "سننه"(1930)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2654)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه،
(1)
"المصباح المنير" 1/ 331 - 332.
(2)
أي: الذي أصابته الآفة.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 20 - 29.
(3/ 294 - 295)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 62)، و"المعرفة"(4/ 28)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم الاكتحال للمحرم:
قال النوويّ رحمه الله: واتفق العلماء على جواز تضميد العين، وغيرها بالصبر، ونحوه، مما ليس بطيب، ولا فدية في ذلك، فإن احتاج إلى ما فيه طيب، جاز له فعله، وعليه الفدية. واتفق العلماء على أن للمحرم أن يكتحل بكحل لا طيب فيه، إذا احتاج إليه، ولا فدية عليه فيه.
وأما الاكتحال للزينة، فمكروه عند الشافعيّ، وآخرين، ومنعه جماعة، منهم: أحمد، وإسحاق، وفي مذهب مالك قولان كالمذهبين، وفي إيجاب الفدية عندهم بذلك خلاف، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله.
وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: ونَهْيُ أبان بن عثمان للسائل أن يكحل عينيه ليس على إطلاقه، وكأنه إنما نهاه عن أن يكحلها بما فيه طيب، وتضميد العين هو: لطخها، والصبر ليس بطيب، ولا خلاف في جواز مثل هذا مما ليس فيه طيب، ولا زينة، فلو اكتحل المحرم، أو المحرمة بما فيه طيب افتديا. وكذلك المرأة إذا اكتحلت للزينة، وإن لم يكن فيه طيب، فلو اكتحل الرجل للزينة، فأباحه قوم، وكرهه آخرون، وهم: أحمد، وإسحاق، والثوريّ. وعلى القول بالمنع، فهل تجب الفدية، أم لا؟ قولان، وبالثاني قال الشافعيّ، رجلًا كان، أو امرأة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الأرجح عندي هو ما ذهب إليه أحمد، وإسحاق، من منع الكحل للمحرم؛ لأنه ينافي صفة الحاجّ، فإنه ينبغي أن يكون أشعث أغبر، كما جاء في الحديث الصحيح:"إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء، فيقول لهم: انظروا إلى عبادي هؤلاء جاءوني شُعْثًا غُبْرًا"
(2)
، لكن إن أصابه مرض؛ كالرَّمَد، ونحوه، فيكتحل بما ليس فيه طيب، كأن يضمده بالصبر، ونحوه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"المفهم" 3/ 290.
(2)
حديث صحيح، رواه أحمد، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2888]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِث، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثنَا أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَني نُبَيْهُ بْنُ وَهْبٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مَعْمَرٍ رَمِدَتْ عَيْنُهُ، فَأَرَادَ أَنْ يَكحُلَهَا، فنهَاهُ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُضَمِّدَهَا بِالصَّبِر، وَحَدَّثَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفانَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ) العنبريّ مولاهم، أبو سهل التَّنُّوريّ البصريّ، ثقةٌ [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.
3 -
(أَبُوهُ) عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان العنبريّ مولاهم، أبو عبيدة التّنّوريّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (رَمِدَتْ عَيْنُهُ) بفتح الراء، وكسر الميم، يقال: رَمِدَت العينُ رَمَدًا، من باب تَعِبَ، فالرجل أرمد، والمرأة رَمْداء، مثلُ أحمر وحمراء، ويقال: أيضًا: رَمِدٌ، ورَمِدَةٌ، وأرمدت العين بالألف لغةٌ، قاله الفيّوميّ
(1)
.
وقوله: (فَأَرَادَ أَنْ يَكْحُلَهَا) من باب نصر؛ أي: يجعل الكحل فيها.
وقوله: (وَأَمَرَهُ أَنْ يُضَمِّدَهَا بِالصَّبِرِ) تقدّم أن يضمد من بابي ضرب، ونصر، وضَمَّد بالتشديد أيضًا؛ أي: شدّ بالضماد، وهي العصابة.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، في الذي قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 238.
(13) - (بَابُ جَوَازِ غَسْلِ الْمُحْرِمِ بَدَنَهُ وَرَأْسَهُ)
" الغسل" - بفتح الغين المعجمة -: مصدر غَسَلَ الشيءَ، من باب ضرب، والغُسل بالضم اسم منه، والجمع أَغسال، مثل قُفْل وأقفال، وبعضهم يجعل المضموم والمفتوح بمعنًى، وعزاه إلى سيبويه، وقيل: الغُسل بالضمّ هو الماء الذي يُتطهّر به، أفاده في "المصباح"
(1)
.
قال في "الفتح" عند قول البخاريّ: "باب الاغتسال للمحرم": أي: ترَفُّهًا، وتنظّفًا، وتطهّرًا من الجنابة. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن للمحرم أن يغتسل من الجنابة. واختلفوا فيما عدا ذلك. وكأن المصنّف أشار إلى ما رُوي عن مالك أنه كره للمحرم أن يُغطّي رأسه في الماء. وروى في "الموطّإ" عن نافع، عن ابن عمر، كان لا يغسل رأسه، وهو محرم، إلا من احتلام. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2889]
(1205) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ زيدِ بْنِ أَسْلَمَ (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَهَذَا حَدِيثهُ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أنَسٍ، فِيمَا قُرِئَ عَلَيْه، عَنْ زيدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، أنَهُمَا اخْتَلَفَا بِالْأَبْوَاء، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ: يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأسَهُ، وَقَالَ الْمِسْوَرُ: لَا يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأسَهُ، فَأَرْسَلَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَبِي أَيُّوبَ الأنصَارِيِّ أَسْأَلهُ عَنْ ذَلِكَ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْن، وَهُوَ يَسْتَتِرُ بِثَوْبٍ، قَالَ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْه، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ حُنَيْنٍ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ، أَسْأَلكَ كَيْفَ كَانَ
(1)
"المصباح المنير" 2/ 447.
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَغْسِلُ رَأسَهُ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ رضي الله عنه يَدَهُ عَلَى الثَّوْب، فَطَأْطَأَهُ، حَتَّى بَدَا في رَأْسُهُ، ثُمَّ قَالَ لإِنْسَانٍ يَصُبُّ: اصْبُبُ، فَصَبَّ عَلَى رَأْسِه، ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْه، فَأَقبَلَ بِهِمَا، وَأَدْبَرَ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُهُ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ).
رجال هذا الاإسناد: تسعة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(مَالِكُ بْنُ أنَسٍ) إمام دار الهجرة، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ) العدويّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ حُنَيْنٍ) الهاشميّ مولاهم، أبو إسحاق المدنيّ، ثقةٌ [3] مات بعد المائة (ع) تقدم في "الصلاة" 42/ 1081.
5 -
(أَبُوهُ) عبد الله بن حُنين الهاشميّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ [3] مات في أول خلافة يزيد بن عبد الملك في أول المائة الثانية (ع) تقدم في "الصلاة" 42/ 1081.
6 -
(أَبُو أَيُّوبَ الْأنصَارِيُّ) خالد بن زيد بن كُليب الصحابيّ الشهير، من كبار الصحابة، شهد بدرًا، ومات غازيًا بالروم سنة (50) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 113.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان فصل بينهما بالتحول، وفي الأول له أربعة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتحادهم أخذًا وأداء.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيوخه الثلاثة الأولين، فالأول والثالث ما أخرج لهما الترمذيّ، والثاني ما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين غير شيوخه، فالأول كوفيّ، والثاني والثالث بغداديّان، والرابع بغلاني.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: زيد عن إبراهيم عن أبيه.
5 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، نزل النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه حينما هاجر إلى المدينة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ زيدِ بْنِ أَسْلَمَ) العدويّ المدني مولى عمر بن الخطاب التابعيّ (عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ حُنَيْنٍ) قال في "الفتح": قوله: "عن زيد بن أسلم، عن إبراهيم" كذا في جميع "الموطّآت"، وأغرب يحيى بن يحيى الأندلسيّ، فأدخل بين زيد وإبراهيم نافعًا، قال ابن عبد البرّ: وذلك معدود من خطئه. انتهى.
وقال أيضًا: قوله: "عَنْ إِبْرَاهِيمَ" في رواية ابن عيينة، عن زيد: أخبرني إبراهيم، أخرجه أحمد، وإسحاق، والحميديّ في "مسانيدهم"، عنه، وفي رواية ابن جريج التالية:"أخبرني زيد بن أسلم"، وعند أحمد: عن زيد بن أسلم: أن إبراهيم بن عبد الله بن حنين مولى ابن عبّاس أخبره. كذا قال: "مولى ابن عباس". وقد اختلف في ذلك، والمشهور أن حنينًا كان مولى للعبّاس، وهبه له النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأولاده موالٍ له، قاله في "الفتح".
(عَنْ أَبِيهِ) عبد الله بن حنين (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ) الحبر البحر رضي الله عنهما، تقدّم قبل باب (وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ) بن نوفل بن أُهيب بن عبد مناف بن زُهرة الزهريّ، أبي عبد الرحمن، له، ولأبيه صحبة رضي الله عنهما، مات سنة (64 هـ) تقدّمت ترجمته في "الحيض" 18/ 779.
والمراد أنه أخبر عن قصّتهما، فالكلام على حذف مضاف، فليس المراد أن عبد الله بن حنين أخبر بهذا الخبر راويًا عنهما.
وقوله: (أنَّهُمَا اخْتَلَفَا) في تأويل المصدر بدل عن المجرور قبله؛ أي: عن اختلافهما.
وفي رواية البخاريّ من رواية عبد الله بن يوسف، عن مالك: "أن عبد الله بن عباس، والمسور بن مَخْرَمة اختلفا
…
إلخ"، وفي رواية ابن جريج عند أبي عوانة: كنت مع ابن عباس، والمسور.
(بِالْأَبْوَاءِ) بفتح الهمزة، وسكون الموحّدة وزان أَفْعال: موضع بين مكة والمدينة، ويقال له: وَدّان، قاله في "المصباح"؛ أي: وهما نازلان بها، وفي
رواية ابن عيينة: "بالعَرْج"، وهو بفتح أوّله، وإسكان ثانيه: قرية جامعة قريبة من الأبواء.
(فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأسَهُ، وَقَالَ الْمِسْوَرُ) رضي الله عنه (لَا يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأسَهُ) الظاهر أنه قال ذلك اجتهادًا منه؛ لأنه ربما يتسبّب في انتتاف شعره، فخشيةً لذلك قال: لا يغسل (فَأَرْسَلَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (إِلَى أَبِي أَيُّوبَ الأنصَارِيِّ) رضي الله عنه، زاد ابن جريج، فقال:"قل له: يقرأ عليك السلامَ ابنُ أخيك عبدُ الله بن عباس، ويسألك".
(أَسْألهُ عَنْ ذَلِكَ) أي: عن حكم غسل المحرم رأسه (فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ) وفي رواية النسائيّ: "بَيْنَ قَرْنَيِ الْبِئْرِ"، وهو بفتح القاف: تثنية قَرْن، وهما الخشبتان القائمتان على رأس البئر، وشبههما من البناء، وتُمدّ بينهما خشبة يُجرّ عليها الحبل المستقَى به، وتُعلّق عليها البكرة، قاله النوويّ.
(وَهُوَ يَسْتَتِرٌ بِثَوْبٍ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل (فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ) فيه أنه يُشرع السلام على من يغتسل، ولذا لم ينكر عليه أبو أيوب، وقد ثبت في "الصحيحين"، وغيرهما في قصّة أم هانئ رضي الله عنها أنها قالت: ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عام الفتح، فوجدته يغتسل - وفاطمة ابنته تستره - قالت: فسلمت عليه، فقال:"من هذه؟ .. " الحديث.
(فَقَالَ) أبو أيوب رضي الله عنه (مَنْ هَذَا؟) أي: المسلّم عليه (فَقُلْتُ: أنا عَبْدُ اللهِ بْنُ حُنَيْنٍ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ، أَسْأَلكَ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَغْسِلُ رَأسَهُ (قال الحافظ أبو عمر رحمه الله: الظاَهر أن ابن عبّاس رضي الله عنهما كان عنده نصّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخذه عن أبي أيوب، أو غيره، ولهذا قال عبد الله بن حُنين لأبي أيوب: أسألك كيف كان يغسل رأسه؟ ولم يقل: هل كان يغسل رأسه، أوْ لا؟ على حسب ما وقع فيه اختلاف بين المسور، وابن عباس.
قال الحافظ رحمه الله: ويَحْتَمِل أن يكون عبد الله بن حُنين تصرّف في السؤال لفطنته، كأنه لَمّا قال له: سله، هل يغتسل المحرم، أوْ لَا؟ فجاء، فوجده يغتسل، فَهِم من ذلك أنه يغتسل، فأحبّ أن لا يرجع إلا بفائدة، فسأله عن كيفيّة الغسل، وكأنه خصّ الرأس بالسؤال؛ لأنها موضع الإشكال في هذه المسألة؛ لأنها محلّ الشعر الذي يُخشى انتتافه، بخلاف بقية البدن غالبًا. انتهى.
(وَهُوَ مُحْرِمٌ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل (فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ رضي الله عنه يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ) أي: الذي جعله ساترًا بينه وبين الناس (فَطَأَطَأَهُ) أي: أزاله عن رأسه، وفي رواية ابن عيينة، عن زيد:"جمع ثيابه إلى صدره حتى نظرت إليه"(حَتى بَدَا لِي رَأسُهُ) أي: ظهر لي رأسه، فرأيته، وفي رواية ابن جريج:"حتى رأيت رأسه، ووجهه".
(ثُمَّ قَالَ لإِنْسَانٍ) قال الحافظ: لم أقف على اسمه (يَصُبُّ) وفي رواية النسائيّ: "يصُبّ عَلَى رَاسِهِ"، والجملة في محلّ جرّ صفة ل"إنسان". ومقول القول قوله:(اصْبُبْ، فَصَبَّ) ذلك الإنسان الماء (عَلَى رَأسِهِ) أي: على رأس أبي أيوب رضي الله عنه (ثُمَّ حَرَّكَ رَأسَهُ بِيَدَيْه، فَأَقبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ) أي: ذهب بيديه إلى جهة قُدَّامه، ثم ردّهما إلى ورائه، مبالغة في وصول الماء إلى البشرة.
وفي رواية ابن جريج: "فأَمَرّ أبو أيوب بيديه على رأسه جميعًا، على جميع رأسه، فأقبل بهما، وأدبر".
(ثُمَّ قَالَ) أي: أبو أيوب رضي الله عنه (هَكَذَا رَأَيْتُهُ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ) وفي رواية النسائيّ: "هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللُّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ"، زاد في رواية ابنه جريج التالية:"فقال المسور لابن عبّاس: لا أماريك أبدًا"، وفي رواية ابن عيينة، عن زيد:"فرجعت إليهما، فأخبرتهما، فقال المسور لابن عبّاس: لا أُماريك أبدًا"؛ أي: لا أجادلك. وأصل المراء استخراج ما عند الإنسان، يقال: أمرى فلان فلانًا: إذا استخرج ما عنده، قاله ابن الأنباريّ. وأطلق ذلك في المجادلة؛ لأن كلًّا من المتجادلين يَستخرج ما عند الآخر من الحجة، قاله في "الفتح"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي أيوب الأنصاريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 2889 و 2890](1205)، و (البخاريّ) في "جزاء الصيد"(1840)، و (أبو داود) في دؤالمناسك" (1845)، و (النسائيّ) في "المناسك" (2665)، وفي "الكبرى" (3645)، و (ابن ماجه) في "المناسك"
(2934)
، و (مالك) في "الموطّإ"(712)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 308)، و (الحميديّ) في "مسنده"(379)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 416 و 418 و 421)، و (الدارمي) في "سننه"(1793)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2650)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3948)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 265)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 295 - 296)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(4/ 150)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(441)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 272 - 273)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 63)، و"المعرفة"(4/ 29)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1983)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة الاغتسال للمحرم.
2 -
(ومنها): غسل المحرم رأسه، وتشريبه شعره بالماء، ودلكه بيده إذا أمن تناثره، واستدلّ به القرطبيّ على وجوب الدلك في الغسل، قال: لأن الغسل لو كان يتمّ بدونه لكان المحرم أحقّ بأن يجوز له تركه، قال الحافظ: ولا يخفى ما فيه.
3 -
(ومنها): أنه استُدلّ به على أن تخليل شعر اللحية في الوضوء بأن على استحبابه، خلافًا لمن قال: يكره، كالمتولّي من الشافعيّة، خشية انتتاف الشعر؛ لأن في الحديث:"ثم حرّك رأسه بيده"، ولا فرق بين شعر الرأس واللحية، إلا أن يقال: إن شعر الرأس أصلب. والتحقيق أنه خلاف الأولى في حقّ بعض دون بعض. قاله السبكيّ الكبير. قاله في "الفتح".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: بل الإطلاق هو التحقيق؛ لأن الشارع الحكيم ما استثنى الحاجّ حين شرع تخليل اللحية، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
4 -
(ومنها): الرجوع إلى النصّ عند الاختلاف، وترك الاجتهاد، والقياس عند وجود النصّ.
قال الحافظ أبو عمر رحمه الله: في هذا الحديث من الفقه أن الصحابة رضي الله عنهم إذا اختلفوا لم تكن في قول واحد منهم حجة على غيره، إلا بدليل يجب التسليم له، من الكتاب، أو السنّة، ألا ترى أن ابن عباس والمسور رضي الله عنهم لَمّا
اختلفا لم يكن لواحد منهما حجة على صاحبه حتى أدلى ابن عبّاس بالحجة بالسنة، ففلج - أي: فاز، وغلب خصمه بحجته -.
وهذا يبيّن لك أن قوله صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم" هو على ما فسّره المزنيّ وغيره، وأن ذلك في النقل؛ لأن جميعهم ثقات عدول، فواجب قبول من نقل كلّ واحد منهم، ولو كانوا كالنجوم في آرائهم، واجتهادهم إذا أختلفوا لقال ابن عباس للمسور: أنت نجم، وأنا نجمٌ، فلا عليك، وبأيّنا اقتدى المقتدي فقد اهتدى، ولَمَا احتاج لطلب البيّنة، والبرهان من السنّة على صحّة قوله.
وكذا سائر الصحابة رضي الله عنهم إذا اختلفوا حكمهم كحكم ابن عبّاس والمسور، وهم أوّل من تلا:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية [النساء: 59]. قال العلماء: إلى كتاب الله، وإلى سنة نبيّه صلى الله عليه وسلم ما كان حيًّا، فإن قُبض فإلى سنّته.
ألا ترى أن ابن مسعود قيل له: إن أبا موسى الأشعريّ قال في أخت، وابنة ابن: إن للابنة النصفَ، وللأخت السدسَ، ولا شيء لبنت الابن، وأنه قال للسائل: ائت ابن مسعود، فإنه سيتابعنا، فقال ابن مسعود:{قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا} [الأنعام: 56] أقضي فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للبنت النصفُ، ولابنة الابن السدسُ تكملة للثلثين، وما بقي فللأخت".
وبعضهم لم يرفع هذا الحديث، وجعله موقوفًا على ابن مسعود.
وفي "الموطإ" أن أبا موسى الأشعريّ أفتى بجواز رضاع الكبير، وردّ ذلك عليه ابن مسعود، فقال أبو موسى: لا تسألوني ما دام هذا الحبر بين أظهركم.
وروى مالك عن ابن مسعود: أنه رجع عن قوله في الربيبة إلى قول أصحابه في المدينة
(1)
.
(1)
رواه مالك في "الموطإ" في "كتاب النكاح"، "باب ما لا يجوز من نكاح الرجل أم امرأته"، ولفظه: وحدثني عن مالك، عن غير واحد، أن عبد الله بن مسعود، استفتي وهو بالكوفة، عن نكاح الأم بعد الابنة، إذا لم تكن الابنة مُسّت، فأرخص=
وهذا الباب طويل إذا كان الصحابة خير أُمّة أُخرجت للناس، وهم أهل العلم والفضل، لا يكون أحدهم حجة على صاحبه، إلا الحجة من كتاب الله، أو سنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، فمن دونهم أولى أن يَعضِدَ قولَه بما يجب التسليم له.
قال مجاهد في قوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} الآية [سبأ: 6] قال: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
قال مالك: الحكم حكمان: حكم جاء به كتاب الله، وحكم أحكمته السنّةُ، قال: ومجتهدُ رأيه، فلعلّه يُوفّق، ومتكلّف، فطُعن عليه.
قال: وذكر ابن وضّاح، عن ابن وهب، قال: قال لي مالك: الحكمة، والعلم نورٌ يهدي به الله من يشاء، ويؤتي الحكمة من أحبّ من عباده، وليس بكثرة المسائل.
قال أبو عمر: وقد استوفينا هذا المعنى في "كتاب العلم"
(1)
. انتهى كلام أبي عمر رحمه الله
(2)
، وهو بحث نفيس جدًّا إلا ما يأتي من الكلام على الحديث الذي احتج به.
= في ذلك، ثم إن ابن مسعود، قدم المدينة، فسأل عن ذلك، فأُخبر أنه ليس كما قال، وإنما الشرط في الربائب، فرجع ابن مسعود إلى الكوفة، فلم يصل إلى منزله، حتى أتى الرجل الذي أفتاه بذلك، فأمره أن يفارق امرأته، قال مالك، في الرجل تكون تحته المرأة، ثم ينكح أمها، فيصيبها: إنها تحرم عليه امرأته، ويفارقهما جميعًا، ويحرمان عليه أبدًا، إذا كان قد أصاب الأم، فإن لم يصب الأم، لم تحرم عليه امرأته، وفارق الأم، وقال مالك، في الرجل يتزوج المرأة، ثم ينكح أمها، فيصيبها: إنه لا تحل له أمها أبدًا، ولا تحل لأبيه، ولا لابنه، ولا تحل له ابنتها، وتحرم عليه امرأته، قال مالك: فأما الزنا، فإنه لا يحرم شيئًا من ذلك؛ لأن الله تبارك وتعالى قال:{وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} ، فإنما حرم ما كان تزويجًا، ولم يذكر تحريم الزنا، فكل تزويج كان على وجه الحلال، يصيب صاحبه امرأته، فهو بمنزلة التزويج الحلال، فهذا الذي سمعت، والذي عليه أمر الناس عندنا.
(1)
أراد به: "كتاب جامع العلم" 2/ 26 - 30.
(2)
راجع: "الاستذكار" 11/ 15 - 18.
5 -
(ومنها): استتار الشخص بالثوب عند الاغتسال، وأن الذي كان يستره بالثوب، لا يطّلع منه على ما يتستّر به من مثله، فالسترة واجبة عن القريب والبعيد.
6 -
(ومنها): قبول خبر الواحد، وأن قبوله كان مشهورًا عند الصحابة رضي الله عنهم.
7 -
(ومنها): السلام على المتطهّر في وضوء، أو غسل، بخلاف المجالس على الحدث.
8 -
(ومنها): جواز الاستعانة في الطهارة، ولكن الأولى تركها إلا لحاجة، قاله النوويّ رحمه الله.
9 -
(ومنها): أن فيه الاعتراف للفاضل بفضله، وإنصاف الصحابة بعضهم بعضًا، رضي الله تعالى عنهم أجمعين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): حيث ذكر الحافظ أبو عمر في كلامه السابق حديث:
"أصحابي كالنجوم" موهمًا أنه حديث ثابت، مع أنه لا يثبت، وقد تَكَلّم فيه هو في غير هذا الكتاب، فلا بدّ من بيان ما قاله العلماء فيه، حتى يتبيّن الحقّ، وكذلك ما اشتهر على الألسنة:"اختلاف أمتي رحمة".
أما الأول، فقد رُوي من حديث جابر، ومن حديث ابن عباس، ومن حديث عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله رضي الله عنهم:
(أما حديث جابر رضي الله عنه) فهو: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم".
رواه ابن عبد البرّ في "جامع العلم" 2/ 91، وابن حزم في "الإحكام" 6/ 82 من طريق سلام بن سليم، قال: حدثنا الحارث بن غُضَين، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، مرفوعًا به.
وقال ابن عبد البرّ: هذا إسناد لا تقوم به حجة؛ لأن الحارث بن غضين مجهول، وقال ابن حزم: هذه رواية ساقطة، أبو سفيان ضعيف، والحارث بن غُضَين هذا هو أبو وهب الثقفي، وسلام بن سليمان يروي الأحاديث الموضوعة، وهذا منها بلا شك.
قال الشيخ الألبانيّ رحمه الله: الحمل في هذا الحديث على سلام بن سليم -
ويقال: ابن سليمان، وهو الطويل - أولى، فإنه مجمع على ضعفه، بل قال ابن خراش: كذّاب، وقال ابن حبان: روى أحاديث موضوعة. وأما أبو سفيان فليس ضعيفًا، كما قال ابن حزم، بل هو صدوق، كما قال الحافظ في "التقريب"، وأخرج له مسلم في "صحيحه". انتهى.
(وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما): فهو: "مهما أوتيتم من كتاب الله، فالعمل به، لا عذر لأحدكم في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله، فسنة مني ماضية، فإن لم يكن سنة مني ماضية، فما قال أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيها أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة".
أخرجه الخطيب في "الكفاية" ص 48، وابن عساكر، وغيرهما من طريق سليمان بن أبي كريمة، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس، مرفوعًا به.
وهذا الإسناد ضعيف جدًّا، سليمان بن أبي كريمة قال ابن أبي حاتم: ضعيف الحديث، وجويبر هو ابن سعيد الأزديّ متروك، والضحّاك لم يلق ابن عباس.
(وأما حديث عمر رضي الله عنه): فهو: "سألت ربي فيما اختلف فيه أصحابي من بعدي، فأوحى الله إليّ: يا محمد إن أصحابك عندي بمنزلة النجوم في السماء، بعضها أضوأ من بعض، فمن أخذ بشيء مما هم عليه من اختلافهم، فهو عندي على هدى".
رواه ابن بطّة في "الإبانة" 4/ 11، والخطيب، وابن عساكر، وغيرهم من طريق نعيم بن حماد، ثنا عبد الرحيم بن زيد العمّيّ، عن أبيه، عن سعيد بن المسيّب، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرفوعًا به. قال ابن الجوزيّ في "العلل": هذا لا يصحّ، نعيم مجروح، وعبد الرحيم قال ابن معين: كذّاب، وفي "الميزان": هذا الحديث باطل.
(وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما): فهو: "إنما أصحابي مثل النجوم، فأيهم أخذتم بقوله اهتديتم".
ذكره ابن عبد البر معلقًا، من طريق أبي شهاب الحناط، عن حمزة الجزريّ، عن نافع، عن ابن عمر، مرفوعًا به، ووصله عبد بن حميد في "المنتخب من المسند"، قال: أخبرني أحمد ابن يونس، حدثنا أبو شهاب به،
ورواه ابن بطة في "الإبانة"، وفي سنده حمزة بن أبي حمزة قال الدارقطنيّ: متروك، وقال ابن عديّ: عامة مروياته موضوعة، وقال ابن حبان: ينفرد عن الثقات بالموضوعات، حتى كأنه المتعمد لها، ولا تحل الرواية عنه.
وقد ساق له الذهبي في "الميزان" أحاديث من موضوعاته، هذا منها.
وقال أبو محمد بن حزم 6/ 83: فقد ظهر أن هذه الرواية لا تثبت أصلًا، بل لا شكّ أنها مكذوبة؛ لأن الله تعالى يقول في صفة نبيّه صلى الله عليه وسلم:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3، 4] فإذا كان كلامه صلى الله عليه وسلم في الشريعة حقًّا، وواجبًا، فهو من الله تعالى بلا شكّ، وما كان من الله تعالى، فلا يُختَلَف فيه، لقوله تعالى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] وقد نهى الله تعالى عن التفرّق والاختلاف بقوله: {وَلَا تَنَازَعُوا} [الأنفال: 46] فمن المحال أن يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع كلّ قائل من الصحابة صلى الله عليه وسلم، وفيهم من يحلّل الشيء، وغيره يحرّمه، ولو كان ذلك لكان بيع الخمر حلالًا، اقتداءً بسمرة بن جندب، ولكان أكل البَرَد للصائم حلالًا، اقتداءً بأبي طلحة، وحرامًا اقتداءً بغيره منهم، ولكان ترك الغسل من الإكسال واجبًا، اقتداء بعليّ، وعثمان، وطلحة، وأبي أيوب، وأبيّ بن كعب، وحرامًا اقتداء بعائشة، وابن عمر، وكلّ هذا مرويّ عندنا بالأسانيد الصحيحة.
ثم أطال في بيان بعض الآراء التي صدرت من الصحابة، وأخطأوا فيها السنّة، وذلك في حياته صلى الله عليه وسلم، وبعد مماته، ثم قال (86): فكيف يجوز تقليد قوم يُخطئون، ويصيبون؟
وقال قبل ذلك 5/ 64 تحت باب "ذمّ الاختلاف":
وإنما الفرض علينا اتباع ما جاء به القرآن عن الله تعالى الذي شرع لنا دين الإسلام، وما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمره الله تعالى ببيان الدين
…
فصحّ أن الاختلاف لا يجب أن يراعى أصلًا، وقد غلط قومٌ، فقالوا: الاختلاف رحمة، واحتجّوا بما رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"، قال: وهذا الحديث باطل مكذوب من توليد أهل الفسق؛ لوجوه ضروريّة:
(أحدها): أنه لم يصحّ من طريق النقل.
(والثاني): أنه صلى الله عليه وسلم لم يَجُز أن يأمر بما نهى عنه، وهو صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أبا بكر قد أخطأ في تفسير فسّره، وكَذَب عمر في تأويل تأوّله في الهجرة، وخطّأ أبا السنابل في فتيا أفتى بها في العدّة، فمن المحال الممتنع الذي لا يجوز البتة أن يكون صلى الله عليه وسلم يأمر باتباع ما قد أخبر أنه خطأ، فيكون حينئذ أمر بالخطأ، تعالى الله عن ذلك، وحاشا له صلى الله عليه وسلم من هذه الصفة، وهو صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنهم يُخطئون، فلا يجوز أن يأمر باتباع من يُخطئ، إلا أن يكون صلى الله عليه وسلم أراد نقلهم لما رووا عنه، فهذا صحيح؛ لأنهم رضي الله عنهم كلهم ثقات، فمن أيهم نقل فقد اهتدى الناقل.
(والثالث): أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يقول الباطل، بل قوله الحقّ، وتشبيه المشبه للمصيبين بالنجوم تشبيه فاسد، وكذب ظاهر؛ لأنه من أراد مطلع الجدي، فأمّ جهة مطلع السرطان لم يهتد، بل قد ضلّ ضلالًا بعيدًا، وأخطأ خطأ فاحشًا، وليس كلّ النجوم يُهتدى بها في كلّ طريق، فبطل التشبيه المذكور، ووضح كذب ذلك الحديث، وسقوطه وضوحًا ضروريًّا. انتهى.
ونقل خلاصته ابن الملقّن في "الخلاصة" 2/ 175 وأقرّه، وبه ختم على الحديث، وقال: وقال ابن حزم: خبر مكذوب، موضوع، باطل، لم يصحّ قط.
وروي هذا الحديث بلفظ آخر، وهو:
"أهل بيتي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم"، وهو في نسخة أحمد بن نبيط الكذّاب، وقد قال الذهبيّ في هذه النسخة: فيها بلايا، وأحمد بن إسحاق لا يحلّ الاحتجاج به، فإنه كذاب، وأقرّه الحافظ في "اللسان".
(وأما حديث: "اختلاف أمتي رحمة"): فلا أصل له، قال السبكي رحمه الله: ليس بمعروف عند المحدّثين، ولم أقف له على سند صحيح، ولا ضعيف، ولا موضوع.
وأما قول السيوطيّ في "الجامع الصغير": ولعله خُرّج في بعض كتب الحفّاظ التي لم تصل إلينا، فمن أعجب ما يُسمع ويرى من أمثال السيوطيّ الجامع بين النقل والعقل، فهل نقول لكل حديث موضوع: فلعل له سندًا صحيحًا لم يصل إلينا؟ إن هذا لهو العجب العجاب!.
وقال أبو محمد بن حزم رحمه الله في "الإحكام في أصول الأحكام" 5/ 65 بعد أن أشار إلى أنه ليس بحديث: وهذا من أفسد قول يكون؛ لأنه لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق سخطًا، وهذا ما لا يقوله مسلم؛ لأنه ليس إلا اتفاق، أو اختلاف، وليس إلا رحمة، أو سخط.
[فإن قيل]: إن الصحابة رضي الله عنهم قد اختلفوا، وهم أفاضل الناس، أفيلحقهم الذمّ المذكور؟
[قلت]: أجاب عنه الإمام ابن حزم رحمه الله، فقال في كتابه المذكور 5/ 67 - 68: كَلّا، ما يلحق أولئك شيء من هذا؛ لأن كلّ امرئ منهم تحرّى سبيل الله، ووجهة الحقّ، فالمخطئ منهم مأجور أجرًا واحدًا؛ لنيّته الجميلة في إرادة الخير، وقد رُفع عنهم الإثم في خطئهم؛ لأنهم لم يتعمّدوه، ولا قصدوه، ولا استهانوا بطلبهم، والمصيب منهم مأجور أجرين، وهكذا كلّ مسلم إلى يوم القيامة فيما خفي عليه من الدين، ولم يبلغه، وإنما الذمّ المذكور، والوعيد المنصوص لمن ترك التعلّق بحبل الله تعالى، وهو القرآن، وكلام النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد بلوغ النصّ إليه، وقيام الحجّة به عليه، وتعلّق بفلان وفلان، مقلّدًا عامدًا للاختلاف، داعيًا إلى عصبيّة، وحميّة الجاهليّة، قاصدًا للفرقة، متحريًا في دعواه بردّ القرآن والسنة إليها، فإن وافقها النصّ أخذ به، وإن خالفها تعلّق بجاهليّته، وترك القرآن، وكلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء هم المختلفون المذمومون، وطبقة أخرى، وهم قوم بلغت بهم رقّة الدين، وقلّة التقوى إلى طلب ما وافق أهواءهم في قول كلّ قائل، فهم يأخذون ما كان رخصة في قول كلّ عالم، مقلّدين له غير طالبين ما أوجبه النصّ عن الله، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم. انتهى كلام ابن حزم رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيس، وبحثٌ أنيسٌ لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2890]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي زيدُ بْنُ أَسْلَمَ، بِهَذَا الإِسْنَاد،
وَقَالَ: فَأَمَرَّ أَبُو أَيُّوبَ بِيَدَيْهِ عَلَى رَأْسِهِ جَمِيعًا، عَلَى جَمِيعِ رَأسِه، فَأَقبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، فَقَالَ الْمِسْوَرُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: لَا أُمَارِيكَ أَبدًا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن راهويه تقدّم قبل حديث.
2 -
(عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ) بوزن جعفر المروزيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257) أو بعدها، وقد قارب المائة (م ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.
3 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السبيعيّ الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقةٌ مأمون [8](ت 187)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
4 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم قريبًا.
و"زيد بن أسلم" ذُكر قبله.
وقوله: (فَأَمَرَّ أَبُو أَيُّوبَ
…
إلخ) بتشديد الراء، من الإمرار.
وقوله: (عَلَى جَمِيعِ رَأسِهِ) تأكيد لما قبله.
[تنبيه]: رواية ابن جريج، عن زيد بن أسلم هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" (2/ 265) فقال:
(3078)
- حدّثنا عبد الصمد بن الفضل، نا مكيّ (ح) وحدّثنا الصاغانيّ، ثنا رَوْح، قال: نا ابن جريج، قال: أخبرني زيد بن أسلم، عن إبراهيم بن عبد الله بن حُنين، أنه أخبره، عن أبيه عبد الله بن حُنين، قال: كنت مع ابن عباس والمسور بن مخرمة بالأبواء، فأرسلني ابن عباس إلى أبي أيوب، فقال: قل له: يَقْرَأُ عليك السلامَ ابنُ أخيك عبد الله بن عباس، ويسألك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه، وهو محرم؟ قال: فوضع يده على الثوب، وطأطأه، حتى رأيت رأسه، وقال لرجل: صُبّ، فصَبَّ عليه، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه، وهو محرم، إلا أن مكيّ: قال: فأقبل بهما وأدبر، وقال مسور لابن عباس: لا أماريك أبدًا. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(14) - (بَابُ مَا يُفْعَلُ بِالْمُحْرِمِ إِذَا مَاتَ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2891]
(1206) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَعِيره، فَوُقِصَ، فَمَاتَ، فَقَالَ: "اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْه، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأَسَهُ، فَإِنَّ الله يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّبًا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَمْرُو) بن دينار، تقدّم قبل بابين.
2 -
(سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ) تقدّم قريبًا.
3 -
(ابْنُ عَبّاسٍ) الحبر البحر رضي الله عنهما، تقدّم قبل بابين.
والباقيان ذُكرا قبل حديث.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: عمرو، عن سعيد بن جبير.
4 -
(ومنها): أن فيه ابن عباس رضي الله عنهما، حبر الأمة، وبحرها، ومن المكثرين السبعة، والعبادلة الأربعة، ومن المشهورين بالفتوى، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَعِيرِهِ) أي: سقط من ظهر بعيره، و"البعِير" بفتح الموحّدة، وقد تُكسر: الجمل البازل
(1)
، أو
(1)
بَزَل البعير بُزولًا، من باب قعد: فَطَرَ نابُهُ بدخوله في السنة التاسعة، فهو بازلٌ، =
الجَذَعُ
(1)
، قاله في "القاموس"
(2)
.
وفي رواية حماد: "بينما رجل واقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة إذ وقع من راحلته"، وفي رواية ابن جريج:"أقبل رجل حَرَامًا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فخرّ من بعيره".
[تنبيه]: قوله: "خرّ رجلٌ" قال الحافظ: لم أقف في شيء من طرق هذا الحديث على تسمية المحرم المذكور، وقد وهم بعض المتأخّرين، فزعم أن اسمه واقد بن عبد الله، وعزاه لابن قتيبة في ترجمة عمر، من كتاب المغازي، وسبب الوهم أن ابن قتيبة لما ذكر ترجمة عمر، ذكر أولاده، ومنهم عبد الله بن عمر، ثم ذكر أولاد عبد الله بن عمر، فذكر فيهم واقد بن عبد الله بن عمر، فقال: وقع عن بعيره، وهو محرم، فهلك، فظنّ هذا المتأخّر أن لواقد بن عبد الله بن عمر صحبة، وأنه صاحب القصّة التي وقعت في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وليس كما ظنّ، فإن واقدًا المذكور لا صحبة له، فإن أمه صفيّة بنت أبي عُبيد، إنما تزوّجها أبوه في خلافة أبيه عمر، واختُلف في صحبتها، وذكره العجليّ، وغيره في التابعين، ووجدت في الصحابة واقد بن عبد الله آخر، لكن لم أر في شيء من الأخبار أنه وقع عن بعيره، فهلك، بل ذكر غير واحد، منهم ابن سعد أنه مات في خلافة عمر، فبطل تفسير المبهم بأنه واقد بن عبد الله من كلّ وجه. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(3)
.
(فَوُقِصَ) بالبناء للمفعول؛ أي: انكسرت عنقه، ووقصته، وأوقصته بمعناه، يقال: وَقَصَت الناقة براكبها وَقْصًا، من باب وَعَدَ: رَمَتْ به، فدَقّت عُنُقه، فالعُنُق موقوصة، قاله في "المصباح"
(4)
.
وقال في "القاموس": وَقَصَ عُنُقه، كوَعَد: كسرها، فَوَقَصَتْ لازم مُتعَدٍّ، ووُقِصَ كعُنِي، فهو موقوصٌ، ووَقَصَتْ به راحلته تَقِصُهُ. انتهى
(5)
.
= يستوي فيه الذكر والأنثى، قاله في "المصباح" 1/ 48.
(1)
هو من الإبل ما دخل في السنة الخامسة.
(2)
"القاموس المحيط" 1/ 374 - 375.
(3)
"الفتح" 4/ 532.
(4)
"المصباح المنير" 2/ 668.
(5)
"القاموس المحيط" 2/ 321.
وقال ابن الأثير رحمه الله: الوقصُ: كسرُ العنق، وقصتُ عنقَهُ أَقِصُها وَقْصًا، ووقَصَت به راحلته، كقولك: خُذ الخطامَ، وخذ بالخطام، ولا يقال: وَقَصَتِ العنقُ نفسُهَا، ولكن يقال: وُقِصَ الرجلُ، فهو موقوصٌ. انتهى
(1)
.
(فَمَاتَ، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ) فيه دليلٌ على وجوب غسل الميت، وفيه جواز غسل المحرم بالسدر ونحوه مما لا يُعدّ طيبًا، وحَكَى المزنيّ عن الشافعيّ أنه استدلّ على جواز قطع سدر الحرم بهذا الحديث، لقوله فيه:"واغسلوه بماء وسدر"، والله أعلم، قاله في "الفتح".
(وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ) أي: إزاره ورداءه اللذين لبسهما في الإحرام، وهذا نصّ في أن كفن المحرم ثوباه اللذان أحرم بهما، ولا يزاد عليهما غيرهما.
وفي رواية أخرى: "في ثوبين" بدون الضمير، قال القاضي عياض: والأولى أكثر الروايات، قال القرطبيّ: فعلى الرواية الأولى يحتجّ الشافعيّ على بقاء حكم إحرامه، كما سيأتي؛ لأنه أمر أن يكفّن في ثيابه التي كانت عليه، والرواية الثانية يَحْتَمِل أن تُحْمَل على الأولى، ويَحْتَمِل أن يريد: زيدوا على ثوبه الذي أحرم فيه ثوبين، ليكون كفنه وترًا، والأول أولى لأن إحدى الروايتين مفسِّرة للأخرى.
وقال المحبّ الطبريّ: رحمه الله في "أحكامه": إنما لم يزده ثوبًا ثالثًا، تكرمةً له، كما في الشهيد، حيث قال:"زمّلوهم بدمائهم". انتهى.
وقال في "الفتح": يَحْتَمِل اقتصاره له على التكفين في ثوبيه؛ لكونه مات فيهما، وهو متلبّس بتلك العبادة الفاضلة، ويَحْتَمِل أنه لم يجد له غيرهما. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الاحتمال الأول هو الظاهر، كما بيّنه المحبّ الطبريّ، ورجّحه القرطبيّ رحمهما الله تعالى، والله تعالى أعلم.
(وَلَا تُخَمِّرُوا) بالتشديد، من التخمير؛ أي: لا تغطّوا، ولا تستروا (رَأسَهُ) في النهي عن تخمير رأسه دليلٌ على بقاء إحرامه، وكذا في المنع عن التحنيط، وأصرح من ذلك ما ذكره بالفاء التعليليّة، حيث قال:(فَكان اللهَ يَبْعَثُهُ) أي:
(1)
"النهاية" 5/ 214.
يحشره من قبره (يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا") أي: لأن الله سبحانه وتعالى يبعثه يوم القيامة على الحالة التي مات عليها، وهي التلبّس بالحجّ، قائلًا: لبيك اللهمّ لبيك، وفي رواية أبي بشر:"فإنه يُبعث يوم القيامة ملبِّدًا". وفي رواية أبي الزبير: "فإنه يُبْعَثُ يوم القيامة، وهو يُهِلّ"، وفي رواية منصور:"فإنه يُبعث يلبي"، وفي رواية للنسائيّ رحمه الله:"فإنه يُبعث يوم القيامة مُحرمًا".
قال الصنعاني رحمه الله: الظاهر أنه يُبعث قائلًا: لبيك، وقيل: على الهيئة التي مات عليها؛ ليكون علامة على النسك الذي تلبّس به. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: معناه على الهيئة التي مات عليها، ومعه علامة لحجّه، وهي دلالة الفضيلة، كما يجيء الشهيد يوم القيامة، وأوداجه تَشْخَب دمًا. انتهى.
ووقع في رواية: "يبعث يوم القيامة ملبّدًا" بدال بدل التحتانية، والتلبيد: جمع الشعر بصمغ، أو غيره، ليخفّ شعثه، وكانت عادتهم في الإحرام أن يصنعوا ذلك.
وقد أنكر عياض هذه الرواية، وقال: ليس للتلبيد معنى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لا وجه لإنكار القاضي عياض لرواية "مُلَبِّدًا" بعد صحة نقلها، ودعواه عدم المعنى لها، غير صحيحة، بل لها معنى مقصود، وهو أن يكون التلبيد علامة على موته، وهو كذلك، كما أن الشهيد يأتي بدمه وكَلِمِهِ علامة على موته كذلك، والله تعالى أعلم بالصواب.
[تنبيه]: قال الإمام أبو داود رحمه الله في "سننه" - بعد إخراج الحديث -: سمعت أحمد بن حنبل يقول: في هذا الحديث خمس سنن: كَفِّنُوه في ثوبيه؛ أي: يكفن الميت في ثوبين، واغسلوه بماء وسدر؛ أي: إن في الغَسَلات كلها سدرًا، ولا تُخَمِّروا رأسه، ولا تقربوه طيبًا، وكان الكفن من جميع المال.
انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"العدّة حاشية العمدة" 3/ 245.
(2)
"سنن أبي داود" 3/ 219.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا مُتَّفَقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 2891 و 2892 و 2893 و 2894 و 2895 و 2896 و 2897 و 2898 و 2899 و 2900 و 2901](1256)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1265 و 1266 و 1267)، و"جزاء الصيد"(1849 و 1850 و 1851)، و (أبو داود) في "المناسك"(3238 و 3241)، و (الترمذيّ) في "الحجّ"(951)، و (النسائيّ) في "المناسك"(39/ 4 و 5/ 144 و 145 و 196 و 197)، و (الكبرى)(1/ 622 و 2/ 378 و 379 و 480)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(3084)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 357)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنفه"(3/ 303 و 7/ 1298، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2623)، و (الحميديّ) في "مسنده"(467)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 215 و 220 و 221 و 266 و 286 و 328 و 333 و 346)، و (الدارمي) في "سننه"(1852)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(9/ 270 - 273)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 269 و 270 و 271 و 272)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 297 - 53)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(506)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(7/ 53)، و"الصغير"(1/ 142)، و"الكبير"(12/ 24 و 76 و 77)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 296 و 297)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(1/ 99)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 392)، و"المعرفة"(3/ 128 و 129)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1480)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما يُفعل بالمحرم إذا مات.
2 -
(ومنها): استحباب تكفين المحرم في ثياب إحرامه، وأن إحرامه باق.
3 -
(ومنها): أنه لا يكفّن في المخيط.
4 -
(ومنها): أن فيه التعليل بالفاء، لقوله:"فإنه يبعث إلخ".
5 -
(ومنها): أن التكفين في الثياب الملبوسة جائز، قال النوويّ رحمه الله: وهو مجمع عليه. انتهى.
6 -
(ومنها): جواز التكفين في ثوبين، والأفضل الثلاثة إذا تيسر، لغير المحرم.
7 -
(ومنها): أن الكفن يكون من رأس المال، وأنه مقدّم على الدَّين وغيره؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بتكفينه في ثوبيه، ولم يستفصل هل عليه دَين مستغرق، أم لا؟
8 -
(ومنها): أن التكفين واجب، قال النوويّ رحمه الله: وهو إجماع في حقّ المسلم، وكذلك غسله، والصلاة عليه، ودفنه. انتهى.
9 -
(ومنها): استحباب دوام التلبية في الإحرام، واستحباب التلبيد.
10 -
(ومنها): إباحة غسل المحرم الحيّ بالسدر، خلافًا لمن كرهه له.
11 -
(ومنها): أن الوتر في الكفن ليس بشرط في الصحّة، بل هو مستحبّ لغير المحرم، وهو قول الجمهور، واختُلِف فيما إذا شحّ بعض الورثة بالثاني، أو الثالث، والمرجّح أنه لا يُلتفت إليه، وأما الواحد الساتر لجميع البدن، فلا بدّ منه بالاتفاق.
12 -
(ومنها): أن الإحرام يتعلّق بالرأس.
13 -
(ومنها): أن من شرع في عمل طاعة، ثم حال بينه وبين إتمامه الموت يُرجَى له أن يكتبه الله في الآخرة من أهل ذلك العمل.
14 -
(ومنها): أنه يدلّ على ترك النيابة في الحجّ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدًا أن يُكَمِّل عن هذا المحرم أفعال الحجّ، هكذا قيل، وفيه نظر لا يخفى.
15 -
(ومنها): أنه استَنْبَط الإمام الشافعيّ، وتبعه المزنيّ - رحمهما الله تعالى - من هذا الحديث جواز قطع شجر السدر؛ لقوله:"اغسلوه بماء وسدر"، وأما حديث:"من قطع شجر سدر، صوّب الله رأسه في النار"، حديث صحيح أخرجه أبو داود، فمحمول على من قطع ما يَستَظِلُّ به ابنُ السبيل، والبهائم عبثًا بغير حقّ، وقيل غير ذلك، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: أغرب القرطبي، فحكى عن الشافعيّ أن المحرم لا يصلَّى عليه،
وليس ذلك بمعروف عنه، ذكره في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف العلماء فيما يُفعل بالمحرم إذا مات:
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: وقد اختلف أهل العلم في تخمير رأس المحرم الميت، وتطييبه، فقالت طائفة: يُصنع به كما يُصنع بسائر الموتى، هذا قول عائشة، وبه قال عمر، وطاوس، والأوزاعيّ، وأصحاب الرأي، وقال مالك: لا بأس بأن يُحنِّطَ الحلالُ المحرمَ الميتَ بالطيب.
وقالت طائفة: لا يُغطى رأسه، ولا يُمسّ طيبًا، رُوي هذا القول عن عليّ رضي الله عنه، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لا يُغطّى رأسه، وقال الشافعيّ: لا يُمسّ طيبًا، ولا يُخمّر رأسه، وبه قال أحمد، وإسحاق.
قال ابن المنذر رحمه الله: وبما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نقول - يعني حديث الباب -. قال: وكان الثوريّ يميل إلى القول بالحديث.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وبما قاله ابن المنذر، ومال إليه الثوريّ - رحمهما الله تعالى - أقول، لصحة المنقول.
وحاصله أن المحرم الميت يكفّن في ثوبيه، ولا يمسّ طيبًا، ولا يغطّى رأسه، كما أرشد إلى ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث الباب. والله تعالى أعلم.
قال: وروينا عن عطاء قولًا ثالثًا، وهو أن يُغسل بالماء، ويكفّن، ويُغطّى رأسه، ولا يُحنّط.
قال: واختلفوا في تخمير وجهه، فأما من قال: إذا مات المحرم ذهب إحرامه، فلا معنى للمسألة على مذهبه؛ لأنه يَرى أن يُفعل به كما يُفعل بسائر الموتى، وقياس قول من رأى أن للمحرم الحيّ أن يُخمِّرَ وجهَهُ أن يقول: يُخَمَّرُ وجهُ المحرم الميت.
وممن كان لا يرى بأسًا أن يُخَمِّرَ المحرمُ وجهَهُ سعد بن أبي وقّاص، وجابر بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وطاوس، والثوريّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور.
(1)
"الفتح" 3/ 480.
وكرهت طائفة من أصحاب الحديث أن يُخَمِّرَ وجهَهُ، وأن يُخَمَّر وجهُ المحرم الميت. وحُجَّةُ هؤلاء حديثُ ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: "ولا تخمِّروا وجهه ورأسه
…
".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما عزاه إلى أصحاب الحديث هو الحقّ، لصحة الحديث بذلك كما سيأتي تحقيقه - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم.
وقال في "الفتح" عند قول البخاريّ: "باب الحنوط للميت": أي: غير المحرم، وأورد حديث ابن عباس المذكور في الباب، قال: وشاهدُ الترجمة قوله: "ولا تحنّطوه"، ثم علّل بأنه يُبعث ملبيًا، فدلّ على أن سبب النهي أنه كان محرمًا، فإذا انتفت العلّة انتفى النهي، وكأن الحنوط للميت كان مقرّرًا عندهم، وكذا قوله:"ولا تخمّروا رأسه"؛ أي: لا تُغَطُّوه.
قال البيهقي رحمه الله: فيه دليل على أن غير المحرم يُحنّط، كما يُخمّر رأسه، وأن النهي إنما وقع لأجل الإحرام، خلافًا لمن قال من المالكيّة وغيرهم: إن الإحرام ينقطع بالموت، فيُصنع بالميت ما يُصنع بالحيّ. قال ابن دقيق العيد: رحمه الله: وهو مقتضى القياس، لكن الحديث بعد أن ثبت يقدّم على القياس، وقد قال بعض المالكية: إثبات الحنوط في هذا الخبر بطريق المفهوم من منع الحنوط للمحرم، ولكنها واقعة حال، يتطرّق الاحتمال إلى منطوقها، فلا يستدلّ بمفهومها.
وقال بعض الحنفية: هذا الحديث ليس عامًّا بلفظه؛ لأنه في شخص معيّن، ولا بمعناه؛ لأنه لم يقل: يبعث ملبيًا لأنه محرم، فلا يتعدى حكمه إلى غيره إلا بدليل منفصل.
وقال ابن بزيزة: وأجاب بعض أصحابنا عن هذا الحديث بأن هذا مخصوص بذلك الرجل؛ لأن إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه يُبعث ملبيًا شهادة بأن حجه قُبل، وذلك غير محقّق لغيره.
وتعقّبه ابن دقيق العيد بأن هذه العلة إنما ثبتت لأجل الإحرام، فتعمّ كلّ محرم، وأما القبول وعدمه فأمر مغيّب.
واعتلّ بعضهم بقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)}
[النجم: 39]، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث"، وليس هذا منها، فينبغي أن ينقطع عمله بالموت.
وأجيب بأن تكفينه في ثوبي إحرامه، وتبقيته على هيئة إحرامه من عمل الحيّ بعده، كغسله، والصلاة عليه، فلا معنى لما ذكره.
وقال ابن المنيّر رحمه الله في "الحاشية": وقد قال صلى الله عليه وسلم في الشهداء: "زمّلوهم بدمائهم" مع قوله: "والله أعلم بمن يُكلم في سبيله"، فعمّم الحكم في الظاهر، بناء على ظاهر السبب، فينبغي أن يُعمّم الحكم في كلّ محرم، وبين المجاهد والمحرم جامعٌ؛ لأن كلّا منهما في سبيل الله.
وقد اعتذر الداوديّ عن مالك، فقال: لم يبلغه هذا الحديث.
وأورد بعضهم أنه لو كان إحرامه باقيًا، لوجب أن يكمّل به المناسك، ولا قائل به.
وأجيب بأن ذلك ورد على خلاف الأصل، فيقتصر به على مورد النصّ، ولا سيّما وقد وضح أن الحكمة في ذلك استبقاء شعار الإحرام؛ كاستبقاء دم الشهيد. انتهى ما قاله في "الفتح".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أكثر هذه الأقوال آراء ساقطة؛ لأنها في مقابلة النصّ، واحتجاجٌ على المنقول بالمعقول، وأحسن ما يُعتذر به عن الأئمة كمالك، ونحوه هو ما قاله الداوديّ، وهو أنه لم يبلغهم النصّ، وإلا لما خالفوه مع وضوحه.
والحاصل أن الصواب العمل بما دلّ عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور في الباب، فلا يُخمّر رأس المحرم الميت، ولا وجهه، ولا يحنّط، وأنه بأن على إحرامه، وأن العلة هي الإحرام، وهي عامة في كل محرم، والأصل أن ما ثبت لشخص في زمنه صلى الله عليه وسلم ثابت لغيره حتى يدلّ الدليل على خلافه، ولم يثبت خلافه، كيف، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال:"يبعث كلّ عبد على ما مات عليه" رواه مسلم، وهذا عام في كل صورة ومعنى، فاقتضى ذلك تعلق هذا الحكم على الإحرام حيث مات محرمًا، فيعمّ كل محرم، كيف والتلبية من لوازم الإحرام، والعمل بالحديث مقدم على القياس، وهو متعين.
ولقد أجاد من قال، وأحسن في المقال [من الوافر]:
إِذا جَالَتْ خُيُولُ النَّصِّ يَوْمًا
…
تُجَارِي فِي مَيَادِينِ الْكِفَاحِ
غَدَتْ شُبَهُ الْقِيَاسِيّينَ صَرْعَى
…
تَطِيرُ رُؤُوسُهُنَّ مَعَ الرِّيَاحِ
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2892]
(
…
) - (وَحَدَّثنَا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانيُّ، حَدَّثنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَأَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَةَ، إِذْ وَقَعَ مِنْ رَاحِلَتِه، قَالَ أَيُّوبُ: فَأَوْقَصَتْهُ، أَو قَالَ: فَأَقعَصَتْهُ، وَقَالَ عَمْرٌو: فَوَقَصَتْهُ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْن، وَلَا تُحَنِّطُوهُ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأسَهُ - قَالَ أَيُّوبُ: فَإِن اللهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا، وَقَالَ عَمْرٌو: فَإِنَّ اللهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُلَبِّي").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِي) سليمان بن داود الْعَتَكيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(حَمَّادُ) بن زيد، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة السَّخْتيانيّ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (مِنْ رَاحِلَتِهِ) هو بمعنى قوله في الرواية السابقة: "من بعيره"؛ لأن الراحلة والبعير يُطلق كلّ منهما على الذكر والأنثى، فتنبّه.
وقوله: (قَالَ أَيُّوبُ: فَأَوْقَصَتْهُ، أَو قَالَ: فَأَقعَصَتْهُ
…
إلخ) أشار به إلى الاختلاف الواقع بين أيوب السختيانيّ، وبين عمرو بن دينار، فقال أيوب في رواية:"فأوقصته، أو فاقعصته" بالشكّ، وقال عمرو:"فوقصته" بدون شكّ، هذا من حيث اللفظ، وأما من حيث المعنى فالثلاثة بمعنى واحد، يقال: وقصته ناقته؛ أي: أوقعته، فاندقّت عنقه، ويقال: لمن اندقّت عنقه: وقِصٌ، فهو موقوص على بناء ما لم يُسمّ فاعله، ويقال أيضًا: أوقصته رباعيًّا، وهما لغتان، والثلاثيّ أفصح، ويقال: قصعته: بمعنى قتلته لحينه، ومنه قُعاص
الغنم، وهو موتها بداء يأخذها، فلا يُلبثها، قاله في "المفهم"
(1)
.
وقال في "القاموس": قَعَصَهُ، كمنعه: قتله مكانه، كأقعصه، وانقعص: مات، والشيءُ انثنى، وقال أيضًا: الْقَعْصُ: الموت الْوَحِيّ، ومات قعصًا: أصابته ضربة، أو رَمْيةٌ، فمات مكانه، وكغُرَاب: داء في الغنم، لا يُلبثها أن تموت، وداء في الصدر، كأنه يَكسر العُنُق. انتهى
(2)
.
وقوله: (وَلَا تُحَنِّطُوهُ) هو بالحاء المهملة؛ أي: لا تُمِسُّوه حَنُوطًا، والْحَنُوط بفتح الحاء، ويقال له: الْحِنَاط بكسر الحاء، وهو أخلاط من طيب، تُجمع للميت خاصّة، لا تُستعمل في غيره.
قال الفيّوميّ رحمه الله: الْحَنُوط، والْحِنَاطُ، مثلُ رَسُولٍ، وكِتَابٍ: طيبٌ يُخلط للميت خاصّة، وكلُّ ما يُطيّب به الميتُ، من مسك، وذَرِيرةٍ، وصَنْدَل، وعَنْبَرٍ، وكافورٍ، وغير ذلك، مما يُذَرّ عليه؛ تطييبًا له، وتخفيفًا لرطوبته، فهو حَنُوط. انتهى
(3)
.
وقوله: (وَلَا تُخَمِّرُوا رَأسَهُ) أي: لا تغطوه، قال القرطبيّ رحمه الله: قال بمقتضى ظاهر هذا الحديث: الشافعي، وأحمد، وإسحاق. فقالوا: إذا مات المحرم لا يحنَّط، ولا يغطى رأسه. وقال مالك، والكوفيون، والحسن، والأوزاعي: إنه يُفعل به ما يُفعل بالحلال. وكأنهم رأوا: أن هذا الحكم مخصوص ذلك الرجل. واستُدل لهم بوجهين:
أحدهما: أن التكاليف إنما تلزم الأحياء، لا الأموات.
وثمانيهما: أن قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا"؛ تصريح بالمقتضي لذلك، ولا يعلم ذلك غير النبيّ صلى الله عليه وسلم، فهو تعليل قاصر على ذلك الرجل.
وقد أجيب عن الأول: بأن الميت لما كان غير مكلف؛ فالحيّ هو المكلف بأن يفعل به ذلك.
وعن الثاني: أنه وإن لم يعلم ذلك غير النبيّ صلى الله عليه وسلم، لكنه يُرْجَى من فضل الله أن يفعل ذلك بكل من اتفق له من المحرمين مثل ذلك. وهذا كما قد
(1)
"المفهم" 3/ 293.
(2)
"القاموس المحيط" 2/ 314.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 154.
قال صلى الله عليه وسلم في الشهيد: "إنه يبعث يوم القيامة وجرحه يثعب دمًا، اللون لون دم، والعَرْف عَرْف مسك". انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2893]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِيهِ عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَيُّوبَ، قَالَ: نُبِّئْتُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَن رَجُلًا كَانَ وَاقِفًا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَذَكَرَ نَحْوَ مَا ذَكَرَ حَمَّاد، عَنْ أَيُّوبَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن عُليّة، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (نُبِّئْتُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ) هكذا في رواية إسماعيل ابن عليّة، عن أيوب قال: نُبِّئتُ، ولم يذكر من أنبأه، وقد رواه المصنّف في الرواية السابقة، عن أبي الربيع، عن حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، وأيوب، كلاهما عن سعيد بن جبير، ولم يقل:"نُبِّئتُ"، وكذلك أخرجه البخاريّ عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن أيوب وحده، عن سعيد بن جُبير، ولم يقل:"نُبِّئتُ".
وقد أجاب الحافظ الرشيد العطّار رحمه الله
(2)
في رسالته التي تقدّمت في "شرح المقدّمة": فقال: ووقع في بعض طرقه في كتاب مسلم أيضًا، من رواية
(1)
"المفهم" 3/ 293 - 294.
(2)
هو الحافظ أبو الحسين يحيى بن عليّ بن عبد الله القرشي المصريّ المالكيّ الشهير برشيد الدين العطّار (584 - 662 هـ).
إسماعيل ابن علية، عن أيوب، قال: نُبِّئت عن سعيد، عن ابن عباس: "أن رجلًا كان واقفًا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو محرم
…
" الحديث. وهذا أيضًا يدخل في باب المقطوع، على مذهب الحاكم وغيره، إلا أن مسلمًا رحمه الله، لم يورده هكذا إلا بعد أن أورده من حديث حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، وأيوب، كلاهما عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما متصلًا، ثم أورد بعده حديث ابن علية الذي ذكرناه لينبّه - والله أعلم - على الاختلاف فيه على أيوب، وإذا اختلف حماد بن زيد، وغيره، في حديث أيوب بن أبي تميمة، فالقول قول حماد بن زيد، وقد روى ابن أبي خيثمة، عن يحيى بن معين، أنه قال: ليس أحد في أيوب أثبت من حماد بن زيد.
قال الرشيد رحمه الله: ولهذا قدّم مسلم في هذا الحديث طريق حماد على طريق ابن علية، والله عز وجل أعلم.
وقد أخرجه البخاري عن سليمان بن حرب، وأبو داود عن مسدد، والنسائي عن قتيبة، كلهم عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، فتبيّن اتصاله، والحمد لله.
قال الجامع عفا الله عنه: خلاصة ما أشار إليه الرشيد رحمه الله أن مسلمًا رحمه الله لم يورد رواية إسماعيل ابن عليّة هذه هنا اعتمادًا عليها، بل اعتماده على رواية حماد بن زيد التي قبلها، وهي التي أخرجها البخاريّ، وأبو داود، والنسائيّ؛ إذ هي متّصلة، وأما هذه فإنما أوردها لبيان الاختلاف الواقع في إسناد هذا الحديث مع الإشارة إلى ترجيح رواية حمّاد عليها؛ إذ هو مقدّم في أيوب على غيره، وقد تقدّم هذا البحث مطوّلًا في مقدّمة "قرّة عين المحتاج"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق
(1)
.
[تنبيه]: رواية إسماعيل ابن عُليّة، عن أيوب هذه لم أجدها بنصّها، ولكن ساق نحوها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" (2/ 274):
(3118)
- حدّثنا عليّ بن عبد الصمد، نا داود بن رُشيد، نا ابن عُليّة، نا
(1)
راجع: "قرة عين المحتاج في شرح مقدّمة صحيح مسلم بن الحجاج" 1/ 108 - 111.
أيوب، عن رجل، وعمرو بن دينار، وجعفر بن أبي وحشية، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن رجلًا كان واقفًا مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة، فصُرع عن راحلته، فأقعصته، أو قال كلمة نحو هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اغسلوه بماء وسدر، ولا تحنِّطوه، وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة - قال: وقال أحدهما: يلبي، وقال الآخر: ملبيًا، وقال الآخر: ملبدًا. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2894]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، أَخْبَرَنَا عِيسَى، يَعْنِي ابْنَ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ جُرَيْج، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَقْبَلَ رَجُلٌ حَرَامًا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَخَرَّ مِنْ بَعِيرِه، فَوُقِصَ وَقْصًا، فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَألبِسُوهُ ثَوْبَيْه، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأسَهُ، فَإِنَّهُ يَأَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُلَبِّي").
رجال هذا الإسناد: ستة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، والذي قبله.
وقوله: (أَقْبَلَ رَجُلٌ حَرَامًا) أي: محرمًا، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في معظم النسخ، وفي بعضها:"حَرَامٌ"، وهذا هو الوجه، وللأول وجهٌ أيضًا، ويكون حالًا وقد جاءت الحال من النكرة على قلّة، كما أشار إلى ذلك ابن مالك رحمه الله في "خلاصته" حيث قال:
وَلَمْ يُنَكَّرْ غَالِبًا ذُو الْحَالِ إِنْ
…
لَمْ يَتَأَخَّرْ أَو يُخَصَّصْ أَو يَبِنْ
مِنْ بَعْدِ نَفِيٍ أَو مُضَاهِيهِ كَـ "لَا
…
يَبْغِي امْرُؤٌ عَلَى امْرِيءٍ مُسْتَسْهِلَا"
وقوله: (فَخَرَّ مِنْ بَعِيرِهِ) أي: سقط من ظهره.
وقوله: (فَوُقِصَ وَقْصًا) بالبناء للمفعول؛ أي: كُسرت عنقه كسرًا، يقال: وُقِصَ الرجلُ، فهو موقوصٌ.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2895]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ الْبُرْسَانِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْر أَخْبَرَهُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَقبَلَ رَجُلٌ حَرَامٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِه، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا"، وَزَادَ: لَمْ يُسَمِّ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ حَيْثُ خَرَّ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسّيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ الْبُرْسَانِيُّ) تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (بِمِثْلِهِ) أي: بمثل حديث عيسى بن يونس عن ابن جريج.
وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ) الضمير لمحمد بن بكر الْبُرسانيّ، وكذا فاعل "وزاد".
وقوله: (وَزَادَة لَمْ يُسَمِّ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ حَيْثُ خَرَّ) أي: زاد محمد بن بكر في روايته قوله: "لم يُسمّ سعيد بن جبير حيث مات" أي: المكان الذي مات فيه ذلك الرجل الموقوص، وقد بُيّن ذلك المكان فيما سبق من رواية عمرو بن دينار، وأيوب السختيانيّ، كلاهما عن سعيد بن جبير، وفيه: "بينما رجل واقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة
…
" الحديث، فتبيّن أنه مات بعرفة، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية محمد بن بكر، عن ابن جريج هذه لم أجد من ساقها تامّة، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2896]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَن رَجُلًا أَوْقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ في ثَوْبَيْهِ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأسَهُ، وَلَا وَجْهَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو كرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قريبًا
2 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(سُفْيَانُ) الثوريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله، والحديث متفق عليه، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله.
[تنبيه]: قوله: (وَلَا تُخَمِّرُوا رَأسَهُ، وَلَا وَجْهَهُ) وفي رواية أبي بشر، عن سعيد بن جبير:"خارجٌ رأسه، ووجهه"، وفي رواية أبي الزبير، عن سعيد:"فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغسلوه بماء وسدر، وأن يكشفوا وجهه"، وفي رواية منصور، عن سعيد:"ولا تُغَطُّوا وجهه".
قال السنديّ رحمه الله في "شرح النسائيّ": قيل: كشف الوجه ليس لمراعاة الإحرام، وإنما هو لصيانة الرأس من التغطية، كذا ذكره النوويّ، وزعم أن هذا التأويل لازم عند الكل.
قال السنديّ: ظاهر الحديث يفيد أن المحرم يجب عليه كشف وجهه أيضًا، وأن الأمر بكشف وجه الميت لمراعاة الإحرام، نعم من لا يقول بمراعاة إحرام الميت يحمل الحديث على الخصوص، ولا يلزم منه أن يؤول الحديث، كما قال النوويّ، والله أعلم.
قال الحافظ رحمه الله: واستُدِلّ بذلك على بقاء إحرامه؛ خلافًا للمالكيّة، والحنفيّة، وقد تمسّكوا من هذا الحديث بلفظة اختُلف في ثبوتها، وهي قوله:"ولا تخمّروا وجهه"، فقالوا: لا يجوز للمحرم تغطية وجهه، مع أنهم لا يقولون بظاهر هذا الحديث فيمن مات محرمًا. وأما الجمهور، فأخذوا بظاهر الحديث، وقالوا: إن في ثبوت ذكر الوجه مقالًا، وتردّد ابن المنذر في صحّته، وقال البيهقيّ: ذكر الوجه غريبٌ، وهو وَهَمٌ من بعض رواته.
وفي كلّ ذلك نظر، فإن الحديث ظاهره الصحّة، ولفظه عند مسلم من طريق إسرائيل، عن منصور، وأبي الزبير، كلاهما عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، فذكر الحديث، قال منصور:"ولا تُغَطُّوا وَجْهَهُ". وقال أبو الزبير:
"وأن يكشفوا وجهه"
(1)
.
وأخرجه النسائيّ، من طريق عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير بلفظ:"ولا يُمسّ طيبًا خارجٌ رأسه"، قال شعبة: ثم حدثني به بعد ذلك، فقال:"خارج رأسه ووجهه". انتهى. وهذه الرواية تتعلق بالتطيب، لا بالكشف، والتغطية، وشعبة أحفظ من كلّ من روى هذا الحديث، فلعلّ بعض رواته انتقل ذهنه من التطيب إلى التغطية.
وقال أهل الظاهر: يجوز للمحرم الحيّ تغطية وجهه، ولا يجوز للمحرم الذي يموت، عملًا بالظاهر في الموضعين.
وقال آخرون: هي واقعة عين، لا عموم لها؛ لأنه علّل ذلك بقوله:"فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا"، وهذا الأمر لا يتحقّق وجوده في غيره، فيكون خاصًّا بذلك الرجل، ولو استمرّ بقاؤه على إحرامه لأَمَرَ بقضاء مناسكه.
وقال أبو الحسن ابن القصّار: لو أريد تعميم هذا الحكم في كلّ محرم لقال: "فإن المحرم"، كما جاء:"أن الشهيد يبعث، وجرحه يثعب دمًا".
وأجيب بأن ظاهر الحديث ظاهر في أن العلّة في الأمر المذكور كونه كان في النسك، وهي عامة في كلّ محرم، والأصل أن كلّ ما ثبت لواحد في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم ثبت لغيره، حتى يتّضح التخصيص. انتهى المقصود من كلام الحافظ.
وقد أجاد المحدّث الكبير الشيخ الألباني رحمه الله في كتابه "إرواء الغليل"، حيث حقّق صحّة زيادة ذكر الوجه في هذا الحديث خلاف ما قاله البيهقيّ وغيره من أن ذكره غريب، وحاصل ما قاله الشيخ بعدما خرّج الحديث:
وفي رواية منصور، عن سعيد بن جبير بلفظ:"ولا تُغَطُّوا وجهه"، بدل:"ولا تخمّروا رأسه"، رواه مسلم، وأبو عونة، وابن الجارود، والبيهقيّ، وكذلك
(1)
قال الجامع: نقل الحافظ رحمه الله لرواية مسلم تخليط، فقوله: من طريق إسرائيل، عن منصور، وأبي الزبير، ليس كذلك؛ لأن رواية إسرائيل قاصرة على منصور، وأما أبو الزبير، فإنما روى عنه زهير، لا إسرائيل، وقوله: وقال أبو الزبير: "ولا تكشفوا وجهه، ليس كما قال، بل هو: "وأن يكشفوا وجهه" فتنبّه.
رواه جماعة عن عمرو بن دينار، عن ابن جبير. أخرجه الطبراني، والدارقطنيُّ. وجمع بينهما سفيان، وهو الثوريّ، عن عمرو بن دينار بلفظ:"ولا تخمّروا رأسه، ولا وجهه"، أخرجه مسلم، وابن ماجه، والبيهقيّ، من طريقين عن وكيع، عن سفيان به، وتابع وكيعًا أبو داود الْحَفَريّ، عن سفيان به، أخرجه النسائيّ بسند صحيح.
وتابعه أشعث بن سوّار، وهو ضعيف، وأبو مريم، وأظنه عبد الغفّار بن قاسم الأنصاريّ رافضيّ ليس بثقة، كلاهما عن عمرو بن دينار به، أخرجه الطبرانيّ. وفي رواية أبي الزبير، عن سعيد بن جبير بلفظ:"وأن يكشفوا وجهه - حسبته قال: ورأسه"، أخرجه مسلم، وأبو عوانة، والبيهقيّ تعليقًا، وقال: وذكرهر الوجه فيه غريب، ورواية الجماعة الذين لم يشكوا، وساقوا المتن، أحسن سياقة أولى بأن تكون محفوظة.
ويرد عليه ما سبق من الطرق، والمتابعات التي لا شكّ فيها أصلًا، ولهذا تعقبه ابن التركمانيّ.
قلت: قد صحّ النهي عن تغطيتهما، فجمعهما بعضهم، وأفرد بعضهم الرأس، وبعضهم الوجه، والكلّ صحيح، ولا وهم في شيء منه في متنه، وهذا أولى من تغليط مسلم. يعني في إخراجه للرواية التي فيها ذكر الوجه، وهو كما قال، فإنه يبعد جدًّا أن يجتمع أولئك الثقات على ذكر هذه الزيادة في الحديث خطأ منهم جميعًا، فهي زيادة محفوظة، إن شاء الله تعالى.
وقد جاءت من طريق آخر عن سعيد بن جبير، يرويه شعبة، قال: سمعت أبا بشر يحدّث، عن سعيد بن جبير
…
فذكر الحديث بلفظ: "
…
وأن يكفّن في ثوبين، ولا يمسّ طيبًا، خارجٌ رأسُهُ، قال شعبة: ثم حدثني به بعد ذلك: خارج رأسه ووجهه"، أخرجه مسلم، وأبو نعيم، والبيهقيّ. وأخرجه النسائيّ، بلفظ: "وكفّنوه في ثوبين، ثم قال على أثره: خارجًا رأسه، قال: ولا تمسّوه طيبًا، فإنه يُبعث يوم القيامة ملبيًا، قال شعبة: فسألته بعد عشر سنين، فجاء بالحديث كما كان يجيء به إلا أنه قال: ولا تخمّروا وجهه ورأسه". أخرجه من طريق خالد: حدّثنا شعبة به.
وأخرجه ابن حبّان في "صحيحه" من طريق أبي أسامة، عن شعبة بهذا
اللفظ: "ولا تخمّروا وجهه ورأسه" كما في "الجوهر النقي"، ثم أخرجه النسائيّ، من طريق خَلَف بن خليفة، عن أبي بشر بلفظ:"ولا يُغَطّى رأسه ووجهه". وإسناده على شرط مسلم، إلا أن خلفًا هذا كان اختلط في الآخر، ومن طريقه رواه ابن حزم في "حجة الوداع"، كما في "الجوهر النقيّ"، وعزاه إليه وحده، وهو قصور.
وأما قول الحافظ في "الفتح" 4/ 47 بعد أن ذكر رواية شعبة هذه من طريق مسلم: "وهذه الرواية تتعلّق بالتطيّب، لا بالكشف والتغطية، وشعبة أحفظ كلّ من روى هذا الحديث، فلعلّ بعض رواته انتقل ذهنه من التطيّب إلى التغطية".
قلت: وهذا من الحافظ أمر عجيب، فإن الطرق كلها تدلّ أن الرواية إنما تتعلّق بالكشف، لا بالتطيب، على خلاف ما حملها عليه الحافظ، وإنما غرّه رواية مسلم، وفيها تقديم، وتأخير، كما دلّ على ذلك رواية النسائيّ وغيره، فقوله:"خارج رأسه" عند مسلم جملة حالية لقوله: "وأن يكفّن في ثوبين"، لا لقوله:"ولا يمسّ طيبًا" كما توهّم الحافظ، ويؤيّد ذلك رواية شعبة نفسه فضلًا عن غيره:"ولا تخمّروا وجهه ورأسه"، فإنها صريحة فيما ذكرنا.
وجملة القول أن زيادة الوجه في الحديث ثابتة محفوظة عن سعيد بن جبير من طرق عنه، فيجب على الشافعيّة أن يأخذوا بها كما أخذ بها الإمام أحمد في رواية عنه، كما يجب على الحنفيّة أن يأخذوا بالحديث، ولا يتأوله بالتأويلات البعيدة توفيقًا بينه وبين مذهب إمامهم. انتهى كلام الشيخ الألباني، وهو تحقيق نفيس جدًّا.
والحاصل أن زيادة "وجهه" صحيحة، فيجب العمل بها، فيحرم على المحرم تغطية وجهه، ورأسه، كما هو ظاهر مذهب النسائيّ رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2897]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاح، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ، حَدثنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى،
وَاللَّفْظُ لَهُ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَجُلًا كَانَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُحْرِمًا، فَوَقَصَتْهُ نَاقتهُ، فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْه، وَلَا تَمَسُّوهُ بِطِيبٍ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّدًا").
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ) الدُّولابيّ، أبو جعفر البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 227)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.
2 -
(هُشَيْمُ) بن بشير، تقدّم قريبًا.
3 -
(أَبُو بِشْرِ) بن أبي وحشيّة جعفر بن إياس الواسطيّ، بصريّ الأصل، ثقةٌ من أثبت الناس في سعيد بن جبير [5](ت 5 أو 126)(ع) تقدم في "الطهارة" 9/ 578.
[تنبيه]: كون أبي بشر هذا هو جعفر بن إياس هو الذي ذكره في "تحفة الأشراف"(4/ 302) ومن الغريب أن القاضي عياض، وتبعه النوويّ قال في "شرحه": أبو بشر هذا هو الْعنبريّ، واسمه الوليد بن مسلم يُعدّ في البصريين
…
إلخ
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن الأول هو الصواب؛ لأمور:
(الأول): أن الحافظ أبا عوانة صرّح به في "مسنده"، فقال (2/ 274):"وجعفر بن أبي وحشيّة".
(والثاني): أن الحافظ المزيّ صرح به أيضًا في "تحفته"(4/ 302)، حيث أورد الحديث في "ترجمة جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير"، ولم يتعقّبه الحافظ في "النكت"، بل وافقه عليه.
(والثالث): أنه لم يذكر المزيّ في "تحفته" ترجمة الوليد بن مسلم عن سعيد بن جير أصلًا، لا في هذا الحديث، ولا في غيره.
والحاصل أن أبا بشر هذا هو جعفر بن إياس، لا الوليد بن مسلم، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى وليّ التوفيق.
(1)
راجع: "إكمال المعلم" 4/ 224، و"شرح النوويّ" 8/ 130.
4 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم قريبًا.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (فَوَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ) ورُوي: "فأوقصته"، وهما صحيحان، قاله القاضي، أبو الفضل اليحصبي. قال: ولم يذكر صاحب "الأفعال" إلا "وقصه" لا غير، والوقص ههنا كسر العنق، ومعناه: أنها صرعته، فدقت عنقه، وجاء في بعض طرقه أيضًا:"فأقعصته"، ومعناه: قتلته لوقته، ورُوي:"فأقصعته" بتقديم الصاد على العين، ومعناه: فضخته، وهكذا جاء:"فأقعصته" رباعيًّا، وقال بعض العلماء: الوجه فيه أن يكون ثلاثيًّا، والله تعالى أعلم.
وقوله: (وَلَا تَمَسُّوهُ) بفتح التاء، والميم، يقال: مَسّ الماء الجسدَ، من باب تَعِبَ، مَسًّا: أصابه، ويتعدى إلى ثان بالحرف، وبالهمزة، فيقال: مسِسْتُ الجسدَ بماء، وأمسَسْتُ الجسد الماءَ، قاله في "المصباح"، فالباء في قوله (بِطِيب) للتعدية، فما وقع في شرح السيوطيّ، والسنديّ، من ضبطه بضم التاء، وكسر الميم، من الإمساس رباعيًّا فغلظ، لأن الرباعيّ يتعدى بنفسه، لا بالباء، ولفظ الرواية التالية:"ولا يُمسُّ طيبًا" بالبناء للمفعول، من الإمساس.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2898]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: "أَنَّ رَجُلًا وَقَصَهُ بَعِيرُهُ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُغْسَلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَلَا يُمَسَّ طيبًا، وَلَا يُخَمَّرَ رَأْسُهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّدًا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ) البصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو عَوَانَةَ) وضّاح بن عبد الله اليشكريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2899]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ نَافعٍ، قَالَ ابْنُ نَافِعٍ: أَخْبَرَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بِشْرٍ، يُحَدِّثُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يُحَدِّثُ أَن رَجُلًا أتى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَوَقَعَ مِنْ نَاقَتِه، فَأَقعَصَتْهُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يُغْسَلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَأَنْ يُكَفَّنَ فِي ثَوْبَيْن، وَلَا يُمَسَّ طِيبًا، خَارجٌ رَأْسُهُ، قَالَ شُعْبَةُ: ثُمَّ حَدَّثَنِي بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: خَارجٌ رَأسُهُ وَوَجْهُهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّدًا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافعٍ) محمد بن أحمد بن نافع الْعَبديّ البصريّ، صدوقٌ، من صغار [10] مات بعد (240)(م ت س) تقدم في "الإيمان" 12/ 158.
3 -
(غْنْدَرٌ) محمد بن جعفر، تقدّم قريبًا.
4 -
(شُعْبَةُ) بن الحجاج، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (فأقعصته)؛ أي: قتلته الراحلة قتلًا سريعًا، يقال: قعصه، كمنعه: قتله مكانه، كأقعصه. قاله في "القاموس".
وقوله: (وَأَنْ يُكَفَّنَ فِي ثَوْبَيْنِ) استدلّ به على إبدال ثياب المحرم، وتُعُقّب بأنه تقدّم بلفظ:"ثوبيه"، وبالإضافة، وأصرح منه ما وقع في رواية للنسائيّ، بلفظ:"في ثوبيه اللذين أحرم بهما"، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقوله: (خَارجٌ رَأْسُهُ) هكذا النسخ بالرفع، وهو خبر لمحذوف؛ أي: وهو خارج رأسه، والجملة حال من المفعول.
وقوله: (قَالَ شُعْبَةُ: ثُمَّ حَدَّثَنِي بِهِ
…
إلخ) أشار به شعبة إلى أن أبا بشر حدّثه بهذا الحديث مرّتين، ففي المرة الأولى حدّثه بقوله:"خارج رأسه"، وفي
المرة الثانية حدّثه بقوله: "خارج رأسه ووجهه"، فزاده:"ووجهه"، وقد تقدّم أنها زيادة صحيحة، فتنبّه.
وقوله: (مُلَبِّدًا) من التلبيد، وهو إلزاق بعض الشعر ببعض بنحو الصمغ حتى لا يتشعّث، ولا يَقْمَل، وإنما يُلبّد من يطول مُكثه في الإحرام
(1)
.
[تنبيه]: كتب في هامش النسخة التركيّة ما نصّه: قوله: "ملبّدًا" كذا بصيغة الفاعل في نسخة معتمدة بضبط القلم مصلح بالقلم بوضع كسرة تحت الباء بعد إزالة فتحتها بالحكّ من فوقها، وهو وإن وافق نظيره الكائن من التلبية من حيث الصيغة، إلا أنه لم يوافقه في المعنى المقصود منه؛ إذ لا يَحسُن بعثه وهو يلبّد رأسه، وإنْ حوّلنا إلى صيغة المفعول يحصل التحوّل في المعنى، لكن المحصّل منه إنما هو التحوّل من الحدوث إلى البقاء، والحال أن التلبيد كما سبق إلزاق بعض الشعر ببعض بنحو الصمغ، وهو لا يبقى بعد الغسل خصوصًا مع استعمال السدر، فلعلّ الصحّة في رواية "ملبّيًا". انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لا حاجة إلى هذه التكلفات، والحديث صحيح بلفظ "ملبّدًا"، كما هو صحيح بلفظ "ملبّيًا"، ولا غرابة في معناه، فإن الإنسان يُبعث على ما مات عليه، فإت مات ملبّدًا يُبعث ملبّدًا، ولا أثر لإزالة الغسل له بالماء والسدر؛ لأن المعتبر ما مات عليه، لا ما حصل له بعد ذلك من تغيير الغاسل له أو نحوه، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2900]
(
…
) - (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ الله، حَدَّثنا الْأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، عَنْ زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يَقُولُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: وَقَصَتْ رَجُلًا رَاحِلَتُهُ، وَهُوَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَغْسِلُوهُ
(1)
راجع: "النهاية" 4/ 224.
(2)
"صحيح مسلم" نسخة تحقيق محمد ذهني 4/ 25.
بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَأَنْ يَكْشِفُوا وَجْهَهُ، حَسِبْتُهُ قَالَ: وَرَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
(1)
، وَهُوَ يُهِلُّ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) الحمّال، تقدّم قريبًا.
2 -
(الْأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ) الملقّب شاذان، أبو عبد الرحمن الشاميّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [9](ت 208)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 56/ 1552.
3 -
(زُهَيْرُ) بن معاوية بن حُديج، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ يُدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
والباقيان ذُكرا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2901]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا
(2)
إِسْرَائِيلُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، فَوَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"اغْسِلُوهُ، وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا، وَلَا تُغَطُّوا وَجْهَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يُلَبِّي").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى) بن أبي المختار باذم الْعَبسيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(إِسْرَائِيلُ) بن يونس بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ الكوفيّ، ثقةٌ [7](ت 160) أو قبلها (ع) تقدم في "الطهارة" 2/ 542.
(1)
وفي نسخة: "فإنه يبعث، وهو يهلّ".
(2)
وفي نسخة: "أخبرنا".
3 -
(مَنْصُورُ) بن المعتمر، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (وَلَا تُغَطُّوا وَجْهَهُ) بضمّ التاء، وفتح الغين المعجمة، وتشديد الطاء، وأصله تُغطّيُوا، بوزن تُعَلِّموا، نُقلت ضمّة الياء التي هي لام الكلمة إلى الطاء، بعد سلب حركتها، ثم حُذفت الياء لالتقاء الساكنين، فصار تُغَطُّوا، فتنبّه.
[تنبيه]: هذا الإسناد مما استدركه الإمام الدارقطنيّ على المصنّف، فقال: إنما سمعه منصور من الحكم بن عُتيبة، وكذا أخرجه البخاريّ في "صحيحه" عن منصور، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، وهو الصواب، وقيل: عن منصور، عن سلمة ولا يصحّ. انتهى.
قال الحافظ الرشيد العطار في "غرره" بعد نقل كلام الدارقطنيّ هذا:
قلت: وقد تابع البخاريّ على إخراجه كذلك أبو داود السجستانيّ، وأبو عبد الرحمن النسائيّ، فأما أبو داود فرواه عن عثمان بن أبي شيبة، وأما النسائي، فرواه عن محمد بن قُدامة، كلاهما عن جرير، عن منصور، عن الحكم بإسناده، كما رواه البخاري، وجرير بن عبد الحميد من أعلم الناس بحديث منصور، وهذا مما يؤيد قول الدارقطني رحمه الله، إلا أن مسلمًا قدّس الله روحه، ونوّر ضريحه، قد أخرج هذا الحديث من طُرُق ثابتة، من رواية عمرو بن دينار، وأبي بشر، جعفر بن أبي وحشية، وغيرهما عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، بألفاظ أتم من حديث منصور الذي قدمناه، ثم أورد حديث منصور آخر طرق هذا الحديث، فإن ثبت انقطاعه من هذا الوجه، فقد بيّنا أنه متصل في كتاب مسلم من طرق أُخَرَ سواه، وأن البخاري وغيره قد أخرجوه في كتبهم متصلًا من حديث منصور أيضًا، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، ونحن نورده من كتب الأئمة الثلاثة ليتضح إتصاله، ثم ساق الأحاديث بإسناده، وقال: فهذه طرق هذا الحديث من الكتب الثلاثة التي ذكرناها، فقد اتّضح اتّصال وبان وجه الصواب فيه. انتهى كلام الرشيد العطّار رحمه الله، وهو بحثٌ مفيدٌ جدًّا، وقد تقدّم نقل رسالته برمّتها فيما سبق من شرح مقدّمة مسلم، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.
(15) - (بَابُ جَوَازِ اشْتِرَاطِ الْمُحْرِمِ التَّحَلُّلَ بِعُذْرِ الْمَرَضِ وَنَحْوِهِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2902]
(1207) - (حَدثنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ، حَدَثنَا أَبُو أسَامَةَ، عَنْ هِشَام، عَنْ أَبِيه، عَنْ عائشة رضي الله عنه قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزبَيْر، فقَالَ لَهَا: "أَرَدْتِ الْحَجَّ؟ " قَالَتْ: وَاللهِ مَا أَجِدُني إِلا وَجِعَةً، فَقَالَ لَهَا: "حُجِّي، وَاشْتَرِطي، وَقُولِي: اللَّهُمَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي"، وَكَانَتْ تَحْتَ الْمِقْدَادِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ) الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
2 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](201) وهو ابن (80) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
3 -
(هِشَامُ) بن عروة الأسديّ، أبو المنذر المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ ربما دلّس [5](ت 5 أو 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 350.
4 -
(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العوّام الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه مشهور [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة"ج 2 ص 407.
5 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، ماتت سنة (57) تقدّمت في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 310.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أن شيخه أحد التسعة الذين اتّفق الجماعة بالرواية عنهم بلا واسطة، وهم المذكورون في قولي:
اشْتَرَكَ الأَئِمَّةُ الْهُدَاةُ
…
ذَوُو الأصُولِ السِّتَّةُ الْوُعَاةُ
فِي تِسْعَةٍ مِنَ الشُّيُوخِ الْمَهَرْهْ
…
الْحَافِظِينَ النَّاقِدِينَ الْبَرَرَهْ
أُولَئِكَ الأَشَجُّ وَابْنُ مَعْمَرِ
…
نَصْرٌ وَيَعْقُوبُ وَعَمْرٌ السَّرِي
وَابْنُ الْعَلَاءِ وَابْنُ بَشَّارٍ كَذَا
…
ابْنُ الْمُثَنَّى وِزِيَادٌ يُحْتَذَى
وقد تقدّم هذا غير مرّة، وإنما أعدته؛ تذكيرًا؛ لطول العهد به، فتنبّه.
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من هشام، والباقيان كوفيّان.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، ورواية الابن عن أبيه، عن خالته.
6 -
(ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبنت حبيبه، ومن المكثرين السبعة، روت (2210) والنه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها) أنها (قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ) إنما دخل صلى الله عليه وسلم عليها عيادة لها، أو زيارةً وصلةً؛ لأنها بنت عمه، وفيه بيان تواضعه صلى الله عليه وسلم، وصلته، وتفقّده لأقاربه.
و"ضُباعة" - بضم الضاد المعجمة، بعدها جاء موحّدة، مخفّفة، وبعد الألف عين مهملة - بنت الزبير بن عبد المطّلب الهاشميّة، بنت عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، تزوّجها المقداد بن عمرو، فولدت له عبد الله، وكَرِيمة، فقتل عبد الله يوم الجمل مع عائشة رضي الله عنها، رَوَت ضُباعة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن زوجها المقداد، وعنها ابنتها كريمة بنت المقداد، وابن عباس، وعائشة، وابن المسيب، وعروة، وغيرهم، قال ابن عبد البرّ: لضباعة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أحاديث: منها الاشتراط في الحجّ، قال الزبير بن بكّار: لم يكن للزبير بن عبد المطلب عَقِب إلا من بنتيه: ضُباعة، وأختها أم الحكم.
[تنبيه]: قال الحافظ وليّ الدين العراقيّ رحمه الله: وأما قوله في رواية ابن ماجه من حديث أسماء، أو سعدى:"دخل على ضباعة بنت عبد المطلب"، فهو وَهَمٌ، لا يتأوّل بما قاله والدي رحمه الله في "شرح الترمذيّ" من أنه نسبة إلى جدّها كقوله صلى الله عليه وسلم:"أنا ابن عبد المطلب"، لأنه عَقَّبَ ذلك بقوله: فقال: "ما
يمنعك يا عمّتاه من الحجّ"؛ فدلّ على أنه بنى على أنها بنت عبد المطلب حقيقة حتى تكون عمته صلى الله عليه وسلم، وهو وَهَمٌ.
ووقع في كلام إمام الحرمين، والغزاليّ أنها ضباعة الأسلمية، وهو غلط فاحش، كما قال النوويّ، وغيره، والصواب الهاشمية، وليس في الصحابة أخرى يقال لها: ضباعة الأسلميّة، ولكنهما وَهِما في نسبتها، نعم في الصحابة أخرى تسمى ضباعة بنت الحارث أنصارية، وهي أخت أم عطية. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله
(1)
.
(فَقَالَ لَهَا: "أَرَدْتِ الْحَجَّ؟ ") هو بتقدير همزة الاستفهام، وفي الرواية التالية:"فقالت: يا رسول الله إني أريد الحجّ، وأنا شاكيةٌ"، وفي حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما:"أن ضباعة بنت عمّ المطّلب رضي الله عنهما أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني امرأة ثقيلة، وإني أريد الحج، فما تأمرني؟ .. ".
قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: قولها: "وإني أريد الحجّ" قد يقتضي ظاهره أنها قالت له ذلك ابتداء، وفي "صحيح البخاريّ":"لعلك أردت الحجّ"، وفي "صحيح مسلم" من ذلك الوجه:"أردت الحجّ".
ولا منافاة، فقد تكون إنما قالت: إني أريد الحجّ في جواب استفهامه لها، وليس اللفظ صريحًا في أنها قالت ذلك ابتداء، وكذا قوله في رواية ابن ماجه من حديث ضباعة أنه صلى الله عليه وسلم قال لها:"أما تريدين الحجّ العام؟ "، ومن رواية أسماء، أو سعدى:"ما يمنعك من الحجّ؟ "، كلّ ذلك يقتضي أن كلامها كان جوابًا لسؤاله.
لكن في حديث ابن عباس عند مسلم، وأصحاب السنن الأربعة: "أن ضباعة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت
…
"، وهذا قد ينافي قوله في حديث عائشة: "دخل على ضباعة
…
". وقد يُجمع بينهما بأنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن إذ ذاك في منزله، ثم جاء، فدخل عليها، وهي في منزله.
وفي حديث ابن عباس عند أبي داود، والترمذيّ: أنها قالت له: إني أربد الحجَّ، فاشترط؟ فقال لها:"نعم"، وهذا يقتضي أن أمره بالاشتراط ما
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 5/ 167.
كان إلا بعد استئذانها. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله
(1)
.
(قَالَتْ: وَاللهِ مَا أَجِدُنِي) أي: ما أجد نفسي، واتّحاد الفاعل والمفعول مع كونهما ضميرين لشيء واحد من خصائص أفعال القلوب
(2)
. (إِلا وَجِعَةً) بفتح الواو، وكسر الجيم؛ أي: مريضةً، وقال الطيبيّ رحمه الله؛ أي: أجد في نفسي ضعفًا من المرض، ولا أدري أأقدر على إتمام الحجّ أم لا؟
قال: فإن قلت: كيف طابق قولها: "والله" جوابًا عن قوله صلى الله عليه وسلم: "لعلّك أردت؟ ".
قلت: تضمّن في "لعلّ" معنى الاستقصار على سبيل التلطّف، ومن ثمة أظهرت العذر، وأقسمت عليه. انتهى
(3)
.
(فَقَالَ لَهَا: "حُجِّي) أي: أحرمي بالحجِّ (وَاشْتَرِطي) أي: اجعلي شرطًا في حجك عند الإحرام، وهو اشتراط التحلّل متى احتجتِ إليه، فكأنها قالت لما سألها النبيّ صلى الله عليه وسلم عن إرادتها الحجّ: إني أريده، وإني أُحسّ من نفسي مرضًا يمنعني من الاستمرار على الإحرام، أفأشترط شرطًا يجعلني في حِلّ متى أحتاج إليه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: نعم، ثم قالت كما في النسائيّ:"كيف أقول؟ قال: قولي: لبيك اللهمّ لبيك، ومحلّي من الأرض حيث تحبسني، فإن لك على ربّك ما استثنيت"؛ أي: قولي لدى إحرامك: اللهمّ مَحِلِّي؛ أي: موضع إحلالي من الأرض حيث حبستني؛ أي: هو المكان الذي عجزت عن الإتيان بالمناسك، وانحبست عنها بسبب قوّة المرض.
(وَقُولِي: اللَّهُمَّ مَحِلِّي) الْمَحِلّ - بفتح الميم، وكسر الحاء -: زمانٌ، أو مكانٌ، من حَلّ: إذا خرج من الإحرام، قاله الطيبيّ رحمه الله
(4)
.
وقال وليّ الدين رحمه الله: قوله: "مَحِلّي" بكسر الحاء؛ أي: موضع حلولي، أو وقت حلولي، والمحلّ يقع على المكان والزمان. انتهى
(5)
.
(1)
"طرح التثريب" 5/ 168.
(2)
"الفتح" 363/ 11 "كتاب النكاح" رقم (5089).
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 2037 - 2038.
(4)
"الكاشف" 6/ 2038.
(5)
"طرح التثريب" 5/ 168.
والمعنى: زمان، أو مكان تحلّلي من الإحرام، فـ "محلّي" مبتدأ، خبره قوله:(حَيْثُ حَبَسْتَنِي") أي: منعتني من السير بسبب ثِقَل المرض.
وفائدة هذا الاشتراط أن تفسير حلالًا بدون دوم الإحصار.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "حجي واشترطي، وقولي: اللهم محلي حيث حبستني"؛ معناه: أنه صلى الله عليه وسلم لما استفهمها عن إرادة الحج اعتَلَّت بأنها مريضة، وأنها خافت إن اشتد مرضها أن يتعذر عليها الإحلال، بناءً منها على أن المحصر بالمرض لا يتحلل إلا بالطواف بالبيت، وإن طال مرضه، كما هو مذهب مالك وغيره، فلما خافت هذا أقرّها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، ثم رَخَّصَ لهادي أن تشترط: أن لها التحلل حيث حبسها مرضها.
وبظاهر هذا الحديث قال جماعة من العلماء من الصحابة، والتابعين، وغيرهم؛ منهم: عمر، وعلي، وابن مسعود، وهو قول أحمد، وإسحاق، وأبي ثور.
وللشافعي قولان، فقال كل هؤلاء: يجوز الاشتراط في الحج، وأنه له الفسخ إذا وقع شرطه.
ومنع ذلك جماعة أخرى، وقالوا: إنه لا ينفع؛ منهم: ابن عمر، والزهريّ، ومالك، وأبو حنيفة؛ متمسكين بقوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وبقوله: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} ، واعتذروا عن هذا الحديث بوجهين:
أحدهما: ادعاء الخصوص بهذه المرأة.
وثمانيهما: أنهم حملوه على التحلل بالعمرة، فإنها أرادت أن تحج؛ كما جاء مفسرًا من رواية ابن المسيب، وهو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ضباعة أن تشترط وتقول: "اللهم الحج أردت، فإن تيسر، وإلا فعمرة".
وروي عن عائشة: أنها كانت تقول: "للحج خرجت، وله قصدت، فإن قضيته فهو الحج، وإن حال دونه شيء فهوالعمرة"، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن المذهب الأرجح هو ما ذهب إليه
(1)
"المفهم" 3/ 295 - 296.
الأولون، وأن التأويلات التي تمسّك بها المانعون غير مقبولة، وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى -.
وقوله: (وَكانَتْ تَحْتَ الْمِقْدَادِ) بيّن به أن ضُباعة رضي الله عنها كانت زوج المقداد بن الأسود رضي الله عنه، قال في "الفتح": ظاهر سياقه أنه من كلام عائشة رضي الله عنها، ويَحْتَمِل أنه من كلام عروة
(1)
.
والمقداد هو: ابن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة الْبَهْرانيّ، ثم الْكِنديّ، ثم الزهريّ، حالف أبوه كِنْدة، وتبنّاه الأسود بن عبد يغوث الزهريّ، فنُسب إليه، صحابيّ مشهور، من السابقين الأولين، لم يَثبُت أنه كان ببدر فارسٌ غيره، مات رضي الله عنه سنة (33) وهو ابن (70) سنةً. أخرج له الجماعة، وتقدّمت ترجمته في "الإيمان" 43/ 281.
[تنبيه]: صرّح في هذه الرواية بأن ضُباعة رضي الله عنها كانت تحت المقداد بن الأسود رضي الله عنه، وكذا هو في "صحيح البخاريّ"، وبسبب ذلك أورد البخاريّ هذا الحديث في "كتاب النكاح" في "باب الأكفاء في الدين" يشير إلى تزوجها بالمقداد، وليس كفؤًا لها من حيث النسب، فإِنه كِنْديّ، وليس كندة أكفاء لقريش، فضلًا عن بني هاشم، عند من يعتبر الكفاءة في النسب من العلماء، وإنما هو كفؤ لهادي الدين فقط، قاله وليّ الدين رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ في مسألة الكفاءة أن المعتبر هو الكفاءة في الدين، لا في أمر آخر، من النسب أو غيره، كما هو مذهب البخاريّ، والنسائيّ، وهو مذهب مالك من الأئمة، كما حقّقته في "شرح النسائيّ"، وستأتي هنا أيضًا مستوفاة في محلّها - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متفقٌ عليه.
(1)
"الفتح" 1/ 3631 - 364 "كتاب النكاح" رقم (5089).
(2)
"طرح التثريب" 5/ 167.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 2902 و 2903 و 2904](1207)، و (البخاريّ) في "النكاح"(5089)، و (أبو داود) في "المناسك"(1776)، و (الترمذيّ) في "الحجّ"(941)، و (النسائيّ) في "المناسك"(5/ 68)، و"الكبرى"(2/ 257)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(2937)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(11/ 23 و 389)، و (أحمد) في "مسنده"(16/ 64 و 202)، و (الدارميّ) في "سننه"(1811)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 300 و 301)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2602)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(9/ 86 و 87 و 88)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(3/ 79 و 5/ 115)، و"الكبير"(24/ 837 و 840 و 841 و 842)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 234 - 235)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(420)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 221)، و"الصغرى"(4/ 392)، و"المعرفة"(4/ 247)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2000)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): حديث قصّة ضُباعة أخرجه الشيخان، وأصحاب
السنن، وغيرهم، ورواه الشافعيّ رحمه الله عن ابن عيينة، عن هشام، عن أبيه، مرسلًا، وقال: لو ثبت حديث عروة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الاستثناء لم أَعْدُهُ إلى غيره؛ لأنه لا يحلّ عندي خلاف ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال البيهقيّ: أما حديث ابن عيينة، فقد رواه عنه عبد الجبّار بن العلاء موصولًا بذكر عائشة فيه. وثبت وصله أيضًا من جهة أبي أسامة حماد بن أسامة، أخرجه البخاريّ، ومسلم.
وثبت عن معمر، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة، وعن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أخرجه مسلم. وعن عطاء، وسعيد بن جبير، وطاوس، وعكرمة، عن ابن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو مخرّج في "صحيح مسلم". انتهى.
وأخرج حديث ابن عباس أيضًا أصحاب السنن الأربعة، ورواه ابن حبّان في "صحيحه"، والدارقطنيّ من رواية عبيد الله بن عمر، عن القاسم بن محمد، عن عائشة.
وقال ابن حزم: وقال الشافعيّ: إن صحّ الخبر قلت به، قال: قد صحّ الخبر، وبالغ في الصحّة، فهو قوله، وهو قول أحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وأبي سليمان - يعني داود -.
وفي الباب أيضًا عن أسماء بنت أبي بكر، أو سعدى بنت عوف، رواه ابن ماجه على الشكّ هكذا، وجابر، رواه البيهقيّ.
وقال ابن حزم في "المحلّى" بعد ذكر هذه الأحاديث سوى حديث أسماء، أو سعدى: فهذه آثار متظاهرة، متواترة، لا يسع أحدًا الخروج عنها.
وقال النسائيّ: لا أعلم أحدًا أسنده عن الزهريّ، غير معمر، وقال في موضع آخر: لم يسنده عن معمر غير عبد الرزاق فيما أعلم.
وأشار القاضي عياض إلى تضعيف الحديث، فإنه قال: قال الأصيليّ: لا يثبت في الاشتراط إسناد صحيح، وقال: قال النسائيّ: لا أعلم أسنده عن الزهريّ غير معمر.
قال النوويّ في "شرح مسلم": وهذا الذي عرّض به القاضي، وقاله الأصيليّ من تضعيف الحديث غلط فاحش جدًّا، نبهت عليه لئلا يغترّ به؛ لأن هذا الحديث مشهور في صحيحي البخاريّ، ومسلم، وسنن أبي داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وسائر كتب الحديث المعتمدة من طُرُق متعدّدة بأسانيد كثيرة عن جماعة من الصحابة، وفيما ذكره مسلم من تنويع طرقه أبلغ كفاية.
وقال الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ": والنسائيّ، لم يقل بانفراد معمر به مطلقًا، بل بانفراده به عن الزهريّ، ولا يلزم من الانفراد المقيّد، الانفراد المطلق، فقد أسنده معمر، وأبو أسامة، وسفيان بن عيينة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، وأسنده القاسم عنها، ولو انفرد به معمر مطلقًا لم يضرّه، وكم في "الصحيحين" من الانفراد، ولا يضرّ إرسال الشافعيّ له، فالحكم لمن وصل. هذا معنى كلامه، ذكر ولده الحافظ وليّ الدين رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيس جدًّا.
والحاصل أن حديث قصّة ضُباعة رضي الله عنها صحيح لا غبار عليه، فمن ضعّفه،
(1)
"طرح التثريب" 5/ 165 - 167.
أو طعن فيه، فهو الضعيف في نقده، المطعون في فهمه، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في الفوائد التي اشتمل عليها حديث قصّة ضباعة برواياته المختلفة:
1 -
(منها): بيان مشروعية الاشتراط في الحجّ.
2 -
(ومنها): أن دخوله صلى الله عليه وسلم على ضباعة رضي الله عنها كان عيادة، أو زيارة، وصلة، فإنها قريبته، كما تقدّم.
3 -
(ومنها): أن فيه بيان تواضعه صلى الله عليه وسلم، وصلته لرحمه، وتفقده، وهو محمول على أن الخلوة هناك كانت منتفية، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يخلو بالأجنبيات، ولا يصافحهنّ، وإن كان لو فعل ذلك لم يلزم منه مفسدة؛ لعصمته، لكنهم لم يعدّوا ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم، فهو في ذلك كغيره في التحريم، ذكره وليّ الدين رحمه الله
(1)
.
4 -
(ومنها): جواز اليمين في درج الكلام بغير قصد.
5 -
(ومنها): أن المرأة لا يجب عليها أن تستأذن زوجها في حج الفرض، كذا قيل، ولا يلزم من كونه لا يجوز له منعها أن يسقط عنها استئذانه، قاله في "الفتح"
(2)
.
6 -
(ومنها): أن الحديث ورد في الحجّ، ولكن العمرة في معناه، فلو أحرم بعمرة، فشرط التحلّل منها عند المرض كان كذلك، قال وليّ الدين رحمه الله: ولا خلاف في هذا بين المجوّزين للاشتراط فيما أعلم، ولعلّ العمرة داخلة في قوله في رواية النسائيّ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند النسائيّ:"فإن لكِ على ربّك ما استثنيت"، وقد عزا ابن قدامة في "المغني" هذا الحديث لمسلم، وفيه هذه الزيادة، وليست عند مسلم. انتهى.
7 -
(ومنها): أنه قد يُستَدَلّ به على أن المشترط لذلك يحلّ بمجرّد المرض والعجز، ولا يحتاج إلى إحلال، وقد قال الشافعية: إن اشترط التحلّل بذلك، فلا يحلّ إلا بالتحلّل، وإن قال: إذا مرضت، فأنا حلال، فهل يحتاج
(1)
"طرح التثريب" 5/ 171.
(2)
"الفتح" 11/ 363.
في هذه الصورة إلى تحلل، أو يصير حلالًا بنفس المرض، فيه وجهان لهم، الذي نصّ عليه الشافعيّ أنه يصير حلالًا بنفس المرض، قال وليّ الدين: ودلالة الحديث محتملة، فإن قوله:"محلّي" يَحْتَمِل أن يكون معناه: موضع حلّي، ويحتمل أن يكون معناه: موضع إحلالي. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الاحتمال الأول هو الظاهر، فما نصّ عليه الشافعي هو الأرجح، فتأمل، والله تعالى أعلم بالصواب.
8 -
(ومنها): أن المراد بالتحلل أن يُصَيِّر نفسه حلالًا، فلو شرط أن ينقلب حجه عمرة عند المرض، فذكر الشافعيّة أنه أولى بالصحّة من شرط التحلل، ونصّ عليه الشافعي، وإذا أجاز إبطال العبادة للعجز، فنقلها إلى عبادة أخرى أولى بالجواز.
وروى ابن خزيمة في "صحيحه"، والبيهقيّ في "سننه" من رواية يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيّب، عن ضُباعة، قالت: قلت: يا رسول الله، إني أريد الحجّ، فكيف أهلّ بالحجّ؟ قال:"قولي: اللَّهم إني أُهلّ بالحجّ إن أذنت لي به، وأعنتني عليه، ويسّرته لي، وإن حبستني فعمرة، وإن حبستني عنهما جميعًا، فمحلّي حيث حبستني".
قال الحافظ وليّ الدين: وهذه زيادة حسنة، يجب الأخذ بها، ويقال: ينبغي أن لا يجوز للحاجّ شرط التحلل منه مطلقًا، إلا مع العجز عنه، وعن العمرة، فمع القدرة على العمرة لا ينتقل للتحلّل المطلق. انتهى.
9 -
(ومنها): أنّ سبب الحديث إنما هو في التحلل بالمرض لكن قوله: "حبستني" يصدق بالحبس بالمرض، وبغيره من الأعذار كذهاب النفقة، وفراغها، وضلال الطريق، والخطإ في العدد، وقد صرّح الشافعيّة، والحنابلة بأن هذه الأعذار كالمرض في جواز شرط التحلّل بها، ومن الشافعية من خالف فيه.
10 -
(ومنها): أن ظاهر الحديث أنه لا يجب عليه عند التحلُّل بالشرط دم؛ إذ لو وجب لذكره صلى الله عليه وسلم، فإنه وقت الاحتياج إليه، وبهذا صرّح الحنابلة، والظاهريّة، وهو الأصحّ عند الشافعية، ومحلّ الخلاف عندهم في حالة الإطلاق، فلو شرط التحلّل بالهدي لزمه قطعًا، وإن شرطه بلا هدي لم يلزمه قطعًا، والله تعالى أعلم.
11 -
(ومنها): أن الحنابلة ذكروا أن هذا الشرط يؤثّر في إسقاط الدم فيما إذا حبسه عدوّ، وقالت الشافعية: لا يسقط دم الإحصار بهذا الشرط؛ لأن التحلل بالإحصار جائز بلا شرط، فشرطه لاغٍ. ومنهم من حكى فيه خلافًا، والله تعالى أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما قاله الحنابلة أرجح؛ لإطلاق حديث الاشتراط، فتأمل، والله تعالى أعلم.
12 -
(ومنها): أنه استَدَلّ به الجمهور على أنه لا يجوز التحلل بالإحصار بالمرض من غير شرط؛ إذ لو جاز التحلل به لم يكن لاشتراطه معنى.
13 -
(ومنها): أنه لا يجب القضاء عند التحلل بشرط، وبه صرّح الشافعية، وغيرهم.
14 -
(ومنها): أن المفهوم من لفظ الشرط أنه لا بدّ من مقارنته للإحرام، فإنه متى سبقه، أو تأخر عنه لم يكن شرطًا، وقد صرّح بذلك في قوله في حديث ابن عباس:"اشترطي عند إحرامك"، وهو بهذا اللفظ في "مصنّف ابن أبي شيبة".
15 -
(ومنها): أن ظاهر الحديث أنه لا بدّ من التلفظ بهذا الشرط كغيره من الشروط، وهو ظاهر كلام الشافعية، وذكر فيه ابن قدامة احتمالين:
أحدهما: هذا، قال: ويدلّ عليه ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس: "قولي: محلّي من الأرض حيث تحبسني"، وكذا في حديث عائشة في "الصحيحين":"وقولي: اللَّهم محلي حيث حبستني".
والثاني: أنه تكفي فيه النية، ووجهه بأنه تبع لعقد الإحرام، والإحرام ينعقد بالنيّة، والله تعالى أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى كون الاحتمال الأول هو الأقوى، والأظهر؛ لظاهر النصّ، فتأمل، والله تعالى أعلم.
16 -
(ومنها): أنه لا يتعيّن في الاشتراط اللفظ المذكور في الحديث، بل كلّ ما يؤدّي معناه يقوم مقامه في ذلك، قال ابن قُدامة: وغير هذا اللفظ مما يؤدي معناه يقوم مقامه؛ لأن المقصود المعنى، والعبارة إنما تُعتَبر لتأدية المعنى، ثم استشهد يقول علقمة: اللَّهم إني أريد العمرة إن تيسرت، وإلا فلا
حرج عليّ، وبقول شُريح: اللَّهم قد عرفتَ نيتي، وما أريد، فإن كان أمرًا تتمه، فهو أحبّ إليّ، والا فلا حرج عليّ، ونحوه عن الأسود، وقالت عائشة لعروة: قل: اللَّهم إني أريد الحج، وإياه نويت، فإن تيسر، وإلا فعمرة، ونحوه عن عميرة بن زياد، والله تعالى أعلم.
17 -
(ومنها): أن قوله: "محلّي حيث حبستني" يدلّ على أن المحصر يحلّ حيث يُحْبَس، وهناك يَنْحَر هديه، ولو كان في الحلّ، وبه قال الشافعيّ، وأحمد، وقال أبو حنيفة: لا ينحر هديه إلا في الحرم، والأول أصحّ، والله تعالى أعلم.
18 -
(ومنها): أنه خرج بقوله: "حيث حبستني" ما إذا شَرَط التحلّل بلا عذر، بأن قال في إحرامه: متى شئت، أو كَسِلت خرجت، فإن هذا لا يعتبر اتفاقًا، قاله وليّ الدين رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله من أن الاشتراط لا بدّ أن يكون بعذر هو الذي يدلّ عليه ظاهر حديث الباب، فما يفعله بعض الناس من أنه يشترط، ثم يتحلّل بلا عذر، وإنما لمجرد كسل، وعدم نشاط، فمخالف لما يقتضيه النصّ، فليُتنبّه لذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم الاشتراط في الإحرام:
اختلفوا في ذلك على مذاهب:
(المذهب الأول): جوازه، وهو مذهب جمهور أهل العلم من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم. وهو المشهور من مذهب الشافعيّ، فإنه نصّ عليه في القديم، وعلّق القول به في الجديد على صحة الحديث، وقد صحّ، كما تقدم، وقد روى ابن أبي شيبة فعله عن عليّ، وعلقمة، والأسود، وشُريح، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، والأمر به عن عائشة، وعبد الله بن مسعود، وعن عثمان أنه رأى رجلًا واقفًا بعرفة، فقال له: أشارطت؟ فقال: نعم، وعن
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 5/ 171 - 173.
الحسن، وعطاء في المحرم قالا: له شرطه، وروى البيهقيّ الأمر به عن أم سلمة. وقال ابن المنذر: ممن روينا عنه أنه رأى الاشتراط عند الإحرام عمر بن الخطاب، وعليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وهو مذهب عَبِيدة السلمانيّ، والأسود بن يزيد، وعلقمة، وشُريح، وسعيد بن المسيّب، وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة، وعطاء بن يسار، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وبه قال الشافعيّ إذ هو بالعراق، ثم وقف عنه بمصر، وبالأول أقول، وحكاه ابن حزم عن جمهور الصحابة، وحكاه الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ" عن جمهور الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم.
(المذهب الثاني): استحبابه، وهو مذهب الإمام أحمد، فإن ابن قدامة جزم به في "المغني"، وهو المفهوم من قول الخرقيّ، والمجد ابن تيمية في "مختصريهما" عند ذكر الإحرام.
(المذهب الثالث): إيجابه، واليه ذهب ابن حزم الظاهريّ، تمسّكًا بالأمر.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا عزا وليّ الدين الوجوب إلى الظاهرية، وكذا الحافظ في "الفتح" والذي ذكره ابن حزم في "المحلّى" 7/ 99 - الاستحباب، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.
(المذهب الرابع): إنكاره، وهذا مذهب الحنفية، والمالكيّة، وروى ابن أبي شيبة عن هشام بن عروة، قال: كان أبي لا يرى الاشتراط في الحجّ شيئًا.
وعن إبراهيم النخعيّ: كانوا لا يشترطون، ولا يرون الشرط شيئًا.
وعن طاوس، والحكم، وحماد: الاشتراط في الحج ليس بشيء.
وعن سعيد بن جبير: إنما الاشتراط في الحج فيما بين الناس، وعنه أيضًا: المستثني، وغير المستثني سواء.
وعن إبراهيم التيميّ: كان علقمة يشترط في الحجّ، ولا يراه شيئًا.
وروى الترمذيّ، وصححه، والنسائيّ عن ابن عمر أنه كان ينكر الاشتراط في الحجّ، ويقول:"أليس حسبكم سنة نبيّكم صلى الله عليه وسلم "، زاد النسائي في روايته: أنه لم يشترط؛ أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو في "صحيح البخاريّ" بدون أوله، ولفظه: "أليس حسبكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن حُبس أحدكم عن الحجّ طاف بالبيت،
وبالصفا والمروة، ثم حلّ من كلّ شيء حتى يحج عامًا قابلًا، فيهدي، أو يُطعم، إن لم يجد هديًا".
وحكى ابن المنذر إنكاره عن الزهريّ أيضًا، وحكاه ابن عبد البرّ عن سفيان الثوريّ. وحكاه المحبّ الطبريّ عن أحمد، وهو غلط، فالمعروف عنه ما قدمناه.
قال ابن قدامة: وعن أبي حنيفة أن الاشتراط يفيد إسقاط الدم، فأما التحلل فهو ثابت عنده بكل إحصار.
وقال ابن حزم: روينا عن إبراهيم: كانوا يستحبّون أن يشترطوا، وكانوا لا يرون الشرط شيئًا لو أن الرجل ابتلي، وروينا عنه: كانوا يكرهون أن يشترطوا في الحجّ، قال ابن حزم: هذا تناقض مرّة كانوا يستحبّون، ومرّة كانوا يكرهون، فأقل ما في هذا ترك رواية إبراهيم لاضطرابها.
قال الجامع عفا الله عنه: إن أرجح المذاهب مذهب القائلين بمشروعيّة الاشتراط، كما سيأتي تمام البحث فيه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): في بيان مُتمسَّك كل مذهب من هذه المذاهب:
قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: من قال بالجواز تمسّك بهذا الحديث، ورأى أن الأمر به ترخيص، وتوسعة، وتخفيف، ورفق، وأنه يتعلّق بمصلحة دنيوية، وهي ما يحصل لها من المشقّة بمصابرة الإحرام مع المرض.
ومن قال بالاستحباب رأى المصلحة فيه دينيّة، وهو الاحتياط للعبادة، فإنها بتقدير عدمه قد يعرض لها مرض يُشَعّث العبادة، ويوقع فيها الخلل، وهذا بعيد.
ومن قال بالوجوب حمل الأمر على حقيقته، وهو أبعد من الذي قبله، ولو كان واجبًا لما أخلّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بفعله، ولا الصحابة رضي الله عنهم، ولو فعلوا ذلك في حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم لنُقِل، وقد صرّح ابن عمر بأنه لم يشترط، كما سيأتي ذكره في الباب التالي، ولما لم يأمر به إلا هذه المرأة الواحدة بعد شكايتها له علمنا أن ذلك ترخيص حرّك ذكره هذا السبب، وهو شكواها.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بالوجوب يحتاج إلى ثبوته، كما أسلفته، والله تعالى أعلم.
ومن قال بالإنكار منهم من ضعّف الحديث كما تقدّم ذكره، وردّه، ومنهم من أوّله، وفي تأويله أوجه:
(أحدها): أنه خاصّ بضباعة، حكاه الخظابيّ عن بعضهم، قال: وقال: يشبه أن يكون بها مرض، أو حال كان غالب ظنها أنه يعوقها عن إتمام الحجّ، وهذا كما أذن لأصحابه في رفض الحجّ، وليس ذلك لغيرهم.
وقال النوويّ في "شرح مسلم" بعد ذكره هذا المذهب: وحملوا الحديث على أنها قضية عين، وأنه مخصوص بضباعة، وحكاه في "شرح المهذّب" عن الرويانيّ من الشافعية، ثم قال: وهذا تأويل باطلٌ، ومخالف لنصّ الشافعيّ، فإنه إنما قال: لو صحّ الحديث لم أَعْدُهُ، ولم يتأوله، ولم يخصّه.
(الثاني): أن معناه: محلي حيث حبستني بالموت؛ أي: إذا أدركتني الوفاة انقطع إحرامي. حكاه النوويّ في "شرح المهذّب" عن إمام الحرمين، ثم قال: وهذا تأويل ظاهر الفساد، وعجبت من جلالة الإمام كيف قاله؟
(الثالث): أن المراد التحلل بعمرة، لا مطلقًا، حكاه المحبّ الطبريّ عن بعضهم. ويردّه حديث ضباعة المتقدّم، حيث قال لها:"قولي: اللهم إني أريد الحج إن أذنت لي به، وأعنتني عليه، ويسّرته لي، وإن حبستني، فعمرة، وإن حبستني عنهما جميعًا، فمحلّي حيث حبستني". فإن هذا فيه التصريح بالتحلل المطلق عن الحج والعمرة معًا.
وحكى ابن حزم عن بعضهم أن هذا الحديث مخالف لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ولقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]. وعن بعضهم أنه مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل شرط ليس في كتاب الله، فهو باطل"، وعن بعضهم أن هذا الخبر رواه عروة، وعطاء، وسعيد بن جبير، وطاوس، وروي عنهم خلافه. ثم قال ابن حزم: سمعناكم تعتلّون بهذا في الصاحب، فعذيتموه إلى التابع، وإن درجتموه بلغ إلينا، وإلى من بعدنا، فصار كلّ من بلغه حديث، فتركه حجة في ردّه، ولئن خالف هؤلاء
ما رووا، فقد رواه غيرهم، ولم يخالفه، وأطنب ابن حزم في ردّ هذه المقالات، وهي حقيقة بذلك، والله تعالى أعلم.
قال وليّ الدين: والظن بمن يُعتَمَد عليه ممن خالف هذا الحديث أنه لم يبلغه، قال البيهقيّ: عندي أن ابن عمر لو بلغه حديث ضباعة في الاشتراط لم ينكره، كما لم ينكره أبوه. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أو يُحْمَل على أنه بلغه، لكن تأوله بشيء من التأويلات السابقة.
والحاصل أن الحقّ هو قول الجمهور، وهو جواز الاشتراط، وأنه إذا اشترط، وحصل المانع تحلّل، ولم يلزمه شيء من الدم أو غيره، عملًا بظاهر الحديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2903]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِب، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ، وَأنا شَاكِيَةٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "حُجِّي، وَاشْتَرِطي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَني").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) تقدّم قبل حديث.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام، تقدّم قريبًا.
3 -
(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(الزهْرِيُّ) محمد بن مسلم، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقولها: (وَأنَا شَاكِيَةٌ) - بالشين المعجمة -؛ أي: مريضة، والشَّكْوُ، كالدَّلْو، والشَّكْوَى - بالقصر -، والشَّكْواءُ - بالمدّ، والشَّكَاةُ - بالهاء -، والشَّكَاءُ - بالمدّ -: المرض، أفاده في "القاموس".
وقوله: (حَيْثُ حَبَسْتَنِي) أي: منعتني من السير بسبب ثقل المرض.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مرَّ تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2904]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزاق، أَخبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عائشة رضي الله عنها مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
وهم المذكورون في الإسنادين الماضيين.
[تنبيه]: رواية معمر، عن هشام بن عروة هذه ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" (9/ 87) فقال:
(3774)
- أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة، قال: حدّثنا ابن أبي السريّ، قال: حدّثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل على ضُباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، وهي شاكية، فقال لها:"حُجِّي، واشترطي أن مَحِلِّي حيث حبستني". انتهى.
[تنبيه آخر]: أخرج النسائيّ رحمه الله رواية معمر هذه في "سننه"(5/ 168) فقال:
(3748)
- أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن راهويه، قال: أنبا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة، وعن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضُباعة، فقالت: يا رسول الله إني شاكية، وإني أريد الحجّ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"حُجِّي، واشترطي أن محلي حيث تحبسني".
قَال إسحاق: قلت لعبد الرزاق: كلاهما عن عائشة: هشام والزهريّ؟ قال: نعم.
قال أبو عبد الرحمن: لا أعلم أحدًا أسند هذا الحديثَ، عن الزهريّ غير معمر. انتهى.
وقوله: "قلت لعبد الرزاق
…
إلخ " يعني أن إسحاق بن راهويه تأكد عن
عبد الرزاق كون رواية كلّ من هشام بن عروة، والزهريّ، من حديث عائشة رضي الله عنها، لا من حديث غيرها، كابن عباس رضي الله عنهما مثلًا، وهذا قاله إسحاق من باب التأكّد، لا اتهامًا لشيخه عبد الرزاق في روايته، والحديث أخرجه مسلم في "صحيحه" من الطريقين، كما تراه في هذا الباب.
وقوله: "لا أعلم أحدًا أسنده
…
إلخ" يعني أنه انفرد بإسناد هذا الحديث معمر، عن الزهريّ.
وعبارته في "الكبرى": "لا أعلم أحدًا أسند هذا الحديث، حديثَ الزهريّ غير عبد الرزاق، عن معمر". انتهى.
وهذا يفيد أيضًا أن عبد الرزاق انفرد عن معمر بإسناده، لكن مثل هذا الانفراد لا يؤثّر في صحة الحديث، فقد أخرجه الشيخان في "صحيحيهما".
وقد تقدّم عن الحافظ العراقيّ رحمه الله أنه قال في "شرح الترمذيّ": والنسائيّ لم يقل بانفراد معمر به مطلقًا، بل بانفراده به عن الزهريّ، ولا يلزم من الانفراد المقيّد الانفراد المطلق، فقد أسنده معمر، وأبو أسامة، وسفيان بن عيينة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنه، وأسنده القاسم عنها، ولو انفرد به معمر مطلقًا لا يضرّه، وكم في "الصحيحين" من الانفراد. انتهى.
وقال في "الفتح": وقول النسائيّ هذا لا يلزم منه تضعيف طريق الزهريّ التي تفرّد بها معمر، فضلًا عن بقية الطرق؛ لأن معمرًا ثقةٌ حافظ، فلا يضرّه التفرّد، كيف؟ وقد وُجد لما رواه شواهد كثيرة. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2905]
(1208) - (وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيد، وَأَبُو عَاصِمٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْر، أَنَّهُ سَمِعَ طَاوُسًا، وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ: أَن ضُبَاعَةَ بِنْتَ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنهم أتتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: إِنِّي امْرَأَةٌ ثَقِيلَةٌ،
وَإِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ، فَمَا تَأَمُرُنِي؟ قَالَ:"أَهِلِّي بِالْحَجِّ، وَاشْتَرِطي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ تَحْبِسُني"، قَالَ: فَأَدرَكَتْ).
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ) الثقفيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.
2 -
(أَبُو عَاصِمٍ) الضحّاك بن مَخْلَد النبيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 212) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
3 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل باب.
4 -
(طَاوُسُ) بن كيسان اليمانيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
6 -
(عِكْرِمَةُ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) أبو عبد الله المدنيّ، أصله من البربر، كان لِحُصين بن أبي الْحُرّ العنبريّ، فوهبه لابن عباس لَمّا وَليَ البصرة لعلي رضي الله عنه، ثقةٌ ثبتٌ عالم بالتفسير، ولم يثبت تكذيبه عن ابن عمر، ولا يثبتُ عنه بدعة [3].
رَوَى عن مولاه، وعلي بن أبي طالب، والحسن بن علي، وأبي هريرة، وابن عمر، وابن عمرو، وأبي سعيد، وعقبة بن عامر، وجماعة من الصحابة والتابعين.
ورَوَى عنه إبراهيم النخعي، ومات قبله، وأبو الشعثاء جابر بن زيد، والشعبي وهما من أقرانه، وأبو إسحاق السبيعي، وأبو الزبير، وقتادة، وخلق كثير.
قال عباس الدُّوريّ عن ابن معين: مات ابن عباس، وعكرمة عبد لم يعتقه فباعه علي بن عبد الله بن عباس، ثم استردّه، وفي رواية غيره: وأعتقه، وقال عبد الصمد بن معقل: لَمّا قَدِم عكرمة الْجَنَدَ أهدى له طاوس نَخِيبًا بستين دينارًا، فقيل له؟ فقال: أتروني لا أشتري علم ابن عباس لعبد الله بن طاوس بستين دينارًا؟ وقال داود بن أبي هند عن عكرمة: قرأ ابن عباس هذه الآية: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَو مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} قال ابن عباس: لم أَدْر نجا القوم أو هلكوا؟ قال: فما زلت أبيّن له حتى عرف أنهم قد نجوا، فكساني
حُلّة، وقال عمر بن فضيل عن عثمان بن حكيم: كنت جالسًا مع أبي أمامة بن سهل بن حُنيف، إذ جاء عكرمة، فقال: يا أبا أمامة أُذَكِّرُك الله هل سمعت ابن عباس يقول: ما حدثكم عكرمة عني فصدقوه، فإنه لم يكذب عليّ؟ فقال أبو أمامة: نعم. وقال عمرو بن دينار: دَفَع إلَيَّ جابر بن زيد مسائل أسأل عنها عكرمة، وجعل يقول: هذا عكرمة مولى ابن عباس، هذا البحر فسلوه. وقال ابن عيينة: كان عكرمة إذا تكلم في المغازي فسمعه إنسان قال: كأنه مشرف عليهم يراهم. وقال جرير عن مغيرة: قيل لسعيد بن جبير: تعلم أحدًا أعلم منك؟ قال: نعم عكرمة. وقال إسماعيل بن أبي خالد: سمعت الشعبي يقول: ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة. وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة: كان أعلم التابعين أربعة: عطاء، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والحسن. وقال سلام بن مسكين عن قتادة: أعلمهم بالتفسير عكرمة. وقال أيوب: اجتمع حفّاظ ابن عباس، فيهم سعيد بن جبير، وعطاء، وطاوسٌ على عكرمة، فأقعدوه، فجعلوا يسألونه عن حديث ابن عباس.
وقال البخاريّ، ويعقوب بن سفيان، عن علي ابن المديني: مات بالمدينة سنة (104)، وقال عمرو بن علي وغير واحد: مات سنة خمس ومائة، وقال الواقدي: حدثتني ابنته أم داود أنه تُوفي سنة مائة، وهو ابن ثمانين سنة، وقال أبو عمر الضرير والهيثم بن عدي: مات سنة ست ومائة. وقال عثمان بن أبي شيبة وغير واحد: مات سنة (107). وقيل: إنه مات سنة (11) وذلك وَهَمٌ.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وأعاده بعده.
والباقون ذُكروا في الباب، والذي قبله.
وقولها: (إِنِّي امْرَأَةٌ ثَقِيلَةٌ) أي: أثقلني المرض، فهو بمعنى قولها في الرواية السابقة:"ما أجدني إلا وَجِعَةً"، وقولها:"وأنا شاكيةٌ".
وقوله: (قَالَ: فَأَدْرَكَتْ) أي: أدركت الحجّ، ولم تتحلّل حتى فَرَغَت منه، وتمام شرح الحديث يُعلم مما مضى في شرح حديث عائشة رضي الله عنها.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 2905 و 2906 و 2907](1208)، و (أبو داود) في "المناسك"(1776)، و (الترمذيّ) في "الحجّ"(941)، و (النسائيّ) في "المناسك"(15/ 67 و 168)، و"الكبرى"(2/ 357)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(2938)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 335 و 337 و 352)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 235)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 221)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2906]
(
…
) - (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ الله، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ هَرِم، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةَ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَن ضُبَاعَةَ أَرَادَت الْحَجَّ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَشْتَرِطَ، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ عَنْ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ) سليمان بن داود بن الجارود الطيالسيّ البصريّ، ثقةٌ حافظ [9](ت 204)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.
2 -
(حَبِيبُ بْنُ يَزِيدَ) هو: حبيب بن أبي حبيب الْجَرْميّ البصريّ الأنماطيّ، واسم أبيه يزيد، صدوق يخطئ [7].
رَوَى عن قتادة، وعمرو بن هَرِم، والحسن، وخالد القشريّ، وغيرهم.
وروى عنه ابنه محمد، وابن مهديّ، ويزيد بن هارون، وسليمان بن حرب، وغيرهم، وسمع منه القطان، ولم يحدث عنه، وقال: لم يكن في الحديث بذاك، وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عنه، فقال: هو كذا وكذا، وكان ابن مهديّ يحدث عنه، وقال ابن أبي خيثمة: نهانا ابن معين أن نسمع حديثه، وقال ابن عديّ: أرجو أنه لا بأس به، وذكره ابن حبان في "الثقات".
وقال ابن قانع: مات سنة (162)، وقال البخاريّ في "التاريخ": سمع ابن سيرين، وقتادة، قال حَبّان: حبيب بن أبي حبيب ثقةٌ، وقال ابن خلفون: أخرج له مسلم متابعةً.
أخرج له البخاريّ في "خلق أفعال العباد"، والمصنّف، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث متابعة.
3 -
(عَمْرُو بْنُ هَرِم) الأزديّ البصريّ، ثقةٌ [6].
رَوَى عن أبي الشعًثاء، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ورِبْعي بن حِرَاش، وغير هم.
وروى عنه حبيب بن أبي حبيب الْجَرْميّ، وجعفر بن أبي وحشية، وسالم المراديّ وواصل مولى أبي عُيينة.
قال أحمد، وابن معين، وأبو حاتم، وأبو داود: ثقةٌ، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وقال العجليّ: عمرو بن هَرِم ثقةٌ لا بأس به، نقله عنه ابن خلفون، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: صلى عليه قتادة بعدما دُفِنَ.
قال الحافظ: عَلَّق له البخاريّ موضعًا واحدًا في الطلاق قبل النكاح، ولم يذكره المزيّ، وكذا رَوَى البخاري في "تاريخه" بعد أن سَمَّى جده حيان، وتبعه ابن أبي حاتم، وابن أبي خيثمة، وابن حِبان، وغيرهم، وقال ابن أبي حاتم في باب الهاء: هَرِم بن حيّان الأزديّ، ويقال: العبديّ.
علّق له البخاريّ، وأخرج له المصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
والباقون ذُكروا في الباب، وفي الذي قبله.
والحديث من أفراد المصنّف، وقد من البحث فيه فيما قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2907]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَبُو أَيُّوبَ الْغَيْلَانِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ خِرَاشٍ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، وَهُوَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا رَبَاحٌ، وَهُوَ ابْنُ أَبِي مَعْروفٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِضُبَاعَةَ: "حُجِّي، وَاشْتَرِطِي أَن مَحِلِّي حَيْثُ تَحْبِسُنِي" وَفِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ: أَمَرَ ضُبَاعَةَ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو أَيُّوبَ الْغَيْلَانِيُّ) سليمان بن عُبيد الله بن عمرو بن جابر المازنيّ البصريّ، ثقةٌ [11](ت 6 أو 247)(م س) تقدّم في "المقدّمة" 4/ 21.
2 -
(أَحْمَدُ بْنُ خِرَاشٍ) هو: أحمد بن الحسن بن خِرَاش، أبو جعفر البغداديّ، صدوقٌ [11](ت 242)(م ت) تقدم في "الإيمان" 42/ 280.
3 -
(أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو) العقدي البصري، ثقةٌ [9](ت 205)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.
4 -
(رَبَاحُ بْنُ أَبِي مَعْروفِ) بن أبي سارة المكيّ، صدوقٌ له أوهام [7](بخ م ت س) تقدم في "الحج" 1/ 2802.
5 -
(عَطَاءُ) بن أبي رَبَاح أسلم، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
والباقيان ذُكرا في الباب، و "إسحاق بن إبراهيم" هو: ابن راهويه.
والحديث تقدّم الكلام فيه قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(16) - (بَابُ إِحْرَامِ النُّفَسَاء، وَاسْتِحْبَابِ اغْتِسَالِهَا لِلإحْرَام، وَكَذَا الْحَائِضُ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2908]
(1209) - (حَدَّثنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيّ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ عَبْدَةَ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِم، عَنْ أَبِيه، عَنْ عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: نَفِسَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ بِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ بِالشَّجَرَة، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَّا بَكْرٍ يَأَمُرُهَا أَنْ تَغْتَسِلَ، وَتُهِلَّ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ) بن مُصعب التميميّ، أبو السريّ الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 243) وله (91) سنةً (عخ م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.
2 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل بابين.
3 -
(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عثمان بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان العبسيّ، أبو الحسن الكوفيّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 239) وله (83) سنةً (خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 35/ 246.
4 -
(عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الكلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، قيل: اسمه عبد الرحمن، ثقةٌ ثبت، من صغار [8](ت 187) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 339.
5 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) العمريّ المدنيّ، تقدّم قريبًا.
6 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ) المدنيّ، تقدّم قريبًا.
7 -
(أَبُوهُ) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصدّيق، تقدّم أيضًا قريبًا.
8 -
(عَائِشَةُ) رضي الله عنها، تقدّمت في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم، ثم فصّل؛ لما سبق غير مرّة.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيوخه، فالأول ما أخرج له البخاريّ في "الصحيح"، والآخران ما أخرج لهما الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من عبيد الله، والباقون كوفيّون إلا زهيرًا، فبغداديّ.
4 -
(ومنها): أن رواية عبيد الله عن عبد الرحمن بن القاسم من رواية الأكابر عن الأصاغر؛ لأن عبيد الله من الطبقة الخامسة، وعبد الرحمن من السادسة، وفيه رواية الابن عن أبيه، عن عمّته.
5 -
(ومنها): أن القاسم من الفقهاء السبعة، وعائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها) أنها (قَالَتْ: نَفِسَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ) بالبناء للمفعول، يقال: نُفِست المرأة: إذا وَلَدت، فهي نُفَساء، والجمع نِفَاس بالكسر، وبعض العرب يقول: نَفِستْ تَنْفَس، من باب تَعِبَ، فهي نافس، مثلُ
حائض، والولد منفوس، والنِّفَاس بالكسر أيضًا اسم من ذلك، ونَفِسَت تَنفَسُ من باب تعب: حاضت، ونقل الأصمعي: نُفِسَت بالبناء للمفعول أيضاَ، وليس بمشهور في الكتب في الحيض، وهو من النَّفْس، وهو الدم، وسُمِّي الدم نَفْسًا؛ لأن النفس التي هي اسم لجملة الحيوان قوامها بالدم. أفاده في "المصباح"
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قولها: "نُفِسَتْ" بكسر الفاء لا غير، وفي النون لغتان: المشهورة ضمها، والثانية فتحها، سُمِّي نِفَاسًا لخروج النَّفْس، وهو المولود، والدم أيضًا، قال القاضي: وتجري اللغتان في الحيض أيضًا، يقال: نُفِسَت؛ أي: حاضت، بفتح النون وضمها، قال: ذكرهما صاحب: "الأفعال"، قال: وأنكر جماعة الضم في الحيض. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قد تقدم أنه يقال: نَفِست المرأة في الحيض والولادة بالضم والفتح، كما حكاهما صاحب "الأفعال"، غير أن الضم في الولادة أكثر، والفتح في الحيض أكثر، وقيل: إنه لا يقال في الحيض إلا بالفتح، حكاه الحربي. انتهى
(3)
.
[تنبيه]: "أسماء بنت عُمَيس" - بالتصغير - الخثعمية الصحابية الجليلة، كانت عند جعفر بن أبي طالب، فولدت له أولاده كلهم بالحبشة حينما هاجرت معه إليها، وبعدما قُتل جعفر عنها تزوجها أبو بكر، فولدت له ولده محمدًا، وهو الذي نَفِست به بذي الحليفة، ثم تزوجها بعده علي بن أبي طالب، فكانت عنده حتى قُتل عنها - رضي الله تعالى عنهم أجمعين -.
وكان عمر رضي الله عنه يسألها عن تعبير الرؤيا، ولما بلغها قتل ابنها محمد بن أبي بكر جَلَست في مسجدها، وكَظَمت غيظها حتى شَخَبت ثديُهَا دمًا.
وقوله: (بِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) الصدّيق، أبي القاسم، له رؤيةٌ، وقُتل سنة (38) وكان عليّ رضي الله عنه يُثني عليه. وقولها:(بِالشَّجَرَةِ) وفي حديث جابر: "بذي الحليفة"، وفي رواية مالك:(بالبيداء)، قال القاضي عياض رحمه الله: هذه
(1)
"المصباح المنير" 2/ 617.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 133.
(3)
"المفهم" 3/ 296 - 297.
المواضع الثلاثة متقاربة، فالشجرة بذي الحليفة، وأما البيداء فهي بطرف ذي الحليفة، فيَحْتَمِل أنها نزلت بطرف البيداء؛ لتبعد عن الناس، وكان منزل النبيّ صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة حقيقة، وهناك بات، وأحرم، وهي عند الشجرة، فسمي منزل الناس كلِّهم باسم منزل إمامهم. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: و"الشجرة": شجرة كانت هناك بذي الحليفة، و"البيداء" طرف منها، وكأنها إنما نزلت هناك لتبْعُد عن الناس لأجل الولادة.
وأمْره صلى الله عليه وسلم لها بأن تغتسل: إنما كان للإهلال، وهو الإحرام.
قال: وفي الحج أغسال، هذا أوكدها، وهو سنة عند الجمهور، وقال بوجوبه عطاء، والحسن في أحد قوليه، وأهل الظاهر.
والغسل الثاني: لدخول مكة، قال: ومن أصحابنا من اكتفى بهذا الغسل عن الطواف، وقال: إنه شُرع لأجل الطواف؛ لأنه أول مبدوء به عند الدخول، ومنهم من لم يكتف به، وقال: لا بدَّ من غسل الطواف، وإنما ذلك للدخول فقط.
والغسل الثالث: للوقوف بعرفة، وهذه الأغسال كلها سنن مؤكدةٌ، وقد أطلق مالك على جميعها الاستحباب، وأوكدها غسل الإحرام. انتهى كلام القرطبي رحمه الله
(2)
.
(فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه، وهو زوجها (يَأْمُرُهَا أَنْ تَغْتسِلَ، وَتُهِلَّ) أي: تُحرم بالحج، يقال: أهلّ المحرم: رفع صوته بالتلبية عند الإحرام، وكلُّ من رفع صوته فقد أهل إهلالًا، واستَهَلَّ استهلالًا بالبناء للفاعل فيهما. أفاده في "المصباح".
وهذا الاغتسال للنظافة، لا للطهارة؛ لأنها نفساء لا تطهر إلا بانقطاع الدم عنها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"إكمال المعلم" 4/ 229.
(2)
"المفهم" 3/ 297.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: هذا الإسناد مما استدركه الدارقطنيّ رحمه الله، فقال في "التتبّع": خالفه - أي: عبيد الله بن عمر - مالك، عن عبد الرحمن، عن أبيه، مرسلًا، ليس فيه عائشة، وهو الصواب، وحديث عبدة خطأٌ، وقال سليمان: عن يحيى، عن القاسم، عن أبيه، ولا يصحّ عن أبيه. انتهى.
وتعقّب أبو مسعود الدمشقيّ: رحمه الله في "الأجوبة" استدراك الدارقطنيّ هذا، فقال: إذا جوّد عبيد الله إسناد حديث لم يُحكم لمالك عليه فيما أرسله، فإن مالكًا كثيرًا ما أرسل أشياء أسندها غيره من الإثبات، وعبدة بن سُليمان فثقةٌ ثبتٌ. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قد أجاد أبو مسعود رحمه الله في تعقّبه هذا، وحاصله أن الأرجح هنا رواية عبيد الله بن عمر المتّصلة بذكر عائشة رضي الله عنها؛ لأنها زيادة من ثقةٌ حافظ، وليس بأقلّ من مالك في الإتقان، بل قدّمه بعض الأئمة عليه، قال عمرو بن عليّ الفلّاص: ذكرت ليحيى بن سعيد - يعني القطّان - قول ابن مهديّ: إن مالكًا أثبت في نافع من عبيد الله، فغضب، وقال: هو أثبت من عبيد الله؟ وقال أبو حاتم، عن أحمد: عبيد الله أثبتهم، وأحفظهم، وأكثرهم روايةً، وقال عثمان الدارميّ: قلت لابن معين: مالك أحبّ إليك عن نافع، أو عبيد الله؟ قال: كلاهما، ولم يفضِّل، وقال جعفر الطيالسيّ: سمعت يحيى بن معين يقول: عبيد الله عن القاسم، عن عائشة الذهب المشبَّكُ بالدُّرَر، فقلت: هو أحبّ إليك أو الزهريّ، عن عروة، عن عائشة؟ قال: هو إليّ أحبّ، وقال أحمد بن صالح: عبيد الله أحب إليّ من مالك في حديث نافع
(1)
.
فتبيّن بهذا أن عبيد الله لا يقلّ من مالك إتقانًا، فتكون زيادته مقبولة، ومن الغريب أن مذهب الدارقطنيّ في مثل هذا قبول الزيادة، فلماذا رجّح إرسال مالك؟ هذا شيء عجيب.
(1)
راجع: "تهذيب التهذيب" 7/ 35.
والحاصل أن صنيع مسلم رحمه الله في ترجيحه وَصْل عبيد الله هو الصواب، فتفطّن، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [16/ 2908](1209)، و (أبو داود) في "المناسك"(2/ 144)، و (النسائيّ) في "المناسك"(5/ 164)، و"الكبرى"(2/ 356)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(2/ 971 - 972)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 320)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 302)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 121)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 32)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة الاغتسال من النفاس، وأنه أحد موجبات الاغتسال بالإجماع، كما قاله ابن المنذر رحمه الله.
2 -
(ومنها): مشروعية الإهلال بالتلبية عند الإحرام في الحج أوالعمرة، وأن المرأة كالرجل في ذلك.
3 -
(ومنها): مشروعية النظافة للإحرام، فيلزم المرأة الغسل وإن كانت حائضًا أو نفساء.
4 -
(ومنها): صحة إحرام النفساء والحائض، واستحباب اغتسالهما للإحرام، قال النوويّ رحمه الله: وهو مجمع على الأمر به، لكن مذهبنا، ومذهب مالك، وأبي حنيفة، والجمهور أنه مستحبّ، وقال الحسن، وأهل الظاهر: هو واجب.
5 -
(ومنها): أن الحائض، والنفساء يصحّ منهما جميع أفعال الحج إلا الطواف، وركعتيه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"اصنعي ما يصنع الحاجّ غير أن لا تطوفي بالبيت" ولا خلاف بين العلماء في ذلك كلّه؛ إذ لا يجوز دخول غير الطاهر المسجد، ولا صلاة بغير طهور، قاله عياض رحمه الله
(1)
.
6 -
(ومنها): أن ركعتي الإحرام سنة ليستا بشرط لصحة الحجّ؛ لأن أسماء لم تصلّهما، قاله النوويّ رحمه الله
(2)
.
(1)
"إكمال المعلم" 4/ 229.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 133.
7 -
(ومنها): بيان عادة الصحابة رضي الله عنهم من تحمّل السنن بعضهم عن بعض بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، واكتفائهم بذلك عن سماعها منه.
8 -
(ومنها): سؤال الرجل عما يلزم من يقوم عليه ومراعاته أمر دينهم ودنياهم، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2909]
(1210) - (حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيد، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما فِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ، حِينَ نُفِسَتْ بِذِي الْحُلَيْفَةِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه، فَأَمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ، وَتُهِلَّ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو غَسَّانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو) بن بكر الرازيّ الملقّب زُنَيج، ثقةٌ [10](ت 240) أو بعدها (م د ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 58.
2 -
(جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ) الضبيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ) بن قيس الأنصاريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ) الصادق الهاشمي، أبو عبد الله المدنيّ، صدوقٌ فقيهٌ إمامٌ [6](ت 148)(بخ م 4) تقدم في "الحيض" 10/ 749.
5 -
(أَبُوهُ) محمد بن عليّ بن الحسين الباقر، أبو جعفر المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [4] مات سنة بضع عشرة ومائة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 61.
6 -
(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حَرَام السَّلَميّ الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بعد السبعين، وهو ابن (94) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، وجعفر، كما أسلفته آنفًا.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من يحمص، والباقيان رازيّان.
4 -
(ومنها): أن رواية يحيى، عن جعفر من رواية الأكابر عن الأصاغر؛ لأن يحيى من الطبقة الخامسة، وجعفرًا من السادسة.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وفيه جابر رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما فِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ بنْتِ عُمَيْسٍ) الجار والمجرور حال من قوله: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
إلخ " لأنه في تأويل المصدر مفعول "حدّثنا" أي: حدّثنا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر
…
إلخ حال كون هذا القول من جملة حديث أسماء، إنما قال كذا؛ لأن الحديث طويل جدًّا فاختصر منه هنا ما يستدلّ به على حكم إحرام النفساء، واختصار الحديث فيه خلاف مشهور عند المحدثين، والصحيح الجواز إذا لم يُخِلّ المتروك بالمعنى المقصود، وهو مذهب الشيخين، وجمهور المحدّثين، قال السيوطي في "ألفية الأثر":
وَجَائِزٌ حَذْفُكَ بَعْضَ الخَبَرِ
…
إِنْ لَمْ يُخلَّ البَاقِي عِنْدَ الأكْثَرِ
والحديث بطوله سيأتي بعد بابين في صفة حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم - إن شاء الله تعالى -.
(حِينَ نُفِسَتْ) تقدّم ضبط نَفِست في الحديث الماضي، والظرف حال من حديث أسماء؛ أي: حال كون ذلك الحديث حاصلًا وقت ولادتها (بِذِي الْحُلَيْفَةِ) بصيغة التصغير: اسم ماء من مياه بني جُشَم، ثم سُمِّي به الموضع، وهو ميقات أهل المدينة على نحو مرحلة عنها، ويقال: على ستة أميال، قاله في "المصباح". (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ) عبد اللهِ بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم التيميّ بن أبي قُحَافة الصدّيق، أول الرجال إسلامًا، أفضل الناس بعد الأنبياء والمرسلين - عليهم الصلاة والسلام - توفي سنة (13 هـ) عن (63) سنة، تقدّمت ترجمته في "الإيمان" 8/ 133.
ومفعول "أمر" محذوف؛ أي: أمره أن يأمرها بالاغتسال والإهلال
(فَأَمَرَهَما أَنْ تَغْتَسِلَ، وَتُهِلَّ) بضمّ التاء، من الإهلال؛ أي: ترفع صوتها بالتلبية، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد اللهِ رضي الله عنهما من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [16/ 2909](1210)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 122 و 154 و 195 و 208)، و"المناسك"(5/ 164)، و"الكبرى"(1/ 112)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(2913)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2594)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 302)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(24/ 138 و 141)، و (البزّار) في "مسنده"(1/ 155)، و (الضياء) في "المختارة"(1/ 142)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 32)، و"الصغرى"(3/ 534)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(17) - (بَابُ بَيَانِ أَوْجُهِ الإِحْرَامِ الثَّلَاَثةِ: الإِفْرَادِ، وَالتَّمَتُّعِ، وَالْقِرَان، وَجَوَازِ إِدْخَالِ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَة، والأَمْرِ بِفَسْخِ الْحَجِّ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ لِمَنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ)
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2910]
(1211) - (حَدثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عائشة رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَة، ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا"، قَالَتْ: فَقَدِمْتُ مَكَّةَ، وَأَنَا حَائِضٌ لَمْ أَطُفْ بِالْبَيْت، وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَة، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "انْقُضِي رَأْسَك، وَامْتَشِطِي، وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ،
وَدَعِي الْعُمْرَةَ"، قَالَتْ: فَفَعَلْتُ، فَلَمَّا قَضَيْنَا الْحَجَّ، أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ إِلَى التَّنْعِيم، فَاعْتَمَرْتُ، فَقَالَ: "هَذِهِ مَكَانُ عُمْرَتِكِ"، فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوة، ثُمَّ حَلُّوا، ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى لِحَجِّهِمْ، وَأمّا الَّذِينَ كَانُوا جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يحيَى بْنُ يَحْيَى التَّميمِيُّ) أبو زكريّا النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226) خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(مَالِكُ) بن أنس، أبو عبد اللهِ المدنيّ، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين الإمام الحجة [7](ت 179) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 378.
3 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ الإمام المدنيّ الحجة الثبت الفقيه [4](ت 125)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 348.
4 -
(عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْر) بن العوّام الأسديّ المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت مشهور [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ص 2 ص 407.
5 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 315.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.
5 -
(ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، وعروة من الفقهاء السبعة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنه (أنَّهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: من المدينة (عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ) بفتح الواو، وكسرها؛ أي: في عام حجة الوداع، وهو العام العاشر من الهجرة النبويّة، سُمّيت بحجة الوداع؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم وَدَّع الناس فيها، ولم يحجّ بعد الهجرة غيرها.
وقال القرطبيّ رحمه الله: سُمِّيت بذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما خطب الناس وَدَّعهم فيها، وقال:"لعلي لا أحج بعد عامي هذ"، وقال:"ألا هل بلغتُ؟ " فقالوا: نعم، فقال:"اللَّهم اشهد"، وكذلك كان، فإنه صلى الله عليه وسلم وجازاه عنا خيرًا - تُوُفِّي في ربيع الأول، في الثاني عشر منه - على أولى الأقوال وأشهرها - على رأس ثلاثة أشهر ونَيِّف من موقفه ذلك، ولم يحجّ في الإسلام غير تلك الحجة، وحجّ فيها بجميع أزواجه. انتهى
(1)
.
(فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ) أي: أحرم بعضنا بعمرة، ومنهم عائشة رضي الله عنها كما سيأتي.
قال القاضي عياض رحمه الله: اختلفت الروايات عن عائشة رضي الله عنها فيما أحرمت به، اختلافًا كثيرًا، فذكر مسلم من ذلك ما سيأتي - يعني قولها:"ولم أهلّ إلا بعمرة" - وفي رواية لمسلم أيضًا عنها: "خرجنا لا نَرَى إلا الحجّ"، وفي رواية القاسم عنها:"خرجنا مهلّين بالحجّ"، وفي رواية:"لا نذكر إلا الحجّ"، وكلّ هذه الروايات صريحة في أنها أحرمت بالحجّ، وفي رواية الأسود عنها:"نلبّي لا نذكر حجًّا، ولا عمرة".
قال القاضي: واختلف العلماء في الكلام على حديث عائشة رضي الله عنه، فقال مالك: ليس العمل على حديث عروة، عن عائشة عندنا قديمًا، ولا حديثًا، وقال بعضهم: يترجّح أنها كانت محرمة بحجّ؛ لأنها رواية عمرة، والأسود، والقاسم، وغلّطوا عروة في العمرة، وممن ذهب إلى هذا القاضي إسماعيل، ورجّحوا رواية غير عروة على روايته؛ لأن عروة قال في رواية حماد بن زيد، عن هشام، عنه: حدّثني غير واحد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لها: "دعي عمرتك"، فقد بان أنه لم يسمع الحديث منها.
(1)
"المفهم" 3/ 297.
قال القاضي رحمه الله: وليس هذا بواضح؛ لأنه يَحْتَمِل أنها ممن حدّثه ذلك.
قالوا أيضًا: ولأن رواية عمرة، والقاسم نَسّقت عمل عائشة في الحجّ من أوله إلى آخره، ولهذا قال القاسم عن رواية عمرة: أنبأتك بالحديث على وجهه.
قالوا: ولأن رواية عروة إنما أخبر عن إحرام عائشة، والجمع بين الروايات ممكن، فأحرمت أوّلًا بالحجّ كما صحّ عنها في رواية الأكثرين، وكما هو الأصحّ من فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابِه، ثم أحرمت بالعمرة حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بفسخ الحجّ إلى العمرة، وهكذا فسّره القاسم في حديثه، فأخبر عروة عنها باعتمارها في آخر الأمر، ولم يذكر أول أمرها.
قال القاضي: وقد تعارض هذا بما صحّ عنها في إخبارها عن فعل الصحابة، واختلافهم في الإحرام، وأنها أحرمت هي بعمرة، فالحاصل أنها أحرمت بحجّ، ثم فسخته إلى عمرة حين أُمر الناس بالفسخ، فلما حاضت، وتعذّر عليها إتمام العمرة، والتحلّل منها، وإدراك الإحرام بالحجّ، أمرها النبي بمكة صلى الله عليه وسلم بالإحرام بالحجّ، فأحرمت، فصار مُدخلة للحجّ على العمرة، وقارنة. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله القاضي عياض رحمه الله تحقيق نفيسٌ جدًّا. وحاصله أن رواية عروة أنها أهلّت بالعمرة صحيحة؛ لأنها محمولة على آخر أمرها، بعد أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بفسخ الحجّ إلى العمرة، وأما أول أمرها، فإنها ممن أحرم بالحجّ، فلا تعارض بين الروايات، فتأمل، والله تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قولها: "فأهللنا بعمرة"؛ تعني: أنها هي أهلّت بعمرة مع غيرها من أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو تكون النون للعظمة، وفيه بُعْدٌ، وقد أخبرت عن نفسها وحدها؛ إذ قالت:"فأهللت بعمرة"، و"كنت فيمن أهلّ بعمرة"؛ وهذا يعارضه قولها في الرواية الأخرى:"خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلّين بالحج"، وفي أخرى:"لا نرى إلا الحج".
(1)
"إكمال المعلم" 4/ 230 - 232.
فاختلف العلماء في تأويل هذه الألفاظ المختلفة المضطربة؛ فمنهم من رجّح الروايات التي فيها: أنها أهلَّت بالحج، وغَلَّط من روى: أنها أهلَّت بعمرة، وإليه ذهب إسماعيل القاضي
(1)
.
ومنهم من ذهب مذهب الجمع بين هذه الرّوايات، وهو الأولى؛ إذ الرواة لتلك الألفاظ المختلفة أئمة ثقات مشاهير، ولا سبيل إلى إطلاق لفظ الغلط على بعضهم بالوهم، فالجمع أولى من الترجيح إذا أمكن.
فمما ذُكِر في ذلك: أنها كانت أحرمت بالحج ولم تسق الهدي، فلما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم من لم يسق الهدي بفسخ الحج إلى العمرة، فسخت فيمن فسخ، وجعلته عمرة، وأهلَّت بها، وهي التي حاضت فيها، ثم إنها لم تحلّ منها حتى حاضت، فأمرها النبيّ صلى الله عليه وسلم أن تحرم بالحج، وتكون حينئذ مُردفة، فأحرمت بالحج، ووقفت بعرفة وهي حائض، ثم إنها طهرت يوم النحر، فأفاضت، فلما كملت مناسك حجها اعتمرت عمرة أخرى مع أخيها من التنعيم.
قال: فعن تلك العمرة التي دخلت فيها بعد الفسخ عبَّر بعض الرواة: بأنها أحرمت بعمرة، وعلى ذلك يُحْمَل قولها: أهللت بعمرة؛ تعني بعد فسخها الحج، فلما كان منها الأمران صدق كل قول من أقوالها، وكل راو روى شيئًا من تلك الألفاظ.
قال القرطبيّ رحمه الله: وَيَعتضد هذا التأويل بقولها في بعض رواياته: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن ساق الهدي أن يحل، قالت: فحلّ من لم يسق الهدي، ونساؤه لم يسقن الهدي؛ فأحللن، وهذا فيما يبدو تأويل حسن، غير أنه يبعده مساق قولها أيضًا في رواية أخرى قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "من أراد أن يهل بحج وعمرة فليهلّ، ومن أراد أن يهلّ بحج فليفعل، ومن أراد أن يهلّ بعمرة فليفعل"؛ قالت: فأهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج، وكنت فيمن أهلّ بعمرة، وظاهره: الإخبار عن مبدأ الإحرام للكل.
وعلى هذا فيمكن التأويل على وجه آخر؛ وهو أن يبقى هذا الحديث على
(1)
وقع في كلام القرطبيّ: وأظنه ابن عليّة، وهو ظنٌّ غير صحيح، بل هو إسماعيل القاضي، كما صرّح به القاضي عياض في كلامه السابق، فتنبّه.
ظاهره، ويتأوَّل قولها:"لبّينا بالحج"؛ على أن ذلك كان إحرام أكثر الناس؛ لأنه لما أحرم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالحج اقتدى به كثير الناس في ذلك، وأما هي فإنما أحرمت بعمرة كما نصَّت عليه، وناهيك من قولها:"ولم أهلّ إلا بعمرة".
وقولها: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نرى إلا أنه الحج"؛ يمكن أن يقال: كان ذلك منها، ومنهم قبل أن يخبرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في أنواع الإحرام، ويبيّنها لهم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله، وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
(ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِل بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ) قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالقرآن، فيكون قاله لهم عند إحرامهم، ويَحْتَمِل أن يكون قال ذلك لمن قد كان أحرم بالعمرة، فيكون ذلك أمرًا بالإرداف. انتهى
(1)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله: الذي تدلّ عليه نصوص الأحاديث في "صحيحي البخاريّ ومسلم" وغيرهما من رواية عائشة وجابر وغيرهما أن النبيّ رحمه الله إنما قال لهم هذا القول - يعني قوله: من كان معه هدي
…
إلخ - بعد إحرامهم بالحجّ، وفي منتهى سفرهم ودُنُوّهم من مكة بسَرِف كما جاء في رواية عائشة، أو بعد طوافهم بالبيت وسعيهم كما جاء في رواية جابر، ويَحْتَمِل تكريره الأمر بذلك مرتين في موضعين، وأن العزيمة كانت آخرًا حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة. انتهى
(2)
.
(ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا") لأنه ممنوع التحلل حتى يبلغ الهدي محله، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا بيان حكم القارن، فإنه لا يحل إلا بفراغه من طواف الإفاضة، ويجزئه لهما عمل واحد عند الجمهور خلافًا لأبي حنيفة؛ إذ يقول: يعمل لهما عملين. وسيأتي قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: "يسعك طوافك لحجك وعمرتك"، وهو نصٌّ في الردّ عليه، وكذلك قولها: فأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة؛ فإنما طافوا طوافًا واحدًا. انتهى.
وقال النوويّ رحمه الله: هذه الرواية مفسّرة للمحذوف من الرواية التي احتجّ بها أبو حنيفة، وأحمد، وموافقوهما - يعني قوله: "ومن أحرم بعمرة، وأهدى
(1)
"المفهم" 3/ 299.
(2)
"إكمال المعلم" 4/ 237.
فلا يحلّ حتى ينحر هديه" - على أن المعتمر، والمتمتّع إذا كان معه هدي، لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر، ومذهب مالك، والشافعيّ، وموافقيهما أنه إذا طاف، وسعى، وحلق، حلّ من عمرته، وحلّ له كلّ شيء في الحال، سواء ساق الهدي، أم لا، واحتجّوا بالقياس على من لم يسق الهدي، وبأنه تَحَلَّلَ من نسكه، فوجب أن يحلّ له كل شيء، كما لو تحلّل المحرم بالحجّ.
وأجابوا عن هذه الرواية بأنها مختصرة من الروايات التي ذكرها مسلم بعدها، والتي ذكرها قبلها عن عائشة رضي الله عنها، قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من كان معه هدي، فليُهلّ بالحجّ مع العمرة، ثم لا يحلّ حتى يحل منهما جميعًا"، فهذه الرواية مفسّرة للمحذوف من الرواية التي احتجوا بها، وتقديرها: ومن أحرم بعمرة، وأهدى، فليهلّ بالحج، ولا يحلّ حتى ينحر هديه، ولا بدّ من هذا التأويل؛ لأن القضيّة واحدة، والراوي واحد، فيتعيّن الجمع بين الروايتين على ما ذكرنا. انتهى كلام النوويّ بتصرّف.
وقال الشوكانيّ رحمه الله بعد أن ذكر نحو ما ذكره النوويّ من التأويل: ولا يخفى ما فيه من التعسّف. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أنّ ما ذهب إليه الحنفية، والحنابلة من أن المعتمر إذا ساق الهدي لا يتحلّل حتى ينحر هديه هو الحقّ؛ لصحة الحديث بذلك، وتأويله على خلاف ظاهره تعسّف ظاهر، والله تعالى أعلم بالصواب.
(قَالَتْ: فَقَدِمْتُ مَكَّةَ، وَأَنَا حَائِضٌ) سيأتي أنها حاضت بِسَرِف، وتمادى بها الحيض إلى يوم النحر (لَمْ أَطُفْ بِالْبَيْت، وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوةِ) أي: لقوله صلى الله عليه وسلم لها: "افعلي ما يفعل الحاجّ، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري".
وقال القرطبيّ رحمه الله: إنما لم تطف بالبيت؛ لاشتراط الطهارة في الطواف، ولا بالصفا والمروة؛ لأن مشروعيته أن يكون على إثر طواف، وإنما امتنعت من ذلك لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم كما جاء في الرواية الأخرى:"افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري". انتهى.
(فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "انْقُضِي رَأسَكِ) بضم القاف؛ أي: حُلِّي شعره (وَامْتَشِطِي) أي: سرّحي شعرك بالْمُشْط (وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ) أي: مدخلةً له على العمرة، وحينئذ فتصير قارنةً بعد أن كانت متمتعة، وهو جائز بالإجماع، إذا كان قبل الطواف، وإنما فعلت ذلك؛ لأنه تعذر عليها إتمام العمرة والتحلل منها للحيض الطارئ المانع لها من الطواف، قاله وليّ الدين رحمه الله
(1)
.
(وَدَعِي الْعُمْرَةَ") أي: اتركي أعمالها؛ لدخولها في عمل الحجّ، حيث كانت قارنة.
وقال القرطبيّ رحمه الله: ظاهر هذا: أنه أمرها بأن تَرْفِض عمرتها، وتخرج منها قبل تمامها. وبهذا الظاهر قال الكوفيون في المرأة تحيض قبل الطواف، وتخشى فوت الحج: أنها ترفض العمرة.
وقال الجمهور: إنها تُرْدِف الحج، وتكون قارنة، وبه قال مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأبو ثور. وقد حمل هذا أصحابنا: على أنه صلى الله عليه وسلم. أمرها بالإرداف، لا بنقض العمرة؛ لأن الحج والعمرة لا يتأتى الخروج منهما شرعًا إلا بإتمامهما؛ لقوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ، واعتذروا عن هذه الألفاظ بتأويلات:
(أحدها): أنها كانت مضطرة إلى ذلك، فرخص لها فيها كما رخص لكعب بن عجرة رضي الله عنه.
(وثانيها): أن ذلك خاص بها، ولذلك قال مالك: حديث عروة عن عائشة ليس عليه العمل عندنا، قديمًا ولا حديثًا.
(وثالثها): أن المراد بالنقض والامتشاط: تسريح الشعر لغسل الإهلال بالحج، ولعلها كانت لبَّدت، ولا يتأتى إيصال الماء إلى البشرة مع التلبيد إلا بحل الضفر وتسريح الشعر، ويتايد بما في حديث جابر رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: "فاغتسلي، ثم أهلي بالحج". وقد تركنا من التأويلات ما فيه بُعد، واكتفينا بما ذكرناه؛ لأنه أوفقها، والله تعالى أعلم.
(1)
"طرح التثريب" 5/ 33 - 34.
قال: فأما قوله: "ودعي العمرة"؛ فمحمول على ترك عملها، لا على رفضها، والخروج منها؛ بدليل قوله في الرواية الأخرى:"وأمسكي" مكان "ودعي"، وهو ظاهر في استدامتها حكم العمرة التي أحرمت بها، وبدليل قوله صلى الله عليه وسلم لها:"يسعك طوافك لحجك وعمرتك"؛ وهذا نصٌّ على أن حكم عمرتها باقٍ عليها. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ.
وخلاصة القول في المسألة أن الجمهور ذهبوا إلى أن معنى الحديث: أنه أمرها أن تترك أعمال العمرة، من الطواف، والسعي، والتقصير، وأن تُدخل الحج على العمرة، فتكون قارنة، وليس المراد بترك العمرة إبطالها جملة، وإنما المراد ترك أعمالها، وإرداف الحج عليها، حتى تفسير قارنة، وتندرج أفعال العمرة في أفعال الحجّ.
وذهب الحنفية إلى أن معنى الحديث: أنه أمرها بأن تخرج من إحرام العمرة، وتتركها باستباحة المحظورات من التمشيط، وغيره؛ لعدم القدرة على الإتيان بأفعالها بسبب الحيض.
والراجح ما ذهب إليه الجمهور، إذ لا يلزم من التمشيط وغيره الخروج من الإحرام، وإبطال العمرة.
قال النوويّ: ولا يلزم منه إبطال العمرة؛ لأن نقض الشعر، والامتشاط جائزان في الإحرام على الراجح، بحيث لا ينتف شعرًا.
ولكن يكره الامتشاط إلا لعذر، وتأول العلماء فعل عائشة هذا على أنها كانت معذروة بأن كان في رأسها أذى، فأباح لها الامتشاط كما أباح لكعب بن عجرة الحلق للأذى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: كون امتشاط عائشة للعذر يحتاج إلى دليل، والظاهر أنه يجوز بدون عذر، والله تعالى أعلم.
وقيل: ليس المراد بالامتشاط هنا حقيقة الامتشاط بالْمُشْط، بل تسريح الشعر بالأصابع للغسل لإحرامها بالحجّ، لا سيما إن كانت لبّدت رأسها كما هو السنّة، وكما فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلا يصحّ غسلها إلا بإيصال الماء إلى جميع
(1)
"المفهم" 3/ 301.
شعرها، ويلزم من هذا نقضه. انتهى
(1)
.
وقال العلامة ابن القيّم رحمه الله: أما قوله: "وانقضي رأسك، وامتشطي" فهذا مما أعضل على الناس، ولهم فيها أربعة مسالك:
[أحدها]: أنه دليل على رفض العمرة، كما قالت الحنفية.
[المسلك الثاني]: أنه دليل على أنه يجوز للمحرم أن يمشط رأسه، ولا دليل من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع على منعه من ذلك، ولا تحريمه، وهذا قول ابن حزم وغيره.
[المسلك الثالث]: تعليل هذه اللفظة، وردّها بأن عروة انفرد بها، وخالف بها سائر الرواة، وقد روى حديثها طاوس، والقاسم، والأسود، وغيرهم، فلم يذكر أحد منهم هذه اللفظة.
[المسلك الرابع]: أن قوله: "دعي العمرة" أي: دعيها بحالها، لا تخرجي منها، وليس المراد تركها، قالوا: وبدلّ عليه وجهان: أحدهما: قوله: "يسعك طوافك لحجك، وعمرتك". الثاني: قوله: "كوني في عمرتك"، قالوا: وهذا أولى من حمله على رفضها لسلامته من التناقض. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن المسلك الرابع هو الأرجح، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
(قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (فَفَعَلْتُ) أي: ما أمرها النبيّ صلى الله عليه وسلم من ترك أفعال العمرة، والامتشاط، والإهلال بالحجّ (فَلَمَّا قَضَيْنَا الْحَجَّ) أي: أديناه بإتمام أعماله (أَرْسَلَني رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) تقدمت ترجمته في "الطهارة" 9/ 572.
(إِلَى التَّنْعِيمِ) تفعيل بفتح التاء المثناة، وسكون النون، وكسر العين المهملة: موضع على ثلاثة أميال، أو أربعة من مكة، أقرب أطراف الحلّ إلى
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 140.
البيت، سُمِّي به لأن على يمينه جبل نُعيم - بضم النون - وعلى يساره جبل ناعم، والوادي اسمه نَعمان - بفتح النون - قاله في "القاموس"
(1)
.
وقال في "الفتح": والتنعيم - بفتح المثناة، وسكون النون، وكسر المهملة - مكان خارج مكة على أربعة أميال منها إلى جهة المدينة، كما نقله الفاكهيّ، وقال المحبّ الطبريّ: التنعيم أبعد من أدنى الحل إلى مكة بقليل، وليس بطرف الحلّ، بل بينهما نحو من ميل، ومن أطلق عليه أدنى الحلّ فقد تجوّز، قال الحافظ: أو أراد بالنسبة إلى بقية الجهات.
ورَوَى الفاكهيّ من طريق عُبيد بن عمير قال: إنما سُمّي التنعيم -؛ لأن الجبل الذي عن يمين الداخل يقال له: ناعم، والذي عن اليسار يقال له: منعم، والوادي نَعْمان.
ورَوَى الأزرقيّ من طريق ابن جريج قال: رأيت عطاء يَصِفُ الموضع الذي اعتمرت منه عائشة رضي الله عنها، قال: فأشار إلى الموضع الذي ابتنى فيه محمد بن عليّ بن شافع المسجد الذي وراء الأكمة، وهو المسجد الْخَرِب.
ونَقَل الفاكهيّ، عن ابن جريج وغيره أن ثَمّ مسجدين يزعم أهل مكة أن الْخَرِب الأدنى من الحرم، هو الذي اعتمرت منه عائشة، وقيل: هو المسجد الأبعد على الأكمة الحمراء، ورجحه المحب الطبريّ، وقال الفاكهيّ: لا أعلم إلا أني سمعت ابن أبي عمر يذكر عن أشياخه أن الأول هو الصحيح عندهم. انتهى
(2)
.
(فَاعْتَمَرْتُ) أي: أحرمت بها، وأديت أعمالها، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا إنما كان بعد أن رَغِبت في أن تُحرِم بعمرة مفردة بعد فراغها من حجتها وعمرتها المقرونين بدليل قولها في الرواية الأخرى: "يرجع الناس بحج وعمرة وأرجع بحجة"؛ تعني المتمتعين من الناس، وكما قالت في الرواية الأخرى:"فأهللت منها بعمرة جزاءً بعمرة الناس التي اعتمروا". انتهى
(3)
.
(1)
"القاموس المحيط" 4/ 182.
(2)
"الفتح" 5/ 21.
(3)
"المفهم" 3/ 301.
وقال وليّ الدين رحمه الله: قد تبيّن في رواية أخرى في "الصحيح" سبب اعتمار عائشة رضي الله عنها من التنعيم، وهو أنها قالت للنبيّ صلى الله عليه وسلم: يرجع الناس بحج وعمرة، وأرجع بحج، وهو مشكلٌ إذ قد حصلت لها العمرة التي أدخلت عليها الحج، فإنها لم تبطلها كما تقدم.
وأجيب عنه بأن معناه: يرجع الناس بحج مفرد عن عمرة، وعمرة مفردة عن حج، وأرجع وليست لي عمرة منفردة، حَرَصَت بذلك على تكثير الأفعال، كما حصل لسائر أمهات المؤمنين وغيرهنّ من الصحابة الذين فسخوا الحج إلى العمرة، وأتموا العمرة، وتحللوا منها قبل يوم التروية، ثم أحرموا بالحج من مكة يوم التروية، فحصلت لهم حجة منفردة، وعمرة منفردة، وأما عائشة فإنما حصل لها عمرة مندرجة في حجة بالقران، وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم قال لها يوم النفر:"يسعك طوافك لحجك وعمرتك"؛ أي: وقد تَمّا وحُسِبا لك، فابت، وأرادت عمرة منفردة كما حصل لبقية الناس، وهذا معنى قولها: امكان عمرتي التي سكتُّ عنها" أي: التي سكت عن أعمالها، فلم أتمها منفردة، بل مضمومة للحج، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى: "هذه مكان عمرتك". انتهى
(1)
.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("هَذِهِ مَكَانُ عُمْرَتِكِ") قال الزركشيّ رحمه الله: المشهور رفع "مكانُ " على الخبر؛ أي: عِوَضُ عمرتك التي تركتها لأجل حيضك، ويجوز النصب على الظرف، وقال بعضهم: لا يجوز غيره، والعامل محذوف، تقديره: هذه كائنة مكانَ عمرتك، أو مجعولة مكانها. انتهى
(2)
.
وقال السهيليّ: الوجه النصب على الظرف؛ لأن العمرة ليست بمكان لعمرة أخرى، لكن إن جُعلت "مكان" بمعنى عِوَض، أو بدل مجازًا؛ أي: هذه بدل عمرتك جاز الرفع حينئذ. انتهى
(3)
.
(1)
"طرح التثريب" 5/ 34.
(2)
"زهر الربى" 5/ 167.
(3)
"المرعاة" 9/ 57.
قال القرطبيّ رحمه الله: إنما قال لها هذا؛ لأنها لم تطب نفسًا بالعمرة التي أردفت عليها؛ لأنها طافت طوافًا واحدًا، وسعت سعيًا واحدًا، كما جاء عنها من حديث جابر: أنها قالت: يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت، فقال لعبد الرحمن: أعمرها من التنعيم، فلما فرغت منها، قال لها هذه المقالةَ تطييبًا لقلبها؛ ألا ترى أنه قد حكم بصحّة العمرة الْمُرْدَف عليها، وعلى هذا فلا يكون فيه حجة لمن يقول: إنها رفضت العمرة المتقدمة، وهذه قضاء لتلك المرفوضة؛ لِما قررناه، فتدبّره، وأنصّ ما يدلّ على صحة ما قلناه قولها: وأمرني أن أعتمر من التنعيم مكان عمرتي التي أدركني الحجّ، ولم أحلل منها. انتهى
(1)
.
(فَطَافَ) أي: طواف العمرة (الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ) وحدها، تعني الذين أفردوا العمرة عن الحجِّ (بِالْبَيْتِ) متعلق بـ "طاف" (وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوةِ) أي: سعوا بينهما، قال القاري رحمه الله: الطواف يراد به الدور الذي يَشْمَل السعي، فصحّ العطف، ولم يُحتج إلى تقدير عامل، وجَعْلِه نظير:"علفتها تبنًا وماء باردًا"(ثُمَّ حَلُّوا) أي: خرجوا من العمرة بالحلق، أو التقصير، ثم أحرموا بالحج من مكة (ثُمَّ طَافُوا طَوَافًاآخَرَ) أي: للحج يوم النحر، وهو طواف الإفاضة (بَعْدَ أنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى) أي: إلى مكة، وقد سقط عنهم طواف القدوم
إجماعًا لأنهم صاروا في حكم أهل مكة، والمكيّ لا طواف عليه للقدوم، إلا ما حُكي عن الإمام أحمد أن المتمتع يطوف يوم النحر أولًا للقدوم، ثم يطوف طوافًا آخر للحج، وخالفه الجمهور، وهو الصواب؛ إذ لم ينقل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه الذين تمتعوا معه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أنهم طافوا الطواف المذكور، والله تعالى أعلم الِحَجَّهِمْ) فيه أن المتمتّع عليه طواف لعمرته، وطواف لحجه بعد رجوعه من منى.
(وَأمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) أي: ابتداء، أو إدخالًا لأحدهما على الآخر (فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا) تعني أن الذين قرنوا بينهما اكتفوا بطواف
(1)
"المفهم" 3/ 301 - 302.
واحد؛ لأن أفعال العمرة تندرج في أفعال الحجّ، وبهذا قال الجمهور، وهو الحقّ، وقال الحنفية: إن القارن عليه طوافان، وسعيان، وسيأتي تحقيق القول في ذلك - إن ضاء الله تعالى -.
[تنبيه]: قيل: هذا الحديث بظاهره مشكل على الجميع؛ لأنه يدلّ على اكتفائهم بطواف واحد، وقد ثبت بالأحاديث الصحيحة أنهم طافوا ثلاثة أطوفة: الأول طواف القدوم، والثاني: طواف الإفاضة، والثالث: طواف الوداع.
وقد أجابوا عن ذلك، وأحسن ما رأيت في ذلك ما كتبه السنديّ في "حاشيته على البخاريّ": حيث قال: ظاهر الحديث أنهم إنما اقتصروا من الطوافين اللذين طافهما السابقون على أحدهما، إما الأول، وإما الثاني، وليس الأمر كذلك، بل هم أيضًا طافوا الطوافين، الأول، والثاني جميعًا، وذلك مما لا خلاف فيه، وقد جاء صريحًا عن ابن عمرر رضي الله عنهما، ففي "صحيح مسلم" عنه:"وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهلّ بالعمرة، ثم أهلّ بالحجّ"، إلى أن قال:"وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة"، إلى أن قال:"ونحر هديه يوم النحر، وأفاض، وطاف بالبيت، وفعل مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهدى، وساق الهدي من الناس".
ثم ذكر حديث عائشة رضي الله عنها أنها أخبرت بمثل ذلك، قال: فالمراد كما سبق أنهم طافوا للركن طوافًا واحدًا، والسابقون طافوا للركن طوافين.
وقال أيضًا: قولها: "وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة، فإنما طافوا طوافًا واحدًا"؛ أي: ما طافوا طواف الفرض إلا طوافًا واحدًا، هو طواف الإفاضة، والذي طافوا أوّلًا كان طواف القدوم الذي هو من السنن، لا من الفرائض، بخلاف الذين حلّوا، فإنهم طافوا أؤلًا فرض العمرة، ثم فرض الحجّ، فطافوا طوافين للفرض، ولم تُرِد أن الذين جمعوا ما طافوا أوّلًا حين القدوم، أو ما طافوا آخرًا بعد الرجوع من منى، كما يفيده ظاهر الكلام، كيف والنبيّ صلى الله عليه وسلم كان من الذين جمعوا على التحقيق، وعلى مقتضى هذا الحديث؛ لأنه كان معه الهدي البتّة، وقد ثبتٌ أنه طاف أوّلًا حين قدم، وطاف ثانيًا طواف الإفاضة، حين رجع من منى، بل لعله ما ثبتٌ أن أحدًا ترك الطواف
عند القدوم، ولا طواف الإفاضة، فلا فرق بين الطائفتين، إلا بصفة الافتراض، فطواف من حلّ كان مرّتين فرضًا، وطواف من لم يحلّ كان مرة فرضًا، والله أعلم.
والحاصل أن إحدى الطائفتين طافوا طوافين للنسكين، والثانية طافوا لهما واحدًا. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا التأويل الذي قاله السنديّ رحمه الله في معنى حديث عائشة رضي الله عنها عنها المذكور تأويل نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 2910 و 2911 و 2912 و 2913 و 2914 و 2915 و 2916 و 2917 و 2918 و 2919 و 2920 و 2921 و 2922 و 2923 و 2924 و 2925 و 2926 و 2927 و 2928 و 2929 و 2930 و 2931 و 2932 و 2933 و 2934 و 2935](1211)، و (البخاريّ) في "الحيض"(294 و 305 و 316 و 317 و 319)، و"الحجّ"(1518 و 1556 و 1506 و 1561 و 1638 و 1650 و 1709 و 1072 و 1783)، و (أبو داود) في "المناسك"(1750 و 1778 و 1779 و 1781 و 1782)، و (الترمذيّ) في "الحجّ"(945)، و (النسائيّ) في "المناسك"(5/ 165 و 246)، و (ابن ماجه) في "المناسك "(2963 و 2981 و 3000 و 3075)، و"الأضاحي"(3135)، و (مالك) في "الموطّأ"(746 و 896 و 940 و 941)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 79)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 140 و 6/ 35 و 37 و 119 و 163 و 177 و 243 و 245)، و (الدارمي) في "سننه"(1846 و 1904)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 342)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2605 و 2744 و 2784 و 2788 و 2789 و 2948)، و (ابن حبّان) في "صحيحه" (3792 و 3795 و 3834
و 3835 و 3912 و 3917 و 3918 و 3927 و 3928 و 3929 و 3942)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 286)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 302 و 303)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 355)، و"المعرفة"(4/ 95 و 100)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(فمنها): بيان أن المرأة المعتمرة إذا حاضت، وخافت فوت الحج أدخلت الحج على عمرتها، فصارت قارنة.
2 -
(ومنها): مشروعية حج الرجل مع زوجته.
3 -
(ومنها): أن من ساق الهدي لا يتحلل حتى يبلغ الهدي محله.
4 -
(ومنها): أن الحائض تنقض ضفر رأسها، وتمتشط، وتغتسل للإهلال بالحجّ.
5 -
(ومنها): أن فيه جواز الخلوةَ بالمحارم، والركوب معهم، وسيأتي في رواية أخرى: أنه أردفها وراءه.
6 -
(ومنها): أنه صلى الله عليه وسلم إنما أمره بإخراجها في العمرة إلى التنعيم؛ لأنه أدنى الحل، ومن كان، بمكة وأراد الإحرام بعمرة فميقاته لها أدنى الحل، ولا يجوز أن يحرم بها في الحرم، والمعنى في ذلك الجمع في نسك العمرة بين الحل والحرم، كما أن الحاج يجمع بينهما، فإنه يقف بعرفات، وهي من الحلّ، ثم يدخل مكة للطواف وغيره، فلو خالف وأحرم بها في الحرم، ثم خرج إلى الحل قبل الطواف أجزأه، ولا دم عليه، وإن لم يخرج وطاف وسعى وحلق ففيه قولان للشافعي:
أحدهما: لا تصح عمرته حتى يخرج إلى الحلّ، ثم يطوف ويسعى ويحلق.
والثاني: تصحّ، وعليه دم؛ لتركه الميقات، وهذا الثاني هو الأصح عند أصحابنا، وبه قال جمهور العلماء، وقال مالك: لا يجزئه حتى يخرج إلى الحل، وقال عطاء بن أبي رباح: لا شيء عليه، ذكره وليّ الدين رحمه الله
(1)
.
(1)
"طرح التثريب" 5/ 34.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما قاله مالك رحمه الله أرجح؛ لتوقيت النبيّ صلى الله عليه وسلم ميقات المكيّ بالحلّ، فلا يُجزئ غيره، فتأمل، والله تعالى أعلم.
7 -
(ومنها): أنه استُدِلَّ به على أن أفضل جهات الحل للإحرام بالعمرة منها: التنعيم، وبه قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي من الشافعية، والأصح عندهم أن الأفضل الإحرام بها من الجعرانة؛ لكونه صلى الله عليه وسلم فعله، ثم من التنعيم؛ لكونه أمر به، ثم من الحديبية؛ لكونه هَمّ به، وقالوا: إنما أمر عبد الرحمن بالتنعيم؛ لتيسّره فإنه أقرب الجهات كما تقدم.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله الشيرازيّ رحمه الله أقرب، فتأمل، والله تعالى أعلم.
قال وليّ الدين: زاد بعضهم على هذا، فقال: إنه يتعين التنعيم للإحرام بالعمرة منه، وحكاه القاضي عياض عن مالك، وإنه ميقات المعتمرين من مكة، قال النوويّ: وهذا شاذ مردود، والذي عليه الجماهير أن جميع جهات الحلّ سواء، ولا يختص بالتنعيم، والله تعالى أعلم
(1)
.
8 -
(ومنها): جواز تكرار العمرة؛ لأن عائشة رضي الله عنها اعتمرت في شهر واحد عمرتين بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال ابن القيِّم رحمه الله: إنه لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم اعتَمَر مدّة إقامته بمكة قبل الهجرة، ولا اعتمر بعد الهجرة، إلا داخلًا إلى مكة، ولم يعتمر قطّ خارجًا من مكة إلى الحلّ، ثم يدخل مكة بعمرة، كما يفعل الناس اليوم، ولا ثبت عن أحد من الصحابة أنه فعل ذلك في حياته، إلا عائشة وحدها. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله ابن القيّم رحمه الله، فيه نظر لا يخفى، فإن عائشة رضي الله عنها اعتمرت مرّتين في شهر بأمره صلى الله عليه وسلم، فدلّ على مشروعيته، فهل يُطلب دليلٌ أكثر من هذا؟ وأما الاستدلال بترك النبيّ صلى الله عليه وسلم
(1)
"طرح التثريب"5/ 34 - 35.
ذلك، فليس بشيء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يترك الشيء خشية المشقّة على أمته أَبُو فعله، كما ندم على دخوله الكعبة لذلك، وأيضًا أنه لم يُنقل عنه أنه تردّد للطواف بالبيت بعد طوافه الأول للقدوم، ثم للإفاضة، ثم للوداع، فلم يثبت أنه كان يكثر الطوف غير هذا، فهل يكون هذا دليلًا على عدم تكرار الطواف بالبيت كلّ وقت؟ هذا مما لا يقوله أحد.
والحاصل أن الاعتمار بعد الحج مشروع للحجاج، كما فعلته عائشة صلى الله عليه وسلم، فإنها اعتمرت في شهر مرّتين، وكانت إذا جاءت للحج بعده صلى الله عليه وسلم فعلت مثل ذلك، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى وليّ التوفيق.
قال في "الفتح": واختَلَف السلف في جواز الاعتمار في السنة أكثر من مرة، فكرهه مالك، وخالفه مُطَرّف، وطائفة من أتباعه، وهو قول الجمهور، واستثنى أبو حنيفة يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق، ووافقه أبو يوسف، إلا في يوم عرفة، واستثنى الشافعيّ البائت بمنى لرمي أيام التشريق، وفيه وجه اختاره بعض الشافعية فقال بالجواز مطلقًا، كقول الجمهور. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد عرفت آنفًا أن ما ذهب إليه الجمهور هو الأرجح، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
9 -
(ومنها): أن المتمتّع لا بد له من طوافين، وسعيين.
10 -
(ومنها): أن القارن يطوف طوافًا واحدًا، وسعيًا واحدًا.
قال وليّ الدين رحمه الله: قولها: "وأما الذين كانوا جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا طوافًا واحدًا"، فيه دليل على أن القارن يكفيه طواف واحد عن طواف الركن، وأنه يقتصر على أفعال الحجّ، وتندرج أفعال العمرة كلها في أفعال الحجّ، وبهذا قال الشافعيّ رحمه الله، وهو محكيّ عن ابن عمر، وجابر، وعائشة، والحسن البصريّ، وسالم بن عبد الله بن عمر، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والزهريّ، وأبي جعفر، وعطاء، وطاوس، وكان يحلف بالله أنه لم
(1)
"الفتح" 5/ 19.
يطف أحد من الصحابة للحج والعمرة إلا طوافًا واحدًا، رواها ابن أبي شيبة، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق، وداود، وقال أبو حنيفة: يلزمه طوافان وسعيان، وهو محكيّ عن علي بن أبي طالب، وابن مسعود، والحسن بن عليّ، والشعبيّ، والأسود، والحكم بن عتيبة، وإبراهيم النخعيّ، وأبي جعفر، وحماد بن أبي سليمان، رواه عنهم ابن أبي شيبة. انتهى
(1)
، وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة السادسة - إن شاء الله تعالى -.
11 -
(ومنها): أن الحجّ ليس خاصًّا بالرجال، بل يعمّ النساء أيضًا.
12 -
(ومنها): أَمْرُ من لم يسق الهدي بفسخ الحجّ بعمل العمرة، وعليه المحقّقون من أهل الحديث والفقه كما سيأتي تحقيقه - إن شاء الله تعالى -.
13 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: (اعلم) أن أحاديث الباب متظاهرة على جواز إفراد الحج عن العمرة، وجواز التمتع، والقران، وقد أجمع العلماء على جواز الأنواع الثلاثة، وأما النهي الوارد عن عمر وعثمان رضي الله عنهما، فسنوضح معناه في موضعه بعد هذا - إن شاء الله تعالى -.
والإفراد أن يُحْرِم بالحج في أشهره، ويَفرُغ منه، ثم يعتمر، والتمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، ويفرغ منها، ثم يحج من عامه، والقران أن يحرم بهما جميعًا، وكذا أَبُو أحرم بالعمرة، وأحرم بالحج قبل طوافها صحّ، وصار قارنًا، فلو أحرم بالحجّ ثم أحرم بالعمرة فقولان للشافعيّ: أصحهما لا
يصح إحرامه بالعمرة، والثاني يصحّ، ويصير قارنًا بشرط أن يكون قبل الشروع في أسباب التحلل من الحجّ، وقيل: قبل الوقوف بعرفات، وقيل: قبل فعل فرض، وقيل: قبل طواف القدوم أو غيره. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في أيّ الأنساك الثلاثة أفضل:
(1)
"طرح التثريب" 5/ 35.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 134.
قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: اختلف العلماء في أفضل وجوه الإحرام بحسب اختلافهم فيما فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع على أقوال:
(أحدها): أن الأفضل الإفراد، وهو مذهب مالك، والشافعيّ، وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر، وجابر، وعائشة، وأبي ثور، وحكاه النوويّ في "شرح المهذّب" عنهم، وعن عمر، وعثمان، وعليّ، وابن مسعود، والأوزاعيّ، وداود، قال المالكيّة، والشافعيّة: ثم الأفضل بعد الإفراد التمتّع، ثم القران.
(الثاني): أن التمتّع أفضل، وهو قول أحمد بن حنبل، قال ابن قُدامة في "المغني": وممن رُوي عنه اختيار التمتع ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وعائشة، والحسن، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وجابر بن زيد، وسالم، والقاسم، وعكرمة، وهو أحد قولي الشافعيّ، وحكاه الترمذيّ عنه، وعن أحمد، وإسحاق، وأهل الحديث، قال الحنابلة: ثم الأفضل بعد التمتع الإفراد، ثم القران.
(الثالث): أن القران أفضل، وهذا قول أبي حنيفة، وحكاه ابن المنذر عن سفيان الثوريّ، وإسحاق بن راهويه، ثم قال: لا شكّ أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنًا. انتهى.
وهو قول للشافعيّ، وقال به من أصحاب الشافعيّ: المزنيّ، وأبو إسحاق المروزيّ، وإليه ذهب ابن حزم الظاهريّ، كما سيأتي، والمشهور عند الحنفيّة أن الأفضل بعد القران التمتّع، ثم الإفراد، وعن أبي حنيفة أن الإفراد أفضل من التمتّع.
(الرابع): أنه إن ساق الهدي فالقران أفضل، وإن لم يسقه فالتمتّع أفضل، حكاه المروزيّ عن أحمد بن حنبل.
(الخامس): أن الأنواع الثلاثة سواء في الفضيلة، لا فضيلة لبعضها على بعض، حكاه القاضي عياض عن بعض العلماء.
(السادس): أن التمتّع والقران سواء، وهما أفضل من الإفراد، حكي عن أبي يوسف، ثم ذكر وليّ الدين أدلة ترجيح الشافعي الإفراد على غيره، وطوّل في ذلك.
وقال الحافظ - بعد أن ذكر أدلّة كونه صلى الله عليه وسلم قارنًا -: ومقتضى ذلك أن يكون القران أفضل من الإفراد والتمتّع، وهو قول جماعة من الصحابة، والتابعين، وبه قال الثوريّ، وأبو حنيفة، وإسحاق بن راهويه، واختاره من الشافعية: المزنيّ، وابن المنذر، وأبو إسحاق المروزيّ، ومن المتأخّرين: تقيّ الدين السبكيّ، وبحث مع النوويّ في اختياره أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنًا، وأن الإفراد مع ذلك أفضل، مستندًا إلى أنه صلى الله عليه وسلم اختار الإفراد أوّلًا، ثم أدخل عليه العمرة؛ لبيان جواز الاعتمار في أشهر الحجّ؛ لكونهم كانوا يعتقدونه من أفجر الفجور، وملخّص ما يُتعقّب به كلامه أن البيان قد سبق منه صلى الله عليه وسلم في عُمَره الثلاث، فانه أحرم بكل منها في ذي القعدة: عمرة الحديبية التي صُدّ عن البيت فيها، وعمرة القضيّة التي بعدها، وعمرة الجعرانة، ولو كان أراد باعتماره عمرة حجته بيان الجواز فقط، مع أن الأفضل خلافه لاكتفَى في ذلك بأمره أصحابه أن يفسخوا حجهم إلى العمرة.
وذهب جماعة من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم إلى أن التمتع أفضل؛ لكونه صلى الله عليه وسلم تمنّاه، فقال:"لولا أني سُقت الهدي لأحللت"، ولا يتمنّى إلا الأفضل، وهو قول أحمد بن حنبل في المشهور عنه.
وأجيب بأنه إنما تمنّاه تطييبًا لقلوب أصحابه؛ لحزنهم على فوات موافقته، وإلا فالأفضل ما اختاره الله له، واستمرّ عليه.
وقال ابن قدامة: يترجّح التمتع بأن الذي يُفرِد إن اعتمر بعدها، فهي مختلف في إجزائها عن عمرة الإسلام، بخلاف عمرة التمتّع فهي مجزئة بلا خلاف، فيترجّح التمتّع على الإفراد، ويليه القران.
وقال من رجّح القران: هو أشقّ من التمتع، وعمرته مجزئة بلا خلاف،
فيكون أفضل منهما، وحكى عياض عن بعض العلماء أن الصور الثلاث في الفضل سواء، وهو مقتضى تصرّف ابن خزيمة في "صحيحه".
وعن أبي يوسف: القران، والتمتع في الفضل سواء، وهما أفضل من الإفراد.
وعن أحمد: من ساق الهدي فالقران أفضل له؛ ليوافق فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن لم يسق الهدي فالتمتّع أفضل له؛ ليوافق ما تمناه، وأمر به أصحابه.
زاد بعض أتباعه: ومن أراد أن ينشئ لعمرته من بلده سفرًا فالإفراد أفضل له.
قال: وهذا أعدل المذاهب، وأشبهها بموافقة الأحاديث الصحيحة، فمن قال: الإفراد أفضل فعلى هذا؛ لأن أعمال سَفَرَيْن للنسكين أكثر مشقّة، فيكون أعظم أجرًا، ولتُجزئ عنه عمرته من غير نقص، ولا اختلاف. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يترجّح عنديّ بعد النظر في هذه الأقوال، وأدلتها أن القران أفضل لمن ساق الهدي موافقة لفعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، والتمتع أفضل لمن لم يسق الهدي عملًا بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام رضي الله عنه.
وهذا هو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله، فإنه قال: وأما إذا أراد أن يجمع بين النسكين بسفرة واحدة، ويسوق الهدي، فالقران أفضل، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قرن، وساق الهدي.
وقال في تفضيل التمتع لمن لم يسق الهدي: فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين حجوا معه، ولم يسوقوا الهدي أمرهم جميعهم أن يحجوا هكذا، أمرهم إذا طافوا بالبيت، وبين الصفا والمروة أن يحقوا من إحرامهم، ويجعلوها متعة، قال: ومعلوم أنهم أفضل الأمة بعده، ولا حجة تكون أفضل من حجة أفضل
(1)
"الفتح" 4/ 217 - 218.
الأمة، مع أفضل الخلق بأمره، فكيف يكون حج من حج مفردًا، واعتمر عقب ذلك، أو قارنًا، ولم يسق الهدي أفضل من حج هؤلاء معه بأمره؟
قال: ويقال في الجواب عن الحديث: "لو استقبلت
…
": إنه لم يقل هذا لأجل أن الذي فعله مفضول، بل لأن أصحابه شقّ عليهم أن يحلّوا من إحرامهم مع بقائه محرمًا، فكان يختار موافقتهم ليفعلوا ما أُمروا به عن انشراح، أو موافقة، قال: وقد ينتقل من الأفضل للمفضول لما فيه من الموافقة، وائتلاف القلوب.
قال: وعلى هذا التقدير يكون الله قد جمع له بين أن فعل الأفضل، وبين أن أعطاه بما يراه من الموافقة لهم ما في ذلك من الفضل، فاجتمع له الأجران، وهذا هو اللائق بحاله صلى الله عليه وسلم. انتهى المقصود من كلام ابن تيمية رحمه الله بتصرّف
(1)
، وهو كلام نفيس جدًّا.
والحاصل أن من ساق الهدي فالقران له أفضل، ومن لم يسق الهدي فالتمتّع له أفضل، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في - صفة حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم:
(اعلم): أنه اختلفت روايات الصحابة رضي الله عنهم في حجه صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، هل كان مفردًا، أو قارنًا، أو متمتّعًا؛ ورُوي كلّ منها في "الصحيحين"، وغيرهما، واختلف الناس في ذلك، وفي إحرامه على أقوال:
(أحدها): أنه حجّ مفردًا، لم يعتمر معه
(2)
، حُكي هذا عن الإمام
الشافعيّ وغيره، قال القسطلّاني في "المواهب": والذي ذهب إليه الشافعيّ في جماعة أنه صلى الله عليه وسلم مفردًا، وحكاه الزرقانيّ في "شرح المواهب" عن الإمام مالك، وحكي عن الشافعيّ وغيره أن نسبة القران والتمتّع إليه صلى الله عليه وسلم على سبيل الاتساع؛ لكونه أمر بهما. انتهى.
(1)
راجع: "مجموع الفتاوى" 26/ 86 - 91.
(2)
ما أبعد هذا القول من الأحاديث الصحيحة، أنه صلى الله عليه وسلم قرن بين الحج والعمرة، فتنبّه.
وبه جزم الخطابيّ، حيث قال: اختلفت الروايات فيما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم به محرمًا.
والجواب عن ذلك أن كلّ راو أضاف إليه ما أمر به اتساعًا، ثم رجّح أنه كان أفرد الحجّ. قال الحافظ في "الفتح": هذا هو المشهور عند الشافعيّة، والمالكيّة، وقد بسط الشافعيّ القول فيه في اختلاف الحديث وغيره. انتهى.
(القول الثاني): أنه لبّى بالعمرة وحدها، واستمرّ عليها حتى فرغ منها، ثم أحرم بعد ذلك بالحجّ، فكان متمتّعًا، وكان حجه حجّ تمتّع، قاله القاضي أبو يعلى وغيره
(1)
.
(القول الثالث): أنه حجّ متمتّعًا تمتعًا لم يحلّ فيه لأجل سوق الهدي، ولم يكن قارنًا، حكاه ابن القيّم عن صاحب "المغني" وغيره.
(القول الرابع): أنه لبّى بالحجّ وحده، وحج مفردًا، واعتمر بعده من التنعيم، قال الإمام ابن تيميّة: وهذا غلط، لم يقله أحد من الصحابة، ولا التابعين، ولا الأئمة الأربعة، ولا أحد من أهل الحديث. انتهى.
وقال الإمام ابن القيّم: الذين قالوا: إنه حجّ مفردًا، واعتمر عقبه من التنعيم، لا يُعلم لهم عذر البتّة، إلا أنهم سمعوا أنه صلى الله عليه وسلم أفرد الحجّ، وأن عادة المفردين أن يعتمروا من التنعيم، فتوهموا أنه فعل كذلك.
(القول الخامس): أنه لبّى بالحجّ مفردًا، ثم أدخل عليه العمرة
(2)
، وصار قارنًا، فكان مفردًا ابتداءً، وقارنًا انتهاءً، وبه جزم عامة محققي الشافعيّة، وبعض المالكيّة.
قال النوويّ في "شرح المهذّب": والصواب الذي نعتقده أنه صلى الله عليه وسلم أحرم بالحجّ أوّلًا مفردًا
(3)
، ثم أدخل عليه العمرة، فصار قارنًا، وإدخال العمرة على
(1)
لا يخفى ضعف هذا القول، والذي بعده؛ لمخالفته الأحاديث الصحيحة، فتنبّه.
(2)
هذا القول يرده حديث عمر في "صحيح البخاريّ" أن الملَك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقران، كما سيأتي، فتنبّه.
(3)
بل الصحيح أنه أحرم قارنًا، كما سيأتي تحقيقه، فتنبّه.
الحجّ جائز على أحد القولين عندنا، وعلى الأصحّ لا يجوز لنا، وجاز للنبيّ صلى الله عليه وسلم تلك السنة للحاجة. انتهى.
واختاره القاضي عياض، إذ قال: أما إحرامه صلى الله عليه وسلم بنفسه، فأخذ بالأفضل، فأحرم مفردًا للحجّ، تضافرت به الروايات الصحيحة، وأما رواية من روى أنه كان متمتّعًا، فمعناه أمر به، وأما رواية من روى القران، فهو إخبار عن آخر أحواله، لا عن ابتداء إحرامه
(1)
؛ لأنه أدخل العمرة على الحجّ لَمّا جاء إلى الوادي، وقيل له:"قل: عمرة في حجة". انتهى.
قال الحافظ: وهذا الجمع هو المعتمد، وقد سبق إليه قديمًا ابن المنذر، ومهّده المحبّ الطبريّ تمهيدًا بالغًا، يطول ذكره، ومحصّله: أن كلّ من روى عنه الإفراد حمل على ما أهلّ به في أول الحال، وكل من روى عنه التمتّع أراد ما أمر به أصحابه، وكلّ من روى عنه القران أراد ما استقرّ عليه أمره.
(القول السادس): أنه لبّى بالعمرة وحدها، ثم لم يتحلّل منها إلى أن أدخل عليها الحجّ يوم التروية
(2)
، فصار قارنًا، حكاه الحافظ عن الطحاويّ، وابن حبان.
(القول السابع): أنه أحرم إحرامًا مطلقًا لم يُعيّن فيه نسكًا
(3)
، ثم عيّنه بعدُ، رجحه الشافعيّ في "اختلاف الحديث"، كما قال الحافظ في "الفتح".
وقال وليّ الدين العراقئ: قال القاضي: وقال بعض علمائنا: إنه أحرم إحرامًا مطلقًا منتظرًا ما يؤمر به، من إفراد، أو تمتع، أو قران، ثم أمر بالحجّ، ثم أمر بالعمرة في وادي العقيق بقوله:"صلّ في هذا الوادي، وقل: عمرة في حجة"، ثم قال القاضي في موضع آخر بعد ذلك: لا يصحّ قول من قال: أحرم النبيّ صلى الله عليه وسلم مطلقًا مبهمًا؛ لأن رواية جابر وغيره من الصحابة في الأحاديث الصحيحة تردّه، وهي مصرّحة بخلافه. انتهى.
(1)
بل الصواب أنه من أول الأمر قارن، كما سيأتي تحقيقه، فتنبه.
(2)
لا يخفى كون هذا القول غير صحيح، فتنبه.
(3)
لا يخفى كون هذا القول بعيدًا عن الصواب؛ لمصادمته الأحاديث الصحيحة المصرّحة بأنه صلى الله عليه وسلم أهلّ بالحج والعمرة، فتنبّه.
(القول الثامن): أنه لبّى بالحجّ والعمرة معًا
(1)
، وكان قارنًا من أول الأمر، وحقّق هذا القول ابن الهمام في "شرح الهداية"، وابن القيّم في "الهدي"، وأجابا عن كلّ ما خالفه، قال ابن القيّم: والصواب أنه أحرم بالحجّ والعمرة معًا من حيث أنشأ الإحرام، ولم يحلّ حتى حلّ منهما جميعًا، كما دلّت عليه النصوص المستفيضة التي تواترت تواترًا يعلمه أهل الحديث. انتهى، وإليه مال ابن حزم في كتابه "حجة الوداع"، وتأوّل باقي الأحاديث إليه، كما حكاه النوويّ، والوليّ العراقيّ.
وقال أبو محمد بن حزم رحمه الله في كتابه "حجة الوداع"، ما مختصره:
لما اختلفت الرواية عن الصحابة، فقال بعضهم: أفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجّ، وقال بعضهم: تمتع صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم قرن صلى الله عليه وسلم بين حج وعمرة، كان هذا تنازعًا يجب رده إلى الله تعالى، وإلى نبيه صلى الله عليه وسلم بنص القرآن، فلما فعلنا ذلك وجدناه صلى الله عليه وسلم قد حكم بينهم، ونص بكلامه الذي ليس موقوفًا على غيره أنه كان قارنًا، كما ذكر عنه البراء بن عازب، إذ قال صلى الله عليه وسلم:"لكني سقت الهدي، وقَرَنْتُ"، وكما ذكر أنس رضي الله عنه أنه سمعه يقول:"لبيك عمرة وحجًّا، لبيك عمرةً وحجًّا"، وكما ذكر عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سمعه صلى الله عليه وسلم يلبي بهما معًا، وكما ذكرت حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قررته صلى الله عليه وسلم على أنه معتمر بعمرة لم يحل منها، فلم ينكر صلى الله عليه وسلم ذلك عليها، بل صدقها، وأجابها أنه مع ذلك حاجّ، وهو صلى الله عليه وسلم لا يُقِرّ على باطل يسمعه أصلًا، بل ينكره، لا بدّ من ذلك، فصح بما ذكرنا قرانه صلى الله عليه وسلم يقينًا.
وليس في كل ما رُوي ما يَتَعَلّق به مَن ظَنّ أنه صلى الله عليه وسلم يقول: لبيك بحج مفرد، ولا أحد قال: إنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن نفسه، فقال: أفردت الحجّ، ولا رُوي ذلك أيضًا عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: لبيك بعمرة مفردة، ولا أنه قال: إني تمتعت، وهو بلا شكّ أعلم بنفسه، فلما ذَكَرَ صلى الله عليه وسلم أنه قَرَنَ، وسُمِع يلبي بحج وعمرة صحّ أنه قارن يقينًا. فهؤلاء أربعةٌ عدولٌ من أئمة الصحابة رضي الله عنهم يشهدون أنهم سمعوه صلى الله عليه وسلم
(1)
هذا القول هو الحقّ الموافق، كما سيأتي تحقيقه، فتنبّه.
يُخبر عن نفسه بأنه قارنٌ، وكان هذا أولى عند كل ذي فهم من حكاية صاحب لم ينسبها إلى أنه سمعه من فيه صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: إن ابن عمر ذكر أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "لبيك بحجة"، قيل له: نعم، قد روينا ذلك، وهذا لا حجة فيه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقل: إنه سمعه يقول في ذي الحليفة، ولعله سمعه صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إذ أتم عمرته، ونهض إلى منى.
وقد يمكن أن يكون سمع ذكر الحجّ، ولم يسمع ذكر العمرة، ومن زاد ذكر العمرة أولى؛ لأنه زاد علمًا. ثم قال: فهذا وجه الرد إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم قد لاح أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنًا، وبالله تعالى التوفيق.
قال: أما من ذهب إلى إسقاط المتعارض من الروايات والأخذ بما لم يتعارض منها، فوجه علمه في هذا أن نقول: إن كل من رُوي عنه الإفراد قد اضطربت عنه الرواية، وروي عن جميعهم القران، وهم: عائشة، وجابر، وابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم، ووجدنا أيضًا عمران بن الحصين، وعليّ بن أبي طالب قد روي عنهم التمتع، وروي عنهم القران، ووجدنا أم المؤمنين حفصة، والبراء بن عازب، وأنس بن مالك رضي الله عنهم تضطرب الرواية عنهم، ولا اختلفت عنهم في أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنًا، فننزل رواية كل من اضطُرِب عنه، ونرجع إلى رواية من لم يُضطرَب عنه، وليست إلا رواية من روى القران خاصة؛ كحفصة، والبراء، وأنس رضي الله عنهم.
هذا وجه العمل على قول من يرى إسقاط ما تعارض من الروايات، والأخذ بما لم يتعارض منها.
قال: وأما من ذهب إلى الأخذ بالزائد، وهو وجه يجب استعماله إذًا كانت الألفاظ كلها، أو الأفعال كلها منسوبة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم تكن موقوفة على غيره من دونه، ولا تنازعًا ممن سواه صلى الله عليه وسلم، فوجه العمل في هذا أن نقول - وبالله تعالى التوفيق -: إنا وجدنا من روى الإفراد إنما اقتصر على ذكر الإهلال بالحج وحده، دون عمرة معه، ووجدنا من روى التمتع إنما اقتصر على ذكر الإهلال بعمرة وحدها، دون حج معها، ووجدنا من روى القران قد جمع الأمرين معًا، فزاد على ذكر الحج وحده عمرة، وزاد على من ذكر العمرة
وحدها حجًّا، وكانت هذه زيادة علم لم يذكرها الآخرون، وزيادة حفظ ونقل على كلتا الطائفتين المتقدمتين، وزيادةُ العدل مقبولةٌ، وواجب الأخذ بها، فوجب بهذا أيضًا أن يُصْدَر إلى رواية من روى القران، دون رواية من روى غير ذلك، وأيضًا فالذين رووا القران زادوا زيادة لا يحل لمسلم تركها، وهي أنهم حكموا أنهم سمعوا ذلك من لفظه صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر ذلك غيرهم، فوجب ألا يُلْتَفَت إلى لفظ أحد بعد لفظه صلى الله عليه وسلم. انتهى مختصر كلام ابن رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره ابن حزم رحمه الله في الجمع بين أحاديث الباب جمع نفيسٌ، وتحقيقٌ أنيسٌ.
وحاصله أن الصواب والأرجح في حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان قارنًا، وأهلّ بالقران أوّلَ ما أهلّ، ثم استمرّ على ذلك إلى أن تحلّل يوم النحر، والله تعالى أعلم.
وقد أجاد الإمام ابن قيّم الجوزيّة رحمه الله في كتابه الممتع "زاد المعاد" حيث حقّق الموضوع بما لا يوجد عنده، ودونك نصّه، قال رحمه الله:
وإنما قلنا: إنه صلى الله عليه وسلم أحرم قارنًا؛ لبضعة وعشرين حديثًا صحيحةً صريحةً في ذلك.
[أحدها]: ما أخرجاه في "الصحيحين" عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحجّ، وأهدى، فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهلّ بالعمرة، ثم أهلّ بالحجّ، وذكر الحديث.
[وثانيها]: ما أخرجاه في "الصحيحين" أيضًا عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها أخبرته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث ابن عمر سواءً.
[وثالثها]: ما روى مسلم في "صحيحه" من حديث قتيبة، عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر، أنه قرن الحج إلى العمرة، وطاف لهما طوافًا واحدًا، ثم قال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1)
"حجة الوداع" ص 440 - 448.
[ورابعها]: ما روى أبو داود، عن النُّفَيليّ، حدّثنا زهير، هو ابن معاوية، حدثنا أبو إسحاق، عن مجاهد، سئل ابن عمر: كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: مرتين، فقالت عائشة: لقد علم ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاثًا سوى التي قَرَن بحجته.
ولم يناقض هذا قول ابن عمر: إنه صلى الله عليه وسلم قرن بين الحج والعمرة؛ لأنه أراد العمرة الكاملة المفردة، ولا ريب أنهما عمرتان: عمرة القضاء، وعمرة الجعرانة، وعائشة رضي الله عنها رادت العمرتين المستقلتين، وعمرة القران، والتي صُدّ عنها، ولا ريب أنها أربع.
[وخامسها]: ما رواه سفيان الثوريّ، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حَجَّ ثلاث حِجَجٍ: حجتين قبل أن يهاجر، وحجة بعدما هاجر، معها عمرةٌ، رواه الترمذيّ وغيره
(1)
.
[وسادسها]: ما رواه أبو داود، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر: عمرة الحديبية، والثانية حين تواطؤوا على عمرة من قابل، والثالثة من الجعرانة، والرابعة التي قرن حجته
(2)
.
[وسابعها]: ما رواه البخاري في "صحيحه" عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: "أتاني الليلة آتٍ من ربي عز وجل، فقال: صَلِّ في هذا الوادي المبارك، وقُلْ: عمرةً في حجة".
[وثامنها]: ما رواه أبو داود، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كنت مع عليّ رضي الله عنه حين أَمَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليمن، فأصبت معه أواقيّ من ذهب، فلما قَدِم عليّ من اليمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وجدت فاطمة رضي الله عنها قد لبست ثيابًا صبيغات، وقد نَضَحَت البيت بنضوح، فقالت: ما لك؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه، فأحلُّوا، قال: فقلت لها: إني أهللت بإهلال النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال لي:"كيف صنعتَ؟ " قال: قلت: أهللت بإهلال النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"فإني قد سقت الهدي، وقرنت"، وذكر الحديث
(3)
.
(1)
حديث صحيح.
(2)
حديث صحيح.
(3)
حديث صحيح، رواه أبو داود والنسائيّ.
[وتاسعها]: ما رواه النسائيّ بسنده عن مروان بن الحكم قال: كنت جالسًا عند عثمان، فسمع عليًّا رضي الله عنه يلبي بعمرة وحجة، فقال: ألم تكن تُنْهَى عن هذا؟ قال: بلى، لكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بهما جميعًا، فلم أدع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقولك
(1)
.
[وعاشرها]: ما رواه مسلم في "صحيحه" عن محمران بن حصين رضي الله عنهما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بين حجة وعمرة، ثم لم ينه عنه حتى مات، ولم ينزل قرآن يحرمه.
[وحادي عشرها]: ما رواه يحيى بن سعيد القطان، وسفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، قال: إنما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحج والعمرة؛ لأنه لا يحج بعدها، وله طرُقٌ صحيحة إليهما.
[وثاني عشرها]: ما رواه الإمام أحمد من حديث سراقة بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، قال: وقرن النبيّ صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وإسناده ثقات.
[وثالث عشرها]: ما رواه الإمام أحمد، وابن ماجه، من حديث أبي طلحة الأنصاريّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الحج والعمرة، ورواه الدارقطنيّ، وفيه الحجاج بن أرطاة
(2)
.
[ورابع عشرها]: ما رواه أحمد من حديث الْهِرْماس بن زياد الباهليّ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَرَن في حجة الوداع بين الحج والعمرة
(3)
.
[وخامس عشرها]: ما رواه البزار بإسناد صحيح أن ابن أبي أوفى قال: إنما جمع رسول صلى الله عليه وسلم بين الحج والعمرة؛ لأنه عَلِم أنه لا يحج بعد عامه
(1)
حديث صحيح أخرجه النسائيّ.
(2)
وحجاج بن أرطاة فيه مقال، وسيأتي قول ابن القيّم رحمه الله: وحديثه لا ينزل عن درجة الحسن، ما لم ينفرد بشيء، أو يخالف الثقات.
(3)
في سنده عبد الله بن واقد الحرّانيّ متروك، وكان أحمد يثني عليه، وقال: لعله كبر واختلط.
ذلك
(1)
، وقد قيل: إن يزيد بن عطاء أخطأ في إسناده، وقال آخرون: لا سبيل إلى تخطئته بغير دليل.
[وسادس عشرهما]: ما رواه الإمام أحمد من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَرَن الحج والعمرة، فطاف لهما طوافًا واحدًا، ورواه الترمذيّ، وفيه الحجاج بن أرطاة، وحديثه لا ينزل عن درجة الحسن، ما لم ينفرد بشيء، أو يخالف الثقات.
[وسابع عشرها]: ما رواه الإمام أحمد من حديث أمّ سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أَهِلُّوا يا آل محمد بعمرة في حج"
(2)
.
[وثامن عشرها]: ما أخرجاه في "الصحيحين"، واللفظ لمسلم، عن حفصة رضي الله عنها قالت: قلت للنبيّ صلى الله عليه وسلم: ما شأن الناس حَلُّوا، ولم تَحِلَّ أنت من عمرتك؟ قال:"إني قلدت هديي، ولبَّدت رأسي، فلا أحِلُّ حتى أحلّ من الحج".
وهذا يدلّ على أنه كان في عمرة معها حجّ، فإنه لا يحل من العمرة حتى يحلّ من الحجّ، وهذا على أصل مالك والشافعيّ ألزم؛ لأن المعتمر عمرة مفردة لا يمنعه عندهما الهدي من التحلل، وإنما يمنعه عمرة القران، فالحديث على أصلهما نَصٌّ.
[وتاسع عشرها]: ما رواه النسائيّ والترمذيّ عن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، أنه سمع سعد بن أبي وقاص، والضحاك بن قيس، عام حج معاوية بن أبي سفيان، وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال الضحاك: لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله، فقال سعد: بئسما قلت يا ابن أخي، قال الضحاك: فإن عمر بن الخطاب نَهَى عن ذلك، قال سعد: صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصنعناها معه، قال الترمذيّ: حديث حسنٌ صحيحٌ.
(1)
قال الهيثميّ في "مجمع الزوائد": رواه الطبرانيّ في "الكبير"، و"الأوسط"، وفيه يزيد بن عطاء وثقه أحمد، وغيره، وفيه كلام، وفي "التقريب": ليّن الحديث.
(2)
رواه أحمد، ورجاله ثقات.
ومراده بالتمتع هنا بالعمرة إلى الحج أحد نوعيه، وهو تمتّع القران، فإنه لغة القرآن والصحابة الذين شَهِدوا التنزيل والتأويل، شهدوا بذلك، ولهذا قال ابن عمر: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحجّ، فبدأ فأهلّ بالعمرة، ثم أهلّ بالحجّ، وكذلك عائشة، وأيضًا - فإن الذي صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو متعة القران بلا شكّ، كما قطع به أحمد، ويدلّ على ذلك أن عمران بن حصين قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمتعنا معه، مُتَّفقٌ عليه، وهو الذي قال لمطرف: أحدثك حديثًا عسى الله أن ينفعك به، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حج وعمرة، ثم لم ينه عنه حتى مات، وهو في "صحيح مسلم"، فأخبر عن قرانه بقوله:"تمتع"، وبقوله:"جمع بين حج وعمرة".
ويدلّ عليه أيضًا ما ثبت في "الصحيحين" عن سعيد بن المسيب، قال: اجتمع عليّ وعثمان بعسفان، وكان عثمان ينهى عن المتعة، أو العمرة، فقال عليّ: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه؟ قال عثمان: دَعْنَا منك، فقال: إني لا أستطيع أن أدعك، فلما أن رأى عليّ ذلك أهل بهما جميعًا، هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاريّ: اختَلَف عليّ وعثمان بعسفان في المتعة، فقال عليّ: ما تريد إلا أن تنهى عن أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فلما رأى ذلك عليّ أهلّ بهما جميعًا.
وأخرج البخاريّ وحده من حديث مروان بن الحكم قال: شهدت عثمان وعليًّا، وعثمان ينهى عن المتعة، وأن يجمع بينهما، فلما رأى عليّ ذلك أهلّ بهما، لبيك بعمرة وحجة، وقال: ما كنت لأدع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول أحد.
فهذا يبيّن أن من جمع بينهما كان متمتعًا عندهم، وإن هذا هو الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وافقه عثمان على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، فإنه لما قال له: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه؟ لم يقل له: لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولولا أنه وافقه على ذلك لأنكره، ثم قصد عليّ إلى موافقة النبيّ صلى الله عليه وسلم، والاقتداء به في ذلك، وبيانِ أن فعله لم يُنسَخ، وأهلّ بهما جميعًا تقريرًا للاقتداء به، ومتابعته في القران، وإظهارًا لسنةٍ نَهَى عنها عثمان؛ متأولًا، وحينئذ فهذا دليل مستقلٌّ [تمام العشرين].
[الحادي والعشرون]: ما رواه مالك في "الموطأ" عن ابن شهاب، عن
عروة، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من كان معه هدي، فليهلل بالحج مع العمرة، ثم لا يحلّ حتى يحلّ منهما جميعًا".
ومعلوم أنه كان معه الهدي فهو أولى مَن بادر إلى ما أَمَرَ به، وقد دل عليه سائر الأحاديث التي ذكرناها، ونذكرها.
وقد ذهب جماعة من السلف والخلف إلى إيجاب القران على من ساق الهدي، والتمتع بالعمرة المفردة على من لم يسق الهدي، منهم عبد الله بن عباس، وجماعة، فعندهم لا يجوز العدول عما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر به أصحابه، فإنه قرن، وساق الهدي، وأمر كل من لا هدي معه بالفسخ إلى عمرة مفردة، فالواجب أن نفعل كما فَعَل، أو كما أمر، وهذا القول أصحّ من قول من حَرَّم فسخ الحج إلى العمرة
(1)
.
[الثاني والعشرون]: ما أخرجاه في "الصحيحين" عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن معه بالمدينة الظهر أربعًا، والعصر بذي الحليفة ركعتين، فبات بها حتى أصبح، ثم ركب حتى استوت به راحلته على البيداء، حمد الله وسبّح وكبّر، ثم أهلّ بحج وعمرة، وأهلّ الناس بهما، فلما قدمنا أَمَرَ الناس، فحلّوا حتى إذا كان يوم التروية أهلّوا بالحج.
وفي "الصحيحين" أيضًا عن بكر بن عبد الله المزنيّ، عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعًا، قال بكر: فحدثت بذلك ابن عمر، فقال: لبى بالحج وحده، فلقيت أنسًا، فحدثته بقول ابن عمر، فقال أنس: ما تعدّوننا إلا صبيانًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلّ بهما: لبيك عمرة وحجًّا.
(1)
كنت سابقًا رجّحت في "شرح النسائيّ " هذا القول الموجب للفسخ، ثم تبيّن في هذا الشرح ترجيح القول بالاستحباب دون الوجوب، كما هو مذهب الإمام أحمد رحمه الله، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله، كما سيأتي قريبًا - إن شاء الله تعالى -.
ورَوَى أبو يوسف القاضي، عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن أنس رضي الله عنه، قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "لبيك بحج وعمرة معًا".
وروى النسائيّ من حديث أبي أسماء
(1)
، عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يلبّي بهما.
ورَوَى أيضًا من حديث الحسن البصريّ، عن أنس، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أهلّ بالحج والعمرة حين صلى الظهر
(2)
.
وروى البزار من حديث زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب، عن أنس، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أهلّ بحج وعمرة، ومن حديث سليمان التيميّ، عن أنس كذلك، وعن أبي قُدامة، عن أنس مثله، وذكر وكيع: حدّثنا مصعب بن سليم، قال: سمعت أنسًا مثله، قال: وحدّثنا ابن أبي ليلى، عن ثابت البنانيّ، عن أنس مثله، وذكر الخشنيّ: حدّثنا محمد بن بشار، حدّثنا محمد بن جعفر، حدّثنا شعبة، عن أبي قَزَعَة، عن أنس مثله.
وفي "صحيح البخاريّ" عن قتادة، عن أنعس: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عُمَر، فذكرها، وقال: وعمرة مع حجته.
وذكر عبد الرزاق: حدّثنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، وحميد بن هلال، عن أنس مثله.
فهؤلاء ستة عشر نفسًا من الثقات
(3)
كلهم متفقون عن أنس أن لفظ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إهلالًا بحج وعمرة معًا، وهم: الحسن البصريّ، وأبو قلابة، وحميد بن هلال، وحميد بن عبد الرحمن الطويل، وقتادة، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وثابت البنانيّ، وبكر بن عبد الله المزنيّ، وعبد العزيز بن صُهيب، وسليمان التيميّ، ويحيى بن أبي إسحاق، وزيد بن أسلم، ومصعب بن سليم، وأبو أسماء، وأبو قُدامة عاصم بن حسين، وأبو قَزَعَة، وهو سُوَيد بن حُجَير الباهليّ.
فهذه أخبار أنس عن لفظ إهلاله صلى الله عليه وسلم الذي سمعه منه، وهذا عليّ،
(1)
هو أبو أسماء الصيقل: مجهول.
(2)
رواه النسائيّ، ورجاله ثقات.
(3)
أي: معظمهم، كما لا يخفى.
والبراء، يخبران عن إخباره صلى الله عليه وسلم عن نفسه بالقران، وهذا عليّ أيضًا يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ربه أمره بأن يفعله، وعلّمه اللفظ الذي يقوله عند الإحرام، وهذا عليّ أيضًا يخبر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بهما جميعًا، وهؤلاء بقية من ذكرنا يخبرون عنه بأنه فعله، وهذا هو صلى الله عليه وسلم يأمر به آله، ويأمر به من ساق الهدي.
وهؤلاء الذين رووا القران بغاية البيان عائشة أم المؤمنين، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عباس، وعمر بن الخطاب، وعليّ بن أبي طالب، وعثمان بن عفان بإقراره لعليّ، وتقرير عليّ له، وعمران بن الحصين، والبراء بن عازب، وحفصة أم المؤمنين، وأبو قتادة، وابن أبي أوفى، وأبو طلحة، والهرماس بن زياد، وأم سلمة، وأنس بن مالك، وسعد بن أبي وقاص، فهؤلاء هم سبعة عشر صحابيًّا رضي الله عنهم، منهم من رَوَى فعله، ومنهم من روى لفظ إحرامه، ومنهم من روى خبره عن نفسه، ومنهم من روى أمره به.
[فإن قيل]: كيف تجعلون منهم ابن عمر، وجابرًا، وعائشة، وابن عباس، وهذه عائشة تقول: أهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجّ، وفي لفظ: أفرد الحج، والأول في "الصحيحين"، والثاني في مسلم، وله لفظان: هذا أحدهما، والثاني أهلّ بالحج مفردًا، وهذا ابن عمر يقول: لبى بالحج وحده، ذكره البخاريّ
(1)
، وهذا ابن عباس يقول: وأهلّ رسول الله بالحج، رواه مسلم، وهذا جابر يقول: أفرد الحجّ، رواه ابن ماجه؟
[قيل]: إن كانت الأحاديث عن هؤلاء تعارضت وتساقطت، فإن أحاديث الباقين لم تتعارض، فهَبْ أن أحاديث مَن ذكرتم لا حجة فيها على القران، ولا على الإفراد؛ لتعارضها، فما الموجب للعدول عن أحاديث الباقين، مع صراحتها وصحتها، فكيف وأحاديثهم يُصَدّق بعضها بعضًا، ولا تعارض بينها، وإنما ظَنَّ من ظَنّ التعارض؛ لعدم إحاطته بمراد الصحابة من ألفاظهم، وحملها على الاصطلاح الحادث بعدهم.
(1)
الظاهر أن مسلمًا هو الذي أخرجه بهذا اللفظ، وأما البخاريّ فيحتاج إلى النظر، وقد علّق محقق الزاد قائلًا: ولم نجدها في البخاريّ. انتهى، فليُحرّر.
قال ابن القيّم: ورأيت لشيخ الإسلام - يعني شيخه ابن تيميّة رحمه الله فصلًا حسنًا في اتفاق أحاديثهم، نسوقه بلفظه، قال: والصواب أن الأحاديث في هذا الباب متفقة، ليست بمختلفة، إلا اختلافًا يسيرًا يقع مثله في غير ذلك، فإن الصحابة رضي الله عنهم ثبت عنهم أنه تمتع، والتمتع عندهم يتناول القران، والذين رُوي عنهم أنه أفرد، رُوي عنهم أنه تمتع، أما الأول ففي "الصحيحين" عن سعيد بن المسيِّب، قال: اجتمع عليّ وعثمان بعسفان، وكان عثمان ينهى عن المتعة، أو العمرة، فقال عليّ رضي الله عنه: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه، فقال عثمان: دَعْنا منك، فقال: إني لا أستطيع أن أدعك، فلما رأى رضي الله عنه ذلك، أهلّ بهما جميعًا، فهذا يبيّن أن من جمع بينهما كان متمتعًا عندهم، وأن هذا هو الذي فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم، ووافقه عثمان على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، لكن كان النزاع بينهما، هل ذلك الأفضل في حقنا أم لا؟ وهل شُرع فسخُ الحج إلى العمرة في حقنا، كما تنازع فيه الفقهاء، فقد اتَّفَقَ عليّ وعثمان على أنه صلى الله عليه وسلم تمتع، والمراد بالتمتع عندهم القران، وفي "الصحيحين" عن مُطَرِّف قال: قال عمران بن حصين: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حج وعمرة، ثم إنه لم ينه عنه حتى مات، ولم ينزل فيه قرآن يحرِّمه، وفي رواية عنه: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمتعنا معه، فهذا عمران، وهو من أجلّ السابقين الأولين، أخبر أنه تمتع، وأنه جمع بين الحج والعمرة، والقارن عند الصحابة متمتع، ولهذا أوجبوا عليه الهدي، ودخل في قوله تعالى:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} الآية [البقرة: 196]، وذكر حديث عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أتاني آت من ربي، فقال: صَلِّ في هذا الوادي المبارك، وقُلْ: عمرة في حجة"، رواه البخاري.
قال: فهؤلاء الخلفاء الراشدون: عمر، وعثمان، وعليّ، وعمران بن حصين، رُوي عنهم بأصح الأسانيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن بين العمرة والحج، وكانوا يسمون ذلك تمتعًا، وهذا أنس يذكر أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعًا.
وما ذكره بكر بن عبد الله المزنيّ، عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم لبى بالحج وحده، فجوابه أن الثقات الذين هم أثبت في ابن عمر من بكر، مثل سالم ابنه، ونافع، رووا عنه أنه قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، وهؤلاء
أثبت في ابن عمر من بكر، فتغليط بكر عن ابن عمر أولى من تغليط سالم ونافع عنه، وأولى من تغليطه هو على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويشبه أن ابن عمر قال له:"أفرد الحج"، فظن أنه قال: لبى بالحج، فإن إفراد الحج كانوا يطلقونه، ويريدون به إفراد أعمال الحج، وذلك رد منهم على من قال: إنه قَرَنَ قرانًا طاف فيه طوافين، وسعى فيه سعيين، وعلى من يقول: إنه حَلّ من إحرامه، فرواية من روى عن الصحابة أنه أفرد الحج تَرُدّ على هؤلاء، يبيّن هذا ما رواه مسلم في "صحيحه" عن نافع، عن ابن عمر، قال: أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفردًا، وفي رواية: أهل بالحج مفردًا.
فهذه الرواية إذا قيل: إن مقصودها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أهلّ بحج مفردًا، قيل: فقد ثبت بإسناد أصح من ذلك عن ابن عمر: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تمتع بالعمرة إلى الحج، وأنه بدأ، فأهلّ بالعمرة، ثم أهلّ بالحجّ، وهذا من رواية الزهريّ، عن سالم، عن ابن عمر، وما عارض هذا عن ابن عمر إما أن يكون غلطًا عليه، وإما أن يكون مقصوده موافقًا له، وإما أن يكون ابن عمر لَمّا عَلِم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحلّ ظَنّ أنه أفرد كما وَهِمَ في قوله: إنه اعتمر في رجب، وكان ذلك نسيانًا منه، والنبيّ صلى الله عليه وسلم لما لم يحلّ من إحرامه، وكان هذا حال المفرد ظنّ أنه أفرد، ثم ساق حديث الزهريّ، عن سالم، عن أبيه: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
الحديث، وقولَ الزهريّ: وحدّثني عروة، عن عائشة بمثل حديث سالم، عن أبيه، قال: فهذا من أصحّ حديث على وجه الأرض، وهو من حديث الزهريّ، أعلم أهل زمانه بالسنة، عن سالم، عن أبيه، وهو من أصحّ أحاديث ابن عمر وعائشة.
وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها في "الصحيحين": أن النبيّ صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عُمَر، الرابعة مع حجته، ولم يعتمر بعد الحج باتفاق العلماء، فيتعيّن أن يكون متمتعًا تمتع قران، أو التمتع الخاصّ.
وقد صحّ عن ابن عمر أنه قرن بين الحج والعمرة، وقال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه البخاريّ في "الصحيح".
قال: وأما الذين نُقِل عنهم إفراد الحج، فهم ثلاثة: عائشة، وابن عمر، وجابر، والثلاثة نُقِل عنهم التمتع، وحديث عائشة، وابن عمر، أنه تمتع بالعمرة
إلى الحج أصحّ من حديثهما، وما صح في ذلك عنهما، فمعناه إفراد أعمال الحج، أو أن يكون وقع منه غلطٌ، كنظائره، فإن أحاديث التمتع متواترةٌ، رواها أكابر الصحابة؛ كعمر، وعثمان، وعليّ، وعمران بن حصين، ورواها أيضًا عائشة، وابن عمر، وجابر، بل رواها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بضعة عشر من الصحابة.
قال ابن القيّم: وقد اتفق أنس، وعائشة، وابن عمر، وابن عباس، على أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر، وإنما وَهِمَ ابن عمر في كون إحداهن في رجب، وكلهم قالوا: وعمرة مع حجته، وهم سوى ابن عباس قالوا: إنه أفرد الحجّ، وهم سوى أنس قالوا: تمتع، فقالوا هذا، وهذا، وهذا، ولا تناقض بين أقوالهم، فإنه تَمَتَّعَ تَمَتُّعَ قران، وأفرد أعمال الحجّ، وقرن بين النسكين، وكان قارنًا باعتبار جمعه بين النسكين، ومفردًا باعتبار اقتصاره على أحد الطوافين والسعيين، ومتمتعًا باعتبار ترفهه بترك أحد السفرين.
ومن تأمل ألفاظ الصحابة، وجمع الأحاديث بعضها إلى بعض، واعتبر بعضها ببعض، وفَهِم لغة الصحابة أسفر له صبح الصواب، وانقمثمعت عنه ظلمة الاختلاف والاضطراب، والله الهادي لسبيل الرشاد، والموفق لطريق السداد.
فمن قال: إنه أفرد الحج، وأراد به أنه أتى بالحج مفردًا، ثم فرغ منه، وأتى بالعمرة بعده من التنعيم أو غيره، كما يظن كثير من الناس، فهذا غلطٌ، لم يقله أحد من الصحابة، ولا التابعين، ولا الأئمة الأربعة، ولا أحد من أئمة الحديث.
وإن أراد به أنه حج حجًّا مفردًا، لم يعتمر معه، كما قاله طائفة من السلف والخلف، فوَهَمٌ أيضًا، والأحاديث الصحيحة الصريحة تردّه، كما تبَيَّنَ.
وإن أراد به أنه اقتصر على أعمال الحج وحده، ولم يفرد للعمرة أعمالًا، فقد أصاب، وعلى قوله تدلّ جميع الأحاديث.
ومن قال: إنه قرن، فإن أراد به أنه طاف للحج طوافًا على حدة،
وللعمرة طوافًا على حدة، وسعى للحجّ سعيًا، وللعمرة سعيًا، فالأحاديث الثابتة ترد قوله.
وإن أراد أنه قرن بين النسكين، وطاف لهما طوافًا واحدًا، وسعى لهما سعيًا واحدًا، فالأحاديث الصحيحة تشهد لقوله، وقوله هو الصواب.
ومن قال: إنه تمتع فإن أراد تمتع تمتعًا حَل منه، ثم أحرم بالحج إحرامًا مستأنفًا، فالأحاديث تردّ قوله، وهو غلط.
وإن أراد أنه تمتع تمتعًا لم يحلّ منه، بل بقي على إحرامه لأجل سوق الهدي، فالأحاديث الكثيرة تردُّ قوله أيضًا، وهو أقل غلطًا، وإن أراد تمتع القران، فهو الصواب الذي تدلّ عليه جميع الأحاديث الثابتة، وياتلف به شملها، ويزول عنها الإشكال والاختلاف.
فصل
غَلِط في عُمَرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم خمس طوائف:
[إحداها]: من قال: إنه اعتمر في رجب، وهذا غلط، فإن عُمَره مضبوطة محفوظةٌ، لم يخرج في رجب إلى شيء منها البتة.
[الثانية]: من قال: إنه اعتمر في شوال، وهذا أيضًا وَهَمٌ، والظاهر - والله أعلم - أن بعض الرواة غَلِطَ في هذا، وأنه اعتكف في شوال، فقال: اعتمر في شوال، لكن سياق الحديث، وقوله: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عُمَر: عمرة في شوال، وعمرتين في ذي القعدة، يدلّ على أن عائشة، أو من دونها إنما قصد العمرة.
[الثالثة]: من قال: إنه اعتمر من التنعيم بعد حجه، وهذا لم يقله أحدٌ من أهل العلم، وإنما يظنه العوامّ، ومن لا خِبْرة له بالسنة.
[الرابعة]: من قال: إنه لم يعتمر في حجته أصلًا، والسنة الصحيحة المستفيضة التي لا يمكن ردّها تبطل هذا القول.
[الخامسة]: من قال: إنه اعتَمَرَ عمرة حَلَّ منها، ثم أحرم بعدها بالحجّ من مكة، والأحاديث الصحيحة تُبطل هذا القول، وتردُّهُ.
فصل
ووهم في حجه صلى الله عليه وسلم خمس طوائف:
[الطائفة الأولى]: التي قالت: حجّ حجّا مفردًا، لم يعتمر معه.
[الثانية]: من قال: حج متمتعًا تمتعًا حلّ منه، ثم أحرم بعده بالحجّ، كما قاله القاضي أبو يعلى وغيره.
[الثالثة]: من قال: حجّ متمتعًا تمتعًا لم يحلّ منه لأجل سوق الهدي، ولم يكن قارنًا، كما قاله أبو محمد بن قُدامة، صاحب "المغني"، وغيره.
[الرابعة]: من قال: حج قارنًا قرانًا طاف له طوافين، وسعى له سعيين.
[الخامسة]: من قال: حج حجًّا مفردًا، واعتمر بعده من التنعيم.
فصل
وغَلِطَ في إحرامه صلى الله عليه وسلم خمس طوائف:
[إحداها]: من قال: لبى بالعمرة وحدها، واستمرّ عليها.
[الثانية]: من قال: لبى بالحجّ وحده، واستمر عليه.
[الثالثة]: من قال: لبى بالحجّ مفردًا، ثم أدخل عليه العمرة، وزعم أن ذلك خاصّ به صلى الله عليه وسلم.
[الرابعة]: من قال: لبى بالعمرة وحدها، ثم أدخل عليها الحجّ في ثاني الحال.
[الخامسة]: من قال: أحرم إحرامًا مطلقًا، لم يعيّن فيه نسكًا، ثم عَيَّنه بعد إحرامه.
والصواب أنه أحرم بالحجّ والعمرة معًا، من حين أنشأ الإحرام، ولم يحلّ حتى حلّ منهما جميعًا، فطاف لهما طوافًا واحدًا، وسعى لهما سعيًا واحدًا، وساق الهدي، كما دلت عليه النصوص المستفيضة التي تواترت تواترًا يعلمه أهل الحديث، والله أعلم.
فصل في أعذار القائلين بهذه الأقوال، وبيان منشإ الوهم والغلط:
أما عذر من قال: اعتمر في رجب، فحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم اعتَمَر في رجب، متّفقٌ عليه، وقد غلّطته عائشة وغيرها كما في "الصحيحين" عن مجاهد، قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا عبد الله بن عمر جالسًا إلى حجرة عائشة، وإذا ناس يصلون في المسجد صلاة
الضحى، قال: فسألناه عن صلاتهم، فقال: بدعةٌ، ثم قلنا له: كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أربعًا، إحداهن في رجب، فكرهنا أن نردّ عليه، قال: وسمعنا استنان عائشة أم المؤمنين في الحجرة، فقال عروة: يا أمّه، أو يا أم المؤمنين ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن؟ قالت: ما يقول؟ قال: يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عُمَر، إحداهنّ في رجب، قالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن، ما اعتمر عمرةً قط إلا وهو شاهدٌ، وما اعتمر في رجب قطّ، وكذلك قال أنس، وابن عباس: إن عُمَرَه كلها كانت في ذي القعدة، وهذا هو الصواب.
فصل
وأما من قال: اعتمر في شوال، فعذره ما رواه مالك في "الموطإ"، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعتمر إلا ثلاثًا، إحداهن في شوال، واثنتين في ذي القعدة، ولكن هذا الحديث مرسلٌ، وهو غلطٌ أيضًا، إما من هشام، وإما من عروة، أصابه فيه ما أصاب ابن عمر، وقد رواه أبو داود مرفوعًا، عن عائشة، وهو غلطٌ أيضًا، لا يصح رفعه، قال ابن عبد البر: وليس روايته مسندًا مما يُذْكَر عن مالك في صحة النقل.
قال ابن القيّم: ويدلّ على بطلانه عن عائشة، أن عائشة، وابن عباس، وأنس بن مالك، قالوا: لم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة، وهذا هو الصواب، فإن عمرة الحديبية، وعمرة القضيّة كانتا في ذي القعدة، وعمرة القران إنما كانت في ذي القعدة، وعمرة الجعرانة أيضًا كانت في أول ذي القعدة، وإنما وقع الاشتباه أنه خرج من مكة في شوال للقاء العدوّ، وفرغ من عدوه، وقسم غنائمهم، ودخل مكة ليلًا معتمرًا من الجعرانة، وخرج منها ليلًا، فخفيت عمرته هذه على كثير من الناس، وكذلك قال مُحَرِّشٌ الكعبيّ رضي الله عنه، والله أعلم.
فصل
قال ابن القيّم رحمه الله: وأما من ظَنَّ أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر من التنعيم بعد الحجّ فلا أعلم له عذرًا، فإن هذا خلاف المعلوم المستفيض من حجته، ولم ينقله أحد قطّ، ولا قاله إمام، ولعل ظانّ هذا سمع أنه أفرد الحجّ، ورأى أن كل من أفرد
الحجّ من أهل الآفاق لا بدّ له أن يخرج بعده إلى التنعيم، فَنَزَّل حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وهذا عين الغلط.
فصل
قال: وأما من قال: إنه صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في حجته أصلًا، فعذره أنه لما سمع أنه أفرد الحجّ، وعلم يقينًا أنه لم يعتمر بعد حجته، قال: إنه لم يعتمر في تلك الحجة؛ اكتفاءً منه بالعمرة المتقدمة، والأحاديث المستفيضة الصحيحة تردّ قوله، كما تقدم من أكثر من عشرين وجهًا، وقد قال:"هذه عمرة استمتعنا بها"، وقالت حفصة: ما شأن الناس حَلُّوا، ولم تحل أنت من عمرتك؟ وقال سراقة بن مالك: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك قال ابن عمر، وعائشة، وعمران بن حصين، وابن عباس، وصرح أنس، وابن عباس، وعائشة، أنه اعتمر في حجته، وهي إحدى عُمَرِه الأربع.
فصل
وأما من قال: إنه صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرة حَلَّ منها كما قاله القاضي أبو يعلى، ومن وافقه، فعذرهم ما صح عن ابن عمر، وعائشة، وعمران بن حصين، وغيرهم، أنه صلى الله عليه وسلم تمتع، وهذا يَحْتَمِل أنه تَمَتُّعٌ حَلَّ منه، ويَحْتَمِل أنه لم يَحِل، فلما أخبر معاوية أنه قصر عن رأسه بمشقص على المروة، وحديثه في "الصحيحين" دلّ على أنه حَلَّ من إحرامه، ولا يمكن أن يكون هذا في غير حجة الوداع؛ لأن معاوية إنما أسلم بعد الفتح، والنبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن زمن الفتح محرمًا، ولا يمكن أن يكون في عمرة الجعرانة؛ لوجهين:
أحدهما: أن في بعض ألفاظ الحديث الصحيح: وذلك في حجته.
والثاني: أن في رواية النسائيّ باسناد صحيح: وذلك في أيام العشر، وهذا إنما كان في حجته، وحَمَلَ هؤلاء رواية مَن روى أن المتعة كانت له خاصّة، على أن طائفة منهم خَصُّوا بالتحلّل من الإحرام، مع سوق الهدي، دون من ساق الهدي من الصحابة، وأنكر ذلك عليهم آخرون، منهم شيخنا أبو العباس بن تيميّة، وقالوا: من تأمل الأحاديث المستفيضة الصحيحة، تبيّن له أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يحلّ لا هو، ولا أحد ممن ساق الهدي.
فصل في أعذار الذين وَهِمُوا في صفة حجته صلى الله عليه وسلم
-
أما من قال: إنه حجّ حجًّا مفردًا لم يعتمر فيه، فعذره ما في "الصحيحين" عن عائشة، أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فمنا من أهلّ بعمرة، ومنا من أهلّ بحج وعمرة، ومنا من أهلّ بحج، وأهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، وقالوا: هذا التقسيم والتنويع صريح في إهلاله بالحج وحده.
ولمسلم عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلّ بالحج مفردًا.
وفي "صحيح البخاريّ " عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبى بالحج وحده.
وفي "صحيح مسلم" عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلّ بالحج، وفي "سنن ابن ماجه" عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحجّ، وفي "صحيح مسلم" عنه: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ننوي إلا الحجّ، لسنا نعرف العمرة.
وفي "صحيح البخاريّ" عن عروة بن الزبير، قال: حجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرتني عائشة أن أول شيء بدأ به حين قدم مكة، أنه توضأ، ثم طاف بالبيت، ثم لم تكن عمرةٌ، ثم حج أبو بكر رضي الله عنه، فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم تكن عمرةٌ، ثم عمر رضي الله عنه مثل ذلك، ثم حج عثمان، فرأيته أول شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم تكن عمرةٌ، ثم معاوية، وعبد الله بن عمر، ثم حججت مع أبي الزبير بن العوام، فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم تكن عمرةٌ، ثم رأيت فعل ذلك ابن عمر، ثم لم ينقضها عمرة، وهذا ابن عمر عندهم، فلا يسألونه، ولا أحد ممن مضى ما كانوا يبدؤون بشيء حين يضعون أقدامهم أول من الطواف بالبيت، ثم لا يحلُّون، وقد رأيت أمي وخالتي، حين تقدمان، لا تبدآن بشيء أول من البيت، تطوفان به، ثم إنهما لا تحلان، وقد أخبرتني أمي أنها أهلّت هي، وأختها، والزبير، وفلان، وفلان، بعمرة، فلما مسحوا الركن حلُّوا.
وفي "سنن أبي داود": حدّثنا موسى بن إسماعيل، حدّثنا حمّاد بن سلمة، ووُهيب بن خالد، كلاهما عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة،
قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم موافين لهلال ذي الحجة، فلما كان بذي الحليفة قال: من شاء أن يُهِلّ بحج فليهلّ، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل بعمرة، ثم انفرد وهيب في حديثه بأن قال عنه صلى الله عليه وسلم:"فإني لولا أني أهديت لأهللت بعمرة"، وقال الآخر:"وأما أنا فأهلّ بالحج"، فصح بمجموع الروايتين أنه أهلّ بالحج مفردًا.
فأرباب هذا القول عذرهم ظاهر كما ترى، ولكن ما عذرهم في حكمه وخبره الذي حكم به على نفسه، وأخبر عنها بقوله:"سُقتُ الهدي، وقَرَنتُ"، وخبر من هو تحت بطن ناقته، وأقرب إليه حينئذ من غيره، فهو من أصدق الناس يسمعه يقول:"لبيك بحجة وعمرة"، وخبر من هو من أعلم الناس عنه صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين يخبر أنه أهلّ بهما جميعًا، ولبى بهما جميعًا، وخبر زوجته حفصة في تقريره لها على أنه معتمز بعمرة، لم يحلّ منها، فلم ينكر ذلك عليها، بل صدّقها وأجابها بأنه مع ذلك حاجّ، وهو صلى الله عليه وسلم لا يُقِرّ على باطل يسمعه أصلًا، بل ينكره؟
وما عذرهم عن خبره صلى الله عليه وسلم عن نفسه بالوحي الذي جاءه من ربه، يأمر فيه أن يُهِلّ بحجة في عمرة؟
وما عذرهم عن خبر من أخبر عنه من أصحابه أنه قَرَنَ؛ لأنه علم أنه لا يحج بعدها، وخبر من أخبر عنه صلى الله عليه وسلم أنه اعتمر مع حجته؛ وليس مع من قال: إنه أفرد الحجّ شيء من ذلك البتة، فلم يقل أحد منهم عنه: إني أفردت، ولا أتاني آتٍ من ربي، يأمرني بالإفراد، ولا قال أحد: ما بال الناس حلُّوا، ولم تحلّ من حجتك كما حلّوا هم بعمرة، ولا قال أحد: سمعته يقول: لبيك بعمرة مفردة البتة، ولا بحج مفرد، ولا قال أحد: إنه اعتمر أربع عُمَر الرابعة بعد حجته، وقد شهد عليه أربعة من الصحابة أنهم سمعوه يُخبر عن نفسه بأنه قارن، ولا سبيل إلى دفع ذلك، إلا بأن يقال: لم يسمعوه، ومعلوم قطعًا أن تطرُّق الوهم والغلط إلى من أخبر عما فهمه هو من فعله يظنه كذلك أولى من تطرّق التكذيب إلى من قال: سمعته يقول كذا وكذا، وإنه لم يسمعه، فإن هذا لا يتطرّق إليه إلا التكذيب، بخلاف خبر من أخبر عما ظنه من فعله، وكان واهمًا، فإنه لا يُنْسَب إلى الكذب، ولقد نزّه الله عليًّا وأنسًا والبراء وحفصة عن
أن يقولوا: سمعناه يقول كذا، ولم يسمعوه، ونزّهه ربه تبارك وتعالى أن يرسل إليه أن افعَلْ كذا وكذا، ولم يفعله، هذا من أمحل المحال، وأبطل الباطل، فكيف والذين ذكروا الإفراد عنه لم يخالفوا هؤلاء في مقصودهم، ولا ناقضوهم، وإنما أرادوا إفراد الأعمال، واقتصاره على عمل المفرد، فإنه ليس في عمله زيادة على عمل المفرد، ومن روى عنهم ما يوهم خلاف هذا، فإنه عَئر بحسب ما فهمه، كما سمع بكرُ بن عبد الله بنَ عمر يقول: أفرد الحجّ، فقال: لبى بالحج وحده، فحمله على المعنى، وقال سالم ابنه عنه ونافع مولاه: إنه تمتع، فبدأ فأهلّ بالعمرة، ثم أهلّ بالحج، فهذا سالم يخبر بخلاف ما أخبر به بكر، ولا يصح تأويل هذا عنه بأنه فسره بقوله: وبدأ فأهلّ بالعمرة، ثم أهلّ بالحج.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن حمل رواية بكر على أنه أراد لبّى بالحج بعد فراغه من العمرة حين توجهه إلى منى أولى من تخطئته، ولا يحصل مخالفة لرواية سالم ونافع، فتأمّل، والله تعالى أعلم.
قال: وكذا الذين رووا الإفراد عن عائشة رضي الله عنها فهما عروة والقاسم، وروى القران عنها عروة، ومجاهد، وأبو الأسود يروي عن عروة الإفراد والزهريّ يروي عنه القران، فإن قدّرنا تساقط الروايتين، سلمت رواية مجاهد، وإن حُملت رواية الإفراد على أنه أفرد أعمال الحج تصادقت الروايات، وصدّق بعضها بعضًا، ولا ريب أن قول عائشة وابن عمر: أفرد الحج مُحْتَمِلٌ لثلاثة معان:
[أحدها]: الإهلال به مفردًا.
[الثاني]: إفراد أعماله.
[الثالث]: أنه حج حجة واحدة لم يحج معها غيرها، بخلاف العمرة، فإنها كانت أربع مرات.
وأما قولهما: تمتع بالعمرة إلى الحج، وبدأ فأهلّ بالعمرة، ثم أهلّ بالحجّ، فحكيا فعله، فهذا صريح لا يحتمل غير معنى واحد، فلا يجوز ردّه بالمجمل، وليس في رواية الأسود بن يزيد وعمرة عن عائشة أنه أهلّ بالحج ما يناقض رواية مجاهد وعروة عنها، أنه قرن، فإن القارن حاجّ مهلّ بالحج قطعًا،
وعمرته جزء من حجته، فمن أخبر عنها أنه أهل بالحجِّ فهو غير صادق، فإن ضمت رواية مجاهد إلى رواية عمرة والأسود، ثم ضمتا إلى رواية عروة تبيّن من مجموع الروايات أنه كان قارنًا، وصدّق بعضها بعضًا، حتى لو لم يحتمل قول عائشة وابن عمر إلا معنى الإهلال به مفردًا لوجب قطعًا أن يكون سبيله سبيل قول ابن عمر اعتمر في رجب، وقول عائشة أو عروة إنه صلى الله عليه وسلم اعتمر في شوال، إلا أن تلك الأحاديث الصحيحة الصريحة لا سبيل أصلًا إلى تكذيب رواتها، ولا تأويلها، وحملها على غير ما دلت عليه، ولا سبيل إلى تقديم هذه الرواية المجملة التي قد اضطرَبت على رواتها، واختُلِف عنهم فيها، وعارضهم من هو أوثق منهم، أو مثلهم عليها.
وأما قول جابر رضي الله عنه: إنه أفرد الحجّ، فالصريح من حديثه ليس فيه شيء من هذا، وإنما فيه إخبار عنهم أنفسِهِم أنهم لا ينوون إلا الحج، فأين في هذا ما يدلّ على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفردًا؟
قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم قريبًا أن هذا لا ينافي رواية القران، فإنه إخباره بأنه صلى الله عليه وسلم لبّى بالحج مفردًا بعد انتهاء العمرة حينما توجّه يوم التروية إلى منى، فهذا أقرب المحمل وأظهره، فتأمّله، والله تعالى أعلم.
وأما حديثه الآخر الذي رواه ابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحجّ، فله ثلاث طرق: أجودها: طريق الدراورديّ، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، وهذا يقينًا مختصر من حديثه الطويل في حجة الوداع، ومرويّ بالمعنى، والناس خالفوا الدراورديّ في ذلك، وقالوا: أهلّ بالحجّ، وأهلّ بالتوحيد.
والطريق الثاني: فيها مُطَرِّف بن مصعب، عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن جعفر، ومطرّف قال ابن حزم: هو مجهول، قال ابن القيّم: ليس هو بمجهول، ولكنه ابن أخت مالك، روى عنه البخاريّ، وبشر بن موسى، وجماعة، قال أبو حاتم: صدوقٌ مضطرب الحديث، هو أحب إليَّ من إسماعيل بن أبي أويس، وقال ابن عديّ: يأتي بمناكير، وكأن أبا محمد بن حزم رأى في النسخة مطرف بن مصعب فجَهَّله، وإنما هو مطرّف أبو مصعب، وهو مطرف بن عبد الله بن مطرف بن سليمان بن يسار.
وممن غلط في هذا أيضًا محمد بن عثمان الذهبيّ في كتابه "الضعفاء"،
فقال: مطرف بن مصعب المدنيّ، عن ابن ابي ذئب منكر الحديث.
قال ابن القيّم: والراوي عن ابن أبي ذئب، والدراورديّ، ومالك هو مطرف أبو مصعب المدنيّ، وليس بمنكر الحديث، وإنما غَرّه قول ابن عديّ: يأتي بمناكير، ثم ساق له منها ابن عديّ جملة، لكن هي من رواية أحمد بن داود بن صالح عنه، كذّبه الدارقطنيّ، والبلاء فيها منه.
والطريق الثالث لحديث جابر: فيها محمد بن عبد الوهاب، ينظر فيه من هو؟ وما حاله؟ عن محمد بن مسلم، إن كان الطائفيّ فهو ثقةٌ، عند ابن معين، ضعيف عند الإمام أحمد، وقال ابن حزم: ساقط البتة، ولم أر هذه العبارة فيه لغيره، وقد استَشْهَد به مسلم، قال ابن حزم: وإن كان غيره فلا أدري من هو؟ قال ابن القيّم: ليس بغيره، بل هو الطائفيّ يقينًا، وبكل حال فلو صحّ هذا عن جابر، لكان حكمه حكم المرويّ عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما، وسائر الرواة الثقات إنما قالوا: أهلّ بالحجّ، فلعلّ هؤلاء حملوه على المعنى، وقالوا: أفرد الحجّ، ومعلوم أن العمرة إذا دخلت في الحج، فمن قال: أهلّ بالحجّ لا يناقض من قال: أهلّ بهما، بل هذا فصّل، وذاك أجمل، ومن قال: أفرد الحج، يَحْتَمِل ما ذكرنا من الوجوه الثلاثة، ولكن هل قال أحد قط عنه: إنه سمعه يقول: لبيك بحجة مفردة؟ هذا ما لا سبيل إليه، حتى لو وجد ذلك لم يُقَدَّم على تلك الأساطين التي ذكرناها، والتي لا سبيل إلى دفعها البتة، وكان تغليط هذا، أو حمله على أول الإحرام
(1)
، وأنه صار قارنًا في أثنائه متعينًا، فكيف ولم يثبت ذلك، وقد قدمنا عن سفيان الثوريّ، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن في حجة الوداع، رواه زكريا الساجيّ، عن عبد الله بن أبي زياد القطوانيّ، عن زيد بن الحباب، عن سفيان، ولا تناقض بين هذا وبين قوله: أهلّ بالحجّ، وأفرد بالحجّ، ولبى بالحجّ، كما تقدم.
(1)
هذا عجيب من ابن القيّم رحمه الله، فإنه ممن يرى جزما أنه صلى الله عليه وسلم من أول ما أهلّ أهلّ قارنًا، ولم يُهلّ بالحج، مفردًا، وفنّد قول من قال ذلك، وهو في ذلك مصيب، وإن رأى الحافظ في "الفتح" ترجيح هذا القول، لكنه غير مقبول، ثم إن ابن القيّم هنا يؤول هذه الرواية على هذا الوجه الذي أبطله، هذا غريب، فتأمل.
فصل
قال رحمه الله: فحصل الترجيح لرواية مَن رَوَى القران لوجوه عشرة:
[أحدها]: أنهم أكثر، كما تقدم.
[الثاني]: أن طرق الإخبار بذلك تنوعت، كما بيناه.
[الثالث]: أن فيهم من أخبر عن سماعه ولفظه صريحًا، وفيهم من أخبر عن إخباره عن نفسه بأنه فعل ذلك، وفيهم من أخبر عن أمر ربه له بذلك، ولم يجئ شيء من ذلك في الإفراد.
[الرابع]: تصديق روايات مَن روى انه اعتمر أربع عُمَر لها.
[الخامس]: أنها صريحة لا تَحْتَمِل التأويل، بخلاف روايات الإفراد.
[السادس]: أنها متضمنة زيادةً سكت عنها أهل الإفراد، أو نفوها، والذاكر الزائد مقدَّم على الساكت، والمثبت مقذم على النافي.
[السابع]: أن رواة الإفراد أربعة: عائشة، وابن عمر، وجابر، وابن عباس، والأربعةُ رووا القران، فإن صرنا إلى تساقط رواياتهم سلمت رواية من عداهم للقران عن معارض، وإن صرنا إلى الترجيح وجب الأخذ برواية من لم تضطرب الرواية عنه، ولا اختَلَفت؛ كالبراء، وأنس، وعمر بن الخطاب، وعمران بن حصين، وحفصة، ومن معهم، ممن تقدم.
[الثامن]: أنه النسك الذي أُمر به من ربه، فلم يكن ليعدل عنه.
[التاسع]: أنه النسك الذي أَمَر به كل من ساق الهدي، فلم يكن ليأمرهم به إذا ساقوا الهدي، ثم يسوق هو الهدي ويخالفه.
[العاشر]: أنه النسك الذي أَمَر به آله، وأهل بيته، واختاره لهم، ولم يكن ليختار لهم إلا ما اختار لنفسه.
ثمت ترجيح [حادي عشر]: وهو قوله: "دَخَلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة"، وهذا يقتضي أنها قد صارت جزءًا منه، أو كالجزء الداخل فيه، بحيث لا يُفصَل بينها وبينه، وإنما تكون مع الحج كما يكون الداخل في الشيء معه.
وترجيح [ثاني عشر]: وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه للصُّبَيّ بن معبد، وقد أهلّ بحج وعمرة، فأنكر عليه زيد بن صُوحان، أو سلمان بن ربيعة، فقال
له عمر: هُدِيت لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم
(1)
، وهذا يوافق رواية عمر عنه صلى الله عليه وسلم أن الوحي جاءه من الله بالإهلال بهما جميعًا، فدل على أن القران سنته التي فعلها، وامتثل أمر الله له بها.
وترجيح [ثالث عشر]: أن القارن تقع أعماله عن كل من النسكين، فيقع إحرامه، وطوافه، وسعيه عنهما معًا، وذلك أكمل من وقوعه عن أحدهما، وعمل كلّ فعل على حدة.
وترجيح [رابع عشر]: وهو أن النسك الذي اشتمل على سوق الهدي أفضل بلا ريب من نسك خلا عن الهدي، فإذا قَرَن كان هديه عن كل واحد من النسكين، فلم يخل نسك منهما عن هدي، ولهذا - والله أعلم - أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج والعمرة معًا، وأشار إلى ذلك في المتفق عليه من حديث البراء بقوله:"إني سُقْت الهدي، وقَرَنتُ".
وترجيح [خامس عشر]: وهو أنه قد ثبت أن التمتع أفضل من الإفراد؛ لوجوه كثيرة:
(منها): أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بفسخ الحج إليه، ومحال أن ينقلهم من الفاضل إلى المفضول الذي هو دونه.
(ومنها): أنه تأسف على كونه لم يفعله بقوله: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة".
(ومنها): أنه أمر به كل من لم يسق الهدي.
(ومنها): أن الحج الذي استقرّ عليه فعله، وفعل أصحابه القران لمن ساق الهدي، والتمتع لمن لم يسق الهدي، ولوجوه كثيرة غير هذه، والمتمتع إذا ساق الهدي فهو أفضل من متمتع اشتراه من مكة، بل في أحد القولين لا هدي إلا ما جُمِع فيه بين الحل والحرم.
فإذا ثبت هذا فالقارن السائق أفضل من متمتع لم يسق، ومن متمتع ساق الهدي؛ لأنه قد ساق من حين أحرم، والمتمتع إنما يسوق الهدي من أدنى الحلّ، فكيف يُجعل مُفرِد لم يسق هديًا أفضل من متمتع ساقه من أدنى الحلّ؟
(1)
حديث صحيح رواه أحمد، والنسائيّ، وابن ماجه.
فكيف إذا جُعِل أفضل من قارن ساقه من الميقات؟ وهذا - بحمد الله - واضح.
فصل
وأما قول من قال: إنه حجّ متمتعًا تَمَتُّعًا حَلّ فيه من إحرامه، ثم أحرم يوم التروية بالحج، مع سوق الهدي، فعذره ما تقدم من حديث معاوية رضي الله عنه أنه قصّر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص في العشر، وفي لفظ: وذلك في حجته، وهذا مما أنكره الناس على معاوية، وغلَّطوه فيه، وأصابه فيه ما أصاب ابن عمر في قوله: إنه اعتمر في رجب، فإن سائر الأحاديث الصحيحة المستفيضة من الوجوه المتعددة كلَّها تدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم لم يحلّ من إحرامه إلا يوم النحر، ولذلك أخبر عن نفسه بقوله:"لولا أن معي الهدي لأحللت"، وقوله:"إني سقت الهدي، وقَرَنت، فلا أحل حتى أنحر"، وهذا خبر عن نفسه، فلا يدخله الوهم ولا الغلط، بخلاف خبر غيره عنه، لا سيما خبرًا يخالف ما أخبر به عن نفسه، وأخبر عنه به الجم الغفير، أنه لم يأخذ من شعره شيئًا، لا بتقصير، ولا حلق، وأنه بقي على إحرامه حتى حَلَقَ يوم النحر، ولعل معاوية قصّر عن رأسه في عمرة الجعرانة، فإنه كان حينئذ قد أسلم، ثم نَسِيَ، فظن أن ذلك كان في العشر، كما نسي ابن عمر أن عُمَرَه كانت كلها في ذي القعدة، وقال: كانت إحداهنّ في رجب، وقد كان معه فيها، والوهم جائز على من سوى الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا قام الدليل عليه صار واجبًا.
وقد قيل: إن معاوية لعله قصّر عن رأسه بقية شعر لم يكن استوفاه الحلاق يوم النحر، فأخذه معاوية على المروة، ذكره أبو محمد بن حزم، وهذا أيضًا من وهمه، فإن الحلاق لا يُبْقِي غَلَطًا شعرًا يقصر منه، ثم يبقي منه بعد التقصير بقيةً يوم النحر، وقد قسم شعر رأسه بين الصحابة، فأصاب أبا طلحة أحد الشقين، وبقية الصحابة اقتسموا الشق الآخر، الشعرة، والشعرتين، والشعرات، وأيضًا فإنه لم يسع بين الصفا والمروة إلا سعيًا واحدًا، وهو سعيه الأول، لم يسع عقب طواف الإفاضة، ولا اعتمر بعد الحج قطعًا، فهذا وهم محضٌ.
وقيل: هذا الإسناد إلى معاوية وقع فيه غلط، وخطأ أخطأ فيه الحسن بن
عليّ، فجعله عن معمر، عن ابن طاوس، وإنما هو عن هشام بن حُجَير، عن ابن طاووس، وهشام ضعيف.
قلت
(1)
: والحديث الذي في البخاريّ عن معاوية: قصرت عن رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص، ولم يزد على هذا، والذي عند مسلم: قصرت عن رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص على المروة، وليس في "الصحيحين" غير ذلك.
وأما رواية من روى: في أيام العشر، فليست في "الصحيح"، وهي معلولة، أو وَهَمٌ من معاوية، قال قيس بن سعد، راويها عن عطاء، عن ابن عباس، عنه: والناس ينكرون هذا على معاوية، قال ابن القيّم: وصَدَقَ قيس، فنحن نحلف بالله، إن هذا ما كان في العشر قطّ.
ويشبه هذا وَهَم معاوية في الحديث الذي رواه أبو داود، عن قتادة، عن أبي شيخ الْهُنَائيّ أن معاوية قال لأصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم: هل تعلمون أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن كذا، وعن ركوب جلود النُّمُور؟ قالوا: نعم، قال: فتعلمون أنه نهى أن يُقْرَن بين الحج والعمرة؟ قالوا: أما هذه فلا، فقال: أما إنها معها، ولكنكم نسيتم، قال ابن القيّم: ونحن نشهد بالله، إن هذا وَهْم من معاوية رضي الله عنه، أو كَذِبٌ عليه، فلم ينه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قطّ، وأبو شيخ شيخ لا يُحتج به فضلًا عن أن يقدَّم على الثقات الحفاظ الأعلام، وإن روى عنه قتادة، ويحيى بن أبي كثير، واسمه خَيْوَان بن خَلْدة - بالخاء المعجمة - وهو مجهول
(2)
.
فصل
وأما من قال: حج متمتعًا تَمَتُّعًا لم يحلّ منه؛ لأجل سوق الهدي، كما قال صاحب "المغني"، وطائفة، فعذرهم قول عائشة وابن عمر رضي الله عنهما: تمتع
(1)
القائل هو ابن القيّم رحمه الله.
(2)
لكن ذكر في "تهذيب التهذيب" أن ابن سعد وثقه، وكذا العجليّ، وابن حبّان، وذكر أنه روى عن ابن عمر ومعاوية، وروى عنه مولاه عبيد، وبيهس، وقتادة، ويحيى بن أبي كثير، ومطر الوراق، فالأولى القول بوهم معاوية رحمه الله، كما وَهِمَ ابن عمر رضي الله عنهما في عمرة رجب بلا فرق، فتأمل.
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول حفصة رضي الله عنه: ما شأن الناس حلُّوا، ولم تحل من عمرتك؟ وقول سعد في المتعة: قد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصنعناها معه، وقول ابن عمر لمن سأله عن متعة الحج: هي حلال، فقال له السائل: إن أباك قد نهى عنها، فقال: أرأيت إن كان أبي نهى عنها، وصنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمْر أبي تتبع، أم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال الرجل: بل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لقد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال هؤلاء: ولولا الهدي لحلّ كما يحل المتمتع الذي لا هدي معه، ولهذا قال:"لولا أن معي الهدي لأحللت"، فأخبر أن المانع له من الحلّ سوق الهدي، والقارن إنما يمنعه من الحل القران، لا الهدي، وأرباب هذا القول قد يُسَمُّون هذا المتمتع قارنًا؛ لكونه أحرم بالحج قبل التحلل من العمرة، ولكن القران المعروف أن يحرم بهما جميعًا، أو يحرم بالعمرة، ثم يدخل عليها الحج قبل الطواف.
والفرق بين القارن والمتمتع السائق من وجهين:
أحدهما: من الإحرام، فإن القارن هو الذي يُحرم بالحج قبل الطواف، إما في ابتداء الإحرام، أو في أثنائه.
والثاني: أن القارن ليس عليه إلا سعي واحدٌ، فإن أتى به أوّلًا، وإلا سعى عقيب طواف الإفاضة، والمتمتع عليه سعي ثانٍ عند الجمهور، وعن أحمد رواية أخرى أنه يكفيه سعي واحد كالقارن، والنبيّ صلى الله عليه وسلم لم يسع سعيًا ثانيًا عقيب طواف الإفاضة، فكيف يكون متمتعًا على هذا القول؟
[فإن قيل]: فعلى الرواية الأخرى يكون متمتعًا، ولا يتوجه الإلزام، ولها وجه قويّ من الحديث الصحيح، وهو ما رواه مسلم في "صحيحه" عن جابر رضي الله عنه قال: لم يطف النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافًا واحدًا، طوافه الأول، هذا مع أن أكثرهم كانوا متمتعين.
وقد روى سفيان الثوريّ، عن سلمة بن كُهيل، قال: حلف طاووس: ما طاف أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجه وعمرته إلا طوافًا واحدًا.
[قيل]: الذين نظروا أنه كان متمتعًا تمتعًا خاصًّا لا يقولون بهذا القول، بل يوجبون عليه سعيين، والمعلوم من سنته صلى الله عليه وسلم أنه لم يسع إلا سعيًا واحدًا،
كما ثبت في "الصحيح" عن ابن عمر أنه قَرَن، وقَدِم مكة فطاف بالبيت، وبالصفا والمروة، ولم يزد على ذلك، ولم يحلق، ولا قصّر، ولا حلّ من شيء حرم منه، حتى يوم النحر، فنحر، وحلق رأسه، ورأى أنه قد قضى طواف الحجّ والعمرة بطوافه الأول، وقال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومراده بطوافه الأول الذي قضى به حجه وعمرته الطواف بين الصفا والمروة، بلا ريب.
وذكر الدارقطنيّ عن عطاء، ونافع، عن ابن عمر، وجابر رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما طاف لحجه وعمرته طوافًا واحدًا، وسعى سعيًا واحدًا، ثم قدم مكة، فلم يسع بينها بعد الصدر، فهذا يدلّ على أحد أمرين، ولا بد: إما أن يكون قارنًا، وهو الذي لا يمكن من أوجب على المتمتع سعيين أن يقول غيره، وإما أن المتمتع يكفيه سعي واحدٌ، ولكن الأحاديث التي تقدمت في بيان أنه كان قارنًا صريحة في ذلك، فلا يُعْدَل عنها.
[فإن قيل]: فقد روى شعبة، عن حميد بن هلال، عن مطرف، عن عمران بن حصين: أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طوافين، وسعى سعيين، رواه الدارقطنيّ عن ابن صاعد، حدّثنا محمد بن يحيى الأزديّ، حدّثنا عبد الله بن داود، عن شعبة.
[قيل]: هذا خبر معلول، وهو غلطٌ، قال الدارقطنيّ: يقال: إن محمد بن يحيى حدّث بهذا من حفظه، فوَهِم في متنه، والصواب بهذا الإسناد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن بين الحج والعمرة، والله أعلم، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - ما يدل على أن هذا الحديث غلط.
قال ابن القيّم: وأظن أن الشيخ أبا محمد بن قُدامة إنما ذهب إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متمتعًا؛ لأن الإمام أحمد قد نصّ على أن التمتع أفضل من القران، ورأى أن الله سبحانه لم يكن ليختار لرسوله صلى الله عليه وسلم إلا الأفضل، ورأى الأحاديث قد جاءت بأنه تمتع، ورأى أنها صريحة في أنه لم يحلّ، فأخذ من هذه المقدمات الأربع أنه تمتع تمتعًا خاصًّا لم يحلّ منه، ولكن أحمد لم يُرَجِّح التمتع؛ لكون النبيّ صلى الله عليه وسلم حج متمتعًا، كيف وهو القائل: لا أشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قارنًا، وإنما اختار التمتع؛ لكونه آخر الأمرين من
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أمر به الصحابة أن يفسخوا حجهم إليه، وتأسف على فوته.
ولكن نَقَل عنه المروزيّ أنه إذا ساق الهدي، فالقران أفضل، فمن أصحابه من جعل هذا رواية ثانية، ومنهم من جعل المسألة رواية واحدة، وأنه إن ساق الهدي فالقران أفضل، وإن لم يسق فالتمتع أفضل، وهذه طريقة شيخنا، وهي التي تليق بأصول أحمد، والنبيّ صلى الله عليه وسلم لم يتمن أنه كان جعلها مع سوقه الهدي، بل وَدَّ أنه كان جعلها عمرة، ولم يسق الهدي.
بقي أن يقال: فأي الأمرين أفضل: أن يسوق ويَقْرُن، أو يترك السوق ويتمتع، كما ودّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه فعله؟
قيل: وقد تعارض في هذه المسألة أمران:
أحدهما: أنه صلى الله عليه وسلم قرن، وساق الهدي، ولم يكن الله سبحانه ليختار له إلا أفضل الأمور، ولا سيما وقد جاءه الوحي به من ربه تعالى، وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم.
والثاني: قوله: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة"، فهذا يقتضي أنه أَبُو كان هذا الوقت الذي تكلم فيه هو وقتَ إحرامه لكان أحرم بعمرة، ولم يسق الهدي؛ لأن الذي استدبره هو الذي فعله، ومضى، فصار خلفه، والذي استقبله هو الذي لم يفعله بعدُ، بل هو أمامه، فبيّن أنه أَبُو كان مستقبلًا لِمَا استدبره، وهو الإحرام بالعمرة دون هدي، ومعلوم أنه لا يختار أنه لا ينتقل عن الأفضل إلى المفضول، بل إنما يختار الأفضل، وهذا يدلّ على أن آخر الأمرين منه ترجيح التمتع.
ولمن رجح القران مع السوق أن يقول: هو صلى الله عليه وسلم لم يقل هذا لأجل أن الذي فعله مفضول مرجوح، بل لأن الصحابة شقّ عليهم أن يحلوا من إحرامهم مع بقائه هو محرمًا، وكان يختار موافقتهم ليفعلوا ما أُمروا به مع انشراح، وقبول، ومحبة، وقد ينتقل عن الأفضل إلى المفضول؛ لما فيه من الموافقة، وتأليف القلوب، كما قال لعائشة رضي الله عنها:"لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، لنقضت الكعبة، وجعلت لها بابين"، فهذا تَرْكُ ما هو الأولى لأجل الموافقة والتأليف، فصار هذا هو الأولى في هذه الحال، فكذلك اختياره للمتعة بلا
هدي، وفي هذا جَمْعٌ بين ما فعله، وبين ما وَدَّه وتمناه، ويكون الله سبحانه قد جَمَع له بين الأمرين: أحدهما بفعله له، والثاني بتمنيه ووُدّه له، فأعطاه أجر ما فعله، وأجر ما نواه من الموافقة وتمناه.
وكيف يكون نسك يتخلله التحلل، ولم يسق فيه الهدي أفضل من نسك لم يتخلله تحلل، وقد ساق فيه مائة بدنة؟ وكيف يكون نسك أفضل في حقه، من نسك اختاره الله له، وأتاه به الوحي من ربه؟
[فإن قيل]: التمتع، وإن تخلله تحلل، لكن قد تكرر فيه الإحرام، وإنشاؤه عبادة محبوبة للربّ، والقران لا يتكرر فيه الإحرام؟
[قيل]: في تعظيم شعائر الله بسوق الهدي، والتقرب إليه بذلك من الفضل ما ليس في مجرد تكرر الإحرام، ثم إن استدامته قائمةٌ مقام تكرره، وسوقُ الهدي لا مقابل له يقوم مقامه.
[فإن قيل]: فأيهما أفضل: إفراد يأتي عقيبه بالعمرة، أو تمتع يحل منه ثم يحرم بالحج عقيبه؟
[قيل]: معاذ الله أن نظن أن نسكًا قط أفضل من النسك الذي اختاره الله لأفضل الخلق، وسادات الأمة، وأن نقول عن نسك لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من الصحابة الذين حجّوا معه، بل ولا غيرهم من أصحابه، إنه أفضل مما فعلوه بأمره، فكيف يكون حج على وجه الأرض أفضل من الحج الذي حجه النبيّ - صلوات الله عليه - وأمر به أفضل الخلق، واختاره لهم، وأمرهم بفسخ ما عداه عن الأنساك إليه، ووَدّ أنه كان فعله؟ لا حج قط أكمل من هذا وهذا، وإن صحّ عنه الأمر لمن ساق الهدي بالقران، ولمن لم يسق بالتمتع، ففي جواز خلافه نظر، ولا يوحشك قلة القائلين بوجوب ذلك
(1)
، فإن فيهم البحر الذي لا يَنْزِف، عبد الله بن عباس، وجماعة من أهل الظاهر، والسنة هي الحكم بين الناس، والله المستعان.
(1)
هذه المسألة خالف فيها ابن القيّم شيخه ابن تيمية، وسيأتي قريبًا أن الأولى القول باستحباب الفسخ، لا بالوجوب، فإن الوجوب خاصّ بالصحابة رضي الله عنهم، كما اختاره ابن تيميّة رحمه الله، فتنبّه.
فصل
وأما من قال: إنه حج قارنًا قرانًا طاف له طوافين، وسعى له سعيين، كما قاله كثير من فقهاء الكوفة، فعذره ما رواه الدارقطنيّ من حديث مجاهد، عن ابن عمر، أنه جمع بين حج وعمرة معًا، وقال: سبيلهما واحدٌ، قال: وطاف لهما طوافين، وسعى لهما سعيين، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع، كما صنعت.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه جمع بينهما، وطاف لهما طوافين، وسعى لهما سعيين، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت.
وعن عليّ رضي الله عنه أيضًا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان قارنًا فطاف طوافين، وسعى سعيين.
وعن علقمة، عن عبد الله بن مسعود، قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجته وعمرته طوافين، وسعى سعيين، وأبو بكر، وعمر، وعليّ، وابن مسعود، وعن عمران بن حصين: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم طاف طوافين، وسعى سعيين.
وما أحسن هذا العذر لو كانت هذه الأحاديث صحيحة، بل لا يصح منها حرف واحد.
أما حديث ابن عمر ففيه الحسن بن عُمارة، وقال الدارقطنيّ: لم يروه عن الحكم غير الحسن بن عُمارة، وهو متروك الحديث.
وأما حديث عليّ رضي الله عنه الأول فيرويه حفص بن أبي داود، وقال أحمد ومسلم: حفص متروك الحديث، وقال ابن خِرَاش: هو كذاب يضع الحديث، وفيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ضعيف.
وأما حديثه الثاني فيرويه عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن عليّ، حدّثني أبي، عن أبيه، عن جدّه، قال الدارقطنيّ: عيسى بن عبد الله، يقال له: مبارك، وهو متروك الحديث.
وأما حديث علقمة، عن عبد الله، فيرويه أبو بردة عمرو بن يزيد، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، قال الدارقطنيّ: وأبو بردة ضعيف، ومن دونه في الإسناد ضعفاء. انتهى، وفيه عبد العزيز بن أبان، قال يحيى: هو كذّاب خبيث، وقال الرازيّ، والنسائيّ: متروك الحديث.
وأما حديث عمران بن حصين، فهو مما غَلِط فيه محمد بن يحيى الأزديّ، وحدّث به من حفظه، فوهم فيه، وقد حدّث به على الصواب مرارًا، ويقال: إنه رجع عن ذكر الطواف والسعي.
وقد روى الإمام أحمد، والترمذيّ، وابن حبان، في "صحيحه" من حديث الدّراورديّ، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قرن بين حجته وعمرته، أجزأه لهما طواف واحد"، ولفظ الترمذيّ:"من أحرم بالحج والعمرة، أجزاه طواف وسعي واحد عنهما، حتى يحلّ منهما جميعًا"
(1)
.
وفي "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال: من كان معه هدي، فَلْيُهِلّ بالحج والعمرة، ثم لا يحلّ حتى يحلّ منهما جميعًا، فطاف الذين أهلّوا بالعمرة، ثم حلّوا، ثم طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منى، وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة، فإنما طافوا طوافًا واحدًا.
وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: "إن طوافك بالبيت، وبالصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك".
وروى عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف طوافًا واحدًا لحجه وعمرته
(2)
، وعبد الملك أحد الثقات المشهورين احتَجَّ به مسلم، وأصحاب "السنن"، وكان يقال له: الميزان، ولم يتكلم فيه بضعف ولا جرح، وإنما أنكر عليه حديث الشفعة، وتلك شكاة ظاهرٌ عنه عارها.
وقد روى الترمذيّ عن جابر رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَرَن بين الحج والعمرة، وطاف لهما طوافًا واحدًا، وهذا وإن كان فيه الحجاج بن أرطاة، فقد روى عنه سفيان، وشعبة، وابن نمير، وعبد الرزاق، وخلق، قال الثوريّ: وما بقي أحد
(1)
حديث صحيح أخرجه أحمد، والترمذيّ، وقال الترمذيّ: حديث حسن صحيح غريب.
(2)
رواه الدارقطنيّ، وقال في "التنقيح": إسناده صحيح.
أعرف بما يخرج من رأسه منه، وعِيبَ عليه التدليس، وقلّ من سلم منه، وقال أحمد: كان من الحفاظ، وقال ابن معين: ليس بالقويّ، وهو صدوق يدلِّس، وقال أبو حاتم: إذا قال: حدّثنا فهو صادقٌ، لا نرتاب في صدقه وحفظه.
وقد روى الدارقطنيّ من حديث ليث بن أبي سليم، قال: حدّثني عطاء، وطاووس، ومجاهد، عن جابر، وعن ابن عمر، وابن عباس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يطف هو وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافًا واحدًا لعمرتهم وحجهم، وليث بن أبي سليم احتَجَّ به أهل "السنن" الأربعة، واستشهد به مسلم، وقال ابن معين: لا بأس به، وقال الدارقطنيّ: كان صاحب سنة، وإنما أنكروا عليه الجمع بين عطاء وطاووس ومجاهد حسبُ، وقال عبد الوارث: كان من أوعية العلم، وقال أحمد: مضطرب الحديث، ولكن حدّث عنه الناس، وضعّفه النسائيّ، ويحيى في رواية عنه، ومثل هذا حديثه حسنٌ، وإن لم يبلغ رتبة الصحة.
وفي "الصحيحين" عن جابر، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة، ثم وجدها تبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقالت: قد حضتُّ، وقد حلّ الناس، ولم أحلّ، ولم أطف بالبيت، فقال:"اغتسلي، ثم أهلّي"، ففعلت، ثم وقفت المواقف، حتى إذا طهرت طافت بالكعبة، وبالصفا والمروة، ثم قال:"قد حلَلْتِ من حجك وعمرتك جميعًا".
وهذا يدل على ثلاثة أمور: أحدها: أنها كانت قارنة، والثاني: أن القارن يكفيه طواف واحد، وسعي واحد، والثالث: أنه لا يجب عليها قضاء تلك العمرة التي حاضت فيها، ثم أدخلت عليها الحجّ، وأنها لم تَرْفُض إحرام العمرة بحيضها، وإنما رفضت أعمالها، والاقتصار عليها، وعائشة لم تطف أوّلًا طواف القدوم، بل لم تطف إلا بعد التعريف، وسعت مع ذلك، فإذا كان طواف الإفاضة، والسعي الواحد بعدُ يكفي القارن، فلأن يكفيه طواف القدوم مع طواف الإفاضة، وسعيّ واحدٌ مع أحدهما بطريق الأولى، لكن عائشة تعذّر عليها الطواف الأول، فصارت قِصَّتها حجةً، فإن المرأة التي يتعذر عليها الطواف الأول، تفعل كما فعلت عائشة، تُدخل الحج على العمرة، وتصير قارنةً، ويكفيها لهما طواف الإفاضة والسعي عقيبه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومما يبيّن أنه صلى الله عليه وسلم يطف طوافين، ولا سعى سعيين، قول عائشة رضي الله عنها: وأما الذين جمعوا الحج والعمرة، فإنما طافوا طوافًا واحدًا، متفق عليه.
وقول جابر رضي الله عنه: لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافًا واحدًا، طوافه الأول، رواه مسلم.
وقوله لعائشة رضي الله عنها: "يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك"، رواه مسلم.
وقوله لها في رواية أبي داود: "طوافك بالبيت، وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك جميعًا".
وقوله لها في الحديث المتفق عليه - لما طافت بالكعبة، وبين الصفا والمروة -:"قد حللت من حجك وعمرتك جميعًا".
قال: والصحابة الذين نقلوا حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم نقلوا أنهم لما طافوا بالبيت، وبين الصفا والمروة أمرهم بالتحلُّل، إلا من ساق الهدي، فإنه لا يحل إلا يوم النحر، ولم ينقُل أحد منهم أن أحدًا منهم طاف وسعى، ثم طاف وسعى، ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوافر الهمم، والدواعي على نقله، فلما لم ينقله أحد من الصحابة عُلِم أنه لم يكن.
وعمدة من قال بالطوافين والسعيين، أثر يرويه الكوفيون عن عليّ، وآخر عن ابن مسعود رضي الله عنه.
وقد رَوَى جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عليّ رضي الله عنه أن القارن يكفيه طواف واحد، وسعي واحد، خلاف ما روى أهل الكوفة، وما رواه العراقيون منه ما هو منقطع، ومنه ما رجاله مجهولون، أو مجروحون، ولهذا طعن علماء النقل في ذلك، حتى قال ابن حزم: كلُّ ما روي في ذلك عن الصحابة لا يصحّ منه، ولا كلمة واحدة، وقد نُقل في ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ما هو موضوع بلا ريب، وقد حلف طاووس: ما طاف أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجته وعمرته إلا طوافًا واحدًا، وقد ثبت مثل ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وجابر، وغيرهم رضي الله عنهم، وهم أعلم الناس بحجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يخالفوها، بل هذه الآثار صريحة في أنهم لم يطوفوا بالصفا والمروة إلا مرة واحدة.
فصل
وأما الذين قالوا: إنه حج حجًّا مفردًا، اعتمر عقيبه من التنعيم، فلا يعلم لهم عذر البتة، إلا ما تقدم من أنهم سمعوا أنه أفرد الحج، وأن عادة المفردين أن يعتمروا من التنعيم، فتوهموا أنه فعل كذلك.
فصل
وأما الذين غَلِطوا في إهلاله، فمَن قال: إنه لبى بالعمرة وحدها، واستمر عليها، فعذره أنه سمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمتع، والمتمتع عنده من أهلّ بعمرة مفردة بشروطها، وقد قالت له حفصة رضي الله عنها:"ما شأن الناس حلّوا، ولم تحلّ من عمرتك؟ "، وكلّ هذا لا يدل على أنه قال: لبيك بعمرة مفردة، ولم ينقل هذا أحد عنه البتة، فهو وَهَمٌ محضٌ، والأحاديث الصحيحة المستفيضة في لفظه في إهلاله تبطل هذا.
فصل
وأما من قال: إنه لبى بالحج وحده، واستمر عليه فعذره، ما ذكرنا عمن قال: أفرد الحج، ولبى بالحج، وقد تقدم الكلام على ذلك، وأنه لم يقل أحد قط إنه قال: لبيك بحجة مفردة، وإن الذين نقلوا لفظه صرَّحوا بخلاف ذلك.
فصل
وأما من قال: إنه لبى بالحج وحده، ثم أدخل عليه العمرة، وظَنّ أنه بذلك تجتمع الأحاديث، فعذره أنه رأى أحاديث إفراده بالحج صحيحة، فحملها على ابتداء إحرامه، ثم أنه أتاه آتٍ من ربه تعالى، فقال: قل: عمرة في حجة، فأدخل العمرة حينئذ على الحج، فصار قارنًا، ولهذا قال للبراء بن عازب:"إني سقت الهدي، وقرنت"، فكان مفردًا في ابتداء إحرامه، قارنًا في أثنائه، وأيضًا فإن أحدًا لم يقل: إنه أهلّ بالعمرة، ولا لبى بالعمرة، ولا أفرد العمرة، ولا قال: خرجنا لا ننوي إلا العمرة، بل قالوا: أهلّ بالحجّ، ولبّى بالحج، وأفرد الحجّ، وخرجنا لا ننوي إلا الحج، وهذا يدل على أن الإحرام وقع أولًا بالحج، ثم جاءه الوحي من ربه تعالى بالقران، فلبّى بهما، فسمعه
أنس يلبي بهما، وصَدَقَ، وسمعته عائشة، وابن عمر، وجابر يلبي بالحج وحده أولًا، وصدقوا.
قالوا: وبهذا تتفق الأحاديث، ويزول عنها الاضطراب.
وأرباب هذه المقالة لا يجيزون إدخال العمرة على الحج، ويرونه لَغْوًا، ويقولون: إن ذلك خاصّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم دون غيره، قالوا: ومما يدل على ذلك أن ابن عمر قال: لبّى بالحج وحده، وأنس قال: أهلّ بهما جميعًا، وكلاهما صادق، فلا يمكن أن يكون إهلاله بالقران سابقًا على إهلاله بالحج؛ لأنه إذا أحرم قارنًا لم يمكن أن يحرم بعد ذلك بحج مفرد، وينقل الإحرام إلى الإفراد، فتعيّن أنه أحرم بالحج مفردًا، فسمعه ابن عمر، وعائشة، وجابر، فنقلوا ما سمعوه، ثم أدخل عليه العمرة، فأهلّ بها جميعًا لَمّا جاءه الوحي من ربه، فسمعه أنس يُهلّ بهما، فنقل ما سمعه، ثم أخبر عن نفسه بأنه قَرَنَ، وأخبر عنه من تقدم ذكره من الصحابة بالقران، فاتفقت أحاديثهم، وزال عنها الاضطراب والتناقض.
قالوا: ويدل عليه قول عائشة: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"من أراد منكم أن يهلّ بحج وعمرة فليهلّ"، قالت عائشة: فأهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج، وأهلّ به ناس معه
(1)
، فهذا يدل على أنه كان مفردًا في ابتداء إحرامه، فعُلم أن قرانه كان بعد ذلك.
قال ابن القيّم: ولا ريب أن في هذا القول من مخالفة الأحاديث المتقدمة، ودعوى التخصيص للنبيّ صلى الله عليه وسلم بإحرام لا يصح في حق الأمة ما يردُّه ويبطله، ومما يردّه أن أنسًا قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالبيداء، ثم ركب، وصعد جبل البيداء، وأهلّ بالحج والعمرة حين صلى الظهر.
وفي حديث عمر أن الذي جاءه من ربه، قال له:"صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة"، فكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالذي رَوَى عمر أنه أُمر به، وروى أنس أنه فعله، فصلى الظهر بذي الحليفة، ثم قال: لبيك حجًّا وعمرة.
(1)
رواه النسائيّ بسند صحيح، إلا أن فيه عنعنة الحسن البصريّ، وهو مدلّس، فتنبّه.
واختَلَف الناس في جواز إدخال العمرة على الحج، على قولين، وهما روايتان عن أحمد: أشهرهما أنه لا يصحّ، والذين قالوا بالصحة، كأبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله بنوه على أصولهم، وأن القارن يطوف طوافين، ويسعى سعيين، فإذا أدخل العمرة على الحج، فقد التزم زيادة عمل على الإحرام بالحج وحده، ومن قال: يكفيه طواف واحد، وسعي واحد، قال: لم يستفد بهذا الإدخال إلا سقوط أحد السفرين، ولم يلتزم به زيادة عمل، بل نقصانه، فلا يجوز، وهذا مذهب الجمهور.
فصل
وأما القائلون: إنه أحرم بعمرة، ثم أدخل عليها الحجّ، فعذرهم قول ابن عمر: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى، فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهلّ بالعمرة، ثم أهلّ بالحج، متّفقٌ عليه.
وهذا ظاهر في أنه أحرم أوّلًا بالعمرة، ثم أدخل عليها الحج، ويبيّن ذلك أيضًا أن ابن عمر لما حجّ زمن ابن الزبير أهلّ بعمرة، ثم قال: أشهدكم أني قد أوجبت حجًّا مع عمرتي، وأهدى هديًا اشتراه بقديد، ثم انطلق يُهِلّ جميعًا، حتى قدم مكة، فطاف بالبيت، وبالصفا والمروة، ولم يزد على ذلك، ولم ينحر، ولم يحلق، ولم يقصر، ولم يحلّ من شيء حرُم منه حتى كان يوم النحر، فنحر، وحلق، ورأى أن ذلك قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول، وقال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعند هؤلاء أنه كان متمتعًا في ابتداء إحرامه، قارنًا في أثنائه، وهؤلاء أعذر من الذين قبلهم، وإدخال الحج على العمرة جائز بلا نزاعٍ يُعْرَف، وقد أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها بإدخال الحج على العمرة، فصارت قارنةً.
ولكن سياق الأحاديث الصحيحة يردّ على أرباب هذه المقالة، فإن أنسًا أخبر أنه حين صلى الظهر أهلّ بهما جميعًا، وفي "الصحيح" عن عائشة، قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، موافين لهلال ذي الحجة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أراد منكم أن يهلّ بعمرة فليهلّ، فلولا أني أهديت،
لأهللت بعمرة"، قالت: وكان من القوم من أهلّ بعمرة، ومنهم من أهلّ بالحج، فقالت: فكنت أنا ممن أهلّ بعمرة، وذكرت
…
الحديث، رواه مسلم.
فهذا صريح في أنه لم يهلّ إذ ذاك بعمرة، فإذا جَمَعتَ بين قول عائشة هذا، وبين قولها في "الصحيح": تمتّع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وبين قولها: وأهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، والكل في "الصحيح"، علمتَ أنها إنما نَفَت عمرة مفردةً، وأنها لم تنف عمرة القران، وكانوا يسمونها تمتعًا، كما تقدم، وأن ذلك لا يناقض إهلاله بالحجّ، فإن عمرة القران في ضمنه، وجزء منه، ولا ينافي قولها: أفرد الحجّ؛ لأن أعمال العمرة لَمّا دخلت في أعمال الحجّ، وأُفردت أعماله، كان ذلك إفرادًا بالفعل.
وأما التلبية بالحج مفردًا، فهو إفراد بالقول.
وقد قيل: إن حديث ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمتع في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهلّ بالعمرة، ثم أهلّ بالحج، مروي بالمعنى الآخر من حديثه، وأن ابن عمر هو الذي فعل ذلك عام حجه في فتنة ابن الزبير، وأنه بدأ، فأهلّ بالعمرة، ثم قال: ما شأنهما إلا واحدٌ، أشهدكم أني قد أوجبت حجًّا مع عمرتي، فأهلّ بهما جميعًا، ثم قال في آخر الحديث: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أراد اقتصاره على طواف واحد، وسعي واحد، فحُمِل على المعنى، ورُوي به: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ، فأهلّ بالعمرة، ثم أهلّ بالحج، وإنما الذي فعل ذلك ابن عمر، وهذا ليس ببعيد، بل متعين، فإن عائشة قالت عنه:"لولا أن معي الهدي لأهللت بعمرة"، وأنس قال عنه: إنه حين صلى الظهر أوجب حجًّا وعمرة، وعمر رضي الله عنه أخبر عنه أن الوحي جاءه من ربه، فأمره بذلك.
[فإن قيل]: فما تصنعون بقول الزهري: إن عروة أخبره عن عائشة بمثل حديث سالم، عن ابن عمر؟
[قيل]: الذي أخبرت به عائشة من ذلك، هو أنه صلى الله عليه وسلم طاف طوافًا واحدًا عن حجه وعمرته، وهذا هو الموافق لرواية عروة عنها في "الصحيحين": "وطاف الذين أهلّوا بالعمرة بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم حلُّوا، ثم طافوا
طوافًا آخر، بعد أن رجعوا من منى لحجهم، وأما الذين جمعوا الحج والعمرة، فإنما طافوا طوافًا واحدًا"، فهذا مثل الذي رواه سالم، عن أبيه سواء، وكيف تقول عائشة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ، فأهلّ بالعمرة، ثم أهلّ بالحج؟ وقد قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن معي الهدي، لأهللت بعمرة"، وقالت: وأهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، فعُلِم أنه لم يهلّ في ابتداء إحرامه بعمرة مفردة، والله أعلم.
فصل
وأما الذين قالوا: إنه أحرم إحرامًا مطلقًا، لم يعيّن فيه نسكًا، ثم عيّنه بعد ذلك لَمّا جاءه القضاء، وهو بين الصفا والمروة، وهو أحد أقوال الشافعيّ رحمه الله، نَصّ عليه في "كتاب اختلاف الحديث"، قال: وثبت أنه خرج ينتظر القضاء، فنزل عليه القضاء، وهو ما بين الصفا والمروة، فأمر أصحابه أن من كان منهم أهلّ، ومن لم يكن معه هدي أن يجعله عمرة، ثم قال: ومن وصف انتظار النبيّ صلى الله عليه وسلم القضاء؛ إذ لم يحج من المدينة بعد نزول الفرض طلبًا للاختيار فيما وسّع الله من الحج والعمرة، فيشبه أن يكون أحفظ؛ لأنه قد أُتِي بالمتلاعنين، فانتظر القضاء، كذلك حفظ عنه في الحج ينتظر القضاء.
وعذر أرباب هذا القول ما ثبت في "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نذكر حجًّا ولا عمرة"، وفي لفظ: "يلبي لا يذكر حجًّا ولا عمرة"، وفي رواية عنها: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرى إلا الحج، حتى إذا دنونا من مكة، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هدي، إذا طاف بالبيت، وبين الصفا والمروة، أن يحل"، وقال طاووس: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة، لا يسمي حجًّا ولا عمرة، ينتظر القضاء، فنزل عليه القضاء، وهو بين الصفا والمروة، فأمر أصحابه، من كان منهم أهلّ بالحجّ، ومن لم يكن معه هدي، أن يجعلها عمرة
…
الحديث.
وقال جابر رضي الله عنه في حديثه الطويل، في سياق حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم: فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ثم ركب القصواء، حتى إذا استوت به ناقته على البيداء، نظرت إلى مدّ بصري، بين يديه من راكب وماش، وعن يمينه مثل
ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعلم تأويله، فما عَمِل به من شيء، عملنا به، فأهلّ بالتوحيد:"لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك، والملك، لا شريك لك"، وأهلّ الناس بهذا يهلّون به، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته، فأخبر جابر أنه لم يزد على هذه التلبية، ولم يذكر أنه أضاف إليها حجًّا ولا عمرةً، ولا قرانًا، وليس في شيء من هذه الأعذار ما يناقض أحاديث تعيينه النسك الذي أحرم به في الابتداء، وأنه القران.
فأما حديث طاووس، فهو مرسلٌ، لا يعارض به الأساطين المسندات، ولا يعرف اتصاله بوجه صحيح، ولا حسن، ولو صحّ، فانتظاره للقضاء، كان فيما بينه وبين الميقات، فجاءه القضاء، وهو بذلك الوادي، أتاه آت من ربه تعالى، فقال:"صَلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة"، فهذا القضاء الذي انتظره جاءه قبل الإحرام، فعيَّن له القران، وقول طاووس: نزل عليه القضاء، وهو بين الصفا والمروة، وهو قضاء آخر غير القضاء الذي نزل عليه بإحرامه، فإن ذلك كان بوادي العقيق، وأما القضاء الذي نزل عليه بين الصفا والمروة، فهو قضاء الفسخ الذي أَمَر به الصحابة إلى العمرة، فحينئذ أَمَر كلَّ من لم يكن معه هدي منهم، أن يفسخ حجه إلى عمرة، وقال:"لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لما سُقت الهدي، ولجعلتها عمرة"، وكان هذا أمر حتم بالوحي، فإنهم لما توقفوا فيه، قال:"انظروا الذي آمركم به، فافعلوه".
وأما قول عائشة رضي الله عنها: "خرجنا لا نذكر حجّا ولا عمرة"، فهذا إن كان محفوظًا عنها، وجب حمله على ما قبل الأحرام، وإلا ناقض سائر الروايات الصحيحة عنها أن منهم من أهلّ عند الميقات بحج، ومنهم من أهلّ بعمرة، وأنها ممن أهلّ بعمرة، وأما قولها:"نلبي لا نذكر حجًّا ولا عمرة"، فهذا في ابتداء الإحرام، ولم تقل: إنهم استمروا على ذلك إلى مكة، هذا باطل قطعًا، فإن الذين سمعوا إحرام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أهلّ به شهدوا على ذلك، وأخبروا به، ولا سبيل إلى ردّ رواياتهم، ولو صح عن عائشة ذلك، لكان غايته أنها لم تحفظ إهلالهم عند الميقات، فنفته، وحفظه غيرها من الصحابة، فأثبته، والرجال بذلك أعلم من النساء.
وأما قول جابر رضي الله عنه: وأهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد، فليس فيه إلا إخباره عن صفة تلبيته، وليس فيه نفي لتعيينه النسك الذي أحرم به بوجه من الوجوه، وبكل حال، ولو كانت هذه الأحاديث صريحة في نفي التعيين، لكانت أحاديث أهل الإثبات أولى بالأخذ منها؛ لكثرتها، وصحتها، واتصالها، وأنها مثبتة مبيِّنة متضمنة لزيادة خَفِيت على من نفى، وهذا - بحمد الله - واضح، وبالله التوفيق. انتهى ما حقّقه الإمام ابن القيّم رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي طوّل به ابن القيّم رحمه الله نفسه في تحقيقه مرجّحًا أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنًا من أول ما أنشأ الإحرام، وأنه لا زال قارنًا حتى حلّ يوم النحر من النسكين جميعًا، هو التحقيق الحقيق بالقبول؛ حيث أيّدته الأحاديث الصحيحة التي لا تقبل التأويل، ولا سيّما حديث عمر رضي الله عنه في قصّة إتيان الملك إليه صلى الله عليه وسلم، وأمْره له بالقران، وذلك بيقين قبل إنشاء الإحرام؛ لأن وادي العقيق قبل ذي الحليفة، فقد قيل: إنه مكان قريب من البقيع، بينه وبين المدينة نحو أربعة أميال
(2)
، بينما المسافة التي بين المدينة وبين ذي الحليفة نحو ستة أميال
(3)
.
فظهر بهذا وتبيّن أن أمْره صلى الله عليه وسلم بالقران كان قبل إنشاء الإحرام، وأنه صلى الله عليه وسلم امتثل ما أَمَره به ربه، ولا يجوز أن يَظُنّ أحد أنه صلى الله عليه وسلم خالف ما أُمر به من القران، ثم أهلّ بالحج المفرد، أو العمرة المفردة، ثم بعد ذلك أدخل أحد النسكين على الآخر، فهذا مما لا يُتصوّره عاقل.
والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم حجّ قارنًا، وما عدا ذلك من الأحاديث الصحيحة التي تدلّ على خلاف هذا، فكلّها قابلة للتأويل بما يوافق هذا، وقد تقدّم تحقيق هذا
(1)
راجع: "زاد المعاد في هدي خير العباد" 2/ 107 - 158.
(2)
قال في "الفتح" 4/ 407: وادي العقيق هو بقرب البقيع، بينه وبين المدينة أربعة أميال، روى الزبير بن بكار في أخبار المدينة، أن تُبّعًا لما رجع من المدينة انحدر في مكان، فقال: هذا عقيق الأرض، فسمي العقيق. انتهى.
(3)
قال في "الفتح" 4/ 395: بين ذي الحليفة وبين المدينة: ستة أميال، قاله النوويّ، ووهم من قال: بينهما ميل واحد، وهو ابن الصباغ. انتهى.
وإيضاحه فيما سبق، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في طواف القارن، وسعيه: ذهب الجمهور، ومنهم: مالك، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق إلى أن القارن يقتصر على طواف واحد، وسعي واحد، وهو محكيّ عن ابن عمر، وابن عبّاس رضي الله عنهما، وجابر، وعائشة، وعطاء، وطاوس، والحسن، والزهريّ، ومجاهد.
وذهب أبو حنيفة، وأصحابه إلى أنه يجب عليه طوافان، وسعيان، وهو رواية عن أحمد، وبه قال سفيان الثوريّ، وحكي عن أبي بكر، وعمر، وعليّ، وابن مسعود، والحسن بن عليّ. قال الحافظ وليّ الدين: ولم يصحّ عنهم.
وبه قال إبراهيم النخعيّ، والأسود بن يزيد، وأبو جعفر الباقر، والشعبيّ، والحكم، وحماد بن أبي سليمان، والأوزاعيّ، وابن أبي ليلى، والحسن بن صالح بن حيّ.
واحتجّ هؤلاء بما رواه الدارقطنيّ، والبيهقيّ، من طريق الحسن بن عُمارة، عن الحكم، عن مجاهد، قال:"خرج ابن عمر، يُهلّ بعمرة، وهو يتخوّف أيام نَجْدة أن يُحبس عن البيت، فلما سار أيامًا، قال: ما الحصر في العمرة، والحصر في الحجّ إلا واحد، فضمّ إليها حجة، فلما قدم طاف طوافين، طوافًا لعمرته، وطوافًا لحجته، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل".
لكن هذه رواية ضعيفة جدًّا، ومع ذلك فهي شاذّة، قال الدارقطنيّ: لم يروه عن الحكم غير الحسن بن عُمارة، وهو متروك، وقال البيهقيّ: الحسن بن عمارة أجمع أهل النقل على ترك حديثه؛ لكثرة المناكير في رواياته، وكيف يصحّ هذا عن ابن عمر، وقد ثبت أنه طاف لهما طوافًا واحدًا في هذه السنة، كما سبق، قاله الحافظ وليّ الدين رحمه الله.
وقال في "الفتح" في شرح حديث عائشة رضي الله عنها في حجة الوداع، وفيه:"وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة، فإنما طافوا طوافًا واحدًا"، وحديثِ ابن عمر رضي الله عنهما في حجه عام نزل الحجاج بابن الزبير، أورده البخاريّ من وجهين في
كلّ منهما أنه جمع بين الحج والعمرة، أهلّ بالعمرة أولًا، ثم أدخل عليها الحجّ، وطاف لهما طوافًا واحدًا، كما في الطريقة الأولى، وفي الطريقة الثانية:"ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول".
ما نصّه: وفي هذه الرواية رفع احتمالٍ قد يؤخذ من الرواية الأولى أن المراد بقوله: "طوافًا واحدًا" أي: طاف لكلّ منهما طوافًا يشبه الطواف الذي للآخر، والحديثان ظاهران في أن القارن لا يجب عليه إلا طواف واحد كالمفرد، وقد رواه سعيد بن منصور من وجه آخر عن نافع، عن ابن عمر أصرح من سياق حديثي الباب في الرفع، ولفظه: عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من جمع بين الحج والعمرة كفاه لهما طواف واحد، وسعيٌ واحد"، وأعلّه الطحاويّ بأن الدراورديّ أخطأ فيه، وأن الصواب أنه موقوف، وتمسّك في تخطئته بما رواه أيوب، والليث، وموسى بن عقبة، وغير واحد، عن نافع نحو سياق ما في الباب، من أن ذلك وقع لابن عمر، وأنه قال:"إن النبيّ صلى الله عليه وسلم فعل ذلك"، لا أنه روى هذا اللفظ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى.
قال الحافظ: وهو تعليلٌ مردود، فالدراورديّ صدوق، وليس ما رواه مخالفًا لما رواه غيره، فلا مانع من أن يكون الحديث عند نافع على الوجهين.
واحتجّ الحنفيّة بما روي عن عليّ رضي الله عنه أنه جمع بين الحج والعمرة، فطاف لهما طوافين، وسعى لهما سعيين، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل، وطرقه عن عليّ عند عبد الرزاق، والدارقطنيّ، وغيرهما ضعيفة، وكذا أخرج من حديث ابن مسعود رضي الله عنه بإسناد ضعيف نحوه.
وأخرج من حديث ابن عمر بنحو ذلك، وفيه الحسن بن عُمارة، وهو متروك، والمخرّج في "الصحيحين"، وفي "السنن" عنه من طرق كثيرة الاكتفاء بطواف واحد.
وقال البيهقيّ: إن ثبتت الرواية أنه طاف طوافين، فيُحْمَل على طواف القدوم، وطواف الإفاضة، وأما السعي مرتين فلم يثبت.
وقال ابن حزم: لا يصحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه في ذلك شيء أصلًا.
قال الحافظ: لكن روى الطحاويّ، وغيره موقوفًا عن عليّ، وابن مسعود
ذلك بأسانيد لا بأس بها إذا اجتمعت، ولم أر في الباب أصحّ من حديثي ابن عمر، وعائشة المذكورين في هذا الباب.
وقد أجاب الطحاويّ عن حديث ابن عمر بأنه اختُلِف عليه في كيفية إحرام النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأن الذي يظهر من مجموع الروايات عنه أنه صلى الله عليه وسلم أحرم أولًا بحجة، ثم فسخها، فصيّرها عمرة، ثم تمتّع بها إلى الحجّ، كذا قال الطحاويّ، مع جزمه قبل ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم كان قارنًا.
وهبْ أن ذلك كما قال، فلِمَ لا يكون قول ابن عمر: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: أمر من كان قارنًا أن يقتصر على طواف واحد؟ وحديث ابن عمر المذكور ناطق بأنه صلى الله عليه وسلم كان قارنًا، فإنه مع قوله: تمتّع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصف فعل القران، حيث قال: بدأ، فأهلّ بالعمرة، ثم أهلّ بالحجّ، وهذا من صور القران، وغايته أنه سمّاه تمتعًا؛ لأن الإحرام عنده بالعمرة في أشهر الحج كيف كان يسمى تمتعًا.
ثم أجاب عن حديث عائشة رضي الله عنهما بأنها أرادت بقولها: وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة، فإنما طافوا طوافًا واحدًا، يعني الذين تمتعوا بالعمرة إلى الحج؛ لأن حجتهم كانت بمكة، والحجة المكيّة لا يطاف لها إلا بعد عرفة، قال: والمراد بقولها: جمعوا بين الحج والعمرة جمع تمتع، لا جمع قران. انتهى.
قال الحافظ: وإني لكثير التعجّب منه في هذا الموضع، كيف ساغ له هذا التأويل، وحديث عائشة مفصل للحالتين، فإنها صرّحت بفعل من تمتع، ثم من قرَن، قالت:"فطاف الذين أهلّوا بالعمرة، ثم حلّوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منى"، فهؤلاء أهلُ التمتع، ثم قالت:"وأما الذين جمعوا إلخ"، فهؤلاء أهلُ القران، وهذا أبين من أن يحتاج إلى إيضاح، والله المستعان.
وقد روى مسلم من طريق أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: "لم يطف النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافًا واحدًا"، ومن طريق طاوس، عن عائشة:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لها: يسعك طوافك لحجك وعمرتك"، وهذا صريح في الإجزاء، وإن كان العلماء اختلفوا فيما كانت عائشة محرمة به، قال عبد الرزاق، عن سفيان الثوريّ، عن سلمة بن كُهيل،
قال: "حلف طاوس ما طاف أحدٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجه وعمرته إلا طوافًا واحدًا"، وهذا إسناد صحيح، وفيه بيان ضعف ما رُوي عن عليّ، وابن مسعود من ذلك، وقد رَوَى آل بيت عليّ عنه مثل الجماعة، قال جعفر بن محمد الصادق، عن أبيه أنه كان يحفظ عن عليّ:"للقارن طواف واحد"، خلاف ما يقول أهل العراق، ومما يضعّف ما روي عن عليّ من ذلك أن أمثل طرقه عنه رواية عبد الرحمن بن أُذينة عنه، وقد ذكر فيها أنه يمتنع على من ابتدأ الإهلال بالحجّ أن يدخل عليه العمرة، وأن القارن يطوف طوافين، ويسعى سعيين، والذين احتجّوا بحديثه لا يقولون بامتناع إدخال العمرة على الحجّ، فإن كانت الطريق صحيحة عندهم لزمهم العمل بما دلّت عليه، وإلا فلا حجة فيها.
وقال ابن المنذر: احتجّ أبو ثور
(1)
من طريق النضر
(2)
بأنّا أجزنا جميعًا للحجّ والعمرة سفرًا واحدًا، وإحرامًا واحدًا، وتلبية واحدة، فكذلك يجزي عنهما طواف واحد، وسعيٌ واحد؛ لأنهما خالفا في ذلك سائر العبادات، وفي هذا القياس مباحث كثيرة، لا نُطيل بها.
واحتجّ غيره بقوله صلى الله عليه وسلم: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة"، وهو صحيح، كما سلف، فدلّ على أنها لا تحتاج بعد أن دخلت فيه إلى عمل آخر غير عمله.
والحقّ أن الْمُتَّبَعَ في ذلك السنةُ الصحيحةُ، وهي مستغنية عن غيرها. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(3)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الحافظ رحمه الله هو كلام نفيسٌ جدًّا.
وحاصله أن ما دلّت عليه السنة الصحيحة، وهو أن القارن يكفيه طواف
(1)
كذا في بعض نسخ "الفتح"، ووقع في بعضها:"أبو أيوب"، والظاهر أنه غلطٌ، فليُتنبّه.
(2)
هكذا النسخة: "والظاهر أنه مصحّف من النظر"، فليُحرّر.
(3)
"الفتح" 4/ 572 - 574.
واحد، وسعي واحد، هو الحقّ، ودليله هو السنة الصحيحة الصريحة فيه، ولا حاجة إلى الأدلة العقلية؛ لأن السنة الصحيحة فيها الكفاية؛ إذ هي العمدة البالغة، والحجة الدامغة، وكلّ قياس في مقابلتها فاسد الاعتبار، ولله درّ من قال، وأجاد في المقال [من الوافر]:
إِذَا جَالَتْ خُيُولُ النَّصِّ يَوْمًا
…
جَارِي فِي مَيَادينِ الكِفَاحِ
غَدَتْ شُبَهُ الْقِيَاسِيِّينَ صَرْعَى
…
تَطِيرُ رُؤُوسُهُنَّ مَعَ الرِّيَاحِ
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2911]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْث، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْر، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاع، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَلَمْ يُهْد، فَلْيَحْلِلْ، وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَأَهْدَى، فَلَا يَحِلُّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ، وَمَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ فَلْيُتِمَّ حَجَّهُ"، قَالَتْ عائشة رضي الله عنها: فَحِضْتُ، فَلَمْ أَزَلْ حَائِضًا حَتَّى كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَلَمْ أُهْلِلْ إِلَّا بِعُمْرَةٍ، فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَنْقُضَ رَأسِي، وَأَمْتَشِطَ، وَأُهِلَّ بِحَجٍّ، وَأَتْرُكَ الْعُمْرَةَ، قَالَتْ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ، حَتى إِذَا قَضَيْتُ حَجَّتِي، بَعَثَ مَعِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَعْتَمِرَ مِنَ التَّنْعِيم، مَكَانَ عُمْرَتي الَّتي أَدْرَكَني الْحَجُّ، وَلَمْ أَحْلِلْ مِنْهَا).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ) أبو عبد الله المصريّ، ثقةٌ [11](ت 248)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.
2 -
(أَبُوهُ) شعيب بن الليث بن سعد، أبو عبد الملك المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ نبيل، من كبار [10](ت 199) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.
3 -
(جَدُّهُ) الليث بن سعد بن عبد الرحمن الْفَهْميّ، أبو الحارث
المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمامٌ مشهورٌ [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.
4 -
(عُقَيْلُ بْنُ خَالِدِ) بن عَقِيل - الأول بالضمّ، والثاني بالفتح - الأمويّ مولاهم، أبو خالد الأيليّ، سكن المدينة، ثم الشام، ثم مصر [6](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 133.
والباقون ذُكروا قبله.
وقولها: (وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَأَهْدَى، فَلَا يَحِلُّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ) تقدّم أن القاضي عياضًا رحمه الله قال: الذي تدل عليه نصوص الأحاديث في "صحيحي البخاري ومسلم" وغيرهما من رواية عائشة وجابر وغيرهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما قال لهم هذا القول بعد إحرامهم بالحج في منتهى سفرهم ودُنُوّهم من مكة بسرف، كما جاء في رواية عائشة، أو بعد طوافه بالبيت وسعيه، كما جاء في رواية جابر، ويَحْتَمِل تكرار الأمر بذلك في الموضعين، وأن العزيمة كانت آخرًا حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة. انتهى.
وقال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث ظاهر في الدلالة لمذهب أبي حنيفة وأحمد، وموافقهما في أن المعتمر المتمتع إذا كان معه هدي لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر، ومذهب مالك، والشافعيّ، وموافقيهما أنه إذا طاف وسعى وحَلَقَ حَلّ من عمرته، وحلّ له كل شيء في الحال، سواء كان ساق هديًا أم لا، واحتجوا بالقياس على من لم يسق الهدي، وبأنه تحلل من نسكه فوجب أن يحلّ له كل شيء كما لو تحلل المحرم بالحج، وأجابوا عن هذه الرواية بأنها مختصرة من الروايات التي ذكرها مسلم بعدها، والتي ذكرها قبلها عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال رسول الله: "من كان معه هدي فليهلل بالحج مع العمرة، ثم لا يحلّ حتى يحلّ منهما جميعًا"، فهذه الرواية مفسرة للمحذوف من الرواية التي احتجّ بها أبو حنيفة، وتقديرها: ومن أحرم بعمرة، وأهدى فليهلل بالحج، ولا يَحِلّ حتى ينحر هديه، ولا بدّ من هذا التأويل؛ لأن القضية واحدة، والراوي
واحد، فيتعيّن الجمع بين الروايتين على ما ذكرناه. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى كون هذا التأويل متكلّفًا، بل الظاهر ما ذهب إليه أبو حنيفة، وأحمد، ومن قال بقولهما، من أن من اعتمر، وساق الهدي لا يتحلّل حتى يبلغ الهدي محلّه، وينحره يوم النحر، ولا حاجة إلى تأويل هذه الرواية الصريحة، إلى الرواية الأخرى، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
وقوله: (وَمَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ فَلْيُتِمَّ حَجَّهُ) هذا بظاهره يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم ما أمرهم بفسخ الحجّ إلى العمرة، مع أن الصحيح بروايات أربعة عشر من الصحابة رضي الله عنهم أنه أمر من لم يسق الهدي بفسخ الحجّ، وجعله عمرة، فحينئذ لا بدّ من حمل هذا الحديث على من ساق الهدي، والأمر بالفسخ من لم يسق الهدي، فلا منافاة، قاله السنديّ رحمه الله في "حاشية مسلم"
(2)
.
وقولها: (فَلَمْ أَزَلْ حَائِضًا حَتَّى كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ) قال القرطبي رحمه الله: هذا مخالف لقولها في الرواية الأخرى: "فلما كان يوم النحر طهرت"، ووجه التوفيق أن يُحْمَل على أنه تقارب انقطاع الدم عنها يوم عرفة، ورأت علامة الطهر يوم النحر. انتهى
(3)
.
وقولها: (حَتى كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ)"كان" هنا تامّةٌ لا تحتاج إلى خبر، فهي بمعنى "جاء"، و"يوم" مرفوع على الفاعلية، قال الحريريّ رحمه الله في "ملحته":
وَإِنْ تَقُلْ يَا قَومِ قَدْ كَانَ الْمَطَرْ
…
فَلَسْتَ تَحْتَاجُ لَهَا إِلَى خَبَرْ
وقولها: (وَلَمْ أُهْلِلْ إِلَّا بِعُمْرَةٍ) هذا صريح في كون عائشة رضي الله عنها لم تُحرم إلا بعمرة، وقد سبق أن هذا في ثاني الحالين، فإنها كانت أولًا ابتدأت بالحجّ، ثم قلبته إلى العمرة بعد أن أمر صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك، فصارت معتمرة، ثم أدخلت عليها الحجّ، فصارت قارنة، فتنبّه.
وقولها: (وَأَتْرُكَ الْعُمْرَةَ) تقدّم أن الصحيح في معناه ترك أعمالها، لا
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 142.
(2)
نقله في "المرعاة شرح المشكاة" 9/ 50.
(3)
"المفهم" 3/ 303.
إبطالها، فإنها لا زالت معتمرة، وإنما تركت الطواف والسعي؛ لتعذّر ذلك عليها بالحيض، فأدخلت الحجّ عليها، والله تعالى أعلم.
وقولها: (مَكَانَ عُمْرَتِي الَّتِي أَدْرَكَنِي الْحَجُّ، وَلَمْ أَحْلِلْ مِنْهَا) فيه دليل واضح على أنها لم تُبطل عمرتها، ولم تتحلّل منها، بل بقيت عليها، حتى أتمّتها مع الحج، ثم أتت بعمرة مفردة، فتنبّه.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2912]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاع، فَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ، وَلَمْ أَكُنْ سُقْتُ الْهَدْيَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهْلِلْ
(1)
بِالْحَجِّ مَعَ عُمْرَتِه، ثُمَّ لَا يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا"، قَالَتْ: فَحِضْتُ، فَلَمَّا دَخَلَتْ لَيْلَةُ عَرَفَةَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي كُنْتُ أَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ، فَكَيْفَ أَصْنَعُ بِحَجَّتِي؟ قَالَ: "انْقُضِي رَأْسَك، وَامْتَشِطِي، وَأَمْسِكِي عَن الْعُمْرَة، وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ"، قَالَتْ: فَلَمَّا قَضَيْتُ حَجَّتِي
(2)
أَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَرْدَفَني، فَأَعْمَرَنِي مِنَ التَّنْعِيم، مَكَانَ عُمْرَتِي الَّتي أَمْسَكْتُ عَنْهَا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسيّ، أبو نصر، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، أبو بكر، ثقةٌ حافظٌ، مصنّفٌ، تغيّر بعدما عمي، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
3 -
(مَعْمَرُ) بن راشد، أبو عروة اليمنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
(1)
وفي نسخة: "فليُهلّ".
(2)
وفي نسخة: "فلما قضيت حجّي".
والباقون ذُكروا قبله.
وقولها: (وَلَمْ أَكُنْ سُقْتُ الْهَدْيَ) هذا ذكرته توطئةً لما تريد الإخبار به من استمرارها على تمحيض العمرة، وأنها لم تُدخل عليها الحجّ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما أمر بضمّ الحجّ إلى العمرة من كان معه هدي.
والْهَديُ بإسكان الدال، وتخفيف الياء، وبكسر الدال، وتشديد الياء لغتان مشهورتان، الأولى أفصح، وأشهر، وهو اسم لما يُهْدَى إلى الحرم من الأنعام، وسوق الهدي سنّة من أراد الإحرام بحجّ، أو عمرة، قاله وفي الدين رحمه الله
(1)
.
وقوله: (مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهْلِلْ بِالْحَجِّ مَعَ عُمْرَتِهِ) قال القرطبي رحمه الله: ظاهره أنه أمرهم بالقران، فيكون قاله لهم عند إحرامهم، ويَحْتَمِل أن يكون قال ذلك من قد كان أحرم بالعمرة، فيكون ذلك أمرًا بالإرداف. انتهى.
وقوله: (ثُمَّ لَا يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا) قال القرطبي رحمه الله: هذا بيان حكم القارن، فإنه لا يحلّ إلا بفراغه من طواف الإفاضة، ويجزئه لهما عمل واحد عند الجمهور خلافًا لأبي حنيفة؛ إذ يقول: يعمل لهما عملين، وسيأتي قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها:"يسعك طوافك لحجك وعمرتك"، وهو نصٌّ في الردّ عليه، وكذلك قولها:"فأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة؛ فإنما طافوا طوافًا واحدًا". انتهى
(2)
.
وقوله: (فَحِضْتُ) بكسر الحاء، يقال: حاضت المرأة تحيض حيضًا، من باب باع يبيع بيعًا.
وقولها: (أَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَرْدَفَنِي) وفي رواية البخاريّ: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمره أن يُردف عائشة، ويعمرها من التنعيم"، قال في "الفتح": وهذا يدل على أن إعمارها من التنعيم كان بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصرح منه ما أخرجه أبو داود، من طريق حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أبيها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا عبد الرحمن أردف أختك عائشة، فأعمرها من التنعيم
…
" الحديث، ونحوه رواية مالك السابقة في الحديث السابق، عن ابن
(1)
"طرح التثريب" 5/ 31.
(2)
"المفهم" 3/ 299 - 300.
شهاب، عن عروة، عن عائشة:"أرسلني النبيّ صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن إلى التنعيم"، ورواية الأسود، عن عائشة الآتية:"قال: فاذهبي مع أخيك إلى التنعيم"، وعند البخاريّ من وجه آخر عن الأسود والقاسم جميعًا عنها، بلفظ:"فاخرجي إلى التنعيم"، وهو صريح بأن ذلك كان عن أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم.
قال: وكلُّ ذلك يفسر قوله في رواية القاسم عنها الآتية، حيث أورده بلفظ:"اخرج بأختك من الحرم".
وأما ما رواه أحمد من طريق ابن أبي مُليكة عنها في هذا الحديث: "قال: ثم أرسل إلى عبد الرحمن بن أبي بكر، فقال: احملها خلفك حتى تخرج من الحرم"، فوالله ما قال: فتخرجها إلى الجعرانة، ولا إلى التنعيم، فهي رواية ضعيفة؛ لضعف أبي عامر الخراز الراوي له عن ابن أبي مليكة.
قال: ويَحْتَمِل أن يكون قوله: فوالثه إلخ من كلام مَن دون عائشة، قاله متمسكًا بإطلاق قوله:"فأخرجها من الحرم"، لكن الروايات المقيَّدة بالتنعيم مقدمة على المطلقة، فهو أولى، ولا سيما مع صحة أسانيدها، والله أعلم.
[فائدة]: زاد أبو داود في روايته بعد قوله: "إلى التنعيم": "فإذا هَبَطت بها من الأَكَمَة فلتحرم، فإنها عمرة متقبلة"، وزاد أحمد في رواية له:"وذلك ليلة الصَّدَر"، وهو بفتح المهملة والدال؛ أي: الرجوع من منى.
وفي قوله: "فإذا هَبَطت بها" إشارة إلى المكان الذي أحرمت منه عائشة رضي الله عنها، وقد مرَّ تمام البحث في هذا في شرح الحديث الأول، فتنبّه.
وقولها: (فَأَرْدَفَنِي) فيه دليل على جواز الإرداف إذا كانت الدابة مطيقةً، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بذلك، وفيه جواز إرداف الرجل المرأة من محارمه، والخلوة بها، وهذا مجمع عليه، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقولها: (مَكَانَ عُمْرَتِي الَّتِي أَمْسَكْتُ عَنْهَا) قال النوويّ رحمه الله: فيه دلالة ظاهرة على أنها لم تَخْرُج منها، وإنما أمسكت عن أعمالها، وأحرمت بالحج، فأدرجت أعمالها بالحج، كما سبق بيانه، وهو مؤيِّد للتأويل الذي قدمناه في قوله صلى الله عليه وسلم:"ارفُضي عمرتك"، و"دَعِي عمرتك" أن المراد رفض إتمام أعمالها،
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 143.
لا إبطال أصل العمرة. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2913]
(
…
) - (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَن الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ فَلْيُهِلَّ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ"، قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: فَأَهَلَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِحَجٍّ، وَأَهَلَّ بِهِ نَاسٌ مَعَهُ
(2)
، وَأَهَلَّ نَاسٌ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجّ، وَأَهَلَّ نَاسٌ بِعُمْرَةٍ، وَكُنْتُ فِيمَنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، ثم المكيّ، ثقةٌ [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
2 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم قبل بابين.
والباقون ذكروا في الباب.
وقوله: ("مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ
…
إلخ) فيه دليل على جواز الأنواع الثلاثة، وقد أجمع المسلمون على ذلك، وإنما اختلفوا في أفضلها، وقد سبق أن الأرجح أن القران أفضل من ساق الهدي؛ اقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 143.
(2)
قوله: "وأهلّ به ناس معه" ساقط في المتن البولاقيّ.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2914]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاع، مُوَافِينَ لِهِلَالِ ذِي الْحِجَّة، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ، فَلَوْلَا أَنِّي أَهْدَيْتُ لَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ"، قَالَتْ: فَكَانَ مِنَ الْقَوْمِ مَنْ أَهَل بِعُمْرَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَهَل بِالْحَجّ، قَالَتْ: فَكُنْتُ أنا مِمَّنْ أَهَل بِعُمْرَةٍ، فَخَرَجْنَا حَتى قَدِمْنَا مَكَّةَ، فَأَدْرَكَنِي يَوْمُ عَرَفَةَ، وَأَنَا حَائِضٌ، لَمْ أَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِي، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "دَعِي عُمْرَتَك، وَانْقُضِي رَأْسَك، وَامْتَشِطِي، وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ"، قَالَتْ: فَفَعَلْتُ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْحَصْبَة، وَقَدْ قَضَى اللهُ حَجَّنَا، أَرْسَلَ مَعِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَرْدَفَنِي، وَخَرَجَ بِي إِلَى التنْعِيم، فَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ، فَقَضَى اللهُ حَجَّنَا وَعُمْرَتَنَا، وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ هَدْيٌ، وَلَا صَدَقَةٌ، وَلَا صَوْمٌ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الكلابيّ، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(هِشَامُ) بن عروة، تقدّم قبل باب.
والباقيان ذُكرا قبله.
قال القرطبي رحمه الله: قولها في هذه الرواية: (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، مُوَافِينَ لِهِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ) أي: مُطِلِّين عليه، ومُشْرِفين، يقال: أوفى على ثَنِيّة كذا؛ أي: شارفها، وأَطَلَّ عليها، ولا يلزم منه أن يكون دخل فيها، وقد دلَّ على صحة هذا: قولها في الرواية الأخرى: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس بقين من ذي القعدة"، وكذلك كان، وقَدِم النبيّ صلى الله عليه وسلم مكة لأربع أو خمس من ذي الحجة، فأقام النبيّ صلى الله عليه وسلم طريقه إلى مكة تسعة أيام، أو عشرة
(1)
.
(1)
"المفهم" 3/ 298.
وقال النوويّ رحمه الله: قولها: "موافين لهلال ذي الحجة"؛ أي: مقاربين لاستهلاله، وكان خروجهم قبله لخمس في ذي القعدة، كما صَرَّحت به في رواية عمرة التي ذكرها مسلم بعد هذا من حديث عبد الله بن سَلِمَة، عن سليمان بن بلال، عن يحيى، عن عمرة. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قولها: "خرجنا موافين لهلال ذي الحجة"؛ أي: قرب طلوعه، وسيأتي أنها قالت: خرجنا لخمس بقين من ذي القعدة، والخمس قريبة من آخر الشهر، فوافاهم الهلال، وهم في الطريق؛ لأنهم دخلوا مكة في الرابع من ذي الحجة. انتهى.
وقولها: (فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ) - بفتح الحاء، وإسكان الصاد المهملتين -: هي الليلة التي بعد أيام التشريق، وسُمّيت بذلك؛ لأنهم نفروا من منى، فنزلوا في الْمُحَصَّب، وباتوا بها، قاله النوويّ رحمه الله
(2)
.
وقال القرطبي رحمه الله: وقولها: "فلما كانت ليلة الحَصْبة" - بسكون الصاد -، وهي: الليلة التي ينزل الناس فيها المحصب عند انصرافهم من منى إلى مكة، والتحصيب: إقامتهم بالمحصَّب، وهو الشِّعبُ الذي مخرجه إلى الأبطح، وهو منزل النبيّ صلى الله عليه وسلم حين انصرف من حجته، وهو خيف بني كنانة؛ الذي تقاسمت فيه في الصحيفة التي كتبوها بمقاطعة بني هاشم، وهو بين مكة ومنى، وربما تسمَّى: الأبطح، والبطحاء: لقربه منه، ونزوله بعد النفر من منى، والإقامة به إلى أن يصلي الظهر والعصر والعشاءين ويخرج منه ليلًا سُنَّة عند مالك، والشافعي، وبعض السَّلف؛ اقتداءً بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يره بعضهم، وسيأتي إن شاء الله تعالى
(3)
.
وقولها: (وَقَدْ قَضَى اللهُ حَجَّنَا) أي: والعمرة التي قرئت معه.
وقوله: (وَلَمْ يَكُنْ في ذَلِكَ هَدْيٌ، وَلَا صَدَقَةٌ، وَلَا صَوْمٌ) قال النوويّ رحمه الله: هذا محمول على إخبارها عن نفسها؛ أي: لم يكن عليّ في ذلك هدي، ولا صدقةٌ، ولا صوم، ثم إنه مشكلٌ من حيث إنها كانت قارنةً، والقارن يلزمه
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 144.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 144.
(3)
"المفهم" 3/ 307 - 308.
الدم، وكذلك المتمتع، ويمكن أن يُتأوَّل هذا على أن المراد لم يجب عليّ دم ارتكاب شيء من محظورات الإحرام، كالطيب، وستر الوجه، وقتل الصيد، وإزالة شعر وظفر، وغير ذلك؛ أي: لم أرتكب محظورًا، فيجب بسببه هديٌ، أو صدقةٌ، أو صوم، هذا هو المختار في تأويله.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن التأويل الذي ذكره النوويّ فيه تكلّف ظاهر.
وقال في "الفتح": وأما قوله في هذا الحديث: "فقضى الله حجها وعمرتها، ولم يكن في شيء من ذلك هديٌ، ولا صدقة، ولا صومٌ" فظاهره أن ذلك من قول عائشة رضي الله عنها، وكذا أخرجه مسلم، وابن ماجه، من رواية عبدة بن سليمان، ومسلم من طريق ابن نُمَير، والإسماعيليّ من طريق عليّ بن مسهر وغيره، لكن قد تقدم الحديث عند البخاريّ في "كتاب الحيض" من طريق أبي أسامة، عن هشام بن عروة إلخ، فقال في آخره: قال هشام: "ولم يكن في شيء من ذلك إلخ"، فتبيّن أنه في رواية يحيى القطان ومن وافقه مُدْرَج، وكذا أخرجه أبو داود، من طريق وُهيب، والحمادين، عن هشام، ووقع في الحديث موضعٌ آخر مُدْرَجٌ، وهو قوله قبل ذلك:"فقضى الله حجها وعمرتها"، فقد بَيَّن أحمد في روايته عن وكيع، عن هشام، أنه من قول عروة، وبَيَّنه مسلم، عن أبي كريب، عن وكيع بيانًا شافيًا، فإنه أخرجه عقب رواية عبدة، عن هشام: وقال فيه: فساق الحديث بنحوه، وقال في آخره: قال عروة: "فقضى الله حجها وعمرتها"، قال هشام:"ولم يكن في ذلك هديٌ، ولا صيامٌ ولا صدقةٌ"، وساقه الْجَوْزقيّ من طريق مسلم بهذا الإسناد بتمامه، بغير حوالة.
ورواه ابن جريج، عن هشام، فلم يذكر الزيادة، أخرجه أبو عوانة، وكذا أخرجه الشيخان من طريق الزهريّ، وأبي الأسود، عن عروة، بدون الزيادة.
قال ابن بطال: قوله: "فقضى الله حجها وعمرتها
…
" إلى آخر الحديث، ليس من قول عائشة رضي الله عنها، وإنما هو من كلام هشام بن عروة، حدّث به هكذا في العراق، فوهم فيه، فظهر بذلك أن لا دليل فيه من قال إن عائشة لم تكن قارنةً، حيث قال: لو كانت قارنة لوجب عليها الهدي للقران، وحمل قوله لها: "ارْفُضي عمرتك" على ظاهره.
لكن طريق الجمع بين مختلف الأحاديث تقتضي ما قررناه، وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى عن نسائه بالبقر، كما تقدم، وروى مسلم من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى عنها، فيُحْمَل على أنه صلى الله عليه وسلم أهدى عنها من غير أن يأمرها بذلك، ولا أعلمها به.
وقال القرطبي رحمه الله: قولها: "ولم يكن في ذلك هدي، ولا صدقة، ولا صوم" هذا الكلام مشكل على من يقول: إنها كانت معتمرة، أو قارنة؛ لأنها إن كانت معتمرة فقد استباحت مشط رأسها، وإلقاء القمل؛ إن تنزلنا على تأويل من قال: إنها كان بها أذى، وإنها رُخِّص لها كما رُخِّص لكعب بن عجرة، فكانت تلزم الفدية كما نصَّ الله على ذلك، وأما إن كانت قارنة فيلزمها الهدي للقران عند جماعة العلماء إلا داود فإنه لا يرى في القران هديًا.
وقد أشكل هذا على أصحابنا حتى قال القاضي أبو الفضل عياض: لم تكن معتمرة ولا قارنة، وإنما كانت أحرمت بالحج، ثم نوت فسخه في عمرة، فلما حاضت ولم يتم لها ذلك رجعت إلى حجها، فلما أكملت حجها اعتمرت عمرة مبتدأة، فلم تكن متمتعة، فلم يجب عليها هدي.
قال القرطبي رحمه الله: وكأن القاضي رحمه الله لم يسمع قولها: "وكنت فيمن أهلّ بعمرة"، وقولها:"ولم أهلّ إلا بعمرة"، ولا قوله صلى الله عليه وسلم لها:"يسعك طوافك لحجك وعمرتك".
قال: وهذا الكلام المشكل يهوّن إشكاله: أنه قد رواه وكيع موقوفًا على هشام بن عروة وأبيه، فقال: قال عروة: إنه قضى الله حجها وعمرتها، قال هشام: ولم يكن في ذلك هدي، ولا صيام، ولا صدقة، وإذا كان الأمر كذلك سهل الانفصال؛ بأن يقال: إن عروة وهشامًا لمّا لم يبلغهما في ذلك شيء أخبرا عن نفي ذلك في علمهما، ولا يلزم من ذلك انتفاء ذلك الأمر في نفسه، فلعل النبيّ صلى الله عليه وسلم أهدى عنها، ولم يبلغهما ذلك، وهذا التأويل أيضًا منقدح على تقدير: أن يكون هذا الكلام من قول عائشة رضي الله عنها، ويؤيده قول جابر: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أهدى عن عائشة بقرة على ما يأتي - إن شاء الله تعالى -. ويَحْتَمِل أن يكون معنى قولهم: "لم يكن في ذلك هدي، ولا صوم، ولا صدقة" أي: لم يأمرها بذلك، ولم يكلّفها شيئًا من ذلك؛ لأنه نوى أن يقوم به عنها، كما قد
فعل على ما رواه جابر وغيره. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ.
وقال ابن خزيمة: معنى قوله: "لم يكن في شيء من ذلك هديٌ" أي: في تركها لعمل العمرة الأولى، وإدراجها لها في الحجّ، ولا في عمرتها التي اعتمرتها من التنعيم أيضًا، وهذا تأويل حسنٌ، والله أعلم. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: أحسن الأجوبة أنه إن كان هذا الكلام - أعني: "ولو يكن في شيء من ذلك هديٌ
…
إلخ" - من قول عائشة رضي الله عنها ما قاله ابن خزيمة رحمه الله: إن المراد أنه لم يلزمها شيء في تركها لعمل العمرة الأولى، وإدراجها لها في الحجّ، ولا في عمرتها التي اعتمرتها من التنعيم أيضًا، وهذا لا ينافي هدي القران، وهو قد ذُكر في قول جابر رضي الله عنه: "إن النبيّ صلى الله عليه وسلم أهدى عن نسائه بالبقر"، ومنهنّ عائشة رضي الله عنها، فزال الإشكال، وعلى هذا أيضًا يؤوّل إن كان من كلام هشام رحمه الله، فتأمله بالإنصاف.
والحديث متّفقٌ عليه، دون الكلام الأخير، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2915]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَة رضي الله عنها قَالَتْ: خَرَجْنَا مُوَافِينَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِهِلَالِ ذِي الْحِجَّة، لَا نَرَى إِلا الْحَجَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُهِل بِعُمْرَ، فَلْيُهِلَّ بِعُمْرَةٍ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ عَبْدَةَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قبل باب.
2 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: عبد الله بن نُمير الهمدانيّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقولها: (لَا نَرَى إِلَّا الْحَجَّ) أي: لا نعتقد أنا نُحرم إلا بالحجّ؛ لأنا كنّا
(1)
"المفهم" 3/ 303 - 304.
(2)
"الفتح" 5/ 25 - 26.
نظنّ امتناع العمرة في أشهر الحجّ، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال القرطبي رحمه الله: يمكن أن يقال: كان ذلك منها ومنهم قبل أن يُخبرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في أنواع الإحرام، ويُبيّنها لهم. انتهى
(2)
.
وقولها أيضًا: (لَا نُرَى) بضم النون؛ أي: لا نظنّ، وقال ابن التين: ضبطه بعضهم بفتح النون، وبعضهم بضمّها (إِلَّا الْحَجَّ) وفي رواية عنها:"لا نَنْوِي إلا الحج"، وفي أخرى:"لا نذكر إلا الحجّ"، وفي أخرى:"مهلّين بالحجّ" وفي أخرى: "لبّينا بالحجّ".
وظاهر هذه الروايات أن عائشة مع غيرها من الصحابة رضي الله عنهم، كانوا أوّلًا محرمين بالحجّ، لكن هذا يُستشكل مع قولها:"فمنّا من أهلّ بالحجّ، ومنّا من أهلّ بعمرة"، وفي رواية:"فمنا من أهلّ بعمرة، ومنا من أهلّ بحج وعمرة، ومنّا من أهلّ بالحجّ".
وقد ذكر الحافظ رحمه الله الجمع بأن الأول يُحمل على أنها ذكرت ما كانوا يَعهدونه من ترك الاعتمار في أشهر الحجّ، فخرجوا، لا يعرفون إلا الحجّ، ثمّ بيّن لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم وجوه الإحرام، وجوّز لهم الاعتمار في أشهر الحجّ، وقال لهم:"من شاء أن يُهلّ بحجّ فليُهلّ، ومن شاء أن يُهلّ بعمرة فليهلّ بعمرة".
قال: وأما عائشة نفسها، فقد جاء عنها، أنها قالت:"وكنت ممن أهلّ بعمرة"، زاد أحمد:"ولم أسق هديًا". فادعى إسماعيل القاضي وغيره أن هذا غلط من عروة، والصواب رواية الأسود، والقاسم، وعروة عنها أنها أهلّت بالحجّ مفردًا.
وتُعُقّب بأن قول عروة عنها إنها أهلّت بعمرة صريحٌ، وأما قول الأسود وغيره عنها:"لا نرى إلا الحجّ"، فليس صريحًا في إهلالها بحجّ مفرد، فالجمع بينهما ما تقدّم، من غير تغليط عروة، وهو أعلم الناس بحديثها، وقد وافقه جابر بن عبد الله الصحابيّ، كما أخرجه مسلم عنه. وكذا طاوس، ومجاهد، عن عائشة.
ويَحْتَمِل في الجمع أيضًا أن يقال: أهلّت عائشة بالحجّ مفردًا، كما فعل
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 145.
(2)
"المفهم" 3/ 299.
غيرها من الصحابة، وعلى هذا ينزّل حديث الأسود، ومن تبعه:"ثمّ أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يفسخوا الحجّ إلى العمرة، ففعلت عائشة ما صنعوا، فصارت متمتّعة"، وعلى هذا يتنزّل حديث عروة:"ثم لما دخلت مكّة، وهي حائض، فلم تقدر على الطواف لأجل الحيض، أمرها أن تُحرم بالحجّ"، على ما سيأتي من الاختلاف في ذلك. انتهى كلام الحافظ رحمه الله بتصرّف.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الجمع الذي ذكره الحافظ رحمه الله جمع حسنٌ جدًّا؛ إذ به تجتمع الروايات في الباب دون تغليط بعض الرواة.
وحاصله أن عائشة رضي الله عنها كانت أولًا أحرمت بالحجّ مفردًا، كما فعل غيرها من الصحابة رضي الله عنهم، ثم لما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج إلى العمرة، فسخت مثلهم، فصارت متمتّعةً، ثم لما دخلت مكة، وهي حائض، فلم تقدر على الطواف بالبيت أمرها صلى الله عليه وسلم أن تُحرم بالحجّ، فصارت قارنة، وهذا جمع لا غبار عليه، وبه تجتمع الروايات المختلفة في هذا الباب دون تغليط بعض الرواة، ولا سيّما عروة، فتأمله.
وأما ما أطال به ابن القيّم رحمه الله في الردّ على من قال ذلك، وبالغ فيه، ففيه نظر لا يخفى، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ عَبْدَةَ) فاعل "ساق" ضمير عبد الله بن نمير.
[تنبيه]: رواية عبد الله بن نمير، عن هشام بن عروة هذه ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" (9/ 249) فقال:
(3942)
- أخبرنا الحسن بن سفيان، قال: حدّثنا محمد بن عبد الله بن نمير، قال: حدّثنا أبي، قال: حدّثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: خرجنا موافين لهلال ذي الحجة مع رسول الله رحمه الله، فقال النبيّ رحمه الله:"من أحب منكم أن يُهِلّ بعمرة فليهلّ، فإني لولا أني أهديت، لأهللت بعمرة"، فأهلّ به بعض أصحابه بحجة، وبعضهم بعمرة، قالت: وكنت فيمن أهلّ بعمرة، فأدركني يوم عرفة، وأنا حائض، لم أحلّ من عمرتي، فشكوت ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"دعي عمرتك، وانقضي رأسك، وامتشطي، وأهلي بالحج"، قالت: ففعلت حتى إذا كانت ليلة الحصبة، أرسل
معها عبد الرحمن بن أبي بكر، فأردفها، فخرجت إلى التنعيم، فأهلّت بعمرة، مكان عمرتها، فطافت بالبيت، وبين الصفا والمروة، فقضى الله حجها وعمرتها، ولم يكن في شيء من ذلك صوم، ولا هديٌ، ولا صدقة. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2916]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُوَافِينَ لِهِلَالِ ذِي الْحِجَّة، مِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَل بِحَجَّةٍ، فَكُنْتُ فِيمَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِهِمَا، وَقَالَ فِيهِ: قَالَ عُرْوَةُ فِي ذَلِكَ: إِنَّهُ قَضَى اللهُ حَجَّهَا وَعُمْرَتَهَا، قَالَ هِشَامٌ: وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ هَدْيٌ، وَلَا صِيَامٌ، وَلَا صَدَقَةٌ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قبل بابين.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِهِمَا) فاعل "ساق" ضمير وكيع؛ أي: ساق وكيع الحديث بمثل ما ساقه عبدة بن سليمان، وعبد الله بن نمير.
وقوله: (قَالَ هِشَامٌ: وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ
…
إلخ) فيه بيان أن قوله: "ولم يكن
…
إلخ" ليس من كلام عائشة رضي الله عنها، وإنما هو من كلام هشام، وقد تقدّم تحقيق ذلك.
[تنبيه]: رواية وكيع، عن هشام بن عروة هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2917]
(
…
) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا
قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاع، فَمِنَّا مَنْ أَهَل بِعُمْرَةٍ، وَمنَّا مَنْ أَهَل بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَل بِالْحَجِّ، وَأَهَل رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ، فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَحَلَّ، وَأَمَّا مَنْ أَهَل بِحَجٍّ، أَو جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَلَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أبُو الْأَسْوَدِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ) الأسديّ المدنيّ، يتيم عروة، ثقةٌ [6] مات سنة بضع و (130)(ع) تقدم في "الطهارة" 9/ 573.
والباقون ذُكروا في الباب.
قال الحافظ أبو عمر رحمه الله بعد ذكر هذا الحديث -: وفي هذا الحديث خروج النساء في سفر الحجّ مع أزواجهنّ، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء.
وفيه أيضًا: إباحة التمتع بالعمرة إلى الحجّ، وإباحة القران، وهو جمع الحج والعمرة، وهذا ما لا خلاف بين العلماء فيه، وإنما اختلفوا في الأفضل في ذلك، وكذلك اختلفوا فيما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم به محرمًا في خاصته عام حجة الوداع. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: في هذه الأحاديث جواز حج الرجل بامرأته، وهو مشروع بالإجماع، وأجمعوا على أن الحج يجب على المرأة إذا استطاعته، واختَلَف السلف هل المَحرم لها من شروط الاستطاعة، وأجمعوا على أن لزوجها أن يمنعها من حج التطوع، وأما حج الفرض فقال جمهور العلماء: ليس له منعها منه، وللشافعي فيه قولان: أحدهما: لا يمنعها منه كما قال الجمهور، وأصحهما: له منعها؛ لأن حقه على الفور، والحج على التراخي، قال أصحابنا: ويستحب له أن يحج بزوجته؛ للأحاديث الصحيحة فيه. انتهى
(2)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"التمهيد" 13/ 96.
(2)
شرح النوويّ" 8/ 148.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2918]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، جَمِيعًا عَن ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ عَمْرٌو: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ الْقَاسِم، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا نُرَى إِلَّا الْحَجَّ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِسَرِفَ، أَو قَرِيبًا مِنْهَا حِضْتُ، فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَأنا أَبْكِي، فَقَالَ: "أَنَفِسْتِ؟ " يَعْنِي الْحَيْضَةَ، قَالَتْ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: "إِنَّ هَذَا شَيْءٌ كَتَبَهُ اللهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَاقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفي بِالْبَيْتِ حَتى تَغْتَسِلِي"، قَالَتْ: وَضَحَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) ابن محمد بن بُكير، تقدّم قبل بابين.
2 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ) تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
4 -
(أَبُوهُ) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصدّيق، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقولها: (قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أي: من المدينة عام حجة الوداع، وكان خروجهم لخمس بقين من ذي القعدة، وقَدِموا مكة لأربع، أو خمس من ذي الحجة، فكانوا في طريقهم إلى مكة تسعة أيام، أو عشرة.
وقولها: (حَتَّى إِذَا كُنَّا بِسَرِفَ) - بفتح السين، وكسر الراء: موضع قريب من مكة ممنوع من الصرف، وقد يُصْرَف، وفي "المصباح": سَرف: موضع قريب من التنعيم، مثال تَعب، وجَهْل، وبه تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة الهلالية رضي الله عنها، وبه تُوُفِّيَت، ودُفنَت.
وقال في "العمدة": سَرِف: اسم موضع قريب من مكة، بينهما نحو من عشرة أميال، وقيل: عشرة، وقيل: تسعة، وقيل: سبعة، وقيل: ستة، وهو غير
منصرف؛ للعلمية والتأنيث. انتهى
(1)
.
وقولها: (حِضْتُ) بكسر الحاء؛ لأنه من حاض يحيض، كبِعْتُ، من باع يبيع، فأصله حَيَضْتُ، قلبت الياء ألفًا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، ثم حذفت لالتقاء الساكنين، فصار حَضْتُ بالفتح، ثم أُبدلت الفتحة كسرة؛ لتدل على الياء المحذوفة، قاله في "العمدة"
(2)
.
وقولها: (فَقَالَ: "أَنَفِسْتِ؟ ") - بفتح النون وكسر الفاء، أو بضم النون وكسر الفاء؛ أي: أحضت، والهمزة للاستفهام.
وقوله: ("إِنَّ هَذَا شَيْءٌ) وفي رواية "أمرٌ"، والإشارة إلى الحيض، والأمر بمعنى الشأن.
وقوله: (كَتَبَهُ اللهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ) أي: الحيض أمر أثبته الله عز وجل على النساء، من أولاد آدم، أراد صلى الله عليه وسلم بهذا تسلية عائشة رضي الله عنه حيث إنها بكت، كالْمُقَصِّرة في ذلك، فكأنه يقول لها: لا تقصير منك؛ لأنه مما كتبه الله على النساء كلهن، فلا لوم عليك.
[فإن قيل]: هذا الحديث يعارضه ما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح، عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال:"كان الرجال والنساء في بني إسرائيل يصلون جميعًا، فكانت المرأة تتشرف للرجل، فألقى الله عليهن الحيض، ومنعهن المساجد"، فإنه يدل على أن ابتداء الحيض من بني إسرائيل، وحديث الباب يدل على أنه على بنات آدم عمومًا.
[أجيب]: بأنه لا تعارض بينهما، فإن نساء بني إسرائيل من بنات آدم فيكون قوله:"على بنات آدم" عامًّا أريد به الخصوص، قاله الداوديّ.
وقال الحافظ: ويمكن الجمع مع القول بالتعميم بأن الذي أُلقيَ على نساء بني إسرائيل طول مكثه بهن عقوبةً لهن، لا ابتداء وجوده.
وقد روى ابن جرير وغيره، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى في قصة إبراهيم:{وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} [هود: 71]؛ أي: حاضت، والقصة متقدمة على بني إسرائيل بلا ريب.
(1)
"عمدة القاري" 3/ 257.
(2)
"عمدة القاري" 3/ 257.
وروى ابن المنذر والحاكم بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن ابتداء الحيض كان على حواء بعد أن أهبطت من الجنة. انتهى
(1)
.
وقوله: (فَاقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ) أي: افعلي ما يفعل من أحرم بالحج.
وقال في "العمدة": قوله: "فاقضي" خطاب لعائشة رضي الله عنهما، فلذلك لم تسقط الياء، ومعناه: فأدّي؛ لأن القضاء يأتي بمعنى الأداء، كما في قوله تعالى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} [الجمعة: 10]؛ أي: إذا أُدِّيت صلاة الجمعة.
وقوله: (مَا يَقْضِي الْحَاجُّ) قال الكرماني: المراد من الحاجّ الجنس، فيشمل الجمع، فهو كقوله تعالى:{سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 67]
(2)
.
وقوله: (غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفي بِالْبَيْتِ) بنصب "غيرَ" على الاستثناء، و"أن" يجوز أن تكون مخففة من الثقيلة، وفيه ضمير الشأن، و"تطوفي" مجزوم بـ "لا" الناهية، والمعنى: لا تطوفي ما دُمت حائضًا، ويجوز أن تكون ناصبة و"لا" زائدة، والفعل منصوب بأن، مؤول بالمصدر؛ أي: غير طوافك.
وقال السنديّ عز وجل في "شرح النسائيّ": كلمة "لا" زائدة، إذ المقصودُ إخراج الطواف عما يقضي الحاجّ، لا إخراج عدم الطواف، ويمكن إبقاء "لا" على معناها، على أنه استثناء مما يفهم من الكلام السابق؛ أي: فلا فرق بينك وبين الحاجّ غير أن لا تطوفي.
ثم المراد غير الطواف وما يتبعه من السعي؛ لأنه "حج" لا يجوز تقديم السعي على الطواف، ولكونه تابعًا لم يذكره. اهـ كلام السنديّ.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في قوله: "لا يجوز تقديم
…
" إلخ، نظر؛ لأن الراجح أنه يجوز تقديمه عليه؛ لما رواه أبو داود بإسناد صحيح عن أسامة بن شريك رضي الله عنه، قال: خرجت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم حاجًّا فكان الناس يأتونه، فمن قائل له: يا رسول الله سعيت قبل أن أطوف، أو قدّمت شيئًا، أو أخرت شيئًا، فكان يقول: "لا حرج، لا حرج
…
" الحديث.
وقولها: (وَضَحَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: ذبح أضحية قال في "المصباح":
(1)
راجع: "الفتح" 1/ 477.
(2)
"عمدة القاري" 3/ 257.
ضَحَّى تضحيةً: إذا ذبح الأضحية وقت الضحى، هذا أصله، ثم كثر حتى قيل: ضحّى في أي وقت كان من أيام التشريق، ويتعدى بالحرف فيقال: ضحيت بشاة. انتهى.
(عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ) فيه جواز تضحية الرجل عن امرأته، وقال النوويّ عز وجل: هذا محمول على أنه صلى الله عليه وسلم استأذنهن في ذلك، فإن تضحية الإنسان عن غيره لا يجوز إلا بإذنه، قال العينيّ عز وجل: هذا في الواجب، وأما في التطوع فلا يحتاج إلى الإذن.
قال الجامع عفا الله عنه: فيما قالاه نظر لا يخفى؛ لأن ظاهر الحديث يدل على الجواز مطلقًا، وأين الدليل على وجوب الاستئذان؟ ولقد أجاد الإمام البخاريّ عز وجل حيث ترجم في "صحيحه" بقوله:"باب ذبح الرجل البقر عن نسائه من غير أمرهنّ"، ثم أورد هذا الحديث حجة على ذلك، وهذا هو الحقّ، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
واستدل مالك رحمه الله به على أن التضحية بالبقرة أفضل من البَدَنَة، ولكن الاستدلال غير واضح، وذهب الأكثرون منهم الشافعي إلى أن التضحية بالبدنة أفضل من البقرة؛ لتقديم البدنة على البقرة في حديث ساعة الجمعة
(1)
.
والحديث متفقٌ عليه، وقد تقدّم تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2919]
(
…
) - (حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ أَبُو أَيُّوبَ الْغَيْلَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِم، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَا نَذْكُرُ إِلَّا الْحَجَّ، حَتَّى جِئْنَا سَرِفَ، فَطَمَثْتُ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأنا أَبْكِي، فَقَالَ:"مَا يُبْكِيكِ؟ " فَقُلْتُ: وَاللهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ
(1)
راجع: "عمدة القاري" 3/ 257.
خَرَجْتُ الْعَامَ، قَالَ:"مَا لَكِ؟ لَعَلَّكِ نَفِسْتِ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ:"هَذَا شَيْءٌ كَتَبَهُ اللهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي"، قَالَتْ: فَلَمَّا قَدِمْتُ مَكَّةَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ:"اجْعَلُوهَا عُمْرَةً"، فَأَحَلَّ النَّاسُ إِلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ، قَالَتْ: فَكَانَ الْهَدْيُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَذَوِي الْيَسَارَة، ثُمَّ أَهَلُّوا حِينَ رَاحُوا، قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ طَهَرْتُ، فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَفَضْتُ، قَالَتْ: فَأُتِيَنَا بِلَحْم بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: أَهْدَى رَسُولُ اللهِ عَنْ نِسَائِهِ الْبَقَرَ، فَلَمَّا كَانَتْ ليْلَةُ الْحَصْبَةِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، يَرْجِعُ النَّاسُ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَأرْجِعُ بِحَجَّةٍ، قَالَتْ: فَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَرْدَفَنِي عَلَى جَمَلِه، قَالَتْ: فَإِنِّي لأَذْكُرُ، وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ أَنْعَسُ، فَيُصِيبُ وَجْهِي مُؤْخِرَةَ الرَّحْل، حَتَّى جِئْنَا إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَهْلَلْتُ مِنْهَا بِعُمْرَةٍ، جَزَاءً بِعُمْرَةِ النَّاسِ الَّتي اعْتَمَرُوا
(1)
".
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ أَبُو أَيُّوبَ الْغَيْلَانِيُّ) تقدّم قبل باب.
2 -
(أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو) الْعَقَديّ البصريّ، تقدّم أيضًا قبل باب.
3 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ) هو: عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون - بكسر الجيم، بعدها معجمة مضمومة - المدنيّ، نزيل بغداد، مولى آل الْهُدَير، ثقةٌ فقيهٌ مصنّف [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 437.
والباقون ذُكروا قبله.
وقولها: (فَطَمَثْتُ) - بفتح الطاء المهملة، والميم، وتكسر، قال الفيّوميّ عز وجل: طَمَثَت المرأة طَمْثًا، من باب ضَرَبَ: إذا حاضت، وبعضهم يزيد أول ما تحيض، فهي طامثٌ، بغير هاء، وطَمِثَتْ تَطْمَثُ، من باب تَعِبَ لغةٌ. انتهى
(2)
.
(1)
وفي نسخة: "التي اعتمروها".
(2)
"المصباح المنير" 2/ 377 - 378.
وقال النوويّ عز وجل: قولها: "فَطَمِثْتُ" بفتح الطاء، وكسر الميم؛ أي: حضت، يقال: حاضت المرأة تحيضت، وطَمَثت، وعَرَكَت بفتح الراء، ونَفِست، وضَحِكَت، وأعصرت، وأكبرت، كله بمعنى واحد، والاسم منه الحيض، والطمثُ، والعِرَاك، والضحك، والإكبار، والإعصار، وهي حائض، وحائضة في لغة غريبة، حكاها الفراء، وطامث، وعارك، ومُكْبِر، ومُعْصِرٌ. انتهى
(1)
.
وقولها: (وَاللهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ خَرَجْتُ الْعَامَ) هذا قالته ظنًّا منها أن الحيض يمنع من الحج، فأعلمها النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه لا يمنع إلا الطواف بالبيت حتى تطهر.
وقوله: (اجْعَلُوهَا عُمْرَةً) أي: أحلّوا من إحرام الحجّ بأفعال العمرة، وافسخوه إليها.
وقولها: (وَذَوِي الْيَسَارَةِ) أي: أصحاب غنى.
وقولها: (ثُمَّ أَهَلُّوا حِينَ رَاحُوا) تعني الذين تحلّلوا بعمرة، وأهلّوا بالحجّ حين راحوا إلى منى، وذلك يوم التروية، وهو الثامن من ذي الحجة، وفيه دلالة لمذهب الشافعي، وموافقيه أن الأفضل من كان في مكة أن يُحرم بالحجّ يوم التروية، ولا يُقدّمه عليه، وقد سبقت المسألة مستوفاةً.
وقولها: (فَأَفَضْتُ) أي: طُفت طواف الإفاضة، يقال: أفاض الناس من عرفات: دفعوا منها، وكلّ دَفْعة إفاضةٌ، وأفاضوا من منى إلى مكة يوم النحر: رجعوا إليها، ومنه طواف الإفاضة؛ أي: طواف الرجوع من منًى إلى مكة، قاله في "المصباح"
(2)
.
وقولها: (فَأُتِينَا بِلَحْمِ بَقَرٍ) ببناء الفعل للمفعول.
وقولها: (أَنْعَسُ) بضم العين، قال الفيّوميّ عز وجل: نَعَسَ يَنْعُسُ، من باب قتل، والاسم النُّعَاس، فهو ناعس، والجمع نُعَّسٌ، مثل راكع ورُكَّع، والمرأة ناعسة، والجمع نَوَاعس، وربما قيل: نَعْسان، ونَعْسَى حَمَلوه على وَسْنَان ووَسْنَى، وأول النوم النُّعَاس، وهو أن يحتاج الإنسان إلى النوم، ثم الْوَسَنُ،
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 147 - 148.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 485.
وهو ثِقَل النعاس، ثم التَّرْنيق، وهو مخالطة النعاس للعين، ثم الْكَرَى، والْغَمْضُ، وهو أن يكون الإنسان بين النائم واليقظان، ثم الْعَفْقُ، وهو النوم، وأنت تسمع كلام القوم، ثم الْهُجُود، والْهُجُوعُ، ورُوي أن أهل الجنة لا ينامون؛ لأن النوم موت أصغر، قال الله تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42]، وكثيرًا ما يُحْمَل الشيء على نظيره، قال الفراء: وأحسن ما يكون ذلك في الشعر، قال الأزهريّ حقيقةُ النُّعاس: الْوَسَنُ من غير نوم. انتهى
(1)
.
وقولها: (مُؤْخِرَةَ الرَّحْلِ) بضم الميم، وسكون الهمزة، وفتح الخاء، وكسرها، وبفتح الهمزة، وتشديد الخاء مفتوحة، ومكسورةً، قال في "القاموس": آخرةُ الرَّحْل: خلاف قادمته، كآخِرِه، ومُؤَخَّرِه، ومُؤَخَّرَته، وتكسر خاؤهما، مخفّفةً ومُشدّدةً. انتهى
(2)
.
وقال في "المصباح": آخرة الرَّحْلِ والسَّرْجِ بالمدّ: الخشبةُ التي يستند إليها الراكب، والجمع: الأواخر، وهذه أفصح اللغات، ويقال: مُؤْخِرَةٌ بضمّ الميم، وسكون الهمزة، ومنهم من يُثَقِّل الخاء، ومنهم من يَعُدُّ هذه لحنًا. انتهى
(3)
.
وقولها: (جَزَاءً بِعُمْرَةِ النَّاسِ الَّتي اعْتَمَرُوا) وفي نسخة: "التي اعتمروها"، والمعنى أنها تقوم مقام عمرة الناس التي اعتمروها مفردةً، وتكفيني عنها.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2925]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ الْغَيْلَانِيُّ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَبَّيْنَا بِالْحَجِّ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِسَرِفَ حِضْتُ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَبْكِي، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ
(1)
"المصباح المنير" 2/ 613.
(2)
"القاموس المحيط" 1/ 363.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 7.
حَدِيثِ الْمَاجِشُون، غَيْرَ أَن حَمَّادًا لَيْسَ فِي حَدِيثِهِ: فَكَانَ الْهَدْيُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَذَوِي الْيَسَارَة، ثُمَّ أَهَلُّوا حِينَ رَاحُوا، وَلَا قَوْلُهَا: وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ أنعَسُ، فَيُصِيبُ وَجْهِي مُؤْخِرَةَ الرَّحْلِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(بَهْزُ) بن أسد الْعَمّيُّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9] مات بعد المائتين أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.
2 -
(حَمَّادُ) بن سلمة بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، تغيّر في الآخر، من كبار [8](ت 167)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
والباقون ذُكروا قبله، و"أبو أيوب الغيلانيّ" هو: سليمان بن عُبيد الله، و"عبد الرحمن" هو: ابن القاسم بن محمد.
وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِ الْمَاجِشُونِ) فاعل "ساق" ضمير حمّاد بن سلمة، و"الماجشون" هو: عبد العزيز بن عبد الله بن الماجشون المذكور في السند الماضي.
[تنبيه]: رواية حمّاد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم هذه ساقها أبو داود في "سننه"، فقال:
(1518)
- حدّثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل، حدّثنا حماد، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: لبّينا بالحجّ حتى إذا كنا بِسَرِفَ حضتُ، فدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أبكي، فقال:"ما يبكيك يا عائشة؟ " فقلت: حضت، ليتني لم أكن حججت، فقال:"سبحان الله، إنما ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم"، فقال:"انسكي المناسك كلها، غير أن لا تطوفي بالبيت"، فلما دخلنا مكة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من شاء أن يجعلها عمرة فليجعلها عمرة، إلا من كان معه الهدي"، قالت: وذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه البقر يوم النحر، فلما كانت ليلة البطحاء، وطهرت عائشة، قالت: يا رسول الله أترجع صواحبي بحج وعمرة، وأرجع أنا بالحج؟ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن أبي بكر، فذهب بها إلى التنعيم، فلبّت بالعمرة. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2921]
(
…
) - (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، حَدَّثَنِي خَالِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ (ح) وَحَدَّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِم، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَفْرَدَ الْحَجَّ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ) هو: إسماعيل بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحيّ، أبو عبد الله بن أبي أويس ابن أخت مالك، ونسيبه المدنيّ، صدوق، أخطأ في أحاديث من حفظه [10].
رَوَى عن أبيه، وأخيه أبي بكر، وخاله فأكثر، وعن سلمة بن وردان، وابن أبي الزناد، وعبد العزيز الماجشون، وسليمان بن بلال، وغيرهم.
وروى عنه البخاريّ، ومسلم، وهما الباقون بواسطة إبراهيم بن سعيد الجوهريّ، وأحمد بن صالح المصريّ، والحسن غير منسوب، وأبي خيثمة، والدارميّ، وأحمد بن يوسف السلميّ، وجعفر بن مسافر، والذهليّ، وغيرهم.
قال أبو طالب عن أحمد: لا بأس به، وكذا قال عثمان الدارميّ عن ابن معين، وقال ابن أبي خيثمة عنه: صدوق ضعيف العقل، ليس بذاك، يعني أنه لا يحسن الحديث، ولا يعرف أن يؤديه، أو يقرأ من غير كتابه، وقال معاوية بن صالح عنه: هو وأبوه ضعيفان، وقال عبد الوهاب بن عصمة عن أحمد بن أبي يحيى، عن ابن معين: ابنُ أبي أويس، وأبوه يسرقان الحديث، وقال إبراهيم بن الجنيد عن يحيى: مخلط يكذب، ليس بشيء، وقال أبو حاتم: محله الصدق، وكان مغفلًا، وقال النسائيّ: ضعيف، وقال في موضع آخر: غير ثقة، وقال اللالكائيّ: بالغ النسائي في الكلام عليه إلى أن يؤدي إلى تركه، ولعله بأن له ما لم يبن لغيره؛ لأن كلام هؤلاء كلهم يؤول إلى أنه ضعيف، وقال ابن عديّ: روى عن خاله أحاديث غرائب، لا يتابعه عليها أحد، وعن سليمان بن بلال وغيرهما من شيوخه، وقد حدّث عنه الناس، وأثنى عليه ابن معين، وأحمد، والبخاري يحدّث عنه الكثير، وهو خير من أبيه أبي أويس.
وقال الدُّولابيّ في "الضعفاء": سمعت النضر بن سلمة المروزيّ يقول: ابن أبي أويس كذّاب، كان يحدث عن مالك بمسائل ابن وهب، وقال العقيليّ في "الضعفاء": ثنا أسامة الدقّاق بصريّ: سمعت يحيى بن معين يقول: ابن أبي أويس يَسْوَى
(1)
فلسين، وقال الدارقطنيّ: لا أختاره في الصحيح، ونقل الخليليّ في "الإرشاد" أن أبا حاتم قال: كان ثبتًا في حاله، وفي "الكمال": أن أبا حاتم قال: كان من الثقات، وحكى ابن أبي خيثمة عن عبد الله بن عبيد الله العباسيّ صاحب اليمن أن إسماعيل ارتَشَى من تاجر عشرين دينارًا حتى باع له على الأمير ثوبًا يساوي خمسين بمائة، وذكره الإسماعيليّ في "المدخل"، فقال: كان ينسب في الخفّة والطيش إلى ما أكره ذكره، قال: وقال بعضهم: جانبناه للسنة، وقال ابن حزم في "المحلى": قال أبو الفتح الأزديّ: حدّثني سيف بن محمد، أن ابن أبي أويس كان يضع الحديث، وقرأت على عبد الله بن عمر، عن أبي بكر بن محمد أن عبد الرحمن بن مكيّ أخبرهم كتابةً: أنا الحافظ أبو طاهر السلفيّ، أنا أبو غالب محمد بن الحسن بن أحمد الباقلانيّ، أنا الحافظ أبو بكر أحمد بن محمد بن غالب الْبَرْقانيّ، ثنا أبو الحسن الدارقطنيّ، قال: ذكر محمد بن موسى الهاشميّ، وهو أحد الأئمة، وكان النسائيّ يخصه بما لم يخصّ به ولده، فذكر عن أبي عبد الرحمن، قال: حَكَى لي سلمة بن شبيب، قال: بم توقف أبو عبد الرحمن؛ قال: فما زلت بعد ذلك أداريه أن يحكي لي الحكاية حتى قال: قال لي سلمة بن شبيب: سمعت إسماعيل بن أبي أويس يقول: ربما كنت أضع الحديث لأهل المدينة إذا اختلفوا في شيء فيما بينهم، قال الْبَرْقانيّ: قلت للدارقطنيّ: مَن حَكَى لك هذا، عن محمد بن موسى؟ قال: الوزير، كتبتها من كتابه، وقرأتها عليه، يعني بالوزير الحافظ الجليل جعفر بن خزابة.
قال الحافظ: وهذا هو الذي بأن للنسائي منه حتى تجنب حديثه، وأطلق القول فيه بأنه ليس بثقة، ولعل هذا كان من إسماعيل في شبيبته، ثم انصلح، وأما الشيخان فلا يُظَنّ بهما أنهما أخرجا عنه إلا الصحيح من حديثه الذي
(1)
كيَرْضى، قاله في "القاموس".
شارك فيه الثقات، وقد أوضحت ذلك في مقدمة شرحي على البخاريّ. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: عجيب من مثل الحافظ رحمه الله أن يحكي هذه الحكاية، ثم لا يعترض عليها، ثم يُجيب عما أخرجه الشيخان عن إسماعيل، إن هذا لهو العجب العُجاب، فكيف يسوغ أن نقول إنهما يُخرجان لشخص وضّاع ما وافق فيه الثقات، فأيّ فرق بين إسماعيل إذا ثبت كونه وضّاعًا، وبين غيره من الوضّاعين الذين لا يتعرّض الشيخان إلى إخراج شيء لهم، ولو وافق ثقات الدنيا كلّهم؟ فهل يُخرج البخاريّ في "صحيحه" لإسماعيل بن أبي أويس نحو (229) حديثًا، ومسلم سبعة أحاديث، وهو وضّاع، هيهات هيهات!!!
والحاصل أن عندي في صحّة هذه الحكاية وقفة، وإن ذكرها الحافظ، وقبله الذهبيّ، والحقّ ما قاله الذهبيّ رحمه الله بعد ذكر الأقوال السابقة: قلت: الرجل قد وَثَبَ إلى ذاك الْبَرّ، واعتمده صاحبا "الصحيحين"، ولا ريب أنه صاحب أفراد ومناكير تَنغَمِر في سعة ما روى، فإنه من أوعية العلم، وهو أقوى من عبد الله كاتب الليث.
وقال أيضًا: وكان عالم أهل المدينة، ومحدّثهم في زمانه على نقص في حفظه وإتقانه، ولولا أن الشيخين احتجّا به لزُحزح حديثه عن درجة الصحيح إلى درجة الحسن، هذا الذي عندي فيه. انتهى كلام الذهبيّ رحمه الله
(1)
، وهو كلام نفيسٌ وبحث أنيسٌ جدًّا، فتمسّك به، والله تعالى أعلم.
قال ابن عساكر: مات سنة ست، ويقال: سنة سبع وعشرين ومائتين في رجب، وجزم ابن حبان في "الثقات" أنه مات سنة ست.
روى عنه البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط برقم (1211) و (1497) و (1557) و (1650) و (1927) و (2094) و (2417).
والباقون ذُكروا في الباب.
وقولها: (أفرَدَ الْحَجَّ) أي: أحرم بالحجّ وحده. واحتجّ به من قال: كان حجه صلى الله عليه وسلم مفردًا، وهم عامّة الشافعيّة والمالكيّة، وحمله المحقّقون منهم
(1)
"سير أعلام النبلاء" 10/ 391 - 395.
كالقاضي عياض، والنوويّ، والحافظ، وغيرهم على أن فيه بيان ابتداء الحال، ثم صار قارنًا، فإنه لا يلزم من إهلاله بالحجّ أن لا يكون أدخل عليه العمرة، وحمله الحنفية، والحنابلة القائلون بكونه صلى الله عليه وسلم قارنًا ابتداء على أن عائشة رضي الله عنها سمعت تلبيته بالحجّ فقط، وللقارن أن يُلبّي بأيهما شاء، فيقول تارةً: لبيك بحجة، وتارة لبيك بعمرة، وتارة لبيك بحجة وعمرة، فحكت عائشة ما سمعت، فلا يخالف قولُها من حكى أنه لبّى بهما جميعًا، وكان قارنًا من الابتداء، وقد تقدّم بيان اختلاف العلماء في صفة إحرامه صلى الله عليه وسلم، وأن الأرجح أنه كان لبى بالحجّ، ثم أدخل عليه العمرة، فصار قارنًا، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: معنى إفراد الحجّ: هو الإهلال بالحجّ وحده في أشهره عند الجميع، وفي غير أشهره أيضًا عند مجيزيه، والاعتمار بعد الفراغ من الحجّ من شاء، قاله في "الفتح".
ومعنى قوله: "عند مجيزيه" أن الإحرام بالحجّ قبل أشهره مختلف فيه، قال ابن قُدامة رحمه الله: لا ينبغي أن يحرم بالحجّ قبل أشهره، هذا هو الأولى، فإن الإحرام بالحجّ قبل أشهره مكروه؛ لكونه إحرامًا به قبل وقته، فأشبه الإحرام به قبل ميقاته؛ ولأن في صحته اختلافًا، فإن أحرم به قبل أشهره صحّ، وإذا بقي على إحرامه إلى وقت الحجّ جاز، نصّ عليه أحمد، وهو قول مالك، والثوريّ، وأبي حنيفة، وإسحاق، وقال عطاء، وطاوس، ومجاهد، والشافعيّ: يجعله عمرة؛ لقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] تقديره: وقت الحجّ أشهر، أو أشهر الحجّ أشهر معلومات، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، ومتى ثبت أنه وقته لم يجز تقديم إحرامه عليه، كأوقات الصلوات.
قال: ولنا قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] فدلّ على أن جميع الأشهر ميقات. انتهى كلام ابن قدامة.
وتعقّبه بعضهم: بأنه لو صحّ ذلك لجاز صيام رمضان في شهر آخر، فإن قوله تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} لا يختلف عن تعيين شهر رمضان باسمه، فإن قوله:{مَعْلُومَاتٌ} كتسميتها سواء. انتهى
(1)
.
(1)
راجع: "المرعاة" 8/ 458.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه القائلون بعدم جواز تقديم إحرام الحجّ عن أشهره هو الصواب عندي؛ لصريح قوله تعالى: {أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} فقد عيّنها وبيّن أن الحجّ يقع فيها، لا في غيرها من الأشهر، ولا تخالف بين هذه الآية، وآية {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] فإن هذه محمولة على الأولى، فالمراد بالأهلة التي هي مواقيت للحجّ أهلّة أشهر الحجّ، لا مطلق الأهلّة، بدليل تعيين وقت أداء الحجّ، فإنه لا يجوز إيقاع الحجّ في رمضان مثلًا، بالإجماع، والإحرام جزء منه، فلا يجوز تقديم جزئه، كما لا يجوز تقديم كلّه، وهذا واضح لا خفاء فيه، والله تعالى أعلم بالصواب.
[تنبيه آخر]: [اعلم]: أن الحجّ على ثلاثة أنواع: إفراد، وتمتّع، وقران، ويخيّر مريد الإحرام بين هذه الأنواع الثلاثة.
قال العلامة ابن قُدامة رحمه الله: إن الإحرام يقع بالنسك من وجوه ثلاثة: تمتع، وإفراد، وقران، وأجمع أهل العلم على جواز الإحرام بأيّ الأنساك الثلاثة شاء، وكذا حكى النوويّ رحمه الله في "شرح المهذّب"، و"شرح مسلم" الإجماع على جواز الأنواع الثلاثة، وتأول ما ورد من النهي عن التمتّع عن بعض الصحابة.
وقال الحافظ وليّ الدين العراقيّ رحمه الله في "طرح التثريب": أجمعت الأمة على جواز تأدية نسكي الحجّ والعمرة بكل من هذه الأنواع الثلاثة: الإفراد، والتمتّع، والقران. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: لا شكّ أن أنواع النسك هي الثلاثة المذكورة، فبأيها أدّى المسلم، فقد فعل ما أمر به، وتمّ نسكه، إلا أن من أتى محرمًا بالحجّ، أو قارنًا ولم يسق الهدي لزمه أن يتحلّل بأفعال العمرة، ثم يُحرم بالحجّ، كما فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو المذهب الحقّ، على ما سيأتي تحقيقه، ونستوفي بحثه قريبًا - إن شاء الله تعالى -.
والحديث بهذا اللفظ من أفراد المصنّف رحمه الله، أخرجه هنا [17/ 2921](1211)، وأخرجه أيضًا (أبو داود) في "المناسك"(1777)، و (الترمذيّ) في
"الحجّ"(820)، و (النسائيّ) في "المناسك"(5/ 145) و"الكبرى"(2/ 343)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(2694)، و (مالك) في "الموطّإ"(1/ 335)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 376)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 243)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 35)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(9/ 243)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 333)، و (البزّار) في "مسنده"(9/ 264)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(7/ 324 و 325)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 306)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 238)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 3)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1873)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2922]
(
…
) - (وَحَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أفلَحَ بْنِ حُمَيْدٍ، عَن الْقَاسِم، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ، فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَفِي حُرُمِ الْحَجِّ، وَلَيَالِي الْحَجِّ، حَتى نَزَلْنَا بِسَرِفَ، فَخَرَجَ إِلَى أَصْحَابِه، فَقَالَ:"مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مِنْكُمْ هَدْيٌ، فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلَا"، فَمِنْهُم الْآخِذُ بِهَا، وَالتَّارِكُ لَهَا، مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَديٌ، فَأَمَّا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ، وَمَعَ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِهِ لَهُمْ قُوَّةٌ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأنَا أَبْكِي، فَقَالَ:"مَا يُبْكِيكِ؟ " قُلْتُ: سَمِعْتُ كَلَامَكَ مَعَ أَصْحَابِكَ، فَسَمِعْتُ بِالْعُمْرَة، قَالَ:"وَمَا لَكِ؟ " قُلْتُ: لَا أُصَلِّي، قَالَ:"فَلَا يَضُرُّك، فَكُونِي فِي حَجِّك، فَعَسَى اللهُ أَنْ يَرْزُقَكِيهَا، وَإِنَّمَا أَنْتِ مِنْ بَنَاتِ آدَمَ، كَتَبَ اللهُ عَلَيْكِ مَا كَتَبَ عَلَيْهِنَّ"، قَالَتْ: فَخَرَجْتُ فِي حَجَّتِي، حَتَّى نَزَلْنَا مِنًى، فَتَطَهَّرْتُ، ثُمَّ طُفْنَا بِالْبَيْت، وَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمُحَصَّبَ، فَدَعَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ:"اخْرُجْ بِأُخْتِكَ مِنَ الْحَرَم، فَلْتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ لِتَطُفْ بِالْبَيْت، فَإِنِّي أَنْتَظِرُكُمَا هَا هُنَا"، قَالَتْ: فَخَرَجْنَا، فَأَهْلَلْتُ، ثُمَّ طُفْتُ بِالْبَيْت، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَة، فَجِئْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ
فِي مَنْزِلِهِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْل، فَقَالَ:"هَلْ فَرَغْتِ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ، فَأَذَنَ
(1)
فِي أَصْحَابِهِ بِالرَّحِيل، فَخَرَجَ، فَمَرَّ بِالْبَيْت، فَطَافَ بِهِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْح، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَدِينَةِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) تقدّم قريبًا.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ) أبو يحيى الرازيّ، كوفيّ الأصل، ثقةٌ فاضلٌ [9](ت 200) أو قبلها (ع) تقدم في "الزكاة" 43/ 2429.
3 -
(أفلَحُ بْنُ حُمَيْدِ) بن نافع الأنصاريّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ، يقال له: ابن صُفَيراء، ثقةٌ [7](ت 158) أو بعدها (خ م د س ق) تقدم في "الحيض" 9/ 737.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقولها: (فَخَرَجَ إِلَى أَصْحَابِه، فَقَالَ: "مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مِنْكُمْ هَدْيٌ) ظاهره أن أمره صلى الله عليه وسلم لأصحابه بفسخ الحج إلى العمرة كان بسرف قبل دخولهم مكة، والمعروف في غير هذه الرواية أن قوله لهم ذلك بعد دخول مكة، ويَحْتَمِل التعدد، قاله في "الفتح"
(2)
.
وقولها: (وَفِي حُرُمِ الْحَجِّ) - بضم الحاء المهملة والراء -؛ أي: أزمنته، وأمكنته، وحالاته، ورُوي بفتح الراء، وهو جمع حُرْمة؛ أي: ممنوعات الحج
(3)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قولها: "حُرُم الحج" هو بضم الحاء والراء، كذا ضبطناه، وكذا نقله القاضي عياض في "المشارق" عن جمهور الرواة، قال: وضبطه الأصيليّ بفتح الراء، قال: فعلى الضم كأنها تريد الأوقات، والمواضع، والأشياء، والحالات، وأما بالفتح فجمع حُرْمة؛ أي: ممنوعات الشرع ومحرَّماته، وكذلك قيل للمرأة المحرَّمة بنسب: حُرْمة، وجمعها حُرَم.
وأما قولها: "في أشهر الحج"، فاختَلَف العلماء في المراد بأشهر الحجّ
(1)
وفي نسخة: "فأَذّن".
(2)
"الفتح" 5/ 29.
(3)
"الفتح" 4/ 454.
في قول الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} ، فقال الشافعيّ، وجماهير العلماء، من الصحابة والتابعين، فمن بعدهم: هي شوّالٌ، وذو القعدة، وعشر ليال من ذي الحجة، تَمْتَدّ إلى الفجر ليلة النحر، وروي هذا عن مالك أيضًا، والمشهور عنه شوّال، وذو القعدة، وذو الحجة بكماله، وهو مروي أيضًا عن ابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم، والمشهور عنهما ما قدمناه عن الجمهور. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن ما ذهب إليه مالك رحمه الله هو الأقرب لظاهر النصّ، حيث قال:{أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} بصيغة الجمع، فتأمل، والله تعالى أعلم.
وقولها: (فَمِنْهُمُ الْآخِذُ بهَا، وَالتَّارِكُ لَهَا، مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَديٌ) قال النوويّ رحمه الله: وفي الحديث الآخر بعد هذا أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أَوَ ما شَعَرت أني أمرت الناس بأمر، فإذا هم يترددون"، وفي حديث جابر:"فأمرنا أن نَحِلّ"، يعني بعمرة، وقال في آخره:"قال: فَحِلُّوا، قال: فحللنا، وسمعنا، وأطعنا"، وفي الرواية الأخرى:"أَحِلُّوا من إحرامكم، فطوفوا بالبيت، وبين الصفا والمروة، وقَصِّروا، وأقيموا حلالًا، حتى إذا كان يوم التروية فأهلّوا بالحجّ، واجعلوا الذي قَدِمتم بها مُتْعَةً، قالوا: كيف نجعلها متعة، وقد سمّينا الحجّ؟ قال: افعلوا ما آمركم به".
هذه الروايات صحيحةٌ في أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة أمرَ عزيمةٍ وتحتمٍ، بخلاف الرواية الأولى، وهي قوله صلى الله عليه وسلم:"من لم يكن معه هديٌ، فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل".
قال العلماء: خَيَّرهم أوّلًا بين الفسخ وعدمه ملاطفة لهم، وإيناسًا بالعمرة في أشهر الحجّ؛ لأنهم كانوا يرونها من أفجر الفجور، ثم حَتَمَ عليهم بعد ذلك الفسخَ، وأمرهم به أمرَ عزيمةٍ، وألزمهم إياه، وكَرِهَ ترَدُّدهم في قبول ذلك، ثم قَبِلوه، وفعلوه إلا من كان معه هدي، والله أعلم. انتهى.
وقولها: (سَمِعْتُ كَلَامَكَ مَعَ أَصْحَابِكَ، فَسَمِعْتُ بِالْعُمْرَةِ) كذا هو في
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 148 - 149.
النسخ: "فسَمِعتُ بالعمرة"، قال القاضي عياض: كذا رواه جمهور رواة مسلم، ورواه بعضهم:"فمُنِعتُ العمرةَ"، وهو الصواب. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: كذا نقل النوويّ كلام القاضي عياض، وأقرّه عليه، وعندي أن ما في النسخة الأولى صحيح أيضًا، ووجهه أن قولها:"فسمعت بالعمرة" أي: سمعتك تأمر أصحابك بعمل العمرة، والتحلّل بعدها، ولكني لا أستطيع ذلك؛ لما حلّ بي من الحيض، والله تعالى أعلم.
وقولها: (فَقَالَ: "مَا يُبْكِيكِ؟ ") زاد في رواية البخاريّ: "يَا هَنْتَاهْ" - بفتح الهاء والنون، وقد تسكن النون، بعدها مثناة، وآخرها هاء ساكنة: كناية عن شيء، لا يذكره باسمه، تقول في الثداء للمذكر: يا هَنُ، وقد تزاد الهاء في آخره للسكت، فتقول: يا هنهْ، وتشبع الحركة في النون، فتقول: يا هناه، وتزاد في جميع ذلك للمؤنث مثناة، وقال بعضهم: الألف والهاء في آخره كهما في النُّدْبة، قاله في "الفتح"
(2)
.
وقولها: (لَا أُصَلِّي) كناية عن أنها حاضت، وهي من لطيف الكنايات، قال ابن الْمُنَيِّر: كَنَتْ عن الحيض بالحكم الخاصّ به؛ أدبًا منها، وقد ظهر أثر ذلك في بناهها المؤمنات، فكلهنّ يَكْنين عن الحيض بحرمان الصلاة، أو غير ذلك. انتهى
(3)
.
وقال النوويّ رحمه الله: فيه استحباب الكناية عن الحيض ونحوه، مما يُستحى منه، ويُستشنع لفظه، إلا إذا كانت حاجة، كإزالة وهم، ونحو ذلك. انتهى
(4)
.
قَوله: (فَلَا يَضُرُّكِ) وعند البخاريّ في رواية الكشميهنيّ: "فلا يَضِيرك" بكسر الضاد، وتخفيف التحتانية، من الضير، وهو الضرر.
وقوله: (فَكُوني فِي حَجِّكِ) فيه أنه صلى الله عليه وسلم أمرها أن تهلّ بالحجّ، وتدخله على عمرتها التي ما تمكّنت من الفراغ منها بسبب حيضها، فتكون قارنة.
وقوله: (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَرْزُقَكِيهَا) أي: العمرة المفردة، وقد تحقّق ذلك
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 150.
(2)
"الفتح" 4/ 454.
(3)
"الفتح" 4/ 454.
(4)
"شرح النوويّ" 8/ 151.
حيث أمر أخاها أن يُعمرها من التنعيم، فحصل لها ما ترجّاه صلى الله عليه وسلم لها، ولله الحمد والمنّة.
وقولها: (الْمُحَصَّبَ) بصيغة اسم المفعول المضعّف، من التحصيب، وهو موضع بمكة على طريق منًى، ويسمّى البطحاء، والمحصّب أيضًا: مَرْمَى الجمار بمنى، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
وقوله: (اخْرُجْ بِأُخْتِكَ مِن الْحَرَمِ) قال النوويّ رحمه الله: فيه دليل لما قاله العلماء: إن من كان بمكة وأراد العمرة فميقاته لها أدنى الحلّ، ولا يجوز أن يحرم بها من الحرم، فإن خالف وأحرم بها من الحرم، وخرج إلى الحلّ قبل الطواف أجزأه، ولا دم عليه، وإن لم يخرج وطاف وسعى وحلق ففيه قولان:
أحدهما: لا تصحّ عمرته حتى يخرج إلى الحلّ، ثم يطوف، ويسعى ويحلق.
والثاني: وهو الأصح: يصحّ، وعليه دم لتركه الميقات.
قال العلماء: وإنما وجب الخروج إلى الحل؛ ليجمع في نسكه بين الحلّ والحرم، كما أن الحاجّ يجمع بينهما، فإنه يقف بعرفات، وهي في الحلّ، ثم يدخل مكة للطواف وغيره، هذا تفصيل مذهب الشافعيّ، وهكذا قال جمهور العلماء: إنه يجب الخروج لإحرام العمرة إلى أدنى الحلّ، وانه لو أحرم بها في الحرم ولم يخرج لزمه دم.
وقال عطاء: لا شيء عليه، وقال مالك: لا يجزئه حتى يخرج إلى الحلّ، قال القاضي عياض: وقال مالك: لا بُدّ من إحرامه من التنعيم خاصّة، قالوا: وهو ميقات المعتمرين من مكة، وهذا شاذّ مردود، والذي عليه الجماهير أن جميع جهات الحلّ سواء، ولا تختص بالتنعيم. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي قول من قال: لا تجزئ العمرة إلا بالخروج إلى الحلّ هو الأظهر؛ لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "اخرُج بأختك من الحرم
…
" الحديث، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
وقوله: (أَنْتَظِرُكُمَا هَا هُنَا) يعني المحصّب.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 138.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 151 - 152.
وقولها: (مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ) أي: في جوف الليل، فـ "من" بمعنى "في"، وفي رواية الإسماعيليّ:"من آخر الليل"، وهي أوفق لبقية الروايات، وظاهرها أنها أتت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسيأتي قولها:"فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مُصعِدٌ من مكة، وأنا منهبطةٌ عليها، أو أنا مُصعِدةُ، وهو منهبط منها"، والجمع بينهما واضح، كما سيأتي - إن شاء الله تعالى -.
قال عياض: قوله في رواية القاسم، يعني هذه:"فجئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في منزله، فقال: فهل فرغتِ؟ قلت: نعم، فآذن بالرحيل"، وفي رواية الأسود، عن عائشة، يعني الآتية في هذا الباب بلفظ:"فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مُصْعِد من مكة، وأنا منهبطة، أو أنا مُصعِدةٌ وهو منهبطٌ منها"، وفي رواية صفية بنت شيبة عنها، يعني الآتية أيضًا:"فأقبلنا حتى أتيناه، وهو بالحصبة"، وهذا موافق لرواية القاسم، وهما موافقان لحديث أنس رضي الله عنه عند البخاريّ:"أنه صلى الله عليه وسلم رَقَدَ رَقْدَةً بالمحصب، ثم ركب إلى البيت، فطاف به".
قال: وفي حديث الباب من الإشكال قوله: "فمَرّ بالبيت، فطاف به"، بعد أن قال لعائشة:"أفرغتِ؟ قالت: نعم"، مع قولها في الرواية الأخرى: إنه توجه لطواف الوداع، وهي راجعة إلى المنزل الذي كان به، قال: فيَحْتَمِل أنه أعاد طواف الوداع؛ لأن منزله كان بالأبطح، وهو بأعلى مكة، وخروجه من مكة إنما كان من أسفلها، فكأنه لما توجّه طالبًا للمدينة، اجتاز بالمسجد؛ ليخرج من أسفل مكة، فكَرَّر الطواف؛ ليكون آخر عهده بالبيت. انتهى.
وتعقّبه الحافظ رحمه الله، فقال: والقاضي في هذا معذورٌ؛ لأنه لم يشاهد تلك الأماكن، فظَنّ أن الذي يقصد الخروج إلى المدينة من أسفل مكة يتحتم عليه المرور بالمسجد، وليس كذلك كما شاهده من عاينه، بل الراحل من منزله بالأبطح يمر مجتازًا من ظاهر مكة إلى حيث مقصده، من جهة المدينة، ولا يحتاج إلى المرور بالمسجد، ولا يدخل إلى البلد أصلًا.
قال عياض: وقد وقع في رواية الأصيليّ في البخاريّ: "فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن طاف بالبيت"، قال: فلم تذكر أنه أعاد الطواف، فيَحْتَمِل أن طوافه هو طواف الوداع، وأن لقاءه لعائشة رضي الله عنها كان حين انتقَلَ من المحصب، كما عند عبد الرزاق، أنه كَرِهَ أن يقتدي الناس بإناخته بالبطحاء،
فرَحَلَ حتى أناخ على ظهر العقبة، أو من ورائها ينتظرها، قال: فيَحْتَمِل أن يكون لقاؤه لها كان في هذا الرحيل، وأنه المكان الذي عنته في رواية الأسود بقوله لها:"موعدك بمكان كذا وكذا"، ثم طاف بعد ذلك طواف الوداع. انتهى.
قال الحافظ: وهذا التأويل حسنٌ، وهو يقتضي أن الرواية التي عزاها للأصيليّ مسكوت عن ذكر طواف الوداع فيها، وقد بيّنا أن الصواب فيها: فَمَرّ بالبيت، فطاف به، بدل قوله:"ومن طاف بالبيت".
قال: ثم في عزو عياض ذلك إلى الأصيليّ وحده نظرٌ، فإن كل الروايات التي وقفنا عليها في ذلك سواء، حتى رواية إبراهيم بن مَعْقِل النسفيّ، عن البخاريّ، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقوله: ("هَلْ فَرَغْتِ؟ ") أي: من أفعال العمرة.
وقولها: (فَآذَنَ) بالمدّ؛ أي: أعلم، وفي نسخة:"فأَذَّنَ" بلا مدّ، وتشديد الذال المعجمة، وهو بمعناه.
وقولها: (بِالرَّحِيلِ) - بفتح الراء، وكسر الحاء - مصدر رَحَل؛ أي: بالارتحال إلى المدينة.
وقولها: (فَخَرَجَ، فَمَرَّ بِالْبَيْت، فَطَافَ بِهِ) هذا هو طواف الوَداع بفتح الواو، وفي رواية البخاريّ:"فارتحل الناس، ومن طاف بالبيت قبل صلاة الصبح".
قال الحافظ رحمه الله: قوله: "فارتحل الناس، ومن طاف بالبيت"، هو من عطف الخاصّ على العامّ؛ لأن الناس أعمّ من الطائفين، ولعلها أرادت بالناس من لم يطف طواف الوداع، ويَحْتَمِل أن يكون الموصول صفة "الناس"، من باب تَوَسُّط العاطف بين الصفة والموصوف، كقوله تعالى:{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الأحزاب: 12] وقد أجاز سيبويه نحو مررت بزيد وصاحبِك، إذا أراد بالصاحب زيدًا المذكور.
قال: وهذا كله بناء على صحة هذا السياق، والذي يغلب عندي أنه وقع
(1)
"الفتح" 5/ 30 - 31.
فيه تحريف والصواب: فارتحل الناس، ثم طاف بالبيت إلخ، وكذا وقع عند أبي داود، من طريق أبي بكر الحنفيّ، عن أفلح، بلفظ:"فأَذَّن في أصحابه بالرحيل، فارتحل، فمرّ بالبيت قبل صلاة الصبح، فطاف به حين خرج، ثم انصرف متوجهًا إلى المدينة".
وفي رواية مسلم: "فآذن في أصحابه بالرحيل، فخرج، فمَرّ بالبيت، فطاف به قبل صلاة الصبح، ثم خرج إلى المدينة"، وقد أخرجه البخاري من هذا الوجه بلفظ:"فارتحل الناس، فمَرّ متوجهًا إلى المدينة"، أخرجه في "باب الحج أشهر معلومات".
[تنبيه]: احتجّ الإمام البخاريّ رحمه الله بهذا الحديث على أن المعتمر إذا توجه إلى بلده بعد انتهاء أفعال العمرة، يجزؤه عن طواف الوداع، ودونك نصّه:"باب المعتمرِ إذا طاف طواف العمرة، ثم خرج، هل يجزئه من طواف الوداع؟ "، ثم أورد حديث عائشة هذا، حيث قال صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه: "اخرُج بأختك من الحرم، فلتهلّ بعمرة، ثم افرُغا من طوافكما
…
" الحديث، فلما فرغا من أفعال العمرة قال: "أفرغتما؟ "، فنادى بالرحيل، ولم يأمرهما بطواف الوداع.
قال ابن بطال رحمه الله: لا خلاف بين العلماء أن المعتمر إذا طاف، فخرج إلى بلده أنه يجزئه من طواف الوداع، كما فعلت عائشة رضي الله عنها. انتهى.
قال الحافظ رحمه الله: ويستفاد من قصة عائشة رضي الله عنها أن السعي إذا وقع بعد طواف الركن، إن قلنا: إن طواف الركن يغني عن طواف الوداع أنّ تخلل السعي بين الطواف والخروج لا يقطع أجزاء الطواف المذكور عن الركن والوداع معًا. انتهى، وهو بحث مهمّ مفيدٌ جدًّا.
وحاصله أن من جعل طوافه للركن آخر العهد بالبيت، سواء كان طواف الحجّ، أو طواف العمرة، أجزأه عن طواف الوداع، ولا يضرّه تخلّل السعي بين الطواف والخروج من مكة، فتنبّه، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2923]
(
…
) - (حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا عَبَادُ بْنُ عَبَّادٍ الْمُهَلَّبِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، عَن الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا، وَمِنَّا مَنْ قَرَنَ، وَمِنَّا مَنْ تَمَتَعَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ الْمُهَلَّبِيُّ) هو: عباد بن عبّاد بن حبيب بن الْمُهَلَّب بن أبي صُفْرة الأزديّ المهلّبيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [7](ت 179) أو بعدها بسنة (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
3 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) العمريّ، تقدّم في الباب الماضي.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقولها: (فَرْدًا) بصيغة اسم الفاعل، أو المفعول، حال من الفاعل، أو من "الحجّ".
[تنبيه]: الإفراد هو الإهلال بالحجّ وحده في أشهره عند الجميع، وفي غير أشهره أيضًا عند من يجيزه، والاعتمار بعد الفراغ من أعمال الحجّ من شاء.
وأما التمتع: فالمعروف أنه الاعتمار في أشهر الحجّ، ثم التحلل من تلك العمرة، والإهلال بالحجّ في تلك السنة، قال الله تعالى:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ويُطلق التمتع في عرف السلف على القران أيضًا، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: لا خلاف بين العلماء أن التمتع المراد بقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} أنه الاعتمار في أشهر الحج قبل الحجّ، قال: ومن التمتع أيضًا القران؛ لأنه تمتع بسقوط سفر للنسك الآخر من بلده، ومن التمتع فسخ الحج أيضًا إلى العمرة. انتهى.
وأما القران: فصورته: الإهلال بالحج والعمرة معًا، وهذا لا خلاف في جوازه، أو الإهلال بالعمرة، ثم يدخل عليها الحجّ، أو عكسه، وهذا مختلف فيه، والصحيح الجواز، كما فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم.
وأما فسخ الحج: فهو الإحرام بالحجّ، ثم يتحلل منه بعمل عمرة، فيصير متمتعًا، وفي جوازه اختلاف
(1)
، والحقّ جوازه، بل وجوبه، على ما يأتي تحقيقه - إن شاء الله تعالى -.
والحديث بهذا اللفظ من أفراد المصنّف رحمه الله، أخرجه [17/ 2923](1211)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 103)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 297)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 307)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 2)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2924]
(
…
) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، عَن الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: جَاءَتْ عَائِشَةُ حَاجَّةً).
رجال هذا الإسناد: ستة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، غير محمد بن بكر، وابن جريج، فتقدّما قبل باب.
وقوله: (قَالَ: جَاءتْ عَائِشَةُ حَاجَّةً) هذا يَحْتَمِل أن يكون مرسلًا إن كان المراد مجيئها عام حجة الوداع؛ لأن القاسم لم يحضر ذلك، وهذا هو ظاهر صنيع المصنّف رحمه الله، حيث أورده في خلال أحاديث عائشة رضي الله عنها المتعلّقة بقصّة حجة الوداع، ويَحْتَمل أن يكون متّصلًا، وأراد به الإخبار عما فعلته عائشة رضي الله عنها بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو معها، والله تعالى أعلم.
والحديث من أفراد المصنف رحمه الله، أخرجه هنا [17/ 2924](1211) ولم أره لغيره بهذا اللفظ.
وأخرجه أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه"(3/ 307) بلفظ آخر، ونصّه:
(2805)
- ثنا محمد بن إبراهيم، ثنا الحسين بن محمد الحرانيّ، ثنا أبو
(1)
راجع: "الفتح" 4/ 456 - 457.
يوسف محمد بن أحمد الصيدلانيّ، حدّثنا مُطَرِّف، يعني ابن مازن، عن ابن جريج، أخبرني عبيد الله بن عمر، عن القاسم بن محمد، قال: جاءت عائشة، وهي تبكي، فقال: "ما لك تبكي
(1)
؟ "، قالت: أبكي أن الناس حَلُّوا، ولم أَحْلِلْ، وطافوا، ولم أَطُف، وهذا الحج قد حَضَرَ كما ترى، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "هذا أمر قد كتبه الله على بنات آدم
…
"، فذكره بطوله.
(2806)
- حدّثنا محمد، ثنا الحسين، ثنا الفضل بن يعقوب، ثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج، أخبره عبيد الله، أن القاسم بن محمد قال: قالت عائشة، بمثله.
ثم قال أبو نعيم رحمه الله: رواه مسلم عن عبد بن حُميد، عن محمد بن بكر. انتهى.
وصنيع أبي نعيم هذا يدلّ على أن رواية مسلم مثل روايته: "جاءت عائشة وهي تبكي
…
إلخ"، وهذا النصّ ليس في النسخ التي بين أيدينا، فليُحرّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2925]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، يَعْني ابْنَ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى، وَهُوَ ابْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، قَالَتْ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها تَقُولُ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَة، وَلَا نَرَى إِلا أَنَّهُ الْحَجُّ، حَتَّى إِذَا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ، أَمَرَ رَسُولُ اللهِ لي الله عليه وسلم - مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَديٌ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يَحِلَّ، قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: فَدُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: ذَبَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَزْوَاجِهِ. قَالَ يَحْيَى: فَذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: أَتَتْكَ وَاللهِ بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ).
(1)
كذا هو في النسخة، والظاهر أن الصواب:"ما لك تبكين؟ "؛ لأنه لا جازم حتى تحذف النون، فليُحرّر.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) البصريّ، مدنيّ الأصل، وقد سكنها مدّةً، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ، من صغار [9](ت 221)(خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 17/ 617.
2 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ المدنيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ) بن قيس الأنصاريّ المدنيّ القاضي، تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(عَمْرَةُ) بنت عبد الرحمن بن سعد الأنصاريّة المدنيّة، ثقةٌ [3] ماتت قبل المائة، وقيل: بعدها (ع) تقدمت في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 417.
و"عائشة رضي الله عنها" ذُكرت قبله.
قوله: (عَنْ عَمْرَةَ) بنت عبد الرحمن الأنصاريّة، وفي الرواية التالية:"أخبرتني عمرة"، فصرّح يحيى بالإخبار.
وقولها: (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) اختُلف في عدد الذين كانوا معه صلى الله عليه وسلم، فقيل: كانوا تسعين ألفًا، ويقال: مائة ألف وأربعة عشر ألفًا، ويقال: أكثر من ذلك، حكاه البيهقيّ.
قال الزرقانيّ: هذا في عدّة الذين خرجوا معه، وأما الذين حجّوا معه، فأكثر المقيمين بمكّة، والذين أتوا من اليمن مع عليّ، وأبي موسى الأشعريّ رضي الله عنهم. انتهى.
وقال القاري: بلغ جملة من معه صلى الله عليه وسلم تسعين ألفًا، وقيل: مائة وثلاثين ألفًا. انتهى.
وقال الشيخ الدهلويّ في "اللمعات": ورد في بعض الروايات أنهم كانوا أكثر من الحصر والإحصاء، ولم يعيّنوا عددهم، وقد بلغوا في غزوة تبوك التي هي آخر غزواته صلى الله عليه وسلم مائة ألف، وحجة الوداع كانت بعد ذلك، ولا بدّ أن يزدادوا فيها.
ويُروى: مائة ألف وأربعة عشر ألفًا، وفي رواية: مائة ألف وعشرون ألفًا. انتهى.
وإلى هذا الاختلاف أشار الحافظ العراقيّ رحمه الله في "ألفيّة السيرة"، حيث قال:
فِي الْعَشْرِ كَانَتْ حِجَّةُ الْوَدَاعِ
…
لَا يُحْصَرُ الْوَافُونَ بِاطِّلَاعِ
فَقِيلَ كَانُوا أَرْبَعِينَ أَلْفَا
…
أَو ضعْفَهَا وَزِدْ عَلَيْهَا ضِعْفَا
وقولها: (لِخَمْسٍ) وفي رواية: "لخمس ليال"(بَقِينَ، مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ) بفتح القاف، وتكسر: اسم الشهر الذي بين شوّال، وذي الحجّة، قال الفيّوميّ: والجمع ذوات القَعْدة، وذوات الْقَعَدَات، والتثنية ذواتا الْقَعْدة، وذواتا القَعْدتين، فثنّوا الاسمين، وجمعوهما، وهو عزيز؛ لأن الكلمتين بمنزلة كلمة واحدة، ولا تتوالى على كلمة علامتا تثنية، ولا جمع. انتهى.
وكذا وقع في حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما عند البخاريّ في "باب الخروج آخر الشهر"، من "كتاب الجهاد"، وفي "باب ما يلبس المحرم من الثياب"، من "كتاب الحجّ"، وكذا وقع في حديث جابر رضي الله عنه عند النسائيّ.
قال القسطلّانيّ رحمه الله: يقتضي أن تكون قالته عائشة بعد انقضاء الشهر، ولو قالته قبله لقالت: إن بقين. انتهى.
وقال الحافظ: فيه استعمال الفصيح في التاريخ، وهو ما دام في النصف الأول من الشهر يؤرّخ بما خلا، وإذا دخل النصف الثاني يؤرّخ بما بقي، وقال أيضًا: فيه ردّ على من منع إطلاق القول في التاريخ؛ لئلا يكون الشهر ناقصًا، فلا يصحّ الكلام، فيقول مثلًا: لخمس، إن بقين بزيادة أداة الشرط، وحجّة الجواز أن الإطلاق يكون على الغالب. انتهى.
قال: ويؤيّده ما ورد في ليالي القدر عند الترمذيّ من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، رفعه: "التمسوها في تسع يبقين، أو سبع يبقين
…
" الحديث، وما وقع في حديث آخر: "في تاسعة تبقى، وسابعة تبقى".
[تنبيه]: اختُلف في يوم خروجه صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقوال:
(الأول): أنه خرج يوم الجمعة، وهذا وَهَمٌ قبيح، وخطأ فاحش، تردّه الروايات الصحيحة؛ إذ من المعلوم الذي لا ريب فيه أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر يوم خروجه بالمدينة أربعًا، والعصر بذي الحليفة ركعتين.
(القول الثاني): ما ذهب إليه ابن حزم، واختاره العينيّ في "شرح البخاريّ" أن خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة كان يوم الخميس، لستّ بقين من ذي
القعدة، حكى هذا القول ابنُ القيّم في "الهدي" عن ابن حزم، وذكر كلامه مفصّلًا، ثم بسط في الرّدّ عليه، وسيأتي شيء من كلامه.
(القول الثالث): ما اختاره المحقّقون من شُرّاح الحديث، وأصحاب التواريخ أنّ خروجه صلى الله عليه وسلم كان لخمس بقين من ذي القعدة يوم السبت، وبه جزم ابن القيّم في "الهدي"، وهو ما اختاره الحافظ في "الفتح"، إذ قال في شرح قول ابن عبّاس رضي الله عنهما:"وذلك لخمس بقين من ذي القعدة" ما لفظه: أخرج مسلم مثله من حديث عائشة رضي الله عنها، واحتجّ به ابن حزم في "كتاب حجة الوداع" له على أن خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة كان يوم الخميس، قال: لأن أول ذي الحجّة كان يوم الخميس بلا شكّ؛ لأن الوقفة كانت يوم الجمعة بلا خلاف، وظاهر قول ابن عبّاس:"لخمس" يقتضي أن يكون خروجه من المدينة يوم الجمعة، بناءً على ترك يوم الخروج، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعًا، كما سيأتي من حديث أنس رضي الله عنه، فتبيّن أنه لم يكن يوم الجمعة، فتعيّن أنه يوم الخميس.
وتعقّبه ابن القيّم بأن المتعيّن أن يكون يوم السبت، بناءً على عدّ يوم الخروج، أو على ترك عدّه، ويكون ذو القعدة تسعًا وعشرين يومًا. انتهى.
ويؤيّده ما رواه ابن سعد، والحاكم في "الإكليل" أن خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة كان يوم السبت، لخمس بقين من ذي القعدة.
وقال الحاقظ أيضًا: جزم ابن حزم بأن خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة كان يوم الخميس، وفيه نظر؛ لأن أول ذي الحجّة كان يوم الخميس قطعًا؛ لما ثبت، وتواتر أن وقوفه بعرفة كان يوم الجمعة، وتعيّن أن أول الشهر يوم الخميس، فلا يصحّ أن يكون خروجه يوم الخميس، بل ظاهر الخبر أن يكون يوم الجمعة، لكن ثبت في "الصحيحين" عن أنس رضي الله عنه:"صلينا الظهر مع النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعًا، والعصر بذي الحليفة ركعتين". فدلّ على أنّ خروجهم لم يكن يوم الجمعة، فما بقي إلا أن يكون خروجهم يوم السبت، ويُحمَل قول من قال:"لخمس بقين" أي: إن كان الشهر ثلاثين، فاتفق أن جاء تسعًا وعشرين فيكون يوم الخميس أول ذي الحجّة بعد مضيّ أربع ليال، لا خمس، وبهذا تتّفق الأخبار.
هكذا جمع الحافظ عماد الدين ابن كثير بين الروايات، وقوّى هذا الجمع بقول جابر رضي الله عنه إنه خرج لخمس بقين، أو أربع، وكان دخوله صلى الله عليه وسلم مكّة صُبْحَ رابعة، كما ثبت في حديث عائشة رضي الله عنها، وذلك يوم الأحد، وهذا يؤيّد أن خروجه من المدينة كان يوم السبت، كما تقدّم، فيكون مكثه في الطريق ثمان ليال، وهي المسافة الوسطى. انتهى.
وقال في شرح "بابُ الخروج آخر الشهر" من "كتاب الجهاد": قد استُشْكل قول ابن عبّاس، وعائشة رضي الله عنهم أنه خرج لخمس بقين؛ لأن ذا الحجة كان أوله الخميس؛ للاتفاق على أن الوقفة كانت يوم الجمعة، فيلزم من ذلك أن يكون خرج يوم الجمعة، ولا يصحّ ذلك؛ لقول أنس رضي الله عنه: إنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعًا، ثم خرج.
وأجيب بان الخروج كان السبت، وإنما قال الصحابة:"لخمس بقين" بناء على العدد؛ لأن ذا القعدة كان أوله الأربعاء، فاتّفق أن جاء ناقصًا، فجاء أول ذي الحجة الخميس، فظهر أن الذي كان بقي من الشهر أربع، لا خمس، كذا أجاب به جمع من العلماء.
ويَحْتَمِل أن يكون الذي قال: "لخمس بقين" أراد ضمّ يوم الخروج إلى ما بقي؛ لأن التأهّب وقع في أوله، وإن اتّفق التأخير إلى أن صُلّيت الظهر، فكأنهم لَمّا تأهّبوا باتوا ليلة السبت على سفر اعتدّوا به من جملة أيام السفر، والله تعالى أعلم.
وقال العلامة ابن القيّم رحمه الله: وجه ما اخترناه أن الحديث صريحٌ في أنه خرج لخمس بقين، وهي يوم السبت، والأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، فهذه خمس، وعلى قول ابن حزم يكون خروجه لسبع بقين، فإن لم يعدّ يوم الخروج كان لستّ، وأيّهما كان، فهو خلاف الحديث، وإن اعتبر الليالي كان خروجه لستّ ليال بقين، لا لخمس، فلا يصحّ الجمع بين خروجه يوم الخميس، وبين بقاء خمس من الشهر البتّة، بخلاف ما إذا كان الخروج يوم السبت كان الباقي بيوم الخروج خمسًا بلا شكّ، ويدلّ عليه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر لهم في خطبته شأن الإحرام، وما يلبس المحرم بالمدينة على منبره، والظاهر أن هذا كان يوم الجمعة؛ لأنه لم ينقل أنه جمعهم، ونادى فيهم لحضور
الخطبة، وقد شهد ابن عمر رضي الله عنهما هذه الخطبة بالمدينة على منبره، وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يعلّمهم في كلّ وقت ما يحتاجون إليه، إذا حضر فعله، فأولى الأوقات به الجمعة التي تلي خروجه، والظاهر أنه لم يكن ليدع الجمعة، وبينه وبينها بعض يوم، من غير ضرورة، وقد اجتمع إليه الخَلْق، وهو أحرص الناس على تعليمهم الدين، وقد حضر ذلك الجمع العظيم، والجمع بينه وبين الحجّ ممكن، بلا تفويت، والله تعالى أعلم.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن أرجح الأقوال أن خروجه صلى الله عليه وسلم كان يوم السبت، وبهذا تجتمع الروايات المختلفة في هذا الباب، والله تعالى أعلم بالصواب.
وقولها: (أَمرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يَحِلَّ) أي: يجعل نسكه عمرة، وفي بقاء هذا الحكم خلاف، والحقّ بقاؤه، كما هو مذهب الإمام أحمد، وعليه البخاريّ، وجمهور المحدّثين، وسيأتي تمام البحث فيه قريبًا - إن شاء الله تعالى -.
وقولها: (فَدُخِلَ) بالبناء للمفعول، ولم يُعلم الداخل به.
وقولها: (فَقِيلَ: ذَبَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَزْوَاجِهِ) لم يعلم قائل ذلك، قال ابن بطال رحمه الله: أخذ بظاهره جماعة، فأجازوا الاشتراك في الهدي والأضحية، ولا حجة فيه؛ لأنه يَحْتَمِل أن يكون عن كل واحدة بقرة، وأما رواية يونس عن الزهريّ، عن عمرة، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَحَر عن أزواجه بقرة واحدة، فقد قال إسماعيل القاضي: تفرد يونس بذلك، وقد خالفه غيره. انتهى.
قال الحافظ رحمه الله: ورواية يونس أخرجها النسائيّ، وأبو داود، وغيرهما، ويونس ثقةٌ حافظٌ، وقد تابعه معمر، عند النسائيّ أيضًا، ولفظه أصرح من لفظ يونمس قال:"ما ذبح عن آل محمد في حجة الوداع إلا بقرة"، ورَوَى النسائي أيضًا من طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"قال: ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن اعتمر من نسائه في حجة الوداع بقرة بينهنّ"، صححه الحاكم، وهو شاهدٌ قويّ لرواية الزهريّ، وأما ما رواه عَمّار الدُّهْنِيّ عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"ذبح عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حججنا بقرة بقرة"، أخرجه النسائيّ أيضًا، فهو شاذّ مخالف
لما تقدم، وقد رواه البخاريّ في "الأضاحي"، ومسلم أيضًا من طريق ابن عيينة، عن عبد الرحمن بن القاسم، بلفظ:"ضَحَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه البقر"، ولم يذكر ما زاده عَمّار الدُّهْنيّ، وأخرجه مسلم أيضًا من طريق عبد العزيز الماجشون، عن عبد الرحمن، لكن بلفظ:"أهدى" بدل "ضَحَّى"، والظاهر أن التصرف من الرواة؛ لأنه ثبت في الحديث ذكر النحر، فحمله بعضهم على الأضحية، فإن رواية أبي هريرة صريحة في أن ذلك كان عمن اعتَمَر من نسائه، فقَوِيت رواية من رواه بلفظ:"أهدى"، وتبيّن أنه هدي التمتع، فليس فيه حجة على مالك في قوله:"لا ضحايا على أهل منى"، وتبيّن توجيه الاستدلال به على جواز الاشتراك في الهدي والأضحية، والله أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن أكثر الرواة رووه بلفظ "ضحّى"، فهو أرجح، فيدلّ على استحباب الأضحيّة للحاج، كالهدي، وفيه الردّ على من أنكر ذلك كمالك، وقد ترجم البخاريّ رحمه الله في "كتاب الأضاحي" من "صحيحه"
(2)
بقوله: "باب الأضحيّة للمسافر والنساء"، ثم أورد حديث عائشة رضي الله عنها هذا، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب.
وقوله: (قَالَ يَحْيَى) هو: ابن سعيد الأنصاريّ بالإسناد المذكور إليه.
وقوله: (فَذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ) أي: حديث عمرة، عن عائشة رضي الله عنها.
وقوله: (لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ) هو: ابن أبي بكر الصديق.
وقوله: (فَقَالَ: أَتَتْكَ وَاللهِ بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ) أي: قال القاسم: ساقته عمرة لك سياقًا تامًّا، لم تختصر منه شيئًا، وكأنه يشير بذلك إلى روايته هو عن عائشة، فإنها مختصرة، هكذا قال في "الفتح"
(3)
، وفيه نظرٌ؛ لأن رواية القاسم عند المصنّف أتمّ من رواية عمرة، فتنبّه.
(1)
"الفتح" 4/ 661 - 662.
(2)
راجع: "صحيح البخاريّ" رقم (5548).
(3)
"الفتح" 4/ 662.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مرَّ البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2926]
( .... ) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّاب، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: أَخْبَرَتْنِي عَمْرَةُ، أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ رضي الله عنها (ح) وَحَدَّثنَاه ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يَحْيَى، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى العنَزيّ الزمِنُ، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ الْوَهَّابِ) بن عبد المجيد الثقفيّ، تقدّم قبل باب.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: رواية عبد الوهّاب الثقفيّ، عن يحيى بن سعيد هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" (2/ 297) فقال:
(3191)
- وحدّثني عمر بن شبة، نا عبد الوهاب الثقفيّ، قال: سمعت يحيى بن سعيد، قال: حدّثتني عمرة، قالت: سمعت عائشة تقول: خرجنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم لخمس بقين من ذي القعدة، لا نَرى إلا الحجّ، حتى إذا دنونا من مكة، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هدي، إذا طاف بالبيت أن يَحِلّ، قالت: فأُدخِل علينا يومَ النحر لحمُ بقر، فقلت: ما هذا؟ فقيل: ذَبَحَ رسول الله عن أزواجه، قال: سمعت يحيى قال: ذكرت هذا الحديث للقاسم، فقال: أتتك والله بالحديث على وجهه. انتهى.
وأما رواية سفيان بن عيينة، عن يحيى، فساقها الحميديّ، في "مسنده" (1/ 104) فقال:
(207)
- حدّثنا الحميديّ
(1)
، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس بقين من ذي
(1)
هذا من كلام الراوي عن الحميديّ، فتنبّه.
القعدة، لا نُرى إلا الحج، فلما كنا بِسَرِف أو قريبًا منها، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هديٌ أن يجعلها عمرةً، فلما كنا بمنى أُتيت بلحم بقر، فقلت: ما هذا؟ قالوا: ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه البقر، قال يحيى: فحدثت به القاسم، فقال: جاءتك والله بالحديث على وجهه. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2927]
(
…
) - (وَحَدَّثنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَن ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَن الْأَسْوَد، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ (ح) وَعَن الْقَاسِم، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ يَصْدُرُ النَّاسُ بِنُسُكَيْن، وَأَصْدُرُ بِنُسُكٍ وَاحِدٍ، قَالَ:"انْتَظِرِي، فَإِذَا طَهَرْتِ، فَاخْرُجِي إِلَى التَّنْعِيم، فَأَهِلِّي مِنْهُ، ثُمَّ الْقَيْنَا عِنْدَ كَذَا وَكَذَا"، قَالَ: أَظُنُّهُ قَالَ: "غَدًا، وَلَكِنَّهَا عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ"، أَو قَالَ:"نَفَقَتِكِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(ابْنُ عُلَيَّةَ) هو: إسماعيل بن إبراهيم، تقدّم قبل بابين.
2 -
(ابْنُ عَوْنٍ) هو: عبد الله بن عون بن أرطبان البصريّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد النخعيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(الْأَسْوَدُ) بن يزيد بن قيس النخعيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (وَعَن الْقَاسِمِ
…
إلخ) عطف على "عن إبراهيم"، فابن عون يروي هذا الحديث بإسنادين: عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها، وعن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها.
وقولها: (يَصْدُرُ النَّاسُ بِنُسُكَيْنِ
…
إلخ) أي: يرجعون بحج وعمرة، وأرجع أنا بحجّ فقط، وفي رواية منصور الآتية:"يا رسول الله يرجع الناس بعمرة وحجة، وأرجع أنا بحجة"، وذلك لأن عمرتها اندرجت في الحجّ حيث كانت قارنة.
وقوله: (ثُمَّ الْقَيْنَا) بفتح القاف، من باب تَعِبَ.
وقوله: (عِنْدَ كَذَا وَكَذَا) وفي رواية البخاريّ: "ثم ائتنا بمكان كذا وكذا"، قال في "الفتح": في رواية إسماعيل "بحبل كذا"، وضبطه في "صحيح مسلم" وغيره بالجيم وفتح الموحدة، لكن أخرجه الإسماعيليّ من طريق حسين بن حسن، عن ابن عون، وضبطه بالحاء المهملة، يعني وإسكان الموحدة، والمكان المبهم هنا هو الأبطح، كما تبيّن في غير هذا الطريق. انتهى
(1)
.
وقوله: (قَالَ: أَظُنُّهُ قَالَ: غَدًا) أي: قال: "ثم القَيْنا عند كذا وكذا غَدًا"، وهذا الظنّ من أحد الرواة، ولم يتبيّن لي من هو؟ والله تعالى أعلم.
وقوله: (وَلَكِنَّهَا عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ) بفتح النون، والصاد المهملة؛ أي: التعَبِ.
وقوله: (أَو قَالَ: نَفَقَتِكِ) قال الكرمانيّ رحمه الله: "أو" إما للتنويع في كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإما شك من الراوي، والمعنى أن الثواب في العبادة يكثر بكثرة النصَب، أو النفقة، والمراد: النصَب الذي لا يَذُمّه الشرع، وكذا النفقة، قاله النوويّ رحمه الله. انتهى.
ووقع في رواية الإسماعيليّ من طريق أحمد بن منيع، عن إسماعيل:"على قدر نَصَبك، أو على قدر تَعَبِك"، قال الحافظ رحمه الله: وهذا يؤيد أنه من شك الراوي، وفي روايته من طريق حسين بن حسن:"على قدر نفقتك، أو نصبك"، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرجه الدارقطنيّ، والحاكم، من طريق هشام، عن ابن عون، بلفظ:"إن لك من الأجر على قدر نصبك ونفقتك"، بواو العطف، وهذا يؤيِّد الاحتمال الأول.
وقوله في رواية ابن علية: "لا أعرف حديث ذا من حديث ذا"، قد أخرج الدارقطنيّ، والحاكم، من وجه آخر ما يدلّ على أن السياق الذي هنا للقاسم، فإنهما أخرجا من طريق سفيان، وهو الثوريّ، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لها في عمرتها: "إنما أجرك في عمرتك على قدر نفقتك".
(1)
"الفتح" 5/ 27.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "في رواية ابن عليّة" فيه نظر؛ لأن هذا الكلام في رواية ابن أبي عديّ، عن ابن عون التالية، لا في رواية ابن عليّة هذه، فتنبّه.
قال: واستُدِلّ به على أن الاعتمار لمن كان بمكة من جهة الحلّ القريبة أقلُّ أجرًا من الاعتمار من جهة الحلّ البعيدة، وهو ظاهر هذا الحديث.
وقال الشافعيّ في "الإملاء": أفضل بقاع الحلّ للاعتمار الجعرانة؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أحرم منها، ثم التنعيم؛ لأنه أَذِنَ لعائشة منها، قال: وإذا تنحى عن هدين الموضعين، فأين أبعد حتى يكون أكثر لسفره كان أحبّ إليّ.
وحَكَى الموفق في "المغني" عن أحمد أن المكيّ كلما تباعد في العمرة كان أعظم لأجره، وقال الحنفية: أفضل بقاع الحل للاعتمار التنعيم، ووافقهم بعض الشافعية، والحنابلة، ووجهه ما قدمناه أنه لم يُنْقَل أن أحدًا من الصحابة رضي الله عنهم في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج من مكة إلى الحل ليحرم بالعمرة غير عائشة رضي الله عنها، وأما اعتماره صلى الله عليه وسلم من الجعرانة فكان حين رجع من الطائف مُجتازًا إلى المدينة، ولكن لا يلزم من ذلك تعين التنعيم للفضل؛ لِمَا دلّ عليه هذا الخبر أن الفضل في زيادة التعب والنفقة، وإنما يكون التنعيم أفضل من جهة أخرى تساويه إلى الحلّ، لا من جهة أبعد منه، والله أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما قاله الحنفيّة من أن أفضل بقاع الحلّ للاعتمار التنعيم هو الأرجح؛ لتنصيصه صلى الله عليه وسلم عليه، وقد أخرج أحمد، وأبو داود بسند صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال:"يا عبد الرحمن أردف أختك عائشة، فأعمرها من التنعيم، فإذا هَبَطَت بها من الأَكَمَة، فمُرْها فلتحرم، فإنها عمرة متقبلة"، فهذا نصّ صريح في أفضليته، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
وقال النوويّ رحمه الله: ظاهر الحديث أن الثواب والفضل في العبادة يكثر بكثرة النصب والنفقة. انتهى.
قال الحافظ: وهو كما قال، لكن ليس ذلك بمطَّرد، فقد يكون بعض العبادة أخفّ من بعض، وهو أكثر فضلًا وثوابًا بالنسبة إلى الزمان، كقيام ليلة القدر بالنسبة لقيام ليال من رمضان غيرها، وبالنسبة للمكان كصلاة ركعتين في المسجد الحرام بالنسبة لصلاة ركعات في غيره، وبالنسبة إلى شرف العبادة
المالية والبدنية، كصلاة الفريضة بالنسبة إلى أكثر من عدد ركعاتها، أو أطول من قراءتها، ونحو ذلك من صلاة النافلة، وكدرهم من الزكاة بالنسبة إلى أكثر منه من التطوع، أشار إلى ذلك ابن عبد السلام في "القواعد"، قال: وقد كانت الصلاة قرة عين النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي شاقّة على غيره، وليست صلاة غيره مع مشقتها مساوية لصلاته صلى الله عليه وسلم مطلقًا. انتهى، وهو بحث نفيسٌ.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2928]
(
…
) (وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَن ابْنِ عَوْنٍ، عَن الْقَاسِم، وَإِبْرَاهِيمَ، قَالَ: لَا أَعْرِفُ حَدِيثَ أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَر، أَنَّ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ يَصْدُرُ النَّاسُ بِنُسُكَيْن، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الإسنادين السابقين.
وقوله: (فَذَكَرَ الْحَدِيثَ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير ابن أبي عديّ.
[تنبيه]: رواية ابن أبي عديّ، عن ابن عون هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2929]
(
…
) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَن الْأَسْوَد، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا نَرَى إِلَّا أَنَّهُ الْحَجُّ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ تَطَوَّفْنَا بِالْبَيْت، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ أَنْ يَحِلَّ، قَالَتْ: فَحَلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ، وَنِسَاؤُهُ لَمْ يَسُقْنَ الْهَدْيَ فَأَحْلَلْنَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَحِضْتُ، فَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْت، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ
قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، يَرْجِعُ النَّاسُ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ، وَأَرْجِعُ أَنَا بِحَجَّةٍ، قَالَ:"أَوَ مَا كُنْتِ طُفْتِ لَيَالِيَ قَدِمْنَا مَكَّةَ؟ " قَالَتْ: قُلْتُ: لَا، قَالَ:"فَاذْهَبِي مَعَ أَخِيكِ إِلَى التَّنْعِيم، فَأَهِلِّي بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ مَوْعِدُكِ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا"، قَالَتْ صَفِيَّةُ: مَا أُرَانِي إِلَّا حَابِسَتَكُمْ، قَالَ:"عَقْرَى، حَلْقَى، أَوَ مَا كُنْتِ طُفْتِ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: "لَا بَأْسَ، انْفِرِي"، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَقِيَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُصْعِدٌ مِنْ مَكَّةَ، وَأَنَا مُنْهَبِطَةٌ عَلَيْهَا، أَو أَنَا مُصْعِدَةٌ، وَهُوَ مُنْهَبِطٌ مِنْهَا، وَقَالَ إِسْحَاقُ: مُتَهَبِّطَةٌ وَمُتَهَبِّطٌ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل باب.
2 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(مَنْصُورُ) بن المعتمر، تقدّم قبل بابين.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقولها: (فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ) - بفتح الحاء، وسكون الصاد المهملة، وفتح الباء الموحدة - وفي رواية المستملي:"ليلة الحصباء".
وقوله: (ثُمَّ مَوْعِدُكِ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا) هو المحصّب، كما بُيّن في الروايات الأخرى.
وقولها: (وَلَا نَرَى إِلَّا أَنَّهُ الْحَجُّ) ولأبي الأسود، عن عروة، عنها:"مهلّين بالحج"، وللقاسم عنها:"لا نذكر إلا الحجّ"، وله أيضًا:"لبّينا بالحج"، وظاهره أن عائشة مع غيرها من الصحابة كانوا أولًا محرمين بالحج، لكن في رواية عروة عنها:"فمنّا من أهلّ بعمرة، ومنّا من أهلّ بحجّ وعمرة، ومنّا من أهلّ بالحجّ" فيُحْمَل الأول على أنها ذكرت ما كانوا يعهدونه من ترك الاعتمار في أشهر الحج، فخرجوا لا يعرفون إلا الحجّ، ثم بيّن لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم وجوه الإحرام، وجوّز لهم الاعتمار في أشهر الحج.
ويَحْتَمِل في الجمع أيضًا أن يقال: أهلّت عائشة بالحج مفردًا كما فعل غيرها من الصحابة، وعلى هذا يُنَزَّل حديث الأسود ومن تبعه، ثم أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يفسخوا الحج إلى العمرة، ففعلت عائشة ما صنعوا، فصارت
متمتعةً، وعلى هذا يتنزل حديث عروة، ثم لما دخلت مكة وهي حائض، فلم تقدر على الطواف لأجل الحيض أمرها أن تُحرِم بالحج، والله تعالى أعلم.
وقولها: (فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ تَطَوَّفْنَا بِالْبَيْتِ) أرادت غيرها؛ لقولها بعده: "فلم أطف"، فإنه تبيّن به أن قولها:"تطوّفنا" من العام الذي أريد به الخاص، قاله في "الفتح".
وقولها: (فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ أَنْ يَحِلَّ) أي: من الحجّ بعمل العمرة، وهذا هو معنى فسخ الحجّ إلى العمرة، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك - إن شاء الله تعالى -.
وقولها: (وَنِسَاؤُهُ لَمْ يَسُقْنَ الْهَدْيَ، فَأَحْلَلْنَ) أي: وهي منهنّ، لكن منعها من التحلل كونها حاضت ليلة دخولهم مكة، وقد مضى بيان ذلك، وأنها بكت، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لها:"كوني في حجك"، فظاهره أنه صلى الله عليه وسلم أمرها أن تجعل عمرتها حجّا، ولهذا قالت:"يرجع الناس بحج وعمرة، وأرجع بحج"، فأعمرها لأجل ذلك من التنعيم، وقال مالك: ليس العمل على حديث عروة قديمًا ولا حديثًا، قال ابن عبد البر: يريد ليس عليه العمل في رفض العمرة، وجعلها حجًّا، بخلاف جعل الحج عمرة، فإنه وقع للصحابة، واختُلِف في جوازه من بعدهم، لكن أجاب جماعة من العلماء عن ذلك باحتمال أن يكون معنى قوله:"ارفُضي عمرتك" أي: اتركي التحلل منها، وأدخلي عليها الحج، فتصير قارنةً، ويؤيِّده قوله في رواية لمسلم:"وأمسكي عن العمرة"؛ أي: عن أعمالها.
وقوله: (يَرْجِعُ النَّاسُ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ، وَأَرْجِعُ أَنَا بِحَجَّةٍ) إنما قالت عائشة رضي الله عنها: "وأرجع بحجّ"؛ لاعتقادها أن إفراد العمرة بالعمل أفضل، كما وقع لغيرها من أمهات المؤمنين، قيل: ويُبعد هذا التأويل قولها في رواية عطاء عنها: "وأرجع أنا بحجة ليس معها عمرة"، أخرجه أحمد، وهذا يقوّي قول الكوفيين: إن عائشة تركت العمرة، وحجت مفردة، وتمسكوا في ذلك بقولها في الرواية المتقدمة:"دعي عمرتك"، وفي رواية:"ارفُضي عمرتك"، ونحو ذلك، واستدلوا به على أن للمرأة إذا أهلّت بالعمرة متمتعةً، فحاضت قبل أن تطوف أن تترك العمرة، وتُهِلّ بالحج مفردًا كما فعلت عائشة رضي الله عنها.
وتُعُقّب بأن في رواية عطاء عنها ضعفًا، بل الرافع للإشكال في ذلك هو ما رواه مسلم من حديث جابر:"أن عائشة أهلّت بعمرة، حتى إذا كانت بِسَرِف حاضت، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أهلّي بالحج، حتى إذا طهرت طافت بالكعبة، وسعت، فقال: قد حللت من حجك وعمرتك، قالت: يا رسول الله، إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت، قال: فأعمرها من التنعيم".
ولمسلم من طريق طاوس عنها: "فقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم: طوافك يسعك لحجك وعمرتك"، فهذا صريح في أنها كانت قارنةً؛ لقوله:"قد حللت من حجك وعمرتك"، وإنما أعمرها من التنعيم تطييبًا لقلبها؛ لكونها لم تطف بالبيت لَمّا دخلت معتمرةً، وقد وقع في رواية لمسلم أيضًا:"وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلًا سهلًا إذا هَوِيَت الشيء تابعها عليه"، أفاده في "الفتح"
(1)
.
وقولها: (قَالَتْ صَفِيَّةُ) بنت حييّ بن أخطب الإسرائيليّة، أم المؤمنين رضي الله عنها، تزوّجها النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد خيبر، وماتت سنة ستّ وثلاثين من الهجرة، وقيل: في ولاية معاوية رضي الله عنه، وهو الصحيح، أخرج لها الجماعة، ولها في هذا الكتاب حديث واحد سيأتي في "كتاب السلام" برقم (2175) وسنستوفي ترجمتها هناك - إن شاء الله تعالى -.
وقولها: (مَا أُرَانِي إِلَّا حَابِسَتَكُمْ) بضم الهمزة؛ أي: ما أظنّ نفسي إلا مانعتكم عن الرجوع إلى المدينة، قال النوويّ رحمه الله: معناه أن صفية أم المؤمنين رضي الله عنها حاضت قبل طواف الوداع، فلما أراد النبيّ صلى الله عليه وسلم الرجوع إلى المدينة، قالت: ما أظنني إلا حابستكم لانتظار طهري، وطوافي لِلْوَدَاع، فإني لم أطف للوداع، وقد حضتُ، ولا يمكنني الطواف الآن، وظَنَّتْ أن طواف الوداع لا يسقط عن الحائض، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أما كنتِ طُفْتِ طواف الإفاضة يوم النحر؟ قالت: بلى، قال: يكفيك ذلك"؛ لأنه هو الطواف الذي هو ركنٌ، ولا بدّ لكل أحد منه، وأما طواف الوداع فلا يجب على الحائض. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قول صفية رضي الله عنها: "ما أراني إلا حابستكم"؛ ظنت أنها لا بدَّ لها من طواف الوداع، وأنها لا تطوف حتى تطهر، ومن ضرورة ذلك
(1)
راجع: "الفتح" 4/ 458 - 459.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 153.
أن تحتبس عليها، فلما سمعها النبيّ صلى الله عليه وسلم ظنَّ أنها لم تطف طواف الإفاضة، فأجابها بما يدلُّ على استثقاله احتباسه بسببها، فقال:(قَالَ: "عَقْرَى، حَلْقَى) الرواية فيه بغير تنوين، بألف التأنيث المقصورة.
قال القاضي: يقال للمرأة: "عقرى حلقى"؛ أي: مشوَّهة مؤذية، وقيل: تعقرهم وتحلقهم، وقيل: عقرى: ذات عقير.
و"حلقى": أصابها وجع الحلق، وقيل: هي كلمة تقولها اليهود للحائض، وقال أبو عبيد: صوابه: عقرًا، حلقًا - بالتنوين - لأن معناه: عقرها الله عقرًا، وهذا على مذهبهم - أعني: العرب - فيما يجري على ألسنتهم؛ مما ظاهره الدعاء بالمكروه، ولا يقصدونه، على ما تقدَّم في الطهارة
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "عقرى حلقى" فهكذا يرويه المحدّثون بالألف التي هي ألف التأنيث، ويكتبونه بالياء، ولا ينونونه، وهكذا نقله جماعة لا يُحْصَون من أئمة اللغة وغيرهم، عن رواية المحدثين، وهو صحيح فصيح.
قال الأزهريّ في "تهذيب اللغة": قال أبو عُبيد: معنى "عَقْرَى" عقرها الله تعالى، و"حَلْقَى" حلقها الله، قال: يعنى عقر الله جسدها وأصابها بوجع في حلقها، قال أبو عبيد: أصحاب الحديث يروونه: "عقرى حلقى"، وإنما هو: عقرًا حلقًا، قال: وهذا على مذهب العرب في الدعاء على الشيء من غير إرادة وقوعه، قال شَمِر: قلت لأبي عبيد: لم لا تجيز عقرى؟ فقال: لأن فَعْلَى تجيء نعتًا، ولم تجئ في الدعاء، فقلت: رَوَى ابن شُمَيل عن العرب: مُطَّيْرَى، وعَقْرَى أخفّ منها، فلم ينكره، هذا آخر ما ذكره الأزهريّ.
وقال صاحب "المحكم": يقال للمرأة: عَقْرَى حَلْقَى، معناه: عقرها الله، وحلقها؛ أي: حلق شعرها، أو أصابها بوجع في حلقها، قال: فـ"عقرى" ها هنا مصدر كدَعْوَى، وقيل: معناه تَعْقِر قومها، وتَحلقهم بشؤمها، وقيل: العقرى: الحائض، وقبل: عقرى حلقى؛ أي: عقرها الله، وحلقها، هذا آخر كلام صاحب "المحكم".
وقيل: معناه جعلها الله عاقرًا لا تَلِدُ، وحلقى مشؤمة على أهلها، وعلى
(1)
"المفهم" 3/ 315.
كل قول فهي كلمة كان أصلها ما ذكرناه، ثم اتَّسَعَت العرب فيها، فصارت تطلقها، ولا تريد حقيقة ما وُضِعت له أوّلًا، ونظيره: تَرِبَت يداه، وقاتله الله ما أشجعه، وما أشعره، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "عَقْرَى حَلْقَى" بالفتح فيهما، ثم السكون، وبالقصر بغير تنوين في الرواية، ويجوز في اللغة التنوين، وصوّبه أبو عبيد؛ لأن معناه الدعاء بالعَقْر والْحَلْق، كما يقال: سَقْيًا ورَعْيًا، ونحو ذلك من المصادر التي يُدْعَى بها، وعلى الأول هو نعت لا دُعاءٌ، ثم معنى عَقْرَى: عَقَرها الله؛ أي: جرحها، وقيل: جعلها عاقرًا لا تلد، وقيل: عقر قومها، ومعنى حَلْقَى: حَلَق شعرها، وهو زينة المرأة، أو أصابها وجع في حلقها، أو حَلَق قومها بشؤمها؛ أي: أهلكهم.
وحَكَى القرطبيّ أنها كلمة تقولها اليهود للحائض، فهذا أصل هاتين الكلمتين، ثم اتَّسَعَتِ العرب في قولهما بغير إرادة حقيقتهما، كما قالوا: قاتله الله، وتربت يداه، ونحو ذلك.
قال القرطبيّ وغيره: شتان بين قوله صلى الله عليه وسلم لصفية، وبين قوله لعائشة لَمّا حاضت معه في الحج:"هذا شيء كتبه الله علي بنات آدم"؛ لما يُشعر به من الميل لها، والْحُنُوّ عليها، بخلاف صفية.
قال الحافظ: وليس فيه دليل على اتِّضاع قدر صفية عنده، لكن اختلف الكلام باختلاف المقام، فعائشة دخل عليها، وهي تبكي أَسَفًا على ما فاتها من النسك، فسَلّاها بذلك، وصفية أراد منها ما يريد الرجل من أهله، فأبدت المانع، فناسب كلًّا منهما ما خاطبها به في تلك الحالة. انتهى
(2)
، وهو توجيه حسنٌ، والله تعالى أعلم.
وقوله: (أَوَ مَا كُنْتِ) بفتح الواو، فالهمزة للاستفهام، والواو عاطفة.
وقوله: (طُفْتِ يَوْمَ النَّحْرِ؟) أي: طواف الإفاضة الذي هو ركن من أركان الحجّ.
وقوله: (لَا بَأْسَ، انْفِرِي) أي: اخرجي من منى راجعةً إلى المدينة من
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 153 - 154.
(2)
"الفتح" 4/ 722 - 723.
غير طواف الوداع، وفيه دليل على أن طواف الوداع لا يجب على الحائض، ولا يلزمها الصبر إلى طهرها لتأتي به، ولا دم عليها في تركه، قال النوويّ رحمه الله: وهذا مذهبنا ومذهب العلماء كافّةً، إلا ما حكاه القاضي عن بعض السلف، وهو شاذّ مردود. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "فلا باس انفري" هو بيان لقوله في الرواية الأخرى: "فلا إذًا"، وفي رواية:"قال: اخرجوا"، وفي رواية:"قال: اخرجي"، وفي رواية:"فلتنفر"، ومعانيها متقاربة، والمراد بها كُلِّها الرحيل من منى إلى جهة المدينة.
قال: وفي أحاديث الباب: أن طواف الإفاضة ركنٌ، وأن الطهارة شرط لصحة الطواف، وأن طواف الوداع واجبٌ.
قال: واستُدِلّ به على أن أمير الحاجّ يلزمه أن يؤخر الرحيل لأجل من تحيض، ممن لم تطف للإفاضة.
وتُعُقِّب باحتمال أن تكون إرادته صلى الله عليه وسلم تأخير الرحيل إكرامًا لصفية، كما احتَبَس بالناس على عِقْد عائشة، وأما الحديث الذي أخرجه البزار، من حديث جابر، وأخرجه البيهقيّ في "فوائده"، من طريق أبي هريرة مرفوعًا:"أميران، وليسا بأميرين: من تَبعَ جنازةً، فليس له أن ينصرف حتى تُدْفَن، أو يأذن أهلها، والمرأة تحجّ، أو تعتمر مع قوم، فتحيض قبل طواف الركن، فليس لهم أن ينصرفوا حتى تَطْهَرَ، أو تأذن لهم"، فلا دلالة فيه على الوجوب إن كان صحيحًا، فإن في إسناد كل منهما ضعفًا شديدًا.
وقد ذكر مالك في "الموطإ" أنه يلزم الْجَمَّالَ أن يحبس لها إلى انقضاء أكثر مدة الحيض، وكذا على النفساء، واستشكله ابن الْمَوَّاز بأن فيها تعريضًا للفساد، كقطع الطريق، وأجاب عياض بان محل ذلك مع أمن الطريق، كما أن محله أن يكون مع المرأة محرم. انتهى
(2)
.
وقولها: (وَهُوَ مُصْعِدٌ مِنْ مَكَّةَ، وَأَنَا مُنْهَبِطَةٌ عَلَيْهَا، أَو أنَا مُصْعِدَةٌ، وَهُوَ مُنْهَبِطٌ مِنْهَا) معنى "مُصعد من مكة" أي: ذاهبٌ منها، يقال: أصعد في
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 154.
(2)
"الفتح" 4/ 623.
الأرض: إذا مضى، وأصعد في الوادي: إذا انحدر، كصعّد، تصعيدًا، قاله في "القاموس"، وقال أيضًا: صَعِدَ في السلّم، كسَمِع صُعُودًا، وصَعَّد في الجبل، وعليه تصعيدًا: رَقِيَ، ولم يُسمع: صَعِدَ فيه؛ أي: بالتخفيف. انتهى
(1)
.
و"المنهبط": ضدّ الْمُصْعِد.
قال النوويّ رحمه الله: قولها: "فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مصعد من مكة
…
إلخ"، وقالت في الرواية الأخرى: "فجئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في منزله، فقال: هل فرغتِ؟ فقلت: نعم، فأذَّن في أصحابه، فخرج، فمَرّ بالبيت، وطاف"، وفي الرواية الأخرى: "فأقبلنا حتى أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بالحصبة".
قال: وجه الجمع بين هذه الروايات أنه صلى الله عليه وسلم بعث عائشة مع أخيها بعد نزوله المحصَّب، وواعدها أن تَلْحَقه بعد اعتمارها، ثم خرج هو صلى الله عليه وسلم بعد ذهابها، فقصد البيت؛ ليطوف طواف الوداع، ثم رجع بعد فراغه من طواف الوداع، وكلُّ هذا في الليل، وهي الليلة التي تلي أيام التشريق، فلقيها صلى الله عليه وسلم، وهو صادر بعد طواف الوداع، وهي داخلة لطواف عمرتها، ثم فَرَغَت من عمرتها، ولَحِقته صلى الله عليه وسلم، وهو بعدُ في منزله بالمحصَّب.
وأما قولها: "فأَذَّن في أصحابه، فخرج، فمَرَّ بالبيت، وطاف"، فيُتَأَوَّل على أن في الكلام تقديمًا وتأخيرًا، وأن طوافه صلى الله عليه وسلم كان بعد خروجها إلى العمرة، وقبل رجوعها، وأنه فرغ قبل طوافها للعمرة. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن معنى كلامها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لقيها، والحال أنه راجع من مكة بعد طوافه للصدر إلى محلّ نزوله من المحصّب الذي قال لها حين توجهت إلى التنعيم موعدك مكان كذا وكذا، وهي منحدرة على مكة لأداء العمرة بالطواف والسعي.
والحاصل أن ملاقاتهما كانت حين رجوعه صلى الله عليه وسلم بعد طوافه للصدر إلى محل نزوله، وهي متوجّهة من التنعيم إلى مكة لأداء العمرة، ولا ينافي هذا ما
(1)
"القاموس المحيط" 1/ 307.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 157 - 158.
تقدّم من قولها: "فمرّ بالبيت، فطاف به قبل صلاة الصبح
…
"؛ لاحتمال أن يكون أعاد الطواف لَمّا مرّ بالبيت، وهذا أولى من دعوى التقديم والتأخير، كما قاله النوويّ رحمه الله، فتأمله، والله تعالى أعلم بالصواب.
وقوله: (وَقَالَ إِسْحَاقُ: مُتَهَبِّطَةٌ وَمُتَهَبِّطٌ) بيّن به اختلاف شيخيه زهير بن حرب، وإسحاق ابن راهويه، فالأول قال:"منهبطة" بالنون، والثاني قال:"متهبّطة" بالتاء، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2930]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، عَن الْأَعْمَش، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَن الْأَسْوَد، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نُلَبِّي، لَا نَذْكُرُ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، بِمَعْنَى حَدِيثِ مَنْصُورٍ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ) الْحَدَثاني، هرويّ الأصل، صدوقٌ، عَمِيَ، فتلقّن، من قُدماء [10](ت 240) وله مائة سنة (م ت) تقدم في "المقدمة" 6/ 87.
2 -
(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) الكوفيّ، قاضي الموصل، تقدّم قريبًا.
3 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ) الفاعل ضمير الأعمش.
[تنبيه]: رواية الأعمش، عن إبراهيم هذه ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" (3/ 309) فقال:
(2810)
- ثنا عبد الله بن محمد، ومحمد بن إبراهيم قالا: ثنا أحمد بن عليّ، ثنا عبد الغفار بن عبد الله، ثنا عليّ بن مسهر، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نذكر حجًّا ولا عمرة، فلما قَدِمنا مكة، أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحللنا، فحَلَّ الناس من عمرتهم، وكنت حائضًا، فلم أطف بالبيت، فلما كان ليلة النفر، قلت: يا
رسول الله، إني لم أكن تطوفت بالبيت يوم النحر، قال:"اذهبي مع أخيك إلى التنعيم، فاعتمري"، وحاضت صفية بنت حُيَيّ ليلة النفر، فقالت: ما أُراني إلا حابستكم، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"عَقْرَى حَلْقَى، أما كنت تطوفت بالبيت يوم النحر؟ " قالت: بلى، قال:"فانفري"، قالت: فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مُدْلِجًا على العقبة، وهو منهبط على المدينة، وأنا منهبطة، فقال:"موعدك يوم كذا وكذا". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2931]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، جَمِيعًا عَنْ غُنْدَرٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْحَكَم، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْن، عَنْ ذَكْوَانَ مَوْلَى عَائِشَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِأَرْبَعٍ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّة، أَو خَمْسٍ، فَدَخَلَ عَلَيَّ، وَهُوَ غَضْبَانُ، فَقُلْتُ: مَنْ أَغْضَبَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ أَدْخَلَهُ اللهُ النَّارَ، قَالَ: "أَوَ مَا شَعَرْتِ أَنِّي أَمَرْتُ النَّاسَ بِأَمْرٍ، فَإِذَا هُمْ يَتَرَدَّدُونَ"، قَالَ الْحَكَمُ: "كَأَنَّهُمْ يَتَرَدَّدُونَ - أَحْسِبُ - وَلَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ، مَا سُقْتُ الْهَدْيَ مَعِي، حَتَّى أَشْتَرِيَهُ، ثُمَّ أَحِلُّ كَمَا حَلُّوا").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد المعروف ببُندار، تقدّم قبل بابين.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غُندر تقدّم أيضًا قبل بابين.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّام، تقدّم أيضًا قبل بابين.
4 -
(الْحَكَمُ) بن عُتيبة، تقدّم قريبًا.
5 -
(عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ) بن عليّ بن أبي طالب الهاشميّ، زين العابدين المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عابد فاضلٌ مشهورٌ [3](ت 93) أو قبل ذلك (ع) تقدم في "صلاة المسافرين" 30/ 1818.
6 -
(ذَكْوَانُ مَوْلَى عَائِشَةَ) أبو عمرو المدنيّ، ثقةٌ [3].
رَوَى عنها، وعنه عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وهو أكبر منه،
وابن أبي مليكة، وعليّ بن الحسين، ومحمد بن عمرو بن عطاء، وغيرهم.
قال أبو زرعة: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الواقديّ: كانت عائشة قد دَبَّرته، وله أحاديث قليلة، ومات ليالي الحرّة، وقال ابن أبي مليكة: كان عبد الرحمن بن أبي بكر يؤم عائشة، فإذا لم يحضر ففتاها ذكوان، وقال البخاريّ في "صحيحه": وكانت عائشة يؤمها عبدها ذكوان في المصحف، قال الحافظ: وقد وصلته فيما كتبته على تعاليق البخاريّ، وقال البخاريّ في "تاريخه" من طريق ابن أبي مليكة أنه أحسن على ذكوان الثناء. وقال العجليّ: مدنيّ تابعيّ ثقةٌ.
وقال الهيثم بن عديّ: أحسبه قُتِل بالحرّة سنة (63).
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1211)، وحديث (1420): "نعم تُستأمر
…
" الحديث.
والباقون ذُكروا في الباب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ، قرن بينهم، ثم فرّق؛ لما أسلفناه غير مرّة.
2 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: الحكم، عن عليّ بن الحسين، عن ذكوان.
3 -
(ومنها): أن شيخيه: ابن المثنّى، وابن بشار من المشايخ التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.
4 -
(ومنها): أن عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210)، والله تعالى أعلم.
(عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِأَرْبَعٍ) أي: لأربع ليال (مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّة، أَو خَمْسٍ) شكّ من عائشة رضي الله عنها، أو ممن بعدها، وسيأتي في حديث جابر "أنه صلى الله عليه وسلم قَدِمَ صبح رابعة مضت من ذي الحجة"(فَدَخَلَ عَلَيَّ، وَهُوَ غَضْبَانُ) أي: ملآن من الغضب حين تأخر بعض أصحابه في فسخ
الحج إلى العمرة، قال النوويّ رحمه الله: أما غضبه صلى الله عليه وسلم فلانتهاك حرمة الشرع، وتردّدهم في قبول حكمه، وقد قال الله تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]، فغضب صلى الله عليه وسلم؛ لما ذكرناه من انتهاك حرمة الشرع، والحزن عليهم في نقص إيمانهم بتوقفهم. انتهى
(1)
.
(فَقُلْتُ: مَنْ أَغْضَبَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ أَدْخَلَهُ اللهُ النَّارَ) هذا دعاء من عائشة رضي الله عنها، أو إخبار منها بذلك، وفيه جواز الدعاء على المخالف لحكم الشرع.
وقال القرطبيّ رحمه الله: كأنها سبق لها أن الذي يُغضب النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما هو منافقٌ، فدَعَت عليه بذلك. انتهى
(2)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قولها: "من أغضبك": "من" يجوز أن تكون شرطيّةً، وجوابها "أدخله الله النار"، وأن تكون استفهاميّة على سبيل الإنكار، وقولها:"أدخله الله النار" على هذا لا يكون إلا دعاءً، بخلاف الأول، فإنه يَحْتَمل الدعاء، والإخبار. انتهى
(3)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَوَ مَا شَعَرْتِ) بفتح العين المهملة؛ أي: أَوَ ما عَلِمت (أَنِّي أَمَرْتُ النَّاسَ) بفتح الهمزة؛ لوقوعها موقع المفرد؛ حيث وقعت مفعولًا لـ"شَعَرتُ"؛ أي: أمري الناسَ، والمراد بعض الناس، وهم الذين أحرموا بالحجّ مفردًا، أو أحرموا بالحج والعمرة قرانًا، ولم يكن معهم هدي، وقوله:(بِأَمْرٍ) نتعلّق بـ"أمرتُ"؛ أي: وهو فسخ الحجّ (فَإِذَا هُمْ يَتَرَدَّدُونَ")"إذا" هي الْفُجائيّة؛ أي: ففاجأ أن بعضهم يترددون؛ أي: في طاعة الأمر، والمسارعة فيه، أو في أن هذه الطاعةَ هل هي نقصان بالنسبة إلى حجهم؟ قاله القاري
(4)
.
(قَالَ الْحَكَمُ: "كَأَنَّهُمْ يَتَرَدَّدُونَ أَحْسِبُ) قال القاضي عياض رحمه الله: كذا وقع هذا اللفظ، وهو صحيح، وإن كان فيه إشكال، قال: وزاد إشكاله تغيير
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 155.
(2)
"المفهم" 3/ 316.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1975.
(4)
"مرقاة المفاتيح" 5/ 484.
فيه، وهو قوله:"قال الحكم: كأنهم يترددون"، وكذا رواه ابن أبي شيبة عن الحكم، ومعناه أن الحكم شكّ في لفظ النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا، مع ضبطه لمعناه، فشكّ هل قال: يترددون، أو نحوه من الكلام، ولهذا قال بعده:"أحسب" أي: أظنّ أن هذا لفظه، ويؤيده قول مسلم بعده في حديث غندر:"ولم يذكر الشكّ من الحكم في قوله: يترددون"، والله أعلم. انتهى
(1)
.
(وَلَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ، مَا سُقْتُ الْهَدْيَ مَعِي) أي: من الميقات (حَتَّى أَشْتَرِيَهُ) أي: من مكة، أو من الطريق، قال الطيبيّ رحمه الله:"حتى" بمعنى "كي"، و"أشتريه" منصوب به. انتهى
(2)
. (ثُمَّ أَحِلَّ) بالنصب عطفًا على "أشتريَهُ"، ويوجد مضبوطًا بضبط القلم "أَحِلُّ" بالرفع، فعليه يكون بتقدير مبتدإ؛ أي: فأنا أحلّ (كَمَا حَلُّوا") أي: مثل حلّ الصحابة المأمورين به.
قال القرطبيّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "لو استقبلت من أمري
…
إلخ" هذا يدل
على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن أحرم به متحتمًا متعينًا عليه، وأنه كان مخيَّرًا بين أنواع الإحرام، فأحرم بأحدها، ثم إنه لما قلَّد الهدي لم يمكنه أن يتحلل حتى ينحره يوم النحر بمحله، فمعنى الكلام: لو ظهر لي قبل الإحرام ما ظهر عند دخول مكة من توقف الناس عن التحلل بالعمرة لأحرمت بعمرة، ولما سُقْتُ الهدي، وإنما قال ذلك تطييبًا لنفوسهم، وتسكينًا لهم. انتهى
(3)
.
وقال الأبّيّ رحمه الله: قوله: "لو استقبلت إلخ" يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم كان مُهلًّا بالحجِّ، ويفسّره قوله في رواية أخرى:"لأهللتُ بالعمرة"، قال: والمعنى: أنه لو أن هذا الذي رأيت في الآخر، وأمرتكم به من الفسخ عَنّ لي في أول الأمر ما سُقت الهدي؛ لأن سوقه يمنع منه؛ لأنه لا يُنحر إلا بعد بلوغه محله يوم النحر، وقال صلى الله عليه وسلم ذلك تطييبًا لنفوسهم حين رآهم يتوقّفون عن الإحلال؛ تأسّيًا به؛ لأنه لم يحلّ، وشقّ عليهم أن يحلّوا، ويبقى هو محرمًا، وما كانوا ليرغبوا بأنفسهم عن نفسه، فطيَّب نفوسهم بذلك، قال: ولا يؤخذ منه أن التمتّع أفضل؛ لأنه تمنّى أن يكون متمتّعًا، وإنما يَتمنّى الأفضل، ولأن الشيء قد
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 155.
(2)
"الكاشف" 6/ 1975.
(3)
"المفهم" 3/ 312.
يكون أفضل باعتبار ذاته، وقد يكون باعتبار ما يقترن به، ولا يلزم أن يكون أفضل باعتبار ذاته، وهو هنا كذلك؛ لأن هذا التكليف يقترن به أنه قصد موافقة الصحابة رضي الله عنهم في الفسخ بما شقّ عليهم. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 2931 و 2932](1211)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 175)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2606)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 310)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): استحباب الغضب عند انتهاك حرمة الدين.
2 -
(ومنها): جواز الدعاء على المخالف لحكم الشرع.
3 -
(ومنها): جواز قول "لو" في التأسف على فوات أمور الدين، ومصالح الشرع، وأما الحديث الصحيح في أن "لو" تفتح عمل الشيطان، فمحمول على التأسف على حظوظ الدنيا ونحوها، وقد كثرت الأحاديث الصحيحة في استعمال "لو" في غير حظوظ الدنيا ونحوها، فيجمع بين الأحاديث بما ذكرناه، قاله النوويّ رحمه الله
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2932]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْحَكَم، سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْن، عَنْ ذَكْوَانَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَرْبَعٍ، أَو خَمْسٍ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّة، بِمِثْلِ حَدِيثِ غُنْدَرٍ، وَلَمْ يَذْكُرِ الشَّكَّ مِنَ الْحَكَمِ فِي قَوْلِهِ: يَتَرَدَّدُونَ).
(1)
"شرح الأبيّ" 3/ 333 - 334.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 155 - 156.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) الْعَنْبريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ العنبريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرِ الشَّكَّ
…
إلخ) فاعل "يَذكُر" ضمير معاذ بن معاذ.
[تنبيه]: رواية معاذ بن معاذ عن شعبة هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2933]
(
…
) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّهَا أَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ، فَقَدِمَتْ، وَلَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ حَتَّى حَاضَتْ، فَنَسَكَتِ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا، وَقَدْ أَهَلَّتْ بِالْحَجِّ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّفْرِ
(1)
: "يَسَعُكِ طَوَافُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ"، فَأَبَتْ، فَبَعَثَ بِهَا مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيم، فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون، تقدّم قريبًا.
2 -
(بَهْزُ) بن أسد الْعَمّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9] مات بعد المائتين، أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.
3 -
(وُهَيْبُ) بن خالد بن عجلان الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبت تغيّر بآخره قليلًا [7](ت 165) أو بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ طَاوُسٍ) أبو محمد اليمانيّ، ثقةٌ عابدٌ فاضلٌ [6](ت 132)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
5 -
(أَبُوهُ) طاوس بن كيسان اليمانيّ، تقدّم قبل باب.
(1)
وفي نسخة: "يوم النحر".
و"عائشة رضي الله عنها" ذُكرت قبله.
وقوله: (أَنَّهَا أَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ) أي: رفعت صوتها بالتلبية للعمرة، وأصل الإهلال رفع الصوت بالتلبية، ثم توسع فيه بإطلاقه على مطلق الإحرام، وإن لم يكن فيه رفع صوت
(1)
.
وقوله: (وَقَدْ أَهَلَّتْ بِالْحَجِّ) أي: مدخلة له على العمرة، وحينئذ فصارت قارنة بعد أن كانت متمتعة، وهو جائز بالإجماع إذا كان قبل الطواف، وإنما فَعَلت ذلك؛ لأنه تعذر عليها إتمام العمرة، والتحلل منها؛ للحيض الطارئ المانع لها من الطواف
(2)
.
وقوله: (يَوْمَ النَّفْرِ) ووقع في بعض النسخ: "يوم النحر"، و"النفر" بسكون الفاء: الرجوع، يقال: نَفَرَ الحجّاج من منى، من بابي ضرب، وقعد: إذا دفعوا، وللحجاج نفَران، فالأول هو اليوم الثاني من أيام التشريق، والثاني هو اليوم الثالث من أيام التشريق
(3)
.
وقوله: ("يَسَعُكِ طَوَافُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ") هذه الرواية والتي بعدها صريحتان في أن عمرة عائشة رضي الله عنها باقية صحيحة مجزئة؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "يسعك طوافك لحجك وعمرتك"، وقد عُلم أن الأعمال الشرعية لا يجوز الخروج منها إما مطلقًا، أو الواجبات منها، ويزيد الحج والعمرة على غيرهما بأنهما لشدة تشبثهما ولزومهما لا يصح الخروج منهما بنية الخروج، وإنما يُخرَج منهما بالتحلل بعد فراغهما.
وقال النوويّ رحمه الله: فيه دلالة ظاهرة على أنها كانت قارنةً، ولم ترفُض العمرة رفض إبطال، بل تركت الاستمرار في أعمال العمرة بانفرادها. انتهى
(4)
.
وقوله: (فَأَبَتْ) أي: امتنعت عن الاكتفاء بالعمرة المندرجة في الحجّ، بل لا بدّ لها من عمرة منفردة كسائر أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، والله تعالى أعلم.
(1)
"طرح التثريب" 5/ 27.
(2)
"طرح التثريب" 5/ 29.
(3)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 617، و"القاموس المحيط" 2/ 146.
(4)
"شرح النوويّ" 8/ 156.
والحديث بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله، أخرجه هنا [17/ 2933](1211)، وأخرجه (أحمد) في "مسنده"(6/ 124)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 287)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 310)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 106) و"المعرفة"(4/ 100)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2934]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا زيدُ بْنُ الْحُبَاب، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّهَا حَاضَتْ بِسَرِفَ، فَتَطَهَّرَتْ بِعَرَفَةَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يُجْزِئُ عَنْكِ طَوَافُكِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ) الخلّال، أبو محمد نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ له تصانيف [11](ت 242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
2 -
(زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ) الْعُكليّ، أبو الحسين الكوفيّ، خُراسانيّ الأصل، صدوقٌ يُخطئ في حديث الثوريّ [9](ت 203) م 4) تقدم في "الطهارة" 6/ 560.
3 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ) المخزوميّ المكيّ، ثقةٌ حافظٌ [7](ع) تقدم في "الزكاة" 24/ 2360.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ) يسار الثقفيّ مولاهم، أبو يسار المكيّ، ثقةٌ رُمي بالقدر، وربما دلّس [6](ت 131) أو بعدها (ع) تقدم في "الجنائز" 6/ 2134.
5 -
(مُجَاهِدُ) بن جَبْر المخزومي مولاهم المكيّ، تقدّم قريبًا.
و"عائشة رضي الله عنها " ذُكرت قبله.
وقولها: (فَتَطَهَّرَتْ بِعَرَفَةَ) قال الحافظ أبو الحسن القطّان رحمه الله: الصحيح عن عائشة رضي الله عنها من غير رواية مجاهد أنها إنما طهرت يوم النحر، ويوم النحر إنما تكون فيه إما بمزدلفة سحرًا، أو بمنى، أو بمكة، قال: وصحّ عنها أيضًا
في كتاب مسلم: "أدركني يوم عرفة، وأنا حائض". انتهى
(1)
.
وقوله: ("يُجْزِئُ عَنْكِ طَوَافُكِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ") تقدّم أن "يجزي" بضمّ أوله، من أجزأ رباعيًّا، أو بفتحه، من جزى ثلاثيًّا، ومعنى "طوافك بالصفا والمروة" سعيك بينهما.
والحديث بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله، أخرجه هنا [17/ 2934](1211)، وأخرجه (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 286)، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: انتقد الحافظ الرشيد العطار في "غرره" هذا الإسناد، فقال: وفي اتصال هذا الإسناد نظر، فإن جماعة من أئمة أهل النقل أنكروا سماع مجاهد عن عائشة، منهم شعبة، ويحيى القطان، ويحيى بن معين، وغيرهم، وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: مجاهد عن عائشة، مرسل.
قال: والعذر لمسلم رحمه الله ما بيّناه في غير موضع من هذا الكتاب، وهو اعتبار التعاصر، وجواز السماع، وإمكانه ما لم يَقُم دليل بَيِّن على خلاف ذلك، ولا خلاف في إدراك مجاهد بن جبر لعائشة رضي الله عنها، ومعاصرته لها، ومع هذا فقد أخرج مسلم معنى هذا الحديث من رواية طاوس، عن عائشة، بإسناد لا أعلم خلافًا في اتصاله، وقَدَّمه على حديث مجاهد هذا - والله عز وجل أعلم -.
وقد أخرج البخاريّ ومسلم حديثًا غير هذا لمجاهد، عن عائشة، من رواية منصور، عن مجاهد، قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا عبد الله بن عمر جالس إلى حجرة عائشة، والناس يصلون الضحى
…
الحديث بكماله، وفيه: وسمعنا استنان عائشة، فقال عروة: ألا تسمعين يا أم المؤمنين إلى ما يقول أبو عبد الرحمن
…
الحديث. انتهى.
قال الرشيد رحمه الله: وفي ظاهر لفظ هذا الحديث ما يدلّ على سماع مجاهد، من عائشة رضي الله عنها، ولهذا أخرجه البخاريّ، ولو لم يكن عنده كذلك لما أخرجه؛ لأنه يشترط اللقاء، وسماع الراوي ممن روى عنه مرة واحدةً فصاعدًا، والله أعلم.
قال: وقد أخرج النسائيّ في "سننه" من رواية موسى الجهنيّ، عن
(1)
راجع: "بيان الوهم والإيهام في كتاب الأحكام" 2/ 392.
مجاهد، قال: أُتِيَ مجاهد بِقَدَح حَزَرته ثمانية أرطال، فقال: حدّثتني عائشة رضي الله عنها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بمثل هذا.
قال الرشيد: وهذا أيضًا يدل على سماعه منها والله عز وجل أعلم. انتهى كلام الرشيد العطّار رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: خلاصة ما أفاده الحافظ الرشيد العطار رحمه الله في بحثه هذا أنه إنما أخرج مسلم هذا الحديث مع أن كثيرًا من الأئمة حكموا بانقطاعه؛ لأمور:
(الأول): وهو الأقوى أنه ثبت دديه سماع مجاهد من عائشة رضي الله عنها، بدليل أنه أخرج مع البخاريّ حديثًا من روايته عنها، فهذا دليل قويّ؛ لأن البخاريّ لا يُخرج في "صحيحه" إلا ما ثبت لديه سماع رواته بعضهم من بعض.
وأيضًا مما يثبت ذلك ما رواه النسائيّ بسند صحيح عنه أنه قال: حدثتني عائشة رضي الله عنها
…
الحديث، وهذا هو القاطع دابر الشكوك والظنون في المسألة، فليُتنبّه.
(والثاني): أنه على تقدير عدم ثبوت سماعه منها صريحًا إلا أن شرط مسلم قد تحقّق، وهو المعاصرة، مع إمكان اللقيّ، كما سبق في "مقدّمة" كتابه.
(والثالث): أن هذا الحديث قد أخرجه مسلم قبله من رواية طاوس، عن عائشة رضي الله عنها، وهذا مما لا خلاف في ثبوت السماع فيه، فتكون رواية مجاهد متابعة، والمتابعة قد يُغتفر فيها ما لا يُغتفر في الأصول، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2935]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِث، حَدَّثَنَا قُرَّةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ شَيْبَةَ، حَدَّثَتْنَا صَفِيَّةُ بِنْتُ شَيْبَةَ، قَالَتْ: قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: يَا رَسُولَ الله، أَيَرْجِعُ النَّاسُ بِأَجْرَيْن، وَأَرْجِعُ
(1)
"غرر الفوائد" 1/ 329 - 332، وقد سبق هذا البحث في "شرح المقدّمة" 1/ 138.
بِأَجْرٍ؟ فَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَنْطَلِقَ بِهَا إِلَى التَّنْعِيم، قَالَتْ: فَأَرْدَفَنِي خَلْفَهُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ، قَالَتْ: فَجَعَلْتُ أَرْفَعُ خِمَارِي، أَحْسُرُهُ عَنْ عُنُقِي، فَيَضْرِبُ رِجْلِي بِعِلَّةِ الرَّاحِلَة، قُلْتُ لَهُ: وَهَلْ تَرَى مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: فَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ أَقْبَلْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ بِالْحَصْبَةِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ) البصريّ، ثقةٌ [10](ت 248) أو بعدها (م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.
2 -
(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.
3 -
(قُرَّةُ) بن خالد السَّدُوسيّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [6](ت 155)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 126.
4 -
(عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ شَيْبَةَ) بن عثمان الحجبيّ المكيّ، ثقةٌ [5](ع) تقدم في "الصيام" 26/ 2681.
5 -
(صَفِيَّةُ بِنْتُ شَيْبَةَ) بن عثمان بن أبي طلحة العبدريّ، لها رؤيةٌ، حدّثت عن عائشة وغيرها من الصحابة، وفي "صحيح البخاريّ" التصريح بسماعها من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنكر الدارقطنيّ إدراكها (ع) تقدمت في "الحيض" 3/ 699.
و"عائشة رضي الله عنها " ذُكرت قبله.
وقولها: (فجَعَلْتُ أَرْفَعُ خِمَارِي، أَحْسُرُهُ عَنْ عُنُقِي، فَيَضْرِبُ رِجْلِي بِعِلَّةِ الرَّاحِلَة، قُلْتُ لَهُ: وَهَلْ تَرَى مِنْ أَحَدٍ؟).
قال النوويّ رحمه الله: أما قولها: "أحسره" فبكسر السين وضمها لغتان؛ أي: أكشفه، وأزيله، وأما قولها:"بعلّة الراحلة" فالمشهور في اللغة أنه بباء موحدة، ثم عين مهملة مكسورتين، ثم لام مشدّدة، ثم هاء، وقال القاضي عياض رحمه الله: وقع في بعض الروايات "نَعْلَة" يعني بالنون، وفي بعضها بالباء، قال: وهو كلام مُخْتَلّ، قال: قال بعضهم: "صوابه: ثَفِنة الراحلة
(1)
" - بفتح الثاء، وكسر
(1)
عبارة القاضي في "مشارق الأنوار" 1/ 143: وفيه ذكر ثَفِنة الراحلة - بفتح الثاء، =
الفاء - أي فخذها، يريد ما خَشُن من مواضع مباركها، قال أهل اللغة: كلُّ ما وَليَ الأرضَ من كلّ ذي أربع إذا بَرَكَ فهو ثَفِنة، قال القاضي: ومع هذا فلا يستقيم هذا الكلام، ولا جوابها لأخيها بقولها:"وهل ترى من أحد"، ولأن رجل الراكب قَلّما تبلغ ثَفِنة الراحلة، قال: وكل هذا وهمٌ، قال: والصواب فيضرب رِجْلي بنعلة السيف، يعنى أنها لما حَسَرت خمارها ضرب أخوها رجلها بنعلة السيف، فقالت: وهل ترى من أحد؟ انتهى كلام القاضي رحمه الله.
قال النوويّ رحمه الله: ويَحْتَمِل أن المراد: فيضرب رجلي بسبب الراحلة؛ أي: يضرب رجلي عامدًا لها في صورة من يضرب الراحلة، ويكون قولها:"بعلة" معناه: بسبب، والمعنى أنه يضرب رجلها بسوط، أو عصا، أو غير ذلك حين تكشف خمارها عن عنقها غَيْرَةً عليها، فتقول له هي: وهل ترى من أحد؟ أي: نحن في خَلاء، ليس هنا أجنبي أستتر منه، وهذا التأويل متعين، أو كالمتعين؛ لأنه مطابق للّفظ الذي صحت به الرواية، وللمعنى، ولسياق الكلام، فتعيّن اعتماده، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله النوويّ حسنٌ جدًّا؛ إذ به يصحّ ما ثبت
= وكسر الفاء، وتخفيف النون -: وهو ما ولي الأرض من كل ذي أربع، إذا بَرَكَ، قيل: والمراد هنا فخذها، كذا جاء هذا الحرف في رواية الهوزنيّ في حديث عائشة في الحجّ في قولها:"فتضرب رجلي ثفنة الراحلة"، ولأكثر الرواة:"نَعْلة الراحلة"، قال: إلا أني وجدته في بعض الأصول من طريق ابن ماهان: "ثقلة" بفتح القاف والثاء المثلثة، ووجدت شيخنا القاضي أبا عبد الله قيّده عن الجيانيّ "بعلة الراحلة" بالباء بواحدة، وكسر العين، قالوا: والصواب ثفنة، قال القاضي رحمه الله: وكلها لا يستقيم لها معنى، بدليل ما قبل الكلام وبعده؛ لأنها قالت:"فجعلت أرفع خماري، أحسره عن عنقي، فتضرب رجلي نعلة الراحلة، قلت: وهل ترى من أحد؟ "، قال: وصوابه عندي: فيضرب رجلي، بالياء، تعني أخاها؛ لأنها حسرت خمارها عن عنقها، ألا تراها كيف اعتذرت له بقولها:"وهل ترى من أحد"، وإلا فما كانت فائدة هذا الكلام، ولما جاءت به، ثم يكون الصواب إما بنعلة سيفه؛ لأنها كانت ردفه، أو ما يشبه هذا. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله.
في الكتاب، وأما ما سلكه القاضي عياض، وإن كان معنى صحيحًا إلا أنه يؤول إلى تخطئة الرواية الصحيحة، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب.
وقولها: (حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ بِالْحَصْبَةِ) - بفتح الحاء، وإسكان الصاد المهملتين؛ أي: بالمحصَّب.
والحديث بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله، أخرجه هنا [17/ 2935](1211)، وأخرجه (النسائيّ) في "الكبرى" في "الحج"(3893) وفي "عِشرة النساء"(9234)، و (إسحاق ابن راهويه) في "مسنده"(3/ 682)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 310)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2936]
(1212) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، أَخْبَرَهُ عَمْرُو بْنُ أَوْسٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يُرْدِفَ عَائِشَةَ، فَيُعْمِرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَمْرٍو) بن دينار الأثرم المكيّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(عَمْرُو بْنُ أَوْسِ) بن أبي أوس الثقفيّ الطائفيّ التابعيّ الكبير، ثقةٌ [2] ووهم من ذكره في الصحابة، مات بعد التسعين (ع) تقدم في "صلاة المسافرين" 16/ 1694.
3 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ) الصدّيق، شقيق عائشة رضي الله عنها، تأخّر إسلامه إلى قبيل الفتح، وشَهِدَ اليمامة، والفتوح، ومات سنة (53) في طريق مكة فَجْأةً، وقيل: بعد ذلك (ع) تقدم في "الطهارة" 9/ 572.
والباقون ذُكروا في الباب، و"ابن نُمير" هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، و"سفيان" هو: ابن عيينة.
وقوله: (أَمَرَهُ أَنْ يُرْدِفَ عَائِشَةَ) بضمّ حرف المضارعة، من الإرداف، وهو أن يُركبها خلفه على ظهر بعيره.
وقوله: (فَيُعْمِرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ) بضمّ حرف المضارعة أيضًا، من الإعمار؛ أي: يجعلها تعتمر من التنعيم.
قال في "الفتح": هذا الحديث يدلّ على أن إعمارها من التنعيم كان بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأصرح منه ما أخرجه أبو داود، من طريق حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أبيها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا عبد الرحمن أَرْدِف أختك عائشة، فأعمرها من التنعيم
…
" الحديث، ونحوه رواية مالك السابقة، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها: "أرسلني النبيّ صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن إلى التنعيم"، ورواية الأسود، عن عائشة: قال: "فاذهبي مع أخيك إلى التنعيم"، ورواية الأسود والقاسم جميعًا عنها بلفظ: "فاخرجي إلى التنعيم"، وهو صريح بأن ذلك كان عن أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك يُفسِّر قوله في رواية القاسم عنها السابقة بلفظ: "اخرُج بأختك من الحرم". انتهى
(1)
، وهو بحث مفيدٌ.
والحديث متّفقٌ عليه، أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 2936](1212)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1784) و"الجهاد"(2985)، و (الترمذيّ) في "الحجّ"(934)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4230)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(2999)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 112)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 149) وفي "مسنده"(2/ 295)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 156)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 197)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 296)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 311)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 357) و"الصغرى"(4/ 335) و"المعرفة"(3/ 509)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2937]
(1213) - (حَدَّثَنَا قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، جَمِيعًا عَن اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ: أَقْبَلْنَا مُهِلِّينَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِحَجٍّ مُفْرَدٍ، وَأَقْبَلَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها بِعُمْرَةٍ، حَتَّى
(1)
"الفتح" 5/ 20.
إِذَا كُنَّا بِسَرِفَ عَرَكَتْ
(1)
، حَتَّى إِذَا قَدِمْنَا طُفْنَا بِالْكَعْبَة، وَالصَّفَا وَالْمَرْوَة، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَحِلَّ مِنَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، قَالَ: فَقُلْنَا: حِلُّ مَاذَا؟ قَالَ: "الْحِلُّ كُلُّهُ"، فَوَاقَعْنَا النِّسَاءَ، وَتَطَيَّبْنَا بِالطِّيب، وَلَبِسْنَا ثِيَابَنَا، وَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ إِلَّا أَرْبَعُ لَيَالٍ، ثُمَّ أَهْلَلْنَا يَوْمَ التَّرْوِية، ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها، فَوَجَدَهَا تَبْكِي، فَقَالَ:"مَا شَأْنُكِ؟ " قَالَتْ: شَأْنِي أَنِّي قَدْ حِضْتُ، وَقَدْ حَلَّ النَّاسُ، وَلَمْ أَحْلِلْ، وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْت، وَالنَّاسُ يَذْهَبُونَ إِلَى الْحَجِّ الْآنَ، فَقَالَ:"إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَاغْتَسِلِي، ثُمَّ أَهِلِّي بِالْحَجِّ"، فَفَعَلَتْ، وَوَقَفَتِ الْمَوَاقِفَ، حَتَّى إِذَا طَهَرَتْ طَافَتْ بِالْكَعْبَة، وَالصَّفَا وَالْمَرْوَة، ثُمَّ قَالَ:(قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ جَمِيعًا"، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي أَنِّي لَمْ أَطُفْ بِالْبَيْت، حَتَّى حَجَجْتُ، قَالَ: "فَاذْهَبْ بِهَا يَا عَبْدَ الرَّحْمَن، فَأَعْمِرْهَا مِنَ التَّنْعِيمِ"، وَذَلِكَ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ) بن المهاجر التجيبيّ المصريّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس، تقدّم قبل باب.
4 -
(جَابِرُ) بن عبد الله بن عمرو بن حَرَام رضي الله عنهما، تقدّم في الباب الماضي.
و"الليث بن سعد" ذُكر في الباب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رُباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (183) من رباعيّات الكتاب.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخه ابن رُمح، فانفرد به هو وابن ماجه.
(1)
وفي نسخة: "عرَكَت عائشة".
3 -
(ومنها): أن فيه مصريين: ابن رُمح، والليث، ومكيّين: أبو الزبير، وجابر، وهو مدني، وقد سكن مكة أيضًا، وبَغلانيّ، وهو قُتيبة.
4 -
(ومنها): أن فيه جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ جَابِرِ) بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: أَقْبَلْنَا) أي: توجهنا إلى مكة حال كوننا (مُهِلِّينَ) أي: رافعين أصواتنا بالتلبية (مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بِحَجٍّ مُفْرَدٍ) هذا باعتبار أغلبهم، وإلا فبعضهم قرن، كالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وذوي أليسار من أصحابه (وَأَقْبَلَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها مُهِلَةً بعُمْرَةٍ) أي: باعتبار آخر أمرها، وإلا فإنما أهلُّوا في الميقات بالحجّ، لكن لما أمر خيّرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في الطريق أن يجعلوها عمرة، فمنهم من جعلها عمرة، ومنهم من استمرّ على حجه حتى عَزَمَ الأمرَ عند المروة، ففَرَضَ عليهم أن يتحللوا بالعمرة، فصاروا كلهم معتمرين (حَتَّى إِذَا كُنَّا بِسَرِفَ) بفتح المهملة، وكسر الراء، بعدها فاء: موضع قريبٌ من مكة بينهما نحو من عشرة أميال، وهو ممنوع من الصرف، وقد يصرف. قاله في "الفتح" (عَرَكَتْ) - بفتح العين والراء؛ أي: حاضت عائشة رضي الله عنها، يقال: عَرَكت تعرُك عُرُوكًا، من باب قعد: إذا حاضت (حَتَّى إِذَا قَدِمْنَا، طُفْنَا بِالْكَعْبَة، وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) ولفظ النسائيّ: "وبالصفا والمروة"؛ أي: وسعينا بينهما (فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يَحِلَّ مِنَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، قَالَ: فَقُلْنَا: حِلُّ مَاذَا؟) أي: أيّ نوع من الحلّ هذا الحلّ؟ فإن الإحرام يحصل به حُرُم متعدّدة.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا سؤال من جوّز أنه يُحلّ من بعض الأشياء دون بعضها، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الحلّ كله" لا يبقى معه شيء من ممنوعات الإحرام بعد التحلّل المأمور به. انتهى
(1)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("الْحِلُّ كُلُّهُ") مبتدأ خبره محذوف؛ أي: جائز، أو فاعل لفعل مقدّر؛ أي: يجوز الحلّ، و"كله" توكيد، يعني أن كلّ الأشياء التي مُنِعت بسبب
(1)
"المفهم" 3/ 320.
الإحرام تحلّ لكم (فَوَاقَعْنَا النِّسَاءَ) أي: فتحلّلنا، وجامعنا النساء (وَتَطَيَّبْنَا بِالطِّيب، وَلَبِسْنَا ثِيَابَنَا) أي: الثياب الممنوعَ لبسُها في الإحرام (وَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ، إِلَّا أَربَعُ لَيَالٍ) يعني أنه لم يبق للوقوف بعرفة إلا أربع ليال، وذلك لأنهم دخلوا مكة لأربع ليال مضين من ذي الحجة، فطافوا، وتحللوا، فلم يبق بينهم وبين عرفة إلا ليلة الخامس، والسادس، والسابع، والثامن (ثُمَّ أَهْلَلْنَا يَوْمَ التَّرْوِيةِ) أي: أحرمنا بالحجّ يوم التروية، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة، وسمي بذلك؛ لأن الماء كان قليلًا بمنى، فكانوا يرتوون من الماء لما بَعْدُ، قاله الفيّوميّ.
قال النوويّ: وفيه دليل لمذهب الشافعيّ، وموافقيه أن من كان بمكة، وأراد الإحرام بالحجّ استُحبّ له أن يُحرم يوم التروية، ولا يقدّمه عليه. انتهى.
(ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها، فَوَجَدَهَا تَبْكِي، فَقَالَ: "مَا شَأْنُكِ؟ "، فَقَالَتْ: شَأْنِي أَنِّي قَدْ حِضْتُ، وَقَدْ حَلَّ النَّاسُ) أي: من إحرامهم بالحجّ بعمل العمرة (وَلَمْ أُحْلِلْ) بضم أوله، من الإحلال رباعيًّا، وبفتحه من الحلّ ثلاثيًّا، يقال: حلّ المحرم حِلًّا بالكسر: خرج من إحرامه، وأحلّ بالألف مثله، فهو مُحِلٌّ، وحِلٌّ أيضًا تسمية بالمصدر، وحلالٌ أيضًا، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
ثم ذكرت سبب عدم إحلالها بقولها: (وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ) أي: لكونها حائضًا (وَالنَّاسُ يَذْهَبُونَ إِلَى الْحَجِّ الْآنَ، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّ هَذَا) إشارة إلى الحيض الذي حلّ بها، فمنعها من الطواف بالبيت (أَمْرٌ، كَتَبَهُ اللهُ) أي: قدّره من غير اختيار الشخص فيه، فلا عتب على الشخص به (عَلَى بَنَاتِ آدَمَ) قال النوويّ رحمه الله: هذا تسلية لها، وتخفيف لهمّها، ومعناه أنك لست مختصّة به، بل كلّ بنات آدم يكون منهنّ هذا، كما يكون منهنّ، ومن الرجال البول والغائط، وغيرهما.
وقد استدلّ البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" في "كتاب الحيض" بعموم هذا
(1)
"المصباح المنير" 1/ 147.
الحديث على أن الحيض كان في جميع بنات آدم، وأنكر به على من قال: إن الحيض أول ما أُرْسِل، ووقع في بني إسرائيل. انتهى.
ولفظ البخاريّ: باب كيف كان بدء الحيض، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"هذا شيء كتبه الله على بنات آدم"، وقال بعضهم: كان أول ما أُرسل الحيض على بني إسرائيل، قال أبو عبد اللَّه: وحديث النبيّ صلى الله عليه وسلم أكثر. انتهى.
والذي أشار إليه البخاريّ هو ما أخرجه عبد الرزاق عن ابن مسعود رضي الله عنه بإسناد صحيح، قال:"كان الرجال والنساء في بني إسرائيل يصلّون جميعًا، فكانت المرأة تتشرّف للرجل، فألقى الله عليهنّ الحيض، ومنعهن المساجد"، وعنده عن عائشة رضي الله عنها نحوه.
قال الداوديّ: ليس بينهما مخالفة، فإن نساء بني إسرائيل من بنات آدم، فعلى هذا فقوله:"بنات آدم" عام أريد به الخصوص.
قال الحافظ: ويمكن أن يُجْمَع بينهما مع القول بتعميمه بأن الذي أرسل على نساء بني إسرائيل طول مكثه بهنّ عقوبة لهنّ، لا ابتداء وجوده، وقد روى الطبريّ، وغيره عن ابن عباس وغيره أن قوله تعالى في قصّة إبراهيم:{وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} الآية [هود: 17] أي: حاضت، والقصّة متقدّمة علي بني إسرائيل بلا ريب، وروى الحاكم، وابن المنذر بماسناد صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنهما:"أن ابتداء الحيض كان على حواء بعد أن أُهبطت من الجنة"، وإذا كان كذلك، فبنات آدم بناتها، والله أعلم. انتهى
(1)
.
(فَاغْتَسِلِي) قال النوويّ رحمه الله: هذا الغسل هو الغسل للإحرام، وقد سبق بيانه، وأنه يستحبّ لكلّ من أراد الإحرام بحجّ، أو عمرة، سواء الحائض، وغيرها. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد سبق أن الراجح وجوبه على الحائض والنفساء؛ لظاهر الأمر، والله تعالى أعلم.
(ثُمَّ أَهِلِّي بِالْحَجِّ"، فَفَعَلَتْ، وَوَقَفَتِ الْمَوَاقِفَ) أي: عرفة، ومزدلفة، ومنى (حَتَّى إِذَا طَهَرَتْ) بفتح الطاء، وضمها، والفتح أفصح.
(1)
"الفتح" 1/ 532 "كتاب الحيض" رقم (294).
واعلم أن طهر عائشة رضي الله عنها هذا المذكور كان يوم السبت، وهو يوم النحر في حجة الوداع، وكان ابتداء حيضها هذا يوم السبت أيضًا لثلاث خَلَون من ذي الحجة سنة عشر، ذكره أبو محمد بن حزم في "كتاب حجة الوداع"
(1)
.
(طَافَتْ بِالْكَعْبَة، وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) أي: سعت بينهما (ثُمَّ قَالَ: "قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجَّتِكِ وَعُمْرَتِكِ جَمِيعًا") هذا صريح في أن عمرتها لم تَبْطُل، ولم تخرج منها، وأن قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية المتقدّمة:"ارفُضي عمرتك"، و"دَعِي عمرتك" ليس معناه إبطالها بالكلية، والخروج منها، فإن العمرة، والحجّ لا يصحّ الخروج منهما بعد الإحرام بنيّة الخروج، وإنما يُخرَج منهما بالتحلل بعد فراغهما، فيكون معناه: ارفضي العمل فيها، وإتمام أفعالها التي هي الطواف، والسعي، وتقصير شعر الرأس، فأمرها صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن أفعال العمرة، وأن تُحْرِم بالحجّ، فتصير قارنة، وتقف بعرفات، وتفعل المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، فتؤخّره حتى تطهر، وكذلك فعلت عائشة رضي الله عنها، فقوله صلى الله عليه وسلم هنا:"قد حَلَلْتِ من حجتك، وعمرتك جميعًا" يوضّح هذا التأويل.
قال النووي رحمه الله: يُستنبط منه - أي: من قوله صلى الله عليه وسلم: "قد حَلَلتِ من حجتك، وعمرتك جميعا" - ثلاث مسائل:
[إحداها]: أن عائشة رضي الله عنها كانت قارنة، ولم تبطل عمرتها، وأن الرفض المذكور مُتَأَوَّلٌ، كما سبق.
[والثانية]: أن القارن يكفيه طواف واحد، وسعيٌ واحد، وهو مذهب الشافعيّ، والجمهور، وقال أبو حنيفة، وطائفة: يلزمه طوافان وسعيان، والحديث يردّ عليهم.
[والثالثة]: أن السعي بين الصفا والمروة يُشتَرط وقوعه بعد طواف صحيح، وموضع الدلالة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تصنع ما يصنع الحاجّ، غير الطواف بالبيت، ولم تسع كما لم تطف، فلو لم يكن السعي متوقّفًا على تقدم الطواف عليه لَمَا أخّرته. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في هذا الاستدلال نظر لا يخفى؛ فإن
(1)
راجع: "شرح النوويّ" 8/ 394.
حديث "سعيت قبل أن أطوف، قال: طف ولا حرج" يردّ عليه، والحقّ أن تقديم السعي على الطواف جائزٌ، فتنبه، والله تعالى أعلم.
(فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي) أي: حيث لم أعتمر عمرة مستقلّة، كسائر أمهات المؤمنين رضي الله عنهن (أَنِّي لَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ)"إنّ" الأولى بالكسر؛ لوقوعها في الابتداء، والثانية بالفتح؛ لوقوعها موقع المفرد؛ لأنها مفعول "أجد"، وهي من النواسخ التي تنصب المبتدأ والخبر، كـ"ظنّ" وأخواتها، والتقدير هنا: إني أجد في نفسي عدمَ طوافي بالبيت نقصًا عليّ، والله تعالى أعلم.
وقولها: (حَتَّى حَجَجْتُ) متعلّق بـ"أطف"؛ أي: إلى أن انتهيتُ من الحجِّ (قَالَ: "فَاذْهَبْ بِهَا يَا عَبْدَ الرَّحْمَن، فَأَعْمِرْهَا مِنَ التَّنْعِيمِ"، وَذَلِكَ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ) بفتح الحاء، وسكون الصاد المهملتين؛ أي: ليلة المبيت بالمحصّب بعد النفر من منى.
قال القرطبيّ رحمه الله: "ليلةُ الحصبة": هي الليلة التي ينزل الناس فيها المحصّب عند انصرافهم من منى إلى مكة، والتحصيب: إقامتهم بالمحصّب، وهو الشِّعْب الذي مخرجه إلى الأبطح، وهو منزل النبيّ صلى الله عليه وسلم حين انصرف من حجته، وهو خيف بني كنانة الذي تقاسمت فيه في الصحيفة التي كتبوها بمقاطعة بني هاشم، وهو بين مكة ومنى، وربما يُسمّى الأبطح، والبطحاء؛ لقربه منه.
وقال الأبيّ رحمه الله: والمحصّب موضع بين مكة ومنى، وهو إلى منى أقرب، وإلى منى يُضاف، ودليله قول الشافعيّ، وهو عالم بمكة وأحوازها [من الكامل]:
يَا رَاكِبًا قِفْ بِالْمُحَصَّبِ مِنْ مِنَى
…
وَاهْتِفْ بِنَاطِقِ خَيْفِهَا وَالنَّاهِضِ
قال: وإنما يتمّ الاحتجاج بالبيت إن جُعل "من منى" في موضع الصفة و"المحصّب"، وأما إذا عُلِّقَ بـ"راكبًا" فلا تكون فيه حجة.
قال الجامع عفا الله عنه: الوجه الأول هو الظاهر، فلا يُعدل عنه، فتنبّه.
قال: ونظير البيت قول عمر بن ربيعة [من الطويل]:
نَظَرْتُ إِلَيْهَا بِالْمُحَصَّبِ مِنْ مِنَى
وأَبْيَنُ من البيتين قول مجنون بني عامر [من الطويل]:
وَدَاعٍ دَعَا إِذْ نَحْنُ بِالْخَيْفِ مِنْ مِنَى
…
فَهَيَّجَ لَوْعَاتِ الْعُوَّادِ وَمَا يَدْرِي
دَعَا بِاسْمِ لَيْلَى غَيْرَهَا فَكَأَنَّمَا
…
أَطَارَ بِلَيْلَى طَائِرًا كَانَ فِي صَدْرِي
(1)
قال القرطبيّ رحمه الله: ونُزُولُهُ بعد النفر من منى، والإقامة به إلى أن يصلي الظهر، والعصر، والعشاءين، ويخرج منه ليلًا سنةٌ عند مالك، والشافعيّ، وبعض السلف؛ اقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يره بعضهم، وقالوا: إنما نزله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أسمح لخروجه إلى المدينة. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن الأرجح استحباب النزول بالمحصّب؛ اقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]، والله تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 2937 و 2938 و 2939 و 2940](1213)، و (أبو داود) في "المناسك"(1785 و 1786)، و (النسائيّ) في "المناسك"(5/ 164) و"الكبرى"(2/ 356)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 394)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(3025 و 3026)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(9/ 234)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 311)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(7/ 121)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 347) و" الصغرى"(4/ 304) و"المعرفة"(4/ 98)، وأما فوائد الحديث فقد تقدّمت في الأحاديث الماضية، والحمد لله على التوفيق.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في اشتراط الطهارة للطواف بالبيت:
(1)
"شرح الأبيّ" 3/ 328.
(2)
"المفهم" 3/ 307، و"شرح الأبيّ" 3/ 328.
قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله عند قوله: "غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري":
فيه نهي الحائض عن الطواف حتى ينقطع دمها، وتغتسل، والنهي في العبادات يقتضي الفساد، وذلك يقتضي بطلان الطواف لو فعلته، وفي معناه الجنابة، وكذا سائر الأحداث، وهذا يدلّ على اشتراط الطهارة في صحّة الطواف، وقد ذكر هذا الاستدلال ابن المنذر، وغيره.
ويدلّ له أيضًا ما رواه البيهقيّ وغيره من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أباح فيه الكلام"، لكن الصحيح وقفه على ابن عبّاس، كما ذكره البيهقيّ وغيره، وقد يقال: إنه مرفوع حكمًا، وإن لم يكن مرفوعًا لفظًا؛ لأن مثله لا يقال من قبل الرأي.
ويدلّ له أيضًا ما رواه البخاريّ، ومسلم عن عائشة رضي الله عنها:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أول شيء بدأ به حين قدم مكة أن توضأ، ثم طاف بالبيت"، مع قوله صلى الله عليه وسلم:"خذوا عني مناسككم".
وبهذا قال مالك، والشافعيّ، وأحمد، وأكثر العلماء من السلف والخلف، وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر، والحسن بن عليّ، وأبي العالية، ومالك، والثوريّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وحكاه الخطابيّ عن عامة أهل العلم، وحكاه النوويّ في "شرح المهذّب" عن عامة العلماء.
قال: وانفرد أبو حنيفة، فقال: الطهارة ليست بشرط للطواف، فلو طاف، وعليه نجاسة، أو محدثًا، أو جنبًا صحّ طوافه، واختلف أصحابه في كون الطهارة واجبة مع اتفاقهم على أنها ليست شرطًا، فمن أوجبها منهم قال: إن طاف محدثًا لزمه شاة، وإن طاف جنبًا لزمه بدنة، قالوا: ويعيد ما دام بمكة.
وعن أحمد روايتان: إحداهما: كمذهبنا - يعني الشافعيّة - والثانية: إن أقام بمكة أعاده، وإن رجع إلى بلده جبره بدم.
وقال داود: الطهارة للطواف واجبة، فإن طاف محدثًا أجزأه، إلا الحائض، وقال المنصوريّ من أصحاب داود ة الطهارة شرط كمذهبنا. انتهى.
قال وليّ الدين: وفيما ذكره من انفراد أبي حنيفة بذلك نظر، فقد روى ابن أبي شيبة في "مصنّفه" عن غندر، عن شعبة، قال: سألت الحكم، وحمادًا،
ومنصورًا، وسليمان، عن الرجل يطوف بالبيت على غير طهارة، فلم يروا به بأسًا، وروى ابن أبي شيبة أيضًا عن عطاء، قال: إذا طافت المرأة ثلاثة أطواف، فصاعدًا، ثم حاضت أجزأ عنها، وذكر ابن حزم في "المحلّى" عن عطاء، قال: حاضت امرأة، وهي تطوف مع عائشة أم المؤمنين، فأتمّت بها عائشة بقية طوافها، قال ابن حزم: فهذه أم المؤمنين لم تر الطهارة من شروط الطواف. انتهى.
وفي تقييد هذه الرواية عن أحمد بالعود إلى بلده نظر، فقد حكى المجد بن تيمية في "المحرّر" رواية عن أحمد أن الطهارة واجبة تُجبر بالدم، ولم يقيّد ذلك بشيء.
وعند المالكية قول يوافق هذا فحكى ابن شاس في "الجواهر" عن المغيرة أنه إن طاف غير متطهّر أعاد ما دام بمكة، فإن أصاب النساء، وخرج إلى بلده أجزأه.
وقال ابن حزم من أهل الظاهر: الطواف بالبيت على غير طهارة جائز للنفساء، ولا يحرم إلا على الحائض فقط؛ للنهي فيه، وهذا جمود عجيب، وقد تقدّم في حديث ابن عباس ذكر النفساء مع الحائض، وسكت عليه أبو داود، وحسّنه الترمذيّ. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يترجّح عندي هو قول الجمهور من أن الطهارة واجبة للطواف؛ لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "حتى تطهري"، فعلّق حلّ الطواف بالطهارة، فلولا أنها شرط فيه لما علّق حله بها، ولحديث: "الطواف بالبيت صلاة
…
" الحديث، فإنه وإن قيل بوقفه، إلا أن له حكم الرفع، كما تقدّم، وقد حقّقت كونه مرفوعًا صحيحًا في "شرح النسائيّ"
(1)
، فيفيد وجوب الطهارة مثل الصلاة، وبأنه صلى الله عليه وسلم توضأ، ثم طاف بالبيت، وقد قال:"خذوا عني مناسككم"، فهذه الأدلة يستفاد منها وجوب الطهارة للطواف، فتأملها بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): الظاهر أن اشتراط الطهارة في الطواف يعم البدن
(1)
راجع: "ذخيرة العقبى" 25/ 197 - 199 برقم (136/ 2923).
والثوب، والمكان الذي يطؤه في الطواف، وبهذا قال الشافعية، والمالكية، والحنابلة، وغيرهم، لكن اغتفر المالكية ذلك مع النسيان.
قال النووي في "شرح المهذّب": والذي أطلقه الأصحاب أنه لو لاقى النجاسة ببدنه، أو ثوبه، أو مشى عليها عمدًا، أو سهوًا لم يصحّ طوافه، قال: ومما عمّت به البلوى غلبة النجاسة في موضع الطواف من جهة الطير، وغيره، وقد اختار جماعة من أصحابنا المتأخرين المحققين العفو عنها، وينبغي أن يقال: يُعفى عما يشقّ الاحتراز عنه من ذلك، كنظائره. انتهى كلام النوويّ.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله النووي من نجاسة خرء الطير ونحوه مبنيّ على مذهبه، والراجح أن هذه الأشياء ليست بنجس؛ لعدم وجود دليل على ذلك، وقد استوفيت تحقيق ذلك في "أبواب الطهارة" من "شرح النسائيّ"، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في اشتراط الطهارة للسعي بين الصفا والمروة:
ذهب إلى عدم اشتراطها جمهور العلماء من السلف والخلف، وحكاه ابن المنذر عن عطاء بن أبي رباح، ومالك، والشافعيّ، وأحمد، وأبي ثور، وأصحاب الرأي، قال: وكان الحسن البصريّ يقول: إن ذَكَره قبل أن يحلّ، فليُعد الطواف، وإن ذكره بعدما حلّ فلا شيء عليه.
وقال ابن عبد البرّ: لا أعلم أحدًا اشترط الطهارة فيه إلا الحسن، فإنه قال: إن سعى على غير طهارة، فإن ذكر قبل أن يحلّ فليُعد، وإن ذكر بعدما حلّ فلا شيء عليه. انتهى.
قال الحافظ وليّ الدين: وفيه نظر من وجهين:
[أحدهما]: أنه كلام متهافت، فإن اشتراط الطهارة ينافي الإجزاء مع فقدها، وما علمت أحدًا نُقِل عنه الاشتراط، ولعله يقول بالوجوب فقط، بل في "مصنف ابن أبي شيبة" عن الحسن، وابن سيرين أنهما لم يريا بأسًا أن يطوف الرجل بين الصفا والمروة على غير وضوء، وكان الوضوء أحبّ إليهما، وهذا يقتضي أن الحسن إنما يقول باستحباب الطهارة له، كما يقوله غيره من العلماء.
[ثانيهما]: أن الحسن لم ينفرد بذلك، ففي مصنف ابن أبي شيبة عن أبي العالية أنه قال: لا تقرأ الحائض القرآن، ولا تصلي، ولا تطوف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة، وقال: الطواف بين الصفا والمروة عدل الطواف بالبيت، وعن ابن عمر رضي الله عنهما:"تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة"، وهو في "الموطإ" عن ابن عمر أيضًا:"لا تطوف بالبيت، ولا تسعى بين الصفا والمروة، ولا تقرب المسجد حتى تطهر". وهو رواية عن أحمد بن حنبل أنه تجب له الطهارة كالطواف، حكاها عنه ابن تيمية في "المحرّر". انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: جاء في رواية يحيى بن يحيى في "الموطإ" في حديث عائشة رضي الله عنها، مرفوعًا:"غير أن لا تطوفي بالبيت، ولا بين الصفا والمروة حتى تطهري"، قال ابن عبد البرّ: لم يقله من رواة "الموطإ"، ولا غيرهم إلا يحيى. انتهى.
وأشار بهذا إلى أنها شاذّة، فإن صحّت هذه الرواية دلّت على وجوب الطهارة للسعي، وإلا فالأصل البقاء على جواز السعي بلا طهارة؛ لعدم دليل الوجوب، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: اختلف في جواز السعي قبل الطواف، فذهب الجمهور - كما قاله في "الفتح" - إلى أنه لا يجوز، وحكى ابن المنذر عن عطاء قولين فيمن بدأ بالسعي قبل الطواف بالبيت، وبالإجزاء قال بعض أهل الحديث، واحتجّ بحديث أسامة بن شريك رضي الله عنه:"أن رجلًا سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: سعيت قبل أن أطوف؟ قال: طف، ولا حرج" وهو حديث صحيح.
وتأوله الجمهور على من سعى بعد طواف القدوم، وقبل طواف الإفاضة، قاله في "الفتح"
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي ذهب إليه القائلون بجواز تقديم السعي على الطواف هو الأرجح عندي؛ لحديث أسامة بن شريك رضي الله عنه المذكور.
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 5/ 122 - 123.
(2)
"الفتح" 4/ 314.
وأما تأويل الجمهور بما ذُكر، ففيه نظر لا يخفى؛ إذ لو كان كذلك لاستفصله النبيّ صلى الله عليه وسلم هل سعى بعد طواف القدوم أم لا؟ فلما لم يستفصله علمنا أنه على عمومه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2938]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ - قَالَ ابْنُ حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ - أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْر، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما يَقُولُ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها، وَهِيَ تَبْكِي، فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ اللَّيْثِ إِلَى آخِرِه، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا قَبْلَ هَذَا مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
كلّهم ذُكروا في الباب.
وقوله: (فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ اللَّيْثِ
…
إلخ) فاعل "ذَكَر" ضمير ابن جريج.
[تنبيه]: رواية ابن جريج، عن أبي الزبير هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى" (5/ 106) فقال:
(9206)
- وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ محمد بن يعقوب الشيبانيّ، ثنا إبراهيم بن إسحاق، ثنا هارون بن عبد الله (ح) وأنبا أبو عبد الله، قال: وأخبرني أبو أحمد الحافظ، أنبأ أبو عروبة، حدثنا الفضل بن يعقوب، قالا: ثنا محمد بن بكر، ثنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابرًا يقول: دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم على عائشة، وهي تبكي، فقال:"ما لك تبكين؟ " قالت: أبكي أن الناس حَلُّوا، ولم أَحْلِل، وطافوا بالبيت، ولم أطف، وهذا الحجّ قد حَضَر، قال:"إن هذا أمر كتبه الله علي بنات آدم، فاغتسلي، وأهلِّي بالحج، ثم حجي"، قالت: ففعلت ذلك، فلما طَهُرت، قال:"طوفي بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم قد حللتِ من حجك وعمرتك"، فقالت: يا رسول الله إني أجد في نفسي من عمرتي، إني لم أكن طُفْت حتى حججت، فقال:"اذهب بها يا عبد الرحمن، فأعمرها من التنعيم". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2939]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، حَدَّثَنَا مُعَاذٌ، يَعْنِي ابْنَ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ مَطَرٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي حَجَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَى حَدِيثِ اللَّيْث، وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ: قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا سَهْلًا، إِذَا هَوِيتِ الشَّيْءَ
(1)
تَابَعَهَا عَلَيْه، فَأَرْسَلَهَا مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، فَأَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ مِنَ التَّنْعِيم، قَالَ مَطَرٌ: قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: فَكَانَتْ عَائِشَةُ إِذَا حَجَّتْ صَنَعَتْ كَمَا صَنَعَتْ مَعَ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: ستةٌ:
1 -
(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ) مالك بن عبد الواحد البصريّ، ثقةٌ [10](230)(م د) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.
2 -
(مُعَاذُ بْنَ هِشَامٍ) الدستوائيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(مَطَرُ) بن طَهْمان الورّاق، أبو رجاء السلميّ مولاهم الْخُرَاسانيّ، سكن البصرة، صدوق كثير الخطإ [6](ت 125)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 1/ 103.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (في حَجَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) متعلّق بـ"أهلّت" بعده.
وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ
…
إلخ) فاعل "ساق" ضمير مطر.
وقوله: (وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا سَهْلًا، إِذَا هَوَيتِ الشَّيْءَ) وفي نسخة: "شيئًا" بالتنكير، و"هَوِيَت" من باب تعبت، يقال: هَوِي الشيء يهوَاه: إذا أحبّه، وتعَلَّقَ به.
وقوله: (إِذَا هَوِيت الشَّيْءَ تَابَعَهَا عَلَيْهِ) قال النوويّ رحمه الله: معناه إذا هَوِيت شيئًا لا نقص فيه في الدين، مثل طلبها الاعتمار وغيره أجابها إليه، وقوله:
(1)
وفي نسخة" "إذا هَوِيت شيئًا".
"سَهْلا": أي سهل الخلق، كريم الشمائل، لطيفًا ميسرًا في الخلق، كما قال الله تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]، وفيه حسن معاشرة الأزواج، قال الله تعالى:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، لا سيما فيما كان من باب الطاعة، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقوله: (قَالَ مَطَرٌ: قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: فَكَانَتْ عَائِشَةُ
…
إلخ) يَحتمل أن يكون هذا مما رواه أبو الزبير عن جابر رضي الله عنه، فيكون متّصلًا، ويَحْتَمل أنه رواه عن غيره، فيكون منقطعًا، والله تعالى أعلم.
وقوله: (إِذَا حَجَّتْ صَنَعَتْ كَمَا صَنَعَتْ مَعَ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم) يعني أنها إذا جاءت للحج بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم كانت تعتمر بعد الحجّ من التنعيم مثلما صنعته مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفيه أنها كانت لا ترى كراهة تكرار العمرة، وكذا الاعتمار بعد الحج، فما نُقل عن بعضهم فلا حجة عليه، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية مطر الورّاق، عن أبي الزبير هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" (2/ 290) فقال:
(3172)
- حدّثنا مسلم بن الحجاج ببغداد، نا أبو غَسّان مالك بن عبد الواحد، نا معاذ بن هشام، قال: حدّثني أبي، عن مطر، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، أن عائشة في حجة نبي الله صلى الله عليه وسلم أهلّت بعمرة، فلما كانت بسرف حاضت، فاشتد ذلك عليها، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم:"إنما أنت من بني آدم يصيبك ما أصابهم"، فلما قَدِمت البطحاء أمرها نبي الله صلى الله عليه وسلم، فأهلّت، فلما قضت نسكها، فجاءت إلى الحصبة، أحبت أن تعتمر، فقال لها نبي الله صلى الله عليه وسلم:"إنك قد قضيت حجتك وعمرتك"، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا سهلًا، إذا هَوِيَت الشيء تابعها عليها، فأرسلها مع عبد الرحمن بن أبي بكر، فأهلّت بعمرة من التنعيم. انتهى.
وساقها البيهقيّ رحمه الله أيضًا في "الكبرى"(5/ 107) فقال:
(9207)
- وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو بكر أحمد بن سلمان بن
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 160.
الحسن الفقيه ببغداد إملاءً من أصل كتابه، ثنا محمد بن غالب بن حرب، ثنا أبو غَسَان مالك بن عبد الواحد، ثنا معاذ بن هشام، حدّثني أبي، عن مَطَر الورّاق، عن أبي الزبير، عن جابر، أن عائشة رضي الله عنها في حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم أهلت بعمرة، فلما كانت بسرف حاضت، فاشتدّ ذلك عليها، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنما أنتِ من بنات آدم، يصيبك ما أصابهنّ"، فلما قَدِمت البطحاء أمرها نبي الله صلى الله عليه وسلم، فأَهَلَّت بالحجّ، فلما قضت نسكها، وجاءت إلى الحصباء أرادت أن تعتمر، فقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنك قد قضيت حجك وعمرتك"، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا سهلًا، إذا هَوِيت الشيء تابعها عليه.
قال مطرٌ: "قال أبو الزبير: وكانت عائشة رضي الله عنها إذا حجت صنعت كما صنعت". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2945]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه (ح) وَحَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَاللَّفْظُ لَهُ، أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ، مَعَنَا النِّسَاءُ وَالْوِلْدَانُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ طُفْنَا بِالْبَيْت، وَبِالصَّفَا وَالمَرْوَة، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحْلِلْ"، قَالَ: قُلْنَا: أيُّ الْحِلِّ؟ قَالَ: "الْحِلُّ كُلُّهُ"، قَالَ: فَأَتَيْنَا النِّسَاءَ، وَلَبِسْنَا الثِّيَابَ، وَمَسِسْنَا الطِّيبَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَة، أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ، وَكَفَانَا الطَّوَافُ الْأَوَّلُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَة، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ كُل سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَدَنَةٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ) هو: أحمد بن عبد الله بن يونس التميميّ اليربوعيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ) بن معاوية بن حُديج، تقدّم قبل بابين.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (مَعَنَا النِّسَاءُ وَالْوِلْدَانُ) بكسر الواو: جمع وَليد، وهم الصبيان،
قال النوويّ رحمه الله: فيه صحة حج الصبيّ، والحج به، ومذهب مالك، والشافعيّ، وأحمد، والعلماء كافّة من الصحابة والتابعين، فمن بعدهم أنه يصح حج الصبيّ، ويثاب عليه، ويترتب عليه أحكام حجّ البالغ، إلا أنه لا يجزيه عن فرض الإسلام، فإذا بلغ بعد ذلك، واستطاع لزمه فرض الإسلام.
وخالف أبو حنيفة الجمهور، فقال: لا يصح له إحرام، ولا حجّ، ولا ثواب فيه، ولا يترتب عليه شيء من أحكام الحجّ، قال: وإنما يُحَجّ به ليتمرّن، ويتعلّم، ويتجنب محظوراته للتعلم، قال: وكذلك لا تصح صلاته، وإنما يؤمر بها؛ لما ذكرناه، وكذلك عنده سائر العبادات، والصواب مذهب الجمهور؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة رفعت صبيًّا، فقالت: يا رسول الله ألهذا حجّ؟ قال: "نعم". انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
وقوله: (فَأَتَيْنَا النِّسَاءَ) أي: جامعناهنّ.
وقوله: (وَمَسِسْنَا الطِّيبَ) - بكسر السين الأولى - هذه هي اللغة المشهورة، وفي لغة قليلة بفتحها، حكاها أبو عبيدة، والجوهريّ، قال الجوهريّ: يقال: مَسِسْتُ الشيءَ - بكسر السين - أَمَسَّه - بفتح الميم - مَسًّا، فهذه اللغة الفصيحة، قال: وحكى أبو عبيدة: مَسَسْتُ الشيءَ - بالفتح - أَمُسّه - بضم الميم - قال: وربما قالوا: مَسْتُ الشيءَ، يحذفون منه السين الأولى، ويُحَوِّلون كسرتها إلى الميم، قال: ومنهم من لا يُحَوِّل، ويترك الميم على حالها مفتوحة، ذكره النوويّ رحمه الله
(2)
.
قوله: (فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ)"كان" هنا تامّة، فـ"يومُ" مرفوع على الفاعليّة؛ أي: فلما جاء يوم التروية، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة.
وقوله: (وَكَفَانَا الطَّوَافُ الْأَوَّلُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) أراد القارن منهم، وأما المتمتع فلا بد له من السعي بين الصفا والمروة في الحج بعد رجوعه من عرفات، وبعد طواف الإفاضة.
وقوله: (فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَدَنَةٍ)"البدنةُ": تُطْلَق على البعير، والبقرة، والشاة، لكن غالب استعمالها في
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 160 - 161.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 161.
البعير، والمراد بها ها هنا البعير، والبقرة، وهكذا قال العلماء: تجزي البدنة من الإبل والبقر، كل واحدة منهما عن سبعة، ففي هذا الحديث دلالة إجزاء كل واحدة منهما عن سبعة أنفس، وقيامها مقام سبع شِيَاهٍ.
وفيه دلالة لجواز الاشتراك في الهدي والأضحية، وبه قال الشافعيّ وموافقوه، فيجوز عند الشافعيّ اشتراك السبعة في بدنة، سواء كانوا متفرقين، أو مجتمعين، وسواء كانوا مفترضين، أو متطوعين، وسواء كانوا متقربين كلهم، أو كان بعضهم متقربًا، وبعضهم يريد اللحم، روى هذا عن ابن عمر، وأنس، وبه قال أحمد.
وقال مالك: يجوز إن كانوا متطوعين، ولا يجوز إن كانوا مفترضين.
وقال أبو حنيفة: إن كانوا متقربين جاز، سواء اتفقت قربتهم، أو اختلفت، وإن كان بعضهم متقربًا، وبعضهم يريد اللحم، لم يصح الاشتراك، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما ذهب إليه الأولون من جواز الاشتراك مطلقًا هو الأرجح عندي؛ لأنه صلى الله عليه وسلم حينما أمرهم بالاشتراك، لم يفصّل، ولو كان هذا التفصيل لازمًا لما أهمله، فتأمل، والله تعالى أعلم.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، أخرجه هنا [17/ 2940](1213)، و (البخاريّ) في "خلق أفعال العباد"(136)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 288 و 292)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 291 و 317)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 312)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(7/ 120)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 234 و 9/ 294) و"الصغرى"(4/ 506) و"المعرفة"(7/ 235)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2941]
(1214) - (وَحَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ
(2)
، عَن ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: أَمَرَنَا
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 160 - 161.
(2)
وفي نسخة: "يحيى بن سعيد القطّان" في الموضعين.
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَحْلَلْنَا أَنْ نُحْرِمَ إِذَا تَوَجَّهْنَا إِلَى مِنًى، قَالَ: فَأَهْلَلْنَا مِنَ الْأَبْطَحِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) بن فرّوخ القطّان، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (أَنْ نُحْرِمَ إِذَا تَوَجَّهْنَا إِلَى مِنًى) يعنى يوم التروية كما صُرِّح به في الرواية السابقة، قال النوويّ رحمه الله: وفيه دليل لمذهب الشافعيّ وموافقيه، أن الأفضل للمتمتع، وكلِّ من أراد الإحرام بالحج من مكة أن لا يحرم به إلَّا يوم التروية.
وقال مالك، وآخرون: يُحْرِم من أول ذي الحجة، وسبقت المسألة بأدلتها.
وقوله: (فَأَهْلَلْنَا مِنَ الْأَبْطَحِ) قال النوويّ رحمه الله: "الأبطح": هو بطحاء مكة، وهو مُتَّصِلٌ بالْمُحَصَّب، قال: قد يَسْتَدِلّ به من يُجَوِّز للمكي والمقيم بها الإحرام بالحج من الحرم، وفي المسألة وجهان لأصحابنا: أصحهما لا يجوز أن يُحرم بالحج إلَّا من داخل مكة، وأفضله من باب داره، وقيل: من المسجد الحرام.
والثاني: يجوز من مكة، ومن سائر الحرم، وقد سبقت المسألة في باب المواقيت، فمن قال بالثاني احتجَّ بحديث جابر رضي الله عنه هذا؛ لأنهم أحرموا من الأبطح، وهو خارج مكة، لكنه من الحرم، ومن قال بالأول، وهو الأصح قال: إنما أحرموا من الأبطح؛ لأنهم كانوا نازلين به، وكل من كان دون الميقات المحدود، فميقاته منزله، كما سبق في باب المواقيت، والله أعلم. انتهى.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، أخرجه [17/ 2941](1214)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 318 و 378)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2794)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 313)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5/ 31)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 192)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 356 و 5/ 31)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2942]
(1215) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَن ابْنِ جُرَيْج (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْر، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما يَقُولُ: لَمْ يَطُفِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا أَصْحَابُهُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إِلَّا طَوَافًا وَاحِدًا، زَادَ فِي حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ بَكْرٍ: طَوَافَهُ الْأَوَّلَ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلّهم ذُكروا في الباب.
وقوله: (لَمْ يَطُفِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا أَصْحَابُهُ) يعني الذين قرنوا بين الحجِّ والعمرة، وأما الذين تمتّعوا فإنهم سعوا سعيين: سعيًا لعمرتهم، ثم سعيًا آخر لحجهم يوم النحر، كما بُيّن في الروايات الأخرى، فتنبّه.
وقوله: (بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إِلَّا طَوَافًا وَاحِدًا) قال النوويّ رحمه الله: في هذا الحديث دلالة ظاهرة للشافعيّ وموافقيه في أن القارن ليس عليه إلَّا طواف واحد للإفاضة، وسعي واحد، وممن قال بهذا ابن عمر، وجابر بن عبد الله، وعائشة، وطاوسٌ، وعطاءٌ، والحسن البصريّ، ومجاهدٌ، ومالك، وابن الماجشون، وأحمد، وإسحاق، وداود، وابن المنذر.
وقالت طائفة: يلزمه طوافان وسعيان، وممن قاله الشعبيّ، والنخعيّ، وجابر بن زيد، وعبد الرَّحمن بن الأسود، والثوريّ، والحسن بن صالح، وأبو حنيفة، وحُكِي ذلك عن عليّ، وابن مسعود، قال ابن المنذر: لا يثبت هذا عن عليّ رضي الله عنه. انتهى
(1)
، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفًى في المسألة السادسة من مسائل الحديث الأول في هذا الباب رقم (17/ 2910)، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
وقوله: (زَادَ فِي حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ بَكْرٍ) أشار به إلى الاختلاف الواقع بين
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 163.
يحيى بن سعيد القطّان وبين محمد بن بكر الْبُرسانيّ، فالأول انتهى حديثه عند قوله:"إلَّا طوافًا واحدًا"، وزاد الثاني قوله:(طَوَافَهُ الْأَوَّلَ) وهو منصوب على البدليّة لـ"طوافًا واحدًا"، ومعنى "طوافه الأول" سعيه الذي سعاه بين الصفا والمروة حين قدموا مكة، والله تعالى أعلم.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، أخرجه هنا [17/ 2942](1215)، و (أبو داود) في "المناسك"(1895)، و (النسائيّ) في "المناسك"(5/ 244) و"الكبرى"(2/ 416 و 462)، و (ابن ماجة) في "المناسك"(2972 و 2973)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 317)، و (أبو عوانة) في "مسنده) (2/ 327)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه" (3/ 313 و 363)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار (2/ 204)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 258 - 259)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3819)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(11/ 55)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4/ 12)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 106) و"الصغرى"(4/ 202 و 289) و"المعرفة"(4/ 96)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2943]
(1216) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَن ابْنِ جُرَيْجٍ
(1)
، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما فِي نَاسٍ مَعِي، قَالَ: أَهلَلْنَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ خَالِصًا وَحْدَهُ، قَالَ عَطَاءٌ: قَالَ جَابِرٌ: فَقَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صُبْحَ رَابِعَةٍ مَضَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّة، فَأَمَرَنَا أَنْ نَحِلَّ، قَالَ عَطَاءٌ: قَالَ: "حِلُّوا، وَأَصِيبُوا النِّسَاءَ"، قَالَ عَطَاءٌ: وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ أَحَلَّهُنَّ لَهُمْ، فَقُلْنَا: لَمَّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ إِلَّا خَمْسٌ أَمَرَنَا أَنْ نُفْضِيَ إِلَى نِسَائِنَا، فَنَأْتيَ عرَفَةَ تَقْطُرُ مَذَاكِيرُنَا الْمَنِيَّ، قَالَ: يَقُولُ جَابِرٌ بِيَدِه، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى قَوْلِهِ بيَدِهِ يُحَرِّكُهَا، قَالَ: فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِينَا، فَقَالَ: "قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي؛ أَتْقَاكُمْ لله، وَأَصْدَقَكُمْ، وَأَبَرُّكُمْ، وَلَوْلَا هَدْيِ لَحَلَلْتُ، كَمَا تَحِلُّونَ، وَلَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا
(1)
وفي نسخة: "أخبرنا ابن جريجٍ".
اسْتَدْبَرْتُ، لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ، فَحِلُّوا"، فَحَلَلْنَا، وَسَمِعْنَا، وَأَطَعْنَا، قَالَ عَطَاءٌ: قَالَ جَابِرٌ: فَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنْ سِعَايَتِه، فَقَالَ: "بِمَ أَهْلَلْتَ؟! قَالَ: بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"فَأَهْد، وَامْكُثْ حَرَامًا"، قَالَ: وَأَهْدَى لَهُ عَلِيٌّ هَدْيًا، فَقَالَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ: يَا رَسُولَ الله، أَلِعَامِنَا هَذَا، أَمْ لِأَبدٍ؟ فَقَالَ:"لِأَبدٍ"
(1)
.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَطَاءُ) بن أبي رَبَاح أسلم، تقدّم قبل باب.
والباقون ذُكروا في السند السابق.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ جُرَيْجٍ) وفي نسخة: "أخبرني ابن جُريج"(أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ) أي: ابن أبي رَبَاح (قَالَ: سَمِعْتُ جَابرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما فِي نَاسٍ مَعِي) أي: مع جماعة من الناس كانوا معي (قَالَ: أَهْلَلْنَا) أي: رفعنا أصواتنا بالتلبية (أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم) بالنصب على الاختصاص؛ أي: أخصّ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال في الخلاصة":
الاخْتِصَاصُ كَنِدَاءٍ دُونَ "أَلْ"
…
كَـ"أَيُّهَا الْفَتَى" بِإِثْرِ"ارْجُونِيَا"
وَقَدْ يُرَى ذَا دُونَ "أَيٍّ" تِلْوَ "أَلْ"
…
كَمِثْلِ "نَحْنُ الْعُرْبَ أَسْخَى مَنْ بَذَلْ"
وقد تقدّم أن قوله هذا بالنظر للغالب، أو بالنظر لأول الأمر، فلا تنافي بينه، وبين حديث: "فمنا من أهلّ بعمرة، ومنا من أهلّ بحجة وعمرة، ومنا من أهلّ بالحج
…
" الحديث.
(بِالْحَجِّ) متعلّق بـ"أهللنا"، وقوله:(خَالِصًا وَحْدَهُ) حالان من "الحجِّ"(قَالَ عَطَاءٌ: قَالَ جَابِرٌ) رضي الله عنه (فَقَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صُبْحَ رَابِعَةٍ) بضمّ الصاد المهملة، وتُكسر، كما في "القاموس"
(2)
؛ أي: صَباح اليوم الرابع (مَضَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ) يعني أنهم وصلوا إلى مكة صباح الليلة الرابعة التي مضت من شهر ذي الحجة، وتلك الصبيحة صبيحة يوم الأحد (فَأَمَرَنَا أَنْ نَحِلَّ) تقدّم أنه بضمّ أوله،
(1)
وفي نسخة: "قال: لا بدَّ".
(2)
"القاموس المحيط" 1/ 232.
من الإحلال، وبفتحه، من الحلّ (قَالَ عَطَاءٌ: قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("حِلُّوا) بكسر الحاء، أمرٌ من حلّ يَحلّ، من باب ضرب حِلًّا بالكسر، وفي رواية النسائيّ: فَقَالَ: "أَحِلُّوا، وَاجْعَلُوهَا عُمْرَةً" أي: اجعلوا الحجة التي قدمتم بها عمرة، بأن تطوفوا، وتسعوا، وتقصروا، وتتحللوا (وَأَصِيبُوا النِّسَاءَ") أي: جامعوهنّ (قَالَ عَطَاءٌ: وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِمْ) من باب ضرب؛ أي: لَمْ يوجبه عليهم، وقال النوويّ رحمه الله: معناه لَمْ يعزم عليهم في وطء النساء، بل أباحه، ولم يوجبه، وأما الإحلال فعزم فإيه على من لَمْ يكن معه هديٌ. انتهى. (وَلَكِنْ أَحَلّهُنَّ لَهُمْ، فَقُلْنَا: لَمَّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ إِلَّا خَمْسٌ) أي: خمس ليال، وهي من ليلة الخامس من ذي الحجة، وهي ليلة الاثنين إلى الليلة التاسعة منه، وهي ليلة الجمعة (أَمَرَنَا أَنْ نُفْضِيَ إِلَى نِسَائِنَا) بضمّ حرف المضارعة، من الإفضاء رباعيًّا؛ أي: يجامعهنّ، يقال: أفضى إلى امرأته: إذا باشرها وجامعها (فَنَأْتِيَ عرَفَةَ تَقْطُرُ) بفتح أوله، وضمّ ثالثه، من باب نصر (مَذَاكِيرُنَا) بفتح الميم: جمع ذكر على غير قياس؛ لأن قياسه ذِكَرَةٌ بكسر، ففتح، كعِنَبَةٍ (الْمَنِيَّ) قال النوويّ رحمه الله: هو إشارة إلى قرب العهد بوطء النساء (قَالَ: يَقُولُ جَابِرٌ بِيَدِهِ) أي: يشير، ففيه إطلاق القول على الفعل (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى قَوْلهِ بِيَدِهِ) هذا قول عطاء، يعني أنه الآن كأنه ينظر إشارة جابر رضي الله عنه بيده حال كونه (يُحَرِّكُهَا، قَالَ: فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِينَا) وفي رواية النسائيّ: "فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَخَطَبَنَا"(فَقَالَ: "قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَتْقَاكُمْ لله، وَأَصْدَقُكُمْ، وَأَبَرُّكُمْ) أي: أطوعكم له (وَلَوْلَا هَدْيِ) أي: لولا سوقي الهدي معي من المدينة (لَحَلَلْتُ، كَمَا تَحِلُّونَ، وَلَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ) أي: لو علمت في ابتداء شروعي ما علمته الآن من لحوق المشقّة بكم بانفرادكم بالفسخ، حتى توقفتم، وترددتم، وراجعتموني في ذلك (لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ) جوابو "لولا"؛ أي: ما سقت الهدي معي، بل أهللت بحج، ثم فسخت معكم، وهذا قاله صلى الله عليه وسلم تشجيعًا لهم على امتثال أمره.
وقوله: (فَحِلُّوا") بكسر الحاء المهملة، أمر من الحلّ، كرّره للتأكيد (فَحَلَلْنَا، وَسَمِعْنَا) قوله صلى الله عليه وسلم (وَأَطَعْنَا) أمره صلى الله عليه وسلم.
(قَالَ عَطَا: قَالَ جَابِرٌ) رضي الله عنه (فَقَدِمَ عَلِيٌّ) أي: ابن أبي طالب رضي الله عنه (مِنْ سِعَايَتِهِ) بكسر السين المهملة؛ أي: جمعه للصدقات، يقال: سعى الرجل على
الصدقة يَسْعَى سَعْيًا، كرمى يرمي رَمْيًا: عَمِلَ في أخذها من أربابها
(1)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "من سعايته"؛ أي: من عَمَله في السعي في الصدقات، قال: وقال بعض علمائنا: الذي في غير هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم إنما بَعَث عليًّا رضي الله عنه أميرًا لا عاملًا على الصدقات؛ إذ لا يجوز استعمال بني هاشم على الصدقات؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للفضل بن عباس، وعبد المطلب بن ربيعة حين سألاه ذلك:"إن الصدقة لا تحل لمحمد، ولا لآل محمد"، ولم يستعملهما، قال القاضي: ويَحْتَمِل أن عليًّا رضي الله عنه وَلي الصدقات وغيرها احتسابًا، أو أعطى عُمالته عليها من غير الصدقة، قال: وهذا أشبه؛ لقوله: "من سعايته"، والسعاية تختص بالصدقة. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله
(2)
.
قال النوويّ رحمه الله بعد نقله كلام عياض المذكور: وهذا الذي قاله حسنٌ، إلَّا قوله:"إن السعاية تختص بالعمل على الصدقة"، فليس كذلك؛ لأنَّها تستعمل في مطلق الولاية، وإن كان أكثر استعمالها في الولاية على الصدقة، ومما يدلّ لما ذكرته حديث حذيفة رضي الله عنه السابق في "كتاب الإيمان" من "صحيح مسلم"، قال في حديث رفع الأمانة:"ولقد أتى عليّ زمانٌ، وما أبالي أيَّكُم بايعتُ، لئن كان مسلمًا ليردنّه عليّ دينه، ولئن كان نصرانيًّا أو يهوديًّا ليردنّه عليّ ساعيه"، يعنى الوالي عليه. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(3)
، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
(فَقَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم له ("بِمَ أَهْلَلْتَ؟ ")"ما" استفهاميّة، والقاعدة عند الجمهور في "ما" الاستفهاميّة وجوب حذف ألفها إذا كانت مجرورة، كما في قوله تعالى:{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1)} [النبأ: 1]، قال ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة":
و"مَا" فِي الاسْتِفْهَامِ إِنْ جُرَّتْ حُذِفْ
…
أَلِفُهَا وَأَوْلِهَا الْهَا إِنْ تَقِفْ
ووقع عند النسائيّ: "بما أهللت"، بالألف، وهو قليل في الاستعمال، كما في قول الشاعر [من الوافر]:
(1)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 277.
(2)
"إكمال المعلم" 4/ 258 - 259.
(3)
"شرح النوويّ" 8/ 164.
عَلَى مَا قَامَ يَشْتِمُنِي لَئِيمٌ
…
كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي الرَّمَادِ
وحكاه الأخفش لغةً
(1)
، وإليه ذهب الفرّاء في كتابه "معاني القرآن"، حيث أعرب "ما" في قوله تعالى:{بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} [يس: 27]، استفهاميّة، قال: وقد أتمّها الشاعر، وهي استفهاميّة، فقال [من البسيط]:
إِنَّا قَتَلْنَا بِقَتْلَانَا سَرَاتَكُمْ
…
أَهْلَ اللِّوَاءِ فَفِيمَا يَكْثُرُ الْقِيلُ
(2)
والله تعالى أعلم.
(قَالَ) عليّ رضي الله عنه (بِمَا أَهَل بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم)"ما" هنا موصولة؛ أي: بمثل الإهلال الذي أهلّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال النوويّ رحمه الله: قوله: "بما أهلّ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم
…
إلخ"، ثم ذكر بعد هذا بقليل حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال: قَدِمْتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مُنِيخ بالبطحاء، فقال لي: "حججت؟ "، فقلت: نعم، فقال: "بم أهللت؟ " قال: قلت: لبيك بإهلال كإهلال النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: "قد أحسنت، طُفْ بالبيت، وبالصفا والمروة، ثم حِلّ"، وفي الرواية الأخرى عن أبي موسى أيضًا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له: "بم أهللت؟ " قال: أهللت بإهلال النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: "هل سُقْت من هدي؟ " قلت: لا، قال: "طف بالبيت، وبالصفا والمروة، ثم حِلَّ".
قال: هذان الحديثان متفقان على صحة الإحرام معلقًا، وهو أن يُحْرِم إحرامًا كإحرام فلان، فينعقد إحرامه، ويصير محرمًا بما أحرم به فلان، واختَلَفَ آخر الحديثين في التحلل، فأمر عليًّا بالبقاء على إحرامه، وأمر أبا موسى بالتحلل، وإنما اختلف آخرهما؛ لأنهما أحرما كإحرام النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم الهديُ فشاركه عليّ في أن معه الهديَ، فلهذا أمره بالبقاء على إحرامه، كما بقي النبيُّ صلى الله عليه وسلم على إحرامه بسبب الهدي، وكان قارنًا، وصار عليّ رضي الله عنه قارنًا، وأما أبو موسى فلم يكن معه هديٌ، فصار له حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم لو لَمْ يكن معه هديٌ، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إنه لولا الهدي لجعلها عمرةً،
(1)
راجع: "التصريح على التوضيح" للشيخ خالد الأزهريّ رحمه الله 2/ 345.
(2)
راجع: "معاني القرآن" للفرّاء رحمه الله 2/ 374، و"الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون" للسمين الحلبيّ رحمه الله 9/ 256 - 257.
وتحلل، فأمر أبا موسى بذلك، فلذلك اختَلَف في أمره صلى الله عليه وسلم لهما، قال: فاعتمد ما ذكرته، فهو الصواب، وقد تأولهما الخطابيّ، والقاضي عياض تأويلين غير مرضيين. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
، وهو حسنٌ، والله تعالى أعلم.
(فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَأَهْدِ) أي: انْحَر هديًا؛ لأنه واجب عليك، لكونك قارنًا، وفيه وجوب الهدي على القارن، وفيه ردّ على ابن حزم، حيث قال: لا يجب الهدي على القارن، وإنما هو على المتمتّع؛ لقوله تعالى:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} الآية [البقرة: 196]، والظاهر أنه ما انتبه لهذه الرواية، وإلا لما قال ذلك، والله تعالى أعلم.
(وَامْكُثْ حَرَامًا") منصوب على الحال؛ أي: حال كونك محرمًا، زاد في رواية النسائيّ:"كَمَا أَنْتَ"؛ أي: على ما أنت عليه، فالكاف بمعنى "على"، أو هي للتشبيه؛ أي: كن في مستقبلك مثل حالك فيما مضى.
(قَالَ) جابر رضي الله عنه (وَأَهْدَى لَهُ عَلِيٌّ هَدْيًا) قال النوويّ رحمه الله: يعني هديًا اشتراه؛ لا أنه من السعاية على الصدقة. انتهى، وسيأتي في حديث جابر رضي الله عنه الطويل أن جملة ما أتى به النبيّ صلى الله عليه وسلم من الهدايا، وما أهداه له عليّ رضي الله عنه كان مائة (فَقَالَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُم) ابن مالك بن عمرو بن تيم بن مُدلج بن مرة بن عبد مناة بن كنانة الكنانيّ المدلجيّ، وقد ينسب إلى جدّه، يكنى أبا سفيان، كان ينزل قُدَيدًا، رَوَى الشيخان قصّته في إدراكه النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا هاجر إلى المدينة، ودعا النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى ساخت رجلا فرسه، ثم إنه طلب منه الخلاص، وأنه لا يدلّ عليه، ففعل، وكتب له أمانًا، وأسلم يوم الفتح، ورواها أيضًا من طريق البراء بن عازب، عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، وفي قصّة سراقة مع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول سراقة مخاطبًا لأبي جهل [من الطويل]:
أَبَا حَكَم وَاللهِ لَوْ كُنْتَ شَاهِدًا
…
لأَمْرِ جَوَادِي إِذْ تَسُوخُ قَوَائِمُهْ
عَلِمْتَ وَلَمْ تَشْكُكْ بِأَنَّ مُحَمَّدًا
…
رَسُولٌ بِبُرْهَانٍ فَمَنْ ذَا يُقَاوِمُهْ
وقال ابن عيينة، عن إسرائيل أبي موسى، عن الحسن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسراقة بن مالك: "كيف بك إذا لبست سِوَارَيْ كسرى؟ "، قال: فلما أُتي
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 164 - 165.
عمر بسواري كسري، ومنطقته، وتاجه، دعا سراقة، فألبسه، وكان رجلًا أزبّ، كثير شعر الساعدين، فقال له: ارفع يديك، قل: الله أكبر، الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هُرْمُز، وألبسهما سراقة الأعرابيّ، وروى ذلك عنه ابن أخيه عبد الرَّحمن بن مالك بن جعشم، وروى عنه أيضًا ابن عباس، وجابر، وسعيد بن المسيّب، وطاوس، قال أبو عمر: مات في خلافة عثمان رضي الله عنه سنة (24) وقُتل من بعده عثمان.
(يَا رَسُولَ الله، أَلِعَامِنَا هَذَا، أَمْ لِأَبَدٍ؟) وفي لفظ: "يَا رَسُولَ الله، أَرَأَيْتَ عُمْرَتَنَا هَذِه، لِعَامِنَا هَذَا، أَو لِلْأَبَدِ؟ "، ومعناه: هل الأمر بفسخ الحجِّ إلى العمرة لعامنا هذا خاصة، أم للأمة عامة إلى يوم القيامة؟
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لِأَبَدٍ"
(1)
وفي رواية: "بل لأبد أبد" بإضافة الأول إلى الثاني، و"الأبد": الدهر؛ أي: هذا إلَّا آخر الدهر، أو بغير الإضافة، وكرره للتأكيد. وزاد في رواية ابن الجارود، وأحمد:"ثلاث مرات"، يعني أن ذلك مشروع في كلّ عام، لا يختصّ بعام، دون آخر إلى يوم القيامة، وكرر ذلك ثلاثًا للتاكيد.
وفي الرواية في حديث جابر الطويل: "فقام سراقة بن مالك بن جعشُم، فقال: يا رسول الله، ألعامنا هذا، أم لأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى، وقال: "دخلت العمرة في الحج مرتين، لا، بل للأبد أبد".
فتشبيكه صلى الله عليه وسلم أصابعه إشارة إلى اشتراك كلّ الأعوام في ذلك بدون اختصاص أحدها، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قد اختَلَفَ العلماء في معنى سؤال سراقة، فقال الجمهور: معناه أن العمرة يجوز فعلها في أشهر الحجّ، إبطالًا لما كان عليه الجاهلية.
- وقيل: معناه جواز القران؛ أي: دخلت أفعال العمرة في أفعال الحجِّ.
وقيل: معناه سقوط وجوب العمرة، قال الحافظ: وهذا ضعيف؛ لأنه يقتضي النسخ بغير دليل، وقال النوويّ: وسياق الحديث يقتضي بطلان هذا التأويل.
(1)
وفي نسخة: "قال: لا بدّ".
وقال آخرون: معناه فسخ الحجِّ إلى العمرة، وهذا هو الذي يؤيده سياق الحديث، وهو الصحيح، كما سيأتي تحقيقه في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى -.
وأما قول النووي: إنه ضعيف، فقد رُدَّ عليه، قال الحافظ: وتُعقّب - أي: كلام النوويّ - بأن سياق السؤال يقوّي هذا التأويل، بل الظاهر أن السؤال وقع عن الفسخ، والجواب وقع عما هو أعمّ من ذلك حتى يتناول التأويلات المذكورة، إلَّا الثالث. انتهى.
والحاصل أن الصواب أن سؤال سراقة عن فسخ الحجِّ إلى العمرة، وجواب النبيّ صلى الله عليه وسلم له واضح في ذلك كما ترى؛ لأن الجواب مطابق للسؤال، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا مُتَّفَقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 2943 و 2944](1216)، و (البخاريّ) في "الحجِّ"(1557 و 1568 و 1570 و 1651) و"العمرة"(1785) و"التمنّي"(7230) و"الشركة"(2505) و"المغازي"(4352) و"الاعتصام"(7367)، و (أبو داود) في "المناسك"(1788 و 1789)، و (النسائيّ) في "المناسك"(5/ 202) و"الكبرى"(2/ 366)، و (ابن ماجة) في "المناسك"(1/ 341)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 373)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1676)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1293)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 217 و 305 و 366)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2/ 75 - 76)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(9/ 101)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 333)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 314)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 41)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1872 و 1878)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان الوقت الذي دخل فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه مكة، وهو صبح رابعة ذي الحجة، وذلك يوم الأحد.
2 -
(ومنها): بيان أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم من لَمْ يسق الهدي أن يفسخ حجه بعمل العمرة.
3 -
(ومنها): بيان وجوب ذلك الفسخ، حيث غَضِب صلى الله عليه وسلم على من توقّف فيه، وقالت له عائشة" رضي الله عنها:"من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار"، وأقرّها على ذلك، ولا يكون مثل هذا الوعيد إلَّا لمن ترك واجبًا، أو ارتكب محرّمًا، لكن الراجح أن الوجوب خاصّ بذلك الركب، وتلك السنَة، وأما مشروعيّة الفسخ، واستحبابه فهو إلى يوم القيامة، وسيأتي تمام البحث في ذلك في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.
4 -
(ومنها): بيان تشديد أمر الفسخ؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، غضب، وقال لهم: "قد علمتم أني أتقاكم لله، وأصدقكم
…
إلخ".
[فإن قلت]: كيف توقّف الصحابة رضي الله عنهم في هذه المسألة، مع أنهم أطوع الناس لأمره صلى الله عليه وسلم في كلّ قليل وكثير؟
[قلت]: إنما توقّفوا فيها؛ لشدة حرصهم على موافقة حجهم لحجه صلى الله عليه وسلم كمًّا وكيفًا، فلمَّا أمرهم بالفسخ مع أنه لا يفسخ ظنّوا أنه سيُخفّف عنهم بترك العزم عليهم، حتى يحلّوا معه صلى الله عليه وسلم، فهذا وجه توقّفهم، فلا يُظنّ بهم غير ذلك، ولكن لَمّا كان الأمر حتمًا شدّد النبيّ صلى الله عليه وسلم في النكير عليهم، وألزمهم ذلك، ولم يسمح لهم بموافقته؛ لاختلاف هيئته عن هيئتهم، حيث لَمْ يسوقوا الهدي مثله، والله تعالى أعلم.
5 -
(ومنها): وفيه جواز تعليق الإحرام بإحرام غيره، كأن يقول: أهللت بما أهلّ به فلان، قال النوويّ رحمه الله: وفي هذين الحديثين - يعني حديث جابر هذا، وحديث أبي موسى الأشعريّ الآتي -: دلالة لمذهب الشافعيّ، وموافقيه أنه يصح الإحرام معلقًا، بأن ينوي إحرامًا كإحرام زيد، فيصير هذا المعلِّق كزيد، فإن كان زيد محرمًا بحج، كان هذا بالحج أيضًا، وإن كان بعمرة فبعمرة، وإن كان بهما فبهما، وإن كان زيد أحرم مطلقًا صار هذا محرمًا إحرامًا مطلقًا، فيصرفه إلى ما شاء من حجّ أو عمرة، ولا يلزمه موافقة زيد في الصرف. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 165.
(المسألة الرابعة): في بيان اختلاف أهل العلم في حكم فسخ الحج بعمل العمرة لمن لَمْ يسق الهدي:
اختلفوا في هذا الفسخ، هل هو خاصّ بالصحابة تلك السنَة، أم عامّ لهم ولغيرهم إلى يوم القيامة؟
فذهب أحمد، والظاهريّة، وعامّة أهل الحديث إلى أنه ليس خاصًّا، بل هو باق إلى يوم القيامة، فيجوز لكلّ من أحرم بحجّ مفردًا، أو قارنًا، وليس معه هدي أن يقلب إحرامه عمرة، ويتحلّل بأعمالها، بل هذا هو المستحبّ عند الإمام أحمد، وأوجبه الظاهريّة.
وذهب مالك، والشافعيّ، وأبو حنيفة، وجماهير العلماء، من السلف والخلف إلى أنه مختصّ بهم في تلك السنة، لا يجوز بعدها، وإنما أُمروا به تلك السنة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهليّة، من تحريم العمرة في أشهر الحجِّ.
واستُدلّ للجمهور بحديث أبي ذر رضي الله عنه عند مسلم: "قال: كانت المتعة في الحجِّ لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصّة"، وفي رواية:"قال: كانت لنا رخصة" يعني المتعة في الحجّ، ومراد أبي ذرّ رضي الله عنه بالمتعة المذكورة المتعة التي أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بها أصحابه، وهي فسخ الحج إلى العمرة، واستدلوا على أن الفسخ المذكور هو مراد أبي ذر رضي الله عنه بما رواه أبو داود بسنده أن أبا ذرّ رضي الله عنه كان يقول فيمن حجّ، ثم فسخها بعمرة: لَمْ يكن ذلك إلَّا للركب الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: فهذه الرواية فيها التصريح من أبي ذرّ بفسخ الحجِّ بالعمرة، وهي تفسير مراده بالمتعة في رواية مسلم.
وردّ عليهم بأن هذه الرواية ضعيفة؛ لأن في سندها محمد بن إسحاق، وهو مدلس، وقد رواه بالعنعنة.
واستدلوا أيضًا بما رواه أحمد، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجة، والدارميّ من طريق ربيعة بن أبي عبد الرَّحمن، عن الحارث بن بلال بن الحارث، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله، فسخ الحجِّ لنا خاصّة، أم للناس عامة؟ قال:"بل لكم خاصّه". وردّ عليهم بأنه ضعيف أيضًا لجهالة الحارث بن بلال، وقال أحمد رحمه الله تعالى: حديث بلال بن الحارث عندي ليس يثبت، ولا أقول به، ولا يُعرف هذا الرجل - يعني الحارث بن بلال
- قال: وقد رَوَى فسخ الحجِّ إلى العمرة أحد عشر صحابيًّا، أين يقع الحارث بن بلال منهم؟
وأيضًا حديث أبي ذرّ رضي الله عنه موقوف عليه، وليس بمرفوع، وللاجتهاد فيه مجال، فلا يصلح لمعارضة الأحاديث المرفوعة الصحيحة الصريحة في ذلك.
والحاصل أن أدلّة القائلين بمشروعية الفسخ قويّة صريحة لا تحتمل التأويل، فوجب القول بها، فالحقّ أنه مشروع إلى يوم القيامة، والله تعالى أعلم.
ثم اختلف القائلون بالفسخ في حكمه، هل هو واجب، أم مستحبّ؟:
فذهب الإمام أحمد إلى أنه مستحبّ، ومال فريق إلى أنه واجب، وبه قال ابن حزم، وابن القيم. قال ابن حزم: وهو قول ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، وإسحاق.
واستدلّوا بما رواه أحمد، وابن ماجة، وأبو يعلى، واللفظ لأحمد من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال: فأحرمنا بالحج، فلما قدمنا مكة، قال:"اجعلوا حجكم عمرة"، قال: فقال الناس: يا رسول الله، قد أحرمنا بالحج، فكيف نجعلها عمرة؟ قال:"انظروا ما آمركم به، فافعلوا"، فردوا عليه القول، فغضب، ثم انطلق، حتى دخل على عائشة غضبان، فرأت الغضب في وجهه، فقالت: من أغضبك؟ أغضبه الله، قال:"وما لي لا أغضب، وأنا آمر بالأمر، فلا أُتّبع".
قال ابن القيّم رحمه الله: ونحن نشهد الله علينا، أنا لو أحرمنا بحجّ لرأينا فرضًا علينا فسخه إلى عمرة، تفاديًا من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم"، واتباعًا لأمره، فوالله ما نُسِخ هذا في حياته، ولا بعده، ولا صحّ حرف واحد يعارضه، ولا خصّ به أصحابه، دون من بعدهم، بل أجرى الله على لسان سراقة أن سأله، هل ذلك مختصّ بهم؟ فأجابه بأن ذلك كائن لأبد الأبد، فما ندري ما يقدم على هذه الأحاديث، وهذا الأمر المؤكّد الذي غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على من خالفه
…
إلى آخر ما أطال ابن القيّم رحمه الله في "الهدي" نفسه في تحقيق هذا المقام، وإيضاحه أتم إيضاح بما لا تراه في كتاب غيره، فعليك بمراجعته 2/ 180 - 223.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لكن الذي يترجّح عندي هو ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله، ومن قال بقوله، وهو أن الفسخ مستحبّ
(1)
؛ لقوله: "بل لأبد الأبد"، وأما الوجوب فخاصّ بتلك السنة؛ جمعًا بين النصوص في المختلفة في الباب، وهذا هو الذي مال إليه شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله.
قال صاحب "المرعاة": القول الراجح عندنا هو ما ذهب إليه أحمد، ومن وافقه من أن فسخ الحج إلى العمرة ليس خاصًّا بالصحابة رضي الله عنهم في تلك السنة، بل يجوز، أو يُسنّ، ويستحبّ لكل من أحرم بحج، وليس معه هديٌ أن يقلب إحرامه عمرةً، ويتحلّل بأعمالها؛ ليصير متمتّعًا، وأما حديث أبي ذرّ، وبلال بن الحارث، فمحمولان على الوجوب، يعني أن وجوب فسخ الحج إلى العمرة خاصّ بذلك الركب في تلك السنة، وأما الجواز والاستحباب، فهو باق للأمة إلى يوم القيامة، وهو محمل حديث جابر رضي الله عنه وغيره من أحاديث الفسخ، ولا منافاة بين اختصاص الوجوب بالصحابة، وبين بقاء المشروعيّة والاستحباب إلى أبد الأبد، وعلى ذلك حمل الإمام ابن تيميّة رحمه الله تلك الأحاديث، كما تقدّم، وهو محمل حسنٌ، والله تعالى أعلم. انتهى كلام صاحب "المرعاة" رحمه الله، وهو تحقيقٌ حسنٌ جدًّا.
والحاصل أن الأرجح استحباب فسخ الحج بعمل العمرة لمن لَمْ يسق الهدي ممن أحرم بالحجّ مفردًا، أو قارنًا؛ وبهذا تجتمع الأحاديث، فتأمل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[2944]
(
…
) - (حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: أَهْلَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ أَمَرَنَا أَنْ نُحِلَّ، وَنَجْعَلَهَا عُمْرَةً، فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَيْنَا، وَضَاقَتْ بِهِ صُدُورُنَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَمَا نَدْرِي أَشَيْءٌ بَلَغَهُ مِنَ المَاء، أَمْ شَيْءٌ مِنْ قِبَلِ النَّاسِ؟ فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ أَحِلُّوا، فَلَوْلَا الْهَدْيُ الَّذِي مَعِي
(2)
فَعَلْتُ كَمَا
(1)
كنت رجّحت في "شرح النسائيّ" قول الموجبين للفسخ، ثم تبيّن لي الآن ترجيح الاستحباب، والحمد لله.
(2)
وفي نسخة: "الذي كان معي".
فَعَلْتُمْ"، قَالَ: فَأَحْلَلْنَا حَتَّى وَطِئْنَا النِّسَاءَ، وَفَعَلْنَا مَا يَفْعَل الْحَلَالُ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَة، وَجَعَلْنَا مَكَّةَ بِظَهْرٍ، أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ) مَيْسَرة الْعَرْزميّ الكوفيّ، ثقةٌ [5](ت 145)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.
والباقون ذُكروا في الباب، و"ابن نُمير" هو "محمد بن عبد الله بن نُمير"، و"أبوه" هو: عبد الله بن نُمير الهمدانيّ، و"عطاء" هو: ابن أبي رَبَاح.
وقوله: (أَنْ نُحِلَّ) تقدّم أنه من الإحلال، ويدلّ قوله بعده:"أحِلُّوا"، أنه من الحلّ، ويدلّ عليه قوله في الرواية الماضية:"حِلُّوا".
وقوله: (فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَيْنَا) بضمّ الموحدة؛ أي: شقّ علينا التحلّل بعمل العمرة؛ لعدم موافقته لفعل النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (حَتَّى وَطِئْنَا النِّسَاءَ) بفتح الواو، وكسر الطاء المهملة، يقال: وطئته برجلي أطؤه وَطْئًا: عَلَوتُهُ، ويتعدّى إلى ثان بالهمزة، فيقال: أوطأت زيدًا الأرضَ، ووطِئَ زوجته وَطْئًا: جامعها؛ لأنه استعلاء
(1)
.
وقوله: (وَجَعَلْنَا مَكَّةَ بِظَهْرٍ، أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ) قال النوويّ رحمه الله: فيه دليل للشافعيّ وموافقيه أن المتمتع، وكلَّ من كان بمكة، وأراد الإحرام بالحجّ، فالسنّة له أن يُحْرِم يوم التروية، وهو الثامن من ذي الحجة، وقد سبقت المسألة مرات.
وقوله: "جعلنا مكة بظهرٍ" معناه: أهللنا عند إرادتنا الذهاب إلى منى.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2945]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ نَافِعٍ، قَالَ: قَدِمْتُ مَكَّةَ مُتَمَتِّعًا بِعُمْرَةٍ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، فَقَالَ النَّاسُ: تَصِيرُ
(1)
"المصباح المنير" 2/ 664.
حَجَّتُكَ الْآنَ مَكِّيَّةً، فَدَخَلْتُ عَلَى عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، فَاسْتَفْتَيْتُهُ، فَقَالَ عَطَاءٌ: حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيُّ رضي الله عنهما: أَنَّهُ حَجَّ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ سَاقَ الْهَدْيَ مَعَهُ، وَقَدْ أَهلُّوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِكُمْ، فَطُوفُوا بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَة، وَقَضرُوا، وَأَقِيمُوا حَلَالًا، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوَية، فَأَهِلُّوا بِالْحَجِّ، وَاجْعَلُوا الَّتِي قَدِمْتُمْ بِهَا مُتْعَةً"، قَالُوا: كَيْفَ نَجْعَلُهَا مُتْعَةً، وَقَدْ سَمَّيْنَا الْحَجَّ؟ قَالَ:"افْعَلُوا مَا آمُرُكُمْ بِه، فَإِنِّي لَوْلَا أَنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ، لَفَعَلْتُ مِثْلَ الَّذِي أَمَرْتُكُمْ بِه، وَلَكِنْ لَا يَحِلُّ مِنِّي حَرَامٌ {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} "، فَفَعَلُوا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو نُعَيْمٍ) الفضل بن دُكين، واسم دُكين عمرو بن حمّاد بن زُهير التيميّ مولاهم الأحول الْمُلاليّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 8 أو 219)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 91.
2 -
(مُوسَى بْنُ نَافِعٍ) الأسديّ، ويقال: الْهُذَليّ الكوفيّ، ويقال: البصريّ، وهو أبو شِهاب الْحَنّاط الأكبر، صدوقٌ [6].
رَوَى عن مجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، وأبي عليّ النعمان بن عليّ الوالبيّ.
ورَوى عنه الثوريّ، وعيسى بن يونس، ووكيع، والقطان، والمحاربيّ، وأبو أسامة، ومحمد بن عبيد الطَّنَافسيّ، وأبو نعيم، وغيرهم.
قال عليّ بن المدينيّ: سألت يحيى بن سعيد عن موسى بن نافع، فقال: أفسدوه علينا، وقال أبو حاتم: قال عثمان بن أبي شيبة: أثنى أبو نعيم على موسى بن نافع خيرًا، وقال أيضًا: قال أبو جعفر الحمّال: قال أحمد بن حنبل: موسى بن نافع منكر الحديث، وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: يُكتب حديثه، قال: وغيري يَحكِي عن أبي أنه قال: ثقةٌ، وقال البخاريّ: قال عثمان بن أبي شيبة: هو أسديّ، وأثنى عليه خيرًا، وقال ابن سعد: كان مولى بني أسد، وكان ثقةٌ، قليل الحديث، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال ابن عمار: هو ثقةٌ، وقال ابن عديّ: موسى بن
نافع هذا بصريّ ليس بالمعروف، ولم يحضرني له شيء، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب، ولا في "صحيح البخاريّ " غير هذا الحديث، وله عند النسائيّ حديثان فقط.
والباقون ذُكروا قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى أبي شهاب، فانفرد به هو والبخاريّ، والنسائيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير جابر فمدنيّ، وقد سكن مكة أيضًا، وعطاء فمكيّ.
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث.
شرح الحديث:
عَنْ مُوسَى بْنُ نَافِعٍ أنه (قَالَ: قَدِمْتُ مَكَّةَ مُتَمَتِّعًا) حال من الضمير الذي في "قَدِمتُ"، وقوله:(بِعُمْرَةٍ) حال أيضًا أي: متلبسًا بعمرة (قَبْلَ التَّرْوِيَةِ) هو اليوم الثامن من ذي الحجة (بِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، فَقَالَ النَّاسُ) وفي رواية البخاريّ: "فقال لي أناس من أهل مكة"(تَصِيرُ حَجَّتُكَ الْآنَ مَكيَّةً) أي: قليلة الثواب؛ لقلة مشقتها، وقال ابن بطال: معناه: أنك تنشئ حجك من مكة، كما ينشئ أهل مكة منها، فيفوتك فضل الإحرام من الميقات (فَدَخَلْتُ عَلَى عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، فَاسْتَفْتَيْتُهُ) أي: طلبت منه أن يُفتيني في هذه المسألة (فَقَالَ عَطَاءٌ: حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيُّ رضي الله عنهما: أَنَّهُ حَجَّ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ سَاقَ الْهَدْيَ مَعَهُ) أي: في عام حجة الوداع، وفي رواية البخاريّ:"يوم ساق البدن معه"، وهو بضم الباء الموحدة، وضم الدال وسكونها: جمع بَدَنَة بفتحات (وَقَدْ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا) بفتح الراء، حال من "الحجِّ"، وبكسرها حال من الواو باعتبار كلّ واحد، كما قاله الكرمانيّ (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِكُمْ، فَطُوفُوا بِالْبَيْتِ) أي: اجعلوا حجكم عمرة، وتحللوا منها بالطواف والسعي، أو
التقدير: اجعلوا إحرامكم عمرةً، ثم أحلوا منه بالطواف بالبيت (وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) أي: وبالسعي بين الصفا والمروة، وهذا معنى فسخ الحج إلى العمرة، قال ابن التين رحمه الله: هذا الحديث أبين ما في هذه من فسخ الحج إلى العمرة.
(وَقَصِّرُوا) أمرهم بالتقصير؛ لأنهم يُهِلّون بعد قليل بالحج، وأَخَّر الحلق؛ لأن بين دخولهم وبين يوم التروية أربعة أيام فقط (وَأَقِيمُوا حَلًالا) بالنصب على الحال، بمعنى مُحِلِّين (حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوَيةِ) تقدّم قريبًا أن "كان" في مثل هذا تامّة، تكتفي بمرفوعها، ولا تحتاج إلى خبر؛ أي: جاء يوم التروية (فَأَهِلُّوا بِالْحَجِّ، وَاجْعَلُوا الَّتِي قَدِمْتُمْ بِهَا) أي: اجعلوا الحجة المفردة التي أهللتم بها (مُتْعَةً") أي: عمرةً تتحلّون منها، فتصيرون متمتّعين، وأَطلق على العمرة متعةً مجازًا، والعلاقة بينهما ظاهرةٌ، قاله في "العمدة"
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "فأهلّوا بالحج، واجعلوا الذي قدمتم بها متعة": اعلم أن هذا الكلام فيه تقديم وتأخير، وتقديره: وقد أهلّوا بالحج مفردًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اجعلوا إحرامكم عمرة، وتحللوا بعمل العمرة"، وهو معنى فسخ الحج إلى العمرة. انتهى
(2)
.
(قَالُوا: كَيْفَ نَجْعَلُهَا مُتْعَةً، وَقَدْ سَمَّيْنَا الْحَجَّ؟ قَالَ: "افْعَلُوا مَا آمُرُكُمْ بِه، فَإِنِّي لَوْلَا أَنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ، لَفَعَلْتُ مِثْلَ الَّذِي أَمَرْتُكُمْ بِهِ) فيه ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من تطييب قلوب أصحابه، وتلطّفه بهم، وحلمه عنهم (وَلَكِنْ لَا يَحِلُّ مِنِّي حَرَامٌ) بكسر حاء "يَحِلّ"، والمعنى: لا يحل مني ما حُرِّم عليّ.
[تنبيه]: قال في "الفتح: وقع في رواية مسلم: "لا يُحِلّ مني حَرَامًا" بالنصب على المفعولية، وعلى هذا فيقرأ "يُحِلّ" بضم أوله، والفاعل محذوف، تقديره: لا يُحِلّ طولُ المكث، ونحو ذلك مني شيئًا حرامًا حتى يبلغ الهدي محله؛ أي: إذا نُحِر يوم منى. انتهى، ومثله في "عمدة القاري"
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذه النسخة التي ذكرها في "الفتح" و"العمدة"
(1)
"عمدة القاري" 9/ 204.
(2)
شرح النوويّ" 8/ 166 - 167.
(3)
"الفتح" 5/ 470، و"عمدة القاري" 9/ 203.
من نصب "حرامًا" لا توجد في النسخ التي بين يديّ، بل هي بالرفع مثلما وقع في البخاريّ، ولعل النسخ في ذلك مختلفة، والله تعالى أعلم.
({حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} ") أي: وهو منًى، فينحر فيه. واستُدِلّ به على أن من اعتمر، فساق هديًا لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر، وسيأتي في حديث حفصة رضي الله عنها نحوه، وقد تقدم حديث عائشة رضي الله عنها، من طريق عُقيل، عن الزهريّ، عن عروة، عنها، بلفظ:"ومن أحرم بعمرة، فأهدي، فلا يحل حتى ينحر هديه"، وتأول ذلك المالكية والشافعية على أن معناه: ومن أحرم بعمرة، وأهدي، فليهلّ بالحج، ولا يحلّ حتى ينحر هديه.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا التأويل مخالف لظاهر هذه الأحاديث، فلا ينبغي الاعتماد عليه.
قال الحافظ رحمه الله بعد تأويلهم هذا: ولا يخفى ما فيه، فإنه خلاف ظاهر الأحاديث المذكورة. انتهى.
والحاصل أن الحقّ أن من أحرم بعمرة، وأهدى فلا يحلّ حتى ينحر يوم النحر؛ لهذه الأحاديث الصحيحة، فتبصر، وبالله تعالى التوفيق.
(فَفَعَلُوا) أي: فعل الصحابة رضي الله عنهم ما أمرهم به النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقالوا: سمعنا وأطعنا، وفيه بيان فضلهم حيث استجابوا لما دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم ممتثلين أمر ربهم في قوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} الآية [الأنفال: 24]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 2945](1216)، و (البخاريّ) في "الحجِّ"(1568)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 300)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 315)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 356)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(7/ 123)، وفوائده تقدّمت غير مرّة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2946]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرِ بْنِ رِبْعِيٍّ الْقَيْسِيُّ، حَدَّثَنَا أبُو هِشَامٍ الْمُغِيرَةُ بْنُ سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيُّ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: قَدِمْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَجْعَلَهَا عُمْرَةً، وَنُحِل، قَالَ: وَكَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرِ بْنِ رِبْعِيٍّ الْقَيْسِيُّ) الْبَحْرانيّ البصريّ، صدوقٌ، من كبار [11](ت 250)(ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.
2 -
(أَبُو هِشَامٍ الْمُغِيرَةُ بْنُ سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيُّ) البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [9](ت 200)(خت م د س ق) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.
3 -
(أَبُو عَوَانَةَ) وضّاح بن عبد الله اليشكريّ، تقدّم قبل بابين.
4 -
(أَبُو بِشْرٍ) ابن أبي وَحْشيّة جعفر بن إياس، تقدّم أيضًا قبل بابين. والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (وَنُحِلَّ) تقدّم أنه بضمّ أوله، وفتحه، من الإحلال، أو الحلّ.
والحديث بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله، أخرجه هنا [17/ 2946](1216)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(7/ 126)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 315)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2947]
(1217) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَأْمُرُ بِالْمُتْعَة، وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَنْهَى عَنْهَا، قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، فَقَالَ: عَلَى يَدَيَّ دَارَ الْحَدِيثُ، تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا قَامَ عُمَرُ، قَالَ: إِنَّ اللهَ كَانَ يُحِلُّ لِرَسُولِهِ مَا شَاء بِمَا شَاءَ،
وَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ نَزَلَ مَنَازِلَهُ، فَأَتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لِلَّهِ كَمَا أَمَرَكُمُ اللهُ، وَأَبِتُّوا نِكَاحَ هَذِهِ النِّسَاء، فَلَنْ أُوتَى بِرَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةٍ إِلَى أَجَلٍ، إِلَّا رَجَمْتُهُ بِالْحِجَارَةِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدُوسيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو نَضْرَةَ) المنذر بن مالك بن قُطَعَة الْعَبْديّ الْعَوَفيّ البصريّ، ثقةٌ [3](ت 8 أو 109)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.
والباقون ذُكروا في الباب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله وله فيه شيخان قرن بينهما، ثم فرّق؛ لما مرّ غير مرّة.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة، وأبو نضرة علّق له البخاريّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، غير جابر رضي الله عنه، فمدنيّ.
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث.
5 -
(ومنها): أن شيخيه من التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة.
6 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي نَضْرَةَ) المنذر بن مالك بن قُطَعَة - بضمّ القاف، وفتح الطاء المهملة - أنه (قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله رضي الله عنهما (يَأْمُرُ بِالْمُتْعَةِ) هي الاعتمار في أشهر الحجِّ قبل الحجّ، ثم الحجِّ من عامه ذلك (وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ) عبد الله رضي الله عنهما (يَنْهَى عَنْهَا) وفي رواية أبي عوانة: "قال: كان ابن عباس يأمر بالمتعة، فكان ابن الزبير ينهى عنها، وقال: إن أقوامًا قد أعمى الله قلوبهم، كما أعمى أبصارهم
(1)
، يُفتون الناس بغير علم، قال: فذكرت ذلك لجابر بن عبد الله
…
" الحديث.
(1)
هذا قاله ابن الزبير بعد أن عمي ابن عباس رضي الله عنهم؛ لأنه عمي في آخر حياته.
(قَالَ) أبو نضرة (فَذَكَرْتُ ذَلِكَ) أي: اختلافهما في المتعة (لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (فَقَالَ) جابر رضي الله عنه (عَلَى يَدَيَّ دَارَ الْحَدِيثُ) أي: حديث جواز المتعة (تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا قَامَ عُمَرُ) أي: بأمر الخلافة بعد وفاة أبي بكر رضي الله عنهما (قَالَ: إِنَّ الله كَانَ يُحِلُّ لِرَسُولِهِ) صلى الله عليه وسلم (مَا شَاءَ بِمَا شَاءَ) أي: بالوحي الذي شاء إنزاله، من الآياتِ القرآنيّة، أو بالأحاديث النبويّة (وَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ نَزَلَ مَنَازِلَهُ) أي: استقرت أحكامه، وثبتت معالمه، فلا يقبل النسخ ولا التبديل، بعد أن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعني بذلك: أن متعة الحج قد رفعت لَمّا أمر الله بإتمام الحج والعمرة، ومتعة النِّكَاح أيضًا كذلك؛ لما ذكر الله شرائط النِّكَاح في كتابه، وبيّن أحكامه، فلا يزاد فيها، ولا ينقص منها شي، ولا يغيّر
(1)
.
(فَأَتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لِلَّهِ كَمَا أَمَرَكُمُ اللهُ) أي: بقوله عز وجل: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ، أراد بذلك أن الأمر بالإتمام يقتضي استمرار الإحرام إلى فراغ الحجّ، ومنع التحلّل، والمتمتّع يتحلّل، ويستمتع بما كان محظورًا عليه.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "فأتموا الحجَّ والعمرة لله كما أمر الله"، وفي الرواية الأخرى عن عمر رضي الله عنه:"فافصلوا حجكم من عمرتكم، فإنه أتم لحجكم، وأتمّ لعمرتكم"، وذكر بعد هذا من رواية أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه أنه كان يفتي بالمتعة، ويحتج بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم له بذلك، وقول عمر رضي الله عنه: إن ناخذ بكتاب الله، فإن الله تعالى أمر بالإتمام، وذكر عن عثمان أنه كان ينهى عن المتعة، أو العمرة، وأن عليّا خالفه في ذلك، وأهلّ بهما جميعًا، وذكر قول أبي ذرّ رضي الله عنه: كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصّةً، وفي رواية: رخصةً، وذكر قول عمران بن حصين رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أعمر طائفةً من أهله في العشر، فلم تنزل آية تفسخ ذلك، وفي رواية: جمع بين حج وعمرة، ثم لَمْ ينزل فيها كتاب، ولم ينه.
قال المازريّ رحمه الله: اختُلِف في المتعة التي نَهَى عنها عمر في الحجّ، فقيل: هي فسخ الحج إلى العمرة، وقيل: هي العمرة في أشهر الحجّ، ثم
(1)
"المفهم" 3/ 317 - 318.
الحج من عامه، وعلى هذا إنما نهى عنها ترغيبًا في الإفراد الذي هو أفضل، لا أنه يعتقد بطلانها، أو تحريمها.
وقال القاضي عياض رحمه الله: ظاهر حديث جابر، وعمران، وأبي موسى رضي الله عنهم أن المتعة التي اختلفوا فيها إنما هي فسخ الحج إلى العمرة، قال: ولهذا كان عمر رضي الله عنه يضرب الناس عليها، ولا يضربهم على مجرد التمتع في أشهر الحج، وإنما ضربهم على ما اعتقده هو وسائر الصحابة أن فسخ الحج إلى العمرة كان مخصوصًا في تلك السنَة؛ للحكمة التي قدّمنا ذكرها.
قال ابن عبد البر رحمه الله: لا خلاف بين العلماء أن التمتع المراد بقول الله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] هو الاعتمار في أشهر الحج قبل الحج، قال: ومن التمتع أيضًا القران؛ لأنه تمتع بسقوط سفره للنسك الآخر من بلده، قال: ومن التمتع أيضًا فسخ الحج إلى العمرة. انتهى كلام القاضي.
قال النوويّ رحمه الله بعد ذكر ما تقدّم: والمختار أن عمر وعثمان وغيرهما إنما نَهَوا عن المتعة التي هي الاعتمار في أشهر الحج، ثم الحج من عامه، ومرادهم نهيُ أولوية؛ للترغيب في الإفراد؛ لكونه أفضل، وقد انعقد الإجماع بعد هذا على جواز الإفراد، والتمتع، والقران من غير كراهة، وإنما اختلفوا في الأفضل منها، وقد سبقت هذه المسألة في أوائل هذا الباب مستوفاةً. انتهى كلام النوويّ.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "كان ابن عباس يأمر بالمتعة، وكان ابن الزبير ينهى عنها"؛ هذه المتعة التي اختلفا فيها: هي فسخ الحج في العمرة التي أمرهم بها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكان ابن عباس رضي الله عنهما يرى أن ذلك جائز لغير الصحابة، وكان ابن الزبير رضي الله عنهما يرى أن ذلك خاص بهم، وهي التي قال فيها جابر بن عبد الله رضي الله عنه: على يدي دار الحديث، تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي التي منعها عمر رضي الله عنه، واستَدَلَّ على منعها بقول الله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ، ولا معنى لقول مَن قال: إن اختلافهما كان في الأفضل بين المتعة التي هي الجمع بين الحج والعمرة في عام واحد وسفر واحد، وبين غيرها من الإفراد والقران؛ لأنه لو كان اختلافهما في ذلك لكان استدلال عمر ضائعًا؛ إذ كان
يكون استدلالًا في غير محله، غير أنه لما كان لفظ المتعة يقال عليهما بالاشتراك خفي على كثير من الناس، وكذلك يصلح هذا اللفظ لمتعة النِّكَاح، ولذلك ذكرهما جابر عن عمر في نسق واحد، وكان ابن عباس أيضًا خالف في متعة النِّكَاح، ولم يبلغه ناسخها على ما يأتي في "النِّكَاح" - إن شاء الله تعالى - انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن الذي اختلف فيه ابن عبّاس، وابن الزبير، والذي كان ينهى عنه عمر وعثمان رضي الله عنهم هو المتعة مطلقًا، سواء المتعة التي هي فسخ الحجِّ إلى العمرة، أو المتعة التي هي الاعتمار في أشهر الحجّ، ثم الحجِّ بعده من عامه، كما يتبيّن ذلك فيما يأتي من قصّة أبي موسى الأشعريّ مع عمر رضي الله عنهما، وقصّة عليّ مع عثمان رضي الله عنهما، وغير ذلك مما هو واضح فيما قلته.
ثم إن نهي هؤلاء الذين نهوا عنها إنما هو اجتهاد منهم، وقد خالفهم الجمهور، وهو الحقّ، وقد حمل بعضهم نهيهم على التنزيه، قال البيهقيّ في "سننه" بعد إخراج هذا الحديث ما نصّه: ونحن لا نشك في كونها - يعني المتعة - على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنا وجدناه نَهَى عن نكاح المتعة عام الفتح بعد الإذن فيه، ثم لَمْ نجده صلى الله عليه وسلم فيه بعد النهي عنه، حتى مضى لسبيله صلى الله عليه وسلم، فكان نهي عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن نكاح المتعة موافقًا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذنا به، ولم نجده منهى عن متعة الحج في رواية صحيحة عنه، ووجدنا في قول عمر رضي الله عنه ما دل على أنه أحبّ أن يُفْصَل بين الحج والعمرة؛ ليكون أتمّ لهما، فحملنا نهيه عن متعة الحج على التنزيه، وعلى اختيار الإفراد على غيره، لا على التحريم، وبالله التوفيق. انتهى كلام البيهقيّ رحمه الله
(2)
، وهو تحقيق نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
وقال النوويّ رحمه الله في "شرح المهذّب" ما حاصله: قد ذكر العلماء في نهي عمر وعثمان رضي الله عنهما عن متعة الحجِّ تأويلين:
(1)
"المفهم" 3/ 317.
(2)
"السنن الكبرى" للبيهقيّ (7/ 206).
[أحدهما]: أنهما نهيا عنه تنزيهًا، وحملًا للناس على ما هو الأفضل عندهما، وهو الإفراد، لا أنهما يعتقدان بطلان التمتع هذا، مع علمهما بقول الله تعالى:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} .
[والثاني]: أنهما كانا ينهيان عن التمتع الذي فعلته الصحابة في حجة الوداع، وهو فسخ الحج إلى العمرة؛ لأن ذلك كان خاصّا لهم، وهذا التأويل ضعيف، وإن كان مشهورًا، وسياق الأحاديث الصحيحة يقتضي خلافه.
قال: ومن العلماء من أصحابنا وغيرهم من يقتضي كلامه أن مذهب عمر بطلان التمتع، وهو ضعيف، ولا ينبغي أن يُحْمَل كلامه عليه، بل المختار في مذهبه ما قدمته، والله أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد أسلفت لك أن الذي يظهر لي أن نهي عمر وعثمان رضي الله عنهما عن متعة الحج يعئم الفسخ أيضًا، كما سيتبيّن من قصّة أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، وغيره، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(وَأَبِتُّوا) بقطع الهمزة، أمر من الإبتات، وهو القطع (نِكَاحَ هَذِهِ النِّسَاءِ) يعني اللاتي عُقِد عليهنّ نكاح المتعة؛ أي: اقطعوا أمر نكاحهنّ، ولا تجعلوه غير مبتوت، بجعله مُتعة، مقدّرة بمدّة، أراد بذلك النهي عن متعة النساء، قال القرطبيّ رحمه الله: وهذا منه أمر، وتهديدٌ، ووعيدٌ شديدٌ لمن استمر على ذلك بعد المتقدمة. انتهى.
وقال النوويّ رحمه الله: متعة النِّكَاح: هي نكاح المرأة إلى أجل، وكان مباحًا، ثم نُسِخ يوم خيبر، ثم أبيح يوم الفتح، ثم نُسِخ في أيام الفتح، واستمر تحريمه إلى الآن، وإلى يوم القيامة، وقد كان فيه خلاف في العصر الأول، ثم ارتفع، وأجمعوا على تحريمه، وسيأتي بسط أحكامه في "كتاب النِّكَاح" - إن شاء الله تعالى - انتهى
(2)
.
(فَلَنْ أُوتَى) بالبناء للمفعول (بِرَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً إِلَى أَجَلٍ) أي: نكحها نكاح المتعة (إِلَّا رَجَمْتُهُ بِالْحِجَارَةِ) هذا قاله رضي الله عنه مبالغة في النهي والزجر، وإلا فهو رضي الله عنه قد درأ الحدّ عن بَغِيّ بأجرة، فكيف لا يدرأ عن مستمتع؟
(1)
راجع: "المجموع" 7/ 143.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 169 - 170.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إلَّا رجمته بالحجارة" هذا على جهة التغليظ، وظاهره: أنه كان يرجمه؛ لأنه قد كان حصل عنده على القطع والبتات نسخ نكاح المتعة، ثم إنه تقدم بهذا البيان الواضح والتغليظ الشديد؛ فكأنه لو أُتِي بمن فعل ذلك بعد تلك الأمور لحكم له بحكم الزاني المحصن، ولم يقبل له اعتذارًا بجهل ولا غيره. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثالثة): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 2947 و 2948](1217) وسيأتي مختصرًا في [3026](1249)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1792)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 298)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(9/ 247)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 339)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 315)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 21 و 7/ 206) وفوائده تعلم مما سبق، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2948]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثنَا قَتَادَةُ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: فَافْصِلُوا حَجَّكُمْ مِنْ عُمْرَتِكُمْ، فَإِنَّهُ أَتَمُّ لِحَجِّكُمْ، وَأَتَمُّ لِعُمْرَتِكُمْ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(عَفانُ) بن مسلم بن عبد الله الباهليّ، أبو عثمان الصفّار البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [10](ت 219)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 44.
(1)
"المفهم" 3/ 318.
2 -
(هَمَّامُ) بن يحيى بن دينار الْعَوْذيّ، أبو عبد الله، أو أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [7](ت 4 أو 165)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
والباقيان ذُكرا في الباب.
[تنبيه]: رواية همّام، عن قتادة هذه ساقها (أبو عوانة) في "مسنده" (2/ 339) فقال:
(3354)
- حدّثنا يعقوب بن سفيان، نا عمر بن عاصم، نا همّام، نا قتادة، عن أبي نضرة، قلت لجابر بن عبد الله: إن ابن عباس يأمر بالمتعة، وإن ابن الزبير ينهى عنها، قال: فقال جابر: على يدي جرى الحديث، تمتعت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل فيه القرءان، فلما وَليَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس، فقال: إن القرءان القرءان، والرسول الرسول، وإنهما كانتا متعتان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهى عنهما، وأعاقب عليهما: إحداهما متعة الحج، فافصلوا بحجكم عن عمرتكم، والأخرى متعة النساء، فلا أقدر على رجل تزوج إلى أجل إلَّا غيّبته في الحجارة، زاد همام: فافصلوا حجكم من عمرتكم، وقال فيه: فإنه أتم لحجكم وعمرتكم. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2949]
(1216) - (وَحَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، وَأَبُو الرَّبِيع، وَقُتَيْبَةُ، جَمِيعًا عَنْ حَمَّادٍ، قَالَ خَلَف: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا، يُحَدِّثُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: قَدِمْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ نَقُولُ: لَبَّيْكَ بِالْحَجِّ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَجْعَلَهَا عُمْرَةً).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ) المقرئ البغداديّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو الرَّبِيعِ) سليمان بن داود العَتَكيّ الزهرانيّ، تقدّم قبل بابين.
3 -
(حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) تقدّم أيضًا قبل بابين.
4 -
(أَيُّوبُ) بن أبي تَمِيمة السختيانيّ، تقدّم أيضًا قبل بابين.
والباقيان ذُكرا في الباب، وشرح الحديث واضح، يُعلم مما سبق.
[تنبيه]: قال في "الفتح": يؤخذ من هذا الحديث فسخ الحجِّ إلى العمرة، وقد ذهب الجمهور إلى أنه منسوخ، وذهب ابن عبّاس رضي الله عنهما إلى أنه مُحكَم، وبه قال أحمد، وطائفة يسيرة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم أن دعوى النسخ غير صحيحة، وأن الحقّ هو ما ذهب إليه ابن عبّاس رضي الله عنهما، وأحمد بن حنبل وغيرهما، وهو مذهب البخاريّ وجمهور المحدّثين، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 2949](1216)، و (البخاريّ) في "الحجِّ"(1570)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 356 و 365)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 334)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 316)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة عليّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة:
قد انتهيتُ من كتابة الجزء الثاني والعشرين من "شرح صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحرَ المحيطَ الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" صباح يوم الجمعة المبارك الثامن من شهر صفر الخير (8/ 2/ 1429 هـ) الموافق (15 فبراير 2008 م).
أسأل الله العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رءوف رحيم. وآخر دعوانا:{أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].
(1)
راجع: "الفتح" 4/ 471 - 472.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية [الأعراف: 43].
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 182].
"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".
"السلام على النبيّ ورحمة الله وبركاته".
ويليه - إن شاء الله تعالى - الجزء الثالث والعشرون مفتتحًا بـ (18) - (بَابُ ذِكْرِ حديثِ جابِرِ بنِ عبد اللهِ رضي الله عنه الطويل في حِجَّةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم) رقم الحديث [2950](1218).
"سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلَّا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".
* * *