الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
يوم الجمعة المبارك الثامن من شهر صفر الخير 8/ 2/ 1429 هـ أول الجزء الثالث والعشرين من شرح "صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحر المحيط الثجّاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجَّاج" رحمه الله تعالى.
(18) - (بَابُ ذِكْرِ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما الطَّوِيلِ فِي حِجَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
-)
[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: حديث جابر رضي الله عنه هذا حديث عظيمٌ، مشتمل على جُمَل من الفوائد، ونفائسَ من مهمات القواعد، وهو من أفراد مسلم، لَمْ يروه البخاريّ في "صحيحه"، ورواه أبو داود كرواية مسلم، قال القاضي عياض: وقد تكلم الناس على ما فيه من الفقه، وأكثروا، وصَنَّف فيه أبو بكر بن المنذر جزءًا كبيرًا، وخرَّج فيه من الفقه مائة ونيفًا وخمسين نوعًا، ولو تقصى لزيد على هذا القدر قريب منه، وقد سبق الاحتجاج بنكت منه، في أثناء شرح الأحاديث السابقة، وسنذكر ما يحتاج إلى التنبيه عليه على ترتيبه - إن شاء الله تعالى - انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: وأنا - إن شاء الله تعالى - سأقوم بشرح الحديث شرحًا مستوعبًا، مستكملًا لمقاصده، ومستجمعًا لفوائده، ومستخرجًا لعوائده، بحيث تقرّ به عيون الراغبين من روّاده، وبالله تعالى أستعين، ومنه أطلب المدد والتمكين، إنه جواد كريم، رءوف رحيم.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 170.
[2950]
(1218) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَنْ حَاتِمٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَدَنِيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، فَسَأَل عَنْ الْقَوْم، حَتَّى انْتَهَى إِلَيَّ، فَقُلْتُ: أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى رَأْسِي، فَنَزَعَ زِرِّي الْأَعْلَى، ثُمَّ نَزَعَ زِرِّي الْأَسْفَلَ، ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ ثَدْيَيَّ، وَأَنا يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ شَابٌّ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِكَ يَا ابْنَ أَخِي، سَلْ عَمَّا شِئْتَ
(1)
، فَسَأَلْتُهُ، وَهُوَ أَعْمَى، وَحَضَرَ وَقْتُ الصَّلَاة، فَقَامَ في نِسَاجَةٍ
(2)
، مُلْتَحِفًا بِهَا، كُلَّمَا وَضَعَهَا عَلَى مَنْكِبِه، رَجَعَ طَرَفَاهَا إِلَيْه، مِنْ صِغَرِهَا، وَرِدَاؤُهُ إِلَى جَنْبِهِ عَلَى الْمِشْجَب، فَصَلَّى بِنَا، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ حَجَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ بِيَدِهِ: فَعَقَدَ تِسْعًا، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ، ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ
(3)
فِي الْعَاشِرَةِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَاجٌّ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ، كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَيْعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِه، فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَة، فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ أَصْنَعُ؟ قَالَ:"اغْتَسِلِي، وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ، وَأَحْرِمِي"، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِد، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ، حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاء، نَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِي بَيْنَ يَدَيْه، مِنْ رَاكِبٍ، وَمَاشٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَظْهُرِنَا، وَعَلَيْهِ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ، وَهُوَ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ، وَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ عَمِلْنَا بِه، فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ:"لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ"، وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِه، فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْهُ، وَلَزِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَلْبِيَتَهُ.
(1)
وفي نسخة: "سل عمّ شئت".
(2)
وفي نسخة: "في ساجة".
(3)
وفي نسخة: "ثم آذن الناسَ".
قَالَ جَابِرٌ: لَسْنَا نَنْوِي إِلَّا الْحَجَّ، لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ، حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ، اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، فَرَمَلَ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا، ثُمَّ نَفَذَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، فَقَرَأَ:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ، فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْت، فَكَانَ أَبِي يَقُولُ: وَلَا أَعْلَمُهُ ذَكَرَهُ إِلَّا عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} ، {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} وَثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَاب إِلَى الصَّفَا، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} أَبْدَأُ
(1)
بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ"، فَبَدَأَ بِالصَّفَا، فَرَقِيَ عَلَيْه، حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَوَحَّدَ اللهَ، وَكَبَّرَهُ، وَقَالَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ"، ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ، قَالَ مِثْلَ هَذَا
(2)
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَرْوَة، حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي سَعَي، حَتَّى إِذَا صَعِدَتَا مَشَي، حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ، فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا، حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ طَوَافِهِ
(3)
عَلَى الْمَرْوَة، فَقَالَ:"لَوْ أنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ، لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ، وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ، وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً"، فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلِعَامِنَا هَذَا، أَمْ لِأَبَدٍ؟ فَشَبَّكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً فِي الْأُخْرَي، وَقَالَ:"دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ - مَرَّتَيْنِ - لَا بَلْ لِأَبُدٍ أَبَدٍ"
(4)
. وَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ ببُدْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَوَجَدَ فَاطِمَةَ رضي الله عنها مِمَّنْ حَلَّ، وَلَبِسَتْ ثِيَابًا صَبِيغًا، وَاكْتَحَلَتْ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: إِنَّ أَبِي أَمَرَنِي بِهَذَا، قَالَ: فَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ بِالْعِرَاقِ: فَذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُحَرِّشًا عَلَى فَاطِمَةَ؛ لِلَّذِي صَنَعَتْ، مُسْتَفْتِيًا
(1)
وفي نسخة: "ابدءوا" بصيغة الأمر.
(2)
وفي نسخة: "فقال مثل ذلك".
(3)
وفي نسخة: "آخر طواف".
(4)
وفي نسخة: "بل لأبد الأبد" بالإضافة.
لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا ذَكَرَتْ عَنْهُ، فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي أَنْكَرْتُ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَقَالَ:"صَدَقَتْ صَدَقَتْ، مَاذَا قُلْتَ حِينَ فَرَضْتَ الْحَجَّ؟ " قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُهِلُّ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُكَ، قَالَ:"فَإِنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ، فَلَا تَحِلُّ"، قَالَ: فَكَانَ جَمَاعَةُ الْهَدْيِ الَّذِي قَدِمَ بِهِ عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَن، وَالَّذِي أَتَى بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِائَةً، قَالَ: فَحَلَّ النَّاسُ كلُّهُمْ، وَقَصَّرُوا، إِلَّا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَة، تَوَجَّهُوا إِلَى مِنًى، فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ، وَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا، حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ تُضْرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَسَارَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا تَشُكُّ قُرَيْشٌ إِلَّا أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَام، كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصْنَعُ فِي الْجَاهِلِيَّة، فَأَجَازَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَنَزَلَ بِهَا، حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاء، فَرُحِلَتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي، فَخَطَبَ النَّاسَ، وَقَالَ:"إِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، إِلَّا كُلُّ شَيءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِث، كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سَعْدٍ، فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا، رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِب، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاء، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ الله، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ الله، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِه، كِتَابُ الله، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ " قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ، وَأَدَّيْتَ، وَنَصَحْتَ، فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَة، يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاء، وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ:"اللَّهُمَّ اشْهَدْ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ" ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَذَّنَ، ثُمَّ أقَامَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أقَامَ، فَصَلَّى الْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ رَكِبَ
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ، فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إِلَى الصَّخَرَات، وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْه، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا، حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ خَلْفَهُ، وَدَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ، حَتَّى إِنَّ رَأسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِه، وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى:"أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ"، كُلَّمَا أَتَى حَبْلًا مِنَ الْحِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا، حَتَّى تَصْعَدَ، حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْن، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، وَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ، بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ، حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَدَعَاهُ، وَكَبَّرَهُ، وَهَلَّلَهُ، وَوَحَّدَهُ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا، حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا، فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ، وَكَانَ رَجُلًا حَسَنَ الشَّعْر، أَبْيَضَ، وَسِيمًا، فَلَمَا دَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّتْ بِهِ ظُعُن يَجْرِينَ، فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَلَى وَجْهِ الْفَضْل، فَحَوَّلَ الْفَضْلُ وَجْهَهُ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ يَنْظُرُ، فَحَوَّلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ مِنْ الشِّقِّ الْآخَر، عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ يَصْرِفُ وَجْهَهُ مِنْ الشِّقِّ الْآخَرِ يَنْظُرُ، حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ، فَحَرَّكَ قَلِيلًا، ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَي، حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَة، فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا، مِثْلِ حَصَى الْخَذْف، رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمَنْحَر، فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِه، ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًا، فَنَحَرَ مَا غَبَرَ، وَأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِه، ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ، فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ، فَطُبِخَتْ، فَأَكَلَا مِنْ لَحْمِهَا، وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَفاضَ إِلَى الْبَيْت، فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ، فَأَتَى بَني عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ، فَقَالَ:"انْزِعُوا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ، لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ"، فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا، فَشَرِبَ مِنْهُ".
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ مصنّف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه الحنظليّ، أبو يعقوب، أو أبو محمد المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ حجة إمام [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
3 -
(حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَدَنِيُّ) أبو إسماعيل الحارثيّ مولاهم، كوفيّ الأصل، صدوقٌ يَهِم، صحيح الكتاب [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الصلاة" 42/ 1086.
4 -
(جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن عليّ الهاشميّ، أبو عبد الله المدنيّ المعروف بالصادق، صدوقٌ فقيه إمامٌ [6](ت 148)(بخ م 4) تقدم في "الحيض" 10/ 749.
5 -
(أَبُوهُ) محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، أبو جعفر المدنيّ المعروف بالباقر، ثقةٌ فاضلٌ 41، مات سنة بضع و (110)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 61.
6 -
(جَابرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بالمدينة بعد السبعين، وهو ابن (94) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحاد كيفيّة أخذه عنهما، ثم فرّق؛ لاختلافهما فيها.
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين غير شيخيه، فالأول كوفيّ، والثاني مروزيّ.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه.
4 -
(ومنها): أن صحابيّه ذو مناقب جمّة، فهو ابن صحابيّ، وغزا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة، وهو من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا، وهو من المعمّرين، كما مرّ آنفًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ) المعروف بالصادق رحمه الله (عَنْ أَبِيهِ) محمد بن عليّ المعروف بالباقر رحمه الله أنه (قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (فَسَأَل عَنِ الْقَوْم) أي: عن الجماعة الذين دخلوا عليه؛ لأنه كان إذ ذاك أعمى؛ لأنه عَمِيَ في آخر عمره، كما صرّح به في هذه الرواية، وفيه عناية الإنسان بالداخلين عليه، والسؤال عنهم؛ لينزل كلًّا منزلته.
(حَتَّى انْتَهَى) أي: وصل بالسؤال (إِلَيَّ، فَقُلْتُ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى رَأْسِي) أي: يده إليها، قال الفيّوفي: يقال: أهوى إلى الشيء بيده: مدّها؛ ليأخذه إذا كان عن قُرْب، فإن كان عن بُعْدٍ قيل: هَوَى إليه بغير ألف، وأهويتُ بالشيء بالألف: أومأتُ به. انتهى
(1)
.
(فَنَزَعَ) بفتح الزاي، يقال: نزَعته من موضعه نَزْعًا، من باب ضرب: إذا قَلَعته، وانتزعه: مثله. (زِرِّي الْأَعْلَى) بكسر الزاي، وتشديد الراء، هو الذي يوضع في القميص، جمعه: أَزْرارٌ، وزُرُورٌ، قاله في "القاموس"
(2)
، وقال في "المصباح": زَرّ الرجلُ القميصَ زَرًّا، من باب قَتَلَ: أدخل الأزرار في الْعُرَا، وزَرّرَه بالتضعيف مبالغةٌ، وأزرّه بالألف: جَعَل أَزرَارًا، واحدها زِرٌّ بالكسر. انتهى
(3)
.
والمعنى: أنه أخرج زرّي من عروته؛ لينكشف صدري عن القميص، وفيه إكرام الرجل بنزع ردائه عنه؛ إيناسًا له، وملاطفة، وإظهار مودّة.
(ثُمَّ نَزَعَ زِرِّي الْأَسْفَلَ، ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ ثَدْيَيَّ) تثنية ثَدْيٍ، بفتح، فسكون، قال الفيّوميّ رحمه الله: الثَّدْيُ: للمرأة، وقد يقال في الرجل أيضًا، قاله ابن السِّكِّيت، ويُذَكَّرُ وُيؤَنَّث، فيقال: هو الثَّدْيُ، وهي الثديُ، والجمع: أَثْدٍ، وثُدِيٌّ، وأصلهما أَفْعُلٌ، وفُعُولٌ، مثلُ أَفْلُس وفُلُوس، وربما جُمِع على ثِدَاءٍ،
(1)
"المصباح المنير" 2/ 643 - 644.
(2)
وقال في "المعجم الوسيط" 1/ 391: الزرُّ: شيءٌ كالحبّة، أو القُرْص يُدْخَلُ في الْعُرْوة. انتهى.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 252.
مثلُ سَهْمٍ وسِهَامٍ، والثَّنْدُوَةُ: وزنها فُنْعُلةٌ، بضم الفاء والعين، ومنهم من يجعل النون أصلية، والواو زائدة، ويقول: وزنها فُعْلُوَةٌ، قيل: هي مَغْرِزُ الثَّدْي، وقيل: هي اللحمة التي في أصله، وقيل: هي للرجل بمنزلة الثدي للمرأة، وكان رُؤبَةُ يَهْمِزُها، قال أبو عبيد: وعامة العرب لا تَهْمِزها، وحَكَى في "البارع" ضم الثاء مع الهمزة، وفتح الثاء مع الواو، وقال ابن السِّكِّيت: وجمع الثَّنْدُوة: ثِنَادٍ، على النقص. انتهى
(1)
.
(وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ شَابٌّ) إنما ذكر هذا بيانًا لسبب فعل جابر رضي الله عنه به ما ذُكر من نزع زرّه، وكشف صدره، وذلك أنه تأنيس له لصغره، ولا يُفعل هذا مع الكبار.
(فَقَالَ) جابر رضي الله عنه (مَرْحَبًا بِكَ يَا ابْنَ أَخِي) أي: نزلتَ مكانًا رَحْبًا؛ أي: واسعًا، يقال: رَحُبَ المكان رُحْبًا، من باب قَرُبَ، فهو رَحِيبٌ، ورَحْبٌ، مثالُ قَرِيبٍ، وفَلْسٍ، وفي لغة: رَحِبَ رَحَبًا، من باب تَعِبَ، وأرحب بالألف مثله، ويَتَعَدَّى بالحرف، فيقال: رَحُبَ بك المكانُ، ثم كَثُرَ حتى تعدى بنفسه، فقيل: رَحُبَتْكَ الدارُ، وهذا شاذٌّ في القياس، فإنه لا يوجد فَعُلَ بالضم إلَّا لازمًا، مثل شَرُفَ وكَرُمَ، ومن هنا قيل: مَرْحَبًا بك، والأصل: نزلتَ مكانًا واسعًا، ورَحَّب به، بالتشديد: قال له: مَرْحَبًا. انتهى
(2)
.
(سَلْ) أمر من سأل بالهمزة، أو من سأل بدونها، قال الفيّوميّ رحمه الله: وسألت الله العافيةَ: طلبتها سؤالًا، ومسألةً، وجمعها: مسائل بالهمز، وسألته عن كذا: استعملته، وتساءلوا: سأل بعضهم بعضًا، والسؤل: ما يُسْأَل، والمسؤول: المطلوب، والأمرُ من سَأَلَ: اسْأَلْ، بهمزة وصل، فإن كان معه واو جاز الهمز؛ لأنه الأصل، وجاز الحذف؛ للتخفيف، نحو: واسْأَلُوا، وسَلُوا، وفيه لغةٌ: سَالَ يَسَالُ، من باب خاف، والأمر من هذه: سَلْ، وفي المثنى والمجموع: سَلا وسَلُوا، على غير قياس، وسِلْتُهُ أنا، وهما يتساولان. انتهى
(3)
.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 80 - 81.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 222.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 297.
(عَمَّا شِئْتَ) متعلّق بـ "سَلْ"، و"ما" اسم موصول بمعنى الذي، ووقع في بعض النسخ بلفظ:"سَلْ عَمَّ شئتَ"، والظاهر أنه غلطٌ؛ لأن "ما" الموصولة لا تُحذف ألفها، وإنما تحذف ألف "ما" الاستفهاميّة، ولا وجه لها هنا، فتأمل، والله تعالى أعلم.
(فَسَأَلْتُهُ، وَهُوَ أَعْمَى) جملة حاليّة؛ أي: كان سؤالي له في حال عماه، وإنما طرأ له العمى في آخر حياته، كما قال في "أُسد الغابة"، ويدلّ على ذلك قوله فيما يأتي من حكايته عن نفسه: "نظرت إلى مدّ بصري
…
إلخ".
وقوله: (وَحَضَرَ وَقْتُ الصَّلَاةِ) جملة معطوفة على "فسألته"، ويَحْتَمِل أن تكون حالا بتقدير "قد" على رأي البصريين، ودونها على رأي الكوفيين (فَقَامَ فِي نِسَاجَةٍ) قال النوويّ رحمه الله: هي بكسر النون، وتخفيف السين المهملة، وبالجيم، هذا هو المشهور في نسخ بلادنا، ورواياتنا لـ "صحيح مسلم"، و"سنن أبي داود"، ووقع في بعض النسخ: في "سَاجَةٍ" بحذف النون، ونقله القاضي عياض عن رواية الجمهور، قال: وهو الصواب، قال: والساجةُ، والساجُ: ثوبٌ كالطيلسان وشبهه، قال: ورواية النون وقعت في رواية الفارسيّ، قال: ومعناه ثوب مُلَفَّقٌ، قال: قال بعضهم: النون خطأ، وتصحيفٌ، قال النوويّ: وليس كذلك، بل كلاهما صحيح، ويكون ثوبًا مُلَفّقًا على هيئة الطيلسان، قال القاضي في "المشارق": الساجُ والساجة: الطيلسان، وجمعه سِيجان، قال: وقيل: هي الخضر منها خاصَّة، وقال الأزهريّ: هو طيلسان مُقَوَّرٌ يُنْسَجُ كذلك، قال: وقيل: هو الطيلسان الحسن، قال: ويقال: الطيلسان بفتح اللام، وكسرها، وضمها، وهي أقلّ. انتهى
(1)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله: "النِّسَاجةُ: هي ضَرْبٌ من الملاحف منسوجةٌ، كأنها سُمِّيت بالمصدر، يقال: نسجت أَنْسُجُ نَسْجًا، وَنِسَاجَةً". انتهى
(2)
.
(مُلْتَحِفًا بِهَا) حال من "نساجة"، وهو اسم فاعل من الْتَحَفَ به: إذا تغطّي، و"اللِّحَافُ: ما يُلتَحَف به، كالْمِلْحَفة، والْمِلْحَف، أفاده
(1)
"إكمال المعلم" 4/ 266، و"شرح النوويّ" 8/ 170.
(2)
"النهاية في غريب الأثر" 5/ 45.
المجد رحمه الله
(1)
، وقال الفيّوميّ رحمه الله: الْمِلْحَفةُ بالكسر: هي الْمُلاءة التي تَلْتَحف بها المرأة، واللِّحَافُ، مثلُ كِتَابٍ: كلُّ ثوب يُتَغَطَّى به، والجمع لُحُفٌ، مثلُ كتاب وكُتُب. انتهى
(2)
.
(كلَّمَا وَضَعَهَا) أي: تلك النساجة (عَلَى مَنْكِبِهِ) بفتح الميم، وكسر الكاف، وزانُ مَجْلِس: هو مُجْتَمَعُ رأس العَضُد والْكَتِفِ؛ سُمّي بذلك؛ لأنه يُعْتَمَد عليه (رَجَعَ طَرَفَاهَا إِلَيْه، مِنْ صِغَرِهَا) أي: لأجل صغرها (وَرِدَاؤُهُ إِلَى جَنْبِهِ) جملة حاليّة، وقوله:(عَلَى الْمِشْجَبِ) حال أيضًا، وهو بميم مكسورة، ثم شين معجمة ساكنة، ثم جيم، ثم باء موحدة، وهو اسم لأعواد، توضع عليها الثياب، ومتاع البيت، قاله النوويّ
(3)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: شَجِبَ شَجَبًا، فهو شَجِبٌ، من باب تَعِبَ: إذا هَلَكَ، وتشاجب الأمر: اختَلَطَ، ودخل بعضه في بعض، ومنه اشتقاق المِشْجَب بالكسر، قاله ابن فارس، وقال الأزهريّ: الْمِشْجَبُ: خشباتٌ مُوَثَّقَةٌ، تُنْصَبُ، فيُنشَرُ عليها الثياب. انتهى
(4)
.
(فَصَلَّى بِنَا) أي: صار جابر إمامًا لهم في تلك الصلاة التي حضرت، وفيه أن صاحب البيت أحقّ بالإمامة إذا لَمْ يأذن، فقد تقدّم للمصنّف حديث أبي مسعود الأنصاريّ رضي الله عنه مرفوعًا:"ولا تؤُمّنّ الرجلَ في أهله، ولا في سلطانه، ولا تجلس على تكرمته في بيته إلَّا أن يأذن لك".
(فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ حَجَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بفتح الحاء وكسرها، أصل الحجِّ: القصد، قال الفيّوميّ: حَجَّ حَجًّا، من باب قَتَلَ: قَصَدَ، فهو حاج، هذا أصله، ثم قُصِر استعماله في الشرع على قصد الكعبة للحج أو العمرة، ومنه يقال: ما حَجَّ، ولكن دَجَّ، فالحجُّ: القصد للنُّسُك، والدَّجُّ: القصد للتجارة، والاسم: الحِجُّ بالكسر، والْحِجَّة: المرة بالكسر على غير قياس، والجمع حِجَجٌ، مثلُ سِدْرَةٍ وسِدَرٍ، قال ثعلب: قياسه الفتح، ولم يُسْمَع من العرب، وبها سُمِّي الشهر ذو الحجة بالكسر، وبعضهم يفتح في الشهر، وجمعه: ذَوَاتُ
(1)
"القاموس المحيط" 3/ 194 - 195.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 555.
(3)
"شرح النوويّ" 8/ 171.
(4)
"المصباح المنير" 1/ 305.
الحجة. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ بِيَدِهِ) أي: أشار، ففيه إطلاق القول على الفعل (فَعَقَدَ تِسْعًا) أي: أن يضمّ الوسطى والخنصر والبنصر مع مدّها إلى أصل لحمة الإبهام.
[تنبيه]: عقد تسعة من العقود المعروفة عند العرب قديمًا حيث يستعملون الأصابع في الحساب، وقد بيّنت ذلك في أبيات، فقلت:
يَا طَالِبًا مَعْرِفَةَ الْحِسَابِ
…
لِلْعَرَبِ الْعَرْبَاءِ خُذْ جَوابِي
لِلْوَاحِدِ اضْمُمْ خِنْصِرًا لأَقْرَبِ
…
بَاطِنِ كَفِّكَ وَأَحْكِمْ تُصِبِ
لاثْنَيْنِ بِنْصِرًا تَزِيدُ وَإِذَا
…
تَزِيدُ وُسْطَاكَ ثَلَاثَةً خُذَا
ضَمُّهُمَا مَعْ رَفِعِ خِنْصِرٍ غَدَا
…
أَرْبَعَةً وَضَمُّ وُسْطَى أَرْشَدَا
لِخَمْسَةٍ وِبِنْصِرٍ لِسِتَّةِ
…
وَضَمُّ خِنْصِرٍ فَقَطْ لِسَبْعَةِ
مَعْ مَدِّهَا لِلَحْمَةٍ تَتَّصِلُ
…
بِأَصْلِ إِبْهَامِكَ خُذْمَا نَقَلُوا
وَمَعَهَا الْبِنْصِرُ لِلثَّمَانِيَهْ
…
وَمَعَهَا الْوُسْطَى لِتِسْعٍ وَاقِيَهْ
إلى آخر الأبيات، وقد تقدّمت في "كتاب الصلاة"، فراجعها هناك، وبالله تعالى التوفيق.
(فَقَالَ) جابر رضي الله عنه (إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَكَثَ) بضمّ الكاف، وفتحها؛ أي: لبث، قال الفيّوميّ رحمه الله: مَكَثَ مَكْثًا، من باب قَتَلَ: أقام، وتلبّث، فهو ماكثٌ، ومَكُثَ مُكْثًا، فهو مَكِيثٌ، مثلُ قَرُبَ قُرْبًا، فهو قَرِيبٌ لغةٌ، وقرأ السبعة:{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل: 22] باللغتين، ويتعدّى بالهمزة، فيقال: أمكثه، وتمكّث في أمره: إذا لَمْ يَعْجَل فيه. انتهى
(2)
.
زاد في رواية النسائيّ: "بالمدينة"(تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ) اتّفق العلماء على أنه صلى الله عليه وسلم لَمْ يحجّ بعد هجرته إلى المدينة سوى حجة واحدة، وهي حجة الوداع هذه، وعلى أنَّها كانت سنة عشر (ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ) بتشديد الذال المعجمة، وفي نسخة:"ثمّ آذن" بالمدّ والتخفيف، وفي "المرعاة":"ثمّ أُذّن" بضمّ الهمزة، وكسر الذال المعجمة، مبنيّ للمجهول؛ أي: نادى منادً بإذنه صلى الله عليه وسلم، ويجوز بناؤه للمعلوم؛ أي: أمر بأن ينادى بينهم، قال: وعلى كلا الاحتمالين
(1)
"المصباح المنير" 1/ 121.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 577.
فالمراد إعلام الناس بحجه صلى الله عليه وسلم، وإشاعته بينهم؛ ليتأهّبوا للحج معه، ويتعلّموا المناسك، والأحكام، ويُشاهدوا أفعاله، وأقواله، ويوصيهم ليبلّغ الشاهد الغائب، وتشيع دعوة الإسلام، وتبلغ الرسالة القريب والبعيد، وفيه أنه يُستحبّ للإمام إيذان الناس بالأمور المهمّة؛ ليتأهّبوا لها، ولا سيّما في هذه الفريضة الكثيرة الإحكام المفروضة
(1)
.
(فِي الْعَاشِرَةِ) متعلّق بخبر لمبتدإ محذوف؛ أي: ذلك كائن في السنة العاشرة من الهجرة، ولا يتعلّق بـ "آذن"، فتنبّه.
(أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَاجٌّ) أي: خارج إلى الحجّ، ومريد له، وقاصد، زاد في رواية أحمد، والنسائيّ:"هذا العام"(فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ) تحقيقًا لقوله تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالًا} أي: مشاة {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} أي: راكبين على كلّ بعير ضعيف {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} أي: طريق بعيد، {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28] أي: ليحضروا منافع دينية، ودنيوية، وأخروية، وفي رواية النسائيّ:"فلم يبق أحد يقدر أن يأتي راكبًا، أو راجلًا إلَّا قَدِمَ، فتدارك الناس؛ ليخرجوا معه".
(كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ) أي: يطلب (أَنْ يَأْتَمَّ) أي: يقتدي (بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ) لأنه القدوة الحسنة، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]، و {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
وقال القاضي عياض رحمه الله: هذا مما يدلّ على أنهم كلهم أحرموا بالحج؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج، وهم لا يخالفونه، ولهذا قال جابر رضي الله عنه:"وما عَمِل من شيء عملنا به"، ومثله توقفهم عن التحلل بالعمرة ما لَمْ يتحلل حتى أغضبوه، واعتذر إليهم، ومثله تعليق عليّ وأبي موسى رضي الله عنهما إحرامهما على إحرام النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى
(2)
.
(فَخَرَجْنَا مَعَهُ) أي: لخمس بقين من ذي القعدة، كما رواه النسائيّ بين
(1)
"المرعاة" 2/ 9.
(2)
"إكمال المعلم" 4/ 267.
الظهر والعصر، وروى الترمذيّ، وابن ماجة، عن أنس منه، والطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم حج على رَحْلِ رَثٍّ، يساوي أربعة دراهم
(1)
.
(حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ) أي: المكان المعروف بهذا الاسم، وهو ماء من مياه بني جُشَم، وهو ميقات أهل المدينة، نحو مرحلة عنها، ويقال: ستة أميال
(2)
.
(فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسِ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ) تقدّمت ترجمتهما قبل باب (فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم) الظاهر أنَّها أرسلت زوجها أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه، ويدلّ له ما رواه مالك في "الموطإ" عن عبد الرَّحمن بن القاسم، عن أبيه، عن أسماء بنت عُميس أنَّها ولدت محمد بن أبي بكر، فذَكَر ذلك أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدلّ عليه أيضًا ما رواه النسائيّ من حديث أبي بكر رضي الله عنه: فأتى أبو بكر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فأمره أن يأمرها أن تغتسل، وقوله:(كَيْفَ أَصْنَعُ؟) مقول لقول محذوف حال من الفاعل؛ أي: أرسلت حال كونها قائلةً كيف أصنع؟ أي: في الإحرام بالحجّ.
وقال الباجيّ في "شرح الموطإ": يَحْتَمِل أن أبا بكر سأل أن النفاس الذي يمنع صحة الصلاة والصوم يمنع صحّة الحج؟ فبيّن صلى الله عليه وسلم أنه لا ينافي الحجّ، وَيحْتَمل أنه سأل عن اغتسالها للإحرام بعد أن عَلِمَ أن إحرامها بالحجِّ يصحّ، فخاف أن النفاس يمنع الاغتسال الذي يوجب حكم الطهر. انتهى.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم مجيبًا عن سؤالها، مبيّنًا كيفيّة ما تصنعه في حال الإحرام ("اغْتَسِلِي) فيه دلالة على أن اغتسال النفساء للإحرام سنة، وهو للنظافة لا للطهارة، ومثلها في ذلك الحائض، كما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها بذلك حين حاضت بسرف، كما تقدّم بيانه.
وقال الخطّابيّ رحمه الله في "المعالم": في الحديث استحباب التشبّه من أهل التقصير بأهل الفضل والكمال، والاقتداء بأفعالهم طمعًا في إدراك مراتبهم، ورجاء مشاركتهم في نيل المثوبة، ومعلوم أن اغتسال الحائض والنفساء قبل
(1)
صححه الشيخ الألبانيّ رحمه الله، لغيره، انظر:"صحيح ابن ماجة" 2/ 965.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 146.
أوان الطهر لا يُطهّرهما، ولا يُخرجهما عن حكم الحدث، وإنما هو لفضيلة المكان والوقت.
قال وليّ الدين العراقيّ رحمه الله: هذا يدلّ على أن العلّة عنده في اغتسالهما التشبّه بأهل الكمال، وهنّ الطاهرات، والظاهر أنه إنما هو لشمول المعنى الذي شُرع الغسل لأجله، وهو التنظيف، وقطع الرائحة المكريهة؛ لدفع أذاها عن الناس عند اجتماعهم، وبذلك علّله الرافعيّ، ولا يَرِد عليه التيمّم عند العجز؛ لأن التنظيف هو أصل مشروعيّته للإحرام، فلا ينافيه قيام التراب مقامه؛ لأنه يقوم مقام الغسل الواجب، فأولى المسنون، وبعد استمرار الحكم قد لا توجد علته في بعض المحالّ. انتهى.
قال الخطّابيّ رحمه الله: وفي أمره صلى الله عليه وسلم "الحائض والنفساء بالاغتسال دليل على أن الطاهر أولى بذلك. انتهى
(1)
.
(وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ) بالثاء المثلّثة، بعد الفوقيّة: أمر من الاستثفار، يقال: استثفرت الحائض: إذا شدّت على فرجها خرقةً، وعلقت طرفيها إلى شيء مشدود في وسطها من مُقَدَّمها ومؤخرها، مأخوذ من ثَفَر الدابة، وهو ما يكون تحت ذنبها.
وقال في "المرعاة": الاستثفار هو أن تحتشي المرأة قطنًا، وتشُدّ في وسطها شيئًا، وتأخذ خرقةً عريضةً تجعلها على محلّ الدم، وتشدّ طرفيها من قُدّامها ومن ورائها في ذلك المشدود في وسطها، والمقصود أن تجعل هناك ما يمنع من سيلان الدم تنزهًا أن تظهر النجاسة عليها؛ إذ لا تقدر على أكثر من ذلك.
قال النوويّ رحمه الله: فيه استحباب غسل الإحرام للنفساء، وقد سبق بيانه في باب مستقلّ فيه أمر الحائض والنفساء، والمستحاضة بالاستثفار، وهو أن تَشُدّ في وسطها شيئًا، وتأخذ خرقة عريضة تجعلها على محل الدم، وتشُدّ طرفيها من قُدّامها ومن ورائها في ذلك المشدود في وسطها، وهو شبيه بثَفَر الدابة - بفتح الفاء - وفيه صحة إحرام النفساء، وهو مجمع عليه. انتهى
(2)
.
(1)
راجع: "المرعاة" 9/ 4.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 172.
(وَأَحْرِمِي") بقطع الهمزة، من الإحرام؛ أي: أحرمي بالنيّة والتلبية، وفيه صحّة إحرام النفساء، ومثلها الحائض، وأولى منهما الجنب؛ لأنهما شاركتاه في شمول اسم الحدث، وزادتا عليه بسيلان الدم، وهو مجمع عليه
(1)
.
(فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: ركعتي الظهر، وقيل: سنة الإحرام، والصحيح الأول (فِي الْمَسْجِدِ) أي: في مسجد ذي الحليفة، قال ابن العجميّ في منسكه: ينبغي إن كان في الميقات مسجد أن يصلي ركعتي الإحرام فيه، ولو صلاهما في غير المسجد فلا بأس به، ولو أحرم بغير صلاة جاز، ولا يصلّ في أوقات الكراهة، وتجزئ المكتوبة عنهما كتحيّة المسجد، وقيل: صلى الظهر، وقال ابن القيّم: لَمْ ينقل أنه صلى الله عليه وسلم صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفًى، وبالله تعالى التوفيق.
(ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ) بفتح القاف، وبالمدِّ: اسم ناقة النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال القاضي عياض رحمه الله: ووقع في نسخة العذريّ "القُصْوَى" بضم القاف، والقصر، قال: وهو خطأٌ، قال القاضي: قال ابن قتيبة: كانت للنبيّ صلى الله عليه وسلم نُوقٌ: القصواء، والجدعاء، والعضباء، قال أبو عبيد: العضباء: اسم لناقة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم تسم بذلك لشيء أصابها، قال القاضي: قد ذكر هنا أنه "رَكِب القصواء"، وفي آخر هذا الحديث:"خطب على القصواء"، وفي غير مسلم:"خطب على ناقته الجدعاء"، وفي حديث آخر:"على ناقةٍ خَرْماء"، وفي آخر:"العضباء"، وفي حديث آخر:"كانت له ناقة لا تُسْبَق"، وفي آخر:"تسمى مخضرمة"، وهذا كله يدلُّ على أنَّها ناقة واحدة، خلاف ما قاله ابن قتيبة، وأن هذا كان اسمها، أو وصفها لهذا الذي بها، خلاف ما قال أبو عبيد، لكن يأتى في "كتاب النذر" أن القصواء غير العضباء، كما سنبينه هناك.
قال الحربيّ: الْعَضْبُ والْجَدْع، والْخَرْم، والْقَصْوُ، والْخَضْرمة في الأُذن، قال ابن الأعرابيّ: القصواء التي قُطِع طرف أذنها، والجدع أكثر منه.
وقال الأصمعيّ: والقصو مثله، قال: وكل قطع في الأذن جدع، فإن جاوز الربع فهي عضباء، والمخضرم مقطوع الأذنين، فإن اصطلمتا فهي صَلْمَاء.
(1)
"المرعاة" 9/ 4.
وقال أبو عبيد: القصواء المقطوعة الأذن عرضًا، والمخضرمة المستأصلة، والعضباء المقطوعة النصف فما فوقه.
وقال الخليل: المخضرمة مقطوعة الواحدة، والعضباء مشقوقة الأذن.
قال الحربيّ: فالحديث يدلّ على أن العضباء اسم لها، وإن كانت عضباء الأذن، فقد جُعِل اسمها. انتهى كلام القاضي رحمه الله.
وقال محمد بن إبراهيم التيميّ التابعيّ وغيره: إن العضباء، والقصواء، والجدعاء اسم لناقة واحدة، كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله في "المجموع": "القَصْواء" - بفتح القاف، وإسكان الصاد، وبالمدّ - قال أهل اللغة: يقال: شاة قصواء، وناقة قصواء: إذا قُطِع من أذنها شيءٌ لا يجاوز الربع، فإن جاوز فهي عضباء، قال العلماء: ولم تكن ناقة النبيّ صلى الله عليه وسلم مقطوعًا من أذنها شيءٌ، قال صاحب المطالع: قال الدراوريّ: إنما قيل لها: القصواء؛ لأنَّها كانت لا تكاد تُسْبَقُ، قال الجوهريّ: يقال: شاة قصواء، وناقة قصواء، ولا يقال: جَمَلٌ أقصى، وإنما يقال: مَقْصُوّ، ومَقْصِيٌّ، كما يقال: امرأة حسناء، ولا يقال: رجل أحسن، وكان يقال لهذه الناقة: القصواء، والقصي، والجدعاء، قال العلماء: هي اسم لناقة واحدة، وقيل: هي ثلاثٌ، والله أعلم. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: عقد الحافظ العراقي رحمه الله في "ألفيّة السيرة" بابًا في بيان جِماله صلى الله عليه وسلم، فقال:"باب ذكر لقاحه، وجِماله صلى الله عليه وسلم ":
كَانَتْ لَهُ لِقَاحٌ
…
الْحِنَاءُ عُرَيِّسٌ بَغُومٌ السَّمْرَاءُ
بُرْدَةُ وَالْمَرْوَةُ وَالسَّعْدِيَّةُ
…
حَفَدَةٌ مَهْرَةُ وَالْيُسَيْرَةُ
رَيَّاءُ وَالشَّقْرَاءُ وَالصَّهْبَاءُ
…
عَضْبَاء وَجَدْعَاءُ هُمَا الْقَصْوَاءُ
وَغَيْرُهُنَّ وَالْجِمَالُ الثَّعْلَبُ
…
وَجَمَلٌ أَحْمَرُ وَالْمُكْتَسَبُ
غَنِمَهُ فِي يَوْمِ بَدْرٍ مِنْ أَبِي
…
جَهْل فَأهْدَاهُ إِلَى الْبَيْتِ النَّبِيّ
فِي أَنْفِهِ بُرَةٌ أيْ مِنْ فِضَّةِ
…
غَاظَ بِهِ كُفَّارَ أَهْلِ مَكَّةِ
(حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ) بفتح الموحدة، وسكون التحتانيّة:
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 173.
(2)
"المجموع شرح المهذّب" 8/ 119.
هي المفازة، جمعها بِيد بالكسر، والمراد هنا بيداء ذي الحليفة (نَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِي) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ: "مَدّ بصري"، وهو صحيح، ومعناه مُنْتَهَى بصري، وأنكر بعض أهل اللغة مَدّ بصري، وقال: الصواب: "مَدَى بَصَري"، وليس هو بمنكر، بل هما لغتان، المدّ أشهر. انتهى
(1)
.
(بَيْنَ يَدَيْه، مِنْ رَاكِبٍ، وَمَاشٍ) فيه جواز الحجِّ راكبًا وماشيًا، وهو مُجْمَعٌ عليه، وقد تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، قال الله تعالى:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} الآية [الحج: 27]، واخَتَلَف العلماء في الأفضل منهما، فقال مالك، والشافعيّ، وجمهور العلماء: الركوب أفضل؛ اقتداءً بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، ولأنه أعون له على وظائف مناسكه، ولأنه أكثر نفقةَ، وقال داود: ماشيًا أفضل؛ لمشقته، وهذا فاسد؛ لأن المشقة ليست مطلوبة، قاله النوويّ رحمه الله
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: لا خلاف في جواز الركوب والمشي في الحج، واختُلف في الأفضل منهما: فذهب مالك، والشافعيّ في آخرين: إلى أن الركوب أفضل اقتداءً بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولكثرة التفقه، ولتعظيم شعائر الحج بأبَّهة الركوب.
وذهب غيرهم: إلى أن المشي أفضل؛ لما فيه من المشقة على النفس.
ولا خلاف في: أن الركوب في الوقوف بعرفة أفضل.
واختلفوا في الطواف والسَّعي: والركوب عند مالك في المناسك كلها أفضل؛ للاقتداء بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم. انتهى
(3)
.
(وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلَ ذَلِكَ) أي: من راكب، وماش (وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلَ ذَلِكَ) وقوله: (وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَظْهُرنَا) في محلّ نصب على الحال، وكذا قوله:(وَعَلَيْهِ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ، وَهُوَ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ) مقصوده: الحثّ على التمسك بما أخبرهم عن فعله صلى الله عليه وسلم في حجته تلك.
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 173.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 173 - 174.
(3)
"المفهم" 3/ 323.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله" يعني: أنه صلى الله عليه وسلم إنما كان يفعل الفعل من أفعال الحج بحسب ما ينزل عليه به الوحي، فيفهمه هو، ويبئنه للناس بفعله، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"خذوا عنِّي مناسككم"، وكانوا كما قال جابر رضي الله عنه: إذا عَمِل شيئًا اقتدوا به فيه، وعملوه على نحو ما عمل. انتهى.
(وَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ عَمِلْنَا بِهِ) أي: إنه صلى الله عليه وسلم إذا عَمِل شيئًا من أعمال الحجّ اقتدوا به فيه، وعملوه على نحو ما عمل، وفيه ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من شدّة الحرص على الاقتداء بالنبيَّ صلى الله عليه وسلم.
(فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ) أي: رفع صوته بكلمة التوحيد، يعني قوله:"لا شريك لك"، وقوله:("لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ") تقدّم شرحه في "باب التلبية"، وفيه إشارة إلى مخالفة ما كانت الجاهلية، تقوله في تلبيتها من لفظ الشرك، فكانوا يقولون:"لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك"، كما سبق ذلك في "باب التلبية" أيضًا.
(وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِه، فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْهُ) يعني: أنهم لم يلتزموا هذه التلبية الخاضَة التي لبَّى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ فهموا أنها ليست مُتعيِّنَة، فترك صلى الله عليه وسلم كل أحد على ما تيسر له من ألفاظها، ومع هذا فلا بدَّ أن يأتي الملبِّي بما يقال عليه تلبية لسانًا، ولا يجزئ منها التحميد، ولا التكبير، ولا غيره، عند مالك، قاله القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وفي رواية أحمد، وابن الجارود: "ولبّى الناس، والناس يزيدون ذا
المعارج، ونحوه من الكلام، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يسمع فلا يقول لهم شيئًا" (وَلَزِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَلْبِيَتَهُ) المذكورة، قال القاضي عياض رحمه الله: فيه إشارة إلى ما رُوي من زيادة الناس في التلبية من الثناء والذكر، كما رُوي في ذلك عن عمر رضي الله عنه أنه كان يزيد: "لبيك ذا النعماء والفضل الحسن، لبيك مرهوبًا منك، ومرغوبًا إليك"، وعن ابن عمر رضي الله عنهما: "لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء
(1)
"المفهم" 3/ 325.
إليك والعمل"، وعن أنس رضي الله عنه: "لبيك حقًّا تَعَبُّدًا ورِقًّا"، قال القاضي: قال أكثر العلماء: المستحب الاقتصار على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه قال مالك، والشافعيّ. انتهى
(1)
.
(قَالَ جَابِرٌ رضي الله عنه: لَسْنَا نَنْوِي إِلَّا الْحَجَّ) أي: لسنا ننوي شيئًا من النيّات إلا نيّة الحجّ، قال السنديّ رحمه الله: هذا في أول الأمر، وقت خروجهم من المدينة، وإلا فقد أحرم بعضهم بالعمرة، أو هو خبر عما كان عليه حال غالبهم، أو أن المقصد الأصليّ من الخروج كان الحجّ، وإن نوى بعض العمرة. انتهى.
وقوله: (ولَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ) تأكيد للحصر الذي قبله، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يَحْتَمِل أن يُخْبِر به عن حالهم الأَوَّل قبل الإحرام، فإنهم كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، كما تقدَّم، فلما كان عند الإحرام بيَّن لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"من أراد أن يُهلّ بحج فليفعل، ومن أراد أن يُهلّ بعمرة فليفعل، ومن أراد أن يُهلّ بحج وعمرة فليفعل"، فارتفع ذلك الوهم الواقع بهم. انتهى
(2)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله: فقول جابر رضي الله عنه: "لسنا ننوي إلا الحج
…
إلخ" مع قوله في الحديث الآخر قبلُ: "مهلّين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجّ مفرد"، يرُدّ كلّ ما خالفه من رواية: أن منهم من كان معتمرًا، أو متمتّعًا وقارنًا، وكيف وهو يقول: "لا نعرف العمرة"، وكذلك كانوا لا يعرفون العمرة في أشهر الحجّ حتى جاء الإسلام، ولذلك جعل النبيّ صلى الله عليه وسلم عُمَره كلها في أشهر الحجّ على الصحيح، وسيأتي هذا، وقد أثبتنا قبلُ ترتيب هذه الأخبار، وتأليف مختلفها، ومن خالف حديث جابر، ومن وافقه إنما هو إخبار من مآل الحال، واستقرار العمل، كما تقدّم. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: حاصل ما قاله المحقّقون من الجمع بين قول جابر رضي الله عنه: "لسنا ننوي إلا الحجّ
…
إلخ"، وبين حديث عائشة رضي الله عنها: "فمنا
(1)
"إكمال المعلم" 4/ 269 - 270.
(2)
"المفهم" 3/ 323 - 324.
(3)
"إكمال المعلم" 4/ 270.
من أهلّ بعمرة
…
إلخ" أن حديث جابر رضي الله عنه محمول على أول الأمر قبل أن يأمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالعمرة، وحديث عائشة رضي الله عنها محمول على آخر الأمر بعد أن أمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالعمرة، فلا اختلاف بين الأحاديث، ولله الحمد.
(حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ) أي: وصلنا إليه (مَعَهُ) صلى الله عليه وسلم، بعد أن نزل بذي طُوى، وبات بها، واغتسل فيها، ودخل مكة من الثنيّة العليا، صبيحة رابع ذي الحجة، وقصد المسجد من شقّ باب السلام، ثم بدأ بالطواف، ولم يبدأ بركعتي تحية المسجد؛ لأنهما يحصلان بعد الطواف، وإنما يؤمر بهما من يريد الجلوس، والطائف لا يجلس، فلم يشمله النهي الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين"، وأما ما اشتهر عند كثير من الناس: إن تحية المسجد الحرام الطواف لا صلاة ركعتين، فمن كلام العوامّ الذين لا علم عندهم، ولا تفكير لهم في النصوص، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وفي الحديث أن السنة لداخل مكة للنسك أن يبدأ بالبيت قبل غيره، إلا أن يكون مضطرًّا، كأن يخشى على رحله، فله الصبر عليه، والبداية به حتى لا يضيع، وكذلك من جاء متأخّرًا يوم عرفة، وخاف فوت الوقوف لو بدأ بالبيت، ونحو ذلك من كل من يضطرّ إلى أن يبدأ بغيره، فله ذلك، والله تعالى أعلم.
(اسْتَلَمَ الرُّكْنَ) أي: الركن الأسود؛ إذ ينصرف إليه الركن عند الإطلاق، وسُمّي ركنًا؛ لأنه في ركن البيت.
وفي رواية أحمد، وابن الجارود:"الحجر الأسود"، والاستلام: افتعال من السلام بمعنى التحيّة، وأهل اليمن يسمون الركن بالمحيّا؛ لأن الناس يُحيّونه بالسلام، وقيل: من السِّلام بكسر السين، وهي الحجارة، واحدتها سَلِمة بكسر اللام، ويقال: استلم الحجر: إذا لَثَمَه وتناوله، والمعنى: وضع يديه عليه وقبّله، واستلم النبيّ صلى الله عليه وسلم الركن اليماني أيضًا في هذا الطواف، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، ولكن لم يُقبّله، فلا يُسنّ تقبيله.
والحاصل أن السنّة تقبيل الحجر الأسود في كلّ طوفة، إن تيسّر ذلك، فإن شقّ التقبيل استلمه بيده، ثم قبّلها، وإلا استلمه بنحو عصا، وقبّلها، وإلا أشار إليه، ولا يقبّله ما أشار به إليه، وهذا الذي ذكرناه في الحجر الأسود، لا
يُشرع شيء منها في الأركان الأخرى، إلا الركن اليمانيّ، فيسنّ استلامه بوضع اليد عليه فقط، دون تقبيله، فما يفعله كثير من الناس من تقبيلهم الركن اليماني فمن غلبة جهلهم بالسنة، فلا حول ولا قوّة إلا بالله.
وقال الزرقانيّ رحمه الله في "شرح المواهب": واعلم أن للبيت أربعة أركان: الأول له فضيلتان، كون الحجر الأسود فيه، وكونه على قواعد إبراهيم؛ أي: أساس بناه، والثاني هو الركن اليماني له الفضيلة الثانية فقط، وليس للآخرين شيء منهما، فلذلك يقبّل الأول، كما في "الصحيحين" عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قبّل الحجر الأسود، وفي "صحيح البخاريّ" عن ابن عمر رضي الله عنهما:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه، ويقبّله"، ويُستلَم الثاني فقط؛ لما في "الصحيح" عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني. ولا يُقبّل الآخران، ولا يُستلمان؛ اتّباعًا للفعل النبويّ؛ لأنهما ليسا على قواعد إبراهيم؛ هذا قول الجمهور، واستَحَبّ بعضهم تقبيل اليمانيين أيضًا، وهذا ضعيفٌ؛ لمخالفته السنّة.
وقد أجاب الشافعيّ رحمه الله عن قول من قال كمعاوية رضي الله عنه وقد قبّل الأركان كلها: ليس شيء من البيت مهجورًا، فردّ عليه ابن عبّاس رضي الله عنهما فقال:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، فأجاب الشافعيّ رحمه الله: بأنّا لم نَدَع استلامهما هَجْرًا للبيت، وكيف يهجره، وهو يطوف به؟ ولكنا نتّبع السنة فعلًا أو تركًا، ولو كان ترك استلامهما هَجْرًا له لكان ترك استلام ما بين الأركان هَجرًا له، ولا قائل به، ورُوي عن الشافعيّ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود، فاستلمه، ومسح يده عليه، ثم وضع شفتيه عليه طويلًا يقبّله. ويستفاد منه استحباب الجمع بينهما. انتهى.
ومما يُستحبّ عند استلام الركن الأسود التكبير في كلّ طوفة؛ لحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: طاف النبيّ صلى الله عليه وسلم بالبيت على بعيره كلما أتى الركن أشار إليه بشيء كان عنده، وكبّر، رواه البخاريّ.
وأما التسمية فلا تثبت في حديث مرفوع كما نبّه عليه الشيخ الألبانيّ رحمه الله، وإنما ثبتت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا استلم الحجر قال: بسم الله والله أكبر، أخرجه البيهقيّ وغيره بإسناد صحيح، كما قال النوويّ، والحافظ، ووهم
ابن القيّم، فذكره من رواية الطبرانيّ مرفوعًا، وإنما رواه موقوفًا كالبيهقيّ، كما ذكره الحافظ في "التلخيص". انتهى
(1)
.
(فَرَمَلَ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا) وفي رواية النسائيّ والترمذيّ: "فطاف سبعًا، فرمل ثلاثًا، ومشى أربعًا"، فقوله:"فرَمَل" أي: مشى بسرعة، مع تقارب الْخُطى، وهزّ الكتفين، وفي الرواية الآتية عند مسلم:"لَمّا قَدِم مكة أتى الحجر، فاستلمه، ثم مشى على يمينه، فرمل ثلاثًا، ومشى أربعًا".
وقوله: (ثَلَاثًا) أي: ثلاث مرّات، وهي الأشواط الأوَل من السبعة، زاد في رواية لأحمد:"حتى عاد إليه".
وقوله: (وَمَشَى أَرْبَعًا) أي: على السكون والهيئة في الأربعة الأشواط الباقية.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وبفعله صلى الله عليه وسلم هذا تقرر أن الرَّمل في الثلاثة الأشواط سنَّة راتبة، وإن كان أصل مشروعيته في عمرة القضاء؛ لِيُرِيَ أهل مكة قوَّتهم، وتجلّدهم، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما على ما يأتي؛ لكن لما فعله في حجة الوداع مع زوال ذلك المعنى تحقق أنه تعبّد، وأنه سُنَّة.
وهذا الطواف المذكور هنا؛ هو المسمَّى بطواف القدوم وهو سنَّة مؤكدة يجب بتركه دم على غير المراهق، وهو قول أبي ثور، وأحد قولي مالك، وقيل: لا يجب بتركه دم، ويجزئ عنه طواف الإفاضة، وهو قول الشافعي، وأصحاب الرأي، ولا يخاطب بطواف القدوم مكيٌّ.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن قول الشافعي ومن معه هو الأرجح في هذا؛ لأن إيجاب الدم يحتاج إلى دليل، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
قال: والأطواف ثلاثة: هذا، وطواف الإفاضة، ويسمَّى: طواف الزيارة؛ لأن الطائف يزور البيت من مِنى، فيطوفه، وقد أجاز الحنفي وغيره هذه التسمية، وكره مالك أن يقال: طواف الزيارة، وطوافُ الوداع، وهو الذي يفعل عند الصَّدَر من مكة، ولا دم على تاركه. انتهى
(2)
.
(1)
راجع: "المرعاة شرح المشكاة" 9/ 6 - 7.
(2)
"المفهم" 3/ 324.
قال الجامع عفا الله عنه: قول القرطبيّ رحمه الله: ولا دم على تاركه؛ أي: عند من يقول: إنه ليس من النسك، وإلا فالقائلون: إنه من النسك يوجبون الدم بتركه، فتنبّه.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "حتى إذا أتينا البيت معه
…
إلخ": فيه أن المحرم إذا دخل مكة قبل الوقوف بعرفات يُسَنّ له طواف القدوم، وهو مجمع عليه، وفيه أن الطواف سبع طوافات، وفيه أن السنة أيضًا الرمل في الثلاث الأُوَل، ويمشي على عادته في الأربع الأخيرة.
قال العلماء: الرمل هو أسرع المشي مع تقارب الخطى، وهو الْخَبَب.
قال أصحابنا: ولا يستحب الرمل إلا في طواف واحد في حج أو عمرة، أما إذا طاف في غير حجّ أو عمرة فلا رمل، بلا خلاف، ولا يُسْرع أيضًا في كل طواف حجّ، وإنما يسرع في واحد منها، وفيه قولان مشهوران للشافعيّ:
أصحهما طواف يعقبه سعيٌ، ويتصور ذلك في طواف القدوم، ويتصور في طواف الإفاضة، ولا يتصور في طواف الوداع.
والقول الثاني: أنه لا يُسرع إلا في طواف القدوم، سواء أراد السعي بعده أم لا، ويُسرع في طواف العمرة؛ إذ ليس فيها إلا طواف واحد، والله أعلم.
قال أصحابنا: والاضطباع سنة في الطواف، وقد صح فيه الحديث في سنن أبي داود، والترمذيّ، وغيرهما، وهو أن يجعل وَسَط ردائه تحت عاتقه الأيمن، ويجعل طرفيه على عاتقه الأيسر، ويكون منكبه الأيمن مكشوفًا، قالوا: وإنما يسنّ الاضطباع في طواف يسنّ فيه الرمل على ما سبق تفصيله، والله أعلم. انتهى
(1)
.
(ثُمَّ نَفَذَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام؛ "نَفَذَ" بالنون، والفاء، والذال المعجمة؛ أي: توجّه، يعني: أنه صار إليه بعد أن فرغ من طوافه (فَقَرَأَ: {وَاتَّخِذُوا}) بكسر الخاء المعجمة على الأمر، وبفتحها على الخبر ({مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ}) بفتح الميم؛ أي: موضع قيامه، وهو الحجر الذي كان يقوم عليه عند بناء البيت،
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 175.
وفيه أثر قدمين إلى الآن، وهو موضوع قُبالة البيت ({مُصَلًّى}) بالتنوين؛ أي: موضع صلاة الطواف.
قال القرطبيّ رحمه الله: الرواية هنا: {وَاتَّخِذُوا} ، بكسر الخاء على الأمر، وهي قراءة الكوفيين، وأبي عمرو، وهي أمر، وعلى قراءة الفتح، وهي قراءة الباقين، هو خبر عن الملتزمين لاستقبال الكعبة.
واختُلِف في مقام إبراهيم عليه السلام ما هو؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: هو مواقِفُه كلها، وقال الشعبيّ وعطاء: هو عَرَفة، والمزدلفة، والجمار، وقال مجاهد: الحرم، وقال جابر وقتادة: الحجر الذي قام عليه للبناء، فكان يرتفع به كلما ارتفع البناء، ويرفع هذا الخلاف، ويبيِّن المراد بالمقام قوله: فجعل المقام بينه وبين الكعبة؛ وهذا يدلّ على أنه هو الموضع المعروف هناك الذي يَستَقبِل بابَ البيت.
و ({مُصَلًّى}) أي: موضع صلاة ودعاء، وهاتان الركعتان هما المسنونتان للطُوَّاف، وهما سنتان مؤكدتان، يجب بتركهما دم عند مالك، ويدركهما ما لم يخرج من الحرم، فإن خرج ولم يركع، فهل يعيد الطواف لهما، أم لا؟ قولان، فإذا قلنا: لا يعيد الطواف لهما فقد وجب الدَّم، وكذلك إذا رجع إلى بلاده وجب الدَّم، وغير مالك لا يرى فيهما دمًا، ويركعهما متى ذكرهما. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
زاد في رواية الترمذيّ، والنسائيّ:"فصلّى ركعتين"، وعند أحمد، وابن الجارود:"حتى إذا فرغ - أي: من الطواف - عَمَدَ إلى مقام إبراهيم، فصلّى خلفه ركعتين".
(فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ) أي: صلّى خلفه، وهذا بيان للأفضل، وإلا فيجوز أن يصلي الركعتين في أي موضع شاء.
وقال النوويّ رحمه الله: هذا دليل لِما أَجْمَع عليه العلماء أنه ينبغي لكل طائف إذا فرغ من طوافه أن يصلي خلف المقام ركعتي الطواف، واختَلَفوا هل هما واجبتان، أم سنتان؟ وعندنا فيه خلاف حاصله: ثلاثة أقوال: أصحها
(1)
"المفهم" 3/ 325 - 326.
أنهما سنة، والثاني أنهما واجبتان، والثالث إن كان طوافًا واجبًا فواجبتان، وإلا فسنتان، وسواء قلنا واجبتان أو سنتان، لو تركهما لم يبطل طوافه، والسنة أن يصليهما خلف المقام، فإن لم يفعل ففي الْحِجْر، وإلا ففي المسجد، وإلا ففي مكة، وسائر الحرم، ولو صلاهما في وطنه وغيره من أقاصي الأرض جاز، وفاتته الفضيلة، ولا تفوت هذه الصلاة ما دام حيًّا، ولو أراد أن يطوف أطوفة استُحِبّ أن يصلي عقب كل طواف ركعتيه، فلو أراد أن يطوف أطوفة بلا صلاة، ثم يصلي بعد الأطوفة لكل طواف ركعتيه، قال أصحابنا: يجوز ذلك، وهو خلاف الأولى، ولا يقال: مكروه، وممن قال بهذا: الْمِسْوَر بن مَخْرَمة، وعائشة، وطاوس، وعطاء، وسعيد بن جبير، وأحمد، وإسحاق، وأبو يوسف، وكرهه ابن عمر، والحسن البصريّ، والزهريّ، ومالك، والثوريّ، وأبو حنيفة، وأبو ثور، ومحمد بن الحسن، وابن المنذر، ونقله القاضي عن جمهور الفقهاء. انتهى
(1)
.
(فَكَانَ أَبِي يَقُولُ: وَلَا أَعْلَمُهُ ذَكَرَهُ إِلَّا عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) قال النوويّ رحمه الله: معنى هذا الكلام أن جعفر بن محمد رَوَى هذا الحديث عن أبيه، عن جابر رضي الله عنه، قال: كان أبي - يعنى محمدًا - يقول: إنه قرأ هاتين السورتين، قال جعفر: ولا أعلم أبي ذكر تلك القراءة عن قراءة جابر في صلاة جابر، بل عن جابر، عن قراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم في صلاة هاتين الركعتين، قال: وأما قوله: "لا أعلم ذَكَرَه إلا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم " ليس هو شكًّا في ذلك؛ لأن لفظة العلم تنافي الشك، بل جزم برفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد ذكره البيهقيّ بإسناد صحيح على شرط مسلم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت، فرمل من الحجر الأسود ثلاثًا، ثم صلى ركعتين، قرأ فيهما:{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . انتهى
(2)
.
وقوله: (كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}، وَ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)}) قال النوويّ رحمه الله: معناه قرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 175 - 176.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 176.
{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} ، وفي الثانية بعد الفاتحة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} .
قال في "المرعاة": الواو لمطلق الجمع، فلا إشكال، قال الطيبيّ: كذا في "صحيح مسلم"، و"شرح السنّة" في إحدى الروايتين، وكان من الظاهر تقديم "سورة الكافرون"، وفي رواية للنسائيّ:"فصلّى ركعتين، فقرأ فاتحة الكتاب، و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} "، وفي رواية للترمذيّ:"قرأ في ركعتي الطواف بسورتي الإخلاص: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} ". انتهى
(1)
.
(ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ) يعني أنه صلى الله عليه وسلم بعد صلاة ركعتي الطواف رجع إلى الحجر الأسود، فاستلمه، وهذا يدلّ على شدّة العناية، والتهمّم باستلام الحجر الأسود
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: فيه دلالة لما قاله الشافعيّ وغيره من العلماء: أنه يستحب للطائف طوافَ القدوم إذا فرغ من الطواف، وصلاته خلف المقام، أن يعود إلى الحجر الأسود، فيستلمه، ثم يَخرُج من باب الصفا ليسعى، واتفقوا على أن هذا الاستلام ليس بواجب، وإنما هو سنة، لو تركه لم يلزمه دم. انتهى
(3)
.
(ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَاب) أي: من باب البيت الحرام (إِلَى الصَّفَا) مقصورًا، في الأصل هي الحجارةَ الْمُلْسُ، الواحدة صفاوٌ، مثلُ حَصًى وحَصَاوٍ، ومنه سُمّي الصفا موضع بمكة، ويجوز تذكيره وتأنيثه باعتبار إطلاق لفظ المكان والبقعة عليه، قاله في "المصباح"
(4)
.
(فَلَمَّا دَنَا) أي: قَرُب (مِنَ الصَّفَا قَرَأَ: " {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ}) قال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": أصل الصفا في اللغة: الحجر الأملس، وهو هنا جبل بمكة معروف، وكذلك المروة جبل أيضًا، ولذلك أخرجهما بلفظ التعريف، وذَكَّر الصفا؛ لأن آدم عليه السلام وقف عليه، فسُمِّي به، ووقفت حواء على المروة، فسميت باسم المرأة، فأُنِّث لذلك، والله أعلم.
(1)
راجع: "المرعاة" 9/ 7 - 8.
(2)
"المفهم" 3/ 326.
(3)
"شرح النوويّ" 8/ 176.
(4)
"المصباح المنير" 1/ 344.
وقال الشعبيّ: كان على الصفا صنم يُسَمَّى إِسَافًا، وعلى المروة صنم يُدْعَى نائلة، فاطّرَد ذلك في التذكير والتأنيث، وقُدِّم المذكر، وهذا حسنٌ؛ لأن الأحاديث المذكورة تدلّ على هذا المعنى، وما كان كراهة من كره الطواف بينهما إلا من أجل هذا، حتى رفع الله الحرج في ذلك، وزعم أهل الكتاب أنهما زنيا في الكعبة، فمسخهما الله حجرين، فوضعهما على الصفا والمروة؛ ليُعتَبر بهما، فلما طالت المدة عُبِدا من دون الله، والله تعالى أعلم.
و"الصفا": مقصورٌ جمع صَفَاة، وهي الحجارة الْمُلْسُ، وقيل: الصفا اسم مفرد، وجمعه صُفِيٌّ بضم الصاد، وكسرها
(1)
، وأَصْفاءٌ على مثل أَرْحاء، قال الراجز:
كَأَنَّ مَتْنَيْهِ
(2)
مِنَ النَّفِيِّ
…
مَوَاقِعُ الطَّيْرِ عَلَى الصُّفِيِّ
وقيل: من شروط الصفا البياض، والصلابة، واشتقاقه من صفا يصفو؛ أي: خَلَص من التراب، والطين.
و"المروة": واحدة المرو، وهي الحجارة الصغار التي فيها لِينٌ، وقد قيل: إنها الصلاب، والصحيح أن المرو: الحجارة صَلِيبها ورِخوها الذي يتشظى، وتَرِقّ حاشيته، وفي هذا يقال: المرو أكثر، ويقال في الصليب، قال الشاعر:
وَتَوَلَّى الأَرْضَ خِفًّا ذَابِلًا
…
فَإِذَا مَا صَادَفَ الْمَرْوَ رَضَخْ
وقال أبو ذؤيب [من الكامل]:
حَتَّى كَأَنِّي لِلْحَوَادِثِ مَرْوَةٌ
…
بِصَفَا الْمُشَقَّرِ كُلَّ يَوْم تُقْرَعُ
وقد قيل: إنها الحجارة السُّود، وقيل: حجارة بيض بَرّاقة، تكون فيها النار.
({مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}) أي: من أعلام مناسكه، ومواضع عباداته، وهي جمع شعيرة، والشعائر المتعبَّدات التي أشعرها الله تعالى؛ أي: جعلها أعلامًا للناس
(1)
الكسر زاده في "اللسان"، و"القاموس".
(2)
قال في "اللسان": الصواب: "كأن متنيّ" لأن بعده: "من طول إشرافي على الطَّويِّ". انتهى.
من الموقف، والسعي، والنحر، والشعار: العلامة، يقال: أشعر الهدي: أعلمه بغرز حديدة في سنامه، من قولك: أشعرت؛ أي: أعلمت، وقال الكميت [من الطويل]:
نُقَتِّلُهُمْ جِيلًا فَجِيلًا تَرَاهُمُ
…
شَعَائِرَ قِرْبَانٍ بِهِمْ يُتَقَرَّبُ
(1)
وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله في "المفهم": و"الشعائر": المعالم التي للحجّ، جمع شعيرة، سُمّيت بذلك؛ لما تُشعِر به تلك المواضع من أعمال الحج؛ أي: تُعْلِم، أو لِما يستشعر هناك من تعظيم الله تعالى، والقيام بوظائفه، قال: والطواف بين الصفا والمروة ركن من أركان الحجّ والعمرة عند جمهور العلماء، ما خلا أبا حنيفة؛ فإنه لم يره فيهما واجبًا في الحج، وسيأتي استيفاء الكلام عليهما - إن شاء الله تعالى. انتهى
(2)
.
(أَبْدَأُ) بصيغة المتكلّم؛ أي: قال: أنا أبدًا، ووقع في بعض النسخ "ابدؤوا بما بدأ الله" بصيغة الأمر، وأشكّ في صحّتها؛ لأن هذه وقعت عند النسائيّ في رواية له، ولفظها:"فابدءوا بما بدأ الله به"
(3)
، (بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ") أي: بذكره، وهو الصفا، يعني أنه يبتدئ السعي من الصفا؛ لأن الله تعالى ابتدأ بذكره، حيث قال:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} الآية؛ لأن الترتيب الذكريّ له اعتبار في الأمر الشرعيّ، إما وجوبًا، وإما استحبابًا، وإن كانت الواو لمطلق الجمع.
وقال السنديّ رحمه الله: هذا يفيد أن بداءة الله تعالى ذكرًا تقتضي البداءة عملًا، والظاهر أنه يقتضي ندب الابتداء عملًا، لا وجوبًا، والوجوب فيما نحن فيه من دليل آخر. انتهى
(4)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصَّفا
…
إلخ": هكذا المشروعية المستحبة مهما أمكنت، ولذلك يمنع الابتداء بالمروة، فإن فعل أُلغي ذلك الشوط عند الجمهور، وقال عطاء: إن جهل ذلك أجزأه.
(1)
"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبيّ 2/ 179 - 180.
(2)
"المفهم" 3/ 327.
(3)
راجع: "المجتبى" برقم (2963).
(4)
"المرعاة" 9/ 8.
ويكره الجلوس على الصفا والمروة، والدعاء عليهما كذلك، ويؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم:"أبدأ بما بدأ الله به": أن الذي يقدَّم ليعطفَ عليه أوكد من المعطوف في مقصود المقدِّم بوجهٍ ما، كما يُفْهَم من قوله تعالى:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} [الأحزاب: 35]، ومن قوله تعالى:{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [طه: 82]، فإن المعطوف عليه في هذه المواضع مقدَّم لمزية له على المعطوف، ومثل هذا كثير، وله موضع آخر يُعْرف فيه، ولا يُفْهَم منه أن الواو ترتب؛ لأنه إنما أخذه بالابتداء، لا بالترتيب، وقد تقدم القولُ على تحلُّلهم بعمل العمرة. انتهى
(1)
.
وقول النوويّ رحمه الله قوله: "أبدأ بما بدأ الله به
…
إلخ": في هذا اللفظ أنواع من المناسك:
[منها]: أن السعي يشترط فيه أن يُبدأ من الصفا، وبه قال الشافعيّ، ومالك، والجمهور، وقد ثبت في رواية النسائيّ في هذا الحديث بإسناد صحيح: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "ابدءوا بما بدأ الله به"، هكذا بصيغة الجمع.
[ومنها]: أنه ينبغي أن يَرقَى على الصفا والمروة، وفي هذا الرُّقِيّ خلاف، قال جمهور أصحابنا: هو سنة، ليس بشرط، ولا واجب، فلو تركه صحّ سعيه، لكن فاتته الفضيلة، وقال أبو حفص بن الوكيل من أصحابنا: لا يصحّ سعيه حتى يصعد على شيء من الصفا، والصواب الأول، قال أصحابنا: لكن يشترط أن لا يترك شيئًا من المسافة بين الصفا والمروة، فليُلْصِق عقبيه بدرج الصفا، وإذا وصل المروة ألصق أصابع رجليه بدرجها، وهكذا في المرات السبع يُشتَرط في كل مرة أن يُلصق عقبيه بما يبدأ منه، وأصابعه بما ينتهي إليه، قال أصحابنا: يُستحب أن يَرْقَى على الصفا والمروة حتى يرى البيت إن أمكنه.
[ومنها]: أنه يُسنّ أن يقف على الصفا مستقبل الكعبة، ويذكر الله تعالى بهذا الذكر المذكور، ويدعو، ويكرّر الذكر والدعاء ثلاث مرات، هذا هو المشهور عند أصحابنا، وقال جماعة من أصحابنا: يكرر الذكر ثلاثًا، والدعاء
(1)
"المفهم" 3/ 327 - 328.
مرتين فقط، والصواب الأول. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
(فَبَدَأَ) صلى الله عليه وسلم السعي (بِالصَّفَا، فَرَقِيَ عَلَيْهِ) بكسر القاف، قال في "القاموس": رَقِيَ إليه، كرَضِيَ رَقْيًا، ورُقِيًّا: صَعِدَ، كارتقى، وترقَّى، والْمِرْقَاةُ، بالفتح، ويُكسر: الدرجة. انتهى
(2)
.
وقال في "المصباح": رَقِيتُ في السَّلَّم وغيره أَرْقَى، من باب تَعِبَ رُقِيًّا على فُعُولٍ، ورَقْيًا مثلُ فَلْسٍ أيضًا، وارتقيتُ، وترقّيتُ مثله، ورَقِيتُ السَّطْحَ والجبلَ: عَلَوته يتعدَّى بنفسه. انتهى
(3)
.
(حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ) أي: إلى أن رأى الكعبة المشرّفة (فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ) وضع الظاهر موضع المضمر؛ تنصيصًا على أن البيت هو القبلة، وتنبيهًا على أن المقصود بالذات هو التوجّه إلى القبلة، لا خصوص رؤية البيت، قاله القاري رحمه الله. (فَوَحَّدَ اللهَ، وَكَبَّرَهُ، وَقَالَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) قال الطيبيّ رحمه الله: هذا يَحْتَمِل أن يكون قولًا آخر غير ما سبق من التوحيد والتكبير، ويَحْتَمِل أن يكون كالتفسير له والبيان، والتكبير وإن لم يكن ملفوظًا به، لكن معناه مستفاد من هذا القول؛ أي: لأن معنى التكبير التعظيم، قال القاري: والأظهر أنه قول آخر. (وَحْدَهُ) حال مؤكّد من "الله"، كقوله تعالى:{وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} الآية [البقرة: 91]، وقوله:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} الآية [آل عمران: 18] في أحد الوجهين، ويجوز أن يكون مفعولًا مطلقًا، قاله الطيبيّ رحمه الله
(4)
، وقال في "المرعاة":"وحده" حال مؤكّدة؛ أي: منفردًا بالألوهيّة، أو متوحّدًا بالذات، وقوله:(لَا شَرِيكَ لَهُ) حال أيضًا؛ أي: لا شريك له في الألوهيّة، فيكون تأكيدًا، أو في الصفات، فيكون تأسيسًا، وهو الأولى
(5)
. (لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ) زاد في رواية أبي داود، والنسائيّ، وابن ماجه، والدارميّ، والبيهقيّ، والشافعيّ:"يُحيي ويُميت" (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 177.
(2)
"القاموس المحيط" 4/ 336.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 236.
(4)
"الكاشف لحقائق السنن" 6/ 1960.
(5)
"المرعاة" 9/ 9.
قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ) أي: وَفَى بما وعد به من إظهار دينه، حيث قال تعالى:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (5)} [الصفّ: 9](وَنَصَرَ عَبْدَهُ) محمدًا صلى الله عليه وسلم نصرًا عزيزًا، كما قال تعالى:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)} [الفتح: 1 - 3]، ووقع في رواية أحمد:"صدق عبده"، ومعنى صدق الله تعالى عبده: تأييده له بالمعجزات، والله تعالى أعلم.
(وَهَزَمَ) وفي رواية: "وغلب"(الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ") أي: هزمهم بغير قتال من الآدميين، ولا بسبب من جهاتهم، كما قال الله تعالى:{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9]، والمراد بالأحزاب: هم الذين تَحَزّبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، وكان الخندق في شوال سنة أربع من الهجرة، وقيل: سنة خمس، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
، ويَحتمل أن يكون المراد بالأحزاب: أنواع الكفّار الذين تحزّبوا لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغُلبوا بالهزيمة والفرار
(2)
.
وقوله: (ثُمَّ) هنا لمجرّد الترتيب، دون التراخي (دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ) أي: بين مرّات هذا الذكر بما شاء (قَالَ مِثْلَ هَذَا) وفي نسخة: "مثل ذلك"؛ أي: مثل الذكر المتقدّم (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) قال الطيبيّ رحمه الله: كلمة "ثُمّ" تقتضي التراخي، وأن يكون الدعاء بعد الذكر، و"بين" تقتضي التعدّد والتوسّط بين الذكر بأن يدعو بعد قوله:"وهو على كلّ شيء قدير"، ثم الدعاء، فتمحّل من قال: لما فرغ من قوله: (وهزم الأحزاب وحده) دعا بما شاء، ثم قال مرّة أخرى هذا الذكرَ، ثم دعا، حتى فعل ثلاث مرّات، فهذا إنما يستقيم على التقديم والتأخير بأن يذكر قوله:"ثم دعا بين ذلك" بعد قوله: "قال مثل هذا ثلاث مرّات"، وتكون "ثمّ" للتراخي في الإخبار، لا تأخّر زمان الدعاء عن الذكر، ويلزم أن يكون الدعاء مرّتين. انتهى
(3)
.
وقال السنديّ رحمه الله: يقول الذكر ثلاث مرّات، ويدعو بعد كلّ مرّة. انتهى.
(1)
"شرح النووي" 8/ 177.
(2)
"المرعاة" 9/ 9.
(3)
"الكاشف" 6/ 1961.
(ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَرْوَةِ) وفي رواية النسائيّ: "ثم نزل ماشيًا"(حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ) بتشديد الموحّدة (قَدَمَاهُ) أي: انحدرتا بسهولة، ومنه قولهم:"إذا مشى كأنه ينحطّ في صَبَب" أي: موضع منحدر، وهو مجازٌ من قولهم:"صببت الماء، فانصبّ"؛ أي: سكبته، فانسكب (فِي بَطْنِ الْوَادِي) أي: المسعى، وفي رواية النسائيّ:"في بطن المسيل"، يعني انحدرتا بسهولة حتى وصلتا إلى بطن الوادي، والمراد به المنخفض منه، وقوله:(سَعَى) جواب "إذا".
[تنبيه]: سقط من معظم النسخ لفظ "سعى"، ولا بدّ منه، قال النوويّ رحمه الله: قوله: حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي حتى إذا صَعِدتا م. ى حتى أتى المروة": هكذا هو في النسخ، وكذا نقله القاضي عياض عن جميع النسخ، قال: وفيه إسقاط لفظةٍ لا بُدّ منها، وهي "حتى إذا انصبّت قدماه رَمَلَ في بطن الوادي"، ولا بد منها، وقد ثبتت هذه اللفظة في غير رواية مسلم، وكذا ذكرها الحميديّ في "الجمع بين الصحيحين"، وفي "الموطأ": "حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى، حتى خرج منه"، وهو بمعنى رَمَلَ. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله
(1)
.
قال النوويّ رحمه الله: وقد وقع في بعض "نسخ صحيح مسلم": "حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى"، كما وقع في "الموطإ" وغيره، والله أعلم. انتهى
(2)
.
(حَتَّى إِذَا صَعِدَتَا) بكسر العين المهملة؛ أي: ارتفعت قدماه عن بطن الوادي، وخرجتا منه إلى طرفه الأعلى، وقال الطيبيّ رحمه الله: معناه: ارتفعتا عن بطن الوادي إلى المكان العالي؛ لأنه في مقابلة "انصبّت قدماه"؛ أي: دخلتا في الْحُدُور. انتهى
(3)
.
قال المجد رحمه الله: صَعِدَ في السّلّم، كسَمِعَ صُعُودًا، وصَعَّدَ في الْجَبَل، وعليه تصعيدًا: رَقِيَ، ولم يُسمع: صَعِدَ فيه، وأصعد: أتى مكة، وفي الأرض: مَضَى، وفي الوادي: انحدر، كصَعّد تصعيدًا. انتهى
(4)
.
(1)
"إكمال المعلم" 4/ 272 - 273.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 178.
(3)
"المرعاة" 9/ 10.
(4)
"القاموس المحيط" 1/ 307.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: صَعِدَ في السلم والدرجة يَصْعَد، من باب تَعِبَ صُعُودًا، وصَعِدتُ السطحَ، وإليه، وصَعَّدت في الجبل بالتثقيل: إذا علوته، وصَعِدت في الجبل، من باب تَعِبَ لغةٌ قليلةٌ، وصَعِدت في الوادي تصعيدًا: إذا انحدرت منه، وأصعد من بلد كذا إلى بلد كذا إصعادًا: إذا سافر من بلد سُفْلى إلى بلد عُليا
(1)
، وقال أبو عمرو: أصعد في البلاد إصعادًا: ذهب أينما توجه، وصَعِد بالكسر، وأصعد إصعادًا: إذا ارتقى شَرَفًا. انتهى
(2)
.
(مَشَى) أي: سار على السكون، يعني أنه لما بلغ المكان المرتفع من الوادي مشى باقي المسافة إلى المروة على عادة مشيه.
قال النوويّ رحمه الله: في هذا الحديث استحباب السعي الشديد في بطن الوادي حتى يصعد، ثم يمشي باقي المسافة إلى المروة على عادة مشيه، وهذا السعي مستحب في كل مرّة من المرات السبع في هذا الموضع، والمشي مستحب فيما قبل الوادي وبعده، ولو مشى في الجميع، أو سعى في الجميع أجزأه، وفاتته الفضيلة، هذا مذهب الشافعيّ وموافقيه، وعن مالك فيمن ترك السعي الشديد في موضعه روايتان: إحداهما كما ذُكِر، والثانية: تجب عليه إعادته. انتهى
(3)
.
(حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ) زاد في رواية أحمد: "فرَقِي عليها حتى نظر إلى البيت"(فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا) أي: مثل ما فعله عليه، من الرُّقيّ، واستقبال القبلة، والذكر والدعاء، قال النوويّ رحمه الله: فيه أنه يسنّ عليها من الذكر والدعاء والرُّقيّ مثل ما يسنّ على الصفا، وهذا متفق عليه. انتهى
(4)
.
(حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ طَوَافِهِ) وفي نسخة: "آخر طوف" بلا ضمير، و"كان" هنا تامّة؛ أي: وُجد (عَلَى الْمَرْوَةِ) متعلّق بـ "كان"، وفي رواية لأحمد، وابن الجارود:"فلما كان السابع عند المروة".
(1)
كذا وقع في النسخة: "سُفلى"، و"عُليا"، والظاهر أن الصواب هنا "أسفل"، وأعلى"، فليُحرّر.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 340.
(3)
"شرح النوويّ" 8/ 178.
(4)
"شرح النوويّ" 8/ 178.
قال النوويّ رحمه الله: فيه دلالة لمذهب الشافعيّ والجمهور: أن الذهاب من الصفا إلى المروة يُحسَب مرّةً، والرجوع إلى الصفا ثانيةً، والرجوع إلى المروة ثالثةً، وهكذا، فيكون ابتداء السبع من الصفا، وآخرها بالمروة، وقال ابن بنت الشافعيّ، وأبو بكر الصيرفيّ من أصحابنا: يُحْسَب الذهاب إلى المروة والرجوع إلى الصفا مرة واحدة، فيقع آخر السبع في الصفا، وهذا الحديث الصحيح يَرُدّ عليهما، وكذلك عمل المسلمين على تعاقب الأزمان. انتهى، وهو تعقّبٌ جيّدٌ، والله تعالى أعلم.
وقوله: (فَقَالَ) جواب "إذا"، زاد في رواية لأحمد، وابن الجارود:"يا أيها الناس"("لَوْ أَنِّي استَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي) أي: لو علمت في قُبُلٍ من أمري (مَا اسْتَدْبَرْتُ) أي: ما علمته في دُبُرٍ منه، والمعنى: لو ظهر لي هذا الأمر الذي ظهر لي الآن وأمرتكم به في أول أمري، وابتداء خروجي (لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ) بضمّ السين المهملة؛ أي: ما جعلت عليّ هديًا، وأشعرته، وقلّدته، وسُقته بين يديّ، فإنه إذا ساق الهدي لا يتحلل حتى ينحره، ولا ينحره إلا يوم النحر، فلا يصحّ له فسخ الحجّ بعمل العمرة، بخلاف من لم يسق معه هديًا، فإنه يفسخ الحجّ، وهذا صريح في أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متمتّعًا.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت
…
إلخ" هذا يرُدّ على من قال: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم أحرم متمتعًا، ويدل على أنه إنما أحرم بما أحرم به مختارًا له، وإنه خُيّر في أنواع الاحرام الثلاثة، ولم يُعَيّن له واحد منها؛ فأمر به، ولكنه اختار القران على ما تقدَّم، ثم إنه لما أمر أصحابه بالتحلل بعمل العمرة، فتوقفوا لأجل أنه لم يتحلل هو، أخبرهم بسبب امتناعه، وهو: سوقه الهدي، ثم أخبرهم: أنه ظهر له في ذلك الوقت ما لم يظهر له قبل ذلك من المصلحة التي اقتضت أن أباح لهم فسخ الحج، وأنه لو ظهر له من ذلك قبل إحرامه ما ظهر له بعده، لأحرم بعمرة حتى تطيب قلوبهم، وتسكن نفرتهم من إيقاع العمرة في أشهر الحج. انتهى
(1)
.
وقال الخطّابيّ رحمه الله: إنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا القول لأصحابه؛
(1)
"المفهم" 3/ 329 - 330.
تطييبًا لقلوبهم، وذلك أنه كان يشقّ عليهم أن يحلّوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مُحرِم، ولم يُعجبهم أن يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، ويتركوا الاقتداء به، فقال عند ذلك القولَ؛ لئلا يجدوا في أنفسهم، وليعلموا أن الأفضل لهم ما دعاهم إليه، قال: وقد يستدلّ بهذا الحديث من يرى أن التمتع بالعمرة إلى الحج أفضل من الإفراد والقران.
قال الطيبيّ: ولعلّهم إنما شقّ عليهم؛ لإفضائهم إلى النساء قبل انقضاء المناسك، كما ورد في حديث جابر قالوا:"فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المنيّ"، وأشاروا إلى مذاكيرهم.
وقال البيضاويّ: إنما قال ذلك تأسيسًا للتمتّع، وتقريرًا لجواز العمرة في أشهر الحجّ، وإماطةً لما ألِفُوا من التحرّج عنها. انتهى
(1)
.
(وَجَعَلْتُهَا) أي: الحجة (عُمْرَةً) أي: كنت متمتّعًا من أول الأمر من غير سوق الهدي، وقال القاري؛ أي: جعلت إحرامي بالحج مصروفًا إلى العمرة كما أمرتكم به موافقةً.
وقال ابن القيّم رحمه الله في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: "لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت
…
إلخ": يعني أنه لو كان هذا الوقت الذي تكلم فيه هو وقت إحرامه لكان أحرم بعمرة، ولم يسق الهدي؛ لأن الذي استدبره هو الذي فعله ومضى، فصار خلفه، والذي استقبله هو الذي لم يفعله بعدُ، بل هو أمامه، فمقتضاه أنه لو كان كذلك لأحرم بالعمرة دون هدي.
وقال النوويّ رحمه الله: في الحديث دليل على جواز قول "لو" في التأسّف على فوات أمر الدين، ومصالح الشرع، وأما الحديث الصحيح في أن "لو" تفتح عمل الشيطان، فمحمول على التأسّف على حظوظ الدنيا ونحوها، وقد كثُرت الأحاديث الصحيحة في استعمال "لو" في غير حظوظ الدنيا ونحوها، فيُجمَع بين الأحاديث بما ذكرناه، والله تعالى أعلم. انتهى
(2)
.
(فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ) الفاء جواب شرط محذوف؛ أي: إذا كان الأمر ما
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1961 - 1062.
(2)
"المرعاة" 9/ 11.
ذكرت من أني سُقت الهدي، فمن كان منكم (لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ) بسكون الدال وتخفيف الياء، وكسرها وتشديد الياء (فَلْيَحِلَّ) بكسر الحاء، وفي رواية عند أحمد:"فليحلل" بسكون الحاء؛ أي: ليصر حلالًا، وليخرج من إحرامه بعد فراغه من أفعال العمرة (وَلْيَجْعَلْهَا) أي: الحجة (عُمْرَةً") إذ قد أبيح له ما حرم عليه بسبب الإحرام حتى يستأنف الإحرام للحج، والواو لمطلق الجمع؛ إذ الجعل مقدّم على الخروج؛ لأن المراد من الجعل الفسخ، وهو أن يفسخ نيّة الحجّ، ويقطع أفعاله، ويجعل إحرامه وأفعاله للعمرة، أو الواو للعطف التفسيريّ، قاله القاري رحمه الله.
وفي رواية عطاء عن جابر عند الشيخين، "فقال: أحلّوا من إحرامكم"؛ أي: اجعلوا حجكم عمرةً، وتحلّلوا منها بالطواف والسعي، فطوفوا بالبيت، وبين الصفا والمروة، وقصّروا، وأقيموا حلالًا، حتى إذا كان يوم التروية، فأهلُّوا بالحجّ، واجعلوا التي قدِمتم بها مُتعةً، قال الحافظ؛ أي: اجعلوا الحجة المفردة التي أهللتم بها عمرةً تتحلّلون منها، فتصيرون متمتّعين، فأطلق على العمرة متعةً مجازًا، والعلاقة بينهما ظاهرة. انتهى
(1)
.
(فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ) بضم الجيم، وضمّ الشين المعجمة، وفتحها، كما ذكره الجوهريّ وغيره، تقدّمت ترجمته في الباب الماضي، زاد في رواية أحمد، وابن الجارود:"وهو في أسفل المروة"(فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلِعَامِنَا هَذَا، أَمْ لِأَبَدٍ؟) الإشارة إلى جواز فسخ الحج إلى العمرة، كما هو ظاهر سياق الحديث، وقال به المحقّقون، أو الإتيان بالعمرة في أشهر الحجّ، أو مع الحجّ، كما قال الأكثرون؛ أي: هل يختصّ هذا بهذه السنة، أم هو إلى الأبد؛ أي: للحال والاستقبال، وفي رواية النسائيّ، وابن ماجه، والبيهقيّ:"أرأيت عمرتنا - وفي لفظ: متعتنا - ألعامنا هذا أم للأبد؟ ".
قال القرطبيّ رحمه الله: وقول سراقة بن جُعْشُم: "أَلِعَامِنا هذا أم لأبد؟ .. إلخ" ظاهر هذا السؤال والجواب: أنهما في فسخ الحج في العمرة، فيقتضي أن ذلك جائز مطلقًا مُؤبّدًا، وليس مخصوصًا بالصحابة، وبهذا استدل من قال
(1)
"المرعاة" 9/ 11 - 12.
بجواز ذلك مطلقًا، وهم أهل الظاهر، وقد صرف هذا الظاهر الجمهور إلى: أن السؤال إنما كان عن فِعْل العمرة في أشهر الحج، فاجاب بذلك، وعلى هذا: فيكون معنى "دخلت العمرة في الحج"؛ أي: في أشهر الحج. وقيل: دخلت العمرة في الحج؛ أي: في حق القارن، والذي حملهم على هذه التأويلات ما تقدَّم من أن الأصل وجوب الإتمام لما دخل فيه من الحج والعمرة، وأن الصحابة قد قالوا: إن ذلك كان مخصوصًا بهم كما تقدَّم، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم أن ما دلّ عليه الظاهر من أن المراد فسخ الحج إلى العمرة، وأن ذلك ليس خاصًّا بالصحابة هو الحقّ؛ لظهور أدلّته، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(فَشَبَّكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً فِي الْأُخْرَى)"واحدةً" منصوب بعامل مضمر؛ أي: جاعلًا واحدةً من الأصابع في الأخرى، والحال مؤكّدة (وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ) زاد في رواية أحمد، وابن الجارود:"إلى يوم القيامة"(مَرَّتَيْنِ) أي: قال ذلك مرّتين، وقوله:(لَا) أي: ليس لعامنا هذا فقط، قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "لا" هو جواب عن السؤال، وهو مشكلٌ؛ لأن السؤال بـ "أم" المعادلة إنما يُتلقّى في الجواب بأحد المتعادلين المستويين على التعيين، فالوجه أن يُحمَل على التشديد، وأن يقدّر: ليس لعامك هذا، بل أبد أبد، وتكرير "أبد" ينصر ما ذكرنا من التشديد، كما إذا سأل سائل عن الأمر الثابت بـ "أم" المتّصلة، فيكون الردّ لإيراد أم في غير موقعه، وقد سبق مثله في قوله صلى الله عليه وسلم:"كلّ ذلك لم يكن" جوابًا عن سؤال ذي اليدين: "أقُصِرت الصلاة، أو نسيت؟ ". انتهى
(2)
.
(بَلْ لِأَبَدٍ أَبَدٍ") بالتنوين مكرّرًا للتأكيد، أو بإضافة الأول إلى الثاني، وفي بعض النسخ:"لأبدِ الأبدِ"، والأبد: الدهر؛ أي: هذا لآخر الدهر، وزاد في رواية أحمد، وابن الجارود:"ثلاث مرّات"، يعني أن ذلك جائز في كلّ عام،
(1)
"المفهم" 3/ 328 - 329.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1962 - 1963.
لا يختصّ بعام دون عام إلى يوم القيامة، وكرّر ذلك ثلاث مرّات للتأكيد، وشبّك بين أصابعه إشارة إلى اشتراك الأعوام في ذلك بدون اختصاص أحدها.
[تنبيه]: قد اختلف العلماء في سؤال سُراقة هذا:
فقال بعضهم: المراد منه الإتيان بالعمرة في أشهر الحجّ.
وذهب آخرون إلى أن المراد بذلك القران، يعني اقتران الحج بالعمرة.
وقال آخرون: المراد منه فسخ الحجّ إلى العمرة.
فعلى الأول يكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "دخلت العمرة في الحجّ" أي: حلّت العمرة في أشهر الحجّ وصحّت، والمقصود إبطال ما زعمه أهل الجاهليّة من أن العمرة لا تجوز في أشهر الحجّ، وعليه الجمهور.
وعلى الثاني: دخلت العمرة في الحجّ؛ أي: اقترنت به، لا تنفكّ عنه لمن نواهما معًا، وتندرج أفعال العمرة في أفعال الحجّ حتى يتحلّل منهما معًا، قيل: ويدلّ عليه تشبيك أصابعه.
وتُعُقّب بأنه حينئذ لا مناسبة بين السؤال والجواب، فتدبّر.
وعلى الثالث؛ أي: دخلت نيّة العمرة في نيّة الحجّ، بحيث إن من نوى الحجّ صحّ له الفراغ منه بأفعال العمرة، قال النوويّ: وهو ضعيف، وقال القاري بعد ذكره: أقول: هذا هو الظاهر من سياق الحديث، والله تعالى أعلم.
وقال الحافظ: وتُعُقّب - أي: قول النووي - بأن سياق السؤال يقوّي هذا التأويل، بل الظاهر أن السؤال وقع عن الفسخ، والجواب وقع عما هو أعمّ من ذلك، حتى يتناول التأويلات المذكورة. انتهى.
وقيل: معنى دخولها في الحجّ سقوط وجوب العمرة بوجوب الحجّ، قال النوويّ: وسياق الحديث يقتضي بطلان هذا التأويل.
قال صاحب "المرعاة": قلت: حديث جابر رضي الله عنه هذا صريح في أن سؤال سراقة رضي الله عنه عن فسخ الحجّ إلى العمرة، وجواب النبيّ صلى الله عليه وسلم له يدلّ على تأييد مشروعيّته كما ترى؛ لأن الجواب مطابق للسؤال، ومعنى فسخ الحجّ إلى العمرة أن من أحرم بالحجّ مفردًا، أو قارنًا، ولم يسق الهدي، وطاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة قبل الوقوف بعرفة له أن يفسخ نيّته بالحجّ، وينوي عمرة مفردةً، فقصّر، ويتحلّل من إحرامه؛ ليصير متمتّعًا. انتهى كلام صاحب "المرعاة".
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله صاحب "المرعاة" رحمه الله تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، وحاصله أن حمل حديث جابر رضي الله عنه هذا على أن المراد به هو فسخ الحج إلى العمرة هو الصواب؛ لأنه صريح في ذلك، وأما ما عداه من التأويلات فضعيف؛ إذ يردّه سياق السؤال والجواب، فلا ينبغي حمل الحديث عليه، فتبصّر بالإنصاف، وقد تقدّم تحقيق ذلك بأدلّته في الباب الماضي، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.
(وَقَدِمَ عَلِيٌّ) أي: ابن أبي طالب رضي الله عنه (مِنَ الْيَمَنِ) لأنه صلى الله عليه وسلم كان بعثه إليها، قال ابن إسحاق: حدّثني عبد الله بن أبي نَجِيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث عليًّا إلى نجران، فلقيه بمكة، وقد أحرم، وفي رواية عطاء، عن جابر السابقة:"فقدم عليّ من سعايته"، وتقدم البحث فيها. (بِبُدْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) بضمّ الموحّدة، وسكون الدال: جمع بدنة بفتحتين، وهي تقع على الجمل والناقة، وتطلق على البقرة أيضًا، وسُمّيت بذلك؛ لعظمها وسِمَنها.
ونُسبت للنبيّ صلى الله عليه وسلم لأن عليًّا رضي الله عنه اشتراها له، لا أنها من السعاية على الصدقة، كما يتبادر إلى الذهن، وكان عددها سبعًا وثلاثين بدنةً، وكان عدد الهدي الذي ساقه النبيّ صلى الله عليه وسلم معه من المدينة ثلاثًا وستين بدنةً، كما جاء في رواية الترمذيّ، وأعطى عليًّا البدن التي جاءت معه من اليمن، وهي تمام المائة، قال الزرقانيّ: ظاهر قوله: "قدم عليّ من اليمن ببدن النبيّ صلى الله عليه وسلم" أن البدن للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي رواية النسائيّ، وأحمد، وابن الجارود:"قدِم عليّ من اليمن بهدي، وساق النبيّ صلى الله عليه وسلم من المدينة هديًا"، وظاهره أن الهدي كان لعليّ رضي الله عنه، فيَحْتَمل أن عليًّا قَدِمَ من اليمن بهدي لنفسه، وهدي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر كلّ راو واحدًا منهما. انتهى، وسيأتي مزيد البحث في هذا عند ذكر نحر هذه البُدْن - إن شاء الله تعالى -
(1)
.
(فَوَجَدَ فَاطِمَةَ رضي الله عنها مِمَّنْ حَلَّ) أي: من النساء اللاتي تحلّلن عن حجهنّ بأفعال المرأة حيث أمر صلى الله عليه وسلم بذلك كل من معه من الرجال والنساء، ممن لم يسق الهدي، وكانت فاطمة رضي الله عنها ممن لم يسقه (وَلَبِسَتْ ثِيَابًا صَبِيغًا) بفتح
(1)
"المرعاة" 9/ 16.
الصاد، وكسر الموحّدة، فعيل بمعنى مفعول؛ أي: مصبوغًا بما لا يحلّ للنساء لبسه في الإحرام، وهو ما صُبغ بورس أو زعفران، فقد أخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم، وصححه، من طريق ابن إسحاق، قال: حدّثني نافع مولى عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى النساء في إحرامهنّ عن القفازين، والنقاب، وما مسّ الورس، والزعفران من الثياب، ولتلبس بعد ذلك ما أحبّت من ألوان الثياب، مُعَصْفَرًا، أو خَزًّا، أو حُلِيًّا، أو سراويل، أو قميصًا، أو خُفًّا"، وهو حديث صحيح.
(وَاكْتَحَلَتْ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا) أي: ظنًّا منه أنه لا يجوز ذلك لها، وفيه إنكار الرجل على زوجته ما رآه منها من نقص في دينها.
قال القرطبيّ رحمه الله: وإنكار عليٍّ على فاطمة رضي الله عنهما تحللها: إنما كان لأنه عَلِم أنها أحرمت بالحج، وأنها تحللت منه قبل إتمامه، وإنما أمرها النبيّ صلى الله عليه وسلم بالتحلل؛ لأنها لم تَسُق الهدي، كما أمر غيرها ممن لم يسق الهدي. انتهى
(1)
.
(فَقَالَتْ) فاطمة رضي الله عنها (إِنَّ أَبِي) النبيّ صلى الله عليه وسلم (أَمَرَنِي بِهَذَا) أي: حيث أمرهم بالتحلّل، فقالوا له: أي الحلّ؟ فقال: "الحلّ كلُّه"، فدخل فيه جميع محظورات الإحرام، من لبس الصبيغ وغيره (قَالَ) أي: جعفر بن محمد، عن أبيه (فَكَانَ عَلِيُّ) رضي الله عنه (يَقُولُ بِالْعِرَاقِ) أي: حينما ذهب إلى العراق، في خلافته رضي الله عنه، وقوله:(فَذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) مقول "يقول"(مُحَرِّشًا عَلَى فَاطِمَةَ) حال من الفاعل، والتحريش: الإغراء، والمراد به هنا أن يذكر له ما يقتضي عتابها (لِلَّذِي صَنَعَتْ) متعلّق بـ "مُحرّشًا"؛ أي: لأجل الأمر الذي صنعته، من لبس الصبيغ ونحوه، مما ينافي الإحرام، وقوله:(مُسْتَفْتِيًا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) حال أيضًا، إما مترادف، أو متداخلٌ؛ أي: طالبًا منه أن يُفتني (فِيمَا ذَكَرَتْ) أي: فاطمة رضي الله عنها (عَنْهُ) صلى الله عليه وسلم، مما زعمت أنه أمرها به (فَأَخْبَرْتُهُ) صلى الله عليه وسلم ("أَنِّي أَنْكَرْتُ ذَلِكَ عَلَيْهَا) ظنًّا مني أنها فعلت محظورات الإحرام (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("صَدَقَتْ) أي: في قولها: "إن أبي أمرني بهذا"، وقوله:(صَدَقَتْ) كرّره تأكيدًا، وكرّره في رواية النسائيّ ثلاث مرّات.
(1)
"المفهم" 3/ 330.
قال صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله عنه: (مَاذَا قُلْتَ حِينَ فَرَضْتَ الْحَجَّ؟ ") أي: ألزمته نفسك بالنيّة والتلبية، وفي رواية لأحمد، وابن الجارود:"وقال لعليّ: بم أهللت؟ "؛ أي: بأيّ شيء نويت حين أحرمت: بحجّ، أو عمرة، أو بهما؟
قال القرطبيّ رحمه الله: وقوله صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله عنه: "بم أهللت؟ " يدل على أنه لم يكن عنده خبر مما يُحرم به النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يتقدَّم له فيه عهد منه، وأنَّ عليًّا رضي الله عنه هو الذي ابتدأ إحرامه محالًا به على إحرام النبيّ صلى الله عليه وسلم من غير تعيين حجّ ولا عمرة، وأنه صلى الله عليه وسلم أقرَّه على ذلك، فكان ذلك حجة على جواز الحوالة على إحرام الغير مطلقًا إذا تحقق أنه أحرم ولا بدَّ، وبه قال الشافعي، وأُخِذ منه جواز الإحرام من غير تعيين، ثم بعد ذلك يعيَّن، وسيأتي. انتهى
(1)
.
(قَالَ) عليّ رضي الله عنه (قُلْتُ: اللَّهمَّ إِنِّي أُهِلُّ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُكَ) صلى الله عليه وسلم، فيه أنه يصحّ الإحرام معلّقًا، وهو أن يُحرم إحرامًا كإحرام فلان، وقد سبق شرحه في الباب الماضي (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَإِنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ) بسكون ياء "معي"، وفتحها، والمعنى: أنك إذا علّقت إحرامك بإحرامي، فإني أحرمت بالحجّ والعمرة، ولا أقدر أن أتحلّل؛ لأن معي الهديَ (فَلَا تَحِلُّ")"لا" ناهية، والفعل مجزوم، أو نافية، والفعل مرفوع، لكن المراد به النهي؛ أي: لا تحلّ أنت بالخروج من الإحرام، كما لا أحلّ أنا حتى يبلغ الهدي محلّه، وفي رواية:"فأَهْد، وامكث حرامًا كما أنت".
(قَالَ) جابر رضي الله عنه (فَكَانَ جَمَاعَةُ الْهَدْي) أي: من الإبل، و"الهدي" بالتشديد، والتخفيف: ما يُهدى إلى البيت الحراَم من النعم؛ ليُنحر عنده (الَّذِي قَدِمَ بِهِ) أي: بذلك الهدي (عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ) أي: للنبيّ صلى الله عليه وسلم (وَالَّذِي أَتَى بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) زاد في رواية أبي داود، والنسائيّ وابن ماجه:"من المدينة"(مِائَةً) وفي رواية الدارميّ: "مائة بدنة"(قَالَ) جابر رضي الله عنه (فَحَلَّ النَّاسُ) المراد من لم يكن معه هديٌ؛ أي: خرجوا من الإحرام بأفعال العمرة، وقوله:(كُلُّهُمْ) أي: معظمهم، قال النوويّ رحمه الله: فيه إطلاق اللفظ العام، وإرادة الخصوص؛ لأن عائشة رضي الله عنها لم تحلّ، مع كونها لم تسق الهدي (وَقَصَّرُوا) قال الطيبيّ رحمه الله:
(1)
"المفهم" 3/ 330.
وإنما قصّروا مع أن الحلق أفضل؛ لأن يبقى لهم بقيّة من الشعر حتى يُحلق في الحجّ. انتهى، وليكونوا داخلين في المقصّرين والمحلّقين جامعين بين العمل بالرخصة والعزيمة، كذا في "المرقاة"، وقال المحبّ الطبريّ رحمه الله: فيه دليلٌ على استحباب التقصير للمتمتّع، وتوفير الشعر للحلق في الحجّ، ويُشبه أن يكون ذلك عن أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ إذ عنه يأخذون مناسكهم، وبه يقتدون، وبذلك أمرهم، فقال:"لتأخذوا عني مناسككم"، وقوله:(إِلَّا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) استثناء من "الناس"(وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ) عطف على المستثنى (فَلَمَّا كَانَ) تامّة؛ أي: جاء (يَوْمُ التَّرْوِيَةِ) بفتح التاء، وسكون الراء المهملة، وكسر الواو، وتخفيف الياء، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة سُمّي بذلك؛ لأن الحجاج كانوا يرتوون فيه من الماء؛ لبُعده؛ أي: يستقون، ويسقون إبلهم فيه استعدادًا للوقوف بعرفة؛ إذ لم يكن في عرفات ماء، وقيل: لأن قريشًا كانت تحمل الماء من مكة إلى منى للحجاج تسقيهم، وتُطعمهم، فيروون منه، وقيل: لأن الإمام يروي فيه للناس أمر مناسكهم، وقيل: لأن إبراهيم الخليل عليه السلام تَرَوَّى فيه؛ أي: تفكر في ذبح ولده، وأنه كيف يصنع؟ حتى جزم عزمه يوم العاشر بذبحه.
[فائدة]: للأيام الستّة من ذي الحجة أسماء على التوالي، فاليوم الثامن يوم التروية، والتاسع يوم عرفة، والعاشر يوم النحر، والحادي عشر يوم الْقَرّ - بفتح القاف، وتشديد الراء - لأنهم يستقرّون فيه بمنى، والثاني عشر يوم النَّفْر الأول، والثالث عشر يوم النفر الثاني، والله تعالى أعلم
(1)
.
(تَوَجَّهُوا) أي: أرادوا التوجّه (إِلَى مِنًى) يُنوّن، وقيل: لا يُنوّن، فيُكتب بالألف، سُمّيت به؛ لأنه يُمنى الدماء في أيامها؛ أي: يُراق، ويُسفك، أو لأنه يُعطى الحجاج مناهم بإكمال أفعال الحج فيها (فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ) أي: من البطحاء، كما في رواية لأحمد، والشيخين، والطحاويّ، والبيهقيّ، يعني أنه أحرم به من كان خرج عن إحرامه بعد الفراغ من العمرة، وفي رواية لأحمد:"حتى كان يوم التروية، وأرادوا التوجّه إلى منى أهلّوا بالحجّ".
وقال المحبّ الطبريّ: فيه بيان وقت إهلال أهل مكة، والمتمتّعين، وفيه
(1)
راجع: "المرعاة" 9/ 18.
إشارة إلى أن المحرم من مكة لا يُقدّم طوافه وسعيه؛ لأنه إذا اشتغل بذلك لا يُسمّى متوجّهًا.
وقال النوويّ: والأفضل عند الشافعيّ وموافقيه أن من كان بمكة، وأراد الإحرام بالحجّ أحرم يوم التروية؛ عَمَلًا بهذا الحديث، وسبق بيان مذاهب العلماء فيه، وفي هذا بيان أن السنة أن لا يتقدّم أحد إلى منى قبل يوم التروية، وقد كَرِهَ مالك ذلك، وقال بعض السملف: لا بأس به، ومذهبنا أنه خلاف السنة. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "توجهوا إلخ"؛ أي: قَصَدوا، وأخذوا في الأهبة إلى منى، لا أنَّهم توجهوا بمشيهم إلى منى، فأحرموا منها، فإن ذلك باطل بإجماع العلماء، على أنَّهم أحرموا من مكة، والمستحبّ عند أكثر العلماء فيمن أحرم من مكة بالحج أن يكون إحرامه من مكة متصلًا بسيره إلى منى يوم التروية؛ أخذًا بظاهر هذا الحديث، واستدل بعضهم أن يكون ذلك أول هلال ذي الحجة؛ ليلحقهم من الشَّعَث إلى وقت الحج ما يلحق غيرهم.
والقولان عن مالك، وقد تقدَّم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم أن الإهلال قبل يوم التروية لمن بمكة مخالف للسنّة، كما في هذا الحديث، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما المتقدّم، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(وَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: حين طلوع الشمس من يوم التروية، وسار من مكة إلى منى (فَصَلَّى بِهَا) أي: بمنى في موضع مسجد الخيف (الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ) أي: كلّ صلاة لوقتها المعتاد.
قال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "فصلَّى بها الظهر
…
إلخ"، يعني: أنه صلى الله عليه وسلم صلَّى كل صلاة في وقتها، غير مجموعة، كما توهمه بعضهم، ممن لا يعرف، وإنما ذكر عدد الصلوات الخمس هنا؛ لِيُعْلَم الوقت الذي وصل فيه إلى منى، والوقت الذي خرج فيه منها إلى عرفة، ولذلك قال مالك باستحباب دخوله إلى منى، وخروجه منها في ذينك الوقتين المذكورين، وقد استحب جميع العلماء
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 180.
(2)
"المفهم" 3/ 331.
الخروج إلى منى يوم التروية، والمبيت بها، والغدوَّ منها إلى عرفة، ولا حرج في ترك ذلك، والخروج من مكة إلى عرفة، ولا دم. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: فيه بيان سُنَنٍ:
إحداها: أن الركوب في تلك المواطن أفضل من المشي، كما أنه في جملة الطريق أفضل من المشي، هذا هو الصحيح في الصورتين، أن الركوب أفضل، وللشافعيّ قول آخر ضعيفٌ أن المشي أفضل، وقال بعض أصحابنا: الأفضل في جملة الحج الركوب، إلا في مواطن المناسك، وهي مكة، ومنى، ومزدلفة، وعرفات، والتردد بينهما.
والسنّة الثانية: أن يصلي بمنى هذه الصلوات الخمس.
والثالثة: أن يبيت بمنى هذه الليلة، وهي ليلة التاسع من ذي الحجة، وهذا المبيت سنة، ليس بركن، ولا واجب، فلو تركه فلا دم عليه بالإجماع. انتهى.
وقال ابن المنذر رحمه الله: هذا المبيت أجمع أهل العلم على الفرق بينه وبين مبيت ليالي منى، فأوجبوا على تارك ذلك ما أوجبوا، ولم يوجبوا على تارك المبيت بمنى ليلة عرفة؛ أي: ليلة التاسع من ذي الحجة شيئًا. انتهى
(2)
.
(ثُمَّ مَكَثَ) بفتح الكاف، وضمّها؛ أي: لبِثَ بعد أداء الفجر (قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ) فيه أن السنة أن لا يخرجوا من منى حتى تطلع الشمس، وهذا متفق عليه.
(وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ) عطف على "رَكِبَ"، أو حال؛ أي: وقد أَمَر بضرب خيمة بنَمِرة قبل قدومه إليها (مِنْ شَعَرٍ) بفتح العين وسكونها (تُضْرَبُ لَهُ) بالبناء للمفعول، والجملة صفة لقُبّة، أو حال (بِنَمِرَةَ) بفتح النون، وكسر الميم، وهو غير منصرف، موضع على يمين الخارج من مأزمي
(3)
عرفة إذا أراد الموقف، وليس من عرفة.
(1)
"المفهم" 3/ 331.
(2)
راجع: "المرعاة" 9/ 18.
(3)
"المأزم" وزان مسجِد: الطريق الضيّق بين الجبلين، ومنه قيل للموضع الذي بين عرفة والمشعر: مأزمان، قاله في "المصباح".
وقال النوويّ رحمه الله: "نَمِرَةُ" بفتح النون، وكسر الميم، هذا أصلها، ويجوز فيها ما يجوز في نظيرها، وهو إسكان الميم، مع فتح النون وكسرها، وهي موضع بجنب عرفات، وليست من عرفات. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ: هو موضع بعرفة، وهو الجبل الذي عليه أنصاب الحرم، على يمين الخارج من مأزمي منى إلى الموقف. انتهى.
وفي هذا الحديث جواز الاستظلال للمحرم بقبة وغيرها، قال النوويّ رحمه الله: ولا خلاف في جوازه للنازل، واختلفوا في جوازه للراكب، فمذهبنا جوازه، وبه قال كثيرون، وكرهه مالك وأحمد، وستأتي المسألة مبسوطة في موضعها - إن شاء الله تعالى - وفيه جواز اتخاذ القباب، وجوازها من شعر. انتهى.
(فَسَارَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: من منى إليها (وَلَا تَشُكُّ قُرَيْشٌ إِلَّا أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) قال الزرقانيّ في "شرح المواهب": ظاهره أنه ليس لقريش شكّ في شيء إلا في وقوفه عند المشعر، فإنهم يشكّون فيه، وليس المراد ذلك، بل عكسه، وهو أنهم لا يشكّون في أنه صلى الله عليه وسلم سيقف عند المشعر الحرام على ما كانت عادتهم من وقوفهم به، ويقف سائر الناس بعرفة، فقال الأبيّ: الأظهر في "إلا" أنها زائدة، و"أنّ" في موضع النصب على إسقاط الجارّ؛ أي: ولا تشكّ قريش في أنه واقف عند المشعر. انتهى.
وقيل: الشك هنا بمعنى الظنّ، أي: لا تظنّ قريش إلا أنه يقف عند المشعر؛ لأنه من مواقف الْحُمْس، وأهلِ حرم الله.
وقال الطيبيّ رحمه الله أي: ولم يشكوا في أنه خالفهم في سائر مناسك الحج إلا الوقوف عند المشعر الحرام، فإنهم لم يشكّوا في المخالفة، بل تحقّقوا أنه صلى الله عليه وسلم يقف عند المشعر الحرام؛ لأنه من مواقف الْحُمْس، وأهل الحرم. انتهى
(2)
.
(كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصْنَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) قال النوويّ رحمه الله: معنى هذا أن
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 181.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1964.
قريشًا كانت في الجاهلية تقف بالمشعر الحرام، وهو جبل في المزدلفة، يقال له: قُزَحُ، وقيل: إن المشعر الحرام كل المزدلفة، وهو بفتح الميم على المشهور، وبه جاء القرآن، وقيل: بكسرها، وكان سائر العرب يتجاوزون المزدلفة، ويَقِفون بعرفات، فظنّت قريش أن النبيّ صلى الله عليه وسلم يقف في المشعر الحرام على عادتهم، ولا يجاوزه، فتجاوز صلى الله عليه وسلم إلى عرفات؛ لأن الله تعالى أمره بذلك في قوله تعالى:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199]؛ أي: سائر العرب، غير قريش، وإنما كانت قريش تقف بالمزدلفة؛ لأنها من الحرم، وكانوا يقولون: نحن أهل حرم الله، فلا نخرج منه. انتهى
(1)
.
(فَأَجَازَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: جاوز المزدلفة، ولم يقف بها، بل توجّه إلى عرفات، يقال: جاز وأجاز بمعنى واحد، وقيل: جاز الموضع: سلكه، وسار فيه، وأجازه: خلّفه، وقطعه، قال الأصمعيّ: جاز: مشى فيه، وأجازه: قطعه. انتهى
(2)
.
(حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ) أي: قاربها؛ لأنه فسّره بقوله: "فوجد القبّة قد ضُربت بنمرة، فنزل بها"، وقد سبق أن نمرة ليس من عرفات، وقد قدّمنا أن دخول عرفات قبل صلاتي الظهر والعصر جمعًا خلاف السنّة، قاله النوويّ رحمه الله
(3)
.
وقال الطبريّ: الظاهر أن المراد بإتيان عرفة القرب منها، فإن نَمِرة دونها، وسُمِّيت عرفة بذلك لتعريف جبريل إبراهيم المناسك، وقيل: لمعرفة آدم حوّاء هناك، أو لتعارف الناس، أو لاعترافهم بذنوبهم، وقيل: إن إبراهيم؛ رأى ليلة التروية ذبح ولده، فتروّى يومه، وعرف في الثاني، ونحر في الثالث، فسُمّيت الأيام بذلك.
(فَوَجَدَ الْقُبَّةَ) أي: الخيمة (قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ) بالبناء للمفعول؛ أي: بُنيت لأجله (بِنَمِرَةَ، فَنَزَلَ بِهَا) أي: بتلك القبّة، وفيه جواز استظلال المحرم بالخيمة ونحوها (حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ) "حتى" غاية لنزوله؛ أي: نزل بها، واستمرّ فيها إلى أن مالت الشمس، وزالت عن كَبِد السماء من جهة الشرق إلى جهة
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 181.
(2)
راجع: "اللسان" 5/ 326.
(3)
"شرح النوويّ" 8/ 181.
الغرب (أَمَرَ) بالبناء للفاعل، جواب "إذا" (بِالْقَصْوَاءِ) أي: بإحضارها، ورَحْلها، والقصواء اسم ناقته صلى الله عليه وسلم، وقد تقدّم ضبطها، وشرحها في أول شرح الحديث (فَرُحِلَتْ لَهُ) بالبناء للمفعول، مخفّفًا؛ أي: شُدّ على ظهرها الرحل؛ ليركبها صلى الله عليه وسلم، والرحل - بفتح، فسكون - في الأصل: كلُّ شيء يُعدّ للرّحيل، من وِعاء للمتاع، ومَرْكب للبعير، وحِلْسٍ، ورَسَنٍ، وجمعه أَرْحُلٌ ورِحَالٌ، مثلُ أَفْلُس وسِهَامٍ
(1)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "فرُحلت له" أي: أمر بوضع الرحل على القصواء، ففُعِل، تقول: رَحَلتُ البعيرَ أرحله رَحْلًا: إذا شددت على ظهره الرحلَ، قال الأعشى [من الكامل]:
رَحَلَتْ سُمَيَّةُ غُدْوَةً أَجْمَالَهَا
…
غَضْبَى عَلَيْكَ فَمَا تَقُولُ بَدَا لَهَا
(2)
(فَأَتَى) أي: فركبها صلى الله عليه وسلم، فأتى (بَطْنَ الْوَادِي) هو وادي عُرَنة - بضمّ العين المهملة، وفتح الراء، بعدها نون، وزانُ رُطَبَة، وفي لغة بضمّتين: موضع بين منى وعرفات، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(3)
، قال النوويّ رحمه الله: وليس من عرفات عند الشافعيّ، والعلماء كافّةً، إلا مالكًا، فقال: هي من عرفات. انتهى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "بطن الوادي": المنخفض منه، ويعني به وادي عُرنة المعروف هناك، وهو موضع مُتَّسَعٌ جامع، ولذلك خصّه صلى الله عليه وسلم بخطبته، والله تعالى أعلم. انتهى
(4)
.
(فَخَطَبَ النَّاسَ) قال النوويّ رحمه الله: فيه استحباب الخطبة للإمام بالحجيج يوم عرفة في هذا الموضع، وهو سنة باتفاق جماهير العلماء، وخالف فيها المالكية، ومذهب الشافعي أن في الحجّ أربعَ خُطَب مسنونة: إحداها يوم السابع من ذي الحجة، يخطب عند الكعبة بعد صلاة الظهر، والثانية هذه التي ببطن عُرَنة يوم عرفات، والثالثة: يوم النحر، والرابعة يوم النَّفْر الأَوَّل، وهو اليوم الثاني من أيام التشريق، قال أصحابنا: وكلُّ هذه الخطب أفراد، وبعد
(1)
"المصباح" 1/ 222.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1964.
(3)
"المصباح" 2/ 406.
(4)
"المفهم" 3/ 332.
صلاة الظهر، إلا التي يوم عرفات، فإنها خطبتان، وقبل الصلاة، قال أصحابنا: ويُعَلّمهم في كل خطبة من هذه ما يحتاجون إليه إلى الخطبة الأخرى، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فخطب الناس" دليل لمالك وجميع المدنيين والمغاربة؛ إذ قالوا: ليوم عرفة خطبة قبل الصلاة، يُذَكِّر الناس فيها، ويُعَلِّمُهم ما يستقبلون من الوقوف وغيره من المناسك، وهو أيضًا حجة على الشافعيّ، وأبي حنيفة؛ إذ قالا: ليست عرفة بموضع خطبة، وهو قول العراقيين من أصحابنا.
وخطب الحج عندنا ثلاثة:
يوم التروية بعد صلاة الظهر في المسجد الحرام، يذكّر الناس، ويحلّمهم أحكام إحرامهم، ويحضهم على الخروج إلى منى.
والثانية: بعرفة قبل الصلاة بإجماع من القائل بها، وأجمعوا: على أنه لو صلَّى ولم يخطب فصلاته جائزة.
والثالثة: بعد يوم النحر، يُعلِّمُهم فيها أحكام الرمي والتعجيل. انتهى
(2)
.
وقال الزرقانيّ رحمه الله: في الحديث أنه يستحبّ للإمام أن يخطب يوم عرفة في هذا الموضع، وبه قال الجمهور، والمدنيون والمغاربة من المالكيّة، وهو المشهور، فقول النوويّ: خالف فيها المالكيّة، فيه نظرٌ إنما هو قول العراقيين منهم، والمشهور خلافه، واتّفق الشافعيّة أيضًا على استحبابها خلافًا لما تَوَهَّمه عياض والقرطبيّ. انتهى
(3)
.
(وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم في خطبته تلك ("إِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ) زاد في حديث ابن عبّاس عند أحمد، والبخاريّ، والترمذيّ، والبيهقيّ، وفي حديث ابن عمر عند البخاريّ:"وأعراضكم"، والْعِرْضُ بكسر العين: موضع المدح والذمّ من الإنسان، سواء كان في نفسه، أو في سلفه، قال الحافظ: هذا الكلام على
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 182.
(2)
"المفهم" 3/ 332 - 333.
(3)
راجع: "المرعاة" 9/ 20.
حذف مضاف: أي: سفك دمائكم، وأخذ أموالكم، وثَلْبُ أعراضكم. انتهى.
وقيل: المعنى: إن انتهاك دمائكم، وأموالكم، وأعراضكم، قيل: وهذا أولى مما ذكره الحافظ؛ لأن ذلك إنما يحرُم إذا كان بغير حقّ، فلا بُدّ من التصريح به، فلفظة "انتهاك" أولى؛ لأن موضوعها بتناول الشيء بغير حقّ.
(حَرَامٌ عَلَيْكُمْ) قال الزرقانيّ: معنى الحديث: إن دماء بعضكم على بعض حرام، وأموال بعضكم على بعض حرام، وإن كان ظاهر اللفظ أن دم كلّ واحد حرام عليه نفسِه، ومال كلّ واحد حرام عليه نفسه، فليس بمراد؛ لأن الخطاب للمجموع، والمعنى فيه مفهوم، ولا يبعد إرادة المعنى الثاني، أما الدم فواضح، وأما المال فمعنى تحريمه عليه: تحريم تصرّفه فيه على غير الوجه المأذون فيه شرعًا، قاله وليّ الدين العراقيّ
(1)
.
(كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا) أي: متأكّدة التحريم شديدته كحرمة يومكم هذا، يعني يوم عرفة (فِي شَهْرِكُمْ هَذَا) يعني ذا الحجة (فِي بَلَدِكُمْ هَذَا) يعني مكة، وإنما شبّهها في الحرمة بهذه الأشياء؛ لأنهم كانوا لا يرون استباحتها، وانتهاك حرمتها بحال.
وقال النوويّ رحمه الله: معناه: متأكّدة التحريم، شديدته، وفي هذا دليلٌ لضرب الأمثال، وإلحاق النظير بالنظير قياسًا. انتهى
(2)
.
وقال ابن المنيّر: قد استقرّ في القواعد أن الأحكام لا تتعلّق إلا بأفعال المكلّفين، فمعنى تحريم اليوم والبلد والشهر: تحريم أفعال الاعتداء فيها على النفس والمال والعرض، فيكون المعنى إذًا من تشبيه الشيء بنفسه.
وأجاب بأن المراد أن هذه الأفعال في غير هذا البلد، وهذا الشهر، وهذا اليوم مغلّظة الحرمة، عظيمةٌ عند الله، فلا يستسهل المعتدي كونه تعدى في غير البلد الحرام، والشهر الحرام، بل ينبغي له أن يخاف خوف من فعل ذلك في البلد الحرام، وإن كان فعل العدوان في البلد الحرام أغلظ، فلا ينفي كون ذلك في غيره غليظًا أيضًا، وتفاوت ما بينهما في الغلظ لا ينفع المعتدي في غير البلد الحرام، فإن فرضناه تعدّى في البلد الحرام فلا يستسهل حرمة
(1)
راجع: "المرعاة" 9/ 21.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 182.
البلد، بل ينبغي أن يعتقد أن فعله أقبح الأفعال، وأن عقوبته بحسب ذلك، فيُراعي الحالتين. انتهى.
وقال الزرقانيّ: وفي تقديم اليوم على الشهر، وهو على البلد الترقّي، فالشهر أقوى من اليوم، وهو ظاهر في الشهر؛ لاشتماله على اليوم، فاحترامه أقوى من احترام جزئه، وأما زيادة حرمة البلد فلأنه محرم في جميع الشهور، لا في هذا الشهر وحده، فحرمته لا تختصّ به، فهو أقوى منه. انتهى.
وقال الحافظ: وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّة ضَرْبِ الْمَثَل، وَإِلْحَاق النَّظِير بِالنَّظِيرِ؛ لِيَكُونَ أَوْضَحَ لِلسَّامِع، وَإِنَّمَا شَبَّه حُرْمَة الدَّم وَالْعِرْض وَالْمَال بِحُرْمَةِ الْيَوْمِ وَالشَّهْر وَالْبَلَد؛ لِأَنَّ المُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ كَانُوا لَا يَرَوْنَ تِلْكَ الْأَشْيَاء، وَلَا يَرَوْن هَتْكَ حُرْمَتِهَا، وَيَعِيبُونَ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَشَدّ الْعَيْب. انتهى
(1)
.
وقال في موضع آخر: ومناط التشبيه في قوله: "كحرمة يومكم" وما بعده ظهوره عند السامعين؛ لأن تحريم البلد والشهر واليوم كان ثابتًا في نفوسهم، مُقَرّرًا عندهم، بخلاف الأنفس والأموال والأعراض، فكانوا في الجاهلية يستبيحونها، فطرأ الشرع عليهم بأن تحريم دم المسلم وماله وعرضه أعظم من تحريم البلد والشهر واليوم، فلا يَرِدُ كون المشبه به أخفض رتبةً من المشبه؛ لأن الخطاب إنما وقع بالنسبة لما اعتاده المخاطبون قبل تقرير الشرع. انتهى
(2)
.
وقال التوربشتيّ: أراد أموال بعضكم على بعض، إنما ذكره مختصرًا؛ اكتفاء بعلم المخاطبين، حيث جعل "أموالكم" قريبة "دماءكم"، وإنما شبّه ذلك في التحريم بيوم عرفة، وبذي الحجة، وبالبلد؟ لأنهم كانوا يعتقدون أنها محرّمة أشدّ تحريم، لا يستباح منها شيء، وفي تشبيهه هذا مع بيان حرمة الدماء والأموال تأكيدٌ لحرمة تلك الأشياء التي شُبّه بتحريمها الدماء والأموال. انتهى.
وقال الطيبيّ: هذا من تشبيه ما لم تجر به العادة بما جرت به؛ لأنهم عالمون بحرمة الثلاث، كما في قوله تعالى:{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ}
(1)
"الفتح" 5/ 430.
(2)
"الفتح" 1/ 159.
الآية [الأعراف: 171] كانوا يستبيحون دماءهم وأموالهم في الجاهليّة في غير الأشهر الحرم، ويحرّمونها فيها، كأنه قيل: إن دماءكم وأموالكم محرّمة عليكم أبدًا، كحرمة يومكم، وشهركم، وبلدكم، ثم أتبعه بما يؤكّده تعميمًا من قوله:"ألا كلّ شيء من أمر الجاهليّة تحت قدمي موضوع". انتهى
(1)
.
(أَلا) بالفتح، والتخفيف: أداة استفتاح وتنبيه (كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ) يعني الذي أحدثوه، والشرائع التي شرعوها في الحج وغيره قبل الإسلام (تَحْتَ قَدَمَيَّ) بتشديد الياء بصيغة التثنية (مَوْضُوعٌ) أي: مردود وباطلٌ حتى صار كالشيء الموضوع تحت القدمين، قال في "اللمعات": يَحْتَمِل أن يكون قوله: "موضوع"، وقوله:"تحت قدميّ" خبرين، أو الخبر هو "موضوعٌ"، و"تحت" ظرف له، وهو الأظهر، والمراد بالوضع تحت القدم: إبطاله وتركه.
وقال القاري؛ أي: هو كالشيء الموضوع تحت القدم، وهو مجاز عن إبطاله، والمعنى: عفوت عن كل شيء فعله رجل قبل الإسلام، وتجافيت عنه، حتى صار كالشيء الموضوع تحت القدم، تقول العرب في الأمر الذي لا تكاد تراجعه وتذكره: جعلتُ ذلك دُبُر أذني، وتحت قدمي. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله بعد ذكر نحو ما تقدّم: وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ"
(3)
، متّفقٌ عليه.
(وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ) أي: متروكة، لا قصاص ولا دية، ولا كفارة، أعادها للاهتمام، أو ليبني عليه ما بعده من الكلام، قاله القاري.
وقال وليّ الدين العراقيّ: يمكن أنه عطف خاصّ على عامّ؛ لاندراج دمائها في أمورها، ويمكن أنه لا يندرج لحمل أمورها على ما ابتدعوه وشرعوه، وإيجاب القصاص على القاتل ليس مما ابتدعوه، وإنما أريد قطع النزاع بإبطال ذلك؛ لأن منها ما هو حقّ، ومنها ما هو باطلٌ، وما يثبت، وما لا يثبت. انتهى
(4)
.
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1964 - 1965.
(2)
"مرقاة المفاتيح" 5/ 469.
(3)
"المفهم" 3/ 333.
(4)
راجع: "المرعاة" 9/ 22.
(وَإنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ) أي: أضعه وأتركه (مِنْ دِمَائِنَا) أي: المستحقة لنا أهلَ الإسلام، كذا قيل، والظاهر أن المراد دماء أقاربنا، ولذا قال الطيبيّ رحمه الله: ابتدأ في وضع القتل والدماء بأهل بيته وأقاربه؟ ليكون أمكن في قلوب السامعين، وأسدّ لباب الطمع بترخص فيه، وقال النوويّ رحمه الله: في هذه الجملة إبطال أفعال الجاهليّة، وبيوعها التي لم يتّصل بها قبضٌ، وأنه لا قصاص في قتلها، وأن الإمام وغيره ممن يأمر بمعروف، أو ينهى عن منكر ينبغي له أن يبدأ بنفسه، وأهله، فهو أقرب إلى قبول قوله، وإلى طيب نفس من قرب عهده بالإسلام. انتهى
(1)
.
(دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ) أي: ابن عبد المطّلب، قال النوويّ رحمه الله: قال المحققون والجمهور: اسم هذا الابن إياس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وقيل: اسمه حارثة، وقيل: آدم، قال الدارقطنيّ: وهو تصحيف، وقيل: اسمه تمام، وممن سماه آدم: الزبير بن بكار، قال القاضي عياض: ورواه بعض رواة مسلم: "دم ربيعة بن الحارث"، قال: وكذا رواه أبو داود، قيل: هو وَهَمٌ، والصواب ابن ربيعة؛ لأن ربيعة عاش بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتأوله أبو عبيد، فقال:"دم ربيعة"؛ لأنه وليّ الدم، فنسبه إليه، وهو حسنٌ ظاهرٌ، وبه تتفق الروايتان
(2)
.
وربيعة هذا هو ابن عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، يُكنى أبا أروى، وكان أسنّ من عمّه العباس بسنتين، صحابيّ، روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أحاديث، وتُوُفِّي في أول خلافة عمر، وقيل: في أواخرها سنة ثلاث وعشرين
(3)
.
(كَانَ مُسْتَرْضِعًا) بصيغة اسم المفعول (فِي بَنِي سَعْدٍ) أي: كان لهذا الابن ظئرٌ تُرضعه من بني سعد (فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ) بهاء مضمومة، فذال معجمة مفتوحة، مصغّرًا، وكان هذا الابن المقتول طفلًا صغيرًا يَحْبُو بين البيوت، فأصابه حجر في حرب كانت بين بني سعد وبني ليث بن بكر، قاله الزبير بن بكار. انتهى
(4)
.
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 182.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 182.
(3)
"المرعاة" 9/ 22.
(4)
"شرح النوويّ" 8/ 182.
قال وليّ الدين العراقيّ رحمه الله: ظاهره أنها تعمّدت قتله، وذكر الزبير بن بكار أنه كان صغيرًا يحبو بين البيوت، فأصابه حجر في حرب كانت بين بني سعد وبين ليث بن بكر، كذا ذكره عياض والنوويّ وغيرهما ساكتين عليه، وهو مناف لقوله:"فقتلته هُذيل"؛ لأنهم غير بني ليث؛ إذ هُذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر، وليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة، كما بيّنه أبو عبيد القاسم بن سلّام في "أنسابه"، كذا في "شرح المواهب"، ذكره في "المرعاة"
(1)
.
(وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ) قال النوويّ رحمه الله: معناه الزائد على رأس المال كما قال الله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} الآية [البقرة: 279]، وهذا الذي ذكرته إيضاح، وإلا فالمقصود مفهوم من نفس لفظ الحديث؛ لأن الربا هو الزيادة، فإذا وُضع الربا فمعناه وضع الزيادة، والمراد بالوضح الردّ والإبطال. انتهى
(2)
.
وقال وليّ الدين: ولا شك أن عطف هذا على أمر الجاهليّة من عطف الخاصّ على العامّ؛ لأنه من إحداثاتهم، وشرعهم الفاسد. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وربا الجا هلية موضوع" الرِّبا: الزيادة، والكثرة لغةً، ثم إنهم كانت لهم بيوعات يسمُّونها: بيع الربا، منها: أنهم كانوا إذا حَلّ أجل الدَّين يقول الغريم لرب الدَّين: أنظرني وأزيدك، فيُنظره إلى وقت آخر على زيادة مقررة، فإذا حلّ ذلك الوقت الآخر قال له أيضًا كذلك، وربما يؤدي ذلك إلى استئصال مال الغريم بنذر يسير كان أخذه أوَّل مرة، فأبطل الله تعالى ذلك، وحرَّمه، وتوعَّد عليه بقوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ
…
} الآيات [البقرة: 275 - 281]، وردّهم فيه إلى رؤوس أموالهم، وبلَّغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآنًا وسنَّة، ووعظ الناس، وذكّرهم بذلك في ذلك الموطن مبالغة في التبليغ، وبدأ بربا العباس لخصوصيته بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ليقتدي الناس به قولًا وفعلًا، فيضعون عن غرمائهم ما
(1)
"المرعاة" 9/ 22 - 23.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 183.
(3)
راجع: "المرعاة" 9/ 23.
كان من ذلك. انتهى
(1)
.
وقوله: (مَوْضُوعٌ) تقدّم آنفًا أن المراد بوضعه وضع الزائد منه، لا وضع رأس المال، فإنه مردود لصاحبه، كما قال تعالى:{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} الآية [البقرة: 279].
(وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ) أي: أبطله، وأتركه (رِبَانَا) أي: ربا أهل الإسلام، أو ربا أهل بيتنا، وهذا أوضح (رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) عم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو بدل من "ربانا"، أو خبر لمحذوف؛ أي: هو ربا عباس رضي الله عنه، وقوله:(فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ) يَحْتَمل عود ضمير "إنه" لربا عبّاس تأكيدًا لوضعه، ويَحْتَمِل أَن يعود لجميع الربا؛ أي: ربا العبّاس موضوع؛ لأن الربا موضوع كلّه، قاله الوليّ العراقيّ.
وإنما ابتدأ في وضع دماء الجاهليّة، ورِباها من بين أهل الإسلام بأهل بيته؛ ليكون أمكن في قلوب السامعين، وأسدّ لأبواب الطمع في الترخيص.
(فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ) أي: في حقّهنّ، قال الطيبيّ رحمه الله: عطف من المعنى على قوله: "إن دماءكم وأموالكم"، يعني فاتّقوا الله في استباحة الدماء، وفي نهب الأموال، وفي النساء، وهي من عطف الإنشائيّ على الإخباريّ بالتأويل، كما عُطف قوله تعالى:{وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)} [يس: 59] على قوله: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ} الآية [يس: 55]. انتهى
(2)
.
وقال الوليّ العراقيّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن الفاء زائدة؛ لأنه في رواية بدونها، وأنها للسببيّة؛ لأنه لَمّا قرّر إبطال أمر الجاهليّة، وكان من جملتها منع النساء من حقوقهنّ، وترك إنصافهنّ أمرهم بمتابعة الشرع في إنصافهنّ، فكأنه قيل: فبسبب إبطال أمر الجاهليّة اتقوا الله في النساء، وأنصفوهنّ، فإن تركه من أمر الجاهليّة، قال: و"في" تَحْتَمل السببيّة، نحو قوله تعالى:{فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} الآية [يوسف: 32]، والظرفيّةَ مجازًا، نحو قوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} الآية [البقرة: 179]؛ أي: إن النساء ظرف للتقوى المأمور بها. انتهى.
(1)
"المفهم" 3/ 333.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1965.
قال النوويّ رحمه الله: فيه الحثّ على مراعاة حقّ النساء، والوصية بهنّ، ومعاشرتهنّ بالمعروف، وقد جاءت أحاديث كثيرة صحيحة في الوصية بهنّ، وبيان حقوقهنّ، والتحذير من التقصير في ذلك، وقد جمعتها أو معظمها في "رياض الصالحين". انتهى
(1)
.
(فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ) أي: بعهده، وهو ما عَهِد إليكم فيهنّ، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في كثير من الأصول، وفي بعضها:"بأمانة الله".
وقال الزرقانيّ رحمه الله: أي: بأن الله ائتمنكم عليهنّ، فيجب حفظ الأمانة، وصيانتها بمراعاة حقوقها، والقيام بمصالحها الدينيّة والدنيويّة، قال: وفي قوله: "أخذتموهنّ" دلالة على أنها كالأسيرة المحبوسة عند زوجها، وله التصرّف فيها، والسلطنة عليها حسبما بيّنه الشرع، ويوافقه قوله في رواية أخرى:"فإنهنّ عوان عندكم" جمع عانية، وهي الأسيرة، لكنها ليست أسيرة خائفة كغيرها من الأسراء، بل هي أسيرة آمنة. انتهى.
وقوله: (وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ) في معناه أربعة أقوال:
[الأول]: أن المراد بكلمة الله: أمره، وحكمه، وإباحته الْمُنَزَّلة في كتابه، وهو قوله تعالى:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الآية [النساء: 3]، قال النوويّ رحمه الله: هذا هو الصحيح، ووَجَّه القرطبيّ في "المفهم" إذ قال: فإن حكم الله كلامه المتوجّه للمحكم عليه على جهة الاقتضاء، أو التخيير.
[الثاني]: المراد كلمة التوحيد، "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"؛ إذ لا تحلّ مسلمة لغير مسلم.
[الثالث]: المراد كلمة النكاح التي تُستحلّ الفروج؛ أي: الصيغ التي ينعقد بها النكاح، من الإيجاب والقبول؛ لأن الله تعالى أمر بها.
[الرابع]: المراد قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَو تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} الآية [البقرة: 229]، قال الخطّابيّ رحمه الله: هذا أحسن الوجوه. انتهى
(2)
.
وقال التوربشيّ رحمه الله: المعنى: إن استحلالكم فروجهنّ، وكونهنّ تحت أيديكم إنما كان بعهد الله وحكمه، فإن نقضتم عهده، وأبطلتم حكمه انتقم الله
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 183.
(2)
"المرعاة" 9/ 24.
منكم لهنّ. انتهى
(1)
.
(وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ) أي: من الحقوق، لَمّا ذكر صلى الله عليه وسلم استحلال الفروج بكلمة الله تعالى، وعُلم منه تأكّد الصحبة بين الزوجين انتقل إلى بيان ما على كلّ واحد منهما من الحقوق، وبدأ بحقّ الأزواج؛ لأنهم المخاطبون (أَنْ لَا يُوطِئْنَ) بهمزة، أو بتخفيفها بالإبدال مسند إلى جمع الإناث، من الإيطاء، من باب الإفعال (فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ) أي: تكرهون دخوله في بيوتكم، وعبّر بالفُرُش؛ لأن الداخل يطأ المنزل الذي يدخل فيه.
قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ولكم عليهن ألا يوطئن
…
إلخ" معناه: ألا يُدخِلن منازلكم أحدًا ممن تكرهونه، ويدخل في ذلك الرجال والنساء، الأقرباء والأجانب، قال: ولا يُفهم من هذا الكلام أنه النهي عن الزنى، فإن ذلك محرم مع من يكرهه الزوج ومع من لا يكرهه، وقد قال: "أحدًا تكرهونه"، ثم إنها كانت تكون استعارة بعيدة، وأيضًا: فإن الزنى يترتب عليه الحدُّ. انتهى
(2)
.
وقال المازريّ رحمه الله: قيل: المراد بذلك أن لا يستخلين بالرجال، ولم يُرِد زناها؛ لأن ذلك يوجب جلدها، ولأن ذلك حرام مع من يكرهه الزوج، ومن لا يكرهه.
وقال الخطّابيّ رحمه الله: معنى الحديث أن لا يأذنّ لأحد من الرجال يدخل، فيتحدّث إليهنّ، وكان الحديث من الرجال إلى النساء من عادات العرب، ولا يرون ذلك عيبًا، ولا يعدّونه ريبةً، فلما نزلت آية الحجاب صار النساء مقصورات، نُهي عن محادثتهنّ، والقعود إليهنّ، وليس المراد بوطئ الفُرُش هنا نفس الزنا؛ لأنه محرّم على الوجوه كلّها، فلا معنى لاشتراط الكراهة فيه، ولو أريد الزنا لكان الضرب الواجب فيه هو المبرّح الشديد، والعقوبة المؤلمة من الرجم دون الضرب الذي ليس بمبرّح. انتهى كلام الخطّابيّ رحمه الله، ونحوه للقاضي عياض رحمه الله
(3)
.
وقال النوويّ رحمه الله بعد ذكر ما تقدّم -: والمختار أن معناه أن لا يأذنّ
(1)
راجع: "الكاشف" 6/ 1965.
(2)
"المفهم" 3/ 334.
(3)
راجع: "المرعاة" 9/ 24 - 25.
لأحد تكرهونه في دخول بيوتكم، والجلوس في منازلكم، سواء كان المأذون له رجلًا أجنبيًّا، أو أمرأةً، أو أحدًا من محارم الزوجة، فالنهي يتناول جميع ذلك، وهذا حكم المسألة عند الفقهاء أنها لا يحل لها أن تأذن لرجل، أو امرأة، ولا محرم، ولا غيره في دخول منزل الزوج، إلا من عَلِمت، أو ظنت أن الزوج لا يكرهه؛ لأن الأصل تحريم دخول منزل الإنسان حتى يوجد الإذن في ذلك منه، أو ممن أذن له في الإذن في ذلك، أو عرف رضاه باطراد العرف بذلك ونحوه، ومتى حصل الشك في الرضا، ولم يترجح شيء، ولا وجدت قرينة لا يحل الدخول، ولا الإذن. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
، وهو تحقيق نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "أن لا يوطئن
…
إلخ" مشعر بالكناية عن الجماع، فعبّر به عن عدم الإذن مطلقًا تغليظًا وتشديدًا. انتهى
(2)
.
(فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ) أي: الإيطاء المذكور بدون رضاكم بلفظ صريح، أو بقرائن (فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ) أي: ضربًا ليس بشديد، ولا شاقّ، والْبَرْح: المشقة، والضرب الْمُبَرِّح بضم الميم، وفتح الموحدة، وكسر الراء، آخره حاء مهملة: اسم فاعل، من التبريح: وهو الضرب الشديد الشاقّ.
وفي هذا الحديث إباحة ضرب الرجل امرأته للتأديب، فإن ضربها الضرب المأذون فيه فماتت منه وجبت ديتها على عاقلة الضارب، ووجبت الكفارة على الضارب
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "غير مبرح" أي: ليس بالحدّ، وإنما هو تأديب، والمبرِّح: الشديد الشاقّ، والبَرْح: المشقة الشديدة، وفيه إباحة تأديب الرجل زوجته على وجه الرفق. انتهى
(4)
.
(وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ) أي: وجوبًا (رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ) المراد بالرزق النفقة، من المأكول والمشروب، وفي معناه سُكناهنّ (بِالْمَعْرُوفِ) أي: على قدر كفايتهنّ، من غير إسراف، وتقتير، أو باعتبار حالكم فقرًا وغنًى، وفيه وجوب نفقة
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 183.
(2)
"الكاشف" 6/ 1966.
(3)
"شرح النوويّ" 8/ 25.
(4)
"المفهم" 3/ 334.
الزوجة وكسوتها، وذلك ثابت بالكتاب، والسنّة، والإجماع.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "بالمعروف أي: بما يُعْرَف من حاله وحالها، وهو حجة لمالك؛ حيث يقول: إن النفقات على الزوجات غير مقدّرات، وإنما ذلك بالنظر إلى أحوالهم وأحوالهن. انتهى.
(وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ) أي: بينكم (مَا) موصولة، أو موصوفة (لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ) أي: بعد تركي إياه فيكم، أو بعد التمسّك به، والعمل بما فيه، ويؤيّد الأول قوله:(إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ) أي: في الاعتقاد والعمل، وفي هذا التركيب إبهام وتوضيحٌ، وذلك لبيان أن هذا الشيء الذي تركه فيهم شيءٌ جليلٌ عظيمٌ، فيه جميع المنافع الدينيّة والدنيويّة، ثم لَمّا حصل من هذا التشويق التامّ للسامع، وتوجّه إلى استماع ما يَرِد بعده، واشتاقت نفسه إلى معرفته بيّنه بقوله:(كِتَابَ اللهِ) بالنصب بدل، أو بيان لـ"ما"، جزم به بعضهم، فإن كانت الرواية، وإلا فيجوز رفعه على أنه خبر مبتدإ محذوف؛ أي: هو كتاب الله، ولم يذكر السنّة مع أن بعض الأحكام يستفاد منها؛ لاندراجها تحته، فإن الكتاب هو المبيّن للكل، بعضها بلا واسطة، وبعضها بواسطة، قال الله تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} الآية [النحل: 89]، كذا في "شرح المواهب".
وقال القاري رحمه الله: إنما اقتصر على الكتاب؛ لأنه مشتمل على العمل بالسنة؛ لقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} الآية [النساء: 59]، وقوله:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الآية [الحشر: 7]، ويلزم من العمل بالكتاب العمل بالسنة، وفيه إيماء إلى أن الأصل الأصيل هو الكتاب. انتهى
(1)
.
(وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ) بالبناء للمفعول، وفي رواية أبي داود، وابن ماجه، والدارميّ، وابن الجارود، والبيهقيّ:"مسئولون"(عَنِّي) أي: عن تبليغي وعدمه، قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "تسألون" عطف على مقدّر؛ أي: قد بلّغتُ ما أرسلت به إليكم جميعًا، غير تارك لشيء مما بَعَثني الله به، وأنتم تُسألون عن
(1)
"مرقاة المفاتيح" 5/ 471.
ذلك يوم القيامة: هل بلّغكم محمد صلى الله عليه وسلم جميع ما أُمر أن يبلِّغ إليكم؟ كما قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ} الآية [المائدة: 67]؛ أي: إن لم تُبلّغ الجميع {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} لأنك كتمت شيئًا مما أُنزل إليك، فما بلّغت جميع ما أنزل إليك، والفاء في قوله:(فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ ") تدلّ على هذا المحذوف؛ أي: إذا كان الأمر على هذا، فبأيّ شيء تجيبون؟ ومن ثَمّ طابق جوابهم السؤال، فأتوا بالألفاظ الجامعة حيث (قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ) ما أنزل إليك (وَأَدَّيْتَ) ما كان عليك (وَنَصَحْتَ) أي: وزدت على ذلك بما نصحتنا من السنن والآداب وغير ذلك.
(فَقَالَ) أي: أشار صلى الله عليه وسلم، ففيه إطلاق القول على الفعل (بِإِصْبَعِهِ) تقدّم أنها عشر لغات، وهي تثليث الهمزة، مع تثليث الباء الموحّدة، والعاشرة أُصبوع، بوزن عصفور، وأفصحها كسر الهمزة، مع فتح الموحّدة، وقوله:(السَّبَّابَةِ) بالجرّ بدلٌ، أو عطف بيان لـ "إِصْبَعه"، وهي الإصبع التي تلي الإبهام، سُمّيت سبّابةٌ؛ لأنها يشار بها عند السبّ، وقوله:(يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ) في محلّ نصب على الحال من فاعل "قال"؛ أي: رافعًا إياها، أو من السبّابة؛ أي: مرفوعةً.
وقال القرطبيّ: قوله: "يرفعها إلى السَّماء
…
إلخ" هذه الإشارة منه صلى الله عليه وسلم إمَّا إلى السماء؛ لأنها قبلة الدعاء، وأما لعلوّ الله تعالى المعنوي؛ لأن الله تعالى لا يحويه مكان، ولا يختص بجهةٍ. وقد بيّن ذلك قوله تعالى:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} . انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قول القرطبيّ هذا فيه نظر لا يخفى، أولًا قوله: إن السماء قبلة الدعاء، من أين له هذا؟ فإن القبلة للدعاء هي القبلة للصلاة، فإنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو استقبل القبلة، ولم يثبت أنه كان يستقبل السماء، فتبصّر.
وثانيًا قوله: ولا يختص بجهة، مخالف للنصوص الكثيرة الدالّة على أنه سبحانه وتعالى في جهة العلو، كقوله تعالى:{عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، وقوله:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، وقوله:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل" الحديث، "ثم يعرج إليه الذين باتوا فيكم،
فيسألهم ربهم
…
" الحديث، وغير ذلك، مما ورد في "الصحيحين"، وغيرهما، من النصوص الدالّة على أن الله سبحانه وتعالى فوق عباده، استوى على العرش، فهو في جهة العلو بلا شكّ، وقد بسطت الكلام في هذا في غير هذا الموضع من هذا الكتاب وغيره، وبيّنت فيه أن قول القرطبيّ وغيره من المتأخرين في نفي العلو لله تعالى، حتى قال قائلهم:
عَنْ جِهَاتِ السِّتِّ خالٍ
مخالف لمذهب السلف، فلا تلتفت إليه؛ إذ فيه الهلاكُ والتلف، فمذهب السلف أعلم وأحكم، فتمسك به تسلم وتغنم، والله تعالى الهادي إلى الطريق الأقوم.
(وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ) بفتح حرف المضارعة، وسكون النون، وضمّ الكاف، بعدها تاء، من نَكَت الأرض بالقضيب ونحوه: إذا ضرب، فأثّر فيها، وهذا بعيد من معنى الحديث، وقيل: مجاز من الإشارة بقرينة "إلى"، وفي "المرقاة":"وينكتها إلى الناس"؛ أي: يشير بها إليهم، كالذي يضرب بها الأرض، والنكت ضرب رأس الأنامل إلى الأرض، وفي نسخة صحيحة بالموحدة، وفي "النهاية": بالباء الموحدة؛ أي: يميلها إليهم، يريد بذلك أن يُشْهِد الله عليهم، قال النوويّ رحمه الله: هكذا ضبطناه "ينكتها" بعد الكاف تاء مثناة من فوقُ، قال القاضي رحمه الله: هكذا الرواية بالتاء المثنّاة فوقُ، وهو بعيد المعنى، قال: قيل: صوابه "ينكبها" بباء موحدة، قال: ورويناه في "سنن أبي داود" بالتاء المثناة من طريق ابن الأعرابيّ، وبالموحدة من طريق أبي بكر التمار، ومعناه: يقلبها، ويرَدِّدها إلى الناس، مشيرًا إليهم، ومنه نَكَبَ كنانته: إذا قلبها. انتهى كلام القاضي عياض
(1)
.
قال الطيبيّ تعليقًا على كلام عياض هذا: أراد بقوله: "بعيد المعنى" أنه غير موافق للّغة، قال الجوهريّ: نكت في الأرض بالقضيب: إذا ضرب في الأرض، فأثّر فيها، وفي "المُغرِب": في الحديث: "نكتت خدرها بإصبعها"؛ أي: نقرت، وضربت، هذا إذا استُعمل بـ "في"، أو بالباء، وفي الحديث
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 184.
مستعمل بـ "إلى"، فيكون النكت مجازًا عن الإشارة بقرينة "إلى"، وتقديره ما ذكر من قوله:"يقلبها إلى الناس مشيرًا إليهم". انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "ينكُتُها": روايتي في هذه اللفظة، وتقييدي على من أعتمده من الأئمة المقيّدين؛ بضم الياء، وفتح النون، وكسر الكاف مشدَّدة، وضم الباء بواحدة؛ أي: يُعَدِّلها إلى الناس، وقد رويت:"يَنْكُبها" مفتوحة الياء، ساكنة النون، وبضم الكاف؛ ومعناه: يقلبها، وهو قريب من الأول، وقد رويت:"ينكُتُها" باثنتين فوقُ، وهي أبعدها. انتهى
(2)
.
("اللَّهُمَّ اشْهَدْ) أي: على عبادك بأنهم قد أقرّوا بأني قد بلّغت، والمعنى: اللهم اشهد أنت؛ إذ كفى بك شهيدًا.
وقال الزرقانيّ في "شرح المواهب": فإن قيل: ليس في هذه الخطبة ذكر شيء من المناسك، فيَرُدّ ذلك على قول الفقهاء: يعلّمهم الخطيب ما يحتاجون إليه إلى الخطبة الأخرى.
وأجيب بأنه صلى الله عليه وسلم اكتفى بفعله للمناسك عن بيانه بالقول؛ لأنه أوضح، واعتنى بما أهمّه في الخطبة التي قالها، والخطباء بعده ليست أفعالهم قدوة، ولا الناس يعتنون بمشاهدتها ونقلها، فاستُحبّ لهم البيان بالقول، قال: وفيه حجة للمالكيّة وغيرهم أن خطبة عرفة فردة؛ إذ ليس فيه أنه خطب خطبتين.
وما روي في بعض الطرق أنه خطب خطبتين فضعيف، كما قاله البيهقيّ وغيره.
روى الشافعيّ بسنده عن جابر رضي الله عنه قال: راح النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الموقف بعرفة، فخطب الناس الخطبة الأولى، ثم أذّن بلالٌ، ثم أخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم في الخطبة الثانية، ففرغ من الخطبة، وبلال من الأذان، ثم أقام بلالٌ، فصلى الظهر، ثم أقام، فصلى العصر.
قال الشوكانيّ في "النيل": حديث جابر هذا أخرجه أيضًا البيهقيّ، وقال: تفرّد به إبراهيم بن أبي يحيى، وفي حديث جابر الطويل الذي أخرجه مسلم ما يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم خطب، ثم أذّن بلالٌ، ليس فيه ذكر أخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم
(1)
"الكاشف" 6/ 1967.
(2)
"المفهم" 3/ 335.
في الخطبة الثانية، وهو أصحّ، ويترجّح بأمر معقول، وهو أن المؤذّن قد أُمر بالإنصات للخطبة، فكيف يؤذّن، ولا يستمع الخطبة.
قال المحبّ الطبريّ: وذكر الملا في "سيرته" أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما فرغ من خطبته أذّن بلال، وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ بلال من الأذان تكلم بكلمات، ثم أناخ راحلته، وأقام بلال الصلاة، وهذا أولى مما ذكره الشافعيّ؛ إذ لا يفوت به سماع الخطبة من المؤذّن. انتهى كلام الشوكاني.
وقال الطبريّ بعد ذكر رواية الملا من سيرته ما لفظه: وهذا وإن كان قريبًا مما ذهب إليه الشافعيّ إلا أنه ليس فيه أن الخطبة تكون مع الأذان، ثم إن تلك الكلمات لم يقل: إنها كانت خطبة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: القول بالخطبة الثانية مما لا دليل عليه، بل الحديث الصحيح حديث جابر رضي الله عنه هذا ظاهر في أن الخطبة واحدة، وأما ما احتجّ به الشافعيّ ففيه إبراهيم بن أبي يحيى، ضعيف، بل كذّبه بعضهم، وأما ما ذكر في سيرة الملا، فلم يُذكر سنده حتى يُنظر فيه.
والحاصل أن خطبة عرفة خطبة واحدة؟ لهذا الحديث الصحيح، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
وقوله: (اللَّهُمَّ اشْهَدْ" ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) كرّره للتأكيد عليهم (ثُمَّ أَذَّنَ) ولفظ ابن ماجه، والدارميّ، والبيهقيّ، وابن الجارود:"ثم أذّن بلال"، زاد الدارميّ:"بنداء واحد"(ثمَّ أَقَامَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ، فَصَلَّى الْعَصْرَ) أي: جمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر، وهذا الجمع كجمع المزدلفة جمع نسك عند الحنفيّة، وبعض أصحاب الشافعيّ، وجمع سفر عند الشافعيّ، وأكثر أصحابه، فمن كان حاضرًا، أو مسافرًا دون مرحلتين، كأهل مكة لم يجز له الجمع عند الشافعيّ كما لا يجوز له القصر.
والحديث يدلّ على أن الجمع بين الظهر والعصر بعرفة بأذان واحد وإقامتين، وقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:
[الأول]: أداؤهما بأذان واحد وإقامتين؛ لحديث جابر رضي الله عنه هذا، وإليه
(1)
"المرعاة" 9/ 26 - 27.
ذهب أبو حنيفة، والثوريّ، والشافعيّ، وأبو ثور، وأحمد في رواية، ومالك في رواية، وبه قال ابن القاسم، وابن الماجشون، وابن المواز من المالكيّة.
[والقول الثاني]: بإقامتين من غير أذان، وروي ذلك عن ابن عمر، قال ابن قُدامة في شرح قول الخرقيّ: وإن أذّن فلا بأس: كأنه ذهب إلى أنه مخيّر بين أن يؤذّن للأولى، أو لا يؤذّن، وكذا قال أحمد؛ لأن كلًّا مرويّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأذان أولى، وهو قول الشافعيّ، وأبي ثور، وأصحاب الرأي. انتهى.
[والقول الثالث]: بأذانين وإقامتين، وهو الأشهر من مذهب مالك، كما في الجلاب، وهو المذكور في المدوّنة، وروي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال ابن قُدامة: واتّباع ما جاء في السنّة أولى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن من بيان هذه الأقوال، والنظر في أدلّتها أن الصحيح هو المذهب الأول، وهو أنه يجمع بين الصلاتين بأذان واحد، وإقامتين لكلّ صلاة؛ لأن أصحّ ما روي في هذا حديث جابر رضي الله عنه المذكور هنا، وهو صريح في أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر بأذان وإقامتين، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: اشترط الحنفيّة للجمع بين الظهر والعصر بعرفة الجماعة، فيهما، والإمام الأعظم، أو نائبه، بخلاف الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة، فلم يشترطوا له ذلك، وإليه ذهب الثوريّ، والنخعيّ، ولا يشترط ذلك مالك، ولا الشافعيّ، ولا أحمد
(2)
، وهو الحقّ؛ لعدم ما يدلّ على الاشتراط المذكور، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
وقال الطبريّ: قوله: "ثمّ أذّن، ثم أقام" قال ابن المنذر: عرف جابر أن وقت الأذان في يوم عرفة عند فراغ الإمام من خطبته، وقال الشافعيّ: يخطب الخطبة الثانية مع استفتاح المؤذّن بالأذان، ويفرغ مع فراغه، ويستدلّ بحديث رواه عن جابر، فذكر الحديث الذي قدّمناه، قال الطبريّ: وهذا يغاير حديث مسلم من وجهين: أحدهما في وقت الأذان، والثاني في مكان الخطبة، فإن
(1)
"المرعاة" 9/ 27.
(2)
راجع: "المرعاة" 9/ 27.
مسلمًا ذكر أن الخطبة كانت ببطن الوادي قبل إتيان الموقف، والشافعيّ ذكر أنها بعد إتيان عرفة، وحديث مسلم أصحّ، ويترجّح بوجه معقول، وهو أن المؤذّنين قد أُمروا بالإنصات كما أُمر به سائر الناس، وكيف يؤذّن من قد أُمر بالإنصات، ثم لا يبقى للخطبة معنى؛ إذ يفوت المقصود منها أكثرَ الناس؛ لاشتغالهم بالأذان عن استماعها.
قال البيهقيّ رحمه الله: وهذا التفصيل في ابتداء بلال بالأذان، وأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم في الخطبة الثانية، ففرغ من الخطبة، وبلالٌ من الأذان مما تفرّد به ابن أبي يحيى - أي: وهو ضعيف -.
ثم ذكر الطبريّ رواية الملا من سيرته، وذكرناها مع كلامه عليها قبل ذلك، ثم قال الطبريّ: وقال مالك: إن شاءِ يؤذّن، والإمام يخطب، وإن شاء يؤذّن بعد الفراغ من الخطبة، وقال مرّة أخرى: إذا فرغ الإمام من الخطبة ابتدأ بالأذان، ثم بالإقامة، ثم بالصلاة.
قال ابن حزم: وهذا القول الثاني عن مالك هو الصحيح الذي لا يجوز تعدّيه، لصحّته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه نأخذ؛ اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا خير في مخالفته.
قال الجامع عفا الله عنه: ما أحسن قول ابن حزم رحمه الله هذا؛ فإن واجب كلّ مسلم التمسّك بما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يسع أحدًا مخالفته بسبب مخالفة إمامه له، فإن الإمام لا يخالفه قصدًا، بل لعدم بلوغه إليه، فهو معذور، وأما أتباعه فلا عذر لهم بعدما تبيّنت لهم السنة، وقامت عليهم الحجة، فليتنبّه المقلّدون لهذه الدقائق، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
[تنبيه]: قال الطبريّ رحمه الله: وجمعه صلى الله عليه وسلم بالناس بعرفة دليل على جواز الجمع في السفر القصير؛ إذ لم يُنقل عن أحد من أهل مكة التخلّف عن الصلاة معه صلى الله عليه وسلم، فإن الجمع بعلّة النسك، وفي المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أنه بعلّة أصل السفر، والثاني أنه بعلّة السفر الطويل، والثالث أنه بعلّة النسك، وقال في موضع آخر: قد اختلف أصحابنا، هل كان جمعه صلى الله عليه وسلم بعلّة مطلق السفر، أو الطويل، أو بعلّة النسك؟ والظاهر أنه بعلّة النسك، حتى يجوز للآفاقيّ والمكيّ، وأهل المزدلفة، وعرفة، وعلى الأول لا يجوز لأهل عرفة، وعلى
الثاني لا يجوز لغير الآفاقيّ، ولا خلاف أنه سنّة، حتى لو صلّى كلّ صلاة وحدها في وقتها جاز. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الأرجح الذي يدلّ عليه ظاهر هذا الحديث الصحيح أن الجمع بعلّة النسك؛ لجمع كل من حضر الموقف من الآفاقيّ، وأهل مكة، وغيرهم معه صلى الله عليه وسلم، فدلّ على أنه للنسك، لا للسفر، ثم إن قوله: "حتى لو صلى كل صلاة
…
إلخ" أين الدليل على جواز هذا؟ بل الظاهر أنه لا يصلي إلا جمعًا وقصرًا كما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكلّ من شهد حجة الوداع معه صلى الله عليه وسلم، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
(وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا) أي: من السنن والنوافل، وذلك للاستعجال بالوقوف.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ولم يُصَلِّ بينهما شيئًا" أي: لم يُدْخِل بينهما صلاة أخرى، لا نفلًا ولا غيره، وبهذا قال مالك وغيره، وقال ابن حبيب: يجوز أن يتنفل بينهما، وليس بالبيِّن، ولا خلاف في جواز الجمع بين الصلاتين بعرفة ومزدلفة، وإنما اختلفوا فيمن فاته الجمع مع الإمام بعرفة، فالجمهور على أنه يجمع بينهما اتباعًا لفعله صلى الله عليه وسلم، وقال الكوفيون: يصليهما مَنْ فاتتاه لوقتهما، ولا يجوز الجمع إلا مع الإمام، ولم يختلف: أن من صلاهما في وقتهما أن صلاته جائزة إذا لم يكن إمامًا.
واختلفوا فيمن صلَّى قبل أن يأتي المزدلفة، فذهب الكوفيون: إلى أنهما لا تجزيانه، ويعيدهما، وإن صلاهما بعد مغيب الشفق، وقاله ابن حبيب، وقال مالك: لا يصليهما قبل المزدلفة إلا مِنْ عُذْرٍ به، أو بدابته، ولا يجمع هذا بينهما حتى يغيب الشفق. وقال مالك: يُصلِّيهما لوقتهما. وقيل: تجزئه صلاتهما في وقتهما قبل المزدلفة؛ كان إمام الحاجّ أو غيره، وهو مروي عن جماعة من الصحابة والتابعين، وقاله الشافعي، والأوزاعي، وأبو يوسف، وأشهب من أصحابنا. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قول الكوفيين في عدم إجزاء الصلاة قبل
(1)
راجع: "المرعاة" 9/ 28.
(2)
"المفهم" 3/ 336 - 337.
المزدلفة، وأن من صلاها قبلها يلزمه الإعادة هو الأرجح؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال:"الصلاة أمامك"، فلا صلاة قبل المزدلفة، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: القصواء، كما في رواية ابن الجارود (حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ) أي: وسار إلى أن أتى أرض عرفات، أو اللام للعهد، والمراد موقفه الخاصّ به صلى الله عليه وسلم (فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ) بالجر على البدليّة (إِلَى الصَّخَرَاتِ) بفتحتين، قال الطيبيّ: أي: منتهيًا إليها، وتعقّبه الأبّيّ، فقال: إن كان الوقوف على الصخرات صحّ هذا التقدير، والأظهر أنه تجوّز بالبطن عن الوجه، والتقدير: وجعل وجه ناقته، وهذا إن كانت الصخرات تحاذي في قبلته؛ لأنه إنما وقف مستقبل القبلة.
وقال القرطبيّ: يعني أنه علا على الصخرات ناحية منها حتى كانت الصخرات تحاذي بطن ناقته.
قال الوليّ العراقيّ: لا حاجة إلى هذا؛ لأن من وقف بحذاء صخرة على ناقة صار بطنها بحذائها؛ أي: إلى جانبها، وليس يشترط في محاذاة بطن الناقة لها أن يكون عاليًا عليها. انتهى.
وقال الطبريّ: ظاهر قوله: "جعل بطن ناقته إلى الصخرات" يدلّ على أنه كان واقفًا على الصخرات، حتى يكون بطن الناقة إليها، ويؤيّده ما رواه ابن إسحاق في "سيرته" أنه صلى الله عليه وسلم قال:"هذا الموقف" للجبل الذي كان واقفًا عليه. انتهى.
وقال النوويّ رحمه الله: في هذا الفصل مسائلُ، وآدابٌ للوقوف، منها: أنه إذا فرغ من الصلاتين عَجَّل الذهاب إلى الموقف، ومنها أن الوقوف راكبًا أفضل، وفيه خلاف بين العلماء، وفي مذهبنا ثلاثة أقوال: أصحها أن الوقوف راكبًا أفضل، والثاني: غير الراكب أفضل، والثالث: هما سواء.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى استحباب الركوب في الوقوف؛ اتّباعًا للسنّة، فتفطّن، والله تعالى أعلم.
قال: ومنها: أنه يستحب أن يقف عند الصخرات المذكورات، وهي صخرات مفترشات في أسفل جبل الرحمة، وهو الجبل الذي بوسط أرض عرفات، فهذا هو الموقف المستحبّ، وأما ما اشتهر بين العوام من الاعتناء
بصعود الجبل، وتوهمهم أنه لا يصح الوقوف إلا فيه فغلط، بل الصواب جواز الوقوف في كل جزء من أرض عرفات، وأن الفضيلة في موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصخرات، فإن عجز فليقرب منه بحسب الإمكان، وسيأتي في آخر الحديث بيان حدود عرفات - إن شاء الله تعالى - عند قوله صلى الله عليه وسلم:"وعرفة كلها موقف".
ومنها: استحباب استقبال الكعبة في الوقوف.
ومنها: أنه ينبغي أن يبقى في الوقوف حتى تغرب الشمس، ويتحقق كمال غروبها، ثم يفيض إلى مزدلفة، فلو أفاض قبل غروب الشمس صحّ وقوفه، وحجه، ويجبر ذلك بدم، وهل الدم واجب أم مستحب؟ فيه قولان للشافعيّ: أصحهما أنه سنة، والثاني واجب، وهما مبنيّان على أن الجمع بين الليل والنهار واجب على من وقف بالنهار أم لا، وفيه قولان: أصحهما سنة، والثاني واجب.
وأما وقت الوقوف فهو ما بين زوال الشمس يوم عرفة، وطلوع الفجر الثاني يوم النحر، فمن حَصَل بعرفات في جزء من هذا الزمان صحّ وقوفه، ومن فاته ذلك فاته الحجّ، هذا مذهب الشافعيّ، وجماهير العلماء، وقال مالك: لا يصح الوقوف في النهار منفردًا، بل لا بد من الليل وحده، فإن اقتصر على الليل كفاه، وإن اقتصر على النهار لم يصحّ وقوفه، وقال أحمد: يدخل وقت الوقوف من الفجر يوم عرفة، وأجمعوا على أن أصل الوقوف ركنٌ، لا يصح الحج إلا به، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله.
قال الجامع عفا الله عنه: قول الإمام أحمد رحمه الله: إن وقت الوقوف يدخل بطلوع الفجر يوم عرفة هو الأرجح؟ لما أخرجه أحمد، والنسائيّ، وغيرهما بإسناد صحيح عن عروة بن مُضَرِّس الطائيّ رضي الله عنه قال: جِئْتُ رسُولَ اللهِ في الْمَوْقِفِ، فقلت: جِئْتُ يا رسُولَ اللهِ من جبلي طيء، أَكْلَلْتُ مطيتي، وَأَتْعَبْتُ نفسي، والله ما تَرَكْتُ من جبل إِلَّا وَقَفْتُ عليه، هل لي من حَجٍّ؟ فقال رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"من أَدْرَكَ مَعَنَا هذه الصَّلَاةَ، وَأَتَى عَرَفَاتٍ قبل ذلك لَيْلًا أو نَهَارًا، تَمَّ حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ"، فقوله صلى الله عليه وسلم:"ليلًا أو نهارًا" صريح في أن النهار
كلّه وقت للوقوف كالليل، فمن وقف في أي جزء من أجزاء النهار، أو الليل فقد أدرك الوقوف، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(وَجَعَلَ) صلى الله عليه وسلم (حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ)"الحبل" بفتح الحاء المهملة، وسكون الباء الموحّدة، ثم لام: هو المستطيل من الرمل، وقيل: هو التَّلّ الضخم منه، والْمُشاة بضمّ الميم: جمع ماشٍ، وأُضيف الحبل إليهم؛ لاجتماعهم هناك من الموقف، والمراد به صفّ المشاة، ومُجتمعهم في مشيهم تشبيهًا بحبل الرمل، وقيل: أراد طريقهم الذي يسلكونه في الرمل.
وقال النوويّ رحمه الله: رُوي حَبْل بالحاء المهملة، وإسكان الباء، ورُوي جبل بالجيم وفتح الباء، قال القاضي عياض رحمه الله: الأول أشبه بالحديث، وحَبْلُ المشاة أي: مُجتمعهم، وحبلُ الرَّمْل: ما طال منه، وضَخُم، وأما بالجيم فمعناه طريقهم، وحيث تسلك الرَّجَّالة. انتهى.
وتعقّبه الوليّ العراقي بأن ما ذكره من رواية هذه اللفظة بوجهين، وترتيب هذين المعنيين على هذين الوجهين لم أره في كلام القاضي، لا في "الإكمال"، ولا في "المشارق"، ولا في كلام غيره أيضًا. انتهى.
وقال الطبريّ: حبل المشاة بالحاء المهملة المفتوحة، والموحّدة الساكنة، ثم لام أي: صفّهم، ومُجتمعهم في مشيهم، فكأنه عبّر بحبل المشاة عن المشاة أنفسهم، وقد ضبطه بعضهم بالجيم، وصححه شيخنا ابن الصلاح في "منسكه"، قال: وبه شَهِدت المشاهدة، وذكره بعض من صنّف في الأمكنة المتعلّقة بالحجيج، وهو الظاهر. انتهى
(1)
.
(وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ) فيه أنه يستحبّ استقبال القبلة في الوقوف بعرفة (فَلَمْ يَزَلْ) صلى الله عليه وسلم (وَاقِفًا) بعرفة (حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا) أي: ذهابًا قليلًا (حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ) أي: قرص الشمس، وهو بضمّ، فسكون: عينها، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ، وكذا نقله القاضي عن جميع النسخ، قال: قيل: لعل صوابه حين غاب القرص. انتهى كلام القاضي.
قال النوويّ: ويَحْتَمِل أن الكلام على ظاهره، ويكون قوله: "حتى غاب
(1)
"المرعاة" 9/ 29.
القرص" بيانًا لقوله: "غربت الشمس، وذهبت الصفرة"، فإن هذه تُطلق مجازًا على مغيب معظم القرص، فأزال ذلك الاحتمال بقوله: "حتى غاب القرص"، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال القاري: قيل: صوابه حين غاب القرص، وفيه نظر؛ إذ لا يظهر معنى لقوله:"ذهبت الصفرة قليلًا حين غاب القرص"، وكان القائل غفل عن قيد القلّة، وذَهِل عن الرواية التي تطابق الدراية.
وفيه تنبيهٌ على الاحتياط والمكث بعد الغروب حتى تذهب الصفرة لأجل الحائل من الجبال، وفي وقوفه صلى الله عليه وسلم على راحلته، وإطالته الوقوف عليها دليلٌ على إباحة ذلك مطلقًا، خلافًا من كرهه، ويَحْتَمِل أن يكون ذلك مقصورًا على ما هو قربةٌ دون غيره من المباح، وعلى ما خفّ أمره دون الأحمال الثقال، والمحامل الثقيلة بالركبان المتعدّدة، لما فيه من إتعاب الحيوان من غير ضرورة
(2)
.
وقال القرطبي رحمه الله: قوله: "فلم يزل واقفًا بعرفة حتى غربت الشمس، وذهبت الصُّفرة قليلًا" لا خلاف في أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحجّ، وأنه من بعد الزوال، وأنه لا يُجزئ قبله، وأن وقوف الليل يُجزئ، وأكثر العلماء: على أن وقوف النهار يُجزئ إلا مالكًا، فإنه في معروف مذهبه كمن لم يقف، ولا خلاف في أفضلية الجمع بين الوقوفين ليلًا ونهارًا، وفيه دليل: على الاحتياط بأخذ جزء من الليل زائد على مغيب الشمس.
قال: وقد رَوَى الترمذيّ حديثًا صحيحًا يرفع الخلاف في هذه المسألة: عن عروة بن مُضرَّس قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة حين خرج إلى الصَّلاة، فقلت: يا رسول الله إني جئت من جبل طيء، أكْلَلْتُ راحلتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من شهد صلاتنا هذه، فوقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلًا أو نهارًا فقد تم حجه، وقضى تفثه"، قال: هذا حديث حسن صحيح.
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 186.
(2)
"المرعاة" 9/ 29 - 30.
وزاد النسائي: "ومن لم يدرك مع الإمام والناس؛ فلم يدرك"، فظاهر هذا: أنه لا يلزم الجمع بين وقوف الليل والنهار، بل أيَّهما فعل أجزأ؛ لأن الرواية فيه بـ "أو" التي هي لأحد الشيئين، غير أنه قد جاء في كتاب النسائي من حديث عبد الرحمن بن يعمر، قال: شهدت النبيّ صلى الله عليه وسلم بعرفة، وأتاه ناس من نجد، فأمروا رجلًا، فسأله عن الحجّ، فقال:"الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل صلاة الصبح، فقد أدرك حجه"، وقال الترمذي:"من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر": قال وكيع: هذا الحديث أُمُّ المناسك، وقال: حديث حسن صحيح. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
(وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ) بن زيد حِبّه، وابن حبّه رضي الله عنهما (خَلْفَهُ) فيه جواز الإرداف إذا كانت الدابة مُطيقة، وقد تظاهرت به الأحاديث.
وقال الطبريّ رحمه الله: في إردافه صلى الله عليه وسلم أسامة رخصة في ركوب اثنين على بعير واحد، وأن ذلك لا ينقص من منصب الجليل شيئًا، وبيان فضل أسامة بتخصيصه بذلك دون من حضره في ذلك الوقت، وكذلك فضل الفضل بن عبّاس في إردافه في ثاني الحال، وفضل عليّ في استنابته في النحر، وبإشراكه في هديه.
(وَدَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: ارتحل، ومَضَى، وقال الطيبيّ رحمه الله؛ أي: ابتدأ السير، ودفع نفسه، ونحّاها، أو دفع ناقته وحملها على السير، وقال السيوطيّ: أي: خرج من عرفات، وفي رواية:"أفاض، وعليه السكينة"(وَقَدْ شَنَقَ) بفتح الشين المعجمة، والنون المخفّفة، فقاف، أي: ضمّ، وضيّق (لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ) بكسر الزاي، قال الفيّوميّ رحمه الله: الزِّمَام للبعير، جمعه أَزِمّةٌ، وزَمَمته زَمًّا، من باب قتل: شددت عليه زمامه، قال بعضهم: الزمام في الأصل الخيط الذي يُشدّ في الْبُرَة، أو في الْخِشَاش، ثم يُردّ إليه الْمِقْوَد، ثمّ سُمّي به الْمِقْود نفسه. انتهى
(2)
.
ثم فسّر، وبيّن معنى قوله: "وشنق
…
إلخ" بقوله: (حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا) أي: رأس القصواء (لَيُصِيبُ) بضمّ حرف المضارعة، من الإصابة (مَوْرِكَ رَحْلِهِ) قال
(1)
"المفهم" 3/ 337 - 338.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 256.
الجوهريّ: قال أبو عبيد: الْمَوْرِك، والمورِكة - يعني بفتح الميم، وكسر الراء -: هو الموضع الذي يَثْنِي الراكب رجله عليه قُدّام واسطة الرحل إذا مَلَّ من الركوب، وضبطه القاضي بفتح الراء، قال: وهو قطعة أَدَم يتورك عليها الراكب، تُجْعَل في مُقَدَّم الرحل، شِبْهُ الْمِخَدَّة الصغيرة، وفي هذا استحباب الرفق في السير من الراكب بالمشاة، وبأصحاب الدواب الضعيفة، قاله النوويّ
(1)
.
(وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى) أي: يشير بها، ففيه إطلاق القول على الفعل ("أيُّهَا النَّاسُ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ") بالتكرار مرّتين للتأكيد، منصوبًا على الإغراء؛ أي: الزموا السكينة، وهي الرفق، والطمأنينة، وعدم الزحام، وفيه أن السكينة في الدفع من عرفات سنةٌ، فإذا وجد فُرْجة يسرع، كما ثبت في الحديث الآخر، (كُلَّمَا أَتَى حَبْلًا مِنْ الْحِبَالِ) بالحاء المهملة المكسورة جمع حَبْل، وهو التَّلُّ اللطيف من الرمل الضخم، وقد تقدّم قريبًا (أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا) أي: أرخى للقصواء الزمام إرخاءً قليلًا، أو زمانًا قليلًا (حَتَّى تَصْعَدَ) بفتح حرف المضارعة، والعين، من باب تَعِبَ صُعُودًا؛ أي: إلى أن تَعْلُو، فـ "حتى" غاية للإرخاء، وجوّز النوويّ ضمّ حرف المضارعة، مِن أصعد، قال: ومنه قوله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ} [آل عمران: 153]، وفيه نظر؛ لأن الإصعاد معناه الإبعاد في الأرض، وليس مرادًا هنا، بل المراد العُلوّ، فتأمل. (حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ) أي: إلى أن وصل إلى المزدلفة المكان المعروف.
وأصل المزدلفة: مزتلفة، فأبدل التاء دالًا؛ لقرب المخرج، كما قال في "الخلاصة":
طَا تَا افْتِعَالٍ رُدَّ إِثْرَ مُطْبَقِ
…
فِي ادَّانَ وَازْدَدْ وَادَّكِرْ دَالًا بَقِي
قال النوويّ رحمه الله: وأما المزدلفة فمعروفة، سُمِّيت بذلك، من التزلف، والازدلاف، وهو التقرب؛ لأن الحجاج إذا أفاضوا من عرفات ازدلفوا إليها، وتقربوا منها، وقيل: سميت بذلك لمجيء الناس إليها في زُلَفٍ من الليل؛ أي: ساعات، وتسمى جَمْعًا بفتح الجيم، دياسكان الميم، سُمِّيت بذلك؛ لاجتماع الناس فيها.
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 186.
قال: واعلم أن المزدلفة كلها من الحرم، قال الأزرقيّ في "تاريخ مكة"، والماورديّ، وأصحابنا في كتب المذهب، وغيرهم: حَدُّ مزدلفة ما بين مأْزَمَي عرفة، ووادي مُحَسِّر، وليس الحدان منها، ويدخل في المزدلفة جميع تلك الشعاب، والجبال الداخلية في الحدّ المذكور. انتهى
(1)
.
وقال القرطبي رحمه الله: وسمِّيت المزدلفة بذلك؛ لاقتراب الناس بها إلى منى بعد الإفاضة من عرفات، والازدلاف: القرب، يقال: ازدلف القوم؛ إذا اقتربوا، وقال ثعلب: لأنها منزلة قربة لله تعالى، وقال الهروي: سُمِّيت بذلك: لازدلاف الناس بها، والازدلاف: الاجتماع، وقيل: سُمِّيت بذلك: للنزول بها بالليل، وزلف الليل: ساعاته، وتسمَّى أيضًا المزدلفة: بالمشعر؛ لأنها من المشاعر، وهي المعالم، والصواب: أن المشعر موضع مخصوص من المزدلفة، وهو الذي كانت الْحُمْسُ تقف فيه، ولا تتعداه، وتَكْتَفِي بالوقوف فيه عن عرفة.
وسُمِّيت مني بذلك: لما يُمنى فيها من الدماء؛ أي: يراق. وقيل: لأن آدم تَمَنَّى الاجتماع مع حواء فيها.
وسُمِّيت عرفة بذلك: لأن جبريل عرَّف بها آدم، فقال: عرفت عرفت، وقيل: سميت عرفة لأن آدم عليه السلام تعزف فيه بحواء بعد إنزالهما إلى الأرض، وهي المعرَّف، والتعريف: الوقوف بها. انتهى
(2)
.
(فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ) أي: جمع بينهما في وقت العشاء (بِأَذَانٍ - وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ) أي: لكل واحدة منهما.
[تنبيه]: اختلف العلماء في الأذان والإقامة للصلاتين المذكورتين على ستة أقوال؛ لاختلاف الآثار في ذلك:
(أحدها): أنه يقيم لكلّ منهما، ولا يؤذّن لواحدة منهما، وهو قول القاسم بن محمد، وسالم، وهو إحدى الروايتين عن ابن عمر رضي الله عنهما، وبه قال إسحاق بن راهويه، وأحمد بن حنبل في أحد القولين عنه، وهو قول الشافعيّ، وأصحابه فيما حكاه الخطّابيّ، والبغويّ، وغير واحد، وقال النوويّ في "شرح
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 187.
(2)
"المفهم" 3/ 336 - 337.
مسلم": الصحيح عند أصحابنا أنه يصليهما بأذان للأولى، وإقامتين لكلّ واحدة، وقال في "الإيضاح": إنه الأصحّ.
(الثاني): أنه يصليهما بإقامة واحدة للأولى، وهو إحدى الروايتين عن ابن عمر رضي الله عنهما، وهو قول سفيان الثوريّ، فيما حكاه الترمذيّ، والخطابيّ، وابن عبد البرّ، وغيرهم.
(الثالث): أن يؤذِّن للأولى، ويقيم لكلّ واحدة منهما، وهو قول أحمد بن حنبل في أصحّ قوليه، وبه قال أبو ثور، وعبد الملك بن الماجشون، من المالكيّة، والطحاويّ، وقال الخطابيّ: هو قول أهل الرأي. وذكر ابن عبد البرّ أن الْجُوزجانيّ حكاه عن محمد بن الحسن، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة.
(الرابع): أنه يؤذّن للأولى، ويقيم لها، ولا يؤذّن للثانية، ولا يقيم لها، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، حكاه النوويّ، وغيره. قال العينيّ: هذا هو مذهب أصحابنا، وعند زفر بأذان وإقامتين.
(الخامس): أنه يؤذّن لكلّ منهما، ويقيم، وبه قال عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، وهو قول مالك، وأصحابه، إلا ابن الماجشون، وليس لهم في ذلك حديث مرفوع، قاله ابن عبد البرّ.
(السادس): أنه لا يؤذّن لواحد منهما، ولا يقيم، حكاه المحبّ الطبريّ عن بعض السلف. وهذا كله في جمع التأخير.
وأما جمع التقديم، كالظهر والعصر بنمرة، ففيه ثلاثة أقوال:
(أحدها): أنه يؤذّن للأولى، ويقيم لكل واحدة منهما، وهو قول الشافعيّ، وجمهور أصحابه.
(الثاني): أن يؤذّن للأولى، ويقيم لها، ولا يقيم للثانية، وهو مذهب أبي حنيفة.
(الثالث): أنه يؤذّن لكلّ منهما، ويقيم، وهو وجه حكاه الرافعيّ عن ابن كجّ، عن أبي الحسين القطان أنه أخرجه وجهًا.
قال العينيّ: [فإن قلت]: ما الأصل في هذه الأقوال؟:
[قلت]: الذي قال بأذان وإقامتين قال برواية جابر، والذي قال بلا أذان، ولا إقامة، قال بحديث أبي أيوب، وابن عمر، فإنه ليس فيهما أذان، ولا
إقامة، وكذا رواه طلق بن حبيب، وابن سيرين، ونافع عن ابن عمر من فعله. والذي قال بإقامة واحدة قال بحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما - يعني المذكور في الباب، وكذا رواه ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا عند مسلم، والذي قال بإقامة للمغرب، وإقامة للعشاء قال بحديث أسامة، وكذا فعله عمر بن الخطّاب رضي الله عنه.
فهذه الأحاديث التي رويت كلها مسندة، قاله ابن حزم، وقال: أشدّ الاضطراب في ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما، فإنه روي عنه من فعله الجمع بينهما بلا أذان، ولا إقامة، وروي عنه أيضًا بإقامة واحدة، وروي عنه موقوفًا بأذان واحد، وإقامة واحدة، وروي عنه مسندأ الجمع بينهما بإقامتين، وروي عنه مسندًا بأذان واحد، وإقامة واحدة، قال: وهنا قول سادس لم نجده مرويًّا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو ما رويناه عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة كل واحد منهما بأذان وإقامة، ذكره العينيّ في "شرح البخاريّ".
وقد مال البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" إلى ما ذهب إليه ابن مسعود رضي الله عنه، فقال:"باب من أذن، وأقام لكل واحدة منهما" قال: حدّثنا عمرو بن خالد، حدّثنا زهير، حدّثنا أبو إسحاق، قال: سمعت عبد الرحمن بن يزيد، يقول: "حج عبد الله رضي الله عنه، فأتينا المزدلفة حين الأذان بالعتمة، أو قريبًا من ذلك، فأمر رجلًا، فاذن، وأقام، ثم صلى المغرب، وصلى بعدها ركعتين، ثم دعا بعشائه، فتعشى، ثم أمر رجلًا فأذن، وأقام
…
" الحديث.
قال في "الفتح": وفي هذا الحديث مشروعية الأذان والإقامة لكل من الصلاتين إذا جمع بينهما، قال ابن حزم: لم نجده مرويًّا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولو ثبت عنه لقلت به، ثم أخرج من طريق عبد الرزاق، عن أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق في هذا الحديث: قال أبو إسحاق: فذكرته لأبي جعفر، محمد بن علي، فقال: أما نحن أهلَ البيت، فهكذا نصنع.
قال ابن حزم: وقد رُوي عن عمر من فعله.
قال الحافظ: أخرجه الطحاويّ بإسناد صحيح عنه، ثم تأوله بأنه محمول على أن أصحابه تفرقوا عنه فأَذَّن لهم ليجتمعوا، ليجمع بهم، ولا يخفى تكلفه، ولو تأتى له ذلك في حق عمر، لكونه كان الإمام الذي يقيم للناس حجهم، لم
يتأت له في حق ابن مسعود؛ لأنه إن كان معه ناس من أصحابه لا يحتاج في جمعهم إلى من يؤذن لهم، وقد أخذ بظاهره مالك، وهو اختيار البخاريّ.
ورَوَى ابن عبد البر عن أحمد بن خالد أنه كان يتعجب من مالك، حيث أخذ بحديث ابن مسعود، وهو من رواية الكوفيين، مع كونه موقوفًا، ومع كونه لم يروه، ويترك ما روى عن أهل المدينة، وهو مرفوع.
قال ابن عبد البر: وأعجب أنا من الكوفيين، حيث أخذوا بما رواه أهل المدينة، وهو أن يجمع بينهما بأذان وإقامة واحدة، وتركوا ما رووا في ذلك عن ابن مسعود، مع أنهم لا يعدلون به أحدًا.
قال الحافظ رحمه الله: الجواب عن ذلك أن مالكاَ اعتَمَد على صنيع عمر في ذلك، وإن كان لم يروه في "الموطأ"، واختار الطحاويّ ما جاء عن جابر رضي الله عنه يعني هذا الحديث أنه جمع بينهما بأذان واحد وإقامتين، وهذا قول الشافعيّ في القديم، ورواية عن أحمد، وبه قال ابن الماجشون، وابن حزم، وقوّاه الطحاويّ بالقياس على الجمع بين الظهر والعصر بعرفة.
وقال الشافعي في الجديد، والثوري، وهو رواية عن أحمد: يجمع بينهما بإقامتين فقط، وهو ظاهر حديث أسامة رضي الله عنه الآتي، حيث قال:"فأقام المغرب، ثم أناخ الناس، ولم يَحُلّوا حتى أقام العشاء"، وقد جاء عن ابن عمر كل واحد من هذه الصفات، أخرجه الطحاويّ وغيره، وكأنه يراه من الأمر الذي يتخير فيه الإنسان، وهو المشهور عن أحمد. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أرجح المذاهب عندي قول من قال: يصلي الأولى بالأذان والإقامة، والثانية بالإقامة فقط، لحديث جابر رضي الله عنه هذا، فإنه مرفوع صريح في ذلك، وما عداه إما موقوف، كحديث عمر، وابن مسعود رضي الله عنهما، أو قابل للتأويل، كحديث أسامة وابن عمر رضي الله عنهما، فيؤول بأنه صلى الأولى بالإقامة مع الأذان، والثانية بالإقامة فقط، وإنما أوّلنا بذلك؛ لأنه لا يمكن أن يُحْمَل على تعدد الواقعة، إذ حجته صلى الله عليه وسلم واحدة، فتعيّن الجمع بين
(1)
"الفتح" 4/ 619 - 620.
الروايات، وحديث جابر رضي الله عنه صريح مُفَسَّر، فوجب حمل غيره عليه، والله تعالى أعلم بالصواب.
(وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا) أي: لم يصلّ بين المغرب والعشاء شيئًا من النوافل والسنن، والنافلة تسمّى سبحةً؛ لاشتمالها على التسبيح، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما:"ولم يسبّح بينهما، ولا على إثر واحدة منهما"، فقوله:"ولم يسبّح بينهما" أي: لم يتنفّل بين الصلاتين، وقوله:"ولا على إثر واحدة منهما" أي: ولا عقب كل واحدة من الصلاتين، لا عقب الأولى، ولا عقب الثانية، وهذا تأكيد بالنظر إلى الأولى، وتأسيس بالنظر إلى الثانية.
قال في "الفتح": ويستفاد منه أنه ترك التنفّل عقب المغرب، وعقب العشاء، ولما لم يكن بين المغرب والعشاء مهلة صرّح بأنه لم يتنفّل بينهما، بخلاف العشاء، فإنه يَحْتَمِل أن يكون المراد أنه لم يتنفّل عقبها، لكنه تنفّل بعد ذلك في أثناء الليل، ومن ثمّ قال الفقهاء: تؤخّر سنة العشاء عنهما، ونقل ابن المنذر الإجماع على ترك التطوّع بين الصلاتين بالمزدلفة؛ لأنهم اتفقوا على أن السنّة الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة، ومن تنفّل بينهما لم يصحّ أنه جمع بينهما. انتهى.
قال الحافظ: ويعكر على نقل الاتفاق فعل ابن مسعود رضي الله عنه الآتي في الباب التالي
(1)
. انتهى.
وقال النوويّ رحمه الله: الحديث دالّ على الموالاة بين الصلاتين
(1)
أشار به إلى ما أخرجه البخاريّ رحمه الله، من طريق أبي إسحاق، قال: سمعت عبد الرحمن بن يزيد، يقول: حج عبد الله رحمه الله، فأتينا المزدلفة، حين الأذان بالعتمة، أو قريبًا من ذلك، فأمر رجلًا، فأذن، وأقام، ثم صلى المغرب، وصلى بعدها ركعتين، ثم دعا بعشائه، فتعشى، ثم أمر - أرى - فأذن، وأقام، قال عمرو: لا أعلم الشك إلا من زهير، ثم صلى العشاء ركعتين، فلما طلع الفجر، قال إن النبيّ صلى الله عليه وسلم، كان لا يصلي هذه الساعة، إلا هذه الصلاة، في هذا المكان، من هذا اليوم، قال عبد الله: هما صلاتان تُحوَّلان عن وقتهما: صلاة المغرب، بعدما يأتي الناس المزدلفة، والفجر حين يبزغ الفجر، قال: رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يفعله. انتهى.
المجموعتين، ولا خلاف في هذا، لكن اختلفوا، هل هو شرط للجمع أم لا؟ والصحيح عندنا أنه ليس بشرط، بل هو سنة مستحبة، وقال بعض أصحابنا: هو شرط، أما إذا جمع بينهما في وقت الأولى فالموالاة شرط بلا خلاف. انتهى
(1)
.
(ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: للنوم؛ تقويةً للبدن، ورحمة للأمة؛ لأن في نهاره عبادات كثيرة يحتاج إلى النشاط فيها (حَتى طَلَعَ الْفَجْرُ) قال ابن القيّم رحمه الله: ولم يحي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، ولا صحّ عنه في إحياء ليلتي العيد شيء. انتهى.
وقال في "المواهب"، و"شرحه": وترك صلى الله عليه وسلم قيام الليل تلك الليلة، ونام حتى أصبح؛ لما تقدّم له من الأعمال بعرفة من الوقوف من الزوال إلى ما بعد المغرب، واجتهاده في الدعاء، وسيره بعد المغرب إلى المزدلفة، واقتصر فيها على صلاة المغرب والعشاء قصرًا لها وجمعًا لهما جمع تأخير، ورَقَد بقيّة ليلته مع كونه صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل حتى تورّمت قدماه، ولكنه أراح نفسه الشريفة؛ لما تقدّم في عرفة من التعب، وقد قال:"إن لجسدك عليك حقًّا"، ولما هو بصدد يوم النحر من كونه نحر بيده الشريفة ثلاثًا وستّين بدنةً، وباقي المائة نحره عليّ، ثم ذهب إلى مكة لطواف الإفاضة، ورجع إلى منى. انتهى
(2)
.
(تنبيه): اختلف العلماء في حكم المبيت بالمزدلفة ليلة النحر:
فذهب أبو حنيفة، وأصحابه، والثوريّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، والشافعيّ في أحد قوليه، إلى وجوب المبيت بها، وهو قول عطاء، والزهريّ، وقتادة، ومجاهد، وعن الشافعيّ: سنة، وهو قول مالك رحمهم الله تعالى، أفاده العينيّ.
وقال النوويّ: المشهور من مذهب الشافعيّ أنه ليس بركن، فلو تركه صحّ حجه، قال القاضي أبو الطيب، وأصحابنا: وبهذا قال جماهير العلماء من السلف والخلف.
وقال خمسة من أئمة التابعين: هو ركن، لا يصحّ الحجّ إلا به، كالوقوف
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 188.
(2)
راجع: "المرعاة" 9/ 34.
بعرفات. هذا قول علقمة، والأسود، والشعبيّ، والنخعيّ، والحسن البصريّ، وبه قال من الشافعيّة ابن بنت الشافعيّ، وأبو بكر بن خزيمة، واحتجّ لهم بقوله تعالى:{فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198]، وبالحديث المرويّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"من فاته المبيت بالمزدلفة، فقد فاته الحجّ".
وأجيب بأن الأمر في الآية إنما هو الذكر، وليس هو بركن بالإجماع، وأما الحديث فليس بثابت، ولا معروف، ولو صحّ لحمل على فوات كمال الحجّ، لا فوات أصله.
قال: واحتجّ أصحابنا بحديث عروة بن مضرّس رضي الله عنه، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة حين خرج للصلاة، فقلت: يا رسول الله، إني جئت من جبل طيّء، أكللت مطيّتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حجّ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من شهِد صلاتنا هذه، فوقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلًا، أو نهارًا، فقد تمّ حجه، وقضى تفثه"، رواه أبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وغيرهم بأسانيد صحيحة، قال الترمذيّ: هو حديث حسنٌ صحيح. انتهى كلام النوويّ بتصرّف
(1)
.
وقال العينيّ: وقال الشافعيّ: يحصل المبيت بساعة في النصف الثاني من الليل، دون الأول، وعن مالك: النزول بالمزدلفة واجب، والمبيت بها سنة، وكذا الوقوف مع الإمام سنة. وقال أهل الظاهر: من لم يدرك مع الإمام صلاة الصبح بالمزدلفة بطل حجه، بخلاف النساء والصبيان، والضعفاء. وقال الحنفية: لو ترك الوقوف بها بعد الصبح من غير عذر فعليه دم، وإن كان بعذر الزحام، فتعجل السير إلى منى، فلا شيء عليه، والمأمور في الآية الكريمة الذكر، دون الوقوف، ووقت الوقوف بالمشعر الحرام.
بعد طلوع الفجر من يوم النحر إلى أن يسفر جدًّا. وعن مالك: لا يقف أحد إلى الإسفار، بل تدفعون قبل ذلك. انتهى كلام العينيّ رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الأرجح عندي أن المبيت بالمزدلفة سنة؛
(1)
"المجموع" 5/ 126.
(2)
"عمدة القاري" 8/ 178.
لأنه صلى الله عليه وسلم بات بها، وأما شهود صلاة الصبح، والوقوف بعدها إلى أن يدفع الإمام، فواجب إلا لأهل الأعذار؛ لحديث عروة بن مضرّس رضي الله عنه المذكور آنفًا، فإنه صلى الله عليه وسلم ذكره لصحة الحج، وتمامه، فقال:"من شهِد صلاتنا هذه، فوقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلًا، أو نهارًا، فقد تمّ حجه، وقضى تفثه"، فما ذكر المبيت بها لتمام الحجّ، وإنما ذكر الوقوف بعرفة، وشهود صلاة الصبح بالمزدلفة، والدفع معه، وقد أوجبت الآية المذكورة الذكر عند المشعر الحرام، فأفادت أن الوقوف به من واجبات الحجّ، فتأمل بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب.
(وَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ) أي: ظهر (لَهُ الصُّبْحُ) قال النوويّ رحمه الله: فيه أن السنّة أن يبالغ بتقديم صلاة الصبح في هذا الموضع، ويتأكّد التبكير بها في هذا اليوم أكثر من تأكّده في سائر السّنَة؛ للاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن وظائف هذا اليوم كثيرةٌ، فسُنّ المبالغة في التبكير للصبح ليتّسع الوقت للوظائف. انتهى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: فيه سُنَّة المبيت بالمزدلفة، وصلاة الصبح بها بغلس، وسيأتي أنه صلى الله عليه وسلم أرخص لبعض نسائه في النَّفْر منها إلى منى قبل طلوع الفجر، وفيه: الأذان في السفر؛ خلافًا من قال: يقتصر المسافر على الإقامة. انتهى
(1)
.
(بِأَذَانٍ) واحد (وَإِقَامَةٍ) واحدة، وهذا لا خلاف فيه، قال النوويّ رحمه الله: يُسَنّ الأَذان والإقامة لهذه الصلاة، وكذلك غيرها من صلوات المسافر، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بالأذان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر كما في الحضر، والله أعلم. انتهى.
(ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ) أي: ناقته صلى الله عليه وسلم، وففيه أن السنة الركوب، وأنه أفضل من المشي، وقد سبق بيانه مرات، وبيان الخلاف فيه.
(حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ) زاد في رواية أبي داود، وابن ماجه، وابن الجارود، والبيهقيّ:"فَرَقِي عليه"، و"المشعر" بفتح الميم، والعين المهملة،
(1)
"المفهم" 3/ 339.
وقيل: بكسر الميم: موضع خاصّ من المزدلفة، سُمّي بالمشعر؛ لأنه مَعْلمٌ للعبادة، وسُمِّي الحرام؛ لأنه من الحرم، أو لحرمته.
وقال النوويّ رحمه الله: "المشعر": بفتح الميم، هذا هو الصحيح، وبه جاء القرآن، وتظاهرت به روايات الحديث، ويقال أيضًا: بكسر الميم، والمراد به هنا قُزَحُ، بضم القاف، وفتح الزاي، وبحاء مهملة، وهو جبل معروف في المزدلفة، وهذا الحديث حجة الفقهاء في أن المشعر الحرام هو قُزَحُ، وقال جماهير المفسرين، وأهل السير، والحديث: المشعر الحرام جميع المزدلفة. انتهى
(1)
.
وقال المحبّ الطبريّ رحمه الله: المشعر الحرام: هو الجبل الصغير المعروف بالمزدلفة، يقال له: قُزَح، والأفصح فتح الميم، وأكثر كلام العرب بكسرها، ولا نعرف الكسر في القراءة إلا شاذًّا. انتهى.
وقد روى الشيخان من حديث جابر رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وقف بالمزدلفة، وقال:"وقفت ههنا، ومزدلفة كلها موقفٌ"، وروى أبو داود، والترمذيّ، وصححه من حديث عليّ رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا أصبح بجمع أتى قُزَح، فوقف عليه، وقال: هذا قُزَح، وهو الموقف، "وجمغ كلها موقفٌ"، وروى سعيد بن منصور من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه رأى ناسًا يزدحمون على الجبل الذي يقف عليه الإمام، فقال: يا أيها الناس لا تشُقّوا على أنفسكم، ألا إن ما ههنا مشعرٌ كلّه، وعنه قال: المشعر الحرام المزدلفة كلها، أخرجه أبو ذرّ، ذكر هذا الأحاديث الطبريّ، ثم قال: حديث ابن عمر هذا مصرّح بأن المشعر الحرام هو المزدلفة، وكذلك تضمّنه كثير من كتب التفسير في قوله تعالى:{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198]، وحديث عليّ وجابر رضي الله عنهما يدلّان على أن قُزَح هو المشعر الحرام، وهو المعروف في كتب الفقه، فتعيّن أن يكون في أحدهما حقيقةً، وفي الآخر مجازًا؛ دفعًا للاشتراك؛ إذ المجاز خير منه، فترجّح احتماله عند التعارض، فيجوز أن يكون حقيقةً في قُزَح، فيكوز إطلاقه على الكلّ؛ لتضمّنه إياه، وهو
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 189.
أظهر الاحتمالين في الآية، فإن قوله تعالى:{عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} يقتضي أن يكون الوقوف في غيره، وتكون المزدلفة كلّها عنده لما كانت كالحريم له، ولو أريد بالمشعر الحرام المزدلفة لقال: في المشعر الحرام، ويجوز أن يكون حقيقةً في المزدلفة كلها، وأُطلق على قُزَح وحده تجوّزًا؛ لاشتمالها عليه، وكلاهما وجهان من وجوه المجاز، أعني إطلاق اسم الكلّ على البعض، والعكس، وهذا القائل يقول: حروف المعاني يقوم بعضها مقام بعض، فقامت "عند" مقام "في"، ومنه {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ}؛ أي: عليهم، وفي الحديث والأثر ما يُصدّق كلّ واحد من الاحتمالين.
وقُزَح موضع من المزدلفة، وهو موقف قريش في الجاهليّة؛ إذ كانت لا تقف بعرفة.
وقال الجوهريّ: قُزَح اسم جبل بالمزدلفة، قال الطبريّ: وقد بُنِي عليه بناءٌ، فمن تمكّن من الرقيّ عليه رَقِيَ، وإلا وقف عنده مستقبل القبلة، فيدعو، ويُكبّر، ويُهلّل، ويوحّد الله، ويُكثر من التلبية إلى الإسفار، ولا ينبغي أن يفعل ما تطابق عليه الناس اليوم من النزول بعد الوقوف من درج في وسطه ضيّقة يزدحم الناس على ذلك حتى يكاد يُهلك بعضهم بعضًا، وهو بدعة شنيعة، بل يكون نزوله من حيثُ رُقِيُّه من الدرج الظاهرة الواسعة.
وقد ذكر ابن الصلاح في "منسكه" أن قُزح جبل صغير آخر المزدلفة، ثم قال بعد ذلك: وقد استبدل الناس بالوقوف على الموضع الذي ذكرناه الوقوفَ على بناء مستحدث في وسط المزدلفة، ولا تتأدّى به هذه السنّة. انتهى كلام ابن الصلاح.
قال الطبريّ: والظاهر أن البناء إنما هو على الجبل كما تقدّم ذكره، ولم أر ما ذكره لغيره. انتهى كلام الطبريّ
(1)
.
وقال القرطبي رحمه الله: قوله: "ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام" فيه: أن الوقوف بالمشعر الحرام إلى الإسفار من المناسك، وقد ذكره الله تعالى في قوله:{فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198].
(1)
راجع: "المرعاة" 9/ 35 - 36.
وقد أختُلِف في وجوب الوقوف فيه، فذهب أبو عبيد القاسم بن سلَّام: إلى وجوبه، والجمهور على أنه مُستحب. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله أبو عبيد رحمه الله من الوجوب هو الأظهر؛ لظاهر الآية، فتأمّل، والله تعالى أعلم.
(فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَدَعَاهُ) وفي رواية أبي داود وابن ماجه: "فحمد الله".
[تنبيه]: لا يتعيّن شيء من الدعاء في هذا الموقف، ولا في موقف عرفة، ولا غيرها من المشاعر؛ إذ لم يصحّ في ذلك شيء، إلا آية {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [البقرة: 201]، وأما ما يُذكر في كتب المناسك من الدعوات الكثيرة، فلا يثبت شيء منها، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.
(وَكَبَّرَهُ) أي: قال: الله أكبر (وَهَلَّلَهُ) أي: قال: لا إله إلا الله (وَوَحَّدَهُ) أي: قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له
…
إلخ؛ عملًا بقوله عز وجل: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198](فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا) فيه أن الوقوف عند المشعر الحرام من مناسك الحجّ، وهذا لا خلاف فيه.
قال الشاه وليّ الله الدهلويّ رحمه الله: إنما شُرع الوقوف بالمشعر الحرام؛ لأنه كان أهل الجاهليّة يتفاخرون، ويتراءون، فأبدل من ذلك إكثار ذكر الله تعالى؛ ليكون كابحًا عن عادتهم، ويكون التنويه بالتوحيد في ذلك الموطن كالمنافسة، كأنه قيل: هل يكون ذكركم الله أكثر، أو ذكر أهل الجاهليّة مفاخرهم أكثر؟ انتهى
(2)
.
(حَتَّى أَسْفَرَ) أي: أضاء الفجر إضاءة تامّةً، فالضمير في "أسفر" يعود إلى الفجر المذكور أوّلًا، وقوله:(جِدًّا) بكسر الجيم؛ أي: إسفارًا بليغًا.
قال المحبّ الطبريّ رحمه الله: هذا كمال السنّة في المبيت بالمزدلفة، وعليه اعتمد من أوجب ذلك، وقال أبو حنيفة: إذا لم يكن بها بعد طلوع الفجر لزمه دم إلا لعذر من ضعف أو غيره، فإن كان بها أجزأه، وإن لم يكن قبله، وهو ظاهر ما نقله البغويّ عن مالك، وأحمد، وفي وجوب المبيت عندنا - يعني
(1)
"المفهم" 3/ 339.
(2)
"المرعاة" 9/ 36.
الشافعيّة - قولان: الأصحّ وجوبه، والمعتمد فيه أدنى جزء بعد نصف الليل إلى طلوع الفجر، هذا المشهور، وللشافعيّ قول آخر إلى طلوع الشمس، فمن كان بها فيه فلا شيء عليه، وإن لم يكن قبله، ومن دفع قبله فعليه دم على الأصحّ. انتهى.
وقال ابن عابدين من الحنفيّة: الوقوف عند المشعر الحرم واجب عندنا لا سنّة، والبيتوتة بمزدلفة سنّة مؤكّدة إلى الفجر، لا واجبة، خلافًا للشافعيّ فيهما، كما في "اللباب". انتهى
(1)
.
(فَدَفَعَ) أي: ذهب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى منى (قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ) هذا صريحٌ في أنه صلى الله عليه وسلم ذهب إلى منى قبل طلوع الشمس، وبه أخذ الجمهور، قال النوويّ رحمه الله: اختلفوا في وقت الدفع من المشعر الحرام، فقال ابن مسعود، وابن عمر، وأبو حنيفة، والشافعيّ، وجماهير العلماء: لا يزال واقفًا فيه، يدعو، ويذكر حتى يُسْفِر الصبح جدًّا، كما في هذا الحديث، وقال مالك: يَدْفَع منه قبل الإسفار. انتهى
(2)
.
وقال الطبريّ رحمه الله: قال أهل العلم: وهذه سنّة الإسلام أن يدفع من المزدلفة عند الإسفار قبل طلوع الشمس، قال طاوس رحمه الله: كان أهل الجاهليّة: يدفعون من عرفة قبل أن تغيب الشمس، ومن المزدلفة بعد أن تطلع الشمس، ويقولون: أَشْرِق ثَبِير كيما نُغِير، فأخّر الله هذه، وقدّم هذه، قال الشافعيّ رحمه الله: يعني قدّم المزدلفة قبل طلوع الشمس، وأخّر عرفة إلى أن تغيب الشمس. انتهى.
وقوله: (وَأَرْدَفَ) يَحتمل أنه معطوف على "دَفَع"، أو حال من فاعل "دفَعَ"، بتقدير "قد"؛ أي: وقد أردف (الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ) بن عبد المطّلب رضي الله عنهما؛ أي: أركبه خلفه بدل أُسامة بن زيد رضي الله عنهما (وَكَانَ) أي: الفضل (رَجُلًا حَسَنَ الشَّعْر، أَبْيَضَ) اللون (وَسِيمًا) بفتح الواو، وكسر السين المهملة؛ أي: حسنًا، يقال: وَسُمَ بالضمّ وَسَامةً: حَسُن وجهه، وهو وَسِيمٌ
(3)
. (فَلَمَّا دَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(1)
"المرعاة" 9/ 36 - 37.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 189.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 660.
مَرَّتْ بِهِ ظُعُنٌ) قال النوويّ رحمه الله: الظُّعُنُ بضمّ الظاء، والعين، ويجوز إسكان العين: جميع ظَعِينة، كسَفِينة وسُفُن، وأصل الظَّعِينة البعير الذي عليه امرأة، ثم تُسَمَّى به المرأة مجازًا؛ لملابستها البعير، كما أن الراوية أصلها الجمل الذي يَحْمِل الماء، ثم تُسَمَّى به القِرْبة؛ لما ذكرناه. انتهى
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: ظَعَنَ ظَعْنًا، من باب نَفَعَ: ارتحَلَ، والاسم ظَعَنٌ بفتحتين، ويتعدّى بالهمزة، وبالحرف، فيقال: أظعنته، وظَعَنْتُ به، والفاعل ظاعنٌ، والمفعول مظعونٌ، والأصل مظعون به، ولكن حُذِفت الصلة؛ لكثرة الاستعمال، وباسم المفعول سُمّي الرجل، ويقال للمرأة: ظَعِينةٌ، فَعِيلةٌ بمعنى مفعولة؛ لأن زوجها يَظْعَن بها - أي: يَرْحَل بها - ويقال: الظَّعِينة: الْهَوْدَجُ، وسواء كان فيه امرأة أم لا، ويقال: الظَّعِينة في الأصل وصفٌ للمرأة في هَوْدجها، ثمّ سُمّيت بهذا الاسم، وإن كانت في بيتها؛ لأنها تصير مظعونةً. انتهى
(2)
.
(يَجْرِينَ) بضمّ حرف المضارعة، من الإجراء؛ أي: يُجرين رواحلهنّ، أو بفتحها، من الجري؛ أي: يُسرعن في سيرهنّ (فَطَفِقَ) من بابي فَرِحَ، وضَرَبَ، طَفْقًا وطُفُوقًا؛ أي: شرع، وأخذ (الْفَضْلُ) رضي الله عنه (يَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ) أي: إلى الظُّعُن (فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ) أي: ليمنعه من النظر إليهنّ، قال النوويّ رحمه الله: فيه الحثّ على غضّ البصر عن الأجنبيات، وغضهنّ عن الرجال الأجانب، وهذا معنى قوله:"وكان أبيضَ وَسِيمًا حَسَنَ الشعر"، يعنى أنه بصفة مَن تُفْتَتن النساء به؛ لحسنه، وفي رواية الترمذيّ وغيره في هذا الحديث: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَوَى عنق الفضل، فقال له العباس: لَوَيتَ عنق ابن عمك؟ قال: "رأيت شابًّا وشابّة، فلم آمن الشيطان عليهما"، فهذا يدلُّ على أن وضعه صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل، كان لدفع الفتنة عنه وعنها، وفيه أن من رأى منكرًا، وأمكنه إزالته بيده لزمه إزالته، فإن قال بلسانه، ولم ينكَفّ المقول له، وأمكنه بيده، أثم ما دام مقتصرًا على اللسان، والله أعلم. انتهى
(3)
.
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 189 - 190.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 385.
(3)
"شرح النوويّ" 8/ 190.
وقال القرطبي رحمه الله: ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل: إنما كان خوفًا من الفتنة عليه، وكونه صلى الله عليه وسلم لم ينهه عن ذلك ولم يزجره؛ دليل: على أنه لم يفعل محرمًا، وقال بعض مشايخنا: ستر الوجه عن النساء سُنَّة، وكان الحجاب على أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم واجبًا. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال القرطبي رحمه الله، والأوجه ما سبق عن النوويّ رحمه الله، فتأمّل، والله تعالى أعلم.
(فَحَوَّلَ الْفَضْلُ وَجْهَهُ إِلَى الشِّقِّ) بكسر الشين المعجمة؛ أي: الجانب (الْآخَرِ) أي: غير الجانب الذي صرفه منه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقوله:(يَنْظُرُ) حال من الفضل (فَحَوَّلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ مِنَ الشِّقِّ الْآخَرِ) أي: من جهة الجانب الذي صرف منه وجه الفضل إلى الجهة الثانية التي ينظر منها مرّة أخرى (عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ) متعلّق بـ "حوّل"، وقوله:(يَصْرِفُ وَجْهَهُ) حال من "رسول الله"؛ أي: حال كونه صلى الله عليه وسلم صارفًا وجه الفضل (مِنَ الشِّقِّ الْآخَرِ) أي: من الجانب الثاني الذي ينظر فيه إليهنّ، والمراد أنه صلى الله عليه وسلم منعه من النظر إليهنّ مرّة ثانية من الجانب الثاني، وقوله:(يَنْظُرُ) حال أيضًا.
(حَتى أتى) غاية لدفعه صلى الله عليه وسلم؛ أي: إلى أن أتى (بَطْنَ مُحَسِّرٍ) بضم الميم، وفتح الحاء، وكسر السين المشددة المهملتين، اختَلَفوا فيه، فقيل: هو واد بين مزدلفة ومنى، قال ابن القيّم رحمه الله: ومُحَسِّرٌ بَرْزخ بين منى ومزدلفة، لا من هذه ولا من هذه، وقيل: ما صبّ منه في المزدلفة فهو منها، وما صبّ منه في منى فهو منها، وصوّبه بعضهم، وقد جاء في الحديث:"والمزدلفة كلها موقف، إلا بطن محسّر"
(2)
، فيكون على هذا قد أطلق بطن محسّر، والمراد منه ما خرج من مزدلفة، وإطلاق اسم الكلّ على البعض جائزٌ مجازًا شائعًا.
وقال الطحاويّ: ليس وادي محسّر من منى، ولا من المزدلفة، فالاستثناء في قوله:"إلا بطن محسّر" منقطع.
(1)
"المفهم" 3/ 339.
(2)
أخرجه مالك في "الموطّإ" مرفوعًا بلاغًا، ثم أخرجه موصولًا موقوفًا على ابن الزبير، وهو حديث صحيح، كما قال الشيخ الألبانيّ رحمه الله.
وسُمِّي بذلك؛ لأن فِيل أصحاب الفيل حُصِر فيه؛ أي: أعيا فيه، وَكَلَّ ومنه قوله تعالى:{يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4]، قاله النوويّ رحمه الله.
وقيل: لأنه يحسّر سالكينه، ويُتعبهم، يقال: حسّرت الناقة: أتعبتها، وأهل مكة يسمّون هذا الوادي وادي النار، يقال: إن رجلًا اصطاد فيه، فنزلت نار، فأحرقته
(1)
.
(فَحَرَّكَ قَلِيلًا) أي: حرّك صلى الله عليه وسلم ناقته تحريكًا قليلًا، أو زمانًا قليلًا، أو مكانًا قليلًا؛ أي: يسيرًا، وصح أنه صلى الله عليه وسلم لما أتى محسرًا أسرع ناقته حتى جاوز الوادي، قال النوويّ: قدر رمية حجر، قال القاري: وأما ما صحّ عن ابن عباس وأسامة رضي الله عنهم أنه صلى الله عليه وسلم تركه من عرفة إلى منى، فمحمول على أنه تركه عند الزحمة؛ لأن الإثبات مقدم، لا سيما وهو أكثر رواةً، وأصح إسنادًا، وقد يُحْمَل على أنه أسرع في بعضه، وترك الإسراع في كلّه، مع أن القياس استبقاؤه خشية المزاحمة الموجبة للوحشة، مع وجود الكثرة.
قال: ويُسَنّ أن يقول المارّ به ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما،
(2)
وروى الطبرانيّ بعضه مرفوعًا:
إِلَيْكَ تَعْدُو قَلِقًا وَضِينُهَا
…
مُعْتَرِضًا فِي بَطْنِهَا جَنِينُهَا
مُخَالِفًا دِينَ النَّصَارَى دِينُهَا
…
قَدْ ذَهَبَ الشَّحْمُ الَّذِي يَزِينُهَا
"الوضين": بِطَانٌ عَريضٌ يُنسَج من سُيُور، أو شَعَر، أو لا يكون إلا من
(1)
راجع: "المرعاة" 9/ 37، والحكاية الأخيرة تحتاج إلى النظر في سندها، فأين هو؟ والله تعالى أعلم.
(2)
جعله أبو بكر بن أبي شيبة رحمه الله لعمر رضي الله عنه، دون الشطر الأخير، لا لابن عمر رضي الله عنهما، فقال في "مصنفه" 3/ 427:
(15645)
- حدّثنا علي بن هاشم، عن هشام، عن أبيه، قال: كان عمر يوضع، يقول:
إليك تعدو قلقًا وضِينها
…
معترض في بطنها جنينها
مخالف دين النصارى دينها
وهذا الإسناد رجاله رجال الحسن، فإن علي بن هاشم صدوقٌ.
جلد، كذا في "القاموس"
(1)
.
وذكر النوويّ رحمه الله في "المجموع" البيت الأول فقط، ونصّه:
قال أصحابنا: واستُحِبّ الإسراع فيه؛ للاقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، ولأن وادي محسِّرٍ كان موقف النصارى، فاستُحِب مخالفتهم، واستدلوا بما رواه البيهقيّ بإسناده، عن الْمِسْوَر بن مَخْرَمة، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يُوضِع، ويقول:
إَلَيْكَ تَعْدُو قَلِقًا وَضِينُهَا
…
مُخَالِفًا دِينَ النَّصَارى دِينُهَا
قال البيهقيّ: يعني الإيضاع في وادي محسَّر، ومعنى هذا البيت: أن ناقتي تَعْدُو إليك يا رب مسرعةً في طاعتك، قَلِقًا وَضِينُها، وهو الحبل الذي كالْحِزَام، وإنما صار قَلِقًا من كثرة السير، والإقبال التامّ، والاجهاد البالغ في طاعتك، والمراد صاحب الناقة، وقوله:"مخالفًا دين النصارى دينها" بنصب "دينَ النصارى"، ورفع "دِينُها"؛ أي: إني لا أفعل فعل النصارى، ولا أعتقد اعتقادهم، قال القاضي حسين في "تعليقه": يُستحب للمارّ بوادي محسر أن يقول هذا الذي قاله عمر رضي الله عنه، والله تعالى أعلم
(2)
.
قال النوويّ رحمه الله: وأما قوله: "فحَرَّك قليلًا" فهي سنة من سنن السير في ذلك الموضع، قال أصحابنا: يُسْرع الماشي، ويُحَرِّك الراكب دابته في وادي مُحَسِّر، ويكون ذلك قدر رَمْيَةِ حجر. انتهى.
وقال الشافعيّ رحمه الله في "الأُمّ"؛ وتحريكه صلى الله عليه وسلم الراحلة فيه يجوز أن يكون فعل ذلك لسعة الموضع، قال الطبريّ: وهكذا كلُّ من خرج من مضيق في فضاء جرت العادة بتحريكه فيه، وقيل: يجوز أن يكون فعله؛ لأنه مأوى الشياطين، وقيل: لأنه كان موقفًا للنصارى، فاستُحبّ الإسراع فيه.
وقال الإسنويّ رحمه الله: وظهر لي معنى آخر في حكمة الإسراع، وهو أنه مكان نزل فيه العذاب على أصحاب الفيل القاصدين هدم البيت، فاستُحبّ فيه الإسراع؛ لما ثبت في "الصحيح" أمره صلى الله عليه وسلم المارّ على ديار ثمود ونحوهم بذلك.
(1)
"القاموس المحيط" 4/ 276.
(2)
"المجموع" 8/ 127 - 128.
قال ابن القيّم رحمه الله: وهذه عادته صلى الله عليه وسلم في المواضع التي نزل بها بأس الله بأعدائه، وكذلك فعل في سلوكه الْحِجر، وديار ثمود تقنّع بثوبه، وأسرع السير. انتهى.
وقال الشاه وليّ الله الدهلويّ رحمه الله: إنما أوضع صلى الله عليه وسلم بالْمُحَسَّر لأنه محلّ هلاك أصحاب الفيل، فمِن شأن من يخاف الله وسطوته أن يستشعر الخوف في ذلك الموطن، ويهرُب من الغضب، ولَمّا كان استشعاره أمرًا خفيًّا ضُبِطَ بفعل ظاهر، مُذكِّر له، منبِّه للنفس عليه - أي: وهو الإسراع. انتهى.
قال الزرقانيّ رحمه الله: وهذا الجواب - أي: ما قاله الطبريّ، وابن القيّم، والإسنويّ في وجه التسمية بالمحسَّر، وفي حكمة الإسراع فيه - مبنيّ على قول، الأصل خلافه، وهو أن أصحاب الفيل لم يدخلوا الحرم، وإنما أهلكوا قرب أوله.
وقال القاري رحمه الله: المرجّح عند غير هؤلاء أنهم لم يدخلوه، وإنما أصابهم العذاب قبيل الحرم قرب عرفة، فلم ينج منهم إلا واحد أخبر مَن وراءهم. انتهى
(1)
.
(ثُمَّ سَلَكَ) صلى الله عليه وسلم (الطَّرِيقَ الْوُسْطَى) وهي غير طريق ذهابه إلى عرفات، وذلك كان بطريق ضبّ، وهذا طريق المأزِمين، وهما جبلان، قال النوويّ رحمه الله: فيه أن سلوك هذا الطريق في الرجوع من عرفات سنة، وهو غير الطريق الذي ذهب فيه إلى عرفات، وهذا معنى قول أصحابنا؛ يذهب إلى عرفات في طريق ضَبّ، ويرجع في طريق المأزِمين؛ ليخالف الطريق، تفاؤلًا بتغير الحال، كما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم في دخول مكة حين دخلها من الثنية العليا، وخرج من الثنية السفلى، وخرج إلى العيد في طريق، ورجع في طريق آخر، وحَوَّل رداءه في الاستسقاء. انتهى
(2)
.
(الَّتِي تَخْرُجُ) وفي رواية أبي داود، والنسائيّ، وابن ماجه:"التي تُخرجك"(عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى) قال النوويّ رحمه الله: الجمرة الكبرى هي جمرة العقبة، وهي الجمرة التي عند الشجرة، وقوله:(حَتَّى أَتَى) غاية لسلوكه صلى الله عليه وسلم؛
(1)
"المرعاة" 9/ 37 - 38.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 190.
أي: إلى أن وصل (الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ) أي: جمرة العقبة، وهذا يدلّ على أنه كان إذ ذاك هناك شجرة (فَرَمَاهَا) أي: ضحًى، كما جاء في الرواية الأخرى.
قال الشاه وليّ الله الدهلويّ رحمه الله: والسر في رمي الجمار ما ورد في نفس الحديث، من أنه إنما جعل لإقامة ذكر الله، وتفصيله أن أحسن أنواع توقيت الذكر، وأكملها، وأجمعها لوجوه التوقيت، أن يُوَقَّت بزمان، وبمكان، ويقام معه ما يكون حافظأ لعدده، محقّقًا لوجوده، على رءوس الأشهاد، حيث لا يخفى شيء، وذكر الله تعالى نوعان: نوع يقصد به الإعلان بانقياده لدين الله، والأصل فيه اختيار مجامع الناس، دون الإكثار، ومنه الرمي، ولذلك لم يؤمر بالإكثار هناك، ونوع يقصد به انصياع النفس بالتطلع للجبروت، وفيه الإكثار، وأيضًا ورد في الأخبار ما يقتضي أنه سنة سَنّها إبراهيم؛ حين طرد الشيطان، ففي حكاية مثل هذا الفعل تنبيهٌ للنفس أيُّ تنبيه. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: أحسن ما ذُكر من حكمة تشريع رمي الجمار، هو ما جاء عن ابن عبّاس رضي الله عنهما يرفعه قال:"لَمّا أتى إبراهيم خليل الله المناسك، عَرَض له الشيطان عند جمرة العقبة، فرماه بسبع حصيات، حتى ساخ في الأرض، ثم عَرَض له عند الجمرة الثانية، فرماه بسبع حصيات، حتى ساخ في الأرض، ثم عَرَض له عند الجمرة الثالثة، فرماه بسبع حصيات، حتى ساخ في الأرض"، قال ابن عباس:"الشيطانَ ترجمون، وملةَ أبيكم تتّبعون"، أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه"، والحاكم واللفظ له، وصححه على شرط الشيخين.
وقال النوويّ رحمه الله: فيه أن السنة للحاجّ إذا دفع من مزدلفة، فوصل منى أن يبدأ بجمرة العقبة، ولا يفعل شيئًا قبل رميها، ويكون ذلك قبل نزوله.
قال: وأما حكم الرمي، فالمشروع منه يوم النحر رمي جمرة العقبة لا غير، بإجماع المسلمين، وهو نسك بإجماعهم، ومذهبنا أنه واجب ليس بركن، فإن تركه حتى فاتته أيام الرمي عصى، ولزمه دم، وصحّ حجه، وقال مالك: يفسد حجه. انتهى
(2)
.
(1)
"حجة الله البالغة" 1/ 544.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 191.
(بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ) متعلّق بـ "رماها"، وفيه أن الرمي يكون بسبع حصيات، قال النوويّ رحمه الله: ويجب رميها بسبع حصيات، فلو بقيت منهنّ واحدة لم تكفه الست. انتهى، وعند الحنفيّة إذا ترك أكثر السبع لزمه دئم، كما لو لم يرم أصلًا، وإن ترك أقلّ منه، كثلاث فما دونها، فعليه لكلّ حصاة صدقةٌ، ولا يشترط الموالاة بين الرميات، بل يُسنّ، ويكره تركها.
وقال النوويّ: ولا يجوز عند الشافعيّ، والجمهور الرمي بالكحل، والزرنيخ، والذهب، والفضة، وغير ذلك مما لا يُسَمّى حجرًا، وجوّزه أبو حنيفة بكل ما كان من أجزاء الأرض؛ أي: من جنسها؛ كالحجر، والمدر، والتبن، والْمَغَرة، وكلّ ما يجوز التيمّم به.
(يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا) قال النوويّ رحمه الله: فيه أنه يُسَنّ التكبير مع كل حصاة، وفيه أنه يجب التفريق بين الحصيات، فيرميهنّ واحدة واحدةً، فإن رَمَى السبعة رميةً واحدةً حُسِب ذلك كله حصاة واحدة عندنا وعند الأكثرين، وموضع الدلالة لهذه المسألة:"يكبر مع كل حصاة"، فهذا تصريح بأنه رمى كلَّ حصاة وحدها، مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآتي بعد هذا، في أحاديث الرمي:"لتأخذوا عني مناسككم". انتهى.
(مِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ) بجرّ "مثل" على البدليّة من "حصاة"، ويجوز قطعه إلى الرفع، والنصب، بتقدير "هي"، و"أعني".
و"الخَذْف" بفتح الخاء، وسكون الذال المعجمة، قال في "النهاية": الخذف: هو رَمْيُك حصاةً، أو نواةً تأخذها بين سبّابتيك، وترمي بها، والمراد بيان مقدار الحصى التي يُرمى بها في الصغر والكبر، وفسّروا حصى الخذف بقدر حبّة الباقلّاء.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: خَذَفتُ الحصاةَ ونحوَها خَذْفًا، من باب ضرب: رميتها بطرفي الإبهام والسبّابة، وقولهم: يأخذ حصى الخذف: معناه: حصى الرمي، والمراد الحصى الصغار، لكنه أُطلق مجازًا. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: وفيه أن الرمي بسبع حصيات، وأن قدرهنّ بقدر
(1)
"المصباح المنير" 1/ 165.
حصى الخذف، وهو نحو حَبّة الباقلّاء، وينبغي ألا يكون أكبر، ولا أصغر، فإن كان أكبر، أو أصغر، أجزأه بشرط كونها حجرًا. انتهى.
وقال المحبّ الطبريّ: قال عطاء بن أبي رَبَاح: حصى الخذف مثل طرف الأصابع، وقال الشافعيّ: هو أصغر من الأنملة طولًا وعرضًا، ومنهم من قال: كقدر النواة، ومنهم من قال: بقدر الباقلّاء، وفيه تنبيه على استحباب الرمي بذلك. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: قوله: "مثل حصى الخذف" هكذا هو في بعض نسخ مسلم بإثبات لفظة "مثل"، وهو الذي وقع في نسخة "شرح الأبيّ"، ونسخة محمد ذهني، وكذا هو عند أبي داود، والبيهقيّ، وقع في أكثر نسخ مسلم بإسقاطها، ولفظه:"فرماها بسبع حصيات، يكبّر مع كلّ حصاة منها"، حصى الخذف، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في النسخ، وكذا نقله القاضي عياض عن معظم النسخ، قال: وصوابه "مثل حصى الخذف"، قال: وكذلك رواه غير مسلم، وكذا رواه بعض رواة مسلم. انتهى كلام القاضي.
قال النوويّ: والذي في النسخ من غير لفظة "مثل" هو الصواب، بل لا يتجه غيره، ولا يتم الكلام إلا كذلك، ويكون قوله:"حصى الخذف" متعلقًا بـ "حصيات"؛ أي: رماها بسبع حصيات حصى الخذف، يكبر مع كل حصاة، فحصى الخذف متصل بحصيات، واعتَرَض بينهما "يكبر مع كل حصاة"، وهذا هو الصواب. انتهى كلام النوويّ.
قال القاري رحمه الله بعد نقل كلام النوويّ هذا -: وعندي أن اتصال "حصى الخذف" بقوله: "مع كل حصاة" أقرب لفظًا، وأنسب معنى، ومع هذا لا اعتراض، ولا تخطئة على إحدى النسختين، فإن تعلقه بحصاة، أو حصيات لا ينافي وجود "مثل" لفظًا، أو تقديرًا، غايته أنه إذا كان موجودًا فهو واضح معنى، وإلا فيكون من باب التشبيه البليغ، وهو حذف أداة التشبيه، أي: كحصى الخذف، بل لا يظهر للتعلق غير هذا المعنى، فالروايتان صحيحتان، وما سيأتي في الحديث عن جابر رضي الله عنه، رواه الترمذي بلفظ: "وأمرهم أن يرموا
(1)
"المرعاة" 9/ 39.
بمثل حصى الخذف"، ورَوَى مسلم عنه بلفظ: "رمى الجمرة بمثل حصى الخذف" يُرَجِّح وجود المثل، ويؤيّد تقديره. انتهى كلام القاري رحمه الله
(1)
، وهو تحقيق مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
وقوله: (رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي) بدل من قوله: "فرماها"، أو استئناف بيانيّ، وهو الأظهر، كما قال القاري، والاستئناف البياني ما وقع جوابًا عن سؤال مقدّر، والتقدير هنا: من أين رمى؟ فأجاب بأنه رمى من بطن الوادي، والله تعالى أعلم.
قال النوويّ رحمه الله: وفيه أن السنة أن يقف للرمي في بطن الوادي، بحيث تكون منى وعرفات والمزدلفة عن يمينه، ومكة عن يساره، وهذا هو الصحيح الذي جاءت به الأحاديث الصحيحة، وقيل: يَقِف مستقبل الكعبة، وكيفما رمى أجزأه، بحيث يسمى رميًا بما يسمى حجرًا، والله أعلم. انتهى.
(ثُمَّ انْصَرَفَ) أي: رجع صلى الله عليه وسلم عن جمرة العقبة (إِلَى الْمَنْحَرِ) بفتح الميم؛ أي: موضع نحر البدن، قال القاري رحمه الله: والآن يقال له: المذبح؛ لعدم النحر، أو تغليبأ للأكثر، كما غلب في الأول للأفضل، وهو قريب من جمرة العقبة، وأما ما اشتهر من صورة مسجد بُنِي قريب من الجمرة الوسطى، منحرف عن الطريق إلى جهة اليمن، وبُني بإزائه على الطريق مسجدٌ، تسميه العامة مسجد النحر، فليس هو، بل الأصح أن منحره صلى الله عليه وسلم في منزله الذي بقرب مسجد الخيف، متقدمًا على قبلة مسجد الخيف. انتهى
(2)
.
وقال الزرقانيّ: المنحر موضع معروفٌ بمنى، وكلُّها منحر، كما في الحديث، قال ابن التين: منحر النبيّ صلى الله عليه وسلم عند الجمرة الأولى التي تلي المسجد، فللنحر فيه فضيلة على غيره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"هذا المنحر، وكلُّ منى منحرٌ"، وقال عياض: فيه دليلٌ على أن المنحر موضع معيّنٌ من منى، وحيث يَذبح منها أو من المحرم أجزأه. انتهى.
(فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في النسخ "ثلاثًا
(1)
"مرقاة المفاتيح" 5/ 474.
(2)
"مرقاة المفاتيح" 5/ 475.
وستين بيده"، وكذا نقله القاضي عن جميع الرواة، سوى ابن ماهان، فإنه رواه "بدنةً"، قال: وكلامه صوابٌ، والأول أصوب، قال النوويّ: وكلاهما صحيح، فنحر ثلاثًا وستين بدنةً بيده.
وقال المحبّ الطبريّ رحمه الله: قوله: "ثلاثًا وستين بيده" فيه استحباب ذبح المرءِ هديه بنفسه، وعند ابن ماهان:"بدنة" مكان "بيده"، وكلّ صوابٌ، و"بيده" أصوب؛ لقوله:"ثم أعطى عليًّا، فنحر ما غَبَرَ"، ويجوز أن يقال:"بدنةً" أصوب؛ لأن قوله: "بيده" لا يفيد أن المنحور بدنة، أو غيرها، بخلاف قوله:"بدنةً"، وإسناد الفعل إليه يفيد أنه فعل بنفسه من حيث الظاهر، فلا حاجة إلى قوله:"بيده"، وذكر بعض أهل المعاني أن نحر النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاثًا وستين بدنة إشارة إلى منتهى عمره، ويكون قد أهدى من كلّ عام بدنة. انتهى.
وقال الشاه وليّ الله الدهلويّ: إنما نحر صلى الله عليه وسلم بيده هذا العدد؛ ليشكر ما أولاه الله تعالى في كلّ سنة من عمره ببدنة. انتهى
(1)
.
وفيه استحباب تكثير الهدي، وكان هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم في تلك السنة مائة بدنة، كما يأتي قريبًا.
وقال القرطبي رحمه الله: قوله: "فنحر ثلاثًا وستين بيده" هكذا رواية الجماعة، وعند ابن ماهان:"بدنة" مكان "بيده" وكلٌّ صواب، وفيه ما يدل على أن الأولى للمهدي أو للمضحي أن يتولى ذلك بيده.
وإعطاؤه ما بقي لعليٍّ لينحرها دليل على صحة النيابة في ذلك، غير أنه روي في غير كتاب مسلم: أنه إنّما أعطاه إياها ليهديها عن نفسه، ويدل عليه قوله:"وأشركه في هديه" وعلى هذا: فلا يكون فيه حجة على الاستنابة، وقيل: إنما نحر النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاثًا وستين بدنة؛ لأنها هي التي أتى بها من المدينة، كما ذكره الترمذيّ، وقيل: إنما خصَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك العدد؛ لأنه منتهى عمره؛ على ما هو الأصح في ذلك، فكأنه أهدى عن كل سنة من عمره بدنة. انتهى
(2)
.
(ثُمَّ أَعْطَى) بالبناء للفاعل (عَلِيًّا) رضي الله عنه، والمفعول الثاني محذوف؛ أي:
(1)
راجع: "المرعاة" 9/ 40.
(2)
"المفهم" 3/ 341.
بقيّة البُدْن (فَنَحَرَ) بالبناء للفاعل؛ أي: نحر عليّ رضي الله عنه (مَا غَبَرَ)"ما" موصولة مفعول "نحر"، و"غبر" بفتح الغين المعجمة، وفتح الموحّدة، مبنيًّا للفاعل؛ أي: بقي، يقال: غَبَر الشيءُ غُبُورًا، من باب قعد: بقي، وقد يُستعمل فيما مضى أيضًا، فيكون من الأضداد، وقال الزُّبيديّ: غَبَر غُبُورًا: مَكَثَ، وفي لغة بالمهملة للماضي، وبالمعجمة للباقي، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
وفيه جواز الاستنابة في نحر الهدي، وذلك جائز بالإجماع إذا كان النائب مسلمًا، قال النوويّ: ويجوز عندنا أن يكون النائب كافرًا كتابيًّا بشرط أن ينوي صاحب الهدي عند دفعه إليه، أو عند ذبحه، وفيه أيضًا استحباب تعجيل ذبح الهدايا، وإن كانت كثيرة في يوم النحر، ولا يؤخر بعضها إلى أيام التشريق. انتهى.
(وَأَشْرَكَهُ) أي: أشرك النبيّ صلى الله عليه وسلم عليًّا رضي الله عنه (فِي هَدْيِهِ) قال النوويّ رحمه الله: ظاهره أنه شاركه في نفس الهدي، قال القاضي عياض رحمه الله: وعندي أنه لم يكن تشريكًا حقيقةً، بل أعطاه قدرًا يذبحه. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: روى أبو داود عن عليّ رضي الله عنه: لَمّا نَحَر رسول الله صلى الله عليه وسلم بُدنه، فنحر ثلاثين بيده، وأمرني، فنحرت سائرها، وفيه محمد بن إسحاق، وهو مدلّسٌ، وقد عنعنه، وبه أعلّه ابن المنذر.
وروى أبو داود أيضًا عن غرفة
(3)
بن الحارث الكِنْديّ رضي الله عنه، قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وأُتي بالبدن، فقال:"ادعوا لي أبا حسن"، فدُعي له عليّ، فقال:"خذ بأسفل الحربة"، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلاها، ثم طعنا بها البدن، فلما فرغا ركب بغلته، وأردف عليًّا.
وجمع الوليّ العراقيّ رحمه الله باحتمال أنه صلى الله عليه وسلم انفرد بنحر ثلاثين بدنة، وهي التي في حديث عليّ، واشترك هو وعليّ في نحر ثلاث وثلاثين بدنةً، وهي المذكورة في حديث غرفة، وقول جابر:"نحر ثلاثًا وستين"، مراده: كلّ ما له
(1)
"المصباح المنير" 2/ 442.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 192.
(3)
"غرفة" بغين معجمة مفتوحة، وقيل: مهملة، وهو وَهَمٌ، وقال الخزرجيّ: بضمّ أوله، وإسكان ثانيه، وقال الْفَتَّنيّ في "المغني": بغين، وراء، وفاء مفتوحات.
دخلٌ في نحره، إما منفردًا به، أو مع مشاركة عليّ رضي الله عنه.
وجمع الحافظ رحمه الله بين حديثي عليّ وجابر رضي الله عنهما بأنه صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثين، ثم أمر عليًّا أن ينحر، فنحر سبعًا وثلاثين، ثم نحر صلى الله عليه وسلم ثلاثًا وثلاثين، قال: فإن ساغ هذا، وإلا فما في "الصحيح" أصحّ؛ أي: مع مشاركة عليّ؛ ليلتئم مع حديث غرفة، وإن لم يذكره.
وقال عياض رحمه الله: والظاهر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحر الْبُدْن التي جاءت معه من المدينة، وكانت ثلاثًا وستين، كما جاء في رواية الترمذيّ، وأعطى عليًّا البدن التي جاءت معه من اليمن، وهي تمام المائة. انتهى.
وقال الطبريّ رحمه الله بعد ذكر حديث غرفة: يجوز أن يكون هذا في غير المائة المذكورة، أو يكون في الثلاث والستين منها، وأُضيف الفعل إليه صلى الله عليه وسلم؛ لأن من مسك بأعلى الحربة كان هو المتمكّن من النحر دون الآخر، والله أعلم.
وقد روى أنس رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحر في حجته سبع بدنات، أخرجه البخاريّ، وذكره ابن حزم، وقال في الجمع بين الأحاديث: يُخَرَّج هذا على وجوه:
أحدها: أنه صلى الله عليه وسلم لم ينحر بيده أكثر من هذه السبع، وأمر من نحر من بعد ذلك إلى ثلاث وستين بحضرته، ثم غاب، وأمر عليًّا بنحر ما بقي إما بنفسه، أو بالإشراف على ذلك.
الثاني: أن يكون أنس رضي الله عنه لم يشاهد إلا نحره صلى الله عليه وسلم سبعًا فقط بيده، وشاهد جابر تمام نحره صلى الله عليه وسلم الباقي، فأخبر كلّ منهما بما رأى.
الثالث: أنه نحر بيده منفردًا سبع بدنات، ثم أخذ هو وعليّ الحربة، فنحرا كذلك تمام ثلاث وستين، كما قاله غرفة بن الحارث الكنديّ، ثم انفرد عليّ بنحر الباقي من المائة، كما قال جابر.
قال ابن القيّم رحمه الله: [فإن قيل]: فكيف تصنعون بالحديث الذي رواه أحمد، وأبو داود عن عليّ رضي الله عنه، قال: لَمّا نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بُدنه، فنحر ثلاثين بيده، وأمرني فنحرت سائرها؟
[قلنا]: هذا غلطٌ، انقلب على الراوي، فإن الذي نحر ثلاثين هو
عليّ رضي الله عنه، والنبيّ صلى الله عليه وسلم نحر سبعًا بيده، لم يشاهده عليّ، ولا جابر، ثم نحر ثلاثًا وستين أخرى، فبقي من المائة ثلاثون، فنحرها عليّ، فانقلب على الراوي عدد ما نحره عليّ بما نحره النبيّ صلى الله عليه وسلم.
[فإن قيل]: فما تصنعون بحديث عبد الله بن قُرط، قال: قرّب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بدنات خمس، فطفِقن يزدلفن إليه بأيتهنّ يبدأ
…
الحديث، أخرجه أبو داود، وغيره؛
[قيل]: نقبله، ونصدّقه، فإن المائة لم تقرب إليه جملة، وإنما كانت تقرب إليه أرسالًا، فقرّب منهنّ إليه خمس بدنات رسلًا، وكان ذلك الرسل يُبادرن، ويتقرّبن إليه ليبدأ بكلّ واحدة منهن. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله، وهو تحقيقٌ حسنٌ، والله تعالى أعلم.
وقال الطبريّ رحمه الله بعد ذكر وجوه الجمع المذكورة عن ابن حزم: ليس في واحد من هذه الوجوه الثلاثة جمع بين الأحاديث الثلاثة، فان الأول والثاني يخرج منهما حديث غرفة، والثالث يخرج منه حديث جابر، والأولى أن يقال: نحر سبعًا منفردًا، ثم تمام الثلاث والستين هو وعليّ رضي الله عنه، ونُسب الفعل إليه صلى الله عليه وسلم لما ذكاناه، ثم أمر عليًّا بنحر ما بقي من المائة، والله تعالى أعلم
(1)
.
(ثُمَّ أَمَرَ) بالبناء للفاعل؛ أي: أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم (مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ) أي: من المائة (بِبَضْعَةٍ) بفتح الباء الثانية؛ أي: بقطعة من لحمها، قال النوويّ: البضعة بفتح الباء لا غير، وهي القطعة من اللحم، وقال الجوهريّ: هذه بالفتح، وأخواتها بالكسر، مثل القِطعة، والْفِلْذة، والْفِدرة، والكِسفة، والخرقة، وفي العدد تُكسر وتفتح، مذكرًا كان أو مؤنّثًا -. انتهى
(2)
.
(فَجُعِلَتْ) بالبناء للمفعول؛ أي: جُعلت تلك القطع (فِي قِدْرٍ) بكسر القاف: لأنْ يُطبخ فيه، وهي مؤنثة، ولهذا تدخل الهاء في التصغير، فيقال: قُديرةٌ، وجمعها قُدُورٌ، مثلُ حَمْل وحُمُول
(3)
. (فَطُبِخَتْ) بالبناء للمفعول (فَأَكَلَا مِنْ لَحْمِهَا، وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا) قال المظهر: الضمير المؤنّث يعود إلى القدر؛
(1)
"المرعاة" 9/ 41 - 42.
(2)
"المرعاة" 9/ 42.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 492.
لأنها مؤنثٌ سماعيّ، قال الطيبيّ رحمه الله: ويَحْتَمِل أن يعود إلى الهدايا.
قال النوويّ: وفيه استحباب الأكل من هدي التطوع، وأضحيته، قال العلماء: لَمّا كان الأكل من كل واحدة سنةً، وفي الأكل من كل واحدة من المائة منفردةً كُلْفة، جُعِلت في قدر؛ أي: جُمعت في قدر واحدة؛ ليكون تناوله من مرق الجميع كالأكل من اللحم المجتمع في المرق ما تيسر، وأجمع العلماء على أن الأكل من هدي التطوع، وأضحيته سنة، ليس بواجب، وقد استُدلّ به على جواز الأكل من هدي المتعة والقران على القول بأنه صلى الله عليه وسلم كان متمتّعًا، أو قارنًا.
وقد تقدّم أن الأصحّ عند المحقّقين من الشافعيّة أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنًا في آخره، فيُرد عليهم أنه كيف أكل من هداياه، وكان فيها دم القران أيضًا، فلم يكن إذًا كلُّها هدايا تطوّع وأضحيّة، ولا يجوز الأكل من الهدي الواجب، كهدي التمتّع، والقران، والنذر في مذهب الشافعيّ؟
قال الطبريّ: ولا حجة في هذا الحديث عليهم؛ إذ الواجب عليه سُبُع بدنة، ويكون الأكل من حصّة التطوّع. انتهى، ولا يخفى ما فيه من التعسّف. قاله في "المرعاة"
(1)
.
وقال القرطبي رحمه الله: قوله: "ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدرٍ
…
إلخ"، إنما فعل هذا ليمتثل قوله تعالى:{فَكُلُوا مِنْهَا} [البقرة: 58]، وهما وإن لم يأكلا من كل بضعة، فقد شربا من مرق كل ذلك، وخصوصية عليّ رضي الله عنه بالمؤاكلة؛ دليل على أنه أشركه في الهدي.
وفيه دليل: على أن من حَلَف لا يأكل لحمًا فشرب مرقه: أنه يحنث.
وفيه دليل على استحباب أكل الأقل من الهدايا والضحايا، والتصدق بأكثر.
وفيه دليل على جواز أكل المهدي من هدي القران، وقد قدَّمنا: أنه كان قارنًا، وسيأتي حكم الأكل من الهدايا. انتهى
(2)
.
(ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ) أي: أسرع إلى بيت الله
(1)
"المرعاة" 9/ 42.
(2)
"المفهم" 3/ 341 - 342.
ليطوف به طواف الإفاضة، ويُسمّى أيضًا طواف الزيارة، وطواف الفرض والركن، قال الطبريّ: الإفاضة الدفع في السير، وقال ابن عرفة: أفاض من المكان: إذا أسرع منه لمكان آخر، وقال غيره: أصل الإفاضة الصبّ، فاستعير للدفع في السير، وأصله أفاض نفسه، أو راحلته، فرفضوا ذكر المفعول حتى أشبه غير المتعدّي.
وطواف الإفاضة هو الذي يكون إثر الإفاضة من منى إلى مكة، ويقال له أيضًا: طواف الزيارة، وطواف الفرض.
قال القرطبي رحمه الله: هذا الطواف هو طواف الإفاضة، وسُمِّي: طواف الزيارة، وهو واجب بإجماع، وهو الذي تناوله قوله تعالى:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)} [الحج: 29]، ولا خلاف أن إيقاعه يوم النحر أولى وأفضل، فلو أوقعه بعد يوم النحر، فهل يلزم الدم بتأخيره أم لا يلزم؟ واختلف فيه، وسيأتي، والجمهور على أن من ترك طواف الإفاضة؛ أن طواف الوداع لا يجزئ عنه إلا مالكًا، فإنه قال: يجزئ عنه إذا رجع إلى بلده، قال القاضي عياض: وكذلك طواف التطوُّع. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: هذا الطواف هو طواف الإفاضة، وهو ركن من أركان الحجّ بإجماع المسلمين، وأول وقته عندنا من نصف ليلة النحر، وأفضله بعد رمي جمرة العقبة، وذبح الهدي، والحلق، ويكون ذلك ضحوة يوم النحر، ويجوز في جميع يوم النحر بلا كراهة، ويكره تأخيره عنه بلا عذر، وتأخيره عن أيام التشريق أشدّ كراهة، ولا يحرم تأخيره سنين متطاولة، ولا آخر لوقته، بل يصحّ ما دام الإنسان حيًّا، وشرطه أن يكون بعد الوقوف بعرفات، حتى لو طاف للإفاضة بعد نصف ليلة النحر قبل الوقوف، ثم أسرع إلى عرفات، فوقف قبل الفجر لم يصحّ طوافه؛ لأنه قدمه على الوقوف، واتفق العلماء على أنه لا يشرع في طواف الإفاضة رملٌ، ولا اضطباع إذا كان قد رمل، واضطبع عقب طواف القدوم، ولو طاف بنية الوداع، أو القدوم، أو التطوع، وعليه طواف إفاضة وقع عن طواف الإفاضة بلا خلاف عندنا، نَصّ عليه الشافعيّ، واتفق
(1)
"المفهم" 3/ 342.
الأصحاب عليه، كما لو كان عليه حجة الإسلام، فحج بنيّة قضاء، أو نذر، أو تطوع، فإنه يقع عن حجة الإسلام.
وقال أبو حنيفة، وأكثر العلماء: لا يجزئ طواف الإفاضة بنيّة غيره.
قال: واعلم: أن طواف الإفاضة له أسماء، فيقال أيضًا: طواف الزيارة، وطواف الفرض والركن، وسمّاه بعض أصحابنا طواف الصَّدَر، وأنكره الجمهور، قالوا: وإنما طواف الصدر طواف الوداع. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
وعند الحنفيّة أول وقت طواف الإفاضة بعد طلوع الفجر يوم النحر، وهو في يوم النحر الأول أفضل، ويمتدّ إلى آخر العمر، فإن أخّره عن أيام النحر كُره تحريمًا، ووجب دم لترك الواجب، وهذا عند الإمكان، كذا في "الدرّ المختار".
وقال المحبّ الطبريّ: قد دلّت الأحاديث على استحباب وقوع طواف الإفاضة في يوم النحر، وأن يكون ضحوة النهار، وأول وقته عند الشافعيّة نصف الليل من ليلة النحر، بدليل حديث أم سلمة رضي الله عنها أنها رمت الجمرة قبل الفجر ليلة النحر، ثم مضت إلى مكة، فأفاضت. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما ذهب إليه الشافعيّة من أن أول وقت طواف الإفاضة من نصف ليلة النحر هو الأرجح؛ لحديث أم سلمة رضي الله عنها المذكور، والله تعالى أعلم.
(فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ) قال النوويّ رحمه الله: فيه محذوف، تقديره: فأفاض، فطاف بالبيت طواف الإفاضة، ثم صلى الظهر، فحُذف ذكر الطواف؛ لدلالة الكلام عليه، وأما قوله:"فصلى بمكة الظهر"، فقد ذكر مسلم بعد هذا في أحاديث طواف الإفاضة، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر، فصلى الظهر بمنى".
ووجه الجمع بينهما أنه صلى الله عليه وسلم طاف للإفاضة قبل الزوال، ثم صلى الظهر بمكة في أول وقتها، ثم رجع إلى منى، فصلى بها الظهر مرة أخرى بأصحابه،
(1)
"شرح النووي" 8/ 192 - 193.
(2)
"المرعاة" 9/ 43.
حين سألوه ذلك، فيكون متنفلًا بالظهر الثانية التي بمنى، وهذا كما ثبت في "الصحيحين" في صلاته صلى الله عليه وسلم ببطن نخل أحد أنواع صلاة الخوف، فإنه صلى الله عليه وسلم صلى بطائفة من أصحابه الصلاة بكمالها، وسلّم بهم، ثم صلى بالطائفة الأخرى تلك الصلاة مرة أخرى، فكانت له صلاتان، ولهم صلاة.
وأما الحديث الوارد عن عائشة وغيرها: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَخَّر الزيارة يوم النحر إلى الليل، فمحمول على أنه عاد للزيارة مع نسائه، لا لطواف الإفاضة، ولا بُدّ من هذا التأويل؛ للجمع بين الأحاديث. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال ابن القيّم رحمه الله في "الهدي": واختُلِف أين صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم الظهر يومئذ؟ ففي "الصحيحين"
(2)
عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر، ثم رجع، فصلى الظهر بمنى، وفي "صحيح مسلم" عن جابر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمكة، وكذلك قالت عائشة رضي الله عنها.
واختُلِف في ترجيح أحد هذين القولين على الآخر، فقال أبو محمد بن حزم: قول عائشة وجابر رضي الله عنهما أولى، وتبعه على هذا جماعة، ورجحوا هذا القول بوجوه:
[أحدها]: أنه رواية اثنين، وهما أولى من الواحد.
[الثاني]: أن عائشة رضي الله عنها أخص الناس به صلى الله عليه وسلم، ولها من القرب والاختصاص به، والمزية ما ليس لغيرها.
[الثالث]: أن سياق جابر رضي الله عنه لحجة النبيّ صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها أتمّ سياق، وقد حَفِظ القصة، وضبطها حتى ضبط جزئياتها، حتى ضبط منها أمرًا لا يتعلق بالمناسك، وهو نزول النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة جمْع في الطريق، فقضى حاجته عند الشِّعْب، ثم توضأ وضوءًا خفيفًا، فمن ضبط هذا القدر، فهو بضبط مكان صلاته يوم النحر أولى.
[الرابع]: أن حجة الوداع كانت في آذار، وهو تساوي الليل والنهار،
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 193.
(2)
هذا غلط، فليس حديث ابن عمر مما اتّفقا عليه، بل هو من أفراد مسلم، كما سيأتي، فتنبّه.
وقد دفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس إلى منى، وخطب بها الناس، ونحر بُدنًا عظيمة، وقسمها، وطُبخ له من لحمها، وأكل منه، ورمى الجمرة، وحلق رأسه، وتطيّب، ثم أفاض، فطاف، وشرب من ماء زمزم، ومن نبيذ السقاية، ووقف عليهم، وهم يسقون، وهذه أعمال تبدو في الأظهر أنها لا تنقضي في مقدار يمكن معه الرجوع إلى منى بحيث يدرك وقت الظهر في فصل آذار.
[الخامس]: أن هذين الحديثين جاريان مجرى الناقل والمبقي، فقد كانت عادته صلى الله عليه وسلم في حجته الصلاة في منزله الذي هو نازل فيه بالمسلمين، فجرى ابن عمر على العادة، وضبط جابر وعائشة رضي الله عنها الأمر الذي هو خارج عن عادته، فهو أولى بأن يكون هو المحفوظ.
ورجحت طائفة أخرى قول ابن عمر رضي الله عنهما لوجوه:
[أحدها]: أنه لو صلى الظهر بمكة لم تصلّ الصحابة بمنى وُحدانًا وزَرَافَات، بل لم يكن لهم بُدٌّ من الصلاة خلف إمام، يكون نائبًا عنه، ولم يَنقُل هذا أحد قطّ، ولا يقول أحد: إنه استناب من يصلي بهم، ولولا علمه أنه يرجع إليهم، فيصلي بهم لقال: إن حضرت الصلاة، ولست عندكم، فليصلّ بكم فلان، وحيث لم يقع هذا ولا هذا، ولا صلى الصحابة هناك وُحدانًا قطعًا، ولا كان من عادتهم إذا اجتمعوا أن يصلوا عِزِين عِزِين عُلِم أنهم صلوا معه على عادتهم.
[الثاني]: أنه لو صلى بمكة لكان خلفه بعض أهل البلد، وهم مقيمون، وكان يأمرهم أن يتموا صلاتهم، ولم ينقل أنهم قاموا، فأتموا بعد سلامه صلاتهم، وحيث لم يُنقل هذا، ولا هذا، بل هو معلوم الانتفاء قطعًا عُلِم أنه لم يصلّ حينئذ بمكة، وما ينقله بعض من لا علم عنده، أنه قال:"يا أهل مكة أتمّوا صلاتكم، فإنا قوم سَفْر"، فإنما قاله عام الفتح، لا في حجته.
[الثالث]: أنه من المعلوم أنه لما طاف ركع ركعتي الطواف، ومعلوم أن كثيرًا من المسلمين كانوا خلفه يقتدون به في أفعاله ومناسكه، فلعله لما ركع ركعتي الطواف، والناس خلفه يقتدون به، ظَنّ الظان أنها صلاة الظهر، ولا سيما إذا كان ذلك في وقت الظهر، وهذا الوهم لا يمكن رفع احتماله، بخلاف صلاته بمنى، فإنها لا تحتمل غير الفرض.
[الرابع]: أنه لا يُحفظ عنه في حجه أنه صلى الفرض بجوف مكة، بل إنما كان يصلي بمنزله بالأبطح بالمسلمين مدة مقامه، كان يصلي بهم أين نزلوا، لا يصلي في مكان آخر غير المنزل العام.
[الخامس]: أن حديث ابن عمر متفق عليه، وحديث جابر من أفراد مسلم، فحديث ابن عمر أصح منه، وكذلك هو في إسناده فإن رواته أحفظ وأشهر وأتقن، فأين يقع حاتم بن إسماعيل من عبيد الله بن عمر العمريّ، وأين يقع حفظ جعفر من حفظ نافع؟
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: حديث ابن عمر رضي الله عنهما متفق عليه، هذا خطأ، والصواب أنه من أفراد مسلم أيضًا، وقد حقّق هذا صاحب "المرعاة"
(1)
، فراجعه تستفد.
[السادس]: أن حديث عائشة قد اضطرب في وقت طوافه، فروي عنها على ثلاثة أوجه: أحدها: أنه طاف نهارًا، الثاني: أنه أخر الطواف إلى الليل، الثالث: أنه أفاض من آخر يومه، فلم يضبط فيه وقت الإفاضة، ولا مكان الصلاة، بخلاف حديث ابن عمر.
[السابع]: أن حديث ابن عمر أصحّ منه بلا نزاع، فإن حديث عائشة من رواية محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عنها، وابن إسحاق مختلف في الاحتجاج به، ولم يصرح بالسماع، بل عنعنه، فكيف يُقَدَّم على قول عبيد الله: حدّثني نافع، عن ابن عمر؟
[الثامن]: أن حديث عائشة ليس بالبيّن أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمكة، فإن لفظه هكذا:"أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه، حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى، فمكث بها ليالي أيام التشريق، يرمي الجمرة إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات"، فأين دلالة هذا الحديث الصريحة على أنه صلى الظهر يومئذ بمكة؟ وأين هذا في صريح الدلالة إلى قول ابن عمر:"أفاض يوم النحر، ثم صلى الظهر بمنى" - يعني راجعًا؟ وأين حديث اتَّفق أصحاب
(1)
راجع: "المرعاة" 9/ 44 - 45.
الصحيح على إخراجه إلى حديث اختلف في الاحتجاج به؟ انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله
(1)
.
وقوله: "اتّفق أصحاب الصحاح" قد عرفت أن هذا خطأ، فلم يُخرجه البخاريّ، وإنما هو من أفراد مسلم، كحديث جابر رضي الله عنه، فتنبّه.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أنه لا حاجة إلى ترجيح بعض هذه الأحاديث على بعضها؛ لأنه لا يصار إلى الترجيح إلا عند عدم إمكان الجمع، وهنا إمكانه واضح بأنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر في المكانين، كما تقدّم عن النوويّ رحمه الله.
والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم طاف طواف الإفاضة، ثم دخل وقت الظهر، فصلى الظهر بمكة في أول وقتها، ثم رجع إلى منى، فوجد الناس ينتظرونه للصلاة معه، فصلّى بهم مرّة أخرى، فبهذا تجتمع الأحاديث دون حاجة إلى ترجيح بعضها على بعض، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب.
(فَأَتَى) أي: أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من طواف الإفاضة (بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) هم العبّاس، وأولاده؛ لأن سقاية الحاجّ كانت وظيفتهم (يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ) يعني أنه مرّ عليهم، وهم ينزعون الماء من بئر زمزم، ويسقون الناس، قال النوويّ رحمه الله: قوله: "يسقون على زمزم" معناه: يُغْرِفون بالدلاء، ويصبّونه في الحياض ونحوها، ويُسَبِّلونه للناس. انتهى.
(فَقَالَ: "انْزِعُوا) بكسر الزاي، من باب ضرب، من النزع، وهو الاستقاء، قال النوويّ: معناه: استقوا بالدِّلاء، وانزِعوها بالرِّشاء (بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) منادى بحذف حرف النداء؛ أي: يا بني عبد المطّلب، أو هو منصوب على الاختصاص، كما قال في "الخلاصة":
الاخْتِصَاصُ كَنِدَاءٍ دُونَ "يَا"
…
"أَيُّهَا الْفَتَى" بِإِثْرِ "ارْجُونِيَا"
وَقَدْ يُرَى ذَا دُونَ "أَيٍّ" تِلْوَ "أَلْ"
…
كَمِثْلِ "نَحْنُ الْعُرْبَ أَسْخَى مَنْ بَذَلْ"
(فَلَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ، لنَزَعْتُ مَعَكُمْ") قال القرطبي رحمه الله: يعني أنه لو استقى هو بيده لاقتدى الناس به في ذلك، فاستقوا بأيديهم، فتزول
(1)
"زاد المعاد" 2/ 280 - 283.
خصوصية بني عبد المطلب، وهي ثابتة لهم، كولاية الحجابة لبني شيبة، كما يأتي - إن شاء الله تعالى -.
ويقال: نَزَع، بفتح الزاي، ينزع بكسرها لا غير، وإن كان الأصل فيها الفتح في المضارع؛ لأن ما كان على: فَعَل، وعينه أو لامه حرف حلق، فالأصل في مضارعه أن يأتي على: يَفْعُل، بفتح العين أو بضمها، والنزع: الاستقاء بالرِّشا، والنزح بالحاء: الاستقاء بالدَّلو. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "فَلَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُم النَّاسُ
…
إلخ" معناه: لولا خوفي أن يعتقد الناس ذلك من مناسك الحجّ، ويزدحمون عليه، بحيث يغلبونكم، ويدفعونكم عن الاستقاء، لاستقيت معكم؛ لكثرة فضيلة هذا الاستقاء، وقيل: إنما قال ذلك شفقةً على أمته من الحرج والمشقّة، والأول أظهر.
أخرج البخاريّ في "صحيحه" عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى السقاية، فاستسقى، فقال العباس: يا فضلُ اذهب إلى أمك، فَأْتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها، فقال:"اسقني"، قال: يا رسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه، قال:"اسقني"، فشرب منه، ثم أتى زمزم، وهم يسقون، ويعملون فيها، فقال:"اعملوا، فإنكم على عمل صالح - ثم قال -: لولا أن تُغْلَبُوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذه"، يعني عاتقه، وأشار إلى عاتقه.
[فائدة]: قال النوويّ رحمه الله في "تهذيب الأسماء واللغات": "زَمْزَمُ" - زادها الله تعالى شرفًا - بزاءين، وفتحهما، وإسكان الميم بينهما - وهي بئر في المسجد الحرام - زاده الله تعالى شرفًا - بينها وبين الكعبة - زادها الله تعالى شرفًا - ثمان وثلاثون ذراعًا، قيل: سُمِّيت زمزم؛ لكثرة مائها، يقال: ماهلا زمزم، وزمزومٌ، وزمزام: إذا كان كثيرًا، وقيل: لضمّ هاجر عليها السلام لمائها حين انفجرت، وزَمِّها إياها، وقيل: لزمزمة جبريل، وكلامه، وقيل: إنه غير مشتقّ، ولها أسماء أُخَرُ، ذكرها الأزرقيّ وغيره: هَزْمَةُ جبريل، والهزمة الغمزة بالعقِب في الأرض، وبَرّة، وشُباعة، والمضنونة، وتَكْتُم، ويقال لها: طعامُ طُعم،
(1)
"المفهم" 3/ 342.
وشفاءُ سُقْم، وشراب الأبرار، وجاء في الحديث:"ماء زمزم طعام طُعْم، وشفاء سقم"، وجاء:"ماء زمزم لما شُرِب له"، معناه: من شربه لحاجة نالها، وقد جَرَّبه العلماء والصالحون لحاجات أخروية ودنيوية، فنالوها بحمد الله تعالى، وفضله.
وفي "الصحيح" عن أبي ذر الغفاريّ رضي الله عنه أنه أقام شهرًا بمكة، لا قوت له إلا ماء زمزم، وفضائلها أكثر من أن تُحْصَر، والله تعالى أعلم.
وروى الأزرقيّ، عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: تنافس الناس في زمزم في زمن الجاهلية، حتى إن كان أهل العيال يَفِدون بعيالهم، فيشربون، فيكون صَبُوحًا لهم، وقد كنا نَعُدّها عونًا على العيال، قال العباس: وكانت زمزم في الجاهلية تُسَمَّى شُباعة.
وفي غريب الحديث لابن قتيبة، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:"خير بئر في الأرض زمزم، وشرّ بئر في الأرض بُرْهُوت"
(1)
.
قال ابن قتيبة: "برهوت": بئر بحضرموت، يقال: إن أرواح الكفار فيها، وذكر له دلائل.
قال الأزرقيّ: كان ذرع زمزم من أعلاها إلى أسفلها ستين ذراعًا، كل ذلك بنيان، وما بقي فهو جبل منقور، وهي تسعة وعشرون ذراعًا، وذَرْعُ تدوير فم زمزم أحد عشر ذراعًا، وسعة فم زمزم ثلاث أذرع وثلثا ذراع، وعلى البئر مَكْبَس ساجٍ مُرَبَّع، فيه اثنتا بكرة يُستقى عليها، وأول من عمل الرُّخام على زمزم، وعلى الشباك، وفرش أرضها بالرخام أبو جعفر أمير المؤمنين في خلافته.
قال الأزرقيّ: ولم تزل السقاية بيد عبد مناف، فكان يسقي الماء من بئر كرادم، وبئر خم على الإبل في المزاد والقِرَب، ثم يسكب ذلك الماء في حياض من أَدَم بفناء الكعبة، فيَرِده الحاج حتى يتفرقوا، وكان يستعذب لذلك الماء، ثم وليها من بعده ابنه هاشم بن عبد مناف، ولم يزل يسقي الحاجّ حتى توفي، فقام بأمر السقاية من بعده ابنه عبد المطلب بن هاشم، فلم يزل كذلك
(1)
تقدّم أنه صحيح مرفوعًا.
حتى حَفَر زمزم، فعفت على آبار مكة كلها، فكان منها يشرب الحاجّ، وكانت لعبد المطلب إبل كثيرة، فإذا كان الموسم جمعها، ثم يسقي لبنها بالعسل في حوض من آدم عند زمزم، ويشتري الزبيب، فينبِذه بماء زمزم، وكانت إذ ذاك غليظة جدًّا، وكان للناس أسقية كثيرة يستقون منها الماء، ثم ينبذون فيها القبضات من الزبيب والتمر ليكثر غلظ الماء، وكان الماء العذب بمكة عزيزًا، لا يوجد إلا لإنسان يستعذب له من بئر ميمون، وخارج من مكة، فلبث عبد المطلب يسقي الناس حتى توفي، فقام بأمر السقاية بعده ابنه العباس بن عبد المطلب، فلم تزل في يده، وكان للعباس كرم بالطائف، فكان يحمل زبيبه، وكان يداين أهل الطائف، ويقتضي منهم الزبيب، فينبذ ذلك كله، ويسقيه الحاج في أيام الموسم، حتى مضت الجاهلية، وصدر من الإسلام، ثم أقرها النبيّ صلى الله عليه وسلم في يد العباس يوم الفتح، ثم لم تزل في يد العباس حتى توفي، فوليها بعده ابنه عبد الله بن عباس رضي الله عنها، فكان يفعل ذلك كفعله، ولا ينازعه فيها منازع، حتى توفي، فكانت بيد ابنه علي بن عبد الله، يفعل كفعل أبيه وجدّه، يأتيه الزبيب من الطائف، فينبذه حتى توفي، ثم كانت بيده إلى الآن. انتهى
(1)
.
وأخرج الطبرانيّ بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم، فيه طعام من الطعم، وشفاء من السقم، وشرّ ماء على وجه الأرض ماء بوادي برهوت بقبة حضرموت، كرجل الجراد من الهوام، تصبح تتدفق، وتمسي لا بلال فيها"، قال الهيثميّ بعد عزوه إلى الطبرانيّ: ورجاله ثقات، وصححه ابن حبّان
(2)
، وبُرُهُوت بضمّ الموحّدة، والراء، والهاء، آخره تاء مثنّاة: بئر عميقة بحضرموت، لا يستطاع النزول إلى قعرها، ويقال: بُرْهوت، بضمّ الباء، وسكون الراء.
(فَنَاوَلُوهُ) أي: أعطوه (دَلْوًا، فَشَرِبَ مِنْهُ) أي: من الدلو، أو من الماء، وفيه دليل على استحباب الشرب للحاجّ من ماء زمزم.
(1)
"تهذيب الأسماء واللغات" 3/ 131 - 132.
(2)
وصححه الشيخ الألبانيّ رحمه الله. راجع: "الصحيحة" 3/ 44.
وذكر الواقديّ أنه لما شَرب صبّ على رأسه، وذكر أبو ذرّ في "منسكه" عن عليّ رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا أفاض دعا بسجل من زمزم، فتوضّأ، وأخرجه أحمد أيضًا، وقال: دعا بسجل من ماء زمزم، فشرب منه، وتوضّأ، وأخرجه أيضًا من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما، وفي رواية عنده أنهم لَمّا نزعوا الدلو، غسل منه وجهه، وتمضمض فيه، ثم أعادوه فيها، وكذلك أخرجه سعيد بن منصور.
قيل: ويستحبّ أن يشرب قائمًا، واستُدلّ له بما رواه البخاريّ من طريق عاصم، عن الشعبيّ أن ابن عباس حدّثهم قال: سقيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم، فشرب، وهو قائم، قال عاصم: فحلف عكرمة ما كان يومئذ إلا على بعير.
قال في "المرعاة": وفي الاستدلال بهذا على استحباب الشرب من زمزم قائمًا نظر؛ لأنه يجوز أن يكون الأمر فيه على ما حلف عليه عكرمة، وهو أنه شرب، وهو على الراحلة، ويُطلق عليه قائم، ويكون ذلك مراد ابن عبّاس رضي الله عنهما من قوله:"قائمًا"، فلا يكون بينه وبين النهي عن الشرب قائمًا تضادّ، وبجوز أن يُحمل على ظاهره، وبكون دليلًا على إباحة الشرب قائمًا، يعني أنه صلى الله عليه وسلم شربه قائمًا؛ لبيان الجواز، قيل: أو لعذر به في ذلك المقام من طين، أو زحام. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الأخير هو الأقرب، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
[فوائد]:
(الأولى): أخرج أحمد، وابن ماجه من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعًا:"ماء زمزم لما شُرب له"، وأخرجه الدارقطنيّ، من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما، وزاد:"إن شربته تستشفي به شفاك الله، وإن شربته لشبعك أشبعك الله به، وإن شربته ليقطع ظمأك قطعه الله، وهي هزمة جبريل، وسقيا الله إسماعيل"، وروى أبو داود الطيالسيّ من حديث أبي ذرّ مرفوعًا:"إنها مباركة، وإنها طعام طُعم، وشفاء سقم".
وقد شربه جماعة من العلماء لمآرب، فوجدوها، ونالوها.
أخرج الدينوري في "المجالسة" عن الحميدي - وهو شيخ البخاريّ -
قال: كنا عند ابن عيينة، فحدّثنا بحديث:"ماءُ زمزم لما شُرِب له"، فقام رجل من المجلس، ثم عاد، فقال: يا أبا محمد، ليس الحديث الذي قد حدثتنا في زمزم صحيحًا، فقال: بلى، فقال الرجل: فإني شربت الآن دلوًا من زمزم على أن تحدثني بمائة حديث، فقال سفيان رحمه الله: اقعد، فقعد، فحدثه بمائة حديث
(1)
.
(الثانية): روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تَحمل من ماء زمزم، وتخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يحمله، أخرجه الترمذيّ، وقال: حديث حسنٌ غريب، والبيهقيّ، والحاكم، وصححه
(2)
، قال الشوكانيّ رحمه الله: فيه دليلٌ على استحباب حمل ماء زمزم إلى المواطن الخارجة عن مكة.
وعن أبي الطفيل، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: سمعته يقول: كنا نسميها شُباعة، يعني زمزم، وكنا نجدها نعم العون على العيال. رواه الطبراني في "الكبير"، قال الهيثميّ: ورجاله ثقات.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "ابن السبيل أول شارب"، يعني من زمزم، رواه الطبراني في "الصغير"، قال الهيثميّ: ورجاله ثقات.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم استهدى سهيل بن عمرو من ماء زمزم، رواه الطبرني في "الكبير"، و"الأوسط"، قال الهيثميّ: وفيه عبد الله بن المؤمل المخزوميّ وثقه ابن سعد، وابن حبان، وقال: يخطئ، وضعّفه جماعة
(3)
.
(الثالثة): قال ابن عباس رضي الله عنهما الرجل: من أين جئت؟ قال: شربت من زمزم، قال: شربت كما ينبغي؟ قلت: كيف أشرب؟ قال: إذا شربت فاستقبل القبلة، ثم اذكر اسم الله، ثم تنفس ثلاثًا، وتضلّع منها، فإذا فرغت فاحمد الله، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم"، أخرجه ابن ماجه، والبيهقيّ
(4)
، وفي سنده محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر مجهول.
(1)
راجع: "الدر المنثور" 4/ 151.
(2)
وصححه الشيخ الألبانيّ رحمه الله. انظر: "صحيح الترمذيّ" 3/ 295.
(3)
"مجمع الزوائد" 3/ 286.
(4)
"سنن ابن ماجه"(3061)، و"سنن البيهقي الكبرى" 5/ 147.
وكان ابن عباس رضي الله عنهما إذا شرب ماء زمزم قال: "اللهم أسألك علمًا نافعًا ورزقًا واسعًا، وشفاءً من كل داء"، أخرجه الدارقطنيّ، والحاكم، وهو ضعيف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأول): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من هذا الوجه من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: حديث جابر رضي الله عنه هذا رواه عنه سبعة من أصحابه الثقات، وهو: محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أبو جعفر الباقر، وأبو الزبير بن محمد بن مسلم المكيّ، وعطاء بن أبي رباح المكيّ، ومجاهد بن جبر المكيّ، ومحمد بن المنكدر المدنيّ، وأبو صالح ذكوان السمان المدنيّ، وأبو سفيان طلحة بن نافع الواسطيّ نزيل مكة.
فأما رواية الأول فأخرجها مسلم، وأبو نعيم في "مستخرجه"، وأبو داود، والدارميّ، وابن ماجه، وابن الجارود في "المنتقى"، والبيهقي من طريق جعفر بن محمد الصادق عنه بتمامه.
وساقه مسلم هنا بتمامه، وأخرج القسم الأكبر منه الطيالسي في "مسنده"، وأحمد، وروى قطعًا متفرقة منه مسلم، وأبو داود، والنسائيّ، والترمذيّ، والدارميّ، وابن ماجه، ومالك في "موطئه"، والطحاوي في "شرح معاني" الآثار، وفي "مشكل الآثار"، والطبراني في "المعجم الصغير"، والدارقطني في "سننه"، والحاكم في "المستدرك"، وابن خزيمة في "صحيحه"، والبيهقي في "سننه الكبرى"، وأحمد في "مسنده"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى"، وأبو نعيم في "حلية الأولياء".
وأما رواية أبي الزبير: فأخرجها مسلم، وأبو نعيم في "المستخرج"، وأبو داود، والنسائيّ، والترمذيّ، والدارميّ، وابن ماجه، والشافعيّ، والطحاويّ في "شرح معاني الآثار"، وفي "مشكل الآثار"، والدارقطنيّ، والحاكم، والبيهقيّ، والطيالسيّ، وأحمد، وابن سعد.
وأما رواية عطاء: فأخرجها البخاريّ، ومسلم، وأبو نعيم، وأبو داود، والنسائيّ، والدارميّ، وابن ماجه، والشافعيّ، والطحاويّ في "شرح معاني الآثار" وفي "المشكل"، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم، والبيهقيّ، والطيالسيّ، وأحمد، وابن سعد.
وأما رواية مجاهد: فأخرجها البخاريّ، ومسلم، والحاكم، والبيهقيّ، وأحمد.
وأما رواية محمد بن المنكدر: فأخرجها الترمذيّ، وابن ماجه، والبيهقيّ، وأحمد.
وأما رواية أبي صالح، وأبي سفيان، فأخرجهما أحمد في "مسنده".
وقد أجاد الشيخ الألبانيّ رحمه الله في تخريج هذه الروايات في رسالته القيّمة: "حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم كما رواها عنه جابر رضي الله عنه، فراجعها تستفد علمًا جمًّا.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 2950 و 2951 و 2952 و 2953](1218)، و (أبو داود) في "المناسك"(1905)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 421)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(2/ 1025)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 336)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 320)، و (الدا رميّ) في "سننه"(2/ 69)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2687 و 2802 و 2809 و 2812 و 2826 و 2855 و 2944 و 3574)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(9/ 257)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 368)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 317)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 125)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 342)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 8 و 5/ 274 و 9/ 122)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده
(1)
:
(اعلم): أنه قد تقدّم ذكر كثير من هذه الفوائد خلال الشرح، لكن جمعها وسوقها متتاليةً في موضع واحد أتمّ فائدة، وأعون على الفهم، والاستفادة، فتنبّه.
(1)
المراد فوائد حديث جابر رحمه الله هذا برواياته المختلفة، وليس خصوص سياق المصنّف، بل ما يعمّه وما أشير إليه في الشرح، فتنبّه.
1 -
(فمنها): بيان حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم منذ أن خرج من المدينة إلى أن انتهى من أعمال الحج، فجابر بن عبد الله رضي الله عنهما أحسن الصحابة الذين رووا حجة الوداع سياقة لها.
2 -
(ومنها): أنه يستحب من ورد عليه زائرون، أو ضِيفان، ونحوهم أن يسأل عنهم؛ لِيُنْزِلهم منازلهم، كما جاء في حديث عائشة عليها السلام:"أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نُنَزِّل الناس منازلهم"، وهو حديث مرسلٌ، لكن قد تقدّم أنّ المصنّف احتجّ به في "مقدّمة صحيحه".
3 -
(ومنها): أن فيه إكرامَ أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعل جابر رضي الله عنه بمحمد بن عليّ.
4 -
(ومنها): استحباب قوله للزائر، والضيف، ونحوهما:"مَرْحَبًا".
5 -
(ومنها): ملاطفة الزائر بما يليق به، وتأنيسه، وهذا سبب حَلّ جابر رضي الله عنه زِرَّي محمد بن علي رحمه الله، ووضع يده بين ثدييه، وإنما فعل به ذلك؛ تأنيسًا له؛ لصغره، كما أشار إليه بقوله:"وأنا يومئذ غلام شاب"، وأما الرجل الكبير فلا يحسن إدخال اليد في جيبه، والمسح بين ثدييه، قاله النوويّ رحمه الله.
6 -
(ومنها): جواز إمامة الأعمى البصراءَ، ولا خلاف في جواز ذلك، لكن اختلفوا في الأفضل على ثلاثة مذاهب، قال النوويّ رحمه الله: وهي ثلاثة أوجه لأصحابنا: أحدها: إمامة الأعمى أفضل من إمامة البصير؛ لأن الأعمى أكمل خشوعًا لعدم نظره إلى الملهيات.
والثاني: البصير أفضل لأنه أكثر احترازًا من النجاسات.
والثالث: هما سواء؛ لتعادل فضيلتهما، وهذا الثالث هو الأصح عند أصحابنا، وهو نصّ الشافعيّ.
قال الجامع عفا الله عنه: إن مثل هذا الاختلاف مما يُتعجب منه، فكيف يختلفون فيه بعد بيان النبيّ صلى الله عليه وسلم الأحقّ والأفضل في الإمامة، فقد أخرج مسلم في "صحيحه" عن أبي مسعود رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواءً، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواءً، فأقدمهم سِلْمًا
…
"
الحديث، فلم يفضّل بالبصر، ولا عدمه، فمن كان متّصفًا بما في هذا الحديث، فهو الأحقّ، والأفضل بالإمامة من غيره، سواء كان بصيرًا، أو أعمى، فتبصّر، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
7 -
(ومنها): أن صاحب البيت أحقّ بالإمامة من غيره.
8 -
(ومنها): جواز الصلاة في ثوب واحد مع التمكن من الزيادة عليه.
9 -
(ومنها): جواز نسبة الثدي للرجل، وفيه خلاف لأهل اللغة، منهم من جَوَّزه كالمرأة، ومنهم من منعه، وقال: يختص الثدي بالمرأة، ويقال في الرجل: ثَنْدُؤة، وقد سبق إيضاحه في أوائل "كتاب الإيمان" في حديث الرجل الذي قتل نفسه، فقال فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم: إنه من أهل النار".
10 -
(ومنها): أنه يُستحبّ للإمام إيذان الناس بالأمور المهمّة؛ ليتأهّبوا لها، ولا سيّما في هذه الفريضة الكثيرة الأحكام المفروضة.
11 -
(ومنها): بيان استحباب غسل الإحرام للنفساء، وقد سبق بيانه في باب مستقل.
12 -
(ومنها): أن فيه أمرَ الحائض، والنفساء، والمستحاضة بالاستثفار، وهو أن تَشُدّ في وسطها شيئًا، وتأخذ خِرْقة عَرِيضة تجعلها على محلّ الدم، وتَشُدّ طرفيها من قدّامها، ومن ورائها في ذلك المشدود في وسطها، وهو شبيه بِثَفَر الدابة - بفتح الفاء -.
13 -
(ومنها): بيان صحة إحرام النفساء، وهو مجمع عليه.
14 -
(ومنها): جواز الحجّ راكبًا وماشيًا، وهو مُجْمَعٌ عليه، وقد تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، قال الله تعالى:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27]، واخَتَلَف العلماء في الأفضل منهما، فقال مالك، والشافعيّ، وجمهور العلماء: الركوب أفضل؛ اقتداءً بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، ولأنه أعون له على وظائف مناسكه، ولأنه أكثر نفقةً، وقال داود: ماشيًا أفضل؛ لمشقته، وهذا فاسد؛ لأن المشقة ليست مطلوبة
(1)
.
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 173 - 174.
15 -
(ومنها): بيان أن السنة للحجاج أن يدخلوا مكة قبل الوقوف بعرفات؛ ليطوفوا للقدوم وغير ذلك.
16 -
(ومنها): بيان أن المحرم إذا دخل مكة قبل الوقوف بعرفات يُسَنّ له طواف القدوم، وهو مجمع عليه.
17 -
(ومنها): بيان أن الطواف سبع طوافات.
18 -
(ومنها): بيان أن السنة في الطواف الرَّمَلُ في الثلاث الأوَل، والمشي على العادة في الأربع الأخيرة، والرَّمَلُ هو إسراع المشي مع تقارب الْخُطَا، ويقال له: الْخَبُب.
19 -
(ومنها): بيان أنه ينبغي لكل طائف إذا فرغ من طوافه أن يصلي خلف المقام ركعتي الطواف، ويقرأ في الأولى بعد الفاتحة:{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} ، وفي الثانية {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} .
20 -
(ومنها): بيان أنه يُستحبّ للطائف طواف القدوم إذا فرغ من الطواف، وصلاته خلف المقام، أن يعود إلى الحجر الأسود، فيستلمه، ثم يَخرُج من باب الصفا ليسعى، كما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم.
21 -
(ومنها): بيان أن بداية السعي من الصفا، وبه قال الشافعيّ، ومالك، والجمهور، وقد ثبت في رواية النسائيّ في هذا الحديث بإسناد صحيح أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ابدءوا بما بدأ الله به" هكذا بصيغة أمر الجماعة، والأمر للوجوب، فلا يجوز أن يبدأ من المروة، فتنبّه.
22 -
(ومنها): أنه ينبغي أن يَرْقَى على الصفا والمروة ولا خلاف بين الجمهور في هذا الرقيّ، وجعله بعضهم شرطًا في صحة السعي، والصواب الأول.
23 -
(ومنها): بيان أنه يسنّ أن يقف على الصفا مستقبل الكعبة، ويذكر الله تعالى بهذا الذكر المذكور في الحديث، ويدعوَ، ويكرر الذكر والدعاء ثلاث مرات.
24 -
(ومنها): بيان استحباب السعي الشديد في بطن الوادي حتى يصعد، ثم يمشي باقي المسافة إلى المروة على عادة مشيه، وهذا السعي مستحب في كل مرة من المرات السبع في هذا الموضع، والمشي مستحب فيما
قبل الوادي وبعده، ولو مشى في الجميع، أو سعى في الجميع أجزأه، وفاتته الفضيلة، على الراجح، والله تعالى أعلم.
25 -
(ومنها): بيان أنه يُسَنّ على المروة من الذكر والدعاء والرقيّ مثل ما يُسَنّ على الصفا، وهذا متفق عليه؛ لقوله في الحديث:"ففعل - يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم - على المروة مثل ما فعل على الصفا".
26 -
(ومنها): أن قوله: "حتى إذا كان آخر طواف على المروة" فيه دلالة لمذهب الجمهور أن الذهاب من الصفا إلى المروة يُحْسَب مرة، والرجوع إلى الصفا ثانية، والرجوع إلى المروة ثالثة، وهكذا، فيكون ابتداء السبع من الصفا، وآخرها بالمروة، وقد خالف في ذلك بعضهم، فقال: يُحْسَب الذهاب إلى المروة والرجوع إلى الصفا مرةً واحدةً، فيقع آخر السبع في الصفا، هو مردود بهذا الحديث الصحيح، وكذلك عمل المسلمين على تعاقب الأزمان، كما قاله النوويّ.
27 -
(ومنها): استحباب التقصير من يتحلّل بالعمرة ممن لم يسق الهدي من الحجاج.
28 -
(ومنها): بيان أن الأفضل أن من كان بمكة، وأراد الإحرام بالحجّ أحرم يوم التروية؛ عملًا بهذا الحديث، ولا ينبغي له أن يتقدّم قبل ذلك على القول الراجح.
29 -
(ومنها): بيان أن السنة أن لا يتقدم أحد إلى منى قبل يوم التروية، وقد كَرِهَ مالك ذلك، وقال بعض السلف: لا بأس به، والحقّ أن هذا خلاف السنة، فليُتنبّه.
30 -
(ومنها): بيان أن الركوب في تلك المواطن أفضل من المشي، كما أنه في جملة الطريق أفضل من المشي. هذا هو الصحيح في الصورتين أن الركوب أفضل، كما قاله النوويّ رحمه الله.
31 -
(ومنها): بيان أن السنّة أن يصلي بمنى هذه الصلوات الخمس.
32 -
(ومنها): بيان أن المبيت بمنى ليلة التاسع من ذي الحجة سنّة، ليس بركن، ولا واجب، فلو تركه فلا دم عليه بالإجماع، هكذا قال النوويّ رحمه الله.
33 -
(ومنها): بيان أن السنة أن لا يخرج الحجّاج إلى عرفات من منى حتى تطلع الشمس، وهذا متفق عليه.
34 -
(ومنها): بيان استحباب النزول بنمرةَ إذا ذهبوا من منى؛ لأن السنة أن لا يدخلوا عرفات إلا بعد زوال الشمس، وبعد صلاتي الظهر والعصر جمعًا، فالسنة أن ينزلوا بنمرة، فمن كان له قبة ضربها، فإذا زالت الشمس سار بهم الإمام إلى بطن عرنة، وخطب بهم، فإذا فرغ منها صلى بهم الظهر والعصر جمعًا، فإذا فرغ من الصلاة سار إلى الموقف.
35 -
(ومنها): بيان جواز الاستظلال للمحرم بِقُبّة وغيرها، قال النوويّ: ولا خلاف في جوازه للنازل، واختلفوا في جوازه للراكب، فمذهبنا جوازه، وبه قال كثيرون، وكرهه مالك، وأحمد، وستأتي المسألة مبسوطة في موضعها - إن شاء الله تعالى -.
36 -
(ومنها): جواز اتخاذ القباب، وجواز كونها من شعر.
37 -
(ومنها): بيان استحباب الخطبة للإمام بالحجيج يوم عرفة في هذا الموضع، وهو سنة باتفاق جماهير العلماء، وخالف فيها المالكية.
38 -
(ومنها): بيان استحباب ضرب الأمثال، وإلحاق النظير بالنظير قياسًا؛ لزيادة الإيضاح والبيان، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا
…
" الحديث.
39 -
(ومنها): بيان إبطال أفعال الجاهلية، وبيوعها التي لم يتصل بها قبض، وأنه لا قصاص في قتلها.
40 -
(ومنها): بيان أنه ينبغي للإمام وغيره، ممن يأمر بمعروف، أو ينهى عن منكر أن يبدأ بنفسه، وأهله، فهو أقرب إلى قبول قوله، وإلى طيب نفس مَن قَرُب عهده بالإسلام، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: "والدم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة
…
" الحديث، وقال أيضًا: "وأول ربًا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطّلب، فإنه موضوع كلّه".
41 -
(ومنها): الحثّ على مراعاة حقّ النساء، والوصية بهنّ، ومعاشرتهنّ بالمعروف، وقد جاءت أحاديث كثيرة صحيحة في الوصية بهنّ،
وبيان حقوقهنّ، والتحذير من التقصير في ذلك، قال النوويّ رحمه الله: وقد جمعتها، أو معظمها في "رياض الصالحين". انتهى.
42 -
(ومنها): بيان أنه لا يجوز للمرأة أن تأذن في دخول بيتها لأحد يكره الزوج دخوله، سواء كان رجلًا أجنبيًّا، أو امرأةً، أو أحدًا من محارم الزوجة، ويجوز لها أن تأذن من علمت، أو ظنت أن الزوج لا يكرهه.
43 -
(ومنها): بيان إباحة ضرب الرجل امرأته؛ للتأديب، قال النوويّ رحمه الله: فإن ضربها الضرب المأذون فيه، فماتت منه، وجبت ديتها على عاقلة الضارب، ووجبت الكفارة في ماله.
44 -
(ومنها): بيان وجوب نفقة الزوجة وكسوتها، وذلك ثابت بالإجماع.
45 -
(ومنها): بيان أنه يُشْرَع الجمع بين الظهر والعصر هناك في ذلك اليوم، وقد أجمعت الأمة عليه، واختلفوا في سببه، فقيل: بسبب النسك، وهو مذهب أبي حنيفة، وبعض أصحاب الشافعيّ، وقال أكثر أصحاب الشافعيّ: هو بسبب السفر، والأول هو الأرجح، فيُشرع من كان حاضرًا، أو مسافرًا دون مرحلتين، كأهل مكة الجمع، والقصر، كما فعل كل من صلّى خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم من الحاضرين والمسافرين، وقد تقدّم تحقيق ذلك.
46 -
(ومنها): بيان أن الجامع بين الصلاتين يصلي الأولى أوّلًا، وأنه يؤذّن للأولى، وأنه يقيم لكل واحدة منهما، وأنه لا يفرّق بينهما.
47 -
(ومنها): بيان أنه إذا فرغ من الصلاتين عَجّل الذهاب إلى الموقف.
48 -
(ومنها): بيان أن الوقوف راكبًا أفضل، وفيه خلاف بين العلماء، واتّباع فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الصواب.
49 -
(ومنها): بيان أنه يستحب أن يقف عند الصخرات المذكورات، وهي صخرات مفترشات في أسفل جبل الرحمة، وهو الجبل الذي بوسط أرض عرفات، فهذا هو الموقف المستحبّ، وأما ما اشتهر بين العوامّ من الاعتناء بصعود الجبل، وتوهمهم أنه لا يصح الوقوف إلا فيه فغلطٌ، بل الصواب جواز الوقوف في كل جزء من أرض عرفات، وأن الفضيلة في موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم -
عند الصخرات، فإن عجز فليقرب منه بحسب الإمكان، قاله النوويّ رحمه الله.
50 -
(ومنها): استحباب استقبال الكعبة في الوقوف.
51 -
(ومنها): أنه ينبغي أن يبقى في الوقوف حتى تغرب الشمس، ويتحقق كمال غروبها، ثم يفيض إلى مزدلفة، فلو أفاض قبل غروب الشمس صحّ وقوفه وحجه، ولكنه أساء.
52 -
(ومنها): جواز الإرداف إذا كانت الدابّة مطيقةً، وقد تظاهرت به الأحاديث الصحيحة.
53 -
(ومنها): استحباب لزوم السكينة والوقار في الدفع من عرفات، فإذا وجد فرجة يسرع، كما ثبت في الحديث الآخر.
54 -
(ومنها): بيان أن السنة للدافع من عرفات أن يؤخر المغرب إلى وقت العشاء، ويكون هذا التأخير بنيّة الجمع، ثم يجمع بينهما في المزدلفة في وقت العشاء، وقد تقدّم أن الراجح أن الجمع بسبب النسك، كما قال به طائفة من العلماء.
قال النوويّ رحمه الله: ولو جمع بينهما في وقت المغرب في أرض عرفات، أو في الطريق، أو في موضع آخر، وصلى كل واحدة في وقتها جاز جميع ذلك، لكنه خلاف الأفضل، هذا مذهبنا، وبه قال جماعات من الصحابة والتابعين، وقاله الأوزاعيّ، وأبو يوسف، وأشهب، وفقهاء أصحاب الحديث.
وقال أبو حنيفة وغيره من الكوفيين: يشترط أن يصليهما بالمزدلفة، ولا يجوز قبلها، وقال مالك: لا يجوز أن يصليهما قبل المزدلفة إلا من به أو بدابته عذر، فله أن يصليهما قبل المزدلفة بشرط كونه بعد مغيب الشفق. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قد سبق أن قول من قال: لا يصلي قبل المزدلفة هو الحقّ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الصلاة أمامك"، فلا يجوز تقديمها قبل مكانها المحدّد شرعًا، فتبصّر.
55 -
(ومنها): بيان أنه يصلي الصلاتين في وقت الثانية بأذان للأولى، وإقامتين لكل واحدة منهما، وهذا هو الصحيح عند المحقّقين، وقال مالك: يؤذن ويقيم للأولى، ويؤذن ويقيم أيضًا للثانية، وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: أذان واحد وإقامة واحدة، والقول الأول هو الحقّ، لهذا الحديث.
56 -
(ومنها): بيان أنه يوالي بين الصلاتين المجموعتين، ولا خلاف في هذا، لكن اختلفوا هل هو شرط للجمع أم لا؟ والصحيح عند الشافعيّة أنه ليس بشرط، بل هو سنة مستحبة، وقال بعضهم: هو شرط، أما إذا جمع بينهما في وقت الأولى فالموالاة شرط بلا خلاف، قاله النوويّ.
57 -
(ومنها): بيان أن المبيت بمزدلفة ليلة النحر بعد الدفع من عرفات نُسك، قال النوويّ: وهذا مجمع عليه، لكن اختلف العلماء هل هو واجب، أم ركن، أم سنة؟ والصحيح من قولي الشافعيّ أنه واجب، لو تركه أثم، وصحّ حجه، ولزمه دم، والثاني أنه سنةٌ، لا إثم في تركه، ولا يجب فيه دم، ولكن يستحبّ، وقال جماعة من أصحابنا: هو ركن لا يصح الحج إلا به، كالوقوف بعرفات، قاله من أصحابنا: ابن بنت الشافعيّ، وأبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، وقاله خمسة من أئمة التابعين، وهم: علقمة، والأسود، والشعبيّ، والنخعيّ، والحسن البصريّ. انتهى.
تقدّم أن الأرجح أن المبيت في المزدلفة سنة، وأما صلاة الصبح، والوقوف بالمشعر الحرام، فواجب إلا لأصحاب الأعذار كالمريض، والعجزة؛ لحديث عروة بن مُضرّس رضي الله عنه الماضي، ولقوله - سبحانه وتعالي -:{فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198]، والأمر للوجوب، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
58 -
(ومنها): أن السنة أن يبقى بالمزدلفة حتى يصلي بها الصبح إلا الضعفة، فالسنة لهم الدفع قبل الفجر، كما سيأتي في موضعه - إن شاء الله تعالى -.
59 -
(ومنها): أن السنة أن يبالغ بتقديم صلاة الصبح في هذا الموضع، ويتأكد التبكير بها، في هذا اليوم أكثر من تأكده في سائر السنة؛ للاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن وظائف هذا اليوم كثيرة، فيسنّ المبالغة بالتبكير بالصبح؛ ليتسع الوقت للوظائف.
60 -
(ومنها): بيان أنه يسنّ الأذان والإقامة لصلاة الصبح في المزدلفة، وكذلك غيرها من صلوات المسافر، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بالأذان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر كما في الحضر.
61 -
(ومنها): بيان أن الركوب أفضل من المشي في الإتيان إلى المشعر الحرام.
62 -
(ومنها): بيان أن الوقوف على قُزَح من مناسك الحج، قال النوويّ رحمه الله: وهذا لا خلاف فيه، لكن اختلفوا في وقت الدفع منه، فقال ابن مسعود، وابن عمر رضي الله عنهما، وأبو حنيفة، والشافعيّ، وجماهير العلماء: لا يزال واقفًا فيه، يدعو، ويذكر الله، حتى يُسْفِرَ الصبح جِدًّا، كما في هذا الحديث، وقال مالك: يدفع منه قبل الإسفار، والحديث يردّ عليه.
63 -
(ومنها): أن فيه الحثّ على غَضّ البصر عن الأجنبيّات، وغضّهنّ عن الرجال الأجانب، وهذا معنى قوله:"وكان أبيض وسيمًا حسن الشعر"، يعني أنه بصفة مَن تُفْتَتن النساء به؛ لحسنه، وفي رواية الترمذيّ وغيره في هذا الحديث: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَوَى عنق الفضل، فقال له العباس: لويت عنق ابن عمك؟ قال: "رأيت شابًّا وشابّةً، فلم آمن الشيطان عليهما"، فهذا يدلّ على أن وضعه صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل كان لدفع الفتنة عنه وعنها.
64 -
(ومنها): بيان أن من رأى منكرًا، وأمكنه إزالته بيده لزمه إزالته، فإن قال بلسانه، ولم ينكفّ المقول له، وأمكنه بيده أَثِمَ ما دام مقتصرًا على اللسان، فقد تقدّم للمصنّف حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه مرفوعًا:"من رأى منكم منكرًا، فليُغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع، فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".
65 -
(ومنها): بيان أن تحريك الراحلة حتى تُسرع في وادي محسّر سنّة من سُنَن السير في ذلك الموضع.
66 -
(ومنها): أن في قوله: "ثم سلك الطريق الوسطى" بيان أن سلوك هذا الطريق في الرجوع من عرفات سنّة، وهو غير الطريق الذي ذهب فيه إلى عرفات.
67 -
(ومنها): بيان أن السنّة للحاجّ إذا دفع من مزدلفة، فوصل منى أن يبدأ بجمرة العقبة، ولا يفعل شيئًا قبل رميها، ويكون ذلك قبل نزوله.
68 -
(ومنها): بيان أن الرمي بسبع حصيات، وأن قدرهنّ بقدر حصى الْخَذْف، وهو نحو حبة الباقلاء.
69 -
(ومنها): بيان أنه يسن التكبير مع كل حصاة.
70 -
(ومنها): بيان أنه يجب التفريق بين الحصيات، فيرميهنّ واحدةً واحدةً، كما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن رمى السبعة رَمْيَةً واحدةً حُسِب ذلك كله حصاة واحدة على الصحيح من أقوال العلماء.
71 -
(ومنها): بيان أن السنة أن يقف للرمي في بطن الوادي، بحيث تكون منى وعرفات والمزدلفة عن يمينه، ومكة عن يساره، وهذا هو الصحيح الذي جاءت به الأحاديث الصحيحة، وقيل: يقف مستقبل الكعبة، والأول هو الحقّ.
72 -
(ومنها): بيان أن الرمي المشروع يوم النحر هو رمي جمرة العقبة لا غير بإجماع المسلمين، وهو نُسك بإجماعهم.
73 -
(ومنها): بيان استحباب تكثير الهدي، وكان هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم في تلك السنة مائة بَدنة.
74 -
(ومنها): بيان استحباب ذبح المهدي هديه بنفسه، وجواز الاستنابة فيه، قال النوويّ رحمه الله: وذلك جائز بالإجماع.
75 -
(ومنها) بيان استحباب تعجيل ذبح الهدايا، وإن كانت كثيرة في يوم النحر، ولا يؤخر بعضها إلى أيام التشريق.
76 -
(ومنها): بيان استحباب الأكل من هدي التطوع، وأضحيته.
77 -
(ومنها): بيان استحباب الركوب في الذهاب من منى إلى مكة، ومن مكة إلى منى، ونحو ذلك من مناسك الحجّ.
78 -
(ومنها): بيان فضيلة العمل في هذا الاستقاء، واستحباب شرب ماء زمزم، وفيه بقاء هذه التكرمة لبني العبّاس، كبقاء الحجابة لبني شيبة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في ذكر بعض النصائح للحجاج، مما ذكره الشيخ الألبانيّ رحمه الله في "حجة الوداع":
1 -
(فمنها): أن كثيرًا من الحجاج إذا أحرموا بالحج لا يشعرون أنهم تلبّسوا بعبادة تَفْرِض عليهم الابتعاد عما حرّم الله تعالى من المحرّمات عليهم خاصّة، وعلى كل مسلم عامّة، وكذا تراهم يحجون، ويفرغون منه، ولم يتغير
شيء من سلوكهم المنحرف قبل الحج، وذلك دليل عملي منهم على أن حجهم ليس كاملًا، إن لم نَقُلْ: ليس مقبولًا، ولذلك فإن على كل حاج أن يتذكر هذا، وأن يحرص جهد طاقته أن لا يقع فيما حرّم الله عليه من الفسق والمعاصي، فإن الله تبارك وتعالى يقول:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} الآية [البقرة: 197]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من حج، فلم يرفُث، ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه"، متّفق عليه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وليس في المحظورات ما يفسد الحج إلا جنس الرفث فلهذا ميّز بينه وبين الفسوق، وأما سائر المحظورات، كاللباس، والطيب، فإنه وإن كان يأثم بها فلا تُفْسِد الحج عند أحد من الأئمة المشهورين، وهو يشير في آخر كلامه إلى أن هناك من العلماء من يقول بفساد الحج بأي معصية يرتكبها الحاجّ، فمن هؤلاء الإمام ابن حزم رحمه الله، فإنه يقول: (وكلّ من تعمّد معصية أيّ معصية كانت، وهو ذاكر لحجه مذ أن يتم طوافه بالبيت للإفاضة، ويرمي الجمرة فقد بطل حجه
…
). واحتج بالآية السابقة، فراجعه في كتابه (المحلى)(7/ 186) فإنه مهمّ.
ومما سبق يتبيّن أن المعصية من الحاجّ إما أن تُفسد عليه حجه على قول ابن حزم، وإما أن يأثم بها، ولكن هذا الإثم ليس كما لو صدر من غير الحاجّ، بل هو أخطر بكثير، فإن من آثاره أن لا يرجع من ذنوبه كما ولدته أمه كما صرح بذلك الحديث المتقدم.
فبذلك يكون كما لو خَسِرَ حجته؛ لأنه لم يحصل على الثمرة منها، وهي مغفرة الله تعالى، فالله المستعان.
قال: وإذا تبيّن هذا، فلا بدّ لي من أن أحذّر من بعض المعاصي التي يكثر ابتلاء الناس بها، ويحرمون بالحج، ولا يشعرون بأن عليهم الإقلاع عنها، وذلك لجهلهم، وغلبة الغفلة عليهم، وتقليدهم لآبائهم.
2 -
(فمنها): الشرك بالله عز وجل، فإن من أكبر المصائب التي أصيب بها بعض المسلمين جهلهم بحقيقة الشرك الذي هو من أكبر الكبائر، ومن صفته أنه يُحبط الأعمال، قال الله تعالى:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]، فقد
رأينا كثيرًا من الحجاج يقعون في الشرك، وهم في بيت الله الحرام، وفي مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم يتركون دعاء الله، والاستغاثة به إلى الاستعانة بالأنبياء وبالصالحين، ويحلفون بهم، ويدعونهم من دون الله عز وجل، والله عز وجل يقول:{إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)} [فاطر: 14]، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًّا، وفي هذه كفاية لمن فتح قلبه للهداية؛ إذ ليس الغرض الآن البحث العلمي في هذه المسألة، وإنما هو التذكير فقط.
قال: فليت شعري ماذا يستفيد هؤلاء من حجهم إلى بيت الله الحرام إذا كانوا يصرّون على مثل هذا الشرك، ويغيّرون اسمه فيسمونه توسلًا وتشفعًا وواسطةً، أليست هذه الواسطة هي التي ادّعاها المشركون من قبل يبررون بها شركهم، وعبادتهم لغيره تبارك وتعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3].
فيا أيها الحاج قبل أن تعزم على الحج يجب عليك وجوبًا عينيًا أن تبادر إلى معرفة التوحيد الخالص، وما ينافيه من الشرك، وذلك بدراسة كتاب الله وسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن من تمسك بهما نجا، ومن حاد عنهما ضلّ، والله المستعان.
3 -
(ومنها): التزين بحلق اللحية، وهذه المعصية من أكثر المعاصي شيوعًا بين المسلمين في هذا العصر بسبب استيلاء الكفار على أكثر بلادهم، ونقلهم هذه المعصية إليها، وتقليد المسلمين لهم فيها، مع نهيه صلى الله عليه وسلم إياهم عن ذلك صراحة في قوله صلى الله عليه وسلم:"خالفوا المشركين، احفوا الشوارب، وأوفوا اللحى"، متّفق عليه، وفي حديث آخر:"وخالفوا أهل الكتاب"، وفي هذه القبيحة عدة مخالفات:
الأولى: مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم الصريح بالإعفاء.
الثانية: التشبه بالكفار.
الثالثة: تغيير خلق الله الذي فيه طاعة الشيطان في قوله - كما حكى الله تعالى ذلك عنه -: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119].
الرابعة: التشبه بالنساء، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك.
قال: وإن من المشاهدات التي يراها الحريص على دينه أن جماهير من الحجاج يكونون قد وفَّروا لحاهم بسبب إحرامهم، فإذا تحللوا منه، فبدل أن يحلقوا رؤوسهم كما ندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حلقوا لحاهم التي أمرهم صلى الله عليه وسلم بإعفائها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
4 -
(ومنها): تختم الرجال بالذهب، قال: لقد رأينا كثيرًا من الحجاج قد تزينوا بخاتم الذهب، ولدى البحث معهم في ذلك تبيّن أنهم على ثلاثة أنواع:
بعضهم لا يعلم تحريمه، ولذلك كان يسارع إلى نزعه بعد أن نذكر له شيئًا من النصوص المحرِّمة، كحديث:"نهى صلى الله عليه وسلم عن خاتم الذهب"، مُتّفقٌ عليه، وقوله صلى الله عليه وسلم:"يعمد أحدكم إلى جمرة من نار، فيجعلها في يده؟ "، رواه مسلم.
وبعضهم على علم بالتحريم، ولكنه متبع لهواه، فهذا لا حيلة لنا فيه إلا أن يهديه الله.
وبعضهم يعترف بالتحريم، ولكن يعتذر هو - كما يقال: عذر أقبح من ذنب - فيقول: إنه خاتم الخطبة، ولا يدري المسكين أنه بذلك يجمع بين معصيتين: مخالفة نهيه صلى الله عليه وسلم الصريح كما تقدم، وتشبهه بالكفار؛ لأن خاتم الخطبة لم يكن معروفًا عند المسلمين إلى ما قبل هذا العصر، ثم سرت هذه العادة إليهم من تقاليد النصارى
(1)
.
5 -
(ومنها): التحذير من أن يدع الحاجّ البيات في منى ليلة عرفة، وكذا البيات في المزدلفة ليلة النحر، فذلك من هدي نبيك صلى الله عليه وسلم، لا سيما في البيات في المزدلفة حتى الصبح، فهو ركن من أركان الحجّ على الراجح من أقوال
(1)
ذكر الشيخ الألبانيّ رحمه الله هنا مسألة فسخ الحج بعمل العمرة، لكني تركتها؛ لأنه تقدّم لي البحث عنها في المسألة الرابعة من مسائل حديث جابر رحمه الله الماضي برقم (17/ 2943)، والشيخ رأيه إيجاب الفسخ، وكنت رجّحت هذا في "شرح النسائيّ"، ثم ظهر لي هنا ترجيح الاستحباب، كما مذهب الإمام أحمد، وطائفة، وهو رأي شيخ الإسلام ابن تيميّة، فتنبّه.
أهل العلم، ولا تغتر بما يزخرف لك من القول بعض من يسمون بـ "المطوفين"، فإنهم لا هَمّ لهم إلا قبض الفلوس، وتقليل العمل الذي أخذوا عليه الأجر كافيًا وافيًا على أدائه بتمامه، وسواء عليهم بعد ذلك أتمّ حجك أم نقص؟ اتبعت سنة نبيك أم خالفت؟
6 -
(ومنها): الحذر من أن تمر بين يدي أحد من المصلين في المسجد الحرام، وفي غيره من المساجد؟ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لو يعلم المارّ بين يدي المصلي ماذا عليه، لكان أن يقف أربعين خيرًا له من أن يمر بين يديه"، قال الراوي: لا أدري قال: أربعين يومًا أو شهرًا أو سنة، متّفق عليه.
قال: وكما لا يجوز لك هذا، فلا يجوز لك أيضًا أن تصلي إلى غير سترة، بل عليك أن تصلي إلى أيّ شيء يمنع الناس من المرور بين يديك، فإن أراد أحد أن يجتاز بينك وبين سترتك فعليك أن تمنعه، وفي ذلك أحاديث وآثار أذكر بعضها:
1 -
منها: حديث: "إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرجل فليصلّ، ولا يبالي من مر من وراء ذلك"، متّفقٌ عليه.
2 -
وحديث: "إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه، فليدفع في نحره، وليدرأ ما استطاع، فإن أبى فليقاتل، فإنما هو شيطان"، متّفق عليه.
3 -
قال يحيى بن كثير: "رأيت أنس بن مالك دخل المسجد الحرام، فركز شيئًا أو هيأ شيئًا يصلي إليه"، رواه ابن سعد في "الطبقات"(18/ 7) بسند صحيح.
4 -
عن صالح بن كيسان قال: "رأيت ابن عمر رضي الله عنهما يصلي في الكعبة، ولا يَدَع أحدًا يمر بين يديه"، رواه أبو زرعة الرازيّ في "تاريخ دمشق"(91/ 1)(2)، وكذا ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(8/ 106/ 2) بسند صحيح.
قال: ففي الحديث الأول إيجاب اتخاذ السترة، وأنه إذا فعل ذلك فلا يضره من مر وراءها.
وفي الحديث الثاني: إيجاب دفع المارّ بين يدي المصلي إذا كان يصلي إلى السترة، وتحريم المرور عمدًا، وأن فاعل ذلك شيطان.
قال: وليت شعري ما هو الكسب الذي يعود به الحاج إذا رجع، وقد استحقّ هذا الاسم (الشيطان)؟
والحديثان، وما في معناهما مطلقان، لا يختصان بمسجد دون مسجد، ولا بمكان دون مكان، فهما يشملان المسجد الحرام، والمسجد النبويّ من باب أولى؛ لأن هذه الأحاديث إنما قالها صلى الله عليه وسلم في مسجده، فهو المراد بها أصالةً، والمساجد الأخرى تبعًا.
والأثران المذكوران نصّان صريحان على أن المسجد الحرام داخل في تلك الأحاديث، فما يقال من بعض المطوفين وغيرهم: إن المسجد المكيّ والمسجد النبويّ مستثنيان من النهي لا أصل له في السنة، ولا عن أحد من الصحابة، اللهم سوى حديث واحد، رُوي في المسجد المكيّ لا يصح إسناده، ولا دلالة فيه على الدعوى، كما سيأتي بيانه في بيان بدع الحج - إن شاء الله تعالى.
7 -
(ومنها): أن على أهل العلم والفضل أن يغتنموا فرصة التقائهم بالحجاج في المسجد الحرام وغيره من المواطن المقدسة، فيعلّموهم ما يلزم من مناسك الحج، وأحكامه على وفق الكتاب والسنّة، وأن لا يشغلهم ذلك عن الدعوة إلى أصل الإسلام الذي من أجله بعثت الرسل، وأنزلت الكتب، ألا وهو التوحيد، فإن أكثر من لقيناهم حتى ممن ينتمي إلى العلم وجدناهم في جهل بالغ بحقيقة التوحيد، وما ينافيه من الشركيات والوثنيات، كما أنهم في غفلة تامة عن ضرورة رجوع المسلمين على اختلاف مذاهبهم، وكثرة أحزابهم إلى العمل الثابت في الكتاب والسنة في العقائد والأحكام والمعاملات والأخلاق والسياسة والاقتصاد وغير ذلك من شؤون الحياة، وأن أيّ صوت يرتفع، وأيّ إصلاح يُزْعَم على غير هذا الأصل القويم، والصراط المستقيم، فسوف لا يجني المسلمون منه إلا ذُلًّا وضُعفًا، والواقع أكبر شاهد على ذلك، والله المستعان.
وقد تتطلب الدعوة إلى ما سبق شيئًا قليلًا أو كثيرًا من الجدال بالتي هي أحسن، كما قال الله عز وجل:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، فلا يصدنّك عن ذلك معارضة الجهلة
بقوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]، فإن الجدال المنهيّ عنه في الحج هو كالفسق المنهيّ عنه في غير الحج أيضًا، وهو الجدال بالباطل، وهو غير الجدال المأمور به في آية الدعوة، قال ابن حزم رحمه الله (7/ 196):
والجدال قسمان: قسم في واجب وحقّ، وقسم في باطل، فالذي في الحقّ واجب في الإحرام وغير الإحرام، قال تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} [النحل: 125]، ومن جادل في طلب حقّ له، فقد دعا إلى سبيل ربه تعالى، وسعى في إظهار الحقّ والمنع من الباطل، وهكذا كل من جادل في حقّ لغيره، أو لله تعالى، والجدال بالباطل، وفي الباطل عمدًا ذاكرًا لإحرامه مبطل للإحرام وللحج؛ لقوله تعالى:{فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].
وهذا كله على أن (الجدال) في الآية بمعنى المخاصمة والملاحاة، حتى تغضب صاحبك. وقد ذهب إلى هذا المعنى جماعة من السلف، وعزاه ابن قدامة في "المغني"(3/ 296) إلى الجمهور، ورجحه.
وهناك في تفسيره قول آخر: وهو المجادلة في وقت الحج، ومناسكه، واختاره ابن جرير، ثم ابن تيمية في "مجموعة الرسائل الكبرى"(2/ 361)، وعلى هذا فالآية غير واردة فيما نحن فيه أصلًا، والله أعلم.
ومع ذلك فإنه ينبغي أن يلاحِظ الداعية أنه إذا تبيّن له أنه لا جدوى من المجادلة مع المخالفة له لتعصبه لرأيه، وأنه إذا صابره على الجدل فلربما ترتّب عليه ما لا يجوز، فمن الخير له حينئذ أن يدع الجدال معه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"أنا زعيم ببيت في رَبَض الجنة لمن ترك المراء، وإن كان مُحِقًّا"، رواه أبو داود بسند حسن، عن أبي أمامة رضي الله عنه، وللترمذي نحوه من حديث أنس رضي الله عنه، وحسّنه، وفّقنا الله والمسلمين لمعرفة سنّة نبيه صلى الله عليه وسلم، واتِّباع هديه.
(المسألة الخامسة): في بيان أمور يتحرّج منها بعض الحجاج، وهي جائزة:
(اعلم): أن الشيخ الألبانيّ رحمه الله ذكر في "حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم " أمورًا لا حرج على من فعلها من الحجّاج، أحببت إيرادها هنا؛ تتميمًا للفائدة، ونشرًا للعائدة:
1 -
(فمنها): الاغتسال لغير احتلام ودلك الرأس ففي "الصحيحين، وغيرهما عن عبد الله بن حُنين، أن أبا أيوب الأنصاريّ رضي الله عنه أراه كيف كان النبيّ صلى الله عليه وسلم، يغتسل، وهو محرم، وقد تقدّم الحديث هنا برقم (13/ 2889).
وروى البيهقي بسند صحيح عن ابن عباس قال: ربما قال لي عمر بن الخطاب رضي الله عنه: تعال أباقيك في الماء، أيّنا أطول نفسًا، ونحن محرمون.
وعن عبد الله بن عمر: أن عاصم بن عمر، وعبد الرحمن بن زيد وقعا في البحر يتمالقان - يتغاطسان - يغيّب أحدهما رأس صاحبه، وعمر ينظر إليهما، فلم ينكر ذلك عليهما.
2 -
(ومنها): حكّ الرأس، ولو سقط بعض الشعر، وحديث أبي أيوب المتقدّم آنفًا دليل عليه. وروى مالك في "الموطّأ" (1/ 358/ 92) عن أم علقمة بن أبي علقمة أنها قالت: سمعت عائشة رضي الله عنها زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم تُسأل عن المحرم: أيحك جسده؟ فقالت: نعم فليحكه وليشدد، ولو ربطت يداي ولم أجد إلا رجلي لحككت، قال: وسنده حسنٌ في الشواهد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (المجموعة الكبرى)(2/ 368):
وله أن يحك بدنه إذا حكه، وكذلك إذا اغتسل وسقط شيء من شعره بذلك لم يضره.
3 -
(ومنها): الاحتجام، ولو بحلق الشعر مكان الحجم؛ لحديث ابن بحينة رضي الله عنه قال:"احتجم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو محرم، بلحي جمل" - موضع بطريق مكة - "في وسط رأسه"، مُتَّفقٌ عليه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (مناسكه)(2/ 338): وله أن يحك بدنه إذا حكه، ويحتجم في رأسه، وغير رأسه، وإن احتاج أن يحلق شعرًا لذلك جاز، فإنه قد ثبت في "الصحيح"، ثم ساق هذا الحديث، ثم قال: ولا يمكن ذلك إلا مع حلق بعض الشعر، وكذلك إذا اغتسل، وسقط شيء من شعره بذلك لم يضرّه، وإن تيقن أنه انقطع بالغسل، وهذا مذهب الحنابلة كما في "المغني" (3/ 306) ولكنه قال:(وعليه الفدية)، وبه قال مالك وغيره، وردّه ابن حزم في "المحلّى" (7/ 257) بقوله عقب هذا الحديث: لم يخبر صلى الله عليه وسلم أن
في ذلك غرامة ولا فدية، ولو وجبت لما أغفل ذلك، وكان عليه السلام كثير الشعر أفرع
(1)
، وإنما نُهينا عن حلق الرأس في الإحرام.
4 -
(ومنها): شم الريحان، وطرح الظفر إذا انكسر، قال ابن عباس رضي الله عنهما: المحرم يدخل الحمام، وينزع ضِرسه، ويشم الريحان، وإذا انكسر ظفره طرحه، ويقول: أميطوا عنكم الأذى، فإن الله عز وجل لا يصنع بأذاكم شيئًا، رواه البيهقيّ في "السنن الكبرى"(5/ 62 - 63) بسند صحيح، وإلى هذا ذهب ابن حزم في "المحلّى"(7/ 246)، وروى مالك، عن محمد بن عبد الله بن أبي مريم أنه سأل سعيد بن المسيب عن ظفر له انكسر، وهو محرم؟ فقال سعيد: اقطعه.
5 -
(ومنها): الاستظلال بالخيمة أو المظلة (الشمسية) وفي السيارة، ورفع سقفها من بعض الطوائف تشدد، وتنطع في الدين، ولم يأذن به رب العالمين، فقد صح أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بنصب القبة له بنمرة، ثم نزل بها، كما تقدّم في حديث الباب.
وعن أم الحصين رضي الله عنها قالت: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فرأيت أسامة وبلالًا، وأحدهما آخذ بخطام ناقته، والآخر رافع ثوبه يستره من الحرّ، حتى رمى جمرة العقبة.
وأما ما روى البيهقيّ عن نافع قال: أبصر ابنُ عمر رضي الله عنها رجلًا على بعيره، وهو محرم قد استظَلَّ بينه وبين الشمس، فقال له: ضحِّ لمن أحرمت له، وفي رواية من طريق أخرى أنه رأى عبد الله بن أبي ربيعة جَعَلَ على وسط راحلته عودًا، وجعل ثوبًا يستظلّ به من الشمس، وهو محرم، فلقيه ابن عمر رضي الله عنهما، فنهاه.
فلعل ابن عمر رضي الله عنهما لم يبلغه حديث أم الحصين المذكور، وإلا فما أنكره هو عين ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال البيهقي: هذا موقوف، وحديث أم الحصين صحيح، يعني فهو أولى بالأخذ به، وترجم له بقوله:
(1)
"الأفرع": التامّ الشعر.
"باب المحرم يستظلّ بما شاء ما لم يمس رأسه"
(1)
.
6 -
(ومنها): أن له أن يشُدّ الْمِنْطَقة والْحِزام على إزاره وله أن يعقده عند الحاجة، وأن يتختم، وأن يلبس ساعة اليد، ويضع النظارة؛ لعدم النهي عن ذلك، وورد بعض الآثار بجواز شيء من ذلك، فعن عائشة رضي الله عنها رضي الله عنها أنها سئلت عن الْهِيْمَان للمحرم؟ فقالت: وما بأس؟ ليستوثق من نفقته، وسنده صحيح، وعن عطاء: يتختم - يعني المحرم - ويلبس الهيمان، رواه البخاري تعليقًا.
قال: ولا يخفى أن الساعة والنظارة في معنى الخاتم والمنطقة، مع عدم ورود ما ينهى عنهما، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]. انتهى كلام الشيخ الألبانيّ رحمه الله ببعض اختصار
(2)
.
[تنبيه]: قد أجاد الشيخ الألبانيّ رحمه الله في آخر "حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم" حيث ذكر أنواعًا من بدع الحج والزيارة، فعلى كلّ من يشح بدينه، ويحرص على اتباع السنّة أن يطالع ما كتبه رحمه الله ليكون على بصيرة من أمره، والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق.
[خاتمة]: - نسأل الله تعالى حسنها - في ذكر قصيدة العلامة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعانيّ، صاحب "سبل السلام" المتوفَّى سنة (1182 هـ) رحمه الله تعالى في ذكر الحجّ، وبركاته:
بسم الله الرحمن الرحيم
أَيَا عَذَبَاتِ الْبَانِ مِنْ أَيْمَنِ الْحِمَى
…
رَعَى اللهُ عَيْشًا فِي رُباكِ قطعْنَاهُ
سَرَقْنَاهُ مِنْ شَرْخِ الشَّبَابِ وَرَوْقِهِ
…
فَلَمَّا سَرَقْنَا الصَّفْوَ مِنْهُ سُرِقْنَاهُ
وَجَاءَتْ جُيُوشُ الْبَيْنِ يَقْدُمُهَا الْقَضَا
…
فَبَدَّدَ شَمْلًا بِالْحِجَازِ نَظَمْنَاهُ
(1)
قال الشيخ الألبانيّ رحمه الله: فقول شيخ الإسلام: والأفضل أن يضحي لمن أحرم له، كما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه يحجّون، فيه نظر بيّن لا يخفى على القارئ. انتهى.
(2)
راجع: "حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم" ص 4 - 31.
حَرَامٌ بِذِي الدُّنْيَا دَوَامُ اجْتِمَاعِنَا
…
فَكَمْ صَرَمَتْ لِلشَّمْلِ حَبْلًا وَصَلْنَا
فَيَا أَيْنَ أَيَّامٌ تَوَلَّتْ عَلَى الْحِمَى
…
وَلَيْل مَعَ الْعُشَّاقِ فِيهِ سَهِرْنَاهُ
وَنَحْنُ لِجِيرَانِ الْمُحَصَّبِ جِيرَةٌ
…
نُوَفِّي لَهُمْ حُسْنَ الْوِدَادِ وَنَرْعَاهُ
وَنَخْلُو بِمَنْ نَهْوَى إِذَا رَقَدَ الْوَرَى
…
وَيَجْلُو عَلَيْنَا مَنْ نُحِبُّ مُحَيَّاهُ
فَقُرْبٌ وَلَا بُعْدٌ وَشَمْلٌ مُجَمَّعٌ
…
وَكَاسُ وِصَالٍ بَيْنَنَا قَدْ أَدَرْنَاهُ
فَهَاتِيكَ أَيَّامُ الْحَيَاةِ وَغَيْرُهَا
…
مَمَات فَيَا لَيْتَ النَّوَى مَا شَهِدْنَاهُ
فَيَا مَا أَمَرَّ الْبَيْنَ مَا أَقْتَلَ الْهَوَى
…
أَمَا يَا الْهَوَى إِنَّ الْهَنَا قَدْ سُلِبْنَاهُ
فَوَاللهِ لَمْ يُبْقِ الْفِرَاقُ لَذَاذَةً
…
فَلَوْ مِنْ سَبِيل لِلْفِرَاقِ فَرَقْنَاهُ
فَكَمْ مِنْ قَتِيلٍ بَيْنَنَا بِسِهَامِهِ
…
فَلَوْ أَنَّنَا نُعْطَى الْقِصَا صقَتَلْنَاهُ
فَأَحْبَابُنَا بِالشَّوْقِ بِالْحُبِّ بِالْجَوَى
…
لحرمة عقد عندنا ما حللناه
لِحَقِّ هَوَانَا فِيكُمُ وَوِدَادُنَا
…
لِمِيثَاقِ عَهْدٍ صَادِقٍ مَا نَقَضْنَاهُ
أَعِيدُوا لَنَا أَعْيَادَنَا بِرُبُوعِكُمْ
…
وَوَقْتَ سُرُورٍ فِي حِمَاكُمْ قَضَيْنَاهُ
فَمَا الْعَيْشُ إِلَّا مَا قَضَيْنَا عَلَى الْحِمَى
…
فَذَاكَ الَّذِي مِنْ عُمْرِنَا قَدْ عَدَدْنَاهُ
فَيَا لَيْتَ عَنَّا أَغْمَضَ الْبَيْنُ طَرْفَهُ
…
وَيَا لَيْتَ وَقْتًا لِلْفِرَاقِ فَقَدْنَاهُ
وَتَرْجِعُ أَيَّامُ الْمُحَصَّبِ مِنْ مِنًى
…
وَيَبْدُو ثَرَاهُ لِلْعُيُونِ وَحَصْبَاهُ
وَتَسْرَحُ فِيهِ الْعِيس بَيْنَ ثُمَامَةٍ
…
وَتَسْتَنْشِقُ الأَرْوَاحُ نَشْرَ خُزَامَاهُ
وَنَشْكو إِلَى أَحْبَابِنَا طُولَ شَوْقِنَا
…
إِلَيْهِمْ وَمَاذَا بِالْفِرَاقِ لَقِينَاهُ
فَلَا كَانَتِ الدُّنْيَا إِذَا لَمْ يُعَايِنُوا
…
هُمُ الْقَصْدُ فِي أُولَى الْمَشُوقِ وَأُخْرَاهُ
عَلَيْكُمْ سَلَامُ اللهِ يَا سَاكِنِي الْحِمَى
…
بِكُمْ طَابَ رَيَّاهُ بِكُمْ طَابَ سُكْنَاهُ
وَرَبِّكُمُ لَوْلَاكُمُ مَا نَوَدُّهُ
…
وَلَا الْقَلْبَ مِنْ شَوْفي إِلَيْهِ أَذَبْنَاهُ
أَسُكَّانَ وَادِي الْمُنْحَنَى زَادَ وَجْدُنَا
…
بِمَغْنَى حِمَاكُمْ ذَاكَ مَغْنًى شَغَفْنَاهُ
نَحِنُّ إِلَى تِلْكَ الرُّبُوعِ تَشَوُّقًا
…
فَفِيهَا لَنَا عَهْدٌ وَعَقْدٌ عَقَدْنَاهُ
وَرَبٍّ بَرَانَا مَا سَلَوْنَا رُبُوعَكُمْ
…
وَمَا كَانَ مِنْ رَبْعٍ سِوَاهُ سَلَوْنَاهُ
فَيَا هَلْ إِلَى رَبْعِ الأَعَارِيبِ عَوْدَةٌ
…
فَذَاكَ وَحَقِّ اللهِ رَبْعًا حَبَبْنَاهُ
قَضَيْنَا مَعَ الأَخبَابِ فِيهِ مَآرِبًا
…
إِلَى الْحَشْرِ لَا تُنْسَى سَقَى اللهُ مَرْعَاهُ
فَشُدُّوا مَطَايَانَا إِلَى الرَّبْعِ ثَانِيًا
…
فَإِنَّ الْهَوَى عَنْ رَبْعِهِمْ مَا ثَنَيْنَاهُ
ذكرُ البيت والطواف
فَفِي رَبْعِهِمْ للهِ بَيْتٌ مُبَارَكٌ
…
إِلَيْهِ قُلُوبُ الْخَلْقِ تَهْوِي وَتَهْوَاهُ
يَطُوفُ بِهِ الْجَانِي فَيُغْفَرُ ذَنْبُهُ
…
وَيَسْقُطُ عَنْهُ جُرْمُهُ وَخَطَايَاهُ
فَكَمْ لَذَّةٍ كَمْ فَرْحَةٍ لِطَوَافِهِ
…
فَلِلَّهِ مَا أَحْلَى الطَّوَافَ وَأَهْنَاهُ
نَطُوفُ كَأَنَّا فِي الْجِنَانِ نَطُوفُهَا
…
وَلَا هَمَّ لَا غَمّ فَذَاكَ نَفَيْنَاهُ
فَوَا شَوْقَنَا نَحْوَ الطَّوَافِ وَطِيبهِ
…
فَذَلِكَ شَوْق لَا يُعَبَّرُ مَعْنَاهُ
فَمَنْ لَمْ يَذُقْهُ لَمْ يَذُقْ قَطُّ لَذًّةً
…
فَذُقْهُ تَذُقْ يَا صَاحِ مَا قَدْ أُذِقْنَاهُ
فَوَاللهِ مَا نَنْسَى الْحِمَى فَقُلُوبُنَا
…
هُنَاكَ تَرَكْنَاهَا فَيَا كَيْفَ نَنْسَاهُ
تَرَى رَجْعَةً هَلْ عَوْدَةٌ لِطَوَافِنَا
…
وَذَاكَ الْحِمَى قَبْلَ الْمَنِيَّةِ نَغْشَاهُ
وَوَاللهِ مَا نَنْسَى زَمَانَ مَسِيرِنَا
…
إِلَيْهِ وَكُلُّ الرَّكْب قَدْ لَذَّ مَسْرَاهُ
وَقَدْ نُسِيتْ أَوْلَادُنَا وَنسَاؤُنَا
…
وَأَمْوَالُنَا فَالْقَلْبَ عَنْهُمْ شَغَلْنَاهُ
تَرَاءَتْ لَنَا أَعْلَامُ وَصْلٍ عَلَى اللِّوَى
…
فَمِنْ أَجْلِهَا فَالْقَلْبَ عَنْهُمْ لَوَيْنَاهُ
جَعَلْنَا إِلَهَ الْعَرْشِ نُصْبَ عُيُونِنَا
…
وَمَنْ دُونَهُ خَلْفَ الظُّهُورِ نَبَذْنَاهُ
وَسِرْنَا نَشُقُّ الْبِيْدَ لِلْبَلَدِ الَّذِي
…
بِجُهْدٍ وَشِق لِلنُّفُوسِ بَلَغْنَاهُ
رِجَالًا وَرُكْبَانًا عَلَى كُلِّ ضَامِرٍ
…
وَمِنْ كُلِّ ذِي فَجٍّ عَمِيقٍ أَتَيْنَاهُ
نخُوضُ إِلَيْهِ الْبَرَّ وَالْبَحْرَ وَالدُّجَى
…
وَلَا قَاطِع إِلَّا وَعَنْهُ قَطَعْنَاهُ
وَنَطْوِي الْفَلَا مِنْ شِدَّةِ الشَّوْقِ لِلِّقَا
…
فَتُمْسِي الْفَلَا تَحْكِي سِجِلًّا قَطَعْنَاهُ
وَلَا صَدَّنَا عَنْ قَصْدِنَا فَقْدُ أَهْلِنَا
…
وَلَا هَجْرُ جَارٍ أَو حَبِيب أَلِفْنَاهُ
وَأَمْوَالُنَا مَبْذُولَةٌ وَنُفُوسُنَا
…
وَلَمْ نُبْقِ شَيْئًا مِنْهُمَا مَا بَذَلْنَاهُ
عَرَفْنَا الَّذِي نَبْغِي وَنَطْلُبُ فَضْلَهُ
…
فَهَانَ عَلَيْنَا كُلُّ شَيْءٍ بَذَلْنَاهُ
فَمَنْ عَرَفَ الْمَطْلُوبَ هَانَتْ شَدَائِدُ
…
عَلَيْهِ وَيَهْوَى كُلَّ مَا فِيهِ يَلْقَاهُ
فَيَا لَوْ تَرَانَا كُنْتَ تَنْظُرُ عُصْبَةً
…
حَيَارَى سَكَارَى نَحْوَ مَكَّةَ وُلَّاهُ
فَلِلَّهِ كَمْ لَيْلٍ قَطَعْنَاهُ بِالسُّرَى
…
وَبَرٍّ بِسَيْرِ الْيَعْمَلَاتِ بَرَيْنَاهُ
وَكَمْ مِنْ طَرِيقٍ مُفْزِعٍ فِي مَسِيرِنَا
…
سَلَكْنَا وَوَادٍ بِالْمَخَاوِفِ جُزْنَاهُ
وَلَوْ قِيلَ إِنَّ النَّارَ دُونَ مَزَارِكُمْ
…
دُفِعْنَا إِلَيْهَا وَالْعَذُولَ دَفَعْنَاهُ
فَمَوْلَى الْمَوَالِي لِلزِّيَارَةِ قَدْ دَعَا
…
أَنَقْعُدُ عَنْهَا وَالْمَزُورُ هُوَ اللهُ
تَرَادَفَتِ الأَشْوَاقُ وَاضْطَرَمَ الْحَشَا
…
فَمَنْ ذَا لَهُ صَبْرٌ وَتَضْرَمُ أَحْشَاهُ
وَأَسْرَى بِنَا الْحَادِي فَأَمْعَنَ فِي السُّرَى
…
وَوَلَّى الْكَرَى نَوْمَ الْجُفُونِ نَفَيْنَاهُ
الإحرام من الميقات
وَلَمَّا بَدَا مِيقَاتُ إِحْرَامِ حَجِّنَا
…
نَزَلْنَا بِهِ وَالْعِيسَ فِيهِ أَنَخْنَاهُ
لِيَغْتَسِلَ الْحُجَّاجُ فِيهِ وَيُحْرِمُوا
…
فَمِنْهُ نُلَبِّي رَبَّنَا لَا حُرِمْنَاهُ
وَنَادَى مُنَادٍ لَلْحَجِيج لِيُحْرِمُوا
…
فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ أَجَابَ ولَبّاهُ
وَجُرِّدَتِ الْقُمْصَانُ وَالْكلُّ أَحْرَمُوا
…
وَلَا لُبْسَ لَا طِيبٌ جَمِيعًا هَجَرْنَاهُ
وَلَا لَهْوَ لَا صَيْدٌ وَلَا نَقْرَبُ النِّسَا
…
وَلَا رَفَثٌ لَا فِسْقَ كُلًّا رَفَضْنَاهُ
وَصِرْنَا كَأَمْوَاتٍ لَفَفْنَا جُسُومَنَا
…
بِأَكْفَانِنَا كُلٌّ ذَلِيلٌ لِمَوْلَاهُ
لَعَلَّ يَرَى ذُلَّ الْعِبَادِ وَكَسْرَهُمْ
…
فَيَرْحَمَهُمْ رَبٌّ يُرَجّونَ رُحْمَاهُ
يُنَادُونَهُ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ ذَا الْعُلَا
…
وَسَعْدَيْكَ كُلَّ الشِّرْكِ عَنْكَ نَفَيْنَاهُ
فَلَوْ كُنْتَ يَا هَذَا تُشَاهِدُ حَالَهُمْ
…
لأَبْكَاكَ ذَاكَ الْحَالُ فِي حَالِ مَرْآهُ
وُجُوهُهُمُ غُبْرٌ وَشُعْثٌ رُؤُوسُهُمْ
…
فَلَا رَأْسَ إِلَّا لِلإِلَهِ كَشَفْنَاهُ
لَبِسْنَا دُرُوعًا مِنْ خُضُوعٍ لِرَبِّنَا
(1)
…
وَمَا كَانَ مِنْ دِرْعِ الْمَعَاصِي خَلَعْنَاهُ
وَذَاكَ قَلِيلٌ فِي كَثِيرِ ذُنُوبِنَا
…
فَيَا طَالَمَا رَبُّ الْعِبَادِ عَصَيْنَاهُ
إِلَى زَمْزَمٍ زُمَّتْ رِكَابُ مَطِيِّنَا
…
وَنَحْوَ الصَّفَا عِيسَ الْوُفُودِ صَفَفْنَاهُ
نَؤُمُّ مَقَامًا لِلْخَلِيلِ مُعَظَّمًا
…
إِلَيْهِ اسْتَبَقْنَا وَالرِّكَابَ حَثَثْنَاهُ
وَنَحْنُ نُلَبِّي فِي صُعُودٍ وَمَهْبَطٍ
…
كَذَا حَالُنَا فِي كُلِّ مَرْقًى رَقِينَاهُ
وَكَمْ نَشَزٍ عَالٍ عَلَتْهُ وُفُودُنَا
…
وَتَعْلُو بِهِ الأَصْوَاتُ حِينَ عَلَوْنَاهُ
نَحُجُّ لِبَيْتٍ حَجَّهُ الرُّسْلُ قَبْلَنَا
…
لِنَشْهَدَ نَفْعًا فِي الْكِتَابِ وُعِدْنَاهُ
دَعَانَا إِلَيْهِ اللهُ قَبْلَ بِنَائِهِ
…
فَقُلْنَا لَهُ لَبَّيْكَ دَاعٍ أَجَبْنَاهُ
أَتَيْنَاكَ لَبَّيْنَاكَ جِئْنَاكَ رَبَّنَا
…
إِلَيْكَ هَرَبْنَا وَالأَنَامَ تَرَكْنَاهُ
وَوَجْهَكَ نَبْغِي أَنْتَ لِلْقَلْبِ قِبْلَةٌ
…
إِذَا مَا حَجَجْنَا أَنْتَ لِلْحَجِّ رُمْنَاهُ
فَمَا الْبَيْتُ مَا الأَرْكَانُ مَا الْحِجْرُ مَا الصَّفَا
…
وَمَا زَمْزَمٌ أَنْتَ الَّذِي قَدْ قَصَدْنَاهُ
(1)
وفي نسخة: "مِنْ خُضُوعِ ذُنُوبِنَا".
وَأَنْتَ مُنَانَا أَنْتَ غَايَةُ سُؤْلِنَا
…
وَأَنْتَ الَّذِي دُنْيَا وَأُخْرَى أَرَدْنَاهُ
إِلَيْكَ شَدَدْنَا الرَّحْلَ نَخْتَرِقُ الْفَلَا
…
فَكَمْ سُدَّ سَدٌّ فِي سَوَادٍ خَرَقْنَاهُ
كَذَلِكَ مَا زِلْنَا نُحَاوِلُ سَيْرَنَا
…
نَهَارًا وَلَيْلًا عِيسَنَا مَا أَرَحْنَاهُ
إِلَى أَنْ بَدَا إِحْدَى الْمَعَالِمِ مِنْ مِنَى .. وَهَبَّ نَسِيمٌ بِالْوِصَالِ نَشِقْنَاهُ
(1)
وَنَادَى بِنَا حَادِي الْبِشَارَةِ وَالْهَنَا
…
فَهَذَا الْحِمَى هَذَا ثَرَاهُ غَشِينَاهُ
رؤية البيت
وَمَا زَالَ وَفْدُ اللهِ يَقْصِدُ مَكَّةً
…
إِلَى أَنْ بَدَا الْبَيْتُ الْعَتِيقُ وَرُكْنَاهُ
فَضَجَّتْ ضُيُوفُ اللهِ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَا
…
وَكَبَّرَتِ الْحُجَّاجُ حِينَ رَأَيْنَاهُ
وَقَدْ كَادَتِ الأَرْوَاحُ تَزْهَقُ فَرْحَةً
…
لِمَا نَحْنُ مِنْ عُظْمِ السُّرُورِ وَجَدْنَاهُ
تُصَافِحُنَا الأَمْلَاكُ مَنْ كَانَ رَاكِبًا
…
وَتَعْتَنِقُ الْمَاشِي إِذَا تَتَلَقَّاهُ
طواف القدوم
فَطُفْنَا بِهِ سَبْعًا رَمَلْنَا ثَلَاثَةً
…
وَأَرْبَعَةً مَشْيًا كَمَا قَدْ أُمِرْنَاهُ
كَذَلِكَ طَافَ الْهَاشِمِيُّ مُحَمَّدٌ
…
طَوَافَ قُدُوم مِثْلَ مَا طَافَ طُفْنَاهُ
وَسَالَتْ دُمُوعٌ مِنْ غَمَامِ جُفُونِنَا
…
عَلَى مَا مَضَى مِنْ إِثْمِ ذَنْب كَسَبْنَاهُ
وَنَحْنُ ضُيُوفُ اللهِ جِئْنَا لِبَيْتِهِ
…
نُرِيدُ الْقِرَى نَبْغِي مِنَ اللهِ حُسْنَاهُ
فَنَادَى بِنَا أَهْلًا ضُيُوفِي تَبَاشَرُوا
…
وَقَرُّوا عُيُونًا فَالْحَجِيجَ قَبِلْنَاهُ
غَدًا تَنْظُرُوني فِي جِنَانِ خُلُودِكُمْ
…
وَذَاكَ قِرَاكُمْ مَعْ نَعِيمٍ ذَخَرْنَاهُ
فَأَيُّ قِرًى يَعْلُو قِرَانَا لِضَيْفِنَا
…
وَأَيُّ ثَوَابٍ مِثْلَ مَا قَدْ أَثَبْنَاهُ
وَكُلُّ مُسِيءٍ قَدْ أَقَلْنَا عِثَارَهُ
…
وَلَا وِزْرَ إِلًّا عَنْكُمُ قَدْ وَضَعْنَاهُ
وَلَا نَصَبٌ إِلَّا وِعِنْدِي جَزَاؤُهُ
…
وَكُلَّ الَّذِي أَنْفَقْتُمُوهُ حَسَبْنَاهُ
سَأُعْطِيكُمُ أَضْعَافَ أَضْعَافِ مِثْلِهِ
…
فَطِيبُوا نُفُوسًا فَضْلَنَا قَدْ فَضِلْنَاهُ
فَيَا مَرْحَبًا بالْقَادِمِينَ لِبَيْتِنَا
…
إِلَيَّ حَجَجْتُمْ لَا لِبَيْتٍ بَنَيْنَاهُ
عَلَيَّ الْجَزَا مِنِّي الْمَثُوبَةُ وَالرِّضَى
…
ثَوَابَكُمُ يَوْمَ الْجَزَا أَتَوَلَّاهُ
(1)
وقع في النسخة: "نسقناه"، بالسين المهملة، والظاهر أن الصواب "نَشِقناه" بالشين المعجمة، من باب تعب بمعنى شممناه، فليُحرّر.
فَطِيبُوا سُرُورًا وَافْرَحُوا وَتَبَاشَرُوا
…
وَتيهُوا وَهِيمُوا بَابُنَا قَدْ فَتَحْنَاهُ
وَلَا ذَنْبَ إِلَّا قَدْ غَفَرْنَاهُ عَنْكُمُ
…
وَمَا كَانَ مِنْ عَيْبٍ عَلَيْكُمْ سَتَرْنَاهُ
فَهَذَا الَّذِي نِلْنَا بِيَوْمِ قُدُومِنَا
…
وَأَوَّلَ ضِيقٍ لِلصُّدُورِ شَرَحْنَاهُ
المبيت بمنى، والمسير إلى عرفات
وَبِتْنَا بِأَقْطَارِ الْمُحَصَّبِ مِنْ مِنًى
…
فَيَا طِيبَ لَيْل بِالْمُحَصَّبِ بِتْنَاهُ
وَفي يَوْمِنَا سِرْنَا إِلَى الْجَبَل الَّذِي
…
مِنَ الْبُعْدِ جِئْنَاهُ لِمَا قَدْ وَجَدْنَاهُ
فَلَا حَجَّ إِلَّا أَنْ نَكُونَ بِأَرْضِهِ
…
وُقُوفًا وَهَذَا فِي الصَّحِيحِ رَوينَاهُ
إِلَيْهِ ابْتَدَرْنَا قَاصِدِينَ إِلا هَنَا
…
فَلَوْلَاهُ مَا كُنَّا لِحَجٍّ سَلَكْنَاهُ
وَسِرْنَا إِلَيْهِ قَاصِدِينَ وُقُوفَنَا
…
عَلَيْهِ وَمِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ أَتَيْنَاهُ
عَلَى عَلَمَيْهِ لِلْوُقُوفِ جَلَالَةٌ
…
فَلَا زَالَتَا تَحْمَى وَتُحْرَسُ أَرْجَاهُ
وَبَيْنَهُمَا جُزْنَا إِلَيْهِ بِزَحْمَةٍ
…
فَيَا طِيبَهَا لَيْتَ الزِّحَامَ رَجَعْنَاهُ
وَلَمَّا رَأَيْنَاهُ تَعَالَى عَجِيجُنَا
…
نُلَبِّي وَبِالتَّهْلِيلِ مِنَّا مَلْأنَاهُ
وَفِيهِ نَزَلْنَا بُكْرَةً بِذُنُوبِنَا
…
وَمَا كَانَ مِنْ ثِقْلِ الْمَعَاصِي حَمَلْنَاهُ
الوقوف بعرفة
وَبَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ كَانَ وُقُوفُنَا
…
إِلَى اللَّيْلِ نَبْكِي وَالدُّعَاءَ أَطَلْنَاهُ
فَكَمْ حَامِدٍ كَمْ ذَاكِرٍ وَمُسَبِّح
…
وَكَمْ مُذْنِب يَشْكُو لِمَوْلَاهُ بَلْوَاهُ
فَكَمْ خَاضِعٍ كَمْ خَاشِعٍ مُتَذَلِّلٍ
…
وَكَمْ سَائِلٍ مُدَّتْ إِلَى اللهِ كَفَّاهُ
وَسَاوَى عَزِيزٌ فِي الْوُقُوفِ ذَلِيلَنَا
…
وَكَمْ ثَوْب عِزٍّ فِي الْوُقوفِ لَبِسْنَاهُ
وَرَبٌّ دَعَانَا نَاظِرٌ لِخُضُوعِنَا
…
خَبِيرٌ عَلِيمٌ بِالَّذِي قَدْ أَرَدْنَاهُ
وَلَمَّا رَأَى تِلْكَ الدُّمُوعَ الَّتِي جَرَتْ
…
وَطُولَ خُشُوع مَعْ خُضُوعٍ خَضَعْنَاهُ
تَجَلَّى عَلَيْنَا بِالْمَتَابِ وَبِالرِّضَى
…
وَبَاهَى بنَا الأَمْلَاكَ حِينَ وَقَفْنَاهُ
وَقَالَ انْظُرُوا شُعْثًا وَغُبْرًا جُسُومُهُمْ
…
أَجِرْنَا أَغِثْنَا يَا إِلَاهًا دَعَوْنَاهُ
وَقَدْ هَجَرُوا أَمْوَالَهُمْ وَدِيَارَهُمْ
…
وَأَوْلَادَهُمْ وَالْكُلُّ يَرْفَعُ شَكْوَاهُ
إِلَيَّ فَإِنِّي رَبُّهُمْ وَمَلِيكُهُمْ
…
لِمَنْ يَشْتَكِي الْمَمْلُوكُ إِلَّا لِمَوْلَاهُ
أَلَا فَاشْهَدُوا أَنِّي غفَرْتُ ذُنُوبَهُمْ
…
أَلَا فَانْسَخُوا مَا كَانَ عَنْهُمْ نَسَخْنَاهُ
فَقَدْ بُدِّلَتْ تِلْكَ الْمَسَاوِي مَحَاسِنًا
…
وَذَلِكَ وَعْدٌ مِنْ لَدُنَّا وَعَدْنَاهُ
فَيَا صَاحِبِي مَنْ مِثْلُنَا فِي مَقَامِنَا
…
وَمَنْ ذَا الَّذِي قَدْ نَالَ مَا نَحْنُ نِلْنَاهُ
عَلَى عَرَفَاتٍ قَدْ وَقَفْنَا بِمَوْقِفٍ
…
بِهِ الذَّنْبُ مَغْفُورٌ وَفِيهِ مَحَوْنَاهُ
وَقَدْ أَقْبَلَ الْبَارِي عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ
…
وَقَالَ ابْشِرُوا
(1)
فَالْعَفْوَ فِيكُمْ نَشَرْنَاهُ
وَعَنْكُمْ ضَمِنَّا كُلَّ تَبِعَةٍ جَرَتْ
…
عَلَيْكُمْ وَأَمَّا حَقُّنَا فَوَهَبْنَاهُ
أَقَلْنَاكُمُ مِنْ كُلِّ مَا قَدْ جَنَيْتُمُ
…
وَمَا كَانَ مِنْ عُذْرٍ لَدَيْنَا عَذَرْنَاهُ
فَيَا مَنْ أَسَا يَا مَنْ عَصَى لَوْ رَأَيْتَنَا
…
وَأَوْزَارُنَا تُرْمَى وَيَرْحَمُنَا اللهُ
وَدِدْتَ بِأَنْ لَوْ كُنْتَ بَيْنَ رِحَالِنَا
…
وَتَرْجُو رَحِيمًا كُلُّنَا يَتَرَجَّاهُ
وَقَفْنَا لَدَيْهِ تَائِبِينَ مِنَ الْخَطَا
…
وَغُفْرَانَنَا مِنْ رَبِّنَا قَدْ طَلَبْنَاهُ
أُمِرْنَا بحُسْنِ الظَّنِّ وَاللهُ حَثَّنَا
…
عَلَيْهِ وَهَذَا فِي الْحَدِيثِ رَوينَاهُ
عَلَيْهِ اتَّكَلْنَا وَاطْمَأَنَّتْ قُلُوبُنَا
…
لِمَا عِنْدَهُ مِنْ وُسْع عَفْوٍ عَرَفْنَاهُ
فَطُوبَى لِمَنْ ذَاكَ الْمُقَامُ مُقَامُهُ
…
وَبُشْرَاهُ فِي يَوْمِ التَّغَابُنِ بُشْرَاهُ
تَرَى مَوْقِفًا فِيهِ الْخَزَائِنُ فُتِّحَتْ
…
وَأوْلَى عَلَيْنَا اللهُ مِنْهُ عَطَايَاهُ
فَصَالَحَ مَهْجُورًا وَأَقْرَبَ مُبْعَدًا
…
وَذَاكَ مَقَامُ الصُّلْحِ لِلصُّلْحِ قُمْنَاهُ
وَدَارَ عَلَيْنَا الْكَأسُ بِالْفَضْلِ وَالرِّضَا
…
سُقِينَا شَرَابًا مِثْلَهُ مَا سُقِينَاهُ
فَإِنْ شِئْتَ تُسْقَى مَا سُقِينَا عَلَى الْحِمَى
…
فَخَلِّ الْوَنَى وَاقْصِدْ مَقَامًا قَصَدْنَاهُ
وَفِيهِ بَسَطْنَا لِلرَّحِيلِ كُفُوفَنَا
…
فَقَالَ كُفِيتُمْ عَفْوُنَا قَدْ بَسَطْنَاهُ
وَأَعْتَقَنَا كُلًّا وَأَهْدَرَ مَا مَضَى
…
وَقَالَ لَنَا كُلُّ الْعِتَابِ طَوَيْنَاهُ
ذكرُ خِزْي إبليس اللعين
فَإِبْلِيسُ مَغْمُومٌ لِكَثْرَةِ مَا يَرَى
…
مِنَ الْعِتْقِ مَحْقُورًا ذَلِيلًا دَحَرْنَاهُ
عَلَى رَأسِهِ يَحْثُو التُّرَابَ مُنَادِيًا
…
بِأَعْوَانِهِ ويلَاهُ ذَا الْيَوْمَ ويلَاهُ
وَأَظْهَرَ مِنَّا حَسْرَةً وَنَدَامَةً
…
وَكُلُّ بِنَاءٍ قَدْ بَنَاهُ هَدَمْنَاهُ
تَرَكْنَاهُ يَبْكِي بَعْدَ مَا كَانَ ضَاحِكًا
…
فَكَمْ مُذْنِبٍ مِنْ كَفِّهِ قَدْ سَلَلْنَاهُ
وَكَمْ أَمَلٍ نِلْنَاهُ يَوْمَ وُقُوفِنَا
…
وَكَمْ مِنْ أَسِيرٍ لِلْمَعَاصِي فَكَكْنَاهُ
وَكَمْ قَدْ رَفَعْنَا لِلإِلَاهِ مَطَالِبًا
…
وَلَا أَحَدًا مِمَّنْ نُحِبُّ نَسِينَاهُ
(1)
من بابي علم وضرب، كما في "القاموس".
وَخُصِّصَتِ الآبَاءُ وَالأَهْلُ بِالدُّعَا
…
وَكَمْ صَاحِب دَانٍ وَنَاءٍ ذَكَرْنَاهُ
كَذَا فَعَلَ الْحُجَّاجُ هَاتِيكَ عَادَةً
…
وَمَا فَعَلَ الْحُجَّاجُ فِيهِ فَعَلْنَاهُ
وَظَلَّ إِلَى وَقْتِ الْغُرُوبِ وُقُوفُنَا
…
وَقِيلَ ادْفَعُوا فَالْكُلَّ مِنْكمْ قَبِلْنَاهُ
الإفاضة، والمبيت بمزدلفة، وذكرُ الله عند المشعر الحرام
أَفِيضوا وَأَنْتُمْ حَامِدُونَ إَلَاهَكُمْ
…
إِلَى مَشْعَرٍ جَاءَ الْكِتَابُ بِذِكْرَاهُ
وَسِيرُوا إِلَيْهِ وَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَهُ
…
فَسِرْنَا وَفِي وَقْتِ الْعِشَاءِ نَزَلْنَاهُ
وَفِيهِ جَمَعْنَا مَغْرِبًا وَعِشَاءَهَا
…
تَرَى عَائِدًا جَمْعًا لِجَمْعٍ جَمَعْنَاهُ
وَبِتْنَا بِهِ حَتَّى لَقَطْنَا جِمَارَنَا
…
وَرَبًّا شَكَرْنَاهُ عَلَى مَا هَدَانَاهُ
وَمِنْهُ أَفَضْنَا حَيْثُمَا النَّاسُ قَبْلَنَا
…
أَفَاضُوا وَغُفْرَانَ الإِلَاهِ طَلَبْنَاهُ
نزول منى، والرمي، والحلق، والنحر
وَنَحْوَ مِنًى مِلْنَا بِهَا كَانَ عِيدُنَا
…
وَنِلْنَا بِهَا مَا الْقَلْبُ كَانَ تَمَنَّاهُ
فَمَنْ مِنْكُمُ بِاللهِ عَيَّدَ عِيدَنَا
…
فَعِيدُ مِنًى رَبُّ الْبَرِيَّةَ أَعْلَاهُ
وَفِيهِ رَمَيْنَا لِلْعِقَابِ
(1)
جِمَارَنَا
…
وَلَا جُرْمَ إِلَّا مَعْ جِمَارٍ رَمَيْنَاهُ
وَبِالْجَمْرَةِ الْقُصْوَى بَدَانَا وَعِنْدَهَا
…
حَلَقْنَا وَقَصَّرْنَا لِشَعْرٍ حَضَرْنَاهُ
وَلَمَّا حَلَقْنَا حَلَّ لُبْسُ مَخِيطِنَا
…
فَيَا حِلْقَةً مِنْهَا الْمَخِيطَ لَبِسْنَاهُ
وَفِيهَا نَحَرْنَا الْهَدْيَ طَوْعًا لِرَبِّنَا
…
وَإِبْلِيس لَمَّا أَنْ نَحَرْنَا نَحَرْنَاهُ
وَمِنْ بَعْدِهَا يَوْمَانِ لِلرَّمْي عَاجِلًا
…
فَفِيهَا رَمَيْنَا وَالإِلَاهَ دَعَوْنَاهُ
وَإِيَّاهُ أَرْضَيْنَا بِرَمْي جِمَارِنَا
…
وَشَيْطَانَنَا الْمَرْجُومَ ثَمَّ رَجَمْنَاهُ
وَبِالْخَيْفِ أَعْطَانَا الَإِلَاهُ أَمَانَنَا
…
وَأَذْهَبَ عَنَّا كُلَّ مَا نَحْنُ نَخْشَاهُ
النَّفْرُ مِن منى
وَرُدَّتْ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ وُفُودُنَا
…
نَحِنُّ لَهُ كَالطَّيْرِ حَنَّ لِمَأوَاهُ
وَطُفْنَا طَوَافًا للإِفَاضَةِ حَوْلَهُ
…
وَفُزْنَا بِهِ بَعْدَ الْجِمَارِ وَزُرْنَاهُ
وَمِنْ بَعْدِ مَا زُرْنَا دَخَلْنَاهُ دَخْلَةً
…
كَأَنَّا دَخَلْنَا الْخُلْدَ حِينَ دَخَلْنَاهُ
(1)
بالكسر جمع عقبة.
وَنِلْنَا أَمَانَ اللهِ عِنْدَ دُخُولِهِ
…
كَذَا أَخْبَرَ الْقُرْآنُ فِيمَا قَرَأنَاهُ
فَيَا مَنْزِلًا قَدْ كَانَ أَبْرَكَ مَنْزِلٍ
…
نَزَلْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَبَيْتًا وَطِئْنَاهُ
تَرَى حَجَّةً أُخْرَى إِلَيْهِ وَدَخْلَةً
…
وَهَذَا عَلَى رَبِّ الْوَرَى نَتَمَنَّاهُ
فَإخْوَانَنَا مَا كَانَ أَحْلَى دُخُولَنَا
…
إِلَيْهِ وَلُبْثًا فِي ذُرَاهُ لَبِثْنَاهُ
طواف الإفاضة
نَطُوفُ بِهِ وَاللهُ يُحْصِي طَوَافَنَا
…
لِيُسْقِطَ عَنَّا مَا نَسِينَا وَأَحْصَاهُ
وَبِالْحَجَرِ الْمَيْمُونِ عُجْنَا فَإِنَّهُ
…
لِرَبِّ السَّمَا وَالأَرْضِ لِلْخَلْقِ يُمْنَاهُ
نُقَبِّلُهُ مِنْ حُبِّنَا لإِلَاهِنَا
…
وَكَمْ لَثْمَةٍ طَيَّ الطَّوَافِ لَثَمْنَاهُ
وَذَاكَ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَاهِدٌ
…
وَفِيهِ لَنَا لِلَّهِ عَهْدٌ عَهِدْنَاهُ
وَنَسْتَلِمُ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ طَاعَةً .... وَنَسْتَغْفِرُ الْمَوْلَى إِذَا مَا لَمَسْنَاهُ
وَمُلْتَزَمٌ فِيهِ الْتَزَمْنَا لِرِّبنَا .... عُهُودًا وَعُقْبَى اللهِ فِيهِ لَزِمْنَاهُ
وَكَمْ مَوْقِفٍ فِيهِ يُجَابُ لَنَا الدُّعَا
…
دَعَوْنَا بِهِ وَالْقَصْدَ فِيهِ نَوَيْنَاهُ
الصلاة بالمقام، والشرب من زمزم، والسعي
وَصَلَّى بِأَرْكَانِ الْمَقَامِ حَجِيجُنَا
…
وَفِي زَمْزَمٍ مَاءً طَهُورًا وَرَدْنَاهُ
وَفِيهِ الشِّفَا فِيهِ بُلُوغُ مُرَادِنَا
…
لِمَا نَحْنُ نَنْوِيهِ إِذَا مَا شَرِبْنَاهُ
وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ الْوَفْدُ قَدْ سَعَى
…
فَإِنَّ تَمَامَ الْحَجِّ تَكْمِيلُ مَسْعَاهُ
فَسَبْعًا سَعَاهَا سَيِّدُ الرُّسْلِ قَبْلَنَا
…
وَنَحْنُ تَبِعْنَاهُ فَسَبْعًا سَعَيْنَاهُ
نُهَرْوِلُ فِي أَثْنَائِهَا كُلَّ مَرَّةٍ
…
فَهَذَاكَ مِنْ فِعْلِ الرَّسُولِ فَعَلْنَاهُ
تمام الحجّ، والتحلّل الثاني
وَبَعْدَ تَمَامِ الْحَجِّ وَالنُّسْكِ كُلِّهَا
…
حَلَلْنَا وَبَاقِي عِيسِنَا قَدْ أَنَخْنَاهُ
فَمَنْ شَاءَ وَافَى الصَّيْدَ وَالطِّيبَ وَالنِّسَا
…
فَقَدْ تَمَّ حَجٌّ لِلإِلَاهِ حَجَجْنَاهُ
وَلَمَّا اعْتَمَرْنَا كَانَ أَبْرَكُ عُمْرِنَا
…
زَمَانًا نَرَاهُ بِاعْتِمَارٍ عَمَرْنَاهُ
ذِكرُ أقسام الدعاء بعد تمام النسك
وَلَمَّا قَضَيْنَا لِلإلَاهِ مَنَاسِكًا
…
ذَكَرْنَاهُ وَالْمَطْلُوبَ مِنْهُ سَأَلْنَاهُ
فَمِنْ طَالِب حَظًّا بِدُنْيَا فَمَا لَهُ
…
خَلَاقٌ بِأُخْرَاهُ إِذَا اللهُ لَاقَاهُ
وَمِنْ طَالِبٍ حُسْنًا بِدُنْيَا لِدِينِهِ
…
وَحُسْنًا بِأُخْرَاهُ وَذَاكَ يُوَفَّاهُ
وَآخَرُ لَا يَبْغِي مِنَ اللهِ حَاجَةً
…
سِوَى نَظْرَةٍ فِي وَجْهِهِ يَوْمَ عُقْبَاهُ
طواف الوداع
وَبَاتَ حَجِيجُ اللهِ بالْبَيْتِ مُحْدِقًا
…
وَرَحْمَةُ رَبِّ الْعَرْشِ ثَمَّتَ تَغْشَاهُ
تَدَاعَتْ رِفَاقًا بِالرَّحِيلِ فَمَا تَرَى
…
سِوَى دَمْعِ عَيْنٍ بِالدّمَاءِ مَزَجْنَاهُ
لِفُرْقَةِ بَيْتِ اللهِ وَالْحَجَرِ الَّذِي
…
لأَجْلِهِمَا صَعْبَ الأُمُورِ سَلَكْنَاهُ
وَوَدعَتِ الْحُجَّاجُ بَيْتَ إِلَاهِهَا
…
وَكُلُّهُمُ تَجْرِي مِنَ الْحُزْنِ عَيْنَاهُ
فَلِلَّهِ كَمْ بَاكٍ وَصَاحِبِ حَسْرَةٍ
…
يَوَدُّ بِأَنَّ اللهَ كَانَ تَوَفَّاهُ
فَلَوْ تَشْهَدُ التَّوْدِيعَ يَوْمًا لِبَيْتِهِ
…
فَإِنَّ فِرَاقَ الْبَيْتِ مُرٌّ وَجَدْنَاهُ
فَمَا فُرْقَةُ الأَوْلَادِ وَاللهِ إِنَّهُ
…
أَمَرُّ وَأَدْهَى ذَاكَ شَيْءٌ خَبَرْنَاهُ
فَمَنْ لَمْ يُجَرِّبْ لَيْسَ يَعْرِفُ قَدْرَهُ
…
فَجَرّبْ تَجِدْ تَصْدِيقَ مَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ
لَقَدْ صُدِعَتْ أَكْبَادُنَا وَقُلُوبُنَا
…
لِمَا نَحْنُ مِنْ مُرِّ الْفِرَاقِ شَرِبْنَاهُ
وَوَاللهِ لَوْلَا أَنْ نُؤَمِّلَ عَوْدَةً
…
إِلَيْهِ لَذُقْنَا الْمَوْتَ حِينَ فُجِعْنَاهُ
ذكرُ الرحيل إلى طيبة، وزيارةُ النبيّ صلى الله عليه وسلم
-
وَمِنْ بَعْدِ مَا طُفْنَا طَوَافَ وَدَاعِنَا
…
رَحَلْنَا لِمَغْنَى الْمُصْطَفَى وَمُصَلَّاهُ
وَوَاللهِ لَوْ أَنَّ الأَسِنَّةَ أُشْرِعَتْ
…
وَقَامَتْ حُرُوبٌ دُونَهُ مَا تَرَكْنَاهُ
وَلَوْ أَنَّنَا نَسْعَى عَلَى الرَّأسِ دُونَهُ
…
وَمِنْ دُونِهِ جَفْنَ الْعُيُونِ فَرَشْنَاهُ
وَتُمْلَكُ مِنَّا بِالْوُصُولِ رِقَابُنَا
…
وَيُسْلَبُ مِنَّا كُلُّ شَيءٍ مَلَكْنَاهُ
لَكَانَ يَسِيرًا فِي مَحَبَّةِ أَحْمَدٍ
…
وَبِالرُّوحِ لَوْ يُشْرَى الْوِصَالُ شَرَيْنَاهُ
وَرَبِّ الْوَرَى لَوْلَا مُحَمَّدُ لَمْ نَكُنْ
…
لِطَيْبَةَ نَسْعَى وَالرِّكَابَ شَدَدْنَاهُ
وَلَوْلَاهُ مَا اشْتَقْنَا الْعَقِيقَ وَلَا قُبَا
…
وَلَوْلَاهُ لَمْ نَهْوَ الْمَدِينَةَ لَوْلَاهُ
هُوَ الْقَصْدُ إِنْ غَنَّتْ بِنَجْدٍ حُدَاتُنَا
…
وَإِلَّا فَمَا نَجْدٌ وَسَلْعٌ أَرَدْنَاهُ
وَمَا مَكَّةٌ وَالْخَيْفُ قُلَ لِي وَلَا مِنًى
…
وَمَا عَرَفَات قَبْلَ شَرْعٍ أَرَانَاهُ
بِهِ شُرِّفَتْ تِلْكَ الأَمَاكِنُ كُلُّهَا
…
وَرَبُّكَ قَدْ خَصَّ الْحَبِيبَ وَأَعْطَاهُ
لِمَسْجِدِهِ سِرْنَا وَشُدَّتْ رِحَالُنَا
…
وَبَيْنَ يَدَيْهِ شَوْقُنَا قَدْ كَشَفْنَاهُ
قَطَعْنَا إِلَيْهِ كُلَّ بَرٍّ وَمَهْمَهٍ
…
وَلَا شَاغِلٌ إِلَّا وَعَنَّا قَطَعْنَاهُ
كَذَا عَزَمَاتُ السَّائِرِينَ لِطَيْبَةٍ
…
رَعَى اللهُ عَزْمًا لِلْحَبِيبِ عَزَمْنَاهُ
وَكَمْ جَبَلٍ جُزْنَا وَرَمْلٍ وَحَاجِرٍ
(1)
…
وَللَّهِ كَمْ وَادٍ وَشِعْبٍ عَبَرْنَاهُ
تُرَنِّحُنَا
(2)
الأَشْواقُ نَحْوَ مُحَمَّدٍ
…
فَنَسْرِي وَلَا نَدْرِي بِمَا قَدْ سَرَيْنَاهُ
وَلَمَّا بَدَا جِزْعُ الْعَقِيقِ رَأَيْتُنَا
…
نَشَاوَى سُكَارَى فَارَحِينَ بِرُؤيَاهُ
شَمَمْنَا نَسِيمًا جَاءَ مِنْ نَحْوِ طَيْبَةٍ
…
فَأَهْلًا وَسَهْلًا يَا نَسِيمًا شَمَمْنَاهُ
فَقَدْ مُلِئَتْ مِنَّا الْقُلُوبُ مَسَرَّةً
…
وَأَيُّ سُرُورٍ مِثْلَ مَا قَدْ سُرِرْنَاهُ
فَوَا عَجَبَاهُ كَيْفَ قَرَّتْ عُيُوُننَا
…
وَقَدْ أَيْقَنَتْ أَنَّ الْحَبِيبَ أَتَيْنَاهُ
وَلُقْيَاهُ مِنَّا بَعْدَ بُعْدٍ تَقَارَبَتْ
…
فَوَاللهِ لَا لُقْيَا تُعَادِلُ لُقْيَاهُ
وَصَلْنَا إِلَيْهِ وَاتَّصَلْنَا بِقُرْبِهِ
…
فَلِلَّهِ مَا أَحْلَى وُصُولًا وَصَلْنَاهُ
وَقَفْنَا وَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ وإِنَّهُ
…
لَيَسْمَعُنَا مِنْ غَيْرِ شَكٍّ فَدَيْنَاهُ
وَرَدَّ عَلَيْنَا بِالسَّلَامِ سَلَامَنَا
…
وَقَدْ زَادَنَا فَوْقَ الَّذِي قَدْ بَدَانَاهُ
كَذَا كَانَ خُلْقُ الْمُصْطفَى وَصِفَاتُهُ
…
بِذَلِكَ فِي الْكُتْبِ الصِّحَاحِ عَرَفْنَاهُ
وَثَمَّ دَعْوَنَا لِلأَحِبَّةِ كُلِّهِمْ
…
فَكَمْ مِنْ حَبِيب بِالدُّعَا قَدْ خَصَصْنَاهُ
وَمِلْنَا لِتَسْلِيمِ الإِمَامَيْنِ عِنْدَهُ
…
فَإِنَّهُمَا حَقًّا هُنَاكَ ضَجِيعَاهُ
وَكَمْ قَدْ مَشَيْنَا فِي مَكَانٍ بِهِ مَشَى
…
وَكَمْ مَدْخَل لِلْهَاشِمِيِّ دَخَلْنَاهُ
وَآثَارُهُ فِيهَا الْعُيُونُ تَمَتَّعَتْ
…
وَقُمْنَا وَصَليْنَا بِحَيْثُ مُصَلَّاهُ
وَكَمْ قَدْ نَشَرْنَا شَوْقَنَا لِحَبِيبِنَا
…
وَكَمْ مِنْ غَلِيلٍ فِي الْقُلُوبِ شَفَينَاهُ
وَمَسْجِدُهُ فِيهِ سَجَدْنَا لِرَبِّنَا
…
فَلِلَّهِ مَا أَعْلَى سُجُودًا سَجَدْنَاهُ
بِرَوْضَتِهِ قُمْنَا فَهَاتِيكَ جَنَّةٌ
…
فَيَا فَوْزَ مَنْ فِيهَا يُصَلِّي وَبُشْرَاهُ
وَمِنْبَرُهُ الْمَيْمُونُ مِنْهُ بَقِيَّةٌ
…
وَقَفْنَا عَلَيْهَا وَالْفُؤَادَ كَرَرْنَاهُ
كَذَلِكَ مِثْلَ الْجِذْعِ حَنَّتْ قُلُوُبنَا
…
إِلَيْهِ كَمَا وَدَّ الْحَبِيبَ وَدِدْنَاهُ
وَزُرْنَا قُباً حُبًّا لأحْمَدَ إِذْ مَشَى
…
عَسَى قَدَمًا يَخْطُو مَقَامًا تَخَطَّاهُ
لِنُبْعَثَ يَوْمَ الْبَعْثِ تَحْتَ لِوَائِهِ
…
إِذَا اللهُ مِنْ تِلْكَ الأَمَاكِنِ نَادَاهُ
(1)
حاجر بالراء: الأرض المرتفعة، ووسطها منخفض.
(2)
من الترنيح: أي تميل بنا من أجل الطرب والسرور.
وَزُرْنَا مَزَارَاتِ الْبَقِيعِ فَلَيْتَنَا
…
هُنَاكَ دُفِنَّا وَالْمَمَاتَ رُزِقْنَاهُ
وَحَمْزَةَ زُرْنَاهُ وَمَنْ كَانَ حَوْلَهُ
…
شَهِيدًا وَاحْدًا بِالْعُيُونِ شَهِدْنَاهُ
وَلَمَّا بَلَغْنَا مِنْ زِيَارَةِ أَحْمَدٍ
…
مُنَانَا حَمِدْنَا رَبَّنَا وَشَكَرْنَاهُ
وَمِنْ بَعْدِ هَذَا صَاحَ بِالْبَيْنِ صَائِحٌ
…
وَقَالَ ارْحَلُوا يَا لَيْتَنَا مَا أَطَعْنَاهُ
سَمِعْنَا لَهُ صَوْتًا بِتَشْتِيتِ شَمْلِنَا
…
فَيَا مَا أَمَرَّ الصَّوْتَ حِينَ سَمِعْنَاهُ
وَقُمْنَا نَؤُمَّ الْمُصْطَفَى لِوَدَاعِهِ
…
وَلَا دَمْعَ إِلَّا لِلْوَدَاعِ صَبَبْنَاهُ
وَلَا صَبْرَ كَيْفَ الصَّبْرُ عِنْدَ فِرَاقِهِ
…
وَهَيْهَاتَ إِنَّ الصَّبْرَ عَنْهُ صَرَفْنَاهُ
أَيَصْبِرُ ذُو عَقْلٍ لِفُرْقَةِ أَحْمَدٍ
…
فَلَا وَالَّذِي مِنْ قَابِ قَوْسَيْنِ أَدْنَاهُ
فَوَا حَسْرَتَاهُ مِنْ وَدَاعِ مُحَمَّدٍ
…
وَأَوَّاهُ مِنْ يَوْمٍ التَّفَرُّقِ أَوَّاهُ
سَأَبْكِي عَلَيْهِ قَدْرَ جُهْدِي بِنَاظِرٍ
…
مِنَ الشَّوْقِ مَا تَرْقَى مِنَ الدَّمْعِ غَرْبَاهُ
فَيَا وَقْتَ تَوْدِيعِي لَهُ مَا أَمَرَّهُ
…
وَوَقْتَ اللِّقَا وَاللهِ مَا كَانَ أَحْلَاهُ
عَسَى اللهُ يُدْنِينِي لأَحْمَدَ ثَانِيًا
…
فَيَا حَبَّذَا قُرْبُ الْحَبِيبِ وَمُدْنَاهُ
فَيَا رَبِّ فَارْزُقْنِي لِمَغْنَاهُ عَوْدَةً
…
تُضَاعِفْ لَنَا فَيهِ الثَّوَابَ وَتَرْضَاهُ
رَحَلْنَا وَخَلَّفْنَا لَدَيْهِ قُلُوبَنَا
…
فَكَمْ جَسَدٍ مِنْ غَيْرِ قَلْبٍ قَلَبْنَاهُ
وَلَمَّا تَرَكْنَا رَبْعَهُ مِنْ وَرَائِنَا
…
فَلَا نَاظِرٌ إِلَّا إِلَيْهِ رَدَدْنَاهُ
لِنَغْنَمَ مِنْهُ نَظْرَةً بَعْدَ نَظْرَةٍ
…
فَلَمَّا أَغَبْنَاهُ السُّرُورَ أَغَبْنَاهُ
فَلَا عَيْشَ يَهْنِي مَعْ فِرَاقِ مُحَمَّدٍ
…
أَاَفْقِدُ مَحْبُوبِي وَعَيْشِي أُهَنَّاهُ
دَعُونِي أَمُتْ شَوْقًا إِلَيْهِ وَحُرْقَةً
…
وَخُطُّوا عَلَى قَبْرِي بِأنِّيَ أَهْوَاهُ
فَيَا صَاحِبِي هَذِي الَّتِي بِيَ قَدْ جَرَتْ
…
وَهَذَا الَّذِي فِي حَجِّنَا قَدْ عَمِلْنَاهُ
فَإِنْ كُنْتَ مُشْتَاقًا فَبَادِرْ إِلَى الْحِمَى
…
لِتَنْظُرَ آثَارَ الْحَبِيب وَمَمْشَاهُ
وَتَحْظَى بِبَيْتِ اللهِ مِنْ قَبْلِ مَنْعِهِ
…
كَأَنَّا بِهِ عَمَّا قَلِيلٍ مُنِعْنَاهُ
أَلَيْسَ تَرَى الأَشْرَاطَ كَيْفَ تَتَابَعَتْ
…
فَبَادِرْهُ وَاغْنَمْهُ كَمَا قَدْ غَنِمْنَاهُ
إِلَى عَرَفَاتٍ عَاجِلِ الْعُمْرَ وَاسْتَبِقْ
…
فَثَمَّ إِلَاهُ الْخَلْقِ يُسْبِغُ نُعْمَاهُ
وَعَيِّدْ مَعَ الْحُجَّاجِ يَا صَاحِ فِي مِنًى
…
فَعِيدُ مِنًى أَعْلَاهُ عِيدًا وَأَسْنَاهُ
وَضَحِّ بِهَا وَاحْلِقْ وَسِرْ مُتَوَجِّهًا
…
إِلَى الْبَيْتَ وَاصْنَعْ مِثْلَ مَا قَدْ صَنَعْنَاهُ
وَكُنْ صَابِرًا إِنَّا لَقِينَا مَشَقَّةً
…
فَإِنْ تَلْقَهَا فَاصْبِرْ كَصَبْرٍ صَبَرْنَاهُ
لَقَدْ بَعُدَتْ تِلْكَ الْمَعَالِمُ وَالرُّبَا
…
فَكَمْ مِنْ رَوَاحٍ مَعْ غُدُوٍّ غَدَيْنَاهُ
فَبَادِرْ إِلَيْهَا لَا تَكُنْ مُتَوَانِيًا
…
لَعَلَّكَ تَحْظَى بِالَّذِي قَدْ حَظِينَاهُ
وَحُجَّ بِمَالٍ مِنْ حَلَالٍ عَرَفْتَهُ
…
وَإِيَّاكَ وَالْمَالَ الْحَرَامَ وَإِيَّاهُ
فَمَنْ كَانَ بِالْمَالِ الْمُحَرَّمِ حَجُّهُ
…
فَعَنْ حَجِّهِ وَاللهِ مَا كَانَ أَغْنَاهُ
إِذَا هُوَ لَبَّى اللهَ كَانَ جَوَابُهُ
…
مِنَ اللهِ لَا لَبَّيْكَ حَجٌّ رَدَدْنَاهُ
كَذَلِكَ جَانَا فِي الْحَدِيثِ مُسَطَّرًا
…
فَفِي الْحَجِّ أَجْرٌ وَافِرٌ قَدْ سَمِعْنَاهُ
وَمِنْ بَعْدِ حَجِّ سِرْ لِمَسْجِدِ أَحْمَدٍ
…
وَلَا تَخْطُهُ تَنْدَمْ إِذَا تَتَخَطَّاهُ
فَوَا أَسَفَ السَّارِي إِذَا ذَكَرَ الْحِمَى
…
إِذَا رَبْعَ خَيْرِ الْمُرْسَلِينَ تَخَطَّاهُ
وَوَا لَهَفَ الآتِي بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ
…
إِذَا لَمْ يُكَمِّلْ بِالزِّيَارَةِ مَمْشَاهُ
يُعَزَّى عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْ مَزَارِه
…
فَقَدْ فَاتَهُ أَجْرٌ كَثِيرٌ بِأُخْرَاهُ
نَظَرْنَاهُ حَقًّا حِينَ بَانَتْ رِكَابُنَا
…
عَلَى طَيْبَةٍ حَقًّا وَصِدْقًا نَظَرْنَاهُ
وَزَادَتْ بِنَا الأَشْوَاقُ عِنْدَ دُنُوِّنَا
…
إِلَيْهَا فَمَا أَحْلَى دُنُوًّا دَنَيْنَاهُ
(1)
وَلَمَّا بَدَتْ أَعْلَامُهَا وَطُلُولُهَا
…
تَحَدَّرَتِ الرُّكْبَانُ عَمَّا رَكِبْنَاهُ
وَسِرْنَا مُشَاةً رِفْعَةً لِمُحَمَّدٍ
…
حَثَثْنَا الْخُطَا حَتَّى الْمُصَلَّى دَخَلْنَاهُ
لِنَغْنَمَ تَضْعِيفَ الثَّوَابِ بِمَسْجِدٍ .... صَلَاةُ الْفَتَى فِيهِ بِأَلْفٍ يُوَفَّاهُ
كَذَلِكَ فَاغْنَمْ فِي زِيارَةِ طَيْبَةٍ
…
كَمَا قَدْ فَعَلْنَا وَاغْتَنِمْ مَا غَنِمْنَاهُ
فَإِذْ مَا رَأَيْتَ الْقَبْرَ قَبْرَ مُحَمَّدٍ
…
فَلَا تَدْنُ مِنْهُ ذَاكَ أَوْلَى لِعُلْيَاهُ
وَقِفْ بِوَقَارٍ عِنْدَهُ وَسَكِينَةً
…
وَمَثِّلْ رَسُولَ اللهِ حَيًّا بِمَثْوَاهُ
وَسَلِّمْ عَلَيْهِ وَالْوَزِيرَيْنِ عِنْدَهُ
…
وَزُرْهُ كَمَا زُرْنَا لِتَحْصِدَ عُقْبَاهُ
وَبَلِّغْهُ عَنَّا لَا عَدِمْتَ سَلَامَنَا
…
فَأَنْتَ رَسُولٌ لِلرَّسُولِ بَعَثْنَاهُ
(2)
وَمَنْ كَانَ مِنَّا مُبْلِغًا لِسَلَامِنَا
…
فَإِنَّا بِإِبْلَاغِ السَّلَامِ سَبَقْنَاهُ
فَيَا نَعْمَةً لِلَّهِ لَسْنَا بِشُكْرِهَا
…
نَقُومُ وَلَوْ مَاءَ الْبُحُورِ مَدَدْنَاهُ
فَنَحْمَدُ رَبَّ الْعَرْشِ إِذْ كَانَ حَجُّنَا
…
بِزَوْرَةِ مَنْ كَانَ الْخِتَامَ خَتَمْنَاهُ
عَلَيْكَ سَلَامُ اللهِ مَا دَامَتِ السَمَا
…
سَلَامٌ كَمَا يَبْغِي الإِلَاهُ وَيَرْضَاهُ
(1)
دنينا بالياء لغة في دنونا بالواو.
(2)
بعث السلام إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد موته ليس عليه دليلٌ، وليس أيضًا من هدي السلف، فتفطّن.
انتهت قصيدة العلامة الأمير الصنعانيّ رحمه الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2951]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: أتيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ الله، فَسَأَلتُهُ عَنْ حَجَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ: وَكَانَتْ الْعَرَبُ يَدْفَعُ بِهِمْ أَبُو سَيَّارَةَ، عَلَى حِمَارٍ عُرْيٍ، فَلَمَّا أَجَازَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم منَ الْمُزْدَلِفَةِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَام، لَمْ تَشُكَّ قُرَيْشٌ أنَّهُ سَيَقْتَصِرُ عَلَيْه، وَيَكُونُ مَنْزِلُهُ ثَمَّ، فَأَجَازَ، وَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ حَتَّى أتَى عَرَفَاتٍ، فَنَزَلَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ) أبو حفص الكوفيّ، ثقةٌ ربّما وَهِم [10](ت 222)(خ م د ت ق) تقدم في "الطهارة" 32/ 675.
2 -
(أَبُوهُ) حفص بن غياث بن طَلْق النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ، تغيّر حفظه قليلًا في الآخر [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ
…
إلخ) فاعل "ساق" ضمير حفص بن غياث؛ أي: ساق حفص الحديث عن جعفر بن محمد بنحو حديث حاتم بن إسماعيل، عنه.
وقوله: (وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ) أي: زاد حفص في الحديث قوله: "وكانت العرب
…
إلخ".
(وَكَانَتْ الْعَرَبُ يَدْفَعُ بِهِمْ أَبُو سَيَّارَةَ
…
إلخ) قال النوويّ رحمه الله: هو بسين مهملة، ثم ياء مثناة تحتُ مشدّدةٍ؛ أي: كان يدفع بالعرب في الجاهلية رجل يقال له: أبو سيّارة، واسمه عُميرةُ بن الأعزل، قاله القرطبيّ رحمه الله.
وقوله: (عَلَى حِمَارٍ عُرْيٍ) بضمّ العين المهملة، وسكون الراء، بعدها ياء تحتانية مخفّفة؛ أي: ليس عليه سَرْجٌ، قال الفيّوميّ رحمه الله: فرسٌ عُرْيٌ: لا سَرْجَ
عليه، وُصِفَ بالمصدر، ثم جُعل اسمًا، وجُمِع، فقيل: خيل أَعْرَاءٌ، مثلُ قُفْل وأَقْفالٍ، قالوا: ولا يقال: فرس عُرْيانٌ، كما لا يقال: رجل عُرْي. انتهى
(1)
.
وقوله: (فَلَمَّا أَجَازَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم) أي: جاوز، وتعدّاه يقال: جاز المكان يجوزه جَوْزًا، وجَوَازًا بالفتح، وجِوَازًا بالكسر: سار فيه، وأجازه بالألف: قطعه
(2)
.
وقوله: (مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) تقدّم أنه بفتح الميم على المشهور، وقيل: بكسرها وأنه قُزَحُ الجبل المعروف في المزدلفة، وقيل: كل المزدلفة، وأوضحنا الخلاف فيه بدلائله، وهذا الحديث ظاهر الدلالة في أنه ليس كل المزدلفة، قاله النوويّ رحمه الله
(3)
.
وقوله: (لَمْ تَشُكَّ قُرَيْش أنهُ سَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ) أي: على الوقوف بالمشعر الحرام.
وقوله: (وَيَكُونُ مَنْزِلُهُ ثَمَّ) بفتح الثاء المثلّثة، وتشديد الميم؛ أي: هناك، يعني عند المشعر الحرام.
قال النوويّ رحمه الله: معنى الحديث: أن قريشًا كانت قبل الإسلام تقف بالمزدلفة، وهي من الحرم، ولا يقفون بعرفات، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، وكانت قريش تقول: نحن أهل الحرم، فلا نخرج منه، فلما حج النبيّ صلى الله عليه وسلم، ووصل المزدلفة اعتقدوا أنه يَقِف بالمزدلفة على عادة قريش، فجاوز إلى عرفات؛ لقول الله {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199]. أي: جمهور الناس، فإن مَن سِوَى قريش كانوا يقفون بعرفات، ويُفيضون منها.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فلما أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمشعر الحرام لم تشكَّ قريشٌ
…
إلخ": يعني: أنهم توهَّموا أنه كان يفعل كما كانت تفعل في الجاهلية، فإنهم كانوا يَرَون لأنفسهم أنهم لا يقفون بعرفة، ولا يخرجون من الحرم، ويقفون بالمشعر الحرام بدل وقوف الناس بعرفة، وهذا مما كانوا ابتدعوه في الحج، فلما حجَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أحكم الله الحجَّ، وأزال ما ابتدعته
(1)
"المصباح المنير" 2/ 406.
(2)
"المصباح" 1/ 114.
(3)
"شرح النوويّ" 8/ 194 - 195.
الجاهلية، وأنزل الله تعالى:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} الآية [البقرة: 199]، يخاطب قريشًا، ويأمرهم بأن يقفوا بعرفة حيث يقف غيرهم من الناس، وكذلك فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فعدل عن المشعر الحرام إلى عرفة، فوقف بها، وهي سُنَّة إبراهيم المعروفة عند العرب وغيرهم. انتهى
(1)
.
وقوله: (وَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ) بفتح الياء، وكسر الراء؛ أي: لم يتعرّض للوقوف فيه.
وقوله: (حَتَّى أتَى عَرَفَاتٍ، فَنَزَلَ) قال النوويّ رحمه الله: فيه مجازٌ تقديره: فأجاز متوجهًا إلى عرفات، حتى قاربها، فضُرِبت له القبة بنَمِرَة قريب من عرفات، فنزل هناك، حتى زالت الشمس، ثم خطب، وصلى الظهر والعصر، ثم دخل أرض عرفات، حتى وصل الصخرات، فوقف هناك، وقد سبق هذا واضحًا في الرواية الأولى. انتهى
(2)
.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم تمام البحث فيه في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2952]
(
…
) - (حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنِي أَبي، عَنْ جَابِرٍ فِي حَدِيثِهِ ذَلِكَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "نَحَرْتُ هَا هُنَا، وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ، وَوَقَفْتُ هَا هُنَا، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَوَقَفْتُ هَا هُنَا، وَجَمْعٌ كلُّهَا مَوْقِفٌ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وهم المذكورون في السند الماضي.
وقوله: (في حَدِيثِهِ ذَلِكَ) أشار بهذا إلى حديث جابر رضي الله عنه الذي تقدّم قبل حديث من طريق حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد.
وقوله: (نَحَرْتُ هَا هُنَا، وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ) قال النوويّ رحمه الله: المراد بالرحال المنازل، قال أهل اللغة: رَحْلُ الرجل: منزله،
(1)
"المفهم" 3/ 343.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 195.
سواءٌ كان من حجر، أو مَدَر، أو شعر، أو وَبَر، ومعنى الحديث: منى كلها منحر، يجوز النحر فيها، فلا تتكلفوا النحر في موضع نحري، بل يجوز لكم النحر في منازلكم من منى.
قال: قال الشافعيّ، وأصحابنا: يجوز نحر الهدي، ودماء الحيوانات في جميع الحرم، لكن الأفضل في حقّ الحاجّ النحر بمنى، وأفضل موضع منها للنحر موضع نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما قاربه، والأفضل في حق المعتمر أن ينحر في المروة؛ لأنها موضع تحلله، كما أن منى موضع تحلل الحاجّ، قالوا: ويجوز الوقوف بعرفات في أيّ جزء كان منها، وكذا يجوز الوقوف على المشعر الحرام، وفي كل جزء من أجزاء المزدلفة؛ لهذا الحديث، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فانحروا في رحالكم" يعني: أنه وإن كان قد نحر في ذلك الموضع المخصوص من منى، فالنحر واسع في كل مواضعها، وهو متفق عليه، وكذلك عرفة ومزدلفة، غير أن تَوَخِّي موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنحره أولى تبرّكًا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وبآثاره، وفي حديث مالك:"عرفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن عُرَنَة"، وهو وادي عرفة، قال ابن حبيب: وفيه مسجد عرفة، وهو من الحرم، واتفق العلماء: على أنه لا يوقف فيه، واختلفوا فيمن وقف في عُرَنَة: فقال أبو مصعب: هو كمن لم يقف، وحُكي عن الشافعيّ، وقال مالك: حَجُّه صحيح وعليه دم، حكاه عنه ابن المنذر، ومن وقف في المسجد أجزأه عند مالك، وقال أصبغ: لا يجزيه، و"عُرَنة" بضم العين والراء، وذكره ابن دُرَيد بفتح الراء، وهو الصواب. انتهى
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: "عُرَنَةُ": موضع بين منى وعرفات، وزانُ رُطَبَةٍ، وفي لغة بضمّتين، وتصغيرها عُرينة، وبها سُمّيت القبيلة، والنسبة إليها عُرَنيّ. انتهى
(3)
.
وقوله: (وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِف) قال القرطبيّ رحمه الله: في رواية مالك: "وارتفعوا عن بطن محسِّر"، واتفق العلماء على الأخذ بهذا الحديث، وترك الوقوف به، واستحبّوا الوقوف حيث المنارة، وحيث تقف الأئمة بين الجبلين،
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 196.
(2)
"المفهم" 3/ 343.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 406.
ومُحَسِّر ليس من المزدلفة، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "نحرت ها هنا
…
إلخ" في هذه الألفاظ بيان رفق النبيّ صلى الله عليه وسلم بأمته، وشفقته عليهم في تنبيههم على مصالح دينهم ودنياهم، فإنه صلى الله عليه وسلم ذَكَر لهم الأكمل والجائز، فالأكمل موضع نحره، ووقوفه، والجائز كلُّ جزء من أجزاء الْمَنْحَر، وكلّ جزء من أجزاء عرفات، وكل جزء من أجزاء المزدلفة، وهي جَمْعٌ - بفتح الجيم، وإسكان الميم - وسبق بيانها، وبيان حدِّها، وحدِّ منى في هذا الباب. انتهى.
وأما عرفات: فحدُّها: ما جاوز وادي عُرُنةَ إلى الجبال القابلة مما يلي بساتين ابن عامر، هكذا نَصَّ عليه الشافعيّ، وجميع أصحابه، ونَقَل الأزرقيّ عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: حَدُّ عرفات من الجبل المشرف على بطن عُرُنة إلى جبال عرفات، إلى وَصِيق - بفتح الواو، وكسر الصاد المهملة، وآخره قاف - إلى مُلْتَقَى وَصِيق وادي عرنة، وقيل في حدّها: غير هذا، مما هو مُقارب له، وقد بسطت القول في إيضاحه في "شرح المهذب"، و"كتاب المناسك"، والله أعلم. انتهى.
[تنبيه]: ينبغي أن أذكر هنا ما ذكره النوويّ رحمه الله في "المجموع" من حدود عرفات، والمزدلفة، ومنى، والمشعر الحرام، وما يتعلّق بذلك، وإن كان قد تقدّم ذكره مفرّقًا، إلا أن ذكره مجموعًا في موضع واحد يُعين على حفظه وفهمه.
قال رحمه الله: يصح الوقوف في أيّ جزء كان من أرض عرفات بإجماع العلماء؛ لحديث جابر رضي الله عنه السابق أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "وعرفة كلها موقف"، قال الشافعيّ، والأصحاب، وغيرهم من العلماء: وأفضلها موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عند الصخرات الكبار المفترشة في أسفل جبل الرحمة، وهو الجبل الذي بوسط أرض عرفات، ويقال له: إِلَالٌ، بكسر الهمزة، على وزن هِلال، وذكر الجوهريّ في "صحاحه" أنه بفتح الهمزة، والمشهور كسرها.
قال: وأما حدّ عرفات، فقال الشافعيّ رحمه الله: هي ما جاوز وادي عُرَنة - بعين مضمومة، ثم راء مفتوحة، ثم نون - إلى الجبال القابلة مما يلي بساتين ابن عامر، هذا نصّ الشافعيّ، وتابعه عليه الأصحاب، ونَقَل الأزرقيّ، عن ابن
(1)
"المفهم" 3/ 344.
عباس رضي الله عنه قال: حدّ عرفات من الجبل المشرف على بطن عُرنة إلى جبال عرفات، إلى وَصِيق - بفتح الواو، وكسر الصاد المهملة، وآخره قاف - إلى ملتقى وصيق، ووادي عرنة.
قال بعض أصحابنا: لعرفات أربعة حدود: أحدها: ينتهي إلى جادّة طريق المشرق، والثاني: إلى حافات الجبل الذي وراء أرض عرفات، والثالث: إلى البساتين التي تلي قرية عرفات، وهذه القرية على يسار مستقبل الكعبة إذا وقف بأرض عرفات، والرابع ينتهي إلى وادي عرنة.
قال إمام الحرمين: ويُطيف بمنعرجات عرفات جبال، وجوهها المقبلة من عرفات.
(واعلم): أنه ليس من عرفات وادي عرنة، ولا نَمِرة، ولا المسجد المسمى مسجد إبراهيم، ويقال له أيضًّا: مسجد عرنة، بل هذه المواضع خارجة عن عرفات، على طرفها الغربيّ، مما يلي مزدلفة، ومنى، ومكة، هذا الذي ذكرته من كون وادي عرنة ليس من عرفات لا خلاف فيه، نَصَّ عليه الشافعيّ، واتفق عليه الأصحاب.
وأما نمرة فليست أيضًا من عرفات، بل بقربها، هذا هو الصواب الذي نَصّ عليه الشافعيّ في "مختصر الحج الأوسط"، وفي غيره، وصَرَّح به أبو علي البندنيجيّ، والأصحاب، ونقله الرافعيّ عن الأكثرين، قال: وقال صاحب "الشامل"، وطائفة: هي من عرفات، وهذا الذي نقله غريبٌ ليس بمعروف، ولا هو في "الشامل"، ولا هو صحيح، بل إنكارٌ للحِسّ، ولما تطابقت عليه كتب العلماء.
وأما مسجد إبراهيم، فقد نَصّ الشافعيّ على أنه ليس من عرفات، وأن من وقف به لم يصحّ وقوفه، هذا نَصُّه، وبه قطع الماورديّ، والمتوليّ، وصاحب البيان، وجمهور العراقيين، وقال جماعة من الخراسانيين، منهم الشيخ أبو محمد الجوينيّ، والقاضي حسين، في "تعليقه"، وإمام الحرمين والرافعيّ: مُقَدَّم هذا المسجد من طرف وادي عرنة، لا في عرفات، وآخره في عرفات، قالوا: فمن وقف في مقدمه لم يصحّ وقوفه، ومن وقف في آخره صحّ وقوفه، قالوا: ويتميز ذلك بصخرات كبار فُرِشت هناك.
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: وجه الجمع بين كلامهم ونَصّ الشافعيّ
أن يكون زيد في المسجد بعد الشافعيّ هذا القدر الذي ذكره، والله أعلم.
وقال الأزرقيّ في هذا المسجد: ذَرْعُ سعته من مقدمه إلى مؤخره مائة ذراع وثلاث وستون ذراعًا، قال: ومن جانبه الأيمن إلى جانبه الأيسر من عرفة والطريق مائتا ذراع وثلاث عشرة ذراعًا، قال: وله مائة شُرْفة وثلاث شُرُفات، وله عشرة أبواب، قال: ومن حدّ الحرم إلى مسجد عرنة ألف ذراع وستمائة وخمس أذرع، قال: ومن مسجد عرفات هذا إلى موقف النبيّ صلى الله عليه وسلم ميلٌ، والله تعالى أعلم.
(واعلم): أن عرنة ونمرة بين عرفات والحرم، ليستا من واحد منهما، وأما جبل الرحمة ففي وسط عرفات، فإذا علمت عرفات بحدودها، فقال الماورديّ: قال الشافعيّ: حيث وقف الناس من عرفات في جوانبها، ونواحيها، وجبالها، وسهلها، وبطاحها، وأوديتها، وسوقها المعروفة بذي المجاز أجزأه، قال: فأما إن وقف بغير عرفات من ورائها، أو دونها، عامدًا أو ناسيًا أو جاهلًا بها فلا يجزئه، وقال مالك: يجزئه، وعليه دم، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله في "المجموع"
(1)
.
قال: وأما "المزدلفة" فبكسر اللام، قال الأزهريّ: سُمِّيت بذلك من التزلُّف، والازدلاف، وهو التقرب؛ لأن الحجاج إذا أفاضوا من عرفات ازدلفوا إليها؛ أي: مضوا إليها، وتقربوا منها، وقيل: سُمّيت بذلك؛ لمجيء الناس إليها في زُلَف من الليل؛ أي: ساعات، وسُمِّيت المزدلفة جَمْعًا - بفتح الجيم، وإسكان الميم - سُمِّيت بذلك؛ لاجتماع الناس بها.
[واعلم]: أن المزدلفة كلها من الحرم، قال الأزرقيّ في "تاريخ مكة"، والبندنيجيّ، والماورديّ صاحب "الحاوي" في كتابه "الأحكام السلطانية"، وغيرهما من أصحابنا، وغيرهم: حدُّ المزدلفة: ما بين وادي مُحَسِّرٍ ومَأُزِمي عرفة، وليس الحدّان منها، ويدخل في المزدلفة جميع تلك الشعاب القوابل، والظواهر، والجبال الداخلة في الحدّ المذكور.
وأما وادي مُحَسِّر: فبضم الميم، وفتح الحاء المهملة، وكسر السين المهملة المشدَّدة، وبالراء، سُمِّي بذلك؛ لأن فيل أصحاب الفيل حَسَرَ فيه؛
(1)
"المجموع" 8/ 105 - 106.
أي: أعيى، وكَلَّ عن السير، ومنه قوله تعالى:{يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4]، ووادي محسر موضع فاصل بين منى ومزدلفة، وليس من واحدة منهما، قال الأزرقيّ: وادي محسر خمسمائة ذراع وخمس وأربعون ذراعًا.
وأما منى: فبكسر الميم، ويجوز فيها الصرف وعدمه، والتذكير والتأنيث، والأجود الصرف، وجزم ابن قتيبة في "أدب الكاتب" بأنها لا تصرف، وجزم الجوهريّ في "الصحاح" بأن منى مذكَّر مصروف، وقال العلماء: سُمِّيت منى؛ لِمَا يُمْنى فيها من الدماء؛ أي: يراقُ ويُصَبُّ، هذا هو الصواب الذي جزم به الجمهور، من أهل اللغة، والتواريخ، وغيرهم، ونَقَل الأزرقيّ وغيره: أنها سميت بذلك؛ لأن آدم لما أراد مفارقة جبريل؛ قال له: تَمَن، قال: أتمنى الجنة، وقيل: سُمِّيت بذلك، من قولهم: مَنَّى الله الشيءَ؛ أي: قَدَّره، فسميت منى لما جعل الله تعالى من الشعائر فيها، قال الجوهريّ: قال يونس: يقال: امتنى القومُ: إذا أتوا منى، وقال ابن الأعرابيّ: يقال: أمنى القوم: أَتَوْا منى.
[واعلم]: أن منى من الحرم، وهي شِعْبٌ ممدود بين جبلين: أحدهما ثَبِير، والآخر الصانع، قال الأزرقيّ، وأصحابنا في كتب المذهب: حَدُّ منى ما بين جمرة العقبة، ووادي محسر، وليست الجمرة، ولا وادي محسر من منى، قال البندنيجيّ، والأصحاب: ما أقبل على منى من الجبال، فهو منها، وما أدبر فليس منها، قال الأزرقيّ، وغيره: ذَرْعُ ما بين جمرة العقبة ومحسر سبعة آلاف ذراع ومائتا ذراع، قال الأزرقيّ: وعرض منى من مؤخر المسجد الذي يلي الجبال إلى الجبل بحذائه ألف ذراع وثلاثمائة ذراع، ومن جمرة العقبة إلى الجمرة الوسطى أربعمائة ذراع وسبع وثمانون ذراعًا ونصف ذراع، ومن الجمرة الوسطى إلى الجمرة التي تلي مسجد الخيف ثلاثمائة ذراع وخمسة أذرع، ومن الجمرة التي تلي مسجد الخيف إلى أوسط أبواب المسجد ألف ذراع وثلاثمائة ذراع وإحدى وعشرون ذراعًا، والله أعلم.
[واعلم]: أن بين مكة ومنى مسافة فرسخ، هو ثلاثة أميال، ومن منى إلى مزدلفة فرسخ، ومن مزدلفة إلى عرفات فرسخ، وقال إمام الحرمين، والرافعيّ: بين مكة ومنى فرسخان، والصواب فرسخ فقط، كذا قاله الأزرقيّ، والمحققون في هذا الفن، والله أعلم.
وأما المشعر الحرام: فبفتح الميم هذا هو الصحيح المشهور، وبه جاء القرآن، وهو المعروف في رواية الحديث، قال صاحب "المطالع": ويجوز كسر الميم، لكن لم يرد إلا بالفتح، وحَكَى الجوهريّ الكسر، ومعنى "الحرام": الْمُحَرَّم؛ أي: الذي يحرم فيه الصيد وغيره، فإنه من الحرم، ويجوز أن يكون معناه: ذا الحرمة.
واختَلَفَ العلماء في المشعر الحرام، هل هو المزدلفة كلها، أم بعضها؟ وهو قُزَحُ خاصَّة، وقد تقدّم بيان الخلاف في ذلك.
قال العلماء: سُمِّي مَشْعَرًا؛ لما فيه من الشعائر، وهي معالم الدين، وطاعة الله تعالى. انتهى كلام النوويّ رحمه الله في "المجموعِ"
(1)
، وهو بحث مفيدٌ جدًّا.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى تمام البحث فيه في شرح حديث أول الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2953]
(
…
) - (وَحَدَّثنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثنا سُفْيَانُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ، أتى الْحَجَرَ، فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ مَشَى عَلَى يَمِينِه، فَرَمَلَ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ آدَمَ) بن سليمان الأمويّ مولاهم، أبو زكرياء الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ، من كبار [9](ت 203)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
2 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ الإمام الحجة الثبت الفقيه، من كبار [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
والباقون ذُكروا في الباب، و"إسحاق بن إبراهيم" هو: ابن راهويه.
وقوله: (لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ، أتى الْحَجَرَ، فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ مَشَى عَلَى يَمِينِه، فَرَمَلَ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا) قال النوويّ رحمه الله: في هذا الحديث أن السنة للحاجّ أن يبدأ أول قدومه بطواف القدوم، ويُقَدِّمه على كل شيء، وأن يستلم الحجر الأسود
(1)
"المجموع" 8/ 117 - 118.
في أول طوافه، وأن يَرْمُل في ثلاث طوفات من السبع، وَيمْشِي في الأربع الأخيرة، وسيأتي هذا كله واضحًا حيث ذكر مسلم أحاديثه. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(19) - (بَابُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللهِ سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ})
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2954]
(1219) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ قُرَيْشٌ، وَمَنْ دَانَ دِينَهَا، يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَة، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ الْحُمْسَ، وَكَانَ سَائِرُ الْعَرَب، يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ، فَلَمَّا جَاءَ الاسْلَامُ أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْتي عَرَفَاتٍ، فَيَقِفَ بِهَا، ثُمَّ يُفِيضَ مِنْهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) بن بكر التميميّ، أبو زكريّاء النيسابوريّ، ثقةٌ ثبت إمامٌ [10](ت 226)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يهم في حديث غيره، من كبار [9](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
3 -
(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) الأسديّ، أبو المنذر، أو أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ، ربّما دلّس [5](ت 5 أو 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.
4 -
(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العوّام الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهور [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 196.
5 -
(عَائِشَةُ) بنت الصدّيق رضي الله عنها، تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له ابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وأبي معاوية، فكوفيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، عن خالته، وتابعي عن تابعيّ.
5 -
(ومنها): أن فيه عروة من الفقهاء السبعة، وعائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها) أنها (قَالَتْ: كَانَ قُرَيْشٌ، وَمَنْ دَانَ دِينَهَا) ومن اعتقد اعتقادها، وأخذ مأخذها من قبائل العرب، كالأوس، والخزرج، وخزاعة، وثقيف، وغزوان، وغيرهم، يقال: دان بالإسلام دِينًا بالكسر: تعبّد به، وتديّن به كذلك، فهو ديِّنٌ، مثلُ ساد، فهو سيّدٌ، قاله الفيّوميّ
(1)
.
(يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ) تَعْنِي أنهم لا يتجاوزونها، بل يفيضون منها إلى منى، وذلك لأن الشيطان استهواهم، فقال لهم: إنكم إن عظّمتم غير حرمكم استخفّ الناس بحرمكم، فكانوا لا يخرجون من الحرم، وهذا من جملة ما غيّروه من دين إبراهيم عليه السلام.
(وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ الْحُمْسَ) - بضمّ، فسكون - جمع أحمس، والأحمس في اللغة: الشديد، قال في "القاموس": حَمِسَ، كفرِحَ: اشتدّ، وصَلُبَ في الدين والقتال، فهو حَمِسٌ، وأحمس، وهم حُمْسٌ، والْحُمْسُ: الأمكنة الصّلْبة، جمع أحمس، وهو لقب قُريش، وكنانة، وجَدِيلة، ومن تابعهم في الجاهليّة؛
(1)
"المصباح المنير" 1/ 205.
لتحمّسهم في دينهم، أو لالتجائهم بالحَمْساء، وهي الكعبة؛ لأن حجرها أبيض إلى السواد. انتهى.
وروى إبراهيم الحربيّ في "غريب الحديث" من طريق ابن جريج، عن مجاهد، قال: الحُمْس: قريش، ومن كان يأخذ مأخذها من القبائل، كالأوس، والخزرج، وخزاعة، وثقيف، وغزوان، وبني عامر، وبني صعصعة، وبني كنانة، إلا بني بكر، والأحمس في كلام العرب: الشديد، وسمّوا بذلك لما شدّدوا على أنفسهم، وكانوا إذا أهلّوا بحجّ، أو عمرة لا يأكلون لحمًا، ولا يضربون وَبَرًا، ولا شعرًا، وإذا قَدِموا مكة وضعوا ثيابهم التي كانت عليهم.
وذكر الحربيّ أيضًا في "غريبه" عن أبي عبيدة معمر بن المثنّى، قال: كانت قريش إذا خطب إليهم الغريب اشترطوا عليه أن ولدها على دينهم، فدخل في الحمس من غير قريش ثقيف، وليث، وخزاعة، وبنو عامر بن صعصعة - يعني: وغيرهم - قال الحافظ: وعُرِف من هذا أن المراد بهذه القبائل من كانت له من أمهاته قريشية، لا جميع القبائل المذكورة. انتهى
(1)
.
(وَكَانَ سَائِرُ الْعَرَبِ) أي بقيّتهم غير الْحُمْس، ومن دان دينها (يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ) على العادة القديمة، والطريقة المستقيمة الموروثة عن إبراهيم عليه السلام (فَلَمَّا جَاءَ الإسْلَامُ أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأتيَ عَرَفَاتٍ، فَيَقِفَ بِهَا) اتِّباعًا لدين إبراهيم عليه السلام (ثُمَّ يُفِيضَ مِنْهَا) أي يدفع من عرفات إلى المزدلفة (فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {ثُمَّ أَفِيضُوا} أي ادفعوا أنفسكم، أو مطاياكم يا معشر قريش.
وقال في "الفتح": وعُرف برواية عائشة رضي الله عنها هذه أن المخاطب بقوله تعالى: {أَفِيضُوا} النبيّ صلى الله عليه وسلم، والمراد: من كان لا يقف بعرفة من قريش وغيرهم. انتهى.
({مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}) أي غيركم، وهو عرفات، والمقصود رجوعهم من ذلك المكان، ولا شكّ أن الرجوع منه يستلزم الوقوف فيه؛ لأنه مسبوق به، فلزم من ذلك الأمر بالوقوف من حيث وقف الناس، وهو عرفة
(2)
.
(1)
"الفتح" 4/ 605 - 607.
(2)
"شرح السنديّ على النسائيّ" 5/ 255.
واختلف المفسّرون في المراد بالناس، فقيل: سائر الناس، غير الحُمْس، وروى ابن أبي حاتم وغيره، عن الضحّاك أن المراد به هنا إبراهيم الخليل، ويؤيّده حديث يزيد بن شيبان
(1)
، وعنه: المراد به الإمام، وقيل: آدم عليه السلام، ويؤيّده القراءة في الشواذّ:"الناسي" بكسر السين، بوزن القاضي، من قوله تعالى:{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} [طه: 115]. والأول أصحّ.
نعم الوقوف بعرفة موروث عن إبراهيم عليه السلام، كما سيأتي في حديث يزيد بن شيبان الآتي قريبًا، ولا يلزم من ذلك أن يكون هو المراد خاصّة بقوله:{مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} ، بل هو أعمّ من ذلك، والسبب فيه ما حكته عائشة رضي الله عنها.
وأما الإتيان في الآية بقوله: {ثُمَّ} فقيل: هي بمعنى الواو، وهذا اختيار الطحاويّ، وقيل: لقصد التأكيد، لا لمحض الترتيب، والمعنى: فإذا أفضتم من عرفات، فاذكروا الله عند المشعر الحرام، ثم اجعلوا الإفاضة التي تفيضونها من حيث أفاض الناس، لا من حيث كنتم تُفيضون، قال الزمخشريّ: وموقع "ثم" هنا موقعها من قولك: أَحْسِنْ إلى الناس، ثم لا تحسن إلى غير كريم، فتأتي "ثم" لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم، والإحسان إلى غيره، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات بَيَّنَ لهم مكان الإفاضة، فقال:{ثُمَّ أَفِيضُوا} ولتفاوت ما بين الإفاضتين، وأن إحداهما صواب، والأخرى خطأ.
وقال الخطابيّ: تضمّن قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} والأمر بالوقوف بعرفة؛ لأن الإفاضة إنما تكون عند اجتماع قبله، وكذا قال ابن بطال، وزاد: وبَيَّنَ الشارع مبتدأ الوقوف بعرفة ومنتهاه. انتهى
(2)
.
(1)
هو ما أخرجه النسائيّ رحمه الله في "سننه"، عن يزيد بن شيبان، قال: كنا وُقُوفًا بعرفة مكانًا بعيدًا من الموقف، فأتانا ابن مِرْيَم الأنصاريّ، فقال: إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، يقول:"كونوا على مَشَاعركم، فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم". انتهى، وهو حديث صحيح.
(2)
"الفتح" 4/ 607، 608؛ و"عمدة القاري" 8/ 162.
وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله في "المفهم": قوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} " أي: تفرَّقوا، والإفاضة: التفرق في كثرة، من إفاضة الماء، قال الشاعر [من الكامل]:
فأَفَضْن بَعْدَ كُظُومِهِنَّ بِجِرَّةٍ
…
مِنْ ذِي الأَبارِقِ إِذْ رَعَيْنَ حَفِيلا
وقال الأصمعي: الإفاضة: الدَّفعة، ومنه: فيض الدمع.
وقال الخطابي: أصل الفيض: السيلان، واختلف المفسّرون فيمن المراد بـ "الناس"؛ فقيل: المراد: آدم عليه السلام، وقيل: إبراهيم عليه السلام، وقيل: سائر الناس غير الْحُمْس، وهم قريش، ومن ولدت، وكنانة وجَدِيلة، وسُمُّوا حُمْسًا؛ لأنهم تحمَّسوا في دينهم؛ أي: تشدَّدوا، ولذلك كانوا إذا ابتدعوا أمرًا أدانت لهم العرب به.
وقال الحربي: سُمُّوا حمسًا بالكعبة؛ لأنها حمساء؛ حجرها أبيض يضرب إلى السَّواد. وكان مِمَّا ابتدعته الْحُمْس: أنه لا يطوف أحدٌ بالبيت وعليه أثوابه إلا الْحُمْس، فكان الناس يطوفون عراة إلا الْحُمْس، أو من يعطيه أحمسي ثوبًا، فإن طاف أحدٌ في ثوبه ألقاه بالأرض، ولم يعد له، ولا يأخذه أحدٌ، لا هو، ولا غيره، ولا ينتفع به، وكانت تُسمِّي تلك الثياب: اللُّقى؛ لإلقائها بالأرض، فأنزل الله تعالى:{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِد} ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يطوف بالبيت عُريان"، وكذلك كانوا يُفيضون من مزدلفة، والناس من عرفة، فأنزل الله تعالى:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} ، فأحكم الله آياته، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 2954 و 2955](1219)، و (البخاريّ) في
(1)
"المفهم" 3/ 344 - 346.
"الحجّ"(1665) و "التفسير"(4520)، و (أبو داود) في "المناسك"(1910)، و (الترمذيّ) في "الحجّ"(884)، و (النسائيّ) في "المناسك"(3013) و"الكبرى"(4013)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(3 - 18)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(3058)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 319)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 193)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 113)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): وجوب الوقوف بعرفة، وأنّ الحجّ لا يتمّ إلا به.
2 -
(ومنها): بيان سبب نزول هذه الآية الكريمة، وذلك حيث امتنعت قريش من الوقوف بعرفة؛ لكونه خارج الحرم، فأُمروا به، فالمراد بالإفاضة الإفاضة من عرفة، وإن كان ظاهر سياق الآية أنها الإفاضة من مزدلفة؛ لأنها ذكرت بلفظة "ثم" بعد ذكر الأمر بالذكر عند المشعر الحرام.
وأجاب بعض المفسّرين بأن الأمر بالذكر عند المشعر الحرام بعد الإفاضة من عرفات التي سيقت بلفظ الخبر؛ لما ورد منه على المكان الذي تشرع الإفاضة منه، فالتقدير: فإذا أفضتم اذكروا، ثم لتكن إفاضتكم من حيث أفاض الناس، لا من حيث كان الحمس يفيضون، أو التقدير: فإذا أفضتم من عرفات إلى المشعر الحرام، فاذكروا الله عنده، ولتكن إفاضتكم من المكان الذي يفيض فيه الناس غير الحمس، قاله في "الفتح"
(1)
.
3 -
(ومنها): أن الوقوف بها كان من شريعة إبراهيم عليه السلام، فكانت العرب متمسّكة به، إلا ما كان من قريش، فهدى الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم إليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2955]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كرَيْبٍ، حَدَّثنا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: كَانَت الْعَرَبُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، إِلَّا الْحُمْسَ، وَالْحُمْسُ قُرَيْشٌ، وَمَا
(1)
"الفتح" 4/ 606.
وَلَدَتْ، كَانُوا يَطُوفُونَ عُرَاةً
(1)
، إِلَّا أَنْ تُعْطِيَهُم الْحُمْسُ ثِيَابًا، فَيُعْطِي الرِّجَالُ الرِّجَالَ، وَالنِّسَاءُ النِّسَاءَ، وَكَانَت الْحُمْسُ لَا يَخْرُجُونَ مِنَ الْمُزْدَلِفَة، وَكَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ يَبْلُغُونَ عَرَفَاتٍ، قَالَ هِشَامٌ: فَحَدَّثَني أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: الْحُمْسُ هُمُ الَّذِينَ أنزَلَ اللهُ فِيهِمْ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} ، قَالَتْ: كَانَ النَّاسُ يُفِيضُونَ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَكَانَ الْحُمْسُ يُفِيضُونَ مِنَ الْمُزْدَلِفَة، يَقُولُونَ: لَا نُفِيضُ إِلَّا مِنَ الْحَرَم، فَلَمَّا نَزَلَتْ:{أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} ، رَجَعُوا إِلَى عَرَفَاتٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
2 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبت، من كبار [9](ت 201) وهو ابن (80) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: كتب الحافظ أبو عليّ الجيّانيّ الغسّانيّ رحمه الله في "تقييده" بعد ذكر هذا الإسناد ما نصّه: هكذا عند أبي أحمد، والكسائيّ في إسناد هذا الحديث، وعند أبي العلاء بن ماهان:"حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، نا أبو أسامة"، جَعَلَ "ابن أبي شيبة" بدل أبي كُريب. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: كونه عن أبي كريب هو الذي مشى عليه الحافظ المزيّ رحمه الله في "تحفة الأشراف"(12/ 139)، ولم يُشر إلى الاختلاف المذكور، فليُتأمّل، والله تعالى أعلم.
وقوله: (كانَت الْعَرَبُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرَاةً) جمع عَارٍ، كقُضَاة جمع قاضٍ، وانتصابه على الحال من الضمير الذي في "تطوف".
قال النوويّ رحمه الله: هذا من الفواحش التي كانوا عليها في الجاهلية،
(1)
وفي نسخة: "كانوا يطوفون بالبيت عُراةً".
(2)
"تقييد المهمل" 3/ 840.
وقيل: نزل فيه قوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} ، ولهذا أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحجة التي حجها أبو بكر رضي الله عنه سنة تسع أن ينادي مناديه:"أن لا يطوف بالبيت عُرْيان". انتهى
(1)
.
وقوله: (إِلا الْحُمْسَ) تقدّم تفسيره في الحديث الماضي.
وقوله: (وَمَا وَلَدَتْ) أي وأولادهم، واختار كلمة "ما" على كلمة "مَنْ" لعمومها.
وقيل: المراد به والدهم، وهو كنانة؛ لأن الصحيح أن قريشًا هم أولاد النضر بن كنانة، وزاد معمر هنا: وكان ممن ولدت قريش: خزاعةُ، وبنو كنانة، وبنو عامر بن صعصعة، قاله في "العمدة"
(2)
.
وقوله: (يَبْلُغُونَ عَرَفَاتٍ) قال في "العمدة": هو عَلَم للموقف، وهو منصرف؛ إذ لا تأنيث فيها، قاله الكرمانيّ، والتحقيق فيه ما قاله الزمخشريّ:
[فإن قلت]: هلا مُنِعَت الصرف، وفيه السببان: التعريف والتأنيث؟.
[قلت]: لا يخلو التأنيث، إما أن يكون بالتاء التي في لفظها، وإما بتاء مقدرة، كما في سُعَاد فالتي في لفظها ليست للتأنيث، وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنث، ولا يصح تقدير التاء فيها؛ لأن هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعة من تقديرها، كما لا تقدر تاء التأنيث في بنت؛ لأن التاء التي هي بدل من الواو؛ لاختصاصها بالمؤنث كتاء التأنيث، فأبت تقديرها. انتهى.
وسُمِّيت عرفات بهذا الاسم، إما لأنها وُصِفت لإبراهيم عليه الصلاة والسلام فلما أبصرها عرَفها، أو لأن جبريل عليه الصلاة والسلام حين كان يدور به في المشاعر أراه إياها، فقال: قد عرفتُ، أو لأن آدم عليه الصلاة والسلام هبط من الجنة بأرض الهند، وحواء عليه السلام بجُدّة فالتقيا ثَمَّة، فتعارفا، أو لأن الناس يتعارفون بها، أو لأن إبراهيم عليه السلام عَرَف حقيقة رؤياه في ذبح ولده ثَمَّة، أو لأن الخلق يعترفون فيها بذنوبهم، أو لأن فيها جبالًا،
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 197.
(2)
"عمدة القاري" 10/ 4.
والجبال هي الأعراف، وكل عالٍ فهو عَرْف. انتهى
(1)
.
وقوله: (كَانَ النَّاسُ يُفِيضُونَ مِنْ عَرَفَاتٍ) أصله من إفاضة الماء، وهو صَبّه بكثرة، وقال الزمخشريّ: أفضتم: دفعتم من كثرة الماء.
وقوله: (رَجَعُوا إِلَى عَرَفَاتٍ) أي رجعوا إلى ما كان عليه دين إبراهيم عليه السلام من الوقوف بعرفات، والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تمام البحث فيه في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2956]
(1220) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، جَمِيعًا عَن ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ عَمْرٌو: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِم، قَالَ: أَضْلَلْتُ بَعِيرًا لِي، فَذَهَبْتُ أَطْلُبُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَاقِفًا مَعَ النَّاسِ بِعَرَفَةَ، فَقُلْتُ: وَاللهِ إِنَّ هَذَا لَمِنَ الْحُمْس، فَمَا شَأْنُهُ هَا هُنَا؟ وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُعَدُّ مِنَ الْحُمْسِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عَمْرو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرَّقّة، ثقةٌ حافظ [10](خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.
3 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) الكوفيّ، ثم المكيّ، ثقة ثبتٌ حافظ فقيهٌ إمامٌ حجة، من كبار [8](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.
4 -
(عَمْرُو) بن دينار الأثرم الجمحيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقة ثبت [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.
5 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ) النوفليّ، أبو سعيد المدنيّ، ثقة عارف بالنسب [3] مات على رأس المائة (ع) تقدم في "الصلاة" 36/ 1040.
(1)
"عمدة القاري" 4/ 10.
6 -
(جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ) بن عديّ بن نوفل بن عبد مناف القرشيّ النوفليّ الصحابيّ رضي الله عنه، كان عارفًا بالأنساب، مات سنة ثمان، أو تسع وخمسين (ع) تقدّم في "الحيض" 10/ 746.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما، ثم فصّل؛ لما أسلفناه غير مرّة.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، والثاني ما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: أَضْلَلْتُ بَعِيرًا لِي) أي فقدته، يقال: ضلّ البعير: إذا غاب، وخَفِيَ موضعه، وأضللته بالألف: فقدته، قال الأزهريّ: وأضللت الشيءَ بالألف: إذا ضاع منك، فلم تعرف موضعه، كالدّابّة، والناقة، وما أشبههما، فإن أخطأت موضع الشيء الثابت، كالدار، قلت: ضَلَلْتُهُ، وضَلِلْته، ولا تقل: أضللته بالألف، وقال ابن الأعرابيّ: أضلّني كذا بالألف: إذا عَجَزتَ عنه، فلم تقدر عليه، وقال في "البارع": ضَلَّني فلانٌ، وكذا في غير الإنسان يَضِلُّني: إذا ذهب عنك، وعجزت عنه، وإذا طلبت حيوانًا، فأخطأت مكانه، ولم تَهْتَدِ إليه، فهو بمنزلة الثوابت، فتقول: ضَلَلْته، وقال الفارابيّ: أضللتُهُ بالألف: أضعته، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
(فَذَهَبْتُ أطْلُبُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ) وفي رواية النسائيّ: "فذهبت أطلبه بعرفة يوم عرفة" فيكون الجارّ، والظرف متعلقان بـ "أطلب" يعني أنه ذهب لطلب بعيره في الموضع المسمّى بعرفة، في يوم بعرفة (فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَاقِفًا مَعَ النَّاسِ بِعَرَفَةَ، فَقُلْتُ: وَاللهِ إِن هَذَا لَمِنَ الْحُمْسِ) إشارة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا تعجب
(1)
"المصباح المنير" 2/ 363، 364.
من جبير بن مطعم، وإنكار منه لَمّا رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم واقفًا بعرفة مخالفًا لعادة قريش، ولذلك قال:(فَمَا شَأْنهُ هَا هُنَا؟) أي في عرفة (وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُعَدُّ مِنْ الْحُمْسِ) تقدّم معناه قريبًا، أي فما باله يقف بعرفة، والحمس لا يقفون بها؛ لأنهم لا يخرجون من الحرم.
وفي رواية الإسماعيليّ من طريق عثمان بن أبي شيبة، وابن أبي عمر جميعًا عن سفيان:"فما له خرج من الحرم".
[تنبيه]: قوله: "وكانت قريش تُعدّ من الحمس"، هذه الزيادة ليست في رواية البخاريّ، قال في "الفتح" بعد ذكر هذه الزيادة عند مسلم ما نصّه: هذه الزيادة توهم أنها من أصل الحديث، وليس كذلك، بل هي من قول سفيان، بيّنه الحميديّ في "مسنده" عنه، ولفظه متّصلًا بقوله:"فما شأنه ههنا؟ " قال سفيان: والأحمس الشديد على دينه، وكانت قريش تُسمّى الحمس، وكان الشيطان قد استهواهم، فقال لهم: إنكم إن عظّمتم غير حرمكم، استخفّ الناس بحرمكم، فكانوا لا يخرجون من الحرم. ووقع عند الإسماعيليّ من طريقيه بعد قوله:"فما له خرج من الحرم؟ " قال سفيان: الحمس - يعني قريشًا - وكانت تسمّى الحمس، وكانت لا تجاوز الحرم، ويقولون: نحن أهل الله، لا نخرج من الحرم، وكان سائر الناس يقف بعرفة، وذلك قوله:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199]. انتهى.
وروى ابن خزيمة، وإسحاق ابن راهويه في "مسنده" موصولًا من طريق ابن إسحاق، حدثنا عبد الله بن أبي بكر، عن عثمان بن أبي سليمان، عن عمّه نافع بن جبير، عن أبيه، قال:"كانت قريش إنما تدفع من المزدلفة، ويقولون: نحن الحمس، فلا نخرج من الحرم، وقد تركوا الموقف بعرفة، قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهليّة يقف مع الناس بعرفة على جمل له، ثم يصبح مع قومه بالمزدلفة، فيقف معهم، ويدفع إذا دفعوا"، ولفظ يونس بن بكير، عن ابن إسحاق في "المغازي" مختصرًا، وفيه:"توفيقًا من الله له"، وأخرجه إسحاق أيضًا عن الفضل بن موسى، عن عثمان بن الأسود، عن عطاء أن جبير بن مطعم، قال:"أضللت حمارًا لي في الجاهليّة، فوجدته بعرفة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفًا بعرفات مع الناس، فلما أسلمت علمت أن الله وفّقه لذلك".
قال الحافظ: وأفادت هذه الرواية أن رواية جبير له لذلك كانت قبل الهجرة، وذلك قبل أن يُسلم جبير، وهو نظير روايته أنه سمعه يقرأ في المغرب بالطور، وذلك قبل أن يسلم جبير أيضًا، كما تقدّم.
وتضمّن ذلك التعقيب على السهيليّ حيث ظنّ أن رواية جبير لذلك كانت في الإسلام في حجة الوداع، فقال: انظر كيف أنكر جبير هذا، وقد حجّ بالناس عتّاب سنة ثمان، وأبو بكر سنة تسع، ثم قال: إما أن يكونا وقفا بجمع، كما كانت قريش تصنع، وإما أن يكون جبير لم يشهد معهما الموسم.
وقال الكرمانيّ: وقفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة كانت سنة عشر، وكان جبير حينئذ مسلمًا؛ لأنه أسلم يوم الفتح، فإن كان سؤاله عن ذلك إنكارًا، أو تعجبًا، فلعله لم يبلغه نزول قوله تعالى:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} ، وإن كان للاستفهام عن حكمة المخالفة عما كانت عليه الحمس، فلا إشكال، ويَحْتَمِل أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقفة بعرفة قبل الهجرة. انتهى ملخّصًا.
قال الحافظ: وهذا الأخير هو المعتمد كما بيّنته قبلُ بدلائله، وكأنه تبع السهيليّ في ظنّه أنها حجة الوداع، أو وقع له اتفاقًا. انتهى
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 2956](1220)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1664)، و (النسائيّ) في "المناسك"(3014) و"الكبرى"(4009)، و (الحميديّ) في "مسنده"(559)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 80 و 84)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(3060)، و (الدارميّ) في "سننه"(1878)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 373)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 320)، و (البزّار) في
(1)
"الفتح" 4/ 605، 606.
"مسنده"(8/ 348)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3849)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(1556)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 482)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 113)، وفوائده تعلم مما سبق، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(20) - (بَابُ جَوَازِ تَعْلِيقِ الإِحْرَامِ بِإِحْرَامِ غَيْرِهِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2957]
(1221) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِم، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَاب، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ منِيخٌ بِالْبَطْحَاء، فَقَالَ لِي:"أَحَجَجْتَ؟ " فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: "بِمَ
(1)
أَهْلَلْتَ؟ " قَالَ: قُلْتُ: لَبَّيْكَ بِإِهْلَالٍ
(2)
كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"فَقَدْ أَحْسَنْتَ، طف بالْبَيْت، وَبالصَّفَا وَالْمَرْوة، وَأَحِلَّ"، قَالَ: فَطُفْتُ بِالْبَيْت، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْور، ثُمَّ أتَيْتُ امْرَأةَ مِنْ بَنِي قَيْسٍ، فَفَلَتْ رَأسِي، ثُمَّ أَهْلَلْتُ بِالْحَجِّ، قَالَ: فَكُنْتُ أفتى بِهِ النَّاسَ، حَتَّى كَانَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ رضي الله عنه، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبا مُوسَى، أَو يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ قَيْسٍ، رُويدَكَ بَعْضَ فُتْيَاكَ، فَإنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي النُّسُكِ بَعْدَكَ، فَقَالَ: يَا أيُّهَا النَّاسُ، مَنْ كُنَّا أفتَيْنَاهُ فُتْيَا فَلْيَتَّئِدْ، فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَادِم عَلَيْكُمْ، فَبِهِ فَأتَمُّوا، قَالَ: فَقَدِمَ عُمَرُ رضي الله عنه، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: إِنْ نَأُخُذْ بِكِتَابِ الله، فَإِن كِتَابَ اللهِ يَأْمُرُ
(3)
بِالتَّمَام، وَإِنْ نَاخُذْ بِسُنَّةِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَحِلَّ حَتَّى بَلَغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ).
(1)
وفي نسخة: "بما".
(2)
وفي نسخة: "لبيتُ بإهلال".
(3)
وفي نسخة: "يأمرنا".
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ المعروف بالزَّمِن البصريّ، ثقة ثبت [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
2 -
(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد المعروف ببندار العبديّ، أبو بكر البصريّ، ثقة حافظ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) الْهُذليّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقة صحيح الكتاب [9](ت 3 أو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
4 -
(شُعْبَةُ) بن الحجاج، أبو بسطام الواسطيّ، ثُم البصريّ الإمام الحجة الثبت الناقد [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.
5 -
(قَيْسُ بْنُ مُسْلِم) الْجَدَليّ، أبو عمرو الكوفيّ، ثقة رُمي بالإرجاء [6](ت 120)(ع) تقدم في "الإيمان" 22/ 185.
6 -
(طَارِقُ بْنُ شِهَابِ) بن عبد شمس الْبَجَليّ الأحمسيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة، له رؤية [2](ت 2 أو 83)(ع) تقدم في "الإيمان" 22/ 185.
7 -
(أَبُو مُوسَى) عبد الله بن قيس بن سُليم بن حضّار الأشعريّ الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (50) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان، قرن بينهما، ثم فصّل؛ لما سبق غير مرّة.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أن شيخيه من التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة.
4 -
(ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالبصريين، والثاني بالكوفيين.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ رؤبةً عن صحابيّ، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ) وفي رواية للبخاريّ في "المغازي": "عن قيس بن مسلم: سمعت طارق بن شهاب"(عَنْ أَبِي مُوسَى) عبد الله بن قيس
الأشعريّ رضي الله عنه، وفي رواية البخاريّ المذكورة:"حدّثني أبو موسى"(قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية البخاريّ: "بعثني النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى قومي باليمن، فجئت، وهو بالبطحاء"(وَهُوَ مُنِيخ بِالْبَطْحَاءِ) اسم فاعل، من أناخ بعيره: إذا أبركه، أي وهو نازل بالبطحاء، وذلك في ابتداء قدومه إلى مكة.
(فَقَالَ لِي: "أَحَجَجْتَ؟ ") أي أحرمت بالحجِّ (فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: "بِمَ
(1)
أَهْلَلْتَ؟ ") أي: بأيّ شيء رفعت صوتك بالتلبية، فـ "ما" استفهاميّة، ولذا حُذفت ألفها؛ لدخول حرف الجرّ عليها، كما قال في "الخلاصة":
وَ"مَا" فِي الاسْتِفْهَامِ إِنْ جُرَّتْ حُذِفْ
…
أَلِفُهَا وَأَوْلهَا الْهَا إِنْ تَقِفْ
وفي بعض النسخ: "بما أهللت" دون حذف الألف، وهو قليل الاستعمال.
(قَالَ: قُلْتُ: لَبَّيْكَ بِإهْلَالٍ كإِهْلَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)"لبيك" بكاف الخطاب، أي قلت هذا اللفظ، ووقع في بعض النسخ:"لبيتُ" بتاء المتكلّم (قَالَ: "فَقَدْ أَحْسَنْتَ) أي في إهلالك هذا، وفيه جواز تعليق الإهلال بإهلال فلان، زاد في الرواية التالية: "قال: هل سقت من هدي؟، قلت: لا، قال: فطف بالبيت
…
" (طُفْ بِالْبَيْت، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوةِ" أي اسْعَ بينهما (وَأَحِلَّ") بقطع الهمزة، أمر من الإحلال رباعيًّا: إذا خرج من إحرامه، وفي الرواية التالية:"ثُمَّ حِلَّ" بكسر الحاء المهملة، وتشديد اللام، أمر مِن حَلّ يحلّ، ثلاثيًّا من باب ضرب، وهو بمعناه.
قال النوويّ رحمه الله: معنى هذا الكلام أن أبا موسى رضي الله عنه صار كالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وتكون وظيفته أن يفسخ حجه إلى عمرة، فيأتي بأفعالها، وهي الطواف، والسعي، والحلق، فإذا فعل ذلك صار حلالًا، وتمّت عمرته، وإنما لم يذكر الحلق هنا؛ لأنه كان مشهورًا عندهم، ويَحْتَمِل أنه داخل في قوله:"وأَحِلَّ". انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الثاني هو الحقّ، فتأمل، والله تعالى أعلم.
(1)
وفي نسخة: "بما".
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 199.
(قَالَ) أبو موسى رضي الله عنه (فَطُفْتُ بِالبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوة، ثُمَّ أتيْتُ امْرَأةً) لم يعرف المرأة
(1)
(مِنْ بَيي قَيْسٍ) وفي رواية للبخاريّ: "امرأة من قيس"، قال الحافظ رحمه الله: والمتبادر إلى الذهن من هذا الإطلاق أنها من قيس عيلان، وليس بينهم وبين الأشعريين نسبة، لكن في رواية أيوب بن عائذ:"امرأة من نساء بني قيس"، وظهر لي من ذلك أن المراد بقيس: قيس بن سُليم والد أبي موسى الأشعريّ، وأن المرأة زوج بعض إخوته، وكان لأبي موسى من الإخوة أبو رُهْم، وأبو بردة، قيل: ومحمد. انتهى
(2)
.
(فَفَلَتْ رَأسِي) بتخفيف اللام: أي أخرجت منه القملَ، يقال: فَلَيتُ رأسي فَلْيًا، من باب رَمَى: نقّيته من القمل
(3)
، وفي الرواية التالية:"فمشطتني، وغسلت رأسي".
قال النوويّ رحمه الله: هذا محمول على أن هذه المرأة كانت محرمًا لأبي موسى رضي الله عنه.
(ثُمَّ أَهْلَلْتُ بِالْحَجِّ) قال النوويّ رحمه الله: يعنى أنه تحلل بالعمرة، وأقام بمكة حلالًا إلى يوم التروية، وهو الثامن من ذي الحجة، ثم أحرم بالحج يوم التروية، كما جاء مبينًا في غير هذه الرواية.
[فإن قيل]: قد عَلَّقَ عليّ بن أبي طالب، وأبو موسى رضي الله عنهما إحرامهما بإحرام النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأمر عليًّا بالدوام على إحرامه قارنًا، وأمر أبا موسى بفسخه إلى عمرة؟.
[فالجواب]: أن عليًّا رضي الله عنه كان معه الهديُ، كما كان مع النبيّ صلى الله عليه وسلم الهديُ، فبقي على إحرامه، كما بقي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكلُّ من معه هديٌ، وأما أبو موسى فلم يكن معه هديٌ، فتحلل بعمرة، كمن لم يكن معه هديٌ، ولولا الهديُ مع النبيّ صلى الله عليه وسلم لجعلها عمرةً، وقد سبق إيضاح هذا الجواب في الباب الذي قبل هذا. انتهى
(4)
.
(قَالَ) أبو موسى رضي الله عنه (فَكُنْتُ أُفتِي بِهِ النَّاسَ) يعني بالتحلّل لمن أحرم
(1)
"تنبيه المعلم" ص 218.
(2)
"الفتح" 4/ 449.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 481.
(4)
"شرح النوويّ" 8/ 199.
بالحجِّ بعمل العمرة إذا لم يسق الهدي، وهذا يدلّ على أن أبا موسى رضي الله عنه ممن يرى عموم مشروعيّة ما أمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم من الفسخ، وتعدّيه لغير الصحابة، ولم ير أن ذلك خاصّ بالصحابة رضي الله عنهم، وهذا هو الحقّ، كما مرّ تحقيقه.
(حَتَّى كَانَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ رضي الله عنه) وفي الرواية التالية: فكنت أفتي الناس بذلك في إمارة أبي بكر، وإمارة عمر، فإني لقائم بالموسم إذ جاءني رجلٌ، فقال: "إنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين
…
" (فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا مُوسَى، أَو) للشكِّ من الراوي (يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ قَيْسٍ، رُوَيْدَكَ بَعْضَ فُتْيَاكَ،) أي أمْهِل بعض ما تفتي به، ولا تستعجل.
[تنبيه]: قوله: "رويدك" اسم فعل، بمعنى أَمْهِل"، وأصله أَرْوِدْ إِرْوَادًا: أي أمهل إمهالًا، فصغّروا الإرواد بحذف زيادتيه، وهما الهمزة والألف، تصغير الترخيم، واستعملوه مصدرًا نائبًا عن فعله، وهو أَرْوِدْ، ثم إنه إذا انتصب ما بعده، كرُوَيْدَ زيدًا، وكـ "بعضَ فتياك" في هذا الحديث، فإنه اسم فعل، وإن انجرّ ما بعده فهو مصدرٌ، نحو رُويد زيدٍ، أي إرواد زيد، أي إمهاله، وهو منصوب بفعل مضمر، أي أروِدْ.
وفي "لسان العرب" نقلًا عن الأزهريّ رحمه الله: اعلم أن رُويدًا تلحقها الكاف، وهي في موضع أَفْعِلْ، وذلك قولك: رُويدَك زيدًا، ورويدَكم زيدًا، فهذه الكاف التي أُلحقت لتبيين المخاطب في رويدًا، ولا موضع لها من الإعراب؛ لأنها ليست باسم، ورُويد غيرُ مضاف إليها، وهو متعدّ إلى زيد؛ لأنه اسم سمّي به الفعلُ، يعمل عمل الأفعال، وتفسير رُويدَ: مَهْلًا، وتفسير رويدَكَ: أَمْهِلْ؛ لأن الكاف إنما تدخله إذا كان بمعنى أَفْعِلْ، دون غيره، وإنما حُرّكت الدال لالتقاء الساكنين، فنُصب نصب المصادر، وهو مصغّر، مأمور به؛ لأنه تصغير الترخيم من إرواد، وهو مصدر أرود يُروِدُ، وله أربعة أوجه: اسم فعل، وصفة، وحال، ومصدر، فالاسم نحو قولك: رُويدَ عمرًا، أي أرود عمرًا، بمعنى أمهله، والصفة نحو قولك: ساروا سيرًا رُويدًا، والحال نحو قولك: سار القوم رُويدًا، لَمَّا اتصل بالمعرفة صار حالًا لها، والمصدر نحو قولك: رُويدَ عمرٍ وبالإضافة، كقوله تعالى {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} ، وفي حديث أنجشة رضي الله عنه:"رُويدك رِفقًا بالقوارير": أي أمهل، وتَأَنَّ، وارفُق.
انتهى ما في "اللسان"
(1)
.
والى هذا مع "بَلْهَ" أشار ابن مالك رحمه الله في "خلاصته" حيث قال:
كَذَا رُويدَ بَلْهَ نَاصِبَيْنِ
…
وَيَعْمَلَانِ الْخَفْضَ مَصْدَرَيْنِ
(2)
قال النوويّ رحمه الله: معنى "رُوَيدك": ارفُق قليلًا، وأمسك عن الْفُتْيَا، ويقال: فُتيا، وفَتْوى لغتان مشهورتان. انتهى.
(فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ) أي عمر بن الخطّاب رضي الله عنه (فِي النُّسُكِ) أي في شأنها (بَعْدَكَ) بالضم، من الظروف المبنيّة على الضمّ؛ لقطعه عن الإضافة، ونيّة معناها: أي بعد مفارقته لك، أو بعد ما كنت تعلمه مما تفتي به الناس، من جواز المتعة (فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ كُنَّا أَفْتَيْنَاهُ) أي بجواز المتعة (فُتْيَا فَلْيَتَّئِدْ) -بمثناة فوقية مشددة، بعدها همزة- افتعال من التؤدة: أي ليتأنّ، ولا يتعجّل بالمضيّ على فتيانا (فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ) عمر رضي الله عنه (قَادِمٌ عَلَيْكُمْ، فَبِهِ فَأْتَمُّوا) أي فاقتدوا به، وخذوا بقوله، واتركوا قولنا، إن خالفه (قَالَ) أبو موسى رضي الله عنه (فَقَدِمَ عُمَرُ رضي الله عنه، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ) وفي الرواية التالية: "فلما قَدِم قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤمِنِينَ، مَا هَذَا الَّذِي أَحْدَثْتَ فِي شَأْنِ النُّسُكِ؟، يعني نهيه الناس من المتعة (فَقَالَ) عمر رضي الله عنه (إِنْ نَأْخُذْ بكِتَابِ اللهِ) هو قوله {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (فَإِنَّ كِتَابَ اللهِ يَأْمُرُ) وفي نسخة "يَأمرنا" (بِالتَّمَامِ) أي بكون كلِّ من النسكين تامّين بإتيانه بسفر جديد، أو بإحرام جديد، لا يجعل أحدهما تابعًا للآخر.
(وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَحِلَّ حَتَّى بَلَغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) يعني أنه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع لم يتحلّل حتى روى جمرة العقبة، ونحر هديه، ولم يتحلّل بعمل العمرة؛ أي والمتمتّع يتحلّل إذا لم يسق الهدي، كما فَعَل أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم.
والحاصل أن الجمع بين القرآن والسنة قد أدّى عمر رضي الله عنه إلى النهي عن التمتّع والقران جميعًا، فيحصل حينئذ الإتمام، والحلّ يوم النحر، لا قبله.
(1)
"لسان العرب" 3/ 190.
(2)
راجع: شروح "الخلاصة"، وحواشيها في باب أسماء الأفعال والأصوات.
وقال الحافظ رحمه الله: ومحصّل جواب عمر رضي الله عنه في منعه الناس من التحلّل بالعمرة أن كتاب الله تعالى دالّ على منع التحلّل؛ لأمره بالإتمام، فيقتضي استمرار الإحرام إلى فراغ الحجّ، وأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا دالّة على ذلك؛ لأنه لم يحلّ حتى بلغ الهدي محلّه.
لكن الجواب عن ذلك ما أجاب به النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث قال:"ولولا أن معي الهدي لأحللت"، فدلّ على جواز الإحلال لمن لم يكن معه هدي.
وتبيّن من مجموع ما جاء عن عمر رضي الله عنه في ذلك أنه منع منه سدًّا للذريعة.
وقال المازريّ: قيل: إن المتعة التي نهى عنها عمر فسخ الحجّ إلى العمرة، وقيل: العمرة في أشهر الحجّ، ثم الحجّ من عامة، وعلى الثاني إنما نهى عنها ترغيبًا في الإفراد الذي هو أفضل، لا أنه يعتقد بطلانها، وتحريمها.
وقال عياض: الظاهر أنه نهى عن الفسخ، ولهذا كان يضرب الناس عليها، كما رواه مسلم، بناء على مُعْتَقَده أن الفسخ كان خاصًّا بتلك السنة.
قال النوويّ رحمه الله: والمختار أنه نهى عن المتعة المعروفة التي هي الاعتمار في أشهر الحجّ، ثم الحجّ من عامة، وهو على التنزيه للترغيب في الإفراد، كما يظهر من كلامه، ثم انعقد الإجماع على جواز التمتّع من غير كراهة، وبقي الاختلاف في الأفضل.
قال الحافظ: ويمكن أن يتمسّك من يقول بأنه إنما نهى عن الفسخ بقوله في الحديث الذي أشرنا إليه قريبًا من مسلم: "إن الله يُحلّ لرسوله ما شاء"، والله أعلم.
وفي قصّة أبي موسى، وعليّ رضي الله عنهما دلالة على جواز تعليق الإحرام بإحرام الغير مع اختلاف آخر الحديثين في التحلل، وذلك أن أبا موسى لم يكن معه هديٌ، فصار له حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم لو لم يكن معه هديٌ، وقد قال:"لولا الهدي لأحللت"؛ أي وفسخت الحجّ إلى العمرة، كما فعله أصحابه بأمره، وأما عليّ، فكان معه هديٌ، فلذلك أمره بالبقاء على إحرامه، وصار مثله قارنًا.
قال النوويّ: هذا هو الصواب، وقد تأوله الخطابيّ، وعياض بتأويلين غير مرضيين. انتهى.
قال الحافظ: فأما تأويل الخطابيّ، فإنه قال: فعل أبي موسى يخالف فعل عليّ، وكأنه أراد بقوله: أهللت كإهلال النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أي كما يبيّنه لي، ويُعيّنه لي من أنواع ما يُحرِم به، فأمره أن يحلّ بعمل عمرة؛ لأنه لم يكن معه هديٌ.
وأما تأويل عياض، فقال: المراد بقوله: "فكنت أفتي الناس بالمتعة" أي بفسخ الحجّ إلى العمرة.
والحامل لهما على ذلك اعتقادهما أنه صلى الله عليه وسلم كان مفردًا، مع قوله:"لولا أن معي الهدي لأحللت"؛ أي فسخت الحج، وجعلته عمرة، فلهذا أمر أبا موسى بالتحلّل؛ لأنه لم يكن معه هديٌ، بخلاف عليّ.
قال عياض: وجمهور الأئمة على أن فسخ الحجّ إلى العمرة كان خاصًّا بالصحابة. انتهى.
وقال ابن المنيّر في "الحاشية": ظاهر كلام عمر التفريق بين ما دلّ عليه الكتاب، ودلّت عليه السنّة، وهذا التأويل يقتضي أنهما يرجعان إلى معنى واحد.
ثم أجاب بأنه لعله أراد إبطال وَهْم من توهّم أنه خالف السنّة، حيث منع من الفسخ، فبيّن أن الكتاب والسنة متوافقان على الأمر بالإتمام، وأن الفسخ كان خاصًّا بتلك السنة؛ لإبطال اعتقاد الجاهليّة أن العمرة لا تصحّ في أشهر الحجّ. انتهى.
وأما إذا قلنا: كان قارنًا، على ما هو الصحيح المختار، فالمعتمد ما ذكر النوويّ، والله أعلم.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تقدم أن الصواب أن فسخ الحج إلى العمرة ليس خاصًا بتلك السنة، بل هو سنة مستمرة إلى يوم القيامة، كما بيّنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [20/ 2957 و 2958 و 2959 و 2960](1221)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1565 و 1724 و 1795) و"المغازي"(4397)، و (النسائيّ) في "المناسك"(5/ 156) و"الكبرى"(2/ 349)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 70)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 395)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 55)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 340 و 346)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 320)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 264)، و (البزّار) في "مسنده"(1/ 346)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 20)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان جواز الإحرام المبهم، وأن المحرم به يصرفه لما شاء، وهو قول الشافعيّ، وأصحاب الحديث، ومحلّ ذلك ما إذا كان الوقت قابلًا، بناء على أن الحجّ لا ينعقد في غير أشهره، قاله في "الفتح".
وقال النوويّ رحمه الله: فيه جواز تعليق الإحرام، فإذا قال: أحرمت بإحرامٍ كإحرام زيد صحّ إحرامه، وكان إحرامه كإحرام زيد، فإن كان زيد محرمًا بحجّ، أو بعمرة، أو قارنًا كان المعلّق مثله، وإن كان زيد أحرم مطلقًا كان المعلّق مطلقًا، ولا يلزمه أن يصرف إحرامه إلى ما يصرف زيد إحرامه إليه، فلو صرف زيد إحرامه إلى حجّ كان للمعلِّق صرف إحرامه إلى عمرة، وكذا عكسه. انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): استحباب الثناء على مَن فَعَل فِعْلًا جميلًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أحسنت".
3 -
(ومنها): بيان أن من لم يسق الهدي ممن أحرم مفردًا، أو قارنًا عليه أن يتحلّل بعمل العمرة، ثم يُهلّ بالحج يوم التروية، ومسألة فسخ الحج إلى العمرة، قد استوفيت بيان اختلاف العلماء فيها، وترجيح الراجح بأدلّته قبل بابين في شرح حديث جابر رضي الله عنه برقم [17/ 2943](1216) فراجعها تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 199.
4 -
(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من عنايتهم بتبليغ السنّة إلى الأمة، فإن أبا موسى رضي الله عنه لم يزل يُفتي الناس بذلك إلى أن خالفه عمر رضي الله عنه، فتوقف.
5 -
(ومنها): أن المجتهد ربما يخالف بعض السنن، مع علمه بها لتأويل يراه، ولا لوم عليه في ذلك، وإنما يُذَكّر لعله يتذكّر.
6 -
(ومنها): أن العلة التي كره عمر رضي الله عنه التمتع من أجلها هي كون حال المتمتع مخالفًا لحال الحاجّ من كونه أشعث، أغبر، فإنه قال -كما سيأتي-:"ولكن كرهت أن يظلُّوا مُعْرِسين بهنّ في الأراك"، لكن مثل هذا الرأي المخالف لصريح السنة، وإن كان صاحبه يُعذر باجتهاده لا يُلتفت إليه.
7 -
(ومنها): ما كان عليه الصحابة من تعظيم ولاة الأمور، فإن أبا موسى الأشعريّ رضي الله عنه ترك فتياه، وأمر الناس بأن يتئدوا عما أفتاهم به؛ إذ سمع أن عمر رضي الله عنه خالفه فيه.
8 -
(ومنها): بيان الأدب مع ولاة الأمور، وإن وقعوا في المخالفة، فلا ينبغي إساءة القول أو الفعل لهم، حيث إن أبا موسى خاطب عمر رضي الله عنهما بأسلوب أدبيّ، فقال: يا أمير المؤمنين ما هذا الذي أحدثت في شأن النسك؟، مع أنه يعلم أنه مخالف لما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فينبغي لمن رأى مخالفة من وليّ أمره أن يلاطفه، ويخاطبه باحترام وتعظيم، ولا يُعنّفه، ولا يسيء له القول أو الفعل، والله تعالى أعلم
9 -
(ومنها): بيان أن الأكابر أحيانًا يقعون في خلاف السنّة؛ اجتهادًا منهم، فإن عمر رضي الله عنه خالف ما صحّ عنه صلى الله عليه وسلم من جواز فسخ الحج إلى العمرة، أو من جواز الاعتمار في أشهر الحج بسبب رأي رآه، فيُعتذر له بالتأويل، ولا ينقص ذلك من قدره شيئًا.
10 -
(ومنها): أن المجتهد ينبغي له إذا بلغه من غيره خلاف ما يعتقده أن يتأنى حتى يعرف دليل ذلك المخالف، فلعلّ عنده حجة أقوى من حجته، فيرجع إليها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2958]
(
…
) - (وَحَدَّثنَاه عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، فِي هَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) العنبريّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
2 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر العنبريّ، أبو المثنّى البصريّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
و"شعبة" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية معاذ بن معاذ، عن شعبة هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2959]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، يَعْنِي ابْنَ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُنِيخٌ بِالْبَطْحَاءِ
(1)
، فَقَالَ:"بِمَ أَهْلَلْتَ؟ " قَالَ: قُلْتُ: أَهْلَلْتُ بِإِهْلَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"هَلْ سُقْتَ مِنْ هَدْيٍ؟ " قُلْتُ: لَا، قَالَ:"فَطُفْ بالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ حِلَّ"، فَطُفْتُ بِالْبَيتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي، فَمَشَطَتْنِي، وَغَسَلَتْ رَأْسِي، فَكُنْتُ أُفْتِى النَّاسَ بِذَلِكَ، فِي إِمَارَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَإِمَارَةِ عُمَرَ، فَإِنِّي لَقَائِمٌ بالْمَوْسِمِ، إِذْ جَاءَنِي رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي شَأْنِ النُّسُكِ، فَقُلْتُ: أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ كُنَّا أَفْتَيْنَاهُ بِشَيْءٍ فَلْيَتَّئِدْ، فَهَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ قَادِمٌ عَلَيْكُمْ، فَبِهِ فَأْتَمُّوا،
(1)
وفي نسخة: "وهو بالبطحاء".
فَلَمَّا قَدِمَ، قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا هَذَا الَّذِي أَحْدَثْتَ فِي شَأْنِ النُّسُكِ؟ قَالَ: إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللهِ، فَإِن اللهَ قَالَ:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ، وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ نَبِيِّنَا عليه الصلاة والسلام فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَحِلَّ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) الْعَنْبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ حجة [9](ت 198) وهو ابن (73) سنة (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.
2 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم قبل باب.
والباقون ذُكروا قبله، و"قيسٌ" هو ابن مسلم.
وقوله: (ثُمَّ حِلَّ) بكسر الحاء المهملة، من حلّ الثلاثيّ، وتقدم في الرواية الأولى بلفظ:"أَحِلّ" من الإحلال رباعيًّا، وكلاهما لغتان بمعنى واحد، أي: اخرُج من إحرامك، وتحلّل منه بعمل العمرة.
وقوله: (فَمَشَطَتْنِي) بالتخفيف، وَيحْتَمِل التشديد، يقال: مشَطتُ الشَّعْرَ مَشْطًا، من باب قتل، وضرب: سرّحته، والتثقيل مبالغة، قاله الفيّوميّ، والمعنى أنها سرّحت شعر رأس أبي موسى رضي الله عنه، وأصلحته.
وقوله: (فَإِنِّي لَقَائِمٌ بِالْمَوْسِمِ) بفتح الميم، وسكون الواو، وكسر السين المهملة: أي في مكان اجتماع الحجّاج، قال الليث: موسم الحجّ، سُمِّي موسمًا لأنه مَعْلَمٌ يُجتمع إليه، وقال ابن السكّيت: كل مَجمَع من الناس كثيرٍ هو مَوْسِمٌ، ومنه مَوْسِم منى، أفاده في "اللسان".
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تمام شرحه، وبيان مسائله في الرواية الأولى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2960]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَيْسٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَنِي إِلى الْيَمَنِ، قَالَ:
فَوَافَقْتُهُ فِي الْعَامِ الَّذِي حَجَّ فِيهِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"يَا أَبَا مُوسَى، كَيْفَ قُلْتَ حِينَ أَحْرَمْتَ؟ " قَالَ: قُلْتُ: لَبَّيْكَ إِهْلَالًا كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"هَلْ سُقْتَ هَدْيًا؟ " فَقُلْتُ: لَا، قَالَ:"فَانْطَلِقْ، فَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَحِلَّ"، ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ شُعْبَةَ وَسُفْيَانَ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الكوسج التميميّ، أبو يعقوب المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
2 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسيّ، تقدّم قبل بابين.
3 -
(جَعْفَرُ بْنُ عَوْنِ) بن جعفر بن عمرو بن حُريث المخزوميّ، أبو عون الكوفيّ، صدوقٌ [9](ت 6 أو 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 295.
4 -
(أَبُو عُمَيْسٍ) عتبة بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود الْهُذلي المسعوديّ الكوفيّ، ثقةٌ [7](ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 295.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ شُعْبَةَ وَسُفْيَانَ) فاعل "ساق" ضمير أبي الْعُميس.
[تنبيه]: رواية أبي العميس، عن قيس بن مسلم هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "السنن الكبرى" (4/ 338) فقال:
(8469)
- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ، ثنا أبو أحمد محمد بن عبد الوهاب، أنبأ جعفر بن عون، أنبأ أبو عميس، قال: سمعت قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني إلى اليمن، قال: فوافقته في العام الذي حَجّ فيه، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا أبا موسى كيف قلت حين أحرمت؟ " قال: قلت: إهلالٌ كإهلال النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"هل سُقْتَ هديًا؟ " قلت: لا، قال: فانطلق، فطف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم أَحِلَّ، فانطلقت، فطفت بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم عَمَدت إلى نسوة من آل قيس؛ يعني عماته، فمَشَطْن رأسي بالغسل، فلما كان بعد ذلك في إمارة
عمر رضي الله عنه قَدِمتُ حاجًّا، فبينا أنا أُحَدِّث الناس عند البيت بما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قدم رجل، فقال: دونك أيها الرجل بحديثك، فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك، فقلت: يا أيها الناس مَن سَمِعَ شيئًا، فلا يأخذ به، حتى يَقْدَم أمير المؤمنين، فبه ائتمُّوا، فلما قَدِمَ عمر رضي الله عنه، قلت له: يا أمير المؤمنين أَحَدَثَ في النسك شيء؟ فغَضِبَ عمر أمير المؤمنين من ذلك، ثم قال: أَجَلْ، لئن نأخذ بكتاب الله فقد أمر الله بالتمام، وإن نأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا، فإنه لم يَحِلّ حتى بلغ الهدي محله. انتهى.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى في شرح حديث أول الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2961]
(1222) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَن الْحَكَمِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِي مُوسَى: أَنَّهُ كَانَ يُفْتِي بِالْمُتْعَةِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: رُوَيْدَكَ بِبَعْضِ فُتْيَاكَ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي النُّسُكِ بَعْدُ، حَتَّى لَقِيَهُ بَعْدُ، فَسَأَلهُ، فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ فَعَلَهُ وَأَصْحَابُهُ، وَلَكِنْ كَرِهْتُ أَنْ يَظَلُّوا مُعْرِسِينَ بِهِنَّ فِي الْأَرَاكِ، ثُمَّ يَرُوحُونَ فِي الْحَجِّ تَقْطُرُ رُءُوسُهُمْ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(الْحَكَمُ) بن عُتيبة الكِنْديّ، تقدّم قبل بابين.
2 -
(عُمَارَةُ بْنُ عُمَيْرٍ) التيميّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4] مات بعد المائة، أو قبلها (ع) تقدم في "الصلاة" 29/ 977.
3 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي مُوسَى) عبد الله بن قيس الأشعريّ، وُلد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمّاه، وحَنّكه بتمرة، ودعا له بالبركة، عِداده في أهل الكوفة، ثقةٌ [2].
رَوَى عن أبيه، والمغيرة بن شعبة، وعنه الشعبيّ، وعُمَارة بن عمير.
قال ابن حبان في "الصحابة": لم يسمع من النبيّ صلى الله عليه وسلم، روى عنه الحكم بن عُتيبة، وقال العجليّ: كوفيّ تابعيّ ثقة، وذكره جماعة في الصحابة على عادتهم فيمن له إدراك.
أخرج له المصنّف، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (كَانَ يُفْتِي بِالْمُتْعَةِ) أي بجواز التمتّع، والمراد فسخ الحجّ بعمل العمرة.
وقوله: (فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ) لم يُعرف الرجل، كما قال صاحب "التنبيه"
(1)
.
وقوله: (رُويدَكَ بِبَعْضِ فُتْيَاكَ) أي تمهّل عن بعض الأحكام التي تفتي الناس بها.
وقوله: (فِي النُّسُكِ) أي في شأن النسك.
وقوله: (بَعْدُ) بالضم، من الظروف المبنيّة على الضمّ؛ لقطعه عن الإضافة، ونيّة معناها: أي بعد ما كنت تعرفه من جواز التمتّع.
(فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ فَعَلَهُ) أي التمتّع، بمعنى القران، أو المراد التمتع المعروف، ومعناه أمر بفعله، أو التمتّع الذي هو فسخ الحج بعمل العمرة، وقال السنديّ: أي فلا نهي عنه لذاته، بل لأن الناس لا يؤدّون حقّ الحجّ لأجله. انتهى.
وقوله: (كَرِهْتُ أَنْ يَظَلُّوا) -بفتح التحتانيّة، والظاء، وتشديد اللام- قال الفيّوميّ: وظلّ يَفْعَل كذا، من باب تَعِبَ ظُلُولًا: إذا فعله نهارًا، قال الخليل: لا تقول العرب: ظَلَّ إلا لعمل يكون بالنهار. انتهى.
وقوله: (مُعْرِسِينَ بِهِنَّ) اسم فاعل من الإعراس، لا من التعريس، قال الفيّوميّ: وأعرس بامرأته بالألف: دخل بها، وأعرس عَمِلَ عُرْسًا، وأما عرّسَ بامرأته بالتثقيل على معنى الدخول، فقالوا: هو خطأ، وإنما يقال: عرّس: إذا نزل المسافر ليستريح نزلةً، ثم يرتحل، قال أبو زيد: وقالوا: عرّس القوم في
(1)
"تنبيه المعلم" ص 218.
المنزل تعريسًا: إذا نزلوا أيَّ وقت كان من ليل أو نهار، فالإعراس: دخول الرجل بامرأته، والتعريس: نزول المسافر ليستريح. انتهى
(1)
.
وضمير "بهنّ" للنساء بقرينة المقام، وإن لم يذكرن.
وقال القرطبيّ رحمه الله: ولا يصحّ أن يكون من التعريس؛ لأن الرواية بتخفيف العين والراء؛ ولأن التعريس إنما هو النزول من آخر الليل، كما تقدّم، ويناقضه قوله:"يظلون"، و"يروحون"، فإنهما إنما يقالان على عمل النهار. انتهى.
وأراد عمر رضي الله عنه وطأ النساء بعد التحلل من عمل العمرة.
وقوله: (فِي الْأَرَاكِ) متعلّق بقوله: "مُعْرِسِين"، وهو بفتح الهمزة: شجر معروف، ويَحْتَمِل أن يكون المراد به موضعًا معيّنًا قُرب نَمِرَة، فقد ذكر ذلك في "القاموس"، فقال: الأَراكُ كسحاب: القِطعةُ من الأرض، وموضع بعرفة قربَ نَمِرَة، وجبلٌ لِهُذيل، والْحَمْضُ، كالإراك بالكسر، وشجر من الْحَمْضِ يُستاك به، جمعه أُرُكٌ بضمّتين، وأرائك. انتهى
(2)
.
وقوله: (ثُمَّ يَرُوحُونَ فِي الْحَجِّ) أي يذهبوا ملبين بالحجّ إلى منى، وعرفات.
وقوله: (تَقْطُرُ رُءُوسُهُمْ) جملة في محل نصب على الحال من الفاعل، والمعنى أن عمر رضي الله عنه كره التمتّع؛ لأنه يفضي إلى التحلّل الذي يفضي إلى مواقعة النساء المسبّب عنه الاغتسال الذي تقطر منه رؤوس المغتسلين.
والحاصل أنه أراد بذلك أن الأفضل للحاجّ أن يتفرّق شعره، ويتغيّر حاله، والتمتع في حقّ غالب الناس صار مؤديًا إلى خلافه، فنهاهم لذلك.
وقال النوويّ رحمه الله: معناه كَرِهْتُ التمتع؛ لأنه يقتضي التحلل ووطء النساء إلى حين الخروح إلى عرفات.
وقال الحافظ رحمه الله: وفي هذه الرواية تبيين عمر العلة التي لأجلها كَرِهَ التمتعَ، وكان من رأي عمر رضي الله عنه عدم الترفّه للحجّ بكلّ طريق، فكره لهم قرب عهدهم بالنساء؛ لئلا يستمرّ الميل إلى ذلك بخلاف من بَعُدَ عهده به، ومن يُفطم ينفطم.
(1)
"المفهم" 3/ 348، 349.
(2)
"القاموس المحيط" 3/ 292.
وقد أخرج مسلم من حديث جابر رضي الله عنه أن عمر رضي الله عنه قال: "افْصِلُوا حجكم من عمرتكم، فإنه أتمّ لحجكم، وأتمّ لعمرتكم"، وفي رواية:"إن الله يُحلّ لرسوله ما شاء، فأتموا الحجّ والعمرة كما أمركم الله". انتهى كلام الحافظ رحمه الله. ومال القرطبيّ رحمه الله إلى أن ما كرهه عمر رضي الله عنه هو فسخ الحجّ بعمل العمرة، ونصّه عند قوله:"كرهت أن يظلّوا بهنّ معرسين": يعني أنه كره أن يَحِلّوا من حجهم بالفسخ المذكور، فيطؤون نساءهم قبل تمام الحجّ الذي كانوا أحرموا به، ولا يُظَنّ بمثل عمر رضي الله عنه الذي جعل الله الحقّ على لسانه وقلبه أنه منع ما جوّزه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرأي والمصلحة، فإن ذلك ظنُّ من لم يعرف عمر، ولا فهم استدلالة المذكور في الحديث.
وإنما تمسك بقول الله عز وجل: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ، ففهم أن من تلبّس بشيء منهما وجب عليه إتمامه، ثم ظهر له أن ما أمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه قضيّة مخصوصة على ما ذكرناه فيما تقدّم، فقضى بخصوصيّة ذلك لأولئك، ثم إنه أطلق الكراهية، وهو يريد بها التحريم، وتجنّب لفظ التحريم؛ لأنه مما أدّاه إليه اجتهاده، وهذه طريقة كبراء الأئمة، كمالك، والشافعيِّ، وكثيرًا ما يقولون: أكره كذا، وهم يريدون التحريم، وهذا منهم تحرّزٌ، وحَذرٌ من قوله تعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} الآية [النحل: 16]. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله القرطبيّ رحمه الله تحقيق حسنٌ، ويؤيّده ما ثبت من أن عمر كان يضرب الناس على هذا، فلولا أنه كان يرى تحريمه لما ضرب الناس عليه.
والحاصل أن تأويل ما ثبت عن عمر رضي الله عنه بما ذكر حسنٌ، ولكنه اجتهاد، خالفه فيه جُلّ الصحابة، حيث خالف النصّ الصحيح الصريح، فلا يعوّل عليه، وإن اعتُذر عنه بما ذُكر ففسخ الحج بعمل العمرة مشروع مستمرّ، ينبغي العمل به، كما ذهب إليّه المحققون.
والحديث أخرجه (المصنف) هنا [20/ 2961](1222)، وهو من أفراده، و (النسائي) في "المجتبى"(5/ 153)، و (ابن ماجه) في "سننه"(2979)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 49 و 50)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(21) - (بَابُ جَوَازِ التَّمَتُّعِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2962]
(1223) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ شَقِيقٍ: كَانَ عُثْمَانُ يَنْهَى عَن الْمُتْعَةِ، وَكَانَ عَلِيٌّ يَأْمُرُ بِهَا، فَقَالَ عُثْمَانُ لِعَلِيٍّ كَلِمَةً، ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ: لَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّا قَدْ تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَجَلْ، وَلَكِنَّا كنَّا خَائِفِينَ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(قَتَادَةُ) بن دِعَامة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، يُدلّس، من رؤوس [4](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ شَقِيقٍ) الْعُقَيليّ البصريّ، ثقةٌ فيه نَصْبٌ [3](ت 108)(بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 84/ 450.
3 -
(عَلِيّ) بن أبي طالب الهاشميّ، أحد الخلفاء الراشدين، أبو الحسن، استُشهد رضي الله عنه في رمضان سنة (40) وله (63) سنةً على الأرجح (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
والباقون ذُكروا في السند الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحاد كيفيّة الأخذ والأداء منه، ثم فصّل؛ لاختلافهما في ذلك.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى عبد الله بن شقيق، فما أخرج له البخاريّ في "الصحيح".
3 -
(ومنها): أن شيخيه من التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.
4 -
(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، سوى عليّ رضي الله عنه، فمدنيّ، ثم كوفيّ.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.
6 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه ذو مناقب جمّة، فهو ابن عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته، وأول من أسلم من الصبيان، أحد الخلفاء الراشدين، والعشرة المبشّرين بالجنّة، ومات يوم مات وهو أفضل أهل الأرض من بني آدم رضي الله عنه.
شرح الحديث:
(عَنْ قَتَادَةَ) بن دِعامة السَّدُوسيّ أنه (قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ شَقِيقٍ) الْعُقيليّ (كَانَ عُثْمَانُ) ابن عفّان بن أبي العاص بن أميّة الأمويّ أحد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، استُشهد سنة (35) وعمره (80) وقيل غير ذلك، تقدّمت ترجمته في "الإيمان" 10/ 143. (يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَةِ، وَكَانَ عَلِيٌّ يَأْمُرُ بِهَا) وفي رواية سعيد بن المسيّب التالية: أن اختلافهما كان بعُسفان، ولفظه: "قال: اجتمع عليّ وعثمان ببعُسفان، فكان عثمان ينهى عن المتعة، أو العمرة، فقال عليّ: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه؟، فقال عثمان: دَعْنا منك، فقال: إني لا أستطيع أن أدعك، فلما أن رأى عليّ ذلك أهلّ بهما جميعًا".
قال النوويّ رحمه الله: المختار أن المتعة التي نهى عنها عثمان رضي الله عنه هي التمتع المعروف في الحجّ، وكان عمر وعثمان رضي الله عنهما ينهيان عنها نهي تنزيه، لا تحريم، وإنما نَهَيا عنها؛ لأن الإفراد أفضل، فكان عمر وعثمان يأمران بالإفراد؛ لأنه أفضل، وينهيان عن التمتع نهيَ تنزيه؛ لأنه مأمور بصلاح رعيته، وكان يرى الأمر بالإفراد من جملة صلاحهم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: اختَلَف المتأولون في هذه المتعة التي اختَلَف فيها عثمان وعليّ رضي الله عنهما هل هي فسخ الحج في العمرة، أو هي التي يُجْمَع فيها بين حجّ وعمرة في عام واحد، وسفر واحد؟ فمن قال بالأول صَرَفَ خلافهما إلى أن عثمان كان يراها خاصَّة بمن كان مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وكان عليّ لا يرى خصوصيتهم بذلك.
ويُسْتَدَلُّ على هذا بقول عثمان رضي الله عنه: "أجل؛ ولكنا كنا خائفين" أي من
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 202.
فسخ الحج في العمرة، فإنه على خلاف الإتمام الذي أمر الله تعالى به، وفيه بُعدٌ، والأظهر القول الثاني، وعليه فخلافهما إنما كان في الأفضل، فعثمان رضي الله عنه كان يعتقد أن إفراد الحج أفضل، وعلي رضي الله عنه كان يعتقد أن التمتع أفضل؛ إذ الأمة مجمعة على أن كل واحد منهما جائز، وعليه فقوله:"ولكنَّا كنَّا خائفين" أي من أن يكون أجر مَن أفرد أعظم من أجر من تمتع منهم، فالخوف من التمتع، ولما ظنَّ عليّ أن ذلك يُتَلَقَّى من عثمان، ويُقْتَدَى به، فيؤدي ذلك إلى ترك التمتع والقِران أَهَلَّ بالقران؛ ليبيّن أن كل واحد منهما مُسَوَّغٌ، أو لأنهما عنده أفضل من الإفراد، من حيث إن كل واحدة منهما في عملين، والمفرد في عمل واحد، والله تعالى أعلم. انتهى.
وهذا الذي ظهر لعثمان رضي الله عنه هو الذي كان ظهر لعمر رضي الله عنه من قبله، كما قال عمران بن حصين رضي الله عنهما، فإنه ظهر من استدلال عمر -بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جَمَع بين حج وعُمْرة- أنَّ الذي منعه عمر هو ما عدا الإفراد، وهذا منه محمول على أنَّه كان يعتقد أن الإفراد أفضل من التمتع والقِرَان، وكان عمران يعتقد أن الإفراد أفضل، ولذلك قال:"قال رجل برأيه ما شاء" يعني به عمر، بعد أن روى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرن، وليست هذه المتعة التي منعها عمر هنا هي التي منعها هو في حديث ابن الزبير، بل تلك فَسخ الحج في العمرة، كما تقدَّم.
وعلى الجملة: فأحاديث هذا الباب كثيرة الاختلاف والاضطراب، وما ذكرناه أشبهُ بالصواب. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وفي رواية النسائيّ: "أن عثمان نهى عن المتعة، وأن يجمع الرجل بين الحجّ والعمرة"، قال في "الفتح": قوله: "وأن يجمع بينهما" يَحْتَمِل أن تكون الواو عاطفة، فيكون نهى عن التمتّع والقران معًا، ويَحْتَمِل أن يكون عطفًا تفسيريًّا، وهو على ما تقدّم أن السلف كانوا يطلقون على القران تمتّعًا، ووجهه أن القارن يتمتّع بترك النَّصَبِ بالسفر مرّتين، فيكون المراد أن يجمع بينهما قرانًا، أو إيقاعًا لهما في سنة واحدة بتقديم العمرةَ على الحجّ.
(1)
"المفهم" 3/ 349، 350.
وقد رواه النسائيّ من طريق عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد بن المسيّب بلفظ:"نهى عثمان عن التمتّع"، وزاد فيه:"فلبّى عليّ، وأصحابه بالعمرة، فلم ينههم عثمان، فقال له عليّ: ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تمتّع؟، قال: بلى"، وله من وجه آخر:"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبّي بهما جميعًا"، زاد مسلم من طريق عبد الله بن شقيق، عن عثمان، قال:"أجل، ولكنا كنّا خائفين".
(فَقَالَ عُثْمَانُ لِعَلِيٍّ) رضي الله عنهما (كَلِمَةً) وفي رواية أحمد: "فقال عثمان لعليّ: إنك كذا وكذا"، وفي رواية النسائيّ، والإسماعيليّ:"فقال عثمان: تراني أنهى الناس، وأنت تفعله؟، فقل: ما كنت أدع".
وقال القرطبيّ رحمه الله قوله: "قال كلمةً": يعني كلمة أغلظ له فيها، ولعلّها التي قال في الرواية الأخرى:"دعنا منك"، فإن فيها غِلَظًا وجفاءً بالنسبة إلى أمثالها، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
(ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ) رضي الله عنه (لَقَدْ عَلِمْتَ) بتاء الخطاب، وهو لعثمان رضي الله عنه (أَنَّا قَدْ تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ) عثمان رضي الله عنه (أَجَلْ) كنعم وزنًا ومعنًى (وَلَكِنَّا كُنَّا خَائِفِينَ) زاد أحمد من طريق روح، عن شعبة: قال شعبة: فقلت لقتادة: ما كان خوفهم؟ قال: لا أدري. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: لعله أشار إلى عمرة القضيّة سنة سبع، لكن لم يكن في تلك السنة حقيقة تمتّع، إنما كان عمرة وحدها.
قال الحافظ رحمه الله: هي رواية شاذّة، فقد روى الحديث مروان بن الحكم، وسعيد بن المسيّب، وهما أعلم من عبد الله بن شقيق، فلم يقولا ذلك، والتمتّع إنما كان في حجة الوداع، وقد قال ابن مسعود -كما ثبت عنه في "الصحيحين"-:"كنّا آمن ما يكون الناس".
وقال القرطبيّ: قوله: "كنا خائفين" أي من أن يكون أجر من أفرد أعظم من أجر من تمتّع. كذا قال، وهو جمع حسن، ولكن لا يخفى بُعده.
(1)
"المفهم" 3/ 351.
(2)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 1/ 61.
ويَحْتَمِل أن يكون عثمان أشار إلى أن الأصل في اختياره صلى الله عليه وسلم فسخ الحجّ إلى العمرة في حجة الوداع دفع اعتقاد قريش منع العمرة في أشهر الحجّ، وكان ابتداء ذلك بالحديبية؛ لأن إحرامهم بالعمرة كان في ذي القعدة، وهو من أشهر الحجّ، وهناك يصحّ إطلاق كونهم خائفين؛ أي من وقوع القتال بينهم وبين المشركين، وكان المشركون صدّوهم عن الوصول إلى البيت، فتحلّلوا من عمرتهم، وكانت أول عمرة وقعت في أشهر الحجّ، ثم جاءت عمرة القضيّة في ذي القعدة أيضًا، ثم أراد صلى الله عليه وسلم تأكيد ذلك بالمبالغة فيه، حتى أمرهم بفسخ الحجّ إلى العمرة. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ أن التمتّع الذي كان ينهى عنه عثمان رضي الله عنه هو التمتّع المعروف، وهو أن يأتي بالعمرة من الميقات في أشهر الحجّ، ثم يحج، فقد صرّح بذلك في رواية أحمد في "مسنده"، ولفظه: حدثنا يحيى
(2)
، عن ابن حرملة
(3)
، قال: سمعت سعيدًا؛ يعني ابن المسيِّب، قال: خرج عثمان رضي الله عنه حاجًّا، حتى إذا كان ببعض الطريق، قيل لعليّ رضي الله عنه: إنه قد نهى عن التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال عليّ رضي الله عنه لأصحابه: إذا ارتحل فارتحلوا، فأهلّ علي وأصحابه بعمرة، فلم يكلمه عثمان رضي الله عنه في ذلك، فقال له عليّ رضي الله عنه: ألم أُخْبَر أنك نَهَيت عن التمتع بالعمرة، قال: فقال: بلى، قال: فلم تسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم تمتع؟ قال: بلى
(4)
.
وفي رواية له عن سعيد بن المسيِّب قال: حج عثمان حتى إذا كان في بعض الطريق أُخْبِر عليّ أن عثمان نهى أصحابه عن التمتع بالعمرة إلى الحجّ، فقال عليّ لأصحابه: إذا راح فروحوا، فأهلّ علي وأصحابه بعمرة، فلم يكلمهم عثمان، فقال عليّ رضي الله عنه: ألم أُخْبَر أنك نهيت عن التمتع؟ ألم يتمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فما أدري ما أجابه عثمان رضي الله عنه
(5)
.
(1)
راجع: "الفتح" 4/ 460 - 461.
(2)
يحيى هو القطّان.
(3)
هو عبد الرحمن بن حرملة الأسلميّ المدنيّ.
(4)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 1/ 57.
(5)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 1/ 60.
فبيّن بهذا أن التمتّع الذي كان ينهى عنه عثمان رضي الله عنه، هو التمتّع المشهور، ويكون نهيه من باب الأفضليّة، حيث يرى أن الإفراد أفضل من التمتّع، ويكون معنى قوله:"ولكنا كنا خائفين"، إن صحّت الزيادة ما تقدّم عن القرطبيّ، وهو خوفهم أن يكون أجر من أفرد أعظم من أجر من تمتّع.
وبالجملة فما رآه عمر وعثمان رضي الله عنهما هو اجتهاد منهما، وإنما الفضل والثواب الكثير فيما سنّه النبيّ صلى الله عليه وسلم، واختاره، كما أشار إليه عليّ رضي الله عنه، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عليّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [2/ 2962 و 2963 و 2964](1223)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1563 و 1569)، و (النسائيّ) في "المناسك"(2722 و 2723 و 2733) وفي "الكبرى"(3702 و 3703 و 3713)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 61 و 57 و 97)، و (الدارميّ) في "سننه"(1923)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 322)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 22)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعية التمتّع.
2 -
(ومنها): إشاعة العالم ما عنده من العلم، وإظهاره للناس، ومناظرة ولاة الأمور، وغيرهم في تحقيقه لمن قوي على ذلك؛ لقصد مناصحة المسلمين.
3 -
(ومنها): البيان بالفعل مع القول؛ ليكون أبلغ، فقد أهلّ عليّ رضي الله عنه متمتّعًا.
4 -
(ومنها): جواز الاستنباط من النصّ؛ لأن عثمان رضي الله عنه لم يخف عليه أن التمتّع والقران جائزان، وإنما نهى عنهما؛ ليُعمل بالأفضل في ظنّه، وهو الإفراد، كما وقع لعمر رضي الله عنه، لكن خشي عليّ رضي الله عنه أن يَحْمِل غيرُهُ النهيَ على التحريم، فأشاع جواز ذلك، وكلّ منهما مجتهد مأجور.
5 -
(ومنها): ما ذكره ابن الحاجب، من كون حديث عثمان رضي الله عنه هذا دليلًا لمسألة اتفاق أهل العصر الثاني بعد اختلاف أهل العصر الأول، فقال: وفي "الصحيح" أن عثمان كان نهى عن المتعة، قال البغويّ: ثم صار إجماعًا.
قال الحافظ: وتُعُقّب بأن نهي عثمان عن المتعة إن كان المراد به الاعتمار في أشهر الحجّ قبل الحجّ، فلم يستقرّ الإجماع عليه؛ لأن الحنفيّة يخالفون فيه، وإن كان المراد به فسخ الحجّ إلى العمرة، فكذلك الحنابلة يخالفون فيه، ثم وراء ذلك أن رواية النسائيّ السابقة مشعرة بأن عثمان رجع عن النهي، فلا يصحّ التمسّك به.
ولفظ البغويّ بعد أن ساق حديث عثمان في "شرح السنّة": هذا خلاف عليّ، وأكثر الصحابة على الجواز، واتفقت عليه الأئمة بعدُ، فحمله على أن عثمان نهى عن التمتّع المعهود، والظاهر أن عثمان ما كان يبطله، وإنما كان يرى أن الإفراد أفضل منه، وإذا كان كذلك، فلم تتفق الأئمة على ذلك، فإن الخلاف في أيّ الأمور الثلاثة أفضل باق، والله أعلم.
6 -
(ومنها): أن المجتهد لا يُلزِمُ مجتهدًا آخر بتقليده؛ لعدم إنكار عثمان على عليّ رضي الله عنهما ذلك، مع كون عثمان الإمامَ؛ إذ ذاك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2963]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِيهِ يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ الْحَارِثيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ) البصريّ، ثقةٌ [10](ت 248) أو بعدها (م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.
2 -
(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) بن عُبيد الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.
و"شعبة" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية خالد بن الحارث، عن شعبة هذه لم أر من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2964]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: اجْتَمَعَ عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ رضي الله عنهما بِعُسْفَانَ، فَكَانَ عُثْمَانُ يَنْهَى عَن الْمُتْعَةِ، أَوْ الْعُمْرَةِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا تُرِيدُ إِلَى أَمْرٍ فَعَلَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَنْهَى عَنْهُ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: دَعْنَا مِنْكَ، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَستَطِيعُ أَنْ أَدَعَكَ، فَلَمَّا أَنْ رَأَى عَلِيٌّ ذَلِكَ أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ) بن عبد الله بن طارق الْجَمَليّ المراديّ، أبو عبد الله الكوفيّ الأعمى، ثقةٌ عابد، رمي بالإرجاء [5](ت 118) أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 85/ 452.
2 -
(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) بن حَزْن بن أبي وهب المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه، من كبار [3](ت 94) وقد ناهز الثمانين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71. والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (اجْتَمَعَ عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ رضي الله عنهما بِعُسْفَانَ) -بضمّ العين، وسكون السين المهملتين-: موضع بين مكة والمدينة، ويُذكّر ويؤنّث، وبينه وبين مكة نحو ثلاث مراحل، ونونه زائدة، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
وقوله: (عَن الْمُتْعَةِ، أَوْ الْعُمْرَةِ) الظاهر أن "أو" للشكّ من الراوي، وجعل بعضهم التردّد من ابن المسيِّب، قال: تردّد في التعبير عن منهيّ عثمان، فإن المراد بالمتعة كما في شروح البخاريّ: العمرة في أشهر الحجّ، سواء كانت في ضمن الحجّ، أو متقدّمة عنه منفردة، وسبب تسميتها متعةً ما فيه من التخفيف الذي هو تمتّع.
(1)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 409.
وقوله: (مَا تُرِيدُ إِلَى أَمْرٍ إلخ) أي ما مرادك بالميل إلى نهي أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، ولفظ البخاريّ:"ما تريد إلى أن تنهى عن أمر فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية الكشميهنيّ:"إلا أن تنهى" بحرف الاستثناء.
وقوله: (فَعَلَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) جملة في محلّ جرّ صفة لـ "أمرٍ".
وقوله: (تَنْهَى عَنْهُ؟) جملة في محلّ نصب على الحال.
وقوله: (دَعْنَا مِنْكَ) أي خَلِّنا وشأننا.
وقوله: (إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَدَعَكَ) أي لا أقدر أن أُخلّيك وشأنك كي لا يشيع بين المسلمين نهيٌ من أميرهم عن أمر فعله نبيّهم صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (فَلَمَّا أَنْ رَأَى عَلِيٌّ ذَلِكَ) أي النهي الواقع من عثمان رضي الله عنه عن المتعة.
وقوله: (أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا)؛ أي أحرم بالحجّ والعمرة، وزاد في رواية البخاريّ:"لبيك بعمرة وحجة"، وهذا كلّه من قوله:"اجتمع عليّ وعثمان رضي الله عنهما بعسفان" إلى هنا كلام ابن المسيّب رحمه الله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث عنه مستوفًى قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2965]
(1224) - (وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيةَ، عَن الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَتْ الْمُتْعَةُ فِي الْحَجِّ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورِ) بن شعبة الخراسانيّ، نزيل مكة، ثقةٌ مصنّفٌ [10](ت 227) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 338.
2 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مهران الكوفيّ، ثقةٌ حافظ فقيهٌ، يرسل ويدلّس [5](ت 147)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.
3 -
(إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ) ابن يزيد بن شريك، أبو أسماء الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ، يرسل [5](ت 92)(ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 406.
4 -
(أَبُوهُ) يزيد بن شريك بن طارق التيميّ الكوفيّ، يقال: أدرك الجاهليّة [2] مات في خلافة عبد الملك (ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 406.
5 -
(أَبُو ذَرٍّ) جُندب بن جُنادة الغفاريّ الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (32)(ع) تقدم في "الإيمان" 49/ 224.
والباقون تقدّموا قبل باب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتحاد كيفيّة الأخذ والأداء.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ، وأما أبو كريب فممن اتّفق الجماعة الرواية عنه بلا واسطة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه سعيد، فخراسانيّ، ثم مكيّ، وأبي ذرّ رضي الله عنه، فمدنيّ، ثم رَبَذيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض، ورواية الابن عن أبيه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي ذَرٍّ) الغفاريّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَتْ الْمُتْعَةُ فِي الْحَجِّ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً) وفي الرواية التالية: "كانت لنا رخصة -يعني المتعة في الحج-رضي الله عنه، وفي الرواية الأخرى: "قال أبو ذرّ: لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصةً؛ يعني متعة النساء، ومتعة الحج"، وفي الرواية الأخرى: "إنما كانت لنا خاصة دونكم".
قال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: معنى هذه الروايات كلها أن فسخ الحج إلى العمرة كان للصحابة في تلك السنة، وهي حجة الوداع، ولا يجوز بعد ذلك، وليس مراد أبي ذرّ رضي الله عنه إبطال التمتع مطلقًا، بل مراده فسخ الحج كما ذكرنا، وحكمته إبطال ما كانت عليه الجاهلية من منع العمرة في أشهر الحج،
وقد سبق بيان هذا كله في الباب السابق. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا قالوا، ولكن الظاهر أن أبا ذرّ لا يقول بمشروعية المتعة مطلقًا، سواء كان التمتع المعروف الذي هو القدوم بالعمرة من الميقات، ثم التحلل، ثم الحج في عامة، أم التمتع الذي هو فسخ الحج إلى العمرة، وقد سبق أن عمر، وعثمان، ومعاوية رضي الله عنهم كانوا ينهون عن التمتع مطلقًا، فالظاهر أن مذهب أبي ذرّ رضي الله عنه من نوع مذهب هؤلاء، وليس هناك دليل على أنه يريد الفسخ فقط، والحديث، وإن كان صحيحًا، لكنه موقوف، فلا يعارض المرفوع الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من عِدّة طرق، فقد تقدم أن فسخ الحج مرويّ عن بضعة عشر صحابيًّا، وقد ثبت أن عمر، وعثمان رضي الله عنهما كانا ينهيان عن التمتّع، ولكن ذلك لم يعارض به ما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكذلك ما قاله أبو ذرّ رضي الله عنه هنا من دعوى الخصوصية بالصحابة لا يعارض المرفوع، بل هذا رأي رآه هو، كما رأى غيره، فيقدّم ما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من أن فسخ الحجّ عامّ لجميع الأمة إلى يوم القيامة، كما تقدّم تحقيق ذلك قريبًا.
ثم وجدت الإمام ابن القيّم رحمه الله قد أجاد في ردّ دعوى الخصوصيّة، حيث قال بعد أن أورد أدلة من ادّعى الخصوصيّة للصحابة:
قال المجوّزون للفسخ، والموجبون له: لا حجة لكم في شيء من ذلك، فإن هذه الآثار بين باطل، لا يصح عمن نُسِب إليه البتة، وبين صحيح عن قائل غير معصوم، لا تعارض به نصوص المعصوم، قال: وقد روى أبو ذرّ رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم الأمر بفسخ الحج والعمرة، وغاية ما نُقِل عنه إن صحّ أن ذلك مختص بالصحابة فهو رأيه، وقد قال ابن عباس، وأبو موسى الأشعريّ: إن ذلك عام للأمة، فرأيُ أبي ذرّ معارض برأيهما، وسَلِمت النصوص الصحيحة الصريحة، ثم من المعلوم أن دعوى الاختصاص باطلة بنص النبيّ صلى الله عليه وسلم أن تلك العمرة التي وقع السؤال عنها، وكانت عمرة فسخ لأبد الأبد، لا تختص بقرن دون قرن، وهذا أصح من المرويّ عن أبي ذرّ رضي الله عنه، وأولى أن يؤخذ به منه لو صحّ عنه.
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 203.
وأيضًا فإذا رأينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختلفوا في أمر قد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعله، وأمر به، فقال بعضهم: إنه منسوخ، أو خاصّ، وقال بعضهم: هو باقٍ إلى الأبد، فقول من ادَّعَى نسخه، أو اختصاصه مخالف للأصل، فلا يقبل إلا ببرهان، وإن أقل ما في الباب معارضته بقول من ادَّعَى بقاءه وعمومه، والحجة تَفْصِل بين المتنازعين، والواجب الردّ عند التنازع إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا قال أبو ذرّ وعثمان: إن الفسخ منسوخ، أو خاصّ، وقال أبو موسى، وعبد الله بن عباس: إنه باق، وحكمه عامّ فعلى من ادَّعَى النسخ والاختصاص الدليل.
ثم قال ابن القيّم رحمه الله ما ملخّصه: إن المرويّ عن أبي ذرّ وعثمان يَحْتَمِل ثلاثة أمور:
أحدها: اختصاص جواز ذلك بالصحابة، وهو الذي فهمه من حَرَّم الفسخ.
الثاني: اختصاص وجوبه بالصحابة، وهو الذي كان يراه شيخنا -يعني ابن تيميّة رحمه الله يقول: إنهم كانوا قد فُرِضَ عليهم الفسخ؛ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم به، وحتمه عليهم، وغضبه عندما توقفوا في المبادرة إلى امتثاله، وأما الجواز والاستحباب فللأمة إلى يوم القيامة، لكن أبى ذلك البحر ابن عباس، وجعل الوجوب للأمة إلى يوم القيامة، وأن فرضًا على كل مفرد وقارن لم يسق الهدي أن يُحلّ ولا بد، بل قد حَلّ وإن لم يشأ، قال ابن القيّم: وأنا إلى قوله -يعني ابن عباس رضي الله عنهما أميل مني إلى قول شيخنا.
قال الجامع عفا الله عنه: وأنا كنت أميل إلى ما مال إليه ابن القيّم رحمه الله، ثم ملتُ إلى مال إليه شيخه؛ لأني رأيته أعدل الأقوال في المسألة، كما قدّمت تحقيقه، وهو مذهب الإمام أحمد، وطائفة من المحقّقين، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
قال: الاحتمال الثالث أنه ليس لأحد من بعد الصحابة أن يبتدئ حجًّا قارنًا أو مفردًا بلا هدي، بل هذا يحتاج معه إلى الفسخ، لكن فرض عليه أن يفعل ما أمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه في آخر الأمر من التمتع لمن لم يسق الهدي، والقران لمن ساق، كما صحّ عنه ذلك، وأما أن يحرم بحج مفرد ثم يفسخه
عند الطواف إلى عمرة مفردة، ويجعله متعةً، فليس له ذلك، بل هذا إنما كان للصحابة، فإنهم ابتدؤوا الإحرام بالحج المفرد قبل أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالتمتع والفسخ إليه، فلما استقرّ أمره بالتمتع والفسخ إليه، لم يكن لأحد أن يخالفه، ويفرد، ثم يفسخه.
قال: وإذا تأملت هذين الاحتمالين الأخيرين رأيتهما إما راجحين على الاحتمال الأوّل، أو مساويين له، وتسقط معارضة الأحاديث الثابتة الصريحة به جملةً، وبالله تعالى التوفيق. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله باختصار
(1)
.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): أثر أبي ذرّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [21/ 2965 و 2966 و 2967 و 2969](1224)، و (النسائيّ) في "المناسك"(5/ 179 و 180)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(2985)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 338)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 323)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 22)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2966]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَيَّاشٍ الْعَامِرِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَتْ لنَا رُخْصَةً، يَعْنِي الْمُتْعَةَ فِي الْحَجِّ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) تقدّم في الباب الماضي.
(1)
"زاد المعاد" 2/ 189 - 194.
2 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
3 -
(عَيَّاشٌ الْعَامِرِيُّ) هو: عيّاش بن عمرو العامريّ التميميّ
(1)
الكوفيّ، ثقةٌ [5].
رَوَى عن عبد الله بن أبي أوفى، وإبراهيم التيميّ، ومسلم بن يزيد، وسعيد بن جبير، وزاذان، وأبي الشعثاء المحاربيّ، وغيرهم.
وروى عنه ابنه عبد الله، والثوريّ، وشعبة، وقيس بن الربيع، والعوّام بن حَوْشَب، وشريك النخعيّ.
قال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: ثقةٌ، وكذا قال النسائيّ، وقال أبو حاتم: صالح، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال محمد بن حميد، عن جرير: رأيت عيّاشًا عليه عمامة بيضاء.
تفرّد به المصنّف، والنسائيّ، وليس له عندهما إلا هذا الحديث.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (كَانَتْ لَنَا رُخْصَةً، يَعْني الْمُتْعَةَ فِي الْحَجِّ) قال الأثرم في "سننه": وذكر لنا أحمد بن حنبل أن عبد الرحمن بن مهديّ حدّثه، عن سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم التيميّ، عن أبي ذرّ في متعة الحج: كانت لنا خاصّة، فقال أحمد بن حنبل: رحم الله أبا ذرّ في كتاب الله {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} الآية [البقرة: 196].
والأثر من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم تمام البحث فيه قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2967]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ فُضَيْلٍ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ رضي الله عنه: لَا تَصْلُحُ الْمُتْعَتَانِ إِلَّا لنَا خَاصَّةً، يَعْنِي مُتْعَةَ النِّسَاءِ، وَمُتْعَةَ الْحَجِّ).
(1)
قال الحافظ في "تهذيب التهذيب": الجمع في نسب واحد بين العامريّ والتيميّ يَحتاج إلى ارتكاب مجاز. انتهى.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
2 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
3 -
(فُضَيْلُ) بن غَزْوان بن جرير الضبيّ مولاهم، أبو الفضل الكوفيّ، ثقةٌ، من كبار [7] مات بعد (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 405.
4 -
(زُبَيْدُ) بن الحارث بن عبد الكريم الياميّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [6](ت 122) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 30/ 228.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (لَا تَصْلُحُ الْمُتْعَتَانِ إِلَّا لَنَا خَاصَّةً إلخ) قال النوويّ رحمه الله: معناه إنما صلحتا لنا خاصّة في الوقت الذي فَعَلْناهما فيه، ثم صارتا حرامًا بعد ذلك إلى يوم القيامة. انتهى
(1)
.
وقوله: (يَعْنِي مُتْعَةَ النِّسَاءِ، وَمُتْعَةَ الْحَجِّ) أما متعة النساء فمعناها النكاح المؤقّت، وقيل: هو أن يُشارك الرجل المرأة شرطًا على شيء إلى أجل معلوم، ويُعطيها ذلك، فيستحلّ بذلك فرجها، ثم يُخلي سبيلها من غير تزويج، ولا طلاق، وهو كان حلالًا، ثم نُسخ إلى يوم القيامة عند جمهور العلماء، وسيأتي تمام البحث فيه في موضعه من كتاب النكاح -إن شاء الله تعالى-.
وأما ما قاله في متعة الحجّ، فقد تقدّم أن هذا رأي أبي ذرّ رضي الله عنه، كما هو رأي عمر وعثمان رضي الله عنهما، وقد خالفهما غيرهما من الصحابة رضي الله عنهم، فجوّزوا ذلك، وهو الحقّ؛ للأحاديث الصحيحة الصريحة في ذلك، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[8296]
(
…
) - (حَدَّثَنَا قتيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ بَيَانٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ، قَالَ: أَتَيْتُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ، وَإِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيَّ، فَقُلْتُ: إِنِّي أَهُمُّ أَنْ
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 203، 204.
أَجْمَعَ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ الْعَامَ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: لَكِنْ أبُوكَ لَمْ يَكُنْ لِيَهُمَّ بِذَلِكَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(بَيَانُ) بن بِشر الأحمسيّ، أبو بشر الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [5](ع) تقدم في "صلاة المسافرين" 47/ 1891.
2 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الشَّعْثَاءِ) سُليم بن الأسود، أخو الأشعث المحاربيّ الكوفيّ، مقبول [6].
روى عن إبراهيم التيميّ، وإبراهيم النخعيّ، وعنه بيان بن بِشْر، تفرّد به المصنّف، والنسائيّ بهذا الحديث فقط، وهو متابعة، فتنبّه.
3 -
(إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ) ابن يزيد بن قيس، أبو عمران الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ يرسل كثيرًا [5](ت 96)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (إِنِّي أَهُمُّ أَنْ أَجْمَعَ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ الْعَامَ) الظاهر أنه أراد التمتع الذي هو فسخ الحج بعمل العمرة، ثم الحج بعده، لا أنه أراد القران، وَيحْتَمَل أنه أراد التمتع المعروف، فيكون ردّ إبراهيم عليه بناء على مذهب بعض الصحابة الذين تقدم أنهم ينهون عن التمتّع، كما سبق قريبًا، والله تعالى أعلم.
وقوله: (لَكِنْ أَبُوكَ إلخ) يعني سليم بن الأسود الكوفيّ التابعيّ.
وقوله: (لَمْ يَكُنْ لِيَهُمَّ بِذَلِكَ) بفتح حرف المضارعة، مِن همّ بالشيء، مِن باب قتل: إذا أراده، ولم يفعله، قاله الفيّوميّ رحمه الله.
يعني أن أبا الشعثاء سُليم الأسود لا يريد ما أراده ولده عبد الرحمن من التمتع، ولعلّ إبراهيم النخعيّ عَرَف مذهب أبي الشعثاء في ذلك، وأنه كان لا يرى التمتع، كما هو مذهب أبي ذرّ رضي الله عنه، وهذا الذي قاله إبراهيم رأيه، كما هو رأي أبي ذرّ رضي الله عنه، وإلا فما هَمَّ به عبد الرحمن هو السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما تقدم بيان ذلك مستوفًى، فلا يردّ عليه بمثل هذا الرد.
والأثر من أفراد المصنّف رحمه الله، وأخرجه أيضًا النسائيّ (2812)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2969]
(
…
) - (قَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ بَيَانٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ مَرَّ بِأَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه بِالرَّبَذَةِ، فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَتْ لَنَا خَاصَّةً دُونَكُمْ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
وهم المذكورون قبله.
وقوله: (بِالرَّبَذَةِ) بفتحات: اسم موضع، قال الفيّوميّ رحمه الله: الرَّبَذَةُ: وزانُ قَصَبَة: خِرْقةُ الصائغ يجلو بها الْحُليّ، وبها سُمّيت الرَّبَذَةُ، وهي قرية كانت عامرةً في صدر الإسلام، وبها قبر أبي ذرّ الغفاريّ، وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم، وهي في وقتنا دارسةٌ، لا يُعرَف بها رَسْمٌ، وهي عن المدينة في جهة الشرق على طريق حاجّ العراق نحو ثلاثة أيّام، هكذا أخبرني به جماعة من أهل المدينة في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة. انتهى كلام الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
وقوله: (فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ) يعني أن يزيد بن شريك والد إبراهيم التيميّ ذكر لأبي ذرّ رضي الله عنه أنه يريد أن يجمع بين العمرة والحجّ، فردّ عليه بقوله:"إنما كانت لنا خاصّةً، دونكم"، وقد تقدّم أن هذا رأيه، وأن الصحيح جواز ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2970]
(1225) - (وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، جَمِيعًا عَنْ الْفَزَارِيِّ، قَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ غُنَيْمِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: سَأَلْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه عَن الْمُتْعَةِ، فَقَالَ: فَعَلْنَاهَا، وَهَذَا يَوْمَئِذٍ كَافِرٌ بِالْعُرُشِ، يَعْني بُيُوتَ مَكَّةَ).
(1)
"المصباح المنير" 1/ 215.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، نزيل مكة، ثقةٌ [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
2 -
(مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوَيَةَ) بن الحارث بن أسماء الْفَزَاريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل مكة، ثم دمشق، ثقةٌ حافظٌ يدلّس أسماء الشيوخ [8](ت 193)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 138.
3 -
(سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ) ابن طرخان، أبو المعتمر البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4](ت 143) وهو ابن (97) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
4 -
(غُنَيْمُ بْنُ قَيْسٍ) المازنيّ الكعبيّ، أبو العنبر البصريّ، مخضرم ثقةٌ [2]. أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم يره، ووَفَد على عُمر، وغزا مع عقبة بن غزوان، روى عن أبيه، وله صحبة، وسعد بن أبي وقاص، وأبي موسى الأشعريّ، وابن عمر، وأبي العوّام، مؤذن بيت المقدس.
ورَوَى عنه سليمان التيميّ، وعاصم الأحول، وخالد الحذّاء، وثابت بن عُمارة الحنفيّ، وأبو السَّلِيل ضُرَيب بن نُقَير، ويزيد الرقاشيّ.
ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل البصرة، وقال: كان ثقةً، قليل الحديث، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال شعبة عن عاصم الأحول، عن غنيم بن قيس: إني أذكر أبياتًا قالها أبي على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخرج له المصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
5 -
(سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ) هو: سعد بن مالك بن وُهيب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب الزهريّ، أبو إسحاق الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (55)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
و"سعيد بن منصور" ذُكر في الباب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما، ثم فصّل؛ لما سبق غير مرّة.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى ابن أبي عمر، وغنيم بن قيس، كما سبق آنفًا.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ مخضرم.
4 -
(ومنها): أن صحابيّه ذو مناقب جمّة، فهو أحد السابقين إلى الإسلام، وأول من رمى بسهم في سبيل الله، وأحد العشرة المبشّرين بالجنة، وآخر من مات منهم رضي الله عنهم.
شرح الحديث:
(عَنْ غُنَيْمِ) بصيغة التصغير (ابْنِ قَيْسٍ) المازنيّ الكعبيّ التابعيّ المخضرم، أنه (قَالَ: سَأَلْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ) رضي الله عنه (عَنْ الْمُتْعَةِ) أي عن التمتّع، هل هو جائز، أم لا؟، وفي الرواية الآتية:"عن المتعة في الحج"، وفي رواية أبي عوانة في "مسنده" عن سليمان التيميّ، قال: أخبرني غنيم بن قيس، قال: كنت إلى جنب سعد، ومعاوية يخطب، فقال سعد:"تمتعت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعاوية يومئذ كافر بالعُرُش"، وفي رواية أبي نعيم في "مستخرجه": عن غنيم بن قيس، عن سعد بن مالك قال: نَهَى معاوية عن المتعة، قال: فقال له سعد: "لقد تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعاوية كافر بالعُرُش". (فَقَالَ) سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه (فَعَلْنَاهَا) أي المتعة، قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله: وهذا إنما أراد به سعد عمرة القضيّة، فإن معاوية لم يكن أسلم إذ ذاك، وأما في حجة الوداع فكان قد أسلم، فكذلك في عمرة الجعرانة، فسَمَّى سعد الاعتمار في أشهر الحج متعةً؛ لأن بعض الشاميين كانوا يَنْهَوْن عن الاعتمار في أشهر الحج، فصار الصحابة رضي الله عنهم يَرْوُون السنة في ذلك؛ رَدًّا على مَن نَهَى عن ذلك، فالقارن عندهم متمتِّعٌ، ولهذا وجب عليه الهدي، ودخل في قوله تعالى:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} الآية [البقرة: 196]
(1)
.
(وَهَذَا) إشارة إلى معاوية، كما تبيّن في الرواية التالية حيث قال:"يعني معاوية"، وكما في روايتي أبي عوانة، وأبي نعيم المذكورتين آنفًا (يَوْمَئِذٍ) أي
(1)
"مجموع الفتاوى" 26/ 69.
يومئذ فعلناها (كَافِرٌ بِالْعُرُشِ) بضمّتين، ثم فسّره بقوله:(يَعْنِي بُيُوتَ مَكَّةَ) وهذا التفسير من مروان بن معاوية، ففي آخر الحديث عند أبي نعيم ما لفظه:"وقال مروان: يعني بيوت مكة". انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: أما "العُرُش" فبضم العين والراء، وهي بيوت مكة، كما فسره في الرواية، قال أبو عبيد: سُمِّيت بيوت مكة عُرُشًا؛ لأنها عِيدانٌ تُنْصَب، وتُظَلَّل بها، قال: ويقال لها أيضًا: عُرُوش بزيادة الواو، وواحدها عَرْشٌ، كفَلْس وفُلُوس، ومن قال: عُرُش، فواحدها عَرِيشٌ، كقَلِيب وقُلُب.
وفي حديث آخر أن ابن عمر رضي الله عنه كان إذا نظر إلى عُرُوش مكة قطع التلبية.
والعُرُش في غير هذا عِرْقٌ في أصل العُنُق، ومنه قول أبي جهل لابن مسعود يوم بدر: خذ سيفي، فاحتزّ به رأسي من عُرُشي
(2)
.
وأما قوله: "وهذا يومئذ كافر بالعُرُش": فالإشارة بـ"هذا" إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، وفي المراد بالكفر هنا وجهان:
أحدهما: ما قاله المازريّ وغيره: المراد: وهو مقيم في بيوت مكة، والمعنى أني سبقته إلى الإسلام، قال ثعلب: يقال اكتَفَر الرجل: إذا لَزِم الكُفُور، وهي القُرَى، وفي حديث ثوبان رضي الله عنه مرفوعًا:"لا تسكن الكُفُور، فإن ساكن الكُفُور كساكن القبور"
(3)
؛ يعني القرى البعيدة عن الأمصار، وعن العلماء.
والوجه الثاني: المراد: الكفر بالله تعالى، والمراد: أنا تمتعنا، ومعاوية يومئذ كافر على دين الجاهلية، مقيم بمكة، وهذا اختيار القاضي عياض وغيره، وهو الصحيح المختار، والمراد بالمتعة العمرة التي كانت سنة سبع من الهجرة، وهي عمرة القضاء، وكان معاوية يومئذ كافرًا، وإنما أسلم بعد ذلك عام الفتح
(1)
"المسند المستخرج على صحيح مسلم" 3/ 324.
(2)
"إكمال المعلم" 4/ 299.
(3)
أخرجه البخاريّ في "الأدب المفرد" من حديث ثوبان رضي الله عنه رقم (579)، وحسّنه الشيخ الألبانيّ رحمه الله.
سنة ثمان، وقيل: إنه أسلم بعد عمرة القضاء سنة سبع، والصحيح الأوّل، وأما غير هذه العمرة من عُمَرِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يكن معاوية فيها كافرًا، ولا مقيمًا بمكة، بل كان معه صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي عياض: وقاله بعضهم: كافر بالعَرْش -بفتح العين، وإسكان الراء- والمراد: عرش الرحمن، قال القاضي: هذا تصحيف.
وفي هذا الحديث جواز المتعة في الحج. انتهى
(1)
.
وقال الأبيّ رحمه الله بعد ذكر الاختلافات في المراد بالكفر هنا ما نصّه: قلت: وما ذُكر من أن الأظهر أنه يعني الكفر المعروف يقدح فيه أنه لا يجوز إطلاق كافر لكفر سبق، لا سيّما في صحابيّ.
فإن قلت: تسمية الشيء بما كان عليه أحد أنواع المجاز، فيكون إطلاق كافر هنا منه.
قلت: إطلاق كافر لكفر سبق مما استثنوه من هذا النوع، ولا يضرّ عدم اطّراد المجاز، بل هو خاصّته عكس الحقيقة، فإنها مطّردة. انتهى كلام الأبي
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: إنكار الأبيّ إطلاق لفظ بمافر لكفر سبق، فيه نظر، فتأمله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 2970 و 2971 و 2972](1225)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 181)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 344)، و (أبو نعيم) في
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 204، 205.
(2)
"شرح الأبيّ" 3/ 360.
"مستخرجه"(3/ 324)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 17) و"المعرفة"(3/ 522)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2971]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ في رِوَايَتِهِ: يَعْنِي مُعَاوَيةَ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، أبو سعيد البصريّ الإمام الحجة الناقد الثبت المتقن، من كبار [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.
والباقيان ذُكرا في الباب.
وقوله: (وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: يَعْنِي مُعَاوِيَةَ) يعني أن يحيى بن سعيد القطّان قال في روايته: "يعني معاوية" بدل قول مروان الفزاريّ في روايته: "يعني بيوت مكة"، ولا اختلاف بين روايتهما، فإن مروان فسّر قوله:"بالعُرُش"، ويحيى القطّان فسّر اسم الإشارة، أعني قوله:"وهذا"، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية يحيى بن سعيد، عن سليمان التيميّ هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" (1/ 181) فقال:
(1568)
- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا يحيى بن سعيد، أنبأنا سليمان، يعنى التيميّ، حدّثني غُنَيم، قال: سألت سعد بن أبي وقاص عن المتعة، قال: فعلناها، وهذا كافر بالعُرُش؛ يعني معاوية. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2972]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي خَلَفٍ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، جَمِيعًا عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، مِثْلَ حَدِيثِهِمَا، وَفي حَدِيثِ سُفْيَانَ: الْمُتْعَةُ فِي الْحَجِّ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير البغداديّ، نزيل أَذَنَة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.
2 -
(أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ) محمد بن عبد الله بن الزبير بن عُمر بن درهم الأسديّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 314.
3 -
(سُفْيَانُ) الثوريّ، تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي خَلَفٍ) هو: محمد بن أحمد بن أبي خلف السلميّ، أبو عبد الله البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 237)(م د) تقدم في "الإيمان" 92/ 502.
5 -
(رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ) بن العلاء بن حسّان القيسيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ له تصانيف [9](ت 5 أو 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 476.
والباقيان ذُكرا في الباب.
[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ، عن سليمان التيميّ هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر.
وأما رواية رَوْح بن عبادة، عن سليمان، فقد ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى" (5/ 17) فقال:
(8637)
- أخبرناه أبو زكريا بن أبي إسحاق المزكِّي، أنبا عبد الله بن إسحاق بن الخرسانيّ، ثنا محمد بن الجهم، ثنا رَوْح بن عُبادة، ثنا شعبة، عن سليمان التيميّ، قال: سمعت غُنيم بن قيس، قال: سألت سعد بن مالك عن المتعة، فقال: قد فعلناها، وهذا يومئذ كافر بالعُرُش. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2973]
(1226) - (وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ، عَنْ مُطَرِّفٍ، قَالَ: قَالَ لِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ: إِنِّي لَأُحَدِّثُكَ بِالْحَدِيثِ الْيَوْمَ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهِ بَعْدَ الْيَوْم، وَاعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَعْمَرَ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِهِ فِي الْعَشْرِ، فَلَمْ تَنْزِلْ آيَةٌ تَنْسَخُ ذَلِكَ، وَلَمْ
يَنْهَ عَنْهُ، حَتَّى مَضَى لِوَجْهِهِ، ارْتَأَى كُلُّ امْرِئٍ بَعْدُ مَا شَاءَ أَنْ يَرْتَئِيَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن عليّة، أبو بشر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
3 -
(الْجُرَيْرِيُّ) سعيد بن إياس، أبو مسعود البصريّ، ثقةٌ اختلط قبل موته بثلاث سنين [5](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 266.
4 -
(أَبُو الْعَلَاءِ) يزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير العامريّ البصريّ، ثقةٌ [21](ت 111)(ع) تقدم في "الحيض" 20/ 783.
5 -
(مُطَرِّفُ) بن عبد الله بن الشِّخِّير العامريّ الْحَرَشيّ، أبو عبد الله البصريّ، أخوأبي العلاء الراوي عنه، ثقةٌ عابدٌ فاضلٌ [21](ت 95)(ع) تقدم في "الطهارة" 27/ 659.
6 -
(عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنِ) بن عُبيد بن خَلَف الْخُزَاعيّ، أبو نُجَيد، الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (52) بالبصرة (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 479.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخه أيضًا، فنسائيّ، ثم بغداديّ.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: الجريريّ، عن أبي العلاء، عن مطرّف.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية الأخ عن أخيه، أبو العلاء، عن مطرّف.
6 -
(ومنها): أن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، أسلم عام خيبر، وقضى بالكوفة، وهو ابن صحابيّ رضي الله عنهما.
شرح الحديث:
(عَنْ مُطَرِّفٍ) -بصيغة اسم الفاعل المضعّف- ابن عبد الله، أنه (قَالَ: قَالَ لِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ) رضي الله عنهما (إِنِّي لَأُحَدِّثُكَ بالْحَدِيثِ الْيَوْمَ)"أل" للعهد الحضوريّ، كما في قوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (يَنْفَعُكَ اللهُ بِهِ بَعْدَ الْيَوْمِ) وفي رواية شعبة، عن قتادة، عن مطرِّف التالية: "بَعَثَ إليّ عمران بن حُصَين في مرضه الذي تُوُفّي فيه، فقال: إني كنت محدِّثك بأحاديث لعل الله أن ينفعك
…
" (وَاعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَعْمَرَ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِهِ فِي الْعَشْرِ) قال القاضي عياض رحمه الله: معنى هذا مُبيَّنٌ في الرواية الأخرى: "أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين حجة وعمرة، ثم لم يَنْهَ عنه"، وفي الرواية الأخرى: "تمتّعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينزل قرآن ينسخه"، فهو محتمِلٌ لإجازة العمرة في أشهر الحجّ، أو لإجازة القران، والقائل برأيه يعني عمر رضي الله عنه في نهيه عن ذلك، وأمره بالإفراد، وقوله: "جمع بين حجة وعمرة" يتأول إضافته إليه صلى الله عليه وسلم من حيث إنه أمر به؛ إذ لم يفعله صلى الله عليه وسلم، أو على ما تأولناه من إضافتها إلى الحجّ للقران. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: معنى قوله: "أعمر طائفة من أهله": أي أباح لهم أن يُحرموا بالعمرة حين أحرموا من ذي الحليفة، فيعني بالعشر عشر ذي القعدة الأخيرة، فإنهم أحرموا لستّ بقين منه، ويَحْتَمِل أن يريد به عشر ذي الحجة؛ فإنهم حَلُّوا بفراغهم من عمل العمرة في الخامس منه، على ما تقدّم في حديث عائشة رضي الله عنها، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
وقال الأبيّ بعد ذكر كلام عياض والقرطبيّ: قلت: الأظهر أنه إنما يعني الفسخ؛ لأنه قاله في مقابلة نهي عمر، والذي اشتهر عن عمر إنما هو النهي عن الفسخ، وقد احتجّ على منعه بالآية، ويصدُقُ أنه جمع فيه بين حج وعمرة، ويصدُق أنهم تمتّعوا؛ لأن أمرهم فيه آل إلى المتعة.
وقال القاضي في مخالفة عثمان لعليّ رضي الله عنهما: نهي عثمان كنهي عمر، فإن كان في الفسخ، فهو نهي لزوم، وإن كان في التمتّع والقران فهو نهي ندب،
(1)
"إكمال المعلم" 4/ 300، 301.
(2)
"المفهم" 3/ 351.
محمله الأمران. انتهى كلام الأبيّ رحمه الله
(1)
.
وقد تعقّب الحافظ رحمه الله ما قاله عياض والأبيّ، فقال: في حديث عمران هذا ما يَعْكُر على عياض وغيره في جزمهم أن المتعة التي نَهَى عنها عمر وعثمان هي فسخ الحج إلى العمرة، لا العمرة التي يحج بعدها، فإن في بعض طرقه عند مسلم التصريح بكونها "متعة الحج"، وفي رواية له أيضًا:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعمر بعض أهله في العشر"، وفي رواية له:"جمع بين حج وعمرة"، ومراده: التمتع المذكور، وهو الجمع بينهما في عام واحد. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي الأقرب أن مراد عمران رضي الله عنه ما يشمل الفسخ، والتمتّع المعروف، فإن كلًّا منهما داخل في نهي عمر وعثمان رضي الله عنهما، فتأمل، والله تعالى أعلم.
(فَلَمْ تَنْزِلْ آيَةٌ تَنْسَخُ ذَلِكَ) أي مشروعيّة المتعة، وفي رواية حميد بن
هلال، عن مطرّف التالية: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حجة وعمرة، ثم لم ينه
عنه حتى مات، ولم ينزل فيه قرآن يُحرّمه"، وفي رواية قتادة، عن مطرّف:
"واعلم أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قد جمع بين حج وعمرة، ثم لم ينزل فيها كتاب الله، ولم يَنْهَ عنها نبيّ الله صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية أبي رجاء، قال: قال عمران بن حُصين: "نزلت آية المتعة في كتاب الله -يعني متعة الحج- وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لم تنزل آية تنسخ آيةَ متعة الحجّ، ولم يَنْهَ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات".
قال النوويّ رحمه الله بعد ذكر هذه الروايات: وهذه الروايات كلُّها متفقةٌ على أن مراد عمران رضي الله عنه أن التمتع بالعمرة إلى الحج جائزٌ، وكذلك القران، وفيه التصريح بإنكاره على عمر بن الخطاب رضي الله عنه منع التمتع، وقد سبق تأويل فعل عمر رضي الله عنه بأنه لم يُرِدْ إبطال التمتع، بل ترجيح الإفراد عليه. انتهى
(3)
.
(وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ) بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم (حَتَّى مَضَى لِوَجْهِهِ) أي إلى أن مات النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي رواية أبي رجاء الآتية:"ولم يَنْهَ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات"(ارْتَأَى كُلُّ امْرِئٍ) افتعال من الرأي؛ أي: قال كلّ
(1)
"شرح الأبيّ" 3/ 361.
(2)
راجع: "الفتح" 4/ 473.
(3)
"شرح النوويّ" 8/ 206.
شخص برأيه (بَعْدُ) بالبناء على الضمّ؛ لقطعها عن الإضافة، ونيّة معناها؛ أي بعد موت النبيّ صلى الله عليه وسلم (مَا شَاءَ أَنْ يَرْتَئِيَ)"ما" اسم موصول مفعول به لـ"ارتأى"، أي: قال برأيه الذي شاءه أن يقوله، وفي الرواية التالية:"ارتأى رجلٌ برأيه ما شاء؛ يعني عمر".
وقال في "الفتح": قوله: "قال رجل برأيه ما شاء"، وفي رواية أبي العلاء:"ارتأى كلُّ امرئ بعدُ ما شاء أن يرتئي"، قائل ذلك هو عمران بن حصين، ووَهِمَ مَن زَعَمَ أنه مُطَرِّف الراوي عنه؛ لثبوت ذلك في رواية أبي رجاء، عن عمران، كما ذكرته قبلُ.
وحَكَي الحميديّ أنه وقع في البخاريّ في رواية أبي رجاء، عن عمران: قال البخاريّ: يقال: إنه عمر؛ أي الرجل الذي عناه عمران بن حصين، قال الحافظ: ولم أر هذا في شيء من الطرق التي اتصلت لنا من البخاريّ، لكن نقله الإسماعيليّ عن البخاريّ كذلك، فهو عمدة الحميديّ في ذلك.
وبهذا جزم القرطبيّ، والنوويّ، وغيرهما، وكأن البخاريّ أشار بذلك إلى رواية الْجُرَيريّ، عن مطرِّف، فقال في آخره:"ارتأى رجل برأيه ما شاء؛ يعني عمر"، كذا في الأصل، أخرجه مسلم عن محمد بن حاتم، عن وكيع، عن الثوريّ، عنه.
وقال ابن التين: يَحْتَمِل أن يريد عمرَ، أو عثمانَ.
وأغرب الكرمانيّ، فقال: ظاهر سياق كتاب البخاريّ أن المراد به عثمان، وكأنه لقرب عهده بقصة عثمان مع علي جزم بذلك، وذلك غير لازم، فقد سبقت قصة عمر مع أبي موسى في ذلك، ووقعت لمعاوية أيضًا مع سعد بن أبي وقاص في "صحيح مسلم" قصة في ذلك، والأولى أن يُفَسَّر بعمر، فإنه أول مَن نَهَى عنها، وكأن من بعده كان تابعًا له في ذلك.
ففي "صحيح مسلم" أيضًا أن ابن الزبير كان ينهى عنها، وابن عباس يأمر بها، فسألوا جابرًا، فأشار إلى أن أول مَن نَهَى عنها عمر. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو تحقيق نفيس، خلاصته أن المعنيّ بقوله في حديث عمران رضي الله عنه: قال رجل برأيه، هو عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عمران بن حُصين رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [21/ 2973 و 2974 و 2975 و 2976 و 2977 و 2978 و 2979 و 2980 و 2981 و 2982](1226)، و (البخاريّ) في "الحجّ "(1571)، و (النسائيّ) في "المناسك"(5/ 149 و 155) و"الكبرى"(6/ 300)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(2978)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 427 و 428 و 429 و 434)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 344)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 327)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(8/ 245) و"الكبير"(18/ 123 و 135)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 143)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(1/ 122)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(7/ 70)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان جواز التمتّع والقران؛ لأنه صلى الله عليه وسلم فعله، وأمر أصحابه أن يفعلوه، وكذلك فسخ الحجّ إلى العمرة، وأن نهي من نهى عن ذلك، كما نُقل عن عمر وعثمان رضي الله عنهما رأي رأياه، والرأي يصيب ويُخطئ، فما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحقّ أن يُتّبع، فليس لأحد قول مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعل مع فعله، فإنه صلى الله عليه وسلم هو الحجة على من سواه، قال الله تعالى:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 7]، وقال:{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]، وقال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 59]، {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية [النساء: 59]، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
2 -
(ومنها): بيان جواز نسخ القرآن بالقرآن، ولا خلاف فيه.
3 -
(ومنها): بيان جواز نسخه بالسنة، وفيه اختلاف شهير، ووجه الدلالة منه قوله:"ولم يَنْهَ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فإن مفهومه أنه لو نَهَى عنها لامتنعت، ويستلزم رفع الحكم، ومقتضاه جواز النسخ.
4 -
(ومنها): أنه قد يؤخذ منه أن الإجماع لا يُنسَخُ به؛ لكونه حَصَرَ وجوه المنع في نزول آية، أو نهي من النبيّ صلى الله عليه وسلم.
5 -
(ومنها): أن فيه بيان وقوع الاجتهاد في الأحكام بين الصحابة رضي الله عنهم، وإنكار بعض المجتهدين على بعض بالنصّ.
6 -
(ومنها): أن في قضة التسليم على عمران رضي الله عنه الآتية إثبات كرامات الأولياء، وأن الكيّ ليس بمحرّم، كما قدّمناه في "كتاب الإيمان"، ولكن تركه أولى، قاله القرطبيّ رحمه الله
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2974]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، كِلَاهُمَا عَنْ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَن الْجُرَيْرِيِّ، فِي هَذَا الْإِسْنَادِ، وقَالَ ابْنُ حَاتِمٍ فِي رِوَايَتِهِ: ارْتَأَى رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ، يَعْنِي عُمَرَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل بابين.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ) بن ميمون، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
والباقيان ذُكرا في الباب، و"سفيان" هو: الثوريّ، و"الْجُريريّ" هو سعيد بن إياس.
[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ، عن الجريريّ هذه ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" (3/ 324) فقال:
(2843)
- ثنا فاروق الخطابيّ، ثنا أبو مسلم الكشيّ، ثنا محمد بن كثير، ثنا سفيان، عن سعيد الجريري (ح) وثنا أبو محمد بن حيان، ثنا أبو يحيى الرازيّ، ثنا سهل، أنبأ وكيع، ثنا سفيان، عن سعيد بن إياس الجريريّ (ح)
(1)
"المفهم" 3/ 351.
وثنا أبو أحمد، ثنا عبد الله بن محمد بن شيرويه، ثنا إسحاق بن إبراهيم، ثنا وكيع، عن سفيان، عن الجريريّ، عن أبي العلاء يزيد بن عبد الله، عن أخيه مُطَرِّف، عن عمران بن حصين، قال: اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعمر طائفة من أهله في العشر، ثم لم يَنْهَ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يَنْزِل فيه قرآن بتحريمها، رأى رجل برأيه ما شاء، لفظ وكيع. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2975]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ، قَالَ: قَالَ لِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ: أُحَدِّثُكَ حَدِيثًا، عَسَى اللهُ أَنْ يَنْفَعَكَ بِهِ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بَيْنَ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، ثُمَّ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ حَتَّى مَاتَ، وَلَمْ يَنْزِلْ فِيهِ قُرْآنٌ يُحَرِّمُهُ، وَقَدْ كَانَ يُسَلَّمُ عَلَيَّ حَتَّى اكْتَوَيْتُ، فَتُرِكْتُ، ثُمَّ تَرَكْتُ الْكَيَّ فَعَادَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) العنبريّ البصريّ، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ العنبريّ البصريّ، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
3 -
(حُمَيْدُ بْنُ هِلَالِ) بن هُبيرة الْعَدويّ، أبو نصر البصريّ، ثقةٌ توقّف فيه ابن سيرين؛ لدخوله في عمل السلطان [3](ع) تقدم في "الحيض" 21/ 791.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (وَقَدْ كَانَ يُسَلَّمُ عَلَيَّ) بفتح اللام المشدّدة، مبنيًّا للمفعول؛ أي كانت الملائكة تسلِّم عليّ.
وقوله: (حَتَّى اكْتَويتُ) بالبناء للفاعل؛ أي تداويت بالكيّ، قال المجد رحمه الله: كواه يَكويه كيًّا -من باب رَمَى-: أحرق جلده بحديدة ونحوها، وهي الْمِكواة، والْكَيّةُ: موضع الكيّ، قال: واكتوى: استَعْمَلَ الكيّ في بدنه،
واستكوى: طلب الكيّ. انتهى باختصار
(1)
.
وقوله: (فَتُرِكْتُ) بالبناء للمفعول؛ أي تركت الملائكة السلام عليّ؛ لكوني اكتَويتُ.
وقوله: (ثُمَّ تَرَكْتُ الْكَيَّ) ببناء الفعل للفاعل (فَعَادَ) أي رجع إلي تسليم الملائكة.
وقال في "شرحه" لهذا الكتاب: قوله: "يُسَلَّم عليّ" هو بفتح اللام المشدّدة، وقوله:"فتُرِكتُ" هو بضم التاء: أي انقطع السلام عليّ، ثم تَرَكْتُ بفتح التاء: أي تركت الكيّ، فعاد السلام عليّ.
ومعنى الحديث أن عمران بن الحصين رضي الله عنهما كانت به بواسير، فكان يصبر على المهمات، وكانت الملائكة تُسَلِّم عليه، فاكتَوَى فانقطع سلامهم عليه، ثم ترك الكيّ، فعاد سلامهم عليه. انتهى
(2)
.
وقال في "شرح المهذّب": معناه: أنه كان به مرضٌ، فاكتوى بسببه، وكانت الملائكة تُسَلم عليه قبل الكيّ؛ لفضله، وصلاحه، فلما اكتَوَى تركوا السلام عليه، فعَلِمَ ذلك، فترك الكيّ مرة أخرى، وكان محتاجًا إليه، فعادوا، وسَلَّمُوا عليه رضي الله عنه. انتهى.
[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله في "شرح المهذّب": الكيّ بالنار إن لم تدعُ إليه حاجة حرام؛ لدخوله في عموم تغيير خلق الله، وفي تعذيب الحيوان، وسواء كَوَى نفسه، أو غيره، من آدميّ، أو غيره، وإن دعت إليه حاجة، وقال أهل الْخِبْرة: إنه موضع حاجة، جاز في نفسه، وفي سائر الحيوان، وتركُهُ في نفسه للتوكل أفضل؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"قيل: يدخل من أمتك الجنة سبعون ألفًا، لا حسابَ عليهم، ولا عذابَ، قال: وهم الذي لا يَرْقُون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون"، مُتَّفقٌ عليه.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا بغير حساب"، قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: "هم الذين
(1)
"القاموس المحيط" 4/ 484.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 206.
لا يكتوون، ولا يسترقون، وعلى ربهم يتوكلون"، رواه مسلم. انتهى
(1)
.
وقال الإمام البخاريّ رحمه الله في "كتاب الطبّ" من "صحيحه": "باب من اكتوى، أو كَوَى غيره، وفَضْلِ من لم يَكْتَوِ"، قال في "الفتح": كأنه أراد أن الكيّ جائز للحاجة، وأن الأولى تركه إذا لم يتعين، وأنه إذا جاز كان أعمّ من أن يباشر الشخص ذلك بنفسه، أو بغيره لنفسه، أو لغيره، وعموم الجواز مأخوذ من نسبة الشفاء إليه في أول حديثي الباب؛ يعني قوله صلى الله عليه وسلم:"الشفاء في ثلاثة: شربة عسل، وشرطة محجم، وكيّة نار"، وفضل تركه من قوله:"وما أُحِبّ أن أكتوي"، وقد أخرج مسلم من طريق أبي الزبير، عن جابر، قال: رُمِي سعد بن معاذ على أكحله، فحسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن طريق أبي سفيان، عن جابر: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث إلى أبيّ بن كعب طبيبًا، فقطع منه عِرْقًا، ثم كواه، وروى الطحاويّ، وصححه الحاكم، عن أنس، قال: كواني أبو طلحة في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصله في البخاريّ، وأنه كُوي من ذات الجنب، وعند الترمذيّ، عن أنس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كَوَى أسعد بن زُرَارة من الشَّوْكة، ولمسلم عن عمران بن حصين:"كان يسلم عليّ حتى أكتويتُ، فتُركت، ثم تركت الكيّ، فعاد"، وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذيّ، عن عمران: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكيّ، فاكتوينا، فما أفلحنا، ولا أنجحنا، وفي لفظ: فلم يُفْلِحنَ، ولم يَنجحن، وسنده قويّ.
والنهي فيه محمول على الكراهة، أو على خلاف الأولى؛ لما يقتضيه مجموع الأحاديث، وقيل: إنه خاصّ بعمران؛ لأنه كان به الباسور، وكان موضعه خَطِرًا، فنهاه عن كَيِّه، فلما اشتَدّ عليه كواه، فلم ينجح.
وقال ابن قتيبة: الكيّ نوعان: كَيُّ الصحيح؛ لئلا يَعْتَلَ فهذا الذي قيل فيه: لم يتوكل من اكتوى؛ لأنه يريد أن يدفع القدر، والقدر لا يدافع.
والثاني: كيُّ الجرح إذا نَغَلَ: أي فَسَدَ، والعضو إذا قُطِع فهو الذي يُشْرَع التداوي به، فإن كان الكي لأمر مُحْتَمِلٍ فهو خلاف الأولى؛ لما فيه من تعجيل التعذيب بالنار لأمر غير محقَّق.
(1)
"المجموع" 6/ 163.
وحاصل الجمع أن الفعل يدلّ على الجواز، وعدم الفعل لا يدلّ على المنع، بل يدلّ على أن تركه أرجح من فعله، وكذا الثناء على تاركه، وأما النهي عنه، فإما على سبيل الاختيار والتنزيه، وإما عما لا يتعين طريقًا إلى الشفاء. انتهى ما في "الفتح"
(1)
، وهو بحثٌ مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
[تنبيه آخر]: قال الأبيّ رحمه الله: كلام الملائكة عليهم السلام غير الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- يصحّ، وكان الشيخ ابن عبد السلام يحكي عن بعض الغلاة من شيوخ زمنه أن من قال: اليوم كلّمتني الملائكة يُستتاب، والحديث يردّ عليه، والصواب أن ذلك يَخْتَلِف بحسب حال من زعمه، فإن كان متّصفًا بالصلاح تُجُوِّز عنه، وإلا زُجر عن قول ذلك بحسب ما يراه الحاكم، ومن هذا المعنى ما يتّفق لبعضهم أن يقول: قيل لي، وخوطبتُ، وكان الشيخ يشدّد القول فيه، وفي إنكاره على من زعمه. انتهى كلام الأبيّ رحمه الله
(2)
، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2976]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُطَرِّفًا، قَالَ: قَالَ لِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، بِمِثْلِ حَدِيثِ مُعَاذٍ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلّهم ذُكروا في الباب:
[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر، عن شعبة هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" (4/ 427) فقال:
(19846)
- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا محمد بن جعفر، وحجاج، قالا: أنا شعبة، عن حميد بن هلال، قال: سمعت مُطَرِّفًا قال: قال لي عمران بن حصين: إني أحدِّثك حديثًا عسى الله أن ينفعك به، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
راجع: "الفتح" 10/ 155، 156.
(2)
"شرح الأبيّ" 3/ 361.
قد جمع بين حج وعمرة، ثم لم يَنْهَ عنه حتى مات، ولم يَنْزِل قرآن فيه يُحَرِّمه، وإنه كان يُسَلَّم عليّ، فلما اكتويتُ أُمسك عني، فلما تَرَكته عاد إليّ. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2977]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُطَرِّفٍ، قَالَ: بَعَثَ إِلَيَّ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ مُحَدِّثَكَ بِأَحَادِيثَ، لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَنْفَعَكَ بهَا بَعْدِي، فَإِنْ عِشْتُ فَاكْتُمْ عَنِّي، وَإِنْ مُتُّ فَحَدِّثْ بِهَا إِنْ شِئْتَ، إِنَّهُ قَدْ سُلِّمَ عَلَيَّ، وَاعْلَمْ أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ جَمَعَ بَيْنَ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ فِيهَا كِتَابُ اللهِ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ رَجُلٌ فِيهَا بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلّهم ذُكروا في الباب.
وقوله: (إِنِّي كُنْتُ مُحَدِّثَكَ بِأَحَادِيثَ) قال النوويّ رحمه الله: ظاهره أنها ثلاثةٌ فصاعدًا، ولم يذكر منها إلا حديثًا واحدًا، وهو الجمع بين الحج والعمرة، وأما إخباره بالسلام فليس حديثًا، فيكون باقي الأحاديث محذوفًا من الرواية. انتهى
(1)
.
وقوله: (لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَنْفَعَكَ بِهَا بَعْدِي) أي بأن تعمل بها، وتعلّمها غيرك.
وقوله: (فَإِنْ عِشْتُ فَاكْتُمْ عَنِّي إلخ) قال النوويّ رحمه الله: أراد به الإخبار بالسلام عليه؛ لأنه كَرِهَ أن يُشاع عنه ذلك في حياته؛ لما فيه من التعرُّض للفتنة، بخلاف ما بعد الموت. انتهى.
وقوله: (قَدْ جَمَعَ بَيْنَ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ) أي قرن هو بنفسه، وأمر أصحابه بالتمتّع، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 207.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2978]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا
(1)
عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخَيرِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ رضي الله عنهما قَالَ: اعْلَمْ أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بَيْنَ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ فِيهَا كِتَابٌ، وَلَمْ يَنْهَنَا عَنْهُمَا رَسُولُ اللْهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِيهَا رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبيعيّ الكوفيّ، نزل الشام مُرابطًا، ثقةٌ مأمون [8](ت 180)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
2 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ) مِهْران اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ حافظ، له تصانيف، كثير التدليس، واختلط [6](ت 6 أو 157)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (وَلَمْ يَنْهَنَا عَنْهُمَا) كذا هنا، وفيما قبله:"ولم ينه عنها"، وهو الموافق لقوله:"لم ينزل فيها"، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقوله: (قَالَ فِيهَا رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ) أي ثم بعد موته صلى الله عليه وسلم قال رجل في المتعة ما شاء أن يقول، وهو النهي عنها.
والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2979]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما قَالَ: تَمَتَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَنْزِلْ فِيهِ الْقُرْآنُ، قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ).
(1)
وفي نسخة: "أخبرنا".
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ الصَّمَدِ) بن عبد الوارث بن سعيد الْعَنْبريّ مولاهم، أبو سهل البصريّ، ثقةٌ [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.
2 -
(هَمَّامُ) بن يحيى الْعَوذيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2980]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِيهِ حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ، عَنْ مُطَرّفِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما بِهَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ: تَمَتَّعَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَمَتَّعْنَا مَعَهُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: حجاج بن أبي يعقوب يوسف بن حجّاج الثقفيّ البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 259)(م د) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.
2 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ) الحنفيّ، أبو عليّ البصريّ، صدوقٌ [9](ت 209)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 40/ 1451.
3 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ) الْعَبديّ، أبو محمد البصريّ القاضي، ثقةٌ [6](م ت س) تقدم في "الطهارة" 15/ 602.
[تنبيه]: قال الإمام النسائيّ رحمه الله بعد إخراج هذا الحديث من رواية إسماعيل بن مسلم ما نصّه:
قال أبو عبد الرحمن: إسماعيل بن مسلم ثلاثة، هذا أحدهم، وهو لا بأس به، وإسماعيل بن مسلم شيخ يروي عن أبي الطُّفيل، لا بأس به، وإسماعيل بن مسلم، يروي عن الزهريّ، والحسن متروك الحديث. انتهى
(1)
.
(1)
راجع: "المجتبى" برقم (2728).
قال الجامع عفا الله عنه: قد ذكرت في شرحي على النسائيّ أن جملة من يُسمّى إسماعيل بن مسلم تسعة، فراجع تفصيله
(1)
، والله تعالى وليّ التوفيق.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعِ) بن جابر بن الأخنس بن عائذ بن خارجة بن زياد بن شمس الأزديّ، أبو بكر، ويقال: أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ عابدٌ كثير المناقب [5].
رَوَى عن أنس بن مالك، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الصامت، ومُطَرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير، وسعيد بن أبي الحسن البصري، وغيرهم.
ورَوَى عنه هشام بن حسان، ومحمد بن جُحادة، والحمادان، وإسماعيل بن مسلم العبديّ، وأزهر بن سنان القرشيّ، وحفص بن سليمان الضُّبَعيّ، وآخرون.
قال ابن المدينيّ: ما أعلمه سمع من أحد من الصحابة، وقال العجليّ: عابدٌ ثقةٌ، ولكن بُلِي برُواة سَوء، وقال سلام بن أبي مطيع: حدّث رجل أيوب يومًا بحديث، فقال أيوب: من حدّثك بهذا؟ قال: محمد بن واسع، قال: بَخٍ، وقال ضمرة، عن ابن شَوْذَب: لم يكن لمحمد بن واسع عبادة ظاهرة بالنسبة إلى غيره، وإذا قيل: مَن أفضل أهل البصرة؟ قيل: محمد بن واسع، وقال مالك بن دينار: محمد بن واسع من قُرّاء الرحمن، وقال الأصمعيّ عن سليمان التيميّ: ما أحدٌ أحبّ إلي أن ألقى الله تعالى بمثل صحيفته إلا محمد بن واسع، وقال مخلد بن الحسين، عن هشام: دعا مالك بن المنذر، وكان على شرطة البصرة محمد بن واسع، فقال: اجلس على القضاء، فأبى، وقال موسى بن هارون: كان ناسكًا عابدًا ورِعًا، رفيعًا جليلًا ثقةً عالِمًا، جَمَع الخير، وقال ابن حبان في "الثقات": كان من العُبّاد المتقَشِّفة، والزُّهّاد المتجردين للعبادة، وكان قد خرج إلى خراسان غازيًا، وفضائله، ومناقبه كثيرةٌ جِدًّا.
قال ابن سعد: مات بعد الحسن بعشر سنين، وقال جعفر بن سليمان:
(1)
راجع: "ذخيرة العقبى" 24/ 168، 169.
مات هو وثابت، ومالك بن دينار، سنة ثلاث وعشرين ومائة، وقال خليفة: مات سنة سبع.
له في (م) حديث واحد عن عمران بن حصين في متعة الحج متابعة.
قلت: أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وهو متابعة.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: رواية محمد بن واسع، عن مطرّف هذه ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه"(3/ 326) مع بعض اختلاف، فقال:
(2848)
- ثنا عبد الله بن جعفر، ثنا إسماعيل بن عبد الله، ثنا مسلم بن إبراهيم، نا إسماعيل بن مسلم، عن محمد بن واسع (ح) وثنا أبو أحمد، ثنا أبو أحمد بن محمد بن عبد الكريم الجرجاني الوزان، ثنا نصر بن عليّ، ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا إسماعيل بن مسلم، حدّثني محمد بن واسع، عن مُطّرِّف، قال: قال عمران بن حصين: تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال فيها رجل برأيه ما شاء. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2981]
(
…
) - (حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ عُمَرَ الْبَكْرَاوِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، قَالَ: قَالَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ: نَزَلَتْ آيَةُ الْمُتْعَةِ فِي كِتَابِ اللهِ، يَعْنِي مُتْعَةَ الْحَجِّ، وَأَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ لَمْ تَنْزِلْ آيَةٌ تَنْسَخُ آيَةَ مُتْعَةِ الْحَجِّ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى مَاتَ، قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ بَعْدُ مَا شَاءَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حَامِدُ بْنُ عُمَرَ الْبَكْرَاوِيُّ) هو: حامد بن عمر بن حفص بن عمر بن عبيد الله بن أبي بكرة الثقفيّ البكراويّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، قاضي كرمان، ثقةٌ [10](ت 233)(خ م) تقدم في "الطهارة" 26/ 649.
[تنبيه]: قوله: "البكراوي" نسبة إلى جدّ جدّ أبيه أبي بكر الصحابيّ الشهير رضي الله عنه.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ) أبو عبد الله الثقفيّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.
3 -
(بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ) بن لاحق الرّقَاشيّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.
4 -
(عِمْرَانُ بْنُ مُسْلِمِ) الْمِنقريّ، أبو بكر القصير البصريّ، صدوقٌ، ربّما وَهِمَ [6](خ م ت س) تقدَم في "صلاة المسافرين وقصرها" 28/ 1810.
5 -
(أَبُو رَجَاءٍ) عمران بن مِلْحان، ويقال: ابن تيم الْعُطارديّ البصريّ، ثقةٌ مخضرم معَمَّر [2](ت 105) وله (120) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 62/ 345.
والصحابيّ رضي الله عنه ذُكر قبله.
[تنبيه]: وقع في هذا السند اتّفاق اسم الراوي، وشيخه، وشيخ شيخه، فقد روى عمران بن مسلم القصير، عن عمران بن مِلْحَان العُطارديّ، عن عمران بن حصين الصحابيّ رضي الله عنه، وإلى هذا أشار السيوطيّ في "ألفيّة الحديث" حيث قال:
أَوْ شَيْخُهُ وَشَيْخُهُ قَدْ بَانَا
…
عِمْرَانُ عَنْ عِمْرَانَ عَنْ عِمْرَانَا
وقوله: (نَزَلَتْ آيَةُ الْمُتْعَةِ فِي كِتَاب اللهِ) يعني قوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} الآَية، والفاء في قوله:{فَمَنْ تَمَتَّعَ} واقعة في جواب "إذا"، والفاء في قوله:{فَمَا اسْتَيْسَرَ} واقعة في جواب "من"؛ أي: فإذا أمنتم الإحصار من عدوّ، أو مرض، بأن زال، أو لم يكن، فمن تمتّع بالعمرة إلى وقت الحجّ، فعليه ما استيسر من الهدي، ومعنى التمتّع بالعمرة: الاستمتاع والانتفاع بالتقرّب إلى الله تعالى بالعمرة إلى وقت الحج، ثم الانتفاع به في وقته إن كان قارنًا، ويُسمّى القران أيضًا تمتّعًا بهذا المعنى، أو معناه: الاستمتاع بسبب العمرة بالتحلّل منها إلى أن يُحرم بالحجّ إن كان متمتّعًا، وعلى كلا التقديرين يلزمه هدي شكرًا لنعمة الجمع بين النسكين يُذبح يوم النحر، وهو معنى قوله:{فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2982]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عِمْرَانَ الْقَصِيرِ، حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ بِمِثْلِهِ، غَيْرَ أنَّهُ قَالَ: وَفَعَلْنَاهَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَقُلْ: وَأَمَرَنَا بِهَا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، و"يحيى بن سعيد" هو القطّان.
[تنبيه]: رواية يحيى بن سعيد، عن عمران القصير هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "التفسير"، فقال:
(4518)
- حدّثنا مسدّد، حدّثنا يحيى، عن عمران أبي بكر، حدّثنا أبو رجاء، عن عمران بن حصين قال: أنزلت آية المتعة في كتاب الله، ففعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينزل قرآن يُحَرِّمه، ولم يَنْهَ عنها حتى مات، قال رجل برأيه ما شاء. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(22) - (بَابُ وُجُوبِ الدَّمِ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ، وَأنهُ إِذَا عَدِمَهُ لَزِمَهُ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَامٍ فِي الْحَجِّ، وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ)
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: "التمتّع": مصدر تمتّع، قال القاري رحمه الله: التمتّع في اللغة بمعنى التلذّذ، والانتفاع بالشيء، قال: وإنما سمّي متمتّعًا لانتفاعه بالتقرّب إلى الله تعالى بالعبادتين، أو لتمتّعه بمحظورات الإحرام بعد التحلّل من العمرة، أو لانتفاعه بسقوط العودة إلى الميقات، ولا يبعُدُ أن يقال: لتمتعه بالحياة حتى أدرك إحرام الحجّ. انتهى.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: وتمتّعت به: انتفعت، ومنه تمتّع بالعمرة إلى الحجّ: إذا أحرم بالعمرة في أشهر الحجّ، وبعد تمامها يُحرم بالحجّ، فإنه بالفراغ من أعمالها يَحلُّ له ما كان حرُم عليه، فمن ثمّ يسمّى متمتّعًا. انتهى.
والتمتّع شرعًا: أن يهلّ بعمرة مفردة من الميقات في أشهر الحجّ، فإذا فرغ منها أحرم بالحجّ من عامة.
قال الحافظ رحمه الله: أما التمتّع، فالمعروف أنه الاعتمار في أشهر الحجّ، ثمّ التحلّل من تلك العمرة، والإهلالُ بالحجّ في تلك السنة، ويُطلق التمتّع في عُرف السلف على القران أيضًا. قال ابن عبد البرّ رحمه الله: لا خلاف بين العلماء أن التمتّع المراد بقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} الآية [البقرة: 196] أنه الاعتمار في أشهر الحجّ قبل الحجّ، قال: ومن التمتّع أيضاً القران؛ لأنه تمتّع بسقوط سفر للنسك الآخر من بلده، ومن التمتّع أيضًا فسخ الحجّ إلى العمرة. انتهى.
وقال ابن قُدامة رحمه الله في "المغني": قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من أهلّ بعمرة في أشهر الحجّ من أهل الآفاق من الميقات، وقدم مكة، ففرغ منها، وأقام بها، وحجّ من عامة أنه متمتّع، وقال أيضًا: لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في أن من اعتمر في غير أشهر الحجّ عمرة، وحلّ منها قبل أشهر الحجّ أنه لا يكون متمتّعًا، إلا قولين شاذّين: أحدهما عن طاوس أنه قال: إذا اعتمرت في غير أشهر الحج، ثم أقمت حتى الحجّ، فأنت متمتّع. والثاني: عن الحسن أنه قال: من اعتمر بعد النحر فهي متعة. قال ابن المنذر: لا نعلم أحدًا قال بواحد من هذين القولين. انتهى
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2983]
(1227) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: تَمَتعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، وَأَهْدَى، فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَبَدَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، وَتَمَتعَ النَّاسُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَكَانَ مِن النَّاسِ مَنْ أَهْدَى، فَسَاقَ الْهَدْيَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ، فَلَمَّا قَدِمَ
(1)
راجع: "المرعاة" 8/ 458، 459.
رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، قَالَ لِلنَّاسِ:"مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ شَيءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِي حَجَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى، فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْو، وَلْيُقَصِّرْ، وَلْيَحْلِلْ، ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ، وَلْيُهْدِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، فَلْيَصُمْ ثَلَاَثَةَ؛ لامٍ فِي الْحَجِّ، وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ"، وَطَافَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَدِمَ مَكَةَ، فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَيْءٍ، ثُمَّ خَبَّ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ مِنَ السَّبْعِ، وَمَشَى أَرْبَعَةَ أَطْوَافٍ، ثُمَّ رَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ، عِنْدَ الْمَقَامِ رَكعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَانْصَرَفَ، فَأَتَى الصَّفَا، فَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْور سَبْعَةَ أَطْوَافٍ، ثُمَّ لَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، حَتَّى قَضَى حَجَّهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَأفَاضَ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ أَهْدَى، وَسَاقَ الْهَدْيَ مِنَ النَّاسِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ) أبو عبد الله المصريّ، ثقةٌ [11](ت 248)(م دس) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.
2 -
(أَبُوهُ) شعيب بن الليث بن سعد الفهميّ مولاهم، أبو عبد الملك المصري، ثقةٌ نبيلٌ فقيه، من كبار [10](ت 199)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.
3 -
(جَدُّهُ) الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي مولاهم، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقية إمامٌ مشهورٌ [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.
4 -
(عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ) الأيليّ، أبو خالد الأمويّ مولاهم، سكن المدينة، ثم الشام، ثم مصر، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 133.
5 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ الإمام الحجة الثبت المشهور، من رؤوس [4](ت 125)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.
6 -
(سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمر العدويّ، أبو عمر، أو أبو عبد الله، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ فاضلٌ، من كبار [3](ت 106)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 162.
7 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما، مات سنة (73)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، وشيخ شيخه، كما أسلفته آنفًا.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمصريين إلى عُقيل، وما بعده بالمدنيين.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والابن عن أبيه، عن جدّه.
5 -
(ومنها): أن سالِمًا أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال.
6 -
(ومنها): أن صحابيّه أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: تَمَتَّعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "تمتّع" هو محمول على التمتّع اللغويّ، وهو القران، ومعناه أنه صلى الله عليه وسلم أحرم أوّلًا بالحجّ مفردًا، ثم أحرم بالعمرة، فصار قارنًا في آخر أمره، والقارن هو متمتّع من حيث اللغة، ومن حيث المعنى؛ لأنه ترفّهَ باتحاد الميقات، والإحرام، والفعل، ويتعيّن هذا التأويل هنا؛ لما قدّمناه في الأبواب السابقة من الجمع بين الأحاديث في ذلك، وممن روى إفراد النبيّ صلى الله عليه وسلم ابن عمر الراوي هنا، وقد ذكره مسلم بعد هذا. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا الذي رُوي هنا عن ابن عمر من أنه صلى الله عليه وسلم تمتّع مخالف لما جاء عنه في الرواية الأخرى من أنه أفرد بالحجّ، واضطراب قوليه يدلّ على أنه لم يكن عنده من تحقيق الأمر ما كان عند من جزم بالأمر، كما فعل أنسٌ على ما تقدّم، حيث قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لبيك بحجة وعمرة".
ثم اعلم أن كلّ الرواة الذين رووا إحرام النبيّ صلى الله عليه وسلم ليس منهم من قال: إنه صلى الله عليه وسلم حلّ من إحرامه ذلك حتى فرغ من عمل الحجّ، وإن كان قد أطلق عليه
(1)
"شرح مسلم للنوويّ" 8/ 434.
لفظ التمتع، بل قد قال ابن عمر في هذا الحديث: إنه صلى الله عليه وسلم بدأ بالعمرة، ثم أهلّ بالحجّ، ولم يقل: إنه حلَّ من عمرته، بل قال في آخر الحديث بعد أن فرغ من طواف القدوم، أنه صلى الله عليه وسلم لم يَحلُل من شيء حَرُمَ عليه حتى قضى حجّه، وهذا نصّ في أنه لم يكن متمتّعًا، فتعيّن تأويل قوله: تمتّع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَيَحْتَمِل أن يكون معناه: قَرَنَ؛ لأن القارن يترفّه بإسقاط أحد العملين، وهذا الذي يدلّ عليه قوله بعد هذا، فأهلّ بالعمرة، ثم أهلّ بالحجّ.
وَيحْتَمِل أن يكون معناه أنه صلى الله عليه وسلم لَمّا أَذِن في التمتّع أضافه إليه، وفيه بُعدٌ. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "تمتّع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ". قال المهلّب: معناه أَمر بذلك؛ لأنه كان ينكر على أنس قوله: إنه قرن، ويقول: بل كان مفردًا، وأما قوله:"وبدأ فأهلّ بالعمرة"، فمعناه أمرهم بالتمتع، وهو أن يُهلّوا بالعمرة أوّلًا، ويقدّموها قبل الحجّ، قال: ولا بدّ من هذا التأويل؛ لدفع التناقض عن ابن عمر رضي الله عنهما.
قال الحافظ: لم يتعيّن هذا التأويل المتعسّف، وقد قال ابن المنيّر في "الحاشية": إنّ حَمْلَ قوله: "تمتع" على معنى أَمَرَ من أبعد التأويلات، والاستشهاد عليه بقوله:"رجم"، وإنما أمر بالرجم من أوهن الاستشهادات؛ لأن الرجم من وظيفة الإمام، والذي يتولّاه إنما يتولّاه نيابة عنه، وأما أعمال الحجّ، من إفراد، وقران، وتمتّع، فإنه وظيفة كلّ أحد عن نفسه، ثم أجاز تأويلًا آخر، وهو أن الراوي عَهِد أنّ الناس لا يفعلون إلا كفعله، لا سيما مع قوله:"خذوا عني مناسككم"، فلما تحقّق أن الناس تمتّعوا ظنّ أنه صلى الله عليه وسلم تمتّع، فأطلق ذلك.
قال الحافظ: ولم يتعيّن هذا أيضًا، بل يَحْتَمِل أن يكون معنى قوله:"تمتع " محمولاً على مدلوله اللغويّ، وهو الانتفاع بإسقاط عمل العمرة، والخروج إلى ميقاتها، وغيرها، بل قال النوويّ: إن هذا هو المتعيّن، قال: وقوله: "بالعمرة إلى الحجّ"؛ أي بإدخال العمرة على الحجّ، وقد قدّمنا في "باب التمتّع والقران" تقرير هذا التأويل.
(1)
"المفهم" 3/ 352.
وإنما المشكل هنا قوله: "بدأ، فأهلّ بالعمرة، ثم أهلّ بالحجّ"؛ لأن الجمع بين الأحاديث الكثيرة في هذا الباب استقرّ كما تقدّم على أنه بدأ أوّلًا بالحجّ، ثم أدخل عليه العمرة، وهذا بالعكس.
وأجيب عنه بأن المراد به صورة الإهلال؛ أي: لما أدخل العمرة على الحجّ لبّى بهما، فقال:"لبيك بعمرة، وحجة معًا".
وهذا مطابق لحديث أنس رضي الله عنه المتقدّم، لكن قد أنكر ابن عمر بذلك على أنس، فَيَحْتَمِل أن يُحْمَل إنكار ابن عمر عليه كونه أطلق أنه صلى الله عليه وسلم جمع بينهما؛ أي في ابتداء الأمر، ويُعيّن هذا التأويل قوله في نفس الحديث:"وتمتّع الناس إلخ"، فإن الذين تمتّعوا إنما بدؤوا بالحجّ، لكن فسخوا حجهم إلى العمرة حتى حلّوا بعد ذلك بمكة، ثم حجّوا من عامهم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
وقال السنديّ رحمه الله: اعلم: أن التمتّع عند الصحابة كان شاملًا للقران أيضًا، وإطلاقه على ما يقابل القران اصطلاح حادث، وقد جاء أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان قارنًا، فالوجه أن يراد بالتمتع هاهنا في شأنه صلى الله عليه وسلم القران؛ توفيقًا بين الأحاديث، والمعنى: انتفع بالعمرة إلى أن حجّ، مع الجمع بينهما في الإحرام، ومعنى قوله:"بدأ بالعمرة" أنه قدّم العمرة ذكرًا في التلبية، فقال:"لبيك عمرةً وحجًّا". انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله السنديّ رحمه الله تحقيق نفيس جدًّا، وهو خلاصة ما تقدّم في كلام العلماء الذين ذكرنا قولهم آنفًا، والله تعالى أعلم.
(فِي حَجَّةِ الْوَدَاع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) أي بإدخال العمرة على الحجّ، حيث بدأ بالحجّ، ثم أَدخل عليه العمرة، فصار قارنًا، ف "إلى" بمعنى "على"(وَأَهْدَى، فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ) من عطف البيان على المبيّن (مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ) وفيه الندب إلى سوق الهدي من المواقيت، ومن الأماكن البعيدة. قال الحافظ رحمه الله: وهي من السنن التي أغفلها كثير من الناس. انتهى.
(1)
"الفتح" 4/ 358، 359.
(وَبَدَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ) قد تقدّم قريبًا أن معناه أنه صلى الله عليه وسلم في أثناء تلبيته بدأ بالعمرة، ثم أتبعها الحجّ، فقال:"لبيك عمرة، وحجًا"، لا أنه أول ما أحرم أحرم بالعمرة، ثم أدخل عليها الحج، فإن هذا خلاف الأحاديث الصحيحة الكثيرة، كما تقدّم، فيتعيّن تأويله هكذا.
قال النوويّ رحمه الله: هو محمول على التلبية في أثناء الإحرام، وليس المراد أنه أحرم في أول أمره بعمرة، ثم أحرم بحجّ؛ لأنه يفضي إلى مخالفة الأحاديث السابقة، وقد سبق بيان الجمع بين الروايات، فوجب تأويل هذا على موافقتها، ويؤيّد هذا التأويل قوله:"وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحجّ"، ومعلوم أن كثيرًا منهم، أو أكثرهم أحرموا بالحجّ أوّلًا مفردًا، وإنما فسخوه إلى العمرة آخرًا، فصاروا متمتعين، فقوله:"وتمتع الناس " يعني في آخر الأمر. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
(وَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) معنى تمتّع الناس كما سبق قريبًا: أنهم بدءوا بالحجّ، ثم فسخوه بعمل العمرة، فتحلّلوا (فَكَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى، فَسَاقَ الْهَدْيَ) من عطف التفسير على المفسَّر (وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ) أي قارب دخولها؛ لأنه قد جاء أنه قال لهم ذلك بِسَرِف (قَالَ لِلنَّاسِ: "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى) أي ساق الهدي، سواء كان قارنًا، أو معتمرًا، وبهذا أخذ الحنفيّة، والحنبلية، فإن عندهم أن من اعتمر، وأهدى لا يتحلل حتى ينحر هديه يوم النحر، وهو المذهب الصحيح المختار؛ لظواهر الأحاديث.
قال في "الفتح": واستُدِلّ به على أنّ من اعتمر، فساق هديًا، لا يتحلّل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر، وقد تقدم حديث حفصة، نحوه، ويأتي حديث عائشة من طريق عُقيل، عن الزهريّ، عن عروة، عنها بلفظ:"من أحرم بعمرة، فأهدى، فلا يحلّ حتى ينحر".
وتأوّل ذلك المالكيّة، والشافعيّة على أن معناه: ومن أحرم بعمرة، وأهدى، فليُهلّ بالحجّ، ولا يحلّ حتى ينحر هديه، ولا يخفى ما فيه، فإنه
(1)
"شرح مسلم" 8/ 435.
خلاف ظاهر الأحاديث المذكورة. انتهى ما في "الفتح"
(1)
، وهو تحقيق نفيسٌ.
(فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ) تقدم ضبطه بضم أوله، من الإحلال، وفتحه، من الحِلِّ (مِنْ شَيءٍ حَرُمَ مِنْهُ) أي مُنِع منه لأجل الأحرام (حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ) أي حتى ينتهي من عمل الحجّ بذبح الهدي يوم النحر (وَمَنْ لَمْ يَكنْ مِنْكُمْ أَهْدَى، فَلْيَطُفْ) للعمرة (بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْو) أي لِيَسْعَ بينهما (وَلْيُقَصِّرْ) شعر رأسه، قال النوويّ رحمه الله: معناه أنه يفعل الطواف، والسعي، والتقصير، ويصير حلالًا، وهذا دليل على أن الحلق، أو التقصير نسك من مناسك الحجّ، وهذا هو الصحيح في مذهب الشافعيّ، وجماهير العلماء. وقيل: استباحة محظور، وليس بنسك، وهذا ضعيف. انتهى.
(وَلْيَحْلِلْ) أمر بمعنى الخبر؛ أي يصير بالتقصير حلالًا من العمرة، فله فعل ما كان محظورًا عليه في الإحرام، من الطيب، واللباس، وإتيان الحلائل، والصيد، وغير ذلك.
وإنما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالتقصير دون الحلق، مع أنه أفضل، ليبقى للمتمتع شعر يحلقه في الحجّ، فإن الحلق في تحلل الحجّ أفضل منه في تحلّل العمرة، وقيل: إن قوله: "وليحلل" أمر باق على حاله، وهو أمر إباحة.
(ثُمَّ لِيُهِل بِالْحَجِّ) أي يحرم بالحجّ في وقت الخروج إلى عرفات، لا أنه يُهلّ به عقب تحلله من العمرة، ولهذا قال:"ثم ليُهلّ"، فأتى بـ "ثمّ" التي هي للتراخي والمهلة، قاله النوويّ رحمه الله.
(ثمَّ لِيُهْدِ) بضمّ حرف المضارعة، من الإهداء رباعيًّا، وهذا معنى قوله تعالى:{فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} الآية [البقرة: 196]. قال القرطبيّ رحمه الله: ذهب جماعة من السلف إلى أنه شاة، وهو قول مالك، وقال جماعة أخرى: هو بقرة دون بقرة، وبدنة دون بدنة، وقيل: المراد بدنة، أو بقرة، أو شاة، أو شِرك في دم. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: المراد به هدي التمتع، فهو واجب بشروط، اتفق أصحابنا على أربعة منها، واختلفوا في ثلاثة، أحد الأربعة: أن يُحْرِم بالعمرة
(1)
"الفتح" 4/ 220.
(2)
"المفهم" 3/ 353.
في أشهر الحجّ، الثاني: أن يحجّ من عامة، الثالث: أن يكون أفقيًّا، لا من حاضري المسجد الحرام، وحاضروه: أهل الحرم، ومن كان منه على مسافة، لا تقصر فيها الصلاة، الرابع: أن لا يعود إلى الميقات لإحرام الحجّ.
وأما الثلاثة، فأحدها: نيّة التمتع، والثاني: كون الحجّ والعمرة في سنة في شهر واحد، والأصحّ أن هذه الثلاثة
(1)
، لا تشترط. والله أعلم. انتهى
(2)
.
(وَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا) المراد لم يجده هناك، إما لعدم الهدي، وإما لعدم ثمنه، هاما لكونه يباع بأكثر من ثَمن المِثل، وإما لكونه موجودًا، لكنه لا يبيعه صاحبه، ففي كلّ هذه الصور يكون عادمًا للهدي، فينتقل إلى الصوم، سواء كان واجدًا لثمنه في بلده، أم لا.
(فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أيَامٍ فِي الْحَجِّ) أي بعد إحرامه بالحجّ، قال النوويّ: هذا هو الأفضل، فإن صامها قبل الإهلال بالحجّ أجزأه على الصحيح، وأما قبل التحلّل من العمرة فلا، على الصحيح، قاله مالك، وجوّزه الثوريّ، وأصحاب الرأي، وعلى الأول، فمن استحبّ صيام عرفة بعرفة قال: يُحْرِم يوم السابع ليصوم السابع، والثامن، والتاسع، وإلا فيُحرم يوم السادس؛ ليفطر بعرفة، فإن فاته الصوم قضاه، وقيل: يسقط، ويستقرّ الهدي في ذمته، وهو قول الحنفية، وفي صوم أيام التشريق لهذا قولان للشافعية، أظهرهما: لا يجوز، قال النوويّ: وأصحهما من حيث الدليل: الجواز. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: والقول بالجواز هو الحقّ؛ لما أخرجه البخاريّ من حديث عائشة، وابن عمر رضي الله عنهما، قالا:"لم يُرخّص في أيام التشريق أن يُصَمْنَ إلا لمن لم يجد الهدي".
وأخرج عن ابن عمر رضي الله عنهما أيضًا، قال: "الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى
(1)
لم يذكر الثالث في شرح مسلم، ولعله سقط سهوًا، وقد ذكره في "شرح المهذّب"، وهو وقوع النسكين عن شخص واحد، فقيل: يشترط، وقيل: لا يشترط، وذكر له صورًا، منها: أن يستاجره شخص لحجّ، وآخر لعمرة. راجع:"المجموع " 7/ 176.
(2)
"شرح مسلم" 8/ 435.
الحجّ إلى يوم عرفة، فإن لم يجد هديًا، ولم يصم صام أيام منًى"، وعن عائشة رضي الله عنها مثله، والراجح أن مثل هذا له حكم الرفع، كما هو مقرّر في محله، والله تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ: قوله: "فليصم ثلاثة أيام في الحجّ"؛ ذهب مالك، والشافعيّ إلى أن ذلك لا يكون إلا بعد الإحرام بالحجّ، وهو مقتضى الآية والحديث، وقال أبو حنيفة، والثوريّ: يصحّ صوم الثلاثة الأيام بعد الإحرام بالعمرة، وقبل الإحرام بالحجّ، ولا يصومها بعد أيام الحجّ، وهو مخالف لنصّ الكتاب والسنّة، والاختيار عندنا تقديم صومها في أول أيام الإحرام، وآخر وقتها آخر أيام التشريق عندنا، وعند الشافعيّ، فمن فاته صومها في هذه الأيام صامها عندنا بعدُ، وقال أبو حنيفة: آخر وقتها يوم عرفة، فمن لم يصمها إلى يوم عرفة، فلا صيام عليه، ووجب عليه الهدي، وقال مثله الثوريّ؛ إذا ترك صيامها أيام الحجّ، وللشافعيّ قولٌ كقول أبي حنيفة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه مالك، والشافعيّ رحمهما الله تعالى أرجح عندي لموافقته لظاهر النصّ الصريح. والله تعالى أعلم.
(وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ") هذا موافق لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} الآية [البقرة: 196].
قال النوويّ رحمه الله: وفي المراد بالرجوع خلاف، والصحيح في مذهب الشافعيّ أنه إذا رجع إلى أهله، وهذا هو الصواب؛ لهذا الحديث الصحيح الصريح، والثاني: إذا فرغ من الحجّ، ورجع إلى مكة من منى، وهذان القولان للشافعيّ، ومالك، وبالثاني قال أبو حنيفة.
قال السنديّ رحمه الله: "إذا رجع إلى أهله" تفسير لقوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} ، وفيه أنه ليس المراد: إذا فرغتم من النسك، كما قاله علماؤنا، ولا يخفى أن هذا مرفوع، لا من قول ابن عمر رضي الله عنهما. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا إنصاف من السنديّ رحمه الله، حيث ترك
(1)
"المفهم" 3/ 353.
ما عليه أهل مذهبه؛ لمخالفته النصّ الصريح، وجزاه الله تعالى عن السنة خيرًا، ويا ليت كل أهل مذهب كانوا مثله، فإن السنة هي القاضية على كل رأي، ومذهب، وليس لأحد من الناس أن يحكم عليها بما يراه هو، ولا غيره من ذي الرأي، قال تعالى:{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} ، وقال:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ، جعلنا الله تعالى ممن ينصر السنة، ويذبّ عنها، بمنّه وكرمه، إنه أرحم الراحمين، وأكرم المسؤولين.
قال النوويّ رحمه الله: ولو لم يصم الثلاثة، ولا السبعة حتى عاد إلى وطنه لزمه صوم عشرة أيام، وفي اشتراط التفريق بين الثلاثة والسبعة؛ إذا أراد صومها خلاف، قيل: لا يجب، والصحيح أنه يجب التفريق الواقع في الأداء، وهو بأربعة أيام، ومسافة الطريق بين مكة ووطنه، والله أعلم. انتهى
(1)
.
(وَطَافَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أي طواف القدوم (حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ، فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ) أي ركن الحجر الأسود (أَوَّلَ شَيْءٍ) منصوب على الظرفية، متعلّق بما قبله؛ أي في ابتداء طوافه (ثُمَّ خَبَّ) أي أسرع، يقال: خبّ في الأمر خَبَبًا، من باب طلب: أسرع الأخذ فيه، ومنه الخببُ لضرب من الْعَدْو، وهو خطؤ فسيح، دون العَنَق
(2)
، قاله الفيّوميّ: رحمه الله. (ثَلاثَةَ أَطْوَافٍ) أي ثلاثة أشواط (مِنَ السَّبْعِ، وَمَشَى) على هِيْنته بسكينة ووقار (أَرْبَعَةَ أَطْوَافٍ، ثُمَّ رَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ) أي فرغ منه (فَصَلَّى عِنْدَ الْمَقَامِ) أي مقام إبراهيم عليه السلام، وهو حجر كان يقوم عليه إبراهيم عليه السلام وقت بناء الكعبة، ففي حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما في قصّة إبراهيم وإسماعيل -عليهما الصلاة والسلام-: "قال -يعني إبراهيم-: يا إسماعيل، إن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتًا، وأشار إلى أَكَمَة مرتفعة على ما حولها، فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر، فوضعه له، فقام عليه، وهو يبني
…
" الحديث. أخرجه البخاريّ
(3)
.
(1)
"شرح مسلم" 8/ 436.
(2)
العنق -بفتحتين-: ضرب من السير فسيح سريع. اهـ. المصباح.
(3)
انظر: "الفتح" في كتاب أحاديث الأنبياء 6/ 255.
(رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ) وهما واجبتان عند الحنفية، وهو قول لمالك والشافعيّ؛ للأمر بهما في قوله تعالى:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} الآية [البقرة: 125]، ولمواظبته صلى الله عليه وسلم عليهما، وقال أحمد: صلاة الطواف سنة، وهو الأصحّ عند الشافعيّة، حملوا الأمر في الآية على الاستحباب.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بالاستحباب هو المختار؛ لحديث: "خمس صلوات كتبهنّ الله على عباده
…
" الحديث.
ويستحبّ أن يقرأ في الركعة الأولى: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} ، وفي الثانية:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} ؛ لما سبق في حديث جابر الطويل: "ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام، فقرأ:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} الآية [البقرة: 125]، فجعل المقام بينه وبين البيت، فكان أبي
(1)
يقول: ولا أعلمه ذكره إلا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: كان يقرأ في الركعتين: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} ، {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} ، وأخرج النسائيّ بسند صحيح، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى مقام إبراهيم، قرأ:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ، فصلى ركعتين، فقرأ فاتحة الكتاب، و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} ، ثم عاد إلى الركن، فاستلمه، ثم خرج إلى الصفا".
(فَانْصَرَفَ فَأَتَى الصَّفَا) ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم توجّه إلى الصفا عقب ركعتي الطواف قبل أن يستلم الحجر، وأنه لم يستلمه حال الطواف، لكن ثبت في حديث جابر رضي الله عنه الماضي في صفة حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ثم رجع إلى البيت، فاستلم الركن، ثم خرج من الباب إلى الصفا"، وللنسائيّ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يستلم الركن اليماني، والحجر في كلّ طواف"، ولأبي داود:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يَدَعُ أن يستلم الركن اليماني، والحجر الأسود في كلّ طوفة"(فَطَافَ) أي سعى (بِالصَّفَا وَالْمَرْوةِ أي بينهما (سَبْعَةَ أَطْوَافٍ) أي سبعة أشواط، رمل فيها بين الميلين الأخضرين (ثُمَّ لَمْ يَحِلَّ، مِنْ
(1)
القائل هو جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين المعروف بالصادق. وأبوه هو المعروف بالباقر.
شَيءٍ حَرُمَ مِنْهُ) أي بقي على إحرامه لم يحلّ له شيء من محظورات الإحرام (حَتَّى قَضَى حَجَّهُ) أي أدّى أكثر أعمال حجه من الوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، ورمي جمرة العقبة يوم النحر، وحلقه رأسه (وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَأفَاضَ) أي دفع، قال الفيّوميّ: أفاض الناس من عرفات: دفعوا منها، وكلّ دفعة إفاضة، وأفاضوا من منى إلى مكة يوم النحر: رجعوا إليها، ومنه طواف الإفاضة؛ أي طواف الرجوع من منى إلى مكة. انتهى.
(فَطَافَ بِالْبَيْتِ) طواف الإفاضة (ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ) أي مُنع منه، ومنه إتيان الحلائل (وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ أَهْدَى)"مَنْ" اسم موصول في محلّ رفع فاعل "فَعَلَ" مؤخّر، و"مثلَ" مفعول مقدّم؛ أي فعل الذين ساقوا الهدي من الصحابة رضي الله عنهم مثل فعله صلى الله عليه وسلم (وَسَاقَ الْهَدْيَ) عطف تفسير لـ "أهدى"(مِنَ النَّاسِ) بيان لمن أهدى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [22/ 2983 و 2984](1227)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(166) و"الصلاة"(396 و 492) و"الحج"(1691)، و (أبو داود) في "المناسك"(1805)، و (النسائيّ) في "المناسك"(5/ 151) و"الكبرى"(2/ 347)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 139)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 299 و 323)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 327)، و (البيهقيّ) في "الكبرى" 5/ 17)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعية التمتع، وقد تقدّم أن التمتع يطلق على القران، وحديث الباب يكون دليلًا على التمتعين، فبالنسبة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، والصحابة الذين ساقوا الهدي معه فهو قران، وبالنسبة للذين لم يسوقوا الهدي، فتمتّع بالمعنى المعروف عند الفقهاء.
2 -
(ومنها): بيان استحباب سوق الهدي من الميقات لمن تيسّر له.
3 -
(ومنها): أن من تمتع، ولم يسق الهدي، تحلّل بعد الطواف والسعي.
4 -
(ومنها): أن قوله: "وليقصّر" يدلّ على أن التقصير، أو الحلق نسك من مناسك الحجّ، وبه قال الجمهور، وقيل: إنه يستباح به المحظور، وليس بنسك، وهو ضعيف، كما قاله النوويّ رحمه الله.
5 -
(ومنها): استحباب طواف القدوم، واستحباب الرمل في الأشواط الثلاثة منه، والمشي على الهِينة في البواقي.
6 -
(ومنها): استحباب استلام الحجر الأسود في أول طوافه، وكذا كلما مرّ عليه.
7 -
(ومنها): استحباب صلاة ركعتي الطواف، عند مقام إبراهيم عليه السلام.
8 -
(ومنها): مشروعية السعي بين الصفا والمروة.
9 -
(ومنها): مشروعية طواف الإفاضة يوم النحر، وأنه يَحِلّ به للمحرم كل شيء حرم عليه، من محظورات الإحرام، مطلقًا.
10 -
(ومنها): وجوب الهدي لمن تمتع، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله.
11 -
(ومنها): أن قوله: "ثم لم يحلّ من شيء حرُم منه حتى قضى حجه " يردّ قول من قال: إنه صلى الله عليه وسلم كان متمتّعًا بالمعنى المصطلح عليه عند الفقهاء، وهو الإحرام بالعمرة في أشهر الحجّ، والإحلال منها، وإردافها بأعمال الحجّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[298]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِيهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ، عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فِي تَمَتُّعِهِ بِالْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ، وَتَمَتُّعِ النَّاسِ مَعَهُ، بِمِثْلِ الَّذِي أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه عَنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت أيضًا قبل بابين.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (بِمِثْلِ الَّذِي أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ الله إلخ) قال في "الفتح": قد تعقّب المهلّب قول الزهريّ: "بمثل الذي أخبرني سالم"، فقال: يعني مثله في الوهم؛ لأن أحاديث عائشة رضي الله عنها كلّها شاهدة بانه حجّ مفردًا.
فتعقّبه الحافظ، فقال: قلت: وليس وَهَمًا؛ إذ لا مانع من الجمع بين الروايتين بمثل ما جمعنا به بين المختلف عن ابن عمر رضي الله عنهما، بأن يكون المراد بالإفراد في حديثها البداءة بالحجّ، وبالتمتّع بالعمرة إدخالها على الحجّ، وهو أولى من توهيم جبل من جبال الحفظ. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
، وهو تعقّب وجيهٌ، فتأمله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(23) - (بَابُ بَيَانِ أَنَّ الْقَارِنَ لَا يَتَحَلَّلُ إِلَّا في وَقْتِ تَحَلُّلِ الْحَاجِّ الْمُفْرِدِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2985]
(1229) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِع، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ حَفْصَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: يَا رَسُولَ الله مَا شَأَنُ النَّاسِ حَلُّوا، وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ قَالَ: "إِنِّي لَبَّدْتُ رَأسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْي، فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أنْحَرَ").
(1)
"الفتح" 4/ 645.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، الإمام الحجة الفقيه المجتهد الشهير [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.
3 -
(نَافِعٌ) مولى ابن عمر العدويّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةُ ثبتٌ فقيه مشهور [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب، تقدّم في الباب الماضي.
5 -
(حَفْصَةُ) بنت عمر بن الخطّاب أم المؤمنين رضي الله عنها، تزوّجها النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد خُنيس بن حُذافة سنة ثلاث من الهجرة، وماتت سنة (45)(ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 15/ 1676.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّة، هي أخته.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ) بن الخطاب رضي الله عنهما (أَنَّ حَفْصَةَ زَوْجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ).
[تنبيه]: ظاهر هذه الرواية أن هذا الحديث من مسند ابن عمر، لا من مسند حفصة رضي الله عنها؛ لأنه قال:"أنّ حفصة إلخ"، ولم يقل:"عن حفصة"، لكن تبيّن في الرواية الآتية بأن ابن عمر رواه عنها، وأصرح رواية هي رواية ابن جريج الأخيرة، ففيها:"عن ابن عمر قال: حدّثتني حفصة رضي الله عنها").
هذا على قول من يرى الفرق بين "أنّ" و"عَنْ"، فيَحْمِل "أنّ" على الانقطاع، و"عن" على الاتصال، وأما على قول من يجعلهما للاتّصال، فالأمر وأضح.
وحاصل الخلاف في المسألة هو ما قاله النوويّ رحمه الله في "التقريب": إذا قال الراوي: حدّثنا الزهريّ أن ابن المسيِّب حدّثه بكذا، فقال أحمد بن حنبل وجماعة: لا تلتحق "أنّ" بـ "عَنْ" في الاتّصال، بل يكون منقطعًا حتى يتبيّن السماع في ذلك الخبر بعينه من جهة أخرى، وقال الجمهور:"أنّ " كـ "عَنْ"، ومطلقة محمول على السماع بشرط البراءة عن التدليس، وبشرط اللقاء والسماع عند من يشترطه. انتهى باختصار
(1)
.
وإلى هذا أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث" حيث قال:
وَمَنْ رَوَى بـ "عَنْ " وَ"أَنَّ" فَاحْكُمِ
…
بِوَصْلِهِ إِنِ اللِّقَاءُ يُعْلَمِ
وَلَمْ يَكُنْ مُدَلِّساً وَقِيلَ لَا
…
وَقِيلَ "أَنَّ" اقْطَعْ وَأَمَّا "عَنْ" صِلَا
(مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا) زاد في رواية النسائيّ: "بعمرة"؛ أي بجعل نسكهم عمرة بأمره صلى الله عليه وسلم لهم بذلك، كما سبق بيانه.
وحكى الحافظ أبو عمر رحمه الله عن ابن وهب أنه رواه عن مالك بهذه الزيادة، وأنه رواه بدونها القعنبيّ، ويحيى بن بُكير، وأبو مصعب، وعبد الله ابن يوسف، ويحيى بن يحيى، وغيرهم.
قال: والمعنى واحد عند أهل العلم، قال: ولم يختلف الرواة عن مالك في قوله: "ولم تحلّ أنت من عمرتك"، قال: وزعم بعض الناس أنه لم يقل أحدٌ في هذا الحديث عن نافع: "ولم تحلّ أنت من عمرتك" إلا مالك وحده.
قال: وقد رواها غير مالك: عبيد الله بن عمر، وأيوب السختيانيّ، وهؤلاء هم حفّاظ أصحاب نافع، والحجة فيه على من خالفهم.
ورواه ابن جريج، عن نافع، فلم يقل:"من عمرتك"، وزيادة مالك مقبولة؛ لحفظه، وإتقانه، أَبُو انفرد بها، فكيف وقد تابعه من ذكرنا.
قال: وما أعلم أحدًا في قديم الدهر، ولا حديثه ردّ حديث حفصة هذا بأن مالكأ انفرد بقوله:"من عمرتك" إلا هذا الرجل. انتهى كلام ابن عبد البرّ بمعناه.
قال الحافظ وليّ الدين: وذكر بعضهم أن هذا الذي أشار إليه ابن عبد البرّ
(1)
"تقريب النواوي مع شرحه تدريب الراوي" 1/ 217.
هو الأصيليّ، ورواية عبيد الله بن عمر هذه رواها مسلم، وابن ماجه، وفيها:"من عمرتك"، ورواها البخاريّ بدون قولها:"من عمرتك"، ولفظ الشيخين فيها:"فلا أحلّ حتى أحلّ من الحجّ"، وفي لفظ لمسلم:"حتى أنحر"، كرواية مالك، وكذا في رواية ابن ماجه.
وروايةُ ابن جريج أخرجها مسلم، وأخرج البخاريّ مثلها من طريق موسى بن عقبة، عن نافع. وذكر البيهقيّ رواية موسى بن عقبة، ثم قال: وكذلك رواه شعيب بن أبي حمزة، عن نافع، لم يذكر فيه العمرة، والله أعلم.
وفيه إشارة إلى الاختلاف في ذكر هذه اللفظة، ففيه ميلٌ لما تقدّم عن الأصيليّ، وفي رواية مسلم عن يحيى بن يحيى، عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن حفصة قالت
…
فجعله من مسند ابن عمر، وكذا في "صحيح مسلم" من طريق عبيد الله بن عمر، وفي حديث الباقين عن ابن عمر، عن حفصة، وفي رواية موسى بن عقبة، وابن جريج حدثتني حفصة. انتهى كلام وليّ الدين
(1)
.
وقال في "الفتح": ولم يقع في رواية مسلم قوله: "بعمرة"، وذكر ابن عبد البرّ أن أصحاب مالك ذكرها بعضهم، وحذفها بعضهم.
واستُشكل كيف حلّوا بعمرة مع قولها: "ولم تحلّ من عمرتك"؟.
والجواب أن المراد بقولها: "بعمرة" أي إن إحرامهم بعمرة كان سببًا لسرعة حلّهم. انتهى
(2)
.
وقال وليّ الدين: [إن قلت]: ما معنى قوله: "بعمرة"، وكيف يلتئم هذا مع قوله بعده:"من عمرتك"، كيف يحلّ بعمرة، ويحلّ منها؟.
[قلت]: الصحابة رضي الله عنهم حلّوا بعمرة، فإنهم فسخوا الحجّ إليها، فأتوا بأعمالها، وتحلّلوا منها، ولولا ذلك لاستمرّوا على الإحرام، حتى يأتوا بأعمال الحجّ، فكان إحرامهم بعمرة سببأ لسرعة حلّهم، وأما هو صلى الله عليه وسلم، فإنه أدخل العمرة على الحجّ، فلم يُفده الإحرام بالعمرة سرعةَ الإحلال؛ لبقائه على الحجّ، فشارك الصحابة في الإحرام بالعمرة، وفارقهم ببقائه على الحجّ، وفسخهم له.
(1)
"طرح التثريب" 5/ 36، 37.
(2)
"الفتح" 4/ 214.
وهذا الذي ذكرته من إدخاله العمرة على الحجّ هو المعتمد، وعكس الخطّابيّ ذلك، فقال في الكلام على هذا الحديث: هذا يُبيّن لك أنه كانت هناك عمرة، ولكنه أدخل عليها الحجّ، فصار قارنًا، ثم حكى الاتفاق على جواز إدخال الحجّ على العمرة قبل الطواف، والخلاف في إدخالها على الحجّ، منعه مالك، والشافعيّ، وأجازه أصحاب الرأي، هذا كلامه.
ومن يمنع إدخال العمرة على الحجّ يُجيب عن هذا الحديث على ما قرّرته أوّلًا بأن هذا من خصوصيّات هذه الحجّة، فقد وقعت فيها أمورٌ غريبة، والله أعلم. انتهى كلام وليّ الدين
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: منع إدخال العمرة على الحجّ بعد صحته منه صلى الله عليه وسلم لا وجه له، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد.
(وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟) هكذا هو عند البخاريّ أيضًا بفك إدغام اللام، ووقع عند النسائيّ بلفظ:"ولم تحلّ " بالإدغام، وهما لغتان، كما أشار إليهما ابن مالك رحمه الله في "خلاصته" بقوله:
وَفُكَّ حَيْثُ مُدْغَمٌ فِيهِ سَكَنْ
…
لِكَوْنِهِ بِمُضْمَرِ الرَّفْعِ اقْتَرَنْ
نَحْوُ "حَلَلْتُ مَا حَلَلْتَهُ "وَفِي
…
جَزْمٍ وَشِبْهِ الْجَزْمِ تَخْيِيرٌ قُفِي
والفكّ لغة أهل الحجاز، ومنه قوله تعالى:{وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي} [طه: 81] وقوله: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} الآية [المائدة: 54]، والإدغام لغة تميم، وعليه قوله تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 4].
[تنبيه]: يجوز في قوله: "ولم تحلل"، وفي قوله الآتي:"فلا أحلّ" فتح أوّله، وضمّه، على أنه ثلاثيّ، ورباعيّ، وهما لغتان فيه، والفتح أوفق لقولها:"حَلُّوا"، قاله وليّ الدين
(2)
.
وفي "المصباح": وحلّ المحرمُ حِلًّا بالكسر: خرج من إحرامه، وأحلّ بالألف مثلُهُ، فهو مُحلّ، وحِلّ أيضًا تسميةً بالمصدر، وحلالٌ أيضًا. انتهى.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنّي لَبَّدْتُ رَأسِي) - بتشديد الباء الموحّدة، وبالدال المهملة- أي شعر رأسي، وتلبيد الشعر أن يُجعَل فيه شيء من صمغ، أو نحوه عند
(1)
"طرح التثريب" 5/ 38.
(2)
"طرح التثريب" 5/ 39.
الإحرام لينضمّ الشعر، ويلتصق بعضه ببعض؛ احترازًا عن تعطّفه، وتقمّله، وإنما يَفعل ذلك من يطول مكثه في الإحرام.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: "التلبيد": مصدر لبّد، يقال: لبّدَ الشيءَ تلبيدًا: ألزق بعضه ببعض، حتى صار كاللِّبْد
(1)
، ولبّد الحاجّ شعره بخطميّ، ونحوه كذلك حتى لا يتشعّث. انتهى.
وفي هذا الحديث استحباب التلبيد، والمعنى فيه الإبقاء على الشعر، وقد نصّ عليه الشافعيّ، وأصحابه
(2)
.
(وَقَلَّدْتُ هَدْيِي) بإسكان الدال، وتخفيف الياء، وبكسر الدال، وتشديد الياء لغتان. وتقليده أن يُعلّق عليه شيئًا يُعرف به كونه هديًا، فإن كان من الإبل والبقر استُحبّ تقليده بنعلين، من النعال التي تُلبس في الرجلين، في الإحرام، ويستحبّ التصدّق بهما عند ذبح الهدي، وإن كان من الغنم استُحبّ تقليده بخُرَب القِرَب -بضمّ الخاء المعجمة، وفتح الراء- وهي عُراها، واَذانها، وبالخيوط المفتولة، ونحوها.
وقد اتفق العلماء على استحباب سوق الهدي، وعلى استحباب تقليد الإبل، والبقر، واختلفوا في استحباب تقليد الغنم، فقال به الشافعيّ، والجمهور، وقال مالك، وأبو حنيفة: لا يستحبّ
(3)
، وسيأتي تمام البحث فيه في موضعه -إن شاء الله تعالى-.
(فَلَا أُحِلُّ) تقدّم ضبطه بفتح أوله، وضمّه، من الحلّ، أو من الإحلال، ثلاثيًّا، ورباعيًّا (حَتَّى أَنْحَرَ") وفي رواية عبيد الله الآتية:"حَتَّى أُحِلَّ مِنَ الْحَجِّ": أي فلا أتحلل من الإحرام حتى أفرغ من عمل الحجّ بنحر الهدي يوم النحر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"اللبد" بكسر، فسكون، وزان حِمْل: ما تلبّد من شعر، أو صوف. اهـ. المصباح.
(2)
المصدر المذكور.
(3)
"طرح التثريب" 5/ 39.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث حفصة رضي الله عنها هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [23/ 2985 و 2986 و 2987 و 2988 و 2989، (1229)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1566 و 1697 و 1725) وفي "المغازي"(4398) وفي "اللباس"(5916)، و (أبو داود) في "المناسك"(1806)، و (النسائيّ) في "المناسك"(2682 و 2781) وفي "الكبرى"(3662 و 3762)؛ و (ابن ماجه) في "المناسك"(3546)، و (مالك) في "الموطّأ"(897)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(111/ 1 و 196)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 283 و 285)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 328)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(9/ 235)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(12/ 477 و 481)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(4/ 194)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(311/ 23 و 312 و 313 و 314 و 315 و 316)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 12) و"المعرفة"(3/ 488 و 513 و 514 و 517)، و (البغويّ) في "شرح السنة"(1885)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن القارن لا يتحلّل إلا في وقت تحلل المفرِد، وهو يوم النحر.
2 -
(ومنها): بيان استحباب التلبيد، وسيأتي في بابه.
3 -
(ومنها): استحباب تقليد الهدي، وسيأتي في بابه أيضًا.
4 -
(ومنها): مشروعية سؤال الرعية رئيسهم عن فعله؛ إذا خَفِي عليهم وجهه.
5 -
(ومنها): أنه يدلّ على أن من ساق الهدي لا يتحلل من عمرته حتى يحلّ بالحجّ، ويفرغ منه؛ لأنه جعل العلة في بقائه على إحرامه كونه أهدى، وأخبر أنه لا يحلّ حتى ينحر الهدي، وهو قول أبي حنيفة، وأحمد، ومن وافقهما، ويؤيّده قوله في حديث عائشة رضي الله عنه:"فأمر من لم يكن ساق الهدي أن يحلّ"، والأحاديث بذلك متضافرة.
وأجاب بعض المالكيّة، والشافعيّة عن ذلك بأن السبب في عدم تحلله من
العمرة كونه أدخلها على الحجّ، وهو مشكل عليه؛ لأنه يقول: إن حجه كان مفردًا.
وقال بعض العلماء: ليس لمن قال: كان مفردًا عن هذا الحديث انفصال؛ لأنه إن قال به استشكل عليه كونه علّل عدم التحلّل بسوق الهدي؛ لأن عدم التحلّل لا يمتنع على من كان قارنًا عنده، قاله في "الفتح"
(1)
.
6 -
(ومنها): أنه تمسّك به من ذهب إلى أنه صلى الله عليه وسلم كان في حجة الوداع متمتّعًا لكونه أقرّ على أنه محرم بعمرة، والتمتّع هو الإحرام بالعمرة في أشهر الحجّ، وطَعْنُ من طعن في قوله:"من عمرتك" غيرُ ملتفت إليه كما تقدّم، لكن هذا التمسّك ضعيف، فإنه أَبُو لم يكن إلا هذا اللفظ لاحتمل التمتّع، والقران، فتعيّن بقوله صلى الله عليه وسلم في رواية عبيد الله بن عمر:"حتى أحلّ من الحجّ" أنه كان قارنًا، وهو في "الصحيحين" كما تقدّم، قاله وليّ الدين رحمه الله
(2)
.
7 -
(ومنها): أنه تمسّك به من ذهب إلى أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنًا، وهو متمسّكٌ قويّ، قال الحافظ وليّ الدين: وما أدري ما يقول من ذهب إلى التمتّع، هل يقول: استمرّ على العمرة خاصّةً، ولم يُحرم بالحجّ أصلًا، فيكون لم يحجّ في تلك السنة، وهذا لا يقوله أحد، أو أدخل عليها الحجّ، فصار قارنًا، وصحّ ما قاله هؤلاء، فإن للقران حالتين: إحداهما: أن يحرم بالنسكين ابتداء، والثاني: أن يحرم بالعمرة، ثم يدخل عليها الحجّ، وقوله في رواية عبيد الله بن عمر:"حتى أحلّ من الحجّ" صريح في أنه كان قارنًا، وقولها:"من عمرتك" أي العمرة المضمومة إلى الحجّ، قال النوويّ في "شرح مسلم": هذا دليل للمذهب الصحيح المختار أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنًا في حجة الوداع. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: الذاهبون إلى الإفراد أجابوا عن هذا الحديث بأجوبة:
(أحدها): أنها أرادت بالعمرة مطلق الإحرام، رَوَى البيهقيّ بإسناده عن
(1)
"الفتح" 4/ 214.
(2)
"طرح التثريب" 5/ 37.
(3)
"شرح مسلم" 8/ 437.
الشافعيّ أنه قال: فإن قيل: فما قول حفصة للنبيّ صلى الله عليه وسلم: "ما شأن الناس حلّوا، ولم تحلل من عمرتك؟ ".
قيل: أكثر الناس مع النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن معه هديٌ، وكانت حفصة معهم، فأُمروا أن يجعلوا إحرامهم عمرة، ويحلّوا، فقالت: لِمَ تحلل الناس، ولم تَحْلِل من عمرتك؛ يعني إحرامك الذي ابتدأته، وهم بنيّة واحدة -والله أعلم- فقال:"لبّدت رأسي، وقلّت هديي، فلا أحلّ حتى أنحر بدني"؛ يعني -والله أعلم- حتى يحلّ الحاجّ؛ لأن القضاء نزل عليه أن يجعل من كان معه هدي إحرامه حجًّا، وهذا من سعة لسان العرب الذي يكاد يعرف بالجواب فيه. انتهى كلامه.
(ثانيها): أنها أرادت بالعمرة الحجّ؛ لأنهما يشتركان في كونهما قصدًا.
(ثالثها): أنها ظنّت أنه معتمر.
(رابعها): أن معنى قولها: "من عمرتك" أي لعمرتك بأن تفسخ حجّك إلى عمرة كما فعل غيرك، قال النوويّ في "شرح مسلم" بعد ذكره هذه الأجوبة: وكلّ هذا ضعيف، والصحيح ما سبق -يعني أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنًا- ذكره وليّ الدين رحمه الله
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج: رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2986]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَكَ لَمْ تَحِلَّ؟
(2)
بِنَحْوهِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير الهمدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 2.
2 -
(خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ) الْقَطَوانيّ البجليّ مولاهم، أبو الهيثم الكوفيّ،
(1)
"طرح التثريب" 5/ 38، 39.
(2)
وفي نسخة: "لم تحلل".
صدوقٌ يتشيّع، وله أفراد، من كبار [10](ت 213) أو بعدها (خ م كد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 65/ 367.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: رواية مالك عن نافع هذه ساقها أبو يعلى في "مسنده"(12/ 481) فقال:
(7056)
- حدّثنا زهير، حدّثنا عبد الرحمن
(1)
، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة "أنها قالت للنبيّ صلى الله عليه وسلم: ما لك لم تحلّ من عمرتك؟ قال: إني لَبّدتُّ رأسي، وقَلَّدت هديي، فلا أحل حتى أنحر". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2987]
(
…
) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ الله، قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَن ابْنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا، وَلَمْ تَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ قَالَ: "إِنِّي
(2)
قَلَّدْتُ هَدْيِ، وَلبّدْتُ رَأْسِي، فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَحِلَّ مِنَ الْحَجِّ").
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل باب.
2 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان تقدّم أيضًا قبل باب.
3 -
(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر العمريّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
الظاهر أنّ زهيرًا هو ابن حرب، وعبد الرحمن هو ابن مهديّ، والله تعالى أعلم.
(2)
وفي نسخة: "قال: لأني".
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2088]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثنا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعِ، عَن ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ حَفْصَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكٍ: "فَلَاَ أَحِلُّ حَتَّى أنحَرَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.
2 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: رواية أبي أسامة، عن عبيد الله هذه ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:
(3037)
- حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا أبو أسامة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر "أن حفصة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: قلت: يا رسول الله ما شأن الناس حَلّوا، ولم تحلّ أنت من عمرتك؟ قال: إني لبّدتّ رأسي، وقلّدت هديي، فلا أحل حتى أنحر". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2989]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمَخْزُومِيُّ، وَعَبْدُ الْمَجِيدِ، عَن ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَتْني حَفْصَةُ رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يَحْلِلْنَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، قَالَتْ حَفْصَةُ: فَقُلْتُ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَحِلَّ؟ قَالَ: "إِنِّي لَبَّدْتُ رَأسيِ، وَقَلَّدْتُ هَدْي، فَلَا أَحِل حَتَّى أَنْحَرَ هَدْيِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن عمر العَدَنيّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(هِشَامُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمَخْزُومِيُّ) هو: هشام بن سليمان بن عكرمة بن خالد بن العاص المخزوميّ المكيّ، مقبول [8].
رَوَى عن هشام بن عروة، وعبد الله بن عكرمة بن الحارث بن هشام، وإسماعيل بن رافع، وابن جريج، ويونس بن يزيد، والثوريّ، وغيرهم.
ورَوَى عنه إبراهيم بن المنذر، ومحمد بن يحيى بن أبي عمر العَدَنيّ، وأحمد بن محمد بن الوليد، وقال العقيليّ: هشام بن سليمان في حديثه عن غير ابن جريج وَهَمٌ.
أخرج له البخاريّ في التعاليق، والمصنّف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط برقم (1229)، و (1341)، و (1519)، و (1559)، و (2003).
3 -
(عَبْدُ الْمَجِيدِ) بن عبد العزيز بن أبي رَوّاد -بفتح الراء، وتشديد الواو- الأزديّ، مولى المهلَّب، أبو عبد الحميد المكيّ، صدوقٌ يُخطئ، وكان مرجئًا، أفرط ابن حبّان، فقال: متروك [9].
رَوَى عن أبيه، وأيمن بن نابل، وابن جريج، ومعمر، وسالم الجزريّ، وغيرهم. وروى عنه الشافعيّ، وأحمد، والحميديّ، وابن أبي عمر، وغيرهم.
قال أحمد: ثقةٌ، وكان فيه غلوّ في الإرجاء، وكان يقول: هؤلاء الشُّكّاك، قال عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن ابن معين: ثقةٌ ليس به بأس، وقال الدُّوريّ عن ابن معين: ثقةٌ، وقال ابن أبي مريم، عن ابن معين: ثقةٌ، وكان يروي عن قوم ضعفاء، وكان أعلم الناس بحديث ابن جريج، وكان يطعن بالإرجاء، قال: ولم يكن يبذل نفسه للحديث، وقال إبراهيم بن الجنيد: ذكر يحيى بن معين عبد المجيد، فذكر من نُبْله وهيبته، وكان صدوقًا، ما كان يرفع رأسه إلى السماء، وكانوا يعظمونه، وقال البخاريّ: كان يرى الإرجاء، كان الحميديّ يتكلم فيه، وقال الآجريّ، عن أبي داود: ثقةٌ، حدّثنا عنه أحمد، ويحيى بن معين، قال يحيى: كان عالماً بابن جريج، وقال أبو داود: وكان مرجئاً داعية في الإرجاء، وما فسد عبد العزيز حتى نشأ ابنه، وأهل خراسان لا يحدثون عنه، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وقال في موضع آخر: ليس به بأسٌ، وقال أبو حاتم: ليس بالقويّ يُكتب حديثه، وقال الدارقطنيّ: لا يُحتج به، يُعتبر به،
وأبوه أيضًا ليّن، والابن أثبت، والأب يُتْرَك، وروى له أبو أحمد بن عديّ أحاديث، ثم قال: كلها غير محفوظة على أنه ثبت في حديث ابن جريج، وله عن غير ابن جريج، وعامة ما أنكر عليه الإرجاء، وقال سلمة بن شبيب: كنت عند عبد الرزاق، فجاءنا موت عبد المجيد بن عبد العزيز، وذكر وفاته سنة ست ومائتين، فقال عبد الرزاق: الحمد لله الذي أراح أمة محمد صلى الله عليه وسلم من عبد المجيد، وقال الدارقطنيّ في "العلل": كان أثبت الناس في ابن جريج، وقال المرُّوذيّ عن أحمد: كان مرجئًا، قد كتبت عنه، وكانوا يقولون: أفسد أباه، وكان منافرًا لابن عيينة، قال المرُّوذيّ؛ وكان أبو عبد الله يحدث عن المرجئ إذا لم يكن داعية ولا مخاصماً، وقال العقيليّ: ضعّفه محمد بن يحيى، وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالمتين عندهم، وقال ابن سعد: كان كثير الحديث مرجئًا ضعيفًا، وقال الساجيّ: روى عن مالك حديثًا منكرًا، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد:"الأعمال بالنيات"، وروى عن ابن جريج أحاديث لم يتابع عليها، وقال ابن عبد البرّ: روى عن مالك أحاديث أخطأ فيها، أشهرها خطأ حديث الأعمال، وقال أبو حاتم: ليس بالقويّ، وقال الحاكم: هو ممن سكتوا عنه، وقال الخليليّ: ثقةٌ، لكنه أخطأ في أحاديث، وقال ابن حبان: كان يقلب الأخبار، ويروي المناكير عن المشاهير، فاستَحَقَّ الترك، وقال الدارقطنيّ في "الأفراد": ثنا يعقوب بن إبراهيم، ثنا علي بن مسلم، ثنا عبد المجيد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: كلام القدرية كفر، وكلام الحرورية ضلالة، وكلام الشيعية تلطخ بالذنوب، والعصمة من الله، واعلموا أن كلًّا بقدر الله. قال الدارقطنيّ: تفرد به عبد المجيد، قال الحافظ: وبقية رجاله ثقات.
أخرج له المصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
4 -
(ابْنُ جُرَيْج)، عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم المكي، ثقةٌ فقيه إلا أنه يدلّس، [6](ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129. والباقون ذُكروا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، فلا تغفل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(24) - (بَابُ بَيَانِ جَوَازِ التَّحَلُّلِ بِالإِحْصَارِ، وَجَوَازِ الْقِرَانِ، وَجَوَازِ اقْتِصَارِ الْقَارِنِ عَلَى طَوَافٍ وَاحِدٍ، وَسَعْيِ وَاحِدٍ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2990]
(1235) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما خَرَجَ فِي الْفِتْنَةِ مُعْتَمِرًا، وَقَالَ: إِنْ صُدِدْتُ عَنْ الْبَيْتَ صَنَعْنَا كَمَا صَنَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَخَرَجَ، فَأَهَلَّ بعُمْرةٍ، وَسَارَ حَتَّى إِذَا ظَهَرَ عَلَى الْبَيْدَاءِ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: مَا أَمْرُهُمَا إِلَّا وَاحِدٌ، أُشْهِدُكُمْ أنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ الْحَجَّ مَعَ الْعُمْرَةِ، فَخَرَجَ، حَتَّى إِذَا جَاءَ الْبَيْتَ طَافَ بِهِ سَبْعًا، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْو سَبْعًا، لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ، وَرَأَى أنَّهُ مُجْزِئٌ عَنْهُ، وَأَهْدَى).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
وكلهم تقدّموا في أول الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (186) من رباعيّات الكتاب.
شرح الحديث:
(عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما خَرَجَ) ظاهر هذا السياق يُشعر بان الحديث عن نافع، عن ابن عمر بغير واسطة، وكذا الرواية التالية بلفظ: "أن عبد الله بن عبد الله وسالم بن عبد الله كلّما عبد الله
…
" الحديث، فظاهرها أيضًا أن نافعًا أخذه عن ابن عمر رضي الله عنهما بغير واسطة.
لكن رواية جويرية عند البخاريّ تقتضي أن نافعًا حَمَل ذلك عن عبد الله، وسالم ابني عبد الله بن عمر، عن أبيهما، حيث قال فيها: عن جويرية، عن نافع، أن عبد الله بن عبد الله، وسالم بن عبد الله أخبراه أنهما كلّما عبد الله بن عمر
…
فذكر القصّة، والحديث.
قال الحافظ رحمه الله: هكذا قال البخاريّ عن عبد الله بن محمد بن أسماء،
ووافقه الحسن بن سفيان، وأبو يعلى كلاهما عن عبد الله، أخرجه الإسماعيليّ عنهما، وتابعهم معاذ بن المثنّى، عن عبد الله بن محمد بن أسماء، أخرجه البيهقيّ، لكن في رواية موسى بن إسماعيل، عن جُويرية، عن نافع أن بعض بني عبد الله بن عمر، قال له
…
فذكر الحديث، وظاهره أنه لنافع عن ابن عمر بغير واسطة، وقد عقّب البخاريّ رواية عبد الله برواية موسى لينبّه على الاختلاف في ذلك، واقتصر في رواية موسى هنا على الإسناد، وساقه في "المغازي" بتمامه.
وقد رواه يحيى القطّان عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، كذلك، ولفظه:"أن عبد الله بن عبد الله، وسالم بن عبد الله كلّما عبد الله"، فذكر الحديث، أخرجه مسلم، وقد أخرجه البخاريّ في "المغازي" عن مسدّد، عن يحيى، مختصرًا، قال فيه: عن نافع، عن ابن عمر، أنه أهلّ، فذكر بعض الحديث، وفي قوله: عن نافع، عن ابن عمر دلالة على أنه لا واسطة بين نافع، وابن عمر فيه، كما هو ظاهر سياق مسلم.
وأخرجه البخاريّ من طريق عمر بن محمد، عن نافع، مثل سياق يحيى، عن عبيد الله سواء. وأخرجه من طريق فُليح من طريق أيوب، والليث، كلهم عن نافع.
قال: وأعرض مسلم عن تخريج طريق جويرية، ووافق على طريق تخريج الليث، وأيوب، عن عبيد الله بن عمر، وكذا أخرجه النسائيّ من طريق أيوب بن موسى، وإسماعيل بن أُميّة كلهم عن نافع، عن ابن عمر بغير واسطة.
قال الحافظ رحمه الله: والذي يترجّح في نقدي أن ابني عبد الله أخبرا نافعًا بما كلّما به أباهما، وأشارا عليه به من التأخّير ذلك العام، وأما بقيّة القصّة فشاهدها نافع، وسمعها من ابن عمر؛ لملازمته إياه، فالمقصود من الحديث موصول، وعلى تقدير أن يكون نافع لم يسمع شيئًا من ذلك من ابن عمر، فقد عُرف الواسطة بينهما، وهي ولدا عبد الله بن عمر، سالم، وعبد الله، وهما ثقتان، لا مطعن فيهما، ولم أر من نبّه على ذلك من شُرّاح البخاريّ.
ووقع في رواية جويرية المذكورة عبيد الله بن عبد الله بالتصغير، وفي رواية يحيى القطّان المذكورة عبد الله بالتكبير، وكذا في رواية عمر بن محمد، عن نافع، قال البيهقيّ: عبد الله -يعني مكبرًا- أصحّ.
قال الحافظ: وليس بمستبعد أن يكون كلّ منهما كلّم أباه في ذلك، ولعلّ نافعًا حضر كلام عبد الله المكبّر مع أخيه سالم، ولم يحضر كلام عبيد الله المصغّر مع أخيه سالم أيضًا، بل أخبراه بذلك، فقصّ عن كلّ ما انتهى إليه علمه. انتهى كلام الحافظ رحمه الله.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "ووقع في رواية جويرية عبيد الله مصغرًا إلخ " هكذا في رواية البخاريّ من رواية محمد بن عبد الله بن أسماء، عن جويرية، وإلا فرواية جويرية عند النسائيّ من طريق عبد الله بن يزيد المقرئ عنه:"عبد الله بن عبد الله" مكبرًا، وهذا الاختلاف يدلّ على أن المكبر أصحّ كما قاله البيهقيّ، والله تعالى أعلم.
(فِي الْفِتْنَةِ) أي في أيام فتنة ابن الزبير، وفي الرواية التالية:"حين نزل الحجاج لقتال ابن الزبير"؛ أي جاء ليقاتله من قبل مروان بن الحكم، وفي رواية جويرية عند النسائيّ:"لما نزل الجيش بابن الزبير قبل أن يُقتل"، وفي رواية للبخاريّ:"ليالي نزل الجيش بابن الزبير"، وفي رواية له:"أراد ابن عمر الحجّ عام حجّ الحروريّة"، قال الحافظ: قوله في هذه الرواية: "عام حجة الحرورية"، وفي رواية الكشميهني:"حج الحرورية في عهد ابن الزبير" مغاير لقوله في "باب طواف القارن" من رواية الليث، عن نافع:"عام نزل الحجاج بابن الزبير"؛ لأن حجة الحرورية كانت في السنة التي مات فيها يزيد بن معاوية، سنة أربع وستين، وذلك قبل أن يتسمّى ابن الزبير بالخلافة، ونزول الحجاج بابن الزبير كان في سنة ثلاث وسبعين، وذلك في آخر أيام ابن الزبير، فإما أن يُحْمَل على أن الراوي أطلق على الحجاج، وأتباعه حرورية؛ لجامع ما بينهم من الخروج على أئمة الحقّ، وإما أن يُحْمَل على تعدّد القصّة. انتهى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وكان من شأن ابن الزبير أنه لما مات معاوية بن يزيد بن معاوية، ولم يستخلف، بقي الناس لا خليفة لهم جمادين، وأيامًا، من رجب، من سنة أربع وستين، فاجتمع من كان بمكة من أهل الحلّ والعقد، فبايعوا عبد الله بن الزبير لتسع ليال بقين من رجب من السنة المذكورة، واستوسق له سلطان الجحاز، والعراق، وخراسان، وأعمال المشرق، وبايع أهل الشام، ومصر مروان بن الحكم في شهر رجب المذكور، ثم لم يزل
أمرهما كذلك إلى أن توفّي مروان، وولي ابنه عبد الملك، فمنع الناس من الحجّ؛ لئلا يبايعوا ابن الزبير، ثم إنه جيّش الجيوش إلى الحجاز، وأمّر عليهم الحجّاج، فقاتل أهل مكة، وحاصرهم إلى أن تغلّب عليهم، وقتل ابن الزبير، وصلبه، وذلك يوم الثلاثاء، لثلاث ليال، وقيل: لثلاث عشرة بقيت من جمادى الآخرة، سنة ثلاث وسبعين. انتهى
(1)
.
(مُعْتَمِرًا) وفي الرواية التالية: "أراد ابن عمر الحجّ"، قال الحافظ رحمه الله: لا اختلاف بينهما؛ فإنه خرج أوّلًا يريد الحجّ، فلما ذكروا له أمر الفتنة أحرم بالعمرة، ثم قال: ما شأنهما إلا واحدًا، فأضاف إليها الحجّ، فصار قارنًا. انتهى
(2)
.
(وَقَالَ) ابن عمر بعد أن ذكروا الفتنة، ففي الرواية التالية:"أن عبد الله بن عبد الله، وسالم ابن عبد الله كلّما عبد الله حين نزل الحجّاج لقتال ابن الزبير، قالا: لا يضرّك أن لا تحجّ العام، فإنا نخشى أن يكون بين الناس قتالٌ يُحال بينك وبين البيت".
ووقع في رواية البخاريّ من طريق أيوب، عن نافع، أن القائل هو ولده عبد الله بن عبد الله، ولفظه: "قال عبد الله بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لأبيه: أقم، فإني لا آمن أن ستُصدّ عن البيت
…
".
(إِنْ صُدِدْتُ) بالبناء للمفعول (عَن الْبَيْتِ) أي منِعتُ عن الوصول إليه، وأداء النسك (صَنَعْنَا) أي هو ومن معه من أصحابه (كلمَا صَنَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه سلم -)"ما" اسم موصول؛ أي كالذي صنعناه معه صلى الله عليه وسلم، أو حرف مصدريّ؛ أي كصنعنا معه صلى الله عليه وسلم؛ يعني أنه إن صُدّ عن البيت حلّ من إحرامه، كما حلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، حين أُحصروا بالحديبية؛ إذ صدّهم المشركون عن البيت.
وقال النوويّ: وأما قوله: "صنعنا كما صنعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ": فالصواب في معناه أنه أراد إن صُدِدتُ، وحُصرت تحللت كما تحللنا عام الحديبية مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال القاضي: يَحْتَمِل أنه أراد: أُهِلّ بعمرة كما أَهلّ
(1)
"المفهم" 355/ 3، 356.
(2)
"الفتح" 5/ 53.
النبيّ صلى الله عليه وسلم بعمرة في العام الذي أُحصر، قال: ويَحْتَمِل أنه أراد الأمرين، قال: وهو الأظهر، وليس بظاهر كما ادعاه، بل الصحيح الذي يقتضيه سياق كلامه ما قدّمناه. انتهى كلام النوويّ رحمه الله.
وفي رواية جويرية: "فقال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحال كفّار قريش دون البيت، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه، وحلق رأسه، وأُشهدكم أني قد أوجبت العمرة إن شاء الله، أنطلق، فإن خُلّي بيني وبين البيت طُفت، وإن حِيل بيني وبين البيت فعلت ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا معه
…
".
(فَخَرَجَ) أي من المدينة (فَأَهَلَّ بِعُمْرةٍ) أي من ذي الحليفة، وفي الرواية التالية:"أشهدكم أني قد أوجبت عمرةً"، ومعناه: قد ألزمت نفسي ذلك، والإيجاب هنا معناه الإلزام، وإنما قال ذلك لتعليم من أراد الاقتداء به، فإن الإشهاد في مثل هذا لا يحتاج إليه، ولا التلفظ بذلك، والنية كافية في صحة الإحرام، قاله وليّ الدين رحمه الله.
وفي رواية جويرية عند البخاريّ: "فأهلّ بالعمرة من ذي الحليفة"، وفي رواية أيوب:"فأهل بالعمرة من الدار"، والمراد بالدار المنزل الذي نزله بذي الحليفة، ويَحْتَمِل أن يُحمَل على الدار التي بالمدينة، ويُجمَع بأنه أهلّ بالعمرة من داخل بيته، ثم أعلن بها، وأظهرها بعد أن استقرّ بذي الحليفة، قاله في "الفتح".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الاحتمال الثاني ضعيف، بل باطل؛ لأن رواية النسائيّ من طريق أيوب السختيانيّ، وأيوب بن موسى، وعبيد الله كلهم، عن نافع، مصرّحة بما يرّده، ولفظه: "قال: خرج عبد الله بن عمر، فلما أتى ذا الحليفة، أهلّ بالعمرة، فسار قليلًا
…
"، فظهر بهذا أن الاحتمال الذي ذكروه في تفسير الدار بداره في المدينة غير صحيح، بل الصواب أنه المنزل الذي نزله بذي الحليفة.
ومن المعروف أن ابن عمر رضي الله عنهما معروف بشدة اتباعه للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن أن يخالفه في الإحرام قبل الميقات الذي حدّده النبيّ صلى الله عليه وسلم قولًا وفعلًا، وقد قدّمنا أن الأرجح أنه لا يجوز الإحرام قبل الميقات، فالمعنى الأول هو المتعيّن هنا. فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
(وَسَارَ حَتَّى إِذَا ظَهَرَ عَلَى الْبَيْدَاءِ) بالمدّة المفازة، والجمع بِيدٌ بالكسر، وقال ابن الأثير رحمه الله: البيداء: المفازة التي لا شيء بها، وهي هنا اسم موضع مخصوص بين مكة والمدينة. انتهى
(1)
.
وفي رواية جويرية: "ثم سار ساعة، ثم قال: إنما شأنهما واحد
…
"، قال الحافظ: وهو يؤيّد الاحتمال الأول الماضي في أن المراد بالدار المنزل الذي نزله بذي الحليفة، وقال أيضًا: ولو كان إيجابه العمرة من داره التي بالمدينة لكان ما بينها وبين ظاهر البيداء أكثر من ساعة. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد عرفت آنفًا أن الاحتمال الثاني لا يصحّ، فتبصّر.
(الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: مَا أَمْرُهُمَا إِلَّا وَاحِدٌ) أي فيما يتعلّق بالإحصار، والإحلال، وقال القرطبيّ رحمه الله: أي في حكم الصدّ؛ يعني أنه من صُدّ عن البيت بعدوّ، فله أن يحلّ من إحرامه، سواء كان محرمًا بحجّ، أو عمرة، وإن كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما صُدّ عن عمرة؛ لكن لما كان الإحرام بالحجّ مساوياً للإحرام بالعمرة في الحكم حمله عليه. انتهى.
وقال النوويّ رحمه الله: فيه صحة القياس، والعمل به، وأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يستعملونه، فلهذا قاس الحجّ على العمرة؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما تحلّل من الإحصار بعمرة عام الحديبية من إحرامه بعمرة وحدها. انتهى
(2)
.
قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: ما ذكره في معنى كلام ابن عمر لا يتعيّن، فقد يكون معناه: ما أمرهما إلا واحد في إمكان الإحصار عن كلّ منهما، فكأنه كان أولًا رأى الإحصار عن الحجّ أقرب من الإحصار عن العمرة لطول زمن الحجّ، وكثرة أعماله، بخلاف العمرة، ويدلّ لهذا قوله في رواية عبيد الله بن عمر، عن نافع بعد قوله:"ما أمرهما إلا واحد": "إن حيل بيني وبين العمرة حيل بيني وبين الحجّ"، وهو في "الصحيح". انتهى
(3)
.
(أُشْهِدُكمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ الْحَجَّ مَعَ الْعُمْرَةِ) وفي رواية الليث الآتية: "قد
(1)
"النهاية" 1/ 171.
(2)
"شرح النوويّ " 8/ 213.
(3)
"طرح التثريب" 5/ 162.
أوجبتُ حجًّا مع عمرتي"؛ يعني أنه أدخل الحجّ على عمرته المتقدّمة، فصار قارنًا، وفيه حجة على جواز إدخال الحجٍ على العمرة، وهو مذهب الجمهور (فَخَرَجَ، حَتَّى إِذَا جَاءَ الْبَيْتَ طَافَ بِهِ سَبْعًا، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْو سَبْعًا) أي سعى بينهما (لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ، وَرَأَى أنهُ مُجْزِئٌ عَنْهُ) وفي رواية الليث: "ورَأَى أَنْ قَدْ قَضَى طَوَافَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، بِطَوَافِهِ الْأَوَّلِ". قال القرطبيّ رحمه الله: يعني الطواف بين الصفا والمروة، وأما الطواف بالبيت، فلا يصحّ أن يقال فيه: إنه اكتفى بطواف القدوم عن طواف الإفاضة؛ لأنه هو الركن الذي لا بدّ منه للمفرد، والقارن، ولا قائل بان طواف القدوم يُجزئ عن طواف الإفاضة بوجه. انتهى
(1)
.
وقال ابن عبد البرّ: فيه حجة لمالك في قوله: إن طواف القدوم إذا وُصل بالسعي يُجزئ عن طواف الإفاضة لمن تركه جاهلاً، أو نسيه، حتى رجع إلى بلده، وعليه الهدي، قال: ولا أعلم أحدًا قاله غيره، وغير أصحابه. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الصواب ما قاله القرطبيّ رحمه الله، من أن المراد بالطواف السعي، لا الطواف بالبيت، فإنه لا يكفي الطواف الأول عن الإفاضة، بدليل حديث جابر رضي الله عنه الصحيح، قال:"لم يطف النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافًا واحدًا، طوافه الأول". فإن هذا صريح في كون المراد بالطواف الأول في حديث ابن عمر المذكور هنا هو السعي بين الصفا والمروة، لا الطواف بالبيت، فإن جابرًا، وغيره قد نصّوا على أنه صلى الله عليه وسلم، وأصحابه أفاضوا يوم النحر، والله تعالى أعلم بالصواب.
وأما ما أطال به السنديّ نفَسَه، فلا أرى لنقله هنا وَجْهًا؛ لأن ما سبق يغني عنه، وأما استبعاده إطلاق الطواف على السعي، فعجيب منه، فإن هذا الحديث نفسه يُبطل ذلك، فإنه قال:"فطاف بالبيت، وبالصفا والمروة"، وما أكثر مثل هذه العبارة في الأحاديث الصحيحة، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وقوله: (وَأَهْدَى) وفي الرواية التالية: "فانطلق حتى ابتاع بقديد هديًا". وفي رواية البخاريّ: "وأهدى هديًا اشتراه بقُديد"، بضم القاف مصغّرًا: موضع
(1)
"المفهم "358، 3/ 357.
(2)
راجع: "الاستذكار" 12/ 85.
بين مكة والمدينة؛ يعني أنه قلّده هناك، وأشعره، ويعني به الهدي الذي وجب عليه لأجل قرانه.
وروى علي بن عبد العزيز، عن القعنبيّ، عن مالك في هذا الحديث:"وأهدى شاة"، فزاد ذكر الشاة، قال ابن عبد البرّ: وهو غير محفوظ عن ابن عمر، والدليل على غلطه أن ابن عمر كان مذهبه فيما استيسر من الهدي بقرة دون بقرة، أو بدنة دون بدنة، ذكره عبد الرزّاق عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عنه، وروى مالك، عن نافع، عن ابن عمر، قال: ما استيسر من الهدي: البدنة، والبقرة، وروي عن عمر، وا بن عبّاس، وعليّ، وغيرهم: ما استيسر من الهدي: شاة، وعليه العلماء. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [24/ 2990 و 2991 و 2992 و 2993 و 2994](1230)، و (البخاريّ) في "الحج"(1639 و 1640 و 1693 و 1708 و 1726 و 1732 و 1806 و 1808 و 1810 و 1812 و 1813) و"المغازي"(4183 و 4184 و 4185)، و (الترمذيّ) في "الحج"(913)، و (النسائيّ) في "المناسك"(2746 و 102 و 855 و 2932/ 144 و 2933) وفي "الكبرى"(3727 و 3842 و 3913 و 3914)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(3102)، و (مالك) في "الموطّأ"(808)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 229)، و (أحمد) في "مسنده"(38/ 2 و 54 و 63 و 138 و 141)، و (الدارميّ) في "سننه"(1893)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 350)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 329 - 330)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 257)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 348 و 5/ 215) و"المعرفة"(3/ 524 و 4/ 101)، والله تعالى أعلم.
(1)
راجع: "التمهيد" 15/ 190.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أن من أحصره العدوّ؛ أي منعه عن المضيّ في نسكه، سواء كان حجاً أو عمرة، جاز له التحلّل بأن ينحر هديه، ويحلق رأسه، أو يقصّر. والتحلّل بإحصار العدوّ مجمع عليه في الجملة، حكاه ابن المنذر عن كلّ من يُحفظ عنه من أهل العلم، وبه قالت الأئمة الأربعة، وإن اختلفوا في تفاصيل، وتفاريع، سيأتي توضيحها في المسائل الآتية -إن شاء الله تعالى-.
2 -
(ومنها): جواز القران، وجواز إدخال الحجّ على العمرة قبل الطواف، قال النوويّ رحمه الله: وهو مذهبنا ومذهب جماهير العلماء، وقد سبقت المسألة. انتهى.
3 -
(ومنها): أنه يجوز للحاج أن يخرج في الطريق المخوف إذا لم يتيقّن بالسوء، ورجا السلامة، وليس ذلك من إلقاء النفس إلى التهلكة.
4 -
(ومنها): أن القارن يقتصر على طواف واحد، وسعي واحد، وبه قال الجمهور، وخالف الحنفية في ذلك، فأوجبوا عليه طوافين، وسعيين، وقد تحقق ذلك، فلا تغفل.
5 -
(ومنها): أن القارن يُهْدِي كالمتمتع، وبه قال العلماء، من فضّل منهم القران على غيره، ومن جعله مرجوحًا، ومن قال بإتيان القارن بأعمال النسكين، ومن قال بالاقتصار على عمل واحد، وخالف في ذلك ابن حزم، فقال: لا هدي على القارن، والراجح قول الجمهور؛ لأن التمتع والقران معناهما واحد في اللغة، وعُرف السلف، فتشملهما آية {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في مذاهب أهل العلم في إدخال الحج على العمرة، وعكسه:
ذهب جمهور السلف والخلف إلى جواز إدخال الحج على العمرة، وهو قول الأئمة الأربعة، لكن شرطه عند أكثرهم أن يكون قبل طواف العمرة، ثم اختلفوا، فقالت الشافعيّة، والحنابلة: الشرط في صحّته أن يكون قبل الشروع في الطواف، وبه قال أشهب من المالكيّة، وصوّبه ابن عبد البرّ.
وقالت الحنفيّة: الشرط أن يكون قبل مضيّ أكثر الطواف، فمتى كان
إدخاله الحجّ على العمرة بعد مضيّ أربعة أشواط لم يصحّ.
وقال ابن القاسم: يصحّ ما لم يكمل الطواف. وعنه رواية أخرى: ما لم يركع ركعتي الطواف.
وقال القاضي أبو محمد من المالكيّة: يصحّ ما لم يكمل السعي.
فهذا مع ما تقدّم عن أشهب أربعة أقوال عند المالكية. وشذّ بعض الناس فمنع إدخال الحجّ على العمرة، وقال: لا يُدخَل إحرام على إحرام، كما لا تُدخل صلاة على صلاة، وحكاه ابن عبد البرّ عن أبي ثور، ثم نقل الإجماع على خلافه.
وأما إدخال العمرة على الحجّ فمنعه الجمهور، وهو قول مالك، والشافعيّ، وأحمد. وجوّزه أبو حنيفة، وهو قول قديم للشافعيّ، قاله وليّ الدين.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رحمه الله من جواز إدخال الحجّ على العمرة هو الحقّ عندي؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم فعله، ولم يرد نصّ يمنع عنه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في المراد بالإحصار في الحجّ والعمرة:
ذهب كثير من الصحابة، فمن بعدهم إلى أنّ الإحصار من كلّ حابس حبس الحاجّ، من عدوّ، ومرض، وغير ذلك، حتى أفتى ابن مسعود رضي الله عنه رجلًا لُدِغ بأنه محصر، أخرجه ابن جرير بإسناد صحيح عنه.
وإلى هذا القول مال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، كما بيّنه الحافظ في "الفتح"، وهو ظاهر مذهب النسائيّ، كما بيّنته في "شرحي"، وهو مذهب النخعيّ والكوفيين، فإنهم ذهبوا إلى أن الحصر الكسرُ، والمرضُ، والخوفُ.
واحتجّوا بحديث حجاج بن عمرو الأنصاريّ رضي الله عنه مرفوعًا: "من عَرَجَ، أو كُسِر، فقد حلّ، وعليه حجة أخرى"، وهو حديث صحيح، أخرجه أحمد، وأصحاب السنن، وبما رواه ابن المنذر من طريق علي بن طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} قال: من أحرم بحجّ، أو عمرة، ثم
حبس عن البيت بمرض يُجهده، أو عدوّ يَحبسه، فعليه ذبح ما استيسر من الهدي، فإن كانت حجة الإسلام، فعليه قضاؤها، وإن كانت حجة بعد الفريضة، فلا قضاء عليه.
وبما رواه عبد بن حميد، عن أبي نُعيم، عن الثوريّ، عن ابن جريج، عن عطاء، قال في قوله تعالى:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، قال: الإحصار من كلّ شيء بحسبه.
وذهب آخرون إلى أنه لا حصر إلا بالعدوّ، وصحّ ذلك عن ابن عباس، أخرجه عبد الرزاق، عن معمر، وأخرجه الشافعيّ، عن ابن عيينة، كلاهما عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:"لا حصر إلا مَن حَبَسَه عدوّ، فيحلّ بعمرة، وليس عليه حج، ولا عمرة".
وروى مالك في "الموطإ"، والشافعيّ عنه، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، قال:"من حُبس دون البيت بالمرض، فإنه لا يحلّ حتى يطوف بالبيت".
وروى مالك، عن أيوب، عن رجل من أهل البصرة، قال:"خرجت إلى مكة، حتى إذا كنت بالطريق كُسِرَت فخذي، فأرسلت إلى مكة -وبها عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، والناس- فلم يرخّص لي أحد في أن أحلّ، فأقمت على ذلك الماء تسعة أشهر، ثم حَلَلت بعمرة"، وأخرجه ابن جرير من طرق، وسمّى الرجل يزيد بن عبد الله بن الشخّير.
وبهذا قال مالك، والشافعيّ، وأحمد. قال الشافعيّ: جعل الله على الناس إتمام الحجّ والعمرة، وجعل التحلّل للمحصر رخصة، وكانت الآية في شأن منع العدوّ، فلم نَعْدُ بالرخصة موضعها.
وذهب آخرون إلى أنه لا حصر بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم، رَوَى مالك في "الموطإ" عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه:"المحرم لا يحلّ حتى يطوف"، أخرجه في" باب ما يفعل من أحصر بغيو عدو". وأخرج ابن جرير بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها، قالت:"لا أعلم المحرم يحلّ بشيء دون البيت"، وعن ابن عباس رضي الله عنهما بإسناد ضعيف، قال:"لا إحصار اليوم"، ورُوي ذلك عن عبد الله بن الزبير.
وسبب اختلافِهم في ذلك اختلافُهم في تفسير الإحصار، فالمشهور عن أكثر أهل اللغة -منهم الأخفش، والكسائيّ، والفرّاء، وأبو عبيدة، وأبو عبيد، وابن السّكِّيت، وثعلب، وابن قتيبة، وغيرهم -أن الإحصار إنما يكون بالمرض، وأما بالعدوّ، فهو الحصر، وبهذا قطع النحّاس.
وأثبت بعضهم أن أُحصِرَ، وحُصِرَ بمعنى واحد، يقال في جميع ما يمنع الإنسان من التصرّف، قال تعالى:{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} الآية [البقرة: 273]، وإنما كانوا لا يستطيعون من منع العدوّ إياهم. وأما مالك، والشافعيّ، وأحمد، ومن تبعهم، فحجتهم في أن لا إحصار إلا بالعدوّ اتفاق أهل النقل على أن الآيات نزلت في قصّة الحديبية، حين صُدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم عن البيت، فسمّى الله صدّ العدوّ إحصارًا.
وحجة الآخرين التمسك بعوم قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} . انتهى من "الفتح" بتصرّف
(1)
.
وقال الحافظ وليّ الدين رحمه الله مورد النصّ في قضية الحديبية إنما هو في الإحصار بالعدوّ، فلو أحصره مرض، منعه من المضيّ في نسك، لم يتحلّل عند الجمهور، وبه قال مالك، والشافعيّ، وأحمد، وقال أبو حنيفة: الإحصار بالمرض كالإحصار بالعدوّ، قالوا: وقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] إنما ورد في إحصار المرض؛ لأن أهل اللغة قالوا: يقال: أحصره المرض، وحصره العدوّ، فاستعمال الرباعيّ في الآية يدلّ على إرادة المرض، وما نقلوه عن أهل اللغة حكاه في "المشارق" عن أبي عبيد، وابن قتيبة، وقال القاضي إسماعيل المالكيّ: إنه الظاهر، وحكاه في "الصحاح" عن ابن السكّيت، والأخفش، قال: وقال أبو عمرو الشيبانيّ: حصرني الشيء، وأحصرني: حبسني. انتهى. فجعلهما لغتين بمعنى واحد. وقال في "النهاية": يقال: أحصره المرض، أو السلطان: إذا منعه عن مقصده، فهو محصر، وحصره: إذا حبسه، فهو محصور.
وحكى ابن عبد البرّ التفصيل المتقدّم عن الخليل، وأكثر أهل اللغة، ثم
(1)
"الفتح" 5/ 49، 50.
حكى عن جماعة أنه يقال: حصر، وأحصر بمعنى واحد في المرض، والعدوّ جميعًا، قال: واحتجّ من قال هذا من الفقهاء بقول الله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} ، وإنما أنزلت في الحديبية. انتهى.
وقال الشافعيّ رحمه الله: لم أسمع ممن حُفظ عنه من أهل العلم بالتفسير مخالفًا في أن هذه الآية نزلت بالحديبية حين أُحصر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فحال المشركون بينه وبين البيت.
وفي البخاريّ عن عطاء: الإحصار من كلّ شيء بحسبه، وممن ذهب إلى التعميم ابن حزم الظاهريّ. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الأرجح عندي قول من عمّم، كما هو مذهب الحنفية، والبخاريّ، والنسائيّ، وابن حزم، قال رحمه الله في كتابه "المُحَلَّى":
وأما الإحصار، فإن كل من عرض له ما يمنعه من إتمام حجه، أو عمرته، قارنًا كان، أو متمتعًا، من عدوّ، أو مرض، أو كسر، أو خطأ طريق، أو خطأ في رؤية الهلال، أو سَجْن، أو أيّ شيء كان فهو محصر، فإن كان اشترط عند إحرامه كما قدمنا أن محله حيث حبسه الله، فليحلّ من إحرامه، ولا شيء عليه، سواء شرع في عمل الحج، أو العمرة، أو لم يشرع بعدُ، قريبًا كان، أو بعيدًا، مضى له أكثر فرضهما، أو أقله، كلّ ذلك سواء، ولا هدي في ذلك، ولا غيره، ولا قضاء عليه في شيء من ذلك، إلا أن يكون لم يحجّ قطّ، ولا اعتمر، فعليه أن يحجّ، ويعتمر، ولا بدّ، فإن كان لم يشترط كما ذكرنا، فإنه يحلّ أيضًا، كما ذكرنا سواء سواء، ولا فرق، وعليه هدي، ولا بدّ، كما قلنا في هدي المتعة سواء سواء، إلا أنه لا يعوّض من هذا الهدي صوم، ولا غيره، فمن لم يجده فهو دَين حتى يجده، ولا قضاء عليه، إلا إن كان لم يحج قط، ولا اعتمر، فعليه أن يحج، ويعتمر. قال: قول الله تعالى هو الحجة في اللغة، والشريعة، قال تعالى:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وإنما نزلت هذه الآية في أمر الحديبية؛ إذ منع الكفّار رسول الله صلى الله عليه وسلم من إتمام عمرته، وسمى الله تعالى منع العدوّ إحصارًا، وكذلك قال البراء، وابن عمر، وإبراهيم النخعيّ، وهو في اللغة فوق أبي عبيدة، وأبي عبيد، والكسائيّ، وقال
تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} الآية [البقرة: 273]، فهذا هو منع العدوّ بلا شكّ؛ لأن المهاجرين إنما منعهم من الضرب في الأرض الكفار بلا شكّ، وبيّن ذلك تعالى بقوله:{فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فصحّ أن الإحصار، والحصر بمعنى واحد، وأنهما اسمان يقعان على كلّ مانع، من عدوّ، أو مرض، أو غير ذلك؛ أيّ شيء كان. انتهى كلام ابن حزم رحمه الله.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قرره الإمام ابن حزم رحمه الله تحقيق حسن جدًّا، وخلاصته أن الإحصار يكون بالعدوّ، والمرض، وغير ذلك مما يمنع إتمام النسك؛ لعموم الأدلّة، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): اتفقوا على أن من أحصره العدوّ؛ أي منعه عن المضيّ في نسكه، سواء كان حجًّا أو عمرة جاز له التحلل بأن ينوي ذلك، وينحر هديًا، ويحلق رأسه، أو يقصّر، وهذا مجمع عليه في الجملة، حكاه ابن المنذر عن كلّ من يحفظ عنه من أهل العلم، وبه قال الأئمة الأربعة، وإن اختلفوا في تفاصيل، وتفاريع، سنذكرها في المسائل الآتية إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): هل يشترط في جواز التحلل ضيق الوقت بحيث ييأس من إتمام نسكه إن لم يتحلّل أو لا يشترط ذلك، بل له التحلّل مع اتساع الوقت؟ لم يشترط الشافعية ذلك، وهو الذي يدلّ عليه فعله صلى الله عليه وسلم في الحديبية، فإن إحرامه إنما كان بعمرة، وهي لا يخشى فواتها، وقال المالكية: متى رَجَى زوال الحصر لم يتحلّل حتى يبقى بينه وبين الحج من الزمان ما لا يدرك فيه الحج، أَبُو زال حصره، فيحلّ حينئذ عند ابن القاسم، وابن الماجشون، وقال أشهب: لا يحلّ إلى يوم النحر، ولا يقطع التلبية حتى يروح الناس إلى عرفة.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه الشافعية هو الأرجح عندي؛ لأنه يؤيّده فعله صلى الله عليه وسلم في الحديبية، حيث تحلل مع أن وقت العمرة متسع لا يفوت، فلم ينتظر وقتاً يتمكن فيه من الأداء، بل تحلل بمجرد تحقق الإحصار له، وهو الموافق لتيسير الشارع الحكيم، وأما القول بالانتظار حتى ييأس، ففيه
إيقاع للمحرم في حرج شديد، وذلك ينافي التيسير الذي أراده تعالى لعباده، فمانه تعالى ما شَرَع التحلل للمحصر بالهدي إلا تيسيرًا عليه، وقد قال الله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} الآية [الحجّ: 78]، فإذا قلنا بوجوب الانتظار المذكور، فقد عاكسنا مراد الشارع الحكيم الرؤوف الرحيم، فتبصّر بالإنصاف. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثامنة): لم يفرّق الشافعية، والحنابلة في جواز التحلّل بين أن يكون الإحصار قبل الوقوف بعرفة، أو بعده.
وخصّ الحنفية، والمالكيّة ذلك بما إذا كان قبل الوقوف.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الأولون هو الأرجح عندي؛ لإطلاق الأدلة التي تبيح التحلل عن تقييده بشيء، فتأمله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة التاسعة): اختلفوا في أنه هل يجب على المحصر إراقة دم، أم لا؟ فقال جمهور العلماء بوجوبه، وبه قال أشهب من المالكية، وقال مالك: لا يجب، وتابعه ابن القاسم صاحبه. ثم اختلف القائلون بوجوب الدم في محلّ إراقته، فقال الشافعيّة، والحنابلة: يريقه حيث أُحصر، ولو كان من الحلّ لأنه صلى الله عليه وسلم كذلك فعل في الحديبية: ودلّ على الإراقة في الحلّ قوله: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25]، فدلّ على أن الكفار منعوهم من إيصاله إلى محله، وهو الحرم. ذكر هذا الاستدلال الشافعيّ.
وقال عطاء، وابن إسحاق: بل نحر بالحرم، وخالفهما غيرهما من أهل المغازي، وغيرهم.
وقال الحنفية: لا يجوز ذبحه إلا في الحرم، فيرسله مع إنسان، ويواعده على يوم بعينه، فإذا جاء ذلك اليوم تحلّل، ثم قال أبو حنيفة: يجوز ذبحه قبل يوم النحر، وقال صاحباه: يختصّ ذبحه في الإحصار عن الحجّ بيوم النحر، قاله وليّ الدين رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح" ما حاصله: قال الجمهور: يذبح المحصر الهدي حيث
(1)
"طرح التثريب" 5/ 160.
يحلّ سواء كان في الحلّ، أو في الحرم. وقال أبو حنيفة: لا يذبحه إلا في الحرم. وفصّل آخرون كما قاله ابن عباس: إذا كان مع المحصر هدي نحره إن كان لا يستطيع أن يبعث به، وإن استطاع أن يبعث به لم يحلّ حتى يبلغ الهدي محله. وهذا هو المعتمد.
وسبب اختلافهم في ذلك، هل نحر النبيّ صلى الله عليه وسلم الهدي بالحديبية في الحلّ، أو في الحرم؟ وكان عطاء يقول: لم ينحر يوم الحديبية إلا في الحرم، ووافقه ابن إسحاق، وقال غيره من أهل المغازي: إنما نحر في الحلّ، وروى يعقوب بن سفيان، من طريق مجمع بن يعقوب، عن أبيه، قال:"لما حُبس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه نحروا بالحديبية، وحلقوا، وبعث الله ريحًا، فحملت شعورهم، فالقتها في الحرم"، قال ابن عبد البرّ في "الاستذكار": فهذا يدلّ على أنهم حلقوا في الحلّ.
قال الحافظ: ولا يخفى ما فيه، فإنه لا يلزم من كونهم ما حلقوا في الحرم لمنعهم من دخوله أن لا يكونوا أرسلوا الهدي، مع من نحره في الحرم، وقد ورد ذلك في حديث ناجية بن جندب الأسلميّ:"قلت: يا رسول الله ابعث معي بالهدي، حتى أنحره في الحرم، ففعل"، أخرجه النسائيّ من طريق إسرائيل، عن مجزأة بن زاهر، عن ناجية، وأخرجه الطحاويّ من وجه آخر عن إسرائيل، لكن قال:"عن ناجية، عن أبيه".
لكن لا يلزم من وقوع هذا وجوبه، بل ظاهر القصّة أن أكثرهم نحر في مكانه، وكانوا في الحل، وذلك دالّ على الجواز، والله أعلم. انتهى ما في "الفتح" بتصرّف
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأرجح قول من قال بجواز التحلل في مكان الحصر، سواء كان في الحلّ، أم في الحرم إذا لم يستطع أن يبلغ به محله، فمان استطاع أن يبعث به حتى ينحر في الحرم وجب عليه أن يبعثه، كما سبق عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ الآية:{حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"الفتح" 5/ 62.
(المسألة العاشرة): اختلفوا هل يجب القضاء على المحصر إذا تحلّل، أم لا؟:
ذهب الحنفية إلى وجوبه، بل زادوا، فقالوا: إن على المحصر عن الحجّ حجة وعمرة، وعلى القارن حجة وعمرتان.
وذهبت الشافعية، والمالكية إلى أنه لا قضاء عليه، وعن أحمد بن حنبل روايتان، قالوا: فإن كان حج فرض بقي وجوبه على حاله، وبالغ ابن الماجشون، وأبعد، فقال: يسقط عنه، ورأى ذلك بمنزلة إتمام النسك على وجهه.
ونقل في "الفتح" عن الشافعيّ رحمه الله، أنه قال: لا قضاء عليه من قِبَلِ أن الله تعالى لم يذكر قضاء، والذي أعقله في أخبار أهل المغازي شبيه بما ذكرت؛ لأنّا علمنا من متواطئ أحاديثهم أنه كان معه عام الحديبية رجال معروفون، ثم اعتمر عمرة القضيّة، فتخلّف بعضهم بالمدينة من غير ضرورة في نفس، ولا مال، ولو لزمهم القضاء لأمرهم بأن لا يتخلّفوا عنه، قال: وإنما سميت عمرة القضاء، والقضيّة للمقاضاة التي وقعت بين النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبين قريش، لا على أنهم وجب عليهم قضاء تلك العمرة. انتهى.
وقد رَوَى الواقديّ في "المغازي" من طريق الزهريّ، ومن طريق أبي معشر، وغيرهما، قال:"أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يعتمروا، فلم يتخلّف منهم إلا من قتل بخيبر، أو مات، وخرج معه جماعة معتمرين ممن لم يشهد الحديبية، وكانت عدتهم ألفين". قال الحافظ: ويمكن الجمع بين هذا إن صحّ، وبين الذي قبله بأن الأمر كان على طريق الاستحباب؛ لأن الشافعيّ جازم بأن جماعة تخلفوا بغير عذر.
وقد روى الواقديّ أيضًا من حديث ابن عمر، قال:"لم تكن هذه العمرة قضاءً، ولكن كان شرطأ على قريش أن يعتمر المسلمون من قابل في الشهر الذي صدّهم المشركون فيه". انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما ذُكر أن الأرجح أنه لا يجب القضاء على المحصر؛ لعدم دليل يدلّ على ذلك، بل الأدلة بالعكس، كما تقدم في كلام الشافعيّ رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2991]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، وَهُوَ الْقَطَّانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، حَدَّثَنِي نَافِعٌ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ اللهِ، وَسَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللهِ كَلَّمَا عَبْدَ الله، حِينَ نَزَلَ الْحَجَّاجُ لِقِتَالِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَا: لَا يَضُرُّكَ أَنْ لَا تَحُجَّ الْعَامَ، فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يَكُونَ بَيْنَ النَّاسِ قِتَالٌ، يُحَالُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، قَالَ: فَإِنْ حِيلَ بَيْني وَبَيْنَهُ فَعَلْتُ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأنا مَعَهُ، حِينَ حَالَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، أشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ عُمْرَةً، فَانْطَلَقَ، حَتَّى أتى ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَلَبَّى بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ خُلِّيَ سَبِيلِي قَضَيْتُ عُمْرَتي، وَإِنْ حِيلَ بَيْني وَبَيْنَهُ فَعَلْتُ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأنَّا مَعَهُ، ثُمَّ تَلَا:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، ثُمَّ سَارَ، حَتى إِذَا كَانَ بِظَهْرِ الْبَيْدَاءِ، قَالَ: مَا أَمْرُهُمَا إِلَّا وَاحِدٌ، إِنْ حِيلَ بَيْني وَبَيْنَ الْعُمْرَةِ حِيلَ بَيْني وَبَيْنَ الْحَجِّ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ حَجَّةً مَعَ عُمْؤ
(1)
، فَانْطَلَقَ، حَتَّى ابْتَاعَ بِقُدَيْدٍ هَدْيًا، ثُمَّ طَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ لَمْ يَحِلَّ مِنْهُمَا حَتَّى حَلَّ مِنْهُمَا بِحَجَّةٍ يَوْمَ النَّحْرِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلّهم تقدّموا في الباب الماضي.
والحديث متّفق عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2929]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: أَرَادَ ابْنُ عُمَرَ الْحَجَّ
(2)
حِينَ نَزَلَ الْحَجَّاجُ بِابْنِ الزُّبَيْرِ، وَاقْتَصَّ
(1)
وفي نسخة: "مع عمرتي".
(2)
وفي نسخة: "أراد ابن عمر أن يحجّ".
الْحَدِيثَ بِمِثْلِ هَذ الْقِصَّةِ، وَقَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ كَفَاهُ طَوَاف وَاحِدٌ، وَلَمْ يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أُبُو ابْنِ نُمَيْر) هو: عبد الله بن نُمير، تقدّم قريبًا، و"ابن نمير" هنا هو: محمد بن عبد الله.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: رواية ابن نُمير، عن عبيد الله هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى" (5/ 107) فقال:
(9208)
- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو بكر بن عبد الله، أنبأ الحسن بن سفيان، ثنا محمد بن عبد الله بن نمير، ثنا أبي، ثنا عبيد الله، عن نافع، قال: أراد ابن عمر الحج حين نزل الحجاج بابن الزبير، فكلمه ابناه: سالم وعبد الله، فقالا: لا يضرُّك أن لا تحج العام، إنا نخاف أن يكون بين الناس قتال، فيحالَ بينك وبين البيت، قال: إن حيل بيني وبين البيت فعلت كما فعلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حالت كفار قريش بينه وبين البيت، فحلَقَ، ورجع، وإني أشهدكم أني قد أوجبت عمرةً، ثم خرج إلى الشجرة، فلَبَّى بعمرة، حتى إذا أشرف بظهر البيداء، قال: ما أمرهما إلا واحد، إن حيل بيني وبين العمرة حيل بيني وبين الحجّ، اشهدوا أني قد أوجبت حجة مع عمرتي، قال: وليس معه يومئذ هدي، فسار حتى بلغ قُدَيدًا ابتاع بها هديًا، فقلّده، وأشعره، وساقه معه، حتى إذا دخل مكة طاف لهما طوافًا واحدًا بالبيت، وبالصفا والمروة، وكان يقول: من جمع بين الحج والعمرة كفاه طوافٌ واحدٌ، ولم يُحِلّ حتى يَحلّ منهما جميعًا. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:.
[2993]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أخْبَرَنَا اللَّيْثُ (ح) وحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ نَافِعٍ، أنَّ ابْنَ عُمَرَ أَرَادَ الْحَجَّ، عَامَ نَزَلَ
الْحَجَّاجُ بِابْنِ الزُّبَيْرِ، فَقِيلَ لَهُ: إِن النَّاسَ كَائِنٌ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، وَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يَصُدُّوكَ، فَقَالَ:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، أَصْنَعُ كَمَا صَنَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِنَّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ عُمْرَةً، ثُمَّ خَرَجَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِظَاهِرِ الْبَيْدَاءِ قَالَ: مَا شَأْنُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِلا وَاحِدٌ، اشْهَدُوا -قَالَ ابْنُ رُمْحٍ: أُشْهِدُكُمْ- أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ حَجًّا مَعَ عُمْرَتِي، وَأَهْدَى هَدْيًا اشْتَرَاهُ بِقُدَيْدٍ، ثمَّ انْطَلَقَ يُهِل بِهِمَا جَمِيعًا، حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَطَاتَ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَنْحَرْ، وَلَمْ يَحْلِقْ، وَلَمْ يُقَصَّرْ، وَلَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ، فَنَحَرَ، وَحَلَقَ، وَرَأَى أَنْ قَدْ قَضَى طَوَافَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِطَوَافِهِ الْأوَّلِ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: كَذَلِكَ فَعَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ) بن المهاجر التجيبيّ المصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(اللَّيْثُ) بن سعد تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(قتيْبَةُ) بن سعيد، تقدّم قبل بابين.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (187) من رباعيّات الكتاب.
(ثُمَّ انْطَلَقَ يُهِلُّ بِهِمَا جَمِيعًا) أي ذهب إلى البيت يرفع صوته بالحج والعمرة معًا.
وقوله: (فَطَافَ بِالْبَيْتِ) يعني طواف القدوم، فقد حصل له ما أراده، ولم يقع له شيء مما توهّمه من الصدّ.
وقوله: (وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوةِ) أي سعى بينهما.
(وَلَمْ يَزِدْ عَلَيَّ ذَلِكَ، وَلَمْ يَنْحَرْ) هديه (وَلَمْ يَحْلِقْ) رأسه.
وقوله: (حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ)"كان " هنا تامّة، ولذا اكتفت بمرفوعها:
أي حتى جاء يوم النحر، فنحر وحلق.
(وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: كَذَلِكَ فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) يعني أنه اكتفى بالطواف بين
الصفا والمروة حين طاف للقدوم، ولم يُعِد السعي، وفيه حجة للجمهور على أبي حنيفة: إذ قال: إن القارن لا يكتفي بعمل واحد، بل لا بدّ من عمل كلّ واحد من الحجّ والعمرة، وقد تقدّم تحقيق ذلك، فلا تغفل.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2994]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، وَأَبُو كَامِلٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّاد (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ، كِلَاهُمَا عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ، بِهَذ الْقِصَّةِ، وَلَمْ يَذْكُر النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ، حِينَ قِيلَ لَهُ: يَصُدُّوكَ عَن الْبَيْتِ، قَالَ
(1)
: إِذَنْ أفعَلُ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا ذَكَرَهُ اللَّيْثُ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانيُّ) سليمان بن داود الْعَتكيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو كَامِلٍ) فضيل بن الحسين الْجحدريّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خت م دت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
3 -
(حَمَّادُ) بن زيد بن درهم البصريّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.
5 -
(إِسْمَاعِيلُ) بنً عليّة، تقدّم أيضًا قبل باب.
6 -
(أَيُوبُ) بن أبي تميمة السختيانيّ، تقدّم قريبًا.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: أما رواية حمّاد، عن أيوب، عن نافع، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله، في "صحيحه"، فقال:
(1579)
- حدّثنا أبو النعمان، حدّثنا حماد، عن أيوب، عن نافع، قال:
(1)
وفي نسخة: "يصدّونك عن البيت، فقال
…
".
قال عبد الله بن عبد الله بن عمر لأبيه: أقم، فإني لا آمنها أن ستُصَدّ عن البيت، قال: إذاً أفعلُ كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، فأنا أشهدكم أني قد أوجبت على نفسي العمرة، فأهلّ بالعمرة من الدار، قال: ثم خرج حتى إذا كان بالبيداء، أهلّ بالحج والعمرة، وقال: ما شأن الحج والعمرة إلا واحدٌ، ثم اشترى الهدي من قديد، ثم قَدِم، فطاف لهما طوافًا واحدًا، فلم يحلّ حتى حَلّ منهما جميعًا. انتهى.
وأما رواية حماد، عن أيوب، عن نافع، فقد ساقها أيضًا البخاريّ رحمه الله فقال:
(1531)
- حدّثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَية، عن أيوب، عن نافع، أن ابن عمر رضي الله عنهما، دخل ابنه عبد الله بن عبد الله، وظهره في الدار، فقال: إني لا آمن أن يكون العام بين الناس قتال، فيصدُّوك عن البيت، فلو أقمت، فقال: قد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحال كفار قريش بينه وبين البيت، فإن حيل بيني وبينه أفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، ثم قال: أشهدكم أني قد أوجبت مع عمرتي حجًّا، قال: ثم قَدِمَ، فطاف لهما طوافًا واحدًا. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(25) - (بَاب فِي الإِفْرَادِ، وَالْقِرَانِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2995]
(1231) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُوبَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَوْنٍ الْهِلَاليُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ الْمُهَلَّبِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ، فِي رِوَايَةِ يَحْيَى قَالَ: أَهْلَلْنَا مَعَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ مُفْرَدًا، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَوْنٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ البغداديّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَوْنٍ الْهِلَالِيُّ) هو: عبد الله بن عون بن أبي عون عبد الملك بن يزيد الهلاليّ، أبو محمد البغداديّ الْخَرّاز -بمعجمة، ثم مهملة، آخره زاي- أخو مُحْرِز بن عون، كان جدّه أبو عون أمير مصر، ثقةٌ عابدٌ [10].
رَوَى عن أبي إسحاق الفزاريّ، وإبراهيم بن سعد، وعباد بن عباد، وخلف بن خليفة، وشريك القاضي، وفَرَج بن فَضَالة، ومالك بن أنس، والثوري، وغيرهم.
وروى عنه مسلم، وروى له النسائيّ بواسطة أبي بكر المروزيّ، وأبو زرعة الرازيّ، وعباس الدُّوريّ، وابن أبي الدنيا، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وغيرهم.
قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل سئل قديمًا عنه، فقال: ما به بأس، أعرفه قديمًا، وجعل يقول فيه خيرًا، وقال عليّ بن الجنيد، عن ابن معين: صدوقٌ، وقال عبد الخالق بن منصور، عن يحيى: ثقةٌ، وكذا قال علي بن الجنيد، وأبو زرعة، والدارقطنيّ، وقال صالح بن محمد: ثقةٌ مأمونٌ، وكان يقال: إنه من الأبدال، ووثقه أيضًا عبد الله بن أحمد بن حنبل، وأبو شعيب الحرّانيّ، وقال البغويّ: ثنا عبد الله بن عون، وكان من خيار عباد الله، وقال في موضع آخر: وكان من الأبدال، وذكره ابن حبان في "الثقات".
قال موسى بن هارون وغيره: مات سنة اثنتين وثلاثين ومائتين في رمضان، وقيل: مات سنة إحدى، وفي "الزهرة" روى عنه مسلم خمسة أحاديث.
تفرّد به المصنّف، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط برقم (1231)، و (1718)، و (1891)، و (2043)، و (2846).
3 -
(عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ الْمُهَلَّبِيُّ) الأزديّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [7](ت 179) أو بعدها بسنة (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من عُبيد الله، والباقون بصريّون، سوى يحيى، فبغداديّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما، وقوله:(فِي رِوَايَةِ يَحْيَى) بيّن به اختلاف شيخيه، فقال يحيى في رواية (قَالَ) ابن عمر:(أَهْلَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ مُفْرَدًا) فذكره بما يعمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم والصحابة الذين كانوا معه (وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَوْنٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ بالْحَجِّ مُفْرَدًا) فذكره بما يخصّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذه الرواية عن ابن عمر رضي الله عنهما تدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم كان مفردًا بالحجّ، وقد احتجّ به من فضّل الإفراد، وهم عامّة الشافعيّة والمالكيّة، وحمله المحقّقون منهم، كالقاضي عياض، والنوويّ، والحافظ، وغيرهم على أن هذا لبيان ابتداء الحال، ثم صار قارنًا؛ فإنه لا يلزم من إهلاله بالحجّ أن لا يكون أدخل عليه العمرة.
قال النوويّ رحمه الله: قوله: "أهلّ بالحج مفردًا" هذا موافق للروايات السابقة عن جابر، وعائشة، وابن عباس وغيرهم رضي الله عنهم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج مفردًا، وفيه بيان أن الرواية السابقة قريبًا عن ابن عمر التي أخبر فيها بالقران متأوَّلةٌ، وسبق بيان تأويلها. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم أن التأويل الذي ذكره النوويّ، وتبعه الكثيرون، ومنهم الحافظ في "الفتح" يردّه حديث عمر رضي الله عنه في قصّة العقيق، فإنه لا يقبل التأويل، وهو صريح في أنه صلى الله عليه وسلم قرن من أول ما أنشأ الإحرام، فلا بدّ من تأويل ما خالف هذا من الأحاديث، وقد استوفيتُ بحثه فيما مضى،
فراجعه، تستفد علمًا جمًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [25/ 2995](1231)، و (الترمذيّ) في "الحجّ"(820)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 11 و 12 و 151)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 330)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 2 و 4)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2996]
(1232) - (وَحَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ بَكْرٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا، قَالَ بَكْرٌ: فَحَدَّثْتُ بِذَلِكَ ابْنَ عُمَرَ، فَقَالَ: لَبَّى بِالْحَجِّ وَحْدَهُ، فَلَقِيتُ أَنَسًا، فَحَدَّثْتُهُ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ أَنَسٌ: مَا تَعُدُّونَنَا إِلَّا صِبْيَانًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ) بن إبراهيم، أبو الحارث البغداديّ، مروزيّ الأصل، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 235)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.
2 -
(هُشَيْمُ) بن بَشِير بن القاسم بن دينار السلميّ، أبو معاوية ابن أبي خازم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7](ت 183) وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
3 -
(حُمَيْدُ) بن أبي حُميد الطويل، أبو عبيدة البصريّ [5](ت 2 أو 143)(ع) تقدم في "الطهارة" 23/ 639.
4 -
(بَكْرُ) بن عبد الله الْمُزَنيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ جليلٌ [3](ت 106)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 82.
5 -
(أَنَسُ) بن مالك بن النضر بن ضمضم الأنصاريّ الخزرجيّ الخادم الشهير رضي الله عنه، مات سنة (2 أو 93)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، كما أسلفته آنفًا.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخه، فبغداديّ، وهشيم فواسطيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ أنَسٍ رضي الله عنه) أنه (قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا) أي قارنًا، وهذا صريح في أنه صلى الله عليه وسلم لا زال قارنًا، وأحسن ما يُجمع به بينه وبين حديث ابن عمر رضي الله عنهما المذكور قبله أن يُحمل حديثه على تلبيته صلى الله عليه وسلم من مكة بعد أداء العمرة، وتوجهه إلى منى، أو يُحمل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يلبّي أحيانًا فيقول: لبيك حجة، فأخبر به ابن عمر رضي الله عنهما، كما كان يقول أحيانًا: لبيك حجة وعمرة، فأخبر به أنس زعنه، فتأمّل، والله تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: دلّ حديث أنس رضي الله عنه هذا في أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أحرم قارنًا، ولا يُلْتَفَت لقول من قال: إن أنسًا لعلَّه لم يضبط القضية؛ لصغره حينئذ؛ لأنه قد أنكر ذلك بقوله: "ما تعدُّونا إلا صبيانًا"، ولأنه وإن كان صغيرًا حال التحمُّل؛ فقد حدَّث به، وأدّاه كبيرًا متثبتًا ناقلًا للفظ النبي صلى الله عليه وسلم نقل الجازم المحقِّق المنكر على من يظن به شيئًا من ذلك، فلا يحلّ أن يقال شيء من ذلك، ولأنه قد وافقه البراء بن عازب رضي الله عنهما على نقل لفظ النبيّ صلى الله عليه وسلم الدَّال على قرانه؛ إذ قال لعلي:"إني سقت الهدي، وقرنت"؛ على ما خرَّجه النسائي، وهو حديث صحيح، ووافقهما حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي قال فيه:"إن الملك أتاه، فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجَّة"، وفي معنى ذلك حديث ابن عمر المتقدم الذي قال فيه: "إنه صلى الله عليه وسلم أهلّ بالعمرة،
ثم أهلّ بالحج"، وقد قدَّمنا: أن معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما: إنه صلى الله عليه وسلم أحرم بعمرة أنه أردف كما قال ابن عمر، وبدليل الإجماع من النَّقَلَة على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يحلَّ من إحرامه ذلك حتى قَضَى حجَّه.
ويمكن أن تُحْمَل رواية مَن روى أنه صلى الله عليه وسلم أفرد الحج؛ على أن الراوي سمع إردافه بالحجّ على العمرة المتقدَّمة، فسمعه يقول:"لبيك بحج"، ولم يكن عنده علم من إحرامه المتقدَّم بالعمرة.
وقد استَدَلّ من قال بتفضيل الإفراد بأن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم رأوا ذلك، وأحرموا به مدَّة ولايتهم.
والجواب: بان ذلك رأيهم، لا روايتهم، ومن نَصَّ وحَكَى حُجَّةٌ على من ظنَّ ورأى. وقد تقدَّم ذكر من قال بتفضيل القِران على الإفراد، وعمل به من الصحابة رضي الله عنهم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم تحقيق هذه المسألة في بيان الاختلاف في صفة حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم
(2)
، وأنه لا اختلاف بين هذه الأحاديث، بل هي محمولة على أوجه صحيحة، لا تعارض بينها، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان أول ما لبّى لبّى قارنًا، كما أمره الملك في وادي العقيق بذلك، ثم بعد ذلك كان يلبّي، فيقول تارةً: لبيك حجًا، وتارة يقول: لبيك عمرة، وتارةً يقول: لبيك عمرة وحجة، فسمع الصحابة هذه التلبيات المختلفة، فنقلوها كما سمعوا، فاخبروا بها، وقد صدقوا في كلّ ذلك، وذلك أن من المعلوم أن الحاجّ له أن يلبي كيف شاء، سواء كان قارنًا، أو مفردًا، أو متمتّعًا، ولا حرج عليه في صيغة معيّنة يردّدها أثناء تلبياته، بعد أن يعقد نيته على بعضها، إن شاء قال: لبيك حجة وعمرة، وإن شاء قال: لبيك حجة، وإن شاء: لبيك عمرةً، وإن شاء: لبيك اللهم لبيك دون أن يسميّ شيئًا، كما نقل كلّ هذه الأوجه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة المذكورة في "الصحيحين"، وغيرهما.
(1)
"المفهم" 3/ 358 - 360.
(2)
راجع: المسألة الخامسة من شرح الحديث رقم [17/ 2910](1211).
والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنًا، وليس مفردًا بأحدهما، وأصحّ الأدلة على ذلك وأقواها حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند البخاريّ، حيث قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: "أتاني الليلة آتٍ من ربّي، فقال: صلّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرةً في حجة"، وكان ذلك أول ما خرج من المدينة، فنزل بذي الحليفة، فهو صلى الله عليه وسلم امتثل أمر ربه من ذلك الوقت، فلم يزل قارنًا حتى أحلّ من إحراميه يوم النحر، وأما في خلال الطريق فكان يلبي على الأحوال الثلاثة التي ذُكرت في هذه الأحاديث المختلفة.
وَيحْتَمِل أن يريد من قال: أفرد الحجّ إفراده بعد أداء العمرة، وتوجهه إلى منى، فلعله سمعه يقول: لبيك حجًّا، فأخبر بذلك، فبهذا تتّفق الأحاديث دون أيّ تعارض، ودنه الحمد، والله تعالى وليّ التوفيق.
(قَالَ بَكْرُ) بن عبد الله الْمُزَنيّ (فَحَدَّثْتُ بِذَلِكَ) أي بحديث أنس رضي الله عنه (ابْنَ عُمَرَ) بن الخطاب رضي الله عنهما (فَقَالَ) ابن عمر (لَبَّى) النبيّ صلى الله عليه وسلم (بِالْحَجِّ وَحْدَهُ) أي دون أن يقرنه بالعمرة، قد عرفت أن هذا يُحْمَل على أن هذا صدر منه صلى الله عليه وسلم من مكة حينما توجه إلى منى، فلا تغفل، قال بكر:(فَلَقِيتُ أَنَسًا) رضي الله عنه (فَحَدَّثْتُهُ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ) إنه صلى الله عليه وسلم لبّى بالحجّ وحده (فَقَالَ أَنَسٌ) رضي الله عنه (مَا) نافيةٌ (تَعُدُّونَنَا إِلَّا صِبْيَانًا) أي لا نضبط ما نراه، ونسمعه، وهذا من أنس رضي الله عنه إنكار على من أنكر عليه ما حدّث به عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث قال:(سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا") أي قارنًا بينهما، قد عرفت أن هذا هو الصحيح في إهلاله صلى الله عليه وسلم من أول الأمر بعد أن جاءه الملك، فقال له:"قل: عمرةٌ في حجة"، رواه البخاريّ في "صحيحه"، وما عدا ذلك من الأحاديث، كحديث ابن عمر هذا يؤوّل بما مرّ بيانه، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [25/ 2996 و 2997](1232)، و (البخاريّ) في "المغازي"(4353 و 4354)، و (النسائيّ) في "المناسك"(5/ 150)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 41 و 53 و 79 و 99)، و (الدارميّ) في "سننه"(1931)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 40)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(7/ 178 و 10/ 61)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 330 - 331)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2997]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ الْعَيْشِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ -يَعْنِي ابْنَ زُرَيْعٍ-، حَدَّثنَا حَبِيبُ بْنُ الشَّهِيدِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثنَا أَنَسٌ رضي الله عنه أنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بَيْنَهُمَا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، قَالَ: فَسَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ، فَقَالَ: أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ، فَرَجَعْتُ إِلَى أَنَسٍ، فَأَخْبَرْتُهُ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ، فَقَالَ: كَأَنَّمَا كُنَّا صِبْيَانًا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ الْعَيْشِيُّ) أبو بكر البصريّ، صدوقٌ [10](ت 231)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
2 -
(يَزِيدُ بْنَ زُرَيْعٍ) العيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
3 -
(حَبِيبُ بْنُ الشَّهِيدِ) الأزديّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت 145)(ع) تقدم في "الصلاة" 11/ 887.
والباقيان ذُكرا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(26) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ طَوَافِ الْقُدُومِ لِلْحَاجِّ أَوَّلَ مَا قَدِمَ مَكَّةَ، وَأَنَّ الْمُعْتَمِرَ لَا يَتَحَلَّلُ قَبْلَ السَّعْي، وَأَنَّ مَنْ أَهْدَى لَا يَتَحَلَّلُ إِلَّا يَوْمَ النَّحرِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2998]
(1233) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْثَرٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ وَبَرَةَ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يصْلُحُ لِي أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ آتِيَ الْمَوْقِفَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لَا تَطُفْ بِالْبَيْتِ حَتَّى تَاتِيَ الْمَوْقِفَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَقَدْ حَجَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَطَافَ بِالْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْمَوْقِفَ، فَبِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحَقُّ أَنْ تَأْخُذَ
(1)
، أَوْ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ؟ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(عَبْثَرُ) بن القاسم الزُّبيديّ، أبو زُبيد
(2)
الكوفيّ، ثقةٌ [8](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 48/ 305.
3 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ) البجليّ الأحمسيّ مولاهم، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 299.
4 -
(وَبَرَةُ) -بالموحّدة المحرّكة- ابن عبد الرحمن الْمُسْليّ -بضمّ أوله، وسكون المهملة، بعدها لام- أبو خزيمة، ويقال: أبو العبّاس الكوفيّ، ويقال: إنه حارثيّ، ثقةٌ [4].
رَوَى عن ابن عباس، وابن عمر، وأبي الطُّفيل، وعامر بن عبد الله بن الزبير، والشعبيّ، وسعيد بن جبير، وهمام بن الحارث، وغيرهم.
(1)
وفي نسخة: "أن نأخذ".
(2)
بضم الزاي في الموضعين.
ورَوَى عنه إسماعيل بن أبي خالد، وبيان بن بشر، وأبو إسحاق السبيعيّ، والأعمش، والعلاء بن زهير الأزديّ، ومِسْعَر بن كِدَام، وغيرهم.
قال ابن معين، وأبو زرعة: ثقةٌ، وقال العجليّ: كوفيّ، تابعيّ، ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد: تُوُفي في ولاية خالد بن عبد الله القسريّ على الكوفة، وكذا قال الهيثم بن عديّ، وخليفة، وزاد: سنة ست عشرة ومائة.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وأعاده بعده.
و (ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما) ذكر في السند الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، والصحابيّ، فمدنيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ: إسماعيل، عن وَبَرَة، بل هو من رواية الأقران؛ لأن كليهما من الطبقة الرابعة.
5 -
(ومنها): أن وَبَرَة بفتحات لا يوجد في الكتب الستة غيره، وغير وَبَرَة الحارثيّ والد كرز الكوفي، مستور من الطبقة السادسة، عند النسائيّ، وأبي داود في "المراسيل"، وأما "وَبْر" بفتح، فسكون فهو بدون تاء التأنيث، وهو: ابن دُليلة بالتصغير، واسمه مسلم الطائفيّ، ثقةٌ من السابعة عند أبي داود، والنسائيّ، وابن ماجه.
6 -
(ومنها): أن فيه ابن عمر رضي الله عنهما من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ وَبَرَةَ) بفتحات أنه (قَالَ: كنْتُ جَالِسًا عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (فَجَاءَهُ
رَجُلٌ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفه. انتهى
(1)
. (فَقَالَ: أَيَصْلُحُ لِي أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ آتِيَ الْمَوْقِفَ) أي موقف عرفة (فَقَالَ) ابن عمر رضي الله عنهما (نَعَمْ) وفي الرواية التالية: "قال: وما يمنعك؟ "(فَقَالَ) الرجل السائل (فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لَا تَطُفْ بِالْبَيْتِ حَتَّى تَأْتِيَ الْمَوْقِفَ) زاد في الرواية التالية: "وأنت أحبّ إلينا منه، رأيناه قد فتنته الدنيا، فقال: وأينا لم تفتنة الدنيا؟ (فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما (فَقَدْ حَجَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي الرواية التالية: "رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم بالحجّ" (فَطَافَ بِالْبَيْتِ) زاد في الرواية التالية: "وسعى بين الصفا والمروة" (قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْمَوْقِفَ) يعني أنه صلى الله عليه وسلم ابتدأ بالطواف والسعي قبل خروجه إلى منى وعرفة (فَبِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحَق أَنْ تَأْخُذَ) بتاء الخطاب، وفي بعض النسخ: "أن نأخذ" بنون المتكلّم (أَوْ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (إِنْ كُنْتَ صَادِقًا) وفي الرواية التالية: "فسنة الله، وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم أحقُّ أن تتبع من سنة فلان، إن كنت صادقًا"، قال النوويّ رحمه الله: قوله: "إن كنت صادقًا" معناه: إن كنت صادقًا في إسلامك، واتباعك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تعدل عن فعله، وطريقته إلى قول ابن عباس، وغيره. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إن كنت صادقًا" ورَعٌ منه لئلا يذكر ابن عباس بشيء ما ثبت عنه.
ويمكن أن يُحمل إطلاق فتيا ابن عباس على الْمُرَاهَق
(3)
، فإنه لا يُخاطب بطواف القدوم، أو يكون ابن عباس سئل عن طواف الإفاضة، فأجاب بأنه لا يفعل إلا بعد الوقوف، وهو الحقّ. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا التأويل الذي ذكره القرطبيّ فيه نظر لا يخفى، فإن الروايات التي سنذكرها في المسألة الرابعة لا توافق التأويل المذكور، فإن ابن عباس رضي الله عنهما كان يقول: إذا طاف المحرم بالبيت قبل الوقوف حلّ من إحرامه، فهذا صريح في كونه لا يرى طواف القدوم، وقد خالف بذلك
(1)
"تنبيه المعلم"(ص 219).
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 218.
(3)
بصيغة اسم المفعول، وهو الذي ضاق عليه الوقت بالتأخير، حتى يخاف فوت الوقوف بعرفة. أفاده في "النهاية" 2/ 274.
الجمهور، وقولهم الصواب، كما سيأتي هناك -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [26/ 2998 و 2999](1233)، و (النسائيّ) في "المناسك"(5/ 224)، وفي "الكبرى"(3905)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 6 و 56)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 304)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 331)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 78)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب الطواف أول ما يقدم الحاجّ مكة، وهو المسمى بطواف القدوم، وهو مذهب الجمهور، وخالف في ذلك ابن عباس رضي الله عنهما، وسيأتي تحقيق الخلاف مستوفًى في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى-.
2 -
(ومنها): أن الواجب على المسلم إذا أفتاه عالم بخلاف السنة أن يتبع السنة، ويَدَعَ فتوى العالم؛ أيًّا كان ذلك العالم، فإن الحقّ أحقّ أن يتّبع.
3 -
(ومنها): أن العالم قد يقع في مخالفة السنة أحيانًا، لا قصدًا للمخالفة، وإنما هو لعدم وصولها إليه، أو لتأويله إياها على ما يراه من المعاني، ولكن لا يجوز لمن وصلت إليه، وعلمها، بأن بيّن له عالم غيره بأن وجه الصواب كذا أن يقلّده في ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في استحباب طواف القدوم:
(اعلم): أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يذهب إلى أن من لم يسق الهدي، وأهلّ بالحجّ إذا طاف يحلّ من حجه، وأن من أراد أن يستمرّ على حجه لا يقرب البيت حتى يرجع من عرفة، وكان يأخذ ذلك من أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم لمن لم يسق الهدي من أصحابه أن يجعلوها عمرة، فقد أخرج البخاريّ في "باب حجة
الوداع" في أواخر "المغازي" من طريق ابن جريج، حدّثني عطاء، عن ابن عباس، قال: إذا طاف بالبيت، فقد حلّ، فقلت: من أين؟ قال: هذا ابن عباس قال: من قوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحجّ: 33]، ومن أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يَحِلّوا في حجة الوداع، قلت: إنما كان ذلك بعد الْمُعَزَف، قال: كان ابن عباس يراه قبلُ وبعدُ.
وهذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنهما خالفه فيه الجمهور، ووافقه فيه ناس قليل، منهم إسحاق ابن راهويه.
وذهب الجمهور إلى أن من أهلّ بالحجّ مفردًا لا يضرّه الطواف بالبيت، أفاده في "الفتح"
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: سؤال السائل لابن عمر -يعني المذكور في حديث الباب- إنما كان عن طواف القدوم، هل يؤخّر إلى أن يوقف بعرفة؟ فأجابه بمنع ذلك، وهو الصحيح الذي لا يُعلم من مذاهب العلماء غيره، وما حكاه هذا الرجل عن ابن عباس لا يُعرف من مذهبه، وكيف وهو أحد الرواة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بدأ بالطواف عند قدومه مكة.
وقد حمل بعض متأخري العلماء هذا السؤال على أنه فيمن أحرم بالحجّ من مكة، هل يطوف طواف القدوم قبل أن يخرج إلى عرفات؟ قال: فمذهب أبي حنيفة، والشافعيّ أنه يطوف حين يُحرم، كما قال ابن عمر، قال: والمشهور من مذهب أحمد أنه لا يطوف حتى يخرج إلى منى، وعرفات، ثم يرجع، ويطوف، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، وعن أحمد رواية كمذهب ابن عمر رضي الله عنهما. انتهى كلام القرطبيّ
(2)
.
وقال النوويّ: هذا الذي قاله ابن عمر رضي الله عنهما هو إثبات طواف القدوم للحاج، وهو مشروع قبل الوقوف بعرفات، وبهذا الذي قاله ابن عمر قال العلماء كافّة، سوى ابن عباس، وكلهم يقولون: إنه سنة، ليس بواجب، إلا بعض أصحابنا، ومن وافقه، فيقولون: واجب يجبر تركه بالدم، والمشهور أنه سنة، ليس بواجب، ولا دمَ في تركه، فإن وقف بعرفات قبل طواف القدوم
(1)
راجع: "الفتح" 4/ 546.
(2)
"المفهم" 3/ 360.
فات، فإن طاف بعد ذلك بنيّة طواف القدوم لم يقع عن طواف القدوم، بل يقع عن طواف الإفاضة إن لم يكن طاف للإفاضة، فإن كان طاف للإفاضة وقع الثاني تطوعًا، لا عن القدوم، ولطواف القدوم أسماء: طواف القدوم، والقادم، والورود، والوارد، والتحيّة، وليس في العمرة طواف قدوم، بل الطواف الذي يفعله فيها يقع ركنًا لها، حتى لو نوى به طواف القدوم وقع ركنأ، ولغت نيته، كما لو كان عليه حجة واجبة، فنوى حجة تطوّع، فإنها تقع واجبة، والله أعلم. انتهى
(1)
.
قمال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه الجمهور من مشروعية طواف القدوم للحاجّ هو الحقّ؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم أول شيء بدءوا به هو الطواف بالبيت، كما قال ابن عمر رضي الله عنهما، والله سبحانه وتعالى قال:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2999]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ بَيَانٍ، عَنْ وَبَرَةَ، قَالَ: سَأَلَ رَجُل ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَقَدْ أَحْرَمْتُ بِالْحَجِّ؟ فَقَالَ: وَمَا يَمْنَعُكَ؟ قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ ابْنَ فُلَانٍ يَكْرَهُهُ، وَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْهُ، رَأَيْنَاهُ قَدْ فَتَنَتْهُ الدُّنْيَا
(2)
، فَقَالَ: وَأَيُّنَا، أَوْ أَيُّكُمْ لَمْ تَفْتِنْهُ الدُّنْيَا؟ ثُمَّ قَالَ: رَأَيْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، وَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوةِ، فَسُنَّةُ اللهِ، وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَحَقُّ أَنْ تَتَّبعَ
(3)
مِنْ سُنَّةِ فُلَانٍ، إِنْ كُنْتَ صَادِقًا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب.
2 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم قريبًا.
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 217، 218.
(2)
وفي نسخة: "وقد أفتنته".
(3)
وفي نسخة: "أن نتّبع".
3 -
(بَيَانُ) بن بشر الأحمسيّ، أبو بشر الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [5](ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 47/ 1891.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (رَأَيْتُ ابْنَ فُلَانٍ يَكْرَهُهُ) يريد ابن عبّاس رضي الله عنهما.
وقوله: (رَأَيْنَاهُ قَدْ فَتَنَتْهُ الدُّنْيَا) تعليل لكون ابن عمر أحبّ إليهم من ابن فلان؛ أي لأنا رأيناه فتنته الدنيا؛ لأنه تولى منصبها، وأنت لم تفتنك؛ لأنك لم تتولّ ذلك.
قال النوويّ رحمه الله: ومعنى "فتنته الدنيا": لأنه تولّى البصرة، والولايات محلّ الخطر والفتنة، وأما ابن عمر رضي الله عنهما فلم يتولّ شيئًا.
وقوله أيضًا: (فَتَنَتْهُ الدُّنْيَا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا في كثير من الأصول: "فتنته الدنيا"، وفي كثير منها، أو أكثرها:"أفتنته"، وكذا نقله القاضي عن رواية الأكثرين، وهما لغتان صحيحتان:"فَتَنَ"، و"أفتن"، والأولى أصحّ، وأشهر، وبها جاء القرآن، وأنكر الأصمعيّ: أفتن. انتهى
(1)
.
وقوله: (وَأُيُّنَا، أَوْ أَيُّكُمْ لَمْ تَفْتِنْهُ الدُّنْيَا) وفي بعض النسخ: "وأيّنا، أو قال: وأيّكم"، وكلاهما صحيح.
وهذا القول قاله ابن عمر رضي الله عنهما ردًّا على طعن الرجل على ابن عبّاس رضي الله عنه بولايته، حيث اعتبرها فتنةً، فرد عليه ابن عمر قائلًا:"وأينا لم تفتنة الدنيا"، وهذا من زهده، وتواضعه، وإنصافه رضي الله عنه، قاله النوويّ رحمه الله.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى بيان مسائله في الذي قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3000]
(
…
)
(2)
- (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 218.
(2)
قال الجامع عفا الله عنه وعن والديه: هذا الحديث نهاية الألف الثالث، وقد انتهيت منه -بحمد الله تعالى وتوفيقه- قبل المغرب يوم السبت 23/ 2/ 1429 هـ
عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: سَأَلْنَا
(1)
ابْنَ عُمَرَ عَنْ رَجُلٍ قَدِمَ بِعُمْرَةٍ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةٍ، أَيَأْتِي امْرَأَتَهُ؟ فَقَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْو سَبْعًا، وَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.
2 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم قريبًا.
3 -
(عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ) تقدّم أيضًا قريبًا.
و (ابن عمر رضي الله عنهما) ذُكر قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (188) من رباعيّات الكتاب.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، وهو مدنيّ، وشيخه نسائيّ، ثم بغداديّ، والباقيان مكيّان.
شرح الحديث:
(عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ) وفي رواية للبخاريّ: "حدّثنا عمرو بن دينار"(قَالَ: سَأَلْنَا) وفي نسخة: "سألتُ"(ابْنَ عُمَرَ) رضي الله عنهما (عَنْ رَجُلٍ) أي حكم عمل رجل
= الموافق 1 / مارس 2008 م، وكانت المدّة التي بين نهاية الألف الثاني، ونهاية الألف الثالث سنة كاملةً وستة أشهر، وذلك لأني انتهيت من الألف الثاني، ودخلت في الثالث 25/ 8/ 1427 هـ وهذا من عظيم فضل الله تعالى عليّ، وحسن توفيقه، الحمد لله ربّ العالمين، الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه، مباركًا عليه، كما يحبّ ربنا ويرضى، سبحانك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك، وأتوب إليك.
(1)
وفي نسخة: "سألت".
(قَدِمَ) بكسر الدال، يقال: قَدِمَ من سفره، كعَلِمَ قُدُومًا، وقِدْمانًا بالكسر: آب، أي رجع، فهو قادم
(1)
، والمعنى أتى ذلك الرجل مكة قادمًا من بلده (بِعُمْرَةٍ) أي مهلًّا، وملبّيًا بعمرة (فَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) أي لم يسع، قال في "الفتح": وإطلاق الطواف على السعي إما للمشاكلة، وإما لكونه نوعًا من الطواف، ولوقوعه في مصاحبة طواف البيت. انتهى
(2)
.
(أَيَأْتِي امْرَأَتَهُ؟) أي هل حلّ من إحرامه حتى يجوز له أن يجامع أهله؟؛ لتحلّله بالطواف، أم ما زال على إحرامه حتى يسعى بين الصفا والمروة؟، وإنما خصّ إتيان المرأة بالذكر مع أن سائر محرّمات الإحرام كذلك؛ لأنه أعظم المحزمات في الإحرام
(3)
. (فَقَالَ) ابن عمر رضي الله عنهما (قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي مكة (فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْو سَبْعًا) أي سعى بينهما سبعة مرّات (وَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ إُسْوَةٌ) بكسر الهمزة، وضمّها: أي قدوة (حَسَنَةٌ) قال النوويّ رحمه الله: معناه: لا يحلّ له ذلك؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يتحلل من عمرته حتى طاف وسعى، فتجب متابعته، والاقتداء به، وهذا الحكم الذي قاله ابن عمر رضي الله عنهما هو مذهب العلماء كافّةً، وهو أن المعتمر لا يتحلل إلا بالطواف، والسعي، والحلق، إلا ما حكاه القاضي عياض، عن ابن عباس، وإسحاق ابن راهويه، أنه يتحلل بعد الطواف، وإن لم يَسْعَ، وهذا ضعيف، مخالف للسنة. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(4)
.
[تنبيه]: زاد في رواية البخاريّ في آخر الحديث ما نصّه: "قال: وسألنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، فقال: لا يقربنها حتى يطوف بين الصفا والمروة"، والقائل:"وسألنا إلخ" هو عمرو بن دينار، وقوله:"لا يقربنّها" بنون التوكيد، والمراد نهي المباشرة بالجماع، ومقدّماته، لا مجرّد القرب منها.
قال في "الفتح": أجابهم ابن عمر رضي الله عنهما بالإشارة إلى وجوب اتباع النبيّ صلى الله عليه وسلم، لا سيّما في أمر المناسك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لتأخذوا عني مناسككم"
(5)
، وأجابهم
(1)
"القاموس المحيط" 4/ 162.
(2)
"الفتح" 5/ 36.
(3)
راجع: "الفتح" 2/ 118، كتاب الصلاة، رقم (396).
(4)
"شرح النوويّ" 8/ 219.
(5)
رواه مسلم.
جابر رضي الله عنه بصريح النهي، وعليه جمهور الفقهاء، وخالف فيه ابن عبّاس رضي الله عنهما، فأجاز للمعتمر التحلّل بعد الطواف، وقبل السعي، قاله في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [26/ 3000 و 3001](1234)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(395) و"الحجّ"(1623 و 1645 و 1627 و 1645 و 1793)، و (النسائيّ) في "المناسك"(5/ 225 و 235 و 237) و"الكبرى"(2/ 398 و 408)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(2959)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 294 و 298)، و (أحمد) في "مسنده"(15/ 2 و 85 و 152 و 3/ 309)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2760)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 477 و 9/ 10)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 305)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 332)، و (الطبرا نيّ) في "الكبير"(12/ 449)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 97) و"المعرفة"(4/ 83)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب طواف القدوم لكلّ من قدم مكة للنسك أول قدومه.
2 -
(ومنها): بيان وجوب السعي بين الصفا والمروة في العمرة.
3 -
(ومنها): أنه لا يتحلّل المعتمر من عمرته إلا بعد الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، وهذا مذهب الجمهور، وقد خالف ابن عبّاس رضي الله عنهما، فأجاز التحلّل قبل السعي، والحقّ ما عليه الجمهور؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يتحلّل من عمرته إلا بعد الطواف والسعي، وقد قال:"لتأخذوا عني مناسككم"، رواه مسلم.
4 -
(ومنها): وجوب الاقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم في جميع الأحوال، ولا سيّما في المناسك؛ للحديث المذكور.
(1)
"الفتح" 2/ 118، كتاب الصلاة، رقم (396).
5 -
(ومنها): بيان استحباب أداء ركعتي الطواف خلف مقام إبراهيم عليه السلام، وذهب بعضهم إلى وجوب أدائهما خلفه؛ محتجًّا بالأمر في قوله تعالى:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ، والجمهور على الاستحباب.
وقال في "الفتح": في الحديث أن السعي واجب في العمرة، وكذا صلاة ركعتي الطواف، وفي تعيينهما خلف المقام خلفٌ، قال: ونَقَل ابن المنذر الاتفاق على جوازهما في أيّ موضع شاء الطائف، إلا أن مالكًا كَرِههما في الْحِجْر، ونقل بعض أصحابنا عن الثوريّ أنه كان يُعَيَّنهما خلف المقام. انتهى
(1)
.
قال في موضع آخر: وهذا بناءٌ على أن المراد بمقام إبراهيم الحجر الذي فيه أثر قدميه، وهو موجود إلى الآن، وقال مجاهد: المراد بمقام إبراهيم الحرم كلّه، والأول أصحّ، وقد ثبت دليله عند مسلم من حديث جابر رضي الله عنه. انتهى.
[فائدة]: رَوَى الأزرقي في "أخبار مكة" بأسانيد صحيحة أن المقام كان في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما في الموضع الذي هو فيه الآن، حتى جاء سيل في خلافة عمر رضي الله عنه، فاحتمله حتى وُجد بأسفل مكة، فأُتي به، فرُبط إلى أستار الكعبة، حتى قَدِمَ عمر، فاستثبت في أمره، حتى تحقّق موضعه الأول، فأعاده إليه، وبَنَى حوله، فاستقرّ ثَمّ إلى الآن، ذكره في "الفتح"
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3001]
(
…
) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زيدٍ (ح) وَحَدَّثنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، جَمِيعًا عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانيُّ) سليمان بن داود، تقدّم قبل بابين.
2 -
(حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) تقدّم أيضًا قبل بابين.
(1)
"الفتح" 5/ 36، كتاب العمرة، رقم (1793).
(2)
"الفتح" 2/ 117، كتاب الصلاة، رقم (395).
3 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسيّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ) الْبُرْسانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: رواية حماد بن زيد، عن عمرو هذه، ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" (2/ 305) فقال:
(3214)
- حدّثنا يوسف، نا سليمان بن حرب، نا حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت ابن عمر سئل عن شيء من أمر الصفا والمروة، فقال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطاف بالبيت سبعًا، وصلى خلف المقام ركعتين، وطاف بين الصفا والمروة سبعًا، و {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} . انتهى.
وأما رواية ابن جريج، عن عمرو، فقد ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى" (5/ 97) فقال:
(9145)
- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا يحيى بن أبي طالب، أنبأ عبد الوهاب بن عطاء، أنبأ ابن جريج، عن عمرو بن دينار، أن رجلًا سأل ابن عمر رضي الله عنهما، أيصيب الرجل من امرأته قبل أن يطوف بين الصفا والمروة؟ فقال: أما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد طاف بالبيت، ثم ركع ركعتين، ثم طاف بين الصفا والمروة، ثم تلا:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} . انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3002]
(1235) - (حَدَّثَنِي
(1)
هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ رَجُلًا
(1)
وفي نسخة: "وحدّثني".
مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، قَالَ لَهُ: سَلْ لِي عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ عَنْ رَجُلٍ يُهِلُّ بِالْحَجِّ، فَإِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ أَيَحِلُّ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قَالَ لَكَ: لَا يَحِلُّ، فَقُلْ لَهُ: إِنَّ رَجُلًا يَقُولُ ذَلِكَ، قَالَ: فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: لَا يَحِلُّ مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ إِلَّا بِالْحَجِّ، قُلْتُ: فَإِنَّ رَجُلًا كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ، قَالَ: بِئْسَمَا قَالَ، فَتَصَدَّاني الرَّجُلُ، فَسَأَلَنِي، فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ: فَقُلْ لَهُ: فَإِنَّ رَجُلًا كَانَ يُخْبِرُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَمَا شَأْنُ أَسْمَاءَ وَالزُّبَيْرِ قَدْ فَعَلَا ذَلِكَ؟ قَالَ: فَجئْتُهُ، فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي، قَالَ: فَمَا بَالُهُ؟ لَا يَأْتَينِي بِنَفْسِهِ
(1)
يَسْأَلُنِي، أَظنُهُ عِرَاقِيًّا، قُلْتُ: لَا أَدْرِي، قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ كَذَبَ، قَدْ حَجَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَتْني عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ، أَنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ، فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ، ثُمَّ عُمَرُ مِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ حَجَّ عُثْمَانُ، فَرَأَيْتُهُ أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ، ثُمَّ مُعَاوِيَةُ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِي الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ، ثُمَّ آخِرُ مَنْ رَأَيْتُ فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ، ثُمَّ لَمْ يَنْقُضْهَا بِعُمْرَةٍ، وَهَذَا ابْنُ عُمَرَ عِنْدَهُمْ، أفَلَا يَسْأَلُونَهُ؟ وَلَا أَحَدٌ مِمَّنْ مَضَى مَا كَانُوا يَبْدَءُونَ بِشَيْءٍ حِينَ يَضَعُونَ أَقْدَامَهُمْ أَوَّلَ مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَا يَحِلُّونَ، وَقَدْ رَأَيْتُ أُمِّي، وَخَالَتِي، حِينَ تَقْدَمَانِ لَا تَبْدَآنِ بِشَيْءٍ أَوَّلَ مِنَ الْبَيْتِ، تَطُوفَانِ بِهِ، ثُمَّ لَا تَحِلَّانِ، وَقَدْ أَخْبَرَتْنِي أُمِّي، أَنَّهَا أَقْبَلَتْ هِيَ وَأُخْتُهَا، وَالزُّبَيْرُ، وَفُلَانٌ، وَفُلَانٌ، بِعُمْرَةٍ قَطُّ، فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا، وَقَدْ كَذَبَ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ).
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ) السعديّ مولاهم، أبو جعفر نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253) عن (83) سنةً (م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.
(1)
وفي نسخة: "نفسه".
2 -
(ابْنُ وَهْب) عبد الله القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ حافظٌ عابد فقيهٌ [9](ت 197) عن (72) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ [7] مات قبل (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن نوفل الأسديّ، أبو الأسود يتيم عروة المدنيّ، ثقةٌ [6] مات سنة (131)(ع) تقدم في "الطهارة" 9/ 573.
5 -
(عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
6 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، كما مرّ آنفًا.
3 -
(ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالمصريين، والثاني بالمدنيين.
4 -
(ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، وعروة من الفقهاء السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن نوفل الملقّب بيتيم عروة؛ لأن أباه أوصى به إلى عروة عند موته (أَنَّ رَجُلًا) لم يُعرف
(1)
(مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ) البلد المعروف (قَالَ لَهُ) أي لمحمد بن عبد الرحمن (سَلْ لِي عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ عَنْ رَجُلٍ يُهِلُّ) بضمّ أوله، من الإهلال، وهو رفع الصوت بالتلبية (بِالْحَجِّ، فَإِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ أَيَحِلُّ) الهمزة للاستفهام الاستخباريّ، و"يحلّ" تقدّم أنه بفتح أوله، وضمّه، من الحلّ، ثلاثيًّا، أو من الإحلال رباعيًّا (أَمْ لَا؟) أي أم لا يحلّ إلا باداء الحج (فَإِنْ قَالَ لَكَ) جوابًا (لَا يَحِلُّ) إلا بأداء الحجّ (فَقُلْ لَهُ: إِنَّ رَجُلًا) هو ابن عبّاس رضي الله عنهما (يَقُولُ ذَلِكَ) أي يقول: إنه يحلّ بالطواف.
[تنبيه]: قال في "الفتح": الرجل الذي سأل لم أقف على اسمه، وقوله:
(1)
"تنبيه المعلم" ص 220.
"إن رجلًا يقول ذلك" عَنَى به ابنَ عباس رضي الله عنهما، فإنه كان يذهب إلى أن من لم يسق الهدي، وأهلّ بالحج إذا طاف يحلّ من حجه، وأن من أراد أن يستمرّ على حجه لا يَقْرَبُ البيتَ حتى يرجع من عرفة، وكان يأخذ ذلك من أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم لمن لم يسق الهدي من أصحابه أن يجعلوها عمرةً، وقد أخرج البخاريّ ذلك في "باب حجة الوداع" في أواخر "المغازي" من طريق ابن جريج، حدّثني عطاء، عن ابن عباس، قال: إذا طاف بالبيت، فقد حَلَّ، فقلت: من أين؟ قال: هذا ابن عباس قال: من قوله سبحانه: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33]، ومن أمْر النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يحلوا في حجة الوداع، قلت: إنما كان ذلك بعد ذلك الْمُعَرَّف، قال: كان ابن عباس يراه قبلُ وبعدُ.
وأخرجه مسلم من وجه آخر، عن ابن جريج بلفظ: كان ابن عباس يقول: لا يطوف بالبيت حاجّ ولا غيره إلا حلّ، قلت لعطاء: من أين تقول ذلك؟ فذ كره.
ولمسلم من طريق قتادة: سمعت أبا حسان الأعرج قال: قال رجل لابن عباس: ما هذه الْفُتْيَا أن من طاف بالبيت فقد حلّ؟ فقال: سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، وإن رَغِمتم. وله من طريق وَبَرَة بن عبد الرحمن، قال: كنت جالسًا عند ابن عمر، فجاءه رجل، فقال: أيصلح لي أن أطوف بالبيت قبل أن آتي الموقف؟ فقال: فعم، فقال: فإن ابن عباس يقول: لا تطف بالبيت حتى تأتي الموقف، فقال ابن عمر: قد حج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطاف بالبيت قبل أن يأتي الموقف، فبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أحقّ أن نأخذ، أو بقول ابن عباس؟ إن كنت صادقًا.
وإذا تقرَّر ذلك، فمعنى قوله في حديث أبي الأسود: قد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك؛ أي أمر به، وعُرِف أن هذا مذهب لابن عباس، خالفه فيه الجمهور، ووافقه فيه ناس قليل، منهم إسحاق ابن راهويه، وعُرِف أن مأخذه فيه ما ذُكِرَ، وجواب الجمهور أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يفسخوا حجهم، فيجعلوه عمرةَ، ثم اختلفوا، فذهب الأكثر إلى أن ذلك كان خاصًّا بهم، وذهب طائفة إلى أن ذلك جائزٌ لمن بعدهم، واتفقوا كلهم أن من أهل بالحجّ مفردًا لا يضرّه الطواف بالبيت، وبذلك احتجّ عروة بأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالطواف، ولم يحلّ من
حجه، ولا صار عمرة، وكذا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. انتهى ما في "الفتح"
(1)
، وهو بحث مفيدٌ جدًّا.
(قَالَ) محمد بن عبد الرحمن (فَسَأَلْتُهُ) أي عروة (فَقَالَ) عروة (لَا يَحِلُّ مَنْ أَهَلَّ) أي أحرم (بِالْحَجِّ إِلَّا بِالْحَجِّ) أي إلا بأداء أفعال الحج المطلوب أداء قبل التحلّل (قُلْتُ: فَإِنَّ رَجُلًا كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ) أي يرى التحلّل بالطواف (قَالَ) عروة (بِئْسَمَا قَالَ) أي بئس القول قوله هذا؛ حيث خالف المشروع (فَتَصَدَّانِي الرَّجُلُ) أي تعرَّض لي، هكذا هو في جميع النسخ بالنون، والأشهر في اللغة: تَصَدَّى لي باللام، قاله النوويّ رحمه الله
(2)
. (فَسَأَلَنِي) أي عما أجاب به عروة (فَحَدَّثْتُهُ) أي الرجل بجواب عروة (فَقَالَ: فَقُلْ لَهُ: فَإِنَّ رَجُلًا كَانَ يُخْبِرُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ) أي التحلّل بالطواف، وتقدّم أن ابن عبّاس رضي الله عنهما أخذه من الآية {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ، ومن أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم من لم يُهد من أصحابه بفسخ الحجّ إلى العمرة، ولكن هذا غير مقبول، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يقل لهم: إن مجرد الطواف يتحلّل به الحاجّ، وإنما أمرهم أن يجعلوها عمرةً، لا أنها تكون عمرة بنفس الطواف، فلا يجوز الاستدلال صحيحًا، ولعلّ هذا هو سبب تكذيب عروة لهذا القول في كلامه الآتي، والله تعالى أعلم.
(وَمَا شَأنُ أَسْمَاءَ وَالزُّبَيْرِ) رضي الله عنهما (قَدْ فَعَلَا ذَلِكَ؟ قَالَ) محمد بن عبد الرحمن (فَجِئْتُهُ) أي عروة (فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ) أي ما قاله الرجل (فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟) أي السائل (فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي) أي لا أعرف اسمه (قَالَ: فَمَا بَالُهُ؟ لَا يَأْتِينِي بِنَفْسِهِ) وفي نسخة: "نفسُهُ"، وهو توكيد للفاعل، كما قال في "الخلاصة":
بِـ "النَّفْسِ" أَوْ بِـ "الْعَيْنِ" الاسْمُ أُكِّدَا
…
مَعَ ضَمِيرٍ طَابَقَ الْمُؤَكَّدَا
(يَسْأَلُنِي) أي عما أشكل عليه، وهذا فيه أن من أدب السائل أن يتولّى السؤال بنفسه إذا أمكنه ذلك؛ لأنه يدلّ على تواضعه، بخلاف السؤال بواسطة، إلا للضرورة (أَظنُهُ عِرَاقِيًّا) إنما قال هذا؛ لأن أهل العراق معروفون بالتعنّت في المسائل، وقد سأل رجل عراقيّ ابن عمر رضي الله عنهما عن دم البعوض؛ إذا أصاب الثوب؛ يعني هل يصلي فيه أم لا؟، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: انظروا إلى أهل
(1)
"الفتح" 4/ 546.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 220.
العراق، قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يعني الحسين، وهم يسألون عن دم البعوض. رواه البخاريّ في "صحيحه" بنحوه.
وفي رواية النسائيّ: عن ابن أبي نُعم: كنت عند ابن عمر، فأتاه رجل، فسأله عن دم البعوض، يكون في ثوبه؛ أيصلي به؟ فقال ابن عمر: ممن أنت؟ قال: من أهل العراق، قال: مَن يَعْذِرُني من هذا؟ يسألني عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"هما ريحانتي من الدنيا". انتهى؛ يعني الحسن والحسين.
(قُلْتُ: لَا أَدْرِي، قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ كَذَبَ) أي فيما نسبه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قد فعل ذلك، وكذا فيما نسبه إلى أسماء والزبير رضي الله عنهما (قَدْ حَجَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي أنشأ الحجّ، وأهلّ به، وقد تقدّم أنه كان قارنًا (فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ، أَنَّهُ تَوَضَّأَ) قال النوويّ رحمه الله: فيه دليل لإثبات الوضوء للطواف؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم فعله، ثم قال صلى الله عليه وسلم:"لتأخذوا عني مناسككم"، وقد أجمعت الأئمة على أنه يُشْرَع الوضوء للطواف، ولكن اختلفوا في أنه واجمث، وشرط لصحته أم لا؟ فقال مالك، والشافعيّ، وأحمدُ والجمهور: هو شرط لصحة الطواف، وقال أبو حنيفة: مستحبّ، ليس بشرط، واحتَجَّ الجمهور بهذا الحديث، ووجه الدلالة أن هذا الحديث مع حديث:"خذوا عني مناسككم" يقتضيان أن الطواف واجبٌ؛ لأن كل ما فعله هو داخل في المناسك، فقد أَمَرَنا بأخذ المناسك، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الترمذيّ وغيره: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "الطواف بالبيت صلاةٌ، إلا أن الله أباح فيه الكلام"، ولكن رفعه ضعيفٌ، والصحيح عند الحفاظ أنه موقوف على ابن عباس رضي الله عنهما، وتحصل به الدلالة، مع أنه موقوفٌ؛ لأنه قول لصحابي انتشر، وإذا انتشر قول الصحابيّ، بلا مخالفة، كان حجةً على الصحيح. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
(ثُمَّ طَافَ) صلى الله عليه وسلم (بِالبَيْتِ، ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه (فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ) برفع "الطوافُ" على أنه اسم "كان" مؤخَّرًا، و"أوّلَ"
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 220.
خبرها مقدّمًا، ويجوز العكس (ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ) قال النوويّ رحمه الله: وكذا قال فيما بعده: "ولم يكن غيره"، هكذا هو في جميع النسخ "غيره" بالغين المعجمة، والياء، قال القاضي عياض: كذا هو في جميع النسخ، قال: وهو تصحيفٌ، وصوابه:"ثم لم تكن عُمْرَةٌ"، بضم العين المهملة، وبالميم، وكان السائل لعروة إنما سأله عن فسخ الحج إلى العمرة، على مذهب من رأى ذلك، واحتج بامر النبيّ صلى الله عليه وسلم لهم بذلك في حجة الوداع، فأعلمه عروة، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك بنفسه، ولا من جاء بعده. انتهى كلام القاضي.
وتعقّبه النوويّ، فقال: هذا الذي قاله، من أن قول "غيره" تصحيف، ليس كما قال، بل هو صحيح في الرواية، وصحيح في المعنى؛ لأن قوله:"غيره" يتناول العمرة وغيرها، ويكون تقدير الكلام: ثم حج أبو بكر، فكان أولَ شيء بدأ به الطوافُ بالبيت، ثم لم يكن غيره؛ أي لم يُغَيِّر الحج، ولم ينقله، وينسخه إلى غيره، لا عمرة، ولا قران. انتهى كلام النوويّ
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي حمل عليه القاضي عياض والنوويّ أن معنى قوله: "ولم يكن غيره"، وفي لفظ صوّبه عياض:"ثم لم تكن عمرة" على نفي فسخ الحج إلى العمرة غير صحيح، فإن ذلك سنة ثابتة على ما قاله المحقّقون، وإن خالف الجمهور، وخصّوه بتلك السنة، وإنما مراد عروة هنا بقوله:"ثم لم تكن عمرةٌ"، أو "لم يكن غيره"؛ أي لم يكن الطواف بالبيت إحلالًا من الحجّ؛ يعني أن مجرّد الطواف بالبيت لا ينتهي به الحجّ، بل لا بدّ من إكمال الحجّ على وجهه، أو فسخه إلى العمرة بالطواف والسعي على وجهه أيضًا، وهذا قاله عروة ردًّا على من زعم أن من طاف بالبيت حلّ من إحرامه، كما هو رأي ابن عبّاس رضي الله عنهما، فقد تقدّم أنه كان يذهب إلى أن من لم يسق الهدي، وأهلّ بالحج إذا طاف يحلّ من حجه، وأن من أراد أن يستمرّ على حجه لا يَقْرَبُ البيتَ حتى يرجع من عرفة، فتنبّه.
وقال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب من طاف بالبيت إذا قدم مكة قبل أن يرجع إلى بيته إلخ"، فقال ابن بطال: غرضه بهذه الترجمة الردّ
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 220، 221.
على من زعم أن المعتمر إذا طاف حَلّ قبل أن يسعى بين الصفا والمروة، فأراد أن يبيّن أن قول عروة:"فلما مسحوا الركن حَلُّوا" محمول على أن المراد لما استلموا الحجر الأسود، وطافوا، وسَعَوْا حَلُّوا، بدليل حديث ابن عمر الذي أردفه به في هذا الباب. انتهى.
(ثُمَّ عُمَرُ) ابن الخطّاب رضي الله عنه، وهو مبتدأ على حذف مضاف، وخبره ما بعده: أي ثم فِعْلُ عمر رضي الله عنه (مِثْلُ ذَلِكَ)، وَيحْتَمِل النصب بتقدير فَعَل مثلَ ذلك؛ يعني أن أول شيء بدأ به هو الطواف بالبيت، كفعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر رضي الله عنه (ثُمَّ حَجَّ عُثْمَانُ) بن عفّان رضي الله عنه (فَرَأَيْتُهُ أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ) أي ثم لم يتغيّر حجه بسبب الطواف إلى الإحلال، بل بقي على إحرامه بعد الطواف (ثُمَّ مُعَاوَيةُ) بن أبي سفيان رضي الله عنهما (وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما (ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أبَي الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ) رضي الله عنه بجرّ الزبير على البدل، أو عطف البيان لـ "أبي".
[تنبيه]: قوله: "مع أبي الزبير" كذا وقع أيضًا عند أكثر رواة البخاريّ، ووقع في رواية الكشميهنيّ:"ثم حججت مع ابن الزبير" يعني أخاه عبد الله بن الزبير، قال عياض: وهو تصحيف، قال في "العمدة": وجه ذلك أنه وقع في طريق آخر في الحديث على ما يأتي: "مع أبي الزبير بن العوام"، وفيه بعدَ ذكر أبي بكر، وعمر، ذكر عثمان، ثم معاوية، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم قال:"ثم حججت مع أبي الزبير"، فذكره، وقد عُرِف أن قتل الزبير كان قبل موت معاوية، وابن عمر، وكان قتل الزبير بن العوام يوم الْجَمَل في جمادى الأولى سنة ست وثلاثين، وقبره بوادي السباع، ناحية البصرة، وكان موت معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما في رجب سنة تسع وخمسين، وموت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان سنة ثلاث وسبعين، وقال الواقديّ: سنة أربع وسبعين، وكانت وفاته بمكة. انتهى
(1)
.
وقال الحافظ رحمه الله بعد ذكر ما سبق: لا مانع أن يحجّا قبل قتل الزبير، فرآهما عروة، أو لم يقصد بقوله:"ثُمَّ" الترتيب، فإن فيها أيضًا: "ثُمّ آخرُ من
(1)
"عمدة القاري" 9/ 259.
رأيت فعل ذلك ابن عمر"، فأعاد ذكره مرة أخرى، وأغرب بعض الشارحين، فرجّح رواية الكشميهنيّ موجِّهًا لها بما ذكرته، وقد أوضحت جوابه بحمد الله. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو جواب جيّد.
(فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ) أي البدء بالطواف بالبيت (ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ، ثُمَّ آخِرُ مَنْ رَأَيْتُ فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنه (ثُمَّ لَمْ يَنْقُضْهَا بِعُمْرَةٍ) أي بسبب الطواف، بل بقي على إحرامه بعده (وَهَذَا ابْنُ عُمَرَ عِنْدَهُمْ، أَفَلَا يَسْأَلُونَهُ؟) وقوله: (وَلَا أَحَدٌ) اسم "لا"، أو مبتدأ، وقوله:(مِمَّنْ مَضَى) صفة "أحدٌ"، والخبر محذوفٌ؛ أي خالف ذلك؛ يعني أنه لا يوجد أحدٌ ممن مضى خالف هذا الذي ذكرته مما فعله هؤلاء، وقوله:(مَا كَانُوا يَبْدَءُونَ بِشَيْءٍ) بيان لمعنى قوله؟ "ولا أحد إلخ"(حِينَ يَضَعُونَ أَقْدَامَهُمْ) أي في مكة (أَوَّلَ مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَا يَحِلونَ، وَقَدْ رَأَيْتُ أُمِّي) أي أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما (وَخَالَتِي) عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها (حِينَ تَقْدَمَانِ لَا تَبْدآنِ بِشَيْءٍ أَوَّلَ مِنَ الْبَيْتِ، تَطُوفَانِ بِهِ، ثُمَّ لَا تَحِلَّانِ، وَقَدْ أَخْبَرَتْنِي أُمِّي) أسماء (أَنَّهَا أَقْبَلَتْ هِيَ وَأُخْتُهَا) عائشة رضي الله عنه، واستُشكل من حيث إن عائشة رضي الله عنها في تلك الحجة لم تطف؛ لأجل حيضها.
وأجيب بالحمل على أنه أراد حجة أخرى، غير حجة الوداع، فقد كانت عائشة رضي الله عنه بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم تحج كثيرًا، قاله في "الفتح"
(1)
.
(وَالزُّبَيْرُ) أبوه (وَفُلَانٌ، وَفُلَانٌ) قال في "الفتح": كأنها سمّت بعض من عرفته، ممن لم يسق الهدي، ولم أقف على تعيينهم. انتهى
(2)
.
وأما ما قاله صاحب "التنبيه": في حفظي أنهما عثمان بن عفّان، وعبد الرحمن بن عوف. انتهى
(3)
، فلم يذكر مستنده في ذلك، والله تعالى أعلم.
(بِعُمْرَةٍ قَطُّ) هكذا في رواية المصنّف هنا لفظة "قط"، وليست في رواية
(1)
"الفتح" 4/ 547.
(2)
"الفتح" 3/ 618.
(3)
"تنبيه المعلم"(220).
البخاريّ، وأكثر ما تُستعمل "قطّ" في النفي ماضيًا، قال في "القاموس": وتختصّ بالنفي ماضيًا، وتقول العامّة: لا أفعله قطّ، وفي مواضع من"صحيح البخاريّ" جاء بعد المثبت، منها في "الكسوف":"أطول صلاة صليتها قطُّ"، وفي "سنن أبي داود":"توضّأ ثلاثًا قطّ"، وأثبته ابن مالك في "الشواهد" لغةً، قال: وهي مما خَفِي على كثير من النحاة. انتهى
(1)
، وقد تقدّم هذا البحث مستوفًى في غير هذا الموضع من هذا الشرح، وبالله تعالى التوفيق.
(فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ) أي استلموا الحجر الأسود (حَلُّوا) قال القرطبيّ رحمه الله: يعني بذلك لمس الحجر في آخر الطَّواف، ولم يذكر السعي بين الصفا والمروة؛ لأنه قد صار من المعلوم ملازمة السعي للطواف، فاكتفى بذكره عنه، وأيضًا: فقد وردت أخبار عن هؤلاء المذكورين: بأنهم سعوا بعد طوافهم، فتكمل الرواية الناقصة، ويرتفع الإشكال. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قولها: "فلما مسحوا الركن حَلُّوا" هذا متأوَّل عن ظاهره؛ لأن الركن هو الحجر الأسود، ومسحه يكون في أول الطواف، ولا يحصل التحلل بمجرد مسحه بإجماع المسلمين، وتقديره: فلما مسحوا الركن، وأتموا طوافهم، وسعيهم، وحلقوا، أو قصروا أحلوا، ولا بد من تقدير هذا المحذوف، وإنما حذفته للعلم به، وقد أجمعوا على أنه لا يتحلل قبل إتمام الطواف، ومذهبنا، ومذهب الجمهور، أنه لا بدّ أيضًا من السعي بعده، ثم الحلق، أو التقصير، وشذّ بعض السلف، فقال: السعي ليس بواجب، ولا حجة لهذا القائل في هذا الحديث؛ لأدى ظاهره غير مراد بالإجماع، فيتعيّن تأويله كما ذكرنا؛ ليكون موافقًا لباقي الأحاديث. انتهى
(3)
.
[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: المراد بالماسحين مَن سوى عائشة، وإلا فعائشة لم تمسح الركن قبل الوقوف بعرفات في حجة الوداع، بل كانت قارنةً، ومنعها الحيض من الطواف قبل يوم النحر، وهكذا قول أسماء بعد هذا: اعتمرت أنا، وأختي عائشة، والزبير، وفلان، وفلان، فلما مسحنا البيت
(1)
"القاموس المحيط" 2/ 380.
(2)
"المفهم" 3/ 362.
(3)
"شرح النوويّ" 8/ 222.
أحللنا، ثم أهللنا بالحج، المراد به أيضًا مَن سوى عائشة، وهكذا تأوله القاضي عياض، والمراد الإخبار عن حجتهم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم حجة الوداع على الصفة التي ذكرت في أول الحديث، وكان المذكورون سوى عائشة مُحرمين بالعمرة، وهي عمرة الفسخ التي فسخوا الحجّ إليها، وإنما لم تَسْتَثن عائشة؛ لشهرة قصتها.
قال القاضي عياض: وقيل: يَحْتَمِل أن أسماء أشارت إلى عمرة عائشة التي فعلتها بعد الحجّ مع أخيها عبد الرحمن من التنعيم.
قال القاضي: وأما قول من قال: يَحْتَمِل أنها أرادت في غير حجة الوداع، فخطأٌ؛ لأن في الحديث التصريح بأن ذلك كان في حجة الوداع. انتهى كلام القاضي.
وذكر مسلم رحمه الله بعد هذه الرواية رواية إسحاق بن إبراهيم، وفيها: أن أسماء قالت: خرجنا محرمين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من كان معه هديٌ فليُقِم على إحرامه، ومن لم يكن معه هديٌ فليحلل"، فلم يكن معي هديٌ، فحللت، وكان مع الزبير هديٌ، فلم يحلّ، فهذا تصريح بأن الزبير لم يتحلل في حجة الوداع قبل يوم النحر، فيجب استثناؤه مع عائشة، أو يكون إحرامه بالعمرة، وتحلله منها في غير حجة الوداع، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقوله: (وَقَدْ كَذَبَ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ) هذا من كلام عروة رحمه الله، أعاده للتوكيد؛ يعني أن الرجل الذي ادّعى بأنه صلى الله عليه وسلم، وأصحابه حلّوا بمجرد الطواف كاذبٌ في دعواه؛ لأنهم ما تحلّلوا إلا بعد انتهائهم من أفعال العمرة بالطواف والسعي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
"شرح النووي" 8/ 221، 222.
أخرجه (المصنّف) هنا [26/ 3502](1235)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1614 و 1641)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2699)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 332)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 333)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 77)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب الابتداء بالطواف للقادم؛ ولا ينافي هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين"؛ لأن الطائف لا يجلس إلا بعد ركعتي الطواف، فما اشتهر من استثناء المسجد الحرام من عموم الحديث المذكور غير صحيح، فتأمله.
قال في "الفتح": واستثنى بعض الشافعية، ومن وافقه: المرأة الجميلة، أو الشريفة التي لا تبرز، فيستحبّ لها تأخير الطواف إلى الليل، إن دخلت نهارًا، وكذا من خاف فوت مكتوبة، أو جماعة مكتوبة، أو مؤكّدة، أو فائتة، فإن ذلك كله يقدم على الطواف.
قال الجامع عفا الله عنه: استثناء المرأة الجميلة، أو الشريفة فيه نظر، فهل النساء اللاتي حججن مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وطفن معه طواف القدوم نهارًا ليس فيهن جميلات، ولا شريفات؟، فهل استثناهنّ؟ هيهات هيهات.
قال: وذهب الجمهور إلى أن من ترك طواف القدوم لا شيء عليه، وعن مالك، وأبي ثور من الشافعية عليه دم، وهل يتداركه من تعمد تأخيره لغير عذر؟ وجهان، كتحية المسجد.
قال الجامع: الأقرب أنه يتداركه، فتأمل.
2 -
(ومنها): أن فيه مشروعيّة الوضوء للطواف، واختلفوا، هل هو واجب، أو شرط؟ فقال أبو حنيفة: ليس بشرط، فلو طاف على غير وضوء صحّ طوافه، فإن كان ذلك للقدوم فعليه صدقة، وإن كان طواف الزيارة فعليه شاة، وقال مالك، والشافعيّ، وأحمد: هو شرط.
3 -
(ومنها): بيان أنه لا يجوز التحلّل عن الإحرام بمجرّد الطواف بل لا بدّ من السعي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3003]
(1236) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثنا ابْنُ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنِي مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أُمِّهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنها قَالَتْ: خَرَجْنَا مُحْرِمِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، فَلْيَقُمْ عَلَى إِحْرَامِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، فَلْيَحْلِلْ"، فَلَمْ يَكُنْ مَعِي هَدْيٌ، فَحَلَلْتُ، وَكَانَ مَعَ الزُّبَيْرِ هَدْيٌ، فَلَمْ يَحْلِلْ، قَالَتْ: فَلَبِسْتُ ثِيَابِي، ثُمَّ خَرَجْتُ، فَجَلَسْتُ إِلَى الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: قُومِي عَنِّي، فَقُلْتُ: أَتَخْشَى أَنْ أَثِبَ عَلَيْكَ؟).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قريبًا.
2 -
(رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ) تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) العبدريّ الحجبيّ المكيّ، ثقةٌ [5](ت 7 أو 138)(خ م د س ق) تقدم في "الحيض" 3/ 699.
4 -
(صَفِيَّةُ بِنْتُ شَيْبَةَ) بن عثمان العبدريّة، لها رؤية، وفي البخاريّ التصريح بسماعها من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنكر الدارقطنيّ إدراكها (ع) تقدمت في "الحيض" 3/ 699.
5 -
(أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنهما، زوج الزبير بن العوّام، من كبار الصحابيّات، عاشت مائة سنة، وماتت سنة (3 أو 74)(ع) تقدمت في "الطهارة" 23/ 681.
والباقون تقدّموا قبل سند.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان.
2 -
(ومنها): أن فيه رواية صحابية، عن صحابية، ورواية الابن عن أمه، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَتْ: خَرَجْنَا مُحْرِمِينَ) وفي رواية النسائيّ: "قالت: قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلّين بالحجّ، فلما دنونا من مكة
…
" (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم-م: "مَنْ كانَ مَعَهُ هَدْيٌ، فَلْيَقُمْ) بضمّ حرف المضارعة، من الإقامة؛ أي فليثبت (عَلَى إِحْرَامِهِ) أي حتى يتحلّل بذبح هديه يوم النحر (وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، فَلْيَحْلِلْ) بفتح أوله، من الحلّ، ثلاثيًّا، أو بضمه، من الإحلال، رباعيًّا، يقال: حلّ المحرمُ حِلًّا بالكسر: خرج من إحرامه، وأحلّ بالألف مثله، فهو مُحِلّ، وحِلّ أيضًا تسمية بالمصدر، وحلالٌ أيضًا، قاله الفيّوميّ (فَلَمْ يَكُنْ مَعِي هَدْيٌ، فَحَلَلْتُ، وَكلانَ مَعَ الزُّبَيْرِ) بن العوّام رضي الله عنه زوجها (هَدْيٌ، فَلَمْ يَحْلِلْ، قَالَتْ: فَلَبِسْتُ ثِيَابِي) تعني الثياب التي كانت تلبسها قبل الإحرام، وهذا فيه دليل على أن النساء كالرجل تمتنع في الإحرام عن بعض اللباس، وهو الذي مسّه ورس، أو زعفران.
وقد أخرج أبو داود في "سننه" بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى النساء في إحرامهنّ عن القفّازين، والنقاب، وما مسّ الورس، والزعفران، ولتلبس بعد ذلك ما أحبت، من ألوان الثياب، مُعَصْفرًا، أو خَزًّا، أو حَلْيًا، أو سراويل، أو قميصًا، أو خُفًّا".
(ثُمَّ خَرَجْتُ، فَجَلَسْتُ إِلَى الزُّبَيْرِ) وفي رواية النسائيّ: "وتطيّبتُ من طيبي، ثم جلست إلى الزبير"(فَقَالَ) الزبير (قُومِي عَنِّي) قال النوويّ رحمه الله: إنما أمرها بالقيام؛ مخافة من عارض، قد يَندُر منه، كلمس بشهوة، أو نحوه، فإن اللمس بشهوة حرام في الإحرام، فاحتاط لنفسه بمباعدتها، من حيث إنها زوجته، متحلّلة، تطمع بها النفس. انتهى
(1)
.
وفي الرواية التالية: "استرخي عني، استرخي عني" مرتين؛ أي تباعدي عني، وفي رواية النسائيّ:"استأخري عنّي"، والسين والتاء زائدتان: أي تأخّري، وابتعدي عن مجلسي؛ لئلا يحصل شيء من محظورات الإحرام.
(فَقُلْتُ: أَتَخْشَى أَنْ أَثِبَ عَلَيْكَ) مضارع وَثَبَ، من باب وَعَد: إذا قَفَز،
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 223.
وُثُوبًا، ووَثِيبًا، فهو وثّاب، تعني بذلك أنها وإن اقتربت منه لا تفعل معه شيئًا يتسبب منه وقوعه في محظورات الإحرام، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [26/ 3003 و 3004](1236)، و (النسائيّ) في "المناسك"(5/ 246)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(2983)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 350 و 351)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 335)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 334)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(24/ 130)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 339)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان حكم مَنْ أَهَلَّ بعمرة، وقد أهدى، وهو أنه يؤدي أعمال العمرة، ثم يبقى على إحرامه حتى يتحلّل بنحر هديه يوم النحر.
2 -
(ومنها): أن من أحرم بالعمرة، ولم يُهد، فإنه يتحلّل بعمل العمرة.
3 -
(ومنها): أن المتمتّع الذي لم يسق الهدي إذا تحلّل بعمل العمرة، فله أن يتطيّب، ويلبس الثياب التي لا يحلّ له أن يلبسها في حالة الإحرام، إلى أن يهلّ بالحجّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3004]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الْمُغِيرَةُ بْنُ سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيُّ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَتْ: قَدِمْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ، ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَقَالَ: اسْتَرْخِي عَني، اسْتَرْيخي عَنِّي، فَقُلْتُ: أَتَخْشَى أَنْ أَثِبَ عَلَيْكَ؟).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيُّ) أبو الفضل البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [11](ت 240)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 34/ 241.
2 -
(أَبُو هِشَام الْمُغِيرَةُ بْنُ سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيُّ) البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [9](ت 200)(خت م د س ق) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.
3 -
(وُهَيْبُ) بن خالد بن عجلان الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ تغيّر قليلًا بآخره [7](ت 165) أو بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير وُهيب.
[تنبيه]: رواية وُهيب، عن منصور بن عَبد الرحمن هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "المجتبى"، فقال:
(2992)
- أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك، قال: حدّثنا أبو هشام، قال: حدّثنا وُهيب بن خالد، عن منصور بن عبد الرحمن، عن أمه، عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مُهِلِّين بالحجّ، فلما دنونا من مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يكن معه هدي فليحلل، ومن كان معه هدي، فليُقِم على إحرامه، قالت: وكان مع الزبير هدي، فأقام على إحرامه، ولم يكن معي هدي، فأحللت، فلبست ثيابي، وتطيّبت من طيبي، ثم جلست إلى الزبير، فقال: استأخري عني، فقلت: أتخشى أن أثب عليك. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3005]
(1237) - (وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيَلِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، قَالَا: حَدَّثنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما حَدَّثَهُ، أَنَّهُ كَانَ يَسْمَعُ أَسْمَاءَ، كُلَّمَا مَرَّتْ بِالْحَجُونِ تَقُولُ: صَلَّى اللهُ عَلَى رَسُولِهِ وَسَلَّمَ، لَقَدْ نَزَلْنَا مَعَهُ هَا هُنَا، وَنَحْنُ يَوْمَئِذٍ خِفَافُ الْحَقَائِبِ،
قَلِيلٌ ظَهْرُنَا، قَلِيلَة أَزْوَادُنَا، فَاعْتَمَرْتُ أَنَا وَأُخْتِي عَائِشَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَفُلَانٌ، وَفُلَانٌ، فَلَمَّا مَسَحْنَا الْبَيْتَ أَحْلَلْنَا، ثُمَّ أَهْلَلْنَا مِنَ الْعَشِيِّ بِالْحَجِّ، قَالَ هَارُونُ فِي رِوَايَتِهِ: أَنَّ مَوْلَى أَسْمَاءَ، وَلَمْ يُسَمِّ عَبْدَ اللهِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى) بن حسّان المصريّ المعروف بابن التستريّ، صدوقٌ تُكُلم في بعض سماعه، قال الخطيب: بلا حجة [10](ت 243)(خ م س ق) تقدم في "الإيمان" 8/ 134.
2 -
(عَبْدُ اللهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ) هو: ابن كيسان القرشيّ التيميّ، أبو عمر المدنيّ، ثقةٌ [3].
روى عن مولاته، وعن ابن عمر، وروى عنه صهره عطاء بن أبي رباح، وهو من أقرانه، وعمرو بن دينار، وابن جريج، وعبد الملك بن أبي سليمان، وأبو الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، والمغيرة بن زياد الموصليّ، وغيرهم.
قال أبو داود: ثبتٌ، وقال الحاكم أبو أحمد: من أجلة التابعين، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم (1237)، و (1291)، و (2069).
والباقون هم المذكورون أول الباب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحاد كيفيّة الأخذ والأداء.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه.
3 -
(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمدنيين.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ) محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، يتيم عروة (أَنَّ
عَبْدَ اللهِ) بن كيسان (مَوْلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما حَدَّثَهُ، أَنَّهُ كَانَ يَسْمَعُ أَسْمَاءَ) مولاته رضي الله عنهما (كُلَّمَا مَرَّتْ بِالْحَجُونِ) - بفتح المهملة، وضم الجيم الخفيفة-: جبل معروف بمكة، قال في "الفتح": وقد تكرر ذكره في الأشعار، وعنده المقبرة المعروفة بالمعلى، على يسار الداخل إلى مكة، ويمين الخارج منها إلى منى، وهذا الذي ذكرنا مُحَصَّل ما قاله الأزرقيّ، والفاكهيّ، وغيرهما من العلماء، وأغرب السهيليّ، فقال: الحجون على فرسخ وثلث من مكة، وهو غلطٌ واضحٌ، فقد قال أبو عبيد البكريّ: الحجون الجبل المشرف بحذاء المسجد الذي يلي شِعْب الجرارين، وقال أبو علي القالي: الحجون ثنية المدنيين؛ أي من يَقْدَم من المدينة، وهي مقبرة أهل مكة عند شعب الجرارين. انتهى.
ويدل على غلط السهيليّ قول الشاعر [من الطويل]:
سَنَبْكِيكَ مَا أَرْسَى ثَبِيرٌ مَكَانَهُ
…
وَمَا دَامَ جَارًا لِلْحَجُونِ الْمُحَصَّبُ
وقد تقدم ذكر المحصب وحده، وأنه خارج مكة.
وروى الواقديّ عن أشياخه أن قُصَيّ بن كلاب لما مات دُفِن بالحجون، فتدافن الناس بعده، وأنشد الزبير لبعض أهل مكة:
كَمْ بِالْحَجُونِ وَبَيْنَهُ مِنْ سَيِّدٍ
…
بِالشِّعْبِ بَيْنَ دَكَادِكَ وَأَكَامِ
والجرارين التي تقدم: جمع جَرَار، بجيم، وراء ثقيلة، ذكرها الرضيّ الشاطبيّ، وكتب على الراء صحّ صحّ، وذكر الأزرقيّ أنه شعب أبي دبّ رجل من بني عامر.
قال الحافظ: قد جُهِل هذا الشِّعْب الآن، إلا أن بين سور مكة الآن، وبين الجبل المذكور مكانًا يشبه الشعب، فلعله. انتهى
(1)
.
(تَقُولُ: صَلَّى اللهُ عَلَى رَسُوبهِ وَسَلَّمَ، لَقَدْ نَزَلْنَا مَعَهُ هَا هُنَا، وَنَحْنُ يَوْمَئِذٍ خِفَيافُ الْحَقَائِبِ) جمع حَقِيبة -بفتح المهملة، وبالقاف، وبالموحدة- وهي ما احتقبه الراكب خلفه، من حوائجه، في موضع الرَّدِيف، قاله في "الفتح"، وقال النوويّ: الحقيبة: هو: كل ما حُمل في مؤخّر الرَّحْل والقَتَب، ومنه احتقب
(1)
"الفتح" 5/ 37.
فلان كذا. انتهى
(1)
، قال الأبيّ رحمه الله: ظاهر الاستعمال أنه ما عُلّق للحفظ فيه، ومنه قول الشاعر [من الطويل]:
قِفُوا خَبِّرُونِي عَنْ سُلَيْمَان إِنَّنِي
…
لِمَعْرُوفِهِ مِنْ أَهْلِ وَدَّانَ طَالِبُ
فَعَاجُوا فَأَثْنَوْا بِالَّذِي أَنْتَ أَهْلُهُ
…
وَلَوْ سَكَتُوا أَثْنَتْ عَلَيْهِ الْحَقَائِبُ
والممدوح سليمان بن عبد الملك. انتهى
(2)
.
ولفظ البخاريّ: "ونحن يومئذ خفاف" دون لفظ "الحقائب".
(قَلِيلٌ ظَهْرُنَا) أي مركوبنا (قَلِيلَةٌ أَزْوَادُنَا، فَاعْتَمَرْتُ أَنَا وَأُخْتى عَائِشَةُ) أي بعد أن فسخوا الحجّ إلى العمرة، وفي رواية صفية بنت شيبة، عن أسماء المذكورة قبله:"قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحجّ، فقال: من كان معه هدي فليُقِم على إحرامه، ومن لم يكن معه هديٌ، فليحلّ، فلم يكن معي هديّ، فأحللت، وكان مع الزبير هديّ، فلم يحلّ". انتهى.
قال الحافظ رحمه الله: وهذا مغاير لذكرها الزبير مع من أحلّ في رواية عبد الله مولى أسماء، فإن قضية رواية صفية عن أسماء أنه لم يحلّ؛ لكونه ممن ساق الهدي، فإن جُمِع بينهما بأن القصة المذكورة وقعت لها مع الزبير في غير حجة الوداع، كما أشار إليه النوويّ على بُعده، وإلا فقد رجح عند البخاريّ رواية عبد الله مولى أسماء، فاقتصر على إخراجها دون رواية صفية بنت شيبة، وأخرجهما مسلم مع ما فيهما من الاختلاف، ويُقَوِّي صنيع البخاري ما تقدم من طريق محمد بن عبد الرحمن، وهو أبو الأسود المذكور في هذا الإسناد، قال: سألت عروة بن الزبير، فذكر الحديث، وفي آخره:"وقد أخبرتني أمي أنها أهلّت هي وأختها، والزبير، وفلان وفلان بعمرة، فلما مسحوا الركن حَلُّوا"، والقائل أخبرتني: عروة المذكور، وأمه هي أسماء بنت أبي بكر، وهذا موافق لرواية عبد الله مولى أسماء عنها.
وفيه إشكال آخر، وهو ذِكرها لعائشة فيمن طاف، والواقع أنها كانت حينئذ حائضًا. وأجيب بأنه يَحْتَمل أنها أشارت إلى عمرة عائشة التي فعلتها بعد الحج مع أخيها عبد الرحمن من التنعيم، لكن قال القاضي عياض: هذا خطأ؛
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 223، 224.
(2)
"شرح الأبيّ" 3/ 370.
لأن في الحديث التصريح بأن ذلك كان في حجة الوداع، وقيل: لا وجه في ذلك إلَّا أن يقال: إنما لم تستثن أسماء عائشة لشهرة قصتها، وفيه بُعد أيضًا، نعم إنما هذا يتأتى إذا قلنا: كانت عائشة طاهرة حين ذكرت أسماء إياها، وعطفتها على نفسها في قولها:"اعتمرت أنا، وأختي عائشة"، ثم طرأ عليها الحيض، ثم إنها لم تستثنها في قولها:"فلما مسحنا البيت" لشهرتها أنها كانت حائضًا في ذلك الوقت، أو نسيت أن تستثنيها، فافهم، قاله في "العمدة"
(1)
.
(وَالزُّبَيْرُ، وَفُلَانٌ، وَفُلَانٌ) كأنها سمّت بعض من عرفته، ممن لم يسق الهدي، قال الحافظ: ولم أقف على تعيينهم، فقد تقدم من حديث عائشة رضي الله عنها أن أكثر الصحابة كانوا كذلك. انتهى.
(فَلَمَّا مَسَحْنَا الْبَيْتَ أَحْلَلْنَا) أي طفنا بالبيت، فاستلمنا الركن، وفي حديث عائشة:"مسحنا الركن"، فالمسح مجاز عن الطواف، وساغ هذا المجاز؛ لأن كل من طاف بالبيت يمسح الركن، فصار يطلق على الطواف، كما قال عمر بن أبي ربيعة [من الطويل]:
وَلَمَّا قَضَيْنَا مِنْ مِنًى كُلَّ حَاجَةٍ
…
وَمَسَّحَ بِالأَرْكَانِ مَنْ هُوَ مَاسِحُ
أي طاف من هو طائف، قال عياض: ويَحْتَمِل أن يكون معنى "مسحوا": طافوا، وسَعَوا، وحذف السعي اختصارًا لَمّا كان منوطًا بالطواف، قال: ولا حجة في هذا الحديث لمن لم يوجب السعي؛ لأن أسماء أخبرت أن ذلك كان في حجة الوداع، وقد جاء مفسَّرًا من طرق أخرى صحيحة أنهم طافوا معه، وسعوا، فَيُحْمَل ما أُجمل على ما بُيِّن، والله أعلم.
واستُدِلّ به على أن الحلق أو التقصير استباحة محظور؛ لقولها: إنهم أحلوا بعد الطواف، ولم تذكُر الحلق.
وأجاب من قال بأنه نسك: بأنها سكتت عنه، ولا يلزم من ذلك ترك فعله، فإن القصّة واحدة، وقد ثبتٌ الأمر بالتقصير في عدّة أحاديث:
منها حديث جابر: أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يجعلوها عمرة، ويطوفوا، ثم يُقصّروا، ويحلّوا، متّفقٌ عليه.
(1)
"عمدة القاري" 10/ 131.
واختلفوا فيمن جامع قبل أن يقصر، بعد أن طاف وسعى، فقال الأكثر: عليه الهدي، وقال عطاء: لا شيء عليه، وقال الشافعي: تفسد عمرته، وعليه المضيّ في فاسدها، وقضاؤها. واستَدَلّ به الطبريّ على أن من ترك التقصير حتى يخرج من الحرم، لا شيء عليه، بخلاف من قال: عليه دم
(1)
.
(ثُمَّ أَهْلَلْنَا مِنَ الْعَشِيِّ بِالْحَجِّ) قال الفيّوميّ رحمه الله: العشيّ قيل: ما بين الزوال إلى الغروب، ومنه يقال للظهر والعصر: صلاتا العشيّ، وقيل: هو آخر النهار، وقيل: العشيّ من الزوال إلى الصباح، وقيل: العشيّ والعشاء: من صلاة المغرب إلى العتمة. انتهى
(2)
.
وقوله: (قَالَ هَارُونُ فِي رِوَايَتِهِ: أَنَّ مَوْلَى أَسْمَاءَ، وَلَمْ يُسَمِّ عَبْدَ اللهِ) أشار به إلى اختلاف شيخيه في ذكر اسم مولى أسماء رضي الله عنها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [26/ 3005](1237)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1796)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 303)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 334)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(27) - (بَابٌ فِي مُتْعَةِ الْحَجِّ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3006]
(1238) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثنا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُسْلِمٍ الْقُرِّيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ، فَرَخَّصَ
(1)
"الفتح" 5/ 38، 39.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 412.
فِيهَا، وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَنْهَى عَنْهَا، فَقَالَ: هَذِهِ أُمُّ ابْنِ الزُّبَيْرِ تُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ فِيهَا، فَادْخُلُو اعَلَيْهَا، فَاسْأَلُوهَا، قَالَ: فَدَخَلْنَا عَلَيْهَا، فَإِذَا امْرَأَةٌ ضَخْمَةٌ عَمْيَاءُ، فَقَالَتْ: قَدْ رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون السمين البغداديّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(مُسْلِمٌ الْقُرِّيُّ) هو: مسلم بن مِخْرَاق العبْديّ القارئ، مولى بني قُرّة، ويقال: المازنيّ الْعُرْيابيّ، أبو الأسود البصريّ العطار، ويقال: إنهما اثنان، صدوقٌ [4].
رَوَى عن ابن العباس، وابن الزبير، وابن عمر، ومَعْقِل بن يسار، وأبي بكرة الثقفيّ، وأسماء بنت أبي بكر.
وروى عنه ابنه سَوَادة، وابن عون، وحزم بن أبي حزم، وشعبة، وغيرهم. قال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي ذكر مسلم القُرّيّ، فقال: ما أرى به بأسًا، وقال أبو حاتم: شيخٌ، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ولكنه فرّق بين مولى بني قُرّة، وبين المكنى أبا الأسود، وبذلك جزم أبو علي الجيانيّ في "تقييد المهمل"، وقال العجليّ: تابعيّ ثقةٌ.
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم (1238)، و (1239) وفي "كتاب الإمارة"(142) وهو مكرّر تقدّم نحوه في "كتاب الإيمان"، فتنبّه.
والباقيان ذُكروا في الباب الماضي.
شرح الحديث:
(عَنْ مُسْلِمٍ الْقُرِّيِّ) قال النوويّ رحمه الله: هو بقاف مضمومة، ثم راء مشدّدة، قال السمعانيّ: هو منسوب إلى بني قُرّة، حيّ من عبد القيس، قال: وقال ابن ماكولا هذا، ثم قال: وقيل: بل لأنه كان ينزل قنطرة قُرّة. انتهى.
(قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ) أي حكم التمتّع بالعمرة إلى الحجّ (فَرَخَّصَ فِيهَا، وَكَانَ) عبد الله (ابْنُ الزُّبَيْرِ يَنْهَى عَنْهَا) أي كما كان عمر وعثمان رضي الله عنهما ينهيان عنها (فَقَالَ) ابن عبّاس رضي الله عنهما (هَذِهِ أمّ ابْنِ الزُّبَيْرِ) أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما (تُحَدّثُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ فِيهَا) أي في المتعة (فَادْخُلُوا عَلَيْهَا، فَاسْأَلُوهَا) فيه حثّ الطالب على طلب العلوّ في السماع، فإن السائلين لا يشكّون في صدق ابن عبّاس، بل يعترفون بعلمه وفضله، إلا أنه رضي الله عنه أراد أن ينقلهم من الأخذ بواسطة إلى الأخذ مباشرة (قَالَ) مسلم (فَدَخَلْنَا عَلَيْهَا) أي على أسماء أبم ابن الزبير رضي الله عنهم (فَإِذَا امْرَأَةٌ)"إذا" هي الْفُجائيّة؛ أي ففاجأنا وجود امرأة (ضَخْمَة) أي عظيمة الجثّة، يقال: ضَخُمَ الشيءُ ضِخَمًا بكسر، ففتح، وزانُ عِنَبٍ، وضَخَامةً: عَظُمَ، فهو ضَخْمٌ، والجمع ضِخَامٌ، مثلُ سَهْمِ وسِهَامٍ، وامرأة ضَخْمةٌ، والجمع ضَخْمَات بالسكون، قاله الفيّوميّ
(1)
. (عَمْيَاءُ) الظاهر أنه حصل لها العمى في أواخر عمرها، فإنها قد عُمّرت أكثر من مائة سنة، كما تقدّم في ترجمتها في الباب الماضي (فَقَالَتْ: قَدْ رَخصَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا) أي أجاز في التمتّع، وقد تقدّم تمام البحث في هذا، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [27/ 3556 و 3007](1238)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 348)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 345)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 341)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 21)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 359.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3007]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ (ح) وَحَدَّثَنَاه ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد، يَعْني ابْنَ جَعْفَرٍ، جَمِيعًا عَنْ شُعْبَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، فَامَّا عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَفِي حَدِيثِهِ الْمُتْعَةُ، وَلَمْ يَقُلْ: مُتْعَةُ الْحَجِّ، وَأَمَّا ابْنُ جَعْفَرٍ، فَقَالَ: قَالَ شُعْبَةُ: قَالَ مُسْلِمٌ: لَا أَدْرِي مُتْعَةُ الْحَجِّ، أَوْ مُتْعَةُ النِّسَاءِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(ابْنُ الْمُثَنَّى) هو: محمد، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن مهديّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنَ جَعْفَرٍ) غُندر، تقدّم أيضًا قريبًا.
و"شعبة" ذُكر قبله.
[تنبيه]: روايتا عبد الرحمن بن مهديّ، ومحمد بن جعفر كلاهما عن شعبة لم أجد من ساقهما بتمامهما فيُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3008]
(1239) - (وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ الْقُرِّيُّ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: أَهَلَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعُمْرَةٍ، وَأَهَلَّ أَصْحَابُهُ بِحَجٍّ، فَلَمْ يَحِلَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَحَلَّ بَقِيَّتُهُمْ، فَكَانَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ فِيمَنْ سَاقَ الْهَدْيَ، فَلَمْ يَحِلَّ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) العنبريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ العنبريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، ومسلم القريّ، كما سبق قريبًا.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين من أوله إلى آخره.
4 -
(ومنها): أنه مسلسل بالتحديث.
5 -
(ومنها): أن فيه ابن عبّاس رضي الله عنهما من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.
شرح الحديث:
عن مُسْلِمٍ الْقُرِّيِّ، أنه (سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: أَهَلَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعُمْرَةٍ) معناه أنه أدخلها على الحجّ حينما أتاه الأمر من ربّه عز وجل بوادي العقيق، كما سبق بيانه، وليس المراد أنه أنشأ الإحرام بها مفردة؛ لأن الأحاديث الصحيحة دلّت على هذا، ولا سيّما حديث عمر رضي الله عنه في قصّة إتيان الملك، كما تقدم بيان ذلك مفصلًا.
وقال البيهقيّ رحمه الله بعد ذكر اختلاف الرواة في كونه صلى الله عليه وسلم أهلّ بعمرة، أو بحج في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: وقولُ من قال: إنه أهلّ بالحجّ لعله أشبه لموافقته رواية أبي العالية البرَّاء، وأبي حسّان الأعرج، عن ابن عباس في إهلال النبيّ صلى الله عليه وسلم بالحجّ، والله أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: بل الأقرب ما دلّ عليه حديث عمر رضي الله عنه المذكور الدالّ على أنه صلى الله عليه وسلم أنشأ الإحرام قارنًا، لا مفردًا بأحدهما، فإن حديث عمر لا يقبل التأويل، وأما حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما وغيره فيقبل التأويل بما ذكرنا، وهو أن قوله: أهلّ بالحجّ؛ أي مع العمرة، وكذا
(1)
"السنن الكبرى" للبيهقيّ 5/ 18.
العكس، فهذا المعنى واضح تدلّ عليه الأحاديث، ويجتمع به متفرّقها، فتبصر.
(وَأَهَلَّ أَصْحَابُهُ بِحَجٍّ) المراد غالبهم، أو بالنظر لأول أحوالهم، فإنهم ما كانوا يرون في أشهر الحجّ إلا الحج، حتى أمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالتحلل بعمل العمرة، والله تعالى أعلم.
(فَلَمْ يَحِلَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ مِنْ أَصْحَابِهِ) أي بفسخ الحجّ إلى العمرة، بل استمرّوا على إحرامهم حتى حلّوا منهما جميعًا يوم النحر (وَحَلَّ بَقِيَّتُهُمْ) أي الذين ليس معهم هدي (فَكَانَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ) أحد العشرة المبشّرين بالجنّة المتوفّى سنة ستّ وثلاثين (فِيمَنْ سَاقَ الْهَدْيَ، فَلَمْ يَحِلَّ) هكذا رواية معاذ بن معاذ، عن شعبة، جعل طلحة بن عبيد الله فيمن ساق الهدي، فلم يحلّ، وتابعه عليه أبو داود الطيالسيّ، عن شعبة، عند البيهقيّ، فقال:"وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلحة ممن كان معهما الهدي".
وهذه الرواية تخالف الرواية التالية من طريق غندر، عن شعبة، حيث جعل طلحة فيمن لم يسق الهدي، وتابعه عليه رَوْح بن عبادة، عن شعبة، عند البيهقيّ أيضًا، فقال:"وكان ممن لم يكن معه الهدي طلحة بن عبيد الله، ورجل آخر، فأحلّا".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الصحيح في هذا رواية معاذ بن معاذ، وأبي داود الطيالسي، أن طلحة ممن ساق الهدي، والدليل على ذلك حديث جابر رضي الله عنه عند البخاريّ من طريق عطاء، عن جابر رضي الله عنه قال: "أهلّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، هو وأصحابه بالحجّ، وليس مع أحد منهم هديٌ غير النبيّ صلى الله عليه وسلم وطلحة
…
". فهذا موافق لرواية معاذ، وأبي داود، فتترجح على رواية غندر، ورَوح.
والحاصل أن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه ممن أهدى، فلم يحلّ حتى بلغ الهدي محله، والله تعالى أعلم.
[فإن قلت]: حديث جابر رضي الله عنه هذا مخالف لما رواه أحمد، ومسلم،
وغيرهما من طريق عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها:"أن الهدي كان مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وذوي يسار"، وفي رواية للبخاريّ من طريق أفلح، عن القاسم، بلفظ:"ورجال من أصحابه ذوي قوّة"، ولمسلم من حديث أسماء بنت أبي بكر أن الزبير كان ممن كان معه الهدي.
[قلت]: يُجْمَع بينها بأن كلًّا منهم ذكر من اطلع عليه، ممن كان معه الهدي، ذكر نحو هذا الحافظ في "الفتح"
(1)
.
والحاصل أن الذين كان معهم الهدي جماعة، كهؤلاء المذكورين، لكنهم بالنسبة لمن لم يكن معه قلّة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [27/ 3008 و 3009](1239)، و (أبو داود) في "المناسك"(1804)، و (النسائيّ) في "المناسك"(5/ 181) و"الكبرى"(2/ 368)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 240)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 336)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 341)، و (البيهقيّ) في "المعرفة"(3/ 553)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3009]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، يَعْنِي ابْنَ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: وَكَانَ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ الْهَدْيُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ، وَرَجُلٌ آخَرُ، فَأَحَلَّا).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
وكلّهم ذُكروا قبل حديث.
(1)
"الفتح" 4/ 445.
وقوله: (وَرَجُلٌ آخَرُ) لم يسمّ ذلك الرجل، فالله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر، عن شعبة هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" (1/ 240) فقال:
(2141)
- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا محمد بن جعفر، ورَوْحٌ قالا: حدّثنا شعبة، قال روح: سمعت مسلمًا الْقُرّيَّ، وقال محمد: عن مسلم القُرّيّ، قال: سمعت ابن عباس يقول: أهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة، وأهلّ أصحابه بالحجّ، قال روح: أهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحجّ، فمن لم يكن معه هديٌ أحلّ، وكان ممن لم يكن معه هديٌ طلحة، ورجل آخر، فأحلّا. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(28) - (بَابُ جَوَازِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ)
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3010]
(1240) - (وَحَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثنَا بَهْزٌ، حَدَّثنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أفجَرِ الْفُجُورِ فِي الْأَرْضِ، وَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا، وَيَقُولُونَ: إِذَا بَرَأَ الدَّبَرْ، وَعَفَا الأَثَرْ، وَانْسَلَخَ صَفَرْ، حَلَّت الْعُمْرَةُ لِمَنْ اعْتَمَرْ، فَقَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ، مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الْحِلِّ؟ قَالَ: (الْحِلُّ كُلُّهُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(بَهْزُ) بن أسد، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ طَاوُسٍ) تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(أَبُوهُ) طاووس بن كيسان، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فقد تفرّد به هو، وأبو داود.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه.
4 -
(ومنها): أن فيه ابن عبّاس رضي الله عنهما من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما) أنه (قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ) -بفتح أوله-: أي يعتقدون، قال النوويّ رحمه الله: الضمير في "يَرَون" يعود إلى الجاهليّة، ولابن حبّان من طريق أخرى عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "والله ما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة في ذي الحجة، إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك، فإن هذا الحيّ من قُريش، ومن دان دينهم كانوا يقولون
…
"، فذكر نحوه، قال الحافظ رحمه الله: فعُرِف بهذا تعيين القائلين. انتهى. (أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فِي الْأَرْضِ) أي من أفحش الفواحش. والفجور الانبعاث في المعاصي، يقال: فجر فجورًا، من باب نصر. وهذا من تحكماتهم الباطلة المأخوذة عن غير أصل (وَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا) الموجود في النسخ الحاضرة عندي "صفرًا" بالألف، إلا ما وقع في نسخة شرح النوويّ، فإن فيها "صفر" بلا ألف، فقال النوويّ: هكذا هو في النسخ "صفر" من غير ألف بعد الراء، وهو منصوب مصروف بلا خلاف، وكان ينبغي أن يكتب بالألف، وسواء كُتب بالألف، أم بحذفها لا بدّ من قراءته هنا منصوبًا؛ لأنه مصروف؛ يعني والمشهور عن اللغة الربيعية كتابة المنصوب بغير ألف، فلا يلزم من كتابته بغير ألف أن لا يُصرف، فيقرأ بالألف، وسبقه عياض إلى نفي الخلاف فيه، لكن في "المحكم": كان أبو عبيدة لا يصرفه، فقيل له: إنه لا يمتنع الصرف حتى يجتمع علتان، فما هما؟، قال: المعرفة والساعة، وفسّره المطرّزيّ بأن مراده بالساعة أن الأزمنة ساعات، والساعة مؤنثة. انتهى.
قال في "الفتح": وحديث ابن عباس هذا حجة لأبي عبيدة.
قال العلماء: المراد بجعلهم المحرّم صفرًا الإخبار عن النسيء الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، فكانوا يسمون المحرّم صفرًا، ويُحلّونه، ويؤخّرون تحريم المحرّم إلى نفس صفر؛ لئلا تتوالى عليهم ثلاثة أشهر محرّمة، فيضيق عليهم فيها ما اعتادوه من المقاتلة، والغارة بعضهم على بعض، فضلّلهم الله في ذلك، فقال:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} الآية [التوبة: 37].
وقال القرطبيّ: قوله: "ويجعلون المحرم صَفَر" أي يسمونه به، وينسبون تحريمه إليه؛ لئلا يتوالى عليهم ثلاثة أشهُر حُرُم، فتضيق عليهم بذلك أحوالهم. وحاصله أنهم كانوا يُحلّون من الأشهر الْحُرُم ما احتاجوا إليه، ويُحرّمون فكان ذلك غيره، وكان الذين يفعلون ذلك يُسمَّون النَّسَأَة، وكانوا أشرافَهُم، وفي ذلك يقول شاعرهم [من الوافر]:
أَلَسْنَا النَّاسِئِينَ عَلَى مَعَدٍّ
…
شُهُورَ الْحِلّ نَجْعَلُهَا حَرَامَا
فردّ الله كلّ ذلك بقوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} الآية [التوبة: 37].
وقال في "الفتح" في "سورة التوبة"، عند شرح حديث:"إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات، والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرّم، ورجب مضر، الذي بين جمادى وشعبان" ما حاصله: وفيه إشارة إلى إبطال ما كانوا يفعلونه في الجاهلية، من تأخير الأشهر الحرم، فقيل: كانوا يجعلون المحرم صفرًا، ويجعلون صفرًا المحرّم؛ لئلا يتوالى عليهم ثلاثة أشهر، لا يتعاطون فيها القتال، فلذلك قال:"متواليات"، وكانوا في الجاهلية على أنحاء: منهم من يسمي المحرم صفرًا، فيُحلّ فيه القتال، ويحرم القتال في صفر، وشمميه المحرم، ومنهم من يجعل ذلك سنة هكذا، وسنة هكذا، ومنهم من يجعله سنتين هكذا، وسنتين هكذا، ومنهم من يؤخّر صفرًا إلى ربيع الأول، وربيعًا إلى ما يليه، وهكذا، إلى أن يصير شوال ذا القعدة، وذو القعدة ذا الحجة، ثم يعود، فيعيد العدد على الأصل.
وقال أيضًا: قوله: "ورجب مضر" أضافه إليهم لأنهم كانوا متمسكين
بتعظيمه، بخلاف غيرهم، فيقال: إن ربيعة كانوا يجعلون بدله رمضان، وكان من العرب من يجعل في رجب وشعبان ما ذكره في المحرم وصفر، فيحلّلون رجبًا، ويحرّمون شعبان، ووصفه بكونه بين جمادى وشعبان تأكيدًا، وكان أهل الجاهليّة قد نسئوا بعض الأشهر الحرم؛ أي أخّروها، فيحلون شهرًا حرامًا، ويحرّمون مكانه آخر بدله حتى رُفض تخصيص الأربعة بالتحريم أحيانًا، ووقع تحريم أربعة مطلقة من السنة.
فمعنى الحديث: أن الأشهر رجعت إلى ما كانت عليه، وبطل النسيء.
وقال الخطابيّ: كانوا يخالفون بين أشهر السنة بالتحليل، والتحريم، والتقديم، والتأخير لأسباب تعرِض لهم، منها استعجال الحرب، فيستحلون الشهر الحرام، ثم يحرمون بدله شهرًا غيره، فتتحوّل في ذلك شهور السنة، وتتبدّل، فإذا أتى على ذلك عدة من السنين استدار الزمان، وعاد الأمر إلى أصله، فاتفق وقوع حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم عند ذلك. انتهى
(1)
.
[فائدة]: قال الكلبيّ: أول من نسأ القلمس، واسمه حذيفة بن عبيد الكنانيّ، ثم ابنه عباد، ثم ابنه قلع بن عباد، ثم أمية بن قلع، ثم عوف بن أمية، ثم جنادة بن أمية، وعليه قام الإسلام، وقيل: أول من نسأ نعيم بن ثعلبة، ثم جنادة، وهو الذي أدركه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: مالك بن كنانة. وقيل: عمرو بن طيّء.
وقال ابن دريد: الصفران شهران من السنة، سمي أحدهما في الإسلام المحرم.
وفي "المحكم": قال بعضهم: سمي صفرًا؛ لأنهم كانوا يمتارون الطعام فيه من المواضع، وقال بعضهم: سمي بذلك لإصفار مكة من أهلها إذا سافروا، ورَوَى رؤبة أنه قال: سموا الشهر صفرًا لأنهم كانوا يغزون فيه القبائل، فيتركون مَن لَقُوا صفرًا من المتاع، وذلك إذا كان صفر بعد المحرم، فقالوا: صفر الناس منا صفرًا، فإذا جمعوه مع المحرّم قالوا: صفران، والجمع أصفار، وقال القزّاز: إنما سموا الشهر صفرًا؛ لأنهم كانوا يُخلون البيوت فيه
(1)
"الفتح" 9/ 220 - 222، كتاب التفسير، سورة التوبة.
لخروجهم إلى البلاد، يقال لها: الصفرية، يمتارون منها، وقيل: لأنهم كانوا يخروجون إلى الغارة، فتبقى بيوتهم صفرًا.
وفي "العلم المشهور" لأبي الخطاب: العرب تقول: صفر، وصفران، وصفارين، وأصفار، قال: وقيل: إن العرب كانوا يزيدون في كل أربع سنين شهرًا يسمونه صفرًا، فتكون السنة ثلاثة عشر شهرًا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"السنة اثنا عشر شهرًا". وكانوا يتطيّرون به، ويقولون: إن الأمور فيه منغلقة، والآفات فيه واقعة. انتهى
(1)
.
(وَيَقُولُونَ: إِذَا بَرَأَ) بفتحتين، وآخره همزة، وتخفف بقلبها ألفًا (الدَّبَرْ) بفتح المهملة، والموحّدة: أي زال الجرح الذي كان يحصل بظهور الإبل من الحمل عليها، ومشقّة السفر، فإنه كان يبرأ بعد انصرافهم من الحجّ (وَعَفَا الْأَثَرْ) بهمزة، ومثلثة مفتوحتين: أي اندرس، وانمحى أثر الإبل، وغيرها في سيرها، فإنه ينمحي لطول مرور الزمان والأيام، هذا هو المشهور، وقال الخطابيّ: المراد أثر الدبر المذكور.
وقال القرطبيّ: و"عفا" من الأضداد، يقال: عفا الشيء: كثُر، وقلّ، وظهر، وخفي مثله. انتهى
(2)
.
وفي رواية النسائيّ: "وَعَفَا الْوَبَرْ"؛ أي كثر وَبَرُ الإبل الذي قلعته رحال الحجّ، و"الوَبَر" -بفتحتين-: للبعير كالصوف للغنم، وهو في الأصل: مصدرٌ، من باب تعب، وبَعِيرٌ وَبِز بالكسر كثير الوَبَر، وناقةٌ وَبِرَةٌ، والجمع أوبار، مثل سبب وأسباب. قاله الفيّوميّ.
(وَانْسَلَخَ صَفَرْ) أي خرج شهر صفر الذي جعلوه بدل المحرّم (حَلَّتْ الْعُمْرَةُ لِمَنْ اعْتَمَرْ) أي صار الإحرام بالعمرة لمن أراد أن يحرم بها جائزًا.
[فائدة]: قال النوويّ رحمه الله: هذه الألفاظ تقرأ كلها ساكنة الآخر، ويوقف عليها؛ لأن مرادهم السجع.
وقال الكرمانيّ: ما وجه تعلق انسلاخ صفر بالاعتمار في أشهر الحجّ الذي هو المقصود من الحديث، والمحرم، وصفر ليسا من أشهر الحجّ؟.
(1)
"عمدة القاري" 8/ 35، 36.
(2)
"المفهم" 3/ 363.
فأجاب بقوله: لما سمّوا المحرم صفرًا، وكان من جملة تصرفاتهم جعل السنة ثلاثة عشر شهرًا، صار صفر على هذا التقدير آخر السنة، وآخر أشهر الحجِّ؛ إذ لا برء في أقلّ من هذه المدة غالبًا، وأما ذكر انسلاخ صفر الذي من الأشهر الحرم بزعمهم فلأجل أنه لو وقع قتال في الطريق، وفي مكة لقدروا على المقاتلة، فكأنه قال: إذا انقضى شهر الحج، وأثره، والشهر الحرام جاز الاعتمار، أو يراد بالصفر المحرم، ويكون "إذا انسلخ صفر" كالبيان، والبدل لقوله:"إذا برأ المدبر"، فإن الغالب أن البرء من أثر صفر الحج لا يحصل إلَّا في هذه المدة، وهي ما بين أربعين يومًا إلى خمسين ونحوه. انتهى
(1)
.
(فَقَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَأَصْحَابُهُ) أي دخلوا مكة (صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ) أي صباح الليلة الرابعة من شهر ذي الحجة، وذلك يوم الأحد (مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ) منصوب على الحال؛ أي حال كونهم مهلّين بالحجّ وفي رواية:"وهم يلبّون بالحجّ"، وهي مفسّرة لقوله:"مهلّين"، واحتجّ به من قال: كان حجّ النبيّ صلى الله عليه وسلم مُفْرِدًا، وأجاب من قال: كان قارنًا - وهو الصواب - بأنه لا يلزم من إهلاله بالحج أن لا يكون أدخل عليه العمرة (فَأَمَرَهُمْ) أي النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم (أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً) أي يقلبوا الحجة التي قدموا مهلين بها عمرة، فيتحللوا بأفعال العمرة (فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ) وفي رواية:"فكبر ذلك عندهم": أي شقّ عليهم ما أمرهم به؛ لما كانوا يعتقدونه أَوّلًا (فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الْحِلِّ) كأنهم كانوا يعرفون أن للحجّ تحلّلين، فأرادوا بيان ذلك، فبيّن لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم فـ (قَالَ:"الْحِلُّ كُلُّهُ") يعني أن المطلوب منهم أن يتحلّلوا كلّ الحلّ، حتى غشيان النساء، وذلك تمام الحلّ؛ لأن العمرة ليس لها إلَّا تحلّل واحد.
ووقع في رواية الطحاويّ: "أيَّ الحلّ نحلّ؟، قال: الحلّ كله"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(1)
"عمدة القاري" 8/ 36.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [28/ 3010 و 3011 و 3012 و 3013 و 3014](1240)، و (البخاريّ) في "الجمعة"(1085) و"الحج"(1564) و"المناقب"(3832)، و (أبو داود) في "المناسك"(1790 و 1791 و 1792)، و (النسائيّ) في "المنا سك"(5/ 180) وفي "الكبرى"(3790 و 3796 و 3797 و 3853 و 3854)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 252)، و (الدارميّ) في "سننه"(1856)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 276 - 277)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 342)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(11/ 20)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 345)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة العمرة في أشهر الحجِّ.
2 -
(ومنها): بيان مشروعية فسخ الحج بأعمال العمرة.
3 -
(ومنها): استحباب دخول مكة نهارًا، وهو المرويّ عن ابن عمر رضي الله عنهما، وبه قال عطاء، والنخعيّ، وإسحاق، وابن المنذر، وهو أصحّ الوجهين لأصحاب الشافعيّ، والوجه الثاني أن دخولها ليلًا أو نهارًا سواء، لا فضيلة لأحدهما على الآخر، وهو قول طاوس، والثوريّ، وعن عائشة رضي الله عنها، وسعيد بن جبير، وعمر بن عبد العزيز: دخولها ليلًا أفضل من النهار، وقال مالك: يستحب دخولها نهارًا، فمن جاء ليلًا فلا بأس به، قال: وكان عمر بن عبد العزيز يدخلها لطواف الزيارة ليلًا.
4 -
(ومنها): أنه احتجّ به من قال: إنه صلى الله عليه وسلم حج مفردًا، والصحيح - كما تقدم - أنه حج قارنًا، وتأويل قول ابن عباس رضي الله عنهما:"مهلّين بالحجّ" أي مع العمرة، ولا بدّ من التأويل؛ لئلا يتعارض مع حديث عمر رضي الله عنه في قصّة مجيء الملك إليه صلى الله عليه وسلم، وأمره له بالإهلال بهما معًا، فقال له:"قل: عمرة في حجة"، رواه البخاريّ.
5 -
(ومنها): بيان ما كان عليه أهل الجاهلية من اتباع الهوي، وتشريع ما لَمْ يأذن به الله عز وجل، فيُحلّون ما حرّم الله، ويحرّمون ما أحلّ الله، فلذلك عنّفهم، وضللَّهم، فقال تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ
كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)} [التوبة: 37]. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3011]
(
…
) - (حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الْبَرَّاءِ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: أَهَلَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ، فَقَدِمَ لِأَرْبَع مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَصَلَّى الصُّبْحَ، وَقَالَ - لَمَّا صَلَّى الصُّبْحَ -: "مَنْ شَاءَ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً، فَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ) البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، امتنع من القضاء [10](ت 250) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.
2 -
(أَبُوهُ) عليّ بن نصر الْجَهضميّ البصريّ، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187) تقدم في "الإيمان" 6/ 126.
3 -
(أَيُّوبُ) السختيانيّ، تقدّم قبل بابين.
4 -
(أَبُو الْعَالِيَةِ الْبَرَّاءُ) بتشديد الراء البصريّ، اسمه زياد، وقيل: كُلثوم، وقيل: أُذينة، وقيل: ابن أُذينة، ثقةٌ [4](ت 90)(خ م س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 42/ 1469.
[تنبيه]: قوله: "البرّاء" بتشديد الراء، كما أسلفته آنفًا، سُمي به لأنه كان يبري النَّبْلَ، وهو غير أبي العالية الرِّياحيّ، وقد اشتركا في الرواية عن ابن عبّاس رضي الله عنهما. قاله في "الفتح"
(1)
.
والباقيان ذكرا في الإسنادين الماضيين.
وقوله: (أَهَلَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ) تقدّم أن المراد بالحجّ معه العمرة؛ لأن الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنًا من أول الأمر؛ لصريح حديث عمر رضي الله عنه
المتقدّم، فتنبّه.
(1)
"الفتح" 3/ 462، كتاب الجمعة، رقم (1085).
وقوله: (فَقَدِمَ لِأَرْبَعٍ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ) أي لأربع ليال مضين من شهر ذي الحجة، وفي رواية البخاريّ:"قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه لصبح رابعة يلبّون بالحجّ"؛ أي في صبح ليلة رابعة لشهر ذي الحجة، وكان ذلك صباح يوم الأحد.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3012]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه إِبْرَاهِيمُ بْنُ دِينَارٍ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ (ع) وَحَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْمُبَارَكِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثنا يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ، كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ، فِي هَذَا الْإِسْنَادِ، أَمَّا رَوْحٌ، وَيَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ، فَقَالا كَمَا قَالَ نَصْرٌ: أَهَلَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ، وَأمَّا أَبُو شِهَابٍ، فَفِي رِوَايَتِهِ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولي اللهِ صلى الله عليه وسلم، نُهِلُّ بِالْحَجِّ، وَفِي حَدِيثِهِمْ جَمِيعًا: فَصَلَّى الصُّبْحَ بِالْبَطْحَاءِ، خَلَا الْجَهْضَمِيَّ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ دِينَارٍ) التمّار، أبو إسحاق البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 232)(م) تقدم في "الإيمان" 41/ 272.
2 -
(أَبُو دَاوُدَ الْمُبَارَكِيُّ) سليمان بن داود، ويقال: ابن محمد بن سليمان، أبو داود المباركيّ، صدوقٌ [10].
رَوَى عن أبي شهاب عبد ربه بن نافع، وأبي حفص الأبّار، وحماد بن دُلَيل، وإسماعيل بن عياش، ومحمد بن حرب الصنعاني، وغيرهم.
ورَوَى عنه مسلم حديثًا واحدًا في الحجِّ، وروى له النسائيّ بواسطة أبي بكر أحمد بن علي بن سعيد المروزيّ، وحدّث عنه أحمد بن حنبل، وابنه عبد الله بن أحمد، ويحيى بن يعقوب المباركيّ، وخلف بن هشام البزار قرينه، وغيرهم.
قال أبو زرعة، عن يحيى بن معين: لا بأس به، وقال أبو زرعة: هو ثقةٌ
شيخٌ، كان يكون ببغداد، وذكره ابن حبان في "الثقات"، قال أبو القاسم البغويّ: مات سنة إحدى وثلاثين ومائتين، زاد غيره: في ذي القعدة.
قال الحافظ: وقع في كلام بعضهم: ثنا سليمان أبو داود المباركيّ، فصحّفها آخر: سليمان بن داود، وإنما هو سليمان بن محمد، فقد جزم بذلك الحاكم أبو عبد الله، ورجحه أبو إسحاق الحبّال وغيره، وقال ابن قانع: أبو داود المباركيّ صالح، وقال أبو عوانة في "صحيحه": ثنا محمد بن علي بن داود، ثنا سليمان أبو داود المباركيّ، وكان من أصحاب الحديث.
تفرّد به المصنّف، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث.
[تنبيه]: قوله: "المبارَكيّ" بفتح الراء: منسوب إلى المبارك، وهي بُليدة بقرب واسط، بينها وبين بغداد، وهي على طرف دجلة، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
3 -
(أَبُو شِهَابٍ) عبد ربّه بن نافع الكنانيّ الحناط الكوفيّ، نزيل المدائن، وهو أبو شهاب الأصغر، صدوقٌ يَهِمُ [8].
روى عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ، والأعمش، وعاصم بن بَهْدلة، وعاصم الأحول، وعوف الأعرابيّ، وابن إسحاق، ويونس بن عبيد، وغيرهم.
وروى عنه يحيى بن آدم، ومحمد بن الصلت الأسديّ، وسعيد بن سليمان الوسطىّ، وأبو داود المباركيّ، وعاصم بن يوسف اليربوعيّ، وغيرهم.
قال عليّ، عن يحيى: لَمْ يكن بالحافظ، قال: ولم يرض يحيى أمره، وقال الميمونيّ، عن أحمد: كان كوفيًّا، ما علمت إلَّا خيرًا، وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: ما بحديثه بأس، فقلت: إن يحيى بن سعيد قال: ليس بالحافظ، فلم يرض بذلك، وقال ابن معين: ثقةٌ، وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: أبو شهاب أحب إلي من أبي بكر بن عياش في كلّ شيء، وقال يعقوب بن شيبة: كان ثقةً، وكان كثير الحديث، وكان رجلًا صالحًا لَمْ يكن بالمتين، وقد تكلموا في حفظه، وقال النسائيّ: ليس بالقويّ، وقال العجليّ: لا بأس به، وقال مرةً: ثقةٌ، وقال ابن خِرَاش: صدوقٌ، قال عبد الله بن أحمد، عن أبي داود المباركيّ: مات سنة إحدى أو اثنتين وسبعين ومائة، شك
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 226.
عبد الله، وقال مسلم، عن أحمد بن حنبل: مات سنة (171). رواه إسحاق القَرَاب في "تاريخه"، وقال الساجيّ: صدوق يهم في حديثه، وكذا قال الأزديّ، وزاد: يخطئ، وقال ابن نمير: ثقةٌ صدوقٌ، وقال البزار: ثقةٌ، وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالحافظ عندهم، وقال ابن سعد: كان ثقةً، وذكره في الطبقة السابعة.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجة، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث.
4 -
(يَحْيَى بْنُ كَثِيرِ) بن درهم الْعَنْبريّ مولاهم، أبو غسّان البصريّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الزكاة" 16/ 2332.
والباقون ذُكروا في هذا الباب والذي قبله.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ) يعني الثلاثة، وهو: روح بن عبادة، وأبو شهاب الحنّاط، ويحيى بن كثير.
وقوله: (فِي هَذَا الْإِسْنَادِ)"في" بمعنى الباء؛ أي بهذا الإسناد السابق.
[تنبيه]: رواية روح، عن شعبة هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" (2/ 276) فقال:
(3125)
- حدّثنا الصغانيّ، وأبو أمية، قالا: نا روح بن عبادة، نا شعبة، عن أيوب، عن أبي العالية البرّاء، عن ابن عباس، أنه قال: أهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجّ، فقَدِم لأربع مَضَين من ذي الحجة، فصلى الصبح بالبطحاء، ثم قال:"من شاء أن يجعلها عمرة، فليجعلها". انتهى.
وأما رواية أبي شهاب، عن شعبة، فساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" (9/ 104) فقال:
(3794)
- أخبرنا أحمد بن الحسين بن عبد الجبار الصوفيّ، حدّثنا سليمان بن محمد أبو داود المباركيّ، حدّثنا أبو شهاب، عن شعبة، عن أيوب، عن أبي العالية، عن ابن عباس، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نُهِلّ بالحجّ، فقَدِمَ لأربع من ذي الحجة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح بالبطحاء، فلما صلى، قال:"من شاء أن يجعلها عمرة فليجعلها". انتهى.
وأما رواية يحيى بن كثير، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3013]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ السَّدُوسِيُّ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الْبَرَّاءِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَأَصْحَابُهُ لِأَرْبَعٍ خَلَوْنَ مِنَ الْعَشْرِ، وَهُمْ يُلَبُّونَ بِالْحَجِّ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) أبو موسى الحمّال البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 243)(م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ السَّدُوسِيُّ) المعروف بعارم، أبو النعمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، تغيّر في الآخر، من صغار [9].
رَوَى عن جرير بن حازم، ومهديّ بن ميمون، ووهيب بن خالد، والحمادين، وأبي هلال الراسبيّ، وعبد الوارث بن سعيد، ومعتمر بن سليمان، وغيرهم.
وروى عنه البخاريّ، ثم روى هو والباقون عنه بواسطة عبد الله بن محمد المسنديّ، وأبي داود السنجيّ، وأحمد بن سعيد الدارميّ، وحجاج بن الشاعر، وهارون بن عبد الله الحمّال، وعبد بن حميد، وغيرهم.
قال الذهليّ: ثنا عارم، وكان بعيدًا من العرامة، وقال ابن وَارة: ثنا عارم بن الفضل الصدوق المأمون، وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: إذا حدثك فاختم عليه، وعارم لا يتأخر عن عفّان، وكان سليمان بن حرب يُقَدِّم عارمًا على نفسه؛ إذا خالفه عارم رجع إليه، وهو أثبت أصحاب حماد بن زيد بعد ابن مهديّ، قال: وسئل أبي في عارم، وأبي سلمة، فقال: عارم أحب إليّ، قال: وسئل أبي عنه، فقال: ثقةٌ، قال: وسمعت أبي يقول: اختلط عارم في آخر عمره، وزال عقله، فمن سمع منه قبل الاختلاط، فسماعه صحيح، وكتبت
عنه قبل الاختلاط سنة أربع عشرة، ولم أسمع منه بعدما اختلط، فمن سمع منه قبل سنة عشرين فسماعه جيّد، وأبو زرعة لقيه سنة اثنتين وعشرين، وقال أبو عليّ محمد بن أحمد بن خالد الزُّريعيّ: ثنا عارم قبل أن يختلط، وقال البخاريّ: تغير في آخر عمره، قال: وجاءنا نعيه سنة أربع وعشرين، وقال الآجريّ، عن أبي داود: كنت عند عارم فحدّث عن حماد، عن هشام، عن أبيه أن ماعزًا الأسلميّ سأل عن الصوم في السفر، فقلت له: حمزة الأسلميّ، يعني أن عارمًا قال هذا، وقد زال عقله، وقال أبو داود: بلغنا أنه أنكر سنة ثلاث عشرة، ثم راجعه عقله، ثم استَحْكَم به الاختلاط سنة ست عشرة، وقال أبو داود، عن الْمُقَدَّميّ: مات في صفر سنة أربع، وفيها أرّخه غير واحد، وقيل: مات سنة ثلاث وعشرين ومائتين.
وقال أبو داود: سمعت عارمًا يقول: سماني أبي عارمًا، وسمّيت نفسي محمدًا، وقال سليمان بن حرب: إذا ذكرتَ أبا النعمان فاذكر ابن عون وأيوب، وقال العقيليّ: قال لنا جدّي: ما رأيت بالبصرة أحسن صلاة منه، وكان أخشع من رأيت، وقال النسائيّ: كان أحد الثقات قبل أن يختلط، قال: وقال سليمان بن حرب: إذا وافقني أبو النعمان فلا أبالي من خالفني، وقال الدارقطنيّ: تغير بآخره، وما ظهر له بعد اختلاطه حديث منكر، وهو ثقةٌ، وقال ابن حبان: اختلط في آخره عمره وتغير، حتى كان لا يدري ما يُحَدّث به، فوقع في حديثه المناكير الكثيرة، فيجب التنكب عن حديثه فيما رواه المتأخرون، فإن لَمْ يُعْلَم هذا ترك الكلّ، ولا يُحتج بشيء منها.
قال الحافظ: قرأت بخط الذهبيّ: لَمْ يقدر ابن حبان أن يسوق له حديثًا منكرًا، والقول فيه ما قال الدارقطنيّ، وقال العقيليّ: سماع عليّ البغوي من عارم سنة سبع عشرة؛ يعني بعد الاختلاط، وقال سعيد بن عثمان الأهوازيّ: ثنا عارم ثقةٌ، إلَّا أنه اختلط، وقال الخطيب: سماع الْكُديميّ منه قبل اختلاطه، وقال الذهليّ: ثنا محمد بن الفضل عارم، وكان بعيدًا من العرامة، صحيح الكتاب، وكان ثقةً، وقال العجليّ: بصريّ ثقةٌ رجل صالحٌ، وليس يُعْرَف إلَّا بعارم، وفي "الزهرة": روى عنه البخاريّ أكثر من مائة حديث.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب تسعة أحاديث فقط برقم (1240)
و (1406) و (1536) و (1852) و (1961) و (2053) و (2120) و (2482) و (2877).
3 -
(وُهَيْبُ) بن خالد، تقدّم في الباب الماضي.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (خَلَوْنَ مِنَ الْعَشْرِ) أي مضين من عشر ذي الحجة، وهو بمعنى قوله الماضي:"لأربع مضين من ذي الحجة".
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3014]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصُّبْحَ بِذِي طَوًى، وَقَدِمَ لِأَرْبَعٍ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُحَوِّلُوا إِحْرَامَهُمْ بِعُمْرَةٍ، إِلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام، تقدّم قريبًا.
3 -
(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (بِذِي طَوًى) قال النوويّ رحمه الله: هو بفتح الطاء، وضمها، وكسرها، ثلاث لغات، حكاهنّ القاضي وغيره، والأصح الأشهر الفتح، ولم يذكر الأصمعيّ، وآخرون غيره، وهو مقصورٌ منونٌ، وهو وادٍ معروف بقرب مكة، قال القاضي: ووقع لبعض الرواة في البخاريّ، بالمد وكذا ذكره ثابت. انتهى
(1)
.
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 227.
وهو غير الوادي المقدّس المذكور في القرآن، فإنه طُوى بالضمّ، ولا إضافة فيه، وهو موضع بالشام عند الطور.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: ذو طوى: وادٍ بقرب مكة، على نحو فرسخ، ويُعرف في وقتنا بالزاهر، في طريق التنعيم، ويجوز صرفه ومنعه، وضمّ الطاء أشهر من كسرها، فمن نوّنه جعله اسمًا للوادي، ومن منعه جعله اسمًا للبقعة مع العلميّة، أو منعه للعلميّة مع تقدير العدل عن طاو. انتهى
(1)
.
وقال الأبيّ رحمه الله: طوى واد بقرب مكة، وفي طائه الحركات الثلاث مع القصر، ولبعض رواة البخاريّ فيه المدّ، قال الأصمعيّ: وأما طواء الذي بطريق الطائف فهو بالفتح والمدّ، وقال غيره: وكذلك طواء الذي باليمن بالفتح والمدّ أيضًا. انتهى
(2)
.
قال النوويّ رحمه الله: وفي هذا الحديث دليل لمن قال: يستحب للمحرم دخول مكة نهارًا، لا ليلًا، وهو أصح الوجهين لأصحابنا، وبه قال ابن عمر، وعطاء، والنخعيّ، وإسحاق ابن راهويه، وابن المنذر، والثاني دخولها ليلًا ونهارًا سواء، لا فضيلة لأحدهما على الآخر، وهو قول القاضي أبي الطيّب، والماورديّ، وابن الصباغ، والعبدريّ من أصحابنا، وبه قال طاوس، والثوريّ، وقالت عائشة، وسعيد بن جبير، وعمر بن عبد العزيز: يستحب دخولها ليلًا، وهو أفضل من النهار. انتهى.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3015]
(1241) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ (ع) وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَن الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ؛ قَالَ
(1)
"المصباح المنير" 2/ 382.
(2)
"شرح الأبيّ" 3/ 372.
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هَذِهِ عُمْرَةٌ اسْتَمْتَعْنَا بِهَا، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ الْهَدْيُ، فَلْيَحِلَّ الْحِلَّ كُلَّهُ، فَإِنَّ الْعُمْرَةَ قَدْ دَخَلَتْ في الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ").
رجال هذا الإسناد تسعة:
1 -
(الْحَكَمُ) بن عتيبة، تقدّم قريبًا.
2 -
(مُجَاهِدُ) بن جبر، تقدّم قريبًا أيضًا.
والباقون ذُكروا في الباب والذي قبله.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما) أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هَذِهِ عُمْرَةٌ اسْتَمْتَعْنَا بِهَا) أي بأدائها، والفَراغ من أعمالها (فَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ الْهَدْيُ، فَلْيَحِلَّ) بفتح أوله، من الحلّ ثلاثيًّا، أو بضمّه، من الإحلال رباعيًّا، كما تقدّم غير مرّة، وقوله:(الْحِلَّ) منصوب على المصدر، وقوله:(كُلَّهُ) بالنصب توكيد لـ"الحلَّ"، أي الحلّ التامّ، والمعنى أنه يفعل جميع ما كان حرامًا عليه بسبب الإحرام بالعمرة، وقوله:(فَإِنَّ الْعُمْرَةَ إلخ) تعليل للأمر بالحلّ؛ أي لأن العمرة (قَدْ دَخَلَتْ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ") يعني أن نية العمرة دخلت في نية الحجِّ، بحيث إن من نوى الحجِّ شُرع له الفراغ منه بعمل العمرة، وهذا هو الصواب في معنى الحديث، فهو دليل على مشروعيّة فسخ الحجِّ إلى العمرة، وقد تقدّم البحث عنه مستوفًى. ومن لا يرى الفسخ يقول: معناه حلّت العمرة في أشهر الحجِّ، وصحّت بمعنى دخلت في وقت الحجِّ، وشهوره، وبطل ما كان عليه أهل الجاهلية من عدم حلّ العمرة في أشهر الحجِّ.
وهذا المعنى بعيد عن مقصود الحديث؛ لأن جواز العمرة بيّنه النبيّ صلى الله عليه وسلم قولًا وفعلًا، وأبطل ما تعتقده الجاهلية قبل هذا حيث اعتمر عُمَره الثلاث في أشهر الحج، فقد اعتمر، عمرة الحديبية في ذي القعدة، وكذا عمرة القضية، وعمرة الجعرانة، فكلها في ذي القعدة، وهو من أشهر الحرم، ثم قرن الرابعة مع حجته، فكيف يقال: إن الصحابة لَمْ يعلموا جواز العمرة في أشهر الحج حتى أمرهم بالفسخ، وقد شاهدوا هذه العُمَر كلها، ثم إنه قال لهم عند الميقات:"من شاء أن يهلّ بعمرة، وحجة فليفعل"، فجوّز لهم الاعتمار في
أشهر الحج عند الميقات، فأيّ معنى لكون الفسخ حتى يعلموا جواز العمرة في أشهر الحج؟، إن هذا لشيء بعيد
(1)
.
وأيضًا لا معنى لسؤال سراقة رضي الله عنه بقوله: "عمرتنا هذه ألعامنا هذا، أو للأبد؟ "، مشيرًا إلى العمرة التي فسخوا بها الحجِّ، ثم يجيبه صلى الله عليه وسلم بقوله:"لا، بل للأبد"، والله تعالى أعلم.
وتأوله بعضهم على أن أفعال العمرة دخلت في أفعال الحجِّ، فلا يجب على القارن إلَّا إحرام واحد، وطواف واحد، وهكذا، وهذا أيضًا بعيد، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قاله مجيبًا لسؤالهم: ألعامنا هذا، أم للأبد؟ فلا تقارب بينه وبين هذا التأويل.
وتأوله القائلون بعدم وجوب العمرة بأن المراد أنه سقط افتراضها بالحجّ، فكأنها دخلت فيه، وهذا أبعد من الذي قبله، بل هو باطل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [28/ 3015](1241)، و (أبو داود) في "المناسك"(1790)، و (النسائيّ) في "المناسك"(5/ 181) و"الكبرى"(2/ 368)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 440)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 344)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 236 و 341)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 72)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(11/ 60 - 61)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 343)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 18)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3016]
(1242) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَمْرَةَ الضُّبَعِيَّ، قَالَ: تَمَتَّعْتُ،
(1)
راجع: "مجموع الفتاوى" لابن تيميّة رحمه الله 57/ 26.
فَنَهَانِي نَاسٌ عَنْ ذَلِكَ، فَأَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَنِي بِهَا، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقْتُ إِلَى الْبَيْتِ، فَنِمْتُ، فَأَتَانِي آتٍ فِي مَنَامِي، فَقَالَ: عُمْرَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ، وَحَجٌّ مَبْرُورٌ، قَالَ: فَأَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي رَأَيْتُ، فَقَالَ: اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، سُنَّةُ أَبِي الْقَاسَمِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبو جَمْرَةَ الضُّبَعِيِّ) - بضمّ الضاد المعجمة، وفتح الموحدة، بعدها عين مهملة - وهو: نصر بن عمران بن عصام البصريّ، نزيل خُرَاسان، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 128)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
والباقون هم المذكورون قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أن شيخيه من التسعة الذي روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وهم المذكورون في قولِي:
اشْتَرَكَ الأَئِمَّةُ الْهُدَاةُ
…
ذَوُو الأُصُولِ السِّتَّةِ الْوُعَاةُ
فِي تِسْعَةٍ مِنَ الشُّيُوخِ الْمَهَرَهْ
…
الْحَافِظِينَ النَّاقِدِينَ الْبَرَرَهْ
أُولَئِكَ الأَشَجُّ وَابْنُ مَعْمَرِ نَصْرٌ
…
وَيَعْقُوبُ وَعَمْرو السَّرِي
وَابْنُ الْعَلَاءِ وَأبْنُ بَشَّارٍ كَذَا
…
ابْنُ الْمُثَنَّى وَزِيَادٌ يُحْتَذَى
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين من أوله إلى آخره.
5 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث، والسماع.
شرح الحديث:
عن شُعْبَةَ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَمْرَةَ) بالجيم، والراء (الضُّبَعِيُّ، قَالَ: تَمَتَّعْتُ) أي أهللت بالتمتّع (فَنَهَانِي نَاسٌ) أي ممن لا يرى التمتّع، قال الحافظ: لَمْ أقف على أسمائهم، وكان ذلك في زمن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما،
وكان ينهى عن المتعة، كما رواه مسلم من حديث أبي الزبير عنه، وعن جابر، ونقل ابن أبي حاتم عن ابن الزبير، أنه كان لا يرى التمتع إلَّا للمحصر، ووافقه علقمة، وإبراهيم، وقال الجمهور: لا اختصاص بذلك للمحصر. انتهى
(1)
. (عَنْ ذَلِكَ) أي من التمتّع (فَأَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَنِي بِهَا) أي بالاستمرار على عمرته (قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقْتُ إِلَى الْبَيْتِ) الحرام (فَنِمْتُ) بكسر النون؛ لأنه من باب علم، ولا يقال: نُمْتُ بضمّ النون، كما اشتهر على ألسنة العامّة، فإنه لحنٌ، فتنبّه. (فَاَتَانِي آتٍ فِي مَنَامِي، فَقَالَ: عُمْرَةٌ) بالرفع على أنه خبر لمحذوف؛ أي هذه عمرةٌ، ويجوز النصب على تقدير الفعل؛ أي: فعلت عمرة، وقوله:(مُتَقَبَّلَة) صفة و"عمرة"(وَحَجٌّ مَبْرُورٌ) قال ابن خالويه: المبرور: المقبول، وقال غيره: الحجِّ المبرور: هو الذي لا يخالطه شيء من الإثم، ورجحه النوويّ، وقال القرطبيّ: الأقوال التي ذُكرت في تفسيره متقاربة المعنى، وهي أنه الحج الذي وُفِّيت أحكامه، ووقع موقعًا لما طُلب من المكلف على الوجه الأكمل. انتهى، وسيأتي تمام البحث فيه في بابه
(2)
.
(قَالَ) أبو جمرة (فَأَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (فَأَخْبَرْتُهُ بِالُّذِي رَأَيْتُ، فَقَالَ: اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ) كرّره تأكيدًا لفرحه؛ لموافقته ما يعتقده من السنّة (سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم) برفع "سنّةُ" على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هذه سنةُ، ويجوز فيه النصب بتقدير فعل: أي وافقت سنّة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، أو على الاختصاص.
[تنبيه]: زاد في رواية البخاريّ في آخر هذا الحديث: قال أبو جمرة: فقال لي: أقم عندي، فأجعل لك سهمًا من مالي، قال شعبة: فقلت: لِمَ؟ فقال: للرؤيا التي رأيت. انتهى.
وقوله: (فقال لي) أي قال لي ابن عباس، وقوله:(فأجعل لك) أي فأنا أجعل لك، ويروى:"وأجعل لك" بالواو التي تدل على الحال، ويروى:"اجعل" بدون الفاء والواو.
وقوله: (سهمًا) أي نصيبًا.
(1)
"الفتح" 4/ 469، و"عمدة القاري" 9/ 202.
(2)
"باب فضل الحج والعمرة" برقم (1349) برقم محمد فؤاد رحمه الله.
وقوله: (لِمَ) استفهام عن سبب ذلك، وقوله:(للرؤيا) أي لأجل الرؤيا المذكورة التي رأيتُ، وهو بلفظ المتكلم، وسببه أن الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة.
ويؤخذ منه إكرام من أخبر المرء بما يَسُرّه، وفَرَح العالم بموافقته الحقّ، والاستئناس بالرؤيا لموافقة الدليل الشرعيّ، وعَرْضُ الرؤيا على العالم، والتكبير عند المسرّة، والعمل بالأدلة الظاهرة، والتنبيه على اختلاف أهل العلم؛ ليُعْمَل بالراجح منه، الموافق للدليل، قاله في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [28/ 3016](1242)، و (البخاريّ) في "الحجِّ"(1567 و 1688)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 242)، و (الحاكم) في "مستدركه"(3/ 542)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 343)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 24)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(29) - (بَابُ تَقْلِيدِ الْهَدْيِ، وَإِشْعَارِهِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3017]
(1243) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، جَمِيعًا عَن ابْنِ أَبِي عَدِيّ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي حَسَّانَ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، ثُمَّ دَعَا بِنَاقَتِهِ، فَأَشْعَرَهَا فِي صَفْحَةِ سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ، وَسَلَتَ الدَّمَ، وَقَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ).
(1)
"الفتح" 4/ 469.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، أبو عمرو البصرقي، ثقةٌ [9](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.
2 -
(قَتَادَةُ) بن دعامة السّدوسيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(أَبُو حَسَّانَ) الأعرج الأجرد البصريّ، مشهور بكنيته، واسمه مسلم بن عبد الله، صدوقٌ، رُمي برأي الخوارج [4] قُتل سنة (130)(خت م 4) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 36/ 1424.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين من أوله إلى آخره.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: قتادة، عن أبي حسّان، وهو من رواية الأقران أيضًا؛ لأن كليهما من الطبقة الرابعة، وفيه ابن عبّاس رضي الله عنهما من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما) أنه (قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ) ميقات أهل المدينة (ثُمَّ دَعَا بِنَاقَتِهِ، فَأَشْعَرَهَا) أي جعل لها علامةً تُعرف بها أنَّها هديٌ، يقال: أشعرت البدنةَ إشعارًا: إذا حَزَزتُ سنامها حتى يسيل الدم، فيُعلَمَ أنَّها هدي، فهي شعيرة، قاله الفيّوميّ رحمه الله.
وقال في "العمدة": "الإشعار": في اللغة: الإعلام، مأخوذ من الشُّعُور، وهو العلم بالشيء، من شَعَر يَشْعُر، كنصر ينصر، وقال الراغب: الشَّعَر معروف، قال تعالى:{وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} الآية [النحل: 80]، ومنه استعيرت شَعَرتُ كذا: أي علمت علمًا في الدقّة، كإصابة الشعر، وسمي الشاعر شاعرًا لفطنته، ودقة معرفته {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} الآية [المائدة: 2]؛ أي ما يُهدى إلى بيت الله، سمي بذلك؛ لأنَّها تُشْعَر؛ أي تُعلَّم بأن تُدمى بشعيرة؛ أي حديدة. انتهى.
وفي الشرع: هو أن يُشَقّ أحد سنامي البدن، ويُطعن فيه حتى يسيل دمها؛ ليُعرف أنَّها هديٌ، وتتميّز إن خُلِطت، وتُعرف إن ضلّت، وَيرتدع عنها السُّرّاق، ويأكلها الفقراء؛ إذا ذُبحت في الطريق لخوف الهلاك. انتهى.
(فِي صَفْحَةِ سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ)"الصفحة": الجانب، و"السنام": أعلى ظهر البعير، و"الأيمن" صفة "صفحة"، وذكّره لمجاورته لـ "سنام"، وهو مذكّر، أو على تأويل "صفحة" بجانب.
وقال النوويّ رحمه الله: أما الإشعار، فهو أن يَجرحها في صفحة سنامها اليمنى بِحَرْبة، أو سكين، أو حديدة، أو نحوها، ثم يَسْلُت الدم عنها، وأصل الإشعار، والشعور: الإعلام، والعلامة، وإشعار الهدي؛ لكونه علامة له، وهو مستحبّ؛ لِيُعْلَم أنه هديٌ، فإن ضلّ ردّه واجده، وإن اختلط بغيره تميز، ولأن فيه إظهار شعار الله تعالى، وفيه تنبيه غير صاحبه على فعل مثل فعله.
وأما صفحة السنام، فهي جانبه، والصفحة مؤنثة، فقوله:"الأيمن" بلفظ التذكير يتأول على أنه وصفٌ لمعنى الصفحة، لا للفظها، ويكون المراد بالصفحة الجانب، فكأنه قال: جانب سنامها الأيمن. انتهى
(1)
.
وفي رواية النسائيّ: "أشعر بُدنه مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ"، وفي رواية:"فأشعر في سنامها من الشقّ الأيمن"، وفي رواية:"أشعر الهدي في جانب السنام الأيمن".
(وَسَلَتَ الدَّمَ) وفي رواية النسائيّ: "وَسَلَتَ الدم عنها"، بمهملة، ولام، ثم مثناة: أي مسحه، وأماطه، وأزاله عن صفحة سنامها، زاد في رواية أبي داود:"بيده"، وفي أخرى عنده:"بإصبَعِه"، قال الخطابيّ رحمه الله: سَلَتَ الدم بيده: أي أماطه بإصبعه، وأصل السَّلْت: القطع، يقال: سَلَتَ الله أنف فلان - من باب قتل -: أي جدعه. انتهى.
(وَقَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ) تقليد الهدي: "هو أن يعلّق بعنق البعير قطعة من جلد؛ ليُعلَم أنه هديٌ، فيكفّ الناس عنه، قاله الفيّوميّ رحمه الله.
وقال في "اللسان": القلادة: هي ما يُجعل في العنق، يكون للإنسان،
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 228.
والفرس، والكلب، والبدنة التي تُهدَي، ونحوها. انتهى.
وقال في "الفتح" عند قول البخاريّ رحمه الله: "بابُ تقليد النعل" ما نصّه: يَحْتَمِل أن يريد الجنس، ويَحْتَمِل أن يريد الوحدة؛ أي النعل الواحدة، فيكون فيه إشارة إلى من اشترط نعلين، وهو قول الثوريّ، وقال غيره: تجزئ الواحدة، وقال آخرون: لا تتعيّن النعل، بل كلّ ما قام مقامها أجزأ، حتى أُذُن الإداوة، ثم قيل: الحكمة في تقليد النعل أن فيه إشارةً إلى السفر، والْجِدّ فيه، فعلى هذا يتعين، والله أعلم.
وقال ابن الْمُنَيِّر في "الحاشية": الحكمة فيه أن العرب تعتدّ النعل مركوبةً؛ لكونها تقي عن صاحبها، وتَحْمِل عنه وَعْرَ الطريق، وقد كَنَى بعضُ الشعراء عنها بالناقة، فكأن الذي أهدى خرج عن مركوبه لله تعالي، حيوانًا وغيره، كما خرج حين أحرم عن ملبوسه، ومن ثم استُحِبّ تقليد نعلين، لا واحدة، وهذا هو الأصل في نذر المشي حافيًا إلى مكة. انتهى
(1)
.
(ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ) قال النوويّ رحمه الله: هذه الراحلة غير التي أشعرها، وفيه استحباب الركوب في الحجِّ، وأنه أفضل من المشيّ، وقد سبق بيانه مرات.
(فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ) أي البيداء الذي أمام ذي الحليفة (أَهَلَّ بِالْحَجِّ) أي مع العمرة، كما سبق أن الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنًا من أول الأمر بعدما جاءه الأمر من ربه، وأمره أن يقول:"عمرة في حجة".
وتقدّم أيضًا أن إهلاله صلى الله عليه وسلم كان في محل صلاته حينما انبعثت به راحلته، وأما في البيداء فإهلال آخر سمعه ابن عبّاس رضي الله عنهما، فأخبر به، ولم يسمع ما قبله، وسمعه ابن عمر رضي الله عنهما، فأخبر به، فكان الأخذ به أخذًا بزيادة الثقة، فتفطّن.
وقال النوويّ رحمه الله: وفيه استحباب الإحرام عند استواء الراحلة، لا قبله، ولا بعده، قال: وأما إحرامه صلى الله عليه وسلم بالحج فهو المختار، وقد سبق بيان الخلاف في ذلك واضحًا. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"الفتح" 4/ 656، 657.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 229.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [29/ 3017 و 3018](1243)، و (أبو داود) في "المناسك"(1752)، و (الترمذيّ) في "الحجِّ"(906)، و (النسائيّ) في "المناسك"(5/ 170 و 172 و 174) و"الكبرى"(2/ 359)، و (ابن ماجة) في "المناسك"(3097)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 279)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2696)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 216 و 254 و 280 و 339 و 344 و 347 و 372)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 65 - 66)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2575 و 2609 و 2576)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4002)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(424)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 427)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 343 - 344)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(12/ 12901)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 232)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1893)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب إشعار الهدي، وفائدة الإشعار الإعلام بأنها صارت هديًا؛ ليتبعها من يحتاج إلى ذلك، وحتى لو اختلطت بغيرها تميّزت، أو ضلّت عرفت، أو عطبت عرفها المساكين بالعلامة، فأكلوها، مع ما في ذلك من تعظيم شعار الشرع، وحثّ الغير عليه. قاله الحافظ رحمه الله.
وقال الشاه وليّ الله الدهلويّ رحمه الله: السرّ في الإشعار التنويه بشعائر الله، وأحكام الملة الحنيفية، يرى ذلك منه الأقاصي والأداني، وأن يكون فعل القلب منضبطًا بفعل ظاهر. انتهى.
وقال النوويّ رحمه الله: في هذا الحديث استحباب الأشعار والتقليد في الهدايا، من الإبل، وبهذا قال جماهير العلماء، من السلف والخلف، وقال أبو حنيفة: الإشعار بدعةٌ؛ لأنه مُثْلَةٌ، وهذا يخالف الأحاديث الصحيحة المشهورة في الإشعار، وأما قوله: إنه مُثْلة، فليس كذلك، بل هذا كالفَصْد، والحجامة، والختان، والكيّ، والوَسْم.
قال: وأما محل الإشعار، فمذهبنا، ومذهب جماهير العلماء، من السلف والخلف أنه يستحب الإشعار في حفحة السنام اليمني، وقال مالك: في اليسري، وهذا الحديث يردّ عليه. انتهى.
2 -
(ومنها): استحباب سوق الهدي من الميقات.
3 -
(ومنها): استحباب تقليد الهدي، وهو أن يُجعل في عنقه ما يُستدلّ به على أنه هديٌ، وهو متفق عليه في الإبل، والبقر، واختلفوا في تقليد الغنم، قال النوويّ رحمه الله: وأما تقليد الغنم، فهو مذهبنا، ومذهب العلماء كافّةً، من السلف والخلف، إلَّا مالكًا، فانه لا يقول بتقليدها، قال القاضي عياض: ولعله لَمْ يبلغه الحديث الثابت في ذلك، قال النوويّ: قد جاءت أحاديث كثيرة صحيحة بالتقليد، فهي حجة صريحة في الردّ على من خالفها، واتفقوا على أن الغنم لا تُشْعَر؛ لضعفها عن الجرح، ولأنه يستتر بالصوف، وأما البقرة فيستحب عند الشافعيّ وموافقيه الجمع فيها بين الإشعار والتقليد، كالإبل. انتهى.
4 -
(ومنها): استحباب كون ما يُقلّد به نعلين، قال النوويّ رحمه الله: في الحديث استحباب تقليد الإبل بنعلين، وهو مذهبنا، ومذهب العلماء كافّةً، فإن قلَّدها بغير ذلك، من جلود، أو خيوط مفتولة، ونحوها فلا بأس. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم إشعار الهدي:
(اعلم): أن حديث الباب يدلّ على أن الإشعار سنة، وبه قال الجمهور، ومنهم الأئمة الثلاثة. وذهب أبو حنيفة إلى أن الإشعار بدعة مكروه؛ لأنه مثلة، وتعذيب للحيوان، وهو حرام، وإنما فعله النبي صلى الله عليه وسلم لأن المشركين لا يمتنعون عن التعرّض للهدي إلَّا بالإشعار.
ورُدّ عليه بأن قوله هذا مخالف للأحاديث الصحيحة الواردة بالإشعار، وليس هو مُثلة، بل هو كالفصد، والحجامة، والختان، والكيّ؛ للمصلحة، وأيضًا إن تعرض المشركين في ذلك الوقت بعيد؛ لقوة الإسلام.
وقد قيل: إن كراهة أبي حنيفة له إنما كان من أهل زمانه، فإنهم كانوا
يبالغون فيه بحيث يُخاف سراية الجراحة، وفساد العضو، كذا في "اللمعات"
(1)
.
قال في "الفتح": وبمشروعية الإشعار قال الجمهور، من السلف والخلف، وذكر الطحاويّ في "اختلاف العلماء" كراهته عن أبي حنيفة، وذهب غيره إلى استحبابه؛ للاتباع حتى صاحباه أبو يوسف، ومحمد، فقالا: هو حسن، قال: وقال مالك: يختصّ الإشعار بما لها سنام، قال الطحاويّ: ثبتٌ عن عائشة، وابن عباس التخيير في الإشعار وتركه، فدلّ على أنه ليس بنسك، لكنه غير مكروه؛ لثبوت فعله عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ: وأبعدَ مَن مَنَع الإشعار، واعتلّ باحتمال أنه كان مشروعًا قبل النهي عن المثلة، فإن النسخ لا يصار إليه بالاحتمال، بل وقع الإشعار في حجة الوداع، وذلك بعد النهي عن المثلة بزمان.
وقال الخطابيّ وغيره: اعتلال من كره الإشعار بأنه من المثلة مردود، بل هو باب آخر كالكيّ، وشقّ أذن الحيوان؛ ليصير علامة، وغير ذلك من الوسم، وكالختان، والحجامة، وشفقةُ الإنسان على المال عادةٌ، فلا يخشى ما توهّموه من سريان الجرح حتى يفضي إلى الهلاك، ولو كان ذلك هو الملحوظ لقيّده الذي كرهه به، كأن يقول: الإشعار الذي يفضي بالجرح إلى السراية حتى تهلك البدنة مكروه، فكان قريبًا.
وقد كثر تشنيع المتقدّمين على أبي حنيفة في إطلاقه كراهة الإشعار، وانتصر له الطحاويّ في "المعاني"، فقال: لَمْ يكره أبو حنيفة أصل الإشعار، وإنما كره ما يُفعل على وجه يخاف منه هلاك البُدْن، كسراية الجرح، ولا سيما مع الطعن بالشفرة، فأراد سدّ الباب عن العامة؛ لأنهم لا يُراعون الحدّ في ذلك، وأما من كان عارفًا بالسنة في ذلك فلا.
وفي هذا تعقّب على الخطابيّ حيث قال: لا أعلم أحدًا كره الإشعار إلَّا أبا حنيفة، وخالفاه صاحباه، فقالا بقول الجماعة. انتهى.
وروي عن إبراهيم النخعيّ أيضًا أنه كره الإشعار، ذكر ذلك الترمذيّ،
(1)
راجع: "المرعاة" 9/ 192.
قال: سمعت أبا السائب يقول: كنا عند وكيع، فقال له رجل: روي عن إبراهيم النخعيّ أنه قال: الإشعار مُثلة، فقال وكيع: أقول لك: أشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول قال إبراهيم؟ ما أحقّك بأن تحبس. انتهى.
وفيه تعقّب على ابن حزم في زعمه أنه ليس لأبي حنيفة في ذلك سلف، وقد بالغ ابن حزم في هذا الموضع، ويتعيّن الرجوع إلى ما قال الطحاويّ، فإنه أعلم من غيره بأقوال أصحابه. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما تقدّم من الأدلّة أن مشروعية الإشعار هو الحقّ، ومن قال بأنه بدعة، فيُعتذر عنه بأنه لَمْ تبلغه السنة، أو بلغته عن طريق غير مرضيّ عنده، أو تأوّله بتأويل أخطأ فيه.
والحاصل أن الإشعار سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه الكرام رضي الله عنهم، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والله تعالى أعلم بالصواب.
[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله: اتفق من قال بالإشعار بإلحاق البقر في ذلك بالإبل، إلَّا سعيد بن جبير، واتفقوا على أن الغنم لا تُشعر؛ لضعفها، ولكون صوفها، أو شعرها يستر موضع الإشعار، وأما على ما نُقل عن مالك، فلكونها ليست من ذات أسنمة. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في محل الإشعار:
قال النوويّ رحمه الله: مذهبنا، ومذهب جماهير العلماء من السلف والخلف أنه يستحبّ، الإشعار في صفحة السنام اليمني، وقال مالك في اليسري، وهذا الحديث يردّ عليه. انتهى.
وقال ابن قدامة رحمه الله: السنّة الإشعار في صفحاتها اليمني، وبهذا قال الشافعيّ، وأبو ثور، وقال مالك، وأبو يوسف: بل تُشعر في صفحاتها اليسري، وعن أحمد مثله؛ لأن ابن عمر فعله. ولنا ما روى ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى بذي الحليفة، ثم دعا ببدنة، وأشعرها من صفحة سنامها الأيمن
…
الحديث، رواه مسلم.
(1)
"الفتح" 4/ 649، 650.
وأما ابن عمر فقد روي عنه كمذهبنا رواه البخاريّ، معلّقًا، ثم فعلُ النبي صلى الله عليه وسلم أولى من قول ابن عمر، وفعله بلا خلاف؛ ولأن النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"كان يعجبه التيمن في شأنه كله". انتهى.
وقال البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب من أشعر، وقلّد بذي الحليفة، ثم أحرم": وقال نافع كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا أهدى من المدينة قلّده، وأشعره بذي الحليفة، يطعن في شقّ سنامه الأيمن بالشفرة، ووَجْهُهَا قِبَل القبلة، باركة.
قال الحافظ: وصله مالك في "الموطإ"، قال: عن نافع، عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا أهدى هديًا من المدينة - على ساكنها الصلاة، والسلام - قلّده، وأشعره بذي الحليفة، يقلّده قبل أن يشعره، وذلك في مكان واحد، وهو موجّه للقبلة، يقلّده بنعلين، ويشعره من الشقّ الأيسر، ثم يُساق معه حتى يوقف به مع الناس بعرفة، ثم يُدفع به معهم إذا دفعوا، فإذا قدم منى غداة النحر نحره. وعن نافع، عن ابن عمر، كان إذا طعن في سنام هديه، وهو يشعره، قال:"بسم الله، والله أكبر". وأخرج البيهقيّ في "سننه"(5/ 232) من طريق ابن وهب، عن مالك، وعبد الله بن عمر، عن نافع، أن عبد الله بن عمر كان يشعر بدنه من الشقّ الأيسر، إلَّا أن تكون صعابًا، فإذا لَمْ يستطع أن يُدخل بينها أشعر من الشقّ الأيمن، وإذا أراد أن يشعرها وجّهها إلى القبلة.
وتبيّن بهذا أن ابن عمر كان يطعن في الأيمن تارة، وفي الأيسر أخرى بحسب ما يتهيّأ له ذلك. انتهى كلام الحافظ رحمه الله.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما تقدّم من التحقيقات أن الأرجح أن السنة الإشعار في الصفحة اليمنى؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، ولا حجة في فعل ابن عمر رضي الله عنهما مع صحة المرفوع، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): في ذكر بحث جامع لمسائل الهدي:
(اعلم): أنه قد عقد العلامة ابن رشد رحمه الله في كتابه "بداية المجتهد، ونهاية المقتصد" بابًا جامعًا لأقوال العلماء فيما يتعلّق بالهدي، أحببت إيراده هنا؛ لكونه يجمع شتات الأقوال.
قال رحمه الله: إن النظر في الهدي يشتمل على معرفة وجوبه، وعلى معرفة جنسه، وعلى معرفة سِنِّهِ، وكيفية سَوْقه، ومن أين يساق؟، وإلى أين يُنتَهَى بسوقه؛ وهو موضع نحره، وحكم لحمه بعد النحر.
فنقول: إنهم قد أجمعوا على أن الهدي المسوق في هذه العبادة منه واجب، ومنه تطوع، فالواجب منه ما هو واجب بالنذر، ومنه ما هو واجب في بعض أنواع هذه العبادة، ومنه ما هو واجب؛ لأنه كفارة.
فأما ما هو واجب في بعض أنواع هذه العبادة، فهو هدي المتمتع باتفاق، وهدي القارن باختلاف، وأما الذي هو كفارة فهدي القضاء على مذهب من يشترط فيه الهدي، وهدي كفارة الصيد، وهدي إلقاء الأذى والتفث، وما أشبه ذلك من الهدي الذي قاسه الفقهاء في الإخلال بُنُسكٍ نُسُكٍ منها على المنصوص عليه.
فأما جنس الهدي، فإن العلماء متفقون على أنه لا يكون الهدي إلَّا من الأزواج الثمانية التي نص الله عليها، وأن الأفضل في الهدايا هي الإبل، ثم البقر، ثم الغنم، ثم المعز، وإنما اختلفوا في الضحايا.
وأما الأسنان فإنهم أجمعوا أن الثنيّ فما فوقه يجزي منها، وأنه لا يجزئ الجذع من المعز في الضحايا والهدايا؛ لقوله عليه الصلاة والسلام لأبي بردة:"تجزي عنك، ولا تجزي عن أحد بعدك" متّفقٌ عليه، واختلفوا في الجذع من الضأن، فاكثر أهل العلم يقولون بجوازه في الهدايا والضحايا، وكان ابن عمر يقول: لا يجزي في الهدايا إلَّا الثنيّ من كلّ جنس، ولا خلاف في أن الأغلى ثمنًا من الهدايا أفضل، وكان الزبير يقول لبنيه: يا بَنِيَّ لا يُهدينّ أحدكم لله من الهدي شيئًا يستحي أن يهديه لكريمه، فإن الله أكرم الكرماء، وأحق من اختير له، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقاب - وقد قيل له: أيها أفضل؟ - فقال: "أغلاها ثمنًا، وأنفسها عند أهلها"، متّفقٌ عليه، وليس في عدد الهدي حد معلوم، وكان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، مائة، متّفقٌ عليه.
وأما كيفية سوق الهدي، فهو التقليد والإشعار بأنه هدي؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الحديبية، فلما كان بذي الحليفة قَلَّد الهدي، وأشعره
وأحرم
(1)
، وإذا كان الهدي من الإبل والبقر، فلا خلاف أنه يُقَلِّد نعلًا أو نعلين، أو ما أشبه ذلك لمن لَمْ يجد النعال.
واختلفوا في تقليد الغنم، فقال مالك وأبو حنيفة: لا تقلد الغنم، وقال الشافعي، وأحمد، وأبو ثور، وداود: تقلد؛ لحديث الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أهدى إلى البيت مَرّة غنمًا، فقلّده.
واستحبوا توجيهه إلى القبلة في حين تقليده، واستحب مالك الإشعار من الجانب الأيسر؛ لما رواه عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان إذا أهدى هديًا من المدينة قلّده، وأشعره بذي الحليفة، قلّده قبل أن يشعره، وذلك في مكان واحد، وهو موجه للقبلة، يقلّده بنعلين، ويشعره من الشق الأيسر، ثم يُساق معه حتى يوقف به مع الناس بعرفة، ثم يُدفع به معهم إذا دفعوا، وإذا قَدِم منى غداة النحر نحره قبل أن يَحلِق أو يقصر، وكان هو ينحر هديه بيده، يَصُفُّهُنّ قيامًا، ويوجههن للقبلة، ثم يأكل، ويطعم.
واستحب الشافعي، وأحمد، وأبو ثور الإشعار من الجانب الأيمن
(2)
؛ لحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، صلى الظهر بذي الحليفة، ثم دعا ببُدنه، فأشعرها من صفحة سنامها الأيمن، ثم سَلَتَ الدم عنها، وقلّدها بنعلين، ثم ركب راحلته، فلما استوت على البيداء أهلّ بالحج.
وأما من أين يساق الهدي؟ فإن مالكًا يرى أن من سنته أن يُساق من الحلّ، ولذلك ذهب إلى أن من اشترى الهدي بمكة، ولم يُدخله من الحل أن عليه أن يَقِفه بعرفة، وإن لَمْ يفعل فعليه البدل، وأما إن كان أدخله من الحل، فيستحب له أن يَقِفه بعرفة، وهو قول ابن عمر، وبه قال الليث. وقال الشافعي، والثوري، وأبو ثور: وقوف الهدي بعرفة سنة، ولا حرج على من لَمْ يقفه كان داخلًا من الحل أو لَمْ يكن، وقال أبو حنيفة: ليس توقيف الهدي بعرفة من السنة.
(1)
حديث صحيح.
(2)
تقدّم أن هذا هو المذهب الراجح؛ لموافقته فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأما فعل ابن عمر رضي الله عنهما فموقوف لا يعارض المرفوع، فتنبّه.
وحجة مالك في إدخال الهدي من الحل إلى الحرم، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كذلك فعل، وقال:"خذوا عني مناسككم". وقال الشافعي: التعريف سنّة مثل التقليد، وقال أبو حنيفة: ليس التعريف بسنة، وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن مسكنه كان خارج الحرم، وروي عن عائشة التخيير في تعريف الهدي أو لا تعريفه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأرجح قول من قال باستحباب التعريف؛ اتباعًا لفعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأما القول بالوجوب فيحتاج إلى دليل، وليس حديث:"خذوا عنّي مناسككم" دليلًا على الوجوب؛ لأنهم متّفقون في أشياء على أنَّها مستحبّة مع أن الحديث يشملها، والله تعالى أعلم.
وأما محله فهو البيت العتيق، كما قال تعالى:{ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] وقال: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]، وأجمع العلماء على أن الكعبة لا يجوز لأحد فيها ذبح، وكذلك المسجد الحرام، وأن المعنى في قوله:{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} أنه إنما أراد به النحر بمكة؛ إحسانًا منه لمساكينهم وفقرائهم. وكان مالك يقول: إنما المعنى في قوله: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} مكة. وكان لا يجيز لمن نحر هديه في الحرم إلَّا أن ينحره بمكة. وقال الشافعي، وأبو حنيفة: إن نحره في غير مكة من الحرم أجزأه، وقال الطبري: يجوز نحر الهدي حيث شاء المهدي، إلَّا هدي القران، وجزاء الصيد، فإنهما لا ينحران إلَّا بالحرم.
وبالجملة فالنحر بمنى إجماع من العلماء، وفي العمرة بمكة إلَّا ما اختلفوا فيه من نحر المحصر. وعند مالك إن نحر للحج بمكة، والعمرة بمنى أجزأه، وحجة مالك في أنه لا يجوز النحر بالحرم إلَّا بمكة قوله صلى الله عليه وسلم:"وكل فجاج مكة وطرقها منحر"
(1)
، واستثنى مالك من ذلك هدي الفدية، فأجاز ذبحه بغير مكة.
وأما متى ينحر؟، فإن مالكًا قال: إن ذبح هدي التمتع، أو التطوع قبل يوم النحر لَمْ يجزه، وجوّزه أبو حنيفة في التطوع، وقال الشافعي: يجوز في
(1)
حديث صحيح.
كليهما قبل يوم النحر، ولا خلاف عند الجمهور أن ما عُدل من الهدي بالصيام أنه يجوز حيث شاء؛ لأنه لا منفعة في ذلك، لا لأهل الحرم ولا لأهل مكة، وإنما اختلفوا في الصدقة المعدولة عن الهدي، فجمهور العلماء على أنَّها لمساكين مكة والحرم؛ لأنَّها بدل من جزاء الصيد الذي هو لهم، وقال مالك: الإطعام كالصيام يجوز بغير مكة.
وأما صفة النحر فالجمهور مجمعون على أن التسمية مستحبة فيها؛ لأنَّها ذكاة، ومنهم من استحب مع التسمية التكبير.
ويستحب للمهدي أن يلي نحر هديه بيده، وإن استخلف جاز، وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هديه، ومن سنتها أن تُنحَر قيامًا؛ لقوله سبحانه وتعالى:{فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36].
وأما ما يجوز لصاحب الهدي من الانتفاع به وبلحمه، فإن في ذلك مسائل مشهورة:
(أحدها): هل يجوز له ركوب الهدي الواجب أو التطوع؟ فذهب أهل الظاهر إلى أن ركوبه جائز، من ضرورة ومن غير ضرورة، وبعضهم أوجب ذلك، وكره جمهور فقهاء الأمصار ركوبها من غير ضرورة، والحجة للجمهور ما أخرجه مسلم والنسائيّ عن جابر رضي الله عنه، وقد سئل عن ركوب الهدي، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اركبها بالمعروف؛ إذا أُلجئت إليها حتى تجد ظهرًا"، ومن طريق المعنى أن الانتفاع بما قُصد به القربة إلى الله تعالى منعه مفهوم من الشريعة، وحجة أهل الظاهر ما رواه مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى رجلًا يسوق بدنة، فقال:"اركبها"، فقال: يا رسول الله إنها هدي، فقال:"اركبها ويلك" في الثانية، أو الثالثة.
وأجمعوا على أن هدي التطوع إذا بلغ محله أنه يأكل منه صاحبه كسائر الناس، وأنه إذا عطب قبل أن يبلغ محله خَلّى بينه وبين الناس، ولم يأكل منه، وزاد داود: ولا يطعم منه شيئًا أهل رفقته؛ لما ثبتٌ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث بالهدي مع ناجية الأسلمي، وقال له: "إن عَطِب منها شيء، فانحره، ثم اصبُغْ
نعليه في دمه، وخلّ بينه وبين الناس"
(1)
، ورُوي عن ابن عباس هذا الحديثُ، فزاد فيه:"ولا تأكل منه أنت، ولا أهل رفقتك"، وقال بهذه الزيادة داود، وأبو ثور.
واختلفوا فيما يجب على من أكل منه، فقال مالك: إن أكل منه وجب عليه بدله، وقال الشافعي، وأبو حنيفة، والثوري، وأحمد، وابن حبيب من أصحاب مالك: عليه قيمة ما أكل، أو أمر بأكله، طعامًا يتصدق به، ورُوي ذلك عن علي، وابن مسعود، وابن عباس، وجماعة من التابعين.
وما عطب في الحرم قبل أن يصل مكة، فهل بلغ محله أم لا؟ فيه الخلاف مبني على الخلاف المتقدم، هل المحل هو مكة، أو الحرم؟.
وأما الهدي الواجب؛ إذا عطب قبل محله، فإن لصاحبه أن يأكل منه؛ لأن عليه بدله، ومنهم من أجاز له بيع لحمه، وأن يستعين به في البدل، وكَرِه ذلك مالك. واختلفوا في الأكل من الهدي الواجب إذا بلغ محله، فقال الشافعي: لا يُؤكل من الهدي الواجب كُلِّهِ، ولحمُهُ كُلُّهُ للمساكين، وكذلك جُلُّه إن كان مُجَلَّلا، والنعل الذي قلّد به، وقال مالك: يؤكل من كلّ الهدي الواجب إلَّا جزاء الصيد، ونذر المساكين، وفدية الأذى، وقال أبو حنيفة: لا يؤكل من الهدي الواجب إلَّا هدي المتعة، وهدي القران.
وعمدة الشافعي تشبيه جميع أصناف الهدي الواجب بالكفارة، وأما من فرّق، فلأنه يظهر في الهدي معنيان: أحدهما: أنه عبادة مبتدأة، والثاني: أنه كفارة، وأحد المعنيين في بعضها أظهر، فمن غَلَّب شبَهه بالعبادة على شبَهه بالكفارة في نوع من أنواع الهدي، كهدي القران، وهدي التمتع، وبخاصة عند من يقول: إن التمتع والقران أفضل، لَمْ يشترط أن لا يأكل؛ لأن هذا الهدي عنده هو فضيلة، لا كفارة تدفع العقوبة، ومن غَلَّب شبَهه بالكفارة قال: لا يأكله؛ لاتفاقهم على أنه لا يأكل صاحب الكفّارة من الكفّارة.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن الرأي الأول هو الأرجح؛ لظهور مُتمسّكه، والله تعالى أعلم.
(1)
حديث صحيح رواه أبو داود، وغيره.
قال: ولَمّا كان هدي جزاء الصيد، وفدية الأذى ظاهر من أمرهما أنهما كفارة، لَمْ يختلف هؤلاء الفقهاء في أنه لا يأكل منهما. انتهى المقصود من كلام العلامة ابن رُشد رحمه الله تعالى، وهو بحث نفيس يجمع أقوال أهل العلم في موضع واحد بحيث يمكن الإحالة عليه فيما بعدُ - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3018]
(
…
) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَيِ، عَنْ قتَادَةَ، في هَذَا الْإِسْنَادِ، بِمَعْنَى حَدِيثِ شُعْبَةَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَتَى ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلَمْ يَقُلْ: صَلَّى بِهَا الظُّهْرَ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدّستوائيّ البصريّ، وقد سكن اليمن، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [9](ت 200)(ع) تَقدم في "الإيمان" 12/ 156.
2 -
(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر الدّستوائيّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: رواية هشام الدّستوائيّ، عن قتادة هذه ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" (9/ 312) فقال:
(4000)
- أخبرنا زكريا بن يحيى الساجيّ بالبصرة، قال: حدّثنا محمد بن المثني، قال: حدّثنا معاذ بن هشام، قال: حدّثني أبي، عن قتادة، عن أبي حسان الأعرج، عن ابن عباس، أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لَمَّا أتى ذا الحليفة أشعر الهدي في جانب السنام الأيمن، ثم أماط الدم، وقلّده نعليه، ثم ركب راحلته، فلما استوت به البيداء أحرم، وأهلّ بالحجّ. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3019]
(1244) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَسَّانَ الْأَعْرَجَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي الْهُجَيْمِ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا هَذَا الْفُتْيَا الَّتِي قَدْ تَشَغَّفَتْ، أَوْ تَشَغَّبَتْ بِالنَّاسِ: أَنَّ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ، فَقَدْ حَلَّ، فَقَالَ: سُنَّةُ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم، وَإِنْ رَغَمْتُمْ).
قال الجامع عفا الله عته: كان الأولى ذكر حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا وتالييه في أحاديث فسخ الحج إلى العمرة المتقدّمة، كما لا يخفى على من تأمّله، ورجال إسناده سبعة، وهم المذكورون قبله.
شرح الحديث:
(عَنْ قَتَادَةَ) بن دِعامة أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَسَّانَ الْأَعْرَجَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفه
(1)
. (مِنْ بَنِي الْهُجَيْمِ) بضمّ الهاء مصغّرًا، قال ابن الأثير رحمه الله: بنو الْهُجيم بن عمرو بن تميم بن مُرّ بن أُدّ: بطنٌ من تميم. انتهى
(2)
. (لِابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (مَا) استفهاميّة (هَذَا الْفُتْيَا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في معظم النسخ: "هذا الفتيا"، وفي بعضها:"هذه"، وهو الأجود، ووجه الأول أنه أراد بالفتيا الإفتاء، فوصفه مذكرًا، ويقال: فُتْيَا وفَتْوَى. انتهى. (الَّتِي قَدْ تَشَغَّفَتْ، أَوْ تَشَغَّيَتْ بِالنَّاسِ) وفي الرواية التالية: "إن هذا الأمر قد تفَشّع بالناس"، قال النوويّ رحمه الله: أما اللفظة الأولى، فبشين، ثم غين معجمتين، ثم فاء، والثانية كذلك، لكن بدل الفاء باء موحدة، والثالثة بتقديم الفاء، وبعدها شين، ثم عين، ومعنى هذه الثالثة: انتشرت، وفشت بين الناس، وأما الأولى، فمعناها: عَلِقَت بالقلوب، وشُغِفوا بها؛ أي وسوستهم، وفرّقتهم، كأنها دخلت شِغَاف قلوبهم.
(1)
"تنبيه المعلم" ص 221.
(2)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 444، 445.
وأما الثانية، فرُويت أيضًا بالعين المهملة، وممن ذكر الروايتين فيها المعجمة والمهملة: أبو عبيد، والقاضي عياض، ومعنى المهملة: أنَّها فَرَّقَت مذاهب الناس، وأوقعت الخلاف بينهم، ومعنى المعجمة: خَلَطَت عليهم أمرهم. انتهى.
وقال في "كشف المشكل": قوله: "تشغفت الناس" هذه الكلمة تُروى على ستة أوجه:
[أحدها]: "تشغفت" أي حَلّت شغاف قلوبهم، فشغلتها.
[والثاني]: تشعبت بالناس: أي تفرقت بهم.
[والثالث]: شعبت الناس.
[والرابع]: شعّبت بالتشديد والتخفيف، ومعناهما: فرقتهم.
[والخامس]: شغبت: أي أوجبت الشغب، والاختلاف بينهم، والشغب ها هنا هَيَجَان الشرّ والمنازعة.
[والسادس]: أن هذا الأمر قد تفشغ الناس، والمعنى: تفشغ فيهم: أي كَثُر، يقال: تفشغ في رأسه الشيب؛ أي كثر، وانتشر، قال الأصمعي: تفشغ الشيء: فشا وكثُر. انتهى
(1)
.
وقوله: (أَنَّ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ) يَحْتَمِل فتح همزة "أَنَّ" ويكون المصدر المؤوّل خبرًا لمحذوف؛ أي: هي حلُّ من طاف بالبيت، وَيحتَمِل أن تكون بالكسر، وتكون الجملة بيانًا للفتيا (فَقَدْ حَلَّ) أي من إحرامه (فَقَالَ) ابن عبّاس رضي الله عنهما (سُنَّةُ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم) برفع "سنّةُ" خبرًا لمحذوف؛ أي هي سنته صلى الله عليه وسلم (وَإِنْ رَغَمْتمْ) بفتح أوله، وثانيه، وبكسر ثانية أيضًا: أي وإن ذَلَلتم، قال الفيّوميّ رحمه الله: الرَّغَام بالفتح: التراب، ورَغَمَ أنفه رَغْمًا، من باب قَتَلَ، ورَغِمَ من باب تَجبَ لغةٌ، كناية عن الذّلّ، كانه لَصِقَ بالرَّغَام. انتهى
(2)
.
وفي الرواية التالية: "قيل لابن عبّاس: إن هذا الأمر قد تفشّغ بالناس، من طاف بالبيت فقد حلّ، الطواف عمرة، فقال: سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، وإن رغمتم".
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر من مجموع الروايات أن مراد ابن
(1)
"كشف المشكل" 2/ 350، 351.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 231.
عبّاس رضي الله عنهما بهذا أن من طاف بالبيت؛ أي وسعى بعده وجب عليه أن يتحلّل، فهو عبارة عن فسخ الحجِّ إلى العمرة، لا أنه يريد أن مجرّد الطواف بالبيت يتحلّل به، بدليل احتجاجه في رواية عطاء الآتية بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يتحلّلوا، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم أن يتحلّلوا بالطواف والسعي، والحلق، أو التقصير، وكان ذلك على رأس المروة، كما هو مصرّح به في حديث جابر رضي الله عنه، فقد تقدّم بلفظ: "حتى إذا كان آخر طوافه على المروة
…
إلى أن قال: فمن كان منكم ليس معه هدي فليحلّ، وليجعلها عمرة"، فقد تبيّن أنه ما أمرهم إلَّا بعد السعي، وأما الشرّاح فقد حملوا كلام ابن عباس هذا على أنه يرى أن مجرد الطواف يكون عمرة كاملة.
ومما يؤيّد ما قلناه من أن ابن عبّاس يعني فسخ الحجِّ ما تقدّم في الباب الماضي عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذه عمرة استمتعنا بها، فمن لَمْ يكن عنده الهدي، فليحلّ الحلّ كله، فإن العمرة قد دخلت في الحجِّ إلى يوم القيامة".
ثم إن حمل كلام ابن عبّاس على الفسخ هو الذي استظهره الأبيّ رحمه الله في "شرحه"، وعبارته بعد ذكر تأويلات الشرّاح: ولولا تفسيرهم مذهبه بما ذكروا لكان الأظهر، أو يتعيّن تفسيرها -يعني فتيا ابن عبّاس - بالفسخ؛ لأنه يجيزه، ويشهد لتفسيرها به استبعاد السائل بقوله:"الطواف عمرة"؛ لأن المعنى أنه يجيز الفسخ في العمرة
(1)
، لا الطواف وحده عمرة، وإذا فسّرت فتياه بما ذُكر لَمْ يمكن استبعاده، ويشهد أيضًا لتفسيرها بالفسخ قول عطاء:"وكان يأخذ ذلك من أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم حين أمرهم أن يحلّوا في حجة الوداع"؛ لأن الذي أمرهم به فيها إنما هو الفسخ، وإذا فُسّرت بالفسخ لَمْ يُشكل قوله:"سنة نبيّكم صلى الله عليه وسلم "؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر به في حجة الوداع، وما أمر به سنة، وأما إذا فسّرت بما ذكروا، فإنه يُشكل قوله:"سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم "، فإنه صلى الله عليه وسلم لَمْ يفعله، ولم يأمر به. انتهى كلام الأبيّ رحمه الله، فراجعه
(2)
.
(1)
وقع في النسخة: "في العمرة" والظاهر أنه بـ "إلى العمرة"، فتأمل.
(2)
راجع: "شرح الأبيّ رحمه الله " 3/ 375.
قال الجامع: هذا الذي قاله الأبيّ رحمه الله تحقيق نفيسٌ جدًّا، وحاصله أن الأولى حمل فتيا ابن عبّاس رضي الله عنهما هذه على أنَّها فتيا بفسخ الحجِّ إلى العمرة لمن لَمْ يُهد، وهذا الذي قلناه هو الذي مشى عليه ابن القيّم: في "زاد المعاد"
(1)
فقد أورد هذا الحديث في جملة الأحاديث التي ساقها لإثبات الفسخ، وتأبيده، حيث عدّ ابن عبّاس رضي الله عنهما ممن يرى الفسخ دائمًا، بل يوجبه، كما أسلفنا تحقيقه في محلّه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقال النوويّ: هذا الذي ذكره ابن عباس هو مذهبه، وهو خلاف مذهب الجمهور من السلف والخلف، فإن الذي عليه العلماء كافّةً، سوى ابن عباس أن الحاجّ لا يتحلل بمجرد طواف القدوم، بل لا يتحلل حتى يقف بعرفات، ويرمي، ويحلق، ويطوف طواف الزيارة، فحينئذ يحصل التحللان، ويحصل الأول باثنين من هذه الثلاثة التي هي: رمي جمرة العقبة، والحلق، والطواف.
وأما احتجاج ابن عباس بالآية، فلا دلالة له فيها؛ لأن قوله تعالى:{ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} معناه: لا تُنحَر إلَّا في الحرم، وليس فيه تعرّض للتحلّل من الإحرام؛ لأنه لو كان المراد به التحلّل من الإحرام لكان ينبغي أن يتحلل بمجرد وصول الهدي إلى الحرم، قبل أن يطوف.
وأما احتجاجه بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمرهم في حجة الوداع بأن يحلوا، فلا دلالة فيه؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة في تلك السنة، فلا يكون دليلًا في تحلل من هو ملتبس بإحرام الحجِّ. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله تلك السنّة ليس عليه دليل، بل هو مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم:"بل لأبد الأبد"، فمن أين له تخصيصه بتلك السنة؟، وهذا هو الذي أراده ابن عبّاس رضي الله عنهما في هذا الحديث، فإنه يرى أن كلّ من جاء حاجًّا، وليس معه هدي، فعليه أن يتحلّل بأداء العمرة، كما أمر صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك، وفعلوه، فتبصّر بالإنصاف.
وقال القاضي عياض: قال المازريّ: وتأوّل بعض شيوخنا قول ابن عباس في هذه المسألة على من فاته الحج، أنه يتحلل بالطواف والسعي، قال:
(1)
راجع: "زاد المعاد" 2/ 185 - 187.
وهذا تأويل بعيد؛ لأنه قال بعده وكان ابن عباس يقول: لا يطوف بالبيت حاجّ ولا غيره إلَّا حلّ. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [29/ 3019 و 3020](1244)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 397)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 351)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 278 و 280 و 342)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 303)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 344 - 345)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(12/ 213)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 154)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3020]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي حَسَّانَ، قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ قَدْ تَفَشَّغَ بِالنَّاسِ: مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ، فَقَدْ حَلَّ، الطَّوَافُ عُمْرَةٌ، فَقَالَ: سُنَّةُ نَبِيِّكُمْ، وَإِنْ رَغَمْتُمْ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ) أبو جعفر السَّرَخسيّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 253)(خ م د، ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 93.
2 -
(أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ) بن زيد بن عبد الله بن أبي إسحاق الحضرميّ، أبو إسحاق البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 211)(م د ت س) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 4/ 1609.
3 -
(هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى) الْعَوذيّ، أبو عبد الله، أو أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [7](ت 4 أو 165)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 75.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ قَدْ تَفَشَّغَ بِالنَّاسِ) بتقديم الفاء على الشين: أي كثر وانتشر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3021]
(1245) - (وَحَدَّثنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ حَاجٌّ، وَلَا غَيْرُ حَاجٍّ إِلَّا حَلَّ، قُلْتُ لِعَطَاءٍ: مِنْ أَيْنَ يَقُولُ ذَلِكَ؟ قَالَ: مِنْ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنَّ ذَلِكَ بَعْدَ الْمُعَرَّفِ، فَقَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: هُوَ بَعْدَ الْمُعَرَّفِ، وَقَبْلَهُ، وَكَانَ يَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل باب.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ) البُرْسانيّ، تقدّم أيضًا قبل باب.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم أيضًا قبل باب.
4 -
(عَطَاءُ) بن أبي رباح، تقدّم قريبًا.
و (ابن عبّاس رضي الله عنهما) ذُكر قبله.
شرح الحديث:
عن عَطَاء بن أبي رباح أنه (قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنه (يَقُولُ: لَا يَطُوفُ بالْبَيْتِ حَاجٌّ) أي مهلّ بالحاجّ (وَلَا غَيْرُ حَاجٍّ) وهو المعتمر (إِلَّا حَلَّ) أي بعد أَن يسعى؛ لأن مراد ابن عبّاس رضي الله عنهما فسخ الحجِّ بعمل العمرة، كما أسلفنا تحقيقه في الحديث الماضي، قال ابن جريجٍ:(قُلْتُ لِعَطَاءٍ) أي ابن أبي رباح (مِنْ أَيْنَ يَقُولُ ذَلِكَ؟) أي ما هي حجة ابن عبّاس في ذلك؟ (قَالَ) عطاء (مِنْ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا}) أي محل الهدي، وانتهاؤه إلى ({الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}) وهو الكعبة كما قال تعالى:{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} . (قَالَ) ابن جريجٍ (قُلْتُ: فَمنَّ ذَلِكَ بَعْدَ الْمُعَرَّفِ) بفتح الراء: أي بعد التعريف؛ أي الوقوف
بعرفة، يقال: عَرَّف الناس: إذا شهدوا عرفة، قاله في "العمدة"
(1)
.
وقال ابن الأثير: يريد بالْمُعَرَّف بعد الوقوف بعرفة، وهو التعريف أيضًا، والْمُعَرَّف في الأصل: موضع التعريف، ويكون بمعنى المفعول. انتهى
(2)
.
(فَقَالَ) عطاء (كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: هُوَ بَعْدَ الْمُعَرَّفِ، وَقَبْلَهُ) يعني أنه يرى أن من طاف بالبيت يحلّ سواء كان بعد الوقوف بعرفة، أو قبله (وَكَانَ يَأخُدُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ حِينَ أَمَرَهُمْ) أي أمر أصحابه (أَنْ يَحِلُّوا) بفتح أوله، وضمّه، كما سبق غير مرّة. (فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ) أي أمرهم بفسخ الحجِّ إلى العمرة عام حجة الوداع، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [29/ 3021](1245)، و (البخاريّ) في "المغازي"(4396)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 303)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 345)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 78)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(30) - (بَابُ جَوَازِ التَّقْصِيرِ لِلْمُعْتمِرِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَلْقُ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3022]
(1246) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ
(1)
"عمدة القاري" 18/ 37.
(2)
"النهاية في غريب الأثر" 3/ 218.
هِشَامِ بْنِ حُجَيْرٍ، عَنْ طَاوُسٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ لِي مُعَاوِيَةُ: أَعَلِمْتَ أَنِّي قَصَّرْتُ مِنْ رَأسِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الْمَرْو بِمِشْقَصٍ؟ فَقُلْتُ لَهُ: لَا أَعْلَمُ هَذَا
(1)
إِلَّا حُجَّةً عَلَيْكَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَمْرُو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، تقدّم قريبًا.
2 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم قبل بابين.
3 -
(هِشَامُ بْنُ حُجَيْرٍ) مصغّرًا المكيّ، صدوقٌ له أوهام [7]، تقدم في "المقدمة" 4/ 19.
[تنبيه]: إنما أخرج المصنّف رحمه الله لهشام بن حجير ما توبع عليه، فحديث الباب تابعه فيه الحسن بن مسلم في السند التالي، وحديث قصّة سليمان؛ تابعه فيه أبو الزناد، عن الأعرج، كما سيأتي برقم (1654)
(2)
، فتنبّه.
4 -
(طَاوُسُ) بن كيسان، تقدّم قبل باب.
5 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما تقدّم في السند الماضي.
6 -
(مُعَاوِيةُ) بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أُميّة الأمويّ، أبو عبد الرَّحمن الخليفة الصحابيّ، أسلم رضي الله عنه قبل الفتح، وكتب الوحي، ومات في رجب سنة ستين، وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "الصلاة" 8/ 858.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، وابن حُجير.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ عن صحابيّ.
(1)
وفي نسخة: "هذه".
(2)
رقم الأستاذ محمد فؤاد رحمه الله.
شرح الحديث:
(عَنْ طَاوُسٍ) أنه (قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (قَالَ لِي مُعَاوِيَةُ) بن أبي سفيان رضي الله عنهما (أَعَلِمْتَ) الهمزة للاستفهام (أَنِّي قَصَّرْتُ) بتشديد الصاد المهملة، من التقصير، وفي لغة يجوز تخفيفها، قال الفيّوميّ رحمه الله: وقَصُرَ الشيءُ بالضمّ قِصَرًا، وزانُ عِنَبٍ: خلاف طال، فهو قصير، والجمع قِصَارٌ، ويتعدَّى بالتضعيف، فيقال: قَصَّرتُهُ، وعليه قوله تعالى:{مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} ، وفي لغة: قَصَرته، من باب قَتَلَ، وأقصرته: إذا أخذت من طوله. انتهى
(1)
. (مِنْ رَأْسِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الْمَرْوَةِ) أي عند المكان المعروف بهذا الاسم، وهو في الأصل واحدة المرو، وهي الحجارة الْبِيض، ثم سُمّي به الجبل المعروف بمكة.
(بِمِشْقَصٍ) -بكسر الميم، وإسكان الشين المعجمة، وفتح القاف- قال أبو عبيد وغيره: هو نَصْلُ السهم إذا كان طويلًا، ليس بعريض، جمعه مَشاقص، فإذا كان عريضًا فهو مَعْبَلة، وجمعه معابل، وقال أبو حنيفة الدِّينَوَرِيّ: هو كلّ نَصْل فيه عَيْرٌ
(2)
، وهو الناتئ وسط الحربة، وقال الخليل: هو سهم فيه نصل عريضٌ، يُرْمَى به الوحش. انتهى.
قال الحافظ رحمه الله: وهذا يُشعر بأن ذلك كان في نسك، إما حج، أو عمرة، وقد ثبتٌ أنه حلق في حجته، فتعيّن أن يكون في عمرة، ولا سيما وقد روى مسلم في هذا الحديث أن ذلك كان بالمروة، ولفظه:"قصّرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص على المروة"، أو "رأيته يُقَصَّر عنه بمشقص، وهو على المروة".
وهذا يَحْتَمل أن يكون في عمرة القضيّة، أو الجعرانة، لكن وقع عند مسلم من طريق أخرى عن طاوس بلفظ: "أما علمت أني قصّرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص، وهو على المروة، فقلت له: لا أعلم هذه إلَّا حجة
(1)
"المصباح المنير" 2/ 505.
(2)
بفتح، فسكون.
عليك"، وبيّن المراد من ذلك في رواية النسائيّ، فقال بدل قوله: "فقلت له: لا. . إلخ": يقول ابن عباس: "وهذه على معاوية أن ينهى الناس عن المتعة، وقد تمتّع رسول الله صلى الله عليه وسلم "، ولأحمد من وجه آخر عن طاوس عن ابن عباس، قال: "تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات" الحديث، وقال: أول من نهى عنها معاوية، قال ابن عباس: فعجبت منه، وقد حدثني أنه قصّر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص. انتهى.
وهذا يدلّ على أن ابن عبّاس حمل ذلك على وقوعه في حجة الوداع؛ لقوله لمعاوية: "إن هذه حجة عليك"؛ إذ لو كان في العمرة لما كان فيه على معاولة حجة.
وأصرح منه ما وقع عند أحمد من طريق قيس بن سعد، عن عطاء:"أن معاوية حدّث أنه أخذ من أطراف شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام العشر بمشقص معي، وهو محرم"، وفي كونه في حجة الوداع نظر؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يحلّ حتى بلغ الهدي محله، فكيف يقصّر عنه على المروة.
وقد بالغ النوويّ هنا في الردّ على من زعم أن ذلك كان في حجة الوداع، فقال: هذا الحديث محمول على أن معاوية قصّر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في عمرة الجعرانة؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان قارنًا، وثبت أنه حلق بمني، وفرّق أبو طلحة شعره بين الناس، فلا يصحّ حمل تقصير معاوية على حجة الوداع، ولا يصحّ حمله أيضًا على عمرة القضاء الواقعة سنة سبع؛ لأن معاوية لَمْ يكن يومئذ مسلمًا، إنما أسلم يوم الفتح سنة ثمان، هذا هو الصحيح المشهور، ولا يصحّ قول من حمله على حجة الوداع، وزعم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان متمتّعًا؛ لأن هذا غلط فاحش، فقد تظاهرت الأحاديث في مسلم وغيره أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قيل له:"ما شأن الناس حلّوا من العمرة، ولم تحلّ أنت من عمرتك؟، فقال: إني لبّدت رأسي، وقلّدت هديي، فلا أحلّ حتى أنحر".
قال الحافظ: ولم يذكر الشيخ هنا ما مرّ في عمرة القضيّة، والذي رجحه
من كون معاوية إنما أسلم يوم الفتح صحيح من حيث السند، لكن يمكن الجمع بأنه كان أسلم خُفْية، وكان يكتم إسلامه، ولم يتمكن من إظهاره إلَّا يوم الفتح.
وقد أخرج ابن عساكر في "تاريخ دمشق" من ترجمة معاوية تصريح معاوية بأنه أسلم بين الحديبية والقضيّة، وأنه كان يُخفي إسلامه خوفًا من أبويه، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم لما دخل في عمرة القضيّة مكة خرج أكثر أهلها عنها حتى لا ينظروه وأصحابه يطوفون بالبيت، فلعلّ معاوبة كان ممن تخلّف بمكة لسبب اقتضاه، ولا يعارضه أيضًا قول سعد بن أبي وقّاص فيما أخرجه مسلم وغيره:"فعلناها -يعني العمرة- في أشهر الحجِّ، وهذا يومئذ كافر بالعُرُش" - بضمّتين -يعني بيوت مكة، يشير إلى معاوية؛ لأنه يُحْمَل على أنه أخبر بما استصحبه من حاله، ولم يطّلع على إسلامه؛ لكونه كان يُخفيه.
وَيعْكُر على ما جوّزوه أن تقصيره كان في عمرة الجعرانة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ركب من الجعرانة بعد أن أحرم بعمرة، ولم يستصحب أحدًا معه إلَّا بعض أصحابه المهاجرين، فقدم مكة، فطاف، وسعي، وحلق، ورجع إلى الجعرانة، فأصبح بها كبائت، فخفيت عمرته على كثير من الناس.
وكذا أخرجه الترمذيّ وغيره، ولم يعدّ معاوية فيمن صحبه حينئذ، ولا كان معاوية فيمن تخلّف عنه بمكة في غزوة حنين، حتى يقال: لعله وجده بمكة، بل كان مع القوم، وأعطاه مثل ما أعطى أباه من الغنيمة، مع جملة المؤلّفة.
وأخرج الحاكم في "الإكليل" في آخر قصّة غزوة حنين أن الذي حلق رأسه صلى الله عليه وسلم في عمرته التي اعتمرها من الجعرانة أبو هند عبد بني بياضة.
فإن ثبتٌ هذا، وثبت أن معاوية كان حينئذ معه، أو كان بمكة فقصّر عنه بالمروة أمكن الجمع بأن يكون معاوية قصّر عنه أَوّلًا، وكان الحلّاق غائبًا في بعض حاجته، ثم حضر، فأمره أن يكمل إزالة الشعر بالحلق؛ لأنه أفضل، ففعل.
وإن ثبت أن ذلك كان في عمرة القضيّة، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم حلق فيها جاء هذا الاحتمال بعينه، وحصل التوفيق بين الأخبار كلها.
قال الحافظ: وهذا مما فتح الله عليّ به في هذا الفتح، ولله الحمد، ثم لله الحمد أبدًا.
قال صاحب "الهدي": الأحاديث الصحيحة المستفيضة تدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم لَمْ يحلّ من إحرامه إلى يوم النحر، كما أخبر عن نفسه بقوله:"فلا أحلّ حتى أنحر"، وهو خبر لا يدخله الوهم بخلاف خبر غيره، ثم قال: ولعلّ معاوية قصّر عنه في عمرة الجعرانة، فنسي بعد ذلك، وظنّ أنه كان في حجته. انتهى.
قال الحافظ: ولا يعكر على هذا إلَّا رواية قيس بن سعد المتقدّمة لتصريحه فيها بكون ذلك في أيام العشر، إلَّا أنَّها شاذّة، وقد قال قيس بن سعد عقبها: والناس ينكرون ذلك. انتهى.
ويعكر عليه قوله في رواية أحمد: "قصّرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة"، أخرجه من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال ابن حزم: يَحْتَمِل أن يكون معاوية قصّر عن رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بقية شعر لَمْ يكن الحلّاق استوفاه يوم النحر.
وتعقّبه صاحب "الهدي" بأن الحالق لا يبقي شعرًا يقصر منه، ولا سيما وقد قسم صلى الله عليه وسلم شعره بين الصحابة الشعرة والشعرتين، وأيضًا فهو صلى الله عليه وسلم لَمْ يسعَ بين الصفا والمروة إلَّا سعيًا واحدًا في أول ما قَدِمَ، فماذا يصنع عند المروة في العشر؟.
قال الحافظ: وفي رواية العشر نظر كما تقدّم، وقد أشار النوويّ إلى ترجيح كونه في الجعرانة، وصوّبه المحبّ الطبريّ، وابن القيّم.
وفيه نظر؛ لأنه جاء أنه حلق في الجعرانة، واستبعاد بعضهم أن معاوية قصّر عنه في عمرة الحديبية لكونه لَمْ يكن أسلم ليس ببعيد. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
(1)
"الفتح" 4/ 684 - 686.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي ظهر لي مما سبق كله أن الأرجح هو الذي رجحه النوويّ، والمحبّ الطبريّ، وابن القيم من أنه محمول على أنه قصر معاوية عنه صلى الله عليه وسلم في الجعرانة، ولا يبعد أن يكون في عمرة القضيّة، ولا يعكُر على ذلك ما مرّ عن الحاكم أنه صلى الله عليه وسلم حلق فيها؛ لما تقدم في كلام الحافظ من الجمع، وأما الرواية التي تدلّ على أن ذلك كان في حجة الوداع فهي غلط من بعض الرواة، أو أن معاوية رضي الله عنه نفسه ظن ذلك؛ حيث نسي، كما قاله ابن القيّم رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب.
قال ابن عبّاس رضي الله عنهما (فَقُلْتُ لَهُ) أي لمعاوية رضي الله عنه (لَا أَعْلَمُ هَذا) أي الذي ذكرته من تقصيرك عنه رأسه صلى الله عليه وسلم " (إِلَّا حُجَّةً عَلَيْكَ) أي حيث تنهى عن المتعة، وهذا من ابن عبّاس رضي الله عنهما إنكارٌ على معاوية رضي الله عنه في نهيه عن ذلك مع أنه أخبره أنه قصّر عنه صلى الله عليه وسلم، وهذا محمول على أن ابن عبّاس رضي الله عنهما حمل ذلك على حجة الوداع، ولكن الصواب ما تقدّم من أنه صلى الله عليه وسلم لَمْ يتحلّل في حجة الوداع إلَّا يوم النحر بمني، وأما هذا فمحمول على عمرة الجعرانة، أو عمرة القضيّة، فتفطّن.
وفي رواية النسائيّ: "قال: لا، يقول ابن عبّاس: هذا معاوية ينهى الناس عن المتعة، وقد تمتّع النبيّ صلى الله عليه وسلم "، وغرضه أيضًا الإنكارُ عليه في نهيه عن التمتع حيث خالف ما ثبتٌ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه تمتّع، وقد عرفت أن المراد بتمتّعه صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه به، فتحلّلوا بالعمرة، وأما هو فكان قارنًا لَمْ يتحلّل إلَّا يوم النحر، فتنبّه لهذا فإنه مهمّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث معاوية رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [30/ 3022 و 3523](1246)، و (البخاريّ) في "الحجِّ"(1730)، و (أبو داود) في "المناسك"(1802 و 1803)،
و (الترمذيّ) في "الحجِّ"(822)، و (النسائيّ) في "المناسك"(2737 و 2987 و 2988 و 2989) وفي "الكبرى"(3717 و 3981 و 3982 و 3983)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 275)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 95 و 96 و 98 و 102)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 345)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(19/ 358 - 309)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 102)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة)؛ في فوائده:
1 -
(منها): مشروعيّة التقصير في العمرة.
2 -
(ومنها): بيان مشروعيّة التمتّع.
3 -
(ومنها): جواز الاقتصار على التقصير، وإن كان الحلق أفضل، وسواء في ذلك الحاجّ، والمعتمر، إلَّا أنه يستحب للمتمتع أن يقصر في العمرة، ويحلق في الحج؛ ليقع الحلق في أكمل العبادتين، قاله النوويّ رحمه الله.
4 -
(ومنها): بيان أنه يستحب أن يكون تقصير المعتمر، أو حلقه، عند المروة؛ لأنَّها موضع تحلّله، كما يستحب للحاجّ أن يكون حلقه، أو تقصيره في منى؛ لأنَّها موضع تحلله، وحيث حَلَقا أو قصرا من الحرم كله جاز، قاله النوويّ رحمه الله أيضًا
(1)
.
5 -
(ومنها): الإنكار على من خالف السنة، وإن كان كبير القوم؛ إذ الحقّ أكبر منه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3032]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَن
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 231.
ابْنِ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ مُعَاوَيةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ، قَالَ: قَصَّرْتُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِشْقَصٍ، وَهُوَ عَلَى الْمَرْوَةِ، أَوْ رَأَيْتُهُ يُقَصَّرُ عَنْهُ بِمِشْقَصٍ، وَهُوَ عَلَى الْمَرْوَةِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ) بن ميمون، تقدّم قبل باب.
2 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، تقدّم قريبًا.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) تقدّم قبل حديث.
4 -
(الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ) بن يَنّاق المكيّ، ثقةٌ [51] مات بعد المائة بقليل (خ م د س ق) تقدم في "صلَاة العيدين" 1/ 2044.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (أَوْ رَأَيْتُهُ)"أو" للشكّ من الراوي، وفي رواية أبي نعيم في "المستخرج":"أو قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قُصِّر عنه بمشقص".
وقوله: (يُقَصَّرُ عَنْه إلخ) بالبناء للمفعول.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(31) - (بَابُ جَوَازِ التَّمَتُّعِ فِي الْحَجِّ، وَالْقِرَانِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3024]
(1247) - (حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثنَا دَاوُدُ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
(1)
، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَصْرُخُ بِالْحَجِّ صُرَاخًا، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ، أَمَرَنَا أَنْ
(1)
وفي نسخة: "عن أبي سعيد الخدريّ".
نَجْعَلَهَا عُمْرَةً، إِلَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، وَرُحْنَا إِلَى مِنًى، أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ) أبو سعيد البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 235) على الأصحّ، وله (85) سنةً (خ م د س) تقدم في "المقدمة" 6/ 75.
2 -
(عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى) الساميّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.
3 -
(دَاوُدُ) بن أبي هند القشيريّ مولاهم، أبو بكر، أو أبو محمد البصريّ، ثقةٌ متقنٌ [5](ت 140) أو قبلها (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.
4 -
(أَبُو نَضْرَةَ) المنذر بن مالك بن قُطَعة الْعَبْديّ الْعَوَقيّ البصريّ، ثقةٌ مشهور بكنيته [3](ت 8 أو 109)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.
5 -
(أَبُو سَعِيدٍ) سعد بن مالك بن سنان بن عُبيد الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (3 أو 4 أو 65) وقيل:(74)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 485.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى الصحابيّ، فمدنىّ.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.
4 -
(ومنها): أن صحابيّه ابن صحابيّ رضي الله عنهما، هو أحد المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) رضي الله عنه زاد في نسخة: "الخدريّ"، أنه (قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَصْرُخُ بِالْحَجِّ صُرَاخًا) أي نرفع أصواتنا لتلبية الحجِّ، يقال: صرخ يصرُخ، من باب نصر صُرَاخًا، بالضمّ: إذا صاح.
وهذا الحديث يدلّ على أنهم كانوا مفردين بالحجّ، وقد سبقت أحاديث تدلّ على أن بعضهم كانوا متمتّعين، وبعضهم كانوا قارنين، وبعضهم كانوا مفردين، وقد تقدّم التوفيق بينها.
وقال السنديّ رحمه الله في "شرح سنن ابن ماجة" عند قوله: "فكان من القوم من أهل بعمرة إلخ" ما نصّه: هذا الحديث يدلّ على أن بعضهم كانوا متمتعين، وبعضهم مفردين بالحجّ، وحديث أبي سعيد عند مسلم:"خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نَصْرُخ بالحج صُراخًا" يدلّ على أنهم كانوا مفردين بالحجّ، وحديث أنس عند البخاريّ:"كنت رَدِيف أبي طلحة، وإنهم ليصرخون بهما جميعًا: الحج والعمرة"، وحديث الشيخين عن عائشة يدلّ على أن بعضهم كانوا متمتعين، وبعضهم كانوا قارنين، وبعضهم كانوا مفردين.
ووجه الجمع أن الفعل يُنسب إلى الآمر، كقولك: ضرب الأمير فلانًا، أي أمر بضربه، وكان أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم منهم المفرد، ومنهم القارن، ومنهم المتمتع، وكل ذلك منهم بأمره صلى الله عليه وسلم، وتعليمه، فجاز أن يضاف كلُّ ذلك إليه، وكذلك اختَلَفت الأخبار في فعله صلى الله عليه وسلم هل كان قارنًا، وفيه أحاديث كثيرة مروية عن سبعة عشر من عظام الصحابة صلى الله عليه وسلم، أو كان مفردًا بالحج، وفيه أيضًا أحاديث كثيرة، وجاء في التمتع أيضًا أحاديث صحيحة، وذكروا في توفيقها، وترجيح كونه قارنًا وجوهًا متعددةً، منها ما قال النوويّ: والصحيح أنه كان مفردًا أولًا، ثم أحرم بالعمرة بعد ذلك، فصار قارنًا، فمن روى القران اعتبر آخر الأمر، ومن روى التمتع أراد التمتع اللغويّ، وهو الانتفاع والارتفاق، وقد ارتَفَقَ بالقران كارتفاق التمتع، وزيادةً، وهي الاقتصار على فعل واحد. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما صحّحه النوويّ من كونه صلى الله عليه وسلم أولًا مفردًا، ثم كان قارنًا، فيه نظر لا يخفي، يردّه حديث عمر رضي الله عنه عند البخاريّ في إتيان الملك إليه، وأمره له بالقران، وهذا من أول الأمر، فالأرجح أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنًا من أول الأمر، لما ذُكر، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(1)
"شرح السنديّ على سنن ابن ماجة" 1/ 215.
(فَلَمَّا قَدِمْنَا) بكسر الدال (مَكَّةَ، أَمَرَنَا) صلى الله عليه وسلم (أَنْ نَجْعَلَهَا) أي الحجة التي كانوا صرخوا بها من الميقات (عُمْرَةً) يعني أنهم يتحلّلون بأفعال العمرة، من الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والحلق، أو التقصير (إِلَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ) أي فإنه لا يجوز أن يتحلّل حتى يبلغ الهدي محلّه، كما أمر الله تعالى بذلك، حيث قال:{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} ، وهو أن يُنحر يوم النحر في مني، أو غيره، من فجاج مكة (فَلَمَّا كانَ يَوْمُ الترْوِيَةِ)"كان" هنا تامّة، ولذا اكتفت بمرفوعها، وهو "يوم"؛ أي فلما جاء يوم التروية، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة، وقد تقدّم سبب تسميته، فلا تنس. (وَرُحْنَا) بضمّ الراء، من باب قال، رَواحًا: المراد: أردنا الذهاب، قال الفيّوميّ رحمه الله: رَاحَ يَرُوحُ رَوَاحًا، وتَرَوَّحَ مثله، يكون بمعنى الغُدُوّ، وبمعنى الرجوع، وقد طابق بينهما في قوله تعالى:{غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} ؛ أي ذهابها، ورجوعها، وقد يَتَوَهَّم بعض الناس أن الرواح لا يكون إلَّا في آخر النهار، وليس كذلك، بل الرواح، والغُدُوّ عند العرب يستعملان في المسير؛ أي وقت كان، من ليل أو نهار، قاله الأزهريّ وغيره. انتهى
(1)
.
وقوله: (إِلَى مِنًى) متعلّق ب "رُحْنا"(أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ) أي رفعنا أصواتنا بتلبية الحجِّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [31/ 3024](1247)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 5 و 71 و 75)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 433)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 345 - 346)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(3/ 354)، و (ابن
(1)
"المصباح المنير" 1/ 242، 243.
حبّان) في "صحيحه"(3793)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 193 و 195)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 31 و 40) و"المعرفة"(3/ 555)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب رفع الصوت بالتلبية، وهو مُتّفق عليه، بشرط أن يكون رفعًا مقتصدًا، بحيث لا يُؤدِّيَ نفسه، قال النوويّ رحمه الله: والمرأة لا ترفع، بل تسمع نفسها؛ لأن صوتها محل فتنة.
قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم أنه يُستحبّ للمرأة أيضًا رفع الصوت بالتلبية؛ لعموم الأدلة، فتنبّه.
قال: ورفع الرجل مندوب عند العلماء كافّة، وقال أهل الظاهر: هو واجب، ويرفع الرجل صوته بها في غير المساجد، وفي مسجد مكة، ومني، وعرفات، وأما سائر المساجد ففي رفعه فيها خلاف للعلماء، وهما قولان للشافعي، ومالك، أصحهما استحباب الرفع كالمساجد الثلاثة، والثاني لا يرفع؛ لئلا يهوش على الناس، بخلاف المساجد الثلاثة؛ لأنَّها محل المناسك.
2 -
(ومنها): بيان جواز العمرة في أشهر الحجِّ، وهو مجمع عليه.
3 -
(ومنها): أن فيه حجة للشافعيّ، وموافقيه أن المستحب للمتمتع أن يكون إحرامه بالحجّ يوم التروية، وهو الثامن من ذى الحجة عند إرادته التوجّه إلى مني، وقد سبقت المسألة غير مرّة
(1)
، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3025]
(1248) - (وَحَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرٍ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ في قَالا: قَدِمْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ نَصْرُخُ بِالْحَجِّ صُرَاخًا).
(1)
راجع: "شرح النوويّ" 8/ 232، 233.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(حَدَّثنَا حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) تقدّم قريبًا.
2 -
(مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ) الْعَمّيّ، أبو الهيثم البصريّ، أخو بَهْز، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [10](ت 218) على الصحيح (خ م قد ت س ق) تقدم في "الطهارة" 34/ 684.
3 -
(وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ) تقدّم قبل بابين.
4 -
(جَابرُ) بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بالمدينة بعد السبعين، وهو ابن (94) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، أخرجه هنا [31/ 3025](1248)، و (أحمد) في "مسنده" 3/ 15، و (أبو نعيم) في "المستخرج" 3/ 346، و (البيهقي) في "الكبرى" 5/ 40، و (الطبراني) في "الأوسط" 3/ 354، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3026]
(1249) - (حَدَّثَنِي حَامِدُ بْنُ عُمَرَ الْبَكْرَاوِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، قَالَ: كلنْتُ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، فَأَتَاهُ آتٍ، فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَابْنَ الزُّبَيْرِ اخْتَلَفَا فِي الْمُتْعَتَيْنِ، فَقَالَ جَابِرٌ: فَعَلْنَاهُمَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ نَهَانَا عَنْهُمَا عُمَرُ، فَلَمْ نَعُدْ لَهُمَا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(حَامِدُ بْنُ عُمَرَ الْبَكْرَاوِيُّ) تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ الْوَاحِدِ) بن زياد الْعَبْديّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [8](ت 176) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.
3 -
(عَاصِمُ) بن سليمان الأحول، أبو عبد الرَّحمن البصريّ، ثقةٌ [4] مات بعد (140)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (فِي الْمُتْعَتَيْنِ) أي متعة الحجِّ، ومتعة النساء، وأراد بمتعة الحجِّ فسخ الحجِّ إلى العمرة.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد أخرجه هنا [31/ 3026](1249)، و (أحمد) في "مسنده" 3/ 325، و (أبو نعيم) في "المستخرج" 3/ 346، و (البيهقي) في "الكبرى" 206/ 7، وقد تقدّم بأتمّ من هذا برقم [17/ 2947](1217) وتقدّم شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3027]
(1250) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنِي سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ، عَنْ مَرْوَانَ الْأَصْفَرِ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: أَنَّ عَلِيًّا قَدِمَ مِنَ الْيَمَنِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم "بِمَ
(1)
أَهْلَلْتَ؟ " فَقَالَ: أَهْلَلْتُ بِإِهْلَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَوْلَا أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(ابْنُ مَهْدِيٍّ) هو: عبد الرَّحمن، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ)"سليم" بفتح السين المهملة، وكسر اللام مكبّرًا، و"حيّان" بفتح الحاء المهملة، وتشديد الياء التحتانيّة الْهُذليّ البصريّ، ثقةٌ [7](خ م د ت س ق) تقدم في "صلاة الجنائز" 21/ 2207.
[تنبيه]: ذكر الحافظ أبو عليّ الجيّاني رحمه الله أنه وقع عند العلاء بن ماهان في إسناده "سليمان بن حيّان" بضمّ السين، وزيادة نون، وهذا وهَمٌ، وصوابه "سلِيم" كما رواه أبو أحمد. انتهى
(2)
.
4 -
(مَرْوَانُ الْأَصْفَرُ)
(3)
أبو خَلَف البصريّ، يقال: هو مروان بن خاقان، ويقال: ابن سالم، ثقةٌ [4].
(1)
وفي نسخة: "بما".
(2)
"تقييد المهمل" 3/ 840.
(3)
"الأصفر" بالفاء في جميع النسخ، وهو الصواب، ووقع في "خلاصة الخزرجيّ":"الأغر" بالغين المعجمة، وهو تصحيف، فتنبّه.
رَوَى عن ابن عمر، وأبي هريرة، وأنس، وأبي وائل، والشعبيّ، وجماعة.
وروى عنه خالد الحذاء، وعوف الأعرابيّ، وسَلِيم بن حبان، وشعبة، وغيرهم.
قال الآجريّ: قلت لأبي داود: مروان الأصفر؟ قال: مروان بن خاقان، ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث.
[تنبيه]: قال في "الفتح": ليس لمروان الأصفر في البخاريّ عن أنس سوى هذا الحديث، وهو من أفراد الصحيح، قال الترمذيّ: حسن غريبٌ، وقال الدارقطنيّ في "الأفراد": لا أعلم رواه عن سَلِيم بن حيّان غير عبد الصمد بن عبد الوارث. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "غير عبد الصمد" فيه نظر لا يخفي، فقد رواه عنه عبد الرَّحمن بن مهديّ، وبهز بن أسد، عند مسلم هنا، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
و"أنس" رضي الله عنه ذُكر قبل حديث.
شرح الحديث:
(عَنْ أنَسٍ رضي الله عنه: أَنَّ عَلِيًّا قَدِمَ مِنَ الْيَمَنِ) حيث بعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم إليها قبل حجة الوداع (فقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "بِمَ أَهْلَلْتَ؟ ") بحذف الألف من "ما" الاستفهاميّة؛ لكونها مجرورةً، كما قال في "الخلاصة":
وَ"مَا" فِي الاسْتِفْهَامِ إِنْ جُرَّتْ حُذِفْ
…
أَلِفُهَا وَأَوْلهَا الْهَا إِنْ تَقِفْ
ووقع في بعض النسخ: "بما أهللت" بإثبات الألف، وهو قليل.
(فَقَالَ) عليّ رضي الله عنه (أَهْلَلْتُ بِإِهْلَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أي قلت: لبيك بمثل ما أهلّ به النبيّ صلى الله عليه وسلم، ففيه جواز تعليق التلبية بتلبية غيره، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَوْلَا أَنَّ صلى الله عليه وسلم الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ) هذا إشارة إلى أمر على رضي الله عنه بالبقاء
(1)
"الفتح" 4/ 448.
على إحرامه؛ حيث إنه أهلّ بإهلال النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومعه الهدي، والنبيّ لَمْ يتحلّل بسبب الهدي، فكان حكمه حكمه.
وأصرح من هذا ما أخرجه البخاريّ من طريق بكر المزنيّ أنه ذكر لابن عمر أن أنسًا حدّثهم: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أهلّ بعمرة وحجة، فقال: أهلّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بالحجّ، وأهللنا به معه، فلما قَدِمنا مكة، قال:"من لَمْ يكن معه هدي، فليجعلها عمرةً"، وكان مع النبيّ صلى الله عليه وسلم هديٌ، فقدِم علينا عليّ بن أبي طالب من اليمن حاجًّا، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"، أهللت؟، فإن معنا أهلك"، قال: أهللت بما أهلّ به النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "فأمسك، فإن معنا هديًا".
فهذه الرواية أوضحت ما كان مختصرًا في هذا الحديث، فتأمّل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [31/ 3027 و 3028](1250)، و (البخاريّ) في "الحجِّ"(1558) و"المغازي"(4353)، و (الترمذيّ) في "الحجِّ"(956)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 185)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3776)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 347)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(346)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 15)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3028]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِيهِ حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ (ح) وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ هَاشِمٍ، حَدَّثنَا بَهْزٌ، قَالَ: حَدَّثنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّ
(1)
فِي رِوَايَةِ بَهْزٍ: "لَحَلَلْتُ").
(1)
وفي نسخة: "غير أنه".
رجال هذا هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ الصَّمَدِ) بن عبد الوارث، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ هَاشِمِ) بن حيّان الْعَبْديّ، أبو عبد الرَّحمن الطُّوسيّ، سكن نيسابور، ثقةٌ صاحب حديث، من صغار [10] مات سنة بضع و (250) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.
وهو من أفراد المصنّف رحمه الله.
3 -
(بَهْزُ) بن أسد الْعَمّي، أخو معلّى المذكور قبل حديثين، تقدّم قبل بابين.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: رواية عبد الصمد، عن سَلِيم بن حيّان هذه ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه" (3/ 295) فقال:
(956)
- حدّثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدّثني أبي
(1)
، قال: حدّثنا سَلِيم بن حيّان، قال: سمعت مروان الأصفر، عن أنس بن مالك، أن عليًّا قَدِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن، فقال:"بم أهللت؟ " قال: أهللت بما أهلّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"لولا أن معي هديًا لأحللت".
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. انتهى.
وأما رواية بهز بن أسد، عن سَلِيم، فقد ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" (3/ 185) فقال:
(12950)
- حدّثنا عبد اللهِ
(2)
، حدّثني أبي، ثنا بَهْزٌ، ثنا سَلِيمُ بن حَيَّانَ، قال: سمعت مروان الأصفر يحدِّث عن أنس، أن عليًّا قَدِمَ من اليمن، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"، أهللت؟ "، فقال: أهللت بما أهلّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"فإني لولا أن معي الهديَ لحللت". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
سقط قوله: "حدّثني أبي" من بعض النسخ، والاستدراك من "تحفة الأشراف" 1/ 680، ثم وجدت بعض النسخ على الصواب، والحمد لله.
(2)
ولدُ الإمام أحمد، راوي "المسند" عنه.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3029]
(1251) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، وَحُمَيْدٍ، أَنَّهُمْ سَمِعُوا أَنَسًا رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا: "لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا، لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(هُشَيْمُ) بن بَشِير، تقدّم قريبًا.
3 -
(يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ) الْحَضْرميّ مولاهم البصريّ النحويّ، صدوقٌ ربما أخطأ [5](ت 136)(ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 2/ 1586.
4 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبِ) الْبُنَانيّ البصريّ، ثقةٌ [4](ت 130)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
5 -
(حُمَيْدٌ) الطويل، أبو عُبيدة البصريّ، ثقةٌ عابد [5](ت 2 أو 143)(ع) تقدم في "الطهارة" 23/ 639.
و"أنس" رضي الله عنه ذُكر قبله، والحديث مرّ برواية بكر بن عبد الله المزنيّ، عن أنس رضي الله عنه برقم (25/ 2996) وتقدّم شرحه هناك.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [31/ 3029 و 3030](1251)، و (أبو داود) في "المناسك"(1795)، و (الترمذيّ) في "الحجِّ"(821)، و (النسائيّ) في "المناسك"(5/ 150)، و (ابن ماجة) في "المناسك"(2968 و 2969)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2121)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 99 و 111 و 182 و 187 و 282)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2619)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(9/ 245)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 347)، و (الحاكم) في
"مستدركه"(1/ 472)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(435)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 9 و 40)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3030]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِيهِ عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَحُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا"، وَقَالَ حُمَيْدٌ: قَالَ أَنَسٌ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجٍّ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) السعديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظ، من صغار [9](ت 244)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
2 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن عليّة، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله، والحديث سبق البحث فيه قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3031]
(1252) - (وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، جَمِيعًا عَن ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ حَنْظَلَةَ الْأَسْلَمِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يُحَدِّثُ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُهِلَّن ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ حَاجًّا، أَوْ مُعْتَمِرًا، أَوْ لَيَثنِيَنَّهُمَا").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ) الخراسانيّ، ثم المكيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
4 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
5 -
(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم، تقدّم قريبًا.
6 -
(حَنْظَلَةُ الْأَسْلَمِيُّ) هو: حنظلة بن عليّ بن الأسقع الأسلميّ المدنيّ، ثقةٌ [3](بخ م د س ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 56/ 1557.
7 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، المتوفّى سنة (7 أو 8 أو 59) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتحاد كيفية أخذه عنهم، ثم فصّل؛ لاختلافهم في ذلك.
2 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.
شرح الحديث:
(عَنْ حَنْظَلَةَ الْأَسْلَمِيِّ) أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يُحَدِّثُ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُهِلَّنَّ) بضمّ حرف المضارعة، من الإهلال، واللام هي الموطّئة للقسم؛ أي: والله ليُهلنّ عيسى (ابْنُ مَرْيَمَ) عليه السلام (بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ) - بفتح الفاء، وتشديد الجيم - قال الحافظ أبو بكر الحارثيّ: هو بين مكة والمدينة، قال: وكان طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، والى مكة عام الفتح، وعام حجة الوداع. انتهى، وقيل: الرَّوْحاء - بفتح أوله، وبالحاء المهملة، ممدودًا - قرية جامعة لمزينة، على ليلتين من المدينة، بينهما أحد وأربعون ميلًا، قاله البكريّ في "معجمه". انتهى
(1)
.
(حَاجًّا، أَوْ مُعْتَمِرًا) الظاهر أن "أو" في الموضعين للشكّ من الراوي، إما من أبي هريرة، أو من دونه، كما أشار إليه ابن حزم رحمه الله
(2)
.
وقال الأبيّ رحمه الله: العطف بـ"أو" إن كان من الراوي، فهو شكّ منه، هل
(1)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 89.
(2)
راجع: "المحلّى" 7/ 110.
سمع "معتمرًا"، أو مفردًا، أو قارنًا، وإن كان من النبيّ صلى الله عليه وسلم فهو إبهام، وفائدة الحديث الإخبار بالمغيّبات. انتهى
(1)
.
(أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُمَا") بفتح الياء في أوله، ومعناه: يقرُن بينهما، وهذا يكون في آخر الزمان بعد نزول عيسى عليه السلام من السماء، قاله النوويّ رحمه الله
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [31/ 3031 و 3032 و 3033](1252)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 400)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1005)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 240 و 272 و 513 و 540)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(15/ 232)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 422)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(7144)، و (ابن منده) في "الإيمان"(419)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 422)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 347)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 5)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(4278)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان جواز التلبية بالحجّ والعمرة، وهو القران.
2 -
(ومنها): بيان أن الأنبياء يحجّون، ويعتمرون، أما بالنسبة لعيسى عليه السلام، فإنه حيّ في السماء، وسينزل إلى الأرض حاكمًا بشريعة نبيّنا صلى الله عليه وسلم، فحجه لا يُستغرب.
وأما بالنسبة لغيره من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فإنه ثبتت النصوص بذلك، فنثبته، ومعلوم أنهم أحياء في قبورهم حقيقة حياة برزخيّة، ويتقربون إلى الله تعالى بالصلاة، والحج وغيرهما من الطاعات، وهم في قبورهم، ففي "صحيح مسلم" عن أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم رأى موسى قائمًا في قبره
(1)
"شرح الأبيّ" 3/ 378.
(2)
"شرح النوويّ" 8/ 234.
يصلي، وفي رواية البخاريّ ذكر إبراهيم، وفي أخرى لمسلم ذكر يونس
(1)
.
وقد ثبتٌ في أحاديث كثيرة نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان، وفي حديث النَّوّاس بن سمعان رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حين ذكر الدجال، وذكر مكثه في الأرض، ثم قال:"ينزل عيسى عليه السلام عند المنارة البيضاء شرقيّ دمشق، فيطلبه، فيدركه بباب لُدّ، فيقتله". رواه مسلم.
وفي "الصحيحين" من حديث الزهريّ، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده ليوشكنّ أن ينزل فيكم ابن مريم حَكَمًا عدلًا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية"، ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} الآية
(2)
.
وأخرج أبو داود، وصححه ابن حبّان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الأنبياء كلهم إخوةٌ لعلات، أمهاتهم شتي، ودينهم واحد، وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم، إنه ليس بيني وبينه نبيّ، وإنه نازل؛ إذا رأيتموه فاعرفوه، رجل مربوعٌ، إلى الحمرة والبياض، بين ممصرين
(3)
كأن رأسه يقطر، وإن لَمْ يصبه بللٌ، فيقاتل الناس على الإسلام، فيدُقّ الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويُهلك الله في زمانه الملل كلها إلَّا الإسلام، ويهلك المسيح الدجال، وتقع الأَمَنَةُ في الأرض، حتى ترتع الأسد مع الإبل، والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات، لا تضرهم، فيمكث في الأرض أربعين سنة، ثم يُتَوَفَّي، فيصلي عليه المسلمون، صلوات الله عليه". انتهى
(4)
.
وروى عبد الله بن نافع الصائغ صاحب مالك، عن عثمان بن الضحاك بن عثمان الأسديّ، عن محمد بن يوسف، عن عبد الله بن سلام، عن أبيه، عن
(1)
راجع: "مرقاة المفاتيح" 5/ 420.
(2)
راجع: "التمهيد لابن عبد البر" 14/ 202، 203.
(3)
أي فيهما صفرة خفيفة.
(4)
اللفظ لابن حبّان في "صحيحه" 15/ 233.
جدّه قال: يُدفَن عيسى عليه السلام مع النبيّ صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ثَمَّ موضع قبر رابع
(1)
.
[تنبيه]: اختلف العلماء في قول الله عز وجل: {يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} فقالت طائفة: أراد: إني رافعك، ومتوفيك، قالوا: وهذا جائز في الواو، والمعنى عند هؤلاء أنه تَوَفِّي موت، إلَّا أنه لَمْ يمت بعدُ.
وقال زيد بن أسلم وجماعة: {مُتَوَفِّيكَ} قابضك من غير موت، مثل تَوَفَّيت المال، واستوفيته؛ أي قبضته.
وقال الربيع بن أنس: يعني وفاة منام؛ لأن الله تعالى رفعه في منامه.
وروى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:{مُتَوَفِّيكَ} أي مميتك، وقال وهب: توفاه الله ثلاث ساعات من النهار.
قال ابن عبد البرّ رحمه الله: والصحيح عندي في ذلك قول من قال: متوفيك: قابضك من الأرض؛ لما صح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من نزوله، وإذا حُمِلت رواية علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس على التقديم والتأخير: أي رافعك، ومميتك لَمْ يكن بخلاف لما ذكرناه. انتهى
(2)
.
وأما قوله عز وجل: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} ، فقال أبو هريرة، وابن عباس: قبل موت عيسى عليه السلام، وهو قول الحسن، وعكرمة، وأبي مالك، ومجاهد، هذه رواية سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وروى مجاهد، عن ابن عباس: قبل موته: قبل موت صاحب الكتاب، فقيل لابن عباس: وإن ضُربت عنقه، فقال: وإن ضربت عنقه. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3032]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ، قَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ).
(1)
راجع: "التمهيد لابن عبد البر" 14/ 202.
(2)
"التمهيد لابن عبد البر" 14/ 203.
(3)
"التمهيد لابن عبد البر رضي الله عنه" 14/ 204.
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(لَيْثُ) بن سعد الإمام المشهور، تقدّم قريبًا.
و"ابنُ شهاب" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية الليث، عن ابن شهاب هذه ساقها يعقوب بن سفيان رحمه الله في "المعرفة والتاريخ" (1/ 210) فقال:
حدّثنا أبو صالح، وابن بكرٍ، ومحمد بن خلاد، عن الليث، حدّثني ابن شهاب، أن حنظلة بن عليّ الأسلميّ أخبره، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده، لَيُهِلَّن ابن مريم بفَجِّ الرَّوْحاء حاجًّا، أو معتمرًا، أو لَيَثْنِيَنَّهُمَا". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3033]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِيهِ حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ عَلِيٍّ الْأَسْلَمِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ" بِمِثْلِ حَدِيثِهِمَا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(يُونُسُ) بن يزيد بن أبي النِّجَاد الأيليّ، أبو يزيد، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِهِمَا) أي حديث ابن عيينة، والليث بن سعد، كلاهما عن الزهري.
[تنبيه]: رواية يونس بن يزيد، عن الزهريّ هذه لَمْ أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(32) - (بَابُ بَيَانِ عَدَدِ عُمَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَزَمَانِهِنَّ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3034]
(1253) - (حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، أَنَّ أنَسًا رضي الله عنه أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ، كُلُّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، إِلَّا الَّتي مَعَ حَجَّتِهِ: عُمْرَةً مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، أَوْ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مِنْ جِعْرَانَةَ، حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ، فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(هَدَّابُ بْنُ خَالِدِ) بن الأسود القيسيّ، أبو خالد البصريّ، ويقال له: هُدْبة، ثقةٌ عابد، من صغار [9] مات سنة بضع و (130)(خ م د) تقدم في "الإيمان" 11/ 151.
2 -
(هَمَّامُ) بن يحيى الْعَوذيّ، تقدّم قبل بابين.
3 -
(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدوسيّ، تقدّم أيضًا قبل بابين.
4 -
(أنَسٌ رضي الله عنه) تقدّم في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (189) من رباعيّات الكتاب.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، كما أسلفته آنفًا.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين.
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث والإخبار.
5 -
(ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا.
شرح الحديث:
عن قَتَادَةَ (أَنَّ أَنَسًا رضي الله عنه أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ)
بضمّ، ففتح: جمع عمرة (كُلُّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ) بفتح القاف، وكسرها، وجمعه: ذوات القعدة، وذوات القَعَدات، والتثنية: ذواتا القَعدة، وذواتا القَعدتين، فثَنَّوُا الاسمين، وجمعوهما، وهو عزيز؛ لأن الكلمتين بمنزلة كلمة واحدة، ولا تتوالى على كلمة علامتا تثنية، ولا جمع، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
. (إِلَّا الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ) بفتح الحاء وكسرها.
قال في "الفتح": قوله: "إلَّا التي مع حجته" استَشْكَل ابن التين هذا الاستثناء، فقال: هو كلام زائد، والصواب:"أربع عمر، في ذي القعدة، عمرة من الحديبية" الحديث، قال: وقد عَدَّ التي مع حجته في الحديث، فكيف يستثنيها أَوَّلًا؟
وأجاب القاضي عياض بأن الرواية صواب، وكأنه قال: في ذي القعدة منها ثلاث، والرابعة عمرته في حجته، أو المعنى كلها في ذي القعدة، إلَّا التي اعتمر في حجته؛ لأن التي في حجته كانت في ذي الحجة. انتهى
(2)
.
(عُمْرَةً) بالنصب على البدليّة من "أربع"، أو مفعولًا لفعل مقدَّر؛ أي: أعني، ويجوز النصب خبرًا لمحذوف؛ أي إحداها، أو مبتدأ خبره "في ذي القعدة، وقوله: (مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ) متعلّق بصفة لـ"عمرةٌ"، وهو بتخفيف الياء الثانية، وتُشدَّد، أحد حدود الحرم، على تسعة أميال من مكة، وقوله: (أَوْ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ) "أو" فيه للشكّ من الراوي.
[تنبيه]: قال الفيّوميّ رحمه الله: "الحديبية": بئر بقرب مكة، على طريق جدة، دون مرحلة، ثم أُطلق على الموضع، ويقال: بعضه في الحلّ، وبعضه في الحرم، وهوأبعد أطراف الحرم عن البيت، ونَقَل الزمخشريّ، عن الواقديّ أنَّها على تسعة أميال من المسجد، وقال أبو العباس أحمد الطبريّ في "كتاب دلائل القبلة": حَدُّ الحرم من طريق المدينة ثلاثة أميال، ومن طريق جُدّة عشرة أميال، ومن طريق الطائف سبعة أميال، ومن طريق اليمن سبعة أميال، ومن طريق العراق سبعة أميال.
قال في "المحكم": فيها التثقيل والتخفيف، ولم أر التثقيل لغيره، وأهل
(1)
"المصباح المنير" 2/ 510.
(2)
"الفتح" 5/ 12، 13.
الحجاز يخففون، قال الطرطوشيّ في قوله تعالى:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} : هو صلح الحديبية، قال: وهي بالتخفيف، وقال أحمد بن يحيى: لا يجوز فيها غيره، وهذا هو المنقول عن الشافعيّ، وقال السهيليّ: التخفيف أعرف عند أهل العربية، قال: وقال أبو جعفر النحاس: سألت كلّ من لَقِيت ممن أَثِق بعلمه من أهل العربية عن الحديبية، فلم يختلفوا في أنَّها مخففة، ونَقَل البكريّ التخفيف عن الأصمعيّ أيضًا، وأشار بعضهم إلى أن التثقيل لَمْ يُسمَع من فصيح، ووجهه أن التثقيل لا يكون إلَّا في المنسوب، نحو الإسكندرية، فإنها منسوبة إلى الإسكندر، وأما الحديبية، فلا يُعقَل فيها النسبة، وياء النسب في غير منسوب قليل، ومع قلّته فموقوف على السماع، والقياس أن يكون أصلها حَدْباة بألف الإلحاق ببنات الأربعة، فلما صُغِّرت انقلبت الألف ياءً، وقيل: حديبية، ويشهد لصحة هذا قولهم: لُيَيلِيَة، بالتصغير، ولم يرد لها مكبّر، فقدَّره الأئمة ليلاةً؛ لأن المصغر فرع المكبّر، ويمتنع وجود فرع بدون أصله، فقُدِّر أصله؛ ليجري على سنن الباب، ومثله مما سمع مصغرًا دون مكبّره، قالوا في تصغير غلمة، وصبية: أغيلمة، وأصيبية، فقدّروا أصله: أغلمة، وأصبية، ولم ينطقوا به؛ لما ذكرت، فافهمه، فلا محيد عنه، وقد تكلمت العرب بأسماء مصغرة، ولم يتكلموا بمكبّرها، ونقل الزجاجيّ، عن ابن قتيبة: أنَّها أربعون اسمًا. انتهى كلام الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
ثم إن عمرة الحديبية قد ثبتٌ أنه صلى الله عليه وسلم أحرم بها من ذي الحليفة، ولكن لَمْ يؤدها، فعدّها هنا محمول على أنه همّ بالدخول محرمًا بها، إلَّا أنه صُدَّ عنها، وأُحصر منها فإطلاق العمرة عليها، مع عدم أفعالها باعتبار النية المترتب عليها المثوبة
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "عمرة من الحديبية" يعني: التي صدَّه فيها المشركون عن البيت، فحلّ فيها من الحديبية، وحلق، ونحر، ورجع إلى المدينة؛ كما صالحهم عليه، ثم إنه اعتمر في السَّنة الثانية عمرة القضاء، وسُمِّيت بذلك، وبعمرة القضية أيضًا؛ لأنه إنما اعتمرها في السَّنة الثانية على ما
(1)
"المصباح المنير" 1/ 123، 124.
(2)
"مرقاة المفاتيح" 5/ 432.
كان قاضاهم عليه؛ أي: صالحهم، وذلك: أنهم كانوا اشترطوا عليه أن لا يدخل عليهم مكة في سنتهم تلك، بل في السَّنة الثانية، ولا يدخلها عليهم بشيء من السِّلاح إلَّا بالسيف وقِرابه، وأنه لا يمكث فيها أكثر من ثلاثة أيام، إلى غير ذلك من الشروط التي هي مذكورة في كتب السِّير، فوفَّى لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك. انتهى
(1)
.
(فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ) بصيغة اسم الفاعل؛ أي العام الذي بعد عام الحديبية، وهي عمرة القضاء (فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مِنْ جِعْرَانَةَ) - بكسر الجيم، وسكون العين، وقيل: بكسر العين، وتشديد الراء - قال الفيّوميّ رحمه الله:"والجعرانة": موضع بين مكة والطائف، وهي على سبعة أميال من مكة، وهي بالتخفيف، واقتصر عليه في "البارع"، ونقله جماعة عن الأصمعيّ، وهو مضبوط كذلك في "المحكم"، وعن ابن المدينيّ: العراقيون يثقلون الجعرانة، والحديبية، والحجازيون يخففونهما، فأُخذ به المحدّثون، على أن هذا اللفظ ليس فيه تصريح بأن التثقيل مسموع من العرب، وليس للتثقيل ذكر في الأصول المعتمدة، عن أئمة اللغة، إلَّا ما حكاه في "المحكم" تقليدًا له في الحديبية، وفي "العباب": والجعرانة بسكون العين، وقال الشافعيّ: المحدّثون يخطئون في تشديدها، وكذلك قال الخطابيّ. انتهى
(2)
.
(حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ) أي بعد فتح مكة (فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ) يعني التي قرنها مع حجته.
قال القرطبيّ رحمه الله: وأما عمرته من جعرانة فكانت بعد منصرفه من حنين، ومن الطائف، وبعد قسم غنائم حنين بجعرانة، وأما عمرته مع حجته فهي التي قرنها مع حجته على رواية أنس، أو أردفها على ما ذكرناه عن ابن عمر، واعتمد مالك في "موطئه": على أنه صلى الله عليه وسلم "اعتمر ثلاث عُمَر: إحداها في شوال، فأسقط التي مع حجته بناءً منه على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان مفردًا بالحج، وأما هذه العُمرة المنسوبة إلى شوال فهي - والله أعلم -: عمرة الجعرانة، أحرم بها في أخريات شوال، وكمَّلَها في ذي القعدة، فصدقت عليها النِّسبتان، والله تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 3/ 366.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 102.
ولا يُعلم للنبيّ صلى الله عليه وسلم عُمرة غير ما ذكرناه مما اتُّفق عليه، واختُلف فيه، وقد ذكر الدارقطني: أنه صلى الله عليه وسلم خرج معتمرًا في رمضان
(1)
، وليس بالمعروف.
وأما قول ابن عمر: إنه اعتمر في رجب؛ فقد غلَّطَتْهُ في ذلك عائشة، ولم ينكر عليها، ولم ينتصر، فظهر: أنه كان على وَهْم، وأنه رجع عن ذلك.
وأما حَجُّهُ صلى الله عليه وسلم: فلم يُختلف أنه إنما حج في الإسلام حجَّة واحدة، وهي المعروفة بحجَّة الوداع، وأما قبل هجرته: فاختُلف هل حجَّ واحدة - كما قال أبو إسحاق السَّبيعيّ -، أو حجَّتين؛ كما قال غيره، وسيأتي عدد غزواته في الجهاد - إن شاء الله تعالى - انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: الحاصل من رواية أنس، وابن عمر اتفاقهما على أربع عُمَر، وكانت إحداهن في ذي القعدة عام الحديبية سنة ست من الهجرة، وصُدُّوا فيها، فتحلّلوا، وحُسِبت لهم عمرة، والثانية: في ذي القعدة، وهي سنة سبع، وهي عمرة القضاء، والثالثة: في ذي القعدة سنة ثمان، وهي عام الفتح، والرابعة مع حجته، وكان إحرامها في ذي القعدة، وأعمالها في ذي الحجة.
وأما قول ابن عمر: إن إحداهنّ في رجب، فقد أنكرته عائشة، وسكت
(1)
رواه الداقطنيّ في "سننه" 2/ 188، قال في "الفتح": أخرجه الدارقطني من طريق العلاء بن زهير، عن عبد الرَّحمن بن الأسود بن يزيد، عن أبيه، عن عائشة، وقال: إن إسناده حسن، وقال صاحب "الهدي": إنه غلط؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يعتمر في رمضان.
قال الحافظ: ويمكن حمله على أن قولها: "في رمضان" متعلق بقولها: "خرجت" - يعني قولها: "خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة رمضان" - ويكون المراد سفر فتح مكة، فإنه كان في رمضان، واعتمر النبيّ صلى الله عليه وسلم في تلك السنة من الجعرانة، لكن في ذي القعدة، وقد رواه الدارقطنيّ بإسناد آخر إلى العلاء بن زهير، فلم يقل في الإسناد:"عن أبيه"، ولا قال فيه:"في رمضان". انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن التأويل الذي ذكره الحافظ بعيد، والذي قاله صاحب "الهدي" من أن في الحديث غلطًا هو الأقرب، ويؤيّد هذا الرواية المذكورة بعده، فإنها تدلّ على اضطرابه وعدم ضبطه، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.
(2)
"المفهم" 3/ 366 - 368.
ابن عمر حين أنكرته، قال العلماء: هذا يدلّ على أنه اشتبه عليه، أو نسي، أو شكّ، ولهذا سكت عن الإنكار على عائشة، ومراجعتها بالكلام، فهذا الذي ذكرته هو الصواب الذي يتعيّن المصير إليه.
وأما القاضي عياض، فقال: ذَكَر أنس أن العمرة الرابعة كانت مع حجته، فيدلّ على أنه كان قارنًا، قال: وقد ردّه كثير من الصحابة، قال: وقد قلنا: إن الصحيح أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان مفردًا، وهذا يردّ قول أنس، وردّت عائشة قول ابن عمر، قال: فحصل أن الصحيح ثلاث عُمَر، قال: ولا يُعلم للنبيّ صلى الله عليه وسلم اعتمار، إلَّا ما ذكرناه، قال: واعتمد مالك في "الموطأ" على أنهن ثلاث عُمَر. انتهى كلام القاضي.
وتعقّبه النوويّ، فقال: وهو قول ضعيفٌ، بل باطلٌ، والصواب أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عُمَر، كما صرح به ابن عمر، وأنس، وجزما الرواية به، فلا يجوز ردّ روايتهما بغير جازم، وأما قوله: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان في حجة الوداع مفردًا، لا قارنًا، فليس كما قال، بل الصواب أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان مفردًا في أول إحرامه، ثم أحرم بالعمرة، فصار قارنًا، ولا بد من هذا التأويل، قال العلماء: وانما اعتمر النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه العُمَر في ذي القعدة؛ لفضيلة هذا الشهر، ولمخالفة الجاهلية في ذلك، فإنهم كانوا يرونه من أفجر الفجور، كما سبق، ففعله صلى الله عليه وسلم مرات في هذه الأشهر؛ ليكون أبلغ في بيان جوازه فيها، وأبلغ في إبطال ما كانت الجاهلية عليه. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله النوويّ رحمه الله تحقيق حسنٌ، إلَّا قوله: إنه صلى الله عليه وسلم كان مفردًا في أول إحرامه إلخ، فقد قدّمنا أن هذا خلاف الصحيح، بل الصواب أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنًا من أول ما أنشأ الإحرام؛ كما بيّنه حديث عمر رضي الله عنه في قصّة إتيان الملك له صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق، ولما أخرجه أحمد، وابن ماجة، بإسناد صحيح، وصححه ابن حبّان، عن أنس رضي الله عنه قال: إنا عند ثَفِنات ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المسجد، فلما استوت به، قال:"لبيك بحجة وعمرة معًا"، وذلك في حجة الوداع. انتهى لفظ ابن حبّان.
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 235، 236.
فهذا حديث صحيح ونصّ صريح في أنه صلى الله عليه وسلم أنشأ الإحرام من أول الأمر قارنًا، وما عدا ذلك من الروايات فتؤوّل على ما يوافق هذا المعنى، وقد مرّ توجيهها، فلا تغفل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [32/ 3034 و 3035](1253)، و (البخاريّ) في "العمرة"(1778 و 1779 و 1780) و"الجهاد"(3066) و"المغازي"(4148)، و (أبو داود) في "المناسك"(1994)، و (الترمذيّ) في "الحجِّ"(815)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 134 و 245 و 256)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(3571)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3764)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5/ 253)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 348)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 345 و 5/ 10 و 9/ 56)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1846)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان عدد عُمَر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي أربع.
2 -
(ومنها): بيان استحباب العمرة في أشهر الحج؛ لِما لها من الفضل، ولمخالفة أهل الجاهليّة، حيث كانوا يرونه من أفجر الفجور، كما سبق بيانه.
3 -
(ومنها): بيان أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنًا في حجته، وهذا هو الصحيح من أقوال العلماء، كما أسلفت حججه قريبًا، وأما الأحاديث الدالّة على أنه كان متمتعًا فتؤوّل على أنه أمر بالتمتّع، فنُسب إليه، أو المراد به التمتّع اللغويّ؛ لأن القران يُسمّى تمتّعًا، حيث تمتّع القارن بعمل الحج، ولم يحتج إلى عمل مفرد للعمرة، وإطلاق التمتّع على القران هو الذي كان عُرف الصحابة رضي الله عنهم، كما تقدّم بيانه عن ابن القيّم رحمه الله.
4 -
(ومنها): أن فيه إشارةً إلى صحة قول الجمهور: إنه لا يجب القضاء
على من صُدّ عن البيت، خلافًا للحنفية، ولو كانت عمرة القضيّة بدلًا عن عمرة الحديبية، لكانتا واحدةً، وإنما سُمِّيت عمرة القضيّة، والقضاء؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قاضى قريشًا فيها، لا أنَّها وقعت قضاءً عن العمرة التي صُدّ عنها؛ إذ لو كان كذلك، لكانتا عمرةً واحدةً، قاله في "الفتح"
(1)
.
5 -
(ومنها): أنّ في عدّهم عمرةَ الحديبية التي صُدّ عنها ما يدلّ على أنَّها عمرة تامًةٌ.
6 -
(ومنها): أن من نوى فعل خير، ومنع مانع يثاب عليه كاملًا، فقد صحّ في هذا الحديث أن عمرة الحديبية سُمّيت، فكانت الرابعة من عُمَره صلى الله عليه وسلم، ولم يفعل من أعمالها شيئًا، لا هو ولا أصحابه، إلَّا الإهلال بها فقط، حيث صُدّوا عن البيت.
7 -
(ومنها): بيان إباحة الغنائم، وهي من خصوصيّات النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد سبق حديث جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُعطيت خمسًا
…
" فذكره، وفيه: "وأُحلّت لي الغنائم، ولم تحلّ لأحد قبلي
…
" الحديث.
8 -
(ومنها): بيان مشروعيّة قسمة الغنائم، حيث قسم صلى الله عليه وسلم غنائم حنين بالجعرانة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3035]
(
…
) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، قَالَ: سَأَلْتُ أنَسًا: كَمْ حَجَّ رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ: حَجَّةً وَاحِدَةً، وَاعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ، ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ هَدَّابٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل بابين.
2 -
(عَبْدُ الصَّمَدِ) بن عبد الوارث، تقدَّم في الباب الماضي.
والباقون ذُكروا قبله.
(1)
"الفتح" 5/ 13.
[تنبيه]: رواية عبد الصمد، عن همّام هذه لَمْ أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3036]
(1254) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَأَلْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ: كَمْ غَزَوْتَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: سَبْعَ عَشْرَةَ
(1)
، قَالَ: وَحَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَزَا تِسْعَ عَشْرَةَ، وَأَنَّهُ حَجَّ بَعْدَمَا هَاجَرَ حَجَّةً وَاحِدَةً، حَجَّةَ الْوَدَاعِ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَبِمَكَّةَ أُخْرَى).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) بن شدّاد، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234) وهو ابن (74) سنةً (خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى) الأشيب، أبو عليّ البغداديّ، قاضي الموصل وغيرها، ثقةٌ [9](ت 9 أو 210)(ع) تقدم في "الإيمان" 55/ 321.
3 -
(زُهَيْرُ) بن معاوية بن حُديج الجعفيّ، أبو خيثمة الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقةٌ ثبتٌ، إلَّا أن سماعه من أبي إسحاق بآخره [7](ت 2 أو 3 أو 174)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.
[فإن قلت]: كيف أخرج المصنّف رواية زهير، عن أبي إسحاق، وإنما روى عنه بعد الاختلاط كما سلف آنفًا؟.
[أُجيب]: بأنه لَمْ ينفرد به، بل تابعه عليه شعبة، وهو ممن روى عنه قبل اختلاطه، وكذا تابعه إسرائيل بن يونس، وهو وإن كان متأخّرًا إلَّا أنه يحفظ أحاديث أبي إسحاق حفظًا جيّدًا، كما نُقل عن عبد الرَّحمن بن مهديّ أنه قال: إسرائيل في أبي إسحاق أثبت من شعبة، والثوري. وهذا غاية في الوصف بالإتقان.
(1)
وفي نسخة: "سبع عشرة غزوةً".
فأما رواية شعبة، فقد أخرجها البخاريّ، في "كتاب المغازي" من "صحيحه"، فقال:
حدّثني عبد الله بن محمد، حدّثنا وهب، حدّثنا شعبة، عن أبي إسحاق: كنت إلى جنب زيد بن أرقم، فقيل له: كم غزا النبيّ صلى الله عليه وسلم من غزوة؟ قال: تسع عشرة، قيل: كم غزوت أنت معه؟ قال: سبع عشرة، قلت: فأيُّهم كانت أولَ؟ قال: العسيرة، أو العشير، فذكرت لقتادة، فقال: العشيرة.
وأما رواية إسرائيل، فأخرجها البخاريّ أيضًا، فقال في الكتاب المذكور: حدّثنا عبد الله بن رجاء، حدّثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، قال: سألت زيد بن أرقم رضي الله عنه، كم غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: سبع عشرة، قلت: كم غزا النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: تسع عشرة.
4 -
(أَبُو إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد الله السبيعيّ الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ مكثرٌ اختلط بآخره [3](ت 129) أو قبل ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.
5 -
(زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ) بن زيد بن قيس الأنصاريّ الخزرجيّ الصحابيّ الشهير، نزل الكوفة، ومات بها سنة (6 أو 68)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 7/ 1208.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين من زهير بن معاوية، والباقيان بغداديّان.
4 -
(ومنها): أن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، شهد الخندق وما بعدها، كما ذكر هنا أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع عشرة غزوة، وأنزل الله تعالى في تصديقه "سورة المنافقون" رضي الله عنه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد الله السَّبيعيّ؛ أنه (قَالَ: سَأَلْتُ زيدَ بْنَ أَرْقَمَ) رضي الله عنه (كَمْ عزَوْتَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ) زيد رضي الله عنه (سَبْعَ عَشْرَةَ) وفي بعض النسخ: "سبع عشرة غزوةً (قَالَ) أبو إسحاق (وَحَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ) رضي الله عنه -
(أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَزَا تِسْعَ عَشْرَةَ) قال في "الفتح": كذا قال، ومراده الغزوات التي خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم فيها بنفسه، سواء قاتل، أو لَمْ يقاتل، لكن رَوَى أبو يعلي، من طريق أبي الزبير، عن جابر: أن عدد الغزوات إحدى وعشرون، وإسناده صحيح، وأصله في مسلم، فعلى هذا، ففات زيد بن أرقم ذكر ثنتين منها، ولعلهما الأَبْواء وبُوَاط، وكأن ذلك خَفِي عليه؛ لصغره، ويؤيد ما قلته ما وقع عند مسلم بلفظ: قلت: ما أول غزوة غزاها؟ قال: ذات العشير، أو العشيرة. انتهى. والعشيرة هي الثالثة.
وأما قول ابن التين: يُحْمَل قول زيد بن أرقم على أن العشيرة أول ما غزا هو؛ أي زيد بن أرقم، والتقدير: فقلت: ما أول غزوة غزاها؟؛ أي: وأنت معه، قال: العشير، فهو مُحْتَمِل أيضًا، ويكون قد خَفِي عليه اثنتان مما بعد ذلك، أو عدَّ الغزوتين واحدةً، فقد قال موسى بن عقبة: قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه في ثمان: بدر، ثم أُحد، ثم الأحزاب، ثم المصطلق، ثم خيبر، ثم مكة، ثم حنين، ثم الطائف. انتهى.
وأهمل غزوة قريظة؛ لأنه ضمها إلى الأحزاب؛ لكونها كانت في إثرها، وأفردها غيره؛ لوقوعها منفردة بعد هزيمة الأحزاب، وكذا وقع لغيره عدّ الطائف وحنين واحدة؛ لتقاربهما.
فيجتمع على هذا قول زيد بن أرقم، وقول جابر، وقد توسع ابن سعد، فبلّغ عدّة المغازي التي خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه سبعًا وعشرين، وتبع في ذلك الواقديّ، وهو مطابق لما عدّه ابن إسحاق، إلَّا أنه لَمْ يُفرد وادي القرى من خيبر، أشار إلى ذلك السهيليّ، وكأن الستة الزائدة من هذا القبيل، وعلى هذا يُحمَل ما أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح، عن سعيد بن المسيِّب، قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعًا وعشرين، وأخرجه يعقوب بن سفيان، عن سلمة بن شَبيب، عن عبد الرزاق، فزاد فيه: أن سعيدًا قال أَوّلًا: ثماني عشرة، ثم قال: أربعًا وعشرين، قال الزهريّ: فلا أدري أَوَهِمَ، أو كان شيئًا سمعه بعدُ؟
قال الحافظ: وحمْله على ما ذكرته يدفع الوهم، ويجمع الأقوال، والله أعلم.
وأما البعوثُ والسرايا، فعَدَّ ابن إسحاق ستًّا وثلاثين، وعدّ الواقديّ ثمانيًا
وأربعين، وحَكَى ابن الجوزيّ في "التلقيح" ستًّا وخمسين، وعدّ المسعوديّ ستين، وبلّغها الحافظ العراقيّ في "نظم السيرة" زيادة على السبعين، ووقع عند الحاكم في "الإكليل" أنَّها تزيد على مائة، فلعله أراد ضمّ المغازي إليها. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
وسيأتي البحث في هذا مستوفًى في "الجهاد والسير" حيث يذكره المصنّف رحمه الله هناك - إن شاء الله تعالى -.
(وَأَنَّهُ) صلى الله عليه وسلم (حَجَّ بَعْدَمَا هَاجَرَ حَجَّةً وَاحِدَةً) زاد في رواية البخاريّ: "لَمْ يَحُجَّ بَعْدَهَا"، وقوله:(حَجَّةَ الْوَدَاعِ) بالنصب على البدليّة من "حجةً"، أو مفعولًا لفعل محذوف؛ أي: أعني، ويَحتمل الرفع على تقدير مبتدإ؛ أي: هي حجةُ الوداع (قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ) السَّبيعيّ، وهو موصول بالإسناد المذكور (وَبِمَكَّةَ أُخْرَى) يعني أنه حج حجة أخرى بمكة قبل أن يهاجر، قال في "العمدة": وهذا يوهم أنه لَمْ يحج قبل الهجرة إلَّا حجة واحدة، وليس كذلك، بل حجّ قبل الهجرة مرارًا عديدة. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": قوله: "لَمْ يحج بعدها"؛ يعني ولا حج قبلها، إلَّا أن يريد نفي الحج الأصغر، وهو العمرة فلا، فإنه اعتمر قبلها قطعًا.
وقوله: قال أبو إسحاق: "وبمكة أخرى" وغرضه أن لقوله: "بعدما هاجر" مفهومًا، وأنه قبل أن يهاجر كان قد حَجّ، لكن اقتصاره على قوله:"أخرى" قد يوهم أنه لَمْ يحجّ قبل الهجرة إلَّا واحدةً، وليس كذلك، بل حجّ قبل أن يهاجر مرارًا، قال الحافظ: بل الذي لا أرتاب فيه، أنه لَمْ يترك الحجِّ، وهو بمكة قطّ؛ لأن قريشًا في الجاهلية لَمْ يكونوا يتركون الحجِّ، وَإنما يتأخر منهم عنه من لَمْ يكن بمكة، أو عاقه ضعف، وإذا كانوا، وهم على غير ديني يَحرِصون على إقامة الحجِّ، ويرونه من مفاخرهم التي امتازوا بها على غيرهم من العرب، فكيف يُظَنّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم أنه يتركه، وقد ثبت من حديث جبير بن مطعم، أنه رآه في الجاهلية واقفًا بعرفة، وأن ذلك من توفيق الله له، وثبت
(1)
"الفتح" 9/ 7، 8، كتاب المغازي، رقم (3949).
(2)
"عمدة القاري" 18/ 41.
دعاؤه قبائل العرب إلى الإسلام بمنى ثلاث سنين متواليةً. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو بحث مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [32/ 3036](1254)، و (البخاريّ) في "المغازي"(4949 و 4404 و 4471)، و (الترمذيّ) في "الحجِّ"(1676)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 94)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 368 و 370 و 373)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(2/ 361)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 113)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 356)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 348)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(5/ 187 و 188 و 189)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 342) و"المعرفة"(2/ 199)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والماب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3037]
(1255) - (وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْن عَبْدِ اللهِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْنُ بَكْرٍ الْبُرْسَانِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءً يُخْبِرُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَابْنُ عُمَرَ، مُسْتَنِدَيْنِ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ، وَإِنَّا لَنَسْمَعُ ضَرْبَهَا بِالسِّوَاكِ تَسْتَنُّ، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي رَجَبٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَيْ أُمَّتَاهُ، أَلَا تَسْمَعِينَ مَا يَقُولُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَتْ: وَمَا يَقُولُ؟ قُلْتُ: يَقُولُ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي رَجَبٍ، فَقَالَتْ: يَغْفِرُ اللهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، لَعَمْرِي مَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ، وَمَا اعْتَمَرَ مِنْ عُمْرَةٍ، إِلَّا وَإِنَّهُ لَمَعَهُ، قَالَ: وَابْنُ عُمَرَ يَسْمَعُ، فَمَا قَالَ: لَا، وَلَا نَعَمْ، سَكَتَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) الحمّال، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ الْبُرْسَانِيُّ) تقدّم قبل بابين.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) تقدّم أيضًا قبل بابين.
4 -
(عَطَاءُ) بن أبي رباح، تقدّم أيضًا قبل بابين.
5 -
(عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) تقدّم قريبًا.
6 -
(وَابْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قريبًا.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له البخاريّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث والإخبار.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.
شرح الحديث:
عن عَطَاء بن أبي رباح أنه (قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، قَالَ: كُنْتُ أنا وَابْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما (مُسْتَنِدَيْنِ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (وَإِنَّا لَنَسْمَعُ ضَرْبَهَا) أي ضربها أسنانها (بِالسِّوَاكِ تَسْتَنُّ) جملة حاليّة من "ضربها"؛ أي حال كونها تستاك (قَالَ) عروة (فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ) كنية عبد الله بن عمر، وقوله:(اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي رَجَبٍ) استفهام بتقدير همزة الاستفهام (قَالَ) ابن عمر (نَعَمْ) أي اعتمر فيه، وفي الرواية التالية:"فقال له عروة: يا أبا عبد الرَّحمن، كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أربع عُمَر، إحداهنّ في رجب".
(فَقُلْتُ لِعَائِشَةَ) رضي الله عنها (أَيْ أُمَّتَاهُ)"أي" حرف نداء للبعيد، كما قال في "الخلاصة":
وِللْمُنَادَى النَّاءِ أَوْ كَانَّاءِ "يَا"
…
وَ "أَيْ" وَ "آ" كَذَا "أَيَا" ثُمَّ "هَيَا"
و"أُمَّتاه" هي في الأصل "أُمّي"، ثم حُذفت الياء، وعُوّض عنها التاء،
فصار: أي أمّت، بفتح التاء وكسرها، ثم لحقتها ألف، ثم هاء السكت، وهي ساكنة، والظاهر أن ضمها في النسخ غلطٌ، قال في "الخلاصة":
وَفِي النِّدَا أَبَتَ أَمَّتَ عَرَضْ
…
وَاكْسِرْ أَوِ افْتَحْ وَمِنَ الْيَا التَّا عِوَضْ
قال في "الفتح": وقول عروة لهذا بالمعنى الأخصّ؛ لكونها خالته، وبالمعنى الأعمّ؛ لكونها أم المؤمنين. انتهى
(1)
.
(أَلَا تَسْمَعِينَ مَا يَقُولُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ)"ما" هنا اسم موصول مفعول به لـ"تسمعين"(قَالَتْ: وَمَا يَقُولُ) و"ما" هنا استفهاميّة؛ أي: أيّ شيء يقوله (قُلْتُ: يَقُولُ اعْتَمَرَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي رَجَبٍ، فَقَالَتْ: يَغْفِرُ اللهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ) وفي الرواية التالية: "يرحم الله أبا عبد الرحمن"، هو عبد الله بن عمر، ذكرته بكثيته؛ تعظيمًا له، ودعت له إشارة إلى أنه نسي
(2)
. (لَعَمْرِي) قال النوويّ رحمه الله: هذا دليلٌ على جواز قول الإنسان: لعمري، وكرهه مالك؛ لأنه من تعظيم غير الله تعالى، ومضاهاته بالحلف بغيره. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن مثل هذا لا يُراد به الحلف، وإنما هو كقولهم: ما له تربت يداه، وعقرى حلقي، وأما لوأريد به الحلف فلا يجوز؛ لأنه حلف بغير الله تعالى، فافهم، والله تعالى أعلم.
(مَا) نافية (اعْتَمَرَ)؛ أي رسول الله صلى الله عليه وسلم (فِي رَجَبٍ)؛ أي لَمْ يعتمر النبيّ صلى الله عليه وسلم في شهر رجب أصلًا (وَمَا) نافية أيضًا (اعْتَمَرَ مِنْ عُمْرَةٍ)"من" زائدة، كما قال في "الخلاصة":
وَزِيدَ فِي نَفيٍ وَشِبْهِهِ فَجَرْ
…
نَكِرَةً كَمَا لِبَاغٍ مِنْ مَفَرْ
(إِلَّا وَإِنَّهُ)؛ أي ابن عمر (لَمَعَهُ)؛ أي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا قالته مبالغة في نسبته إلى النسيان، ولم تُنكر عائشة رضي الله عنها على ابن عمر إلَّا قوله: إحداهنّ في رجب (قَالَ) عروة (وَابْنُ عُمَرَ يَسْمَعُ) جملة في محلّ نصب على الحال (فَمَا) نافية (قَالَ: لَا) نفيًا لردّها عليه (وَلَا نعَمْ) موافقَةً لها (سَكَتَ) قال النوويّ رحمه الله: سكوت ابن عمر على إنكار عائشة رضي الله عنهما يدلّ على أنه كان اشتبه عليه، أو نَسِي، أو شكّ.
(1)
"الفتح" 5/ 11.
(2)
"الفتح" 5/ 11.
وقال القرطبيّ رحمه الله: عدم إنكاره على عائشة رضي الله عنهما يدلّ على أنه كان على وهم، وأنه رجع لقولها.
وقد تعَسَّف من قال: إن ابن عمر أراد بقوله: "اعتمر في رجب" عمرة قبل هجرته؛ لأنه وإن كان محتملًا، لكن قول عائشة رضي الله عنها: ما اعتمر في رجب يلزم منه عدم مطابقة ردِّها عليه لكلامه، ولا سيما، وقد بيّنت الأربع، وأنها لو كانت قبل الهجرة، فما الذي كان يمنعه أن يُفْصِح بمراده، فيرجع الإشكال؟ وأيضًا: فإن قول هذا القائل: لأن قريشًا كانوا يعتمرون في رجب، يحتاج إلى نقل، وعلى تقديره، فمن أين له أنه صلى الله عليه وسلم وافقهم؟ وهَبْ أنه وافقهم، فكيف اقتصر على مرّة؟. قاله في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه بالسياق التالي.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [32/ 3037 و 3038](1255)، و (البخاريّ) في "العمرة"(1775 و 1776 و 1777) و"المغازي"(4253 و 4254)، و (أبو داود) في "المناسك"(1992)، و (الترمذيّ) في "الحجِّ"(936 و 937)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4221 و 4222)، و (ابن ماجة) في "المناسك"(2998)، (وأحمد) في "مسنده"(2/ 70 و 73 و 139 و 143 و 155)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(3070)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3945)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 349)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(909)، و (الطبراني) في "الكبير"(12/ 413) و"الأوسط"(3/ 132)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(3/ 614)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 10 - 11)، و (الضاء) في "المختارة"(2/ 338)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(1)
"الفتح" 5/ 13، 14.
1 -
(منها): بيان عدد عُمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم، كما هو واضح في الرواية التالية.
2 -
(ومنها): بيان أن الصحابيّ الجليل المكثر الشديد الملازمة للنبيّ صلى الله عليه وسلم قد يَخْفَى عليه بعض أحواله، وقد يدخله الوهم والنسيان؛ لكونه غير معصوم، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال الإمام ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه": في قول ابن عمر رضي الله عنهما: "اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عُمَر، إحداهن في رجب" أبين البيان أن الْخَيِّرَ المتقِن الفاضل قد يَنْسَى بعض ما يسمع من السنن، أو يشهدها؛ لأن المصطفى صلى الله عليه وسلم ما اعتمر إلَّا أربع عمر: الأولى عمرة القضاء، سنة القابل من عام الحديبية، وكان ذلك في رمضان
(2)
، ثم العمرة الثانية حين فتح مكة، وكان فتح مكة في رمضان، ثم خرج منها صلى الله عليه وسلم قِبَل هوازن، وكان من أمره ما كان، فلما رجع، وبلغ الجعرانة قسم الغنائم بها، واعتمر منها إلى مكة، وذلك في شوال، واعتمر العمرة الرابعة في حجته، وذلك في ذي الحجة، سنة عشرة من الهجرة. انتهى كلام ابن حبّان رحمه الله
(3)
.
3 -
(ومنها): أن فيه ردَّ بعض العلماء على بعض، وحسن الأدب في الردّ، وحسن التلطف في استكشاف الصواب؛ إذا ظَنّ السامع خطأ المحدث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3038]
(
…
) - (وَحَدَّثنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: دَخَلْتُ أنا وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ جَالِسٌ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ الضُّحَى فِي الْمَسْجِدِ، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ صَلَاِتهِمْ؟ فَقَالَ: بِدْعَةٌ، فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، كَم اعْتَمَرَ
(1)
"الفتح" 5/ 13.
(2)
هذا فيه نظر؛ لأنها كانت في ذي القعدة، لا في رمضان، كما سبق في حديث أنس رضي الله عنه، فتنبّه.
(3)
"صحيح ابن حبان" 9/ 261.
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: أَرْبَعَ عُمَرٍ، إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ، فَكَرِهْنَا أَنْ نُكَذِّبَهُ، وَنَرُدَّ عَلَيْهِ، وَسَمِعْنَا اسْتِنَانَ عَائِشَةَ فِي الْحُجْرَةِ، فَقَالَ عُرْوَةُ: أَلَا تَسْمَعِينَ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَا يَقُولُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ فَقَالَتْ: وَمَا يَقُولُ؟ قَالَ: يَقُولُ: اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَ عُمَرٍ، إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ، فَقَالَتْ: يَرْحَمُ اللهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِلَّا وَهُوَ مَعَهُ، وَمَا اعْتَمَرَ في رَجَبٍ قَطُّ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل بابين.
2 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(مَنْصُورُ) بن المعتمر السَّلَميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 296.
4 -
(مُجَاهِدُ) بن جبر المخزوميّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (الْمَسْجِدَ) يعني مسجد المدينة النبويّة.
وقوله: (فَإِذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ
…
إلخ) "إذا" هنا هي الفجائيّة؛ أي ففاجأنا جلوس ابن عمر رضي الله عنهما، وفي رواية لأحمد:"فإذا ابن عمر مستند إلى حجرة عائشة رضي الله عنها".
وقوله: (فَقَالَ: بِدْعَةٌ) قال النوويّ رحمه الله: هذا قد حمله القاضي وغيره على أن مراده أن إظهارها في المسجد، والاجتماع لها هو البدعة، لا أن أصل صلاة الضحى بدعة. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح" ما ملخّصه: وقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أيضًا الجزم بكونها محدثة، فروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح، عن مجاهد، عن ابن عمر أنه قال: إنها محدثة، وإنها لمن أحسن ما أحدثوا.
ورَوَى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، عن الحكم بن الأعرج، عن الأعرج، قال: سألت ابن عمر عن صلاة الضحى؟ فقال: بدعةٌ، ونعمت البدعة.
(1)
"شرح النوويّ" 8/ 237.
وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن سالم، عن أبيه قال: لقد قُتِل عثمان، وما أحد يسبّحها، وما أحدث الناس شيئًا أحبّ إليّ منها.
وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، عن الشعبيّ، عن ابن عمر قال: ما صليت الضحى منذ أسلمت، إلَّا أن أطوف بالبيت؛ أي: فأصلي في ذلك الوقت، لا على نية صلاة الضحي، بل على نية الطواف، وَيحْتَمِل أنه كان ينويهما معًا.
وقد جاء عن ابن عمر أنه كان يَفْعَل ذلك في وقت خاصّ، فجاء من طريق نافع، أن ابن عمر كان لا يصلي الضحى إلَّا يوم يَقْدَم مكة، فإنه كان يَقْدَمها ضحي، فيطوف بالبيت، ثم يصلي ركعتين، ويوم يأتي مسجد قباء.
ورَوَى ابن خزيمة من وجه آخر، عن نافع، عن ابن عمر: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يصلي الضحي، إلَّا أن يَقْدَم من غيبة.
وقال سعيد بن منصور: حدّثنا ابن عيينة، عن عبد الله بن دينار: أن ابن عمر كان لا يصلي الضحي، إلَّا أن يأتي قباء.
وهذا يَحْتَمل أيضًا أن يريد به صلاة تحية المسجد في وقت الضحي، لا صلاة الضحي، وَيحْتَمل أن يكون ينويهما معًا، كما قلناه في الطواف.
وفي الجملة ليس في أحاديث ابن عمر هذه ما يدفع مشروعية صلاة الضحى؛ لأن نفيه محمول على عدم رؤيته، لا على عدم الوقوع في نفس الأمر، أو الذي نفاه صفة مخصوصةٌ، قال عياض وغيره: إنما أنكر ابن عمر ملازمتها، وإظهارها في المساجد، وصلاتها جماعة؛ لأنَّها مخالفة للسنة، ويؤيده ما رواه ابن أبي شيبة، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه رأى قومًا يصلونها، فأنكر عليهم، وقال: إن كان ولا بُدّ ففي بيوتكم. انتهى ما في "الفتح"
(1)
، وهو بحث مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
وقوله: (فَقَالَ: أَرْبَعَ عُمَرٍ) بنصب "أربع" بتقدير: "اعتَمَر"، ويجوز رفعه على تقدير: هي أربع عمر.
ووقع في رواية للبخاريّ بلفظ: "قال: أربع"، قال في "الفتح": كذا
(1)
"الفتح" 3/ 52، 53.
للأكثر، ولأبي ذرّ:"قال: أربعًا"؛ أي: اعتمر أربعًا، قال ابن مالك: الأكثر في جواب الاستفهام مطابقة اللفظ والمعنى، وقد يُكْتَفى بالمعنى، فمن الأول قوله تعالى:{قَالَ هِيَ عَصَاى} [طه: 18] في جواب {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى (17)} [طه: 17]، ومن الثاني قوله صلى الله عليه وسلم:"أربعين" في جواب قولهم: "كم يلبث؟ "، فأضمر يَلْبَث، ونصب به "أربعين"، ولو قصد تكميل المطابقة، لقال" أربعون؛ لأن الاسم المستفهم به في موضع الرفع، فظهر بهذا أن النصب والرفع جائزان في مثل قوله: "أربع"، إلَّا أن النصب أقيس، وأكثر نظائر. انتهى
(1)
.
وقوله: (إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ) قال في "الفتح": كذا وقع في رواية منصور، عن مجاهد، وخالفه أبو إسحاق، فرواه عن مجاهد، عن ابن عمر، قال:"اعتمر النبيّ صلى الله عليه وسلم مرتين، فبلغ ذلك عائشة، فقالت: اعتمر أربع عمر"، أخرجه أحمد، وأبو داود، فاختلفا، جَعَل منصور الاختلاف في شهر العمرة، وأبو إسحاق الاختلاف في عدد الاعتمار، ويمكن تعدد السؤال، بأن يكون ابن عمر سئل أَوَّلًا عن العدد، فأجاب، فردّت عليه عائشة، فرجع إليها، فسئل مرّة ثانية، فأجاب بموافقتها، ثم سئل عن الشهر، فأجاب بما في ظنه، وقد أخرج أحمد، من طريق الأعمش، عن مجاهد، قال:"سأل عروة بنُ الزبير ابنَ عمر: في أيّ شهر اعتمر النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: في رجب". انتهى
(2)
.
وقوله: (وَسَمِعْنَا اسْتِنَانَ عَائِشَةَ)؛ أي: حِسّ مرور السواك على أسنانها، وفي رواية عطاء، عن عروة الماضية:"وإنا لنسمع ضربها بالسواك تستنّ".
وقوله: (يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ) وفي رواية عطاء الماضية: "يا أمتاه"، وفي رواية البخاريّ:"يا أماه"، قال في "الفتح": كذا للأكثر، بسكون الهاء، ولأبي ذرّ:"يا أمه" بسكون الهاء أيضًا بغير ألف. انتهى.
وقوله: (أَرْبَعَ عُمَرٍ) وفي رواية البخاريّ: "أربع عمرات"، قال في "الفتح": يجوز في ميمها الحركات الثلاثة. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "يجوز في ميمها
…
إلخ" أشار به إلى القاعدة الصرفيّة التي ذكرها ابن مالك في "الخلاصة" بقوله:
(1)
"الفتح" 5/ 11.
(2)
"الفتح" 5/ 11.
وَالسَّالِمَ الْعَيْنِ الثُّلَاثِي اسْمًا
…
أَنِلْ إِتْبَاعَ عَيْنٍ فَاءَهُ بِمَا شُكِلْ
إِنْ سَاكِنَ الْعَيْنِ مُؤَنَّثًا بَدَا
…
مُخْتَتَمًا بِالتَّاءِ أَوْ مُجَرَّدَا
وَسَكِّنِ التَّالِيَ غَيْرَ الْفَتْحِ أَوْ
…
خَفِّفْهُ بِالْفَتْحِ فَكُلًّا قَدْ رَوَوَا
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(33) - (بَابُ فَضْلِ الْعُمْرَةِ فِي رَمَضَانَ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3039]
(1256) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ، حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَن ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَدِّثُنَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِامْرَأَةٍ مِنَ الْأَنصَارِ، سَمَّاهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، فَنَسِيتُ اسْمَهَا: "مَا مَنَعَكِ أَنْ تَحُجِّي مَعَنَا؟ " قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ لَنَا إِلَّا نَاضِحَانِ، فَحَجَّ أَبُو وَلَدِهَا، وَابْنُهَا عَلَى نَاضِح، وَتَرَكَ لَنَا نَاضِحًا، نَنْضِحُ عَلَيْهِ، قَالَ: "فَإِذَا جَاءَ رَمَضَانُ، فَاعْتَمِرِي، فَإِنَّ عُمْرَةً فِيهِ تَعْدِلُ حَجَّةً").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، تقدّم قبل بابين.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(عَطَاءُ) بن أبي رباح، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
5 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) تقدّم قبل بابين.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن فيه التحديث، والإخبار، والسماع، والعنعنة، وفيه
تصريح ابن جريجٍ بالإخبار، وهو معروف بالتدليس، فأمن من تدليسه.
3 -
(ومنها): أن فيه ابن عباس رضي الله عنهما الحبر البحر ترجمان القرآن، أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ جُرَيْجٍ) أنه (قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (يُحَدِّثُنَا) جملة في محلّ نصب على الحال (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِامْرَأَةٍ مِنَ الأنصَارِ، سَمَّاهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، فَنَسِيتُ اسْمَهَا) القائل: نسيت اسمها هو ابن جريجٍ، بخلاف ما يتبادر إلى الذهن من أن القائل عطاء، وإنما قلنا ذلك؛ لما في الرواية الثانية عند المصنّف من طريق حبيب المعلّم، عن عطاء، من تسميتها، حيث قال: "عن ابن عبّاس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لامرأة من الأنصار، يقال لها: أم سنان: ما منعكِ أن تكوني حججت معنا
…
؟ " الحديث، أفاده الحافظ رحمه الله.
قال: وَيحْتَمل أن عطاء كان ناسيًا لاسمها لَمّا حدث به ابنَ جريجٍ، وذاكرًا له لما حدّث به حبيبًا.
وقد خالفه يعقوب بن عطاء، فرواه عن أبيه، عن ابن عبّاس، قال: جاءت أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: حجّ أبو طلحة، وابنه، وتركاني، فقال:"يا أمّ سُليم، عمرة في رمضان تعدل حجة معي"، أخرجه ابن حبّان، وتابعه محمد بن عبد الرَّحمن بن أبي ليلي، عن عطاء، أخرجه ابن أبي شيبة، وتابعهما مَعقِل الجزريّ، لكن خالف في الإسناد، قال: عن عطاء، عن أم سُليم، فذكر الحديث دون القصّة، فهؤلاء ثلاثة يبعد أن يتّفقوا على الخطإ، فلعلّ حبيبًا لَمْ يحفظ اسمها كما ينبغي، لكن رواه أحمد بن منيع في "مسنده" بإسناد صحيح، عن سعيد بن جبير، عن امرأة من الأنصار، يقال لها: أم سنان أنَّها أرادت الحجِّ
…
فذكر الحديث نحوه، دون ذكر قصّة زوجها.
وقد وقع شبيه بهذه القصّة لأم معقل، أخرجه النسائيّ في "الكبرى" من طريق معمر، عن الزهريّ، عن أبي بكر بن عبد الرَّحمن بن الحارث، عن امرأة من بني أسد، يقال لها: أم معقل، قالت: أردت الحجِّ، فاعتلّ بعيري، فسألت النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فقال:"اعتمري في شهر رمضان، فإن عمرة في رمضان تعدل حجة".
وقد اختلف في إسناده، فرواه مالك، عن سميّ، عن أبي بكر بن عبد الرَّحمن، قال: جاءت امرأة
…
فذكره مرسلًا، وأبهمها، ورواه النسائيّ أيضًا من طريق عمارة بن عمير وغيره، عن أبي بكر بن عبد الرَّحمن، عن أمّ معقل، ورواه أبو داود من طريق إبراهيم بن مهاجر، عن أبي بكر بن عبد الرَّحمن، عن رسول مروان، عن أم معقل.
قال الحافظ: والذي يظهر لي أنهما قصتان وقعتا لامرأتين، فعند أبي داود من طريق عيسى بن معقل، عن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن أم معقل، قالت: لما حجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، وكان لنا جمل، فجعله أبو معقل في سبيل الله، وأصابنا مرض، فهلك أبو معقل، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجته جئت، فقال:"ما منعك أن تحجي معنا؟ "، فذكرت ذلك له، فقال:"فهلا حججت عليه؟، فإن الحجِّ من سبيل الله، فأما إذا فاتك، فاعتمري في رمضان، فإنها كحجة".
ووقعت لأم طليق قصّة مثل هذه، أخرجها أبو عليّ بن السكن، وابن منده في "الصحابة"، والدولابيّ في "الكنى" من طريق طلق بن حبيب: أن أبا طليق حدثه، أن امرأته قالت له - وله جمل، وناقة -: أعطني جملك أحجّ عليه، قال: جملي حبيس في سبيل الله، قالت: إنه في سبيل الله أن أحجّ عليه، فذكر الحديث، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدقت أم طليق"، وفيه: ما يعدل الحجِّ؟ قال: "عمرة في رمضان".
وزعم ابن عبد البرّ أن أمّ معقل هي أم طليق، لها كنيتان، وفيه نظر؛ لأن أبا معقل مات في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبا طليق عاش حتى سمع منه طلق بن حبيب، وهو من صغار التابعين، فدلّ على تغاير المرأتين.
ويدلّ عليه تغاير السياقين أيضًا، ولا معدل عن تفسير المبهمة في حديث ابن عباس بأنها أم سنان، أو أم سليم؛ لما في القصّة التي في حديث ابن عباس من التغاير للقصّة التي في حديث غيره؛ ولقوله في حديث ابن عباس: إنها أنصاريّة، وأما أم معقل، فإنها أسديّة، ووقعت لأم الهيثم أيضًا، والله تعالى أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا.
(مَا مَنَعَكِ أَنْ تَحُجِّي مَعَنَا؟) وفي رواية للبخاريّ: "أن تحجين" بإثبات النون، وهو لغة، كما في قول الشاعر [من البسيط]:
أَنْ تَقْرَآنِ عَلَى أَسْمَاءَ ويحَكُمَا
…
مِنِّي السَّلَامَ وَأَنْ لَا تُشْعِرَا أَحَدَا
والى هذه اللغة أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" بقوله:
وَبَعْضُهُمْ أَهْمَلَ "أَنْ" حَمْلًا عَلَى
…
"مَا" أُخْتِهَا حَيْثُ اسْتَحَقَّتْ عَمَلَا
(قَالَتْ) تلك المرأة (لَمْ يَكُنْ لَنَا إِلَّا نَاضِحَانِ) تثنية ناضح - بضاد معجمة، ثم مهملة - أي: بعيران، قال ابن بطال رحمه الله: الناضح البعير، أو الثور، أو الحمار الذي يُسْتَقَى عليه، لكن المراد به هنا البعير؛ لتصريحه في رواية بكر بن عبد الله المزنيّ، عن ابن عباس، في رواية أبي داود بكونه جملًا.
(فَحَجَّ أَبُو وَلَدِهَا، وَابْنُهَا) قال في "الفتح": إن كانت هي أم سنان، فيَحْتَمِل أن يكون اسم ابنها سنانًا، وإن كانت هي أم سليم، فلم يكن لها يومئذ ابن يمكن أن يحجّ سوى أنس، وعلى هذا فنسبته إلى أبي طلحة بكونه ابنه مجازٌ. انتهى.
وقولها: (عَلَى نَاضِحٍ) متعلّق بـ"حجّ"(وَتَرَكَ لنَا نَاضِحًا، نَنْضِحُ عَلَيْهِ) بكسر الضاد، من باب ضرب، يقال: نَضَحَ البعير الماء: حمله من نهر، أو بئر، لسقي الزرع، فهو ناضح، والأنثى ناضحة بالهاء، سُمّي ناضحًا؛ لأنه ينضح العطش؛ أي يَبُلّه بالماء الذي يحمله، هذا أصله، ثم استُعْمِل الناضح في كلّ بعير، وإن لَمْ يَحمِل الماء، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَإِذَا جَاءَ رَمَضَانُ) وفي رواية البخاريّ: "فإذا كان رمضان"، و"كان" فيه تامّة (فَاعْتَمِرِي، فَإِنَّ عُمْرَةً فِيهِ) الفاء تعليليّة؛ أي لأن عمرة في رمضان (تَعْدِلُ حَجَّةً") بكسر الدال المهملة: أي تقوم مقام حجة في الأجر والثواب، لا في إسقاط الفرض عن الذمّة، فإن فريضة الحجِّ لا تسقط بأداء العمرة إجماعًا.
قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله: في هذا الحديث أن الشيء يشبه الشيء،
(1)
"المصباح المنير" 2/ 609، 610.
ويُجعل عدله إذا أشبهه في بعض المعاني، لا جميعها؛ لأن العمرة لا يُقضَى بها فرض الحجِّ ولا النذر.
وقال ابن بطّال رحمه الله: فيه دليل على أن الحجِّ الذي ندبها إليه كان تطوّعًا لإجماع الأمة على أن العمرة لا تجزئ عن حجة الفريضة.
وتعقّبه ابن المنيّر رحمه الله بأن الحجة المذكورة هي حجة الوداع، قال: وكانت أول حجة أقيمت في الإسلام فرضًا؛ لأن حجّ أبي بكر كان إنذارًا، قال: فعلى هذا يستحيل أن تكون تلك المرأة كانت قامت بوظيفة الحجِّ.
واعترض عليه الحافظ رحمه الله بأن ما قاله غير مسلّم؛ إذ لا مانع أن تكون حجت مع أبي بكر، وسقط عنها الفرض بذلك، لكنه بنى على أن الحجِّ إنما فُرض في السنّة العاشرة حتى يسلم مما يرد على مذهبه من القول بأن الحجِّ على الفور، وعلى ما قاله ابن خزيمة فلا يحتاج إلى شيء مما بحثه ابن بطّال.
فالحاصل أنه أعلمها أن العمرة في رمضان تعدل الحجّة في الثواب، لا أنَّها تقوم مقامها في إسقاط الفرض؛ للإجماع على أن الاعتمار لا يجزئ عن حجّ الفرض.
ونقل الترمذيّ عن إسحاق ابن راهويه أن معنى الحديث نظير ما جاء أن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} تعدل ثلث القرآن.
وقال ابن العربيّ: حديث العمرة هذا صحيح، وهو فضل من الله ونعمة، فقد أدركت العمرة منزلة الحجِّ بانضمام رمضان إليها.
وقال ابن الجوزي: فيه أن ثواب العمل يزيد بزيادة شرف الوقت، كما يزيد بحضور القلب، وبخلوص القصد.
وقال غيره: يَحْتَمِل أن يكون المراد: عمرة فريضة في رمضان كحجة فريضة، وعمرة نافلة في رمضان كحجة نافلة.
وقال ابن التين: قوله: "كحجة" يَحتَمِل أن يكون على بابه، ويَحْتَمل أن يكون لبركة رمضان، ويَحتمل أن يكون مخصوصًا بهذه المرأة.
قال الحافظ: الثالث قال به بعض المتقدّمين، ففي رواية أحمد بن منيع المذكورة، قال سعيد بن جبير: ولا نعلم هذا إلَّا لهذه المرأة وحدها، ووقع عند أبي داود من حديث يوسف بن عبد الله بن سلام، عن أم معقل في آخر
حديثها: "قال: فكانت تقول: الحجِّ حجة، والعمرة عمرة، وقد قال هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لي، فما أدري الي خاصّة؟ "، تعني أو للناس عامة. انتهى.
والظاهر حمله على العموم كما تقدّم، والسبب في التوفيق استشكال ظاهره، وقد صحّ جوابه، والله أعلم. انتهى.
[فائدة]: لَمْ يعتمر النبيّ صلى الله عليه وسلم إلَّا في أشهر الحجِّ، وقد ثبتٌ فضل العمرة في رمضان بحديث الباب، فأيهما أفضل؟، قال الحافظ: والذي يظهر أن العمرة في رمضان لغير النبيّ صلى الله عليه وسلم أفضل، وأما في حقّه فما صنعه هو الأفضل؛ لأن فعله لبيان جواز ما كان أهل الجاهلية يمنعونه، فأراد الردّ عليهم بالقول والفعل، وهو لو كان مكروهًا لغيره لكان في حقّه أفضل.
وقال صاحب "الهدي": يَحْتَمِل أنه صلى الله عليه وسلم كان يشتغل في رمضان من العبادة بما هوأهمّ من العمرة، وخَشِي من المشقّة على أمته؛ إذ لو اعتمر في رمضان لبادروا إلى ذلك مع ما هم عليه من المشقّة في الجمع بين العمرة والصوم، وقد كان يترك العمل، وهو يحبّ أن يعمله؛ خشية على أمته، وخوفًا من المشقّة عليهم. انتهى
(1)
، وهو بحث نفيس جدًّا، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا مُتّفقٌ عليه.
المسألة الئانية: في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [33/ 3039 و 3040](1256)، و (البخاريّ) في "العمرة"(1782) و"جزاء الصيد"(1863)، و (أبو داود) في "المناسك"(1990)، و (النسائيّ) في "الصيام"(4/ 130) و"الكبرى"(2420)، و (الترمذيّ) في "الحجِّ "(3/ 276)، و (ابن ماجة) في "المناسك"(2994)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 158)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 229 و 208)، و (الدارميّ) في "سننه"(1785)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(3077)، و (ابن حبّان) في
(1)
"الفتح" 5/ 17، 18.
"صحيحه"(3700)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(11299 و 11322) و"الأوسط"(4/ 358)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 349)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 133)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 346 و 6/ 164)، والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل العمرة في رمضان، حيث إنها تعدِل ثواب الحجِّ، بل ثبتٌ أنَّها كحجة مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما سيرد عند المصنّف في الرواية التالية، وأخرج سمّويه من حديث أنس رضي الله عنه بلفظ:"عمرة في رمضان كحجة معي"، وهو حديث صحيح.
2 -
(ومنها): بيان فضل رمضان، حيث كان العمل فيه يضاعف أجره.
3 -
(ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من تفقّد أحوال أصحابه رجالًا ونساء.
4 -
(ومنها): بيان جواز مخاطبة المرأة الأجنبيّة، وأن صوتها ليس بعورة.
5 -
(ومنها): بيان جواز استعمال لفظ "رمضان" من غير إضافة لفظ "شهر" إليه، وعليه بوّب النسائيّ، فقال:"الرخصة في أن يقال لشهر رمضان: رمضان"، ثم أورد الحديث.
وأما الحديث الذي رواه أبو معشر، نَجِيح المدنيّ، عن سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"لا تقولوا رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله، ولكن قولوا: شهر رمضان"، أخرجه ابن عديّ في "الكامل"، فقد ضعّفه هو بأبي معشر، قال البيهقيّ: قد رُوي عن أبي معشر، عن محمد بن كعب، وهو أشبه، وروي عن مجاهد، والحسن من طريقين، وقد استوفيت البحث في هذه المسألة في أوائل "كتاب الصيام"، فراجعه، تستفد علمًا جمًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3040]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، يَعْنِي ابْنَ زُرَيْعٍ، حَدَّثنَا حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ، عَنْ عَطَاءٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِامْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، يُقَالُ لَهَا: أُمُّ سِنَانٍ: "مَا مَنَعَكِ أَنْ تَكُونِي حَجَجْتِ مَعَنَا؟ " قَالَتْ:
نَاضِحَانِ كَانَا لِأَبِي فُلانٍ زَوْجِهَا، حَجَّ هُوَ وَابْنُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَكَانَ الْآخَرُ يَسْقِي عَلَيْهِ غُلَامُنَا، قَالَ:"فَعُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً، أَوْ حَجَّةً مَعِي").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ) أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ [10](245)(م 4) تقدم في "الإيمان" 1/ 103.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ) العيشيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ) أبو محمد البصريّ، مولى مَعْقِل بن يسار، اختُلف في اسم أبيه، فقيل: زائدة، وقيل: زيد، صدوقٌ [6](ت 130)(ع) تقدم في "الصلاة" 11/ 889.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (زَوْجِهَا) بالجرّ بدل من "أبي فلان"، أو عطف بيان له.
وقولها: (حَجَّ هُوَ وَابْنُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا) تعني أنه لَمْ يبق لها محلّ الرديف حتى تحجّ معه.
وقولها: (وَكَانَ الْآخَرُ يَسْقِي
…
إلخ) تعني أن الناضح الثاني نسقي عليه النخيل، وليس لنا ثالثٌ حتى أحجّ عليه.
وقولها أيضًا: (يَسْقِي عَلَيْهِ غُلَامُنَا) ووقع في شرح النوويّ بلفظ: "يسقي غلامنا"، فقال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في نسخ بلادنا، وكذا نقله القاضي عياض عن رواية عبد الغافر الفارسيّ، وغيره، قال: وفي رواية ابن ماهان: "يسقى عليه غلامنا"، قال القاضي عياض: وأرى هذا كله تغييرًا، وصوابه "نَسقي عليه نخلًا لنا"، فتصحف منه "غلامنا"، وكذا جاء في البخاريّ على الصواب، ويدُلّ على صحته قوله في الرواية الأولى:"ننضح عليه"، وهو بمعنى نسقي عليه. انتهى كلام القاضي.
فتعقّبه النوويّ، فقال: والمختار أن الرواية صحيحة، وتكون الزيادة التي ذكرها القاضي محذوفة مقدرةً، وهذا كثير في الكلام. انتهى كلام النووي رحمه الله
(1)
، وهو تعقّب وجيه، والله تعالى أعلم.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 2، 3.
وقوله: (تَقْضِي حَجَّةً) أي تؤدّيها، من حيث الأجر والثواب، لا من حيث إجزاؤها عن فرض الحج، كما سبق بيانه.
وقوله: (أَوْ حَجَّةً مَعِي)"أو" للشكّ من الراوي، وقد ثبتٌ من حديث أنس رضي الله عنه من غير شكّ، ولفظه:"عمرة في رمضان كحجة معي"، وهو حديث صحيح أخرجه سمّويه، والله تعالى أجملم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(34) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ دُخُولِ مَكَّةَ مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا، وَالْخُرُوجِ مِنْهَا مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَي، وَدُخُولِ بَلَدِهِ مِنْ طَرِيقٍ غَيْرِ الَّتي خَرَجَ مِنْهَا)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3041]
(1257) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعِ، عَن ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْرُجُ مِنْ طَرِيقِ الشَّجَرَةِ، وَيَدْخُلُ مِنْ طَرِيقِ الْمُعَرَّسِ، وَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ دَخَلَ مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا، وَيَخْرُجُ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظ، له تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ صاحب حديث سنّيّ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
3 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نمير الهمدانيّ، أبو عبد الرَّحمن الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضل [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
4 -
(عُبَيْدُ اللهِ) بن عُمر بن حفص بن عاصم العمريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [5] مات سنة بضع و (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
5 -
(نَافِعٌ) مولى ابن عمر، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةُ ثبتٌ فقيهٌ مشهور [3](ت 117) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
5 -
(ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد الله العدويّ، أبو عبد الرَّحمن الصحابيّ الشهير رضي الله عنهما، مات سنة (3 أو 74)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، من عبيد الله، والباقون كوفيّون.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ.
(ومنها): أن فيه ابن عمر رضي الله عنهما من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630)، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْرُجُ مِنْ طَرِيقِ الشَّجَرَةِ) قال القاضي عياض رحمه الله: هو موضع معروف على طريق مَن أراد الذهاب إلى مكة من المدينة، كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يخرج منه إلى ذي الحليفة، فيبيت بها، وإذا رجع بات بها أيضًا. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: يعني - والله أعلم - الشجرة التي بذي الْحُليفة التي أحرم منها، كما قال ابن عمر في الحديث المتقدّم، ولعلها هي الشجرة التي وَلدت تحتها أسماء بنت عميس. انتهى
(2)
.
(وَيَدْخُلُ مِن طَرِيقِ الْمُعَرَّسِ) - بفتح الراء المثقلة، وبالمهملتين - موضع التعريس، والتعريس: النزول من آخر الليل، وهو مكان معروف أيضًا، وكلٌّ من الشجرة، والْمُعَرَّس على ستة أميال من المدينة، لكن المعرَّس أقرب
(3)
.
(وَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ دَخَلَ مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا) الثنية: هي الْهَضْبة
(4)
، وقيل:
(1)
"مشارق الأنوار" 2/ 262.
(2)
"المفهم" 3/ 370، 371.
(3)
"الفتح" 4/ 456.
(4)
"الْهَضْبَةُ": الجبل المنبسط على وجه الأرض، والْهَضْبة: الأَكَمة القليلة النبات، =
هي الكَوم
(1)
الصغير.
وفي رواية للبخاريّ، من رواية مسدد، عن يحيى القطّان: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة من كداء، من الثنيّة العليا
…
"، وفي حديث عائشة رضي الله عنها: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح من كَدَاء، من أعلى مكة، وخرج من كُدًى".
قال في "الفتح": "كَداء" بفتح الكاف، والمدّ، قال أبو عبيد: لا يصرف، وهذه الثنية هي التي يُنزل منها إلى الْمَعْلَى مقبرة أهل مكة، وهي التي يقال لها: الْحَجُون - بفتح المهملة، وضمّ الجيم - وكانت صعبة المرتقي، فسهّلها معاوية، ثم عبد الملك، ثم المهديّ، على ما ذكره الأزرقيّ، ثم سُهِّل في عصرنا هذا منها سنة (811 هـ) موضعٌ، ثم سهّلت كلها في زمن سلطان مصر الملك المؤيّد في حدود (820 هـ). وكلّ عقبة في جبل، أو طريق عال فيه تسمّى ثنيّة.
قال: "وكُدًى" بضم الكاف، مقصور، وهو عند باب الشُّبيكة بقرب شِعب الشاميين من ناحية قُعَيقعان، وكان بناء هذا الباب عليها في القرن السابع. انتهى.
وقال أيضًا: قال عياض، والقرطبيّ، وغيرهما: اختلف في ضبط كداء، وكُدًى، فالأكثر على أن العُليا بالفتح والمدّ، والسفلى بالضمّ والقصر، وقيل: بالعكس، قال النوويّ: وهو غلط.
وقال القرطبي رحمه الله بعد ذكر ما تقدّم: وأما اللغويّون، فقال أبو عليّ القالي: كداء ممدودًا: جبل بمكة، قال الشاعر [من الخفيف]:
أَقْفَرَتْ بَعْدَ عَبْدِ شَمْسٍ كَدَاءُ
…
فَكُدَيٌّ فَالرُّكْنُ فَالْبَطْحَاءُ
وقال غيره: كدي: جبلٌ قريب من كَداء، وقال الخليل: كداء وكُدَيّ بالضمّ وتشديد الياء: جبلان بمكة، الأعلى منهما بالمدّ، وقال غيره: كُدى مضموم مقصور بأسفل مكة؛ والمشدّد لمن خرج إلى اليمن، وليس من طريق النبيُّ صلى الله عليه وسلم. انتهى
(2)
.
= والمطرُ القويّ أيضًا، جمعها في الكلّ؛ هِضَابٌ، مثلُ كَلْبةٍ وكِلابٍ. انتهى. "المصباح" 2/ 638.
(1)
بفتح الكاف وضمّها: القطعة من التراب وغيره.
(2)
"المفهم 3/ 370، 371.
(وَيَخْرُجُ مِنْ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى)؛ أي التي تلي باب العمرة.
واختلُف في المعنى الذي لأجله خالف النبيّ صلى الله عليه وسلم بين طريقيه، فقيل: ليتبرّك به كلُّ من في طريقيه، ويدعو لأهل تينك الطريقين، وقيل: ليُغيظ المنافقين ممن في ذينك الطريقين منهم بإظهار الدين، وإعزاز الإسلام، وقيل: ليري السعة في ذلك، وقيل: الحكمة في ذلك المناسبة بجهة العلوّ عند الدخول؛ لما فيه من تعظيم المكان، وعكسه الإشارة إلى فراقه. وقيل: لأن إبراهيم عليه السلام لَمّا دخل مكة دخل منها، وقيل: لأنه صلى الله عليه وسلم خرج منها متخفّيًا في الهجرة، فأراد أن يدخلها ظاهرًا عاليًا، وقيل: لأن من جاء من تلك الجهة كان مستقبلًا للبيت.
وَيحْتَمِل أن يكون ذلك لكونه دخل منها يوم الفتح، فاستمرّ على ذلك، والسبب في ذلك قول أبي سفيان بن حرب للعبّاس: لا أُسلم حتى أرى الخيل تطلع من كداء، فقلت: ما هذا؟ قال: هذا شيء طلع بقلبي، وإن الله لا يُطلع الخيل هناك أبدًا، قال العبّاس: فذكّرتُ أبا سفيان بذلك لما دخل، وللبيهقيّ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: كيف قال حسّان؟، فأنشده:
عَدِمْتُ بَنِيَّتِي إِنْ لَمْ تَرَوْهَا
…
تُثِيرُ النَّقْعَ مَطْلَعُهَا كَدَاءُ
فتبسّم، وقال: ادخلوها من حيث قال حسّان.
[تنبيه]: حَكَى الحميديّ عن أبي العبّاس العذريّ أن بمكة موضعًا ثالثًا، يقال لها: كُدَيّ، وهو بالضمّ، والتصغير، يُخرج منه إلى جهة اليمن، قال المحبّ الطبريّ: حققه العذريّ عن أهل المعرفة بمكة، قال: وقد بُني عليها باب مكة الذي يدخل منه أهل اليمن. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(1)
"الفتح" 4/ 480، 481.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [34/ 3041 و 3042](1257)، و (البخاريّ) في "الحج"(1533 و 1536 و 1554 و 1575 و 1576)، و (أبو داود) في "المناسك"(1866 و 1867)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجِّ"(5/ 200) و"الكبرى"(3848)، و (ابن ماجة) في "المناسك"(2940)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 444)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 14 و 16 و 22)، و (الدارمي) في "سننه"(2/ 70 و 71)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 425)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 350)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3908)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 71 - 72)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان محلّ استحباب دخول مكة، وهو أن يدخل من الثنية العليا التي تُسَمَّى الكداء بالفتح والمدّ.
2 -
(ومنها): استحباب الخروج من الثنيّة السفلى التي تُسَمَّى الكُدى بالضمّ والقصر.
3 -
(ومنها): أن هذا الفعل للاستحباب، وليس من النسك الواجب، فلا يترتب على تركه شيء، بل من فعل ذلك اقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم كان له فيه ثواب عظيم، وخير كثير، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]، ومن تركه فلا شيء عليه.
وقال النوويّ رحمه الله: قيل: إنما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه المخالفة في طريقه داخلًا وخارجًا تفاؤلًا بتغير الحال إلى أكمل منه، كما فعل في العيد، وليشهد له الطريقان، وليتبرك به أهلهما.
قال: ومذهبنا أنه يُستحب دخول مكة من الثنية العليا، والخروج منها من السفلى؛ لهذا الحديث، ولا فرق بين أن تكون هذه الثنية على طريقه، كالمدنيّ، والشاميّ، أو لا تكون، كاليمنيّ، فيستحب لليمنىّ وغيره أن يستدير، ويدخل مكة من الثنية العليا.
وقال بعض أصحابنا: إنما فعلها النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّها كانت على طريقه، ولا يستحب لمن ليست على طريقه، كاليمنيّ، قال: وهذا ضعيف، والصواب
الأول، وهكذا يستحب له أن يخرج من بلده من طريق، ويرجع من أخرى؛ لهذا الحديث. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3042]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى، وَهُوَ الْقَطَّانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وقَالَ فِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ: الْعُلْيَا الَّتي بِالْبَطْحَاءِ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ البصريّ الزَّمِنُ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
3 -
(يَحْيَى) بن سعيد بن فرّوخ الْقَطَّانُ، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ حجة إمام قدوة، من كبار [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.
و"عبيد الله" ذُكر قبله.
وقوله: (الْعُلْيَا الَّتِي بِالْبَطْحَاءِ) أي: دخل مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا الَّتِي بِالْبَطْحَاءِ، وهي بالمدّ، ويقال لها:"البطحاء" و"الأبطح"، وهي بجنب المحصّب، وهذه الثنيّة يُنحَدر منها إلى مقابر مكة، قاله النوويّ
(2)
.
وقيل: "البطحاء" تأنيث الأبطح، وهو في الأصل اسم لكل مكان متّسع، وهي المكان الذي بين مكة ومنى، وهي ما انبطح من الوادي، واتسع، وهي التي يقال لها: المحصّب، والمعرَّس، وحَدُّها ما بين الجبلين إلى المقبرة. انتهى.
وقال الجوهريّ: الأبطح مسيل واسع، فيه دُقَاق الحصي، وقال ابن
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 3، 4.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 4.
سيده: وقيل: بطحاء الوادي تراب ليّنٌ مما جرّته السيول، وجمعه بَطْحاوات، وبِطَاح، قاله في "اللسان".
[تنبيه]: رواية يحيى القطّان، عن عبيد الله هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(1576)
- حدّثنا مسدّد بن مسرهد البصريّ، حدّثنا يحيي، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة من كَدَاء، من الثنية العليا التي بالبطحاء، وخرج من الثنية السفلى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3043]
(1258) - (حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، جَمِيعًا عَن ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا جَاءَ إِلَى مَكَّةَ دَخَلَهَا مِنْ أَعْلَاهَا، وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، نزيل مكة، ثقةٌ [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
2 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة الهلاليّ، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ حجة إمام، من كبار [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.
3 -
(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) بن الزبير الأسديّ، أبو المنذر المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ ربّما دلّس [5](ت 5 أو 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.
4 -
(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العوّام الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 407.
5 -
(عَائِشَةُ) بنت أبي بكر الصدّيق، أم المؤمنين رضي الله عنهما، ماتت سنة (57) أو بعد ذلك (ع) تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.
و"محمد بن المثنّى" ذُكر قبله، وشرح الحديث يُعلم مما قبله.
وقولها: (لَمَّا جَاءَ إِلَى مَكَّةَ دَخَلَهَا مِنْ أَعْلَاهَا) قد تبيّن في الرواية التالية
وقت دخوله ذلك، حيث قالت:"دخل عام الفتح من كَداء، من أعلى مكة".
وقولها: (وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا) قال القاري رحمه الله: أي لما أراد الخروج منها خرج من أسفل مكة، والمراد بأعلاها ثنية كَدَاء بفتح الكاف، والمدّ، والتنوين وعدمه؛ نظرًا إلى أنه عَلَم المكان، أو البقعة، وهي التي يُنحَدر منها إلى المقبرة المسماة عند العامة بالمعلاة، وتسمى بالحجون عند الخاصة، ويُطلق أيضًا على الثنية التي قبله بيسير، والثنية: الطريق الضيق بين الجبلين، وبأسفلها ثنية كُدًى بضم الكاف، والقصر، والتنوين وتركه، وهو المسمى الآن بباب الشبيكة. انتهى
(1)
.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عديه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [34/ 3043 و 3044](1258)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1577 و 1578 و 1579 و 1580 و 1581)، و (أبو داود) في "المناسك"(1868 و 1869)، و (الترمذيّ) في "الحجِّ"(853) و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 476)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 40 و 58 و 201)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(959 و 960)، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: اختُلِف على هشام بن عروة في وصل هذا الحديث، وإرساله، وأورد البخاريّ، الوجهين مشيرًا إلى أن رواية الإرسال لا تقدح في رواية الوصل؛ لأن الذي وصله حافظ، وهو ابن عيينة، وقد تابعه ثقتان، وهما أبو أسامة، عند البخاريّ، ومسلم، وعمرو بن الحارث عند البخاريّ.
ورواه بالإرسال حاتم بن إسماعيل، ووُهيب بن خالد، فرّقهما عن هشام، عن أبيه: دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم عام الفتح من كَداء، من أعلى مكة، وكان عروة أكثر ما يدخل من كداء أقربهما إلى منزلة.
وأما مسلم فأعرض عن طريق الإرسال، واكتفى بالموصول من رواية ابن
(1)
"مرقاة المفاتيح" 5/ 486.
عيينة، وأبي أسامة، فرّقهما عن هشام، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3044]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ، مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ، قَالَ هِشَامٌ: فَكَانَ أَبِي يَدْخُلُ مِنْهُمَا كِلَيْهِمَا، وَكَانَ أَبِي أَكْثَرَ مَا يَدْخُلُ مِنْ كَدَاءٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو كُرَيْب) محمد بن العلاء الهمدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة [10](ت 247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
2 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة بن زيد القُرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
والباقون ذُكروا قبله.
وقولها: (دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ، مِنْ أَعْلَى مَكَةَ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا ضبطناه بفتح الكاف، وبالمدّ، وهكذا هو في نسخ بلادنا، وهذا نقله القاضي عياض عن رواية الجمهور، قال: وضبطه السمرقنديّ بفتح الكاف، والقصر. انتهى.
[تنبيه]: وقع في رواية أبي أسامة عند البخاريّ وَهَم، وذلك حيث قال:"دخل عام الفتح من كَداء، وخرج من كُدًا من أعلى مكة"، فقوله:"من أعلى مكة" وَهَمٌ، فإن خروجه صلى الله عليه وسلم من أسفل مكة لا من أعلاها، فإن أعلاها مكان دخوله، والظاهر أن الوَهَم من الراوي عنه، وهو محمود بن غيلان المروزيّ شيخ البخاريّ، والصواب رواية غيره بلفظ:"دخل عام الفتح من كداء من أعلى مكة"، كما في رواية أبي كريب هنا عنه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقوله: (قَالَ هِشَامٌ) هو ابن عروة، وهو موصول بالإسناد المذكور.
وقوله: (فَكَانَ أَبِي) يعني عروة بن الزبير.
وقوله: (يَدْخُلُ مِنْهُمَا كِلَيْهِمَا) أي من أعلى مكة، وأسفلها.
وقوله: (وَكَانَ أَبِي أَكْثَرَ مَا يَدْخُلُ مِنْ كَدَاءٍ) قال النوويّ رحمه الله: اختلفوا في ضبط كَداء هذه، قال جمهور العلماء بهذا الفنّ: كداء بفتح الكاف، وبالمدّ: هي الثنية التي بأعلى مكة، وكُدى بضم الكاف، وبالقصر: هي التي بأسفل مكة، وكان عروة يدخل من كليهما، وأكثر دخوله من كَدَاء بفتح الكاف، فهذا أشهر، وقيل: بالضم، ولم يذكر القاضي عياض غيره.
وأما كُدَيّ بضم الكاف، وتشديد الياء، فهو في طريق الخارج إلى اليمن، وليس من هذين الطريقين في شيء، هذا قول الجمهور. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
[تنبيه]: زاد في رواية البخاريّ بعد قوله: "وأكثر ما يدخل من كداء" ما نصّه: "وكانت أقربهما إلى منزلة". انتهى.
قال في "الفتح": قوله: "وكانت أقربهما إلى منزلة" فيه اعتذار هشام لأبيه؛ لكونه روى الحديث، وخالفه؛ لأنه رأى أن ذلك ليس بحتم لازم، وكان ربّما فعله، وكثيرًا ما يفعل غيره بقصد التيسير. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(35) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ الْمَبِيتِ بِذِي طُوًى عِنْدَ إِرَادَةِ دُخُولِ مَكَّةَ، وَالِاغْتِسَالِ لِدُخُولِهَا، وَدُخُولِهَا نَهَارًا)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3045]
(1259) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى وَهُوَ الْقَطَّانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَن ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَاتَ بِذِي طَوًى حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ، قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ اللهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعِيدٍ: حَتَّى صَلَّى الصُّبْحَ، قَالَ يَحْيَى: أَوْ قَالَ: حَتَّى أَصْبَحَ).
(1)
"شرح النوويّ" 4/ 9.
(2)
"الفتح" 4/ 480، 481.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدِ) بن يحيى اليشكريّ، أبو قُدامة السرخسيّ، نزيل نيسابور، ثقةٌ مأمون سنّيّ [10](ت 241)(خ م س) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.
والباقون كلّهم ذُكروا في الباب الماضي، وكذا لطائف إسناده.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَاتَ بِذِي طَوًى) بضمّ الطاء، وفتحها، والضمّ أشهر، وتقدّم أنه يجوز صرفه باعتبار أنه اسم للوادي، وعدم صرفه باعتبار أنه اسم للبقعة، وجوّز في "القاموس" تثليث طائه، ونصّه: وذو طوى مثلثة الطاء، وُينَوَّن: موضع قربَ مكة. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ: هو موضع معروف بقرب مكة، يقال: بفتح الطاء، وضمها، وكسرها، والفتح أفصح وأشهر
(2)
، ويُصْرَف، ولا يصرف. انتهى.
(حَتَّى أَصْبَحَ) أي دخل في الصباح (ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ) أي نهارًا، ففي الرواية التالية:"كان ابن عمر لا يقدَم مكة إلَّا بات بذي طوى حتى يُسبّح، ويغتسل، ثم يدخل مكة نهارًا، وَيذكُر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه فعله".
(قَالَ) نافع (وَكانَ عَبْدُ اللهِ) بن عمر رضي الله عنهما (يَفْعَلُ ذَلِكَ) أي ما ذُكر من البيات بذي طوي، حتى الصباح، والاغتسال، ودخول مكة نهارًا، كما في الرواية الثانية.
(وَفي رِوَايَةِ ابْنِ سَعِيدٍ) هو عبيد الله شيخه الثاني (حَتَّى صَلَّى الصُّبْحَ) يعني أن عبيد الله بن سعيد قال في روايته: "حتى صلى الصبح"، وقوله:(قَالَ يَحْيَى: أَوْ قَالَ: حَتَّى أَصْبَحَ) من تمام كلام ابن سعيد، وذلك أن شيخه يحيى القطّان شكّ في قوله:"حتى صلّى الصبح"، فقال:"أو قال: حتى أصبح"
ثم إن شك يحيى لا يضرّ، فقد جاء في رواية موسى بن عقبة، عن نافع الآتية بدون شكّ، ولفظة: "كان ينزل بذي طوي، ويبيت به حتى يُصلّي
(1)
"القاموس المحيط" 4/ 358.
(2)
هذا مخالف لما قاله الفيّوميّ، فإنه قال: وضمّ الطاء أشهر من كسرها، انتهى. "المصباح"2382.
الصبح"، فدلّ على أن المراد بالإصباح في الرواية الأولى كونه صلى الصبح هناك، لا مجرّد الإصباح فقط، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [35/ 3045 و 3046](1259)، و (البخاريّ) في "الحجِّ"(1573 و 1574)، و (أبو داود) في "المناسك"(1865)، و (مالك) في "الموطإ"(1/ 324)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 16 و 48)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2692 و 2695)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3908)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 276 و 278)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 351)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 70 - 71)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 71 - 72) و"الصغرى"(4/ 133) و"المعرفة" 4/ 45 - 46)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب المبيت بذي طوى عند إرادة دخول مكة.
2 -
(ومنها): استحباب الاغتسال لدخول مكة، وأنه يكون بذي طوي، قال النوويّ رحمه الله: هذا لمن كان ذو طوى في طريقه، ويكون بقدر بُعده لمن لَمْ يكن في طريقه، قال أصحابنا: وهذا الغسل سنة، فإن عجز عنه تيمم. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قال ابن المنذر: الاغتسال عند دخول مكة مستحبٌ عند جميع العلماء، وليس في تركه عندهم فدية، وقال أكثرهم: يجزئ منه الوضوء، وفي "الموطإ": أن ابن عمر كان لا يغسل رأسه، وهو محرم، إلَّا من احتلام، وظاهره أن غسله لدخول مكة كان لجسده دون رأسه، وقال الشافعية:
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 6.
إن عجز عن الغسل تيمم، وقال ابن التين: لم يذكر أصحابنا الغسل لدخول مكة، وإنما ذكروه للطواف، والغسل لدخول مكة هو في الحقيقة للطواف. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): بيان استحباب دخول مكة نهارًا، قال النوويّ رحمه الله: وهذا هو الصحيح الذي عليه الأكثرون من أصحابنا وغيرهم: إن دخولها نهارًا أفضل من الليل، وقال بعض أصحابنا، وجماعة من السلف: الليل والنهار في ذلك سواءٌ، ولا فضيلة لأحدهما على الآخر، وقد ثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخلها محرمًا بعمرة الجعرانة ليلًا، ومن قال بالأول حمله على بيان الجواز. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن قول من خيّر هو الأرجح، فإن شاء دخل نهارًا، هان شاء دخل ليلًا؛ لثبوت كليهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو ما رجحه الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، حيث قال:"باب دخول مكة نهارًا أو ليلًا"، ثم أورد فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا، وهو ظاهر في الدخول نهارًا.
وأما الدخول ليلًا فقد وقع منه صلى الله عليه وسلم في عمرة الجعرانة، فإنه صلى الله عليه وسلم أحرم من الجعرانة، ودخل مكة ليلًا، فقضى أمر العمرة، ثم رجع ليلًا، فأصبح بالجعرانة كبائت بها، كما رواه أصحاب "السنن" الثلاثة من حديث مُحَرِّش الكعبيّ رضي الله عنه، وترجم عليه النسائيّ رحمه الله:"دخول مكة ليلًا".
وروى سعيد بن منصور، عن إبراهيم النخعيّ، قال: كانوا يستحبون أن يدخلوا مكة نهارًا، ويخرجوا منها ليلًا.
وأخرج عن عطاء: إن شئتم فادخلوا ليلًا، إنكم لستم كرسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه كان إمامًا، فأحب أن يدخلها نهارًا؛ ليراه الناس. انتهى.
قال الحافظ: وقضية هذا أن من كان إمامًا يقتدى به استُحِبّ له أن يدخلها نهارًا. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"الفتح" 4/ 477.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 6.
(3)
"الفتح" 4/ 478.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3046]
(
…
) - (وَحَدَّثنَا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثنَا حَمَّادٌ، حَدَّثنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَقْدَمُ مَكَّةَ، إِلا بَاتَ بِذِي طَوًى حَتَّى يُصْبِحَ، وَيَغْتَسِلَ، ثُمَّ يَدْخُلُ مَكَةَ نَهَارًا، وَيَذْكُرُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ فَعَلَهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ) سليمان بن داود العتكيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.
2 -
(حَمَّادُ) بن زيد بن درهم الجهضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [8](ت 179)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
3 -
(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السختيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عابدٌ حجة [5](ت 131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (لَا يَقْدَمُ) بفتح أوله، وثالثه.
والحديث متفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3047]
(
…
) - (وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمُسَيَّبِيُّ، حَدَّثَني أَنَسٌ، يَعْنِي ابْنَ عِيَاضٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ حَدَّثَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْزِلُ بِذِي طَوًى، وَيَبِيتُ بِهِ حَتَّى يُصَلِّيَ الصُّبْحَ، حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ، وَمُصَلَّى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ عَلَى أَكَمَةٍ غَلِيظَةٍ، لَيْسَ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي بُنِيَ ثَمَّ، وَلَكِنْ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ، عَلَى أَكَمَةٍ غَلِيظَةٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمُسَيَّبِيُّ) من ولد المسيَّب بن عابد المخزوميّ المدنيّ، صدوقٌ [10](ت 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.
2 -
(أَنَسُ بْنُ عِيَاضِ) بن ضمْرة الليثيّ، أبو ضمرة المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 200) وله (96) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.
3 -
(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عيّاش الأسديّ مولى آل الزبير المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ، إمام في المغازي [5](ت 141) أو قبل ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.
والباقيان ذُكرا قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، كما أسلفته آنفًا.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من أوله إلى آخره.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.
5 -
(ومنها): أن فيه ابن عمر رضي الله عنهما من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ) بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما (حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَنْزِلُ بِذِي طُوًى) تقدَّم أنه مثلّث الطاء، وأنه يجوز صرفه، وعدمه (يَبِيتُ بِهِ) أي بذلك المكان (حَتَّى يُصَلِّيَ الصُّبْحِ، حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ) بفتح الدال المهملة، مضارع قَدِمَ، كعَلِم يعلَمُ، والظرف متعلق بـ "ينزل"(وَمُصَلَّى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ) بضم الميم، وفتح اللام المشددة: أي المحلّ الذي كان يصلي فيه حين يبيت في ذلك الموضع (عَلَى أَكَمَةٍ) بفتحات: تَلٌّ، وقيل: شُرْفَة، كالرابية، وهو ما اجتمع من الحجارة في مكان واحد، وربّما غَلُظَ، وربّما لم يغلُظ، والجمع أَكَمٌ، وأكَمَاتٌ، مثل قصَبَة، وقَصَب، وقَصَبَات، وجمع الأَكَم إِكَامٌ، مثل جَبَل وجِبَال، وجمع الإِكَام أُكُمٌ بضمتين، مثل كِتَاب وكُتُب، وجمع الأُكُم آكَام، مثل عُنُق وأَعْنَاق، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 18.
وقوله: (غَلِيظَةٍ) بالجر صفة لـ"أكمة"(لَيْسَ فِي الْمَسْجِدِ، الَّذِي بُنِيَ) بالبناء للمفعول (ثَمَّ) بفتح المثلّثة ظرف مكان للبعيد، وهو مبنيّ على الفتح، يوقف عليه بالهاء، فيقال: ثَمَّهْ. والمراد هنا إشارة إلى موضع مخصوص معروف؛ أي في ذلك المكان (وَلَكِنْ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ، عَلَى أَكَمَةٍ غَلِيظَةٍ) وفي رواية النسائيّ: "خَشِنَةٍ غَلِيظَة" وهو بفتح الخاء، وكسر الشين المعجمتين، فقوله:"غليظةٍ" صفة كاشفة له، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [35/ 3047 و 3048](1259 و 1260)، و (البخاريّ) في "المساجد"(484) و"الحجّ"(1767)، و (النسائيّ) في "المناسك"(5/ 199) و"الكبرى"(2/ 381)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 87)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 265)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 351)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): استحباب النزول بذي طوى، والمبيت به؛ اقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم.
2 -
(ومنها): استحباب العناية بتتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأماكن والأوقات.
3 -
(ومنها): ما كان عليه الصحابيّ الشهير عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من شدّة التحرّي في متابعة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فهذا التحديد، والتحقيق الذي صدر منه رضي الله عنه في تعيين مواضع النبيّ صلى الله عليه وسلم دليلٌ على شدّة عنايته، وكمال اهتمامه رضي الله عنه بآثار النبيّ صلى الله عليه وسلم، فمن تتبع كتب السنّة في هديه في ذلك يرى العجب العجاب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3048]
(1260) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمُسَيَبِيُّ، حَدَّثَنِي أَنَسٌ،
يَعْنِي ابْنَ عِيَاضٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَقْبَلَ فُرْضَتَي الْجَبَلِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَبَلِ الطَّوِيلِ نَحْوَ الْكَعْبَةِ، يَجْعَلُ الْمَسْجِدَ الَّذِي بُنِيَ ثَمَّ يَسَارَ الْمَسْجِدِ الَّذِي بِطَرَفِ الْأَكْمَةِ، وَمُصَلَّى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَسْفَلَ مِنْهُ، عَلَى الْأَكَمَةِ السَّوْدَاءِ، يَدَعُ مِنْ الْأَكَمَةِ عَشْرَةَ أَذْرُع
(1)
، أَوْ نَحْوَهَا، ثُمَّ يُصَلِّي مُسْتَقْبِلَ الْفُرْضَتَيْنِ مِنَ الْجَبَلِ الطَّوِيلِ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة، وهم المذكورون في السند الماضي.
وقوله: (اسْتَقْبَلَ فُرْضَتَي الْجَبَلِ) -بفاء مضمومة، ثم راء ساكنة، ثم ضاد معجمة مفتوحة- وهي تثنية فُرْضة، وهي الثنية المرتفعة من الجبل، قاله النوويّ رحمه الله.
وقال في "القاموس": الْفُرْضة -بالضمّ- من النهر: ثُلْمة يُستقى منها، ومن البحر: مَحَطّ السُّفُن. انتهى
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: والْفُرْضة في الحائط ونحوه كالْفُرْجة، وجمعها فُرَضٌ، وفُرْضة النهر: الثُّلْمَة التي ينحدر منها الماء، وتصعد منها السفُن. انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح": الفُرْضة: مدخلُ الطريق إلى الجبل، وقيل: الشق المرتفع، كالشّرافة، ويقال أيضًا: لمدخل النهر. انتهى
(4)
.
وقوله: (نَحْوَ الْكَعْبَةِ) أي ناحيتها، وهو متعلِّق بـ "الطويل"، أو ظرف لـ"الجبل"، أو بدل من "الفُرْضة"، قاله في "العمدة"
(5)
.
وقوله: (يَجْعَلُ الْمَسْجِدَ
…
إلخ) الظاهر أنه من كلام نافع، وفاعله عبد الله بن عمر، أفاده في "العمدة".
وقوله: (ثَمَّ) بفتح الثاء المثلّثة: أي هنالك.
وقوله: (يَسَارَ الْمَسْجِدِ) مفعول ثان "يجعل".
وقوله: (الَّذِي بِطَرَفِ الْأَكَمَةِ) صفة لـ"المسجد".
(1)
وفي نسخة: "عشر أذرع".
(2)
"القاموس المحيط" 2/ 340.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 469.
(4)
"الفتح" 2/ 233، 234.
(5)
"عمدة القاري" 4/ 274.
وقوله: (يَدَعُ) أي: يترك.
وقوله: (عَشْرَةَ أَذْرُعٍ) قال النوويّ رحمه الله: كذا في بعض النسخ، وفي بعضها:"عشر" بحذف الهاء، وهما لغتان في الذراع: التذكير، والتأنيث، وهو الأفصح الأشهر. انتهى
(1)
.
[تنبيهات]:
[الأول]: أخرج البخاريّ رحمه الله حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من طريق موسى بن عقبة، عن نافع مطوّلًا في "كتاب الصلاة"، فقال:
(483)
- حدّثنا محمد بن أبي بكر المقدميّ، قال: حدّثنا فُضيل بن سليمان، قال: حدّثنا موسى بن عقبة، قال: رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق، فيصلي فيها، ويحدِّث أن أباه كان يصلي فيها، وأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في تلك الأمكنة.
وحدّثني نافع، عن ابن عمر، أنه كان يصلي في تلك الأمكنة، وسألت سالِمًا، فلا أعلمه إلا وافق نافعًا في الأمكنة كلها، إلا أنهما اختلفا في مسجد بشَرَف الرَّوْحاء.
(484)
- حدّثنا إبراهيم بن المنذر الْحِزَاميّ، قال: حدّثنا أنس بن عياض، قال: حدّثنا موسى بن عقبة، عن نافع، أن عبد الله بن عمر أخبره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل بذي الحليفة حين يعتمر، وفي حجته حين حجّ تحت سمرة، في موضع المسجد الذي بذي الحليفة، وكان إذا رجع من غزو كان في تلك الطريق، أو حجّ، أو عمرة هَبَط من بطن واد، فإذا ظهر من بطن وادٍ، أناخ بالبطحاء التي على شَفِير الوادي الشرقية، فعَرَّس ثَمَّ حتى يصبح، ليس عند المسجد الذي بحجارة، ولا على الأكمة التي عليها المسجد، كان ثَمَّ خَلِيج
(2)
، يصلي عبد الله عنده، في بطنه كُثُب
(3)
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثَمّ يصلي، فَدَحا
(4)
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 6.
(2)
الخليج: وادٍ له عُمق، قاله في "الفتح" 2/ 232.
(3)
بضمتين جمع كثيب: وهو الرمل المجتمع.
(4)
أي دفع.
السيل فيه بالبطحاء، حتى دَفَنَ ذلك المكان الذي كان عبد الله يصلي فيه، وأن عبد الله بن عمر حدّثه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى حيث المسجدُ الصغير الذي دون المسجد الذي بشرف الرَّوْحاء، وقد كان عبد الله يَعْلَم المكان الذي كان صلى فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم، يقول: ثَمّ عن يمينك حين تقوم في المسجد تصلي، وذلك المسجد على حافة الطريق اليمنى، وأنت ذاهب إلى مكة، بينه وبين المسجد الأكبر رَمْيَةٌ بحجر، أو نحو ذلك.
وأن ابن عمر كان يصلي إلى العِرْق
(1)
الذي عند مُنْصَرف الرَّوْحاء، وذلك العرق انتهاء طرفه على حافة الطريق، دون المسجد الذي بينه وبين المنصرَف، وأنت ذاهب إلى مكة، وقد ابتُنِي ثَمّ مسجد، فلم يكن عبد الله بن عمر يصلي في ذلك المسجد، كان يتركه عن يساره، ووراءه، ويصلي أمامه إلى العِرْق نفسِهِ، وكان عبد الله يروح من الرَّوْحاء، فلا يصلي الظهر حتى يأتي ذلك المكان، فيصلي فيه الظهر، وإذا أقبل من مكة، فإن مَرّ به قبل الصبح بساعة، أو من آخر السحر عَرَّس حتى يصلي بها الصبح.
وأن عبد الله حدّثه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان ينزل تحت سَرْحة ضخمة
(2)
، دون الرُّويثة
(3)
، عن يمين الطريق، ووِجَاه الطريق، في مكان بَطْحٍ سَهْلٍ، حتى يُفضي من أكمة، دُوَيْن بَرِيد الرُّويثة بميلين، وقد انكسر أعلاها، فانثنى في جوفها، وهي قائمة على ساق، وفي ساقها كُثُب كثيرة.
وأن عبد الله بن عمر حدّثه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى في طرف تَلْعة، من وراء العَرْج، وأنت ذاهب إلى هَضْبَة، عند ذلك المسجد قبران، أو ثلاثة، على القبور رَضمٌ
(4)
من حجارة، عن يمين الطريق عند سَلِمَات الطريق، بين أولئك السَّلِمات
(5)
كان عبد الله يروح من العَرْج بعد أن تميل الشمس بالهاجرة، فيصلي الظهر في ذلك المسجد.
(1)
أي عِرْق الظبية، وهو واد معروفٌ.
(2)
أي شجرة عظيمة.
(3)
"الرُّويثة": قرية جامعة بينها وبين المدينة سبعة عشر فرسخًا.
(4)
الرضم بفتح، فسكون: الحجارة الكبار.
(5)
"السلمات" بفتح السين وكسر اللام: الصخرات، وفتحتين: الشجرات.
وأن عبد الله بن عمر حدّثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عند سَرَحات، عن يسار الطريق، في مَسِيلٍ، دون هَرْشَى
(1)
، ذلك المسيل لاصق بكُراع هَرْشى، بينه وبين الطريق قريب من غَلْوَة
(2)
وكان عبد الله يصلي إلى سَرْحة، هي أقرب السَّرَحات إلى الطريق، وهي أطولهنّ.
وأن عبد الله بن عمر حدّثه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان ينزل في المسيل الذي في أدنى مَرِّ الظهران، قبل المدينة، حين يهبط من الصَّفْراوات
(3)
ينزل في بطن ذلك المسيل، عن يسار الطريق، وأنت ذاهب إلى مكة، ليس بين منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين الطريق إلا رَمْية بحجر.
وأن عبد الله بن عمر حدّثه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان ينزل بذي طوى، ويبيت، حتى يصبح، يصلي الصبح، حين يقدم مكة، ومصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك على أكمة غليظة، ليس في المسجد الذي بُنِي ثَمّ، ولكن أسفل من ذلك، على أكمة غليظة.
وأن عبد الله بن عمر حَدّثه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم استقبل فُرْضتي الجبل الذي بينه، وبين الجبل الطويل نحو الكعبة، فجعل المسمجد الذي بُنِي ثَمّ يسار المسجد، بطرف الأكمة، ومصلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أسفل منه، على الأكمة السوداء، تَدَعُ من الأكمة عشرة أذرع، أو نحوها، ثم تصلي مستقبل الفُرْضتين، من الجبل الذي بينك وبين الكعبة. انتهى.
[التنبيه الثاني]: قال الحافظ رحمه الله: اشتَمَل هذا السياق على تسعة أحاديث، أخرجها الحسن بن سفيان في "مسنده" مفرّقة، من طريق إسماعيل بن أبي أويس، عن أنس بن عياض، يعيد الإسناد في كل حديث، إلا أنه لم يذكر الثالث، وأخرج مسلم منها الحديثين الأخيرين في "كتاب الحج".
[الثالث]: قال الحافظ أيضًا: هذه المساجد لا يُعرف اليوم منها غير
(1)
"هَرْشَى" بفتح، فسكون، مقصورًا: جبل على مُلتقى طريق المدينة والشام، قريب من الجحفة، وكُراع هرشة: طرفها. "الفتح" 2/ 233.
(2)
بفتح فسكون: غاية بلوغ السهم، وقيل: قدر ثلثي ميل.
(3)
الصَّفْراوات: مكان بعد مرّ الظهران.
مسجدي ذي الحليفة، والمساجد التي بالرُّوحاء، يعرفها أهل تلك الناحية، وقد وقع في رواية الزبير بن بكار في "أخبار المدينة" له من طريق أخرى، عن نافع، عن ابن عمر في هذا الحديث زيادة بسط في صفة تلك المساجد.
وفي الترمذيّ من حديث عمرو بن عوف: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى في وادي الروحاء، وقال:"لقد صلى في هذا المسجد سبعون نبيًّا".
[الرابع]: عُرِف من صنيع ابن عمر رضي الله عنهما استحباب تتبع آثار النبيّ صلى الله عليه وسلم، والتبرك بها، وقد قال البغويّ من الشافعية: إن المساجد التي ثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى فيها، لو نذر أحد الصلاة في شيء منها تَعَيَّن، كما تتعين المساجد الثلاثة، قاله في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: تعيّن تلك المساجد للنذر يحتاج إلى دليل، والله تعالى أعلم.
[الخامس]: قال الحافظ رحمه الله: ذكر البخاريّ المساجد التي في طُرُق المدينة، ولم يذكر المساجد التي كانت بالمدينة؛ لأنه لم يقع له إسناد في ذلك على شرطه، وقد ذكر عُمر بن شَبّة في "أخبار المدينة" المساجد، والأماكن التي صلى فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة، مستوعبًا.
وروى عن أبي غَسّان عن غير واحد، من أهل العلم أن كل مسجد بالمدينة، ونواحيها مبني بالحجارة المنقوشة المطابقة، فقد صلى فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذلك أن عمر بن عبد العزيز حين بنى مسجد المدينة، سال الناس، وهم يومئذ متوافرون عن ذلك، ثم بناها بالحجارة المنقوشة المطابقة. انتهى.
وقد عَيَّن عُمر بن شَبّة منها شيئًا كثيرًا، لكن أكثره في هذا الوقت قد اندثر، وبقي عن المشهورة الآن مسجد قباء، ومسجد الفَضيخ، وهو شرقي مسجد قباء، ومسجد بني قريظة، ومشربة أم إبراهيم، وهي شمالي مسجد بني قريظة، ومسجد بني ظَفَر، شرقي البقيع، ويعرف بمسجد البغلة، ومسجد بني معاوية، ويُعْرف بمسجد الإجابة، ومسجد الفتح، قريب من جبل سَلْع، ومسجد القبلتين، في بني سَلِمَة، هكذا أثبته بعض شيوخنا، وفائدة معرفة ذلك ما تقدم عن البغويّ. انتهى.
(1)
"الفتح" 4/ 234.
قال الجامع عفا الله عنه: قد عرفت فيما مضى أن تعيين مساجد المدينة للنذر مما لا دليل عليه، على أن هذه المساجد لم تثبت بأسانيد صحيحة أنها هي التي صلى فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم، بل هي حكايات وبلاغات، فلا التفات إليها، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(36) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ الرَّمَلِ فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ، وَفِي الطَّوَافِ الْأَوَّلِ مِنَ الْحَجِّ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3049]
(1261) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ الطَوَافَ الْأَوَّلَ خَبَّ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا، وَكَانَ يَسْعَى بِبَطْنِ الْمَسِيلِ، إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ).
رجال هذا الإسناد: ستة، وكلهم تقدّموا في الباب الماضي.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِدا طَافَ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ الْأوَّلَ)؛ أي: طواف القدوم (خَبَّ ثَلَاثًا)؛ أي: عدا، وأسرع، يقال: خَبَّ في الأمر خَبَبًا، من باب طَلَبَ: أسرع الأخذ فيه، ومنه الْخَبَبُ لضرب من الْعَدْو، وهو خَطْؤٌ فَسِيخ دون الْعَنَق، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
فالْخَبَبُ والرَّمَل -بفتحتين فيهما- بمعنى واحد، وهو إسراع المشي، مع تقارب الْخُطا، ولا يَثِبُ وَثْبًا، أفاده النوويّ رحمه الله
(2)
.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 162.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 7.
وقال في "الفتح": الرَّمَلُ بفتح الراء والميم: هو الإسراع، وقال ابن دريد: هو شبيه بالهرولة، وأصله أن يُحرّك الماشي منكبيه في مشيه.
قال: والخبب بفتح المعجمة، والموحّدة، بعدها موحّدة أخرى: العدو السريع، يقال: خَبّت الدابّة: إذا أسرعت، وراوحت بين قدميها، قال: وهذا يشعر بترادف الرمل والخبب عند هذا القائل. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: والرَّمَل مستحبّ في الطوْفَات الثلاث الأُوَل من السبع، ولا يسنّ ذلك إلا في طواف العمرة، وفي طواف واحد في الحجّ، واختلفوا في ذلك الطواف، وهما قولان للشافعيّ: أصحهما أنه إنما يُشرع في طواف يعقبه سعيٌ، ويتصور ذلك في طواف القدوم، ويتصور في طواف الإفاضة، ولا يتصور في طواف الوداع؛ لأن شرط طواف الوداع أن يكون قد طاف للإفاضة، فعلى هذا القول إذا طاف للقدوم، وفي نيته أنه يسعى بعده استُحِبّ الرمل فيه، وإن لم يكن هذا في نيته لم يرمل فيه، بل يرمُل في طواف الإفاضة.
والقول الثاني أنه يرمُل في طواف القدوم، سواء أراد السعي بعده أم لا، والله أعلم. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا القول عندي أرجح؛ لموافقته لظاهر قوله: "كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول
…
"، فقد علّقه بكونه أول الطواف، وهو طواف القدوم، لا بالسعي بعده، فتامل، والله تعالى أعلم.
قال: قال أصحابنا: فلو أخلّ بالرمل في الثلاث الأُوَل من السبع لم يأت به في الأربع الأواخر؛ لأن السنة في الأربع الأخيرة المشي على العادة، فلا يُغَيِّره، ولو لم يمكنه الرمل للزحمة أشار في هيئة مشيه إلى صفة الرمل، ولو لم يمكنه الرمل بقرب الكعبة للزحمة، وأمكنه إذا تباعد عنها فالأولى أن يتباعد، ويرمُل؛ لأن فضيلة الرمل هيئة للعبادة في نفسها، والقرب من الكعبة هيئة في موضع العبادة، لا في نفسها، فكان تقديم ما تعلق بنفسها أولى، والله أعلم.
قال: واتفق العلماء على أن الرمل لا يُشْرَع للنساء، كما لا يُشْرَع لهنّ
(1)
"الفتح" 4/ 532، 533.
شدة السعي بين الصفا والمروة، ولو ترك الرجل الرمل حيث شُرع له، فهو تارك سنة، ولا شيء عليه، قال: هذا مذهبنا، واختَلَف أصحاب مالك، فقال بعضهم: عليه دمٌ، وقال بعضهم: لا دم كمذهبنا. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
(وَمَشَى)؛ أي: بالسكون والهيئة (أَرْبَعًا)؛ أي: أربع مرّات من الطواف.
(وَكَانَ) صلى الله عليه وسلم (يَسْعَى)؛ أي: يُسرع، ويَشتدّ عَدْوًا، قاله القاري.
(واعلم): أن السعي في كلامهم يُطْلَق على معنيين: الأول: المشي بين الصفا والمروة، وهو المذكور في كلامهم؛ إذا أطلقوا السعي بين الصفا والمروة.
والثاني: شِدّة المشي بين الميلين الأخضرين، وهو المراد في هذا الحديث، وهو مندوب وسنة عند الجمهور، منهم الحنفية، والشافعيّة، وهو المرجح عند المالكية
(2)
.
(بِبَطْنِ الْمَسِيلِ) أي المكان الذي يجتمع فيه السيل، قال في "الفتح": المراد ببطن المسيل الوادي؛ لأنه موضع السيل، وقال القاري: بطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة: اسم موضع بين الصفا والمروة، وجعل علامته بالأميال الْخُضْر. انتهى، والميلان الأخضران هما العَلمان، أحدهما بركن المسجد، والآخر بالموضع المعروف بدار العباس، وقد أزيلت الدار للتوسعة من قديم الزمان، وفي الوقت الحاضر جعلت المملكة السعوديّة نورين أخضرين معلّقين ببداية مكان الوادي ونهايته.
(إِذَا طَافَ)؛ أي: سعى (بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) قال النوويّ رحمه الله: هذا مجمع على استحبابه، وهو أنه إذا سعى بين الصفا والمروة استُحِبّ أن يكون سعيه شديدًا في بطن المسيل، وهو قَدْرٌ معروف، وهو مِن قَبْل وصوله إلى الميل الأخضر المعلَّق بفناء المسجد، إلى أن يحاذى الميلين الأخضرين المتقابلين اللذين بفناء المسجد، ودار العباس. انتهى
(3)
.
(وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما (يَفْعَلُ ذَلِكَ) أي ما ذُكر من الرمل في الثلاثة الأول، والمشي في الأربع، في الطواف بالبيت، وكذلك السعي في بطن
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 7.
(2)
راجع: "المرعاة" 9/ 91.
(3)
"شرح النوويّ" 9/ 7.
الوادي في الطواف بين الصفا والمروة؛ اقتداءً بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [36/ 3049 و 3050 و 3051 و 3052 و 3053](1261 و 1262)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1603 و 1604 و 1617 و 1644)، و (أبو داود) في "المناسك"(1891)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(5/ 229 و 230)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(2950)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 13 و 30 و 40 و 59 و 71 و 75 و 98 و 100 و 114 و 123 و 155 و 157)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2710 و 2762)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 354)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 353)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 94)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب الرمل في الطواف بالبيت.
2 -
(ومنها): بيان أن الرمَل إنما يُشرَع في طواف القدوم؛ لأنه الطواف الأول، وهو الذي عليه الجمهور، قال أصحاب الشافعي: ولا يستحب الرمل إلا في طواف واحد في حج أو عمرة، أما إذا طاف في غير حج أو عمرة فلا رمل، قال النووي: بلا خلاف، ولا يشرع أيضًا في كل طوافات الحج، بل إنما يشرع في واحد منها، وفيه قولان، تقدّم بيانهما قريبًا.
3 -
(ومنها): أن فيه دليلًا على أن السنة أن يرمُل في الثلاثة الأُوَل من أول طواف يطوفه القادم إلى مكة، سواء كان عمرةً، أو طواف قدوم في حجّ، ويمشي على عادته في الأشواط الأربعة الباقية، ولا يرمُل فيها، وإن ترك الرمل في الأشواط الأُوَل لم يقضه في الأشواط الأخيرة على الصواب، ولا يلزم بتركه دم على الأظهر؛ لعدم الدليل، خلافًا لمن أوجب فيه الدم.
قال في "الفتح": لا يشرع تدارك الرمل، فلو تركه في الثلاث لم يقضه
في الأربع؛ لأن هيأتها السكينة فلا تغير، ويختص بالرجال، فلا رمل على النساء، ويختص بطواف يعقبه سعي على المشهور
(1)
، ولا فرق في استحبابه بين ماش وراكب ولا دم بتركه عند الجمهور، واختلف في ذلك المالكية.
قال الشوكانيّ رحمه الله: وقد روي عن مالك رحمه الله أن عليه دمًا ولا دليل على ذلك، ثم قال: يؤيده أنهم اقتصروا عند مراءاة المشركين على الإسراع إذا مروا من جهة الركنين الشاميين؛ لأن المشركين كانوا بإزاء تلك الناحية يعني ناحية الحجر، فإذا مروا بين الركنين اليمانيين مشوا على هيأتهم كما هو مبيّن في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند الشيخين، ولما رَمَلُوا في حجة الوداع أسرعوا في جميع كل طوفة فكانت سنة مستقلة.
وقال الطبريّ رحمه الله: قد ثبت أن الشارع سَعَى ولا مشرك يومئذ بمكة، يعني في حجة الوداع، فعُلم أنه من مناسك الحج، إلا أن تاركه ليس تاركًا لعمل، بل لهيأة مخصوصة، فكان كرفع الصوت بالتلبية، فمن لبى خافضًا صوته لم يكن تاركًا للتلبية، بل لصفتها، ولا شيء عليه. انتهى.
4 -
(ومنها): ما قيل: إن قيل: ما الحكمة في الرمل بعد زوال علته التي شرع من أجلها، والغالب اطراد العلة وانعكاسها بحيث يدور معها المعلَّل بها وجودًا وعدمًا؟.
[فالجواب]: أن بقاء حكم الرمل مع زوال علته لا ينافي أن لبقائه علة أخرى، وهي أن يتذكر به المسلمون نعمة الله عليهم، حيث كَثَّرهم، وقوّاهم بعد القلّة والضعف، كما قال الله تعالى:{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ} الآية [الأنفال: 26]، وقال تعالى عن نبيّه شعيب:{وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} الآية [الأعراف: 86]، وصيغة الأمر في قوله:{اذْكُرُوا} في الآيتين تدلّ على تحتم ذكر النعمة بذلك، وإذاً فلا مانع من كون الحكمة في بقاء حكم الرمل هي تذكّر نعمة الله بالقوّة بعد الضعف، والكثرة بعد القلة.
(1)
تقدّم أن اشتراط تقدّم السعي يحتاج إلى دليل، فتنبّه.
ومما يؤيده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رَمَلَ في حجة الوداع بعد زوال العلة المذكورة، فلم يمكن بعد ذلك تركه لزوالها.
قال الحافظ رحمه الله: إن عمر رضي الله عنه كان هَمّ بترك الرمل في الطواف؛ لأنه عرف سببه، وقد انقضى، فَهَمّ أن يتركه؛ لفقد سببه، ثم رجع عن ذلك؛ لاحتمال أن تكون له حكمة ما اطّلَع عليها، فرأى أن الاتباع أولى من طريق المعنى.
وأيضًا إن فاعل ذلك إذا فعله تذكّر السبب الباعث على ذلك، فيتذكر نعمة الله على إعزاز الإسلام وأهله. انتهى
(1)
.
وقال الشاه ولي الله الدهلويّ رحمه الله: إن مشروعية الرمل، والاضطباع في الطواف؛ لمعان: منها: ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما من إخافة قلوب المشركين، وإظهار صولة المسلمين، وكان أهل مكة يقولون: وَهَنَتهم حُمَّى يَثْرِب، فهو فعل من أفعال الجهاد، وهذا السبب قد انقضى ومضى، ومنها تصوير الرغبة في طاعة الله، وأنه لم يزده السفر الشاسع، والتعب العظيم إلا شوقًا ورغبةً، كما قال الشاعر [من البسيط]:
إَذَا اشْتَكَتْ مِنْ كَلَالِ السَّيْرِ وَاعَدَهَا
…
رَوْحُ الْوِصَالِ فَتَحْيَى عِنْدَ مِيعَادِ
(2)
5 -
(ومنها): بيان الإسراع في السعي في الطواف بين الصفا والمروة.
قال العلامة ابن قدامة رحمه الله: إن الرمل في بطن الوادي سنة مستحبة؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم سَعَى، وسَعَى أصحابه رضي الله عنهم، فرَوَت صفية بنت شيبة، عن أم ولد شيبة، قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى بين الصفا والمروة، ويقول:"لا يُقْطَع الأبطح إلا شدًّا"، رواه النسائيّ وابن ماجه
(3)
.
وليس ذلك بواجب، ولا شيء على تاركه، فإن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن أسع بين الصفا والمروة، فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى، وإن أمش فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي، وأنا شيخ كبير. رواه أبو داود، وابن ماجه
(4)
.
ولأن ترك الرمل في الطواف بالبيت لا شيء فيه، فبين الصفا والمروة أولى. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله.
(1)
"الفتح" 4/ 535.
(2)
راجع: "المرعاة" 9/ 88 - 90.
(3)
حديث صحيح.
(4)
حديث صحيح.
وكذلك عند الحنفية والمالكية كما صرح به في فروعهم، قاله في "المرعاة"
(1)
.
6 -
(ومنها): أنه قيل في وجه مشروعية السعي الشديد، والجري في بطن الوادي: ما رواه البخاريّ عن ابن عباس رضي الله عنهما، ومحصله: أن هاجر لما تركها إبراهيم عليه السلام عند البيت عند دَوْحَة فوق زمزم، في أعلى المسجد، عَطِشَت، وعَطِش ابنها حين نَفِد ما في السقاء من الماء، وانقطع دَرّها، واشتد جوعهما، حتى نظرت إلى ابنها يتشحّط، ويَتَلَوَّى، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فقامت على الصفا، وهو أقرب جبل يليها، ثم استقبلت الوادي، تنظر هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، فهَبَطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة، فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: فلذلك سعى الناس بينهما، فجُعِل ذلك نسكًا؛ إظهارًا لشرفهما، وتفخيمًا لأمرهما.
قال الشاه ولي الله الدهلوي رحمه الله: السر في السعي بين الصفا والمروة، على ما ورد في الحديث أن هاجر أم إسماعيل؛ لما اشتد بها الحال سعت بينهما سعي الإنسان المجهود، فكشف الله عنهما الجهد بإبداء زمزم، وإلهام الرغبة في الناس أن يعمروا تلك البقعة، فوجب شكر تلك النعمة على أولاده، ومن تبعهم، وتذكُّر تلك الآية الخارقة لتبهت بهيميّتهم، وتدلّهم على الله، ولا شيء في هذا مثل أن يعضد عقد القلب بهما بفعل ظاهر منضبط مخالف لمألوف القوم، فيه تذلل عند أول دخولهم مكة، وهو محاكاة ما كانت فيه من العناء والجهد، وحكاية الحال في مثل هذا أبلغ بكثير من لسان المقال. انتهى.
وروى أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن إبراهيم عليه السلام لما أُمِر بالمناسك عَرَض الشيطان له عند السعي، فسابقه فسبقه إبراهيم.
وقبل: إنما سعى نبينا صلى الله عليه وسلم؛ إظهارًا للجَلَد والقوّة للمشركين الناظرين إليه
(1)
"المرعاة" 9/ 92.
في الوادي، وهذا كان في عمرة القضاء، ثم بقي بعده كالرمل في الطواف؛ إذ لم يبق في حجة الوداع مشرك بمكة
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3050]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، يَعْنِي ابْنَ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا طَافَ فِيٍ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةِ أَوَّلَ مَا يَقْدَمُ، فَإِنَّهُ يَسْعَى ثَلَاَثَةَ أَطْوَافٍ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ يَمْشِي أَرْبَعَةً، ثُمَّ يُصَلِّي سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ) بن الزبرِقَان المكيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ يَهِمُ [10](ت 234)(خ م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.
2 -
(حَاتِمُ بْنَ إِسْمَاعِيلَ) الحارثيّ مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، كوفيّ الأصل، صدوقٌ يَهِمُ، صحيح الكتاب [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الصلاة" 42/ 1086.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
وقوله: (كَانَ إِذَا طَافَ في الْحَجَّ وَالْعُمْرَةِ) وفي رواية البخاريّ: "في الحجّ أو العمرة" بـ "أو"، والظاهر أنها للتنويع، لا للشكّ.
وقوله: (أَوَّلَ مَا يَقْدَمُ) بنصب "أوّلَ" على الظرفيّة لـ"طاف".
وقوله: (فَإِنَّهُ يَسْعَى) المراد بالسعي الرَّمَل، كما في الروايات الأخرى.
وقوله: (ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ بِالْبَيْتِ)؛ أي: أشواط، ونصبه على أنه مفعول فيه.
وقوله: (ثُمَّ يُصَلِّي سَجْدَتَيْنِ)؛ أي: يصلي ركعتين للطواف، وعبّر بالمضارع في "يُصلّي"، وفي "يَقْدَم"، و"يطوف" استحضارًا لتلك الحال.
وقوله: (ثُمَّ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ)؛ أي: يسعى بينهما.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث
(1)
"المرعاة" 9/ 92.
الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3051]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ حَرْمَلَةُ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللهِ أَخْبَرَهُ، أَن عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْدَمُ مَكَّةَ، إِذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الْأَسْوَدَ، أَوَّلَ مَا يَطُوفُ حِينَ يَقْدَمُ، يَخُبُّ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ مِنَ السَّبْعِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السَّرْح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
2 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التجيبيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم، تقدّم أيضًا قريبًا.
6 -
(سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمر بن الخطّاب العدويّ، أبو عمر المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عابدٌ، من كبار [3](ت 106) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 162.
و"عبد الله بن عمر رضي الله عنهما" ذُكر قبله.
وقوله: (حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ) متعلّق بـ "رأيتُ"، وهو بفتح الدال، كما مرّ غير مرّة. وقوله:(إِذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الْأَسْوَدَ) أي الركن الذي فيه الحجر الأسود، والمراد استلام الحجر نفسه.
قال النوويّ رحمه الله: فيه استحباب استلام الحجر الأسود في ابتداء الطواف، وهو سنة، من سنن الطواف، بلا خلاف، وقد استَدَلّ به القاضي أبو الطيب من أصحابنا في قوله: إنه يستحب أن يستلم الحجر الأسود، وأن يستلم معه الركن الذي هو فيه، فيجمع في استلامه بين الحجر والركن جميعًا، واقتصر جمهور أصحابنا على أنه يستلم الحجر.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله الجمهور هو الحقّ؛ لأن الأحاديث الكثيرة بيّنت أن الاستلام للحجر الأسود، وأما بقيّة الركن فلا دليل على استلامه، ولا ينافي هذا استحباب الركن اليمانيّ؛ لأنه بدليل آخر، فتنبّه.
قال: وأما الاستلام فهو المسح باليد عليه، وهو مأخوذ من السِّلام، بكسر السين، وهي الحجارة، وقيل: من السَّلام بفتح السين الذي هو التحيّة. انتهى
(1)
.
وقوله: (أَوَّلَ مَا يَطُوفُ) منصوب على الظرفيّة، متعلّق بـ "استَلَم".
وقوله: (حِينَ يَقْدَمُ) متعلّق بـ "يطوف".
وقوله: (يَخُبُّ) بفتح أوله، وضمّ الخاء المعجمة، بعدها موحّدة: أي يُسرع في مشيه، وقد تقدّم ضبط الْخَبَب، ومعناه.
وقوله: (ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ مِنَ السَّبْعِ) بفتح أوله؛ أي: الطوفات السبع، وظاهره أن الرمل يستوعب الطوفة، فهو مغاير لحديث ابن عبّاس الآتي بعده؛ لأنه صريح في عدم الاستيعاب، وسيأتي القول فيه قريبًا -إن شاء الله تعالى-.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3052]
(1262) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبانٍ الْجُعْفِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: رَمَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبَانٍ الْجُعْفِيُّ) هو: عبد الله بن عمر بن محمد بن أبان بن صالح بن عُمير الأمويّ مولاهم، يقال له: الْجُعفيّ نسبةً إلى خالة
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 8، 9.
حسين بن عليّ الجعفيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، مُشْكُدانة
(1)
، صدوقٌ فيه تشيّعٌ [10](ت 239)(م د س) تقدم في "صلاة الاستسقاء" 5/ 2088.
2 -
(ابْنُ الْمُبَارَكِ) هو: عبد الله بن المبارك بن واضح الْحَنظليّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ جوادٌ مجاهدٌ، جُمعت فيه خصال الخير كلها [8](ت 181) وله (63) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 32.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (رَمَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) الرّمَل -بفتح الراء والميم- في الاسم، والفعل الماضي: سرعة المشي، مع تقارب في الخطو، والخبب هو الإسراع في المشي، مع هَزّ المنكبين، دون وثب، هكذا فسره أكثر المفسرين، وقال بعضهم: الخبب هو وثب في المشي مع هزّ المنكبين، والهرولة ما بين المشي والعدو، والسعي يقع على الجميع، فلهذا يقال: سَعْيٌ خفيفٌ، وسَعْيٌ شديدٌ، فيُحْمَل السعي المذكور في الحديث المتقدم على الرمل والخبب جمعًا بينهما، هكذا ذكره الطبريّ.
(مِنَ الْحَجَرِ)؛ أي: الأسود (إِلَى الْحَجَرِ) هذا نصّ في استيعاب الرمل لجميع الطَّوْفة؛ يعني في مشروعية الرمل في جميع المطاف من الحجر إلى الحجر، وحديثُ ابن عباس رضي الله عنهما المروي في بيان سبب الرمل الآتي نصّ في عدم الاستيعاب، فمانهم مشوا ما بين الركنين اليمانيين.
ويُجمع بينهما بأن حديث ابن عباس الذي فيه أنهم مشوا ما بين الركنين كان في عمرة القضاء، في ذي القعدة سنة سبع، وما في الروايات الأخرى من الرمل من الحجر إلى الحجر في حجة الوداع سنة عشر، فهو ناسخ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقيل: إن الرمل سنة، فعَذَرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء في استيعاب الرمل بجميع الطوفة؛ لضعفهم بالحمى، قال الباجيّ رحمه الله: إن جابرًا رضي الله عنه روى ما عاين عام حجة الوداع، وابن عباس إنما روى عن غيره، فإنه لم يشهد عام القضية؛ لصغره مع أنه يَحْتَمِل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم ترك رمل
(1)
بضمّ الميم، والكاف، بينهما شين معجمة ساكنةٌ، وبعد الألف نون، وهو وعاء المسك بالفارسيّة. انتهى "تقريب" ص 183.
ما بين الركنين، وإن كان مشروعًا لحاجته إلى الإبقاء على أصحابه، فلما ارتفعت هذه العلة لزم استدامة الرمل المشروع. انتهى.
وقال ابن قُدامة رحمه الله: الرمل سنة في الأشواط الثلاثة بكمالها، يرمُل من الحجر إلى أن يعود إليه، لا يمشي في شيء منها، رُوي ذلك عن عمر، وابنه، وابن مسعود، وابن الزبير، وبه قال عروة، والنخعيّ، ومالك، والثوريّ، والشافعيّ، وأصحاب الرأي.
وقال طاوس، وعطاء، والحسن، وسعيد بن جبير، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله: يمشي ما بين الركنين؛ لرواية ابن عباس رضي الله عنهما.
قال: ولنا ما روى ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر إلى الحجر، وحديث جابر عند مسلم، قال:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه ثلاثة أطواف"، وهذا يُقَدَّم على حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ لوجوه:
[الأول]: أنه مُثبِتٌ.
[والثاني]: أن رواية ابن عباس إخبار عن عمرة القضية، وهذا إخبار عن حجة الوداع، فيكون متأخرًا، ويجب العمل به.
[والثالث]: أن ابن عباس كان في تلك الحال صغيرًا.
[والرابع]: أن جلة الصحابة عملوا بما ذكرنا، ولو علموا من النبيّ صلى الله عليه وسلم ما قال ابن عباس ما عدلوا عنه إلى غيره.
ويَحْتَمِل أن ما رواه ابن عباس يختص بالذين كانوا في عمرة القضية؛ لضعفهم والإبقاء عليهم، وما رويناه سنة في سائر الناس. انتهى.
ويظهر من كلام ابن حزم في "المحلى" أنه مال إلى أن الرمل من الحجر الأسود إلى الركن اليماني واجب، وفيما بينهما جائز، قاله في "المرعاة"
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وتقدّم تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
راجع: "المرعاة" 9/ 90، 91.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3053]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدثنَا سُلَيْمُ بْنُ أَخْضَرَ، حَدثنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، أَن ابْنَ عُمَرَ رَمَلَ مِنَ الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ، وَذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَعَلَهُ).
رجال هذا الإسناد:
1 -
(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فُضيل بن حسين البصريّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 237)(خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
2 -
(سُلَيْمُ
(1)
بْنُ أَخْضَرَ) البصريّ، ثقةٌ ضابطٌ [8](ت 180)(م د ت س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 20/ 1308.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث تقدّم الكلام فيه قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3054]
(1263) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ (ح) وَحَدَّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَمَلَ مِنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِ ثَلَاثَةَ أطْوَافٍ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) القعنبي الحارثيّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، مدنيّ الأصل، وقد سكنها مدّةً، ثقةٌ عابدٌ، من صغار [9](ت 221) بمكة (خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 17/ 617.
(1)
بالتصغير.
2 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(مَالِكُ) بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحيّ، أبو عبد الله، إمام دار الهجرة، الفقيه، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.
4 -
(جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ) المعروف بالصادق الهاشميّ، أبو عبد الله المدنيّ، صدوق فقيهٌ إمام [6](ت 148)(بخ م 4) تقدم في "الحيض" 10/ 749.
5 -
(أَبُوهُ) محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب الهاشميّ المعروف بالباقر المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [4] مات ستة بضع و (110)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 61.
6 -
(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما) تقدّم قريبًا.
وقوله: (رَمَلَ مِنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِ) فيه أن الرمل يبدأ من الحجر الأسود وينتهي إليه، فلا تحصل السنّة إلا باستيعاب جميع الجهات، فتنبّه.
قال الإمام أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله في "الاستذكار": لا أعلم خلافًا أن الرمل -وهو الحركة والزيادة في المشي- لا يكون إلا في ثلاثة أطواف من السبعة، في طواف دخول مكة خاصّة للقادم الحاج أو المعتمر.
وفي هذا الحديث دليل على أن الطائف يبتدئ طوافه من الحجر، وهذا ما لا خلاف فيه أيضًا.
وروى ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يَقدَم مكة يستلم الركن أول ما يطوف.
قال أبو عمر: إذا بدأ من الحجر مضى على يمينه، وجعل البيت عن يساره، وذلك أن الداخل من باب بني شيبة أو غيره أول ما يبتدئ به أن يأتي الحجر، يقصده، فيقبّله، إن استطاع، أو يمسحه بيمينه، ويقبّلها بعد أن يضعها عليه، فإن لم يقدر قام بحذائه فكبّر، ثم أخذ في طوافه، ثم يمضي على يمينه، كما وصفت لك على باب الكعبة، إلى الركن الذي لا يُستلَم، ثم الذي يليه مثله، ثم الركن الثالث، وهو اليماني الذي يُستَلَم، وهو يلي الأسود، ثم إلى ركن الحجر الأسود.
هذا حكم كل طواف واجب، وغير واجب، وهذه طوفة واحدة، يفعل ذلك ثلاثة أطواف، يرمل فيها، ثم أربعة مثلها لا يرمل فيها؛ إذا كان هذا كله في طواف الدخول.
وهذا كله إجماع من العلماء، أنه من فعل هكذا فقد فعل ما ينبغي، فإن لم يطف كما وصفنا، وجعل البيت عن يمينه، ومضى من الركن الأسود على يساره، فقد نكَّس طوافه، ولم يجزه ذلك الطواف عندنا.
واختلف الفقهاء فيمن طاف الطواف الواجب منكوسًا، فقال مالك، والشافعيّ، وأصحابهما: لا يجزئه الطواف منكوسًا، وعليه أن ينصرف من بلاده فيطوف؛ لأنه كمن لم يطف، وهو قول الحميديّ، وأبي ثور.
وقال أبو حنيفة، وأصحابه: يعيد الطواف ما دام بمكة، فإذا بلغ الكوفة، أو أبعد كان عليه دم ويجزئه.
وكلهم يقول: إذا كان بمكة أعاد، وكذلك القول عند مالك، والشافعيّ، فيمن نسي شوطًا واحدًا من الطواف أنه لا يجزئه، وعليه أن يرجع من بلاده على بقية إحرامه، فيطوف.
وقال أبو حنيفة: إن بلغ بلده لم ينصرف، وكان عليه دم.
قال أبو عمر: حجة من لم يجز الطواف منكوسًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استلم الركن في أول طوافه، وأخذ عن يمينه، وجعل البيت عن يساره، وقال:"خذوا عني مناسككم"، فمن خالف فعله فليس بطائف، وفعله مردود عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"من أحدث في أمرنا ما ليس منه، فهو ردٌّ".
وحجة أبي حنيفة أنه طواف قد حصل بالبيت سبعًا، ولم يأت به على سنته، فيجبر بالدم إذا رجع إلى بلده، أو أبعد؛ لأن سنن الحج تجبر بالدم.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن ما ذهب إليه مالك، والشافعيّ، ومن قال بقوله: من أن الطواف المنكوس لا يُجزئ، هو الحق؛ لوضوح أدلّته، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
قال أبو عمر رحمه الله: وأما الرمل: فهو المشي خَبَبًا يشتدّ فيه، دون الهرولة، وهيئته أن يُحَرِّك الماشي منكبيه؛ لشدة الحركة في مشيه، هذا حكم
الثلاثة الأشواط في الطواف بالبيت، طواف دخول لا غيره، وأما الأربعة الأشواط تتمة السبعة، فحكمها المشي المعهود.
هذا أمر مجتمع عليه أن الرمل، لا يكون إلا في ثلاثة أطواف، من طواف الدخول للحاجّ والمعتمر، دون طواف الإفاضة وغيره.
إلا أن العلماء اختلفوا في الرمل، هل هو سنة من سنن الحج، لا يجوز تركها، أم ليس بسنة واجبة؛ لأنه كان لعلة ذهبت، وزالت، فمن شاء فعليه اختيارًا.
فرُوي عن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر.
وهو قول مالك، والشافعيّ، وأبي حنيفة، وأصحابهم، والثوريّ، وأحمد بن حنبل، وإسحاق ابن راهويه: إن الرمل سنة لكل قادم مكة حاجًّا، أو معتمرًا في الثلاثة الأطواف الأول، وقال آخرون: ليس الرمل بسنة، ومن شاء فعله، ومن شاء لم يفعله.
روي ذلك عن جماعة من التابعين، منهم عطاء، وطاوس، ومجاهد، والحسن، وسالم، والقاسم، وسعيد بن جبير، وهو الأشهر عن ابن عباس، وقد روي عنه مثل قول عمر، ومن تابعه.
وحجة من لم ير الرمل سنة حديث أبي الطفيل، عن ابن عباس الآتي عند مسلم بعد هذا.
قال أبو عمر: وجمهور العلماء على أن الرمل من الحجر إلى الحجر، على ما في حديث جابر في الأشواط الثلاثة.
قال: على هذا جماعة العلماء بالحجاز، والعراق، من أئمة الفتوى وأتباعهم، وهم الحجة على من شذّ عنهم.
قال: وأجمعوا أنه ليس على النساء رمل في طوافهن بالبيت، ولا هرولة في سعيهن بين الصفا والمروة، وكذلك أجمعوا على أن لا رمل على من أحرم بالحج من مكة من غير أهلها، وهم المتمتعون؛ لأنهم قد رملوا في حين دخولهم حين طافوا للقدوم.
واختلفوا في أهل مكة إذا حجوا: هل عليهم رمل أم لا؟ فكان ابن عمر لا يرى عليهم رملًا إذا طافوا بالبيت.
وقال ابن وهب: كان مالك يستحب لمن حج من مكة أن يرمل حول البيت.
وقال الشافعيّ: كل طواف قبل عرفة، ويوصل بينه وبين السعي، فإنه يرمل فيه، وكذلك العمرة. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
وقوله: (ثَلاثَةَ أَطْوَافٍ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في معظم النسخ المعتمدة، وفي نادر منها:"الثلاثة الأطواف"، وفي أندر منه:"ثلاثة أطواف"، فأما "ثلاثة أطواف"، فلا شك في جوازه، وفصاحته، وأما الثلاثة الأطواف بالألف واللام فيهما، ففيه خلاف مشهور بين النحويين، منعه البصريون، وجوّزه الكوفيون، وأما "الثلاثة أطواف" بتعريف الأول، وتنكير الثاني، كما وقع في معظم النسخ، فمنعه جمهور النحويين، وهذا الحديث يدلّ لمن جوّزه، وقد سبق مثله في رواية سهل بن سعد، في صفة منبر النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"فعَمِلَ هذه الثلاث درجات"، وقد رواه مسلم هكذا في "كتاب الصلاة"، وقد سبق التنبيه عليه. انتهى
(2)
.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [36/ 3054 و 3055](1263)، و (الترمذيّ) في "الحجّ"(856 و 857)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(5/ 228 و 230 و 236) و"الكبرى"(2/ 405)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(2951)، و (مالك) في "الموطإ"(1/ 364)، و (أحمد) في " مسنده"(3/ 340 و 373 و 388 و 394 و 397)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2709 و 2717 و 2718)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 353)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 353 - 354)، و (أبو
(1)
راجع: "الاستذكار" 4/ 190 - 196.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 9، 10.
يعلى) في "مسنده"(3/ 345)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3055]
(
…
) - (وَحَدَّثَني أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَالِكٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَمَلَ الثَّلَاثَةَ أَطْوَافٍ، مِنَ الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وقد ذُكروا في الباب، و"ابن جريج" تقدّم قبل بابين.
والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى البحث عنه في الذي قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3056]
(1264) - (حَدَّثنَا أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثنَا الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَرَأَيْتَ هَذَا الرَّمَلَ بِالْبَيْتِ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ، وَمَشْيَ أَرْبَعَةِ أَطْوَافٍ، أَسُنَّةٌ هُوَ؟ فَإِنَّ قَوْمَكَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ سُنَّةٌ، قَالَ: فَقَالَ: صَدَقُوا، وَكَذَبُوا، قَالَ: قُلْتُ: مَا قَوْلُكَ: صَدَقُوا، وَكَذَبُوا؟ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ مَكَّةَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِن مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ مِنَ الْهُزَالِ، وَكَانُوا يَحْسُدُونَهُ، قَالَ: فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثًا، وَيَمْشُوا أَرْبَعًا، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنِ الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ رَاكِبًا، أَسُنَّةٌ هُوَ؟ فَإِنَّ قَوْمَكَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ سُنَّةٌ، قَالَ: صَدَقُوا، وَكَذَبُوا، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا قَوْلُكَ: صَدَقُوا، وَكَذَبُوا؟ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَثُرَ عَلَيْهِ النَّاسُ، يَقُولُونَ: هَذَا مُحَمَّدٌ، هَذَا مُحَمَّدٌ، حَتَّى خَرَجَ الْعَوَاتِقُ مِنَ الْبُيُوتِ، قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُضْرَبُ النَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا كَثُرَ عَلَيْهِ رَكِبَ، وَالْمَشْيُ وَالسَّعْيُ أَفْضَلُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيادٍ) تقدّم قريبًا.
2 -
(الْجُرَيْرِيُّ) سعيد بن إياس، أبو مسعود البصريّ، ثقةٌ اختلط قبل موته بثلاث سنين [5](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 266.
[فإن قلت]: كيف أخرج المصنّف رحمه الله رواية الجريريّ، وهو ممن اختلط قبل موته بثلاث سنين، وعبد الواحد بن زياد ممن روى عنه بعد اختلاطه، وقد ذكر له متابعًا، وهو يزيد بن هارون في السند التالي، وهو أيضًا ممن روى بعد اختلاطه؟.
[قلت]: لم ينفرد عبد الواحد، ويزيد بن هارون بالرواية عنه، بل تابعهما عبد الوارث بن سعيد، فرواه عنه، عند أبي نعيم في "مستخرجه"
(1)
، وعبد الوارث ممن روى عن الجريريّ قبل اختلاطه.
وأيضًا فقد أورده المصنّف من رواية غير الجريريّ، عن أبي الطُّفيل، وهو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، عن أبي الطفيل في الرواية الثالثة، فصحّ الحديث دون شكّ وريب، ولله الحمد والمنّة.
3 -
(أَبُو الطُّفَيْلِ) عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمرو بن جحش الليثيّ، وُلد عام أُحد، ورأى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عن أبي بكر، ومن بعده، وعُمّر إلى أن مات سنة عشر ومائة على الصحيح (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 7/ 1631.
4 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله الحبر البحر رضي الله عنهما، تقدّم قبل بابين.
و"أبو كامل" ذُكر قبل حديثين.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فعلّق عنه البخاريّ.
3 -
(ومنها)؛ أنه مسلسل بالبصريين.
(1)
"المستخرج" 3/ 354.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ عن صحابيّ رضي الله عنهما.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ) عامر بن واثلة رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (أَرَأَيْتَ)؛ أي أخبرني (هَذَا الرَّمَلَ بِالْبَيْتِ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ، وَمَشْيَ أَرْبَعَةِ أَطْوَافٍ، أَسُنَّةٌ هُوَ؟ فَإِن قَوْمَكَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ سُنَّةٌ، قَالَ) أبو الطفيل (فَقَالَ) ابن عبّاس رضي الله عنهما (صَدَقُوا، وَكَذَبُوا) قال القرطبيّ رحمه الله: يعني: أنهم أصابوا من وجه، وغَلِطوا من وجه، فأصابوا من حيث إنهم نسبوه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وغَلِطوا من حيث ظنوا أن تلك الأمور راتبة، لازمة؛ وإنما كان ذلك لأسباب نبَّه عليها فيما ذَكَر من الحديث.
ويظهر من مساق كلام ابن عباس أنها ليست بسنة راتبة عنده، فارتفعت لارتفاع أسبابها، وهذا لا يمكن أن يُقال في الرَّمل في الطواف والسَّعي؛ إذ قد فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم مع فقد تلك الأسباب، فينبغي أن يُقال: هو سُنة مطلقًا، كما هو مذهب الجماهير. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: يعني صَدَقوا في أن النبيّ صلى الله عليه وسلم فعله، وكَذَبُوا في قولهم: إنه سنة مقصودة، متأكدة؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يجعله سنة مطلوبةً دائمًا على تكرر السنين، وإنما أمر به تلك السنة؛ لإظهار القوّة عند الكفار، وقد زال ذلك المعنى. هذا معنى كلام ابن عباس رضي الله عنهما، وهذا الذي قاله من كون الرمل ليس سنةً مقصودةً هو مذهبه، وخالفه جميع العلماء من الصحابة، والتابعين، وأتباعهم، ومن بعدهم، فقالوا: هو سنة في الطَّوفات الثلاث من السبع، فإن تركه فقد ترك سنةً، وفاتته فضيلةٌ، ويصح طوافه، ولا دم عليه، وقال عبد الله ابن الزبير: يسنّ في الطوفات السبع، وقال الحسن البصريّ، والثوريّ، وعبد الملك بن الماجشون المالكيّ: إذا ترك الرمل لزمه دم، وكان مالك يقول به، ثم رجع عنه.
دليل الجمهور أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رمل في حجة الوداع في الطوفات الثلاث
(1)
"المفهم" 3/ 375.
الأُوَل، ومشى في الأربع، ثم قال صلى الله عليه وسلم بعد ذلك:"لتأخذوا مناسككم عني". انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
(قَالَ) أبو الطفيل (قُلْتُ: مَا) استفهاميّة (قَوْلُكَ) أي ما معنى قولك: (صَدَقُوا، وَكَذَبُوا؟ قَالَ) ابن عبّاس رضي الله عنهما (إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ مَكَّةَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا) صلى الله عليه وسلم (وَأَصْحَابَهُ) رضي الله عنهم (لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ مِنَ الْهُزَالِ) بضمّ الهاء، وتخفيف الزاي، بعدها ألف، ثم لام: اسم من الْهُزل، بضم، فسكون: وهو الضعف، ووقع في "شرح النوويّ" بلفظ:"الْهُزْل"، فقال: هكذا هو في معظم النسخ: "الْهُزْل" -بضم الهاء، وإسكان الزاي- وهكذا حكاه القاضي في "المشارق"، وصاحب "المطالع" عن رواية بعضهم، قا لا: وهو وَهَمٌ، والصواب الْهُزَال -بضم الهاء، وزيادة الألف- قال النوويّ: وللأول وجه، وهو أن يكون بفتح الهاء؛ لأن الهزل بالفتح مصدر هَزَلته هَزْلًا، كضربته ضربًا، وتقديره: لا يستطيعون يطوفون؛ لأن الله تعالى هَزَلهم، والله أعلم. انتهى.
وقال الفيّوميّ: "هَزَلْتُ الدابّة أَهزِلها، من باب ضرب هُزْلًا، مثلُ قُفْلٍ: أضعفتها بإساءة القيام عليها، والاسم الْهُزَال، وهُزِلت بالبناء للمفعول، فهي مهزولةٌ، فإن ضَعُفت من غير فعل المالك قيل: أهزل الرجلُ بالألف: أي وقع في ماله الْهُزال. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما قاله الفيّوميّ أن الْهُزل بالضمّ مصدر، فلا داعي لدعوى الفتح، كما قاله النوويّ، فتأمل، والله تعالى أعلم.
(وَكَانُوا يَحْسُدُونَهُ) أي وكان المشركون يحسدون النبيّ صلى الله عليه وسلم، يقال: حسدته على النعمة، وحسَدته النعمة حَسَداً بفتح السين أكثرُ من سكونها، يتعدّى إلى الثاني بنفسه، وبالحرف: إذا كرهتها عنده، وتمنّيت زوالها عنه، وأما الحسَد على الشجاعة، ونحو ذلك فهو الغِبْطة، وفيه معنى التعجّب، وليس فيه تمنّي زوال ذلك عن المحسود، فإن تمنّاه فهو القسم الأول، وهو حرام،
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 10.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 638.
والفاعل حاسدٌ، وحَسُودٌ، والجمع حُسّادٌ وحَسَدَة، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
(قَالَ) ابن عبّاس (فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْمُلُوا) بفتح أوله، وضمّ ثالثه، من باب طلب (ثَلَاثًا)؛ أي: ثلاث أطوفة (وَيَمْشُوا أَرْبَعًا، قَالَ) أبو الطفيل (قُلْتُ لَهُ) أي لابن عبّاس رضي الله عنهما (أَخْبِرْنِي عَن الطَّوَافِ)؛ أي: السعي (بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ رَاكِبًا) منصوب على الحال (أَسُنَّةٌ هُوَ؟ فَإِنَّ قَوْمَكَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ سُنَّةٌ، قَالَ: صَدَقُوا، وَكَذَبُوا) قال النوويّ رحمه الله: يعني صدقوا في أنه صلى الله عليه وسلم طاف راكبًا، وكذبوا في أن الركوب أفضل، بل المشي أفضل، وإنما ركب النبيّ صلى الله عليه وسلم للعذر الذي ذكره، قال: وهذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنهما مجمع عليه، أجمعوا على أن الركوب في السعي بين الصفا والمروة جائز، وأن المشي أفضل منه، إلا لعذر. انتهى
(2)
.
(قَالَ) أبو الطفيل (قُلْتُ: وَمَا قَوْلُكَ: صَدَقُوا، وَكَذَبُوا؟ قَالَ) ابن عبّاس (إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَثُرَ) بضمّ الثاء المثلّثة (عَلَيْهِ النَّاسُ، يَقُولُونَ: هَذَا مُحَمَّدٌ، هَذَا مُحَمَّدٌ) أي لكونه غاب عن مكة سنين عديدةً، فاستغربوا رؤيتهم له في ذلك المكان (حَتى خَرَجَ الْعَوَاتِقُ) جمع عاتق، وهي البكر البالغة، أو المقاربة للبلوغ، وقيل: التي تتزوج، سُمّيت بذلك؛ لأنها عَتَقَت من استخدام أبويها، وابتذالها في الخروج، والتصرف التي تفعله الطفلة الصغيرة، وقد سبق بيان هذا في صلاة العيد، قاله النوويّ رحمه الله
(3)
.
وقوله: (مِنَ الْبُيُوتِ) متعلّقٌ بـ "خرج"(قَالَ) ابن عبّاس (وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُضْرَبُ) بالبناء للمفعول (النَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ)؛ أي كما يُضرب بين يدي الرؤساء والجبابرة (فَلَمَّا كَثُرَ عَلَيْهِ رَكِبَ، وَالْمَشْيُ)؛ أي على الأقدام (وَالسَّعْيُ)؛ أي بين الميلين الأخضرين (أَفْضَلُ) من الركوب؛ لأنه يمنع من سنّة السعي بينهما، وهذا الذي قاله ابن عبّاس رضي الله عنهما هنا هو الحقّ، كما أشار إليه النوويّ في كلامه المذكور آنفًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 135.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 11.
(3)
"شرح النوويّ" 9/ 11، 12.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [36/ 3056 و 3057 و 3058](1264)، و (أبو داود) في "المناسك"(1885)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(2953)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 351)، و (الحميديّ) في "مسنده"(511)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 369)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2719 و 2779)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3811)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 354)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 365 و 366)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(2/ 179 و 180)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(1/ 60 و 181)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(10626 و 10629)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 82)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3057]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَخْبَرَنَا الْجُرَيْرِيُّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: وَكَانَ أَهْلُ مَكَّةَ قَوْمَ حَسَدٍ
(1)
، وَلَمْ يَقُلْ: يَحْسُدُونَهُ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل باب.
2 -
(يَزِيدُ) بن هارون السلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقةٌ متقنٌ
عابدٌ [9](ت 206) وقد قارب التسعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 45.
و"الْجُريريّ" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية يزيد بن هارون، عن الجريريّ هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى" (5/ 81) فقال:
(1)
وفي نسخة: "قومًا حسَدًا".
وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو الفضل بن إبراهيم، ثنا أحمد بن سلمة، ثنا محمد بن المثنى، ثنا يزيد بن هارون، ثنا الجريريّ، عن أبي الطفيل، قال: قلت لابن عباس: إن قومك يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رمل، وأنها سنّة، قال: صَدَقُوا، وكَذَبُوا، قلت: ما صدقوا، وكذبوا؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدِم، والمشركون على قُعَيقِعان، وكان أهل مكة قَومَ حَسَدٍ، فجعلوا يتحدثون بينهم، أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعفاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَرُوهم منكم ما يَكرَهون، فرَمَل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لِيُرِي المشركين قوّته، وقوّة أصحابه، وليست بسنّة، قال: قلت: إن قومك يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب بين الصفا والمروة، وأنها سنّة، قال: صدقوا، وكذبوا، قال: قلت: ما صدقوا، وكذبوا؟ قال: قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وكان أهل مكة قَوْمَ حَسَدٍ، فخرجوا حتى خرجت العواتق، ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُدَعُّون عنه، قال يزيد: يعني لا يدفعون عنه، فركب، وكان المشي أحبّ إليه. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3058]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَن ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ قَوْمَكَ يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَمَلَ بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَهِيَ سُنَّةٌ، قَالَ: صَدَقُوا، وَكَذَبُوا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة الإمام الشهير، تقدّم أيضًا قبل باب.
3 -
(ابْنُ أَبِي حُسَيْنٍ) هو: عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين بن الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف النوفليّ المكيّ، وأمه أمّ عبد الله بنت أبي سَرْوَعة، ثقةٌ عالم بالمناسك [5].
رَوَى عن أبي الطفيل، ونافع بن جُبير بن مُطْعِم، وعطاء، وعكرمة، ومجاهد، وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وشهر بن حَوْشَب، وغيرهم.
وروى عنه ابن جريج، وابن إسحاق، والليث، ومالك، ومحمد بن مسلم الطائفيّ، وعبد الله بن حبيب بن أبي ثابت، وشعيب بن أبي حمزة، والسفيانان، وغيرهم.
قال أحمد، والنسائيّ، وأبو زرعة: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صالحٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد: كان ثقةً، قليل الحديث، وقال العجليّ: ثقةٌ، وقال ابن عبد البر: ثقة عند الجميع، فقيه، عالم بالمناسك.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (1264) و (1559) و (1864) و (2273).
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة هذه مختصرة، وقد بيّن أبو عوانة أن سفيان سمعها من شيخه هكذا مختصرة، ولفظه بعد إخراج الحديث بنحو لفظ المصنّف: قال سفيان: لم يزدني ابن أبي حسين على هذا. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3059]
(1265) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْأَبْجَرِ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أُرَانِي قَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَصِفْهُ لِي، قَالَ: قُلْتُ: رَأَيْتُهُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ عَلَى نَاقَةٍ، وَقَدْ كَثُرَ النَّاسِ عَلَيْهِ، قَالَ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذَاكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يُدَعُّونَ عَنْهُ، وَلَا يُكْرَهُونَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ الزاهد، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
(1)
راجع: "مسند أبي عوانة رحمه الله" 2/ 366.
2 -
(يَحْيَى بْنُ آدَمَ) بن سليمان الأمويّ مولاهم، أبو زكرياء الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ، من كبار [9](ت 203)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
3 -
(زُهَيْرُ) بن معاوية بن حُدَيج الجعفيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
4 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْأَبْجَرِ) هو: عبد الملك بن سعيد بن حيّان بن أبجر الكوفيّ، ثقةٌ [6](م د ت س) تقدم في "الإيمان" 90/ 472.
والباقيان ذُكرا قبله.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ) عامر بن واثلة أنه (قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (أُرَانِي) بضمّ الهمزة: أي أظنّني (قَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ) ابن عبّاس (فَصِفْهُ) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رأيته (لِي، قَالَ) أبو الطفيل (قُلْتُ: رَأَيْتُهُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ عَلَى نَاقَةٍ) أي راكبًا عليها (وَقَدْ كَثُرَ النَّاسُ عَلَيْهِ) أي أحاطوا به صلى الله عليه وسلم؛ ليتعلّموا مناسكهم عنه، ولما تقدّم في الحديث السابق، من أن أهل مكة خرجوا ليروه حتى خرجت العواتق (قَالَ) أبو الطفيل (فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (ذَاكَ) أي الذي رأيته راكبًا على ناقته عند المروة (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) ثم ذكر سبب ركوبه صلى الله عليه وسلم في ذلك المكان، بقوله:(إِنَّهُمْ) بكسر الهمزة؛ لوقوعها في موضع الاستئناف، فالجملة تعليليّة لما قبلها، ويَحْتَمِل أن تكون بالفتح على تقدير حرف الجرّ؛ أي لأنهم (كَانُوا لَا يُدَعُّونَ عَنْهُ) بضم الياء، وفتح الدال، وضم العين المشدّدة: أي لا يدفعون، ومنه قوله تعالى:{يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13)} ، وقوله تعالى:{فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)} .
وقوله: (وَلَا يُكْرَهُونَ) وقع في بعض الأصول من "صحيح مسلم": "ئكرَهُون"، من الإكراه، وفي بعضها:"يُكْهَرون" بتقديم الهاء، من الكَهْر، وهو الانتهار، قال القاضي عياض رحمه الله: هذا أصوب، وقال: وهو رواية الفارسيّ، والأول رواية ابن ماهان، والعذريّ. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [36/ 3060](1265)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 366)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 355)، و (الضياء) في "المختارة"(8/ 227)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3060]
(1266) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، يَعْنِي ابْنَ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ، وَقَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، قَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ غَدًا قَوْمٌ، قَدْ وَهَنَتْهُمُ الْحُمَّى، وَلَقُوا مِنْهَا شِدَّةً، فَجَلَسُوا مِمَّا يَلِي الْحِجْرَ، وَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ، وَيَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ؛ لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ
(1)
جَلَدَهُمْ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْحُمَّى قَدْ وَهَنَتْهُمْ، هَؤُلَاءِ أَجْلَدُ مِنْ كَذَا وَكَذَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا، إِلَّا الْإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرِ) بن هشام الأسديّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 95)(ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 329.
والباقون ذُكروا في الباب والباب الماضي، و"أبو الربيع": هو سليمان بن داود العتكيّ، و"أيوب": هو السختيانيّ.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، سوى سعيد بن جبير، فكوفيّ.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عبّاس رضي الله عنهما الحبر
(1)
وفي نسخة: "ليُري المشركين".
البحر، من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ، وَقَدْ وَهَنَتْهُمْ) بتخفيف الهاء، وتشديدها، ويقال: أوهن بالهمز: أي أضعفهتم، قال الفراء وغيره: يقال: وَهَنته الحمى وغيرها، وأوهنته لغتان (حُمَّى يَثْرِبَ)"حُمّى" فُعلَى غير منصرف لألف التأنيث، والجمعُ حُمّيات، وأحمّه الله بالألف من الْحُمّى، فحُمّ هو بالبناء للمفعول، وهو محمومٌ، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
و"يَثْرِب" -بفتح الياء التحتيّة، وسكون الثاء المثلّثة، وكسر الراء، آخره باء موحّدة- غير منصرف: اسم مدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم في الجاهليّة، نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن تسميتها بذلك، وإنما ذكر ابن عباس ذلك حكاية لكلام المشركين
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: وأما "يثرِب" فهو الاسم الذي كان للمدينة في الجاهلية، وسُمِّيت في الإسلام المدينة، فطيبة، فطابة، قال الله تعالى:{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ} ، {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} ، {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ} ، وسيأتي بسط ذلك في آخر "كتاب الحج" حيث ذكر مسلم أحاديث المدينة، وتسميتها -إن شاء الله تعالى- انتهى
(3)
.
(قَالَ الْمُشْرِكونَ: إِنَّهُ يَقْدَمُ) بفتح أوله، وثالثه، كما تقدّم قريبًا (عَلَيْكُمْ غَدًا قَوْمٌ، قَدْ وَهَنَتْهُمُ الْحُمَّى، وَلَقُوا مِنْهَا شِدَّةً) وفي رواية النسائيّ: "شرًّا" بدل "شدّة"(فَجَلَسُوا) أي المشركون (مِمَّا يَلِي الْحِجْرَ)"من" بمعنى "في"؛ أي في الجهة التي تلي الحِجر، وهو بكسر الحاء المهملة، وسكون الجيم: حَطِيم مكة، وهو الْمُدار بالبيت من جهة الميزاب
(4)
.
وفي رواية النسائيّ: (وَكَانَ الْمُشْرِكونَ مِنْ نَاحِيَةِ الْحِجْرِ)، وفي رواية للبخاريّ:"لما قَدِم النبيّ صلى الله عليه وسلم لعامه الذي استَأمن، قال: ارمُلوا؛ ليرى المشركون قوّتكم، والمشركون من قبل قُعَيقعان"، والمراد أن من كان هناك،
(1)
"المصباح المنير" 1/ 153.
(2)
"الفتح" 9/ 366، كتاب المغازي، رقم (4256).
(3)
" شرح النوويّ" 9/ 12.
(4)
"المصباح" 1/ 122.
يُشرف على الركنين الشاميين، ومن كان به لا يرى من بين الركنين اليمانيين.
(وَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية النسائيّ: "فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فأمر أصحابه"(أَنْ يَرْمُلُوا) بضم الميم، من باب نصر، وهو في موضع المفعول الثاني لـ"أمرهم"، يقال: أمرته كذا، وأمرته بكذا؛ يعني أمرهم بأن يُسْرِعوا ما بين الركنين: الشاميّ والعراقيّ (ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ) -بفتح الهمزة، بعدها معجمة، جمع شوط، بفتح، فسكون: وهو الجري مرّة إلى الغاية، والمراد به هنا الطوفة حول الكعبة.
وقال النوويّ رحمه الله: هذا تصريح بجواز تسمية الرمل شَوْطًا، وقد نَقَل أصحابنا أن مجاهدًا، والشافعيّ كَرِها تسميته شوطًا، أو دَوْرًا، بل يسمى طَوْفةً، وهذا الحديث ظاهر في أنه لا كراهة في تسميته شوطًا، فالصحيح أنه لا كراهة فيه. انتهى
(1)
.
(وَيَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ) أي اليمانين، وعند أبي داود من وجه آخر:"وكانوا إذا تَوَارَوْا عن قريش بين الركنين مشَوْا، وإذا طلعوا عليهم رَمَلُوا".
(لِيَرَى) بالبناء للفاعل، من الرؤية، وهو الإبصار، وقوله:(الْمُشْرِكُونَ) مرفوع على الفاعليّة (جَلَدَهُمْ) -بفتحتين- أي: قوّتهم، منصوب على المفعوليّة، وفي بعض النسخ:"لِيُري المشركين"، بضمّ حرف المضارعة، من الإراءة، وعليه فـ "المشركين" منصوب على أنه المفعول الأول، و"جلَدهم" هو المفعول الثاني (فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ) لما رأوا رَمَل الصحابة رضي الله عنهم (هَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْحُمَّى قَدْ وَهَنَتْهُمْ)؛ أي: أضعفتهم (هَؤُلَاءِ أَجْلَدُ مِنْ كَذَا وَكَذَا)"أجلد" اسم تفضيل من الْجَلَد، وهو القوّة؛ أي أقوى، قال الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام: فكان ذلك ضربًا من الجهاد، قال: وعلّته في حقّنا تذكّر نعمة الله تعالى على نبيّه صلى الله عليه وسلم بالعزّة بعد الذلّة، وبالقوّة بعد الضعف، حتى بلغ عسكره صلى الله عليه وسلم سبعين ألفًا. انتهى.
(قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (وَلَمْ يَمْنَعْهُ)؛ أي النبيّ صلى الله عليه وسلم (أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا، إِلَّا الْإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ) -بكسر الهمزة، وبالموحّدة، والقاف-: أي
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 12، 13.
الرفق بهم، والشفقة عليهم، والمعنى أنه لم يمنعه صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بالرمل في جميع الطوفات إلَّا الرفق بهم، فـ "الإبقاء" بالرفع على أنه فاعل "لم يمنعه"، ويجوز النصب
(1)
، قاله في "الفتح".
وقال القرطبيّ رحمه الله: روايتنا "الإبقاءُ" بالرفع على أنه فاعل "يمنعه"، ويجوز نصبه على أن يكون مفعولًا من أجله، ويكون في "يمنعه" ضمير عائد على النبيّ صلى الله عليه وسلم، هو فاعله، فتأمله. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: ضمير عائد على النبيّ صلى الله عليه وسلم
…
إلخ لا يخفى فساد هذا، فليس هنا ضمير يكون فاعلًا عائدًا عليه صلى الله عليه وسلم، بل الضمير البارز المفعول هو العائد على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكذا قول العينىّ بعد أن اعترض هذا الوجه أن الفاعل هو قوله:"أن يأمرهم" باطل أيضًا.
وعندي أن في صحة النصب في "الإبقاء" نظر، والظاهر أنه لا يصحّ؛ لأن القرطبيّ قال: روايتنا بالرفع، فإذا لم يصحّ رواية، فلا وجه لهذه التكلفات العاطلة، بل الباطلة، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
وفي رواية عطاء التالية عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: إنما سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورمل بالبيت ليري المشركين قوّته، ولفظ البخاريّ:"إنما سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت، وبين الصفا والمروة؛ لِيُرِي المشركين قوّته"، وفيه بيان أن علة السعي بين الصفا والمروة هي علة الرمل في الطواف بالبيت.
وروى ابن خزيمة، والفاكهيّ من طريق أبي الطفيل، قال: سألت ابن عباس عن السعي؟ فقال: "لَمّا بعث الله جبريل إلى إبراهيم عليه السلام ليريه المناسك، عرض له الشيطان بين الصفا والمروة، فأمر الله أن يُجيز الوادي، قال ابن عباس: فكانت سنة".
وفي "كتاب الأنبياء" من "صحيح البخاري" أن ابتداء ذلك كان من هاجر، وروى الفاكهيّ بإسناد حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:"هذا ما أَوْرَثَتكموه أم إسماعيل".
ولا تخالف بين هذه الروايات؛ إذ يمكن أن تكون هذه الأشياء سببًا
(1)
فيه نظر سيأتي بيانه.
للمشروعية، فكانت أم إسماعيل أقدم، ثم إبراهيم عليه السلام بعد بناء البيت، ثم النبيّ صلى الله عليه وسلم حينما تحدث المشركون بضعفهم، وتأثير الحمى فيهم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [36/ 3060](1266)، و (البخاريّ) في "الحج"(1602 و 1649) و"المغازي"(4256 و 4257)، و (أبو داود) في "المناسك"(1885 و 1886 و 1889 و 1890)، و (الترمذيّ) في "الحج"(863)، و (النسائي) في "مناسك الحجّ"(5/ 230)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(2953)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 290 و 294 و 306 و 373)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2720)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 257)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 355)، و (البيهقيّ)(5/ 82)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب الرمل في الطواف.
2 -
(ومنها): بيان العلة التي شُرع من أجلها الرمل في الطواف، وهو أن يَرَى المشركون الذين قالوا: سَيَقْدَم عليكم قوم وهنتهم حمّى يثرب، قوَّتهم وجلادتهم.
3 -
(ومنها): أن فيه مشروعية إظهار القوّة بالعُدّة، والسلاح، ونحو ذلك للكفّار؛ إرهابًا لهم، ولا يعدّ ذلك من الرياء المذموم.
4 -
(ومنها): جواز المعاريض بالفعل، كما يجوز بالقول، وربّما كانت بالفعل أولى.
5 -
(ومنها): أن في قوله: "الأشواط" جواز تسمية الطوفة شوطًا، وقد تقدّم كراهة بعضهم له، وهذا الحديث ظاهر في الردّ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3061]
(
…
) - (وَحَدَّثَنى عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، جَمِيعًا عَن ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ ابْنُ عَبْدَةَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّمَا سَعَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَمَلَ بِالْبَيْتِ؛ لِيُرِيَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّتَهُ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، تقدّم قريبًا.
2 -
(وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ) الضبيّ، تقدّم قبل بابين.
3 -
(عَمْرُو) بن دينار الأثرم الجمحيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.
4 -
(عَطَاءُ) بن أبي رباح، تقدّم قبل بابين.
والباقون ذكروا في الباب.
وقوله: (إِنَّمَا سَعَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) المراد بالسعي هنا شدّة المشي.
وقوله: (لِيُرِيَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّتَهُ) بضمّ حرف المضارعة، من الإراءة، فـ "المشركين" هو المفعول الأول، و"قوّته" هو المفعول الثاني، وتمام شرح الحديث يُعلم مما سبق.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [36/ 3061](1266)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1649) و"المغازي"(4257)، و (الترمذيّ) في "الحجّ"(3/ 217)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(5/ 242) و"الكبرى"(2/ 405 و 414)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 366)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 355)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(11/ 167)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 81 - 82)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(37) -) بَابُ اسْتِحْبَابِ اسْتِلَامِ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ فِي الطَّوَافِ دُونَ الرُّكْنَيْنِ الْآخَرَيْنِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3062]
(1267) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثنَا لَيْثٌ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: لَمْ أَرَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ مِنَ الْبَيْتِ إِلَّا الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(اللَّيْثُ) بن سعد، تقدّم قريبًا.
2 -
(قتيْبَةُ) بن سعيد، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي، وكذا لطائف الإسناد.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّهُ قَالَ: لَمْ أَرَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ) أي يستلم (مِنَ الْبَيْتِ إِلَّاَ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ) وفي الرواية الأخرى: "لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم من أركان البيت إلا الركن الأسود، والذي يليه من نحو دُور الْجُمَحِيِّين"، وفي الرواية الأخرى:"لا يستلم إلا الْحَجَر، والركن اليماني"، هذه الروايات كلها متفقةٌ على أن الحجر الأسود، والركن اليماني هما اللذان يستحبّ استلامهما، وأما الركنان الآخران، وهما الشاميّ، والعراقيّ، فلا يُشرع استلامهما، وكذا سائر أجزاء البيت.
وقوله: "الركنين اليمانيين": هما الركن الأسود، والركن اليماني، وإنما قيل لهما اليمانيان للتغليب، كما قيل في الأب والأمّ: الأبوان، وفي الشمس والقمر: القمران، وفي أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما: العمران، وفي الماء والتمر: الأسودان، ونظائره كثيرة.
واليمانِيَان بتخفيف الياء، هذه اللغة الفصحى المشهورة، وحكى سيبويه،
والجوهريّ، وغيرهما فيها لغة أخرى بالتشديد، فمن خفّف قال: هذه نسبة إلى اليمن، فالألف عوض من إحدى ياءي النسب، فتبقى الياء الأخرى مخففة، ولو شدّدناها لكان جمعًا بين العِوَض والمعوّض، وذلك ممتنع، ومن شدّد قال: الألف في اليماني زائدة، وأصله اليمنيّ، فتبقى الياء مشدّدة، وتكون الألف زائدة، كما زيدت النون في صنعاني، ورقبانيّ، ونظائر ذلك، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: "اليمانيّ" نسبة إلى اليمن الإقليم المعروف، سمي بذلك لأنه عن يمين الشمس عند طلوعها، وقيل: لأنه عن يمين الكعبة، والقياس في النسبة إليه يمنيّ بدون ألف، وقد سُمع الوجهان، وإذا كان مع الألف ففيه مذهبان:
[أحدهما]: وهو الأشهر: تخفيفها، واقتصر عليه كثيرون، وبعضهم ينكر التثقيل. ووجهه أن الألف دخلت قبل الياء لتكون عوضًا عن التثقيل، فلا يثقّل لئلا يُجمع بين العوض، والمعوّض عنه.
[والثاني]: التثقيل؛ لأن الألف زيدت بعد النسبة، فيبقى التثقيل الدالّ بعد النسبة على جواز حذفها. انتهى
(2)
.
[فائدة]:
[أعلم]: أن للبيت أربعةَ أركان: الركن الأسود، والركن اليماني، ويقال لهما: اليمانيان، كما سبق، وأما الركنان الآخران، فيقال لهما: الشاميان، فالركن الأسود فيه فضيلتان: إحداهما كونه على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم، والثانية: كونه فيه الحجر الأسود، وأما اليماني، ففيه فضيلة واحدة، وهي كونه على قواعد إبراهيم عليه السلام، وأما الركنان الآخران فليس فيهما شيء من هاتين الفضيلتين، فلهذا خُصّ الحجر الأسود بشيئين: الاستلام، والتقبيل؛ للفضيلتين، وأما اليمانيّ، فيستلمه، ولا يقبّله؛ لأن فيه فضيلةً واحدةً، وأما الركنان الآخران، فلا يقبّلان، ولا يستلمان، والله أعلم.
وقد أجمعت الأمة على استحباب استلام الركنين اليمانيين، واتفق
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 14.
(2)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 682.
الجماهير على أنه لا يَمْسَح الركنين الآخرين، واستحبه بعض السلف، وممن كان يقول باستلامهما: الحسن، والحسين ابنا عليّ، وابن الزبير، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وعروة بن الزبير، وأبو الشعثاء جابر بن زيد رضي الله عنهم.
قال القاضي أبو الطيب رحمه الله: أجمعت أئمة الأمصار، والفقهاء على أنهما لا يُستلمان، قال: وإنما كان فيه خلاف لبعض الصحابة، والتابعين، وانقرض الخلاف، وأجمعوا على أنهما لا يستلمان، ذكره النوويّ رحمه الله
(1)
.
[تنبيه]: قال في "الفتح": استنبط بعضهم من مشروعيّة تقبيل الأركان جواز تقبيل كلّ من يستحقّ التعظيم، من آدميّ وغيره، فأما تقبيل يد الآدميّ، فله أدلّة، فلا كلام فيه، وأما تقبيل غيره، فنُقل عن الإمام أحمد أنه سئل عن تقبيل منبر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتقبيل قبره، فلم ير به بأسًا، واستبعد بعض أتباعه صحّة ذلك، ونُقل عن ابن أبي الصيف اليمانيّ أحد علماء مكة من الشافعيّة جواز تقبيل المصحف، وأجزاء الحديث، وقبور الصالحين. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا عجب غريب من صاحب "الفتح" ينقله، ثم يقرّره، مع أنه بالمكان الرفيع في معرفة النصوص، فكيف هذا؟، فهل كان هذا في عهده صلى الله عليه وسلم، أو كان من عمل الخلفاء الراشدين، أو الصحابة أجمعين، أو من تبعهم بإحسان؟ فهيهات هيهات، وأما ما نسبه إلى الإمام أحمد، فمحلّ شك، كما أشار إليه.
ولقد أجاد العلامة الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله: في الردّ عليه في تعليقه على "الفتح"، حيث قال: الأحكام التي تنسب إلى الدين لا بدّ من ثبوتها في نصوص الدين، وكل ما لم يكن عليه الأمر في زمن التشريع، وفي نصوص الشرع فهو مردود على من يزعمه، وتقدّم قول الإمام الشافعيّ رحمه الله:"ولكنا نتبع السنة فعلًا أو تركًا"
(2)
، وهو مقتضى قول أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فيما خاطب به الحجر الأسود الآتي في الأحاديث الآتية، وسيأتي قول الحافظ، عن ابن عمر في جوابه لمن ساله عن استلام الحجر: "أمره إذا سمع الحديث أن يأخذ
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 14.
(2)
هذا القول قاله الشافعيّ؛ ردًّا على قول من قال: ليس شيء من البيت مهجورًا.
به، ويتّقي الرأي"، والخروج عن هذه الطريقة تغيير للدين، وخروج به إلى غير ما أراد الله تعالى. انتهى كلام الشيخ ابن باز رحمه الله
(1)
.
ولقد أجاد الشيخ رحمه الله في هذا الردّ، والحاصل أن تساهل المتأخّرين في هذه المسألة أدّى إلى إدخال مفسدة عظيمة في الدين، وقد أخبرني من أثق به أنه زار قبر الحسين في مصر، فرأى رجلًا ممن ينتسب إلى العلم سجد أمام القبر، قال: فأنكرت عليه ذلك، وقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، يا شيخ أنت تفعل هذا، وزيّك زيّ علماء الأزهر، فماذا يفعل العوامّ إذًا؟، قال: فأنكر عليّ بشدّة، وقال: أنت جاهل إن السجود لله تعالى، وأما قبر الحسين فبمثابة القبلة، فلا حول ولا قوة إلا بالله، قد وصل من ينتسب إلى العلم إلى هذا الحدّ، فما تركوا محل إنكار لما يفعله العوامّ عند القبور، من سجود، أو نذر، أو تمسّح، أو طلب ولد، أو شفاء، أو غير ذلك، فإنه لا يستطيع أحد أن ينكر عليهم؛ لأنهم يحتجّون بمثل هؤلاء علماء السوء، ولا حول ولا قوّة إلا بالله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [37/ 3062 و 3063 و 3064 و 3065 و 3066](1267 و 1268)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1609)، و (أبو داود) في "المناسك"(1874)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(5/ 232)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(2946)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(8937)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 89 و 121)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2725)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3827)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 358)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 356)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 363)، و (الطحاويّ) في
(1)
راجع: هامش "الفتح" 4/ 540، 541.
"شرح معاني الآثار"(2/ 193)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 76) و"الصغرى"(4/ 151) و"المعرفة"(4/ 54)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1902)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): قال الحافظ أبو عمر رحمه الله: دلّ هذا الحديث على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستلم من الأركان إلا ركنين اليماني والأسود، وعلى هذا مذهب مالك، والشافعيّ، وفقهاء الحجاز، والعراق، من أهل الرأي، والحديث، ولا أعلم في ذلك خلافًا إلا في الطبقة الأولى، من الصحابة رضي الله عنهم، فإنه رُوي عن جابر بن عبد الله، ومعاوية بن أبي سفيان، وأنس بن مالك، وعبد الله بن الزبير، والحسن، والحسين، أنهم كانوا يستلمون الأركان كلها، وروي عن عروة، وأبي الشعثاء مثل ذلك، وروي عنهما خلافه.
واختُلِف عن ابن عباس، ومعاوية في ذلك، فروى شعبة، عن قتادة، عن أبي الطفيل، قال: قدم معاوية، وابن عباس، فطاف ابن عباس، فاستلم الأركان كلها، فقال معاوية: إنما استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركنين اليمانيين، وقال ابن عباس: ليس شيء من أركانه مهجورًا.
ورَوَى هذا الخبر عبد الله بن عثمان بن خُثيم، عن أبي الطفيل، فقلب القصة فيه، وجعل مكان ابن عباس معاوية، ومكان معاوية ابن عباس.
ثم أخرج بسنده عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الطفيل، قال: طاف معاوية بالبيت، ومعه ابن عباس، فكان معاوية يستلم الأركان كلها، فإذا استلم الركنين اللذين في الحجر، فقال له ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يستلم هذين، فقال له معاوية: إنه ليس من البيت شيء مهجور، وجعل ابن عباس يتخافتها كلما استلم، ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستلم هذين، ويقول له معاوية: أن ليس في البيت شيء مهجورٌ.
قال أبو عمر: هذه الرواية أثبت من رواية قتادة؛ لأن مجاهدًا روى عن ابن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه لم يستلم إلا الركنين اليمانيين، وأنه أنكر على معاوية استلامه الركنين الآخرين، فلما قال له معاوية: ليس من البيت شيء مهجور، قال له ابن عباس:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} .
والذي عليه جماعة فقهاء الأمصار، وأهل المعرفة بالآثار، استلام
الركنين اليمانيين، وذلك لحديث ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، وهو حديثٌ لا مطعن لأحد فيه، رواه عن ابن عمر: سالم، ونافع، وعبيد بن جريج، ويوسف بن ماهك، وغيرهم.
والركنان اللذان لا يُستلمان هما: الركن الشاميّ الذي يلي الركن الأسود، والركن الغربيّ الذي يقابل اليمانيّ، وهما اللذان يليان الْحِجْر، وقد نَهَى عمر بن الخطاب يعلى بن أمية عن استلام الركنين الغربيين، وهما هذان المذكوران، وقال عمر ليعلى: لنا في رسول الله أسوة حسنة.
فحصلت الرواية في ذلك، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر، وعبد الله بن عباس، ولا حجة في قول أحد مع السنة الثابتة. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3063]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ، قَالَ أَبُو الطَّاهِرِ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُ مِنْ أَرْكَانِ الْبَيْتِ إِلَّا الرُّكْنَ الْأَسْوَدَ، وَالَّذِي يَلِيهِ، مِنْ نَحْوِ دُورِ الْجُمَحِيِّينَ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلهم تقدّموا في الباب الماضي.
وقوله: (مِنْ نَحْوِ دُورِ الْجُمَحِيِّينَ)"الدّور" بالضمّ: جمع دار، و"الْجُمَحيين" بضمّ الجيم، وفتح الميم، بعدها حاء مهملة: نسبة إلى بني جُمَح، بطن من قُريش، وهو جُمَح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لُؤيّ بن غالب بن فِهْر بن مالك بن النضر، قاله في "الأنساب"، و"اللباب"
(2)
.
(1)
"التمهيد لابن عبد البر" 10/ 51 - 54.
(2)
راجع: "الأنساب" للسمعانيّ 2/ 85، 86؛ و"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 291.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3064]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا
(1)
خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، ذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَسْتَلِمُ إِلَّا الْحَجَرَ، وَالرُّكْنَ الْيَمَانِيَ)
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) الْهُجيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.
والباقون ذُكروا في الباب والذي قبله.
وقوله: (كَانَ لَا يَسْتَلِمُ إِلَّا الْحَجَرَ) أي الأسود، قال النوويّ رحمه الله: يحتجّ به الجمهور في أنه يَقْتَصِر بالاستلام في الحجر الأسود عليه، دون الركن الذي هو فيه، وقد سبق قريبًا فيه خلاف القاضي أبي الطيّب. انتهى
(2)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3065]
(1268) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، جَمِيعًا عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَن ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: مَا تَرَكْتُ اسْتِلَامَ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ: الْيَمَانِيَ، وَالْحَجَرَ، مُذْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُهُمَا، فِي شِدَّةٍ، وَلَا رَخَاءٍ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلهم تقدّموا في الباب الماضي، والذي قبله.
(1)
وفي نسخة: "أخبرنا".
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 15.
وقوله: (في شِدَّةٍ، وَلَا رَخَاءٍ) متعلّق بـ "تركت"، أو بـ"استلام".
وأراد بالشدّة الزحام، أو المرض، وبالرخاء خلافه.
وقال في "المرعاة": (في شدة) أي زحام (ولا رخاء) أي خلاء، قال الحافظ: الظاهر أن ابن عمر لم ير الزحام عذرًا في ترك الاستلام، وقد روى سعيد بن منصور، من طريق القاسم بن محمد، قال: رأيت ابن عمر يزاحم على الركن حتى يَدْمَى، ومن طريق أخرى أنه قيل له في ذلك، فقال: هوت الأفئدة إليه، فأريد أن يكون فؤادي معهم، وروى الفاكهيّ من طرُق عن ابن عباس كراهة المزاحمة، قال: لا يؤذي ولا يؤذى. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3066]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي خَالِدٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَبَّلَ يَدَهُ، وَقَالَ: مَا تَرَكْتُهُ مُنْذ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ) سليمان بن حيّان الأزديّ الكوفيّ، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 190) أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
وقوله: (يستلم الحجر بيده، ثم قبّل يده) لعل هذا في وقت الزحام حيث لا يقدر على تقبيل الحجر.
وقال النوويّ رحمه الله: فيه استحباب تقبيل اليد بعد استلام الحجر الأسود، إذا عجز عن تقبيل الحجر، وهذا الحديث محمول على مَن عجز عن تقبيل
(1)
"المرعاة" 9/ 124.
الحجر، وإلا فالقادر يقبّل الحجر، ولا يقتصر في اليد على الاستلام بها، وهذا الذي ذكرناه من استحباب تقبيل اليد بعد الاستلام للعاجز هو مذهبنا، ومذهب الجمهور، وقال القاسم بن محمد التابعيّ المشهور: لا يستحب التقبيل، وبه قال مالك في أحد قوليه. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما نُقل عن القاسم، ومالك من عدم مشروعيّة التقبيل يردّه هذا الحديث الصحيح، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: لا يختلفون أن تقبيل الحجر الأسود في الطواف من سنن الحجّ لمن قدر على ذلك، ومن لم يقدر على تقبيله وضع يده عليه، ورفعها إلى فيه، فإن لم يقدر على ذلك أيضًا للزحام كَبّر إذا قابله، فمن لم يفعل فلا حرج عليه، ولا ينبغي لمن قدر على ذلك أن يتركه؛ تأسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه صلى الله عليه وسلم بعده
(2)
.
وقوله: (منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله) قال القاري رحمه الله: أي الاستلام المطلق، أو المخصوص؛ إذ ثبت الاستلام، والتقبيل عنه صلى الله عليه وسلم كما في "الصحيحين". انتهى.
وقيل: الظاهر أن الضمير للاستلام مطلقًا، ويجوز أن يكون للاستلام على الوجه المخصوص المذكور، وهو أنه استلم الحجر بيده، ثم قبّل يده، والأول هو الوجه فافهم. انتهى، قال صاحب "المرعاة": الظاهر، بل الأظهر عندي هو الثاني. انتهى، وهو استظهار حسنٌ.
والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3067]
(1269) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا
(3)
عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ قَتَادَةَ بْنَ دِعَامَةَ، حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا الطُّفَيْلِ الْبَكْرِيَّ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لَمْ أَرَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُ غَيْرَ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ).
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 15.
(2)
"التمهيد لابن عبد البر" 22/ 257.
(3)
وفي نسخة: "أخبرني".
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ حافظٌ [7] مات قبل (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.
2 -
(قَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ) السدوسيّ، أبو الخطاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ يدلّس، من كبار [4](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي، و"أبو الطفيل البكريّ" هو: عامر بن واثلة الليثيّ، قال الحافظ أبو عليّ الجيّانيّ رحمه الله: وأكثر ما يأتي في نسبه "الليثيّ"، من بني ليث بن بكر بن عبد مناف، ومن قال:"البكريّ" نسبه إلى بكر بن عبد مناة بن كنانة، وليس من بكر بن وائل. انتهى
(1)
.
وقوله: (لَمْ أَرَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُ غَيْرَ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ) هكذا اقتصر المصنّف رحمه الله على المرفوع فقط، وفي الحديث قصّة لابن عباس مع معاوية رضي الله عنهم، فقد أخرج الإمام أحمد، والترمذيّ، والحاكم، من طريق عبد الله بن عثمان بن خُثيم، عن أبي الطفيل، قال: كنت مع ابن عباس ومعاوية، فكان معاوية لا يمرّ بركن إلا استلمه، فقال ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستلم إلا الحجر، واليمانيّ، فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجورًا.
وقد روي هذا الحديث مقلوبًا، فقد أخرجه أحمد من طريق شعبة، عن قتادة، عن أبي الطفيل، قال: حجّ معاوية وابن عباس، فجعل ابن عباس يستلم الأركان كلها، فقال معاوية: إنما استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذين الركنين اليمانيين، فقال ابن عباس: ليس من أركانه شيء مهجورٌ.
قال عبد الله بن أحمد في "العلل": سألت أبي عنه، فقال: قلبه شعبة، وقد كان شعبة يقول: الناس يخالفونني في هذا، ولكنني سمعته من قتادة هكذا. انتهى.
وقد رواه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة على الصواب، أخرجه أحمد أيضًا، وكذا أخرجه من طريق مجاهد، عن ابن عباس نحوه.
(1)
"تقييد المهمل" 3/ 821.
وروى الشافعي من طريق محمد بن كعب القُرَظيّ إن ابن عباس كان يمسح الركن اليمانيّ، والْحَجَر، وكان ابن الزبير يمسح الأركان كلها، ويقول: ليس شيء من البيت مهجورًا، فيقول ابن عباس:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} .
ولفظ رواية مجاهد المذكورة عن ابن عباس: أنه طاف مع معاوية، فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجورًا، فقال له ابن عباس:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، فقال معاوية: صدقت.
قال الحافظ: وبهذا يتبيّن ضعف من حمله على التعدد، وأن اجتهاد كل منهما تغير إلى ما أنكره على الآخر.
قال: وإنما قلت ذلك؛ لأن مخرج الحديثين واحد، وهو قتادة، عن أبي الطفيل، وقد جزم أحمد بأن شعبة قلبه، فسقط التجويز العقلي.
وأخرج ابن أبي شيبة، من طريق عباد بن عبد الله بن الزبير، أنه رأى أباه يستلم الأركان كلها، وقال: إنه ليس شيء منه مهجورًا، وأخرج الشافعي نحوه عنه من وجه آخر، كما تقدم.
وفي "الموطإ" عن هشام بن عروة بن الزبير، أن أباه كان إذا طاف بالبيت يستلم الأركان كلها.
وأخرجه سعيد بن منصور، عن الدراورديّ، عن هشام، بلفظ: إذا بدأ استلم الأركان كلها، وإذا ختم.
وأخرج الشيخان حديث ابن عمر قال: لم أر النبيّ صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إنما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم استلام الركنين الشاميين؛ لأن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم عليه السلام، وعلى هذا المعنى حَمَل ابن التين تبعًا لابن القصار استلام ابن الزبير لهما؛ لأنه لما عَمّر الكعبة أتم البيت على قواعد إبراهيم. انتهى.
وتعقب ذلك بعض الشراح بأن ابن الزبير طاف مع معاوية، واستلم الكلّ.
قال الحافظ: ولم يقف على هذا الأثر، وإنما وقع ذلك لمعاوية مع ابن
عباس، وأما ابن الزبير فقد أخرج الأزرقيّ في "كتاب مكة"، فقال: إن ابن الزبير لَمّا فرغ من بناء البيت، وأدخل فيه من الْحِجر ما أُخرج منه، وردّ الركنين على قواعد إبراهيم، خرج إلى التنعيم، واعتمر، وطاف بالبيت، واستلم الأركان الأربعة، فلم يزل البيت على بناء ابن الزبير، إذا طاف الطائف استلم الأركان جميعها، حتى قُتل ابن الزبير.
وأخرج من طريق ابن إسحاق قال: بلغني أن آدم لما حجّ، استلم الأركان كلها، وأن إبراهيم وإسماعيل لما فرغا من بناء البيت، طافا به سبعًا يستلمان الأركان.
وقال الداوديّ: ظن معاوية أنهما ركنا البيت الذي وُضع عليه من أولُ، وليس كذلك؛ لِما سبق من حديث عائشة رضي الله عنها، والجمهور على ما دل عليه حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
وروى ابن المنذر وغيره استلام جميع الأركان أيضًا عن جابر، وأنس، والحسن، والحسين، من الصحابة، وعن سُويد بن غَفَلة من التابعين.
قال: وقد يُشعر ما تقدم من حديث عبيد بن جريج أنه قال لابن عمر: رأيتك تصنع أربعًا لم أر أحدًا من أصحابك يصنعها، فذكر منها: "ورأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين
…
" الحديث بأن الذين رآهم عبيد بن جريج من الصحابة والتابعين، كانوا لا يقتصرون في الاستلام على الركنين اليمانيين.
وقال بعض أهل العلم: اختصاص الركنين مبيّن بالسنة، ومستند التعميم القياس.
وأجاب الشافعيّ رحمه الله عن قول من قال: "ليس شيء من البيت مهجورًا" بأنّا لم نَدَع استلامهما هجرًا للبيت، وكيف يَهْجُره، وهو يطوف به؟ ولكنا نتّبع السنة فعلًا أو تركًا، ولو كان ترك استلامهما هجرًا لهما لكان ترك استلام ما بين الأركان هجرًا لها، ولا قائل به، ويؤخذ منه حفظ المراتب، وإعطاء كل ذي حق حقه، وتنزيل كل أحد منزلته. انتهى ما في "الفتح"
(1)
، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(1)
راجع: "الفتح" 4/ 538 - 540.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [37/ 3067](1269)، و (الترمذيّ) في "الحجّ"(858)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 246 و 332 و 372)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 359)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 357)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 304) و"الكبير"(10/ 271)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 76)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(38) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ تَقْبِيلِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فِي الطَّوَافِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3068](1270) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، وَعَمْرٌو (ح) وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، حَدَّثَنِي
(1)
ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ قَالَ: قَبَّلَ عُمَرُ ابْنُ الْخَطَّابِ الْحَجَرَ، ثُمَّ قَالَ: أَمَ وَاللهِ، لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ حَجَرٌ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ. زَادَ هَارُونُ فِي رِوَايَتِهِ: قَالَ عَمْرٌو: وَحَدَّثَنِي بِمِثْلِهَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ أَسْلَمَ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ) السعديّ مولاهم، أبو جعفر نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253) عن (83) سنةً (م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.
2 -
(عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) بن نفيل العدويّ، أبو حفص الصحابيّ الشهير، استُشهد في ذي الحجة سنة (23)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
والباقون ذُكروا في الباب الماضى، و"عمرو" هو: ابن الحارث، و"يونس" هو: ابن يزيد الأيليّ.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان فصل بينهما بالتحويل.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول تفرّد به هو والنسائيّ، وابن ماجه، والثاني ما أخرج له البخاريّ، والترمذيّ.
3 -
(ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالمصريين، والثاني بالمدنيين.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وصحابيّ عن صحابيّ، والابن عن أبيه مرّتين.
5 -
(ومنها): أن صحابيّه ذو مناقب جمّة، فهو أحد الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشّرين بالجنّة، ومن تنطلق الملائكة على لسانه، وهو المحدَّث، ويسلك الشيطان فجًّا غير فجه، واستُشهد في ذي الحجة سنة (23 هـ) وولي الخلافة عشر سنين ونصفًا.
شرح الحديث:
(عَنْ سَالِمٍ، أَنَّ أَبَاهُ) عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما (حَدَّثَهُ قَالَ: قَبَّلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه (الْحَجَرَ) أي الأسود (ثُمَّ قَالَ: أَمَ وَاللهِ، لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ حَجَرٌ) وفي الرواية الآتية: "وإني لأعلم أنك حجرٌ، وأنك لا تضرّ، ولا تنفع"، قال النوويّ رحمه الله: إنما قال عمر رضي الله عنه هذا؛ لئلا يغتر بعض قريبي العهد بالإسلام الذين كانوا أَلِفُوا عبادة الأحجار، وتعظيمها، ورجاء نفعها، وخوف الضر بالتقصير في تعظيمها، وكان العهد قريبًا بذلك، فخاف عمر رضي الله عنه أن يراه بعضهم يقبّله، ويعتني به، فيشتبه عليه، فبيّن أنه لا يضرّ ولا ينفع بذاته، وإن كان امتثال ما شُرِع فيه ينفع بالجزاء والثواب، فمعناه أنه لا قدرة له على نفع ولا ضرّ، وأنه حجر مخلوقٌ كباقي المخلوقات التي لا تضرّ ولا تنفع، وأشاع عمر هذا في الموسم؛ ليشهد في البلدان، ويحفظه عنه أهل الموسم المختلفو
الأوطان، والله أعلم. انتهى
(1)
.
(وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ) قال الطبريّ رحمه الله: إنما قال ذلك عمر رضي الله عنه؛ لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام، فخَشِيَ عمر أن يظنّ الجهّال أن استلام الحجر من باب تعظيم بعض الأحجار، كما كانت العرب تفعل في الجاهليّة، فأراد عمر أن يعلّم الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا لأن الحجر ينفع، ويضرّ بذاته، كما كانت الجاهليّة تعتقده في الأوثان.
وقال المهلّب رحمه الله: حديث عمر هذا يرد على من قال: إن الحجر يمين الله في الأرض يصافح بها عباده
(2)
، ومعاذ الله أن يكون لله جارحة، وإنما شرع تقبيله اختيارًا ليعلم بالمشاهدة طاعة من يطيع، وذلك شبيه بقصّة إبليس حيث أمر بالسجود لآدم.
وقال الخطابيّ رحمه الله: معنى أنه يمين الله في الأرض أن من صافحه في الأرض كان له عند الله عهد، وجرت العادة بأن العهد يعقده الملك بالمصافحة لمن يريد موالاته، والاختصاص به، فخاطبهم بما يعهدونه، وقال المحبّ الطبريّ: معناه: أن كلّ مَلِكٍ إذا قدم عليه الوافد قبّل يمينه، فلما كان الحاجّ أول ما يقدم يسنّ له تقبيله، نزل منزلة يمين الملك، ولله المثل الأعلى. انتهى.
وقوله: (زَادَ هَارُونُ فِي رِوَايَتِهِ) بيّن به اختلاف شيخيه، فهذا الذي مضى لفظ شيخه حرمة بن يحيى، وأما شيخه هارون فقد زاد عليه قوله:(قَالَ عَمْرٌو) أي ابن الحارث، وهو موصول بالإسناد السابق، وليس معلّقًا (وَحَدَّثَنِي بِمِثْلِهَا) أي بمثل هذه القصّة (زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ) العدويّ (عَنْ أَبِيهِ أَسْلَمَ) مولى عمر رضي الله عنه، أي عمر، يعني أن لعمرو بن الحارث في هذا الحديث إسنادين: أحدهما ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، عن عمر رضي الله عنه، والثاني عن زيد بن أسلم، عن أبيه أسلم، عن عمر رضي الله عنه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 16، 17.
(2)
هذا حديث منكر. انظر: "السلسلة الضعيفة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله 1/ 39، فلا ينبغي الاشتغال بتأويله، فتبصّر.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عمر رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
[تنبيه]: قال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله في "التمهيد": زعم أبو بكر البزار أن هذا الحديث رواه عن عمر مسندًا أربعة عشر رجلًا، قال أبو عمر: أفضلها، وأثبتها، وإن كانت كلها ثابتة: حديث الزهريّ، عن سالم، عن أبيه. انتهى
(1)
.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [38/ 3068 و 3069 و 3070 و 3071](1270)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1605 و 1610 و 1597)، و (أبو داود) في "المناسك"(2/ 175)، و (الترمذيّ) في "الحجّ"(860)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(5/ 227) و"الكبرى"(2/ 400 - 401)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(2943)، و (مالك) في "الموطّإ"(1/ 367)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(9033 و 9034)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 342)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 11 و 21)، و (الحميديّ) في "مسنده"(9)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 21 و 34 و 35 و 39 و 50 و 51 و 53 و 54)، و (الدارميّ) في "سننه"(1864 و 1865)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(4/ 212)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3821)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(189 و 218)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 38)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 201 و 243 و 293)، و (البزّار) في "مسنده"(1/ 249 و 295)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 361 - 362)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 357 - 358)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 118)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 74) و"الصغرى"(4/ 161) و"المعرفة"(4/ 51)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1905)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف، بعد استلامه، وكذا يستحب السجود على الحجر أيضًا بأن يضع جبهته عليه، فيستحب أن يستلمه، ثم يقبّله، ثم يضع جبهته عليه؛ لِما ورد في ذلك، قال
(1)
"التمهيد لابن عبد البر" 22/ 256.
النوويّ رحمه الله: هذا مذهبنا، ومذهب الجمهور، وحكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، وطاوس، والشافعيّ، وأحمد، قال: وبه أقول، قال: وقد روينا فيه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وانفرد مالك عن العلماء، فقال: السجود عليه بدعة، واعترف القاضي عياض المالكيّ بشذوذ مالك في هذه المسألة عن العلماء.
وأما الركن اليماني، فيستلمه، ولا يُقَبِّله، بل يقبّل اليد بعد استلامه، هذا مذهبنا، وبه قال جابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدريّ، وأبو هريرة، وقال أبو حنيفة: لا يستلمه، وقال مالك، وأحمد: يستلمه، ولا يقبّل اليد بعده، وعن مالك رواية: أنه يقبله، وعن أحمد رواية: أنه يقبله، والله أعلم. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: الثابت عنه صلى الله عليه وسلم في الركن اليماني استلامه فقط، وأما تقبيله، أو تقبيل اليد بعده فمما لا دليل عليه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
2 -
(ومنها): أن في قول عمر رضي الله عنه هذا التسليمَ للشارع في أمور الدين، وحسن الاتباع فيما لم يُكشَف عن معانيها، وهي قاعدة عظيمة في اتباع النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما يفعله، ولو لم تُعلم الحكمة فيه.
3 -
(ومنها): أن فيه دفع ما وقع لبعض الجهال من أن في الحجر الأسود خاصّة ترجع إلى ذاته.
قال النوويّ رحمه الله: وأما قول عمر رضي الله عنه هذا فأراد به بيان الحثّ على الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في تقبيله، ونَبَّهَ على أنه لولا الاقتداء به صلى الله عليه وسلم لما فعله. انتهى.
4 -
(ومنها): أن فيه بيانَ السنن بالقول والفعل.
5 -
(ومنها): أن على الإمام إذا خَشِي على أحد من فعله فساد اعتقاده أن يبادر إلى بيان الأمر، ويوضّح ذلك.
6 -
(ومنها): بيان أنه لا يُشرع تقبيل ما لم يَرِد الشرع بتقبيله، وأما قول الشافعيّ: ومهما قبّل من البيت، فحسن، فلم يُرد به الاستحباب؛ لأن المباح من جملة الحسن عند الأصوليين، قاله في "الفتح".
قال الجامع عفا الله عنه: تأويل ما نُقل عن الشافعيّ رحمه الله بما قاله في "الفتح" غير مقبول، بل يُعتذر له بأنه رأي رآه كما رأى بعض الصحابة من أنه
ليس شيء من البيت مهجورًا، وقد نُقل عن الشافعيّ رحمه الله الجواب عن هذه كما سبق بيانه.
والحاصل أن استلام أجزاء البيت وتقبيلها، غير ما ورد في السنّة، وكذا الأماكن المحترمة، كقبور الصالحين، والمساجد غير جائز، فليُتنبّه، فإن كثيرًا من الناس يتساهل في ذلك تساهلًا عجيبًا، ويقيسون قياسًا باطلًا، والله المستعان على من خالف الحقّ، وشرعَ غير ما لم يأذن به الله، اللهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فيما جاء في فضل الحجر الأسود:
(فمنها): ما أخرجه الإمام أحمد، والترمذيّ، وابن ماجه وغيرهم بإسناد صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لهذا الحجر لسانًا، وشفتين، يشهد لمن استلمه يوم القيامة بحقّ"، حديث صحيح، صححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم.
(ومنها): ما أخرجه الترمذيّ، وابن ماجه بإسناد صحيح، وصححه ابن خزيمة، وابن حبّان، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما مرفوعًا:"ليأتين هذا الحجر يوم القيامة، له عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، يشهد لمن استلمه بحقّ".
(ومنها): ما أخرجه أحمد، والترمذيّ، وصححه ابن حبان، والحاكم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الركن، والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة، طمس الله نورهما، ولولا ذلك لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب"
(1)
.
وفي إسناده أيوب بن سويد، وهو صدوق يُخطئ.
(ومنها): ما أخرجه النسائيّ عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "الحجر الأسود من الجنة"، وهو حديث صحيح
(2)
.
(ومنها): ما أخرجه أحمد، والترمذيّ، وصححه، وابن خزيمة، عن ابن
(1)
صححه الشيخ الألبانيّ، انظر:"صحيح الترمذي"، وغيره من كتبه.
(2)
راجع: "شرحي" على النسائيّ 25/ 224، 225.
عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نزل الحجر الأسود من الجنة، وهو أشد بياضًا من اللبن، فسوّدته خطايا بني آدم".
قال في "المرقاة": أي صارت ذنوب بني آدم الذين يمسحون الحجر سببًا لسواده، والأظهر حمل الحديث على حقيقته، إذ لا مانع نقلًا، ولا عقلًا، وقال بعض الشرّاح من علمائنا -يعني الحنفية-: هذا الحديث يَحْتَمل أن يراد به المبالغة في تعظيم شأن الحجر، وتفظيع أمر الخطايا والذنوب، والمعنى أن الحجر لِما فيه من الشرف، والكرامة، واليُمْن، والبركة شارك جواهر الجنّة، فكأنه نزل منها، وأن خطايا بني آدم تكاد تؤثر في الجماد، فتجعل المُبْيَضَّ منه أسود، فكيف بقلوبهم، أو لأنه من حيث إنه مكفّر للخطايا محّاءٌ للذنوب، كأنه من الجنة، ومن كثرة تحمّله أوزار بني آدم صار كأنه ذو بياض شديد، فسوّدته الخطايا.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله بعض الحنفيّة غير صحيح، فإن النصوص إذا صحّت، فالواجب حملها على ما يقتضيه ظاهرها، إلا إذا منع منه مانع، وهنا لا يوجد مانع منقول، ولا معقول من إرادة الحقيقة، فيتعيّن الحمل عليها، والله تعالى أعلم.
قال الحافظ رحمه الله: واعتَرَض بعض الملحدين على هذا الحديث، فقال: كيف سوّدته خطايا المشركين، ولم تبيّضه طاعات أهل التوحيد؟.
وأجيب بما قال ابن قُتيبة رحمه الله: لو شاء الله لكان ذلك، وإنما أجرى الله العادة بأن السواد يصبُغ، ولا ينصبغ على العكس من البياض.
وقال المحبّ الطبريّ رحمه الله: في بقائه أسود عبرة لمن له بصيرة، فإن الخطايا إذا أثّرت في الحجر الصّلْد، فتأثيرها في القلب أشدّ.
قال: وروي عن ابن عبّاس: "إنما غيّره بالسواد؛ لئلا ينظر أهل الدنيا إلى زينة الجنة"، فإن ثبت، فهذا هو الجواب.
قال الحافظ: أخرجه الحميديّ في "فضائل مكة" بإسناد ضعيف. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: أما ما رواه الحاكم من حديث أبي سعيد أن عمر لَمّا قال قوله
(1)
"الفتح" 4/ 521.
السابق، قال له عليّ بن أبي طالب:"إنه يضرّ، وينفع، وذكر أن الله لما أخذ المواثيق على ولد آدم كتب ذلك في رقّ، وألقمه الحجر، قال: وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يؤتى يوم القيامة بالحجر الأسود، وله لسان ذلق، يشهد لمن استلمه بالتوحيد".
ففي إسناده أبو هارون العبد، وهو ضعيف جدًّا، فلا يصلح للاعتماد عليه فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3069] (
…
) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ قَبَّلَ الْحَجَرَ، وَقَالَ: إِنِّي لَأُقَبِّلُكَ، وَإِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ) أبو عبد الله الثقفيّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [10](234)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.
والباقون ذُكروا في هذا الباب، والبابين قبله.
[تنبيه]: ذكر الإمام الدارقطنيّ رحمه الله في "التتبّع" أنه اختُلف في هذا الحديث على أيوب، وعلى حماد بن زيد، وقد وصله مسدّد، والحوضيّ عن حماد، وخالفهم سليمان، وأبو الربيع، وعارم، فأرسلوه عن حمّاد، وقال ابن عليّة، عن أيوب: نُبِّئت أن عمر، ليس فيه نافع، ولا ابن عمر، قال: وهو صحيح من حديث سُويد بن غَفَلة، وعابس بن ربيعة، وابن سَرْجِي عن عمر. انتهى
(1)
.
حاصل ما أشار إليه الدارقطنيّ رحمه الله أنه وقع اختلاف في هذا الإسناد بالوصل والقطع فوصله المقدّميّ، ومسدّد بن مسرهد، وحفص بن عمر
(1)
راجع: "التتبع" بنسخة رسالة الشيخ ربيع المدخليّ ص 234 - 238.
الحوضيّ، كلهم عن حماد، وأرسله سليمان بن حرب، وأبو الربيع الزهرانيّ، وعارم محمد بن الفضل السدوسيّ، ثلاثتهم عن حماد، وقال ابن عُليّة: عن أيوب نُبّئت، فجعله منقطعًا.
لكن الحديث صحيح، يرجّح فيه رواية من وصله؛ لأنه ثابت من رواية سُويد بن غَفَلة، وعابس بن ربيعة، وعبد الله بن سَرْجس، كلهم عن عمر رضي الله عنه.
والحاصل أن الحديث صحيح متّصلٌ من غير وجه، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3070] (
…
) - (حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، وَالْمُقَدَّمِيُّ، وَأَبُو كَامِلٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، كُلُّهُمْ عَنْ حَمَّادٍ، قَالَ خَلَفٌ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَرْجِسَ، قَالَ: رَأَيْتُ الْأَصْلَعَ، يَعْنِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يُقَبِّلُ الْحَجَرَ، وَيَقُولُ: وَاللهِ إِنِّي لَأُقَبِّلُكَ، وَإِنِّي أَعْلَمُ
(1)
أَنَّكَ حَجَرٌ، وَأَنَّكَ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ. وَفِي رِوَايَةِ الْمُقَدَّمِيِّ، وَأَبِي كَامِلٍ: رَأَيْتُ الْأُصَيْلِعَ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ) البزّار المقرئ البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 229)(م د) تقدم في "الإيمان" 26/ 124.
2 -
(عَاصِمٌ الْأَحْوَلِ) ابن سليمان، أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقةٌ [4] مات بعد (140)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.
3 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ سَرْجِسَ) المزنيّ، حليف بني مخزوم، صحابيّ سكن البصرة (م 4) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 10/ 1651.
(1)
وفي نسخة: "لأعلم".
والباقون ذُكروا في الباب، والبابين قبله، و"المقدّميّ": هو محمد بن أبي بكر المذكور قبله، و"أبو كامل": هو فضيل بن حسين الجحدريّ.
وقوله: (رَأَيْتُ الْأَصْلَعَ) وفي رواية أبي كامل: "رأيت الأُصيلع" بالتصغير، يقال: صَلِعَ الرأسُ صَلَعًا، من باب تَعِبَ: انحسر الشعر عن مقدّمه، وموضعه: الصَّلَعَةُ، بفتح اللام، ومنهم من يقول: الإسكان لغةٌ، ولكن أباها الْحُذّاق، فالرجل أصلع، والأنثى صَلْعَاءُ، ورأسٌ أصلع، وصَلِيعٌ، قال ابن سينا: ولا يحدث الصَّلَع للنساء؛ لكثرة رطوبتهنّ، ولا للخِصيان؛ لقرب أمزجتهم من أمزجة النساء، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: فيه أنه لا بأس بذكر الإنسان بلقبه، ووصفه الذي يكرهه، وإن كان قد يكره غيره مثله. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ذكر الإنسان بلقبه الذي يكرهه إنما يجوز إذا كان للتعريف، والأولى اجتنابه إذا وجد سبيلًا، وأما إذا لم يجد فلا مانع بشرط إرادة التعريف، لا العيب، وإلى هذا أشار في "ألفيّة الحديث" حيث قال:
وَذِكْرُهُ بِالْوَصْفِ أَوْ بِاللَّقَبِ
…
أَوْ حِرْفَةٍ لَا بَأْسَ إِنْ لَمْ يَعِبِ
ومعنى: "لم يعب" أي إن لم يرد عيبه، بل أراده تعريفه، فليُتنبّه.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3071] (
…
) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ ابْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَن الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَابِسِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ يُقَبِّلُ الْحَجَرَ،
(1)
"المصباح المنير" 1/ 345، 346.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 17.
وَيَقُولُ: إِنِّي لَأُقُبِّلُكَ، وَأَعْلَمُ
(1)
أَنَّكَ حَجَرٌ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ لَمْ أُقَبِّلْكَ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِم في حديث غيره، ورُمي بالإرجاء، من كبار [9](ت 195) وله (82) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
2 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مهران الكاهليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقة ثبت حافظٌ، يُدلّس [5](ت 7 أو 148)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.
3 -
(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد بن قيس النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ يرسل كثيرًا [5](ت 96)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.
4 -
(عَابِسُ بْنُ رَبِيعَةَ) النخعيّ الكوفيّ، ثقةٌ مخضرمٌ [2].
رَوَى عن عمر، وعليّ، وحذيفة، وعائشة.
ورَوى عنه أولاده: عبد الرحمن، وإبراهيم، وأسماء، وأبو إسحاق السبيعيّ، وإبراهيم بن يزيد النخعيّ.
قال الآجريّ، عن أبي داود: جاهليّ سمع من عمر، وقال النسائيّ، ثقةٌ، وقال ابن سعد: هو من مَذْحِج، وكان ثقةً، له أحاديث يسيرة، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط هذا برقم (1270) وحديث (2970):"ما شبع آل محمد من خبز بُرّ فوق ثلاث".
والباقون ذُكروا في الباب والذي قبله.
وقوله: (وَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ) وفي بعض النسخ: "وإني لأعلم أنك حجر".
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب
(1)
وفي نسخة: "وإني لأعلم".
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3072](1271) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، جَمِيعًا عَنْ وَكيعٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ قَبَّلَ الْحَجَرَ، وَالْتَزَمَهُ، وَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِكَ حَفِيًّا).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقة حافظٌ عابد، من كبار [9](ت 6 أو 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
2 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ إمامٌ حجة، ربما دلّس، من كبار [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
3 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى) الجعفيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ [6].
رَوى عن جدته، عن أبيها، وله صحبة، وعن سُويد بن غفلة، وطارق بن زياد، وغيرهم.
وروى عنه إسرائيل، والثوريّ، وغيرهما.
قال أحمد، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن معين: ليس به بأسٌ، وقال أبو حاتم: صالح يُكتب حديثه، وقال عبد الرحمن بن مهديّ، عن إسرائيل: كتب إليّ شعبةُ: اكتب إليّ بحديث إبراهيم بن عبد الأعلى بخطك، فبعثت بها إليه، وقال يعقوب بن سفيان: لا بأس به، وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: صالحٌ، وقال العجليّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال النسائيّ في "التمييز": ثقةٌ.
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
4 -
(سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ)
(1)
الجعفيّ، أبو أميّة الكوفيّ، ثقةٌ مخضرم، من
(1)
بفتح الغين المعجمة، والفاء.
كبار التابعين، قدم المدينة يوم دُفن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان مسلمًا في حياته، ثم نزل الكوفة، ومات سنة (80 هـ) وله (130) سنة (ع) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 84.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (وَالْتَزَمَهُ) أي عانقه، قال النوويّ رحمه الله: فيه إشارة إلى ما قدّمنا من استحباب السجود عليه. انتهى.
وقوله: (رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بكَ حَفِيًّا) الْحَفيّ فَعِيلٌ بمعنى فاعل، وهو المعتني به البارّ، ومنه قوله تعالى:{إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47]، وجمعه أحفياء.
والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم كان معتنيًا بشأن الحجر بالتقبيل، والمسح، والكلامُ وإن كان خطابًا للحجر، فالمقصود إسماع الحاضرين؛ ليعلموا أن الغرض الاتّباع، لا تعظيم الحجر كما كان عليه عبدَة الأوثان، فالمطلوب تعظيم أمر الربّ، واتّباع نبيّه صلى الله عليه وسلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عمر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [38/ 3072 و 3073](1271)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(5/ 226) و"الكبرى"(2/ 400)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(5/ 72)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 8)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 39 و 54)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 361)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 358)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(5/ 191)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1/ 169)، و (البزّار) في "مسنده"(1/ 478)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 74)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3073] (
…
) - (وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، قَالَ: وَلَكِنِّي رَأَيْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم بِكَ حَفِيًّا، وَلَمْ يَقُلْ: وَالْتَزَمَهُ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن مهديّ بن حسّان العنبريّ، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ حجة ناقد إمام [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.
[تنبيه]: رواية عبد الرحمن بن مهديّ، عن سفيان هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" 1/ 39 فقال:(274) - حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن سُويد بن غَفَلَة، قال: رأيت عمر رضي الله عنه يقبّل الحجر، ويقول: إني لأعلم أنك حجر، لا تضرّ، ولا تنفع، ولكني رأيت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم بك حَفِيًّا. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(39) - (بَابُ جَوَازِ الطَّوَافِ عَلَى بَعِيرٍ وَغَيْرِهِ وَاسْتِلَامِ الْحَجَرِ بِمِحْجَنٍ وَنَحْوِهِ لِلرَّاكِبِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3074](1272) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم طَافَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ، يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ) بن مسعود الْهُذليّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 94)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
والباقون ذُكروا في الأبواب الثلاثة الماضية، وكذا لطائف الإسناد.
شرح الحديث:
(عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ) قال في "الفتح": كذا قال يونس، وخالفه الليث، وأسامة بن زيد، وزمعة بن صالح، فرووه عن الزهريّ، قال: بلغني عن ابن عباس، ولهذه النكتة استظهر البخاريّ بطريق ابن أخي الزهريّ، فقال: تابعه الدراورديّ، عن ابن أخي الزهريّ، وهذه المتابعة أخرجها الإسماعيليّ، عن الحسين بن سفيان، عن محمد بن عبّاد، عن عبد العزيز الدراورديّ، فذكره، ولم يقل:"في حجة الوداع"، ولا:"على بعير". انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره في "الفتح" من وقوع الاختلاف في إسناد هذا الحديث ذكره قبله الحافظ ابن عمّار الشهيد المتوفّى سنة (317 هـ) رحمه الله، وقد تقدّم ما ذكره في مقدّمة "قرّة عين المحتاج"، وقال في آخره: فقد اتّفق هؤلاء الثلاثة -يعني الليث، وأسامة بن زيد، وزمعة بن صالح- على هذه الرواية، ورواية هؤلاء الذين أرسلوه أصحّ عندنا. انتهى خلاصة ما قاله
(2)
.
قال الجامع: لكن الحديث أخرجه الشيخان في "صحيحيهما"؛ ترجيحًا لرواية ابن وهب؛ لكونها زيادة ثقة حافظ، وقد تابعه عليها الدراورديّ، فثبت بذلك كونه متّصلًا صحيحًا، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(عَن ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم طَافَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ) بفتح الواو: اسم من التوديع، كالكلام من التكليم (عَلَى بَعِيرٍ) -بفتح الباء الموحّدة، وقد تُكسر-: الجمل البازل، أو الجذَع، وقد يكون للأنثى، قاله في "القاموس".
وقال الفيّوميّ رحمه الله: البعير مثل الإنسان يقع على الذكر والأنثى، يقال: حلبت بعيري، والجمل بمنزلة الرجل يختصّ بالذكر، والناقة بمنزلة المرأة تختصّ بالأنثى، والبَكْرَ، والبَكْرةُ، مثلُ الفتى والفتاة، والْقَلُوص كالجارية، هكذا حكاه جماعة، منهم: ابن السكيت، والأزهريّ، وابن جني، ثم قال
(1)
"الفتح" 4/ 537.
(2)
راجع: "قرّة عين المحتاج" 1/ 148، 149.
الأزهريّ: هذا كلام العرب، ولكن لا يعرفه إلا خواصّ أهل العلم باللغة، ووقع في كلام الشافعيّ رحمه الله تعالى في الوصية: لو قال: أعطوه بعيرًا لم يكن لهم أن يعطوه ناقة، فحمل البعير على الجمل، ووجهه أن الوصيّة مبنيّة على عُرف الناس، لا على محتملات اللغة التي لا يعرفها إلا الخواصّ.
وحكى في "كفاية المتحفّظ" معنى ما تقدّم، ثم قال: وإنما يقال: جمل، أو ناقة إذا أربعا، فأما قبل ذلك، فيقال: قَعُود، وبَكْرٌ، وبكرةٌ، وَقَلُوصٌ، وجمع البعير أبعرةٌ، وأباعرٌ، وبُعْرانٌ بالضمّ. انتهى.
ثم إن قوله: "طاف على بعير" لا ينافي ما تقدّم أنه صلى الله عليه وسلم طاف ماشيًا، رمل في الثلاثة الأُوَل، ومشى في الأربعة؛ لأنه يُحمل هذا على طواف الإفاضة، أو الوداع، وذلك على طواف القدوم، كما دلّ عليه حديث جابر رضي الله عنه الطويل الماضي.
وقال السنديّ رحمه الله: قد جاء أنه فعل ذلك -أي الطواف راكبًا- لمرض، أو لزحام، قيل: هو من خصائصه صلى الله عليه وسلم؛ إذ يَحْتَمِلُ أن تكون راحلته عُصِمَتْ من التلويث كرامَةً له، فلا يقاس عليه غيره، وذلك لأن المأمور به بقوله تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] طواف الإنسان، فلا ينوب طواف الدابة مناب طواف الإنسان إلا عند الضرورة. انتهى
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله السندي غير صحيح؛ بل الطواف راكبًا جائز إذا احتاج إليه، ودعوى الخصوصية لا دليل عليها، وما قاله من أن المأمور به طواف الإنسان
…
إلخ باطل؛ لأنه لم تنب الدابة عن طواف الإنسان، بل هو طاف عليها؛ ولذا قال ابن عباس رضي الله عنهما:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف على بعير"، ولم يقل: طاف عنه البعير، وهذا واضح غاية الوضوح، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الرابعة -إن شاء الله تعالى-.
(يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ) أي يومئ إلى الركن بعصاه حتى يصيبه، و"الاستلام": افتعال من السَّلَام -بالفتح-: وهو التحيّة. قاله الأزهريّ. وقيل: من السِّلَام -بالكسر-: وهو الحجارة.
وقال في "اللسان": قال الجوهري: استلم الحجر: لَمَسَهُ، إما بالقُبْلَة، أو باليد، لا يُهْمَزُ، لأنه مأخوذ من السِّلام، وهو الحجر، كما تقول: اسْتَنْوَقَ
الجملُ، وبعضهم يَهْمِزُهُ. انتهى
(1)
.
والمراد بالركن: ركن الحجر الأسود.
(بمِحْجَنٍ) -بكسر الميم، وسكون المهملة، وفتح الجيم، بعدها نون-: هو عصًا مُنْحنية الرأس، والْحَجْنُ: الاعوجاج، وبذلك سُمّي الْحَجُون.
وقول النوويّ رحمه الله: "الْمِحْجَنُ": عَصًا مُعَقَّفةٌ، يتناول بها الراكب ما سَقَط له، وُيحَرِّك بطرفها بعيره للمشي. انتهى.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الْمِحْجَن" وزانُ مِقْوَدٍ: خَشَبَةٌ في طرفها اعوجاجٌ، مثلُ الصَّوْلَجَان، قال ابن دُرَيد: كلُّ عُود مَعْطوف الرأس، فهو مِحْجَن، والجمعُ الْمَحاجن، والْحَجُون وزانُ رسول: جَبَلٌ مُشرفٌ بمكّة. انتهى.
وزاد في حديث أبي الطفيل الآتي: "ويقبّل المحجن"، وتقدّم حديث ابن عمر أنه:"استلم الحجر بيده، ثم قبّله"، ورفع ذلك، ولسعيد بن المنصور من طريق عطاء، قال:"رأيت أبا سعيد، وأبا هريرة، وابن عمر، وجابرًا إذا استلموا الحجر قبّلوا أيديهم، قيل: وابن عباس؟ قال: وابن عباس، أحسبه قال: كثيرًا". وبهذا قال الجمهور: إن السنّة أن يستلم الركن، ويقبّل يده، فإن لم يستطع أن يستلمه بيده استلمه بشيء في يده، وقبّل ذلك الشيء، فإن لم يستطع أشار إليه، واكتفى بذلك، وعن مالك في رواية: لا يقبِّل يده، وكذا قال القاسم، وفي رواية عند المالكية: يضع يده على فمه من غير تقبيل، قاله في "الفتح"
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [39/ 3074](1272)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1607)، و (أبو داود) في "المناسك"(1877 و 1881)، و (النسائيّ) في
(1)
"لسان العرب" 3/ 2083.
(2)
"الفتح" 4/ 537.
"الصلاة"(2/ 47) و"مناسك الحجّ"(5/ 233) و"الكبرى"(1/ 162 و 2/ 401)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(2948)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 345 - 346)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(8935)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 214 و 237 و 248 و 304)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2780)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3829)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(463)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(12070 و 12080)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 357)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 357)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 99) و"المعرفة"(4/ 86) و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(1/ 59)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1907)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب استلام الحجر الأسود، وتقبيله، إن أمكن، وإلا يستلمه بمحجن، ونحوه، ثم يقبّل المحجن.
2 -
(ومنها): أنه استَدَلّ به أصحاب مالك، وأحمد، على طهارة بول ما يؤكل لحمه، وروثه؛ لأنه لا يؤمَن ذلك من البعير، فلو كان نجسًا لمَا عُرِّض المسجد له، قال النوويّ: ومذهبنا، ومذهب أبي حنيفة، وآخرين نجاسة ذلك، وهذا الحديث لا دلالة فيه؛ لأنه ليس من ضرورته أن يبول، أو يروث في حال الطواف، وإنما هو مُحْتَمِلٌ، وعلى تقدير حصوله يُنَظَّف المسجد منه، كما أنه صلى الله عليه وسلم أقرّ إدخال الصبيان الأطفال المسجد، مع أنه لا يؤمَن بولهم، بل قد وُجد ذلك، ولأنه لو كان ذلك محقّقًا لَنُزِّه المسجد منه، سواء كان نجسًا، أو طاهرًا؛ لأنه مستقذر. انتهى
(1)
.
وقال ابن بطال رحمه الله: فيه جواز دخول الدواب التي يؤكل لحمها المسجد إذا احتيج إلى ذلك؛ لأن بولها لا ينجسه، بخلاف غيرها من الدواب.
قال الحافظ: وتُعُقّب بأنه ليس في الحديث دلالة على عدم الجواز مع الحاجة، بل ذلك دائر على التلويث وعدمه، فحيث يخشى التلويث يمتنع
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 18.
الدخول، وقد قيل: إن ناقته صلى الله عليه وسلم كانت مُنَوَّقَةً، أي مدربة مُعَلَّمَةً، فيؤمن منها ما يحذر من التلويث، وهي سائرة. انتهى.
وتعقّبه العينيّ رحمه الله، فقال: وفيه -يعني قوله: "فحيث يخشى التلويث" إلخ- نظر؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة حين قالت له: إني أشتكي: "طوفي من وراء الناس، وأنت راكبة" لا يدل على أن الجواز وعدمه دائران مع التلويث، بل ظاهره يدل على الجواز مطلقًا عند الضرورة.
وقال في قوله: إن ناقته صلى الله عليه وسلم كانت منوقة إلخ ما نصه: قلت: سلّمنا هذا في ناقة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولكن ما يقال في الناقة التي كانت عليها أم سلمة، وهي طائفة؟ ولئن قيل: إنها كانت ناقة النبيّ صلى الله عليه وسلم، قيل له: يحتاج إلى بيان ذلك بالدليل. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لقد أجاد العينيّ رحمه الله في هذا التعقّب، ثم إن ما قالوه من التلويث وغيره مبني على نجاسة الأبوال، وقد قدمنا في "كتاب الطهارة" أن الراجح طهارة أبوال الحيوانات المأكولة اللحم؛ اللَّهم إلا إذا أريد الاستقذار من غير نجاسة؛ كمنع النخامة والبزاق في المسجد للاستقذار، لا للنجاسة، فتأمل، والله تعالى أعلم.
3 -
(ومنها): جواز الطواف راكبًا، ولا كراهة فيه، قال العيني: فإن كان غير معذور يُعتبر عندنا، وعند الشافعيّ لا يجوز، لقوله صلى الله عليه وسلم: "الطواف بالبيت صلاة
…
"، ولنا: إطلاق قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]، وهو مطلق، والحديث للتشبيه فلا عموم له، وبقولنا قال ابن المنذر، وجماعة.
وقال القرطبيّ: الجمهور على كراهة ذلك. قلنا: نحن أيضًا نقول بالكراهة، حتى إنه يعيده ما دام بمكة. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: القول بالكراهة يحتاج إلى دليل، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
4 -
(ومنها): جواز قول حَجّة الوداع، وقد قدمنا أن بعض العلماء كره
(1)
"عمدة القاري" 4/ 241.
(2)
"عمدة القاري" للعيني 4/ 241.
أن يقال لها: حجة الوداع، وهو غلط، والصواب جواز قول حجة الوداع، قاله النوويّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الطواف راكبًا على الراحلة، أو نحوها: قال العلامة القرطبيّ رحمه الله: لا خلاف في جواز طواف المريض راكبًا للعذر، واختُلف في طواف من لا عذر له راكبًا، فأجازه قوم، منهم: ابن المنذر؛ أخذًا بطوافه صلى الله عليه وسلم راكبًا، والجمهور على كراهة ذلك، ومنعِه، متمسّكين بظاهر قوله تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحجّ: 29]، وظاهره أن يطوف الطائف بنفسه، ومن طاف راكبًا إنما طيف به، ولم يَطُف هو بنفسه، وبأن الصحابة رضي الله عنهم اعتذروا عن طوافه صلى الله عليه وسلم راكبًا، وبيّنوا عذره في ذلك، فكان دليلًا على أن أصل مشروعية الطواف عندهم ألا يكون راكبًا. انتهى كلام القرطبيّ
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قال أصحابنا: الأفضل أن يطوف ماشيًا، ولا يركب، إلا لعذر مرض، أو نحوه، أو كان ممن يحتاج إلى ظهوره ليُستفتَى، ويُقتدى به، فإن كان لغير عذر جاز بلا كراهة، لكنه خلاف الأولى.
وقال إمام الحرمين: من أدخل البهيمة التي لا يؤمَن من تلويثها المسجد بشيء، فإن أمكن الاستيثاق فذاك، وإلا فإدخالها المسجد مكروه.
وجزم جماعة من أصحابنا بكراهة الطواف راكبًا من غير عذر، منهم: الماورديّ، والبندنيجيّ، وأبو الطيّب، والعبدريّ. والمشهور الأول، والمرأة والرجل في ذلك سواء، والمحمول على الأكتاف كالراكب، وبه قال أحمد، وداود، وابن المنذر.
وقال مالك، وأبو حنيفة: إن طاف راكبًا لعذر أجزأه، ولا شيء عليه، وإن كان لغير عذر، فعليه دم. قال أبو حنيفة: وإن كان بمكة أعاد الطواف.
فلو طاف زَحْفًا مع القدرة على القيام فهو صحيح، لكنه يُكره، وقال أبو الطيب في "التعليقة": طوافه زحفًا كطوافه ماشيًا منتصبًا، لا فرق بينهما.
(1)
"المفهم" 3/ 379 - 380.
واعتذروا عن ركوب النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن الناس كثُرُوا عليه، وغَشُوه بحيث إن العواتق خرجن من البيوت لينظرن إليه صلى الله عليه وسلم، أو لأنه يُستفتَى، أو لأنه كان يشكو، لما روى أبو داود في "سننه":"قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم مكة، وهو يشتكي، فطاف على راحلته، فلما أتى على الركن استلم بمحجن، فلما فرغ من طوافه أناخ، فصلى ركعتين".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أبي داود المذكور ضعيف؛ لأن في إسناده يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف، ثم إن القول بكراهة الطواف راكبًا ليس عليه دليل صريح، وما اعتذروا به عن طوافه صلى الله عليه وسلم راكبًا لا يكون دليلًا على المنع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ما جاء عنه النهي عن الطواف راكبًا، حتى يُحتاج للاعتذار عن فعله، والآية ليس فيها النهي عنه، بل فِعله صلى الله عليه وسلم بيان لمعناها، وهو أنها لإيجاب الطواف مطلقًا.
فالحقّ أن الطواف راكبًا جائز، ما لم يؤذ أحدًا، وإن كان الأولى عدم الركوب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3075](1273) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: طَافَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْبَيْتِ، فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، عَلَى رَاحِلَتِهِ، يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ بِمِحْجَنِهِ؛ لِأَنْ يَرَاهُ النَّاسُ، وَلِيُشْرِفَ، وَلِيَسْأَلُوهُ، فَإِنَّ النَّاسَ غَشُوهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ، قاضي الموصل، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
2 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، تقدّم قبل بابين.
3 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تدرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ ربما دلّس [4](ت 226)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
4 -
(جَابِرُ) بن عبد الله رضي الله عنهما، تقدّم قبل بابين.
وشيخه ذُكر قبل حديث.
وقوله: (عَلَى رَاحِلَتِهِ) لا تعارض بينه وبين حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما الذي قبله: "على بعير"؛ لأن الراحلة معناها: المركب من الإبل، ذكرًا أو أنثى، كما في "المصباح"
(1)
.
وقوله: (لِأَنْ يَرَاهُ النَّاسُ) أي حتى يقتدوا به.
وقوله: (وَلِيُشْرِفَ) بالبناء للفاعل، أي ليطّلع على أعمال الناس، حتى لا يقعوا في الخطإ، يقال: أشرفت عليه: إذا اطّلعت، ويَحْتَمِل أن يكون المعنى: ليُشرف، أي ليرتفع عن الناس، حتى لا يؤذوه، يقال: أشرف المكانُ: إذا ارتفع، كما تفيده عبارة "المصباح".
وقوله: (فَإِنَّ النَّاسَ غَشُوهُ) بفتح الغين، وضم الشين المعجمتين: أي ازدحموا عليه، وكثُرُوا.
وقال القرطبيّ رحمه الله: الرواية الصحيحة بضمّ الشين المعجمة، وهو الصحيح؛ لأن أصله غَشِيُوهُ استُثقلت الضمّة على الياء، فنقلوها إلى الشين، فسكنت الياء، فلما اجتمعت مع الواو الساكنة حُذفت الياء؛ لالتقاء الساكنين، وفيه تعليل آخر، وما ذكرناه أولى. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "لأن يراه الناس إلخ" هذا بيان لعلة ركوبه صلى الله عليه وسلم، وقيل أيضًا: لبيان الجواز، وجاء في "سنن أبي داود" أنه كان صلى الله عليه وسلم في طوافه هذا مريضًا، وإلى هذا المعنى أشار البخاريّ رحمه الله وترجم عليه:"باب المريض يطوف راكبًا"، فيَحْتَمِل أنه صلى الله عليه وسلم طاف راكبًا لهذا كله. انتهى.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [39/ 3075 و 3076](1273)، و (أبو داود) في "المناسك"(1880)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(5/ 241)، و (أحمد) في
(1)
"المصباح المنير" 1/ 222.
(2)
"المفهم" 3/ 380.
"مسنده"(3/ 317 و 333)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2778)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 359)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 100) و"الصغرى"(4/ 200)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3076] (
…
) - (وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا
(1)
مُحَمَّدٌ، يَعْنِي ابْنَ بَكْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، عَلَى رَاحِلَتِهِ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؛ لِيَرَاهُ النَّاسُ، وَلِيُشْرِفَ، وَلِيَسْأَلُوهُ، فَإِنَّ النَّاسَ غَشُوهُ، وَلَمْ يَذْكُر ابْنُ خَشْرَمٍ: وَلِيَسْأَلُوهُ. فَقَطْ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ) بوزن جعفر المروزيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 357) أو بعدها، وقد قارب المائة (م ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.
2 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السبيعيّ الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقةٌ مأمونٌ [8](ت 187)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
3 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسيّ، قيل: اسمه عبد الحميد، أبو محمد، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ) البُرسانيّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3077](1274) - (حَدَّثَنِي الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى الْقَنْطَرِيُّ، حَدَّثَنَا شُعَيْبُ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ
(1)
، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، عَلَى بَعِيرِهِ، يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ؛ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُضْرَبَ عَنْهُ النَّاسُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى الْقَنْطَرِيُّ) أبو صالح البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 232)(خت م مد س ق) تقدم في "الإيمان" 46/ 294.
[تنبيه]: "الْقَنْطَريّ" بفتح القاف، وسكون النون، وفتح الطاء المهملة، وآخره راء: قال السمعانيّ: هو من قَنْطَر بردان، وهي محلّة ببغداد. انتهى
(2)
.
2 -
(شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ) بن عبد الرحمن الأمويّ مولاهم البصريّ، ثم الدمشقيّ، ثقةٌ رُمي بالإرجاء، من كبار [9](189)(خ م د س ت) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 34/ 1418.
والباقون تقدّموا قبل أربعة أبواب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، وشعيب، كما أسلفته آنفًا.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، من هشام.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، عن خالته، وتابعي عن تابعيّ، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وعائشة من المكثرين السبعة، والله تعالى أعلم.
(1)
وفي نسخة: "عن أبيه".
(2)
راجع: "شرح النوويّ" 9/ 19، و"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 228.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ) بفتح الواو (حَوْلَ الْكَعْبَةِ) منصوب على الظرفية متعلّق بـ "طاف"، وكذا قوله:(عَلَى بَعِيرِهِ) تقدّم أنه بفتح الموحّدة، وتُكسر (يَسْتَلِمُ) أي يلمس (الرُّكْنَ) أي الحجر الأسود، زاد في رواية النسائيّ:"بمحجنه"(كَرَاهِيَةَ أَنْ يُضْرَبَ عَنْهُ النَّاسُ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في معظم النسخ: "يُضْرَب" بالباء الموحّدة، وفي بعضها:"يُصْرَف" بالصاد المهملة، والفاء، وكلاهما صحيح. انتهى.
فقوله: "كراهية" منصوب على أنه مفعول لأجله، و"يُضرب" بالبناء للمفعول، أي إنما فعل ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأجل كراهته ضرب الناس أمامه.
ومرجع الضمير في قوله: "يصرف عنه الناس" يَحْتَمِل كونه للركن، يعني أنه لو طاف ماشيًا لانصرف الناس عن الحجر، كلما مرّ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ توقيرًا له أن يُزاحَم.
ويَحْتَمل كون مرجعه النبيّ صلى الله عليه وسلم، يعني لو لم يركب لانصرف الناس عنه؛ لأن كل من رام الوصول إليه لسؤال، أو لرؤية، أو لاقتداء لا يقدر؛ لكثرة الخلق حوله، فينصرف من غير تحصيل حاجته، وهذا الاحتمال هو الأظهر؛ لموافقته لما دلّ عليه حديث جابر رضي الله عنه حيث ذكر هذه العلة بقوله:"يستلم الركن بمحجنه؛ لأن يراه الناس، وليُشرف عليهم، وليسألوه"
(1)
.
[فإن قلت]: كيف تجمع بين حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطوف بالبيت على راحلته، فإذا انتهى إلى الركن أشار إليه"، وبين حديث عائشة رضي الله عنها هذا؟.
[قلت]: يُجاب بحمل ما دلّ عليه حديث عائشة رضي الله عنها، من استلامه بالمحجن على أنه كان قريبًا، وذلك لكونه آمنًا من إيذاء الناس، وأن ما دلّ عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهما من الإشارة إليه على أنه كان بعيدًا عنه؛ خشية إيذائهم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
راجع: "المرقاة" 5/ 490.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [39/ 3077](1274)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(5/ 224) وفي "الكبرى"(3923)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 359)، و (البيهقيّ) في "المعرفة"(4/ 87)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3078](1275) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا سُلَيْمَان بْن دَاوُدَ
(1)
، حَدَّثَنَا مَعْرُوفُ بْن خَرَّبُوذَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الطُّفَيْلِ يَقُولُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ مَعَهُ، وَيُقَبِّلُ الْمِحْجَنَ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ) بن الجارود، أبو داود الطيالسيّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 204)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.
3 -
(مَعْرُوفُ بْنُ خَرَّبُوذَ) المكيّ، مولى آل عثمان، صدوقٌ ربّما وَهِمَ، وكان أخباريًّا، علّامةً [5].
رَوَى عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، وأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، ومحمد بن عمرو بن عتبة بن أبي لهب، وأبي عبد الله مولى ابن عباس، وغيرهم.
وروى عنه الفضل بن موسى السِّينانيّ، ووكيع، وأبو داود الطيالسيّ، وأبو بكر بن عياش، وعبد الله بن داود الْخُرَيبيّ، وعبيد الله بن موسى، وأبو عاصم، وغيرهم.
(1)
وفي نسخة: "سليمان بن داود أبو داود".
قال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ضعيفٌ، وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه، قال: ويقال: إن الناس أخذوا عنه شعر بديل، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أحمد: ما أدري كيف حديثه؟ وقال الساجيّ: صدوقٌ، وقال ابن حبان في "الضعفاء": كان يشتري الكتب، فيحدث بها، ثم تغير حفظه، فكان يحدث على التوهم، قال الحافظ: فكأنه ترجم لغيره، فإن هذه الصفة مفقودة في حديث معروف. انتهى.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، وابن ماجه. له في البخاريّ حديثه عن أبي الطفيل، عن عليّ رضي الله عنه في "كتاب العلم"، وعند الباقين هذا الحديث في الحجّ فقط.
[تنبيه]: قوله: "خَرّبوذ" -بفتح الخاء المعجمة، وتشديد الراء، وبسكونها، ثم موحّدة مضمومة، وواو ساكنة، وذال معجمة، قاله في "التقريب".
وقال النوويّ رحمه الله: هو بخاء معجمة مفتوحة، ومضمومة، والفتح أشهر، وممن حكاهما القاضي عياض في "المشارق"، والقائل بالضم هو أبو الوليد الباجيّ، وقال الجمهور: بالفتح، وبعد الخاء راء مفتوحة مشدَّدة، ثم باء موحدة مضمومة، ثم واو، ثم ذال معجمة. انتهى
(1)
.
4 -
(أَبُو الطُّفَيْلِ) عامر بن واثلة رضي الله عنه، تقدّم قبل بابين.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (190) من رباعيّات الكتاب.
وقوله: (وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ مَعَهُ، وَيُقَبِّلُ الْمِحْجَنَ) فيه دليل على استحباب استلام الحجر الأسود، وأنه اذا عجز عن استلامه بيده، بأن كان راكبًا، أو غيره استلمه بعصًا، ونحوها، ثم قَبَّل ما استلم، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي الطفيل رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 19.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [39/ 3078](1275)، و (أبو داود) في "المناسك"(1879)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(2949)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 402)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 454)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 360)، و (الضياء) في "المختارة"(8/ 105)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3079](1276) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّهَا قَالَتْ: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَشْتَكِي، فَقَالَ: "طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ، وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ"، قَالَتْ: فَطُفْتُ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ، وَهُوَ يَقْرَأُ بِالطُّورِ وكِتابٍ مَسْطُورٍ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، تقدّم قبل بابين.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ) الأسديّ، أبو الأسود يتيم عروة المدنيّ، ثقةٌ [6] مات سنة بضع و (130)(ع) تقدم في "الطهارة" 9/ 573.
4 -
(زَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ) عبد الله بن عبد الأسد المخزوميّة، ربيبة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ماتت سنة (73)(ع) تقدمت في "الحيض" 2/ 689.
5 -
(أُمُّ سَلمَة) هند بنت أبي أميّة حذيفة أو سُهيل بن المغيرة بن عبد الله بن عُمر بن مخزوم المخزوميّة، أم المؤمنين رضي الله عنها، ماتت سنة (62) على الأصحّ (ع) تقدم في "المقدمة" جـ 2 ص 473.
و"عروة" ذُكر قبل حديث.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من مالك، غير شيخه، فنيسابوريّ.
4 -
(ومنها): أن فيه عروة من الفقهاء السبعة.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية صحابيّة عن صحابيّة، والبنت عن أمها، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قال في "الفتح": في الإسناد تابعيّان: محمد، وعروة، وصحابيتان: زينب، وأمها، أم سلمة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في جعله محمد بن عبد الرحمن تابعيًّا نظر، إلا عند من يكتفي في كون الشخص تابعيًّا بمجرد المعاصرة فقط، فإنه لم يثبت له رواية عن صحابيّ، كما بيّنه في ترجمته من "تهذيب التهذيب"
(2)
، وجعله في "التقريب" من الطبقة السادسة، وهي التي عاصرت الصحابة، ولم تَلْقَ منهم أحدًا، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) رضي الله عنها (أَنَّهَا قَالَتْ: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَشْتَكِي) بفتح همزة "أني" لأنه في تأويل المصدر مفعول "شكوت"، يقال: اشتكى عضوًا من أعضائه: إذا توجّع منه، وشكوت فلانًا: إذا أخبرت عنه بسوء فعله بك، وفي رواية للنسائيّ: "قالت: يا رسول الله، والله ما طُفْت طواف الخروج
…
" تعني الوداع (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ) أي المصلّين وراءه صلى الله عليه وسلم، قال النوويّ رحمه الله: إنما أمرها صلى الله عليه وسلم بالطواف من وراء الناس لشيئين:
[أحدهما]: أن سنة النساء التباعد عن الرجال في الطواف.
[والثاني]: أن قربها يُخاف منه تأذي الناس بدابتها، وكذا إذا طاف الرجل راكبًا، وإنما طافت في حال صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ ليكون أستر لها، وكانت
(1)
"الفتح" 2/ 132، كتاب الصلاة، باب إدخال البعير في المسجد للعلّة.
(2)
نقل في "تهذيب التهذيب" عن ابن الْبَرْقيّ قال: لا يُعلَم له -أي لمحمد بن عبد الرحمن هذا- رواية عن أحد من الصحابة، مع أن سنّه يَحْتَمِل ذلك. انتهى.
هذه الصلاة صلاة الصبح. انتهى
(1)
.
(وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ") زاد في رواية النسائيّ: "على بعيرك"، والجملة الاسميّة في محل نصب على الحال من الفاعل (قَالَتْ) أم سلمة رضي الله عنها (فَطُفْتُ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) جملة حالية، أي والحال اْن رسول الله صلى الله عليه وسلم (يُصَلِّي) أي صلاة الصبح، ففي رواية البخاريّ من طريق هشام بن عروة، عن أبيه:"إذا أقيمت صلاة الصبح، فطوفي على بعيرك، والناس يصلّون".
(إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ) أي الكعبة؛ لأن البيت عَلَم لها بالغلبة.
قال الكرمانيّ رحمه الله: فإن قلت: الصلاة إلى البيت، فما فائدة ذكر الجنب؟.
قلت: معناه أنه كان يصلي منها إلى الجنب، يعني قريبًا من البيت، لا بعيدًا منه. انتهى. وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: صلاته إلى جنب البيت من أجل أن المقام كان حينئذ ملصقًا بالبيت قبل أن ينقله عمر رضي الله عنه من ذلك المكان إلى صحن المسجد. انتهى
(2)
.
(يَقْرَأُ بِالطُّور وكتابٍ مَسْطُورٍ) أي بسورة الطور، ولعلها لم تذكر واو القسم. لأن لفظ "الطور" كأنه صار علمًا للسورة. قاله العينيّ
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: {وَالطُّورِ (1)} الجبل بالسريانيّة، وقال ابن عبّاس: كلُّ جبل يُنبِت فهو طورٌ، {وَكِتَابٍ} أي مكتوب، و {رَقٍّ مَنْشُورٍ} هو الجلد المهيّأ ليُكتب فيه، وأحسن ما قيل فيه: إنه القرآن المكتوب في المصاحف، وهذه أقسام أقسم الله تعالى بها؛ تشريفًا لها. انتهى
(4)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أم سلمة رضي الله عنها هذا مُتّفقٌ عليه.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 20.
(2)
"عمدة القاري" 4/ 62.
(3)
"عمدة القاري" 4/ 62.
(4)
"المفهم" 3/ 381.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [39/ 3079](1276)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(464) و"الحج"(1619 و 1626 و 1633) و"التفسير"(4853)، و (أبو داود) في "المناسك"(1882)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(5/ 223) و"الكبرى"(3903 و 3904 و 3943)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(2961)، و (مالك) في "الموطإ"(832)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(9021)، و (أحمد) في "باقي مسنده"(6/ 290 و 319)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2776)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3830 و 3833)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(4/ 182)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 358)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 360)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(23/ 804)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 78 و 101) و"المعرفة"(4/ 89)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1911)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان جواز الطواف للراكب، وقد تقدّم بيان اختلاف العلماء.
2 -
(ومنها): بيان كيفية طواف المريض، وهو أن يطوف راكبًا.
3 -
(ومنها): أن النساء يطفن وراء الرجال، ولا يختلطن بهم؛ لأن ذلك أستر لهنّ، ولأن الطواف كالصلاة، ومن سنة الصلاة أن يتأخرن عن صفوف الرجال، فكذا في الطواف. قال في "الفتح": وإنما أمرها أن تطوف من وراء الناس؛ ليكون أستر لها، ولا تقطع صفوفهم أيضًا، ولا يتأذّون بدابتها. انتهى.
4 -
(ومنها): أن من يطوف وقت صلاة الجماعة لعذر لا يطوف إلا من وراء الناس، فلا يطوف بين المصلين وبين البيت؛ لئلا يَشْغَل الإمام والناس، فيؤذيهم.
5 -
(ومنها): أن الراكب عليه أن يجتنب ممر الناس ما استطاع، ولا يخالط الرجالة؛ لئلا يؤذيهم.
6 -
(ومنها): جواز إدخال الدوابّ المسجد، وقد تقدمت أقوال العلماء في ذلك.
7 -
(ومنها): استحباب قرب الإمام من البيت في الصلاة.
8 -
(ومنها): مشروعية الجهر بالقراءة في صلاة الصبح، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(40) - (بَابُ بَيَانِ أَنَّ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ رُكْنٌ لَا يَصِحُّ الْحَجُّ إِلَّا بِهِ)
(اعلم): أن "الصفا"، و"المروة" جبلا السعي اللذان يُسعى من أحدهما إلى الآخر. و"الصفا" في الأصل، جمع صَفَاة، وهي الصخرة، والحجر الأملس، و"المروة" في الأصل حجر أبيض برّاق، وقيل: هي الحجارة التي تُقدح منها النار.
وقال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": أصل الصفا في اللغة الحجر الأملس، وهو هنا جبل بمكة معروف، وكذلك المروة جبل أيضًا، ولذلك أخرجهما بلفظ التعريف. وذَكّر الصفا لأن آدم عليه السلام وقف عليه، فسمي به، ووقفت حوّاء على المروة، فسميت باسم المرأة، فأنّث لذلك.
وقال الشعبيّ: كان على الصفا صنم يسمى إسافًا، وعلى المروة صنم يدعى نائلة، فاطَّرَد ذلك في التذكير والتأنيث، وقدّم المذكر، وهذا حسن؛ لأن الأحاديث المذكورة تدلّ على هذا المعنى، وما كان كراهة من كره الطواف بينهما إلا من أجل هذا؛ حتى رفع الله الحرج في ذلك.
وزعم أهل الكتاب أنهما زنيا في الكعبة، فمسخهما الله حجرين، فوضعهما على الصفا والمروة؛ ليُعتبر بهما؛ فلما طالت المدة عُبدا من دون الله.
والصفا مقصور: جمع صفاة، وهي الحجارة الْمُلْسُ، وقيل: الصفا اسم مفرد، وجمعه صُفِيّ -بضم الصاد-، وأصفاء، على مثل أرحاء، قال الراجز:
كَأَنَّ مَتْنَيْهِ مِنَ النَّفِيِّ
…
مَوَاقِعُ الطَّيْرِ عَلَى الصُّفِيِّ
وقيل: من شروط الصفا البياض، والصلابة، واشتقاقه من صفا يصفو: أي خَلَص من التراب والطين.
والمروة: واحدة المرو، وهي الحجارة الصغار التي فيها لين، وقد قيل: إنها الصلاب، والصحيح أن المرو الحجارة صليبها، ورخوها الذي يتشظّى، وترقّ حاشيته، وفي هذا يقال: المرو أكثر، ويقال في الصليب، قال الشاعر [من الرمل]:
وَتَوَلَّى الأَرْضَ خُفًّا ذَابِلًا
…
فَإِذَا مَا صَادَفَ الْمَرْوَ رَضَخْ
وقال أبو ذُؤيب [من الكامل]:
حَتَّى كَأَنِّي لِلْحَوَادِثِ مَرْوَةٌ
…
بِصَفَا الْمُشَقِّرِ كُلَّ يَوْمٍ تُقْرَعُ
وقد قيل: إنها الحجارة السُّودُ، وقيل: حجارة بيضٌ برّاقةٌ تكون فيها النار. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3080](1277) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا
(2)
أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَ: قُلْتُ لَهَا: إِنِّي لَأَظُنُّ رَجُلًا لَوْ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مَا ضَرَّهُ، قَالَتْ: لِمَ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَقَالَتْ: مَا أَتَمَّ اللهُ حَجَّ امْرِئٍ، وَلَا عُمْرَتَهُ، لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُ، لَكَانَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا، وَهَلْ تَدْرِي فِيمَا كَانَ ذَاكَ؟ إِنَّمَا كَانَ ذَاكَ، أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا يُهِلُّونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِصَنَمَيْنِ، عَلَى شَطِّ الْبَحْرِ، يُقَالُ لَهُمَا: إِسَافٌ، وَنَائِلَةُ، ثُمَّ يَجِيئُونَ، فَيَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ يَحْلِقُونَ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ كَرِهُوا أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَهُمَا، لِلَّذِي كَانُوا يَصْنَعُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَتْ: فَأَنْزَلَ اللهُ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} إِلَى آخِرِهَا، قَالَتْ: فَطَافُوا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم قبل باب. والباقون ذُكروا قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله.
(1)
"الجامع لأحكام القرآن" 2/ 179، 180.
(2)
وفي نسخة: "أخبرنا".
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وأبي معاوية فكوفيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، عن خالته، وتابعي عن تابعيّ.
5 -
(ومنها): أن عروة أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة.
6 -
(ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها عن المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ) عروة بن الزبير (عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (قَالَ) عروة (قُلْتُ لَهَا) أي لعائشة رضي الله عنها (إِنِّي لَأَظُنُّ رَجُلًا لَوْ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مَا) نافية (ضَرَّهُ) أي لا يضرّه في صحّة حجه عدم طوافه بين الصفا والمروة (قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (لِمَ؟) هي "ما" الاستفهاميّة حُذفت ألفها جوازًا؛ لكونها، كما قال في "الخلاصة":
وَ"مَا" فِي الاسْتِفْهَامِ إِنْ جُرَّتْ حُذِفْ أَلِفُهَا
…
وَأَوْلهَا الْهَا إِنْ تَقِفْ
وَلَيْسَ حَتْمًا فِي سِوَى مَا انْخَفَضَا
…
بِاسْمٍ كَقَوْلِكَ "اقْتِضَاءَ مَا اقْتَضَى"
(قُلْتُ: لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ) محصّل كلام عروة رحمه الله أنه احتجّ على ما قاله من الإباحة في السعي بين الصفا والمروة، وعدم وجوبه باقتصار الآية على رفع الْجُنَاح، فلو كان واجبًا لما اكتفى بذلك؛ لأن رفع الإثم علامة المباح، ويزداد المستحبّ بإثبات الأجر، ويزداد الوجوب عليهما بعقاب التارك.
وقال القرطبيّ رحمه الله: إنما فَهِمَ هذا عروة من ظاهر قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ، ووجه فهمه أن رفع الحرج عن الفعل إنما يُشعر بإباحته، لا بوجوبه، وهو مُقتضى ظاهرها؛ إذا لم يُعْتَبَر سبب نزولها، فإذا وُقِف على سبب نزولها تحقق الواقع عليه: أنها إنما أتت رافعة لحرج من تحرَّج من الطواف بينهما على ما يأتي.
وقد اختَلَف فيه قولُ عائشة رضي الله عنها، واختلف الرواة عنها في ذلك، ففي بعض الروايات عنها: أن أهل المدينة كان من أهلّ منهم لِمَناة؛ لم يطف بينهما، وكأن هؤلاء بَقُوا بعد الإسلام على ذلك الامتناع حتى أُنزلت الآية، وفي بعضها: أن مَن أَهَلّ لإساف ونائلة جاء فطاف بينهما، وكان هؤلاء لمّا انقطع الإهلال لإساف ونائلة بالإسلام خافوا ألا يكون مشروعًا لمن لم يهلّ لهما، فرفع الله تلك التوهمات كلها بقوله:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ} ، وقد ذكر أبو بكر بن عبد الرحمن عند سماعه قول عائشة ما يدل على سببين آخرين، نَصّ عليهما في متن الحديث، ويرتفع الإشكال، ويصح الجمع بين هذه الروايات المختلفة بالطريق الذي سلكه أبو بكر بن عبد الرحمن؛ حيث قال: فأُرَاها نزلت في هؤلاء وهؤلاء، فنقول: نزلت الآية جوابًا لجميع هؤلاء الذين ذُكرت أسبابهم، ورافعة للحرج عنهم، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
(فَقَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (مَا) نافية (أَتَمَّ اللهُ حَجَّ امْرِئٍ، وَلَا عُمْرَتَهُ) وقوله: (لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) جملة في محلّ جرّ صفة لـ" امرئٍ"(وَلَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُ) من عدم الوجوب (لَكَانَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا) أي لكان لفظ نصّ الآية المقتضي لذلك فلا جناح إلخ، فقولها:"فلا جناح إلخ" خبر "كان"، واسمها ضمير يعود إلى المفهوم، أي لكان نصّ الآية إلخ، ويَحْتَمِل أن يكون "فلا جناح إلخ" اسمها، وخبرها محذوف، أي نصَّ الآية، أو هو النازلَ.
قال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: هذا من دقيق علم عائشة رضي الله عنها، وفهمها الثاقب، وكبير معرفتها بدقائق الألفاظ؛ لأن الآية الكريمة إنما دلّ لفظها على رفع الجناح عمن يطوف بهما، وليس فيه دلالة على عدم وجوب السعي، ولا على وجوبه، فأخبرته عائشة رضي الله عنها أن الآية ليست فيها دلالة للوجوب، ولا لعدمه، وبَيَّنَت السبب في نزولها، والحكمة في نظمها، وأنها نزلت في الأنصار حين تحرَّجوا من السعي بين الصفا والمروة في الإسلام، وأنها لو كانت كما يقول عروة، لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، وقد يكون الفعل واجبًا، ويعتقد إنسان أنه يُمنع إيقاعه على صفة مخصوصة، وذلك كمن عليه
(1)
"المفهم" 3/ 383، 384.
صلاة الظهر، وظَنّ أنه لا يجوز فعلها عند غروب الشمس، فسأل عن ذلك، فيقال في جوابه: لا جناح عليك إن صليتها في هذا الوقت، فيكون جوابًا صحيحًا، ولا يقتضي نفي وجوب صلاة الظهر. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقولها: "لو كانت كما تقول؛ لكان: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما"؛ هذا يدلّ على أن الذي روي: أنه في مصحف أُبيّ: "ألا يطوف بهما" بإثبات "ألا" ليس بصحيح؛ إذ لو كان كذلك لكانت عائشة لَأعرف الناس به، ولَمَا خفي عليها، ولا على غيرها ممَّن له عناية بالقرآن. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": وحاصل جواب عائشة رضي الله عنها أن الآية ساكتة عن الوجوب وعدمه، مصرّحة برفع الإثم عن الفاعل، وأما المباح فيحتاج إلى رفع الإثم عن التارك، والحكمة في التعبير بذلك مطابقة جواب السائلين؛ لأنهم توهّموا من كونهم كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية أنه لا يستمرّ في الإسلام، فخرج الجواب مطابقًا لسؤالهم، وأما الوجوب فيستفاد من دليل آخر، ولا مانع أن يكون الفعل واجبًا، ويعتقد إنسان امتناع إيقاعه على صفة مخصوصة، فيقال له: لا جناح عليك في ذلك، ولا يستلزم ذلك نفي الوجوب، ولا يلزم من نفي الإثم عن الفاعل نفي الإثم عن التارك، فلو كان المراد مطلق الإباحة لنفى الإثم عن التارك.
وقد وقع في بعض الشواذّ باللفظ الذي قالت عائشة أنها لو كانت للإباحة لكانت كذلك، حكاه الطبريّ، وابن أبي داود في "المصاحف"، وابن المنذر، وغيرهم عن أبيّ بن كعب، وابن مسعود، وابن عباس.
وأجاب الطبريّ بأنها محمولة على القراءة المشهورة.
وقال الطحاويّ أيضًا: لا حجة لمن قال: إن السعي مستحبّ بقوله: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} [البقرة: 158]؛ لأنه راجع إلى أصل الحج والعمرة، لا إلى خصوص السعي؛ لإجماع المسلمين على أن التطوّع بالسعي لغير الحاج والمعتمر غير مشروع. انتهى
(3)
.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 21.
(2)
"المفهم" 3/ 385.
(3)
"الفتح" 4/ 578، 579.
ثم بيّنت له سبب نزولَ الآية، فقالت:(وَهَلْ تَدْرِي فِيمَا كَانَ ذَاكَ؟) أي في شيء كان نزول هذه الآية الكريمة؟ (إِنَّمَا كَانَ ذَاكَ، أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا يُهِلُّونَ) بضم الياء، من الإهلال، أي يحجون (فِي الْجَاهِلِيَّةِ) أي قبل الإسلام (لِصَنَمَيْنِ، عَلَى شَطِّ الْبَحْرِ) بفتح الشين المعجمة، وتشديد الطاء المهملة: أي: جانبه، والجمع شُطُوطٌ، مثلُ فلس وفُلُوس
(1)
. (يُقَالُ لَهُمَا) أي للصنمين المذكورين (إِسَافٌ) بكسر الهمزة (وَنَائِلَةُ) قال القاضي عياض رحمه الله: هكذا وقع في هذه الرواية، قال: وهو غلطٌ، والصواب ما جاء في الروايات الأُخَرِ في الباب:"يُهِلُّون لمناة"، وفي الرواية الأخرى:"لمناة الطاغية التي بالمشلَّل"، قال: وهذا هو المعروف، ومَنَاةُ صنم، كان نصبه عمرو بن لُحَيّ في جهة البحر بالمشلَّل مما يلي قُدَيدًا، وكذا جاء مُفَسَّرًا في هذا الحديث في "الموطأ"، وكانت الأزد، وغَسّان، تُهِلّ له بالحجّ.
وقال ابن الكلبيّ: مناةُ صخرة لِهُذَيل بقُديد، وأما إساف ونائلة فلم يكونا قطّ في ناحية البحر، وإنما كانا فيما يقال: رجلًا وامرأةً، فالرجل اسمه إساف بن بقاء، ويقال: ابن عمرو، والمرأة اسمها نائلة بنت ذئب، ويقال: بنت سهل، قيل: كانا من جُرْهُم، فزنيا داخل الكعبة، فمسخهما الله حجرين، فنُصِبا عند الكعبة، وقيل: على الصفا والمروة؛ ليعتبر الناس بهما، ويتعظوا، ثم حوّلهما قُصَيّ بن كلاب، فجعل أحدهما ملاصق الكعبة، والآخر بزمزم، وقيل: جعلهما بزمزم، ونحر عندهما، وأمر بعبادتهما، فلما فتح النبيّ صلى الله عليه وسلم مكة كسرهما. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله.
(ثُمَّ يَجِيئُونَ) أي إلى مكة (فَيَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ يَحْلِقُونَ) رؤوسهم (فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ كَرِهُوا أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَهُمَا) أي بين الصفا والمروة (لِلَّذِي كَانُوا يَصْنَعُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) أي لكونه من عمل الجاهلية، فخافوا أن يُنهى عنه في الإسلام، فسألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عنه (قَالَتْ: فَأَنْزَلَ اللهُ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} أي من معالم دينه، ومواضع عباداته، قال الأزهريّ: الشعائر: المعالم التي ندب الله إليها، وأمر بالقيام عليها.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 313.
وقال في "النهاية": شعائر الحج آثاره، وعلاماته، جمع شعيرة، وقيل: هو كلّ ما كان من أعماله، كالوقوف، والطواف، والسعي، والرمي، والذبح، وغير ذلك.
وقال في "الصحاح": الشعائر أعمال الحجّ، وكلّ ما جُعِل عَلَمًا لطاعة الله، قال الأصمعيّ: الواحدة شعيرة، قال: وقال بعضهم: شَعَارة، والمشاعر مواضع النسك.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: قد بيّن الله تعالى أن الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله، أي مما شرع الله تعالى لإبراهيم في مناسك الحج، وقد ثبت في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن أصل ذلك مأخوذ من طواف هاجر، وتردادها بين الصفا والمروة في طلب الماء لولدها لمّا نَفِدَ ماؤهما وزادهما حين تركهما إبراهيم رضي الله عنها هنالك، وليس عندهما أحد من الناس، فلما خافت على ولدها الضيعة هنالك، ونَفِد ما عندهما، قامت تطلب الغوث من الله، فلم تزل تتردّد في هذه البقعة المشرّفة بين الصفا والمروة متذلّلة خائفة وجلة مضطربة فقيرة إلى الله حتى كشف الله كربتها، وآنس غربتها، وفرّج شدتها، وأنبع لها زمزم التي ماؤها "طعام طعم، وشفاء سقم"، فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره، وذُلّه، وحاجته إلى الله في هداية قلبه، وصلاح حاله، وغفران ذنبه، وأن يلتجئ إلى الله لتفريج ما هو به من النقائص والعيوب، وأن يهديه إلى الصراط المستقيم، وأن يثبّته عليه إلى مماته، وأن يحوّله من حاله الذي هو عليه من الذنوب والمعاصي إلى حال الكمال والغفران والسداد والاستقامة، كما فعل بهاجر عليها السلام. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله
(1)
.
وقوله: (إِلَى آخِرِهَا) متعلّق بفعل مقدّر، أي اقرأ الآية إلى آخرها.
في رواية البخاريّ بلفظ: "الْآيَةَ"، ويجوز فيه أوجه الإعراب الثلاثة: الرفع على أنه مبتدأ، حذف خبره، أي الآية مقروءة إلى آخرها، والنصب على أنه مفعول لفعل مقدّر، أي اقرأ الآية بتمامها، والجرّ -وهو قليل- على أنه مجرور بحرف مقدّر، أي اقرأ إلى آخر الآية.
(1)
"تفسير ابن كثير" 1/ 205.
(قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (فَطَافُوا) أي فطاف هؤلاء الأنصار الذين تحرّجوا من الطواف، أي السعي بين الصفا والمروة؛ لِمَا ذكروه من العلّة لَمّا أنزل الله هذه الآية الكريمة.
وفي الرواية الآتية من طريق ابن شهاب عن عروة: "قالت عائشة: قد سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بهما"، وفي رواية النسائيّ:"فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطُفنا معه، فكانت سنّة"، أي كان الطواف بينهما سنةً، والتأنيث باعتبار الخبر، وأرادت بذلك ثبوته بالسنة، وأنه مطلوب في الشرع، فليس مما لا مبالاة بتركه، كما بيّنته في قولها:"قد سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما".
وأرادت بالسنة الفرضَ، أي هي فرض من فرائض الحج، وليس المراد السنة التي هي خلاف الفرض، بدليل قولها:"فليس لأحد إلخ"، وقولها:"لم يُتِمّ الله حج امرئ، ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [40/ 3080 و 3081 و 3082 و 3083 و 3084](1277)، و (البخاريّ) في "الحج"(1643) و"العمرة"(1790) و"التفسير"(4495 و 4861)، و (أبو داود) في "المناسك"(1901)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(2965)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(2968 و 2969)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(2986) وفي "الكبرى"(3960 و 3961)، و (مالك) في "الموطإ"(838)، و (الحميديّ) في "مسنده"(219)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 144 و 227)، و (ابن خزيمة" في "صحيحه" (2769)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3839 و 3840)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 306 و 330)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 361)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 96) و"المعرفة"(4/ 84)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1920) و"التفسير"(1/ 133)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم السعي بين الصفا والمروة:
(اعلم): أنهم اختلفوا في هذه المسألة على مذاهب:
(المذهب الأول): أنه ركن في الحجّ، لا يصحّ إلا به، وكذلك في العمرة، وهذا مذهب مالك، والشافعيّ، وأحمد في المشهور عنه، وحكاه النوويّ عن جماهير العلماء، من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم، ورواه ابن أبي شيبة في "مصنّفه" عن عائشة رضي الله عنها، وعن مجاهد، وإبراهيم النخعيّ أنهما قالا: إذا نسي الطواف بين الصفا والمروة، وهو حاجّ، فعليه الحجّ، فإن كان معتمرًا، فعليه العمرة، ولا يجزيه إلا الطواف بينهما، وحكاه ابن المنذر عن إسحاق ابن راهويه، وأبي ثور، وبه قال ابن حزم.
واستَدَلَّ هؤلاء على الوجوب بأمور: (أحدها): ما رواه الشافعيّ، وأحمد في "مسنده"، والدارقطنيّ، والبيهقيّ، وغيرهم من رواية صفيّة بنت شيبة، قالت: أخبرتني ابنة أبي تِجْرَاة
(1)
، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد استقبل الناس في المسعى، وقال:"يا أيها الناس، اسعَوْا، فإن السعي قد كُتب عليكم"
(2)
.
(1)
بكسر المثنّاة، وسكون الجيم، بعدها راء، ثم ألف ساكنة، ثم هاء، وهي حبيبة بنت تِجْراة، وهي إحدى نساء بني عبد الدار، قاله في "الفتح" 4/ 577.
(2)
ونصّه في "المسند" 6/ 421: حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن المؤمل، عن عمر بن عبد الرحمن، قال: ثنا عطاء، عن حبيبة بنت أبي تِجْراة، قالت: دخلنا على دار أبي حسين في نسوة من قريش والنبيّ صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة، قالت: وهو يسعى، يدور به إزاره من شدّة السعي، وهو يقول لأصحابه:"اسعوا، فإن الله كتب عليكم السعي".
حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا سُريج، قال: ثنا عبد الله بن المؤمل، عن عطاء بن أبي رباح، عن صفية بنت شيبة، عن حبيبة بنت أبي تِجْراة، قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة، والناس بين يديه، وهو وراءهم، وهو يسعى، حتى أرى ركبتيه من شدة السعي، يدور به إزاره، وهو يقول:"اسعوا، فإن الله كتب عليكم السعي". انتهى.
قال الحافظ وليّ الدين: وذكر النوويّ في "شرح المهذّب" في أول كلامه الطريقَ الأول، وقال: ليس بقويّ، وإسناده ضعيف، قال ابن عبد البرّ في "الاستيعاب": فيه اضطراب، ثم ذكر الطريق الثاني في آخر كلامه، وقال: إسناده حسن، فعدّ ذلك شيخنا جمال الدين عبد الرحيم الإسنويّ في "المهمات" تناقضًا، وقال: اختلف فيه كلام النوويّ. وجوابه أن ذلك باعتبار طريقين، فإن في الأول عبد الله بن المؤمّل، وليس في الثاني، فلذلك ضعّف الأول، وحسّن الثاني.
قال ابن المنذر في "الإشراف": إن ثبت حديث بنت أبي تجراة وجب فرض السعي، وإن لم يثبت فلا أعلم دلالة توجبه، والذي رواه عبد الله بن المؤمّل، وقد تكلّموا في حديثه. انتهى. وقد أشار الإسنويّ في بقية كلامه لذلك، فقال: وحسّنه أيضًا الشيخ زكيّ الدين في كلامه على أحاديث "المهذّب"، إلا أن الحديث المذكور روي بإسنادين. انتهى، ومع ذلك ففي جعلهما طريقين، وتضعيف الأول، وتحسين الثاني نظر، فهو حديث واحد مداره على صفية بنت شيبة وقع الاختلاف فيه، وقد سلك ذلك البيهقيّ وغيره، وتقدّم قول ابن عبد البرّ: إن فيه اضطرابًا، لكنه قال في "الاستذكار": اضطرب فيه غير الشافعيّ، وأبي نعيم الفضل بن دكين على عبد الله بن المؤمل، وجوّدوا إسناده ومعناه، وقد رواه مع ابن المؤمّل غيره، وابن المؤمّل لم يطعن عليه أحد إلا من سوء حفظه، ولم يخالفه فيه غيره، فيتبيّنَ فيه سوء حفظه. وقال الحافظ في "الفتح": قلت: له طريق أخرى في "صحيح ابن خزيمة" مختصرة، وعند الطبرانيّ عن ابن عباس كالأولى، وإذا انضمّت إلى الأولى قويت، واختلف على صفية بنت شيبة في اسم الصحابية التي أخبرتها به، ويجوز أن تكون أخذته عن جماعة، فقد وقع عند الطبرانيّ عنها:"أخبرتني نسوة من بني عبد الدار"، فلا يضرّ الاختلاف. انتهى.
قال الشافعيّ رحمه الله: وهذا عندنا -والله أعلم- على إيجاب السعي بين الصفا والمروة من قِبَل أن هذا الحديث لا يَحْتَمِل إلا السعي بينهما، أو السعي
في بطن الوادي، فإذا وجب السعي في بطن الوادي، وهو بعض العمل وجب في كلّه. انتهى.
(الثاني): استدلّ البيهقيّ على ذلك بحديث عائشة رضي الله عنها المذكور في الباب، وقولها فيه:"ثم قد سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما"، وبقولها أيضًا في "صحيح مسلم":"فلعمري ما أتمّ الله حجّ من لم يطف بين الصفا والمروة".
(الثالث): استدلّ البيهقيّ، وابن عبد البرّ، والنوويّ، وغيرهم على ذلك أيضًا بكونه صلى الله عليه وسلم كان يسعى بينهما في حجه، وعمرته، وقال:"خذوا عني مناسككم".
(الرابع): استدلّ البيهقيّ على ذلك أيضًا بما في "الصحيحين" عن عمرو بن دينار، قال: سألنا ابن عمر رضي الله عنهما عن رجل قَدِم بعمرة، فطاف بالبيت، ولم يطف بين الصفا والمروة، أيأتي امرأته؟ فقال: قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فطاف بالبيت سبعًا، وصلى خلف المقام ركعتين، وطاف بالصفا والمروة سبعًا، وقال:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. وقال عمرو: سألنا جابرًا؟ فقال: لا يقربها حتى يطوف بين الصفا والمروة.
(الخامس): استدلّ ابن حزم على ذلك بما في "الصحيحين" عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مُنيخٌ بالبطحاء، فقال:"أحججت؟ "، فقلت: نعم، فقال:"بم أهللت؟ "، فقلت: لبيك بإهلال، كإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"قد أحسنت، طف بالبيت، وبالصفا والمروة، وأحلّ"، قال ابن حزم: بهذا صار السعي بين الصفا والمروة في العمرة فرضًا. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الدليل الذي استدلّ به ابن حزم رحمه الله أقوى دليل للمسألة، فلو لم يكن من الأدلة غيره، مع قوله صلى الله عليه وسلم:"خذوا عني مناسككم" لكفى في وجوب السعي بين الصفا والمروة، فكيف، وقد انضمّ إليه ما تقدم من الأدلة التي ذكرت قبله؟ والله تعالى أعلم.
(المذهب الثاني): أنه واجب، ويُجبر تركه بالدم، ويصحّ الحجّ بدونه، وهذا مذهب أبي حنيفة، ورواية عن أحمد، وذكر النوويّ أنه الأصحّ عنه.
ورواه ابن أبي شيبة في "مصنّفه" عن الحسن البصريّ، وعطاء بن أبي رباح، وحكاه ابن المنذر عن قتادة، وسفيان الثوريّ، وحكى ابن عبد البرّ عن الثوريّ أنه إن نسيه حتى رجع إلى بلده أجزأه دم، وعن أبي حنيفة، وصاحبيه: إن تركه عمدًا، أو نسيانًا، فعليه دم، وذكر صاحب "الهداية" من الحنفيّة أن قوله تعالى:{لَا جُنَاحَ} يستعمل مثله للإباحة، فينفي الركنيّة، والإيجاب، ولأن الركنيّة لا تثبت إلا بدليل مقطوع به، ولم يوجد، ثم معنى ما رُوي: كتب استحبابًا، كما في قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الآية [البقرة: 180]. انتهى.
قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: [فإن قلت]: قد قال أوّلًا بالوجوب، فكيف قال آخرًا بالاستحباب؟.
[قلت]: لم يقل آخرًا بالاستحباب، وإنما قال: إن مثل هذه الصيغة، وهي "كُتب" تستعمل في الاستحباب، كما في الآية التي استشهد بها، ثم هو منازع فيما ذكره في هذه الآية، بل هي على بابها من الوجوب، وكانت قبل نزول آية المواريث، ثم نُسِخت بها، كما هو مقرر في التفسير، والله أعلم انتهى.
(المذهب الثالث): أنه سنة، ليس بركن، ولا واجب، وهو رواية عن أحمد، ورواه ابن أبي شيبة عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: إن شاء سعى، وإن شاء لم يسع، وعن عطاء: أنه كان لا يرى على من لم يسعَ شيئًا، قيل له: قد ترك شيئًا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ليس عليه، وكان يفتي في العلانية بدم، وقال ابن المنذر: كان أنس بن مالك، وعبد الله بن الزبير، وابن سيرين رضي الله عنهم يقولون: هو تطوّع، وقد روينا أن في مصحف أُبيّ بن كعب، وابن مسعود:"فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما"، وحكى ابن حزم أن ابن عباس كان يقرأ:"فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما"، ثم قال: هذا قول من ابن عباس، لا إدخال منه في القرآن، ثم حكى ابن حزم هذه القراءة عن أنس، قال: وهو قول عطاء، ومجاهد، وميمون بن مهران. وروى البيهقيّ في "المعرفة" هذه القراءة عن ابن عباس، وأنه قال: فنسختها هذه الآية: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130]، فلما نزلت طافوا بين الصفا والمروة، قال
البيهقيّ: وهذه الرواية إن صحّت تدلّ على أن الأمر فيه صار إلى الوجوب.
(المذهب الرابع): أن على من ترك السعي أن يأتي بعمرة، رواه ابن أبي شيبة عن طاوس، وحكاه عنه ابن المنذر.
(المذهب الخامس): أنه إن ترك من السعي أربعة أشواط، فعليه دم، وإن ترك دونها لزم لكلّ شوط نصف صاع، حكاه ابن المنذر عن أصحاب الرأي، وحكاه الدارميّ من الشافعية عن أبي حنيفة، قال: وحكى ابن القطان عن أبي عليّ قولًا كمذهب أبي حنيفة، قال النووي في "شرح المهذب": وهذا القول شاذّ غلطٌ.
وقال ابن المنذر: واختُلف عن عطاء، فروي عنه أنه لا شيء على من تركه، وروي عنه أنه قال: عليه دم، وروي عنه أنه قال: يطعم مساكين، أو يذبح شاة يطعمها المساكين. انتهى، وهذه الرواية الأخيرة عن عطاء قول سادس.
واعلم أن ابن العربيّ في "شرح الترمذيّ" حكى إجماع الأمة على أن السعي ركن في العمرة، وجعل الخلاف في الحج فقط.
قال الحافظ وليّ الدين: ولم أر لغيره تعرّضًا لذلك، ويخالفه صريحًا كلام ابن حزم، فإنه حكى الخلاف في العمرة، وحكي عن ابن عباس أنه قال: العمرة الطواف بالبيت، وكذلك ابن عبد البرّ حكى الخلاف عن أبي حنيفة، وصاحبيه في الحجّ والعمرة. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر من سوق المذاهب والنظر في أدلّتها أن أرجح المذاهب هو المذهب الأول، وهو مذهب الجمهور، وهو أن السعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحجّ والعمرة؛ لقوة أدلّته، كما تقدّم بيانها آنفًا.
والحاصل أن القول بركنيّة السعي هو الحقّ الذي لا مرية فيه، وليس لمخالفيه دليلٌ يُعتمد عليه، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3081] (
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: مَا أَرَى عَلَيَّ جُنَاحًا، أَنْ لَا أَتَطَوَّفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، قَالَتْ: لِمَ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ اللهَ عز وجل يَقُولُ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الْآيَةَ، فَقَالَتْ: لَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُ، لَكَانَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا، إِنَّمَا أُنْزِلَ
(1)
هَذَا فِي أُنَاسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، كَانُوا إِذَا أَهَلُّوا أَهَلُّوا لِمَنَاةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَطَّوَّفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا قَدِمُوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْحَجِّ ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، فَلَعَمْرِي مَا أَتَمَّ اللهُ حَجَّ
(2)
مَنْ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (أَنْ لَا أَتَطَوَّفَ إلخ) أي بأن لا أتطوف، أو في أن لا أتطوف، فهو بتقدير حرف الجرّ.
وقولها: (لَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُ إلخ) أي لو كان المراد بالنصّ ما تقول، وهو عدم الوجوب، لكان نظمه: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، تريد أن الذي يُستعمل للدلالة على عدم الوجوب عينًا، هو رفع الإثم عن الترك، وأما رفع الإثم عن الفعل، فقد يُستعمل في المباح، وقد يستعمل في المندوب، أو الواجب أيضًا، بناء على أن المخاطب يتوهّم فيه الإثم، فيخاطب بنفي الإثم، وإن كان الفعل في نفسه واجبًا، وفيما نحن فيه كذلك، فلو كان المقصود في هذا المقام الدلالة على عدم الوجوب عينًا لكان الكلام اللائق بهذه الدلالة أن
(1)
وفي نسخة: "إنما أنزل الله".
(2)
وفي نسخة: "الحجّ".
يقال: فلا جناح عليه أن لا يتطوّف بهما، قاله السنديّ رحمه الله في "شرح النسائيّ"
(1)
.
وقال السيوطيّ رحمه الله في "شرح النسائيّ": هذا من بديع فقهها؛ لأن ظاهر الآية رفع الجناح عن الطائف بالصفا والمروة، وليس هو بنصّ في سقوط الوجوب، فأخبرته أن ذلك مُحْتَمِلٌ، ولو كان نصًّا في ذلك لقال: فلا جناح عليه أن لا يطوف؛ لأن هذا يتضمّن سقوط الإثم عمن ترك الطواف، ثم أخبرته أن ذلك إنما كان؛ لأن الأنصار تحرّجوا بذلك الموضع في الإسلام، فأخبروا أن لا حرج عليهم. انتهى
(2)
.
وقولها: (فَلَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَطَّوَّفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) قال في "الفتح": ظاهره أنهم كانوا في الجاهلية لا يطوفون بين الصفا والمروة، ويقتصرون على الطواف بمناة، فسألوا عن حكم الإسلام في ذلك، ويصرّح بذلك رواية سفيان التالية بلفظ:"وإنما كان من أهلّ بمناة الطاغية التي بالمشلّل لا يطوفون بين الصفا والمروة"، وفي رواية معمر، عن الزهريّ:"إنا كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيمًا لمناة"، أخرجه البخاريّ تعليقًا، ووصله أحمد وغيره، وفي رواية يونس، عن الزهريّ الآتية عند مسلم بعد حديثين:"أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا هم وغسّان يُهلّون لمناة، فتحرّجوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة، وكان ذلك سنّة في آبائهم، من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة"، فطُرق الزهريّ متّفقة.
وقد اختُلِف فيه على هشام بن عروة، عن أبيه، فرواه مالك عنه بنحو رواية شعيب عن الزهريّ، ورواه أبو أسامة عنه بلفظ:"إنما أنزل الله هذا في أناس من الأنصار كانوا إذا أهلّوا لمناة في الجاهلية، فلا يحلّ لهم أن يطوفوا بين الصفا والمروة"، أخرجه مسلم -يعني هذه الرواية-.
وظاهره يوافق رواية الزهريّ، وبذلك جزم محمد بن إسحاق فيما رواه الفاكهيّ من طريق عثمان بن وَسّاج، عنه: "أن عمرو بن لُحيّ نَصَب مناةَ على
(1)
"شرح السنديّ على النسائيّ" 5/ 238.
(2)
"زهر الربى في شرح المجتبى" 5/ 238، 239.
ساحل البحر مما يلي قُديدًا، فكانت الأزد، وغسّان يحجّونها، ويعظّمونها، إذا طافوا بالبيت، وأفاضوا من عرفات، وفرغوا من منى أتوا مناة، فأهلّوا لها، فمن أهلّ لها لم يطف بين الصفا والمروة، قال: وكانت مناة للأوس، والخزرج، والأزد، من غسّان، ومن دان دينهم من أهل يثرب"، فهذا يوافق رواية الزهريّ.
قال: وأخرج مسلم من طريق أبي معاوية -يعني الرواية الماضية- عن هشام هذا الحديث، فخالف جميع ما تقدّم، ولفظه:"إنما كان ذلك؛ لأن الأنصار كانوا يُهلّون في الجاهليّة لصنمين على شطّ البحر، يقال لهما: إساف، ونائلة، فيطوفون بين الصفا والمروة، ثم يحلّون، فلما جاء الإسلام كرهوا أن يطوفوا بينهما للذي كانوا يصنعون في الجاهلية". فهذه الرواية تقتضي أن تحرّجهم إنما كان لئلا يفعلوا في الإسلام شيئًا كانوا يفعلونه في الجاهليّة؛ لأن الإسلام أبطل أفعال الجاهلية إلا ما أذن فيه الشارع، فخَشُوا أن يكون ذلك من أمر الجاهلية الذي أبطله الشارع، فهذه الرواية توجيهها ظاهر، بخلاف رواية أبي أسامة، فإنها تقتضي أن التحرّج عن الطواف بين الصفا والمروة؛ لكونهم كانوا لا يفعلونه في الجاهلية، ولا يلزم من تركهم فعل شيء في الجاهلية أن يتحرّجوا من فعله في الإسلام، ولولا الزيادة التي من طريق يونس، حيث قال: وكانت سنّة في آبائهم إلخ، لكان الجمع بين الروايتين ممكنًا بأن نقول: وقع في رواية الزهريّ حذفٌ تقديره: أنهم كانوا يُهلون في الجاهلية لمناة، ثم يطوفون بين الصفا والمروة، فكان من أهلّ أي بعد ذلك في الإسلام يتحرّج أن يطوف بين الصفا والمروة؛ لئلا يضاهي فعل الجاهليّة.
ويمكن أيضًا أن يكون في رواية أبي أسامة حذفٌ تقديره: كانوا إذا أهلّوا لمناة في الجاهلية، فجاء الإسلام، فظنّوا أنه أبطل ذلك، فلا يحلّ لهم.
ويبيّن ذلك رواية أبي معاوية المذكورة، حيث قال فيها:"فلما جاء الإسلام كرهوا أن يطوفوا بينهما للذي كانوا يصنعون في الجاهليّة"، إلا أنه وقع فيها وهَمٌ غير هذا، نبّه عليه عياض، فقال: قوله: "لصنمين على شطّ البحر" وَهَمٌ، فإنهما ما كانا قطّ على شطّ البحر، وإنما كانا على الصفا والمروة، إنما كانت مناة مما يلي جهة البحر. انتهى.
وسقط من روايته أيضًا إهلالهم أَوّلًا لمناة، فكأنهم كانوا يهلّون لمناة، فيبدؤون بها، ثم يطوفون بين الصفا والمروة لأجل إساف ونائلة، فمن ثمّ تحرّجوا من الطواف بينهما في الإسلام.
قال: ويؤيد ما ذكرناه حديث أنس المذكور عند البخاريّ بلفظ: "أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة؟ فقال: نعم؛ لأنَّها كانت من شعار الجاهلية".
وروى النسائيّ بإسناد قويّ، عن زيد بن حارثة، قال: "كان على الصفا والمروة صنمان من نحاس، يقال لهما: إساف ونائلة، كان المشركون إذا طافوا تمسّحوا بهما
…
" الحديث. وروى الطبرانيّ، وابن أبي حاتم في "التفسير" بإسناد حسن، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "قالت الأنصار: إن السعي بين الصفا والمروة من أمر الجاهليّة، فأنزل الله عز وجل:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية [البقرة: 158] ".
وروى الفاكهيّ، وإسماعيل القاضي في "الإحكام" بإسناد صحيح عن الشعبيّ، قال: "كان صنم بالصفا يُدْعَى إساف، ووثن بالمروة يدعى نائلة، فكان أهل الجاهلية يسعون بينهما، فلما جاء الإسلام رمى
(1)
بهما، وقالوا: إنما كان ذلك يصنعه أهل الجاهلية من أجل أوثانهم، فأمسكوا عن السعي بينهما، قال: فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية [البقرة: 158] ".
وذكر الواحديّ في "أسبابه" عن ابن عباس نحو هذا، وزاد فيه: يزعم أهل الكتاب أنهما زنيا في الكعبة، فمُسِخا حجرين، فوُضِعا على الصفا والمروة؛ ليُعْتَبَر بهما، فلما طالت المدة عُبِدَا، والباقي نحوه.
وروى الفاكهي بإسناد صحيح إلى أبي مِجْلَز نحوه.
وفي "كتاب مكة" لعمر بن شبّه بإسناد قويّ عن مجاهد في هذه الآية، قال: قالت الأنصار: إن السعي بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية، فنزلت.
ومن طريق الكلبيّ، قال: كان الناس أول ما أسلموا كرهوا الطواف
(1)
كذا نسخة "الفتح"، ولعل الصواب:"رَمَوْا"، فليُحرّر.
بينهما؛ لأنه كان على كل واحد منهما صنم، فنزلت، فهذا كله يوضح قوة رواية أبي معاوية، وتقدّمها على رواية غيره.
وَيحْتَمِل أن يكون الأنصار في الجاهلية كانوا فريقين: منهم من كان يطوف بينهما على ما اقتضته رواية أبي معاوية، ومنهم من كان لا يقربهما على ما اقتضته رواية الزهريّ، واشترك الفريقان في الإسلام على التوقّف عن الطواف بينهما لكونه كان عندهم جميعًا من أفعال الجاهلية، فيجمع بين الروايتين بهذا، وقد أشار إلى نحو هذا الجمع البيهقيّ رحمه الله. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الجمع الأخير أحسن، وأقرب، فتأمل، والله تعالى أعلم. والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تمام البحث فيه في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3082] (
…
) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، جَمِيعًا عَن ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ، يُحَدِّثُ عَنْ عُرْوَةَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَا أَرَى عَلَى أَحَدٍ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ شَيْئًا، وَمَا أُبَالِي أَنْ لَا أَطُوفَ بَيْنَهُمَا، قَالَتْ: بِئْسَمَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِي، طَافَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَطَافَ الْمُسْلِمُونَ، فَكَانَتْ سُنَّةً، وَإِنَّمَا كَانَ مَنْ أَهَلَّ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي بِالْمُشَلَّلِ، لَا يَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ، سَأَلْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]، وَلَوْ كَانَتْ كمَا تَقُولُ، لَكَانَتْ: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْعِلْمُ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ
(1)
"الفتح" 4/ 580، 581.
يَقُولُونَ: إِنَّمَا كَانَ مَنْ لَا يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنَ الْعَرَبِ، يَقُولُونَ: إِنَّ طَوَافَنَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَجَرَيْنِ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، وقَالَ آخَرُونَ مِنَ الْأَنْصَارِ: إِنَّمَا أُمِرْنَا بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَلَمْ نُؤْمَرْ بِهِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَنْزَلَ اللهُ:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} .
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: فَأُرَاهَا قَدْ نَزَلَتْ فِي هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو عمرو بن محمد بن بُكير، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
4 -
(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم، تقدّم في الباب الماضي.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقولها: (بِئْسَمَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِي) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في أكثر النسخ بالتاء، وفي بعضها:"أخي" بحذف التاء، وكلاهما صحيح، والأول أصحّ وأشهر، وهو المعروف في غير هذه الرواية. انتهى.
وقولها: (لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ) - بفتح الميم والنون الخفيفة -: صنمٌ كان في الجاهلية، وقال ابن الكلبيّ: كانت صخرة نصبها عمرو بن لُحيّ لهُذيل، وكانوا يعبدونها، و"الطاغية" صفة لها إسلامية.
وقولها: (الَّتِي بِالْمُشَلَّلِ) - بضم أوله، وفتح المعجمة، ولامين، الأولى مفتوحة مثقّلة -: هي الثنيّة المشرفة على قُديد، وفي رواية للبخاريّ:"كانوا يُهلّون لمناة، وكانت مناةُ حَذْوَ قُديد"، أي مقابله، و"قُديد" بقاف مصغّرًا: قرية جامعة، بين مكة والمدينة، كثيرة المياه. قاله أبو عُبيد البكريّ
(1)
.
وقولها: (سَأَلْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ) أي سأل الصحابة رضي الله عنهم.
(1)
راجع: "الفتح" 4/ 579.
وقوله: (قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ) أي ما حدّثه به عروة عن عائشة من القصّة المذكورة.
وقوله: (لِأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامِ) بن المغيرة المخزوميّ المدنيّ، قيل: اسمه محمد، وقيل: المغيرة، وقيل: أبَو بكر اسمه، وكنيته أبو عبد الرَّحمن، المدنيّ الفقيه العابد المتوفّى سنة (94 هـ)، وقيل غير ذلك، تقدّم في "الإيمان" 26/ 210.
وقوله: (إِنَّ هَذَا الْعِلْمُ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع نسخ بلادنا، قال القاضي عياض رحمه الله: ورُوي: "إنّ هذا لَعِلْمٌ" بالتنوين، وكلاهما صحيحٌ، ومعنى الأول: إن هذا هو العلم المتقن، ومعناه استحسان قول عائشة رضي الله عنها، وبلاغتها في تفسير الآية الكريمة. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "إن هذا العلم" كذا للأكثر: أي إن هذا هو العلم المتين، وللكشميهني:"إن هذا لعلمٌ" بفتح اللام المؤكّدة، وبالتنوين، على أنه الخبر.
وقوله: (وَلَقَدْ سَمِعْتُ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ إلخ) وفي رواية البخاريّ: "ولقد سمعتُ رجالًا من أهل العلم يذكرون أن الناس إلا من ذَكَرت عائشة ممن كان يُهلّ بمناة كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة، فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت، ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن، قالوا: يا رسول الله، كنا نطوف بالصفا والمروة، وإن الله أنزل الطواف بالبيت، فلم يذكر الصفا، فهل علينا من حرج أن نطوف بالصفا والمروة؟، فأنزل الله تعالى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية [البقرة: 158].
قال أبو بكر: فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما، في الذين كانوا يتحرّجون أن يطوفوا بالجاهلية بالصفا والمروة، والذين يطوفون، ثم تحرّجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام من أجل أن الله أمر بالطواف بالبيت، ولم يذكر الصفا، حتى ذكر ذلك بعدما ذكر الطواف بالبيت".
قال في "الفتح": وقوله: "إلا من ذكرت عائشة" إنما ساغ له هذا
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 23.
الاستثناء مع أن الرجال الذين أخبروه أطلقوا ذلك؛ لبيان الخبر عنده من رواية الزهري له عن عروة عنها.
ومحصل ما أخبر به أبو بكر بن عبد الرحمن، أن المانع لهم من التطوف بينهما، أنهم كانوا يطوفون بالبيت وبين الصفا والمروة في الجاهلية، فلما أنزل الله الطواف بالبيت، ولم يذكر الطواف بينهما ظنوا رفع ذلك الحكم، فسألوا هل عليهم من حرج إن فعلوا ذلك، بناء على ما ظنوه من أن التطوف بينهما من فعل الجاهلية.
وقوله: "حتى ذكر ذلك بعدما ذكر الطواف بالبيت" يعني تأخر نزول آية البقرة في الصفا والمروة عن آية الحج، وهي قوله تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحجّ: 29] انتهى
(1)
.
وقوله: (فَأُرَاهَا قَدْ نَزَلَتْ فِي هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ) ضبطوه بضم الهمزة، من "أَراها"، وفتحها، والضم أحسن وأشهر، أي أظنها.
وفي رواية البخاري المذكورة: "فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين".
وحاصل كلامه أن سبب نزول الآية على هذا الأسلوب، كان للرد على الفريقين، الذين تحرجوا أن يطوفوا بينهما؛ لكونه عندهم من أفعال الجاهلية، والذين امتنعوا من الطواف بينهما؛ لكونهما لم يذكرا
(2)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3083] (
…
) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا حُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنَّي، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِهِ، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: فَلَمَّا سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطُوفَ بِالصَّفَا
(1)
"الفتح" 4/ 581، 582.
(2)
راجع: "الفتح" 9/ 582.
وَالْمَرْوَةِ، فَأَنْزَلَ اللهُ:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ، قَالَتْ عَائِشَةُ: قَدْ سَنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بِهِمَا).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(حُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو عُمير اليماميّ، سكن بغداد، وولي قضاء خُرَاسان، ثقةٌ [9] مات ببغداد سنة (205) أو قبل ذلك (خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 81/ 437.
3 -
(لَيْثُ) بن سعد بن عبد الرحمن الفهميّ، أبو الحارث المصريّ الإمام المشهور، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ حجة [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 412.
4 -
(عُقَيْلُ) بن خالد الأيليّ، أبو خالد الأمويّ مولاهم، سكن المدينة، ثم الشام، ثم مصر، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 144) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 133.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِهِ) الفاعل ضمير عُقيل، أي ساق عُقيل الحديث عن ابن شهاب، بنحو سياق ابن عُيينة عنه. وقولها:(إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ) أي نُجانب الإثم، قال الفيّوميّ رحمه الله: حَرِجَ الرجلُ، من باب تَعِبَ: أَثِمَ، ورجلٌ حَرِجٌ: آثمٌ، وتحرّج الإنسان تحرّجًا: مما ورد لفظه مخالفًا لمعناه، والمراد: فَعَلَ فِعلًا جانب به الْحَرَجَ، كما يقال: تحنّث: إذا فَعَلَ ما يخرج به عن الْحِنث، قال ابن الأعرابيّ: للعرب أفعالٌ، تخالف معانيها ألفاظها، قالوا: تَحَرَّجَ، وتَحَنَّثَ، وتَأَثَّمَ، وتَهَجَّدَ: إذا ترك الْهُجُود
(1)
، ومن هذا الباب ما ورد بلفظ الدعاء، ولا يراد به الدعاء، بل الحثّ والتحريض، كقوله: تَرِبَتْ يداك، وعَقْرَى حَلْقَي، وما أشبه ذلك. انتهى
(2)
.
(1)
أي النوم.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 127، 128.
وقولها: (قَدْ سَنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلخ) أي فرضه، وجعله ركنًا بالسنّة، وليس مرادها نفي فرضيّته، ويؤيّد هذا قولها:"ما أتمّ الله حجّ من لم يطف بين الصفا والمروة"، وفي لفظ:"ما أتمّ الله حج امرئ، ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة".
وقال القرطبيّ رحمه الله: قولها: "قد سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم "الطواف بينهما"؛ سَنّ: بمعنى شَرَع وبيَّن، وهو ركن واجب من أركان الحج والعمرة عند جمهور السلف، وفقهاء الخلف، كما تقدم، ولا ينجبر بالدَّم، ومن تركه، أو شوطًا منه عاد إليه ما لم يُصِب النساء؛ فإن أصاب أعاد قابلًا حجة أو عمرة.
واستدل الجمهور: بأن الله تعالى قد جعله من الشعائر، وفعله النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال:"خذوا عني مناسككم"، وبحديث حبيبة بنت أبي تِجْراة الشيبية، قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة، وهو يقول:"اسْعَوْا، فإن الله كتب عليكم السعي"، غير أن هذا الحديث تفرَّد به عبد الله بن المؤمِّل، وهو سيئ الحفظ
(1)
، وقد تقدّم الكلام فيه.
[تنبيه]: رواية الليث، عن ابن شهاب هذه ساقها الطبريّ رحمه الله
(2)
في "تفسيره" 2/ 47 فقال: حدّثني المثني، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدّثني الليث، قال: حدّثني عُقيل، عن ابن شهاب، قال: حدّثني عروة بن الزبير، قال: سألت عائشة، فقلت لها: أرأيت قول الله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ، وقلت لعائشة: والله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة، فقالت عائشة: بئسما قلت يا ابن أختي، إن هذه الآية لو كانت كما أوّلتها كانت: لا جناح عليه أن لا يطوف بهما، ولكنها إنما أُنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يُهِلّون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدون بالْمُشَلَّل، وكان مَن أهلّ لها يتحرج أن
(1)
"المفهم" 3/ 385.
(2)
رواية الليث هذه ساقها أيضًا أبو عوانة في "مسنده"، فكان العزو إليه أقرب، لكني اخترت رواية الطبريّ؛ لكونها أقرب إلى رواية المصنّف، وأما أبو عوانة فساقها مطوّلة بقصّة أبي بكر بن عبد الرحمن المذكورة، فتنبّه.
يطوف بين الصفا والمروة، فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقالوا: يا رسول الله، إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، أنزل الله تعالى ذكره:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ، قالت عائشة: ثم قد سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم "الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما. انتهي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3084] (
…
) - (وَحَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَي، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا هُمْ وَغَسَّانُ، يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ، فَتَحَرَّجُوا أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ سُنَّةً فِي آبَائِهِمْ، مَنْ أَحْرَمَ لِمَنَاةَ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَإِنَّهُمْ سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ حِينَ أَسْلَمُوا، فَأَنْزَلَ اللهُ فِي ذَلِكَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)}).
رجال هذا الإسناد: ستة:
وكلّهم تقدّموا في الباب، والباب الذي قبله.
وقولها: (وَغَسَّانُ) بفتح الغين المعجمة، والسين المهملة المشدّدة: آخره نون: اسم قبيلة من الأزد، قاله في "اللباب"
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3085](1278) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَت الْأَنْصَارُ يَكْرَهُونَ أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 144.
وَالْمَرْوَةِ، حَتَّى نَزَلَتْ:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(عَاصِمُ) بن سليمان الأحول، تقدّم قبل باب.
2 -
(أَنَسُ) بن مالك الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.
والباقيان ذُكرا في الباب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (191) من رباعيّات الكتاب.
وقوله: (كَانَت الْأَنْصَارُ يَكْرَهُونَ أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) وفي رواية البخاريّ من طريق ابن المبارك، عن عاصم، قال: قلت لابن مالك رضي الله عنه: أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة؟ قال: نعم؛ لأنَّها كانت من شعائر الجاهليّة، حتى أنزل الله:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]، وتمام شرح الحديث سبق في الحديث الماضي.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا [40/ 3085](1278)، و (البخاريّ) في "الحجِّ"(1648) و"التفسير"(4496)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(2966)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(3959)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2768)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 331)، و (البغويّ) في "تفسيره"(1/ 33)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(41) - (بَابُ بَيَانِ أَنَّ السَّعْيَ لَا يُكَرَّرُ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3086](1279) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَن ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: لَمْ يَطُفِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا أَصْحَابُهُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إِلَّا طَوَافًا وَاحِدًا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون، تقدّم قريبًا.
2 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، تقدَّم قبل ثلاثة أبواب.
والباقيان تقدّما قبل باب.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، أنه قال:(أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ (أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما (يَقُولُ: لَمْ يَطُفْ) أي لَمْ يَسْعَ (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا أَصْحَابُهُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إِلَّا طَوَافًا وَاحِدًا) زاد في الرواية التالية: "طوافه الأول"، قال النوويّ رحمه الله: فيه دليل على أن السعي في الحجِّ، أو العمرة لا يُكَرَّر، بل يُقْتَصر منه على مرّة واحدة، ويكره تكراره؛ لأنه بدعةٌ، وفيه دليل لما قدّمناه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان قارنًا، وأن القارن يكفيه طوافٌ واحدٌ، وسعيٌ واحدٌ، وقد سبق خلاف أبي حنيفة وغيره في المسألة، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال العلامة ابن القيّم رحمه الله: حديث جابر رضي الله عنه هذا يوافق قول من يقول: يكفي المتمتع سعيٌ واحدٌ، كما هو إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله،
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 25.
نصَّ عليها في رواية ابنه عبد الله وغيره، وعلى هذا فيقال: عائشة أثبتت وجابر نفى والمثبت مقدم على النافي، أو يقال: مراد جابر رضي الله عنه مَن قَرَن مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وساق الهدي، كأبي بكر وعمر وطلحة وعليّ رضي الله عنهم، وذوي اليسار، فإنهم إنما سعوا سعيًا واحدًا، وليس المراد به عموم الصحابة رضي الله عنهم، أو يُعَلَّل حديث عائشة رضي الله عنها بأن تلك الزيادة فيه مدرجة من قول هشام، وهذه ثلاث طرق للناس في حديثها، والله أعلم. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله.
قال الجامع عفا الله عنه: حملُ حديث جابر رضي الله عنه على أن المراد مَنْ قَرَنَ مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، لا عموم الصحابة رضي الله عنهم القارنين والمتمتّعين هو الأرجح والأقرب، فتأمله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا [41/ 3086 و 3087](1279)، و (أبو داود) في "المناسك"(1895)، و (النسائيّ) في "المناسك"(5/ 244) و"الكبرى"(2/ 416 و 462)، و (ابن ماجة" في "المناسك" (2972 و 2973)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2768)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3819 و 3914)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 292)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 317)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2012)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 327)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 313 و 363)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(11/ 55)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 342)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 204)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 258 - 259)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 106) و"الصغرى"(4/ 202 و 289) و"المعرفة"(4/ 96)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3087] (
…
) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ، وَقَالَ: إِلَّا طَوَافًا وَاحِدًا، طَوَافَهُ الْأَوَّلَ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسّيّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ) الْبُرْسانيّ، تقدّم أيضًا قبل باب.
و"ابن جريجٍ" ذُكر قبله.
وقوله: (طَوَافَهُ الْأَوَّلَ) بالنصب على البدليّة من "طَوَافًا".
[تنبيه]: رواية محمد بن بكر، عن ابن جُريج، ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" 2/ 327 فقال:
(3315)
- حدّثنا عمار بن رجاء، نا محمد بن بكر الْبُرْسانيّ، أنا ابن جريجٍ، قال: حدّثني أبو الزبير، أنه سمع جابرًا يقول:"لم يطف النبيّ صلى الله عليه وسلم "، ولا أصحابه بين الصفا والمروة، إلا طوافًا واحدًا، طوافه الأول". انتهي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(42) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ إِدَامَةِ الْحَاجِّ التَّلْبِيَةَ حَتَّى يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3088](1280) - (حَدَّثَنَا
(1)
يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَعِيلُ (ع) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَي، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ
(1)
وفي نسخة: "حدّثني".
عَبَّاسٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: رَدِفْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَرَفَاتٍ، فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الشِّعْبَ الْأَيْسَرَ الَّذِي دُونَ الْمُزْدَلِفَةِ أَنَاخَ، فَبَالَ، ثُمَّ جَاءَ، فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ الْوَضُوءَ، فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا، ثُمَّ قُلْتُ: الصَّلَاةَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: "الصَّلَاةُ أَمَامَكَ"، فَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّي، ثُمَّ رَدِفَ الْفَضْلُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ جَمْعٍ.
قَالَ كُرَيْبٌ: فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ، عَن الْفَضْلِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى بَلَغَ الْجَمْرَةَ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ، أبو زكرياء البغداديّ، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 234)(عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
2 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 40)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
3 -
(ابْنُ حُجْرٍ) هو: عليّ بن حُجر السعديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظ، من صغار [9](ت 244) وقد قارب المائة، أو جاوزها (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
4 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، أبو زكرياء النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](226) على الصحيح (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
5 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق المدنيّ القارئ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
6 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَرْمَلَةَ) القرشيّ المدنيّ، مولى ابن حُويطب، ثقةٌ [6] مات سنة بضع و (130)(خ م د ت س) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 54/ 1934.
7 -
(كُرَيْبٌ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) ابن أبي مسلم الهاشميّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 98)(ع) تقدم في "الحيض" 2/ 688.
8 -
(أُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ) بن حارثة بن شَرَاحيل الكلبيّ الأمير، أبو محمد، وأبو زيد الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه بالمدينة سنة (54)، وهو ابن (75) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 284.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه أربعة من الشيوخ قرن بين الثلاثة منهم؛ لاتحاد كيفيّة الأخذ والأداء، حيث إنهم سمعوا من لفظ إسماعيل، ولذا قالوا:"حدّثنا"، وأفرد واحدًا؛ لمخالفته لهم في ذلك، حيث إنه سمع قراءة قارئ على شيخه، ولذا قال:"أخبرنا"، وهذا من مستحسنات الأداء، وليس واجبًا، كما قال في "ألفيّة الحديث":
وَاسْتَحْسَنُوا لِمُفْرَدٍ "حَدَّثَنِي" .. وَقَارِئٍ بِنَفْسِهِ "أَخْبَرَنِي"
وَإِنْ يُحَدِّثْ جُمْلَةً "حَدَّثَنَا"
…
وَإِنْ سَمِعْتَ قَارِئًا "أَخْبَرَنَا"
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيوخه، كما أسلفته آنفًا.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.
شرح الحديث:
(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ) هو المدنيّ، مولى آل حُويطب، ولا يعرف اسم أبيه، وكان خُصَيف يروي عنه، فيقول: حدّثني محمد بن حُويطب، فذكر ابن حبّان أن خُصيفًا كان ينسبه إلى جدّ مواليه، قاله في "الفتح"
(1)
.
(عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ) رضي الله عنهما.
[تنبيه]: كون هذه الرواية عن كريب، عن أسامة، دون ذكر واسطة بينهما، هو الذي في "الصحيحين" وغيرهما، ووقع في رواية للنسائيّ من طريق سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن عقبة، ومحمد بن أبي حرملة، كلاهما عن كريب، عن ابن عبّاس، عن أسامة بن زيد، بذكر واسطة ابن عبّاس بين كريب وأسامة، والأول هو الصحيح، كما أشار إليه الحافظ المزيّ رحمه الله، فإنه قال بعد ذكر رواية النسائيّ المذكورة: كذا قال، والصحيح عن أسامة. انتهى
(2)
.
(قَالَ: رَدِفْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بكسر الدال: أي رَكِبت وراءه، وفيه الركوب حال الدفع من عرفة، والارتداف على الدابة، ومحله إذا كانت مُطيقة، وارتداف أهل الفضل، ويُعَدّ ذلك من إكرامهم للرديف، لا من سوء أدبه (مِنْ
(1)
"الفتح" 4/ 611، 612.
(2)
"تحفة الأشراف" 1/ 166.
عَرَفَاتٍ) متعلّق بـ "رَدِفتُ"(فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الشِّعْبَ) بكسر الشين المعجمة، وسكون العين المهملة: الطريق، وقيل: الطريق في الجبل، والمراد به هنا الشِّعب المعهود للحجّاج، كما وصفه بقوله:(الْأَيْسَرَ) بالنصب على الوصفيّة لـ "لشعب"، وكذا قوله:(الَّذِي دُونَ الْمُزْدَلِفَةِ) أي قبل الوصول إليها (أَنَاخَ) يقال: أَنَخْتُ الجملَ: إذا أبركته، فأناخ الجمل نفسُهُ، وفيه استعمال أفعل لازمًا ومتعدّيًا، وهو كثير، وقال ابن الأعرابيّ: يقال: أناخ رباعيًّا، ولا يقال: ناخ ثلاثيًّا، قاله في "التاج"
(1)
.
وقال الفيّوميّ: أناخ الرجل الجملَ إناخةً، قالوا: ولا يقال في المطاوع: فناخ، بل يقال: فبَرَكَ، وتنوّخ، وقد يقال: فاستناخ، والْمُنَاخ بضمّ الميم: موضع الإناخة. انتهى
(2)
.
(فَبَالَ، ثُمَّ جَاءَ) أي من محلّ البول (فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ الْوَضُوءَ) بفتح الواو، وهو الماء الذي يُتوضّأ به، وسبق فيه لغة أنه يقال بالضمّ، وليست بشيء.
قال: وفيه دليل على جواز الاستعانة في الوضوء، قال أصحابنا: الاستعانة فيه ثلاثة أقسام: [أحدها]: أن يستعين في إحضار الماء من البئر، والبيت، ونحوهما، وتقديمِهِ إليه، وهذا جائز، ولا يقال: إنه خلاف الأولى.
[والثاني]: أن يستعين بمن يَغسِل الأعضاء، فهذا مكروه كراهة تنزيه، إلا أن يكون معذورًا بمرض أو غيره.
[والثالث]: أن يستعين بمن يَصُبّ عليه، فإن كان لعذر فلا بأس، وإلا فهو خلاف الأولي، وهل يسمى مكروهًا؟ فيه وجهان لأصحابنا، أصحهما ليس بمكروه؛ لأنه لم يثبت فيه نهيٌ، وأما استعانة النبيّ صلى الله عليه وسلم بأسامة، والمغيرة بن شعبة، في غزوة تبوك، وبالرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ، فلبيان الجواز، ويكون أفضل في حقه حينئذ؛ لأنه مأمور بالبيان، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله في الثاني: "مكروه كراهة تنزيه" فيه نظر لا يخفى؛ لأن الظاهر عدم جوازه أصلًا؛ لأن المأمور به في الأصل غسل
(1)
"تاج العروس من جواهر القاموس" 2/ 284.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 629.
(3)
"شرح النوويّ" 9/ 26.
المكلّف أعضاءه بنفسه، فكما لا يصلّي أحد عن غيره، فكذلك الوضوء، إلا إذا دلّ دليل على خلاف ذلك، مثل صبّ الماء، ونحوه، ولم يوجد في هذا دليلٌ، فيبقى على الأصل، وقد تقدّم تحقيق ذلك في "كتاب الطهارة" من هذا الشرح، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
(فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا) أي: خففه، بأن توضأ مرةً مرةً، أو خَفَّفَ استعمال الماء بالنسبة إلى غالب عادته صلى الله عليه وسلم، وهذا معنى قوله في رواية مالك الآتية بعد باب، بلفظ:"ولم يسبغ الوضوء"، وأغرب ابن عبد البر، فقال: معنى قوله: "ولم يسبغ الوضوء"، أي استنجى به، وأطلق عليه اسم الوضوء اللغويّ؛ لأنه من الوضاءة، وهي النظافة، ومعنى الإسباغ الإكمال، أي لم يكمل وضوءه، فيتوضأ للصلاة، قال: وقد قيل: إنه توضأ وضوءًا خفيفًا، ولكن الأصول تدفع هذا؛ لأنه لا يُشْرَع الوضوء لصلاة واحدة مرتين، وليس ذلك في رواية مالك، ثم قال: وقد قيل: إن معنى قوله: "ولم يسبغ الوضوء"، أي لم يتوضأ في جميع أعضاء الوضوء، بل اقتصر على بعضها، واستضعفه. انتهى.
وحَكَى ابن بطال أن عيسى بن دينار من قدماء أصحابهم سبق ابن عبد البرّ إلى ما اختاره أوّلًا، وهو متعقب بهذه الرواية الصريحة، وقد تابع محمد بن أبي حرملة عليها محمد بن عقبة أخو موسي، أخرجه مسلم بعد باب بمثل لفظه، وتابعهما إبراهيم بن عقبة أخو موسى أيضًا، أخرجه مسلم أيضًا بعد باب بلفظ:"فتوضأ وضوءًا ليس بالبالغ".
وفي رواية للبخاريّ في "الطهارة" من طريق يزيد بن هارون، عن يحيى بن سعيد، عن موسى بن عقبة، بلفظ:"فجعلت أصبّ عليه، ويتوضأ"، ولم تكن عادته صلى الله عليه وسلم أن يباشر ذلك أحد منه حال الاستنجاء.
ويوضحه ما أخرجه مسلم أيضًا بعد باب من طريق عطاء مولى ابن سباع، عن أسامة، في هذه القصة قال فيها أيضًا:"ذهب إلى الغائط، فلما رجع صببت عليه من الإداوة".
قال القرطبيّ رحمه الله: اختَلَف الشراح في قوله: "ولم يسبغ الوضوء"، هل المراد به: اقتَصَر به على بعض الأعضاء، فيكون وضوءًا لغويًّا، أو اقتَصَر على بعض العدد، فيكون وضوءًا شرعيًّا؟، قال: وكلاهما مُحْتَمِلٌ، لكن يعضد من
قال بالثاني قوله في الرواية الأخرى: "وضوءًا خفيفًا"؛ لأنه لا يقال في الناقص خفيف، ومن موضحات ذلك أيضًا قول أسامة رضي الله عنه له:"الصلاةَ"، فإنه يدلّ على أنه رآه يتوضأ وضوءه للصلاة، ولذلك قال له:"أتصلي؟ "، كذا قال ابن بطال، وفيه نظرٌ؛ لأنه لا مانع أن يقول له ذلك؛ لاحتمال أن يكون مراده: أتريد الصلاة؟ فلمَ لمْ تتوضأ وضوءها؟، وجوابه بأن الصلاة أمامك، معناه أن المغرب لا تصلى هنا، فلا تحتاج إلى وضوء الصلاة، وكأن أسامة رضي الله عنه ظَنّ أنه صلى الله عليه وسلم نسي صلاة المغرب، ورأى وقتها قد كاد أن يخرج، أو خرج، فأعلمه النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها في تلك الليلة يشرع تأخيرها؛ لتُجْمَع مع العشاء بالمزدلفة، ولم يكن أسامة يَعْرِف تلك السُّنّة قبل ذلك.
وأما اعتلال ابن عبد البر بأن الوضوء لا يُشْرَع مرتين لصلاة واحدة، فليس بلازم؛ لاحتمال أنه توضأ ثانيًا عن حدث طارئ، وليس الشرط بأنه لا يُشرع تجديد الوضوء إلا لمن أَدَّى به صلاةً فرضًا أو نَفْلًا متّفقًا عليه، بل ذهب جماعة إلى جوازه، وإن كان الأصح خلافه.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم تحقيق هذه المسألة في "كتاب الطهارة"، وأن الأرجح أن تجديد الوضوء مشروع، وإن لم يؤدّ به عبادةً؛ لأن الوضوء وإن كان وسيلة للصلاة، إلا أنه عبادة مستقلّة حيث تكفّر به الخطايا، كما سبق في حديث: "إذا توضأ العبد المسلم، فغسل وجهه، خرج من وجهه كلّ خطيئة نظر إليها بعينيه
…
" الحديث، فراجع شرح هذا الحديث، تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.
قال: وإنما توضأ أَوّلًا؛ ليستديم الطهارة، ولا سيّما في تلك الحالة؛ لكثرة الاحتياج إلى ذكر الله حينئذ، وخَفّف الوضوء؛ لقلة الماء حينئذ.
وقال الخطابيّ رحمه الله: إنما ترك إسباغه حين نزل الشِّعْب؛ ليكون مستصحبًا للطهارة في طريقه، وتجوز فيه؛ لأنه لم يرد أن يصلي به، فلما نزل، وأرادها أسبغه. انتهى
(1)
.
(ثُمَّ قُلْتُ: الصَّلَاةَ يَا رَسُولَ اللهِ؟) بنصب "الصلاةَ" على الإغراء، أو على
(1)
راجع: "الفتح" 4/ 612، 613.
إضمار فعل، أي: أتريد الصلاةَ، قال الحافظ رحمه الله:"ويؤيّده قوله في رواية: "أتصلي يا رسول الله؟ "، ويجوز الرفع على تقدير: حانت الصلاة، أو حَضَرَت مثلًا.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("الصَّلَاةُ أَمَامَكَ") برفع "الصلاةُ" على الابتداء، والخبر:"أمامك"، وهو بفتح الهمزة، أي قُدّامك، ثم إنه يحتمل نصبه على الظرفيّة، فيتعلّق بمحذوف خبرٍ عن المبتدأ، وَيحْتَمِل الرفع على أنه الخبر؛ لأنه من الظروف التي تقبل التصرّف
(1)
، كما قال في "الخلاصة":
وَمَا يُرَى ظَرْفًا وَغَيْرَ ظَرْفِ
…
فَذَاكَ ذُو تَصَرُّفٍ فِي الْعُرْفِ
يعني أن الصلاة ستصلى بين يديك، أو أطلق الصلاة على مكانها، أي المصلى بين يديك، أو معنى أمامك لا تفوتك، وستدركها، وفيه تذكير التابع بما تركه متبوعه؛ ليفعله، أو يَعْتَذِر عنه، أو يُبَيِّن له وجه صوابه، قاله في "الفتح"
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: معناه أن أسامة ذكَّره بصلاة المغرب، وظَنّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نسيها حيث أخّرها عن العادة المعروفة في غير هذه الليلة، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"الصلاة أمامك"، أي إن الصلاة في هذه الليلة مشروعة فيما بين يديك، أي في المزدلفة، ففيه استحباب تذكير التابع المتبوع بما تركه خلاف العادة؛ ليفعله، أو يعتذر عنه، أو يبيّن له وجه صوابه، وأنّ مخالفته للعادة سببها كذا وكذا.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "الصلاة أمامك"، ففيه أن السنّة في هذا الموضع في هذه الليلة تأخير المغرب إلى العشاء، والجمع بينهما في المزدلفة، وهو كذلك بإجماع المسلمين، وليس هو بواجب، بل سنةٌ، فلو صلاهما في طريقه، أو صلى كل واحدة في وقتها جاز، وقال بعض أصحاب مالك: إن صلى المغرب في وقتها لزمه إعادتها، وهذا شاذّ ضعيف. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "شاذّ ضعيف"، فيه نظر لا يخفي، بل هو
(1)
راجع: "حاشية الصبّان على الأشمونيّ" 2/ 131.
(2)
"الفتح" 4/ 613.
(3)
"شرح النوويّ" 9/ 26.
الصواب الذي تدلّ عليه الأدلّة الصحيحة، من فعل النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقوله، فتبصّر.
وقال الخطابيّ رحمه الله: يريد أن موضع هذه الصلاة المزدلفة، وهي أمامك، وهذا تخصيص لعموم الأوقات المؤقتة للصلوات الخمس؛ لبيان فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفيه دليل على أنه لا يصليها الحاجّ إذا أفاض من عرفة حتى يبلغها، وأن عليه أن يجمع بينها وبين العشاء بجمع، على ما سنّه الرسول صلى الله عليه وسلم بفعله، وبيّنه بقوله، ولو أجزأته في غير المكان لمَا أخّرها عن وقتها المؤقت لها في سائر الأيام.
انتهى كلام الخطابيّ رحمه الله
(1)
، وهو تحقيق نفيسٌ.
وقال الكرمانيّ متعقّبًا لكلام الخطّابيّ: ليس فيه دليل على أنه لا يجوز؛ إذ فعله المجرد لا يدلّ إلا على الندب، وملازمة الشرطية في قوله:"لَمَا أَخَّرها" ممنوعة؛ لأن ذلك لبيان جواز تأخيرها، أو بيان ندبية التأخير؛ إذ الأصل عدم الجواز.
وتعقّبه العينيّ، فقال: لا نسلّم نفي الدليل على عدم الجواز؛ لأن فعله قارنه قوله، فدلّ على عدم الجواز، وإنما يمشي كلامه أن لو كان أسامة عالمًا بالسنّة، ولم يكن يعلم ذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أول من سنها في حجة الوداع، والموضع موضع الحاجة إلى البيان، فَقِرَانُ فعله بقوله دليل على عدم الجواز، ووجوب تأخيرها إلى غير وقتها المعهود، والله أعلم. انتهى كلام العينيّ رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله العينيّ ردًّا على كلام الكرمانيّ تحقيقٌ حقيق بالقبول؛ لأنه الذي تؤيّده الأدلّة الصحيحة، فتبصّر.
قال المحقّق ابن حزم رحمه الله: وأما قولنا: "لا تجزئ صلاة المغرب تلك الليلة إلا بمزدلفة، ولا بدّ، وبعد غروب الشفق، ولا بدّ"، فلِمَا رَوَيناه من طريق البخاريّ: نا ابن سلام، نا يزيد بن هارون، عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن موسى بن عقبة، عن كريب مولى ابن عباس، عن أسامة بن زيد، قال: لما أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفات، عَدَلَ إلى الشِّعْب، فقضى
(1)
"معالم السنن" 2/ 175.
(2)
"عمدة القاري" 2/ 260.
حاجته، فجعلت أصب عليه، ويتوضأ، فقلت: يا رسول الله أتصلي؟ قال: "المصلى أمامك"، وذكر باقي الحديث.
ثم قال: فإذ قد قصد صلى الله عليه وسلم ترك صلاة المغرب، وأخبر بأن المصلَّى من أمام، وأن الصلاة من أمام، فالمصلَّى هو موضع الصلاة، فقد أخبر بأن موضع الصلاة، ووقت الصلاة من أمام، فصح يقينًا أن ما قبل ذلك الوقت، وما قبل ذلك المكان، ليس مصلًّى، ولا الصلاة فيه صلاة. انتهى كلام ابن حزم رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا.
والحاصل أن صلاة المغرب في تلك الليلة لا تجوز إلا في المزدلفة مجموعة مع العشاء، كما بيّن النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك قولًا وفعلًا، فمن صلّاها قبل ذلك، لزمه إعادتها فيها، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب.
قال في "العمدة": [فإن قلت]: "الصلاة أمامك" قضية حَمْليّةٌ، فكيف يصحّ هذا الحمل؟ لأن الصلاة ليست بأمام.
[قلت]: المضاف فيه محذوف، تقديره: وقت الصلاة أمامك؛ إذ نفسها لا توجد قبل إيجادها، وعند إيجادها لا تكون أمامه، وقيل: معناه: المصلَّى أمامك، أي مكان الصلاة، فيكون من قبيل ذكر الحالّ، وإرادة المحلّ، وهو أعمّ من أن يكون مكانًا، أو زمانًا. انتهى
(2)
.
(فَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى) أي لم يبدأ بشيء قبل الصلاة، ووقع في رواية إبراهيم بن عقبة الآتية بعد باب:"ثم سار، حتى بلغ جَمْعًا، فصلى المغرب والعشاء"، وقد بيّنه في رواية مالك الآتية هناك أيضًا بلفظ:"فركب، فلما جاء المزدلفة، نزل، فتوضأ، فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة، فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء، فصلّاها، ولم يصلّ بينهما شيئًا"، وبيّن في رواية إبراهيم بن عقبة، عن كريب: أنهم لم يزيدوا بين الصلاتين على الإناخة، ولفظه:"فركب حتى جئنا المزدلفة، فأقام المغرب، ثم أناخ الناس في منازلهم، ولم يَحُلُّوا حتى أقام العشاء الآخرةَ، فصلّوا، ثم حَلُّوا"، وكأنهم صنعوا ذلك رِفْقًا بالدوابّ، أو
(1)
"المحلّى" 7/ 129.
(2)
"عمدة القاري" 2/ 260.
للأمن من تشويشهم بها، وفيه إشعار بأنه خَفَّف القراءة في الصلاتين، وفيه أنه لا بأس بالعمل اليسير بين الصلاتين اللتين يُجْمَع بينهما، ولا يَقطع ذلك الجمع، أفاده في "الفتح"
(1)
.
(ثُمَّ رَدِفَ الْفَضْلُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي ركب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الفضل بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم الهاشميّ، ابن عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأكبر أولاد العبّاس، استُشهِد في خلافة عمر رضي الله عنه، تقدّمت ترجمته في "الصيام" 13/ 2589.
ووقع في رواية إبراهيم بن عقبة الآتية: "قال كريب: فقلت لأسامة: كيف فعلتم حين أصبحتم؟ قال: رَدِفَه الفضلُ بنُ العباس، وانطلقت أنا في سُبّاق قريش على رجليّ، يعني إلى منى". واستُدِلّ بالحديث على جمع التأخير، وهو إجماع بمزدلفة، لكنه عند الشافعية، وطائفة بسبب السفر، وعند الحنفية، والمالكية بسبب النسك، قاله في "الفتح".
قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم ترجيح القول بأنه للنسك، فلا تغفل، والله تعالى أعلم. وقوله:(غَدَاةَ جَمْعِ) منصوب على الظرفيّة، متعلّق بـ "رَدِفَ"، و"جمع" بفتح الجيم، وسكون الَميم: هو المزدلفة؛ سُمّيت بذلك، إما لأن الناس يجتمعون بها، أو لأن آدم؛ اجتمع بحوّاء هناك
(2)
.
وقوله: (قَالَ كُرَيْبٌ) موصول بالإسناد السابق، وليس معلّقًا، فتنبّه (فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسِ) رضي الله عنهما (عَن الْفَضْلِ) أي عن أخيه الفضل بن عبّاس رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى بَلَغَ الْجَمْرَةَ) قال النوويّ رحمه الله: فيه دليل على أنه يستديم التلبية حتى يشرع في رمي جمرة العقبة غداة يوم النحر، وهذا مذهب الشافعيّ، وسفيان الثوريّ، وأبي حنيفة، وأبي ثور، وجماهير العلماء، من الصحابة، والتابعين، وفقهاء الأمصار، ومن بعدهم، وقال الحسن البصريّ: يلبي حتى يصلي الصبح يوم عرفة، ثم يقطع، وحُكِي عن عليّ، وابن عمر، وعائشة، ومالك، وجمهور فقهاء المدينة، أنه يلبي حتى
(1)
"الفتح" 4/ 613، 614.
(2)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 108.
تزول الشمس يوم عرفة، ولا يلبي بعد الشروع في الوقوف، وقال أحمد، وإسحاق، وبعض السلف: يلبي حتى يفرغ من رمي جمرة العقبة.
ودليل الشافعيّ، والجمهور هذا الحديث الصحيح، مع الأحاديث بعده، ولا حجة للآخرين في مخالفتها، فيتعيّن اتباع السنة.
قال: وأما قوله في الرواية الآتية: "لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة"، فقد يحتج به أحمد، وإسحاق لمذهبهما، ويُجيب عنه الجمهور بأن المراد حتى شرع في الرمي؛ ليجمع بين الروايتين. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما ذهب إليه أحمد، وإسحاق هو الأرجح؛ لهذا الحديث، وأما تأويل الجمهور له، ففيه نظر لا يخفي، فلماذا لا يؤوّل بالعكس؟ فتأمل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أسامة بن زيد، والفضل بن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا [42/ 3088 و 3089 و 3100 و 3101 و 3102 و 3103 و 3104 و 3105](1280 و 1281)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(139 و 181) و"الحجِّ"(1670 و 1672)، و (أبو داود) في "المناسك"(1925)، و (النسائيّ) في "المواقيت"(1/ 292) و"المناسك"(5/ 259) و"الكبرى"(2/ 426 - و 427)، و (ابن ماجة) في "المناسك"(2/ 1005)، و (مالك) في "الموطّإ"(1/ 400 - 401)، و (ابن أبي شيبة) في "مسنده"(1/ 115)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 210 و 5/ 199)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 58)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2885)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 364 و 375 و 376 و 378)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه" (3/ 363 و 367
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 27.
و 368)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3857)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(386) و"الأوسط"(7/ 198)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(12/ 98)، و (البزّار) في "مسنده"(7/ 45)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 214)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 122) و"المعرفة"(4/ 112)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1937)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن التلبية تُستحبّ حتى يرمي جمرة العقبة، وخالف في ذلك بعضهم، كما سيأتي في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.
2 -
(ومنها): بيان جواز الإرداف على الدابة إذا أطاقت ذلك.
3 -
(ومنها): جواز الاستعانة في الوضوء في صب الماء.
4 -
(ومنها): مشروعية التخفيف في الوضوء.
5 -
(ومنها): استحباب الوضوء للدوام على الطهارة، وإن لم يصلّ به صلاة؛ إذ هي عبادة تَرَتَّب عليها تكفير الذنوب، فقول من قال بكراهة الوضوء إثر الوضوء ما لم يؤدّ بالأول صلاة مما لا دليل عليه، وقد تقدم تحقيق هذا في "كتاب الطهارة"، فارجع إليه تزدد علمًا.
6 -
(ومنها): أن صلاة المغرب في الطريق قبل الوصول إلى مزدلفة لا تُجْزِئُ، على القول الراجح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"الصلاةُ أمامَك".
7 -
(ومنها): أن الفصل بين الصلاتين بتنزيل الرحل ونحوه لا يضرّ في الجمع.
8 -
(ومنها): أنه لا يشرع الفصل بينهما بأداء سنة المغرب؛ لقوله: "ولم يُصَلِّ بينهما"، كما في رواية مالك الآتية بعد باب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في الوقت الذي تُقطع فيه التلبية: ذهب الجمهور إلى ما دلّ عليه حديث الباب، فقالوا: يستمرّ على التلبية حتى يرمي جمرة العقبة، وبعدها يشرع في التحلّل. روى ابن المنذر بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه كان يقول:"التلبية شعار الحجِّ، فإذا كنت حاجًّا، فلَبِّ حتى بدء حلّك، وبدء حلّك أن ترمي جمرة العقبة".
وروى سعيد بن منصور، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:"حججت مع عمر إحدى عشرة حجة، وكان يُلبّي حتى رمى جمرة العقبة"، وباستمرارها قال الشافعيّ، وأبو حنيفة، والثوريّ، وأحمد، وإسحاق، وأتباعهم.
وذهبت طائفة إلى أن المحرِم يقطع التلبية إذا دخل الحرم، وهو مذهب ابن عمر، لكن كان يعاود التلبية إذا خرج من مكة إلى عرفة.
وذهبت طائفة إلى أنه يقطعها إذا راح إلى الموقف، رواه ابن المنذر، وسعيد بن منصور بأسانيد صحيحة عن عائشة، وسعد بن أبي وقّاص، وعليّ رضي الله عنهم، وبه قال مالك، وقيّده بزوال الشمس يوم عرفة، وهو قول الأوزاعيّ، والليث، وعن الحسن البصريّ مثله، لكن قال:"إذا صلّى الغداة يوم عرفة"، وهو بمعنى الأول، وقد روى الطحاويّ بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن يزيد، قال:"حججت مع عبد الله، فلما أفاض إلى جمْع جعل يلبّي، فقال رجل: أعرابيّ هذا؟، فقال عبد الله: أنسي الناس، أم ضلّوا؟ "، وأشار الطحاويّ إلى أن كلّ من رُوي عنه ترك التلبية من يوم عرفة أنه تركها للاشتغال بغيرها من الذكر لا على أنَّها لا تشرع، وجمع في ذلك بين ما اختلف من الآثار.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي ذهب إليه الجمهور من استمرار التلبية إلى أن يرمي جمرة العقبة هو الحقّ؛ لصحّة الأحاديث بذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم أيضًا، في أنه هل تُقطع التلبية مع أول حصاة، أو عند تمام الرمي؟:
ذهب الجمهور إلى الأول، وذهب أحمد، وبعض أصحاب الشافعيّ إلى الثاني، ويدلّ لهم ما رواه ابن خزيمة من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عليّ بن الحسين، عن ابن عبّاس، عن أخيه الفضل، قال:"أفضت مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم من عرفات، فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، يكبّر مع كلّ حصاة، ثم قطع التلبية مع آخر حصاة"، قال بن خزيمة رحمه الله: هذا حديث صحيحٌ مُفَسِّرٌ لما أُبْهِم في الروايات الأخري، وأن المراد بقوله:"حتى رمى جمرة العقبة"، أي
أتمّ رميها. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه أحمد، وبعض الشافعيّة من أن قطع التلبية عند تمام الرمي هو الحقّ؛ لصحة حديث الفضل المذكور عند ابن خزيمة رحمه الله، وهو حديث مفسّر تُحْمَل عليه الأحاديث الأخري، فيكون معنى قوله:"حتى رمى جمرة العقبة": حتى أتمّ رميها بآخر الحصيات، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3089](1281) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، كِلَاهُمَا عَنْ عِيسَى ابْنِ يُونُسَ، قَالَ ابْنُ خَشْرَمٍ: أَخْبَرَنَا عِيسَي، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، أَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرْدَفَ الْفَضْلَ مِنْ جَمْعٍ، قَالَ: فَأَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الْفَضْلَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي، حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه الحنظليّ، أبو محمد المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ مجتهد [10](ت 238) وله (72) سنةَ (خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
2 -
(عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ) تقدّم قبل بابين.
3 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) تقدّم أيضًا قبل بابين.
4 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم في الباب الماضي.
5 -
(عَطَاءٌ) بن أبي رباح أسلم، تقدّم قريبًا.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ) أي حتى فرغ منها؛ لِمَا تقدّم من رواية ابن خزيمة في "صحيحه" بلفظ: "فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، يكبّر
(1)
راجع: "الفتح" 4/ 632.
مع كلّ حصاة، ثم قطع التلبية مع آخر حصاة"، فهذا نصّ صريح يرجّح مذهب القائلين بأن قطع التلبية يكون مع آخر الجمرة، كما أسلفنا تحقيقه، فتنبّه.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله، في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3090](1282) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنِي اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ، عَن الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَكَانَ رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ فِي عَشِيَّةِ عَرَفَةَ، وَغَدَاةِ جَمْعٍ لِلنَّاسِ حِينَ دَفَعُوا:"عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ"، وَهُوَ كَافٌّ نَاقَتَهُ، حَتَّى دَخَلَ مُحَسِّرًا، وَهُوَ مِنْ مِنًى، قَالَ:"عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ الَّذِي يُرْمَى بِهِ الْجَمْرَةُ"، وَقَالَ: لَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي حَتَّى رَمَى الْجَمْرَةَ)
(1)
.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(اللَّيْثُ) بن سعد، تقدّم قبل باب.
2 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(أَبُو مَعْبَدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) اسمه نافذ المكيّ، ثقةٌ [4](ت 104)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 130.
والباقون ذُكروا في الباب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه ابن رُمح، فقد تفرّد به هو وابن ماجة.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ عن صحابيّ، والأخ عن أخيه، وتابعي عن تابعيّ، والله تعالى أعلم.
(1)
وفي نسخة: "حتى رمى جمرة العقبة".
شرح الحديث:
(عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، هو شقيق عبد الله الراوي عنه، وهو أكبر أولاد العباس رضي الله عنه، وكان يكنى به، استُشهد في خلافة عمر رضي الله عنهم، كما تقدّم قريبًا (وَكَانَ رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي راكبًا خلفه من مزدلفة إلى مني، والجملة معترضة (أَنَّهُ) أي الرسول صلى الله عليه وسلم (قَالَ فِي عَشِيَّةِ عَرَفَةَ) هذا سمعه منه صلى الله عليه وسلم، وهو غير رديفه؛ لأن رديفه في ذلك الوقت هو أسامة بن زيد رضي الله عنهما، كما تقدّم في حديث أسامة رضي الله عنه المذكور قبل حديث (وَغَدَاةِ جَمْعٍ) بفتح الجيم، وإسكان الميم: اسم لمزدلفة، أي صباح ليلة المزدلفة، حيث كان الفضل رديفه صلى الله عليه وسلم (لِلنَّاسِ) متعلقٌ بـ "قال"، وكذا قوله:(حِينَ دَفَعُوا) أي رجعوا من عرفة إلى المزدلفة، ومنها إلى منى ("عَلَيْكُمُ بِالسَّكِينَةِ") أي الزموها، والجملة في محل نصب مقول القول، قال النوويّ رحمه الله: هذا إرشاد إلى الأدب والسنّةِ في السير تلك الليلة، ويُلحَق بها سائر مواضع الزحام. انتهى
(1)
. (وَهُوَ) صلى الله عليه وسلم (كَافٌّ نَاقَتَهُ) بتشديد الفاء، اسم فاعل من الكفّ، وهو المنع، أي مانعها من الإسراع حين الزحام، والجملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل (حَتَّى إِذَا دَخَلَ مُحَسِّرًا) بصيغة اسم الفاعل من التحسير، يقال: حسّرتُهُ - بالتثقيل -: أوقعته في الحسرة، اسم واد بين المزدلفة ومني، سمّي به؛ لأن فيل أَبْرَهَة كَلَّ فيه، وأعيا، فحسّرَ أصحابه بفعله، وأوقعهم في الحسرات، أفاده الفيّوميّ. (وَهُوَ مِنْ مِنًى) يعني أن واديَ محسّر من جملة مني، وظاهره أنه داخل في حدودها، وعلى هذا فالأمر بالارتفاع عنه؛ لكونه محلّ تحسّر أصحاب الفيل.
وقيل: هو من مزدلفة، والتحقيق أنه كالبرزخ بين المزدلفة ومني، وأن معنى قوله:"وهو من منى" أي هو موضع قريبٌ من منى في آخر المزدلفة، وقد تقدّم تحقيق الكلام في ذلك في شرح حديث جابر رضي الله عنه الطويل (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ) بالخاء، والذال المعجمتين، أي الزموا حصى الرمي، والمراد به الحصى الصغار، قال الفيّوميّ رحمه الله: خذفت الحصاة ونحوها خذفًا، من باب ضرب: رميتها بطرفي الإبهام والسبّابة، وقولهم: يأخذ حصى الخذف:
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 27.
معناه حصى الرمي، والمراد الحصى الصغار، لكنه أطلق مجازًا. انتهي، وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: حصى الخذف هو نحو حبة الباقلّا، قال أصحابنا: ولو رمى بأكبر منها، أو أصغر جاز، وكان مكروهًا. انتهى.
وقوله: (الَّذِي يُرْمَى بِهِ الْجَمْرَةُ") صفة لـ "حصى الخذف"، والفعل مبنيّ للمفعول، و"الجمرة" بالرفع نائب فاعله (وَقَالَ: لَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي، حَتَّى رَمَى الْجَمْرَةَ) أي حتى فرغ من رمي جمرة العقبة يوم النحر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [42/ 3090 و 3091](1282)، و (البخاريّ) في "الحج"(1544 و 1685)، و (أبو داود) في "المناسك"(1815)، و (الترمذيّ) في "الحج"(918)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجِّ"(5/ 258 و 267) و"الكبرى"(2/ 434 - 435)، و (ابن ماجة) في "المناسك"(3040)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 210 و 213)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2843 و 2860 و 2873)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3872)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(18/ 686)، و (الدارميّ) في "سننه"(1891 و 1902)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 389)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 364 - 365)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(12/ 92)، و (البزّار) في "مسنده"(6/ 103)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 127)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في بحث يتعلّق بقوله: "وهو كافّ ناقته حتى دخل مُحسِّرًا، وهو من منى": (اعلم): أني رأيت رسالةً للعلامة المحدّث المحقّق عبد الرحمن بن يحيى المعلّمي اليمانيّ المتوفّى سنة (1386 هـ) قد أجاد فيها البحث فيما يتعلّق بسير النبيّ صلى الله عليه وسلم في حجته بين المشاعر، ومتى كان إسراعه، والكلام عن وادي
مُحسّر، وسبب الإسراع فيه، أحببت نقلها هنا؛ لغزارة فوائدها، وكثرة عوائدها
(1)
.
قال رحمه الله تعالى ونفعنا بعلومه .. آمين:
بسم الله الرحمن الرحيم
في "الصحيحين"، وغيرهما عن هشام بن عروة عن أبيه قال:"سُئِلَ أسامةُ، وأنا جالس: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حين دفع؟ قال: كان يسير العَنَقَ فإذا وجد فَجْوة نَصَّ"، لفظ البخاري، وزاد في رواية:"قال هشام: والنصّ فوق العنق".
المشهور أن العنق سيرٌ فِيهِ إسراع، وقد يَرِدُ على ذلك أن في روايةٍ في "صحيح مسلم" عن أسامة:"فما زال يسير على هيئته"، ويُرْوَى:"على هينته، حتى أتى جَمْعًا"، وفي روايةٍ في "المسند" سندُها صحيح:"فَجَعَلَ يَكْبَح راحلته حتى إن ذِفْرَيها لتكاد تصيب قادمة الرحل، وهو يقول: يا أيها الناس عليكم بالسكينة والوقار، فإن البِرَّ ليس في إيضاع الإبل"، وفي أخرى سندها حسن:"فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا الْتَحَم عليه الناس أعنق، وإذا وجد فرجة نص"، وفي "الْمُسْنَد"، و"صحيح مسلم" في حديث جابر: "وقد شَنَقَ للقصواء الزمامَ حتى إِنّ رأسها ليُصِيب مَوْرك رحله، ويقول: أيها الناس السكينة السكينة؛ كلما أتى حَبْلًا من الحبال أرخى لها حتى تصعد
…
"، وفي معنى ذلك أخبار أُخْرى.
فأيُّ إسراعٍ يكون لناقةٍ مُنَوَّقة مشنوق لها الزمام أشدَّ الشنق، ملتحم عليها المشاة والركبان؟.
وقد يُجاب بأنّ العَنَقَ في الأصل هو كما في "الفائق": الخطو الفسيح، فالسرعة فيه من جهة سعة الخطو، لا من جهة سرعة تتابعه، والإبل بطبيعة حالها واسعة الْخَطو.
وفي فقه اللغة للثعالبي: "فصل في ترتيب سَيْر الإِبل، عن النَّضْر بن شُميل: أوَّل سير الإبل الدبيب، ثم التزيد، ثم الذَّمِيل، ثم الرسيم
…
، فصل
(1)
هذه الرسالة نُسخت من مخطوطات مكتبة الحرم برقم: (4704).
في مثل ذلك عن الأصمعيّ: العنق من السير المُسْبَطِرّ، فإذا ارتفع عنه قليلًا فهو التزيد، فإذا ارتفع عن ذلك فهو الذَّمِيل، فإذا ارتفع عن ذلك فهو الرسيم"، وقضيّة هذا أنّ أول سير الإبل يسمّى عَنَقًا، وبعدُ فقد عُرف بالوصف حقيقة سير ناقته صلى الله عليه وسلم عند الازدحام.
فأما النصّ فهو كما قال هشام: فوق ذلك، كأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا وجد فَجْوةً أي: خُلُوًّا عن المزاحمين أَرْخَى الزمام فتسرع قليلًا بِطبيعة حالها، ولم يُعَيّن الصحابة مواضع تلك الفَجَوات؛ لأنّه لا دخل لخصوص المكان فيها، وإنما المدار على الخلوّ من المزاحمين، كما مرّ.
وقد عُلم مِمَا مرَّ أنَّ
(1)
عرفة إلى مزدلفة لم يُسرع النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فوق العادة، وأنّه ليس بينهما مكان يشرع فيه الإِبطاء، أوِ الإسراع المعتاد، وإنما المدار على الزّحام وعدمه.
فأما من مزدلفة إلى جمرة العقبة ففي "المسند" بسند صحيح عن أسامة: "لما دفع من عرفة
…
كَفَّ رأس راحلته حتى أصاب رأسها واسطة الرحل، أو كاد يصيبه، يُشِير إلى الناس بيده: السكينة السكينة حتى أتى جَمْعًا، ثم أردف الفضل بن عباس
…
فقال الفضل: لم يَزَلْ يسير سَيْرًا لينًا كسَيْره بالأمس، حتى أتى على وادي محسِّر، فدفع فِيهِ حتى اسْتوت به الأرضُ".
وفي حديث جابر رضي الله عنه في "المسند" و"صحيح مسلم" وغيرهما: "حتى أَتَى بَطْنَ مُحَسّر، فحَرَّك قليلًا، وفي "سنن النَّسَائيّ" من حديث أبي الزبير، عن جابر: "أفاض رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، وعليه السكينة، وأمرهم بالسكينة، وأَوْضَعَ في وادي محسّر
…
"، وهو في "المسند"، وبقية "السنن"، قال الترمذيّ: حسن صحيح، وفي بعض رواياته في "المسند"، و"سنن ابن ماجة": "وقال: لتأخذْ أمّتِي نسكها، فإِنّي لا أدري لعلّي لا ألقاهم بعد عامِي هذا".
وفي "الْمُسْنَد"، و"سنن الترمذي"، من حديث عليّ: "
…
ثم أفاض حتى انْتهى إلى وادِي محسّر، فقَرَع ناقته، فخَبَّتْ حتى جاوز الوادِي"، لفظ التّرمذيّ، وقال: "حسن صحيح".
(1)
ها هنا: بعد"أن" كلمةٌ غير واضحة، والظاهر أنَّها "مِنْ".
في هذه الأحاديث أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم خَصَّ وادي محسّر دونَ ما قبله وما بعده بأن قرع ناقته فيه لتسرع فوق العادة، ولم يكن لذلك سبب طبيعيّ، ففهم الصحابة رضي الله عنهم أن ذلك لأمرٍ شرعيّ، وأنّ مثل ذلك الإسراع مشروع في ذلك المكان، ولذلك نصّوا عليه وفاءً بما أُمروا به من التبليغ، وعَمِلوا به بعد النّبِي صلى الله عليه وسلم. جاء ذلك عن عمر، وابن عمر، وأخذت به الأمة، فهو سنة ثابتة.
قال المعلّمي رحمه الله: وهل يُشرع مِثْلُ ذلك الإسراع عند المرور بمحسّر
(1)
في الطلوع إلى عَرَفَة، وعند المرور به في غير الحَجّ؟ لم أجد دليلًا خاصًّا على ذلك، وقد يُستدلّ على عَدَمِه بأنه لم يُنْقَلْ أنّه صلى الله عليه وسلم أسرع فيه عند طلوعه إلى عَرَفَةَ.
وقد يُدْفَعُ هذا باحتمال أنه عند الطلوع لم يكن قد أُمر بالإسراع فتركه؛ لأنه لم يكن مشروعًا حينَئذ
(2)
، أَوْ لعله أسرع، ولم يُنْقَلْ ذلك؛ لأنّهم لم يعتَنُوا ببيان سيره في طلوعه، كما اعتَنَوا ببيان سيره في نزوله، واكتفاءً بدلالة إسراعه به في نزوله على أنَّ الإسراع فيه مشروع مطلقًا، فما هذه الدلالة؟ مدارها على المعنى الذي لأجله شُرع الإسراع، وفي ذلك أقوال:
[الأوَّل]: أن ذلك الوادي مأوى للشياطين؛ وكأنّ هذا مأخوذ من قصة الوادي الذي نام فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عَنْ صلاة الصبح، فلما استيقظوا، وقد طلعت الشمس أمرهم بالخروج منه، وعلَّلَ ذلك بأنّ فيه شيطانًا، فاقْتَادُوا رواحِلَهُم حتى خرجوا منه، فصلّى بهم، ويَرُدّ هذا أنَّ الخروجَ إنّما كان لمصلحة الصلاة، لا لِكَرَاهِيَة الكون في الوادِي
(3)
، فقد باتُوا فيه وناموا، وأيضًا فلم يُسْرِعْ ولا أمرهم بالإسراع في خروجهم.
(1)
هذه الكلمة غير واضحة في الأصل تمام الوضوح، والسياق يقطع بأنها (محسّر).
(2)
قال الجامع: هذا الاحتمال هو الأقرب عندي، وأما الذي بعده، فبُعده مما لا يخفى على الفطن، فتأمل.
(3)
قال الجامع: بل الظاهر أن خروجهم لكراهة إقامتهم بالوادي، فإنه صلى الله عليه وسلم علّله بقوله:"ليأخذ كلّ رجل برأس راحلته، فإن هذا منزل حضرنا الشيطان فيه" =
[الثاني]: أن النصارى كانوا يقفون بمحسِّر، فَأوْضَعَ فيه النبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ مخالفةً لهم، وكأنّ هذا مأخوذ مِمّا رُوِيَ أن عمر رضي الله عنه قال، وهو يوضِعُ:
إليك تعدو قلقًا وضينها
…
معتَرِضًا في بطنها جنينُها
مخالِفًا دينَ النصارى دينُها
ولا يَخْفَى أنّ هذا لا يدل على أنّ النصارى كانوا يقفون بمحسر، ويكفي في معنى البيت مخالَفَة النّصارى في شركهم، وعدم حجّهم، وأيضًا فلو ثَبَتَ أنهم كانوا يقفون به فالمخالفة تحصل بعدم الوقوف، فلا تقتضِي الإسراع.
[الثالث]: أنّ المشركين كانوا يقفون به يتفاخرون بآبائهم، وكأنّ هذا مبنيٌّ على الذي قَبْلَه، ولكن لما كانت دعوى وقوف النّصارى لا سَنَدَ لها أبدلوا بالمشركين؛ لأنّه قد رُوِيَ ما يشْبِهُ ذلك في تفسير قوله تعالى:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200] ويردُّه أنّه إذا كانت الآيَةُ تُشِيرُ إلى ذلك، فإنّها تشير إلى أنّ ذلك كان عند قضاء المناسك، وأكثَر الروايات توافق ذلك، وأنّهم كانوا يتفاخرون بمني، وفي بعضها: عند الْجَمْرَة، وفي بعضها: يوم النحر، وليس في الروايات ذِكرٌ لمحسِّر، وأيضًا فمُخَالفتهم في ذلك لا تَقْتَضِي الإسراع.
[الرابع]: وهو المشهور: أن وادي محسِّر موضع نزل به عذاب، قال ابن القيّم في "الْهَدْي": "فلمّا أتى بطنَ محسّر حرَّكَ ناقَتَهُ وأَسْرَعَ السَّيْرَ، وهذه كانت عادته في المواضع التي نزل فيها بَأْسُ اللهِ بأعدائه، فإن هنالك أَصَابَ أَصْحَابَ الفيل ما قَصَّ اللهُ علينا، ولذلك سُمّيَ ذلك الوادي واديَ محسّر؛ لأن الفِيلَ حَسَرَ فيه: أَيْ أَعْيَا، وانقطع مِنَ الذّهاب، وكذلك فعل في سلوكه الحِجْرَ، وديارَ ثمود، فإِنّه تَقَنَّعَ بثَوبه، وأسرع السير، ومحسر برزخ
…
"، وسيأتي بقيّةُ عبارته.
وهذا القولُ مَقْبولٌ، وشاهِدُهُ، وهو الإسراعُ في أرض ثَمود مَنْقُول،
= رواه مسلم، وغيره، فدلّ على أن خروجهم كراهة للوادي حيث حضر الشيطان فيه، وأما مبيتهم فيه، فلم يعلموا بحضور الشيطان فيه، ولم يتبيّن لهم ذلك إلا بعد فوات الصبح، فتأمله بالإمعان.
ووَجِيهٌ أن يُكْرَهَ الكونُ بمنازل غَضَب اللهِ فوق ما لا بُدَّ منه منَ الْمُرُور السريع، كما يستَحَبّ الكون واللبث بمنازلَ بركة اللهِ، كمكَّةَ، والمدينة، ولا يَخدِش
(1)
في هذا الوَجْهِ الوَجِيه أن نَجْهَلَ ما هو العَذَابُ الذي نزل بمحسِّر، فإن ما ذكروه مِنْ أَنّه عذابُ أصحاب الفيل، وأَنَّ الفِيلَ حُبِسَ هناك، مُتَعَقَّب بأنّ المعروفَ في الأخبار، والأشْعَار، والآثار أَنّ ذلك كان بالْمُغَمَّس
(2)
.
وأنّ الفيل حُبِسَ دون الْحَرَم، ولكن لا مانع أن تكونَ طليعة من أصحاب الفيل تَقَدَّمت الفِيلَ والجيش، فبلغت محسِّرًا؛ وقيل: إنّ العذابَ هو أن رجلًا اصطاد فيه، فنزلت نارٌ فَأَحرقته.
وقد عَلِمْتَ أنّ وَجَاهَةَ القول الرابع لا يخدِش فيها الْجَهْلُ بتعيين العذاب.
وإذا كان ذاك المعنى هو المتجه، فلا ريب أنَّ اقتضاءَه للإِسراع في محسّر كراهِيَةَ الكون به فوق ما لا بدَّ منه من المرور السريع، لا يختصّ بالحاجّ المفِيض من مزدلفَةَ، فيُلْحَق به غيرُه؛ استنباطًا، والله أعلم.
[فصل]: إذا ثَبَتَ أن محسّرًا يكره الكونُ به فوق ما لا بدَّ منه من المرور السريع، وَجَبَ أنْ لا يَكونَ من البُقْعة التي شُرِعَت فيها البيتوتة ليالِيَ التشريق، والكونُ بها بقيّة نهار الثامن، وليلة التاسع، ويوم النحر، وأيّام التشريق، وهي مني، فلا يكون محسّر من منى في الحكم، فأمّا في الاسم فقد جاء ما يدل على أنّه من مزدَلِفَةَ في الاسم، مع خروجه منها في الحكم، وجاء ما يدلّ على أنَه من منى في الاسم، وجاء ما يدل على أنه ليس من منى ولا مزدلفة.
فأما الأوّلُ: فأخْرج ابن جرير في "تفسيره" عن زيد بن أسلم، عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"عرفَةُ كلها موقفٌ إلا عُرَنَةَ، وجَمْع كلها موقف إلا محسِّرًا"، وأخرج عن ابنِ الزبير:"كل مُزْدلفة موقف، إلا وادي محسّر"، وعن عروة بن الزبير مثله.
وخبر عبد الله بن الزبير في "الموطَّأِ"، عن هشام بن عروة عنه، والأصل
(1)
من باب ضرب.
(2)
بعد كلمة (المغمس) كلمة غير واضحة أظنها -والله أعلم- "حذاء عرفة". انتهى. الكاتب.
في الاستثناء الاتّصال، فيكون محسّرٌ داخِلًا في مزدلفة في الاسم، خارجًا عنها في الحكم، فعلى هذا لا يكون من منى في الاسم أيضًا.
فإن قيل: قضِيَّةُ هذا أن تكونَ عرنَةُ داخلةً في اسم عَرَفَةَ، وإن خرجت عنها في الحكم. قلت: لا مانع من هذا، بل يَشْهَدُ له ما ذكره صاحبُ "الْقِرَى" وغيرُهُ بعد ذكر تحديد ابن عباس لعرفة، أنّه يدخل فيها عُرَنَةُ، ويوافِقُهُ حديثُ ابن عمر في "المسند"، و"سنن أبي داود": "غَدَا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم
…
حتى أَتَى عَرَفَةَ، فنزل بنَمِرة، وهي منزل الإمام الذي ينزل به بعرفَةَ
…
"، ونَمِرَة من عُرنة.
وأما الثاني: فيدلّ عليه ما في "المسند"، و"صحيح مسلم"، و"سنَن النسائيّ" من حديث الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن أبي مَعْبَد مولى ابن عبّاس، عن ابن عبّاس، عن أخِيهِ الفَضْل، وكان رديفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أَنّه قال في عَشِيّةِ عَرَفَة، وغداة جَمْعٍ للناس حين دَفَعُوا:"عليكم بالسكينة"، وهو كافٌّ ناقته حتى دخل محسّرًا -وهو من منى- قال:"عليكم بحصى الخذف الذي يرمى به الجمرة"، وقال: لم يزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي حتى رمى الْجَمْرَة، لفظ مسلم.
وفي "المسنَد"، و"سنن النسائيّ":"حتى إذا دخل"، ثم ساقَهُ مسلم من طريق ابن جُرَيج، عن أبي الزبير، ولم يَسُق المتن، وقد ساقَه الإمامُ أحمدُ في "المسند"، وفيه: "حتى إذا دخل منى حين هَبَطَ محسِّرًا قال: عليكم بحصى الخذف
…
"، ولم يكن مقصود الفضل إِلا الإخبار بما كان مِنَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في مَسِيرِهِ من المزدلفة إلى جَمْرَة العَقَبَة، بدون نَظَر إلى حكم البيتوتة، فغايَةُ ما يُؤْخَذُ من خبره أن محسرًا من منى في الاسم، ومسلم أخرج هذا الحديثَ في "صحيحه" في أحاديث اسْتدامة التلبِيَة إلى رَمْي جمرة العَقَبة، ولم يخرجه في الموضع الذي يتعلَّقُ بحكم البيتوتة، وبين الموضعَين أربعة عشَر بابًا في تَبْويب النوويّ.
ولم أجِدْ هذا الخبر عن أبي معبد إلا من رواية أبي الزبير، وقد رواه جماعةٌ غير أبي مَعْبد، عن ابن عباس، ورَوَاه جماعة غير ابن عَبَّاس، عنِ الفَضْل، ولم أرَ
(1)
في شيءٍ من رواياتهم هذه الكلمة، أو معناها أن محسرًا من
(1)
قائل "ولم أر إلخ" هو المعلميّ رحمه الله.
مني، وأبو الزبير وثّقه جماعةٌ، ولَيَّنَهُ آخرون، قال الشافعيّ:"أبو الزبير يحتاج إلى دعامة"، وقد لا يَبْعُدُ أن تكونَ كلمةُ:"وهو من منى"، وهي في الرواية التي اتفَقَ على إخراج لفظها الإمام أحمدُ، ومسلمٌ، والنسائيُّ، مُدْرَجة من قول أبي الزبير، وأن راوي الرواية الأخرى خَفِي عليه الإدراج، وروى بالمعني، والله أعلم.
وأما الثالثُ: وهو أنَّ محسّرًا ليس داخلًا في اسم مني، ولا اسم مُزْدَلفَة، فهو المشهورُ، وفي "تاريخ الأَزْرَقيّ" 2/ 155:"حَدَّثَنِي جدي حدثنا مسلم بن خالد عن ابن جريجٍ .... قلت لعطاء: وأينَ المزدلفة؟ قال: المزدلفة إذا أَفَضْتَ من مأزمَي عرفة فذلك إلى محسّر"، وفيه ص 139 بهذا السند عن ابن جريجٍ: قال: "قلت لعطاءٍ: أين منى؟ قال: من العَقَبة إلى محسِّر، قال عطاء: فلا أحبّ أن ينزل أحد إلا فيما بين العقبة إلى محسر"، وهو خَبَرٌ واحدٌ قطعه، وقد روى ابن جريجٍ في "تفسيره" القطعة الأولى: "حدّثنا هنَّاد، قال: ثنا ابنُ أبي زائدة، قال: أنا ابنُ جُرَيْج، قال: قلت لعطاء
…
"، وسنده صحيح، فأمّا سند الأزرقيّ ففِيهِ مسلم بن خالد، فيه لِينٌ، لكنّه فقِيهُ مكة في عصره، وهذا الحكم مما يعنى به فقهاء مكة، وشيخه ابن جريجٍ إمام، وهو فقيه مكة في عصره أيضًا، وهو مِمَّنْ روى حديثَ أبِي الزبَيْر السابق، وكأنّه لم يُعَوِّلْ على ما فِيهِ، مِمّا يدلُّ على أن محسِّرًا من مني، وعطاء إمام، وهو فَقِيه مكة في عصره، وروى عن ابن عباس حديثَ الفَضْل وغيره؛ ثم جاء فقِيهُ عصره الإِمَام الشافِعِيُّ، وهو مكِّيٌ، أخَذَ عن مسلم بن خالد وغَيْرِهِ، قال في "الأُمّ" 2/ 179: "والْمُزْدلفةُ من حينِ يُفْضِي من مأزمَيْ عرفة - وليس المأزمان من مزدلفة - إلى أن يَأْتِيَ قَرْنَ محسِّر"، وقال ص 182: "ومنى ما بين العقبة، وليست العقبة مِنْ مِنَي، إلى بطن محسِّر، وليس بطن محسر مِنْ منى"، وهذا القَوْلُ أَعنِي أنَّ محَسِّرًا ليس من المزدلفة، ولا من منى هو المعروف في كتب الفقه، والمناسك في المذاهب الأربعة. وقال ابنُ حزم في "الْمحلّى" 7/ 188 المسألة (853): "وعَرَفَةُ كلها موقفٌ إلا بطن عُرَنَة، ومزْدلِفَة كلها موقف إلا بطنَ محسّر؛ لأنّ عرفة من الحِلّ، وبطن عرنة من الحرم، فهو من غير عرفة، وأما مزدلفة فهي المشعر الحرام، وهي مِنَ الحرم، وبطن محسّر من
الحِلّ، فهو غيرُ مزدلفة"، ولا ريبَ أَنّ منى عنده من الْحَرَم، فهي غيرُ محسر الذي هو عندَه من الحل، وقد أَغْرَبَ في زعمه أن بَطْنَ عرنَةَ من الْحَرَم، وأغْرَبُ من ذلك زَعْمُهُ أَنّ محَسِّرًا من الحلّ، احْتَجّ ابن حزمٍ باختلاف المكانَين في أنّ هذا من الحلّ، وهذا من الحَرَم، على تَغَايُرهما واختلاف
(1)
، وَإِنّها لَحُجَّةٌ لو صح ذاك الاختلاف.
وقال شيخُ الإسلام ابنُ تَيْمِيَّةَ في "مناسكه": "ومزدلفَةُ كلها يُقَالُ لها الْمَشْعَر الحرام، وهي ما بين مَأْزِمَي عَرَفة إلى بطن محسّر، فإِنّ بين كلِّ مَشْعَرَين حدًّا ليس منهما، فإنّ بين عَرَفَةَ ومزْدلفَةَ بطنَ عُرَنَةَ، وبين مزدلفَةَ ومنى بَطْن محسِّر"، كأنّه نظر إلى عبارة ابن حَزمٍ، وأعرض عمّا فيها من الخطأِ.
وقد أوضَحَ ابن القيّم ذلك فقال في "الْهَدْي": "ومُحَسِّر بَرْزَخٌ بين منى وبين مزدلفَةَ، لا من هذه ولا من هذه، وعُرَنَةُ برزخٌ بين عَرَفَةَ والمشعر الحرام، فبين كلّ مَشْعَرَين برزخ ليس منهما، فَمِنى من الحَرَم، وهي مَشْعَر، ومُحَسِّر من الحرم، وليس بمشعر، ومزدلفة حرم ومشعر، وعُرَنَةُ ليست مَشْعَرًا، وهي من الحِلّ، وعَرَفَةُ حلٌّ ومَشْعر، ولا ريب أن الشيخَيْن كانا عَارِفَيْن بحديث أبي الزُّبير، عن أبي مَعْبد، ومع ذلك قَطَعَا بأنَّ محسِّرًا ليس من مني، وفي هذا سَنَدٌ قَوِيٌّ لما تقدّم من الكلام فيه، والله أعلم.
آخر الرسالة والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
قال الجامع عفا الله عنه: قد أجاد الشيخ المعلّميّ رحمه الله في هذا البحث، وأفاد، فجزاه الله عن خدمة السنّة خير الجزاء، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3091] (
…
) وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَن ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ: وَلَمْ
(1)
هنا كلمة لم أتبيّنها وتكاد تكون (حكمهما) والله أعلم. انتهى. الكاتب.
يَزَلْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي حَتَّى رَمَى الْجَمْرَةَ، وَزَادَ فِي حَدِيثِهِ: وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُشِيرُ بِيَدِهِ، كَمَا يَخْذِفُ الْإِنْسَانُ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
والباقون ذُكروا في الباب، والباب الذي قبله، و"يحيى بن سعيد" هو: القطّان.
وقوله: (كَمَا يَخْذِفُ الْإِنْسَانُ) أراد به الإشارة إلى صغر الحصى.
وقال النوويّ رحمه الله: المراد به الإيضاح، وزيادة البيان لحصى الخذف، وليس المراد أن الرمي يكون على هيئة الخذف، وإن كان بعض أصحابنا قد قال باستحباب ذلك، لكنه غلطٌ، والصواب أنه لا يُستحبّ كون الرمي على هيئة الخذف، فقد ثبت حديث عبد الله بن المغفّل رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في النهي عن الخذف، وإنما معنى هذه الإشارة ما قدّمناه، والله أعلم. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: رواية يحيى بن سعيد القطان، عن أبي الزبير هذه ساقها النسائيّ في "المجتبى" 5/ 267 فقال:
(3052)
- أخبرنا عُبَيْدُ اللهِ بن سَعِيدٍ، قال: حدّثنا يحيي، عن ابن جريجٍ، قال: أخبرني أبو الزبير، عن أبي معبد، عن عبد الله بن عباس، عن الفضل بن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دفعوا عشية عرفة، وغداة جمع:"عليكم بالسكينة"، وهو كافٌّ ناقتَهُ، حتى إذا دخل منى حين هَبَطَ مُحَسِّرًا قال:"عليكم بحصى الخذف الذي تُرمى به الجمرة"، قال: والنبيّ صلى الله عليه وسلم يشير بيده، كما يَخْذِف الإنسان. انتهي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3092](1283) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُدْرِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ،
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 28.
وَنَحْنُ بِجَمْعٍ: سَمِعْتُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ، يَقُولُ فِي هَذَا الْمَقَامِ:"لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.
2 -
(أَبُو الأَحْوَصِ) سلّام بن سُليم الحنفيّ الكوفيّ، ثقة متقن صاحب حديث [7](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.
3 -
(حُصَينُ) بن عبد الرحمن السّلميّ، أبو الْهُذيل الكوفيّ، ثقة تغيّر حفظه في الآخر [5](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 285.
4 -
(كَثِيرُ بْنُ مُدْرِكٍ) أبو مدرك الأشجعيّ الكوفيّ، ثقة [2].
رَوَى عن علقمة، وابني أخيه: الأسود وعبد الرحمن ابني يزيد النخعيين.
وروى عنه أبو مالك الأشجعيّ، ومنصور بن المعتمر، وحُصين بن عبد الرحمن.
قال العجليّ: كوفيّ ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
له عند مسلم حديث واحد في المتابعات في التلبية. قلت: وقال العجلي: كوفي ثقة.
تفرّد به المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا حديث الباب متابعةً، وكرّره ثلاث مرّات.
5 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ) بن قيس النخعيّ، أبو بكر الكوفيّ، ثقة، من كبار [3](ت 83)(ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 295.
6 -
(عَبْدُ اللهِ) بن مسعود الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، مات سنة (32)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُدَاسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين من أوله إلى آخره.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: حُصين، عن كثير، عن عبد الرحمن، ورواية كثير عن عبد الرحمن من رواية الأكابر عن الأصاغر، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ) النخعيّ، أنه (قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ) بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه (وَنَحْنُ بِجَمْعٍ) جملة في محلّ نصب على الحال، أي والحال أننا نازلون في جمع، وهي المزدلفة (سَمِعْتُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ) يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم، والجملة مقول "قال"، قال النوويّ رحمه الله: وفيه دليل على جواز قول: "سورة البقرة"، و"سورة النساء"، وشبه ذلك، وكَرِهَ ذلك بعض الأوائل، وقال: إنما يقال: السورة التي تذكر فيها البقرة، والسورة التي تذكر فيها النساء، وشبهُ ذلك، والصواب جواز قول:"سورة البقرة"، و"سورة النساء"، و"سورة المائدة"، وغيرها، وبهذا قال جماهير العلماء، من الصحابة، والتابعين، فمن بعدهم، وتظاهرت به الأحاديث الصحيحة، من كلام النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والصحابة رضي الله عنهم، كحديث:"من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة، في ليلة كفتاه"، والله أعلم.
قال: وأما قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "سمعت الذي أنزلت عليه سورة البقرة"، فإنما خَصّ البقرة؛ لأن معظم أحكام المناسك فيها، فكأنه قال: هذا مقام مَن أُنزلت عليه المناسك، وأُخِذ عنه الشرع، وبَيَّنَ الأحكام، فاعتمدوه، وأراد بذلك الردّ على من يقول بقطع التلبية من الوقوف بعرفات، وهذا معنى قوله في الرواية الثانية:"أن عبد الله لَبَّى حين أفاض من جمع، فقيل: أعرابي هذا؟ " فقال ابن مسعود ما قال؛ إنكارًا على المعترض، وردًّا عليه، والله أعلم. انتهى.
وقوله: (يَقُولُ) جملة حاليّة من المفعول (فِي هَذَا الْمَقَامِ) ولفظ النسائيّ: "في هذا المكان"، يعني المزدلفة، وقوله:("لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ") مقول "يقول"، وفيه دليلٌ على استحباب إدامة التلبية بعد الوقوف بعرفات، وفي المزدلفة ليلة النحر، وصباحه، وأنها لا تُقطع إلا إذا رمى جمرة العقبة في ذلك اليوم، وهو
المذهب الراجح، كما سبق في حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [42/ 3092 و 3093 و 3094 و 3095](1283)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجِّ"(5/ 265) وفي "الكبرى"(4053)، و (ابن أبي شيبة) في "مسنده"(1/ 139)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 374 و 419)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 388)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 365)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 112) و"المعرفة"(4/ 106)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3093] (
…
) - (وَحَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُدْرِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ لَبَّى حِينَ أَفَاضَ مِنْ جَمْع، فَقِيلَ: أَعْرَابِيٌّ هَذَا؟ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: أَنَسِيَ النَّاسُ، أَمْ ضَلُّوا؟ سَمِعْتُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ، يَقُولُ فِي هَذَا الْمَكَانِ: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ) بن إبراهيم، أبو الحارث البغداديّ، مروزيّ الأصل، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 235)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.
2 -
(هُشَيْمُ) بن بشير السلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7](ت 183) وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (أَعْرَابِيٌّ هَذَا؟) المشار إليه هو ابن مسعود رضي الله عنه، أي أهذا الرجل أعرابيّ من أهل البادية، جاهل بأمر دينه؟.
وقوله: (فَقَالَ عَبْدُ اللهِ) أي ابن مسعود رضي الله عنه منكرًا على من أنكر عليه التلبية حينما أفاض من جمع.
وقوله: (أَنَسِيَ النَّاسُ، أَمْ ضَلُّوا؟) أي أَنَسُوا سنّة النبيّ صلى الله عليه وسلم في التلبية في مثل هذا الموضع، حتى أنكروا عليّ ذلك، أم هم تاركون للسنة مع علمهم بها؟؛ لأنه لا ينكر عليه إلا أحد رجلين: إما جاهلٌ بالسنّة، أو متساهل بها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3094] (
…
) - (وَحَدَّثَنَاه حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حُصَيْنٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ) بن عليّ بن محمد الخلّال، أبو عليّ، نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [11](ت 242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
2 -
(يَحْيَى بْنُ آدَمَ) بن سليمان، تقدّم قريبًا.
3 -
(سُفْيَانُ) الثوريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
و"حُصين" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ، عن حُصين هذه ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" 3/ 365 فقال:
(2955)
- حدّثنا أبو بكر بن مالك، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدّثني أبي، ثنا يحيى بن آدم، ثنا سفيان، عن حصين (ع) وثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، ثنا عبد الله بن محمد بن عمران، ثنا الحلوانيّ، ثنا يحيى بن آدم، ثنا سفيان، عن حُصين، عن كثير بن مدرك، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله، أنه لَبَّى ليلة جَمْعٍ، ثم قال: ها هنا رأيت الذي أُنزلت عليه سورة البقرة يلبي. انتهي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3095] (
…
) - (وَحَدَّثَنِيهِ يُوسُفُ بْنُ حَمَّادٍ الْمَعْنِيُّ، حَدَّثَنَا زِيَادٌ، يَعْنِي الْبَكَّائِيُّ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُدْرِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، وَالْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَا: سَمِعْنَا عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ، يَقُولُ بِجَمْعٍ: سَمِعْتُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ هَا هُنَا، يَقُولُ: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ"، ثُمَّ لَبَّي، وَلَبَّيْنَا مَعَهُ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يُوسُفُ بْنُ حَمَّادٍ الْمَعْنِيُّ) - بفتح الميم، وسكون العين المهملة، ثم نون - أبو يعقوب البصريّ، ثقةٌ [10](ت 245) تقدم في "الصلاة" 52/ 1143.
2 -
(زِيَادٌ الْبَكَّائِيُّ) هو: زياد بن عبد الله بن الطُّفيل العامريّ، أبو محمد الكوفيّ، صدوقٌ ثبتٌ في المغازي، وفي حديثه عن غير ابن إسحاق لينٌ [8](183)(خ م ت ق) تقدم في "الصلاة" 52/ 1143.
3 -
(الأَسْوَدُ) بن يزيد بن قيس النخعيّ، أبو عمرو أو أبو عبد الرحمن الكوفيّ، مخضرمٌ ثقةٌ مكثرٌ فقيهٌ، وهو أخو عبد الرحمن المذكور معه [2](ت 4 أو 75)(ع) تقدم في "الطهارة" 32/ 674.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى البحث فيه قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(43) - (بَابُ التَّلْبِيَةِ، وَالتَّكْبِيرِ، فِي الذَّهَابِ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَاتٍ، في يَوْمِ عَرَفَةَ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3096](1284) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّي، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَا
جَمِيعًا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: غَدَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَاتٍ، مِنَّا الْمُلَبِّي، وَمِنَّا الْمُكَبِّرُ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ) الإمام العَلَم الحجة المشهور، رأس [10](ت 241)(ع) تقدم في "الإيمان" 80/ 427.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ) تقدّم قريبًا.
4 -
(سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ) أبو عثمان البغداديّ، ثقةٌ ربما أخطأ [10](249)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
5 -
(أَبُوهُ) يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص الأمويّ، أبو أيوب الكوفيّ، نزيل بغداد، لقبه الْجَمَلُ، صدوقٌ يُغرب، من كبار [9](ت 194) وله (80) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
6 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) بن قيس الأنصاريّ القاضي، أبو سعيد المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [5](ت 144)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.
7 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ) الماجشون التيميّ مولاهم المدنيّ، ثقة [3](ت 106)(م د س) تقدم في "الطهارة" 4/ 555.
8 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ) بن الخطاب، أبو عبد الرحمن المدنيّ، كان وصيّ أبيه، ثقةٌ [3](ت 105)(خ م د ت س) تقدم في "الجمعة" 1/ 1952.
9 -
(أَبُوهُ) عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان بالتحويل، يجتمعان في يحيى بن سعيد الأنصاريّ، فكلّ من عبد الله بن نُمير، ويحيى بن سعيد الأمويّ يرويان عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ، وهذا معنى قول المصنّف:"قالا جميعًا: حدّثنا إلخ".
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى من قدّمنا في التراجم.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، من يحيى الأنصاريّ، والباقون بغداديون، وابن المثنّى بصريّ.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين روى بعضهم عن بعض.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما، من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ) عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما.
[تنبيه]: هكذا رواية المصنّف رحمه الله لهذا الحديث من طريق عبد الله بن نمير، ويحيى الأمويّ، كلاهما عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ، بإدخال "عبد الله بن عبد الله بن عمر" بين عبد الله بن أبي سلمة، وابن عمر، وتابع يحيى بن سعيد الأنصاريّ عمر بن حسين، عن عبد الله بن أبي سلمة، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه.
ورواه النسائيّ من طريق حمّاد بن زيد، عن يحيى الأنصاريّ، عن عبد الله بن أبي سلمة، عن ابن عمر، فأسقط عبد الله بن عبد الله، وتابع هشيم حمّادًا، عن يحيى الأنصاريّ.
والظاهر أن كلتا الطريقين محفوظتان، والله تعالى أعلم.
(قَالَ: غَدَوْنَا) من باب قعد: بمعنى ذهبنا غُدْوَةً، وهي ما بين صلاة الصبح، وطلوع الشمس، وجمع الغُدْوة غُدًى، مثلُ مُدْيةٍ ومُدَي، هذا أصله، ثم كَثُرَ حتى استُعْمل في الذهاب، والانطلاق أيَّ وقت كان، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"واغدُ يا أنيسُ"
(1)
، أي انطلق، قاله الفيّوميّ رحمه الله. (مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَاتٍ) بصيغة الجمع، اسم للموضع المعروف، قال الفيّوميّ رحمه الله:
(1)
حديث طويل، متّفقٌ عليه.
وعَرَفاتٌ: موضعُ وقوف الْحَجِيج، ويقال: بينها وبين مكة نحو تسعة أميال، ويُعْرَب إعراب مسلمات، ومؤمنات، والتنوين يُشبه تنوين المقابلة، كما في باب مسلماتٍ، وليس بتنوين صرفٍ؛ لوجود مقتضى المنع من الصرف، وهو العلمية والتأنيث، ولهذا لا يدخلها الألف واللام، وبعضهم يقول: عرفة هي الجبل، وعرفات: جمع عَرَفَةَ تقديرًا؛ لأنه يقال: وقفت بعرفة، كما يقال: بعرفات. انتهى
(1)
.
وإلى إعراب نحو عرفات أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:
وَمَا بِتَا وَأَلِفٍ قَدْ جُمِعَا
…
يُكْسَرُ فِي الْجَرِّ وَفِي النَّصْبِ مَعَا
كَذَا أُولَاتُ وَالَّذِي اسْمَا قَدْ جُعِلْ
…
كَأَذْرِعَاتٍ فِيهِ ذَا أَيْضًا قُبِلْ
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي أشار إليه في "الخلاصة" من أن إعراب نحو أذرعات اسم قرية بالشام، وكذا عرفات بإعراب جمع المؤنّث هو المذهب الصحيح، وفيه مذهبان آخران:
أحدهما: أن يُرفع بالضمّة، ويُنصب ويُجرّ بالكسرة، ويُزال منه التنوين، نحو: هذه عرفاتُ، ورأيت عرفاتِ، ووقفت بعرفاتِ بلا تنوين.
والثاني: أن يرفع بالضمّة، ويُنصب ويُجرّ بالفتحة، ويُحذف منه التنوين، نحو: هذه عرفاتُ، ورأيتُ عرفاتَ، ووقفتُ بعرفاتَ، ويروى قوله [من الطويل]:
تَنَوَّرْتُهَا مِنْ أَذْرِعَاتَ وَأَهْلُهَا
…
بِيَثْرِبَ أَدْنَى دَارِهَا نَظَرٌ عَالِ
بكسر التاء، كالمذهب الأول، وبكسرتين، كالمذهب الثاني، وبفتحها بلا تنوين، كالمذهب الأول
(2)
.
(مِنَّا الْمُلَبِّي، وَمِنَّا الْمُكَبِّرُ) يعني أنهم يجمعون بين التلبية والتكبير، فمرّة يلبّي هؤلاء، ويكبّر آخرون، ومرّة بالعكس، فيصدُق في كلّ مرّة أن البعض يكبّر، والبعض يلبّي، والظاهر أنهم ما فعلوا ذلك، إلا لأنهم وجدوا النبيّ صلى الله عليه وسلم فعل مثله، فقد أخرج أحمد، وابن أبي شيبة، والطحاويّ، من حديث عبد الله بن
(1)
"المصباح المنير" 2/ 405.
(2)
راجع: "شرح ابن عقيل على الخلاصة" 1/ 61، 62.
مسعود رضي الله عنه، من طريق مجاهد، عن أبي مَعْمَر، عنه، قال:"خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ترك التلبية حتى رمى جمرة العقبة إلا أن يخلطها بتكبير".
فهذا نصّ صريح بأنه صلى الله عليه وسلم كان يلبّي في غالب أحواله، ويكبّر أحيانًا، فالمستحبّ للحاجّ أن يأتي بالذكرين جميعًا، لكن يكثر التلبية، ويأتي بالتكبير في أثنائها، كما هو صريح فعله صلى الله عليه وسلم.
وفي الرواية التالية من طريق عمر بن حسين، عن عبد الله بن أبي سلمة، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، قال:"كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غداة عرفة، فمنّا المكبر، ومنّا المهلّل، فأما نحن فنكبّر، قال: قلت: والله لعجبًا منكم، كيف لَمْ تقولوا له: ماذا رأيتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع؟ ".
وأراد عبد الله بن أبي سلمة بذلك الوقوفَ على الأفضل؛ لأن الحديث يدلّ على التخيير بين التكبير والتلبية من تقريره لهم صلى الله عليه وسلم على ذلك، فأراد أن يعرف ما كان يصنع هو؛ ليعرف الأفضل من الأمرين، قاله في "الفتح".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لكن قد تبيّن من حديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي ذكرناه ما كان يصنعه صلى الله عليه وسلم، فكان يلبي غالبًا، ويكبّر خلالها، فالأفضل للحاجّ أن يجمع بينهما، مع تغليب التلبية، كما أسلفته آنفًا.
وفي الحديث دليلٌ على استحباب التلبية والتكبير في الذهاب من منى إلى عرفات يوم عرفة، لكن التلبية أفضل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لازمها، مع خلطه بالتكبير، وفيه ردٌّ على من قال بقطع التلبية بعد صبح يوم عرفة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [43/ 3096 و 3097](1284)، و (أبو داود) في "المناسك"(1816)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجِّ"(5/ 250) و"الكبرى"(2/ 418)، و (مالك) في "الموطّإ"(741)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 22 و 30)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2805)، و (الدارميّ) في "سننه"
(1876)
، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 370)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 366)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(12/ 345) و"الأوسط"(5/ 63)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 112)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3097] (
…
) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَيَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ، قَالُوا: أَخْبَرَنَا
(1)
يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَدَاةِ عَرَفَةَ، فَمِنَّا الْمُكَبِّرُ، وَمِنَّا الْمُهَلِّلُ، فَأَمَّا نَحْنُ فَنُكَبِّرُ، قَالَ: قُلْتُ: وَاللهِ لَعَجَبًا مِنْكُمْ، كَيْفَ لَمْ تَقُولُوا لَهُ: مَاذَا رَأَيْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ؟).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون، تقدّم قبل باب.
2 -
(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) أبو موسى الحمّال، البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 243)(م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.
3 -
(يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ) ابن إبراهيم بن كثير العبديّ مولاهم، أبو يوسف البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 252) وله (96) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.
4 -
(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) تقدّم قريبًا.
5 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ) هو: عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجِشُون المدنيّ، نزيل بغداد، مولى آل الْهُدير، ثقةٌ فقيه، مصنّف [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 437، وهو ولد عبد الله بن أبي سلمة شيخ شيخه.
6 -
(عُمَرُ بْنُ حُسَيْنِ) بن عبد الله الْجُمَحيّ مولاهم، أبو قُدامة المكيّ، قاضي المدينة، ثقةٌ [4].
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
رَوَى عن مولاته عائشة بنت قُدامة بن مظعون، وعبد الله بن أبي سلمة الماجِشون، وابن عمر.
وروى عنه ابن إسحاق، وعبد العزيز بن أبي سلمة، وعبد العزيز بن المطَّلِب بن حَنْطب، ومالك، وابن أبي ذئب، وغيرهم.
قال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وعدّه يحيى بن سعيد الأنصاريّ في فقهاء المدينة، حكاه البخاريّ في "التاريخ"، ورَوَى ابن وهب، عن مالك، قال: كان عُمَر من أهل الفضل، والفقه، والمشورة في الأمور، والعبادة، وكان أشدّ شيء ابتذالًا لنفسه، قال مالك: وأخبرني بعض من حضره عند الموت، قال: فسمعته يقول: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)} ، وروى ابن القاسم، عن مالك، قال: كان عمر بن حسين عابدًا، فأخبرني رجل أنه سمعه يقرأ القرآن كلّ يوم إذا راح، فقيل له: كان يختم كلّ يوم وليلة؟ قال: نعم.
تفرّد به المصنّف، والترمذيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (وَمِنَّا الْمُهَلِّلُ) أي القائل: لا إله إلا الله.
وقوله: (قَالَ: قُلْتُ) القائل: "قلتُ" هو عبد الله بن أبي سلمة.
وقوله: (وَاللهِ لَعَجَبًا مِنْكُمْ)"عجبًا" مفعول مطلق لفعل مقدَّر، أي أعجب عجبًا.
وقوله: (كَيْفَ لَمْ تَقُولُوا لَهُ إلخ) تقدّم في حديث ابن مسعود رضي الله عنه ما يُبيّن ما كان يصنعه النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث قال:"فما ترك - يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم التلبيةَ حتى رَمَى جمرة العقبة، إلا أن يخلطها بتكبير"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3098](1285) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَي، قَالَ قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الثَّقَفِيِّ، أَنَّهُ سَأَلَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وَهُمَا غَادِيَانِ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: كَانَ يُهِلُّ الْمُهِلُّ مِنَّا، فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ، وَيُكَبِّرُ الْمُكَبِّرُ مِنَّا، فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الثَّقَفِيُّ) هو: محمد بن أبي بكر بن عوف بن رَبَاح، حجازيّ ثقةٌ [4].
رَوى عن أنس، وعنه ابنه أبو بكر، وموسى بن عقبة، وأخوه محمد بن عقبة، وبكير بن الأشج، وشعبة، ومالك، والضحاك بن عثمان الْحِزَاميّ، وغيرهم.
قال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العجليّ: مدنيّ تابعيّ ثقةٌ.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وابن ماجة، وليس له عندهم إلا هذا الحديث، وأعاده هنا بعده.
4 -
(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) الصحابيّ الخادم الشهير رضي الله عنه، تقدّم قبل بابين.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (192) من رباعيّات الكتاب.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ.
4 -
(ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، ومن المعمّرين، عاش فوق المائة، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الثَّقَفِيِّ، أَنَّهُ سَأَل أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ) رضي الله عنه (وَهُمَا غَادِيَانِ) جملة في محلّ نصب عَلى الحال، أي حال كونهما ذاهبين وقت الغداة (مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ، كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ فِي هَذَا الْيَوْمِ) أي في شأن التلبية، هل
كنتم تلزمونها، أم يكون معها ذكر آخر؟، وفي الرواية التالية:"قال: قلت لأنس بن مالك غداة عرفة: ما تقول في التلبية هذا اليوم؟ "، وقوله:(مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟) متعلّق بحال مقدَّر، أي حال كونكم مصاحبين له صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ) أنس رضي الله عنه (كَانَ يُهِلُّ الْمُهِلُّ مِنَّا) من الإهلال، أي يرفع صوته بالتلبية، وفي رواية النسائيّ:"كان يلبي الملبي"(فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ) بالبناء للمفعول، أي لا أحد ينكر إهلاله؛ لكونه على صواب (وَيُكَبِّرُ الْمُكَبِّرُ مِنَّا، فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ) وفي الرواية التالية: "قال: سرت هذا المسير مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فمنّا المكبّر، ومنّا المهلّ، ولا يعيب أحدنا على صاحبه".
قال في "العمدة": والتكبير المذكور نوع من الذكر أدخله الملبّي في خلال التلبية من غير ترك التلبية؛ لأن المرويّ عن الشارع أنه لم يقطع التلبية حتى رمى جمرة العقبة، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعيّ، وقال مالك: يقطع إذا زالت الشمس، وقال مرّة أخرى: إذا وقف، وقال أيضًا: إذا راح إلى مسجد عرفة.
وقال الخطّابيّ: السنة المشهورة فيه أن لا يقطع التلبية حتى يرمي أوّل حصاة من جمرة العقبة يوم النحر، وعليها العمل، وأما قول أنس رضي الله عنه هذا فقد يَحْتَمِل أن يكون تكبير المكبّر منهم شيئًا من الذكر يُدخلونه في خلال التلبية الثابتة في السنة من غير ترك التلبية. انتهى.
وقال الطيبيّ رحمه الله: هذا رخصة ولا حرج في التكبير، بل يجوز كسائر الأذكار، ولكن ليس التكبير في يوم عرفة من سنة الحجاج، بل السنة لهم التلبية إلى رمي جمرة العقبة يوم النحر. وحَكَى المنذريّ أن بعض العلماء أخذ بظاهره، لكنه لا يدل على فضل التكبير على التلبية، بل على جوازه فقط؛ لأن غاية ما فيه تقريره صلى الله عليه وسلم على التكبير، وذلك لا يدلّ على استحبابه، فقد قام الدليل الصريح على أن التلبية حينئذ أفضل لمداومته صلى الله عليه وسلم عليها.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "ليس من سنّة الحاجّ" فيه نظر؛ بل هو من سنته، وكذا قوله:"لا يدلّ على استحبابه" فيه نظر أيضًا، فكيف لا يدلّ عليه، وقد ثبت في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان يخلط التكبير بالتلبية.
والحاصل أن التكبير سنة ثابتة قولًا، وتقريرًا، ولا شكّ أن التلبية أفضل منه؛ لملازمة النبيّ صلى الله عليه وسلم لها، وأمره أصحابه برفع الصوت بها، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [43/ 3098 و 3099](1285)، و (البخاريّ) في "الجمعة"(970) و"الحجّ"(1659)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ "(5/ 250 - 251) وفي "الكبرى"(3991 و 3992)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(3008)، و (مالك) في "الموطإ"(753)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 229)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1211)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 375)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 509)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 110 و 147)، و (الدارميّ) في "سننه"(1877)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 371)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 367)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 313 و 5/ 112) و"المعرفة"(4/ 105)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الامام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3099] (
…
) - (وَحَدَّثَنِي سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ رَجَاءٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ غَدَاةَ عَرَفَةَ: مَا تَقُولُ فِي التَّلْبِيَةِ هَذَا الْيَوْمَ؟ قَالَ: سِرْتُ هَذَا الْمَسِيرَ، مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَصْحَابِهِ، فَمِنَّا الْمُكَبِّرُ، وَمِنَّا الْمُهَلِّلُ، وَلَا يَعِيبُ أَحَدُنَا عَلَى صَاحِبِهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ رَجَاءٍ) المكيّ، أبو عمر البصريّ، نزيل مكة، ثقةٌ تغيّر حفظه قليلًا، من صغار [8].
رَوَى عن موسى بن عقبة، وابن جريج، وعبيد الله بن عمر، ومالك، وهشام بن حسان، ويونس بن يزيد، والثوريّ، وجعفر الصادق، وغيرهم.
وروى عنه أحمد، وإسحاق، ويحيى بن معين، وعمرو بن محمد الناقد، وسُريج بن يونس، وصدقة بن الفضل المروزيّ، وعبد الله بن الزبير الحميديّ، وغيرهم.
قال الأثرم: سئل عنه أحمد، فحسَّنَ أمره، وقال الميمونيّ عن أحمد: رأيته سنة (87)، وقال الدُّوريّ، وغيره، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صدوقٌ، وقال أبو زرعة: شيخ صالحٌ، وقال ابن أبي خيثمة: ثنا إبراهيم بن محمد الشافعيّ، ثنا عبد الله بن رجاء المكيّ الحافظ المأمون، وقال يعقوب بن سفيان: سمعت صدقة يُحسن الثناء عليه، ويُوَثِّقه، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وكان من أهل البصرة، فانتقل إلى مكة، فنزلها إلى أن مات بها.
أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1285) وحديث (1750): "نفّلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفلًا سوى نصيبنا
…
".
3 -
(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) تقدّم قريبًا.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (وَمِنَّا الْمُهَلِّلُ) كذا في النسخ، والأنسب لما تقدّم في الرواية السابقة أن يقول:"ومنّا المهِلّ" بلام واحدة، من الإهلال؛ لأن المهلّل اسم فاعل من التهليل، وهو قول "لا إله إلا الله"، والمراد هنا إدامة التلبية، فيكون المناسب هو "المهلّ"، فتنبّه.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(44) - (بَابُ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَاتٍ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، وَأَدَاءِ صَلَاتَي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ جَمْعًا بِالْمُزْدَلِفَةِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ)
وبالسند المتّصل إلى الامام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3100](1280 مكرّر) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَىِ مَالِكٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: دَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَرَفَةَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالشِّعْبِ نَزَلَ، فَبَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، وَلَمْ يُسْبغ الْوُضُوءَ، فَقُلْتُ لَهُ: الصَّلَاةَ؟ قَالَ: "الصَّلَاةُ أَمَامَكَ"، فَرَكِبَ، فَلَمَّا جَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ نَزَلَ، فَتَوَضَّأَ، فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أُقِيمَت الصَّلَاةُ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أُقِيمَت الْعِشَاءُ، فَصَلَّاهَا، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(كُرَيْبٌ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) تقدّم قبل باب.
2 -
(أُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ) بن حارثة رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قبل باب.
والباقون ذُكروا في السند الماضي.
وقوله: (حَتَّى إِذَا كَانَ بِالشِّعْبِ) بكسر الشين المعجمة، وسكون العين المهملة: هو الشِّعْب الأيسر دون المزدلفة، وهو الطريق المعهود للحاجّ، ومعناه الأصليّ: ما انفرج بين جبلين، أو الطريق في الجبل.
وقوله: (وَلَمْ يُسْبِغ الْوُضُوءَ) قال القرطبيّ رحمه الله: أي لم يكمله، وهل اقتصر على بعض الأعضاء؛ فيكون وضوءًا لغويًا؟ أو اقتصر على بعض الأعداد -وهو الواحدة مع استيفاء الأعضاء- فيكون وضوءًا شرعيًّا؟ قولان لأهل الشرح، وكلاهما مُحْتَمِلٌ، وقد عَضَدَ مَن قال بالشرعي قولَهُ بقول الراوي:"وضوءًا خفيفًا"، فإنه لا يقال في النَّاقص من الأصل: خفيف؛ وإنما يقال: خفيف؛ في ناقص الكيفية، ولا خلاف في أن قوله:"فأسبغ الوضوء" أنه
الشرعيّ. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: إرادة اللغويّ هنا ضعيف جدًّا، يردّه سياق الحديث برواياته المختلفة، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
وقوله: (ثم أقيمت الصلاة، فصلَّى المغرب، ثم أقيمت العشاء) قال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليل على جواز الاقتصار على الإقامة في الجمع من غير أذان، وقد تقدم الخلاف في ذلك في الجمع بين الصلاتين في حديث جابر رضي الله عنه، وأنه ذكر فيه الأذان للأولى، ويَحْتَمِل قوله:"أقيمت" -ها هنا-: شُرِع فيها، ففُعِلت بأحكامها، كما يقال: أقيمت السُّوق، إذا حُرِّك فيها ما يَليق بها من البيع والشراء، ولم يقصدِ الإخبار عن الإقامة، بل عن الشروع. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: هذه الرواية تدلّ على أنه صلاهما بالإقامة لكلّ واحدة منهما دون الأذان، وفي رواية ابن عمر رضي الله عنهما في آخر الباب أنه صلاهما بإقامة واحدة، وقد سبق في حديث جابر رضي الله عنه الطويل في صفة حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، قال: وهذه الرواية مقدمة على الروايتين الأوليين؛ لأن مع جابر رضي الله عنه زيادة علم، وزيادة الثقة مقبولة، ولأن جابرًا رضي الله عنه اعتنى بالحديث، ونقل حَجة النبيّ صلى الله عليه وسلم مستقصاةً، فهو أولى بالاعتماد، وهذا هو الصحيح من مذهبنا أنه يستحب الأذان للأولى منهما، ويقيم لكل واحدة إقامةً، فيصليهما بأذان وإقامتين، ويتأول حديث إقامة واحدة أن كل صلاة لها إقامة، ولا بدّ من هذا ليجمع بينه وبين الرواية الأولى، وبينه أيضًا وبين رواية جابر رضي الله عنه، وقد سبق إيضاح المسألة في حديث جابر رضي الله عنه. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي تمام البحث في المسألة عند شرح حديث ابن عمر رضي الله عنهما آخر الباب -إن شاء الله تعالى-.
وقوله: (ثُمَّ أُقِيمَت الصَّلَاةُ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أُقِيمَت الْعِشَاءُ، فَصَلَّاهَا) قال النوويّ رحمه الله: فيه دليل على استحباب
(1)
"المفهم" 3/ 390.
(2)
"المفهم" 3/ 390.
(3)
"شرح النوويّ" 9/ 31.
المبادرة بصلاتي المغرب والعشاء أوّلَ قدومه المزدلفة، ويجوز تأخيرهما إلى قبيل طلوع الفجر، وفيه أنه لا يضرّ الفصل بين الصلاتين المجموعتين إذا كان الجمع في وقت الثانية؛ لقوله:"ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله"، وأما إذا جمع بينهما في وقت الأولى فلا يجوز الفصل بينهما، فإن فصل بطل الجمع، ولم تصح الصلاة الثانية إلا في وقتها الأصليّ. انتهى
(1)
.
وقوله: (وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا) فيه أنه لا يصلي بين المجموعتين شيئًا، قال النوويّ رحمه الله: ومذهبنا استحباب السنن الراتبة، لكن يفعلها بعدهما، لا بينهما، ويفعل سنة الظهر التي قبلها قبل الصلاتين. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: استحباب السنن الراتبة في مثل هذا المكان يحتاج إلى دليل خاصّ، فليُتفطّن، والله تعالى أعلم.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد أوردت تمام شرحه، وبيان مسائله قبل باب، وأذكر هنا ما لم يذكر هناك من المسائل، فأقول:
مسألتين مما تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في اختلاف أهل العلم في حكم الجمع، والقصر في عرفة، والمزدلفة، ومنى:
(اعلم): أنه لا خلاف بين أهل العلم في مشروعية الجمع بين الظهر والعصر بعرفة، والمغرب والعشاء بالمزدلفة، وإنما الخلاف، هل هو للنسك، أو لمطلق السفر، أو للسفر الطويل؟، فمن قال: للنسك، وهو الحقّ، قال: يجمع أهل مكة، ومنى، وعرفة، والمزدلفة، ومن قال: لمطلق السفر، قال: يجمعون، سوى أهل المزدلفة، ومن قال: للسفر الطويل، قال: يُتمّ أهل مكة، ومنى، وعرفة، والمزدلفة، وجميع من كان بينه وبينها دون مسافة القصر، ويقصر من طال سفره.
قال ابن قُدامة رحمه الله في "المغني" ما ملخّصه: يجوز الجمع لكلّ من بعرفة من مكيّ وغيره، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الإمام يَجمع بين
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 31.
الظهر والعصر بعرفة، وكذلك من صلّى مع الإمام. قال: فأما قصر الصلاة، فلا يجوز لأهل مكّة، وبهذا قال عطاء، ومجاهد، والزهريّ، وابن جريج، والثوريّ، ويحيى القطّان، والشافعيّ، وأصحاب الرأي، وابن المنذر.
وقال القاسم بن محمد، وسالم، ومالك، والأوزاعيّ: لهم القصر؛ لأن لهم الجمع، فكان لهم القصر كغيرهم. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله باختصار.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه القائلون بمشروعيّة الجمع والقصر في عرفة، والمزدلفة، وكذا القصر في أيام منى لكلّ من أحرم بالحجّ، سواء كان مسافرًا، أم غير مسافر هو الحقّ؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم جمع وقصر بمن معه من الحجاج، ولم يأمر أهل مكة، ولا غيرهم بالإتمام، فدلّ على أن ذلك للنسك.
وأما احتجاج بعضهم بما أخرجه الترمذيّ في "جامعه" من حديث عمران بن حُصين رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلّي بمكة ركعتين، ويقول:"يا أهل مكة أَتِمُّوا، فإنا قوم سَفْرٌ"، قال: وكأنه ترك إعلامهم بذلك بمنى استغناءً بما تقدّم بمكة.
فمتعقّبٌ بأن الحديث ضعيف؛ لأنه من رواية عليّ بن زيد بن جُدْعان، وهو ضعيف، ولو صحّ فالقصّة كانت زمن الفتح، وقصّة منى في حجة الوداع، وكان لا بدّ من بيان ذلك؛ لبُعد العهد، ولكثرة من حضر في الحجّ ممن لم يحضر الفتح، فتأمّل بالإنصاف.
والحاصل أن الحقّ قول من قال: إن الجمع والقصر للنسك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية): في اختلاف أهل العلم في حكم صلاة المغرب قبل المزدلفة:
قال الترمذيّ رحمه الله -بعد ذكر الحديث- ما نصّه: والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم، أنه لا يصلي المغرب دون جمع، قال الحافظ العراقيّ رحمه الله: كأنه أراد العمل عليه مشروعيّةً، واستحبابًا، لا تحتمًا، ولا لزومًا، فإنهم لم يتّفقوا على ذلك، بل اختلفوا فيه، فقال سفيان الثوريّ: لا يصليهما حتى يأتي جَمْعًا، وله السعة في ذلك إلى نصف الليل، فإن صلاهما
دون جَمْع أعاد، وكذا قال أبو حنيفة: إن صلاهما قبل المزدلفة فعليه الإعادة، وسواء صلاهما قبل مغيب الشفق، أو بعده، فعليه أن يعيدهما إذا أتى المزدلفة، وقال مالك: لا يصليهما أحد قبل جَمْع، إلا من عذر، ولم يجمع بينهما حتى يغيب الشفق. وذهب الشافعيّ إلى أن هذا هو الأفضل، وأنه إن جَمَع بينهما في وقت المغرب، أو في وقت العشاء بأرض عرفات، أو غيرها، أو صلّى كلّ صلاة في وقتها جاز ذلك، وبه قال الأوزاعيّ، وإسحاق ابن راهويه، وأبو ثور، وأبو يوسف، وأشهب، وحكاه النوويّ عن أصحاب الحديث، وبه قال عطاء، من التابعين، وعروة، وسالم، والقاسم، وسعيد بن جبير، ذكره في "العمدة"
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الأرجح عندي قول من قال: لا يجمع قبل المزدلفة، فإن جمع أعاد، ولا بدّ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد رضي الله عنهما حين سأله عن الصلاة في الطريق:"الصلاة أمامك"، وفي لفظ:"المصلّى أمامك"، فبيّن أن محلّ الصلاتين، ووقتهما عند الوصول إلى المزدلفة، لا قبل ذلك.
قال الإمام ابن عبد البرّ رحمه الله بعد ذكر ما سبق من الاختلافات ما نصّه: قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: "الصلاة أمامك" يدلّ على أنه لا يجوز لأحد أن يصليهما إلا هناك، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"خُذُوا عني مناسككم"، ولم يصلهما إلا بالمزدلفة، فإن كان له عذر فعسى الله أن يعذره، وأما من لا عذر له فواجب أن لا تجزئه صلاته قبل ذلك الموضع على ظاهر هذا الحديث. انتهى، وهو تحقيقٌ حسنٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3101] (
…
) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ مَوْلَى الزُّبَيْرِ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُسَامَةَ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الدَّفْعَةِ مِنْ عَرَفَاتٍ إِلَى بَعْضِ تِلْكَ
(1)
"عمدة القاري" 8/ 172.
الشِّعَابِ لِحَاجَتِهِ، فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَاءِ، فَقُلْتُ: أَتُصَلِّي؟ فَقَالَ: "الْمُصَلَّى أَمَامَكَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ) بن المهاجر التجيبيّ المصريّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(اللَّيْثُ) بن سعد الإمام المصريّ المشهور، تقدّم أيضًا قبل باب.
3 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) الأنصاريّ المدنيّ، تقدّم في الباب الماضي.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (مَوْلَى الزُّبَيْرِ) أي ابن العوّام، وعبارة الحافظ المزيّ رحمه الله في "تحفته": مولى آل الزبير بن العوّام، ويقال: مولى أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص زوج الزبير بن العوّام، أخو إبراهيم بن عُقبة، ومحمد بن عقبة، أدرك أنس بن مالك، وسهل بن سعد، وعبد الله بن عُمر رضي الله عنهم.
وقال أيضًا: قال الواقديّ: كان لإبراهيم، وموسى، ومحمد بني عقبة حَلْقةٌ في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا كلُّهم فقهاء محدّثين، وكان موسى يُفتي. انتهى
(1)
.
وقوله: (الْمُصَلَّى أَمَامَكَ)"الْمُصَلَّى" بضمّ الميم، وفتح اللام المشدّدة: ظرف مكان، أي: المحلّ الذي تجوز فيه الصلاة في هذه الليلة للحجّاج أمامك، أي: قُدَّامك.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3102] (
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ يَقُولُ: أَفَاضَ
(1)
راجع: "تحفة الأشراف" 29/ 115 - 120.
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَرَفَاتٍ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الشِّعْبِ نَزَلَ، فَبَالَ، وَلَمْ يَقُلْ أُسَامَةُ: أَرَاقَ الْمَاءَ، قَالَ: فَدَعَا بِمَاءٍ، فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا لَيْسَ بِالْبَالِغِ، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ الصَّلَاةَ؟ قَالَ: "الصَّلَاةُ أَمَامَكَ"، قَالَ: ثُمَّ سَارَ حَتَّى بَلَغَ جَمْعًا، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ) الإمام المشهور، تقدّم قريبًا.
3 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عيّاش الأسديّ المدنيّ، مولى آل الزبير، أخو موسى، ثقة [6].
رَوَى عن كريب، وأبي الزناد، وعروة بن الزبير، وغيرهم.
وروى عنه السفيانان، وابن المبارك، ومالك، والدَّراورديّ، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم.
قال ابن المدينيّ: له عشرة أحاديث، وقال أحمد، ويحيى، والنسائيّ: ثقة، ونَقَل الغلابي عن ابن معين أنه قال: إبراهيم أحب إليّ من موسى، وقال الدارقطنيّ: ثقة ليس فيه شيء، وقال مصعب بن عبد الله: كانت له هيبة وعلمٌ، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: صالح لا بأس به، قلت: يُحتج بحديثه؟ قال: يُكتب حديثه، وقال ابن سعد: ثقةٌ قليل الحديث، وقال أبو داود: إبراهيم، وموسى، ومحمد بنو عُقبة كلهم ثقات، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم (1280) وأعاده بعده، و (1336) وأعاده أيضًا بعده، و (2090).
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (فَبَالَ، وَلَمْ يَقُلْ أُسَامَةُ: أَرَاقَ الْمَاءَ) يعني أنه لم يَكْنِ عن البول
بإراقة الماء، بل صرّح باسمه؛ إيضاحًا للمراد، وقال النوويّ رحمه الله: فيه أداء الرواية بحروفها، وفيه استعمال صرائح الألفاظ التي قد تُسْتَبْشَعُ، ولا يُكْنَى عنها إذا دعت الحاجة إلى التصريح، بأن خيف لبس المعنى، أو اشتباه الألفاظ، أو غير ذلك. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3103] (
…
) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ أَبُو خَيْثَمَةَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُقْبَةَ، أَخْبَرَنِي كُرَيْبٌ، أَنَّهُ سَأَلَ أُسَامَةَ ابْنَ زَيْدٍ: كَيْفَ صَنَعْتُمْ حِينَ رَدِفْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَشِيَّةَ عَرَفَةَ؟ فَقَالَ: جِئْنَا الشِّعْبَ الَّذِي يُنِيخُ النَّاسُ فِيهِ لِلْمَغْرِبِ، فَأَنَاخَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَاقَتَهُ، وَبَالَ، وَمَا قَالَ: أَهْرَاقَ الْمَاءَ، ثُمَّ دَعَا بِالْوَضُوءِ، فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا لَيْسَ بِالْبَالِغِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ: "الصَّلَاةُ أَمَامَكَ"، فَرَكِبَ حَتَّى جِئْنَا الْمُزْدَلِفَةَ، فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ النَّاسُ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَلَمْ يَحُلُّوا، حَتَّى أَقَامَ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، فَصَلَّى، ثُمَّ حَلُّوا، قُلْتُ: فَكَيْفَ فَعَلْتُمْ حِينَ أَصْبَحْتُمْ؟ قَالَ: رَدِفَهُ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ، وَانْطَلَقْتُ أَنَا فِي سُبَّاقِ قُرَيْشٍ عَلَى رِجْلَيِّ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل باب.
2 -
(يَحْيىَ بْنُ آدَمَ) بن سليمان الكوفيّ، تقدّم أيضًا قبل باب.
3 -
(زُهَيْرٌ أَبُو خَيْثَمَةَ) ابن معاوية بن حُدَيج الْجُعفيّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (حِينَ رَدِفْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بفتح الراء، وكسر الدال المهملة: أي ركبتَ خلفه.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 31.
وقوله: (عَشِيَّةَ عَرَفَةَ؟) ظرف لـ "رَدِفتَ".
وقوله: (الَّذِي يُنِيخُ النَّاسُ فِيهِ) بضمّ حرف المضارعة، من الإناخة: أي يُبْركون جمالهم.
وقوله: (لِلْمَغْرِبِ) متعلّقٌ بـ "يُنيخ"، يعني أنهم يُنيخون جمالهم ليُصلّوا المغرب هناك، وهذا من جهلهم بالسنّة، وفي الرواية التالية: "لَمّا أتى النَّقْبَ الذي ينزله الأمراء
…
".
وأخرج الفاكهيّ عن سعيد بن جبير، قال:"دفعت مع ابن عمر من عرفة، حتى إذا وازينا الشِّعْب الذي يصلي فيه الخلفاء المغرب دخله ابن عمر، فتنفّض فيه، ثم توضأ، وكبّر، فانطلق، حتى جاء جمعًا، فأقام، فصلّى المغرب، فلما سلّم قال: الصلاة، ثم صلّى العشاء". وأصله في الجمع بجَمْع عند مسلم، وأصحاب السنن.
ورَوَى الفاكهيّ أيضًا من طريق ابن جريج، قال: قال عطاء: "أردف النبيّ صلى الله عليه وسلم أسامة، فلما جاء الشِّعْب الذي يصلّي فيه الخلفاء الآن المغرب، نزل، فأهراق الماء، ثم توضّأ".
قال الحافظ رحمه الله: وظاهر هذين الطريقين أن الخلفاء كانوا يصلّون المغرب عند الشِّعْب المذكور قبل دخول وقت العشاء، وهو خلاف السنّة في الجمع بين الصلاتين بمزدلفة.
والمراد بالخلفاء، والأمراء في هذا الحديث بنو أميّة، فلم يوافقهم ابن عمر على ذلك، وجاء عن عكرمة إنكار ذلك.
وروى الفاكهيّ أيضًا من طريق ابن أبي نَجيح: سمعت عكرمة يقول: اتخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم مبالًا، واتخذتموه مصلّى، وكأنه أنكر بذلك على من ترك الجمع بين الصلاتين لمخالفته السنة في ذلك، وكان جابر يقول: لا صلاة إلا بجَمْع، أخرجه ابن المنذر بإسناد صحيح، ونَقَلَ عن الكوفيين، وعن ابن القاسم صاحب مالك، وجوب الإعادة، وعن أحمد: إن صلّى أجزأه، وهو قول أبي يوسف، والجمهور، قاله في "الفتح".
قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم أن الأرجح قول من قال بوجوب الإعادة على من صلّى قبل المزدلفة؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم جعل مكان الصلاتين في تلك الليلة
المزدلفة، فلا يجوز أداؤهما قبلها، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
وقوله: (وَمَا قَالَ: أَهْرَاقَ الْمَاءَ)؛ يعني أن أسامة لم يَكْنِ عن البول، بل صرّح باسمه.
و"أَهْرَاق" قال النوويّ رحمه الله: بفتح الهاء. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "بفتح الهاء" فيه نظر لا يخفى؛ إذ هو مخالف لما في كتب اللغة، ودونك عبارة "المصباح": راقَ الماءُ والدمُ وغيرُه رَيْقًا، من باب باع: انصَبّ، ويتعدى بالهمزة، فيقال: أراقه صاحبه، والفاعل مُرِيقٌ، والمفعول مُرَاقٌ، وتُبْدَل الهمزة هاء، فيقال: هَرَاقَهُ، والأصل هَرْيَقَهُ، وزانُ دَحْرَجَهُ، ولهذا تُفْتَحُ الهاءُ من المضارع، فيقال: يُهَرِيقه، كما تُفْتَح الدالُ من يُدَحْرجه، وتُفْتَح من الفاعل والمفعول أيضًا، فيقال: مُهَرِيقٌ، ومُهَرَاقٌ، قال امرؤ القيس:
وَإِنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ مُهَرَاقَةٌ
والأمر: هَرِقْ ماءَكَ، والأصل هَرْيِقْ، وزانُ دَحْرِجْ، وقد يُجْمَع بين الهاء والهمزة، فيقال: أَهْرَاقه يُهْريقه ساكن الهاء؛ تشبيهًا له بأسطاع يُسطيع، كأن الهمزة زيدت عوضًا عن حركة الياء في الأصل، ولهذا لا يصير الفعل بهذه الزيادة خماسيًّا. انتهى
(1)
.
وقريب من هذا عبارة "القاموس"، فتبيّن بهذا أن أَهْرَاق بسكون الهاء، وليس بفتحها، كما قال النوويّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقوله: (ثُمِّ دَعَا بالْوَضُوءِ) بفتح الواو، أي بالماء الذي يتوضّأ به.
وقوله: (فتَوَضَّأَ وُضُوءًا لَيْسَ بِالْبَالِغِ) يعني خفيفًا، كما في الرواية الأخرى.
وقوله: (فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ) أي أمر بأن تقام، والمراد أداؤها بالأذان والإقامة، لا بالإقامة المفردة، كما بيّنه حديث جابر رضي الله عنه، كما أسلفنا تقريره.
وقوله: (ثُمَّ أَنَاخَ النَّاسُ فِي مَنَازِلِهِمْ)؛ أي: أبركوا رواحلهم فيها، قال القرطبيّ رحمه الله: يعني: أنهم بادروا بالمغرب عند وصولهم إلى المزدلفة، فصلّوها
(1)
"المصباح المنير" 1/ 248.
قبل أن يُنَوِّخوا إبلهم، ثم لما فرغوا من صلاة المغرب نوَّخوها، ولم يحلُّوا رحالهم من عليها، كما قال في الرواية الأخرى؛ وكأنها شَوَّشت عليهم بقيامها، فأزالوا ما شوَّش عليهم، ويُستدل به على جواز العمل اليسير بين الصلاتين المجموعتين. انتهى
(1)
.
وقوله: (وَلَمْ يَحُلُّوا) قال القرطبيّ رحمه الله: -بضم الحاء- يعني: أنهم لم يَحلُّوا رحالهم، ولا سبيل إلى كسر الحاء، كما توهمه من جَهِل. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "ولا سبيل إلى كسر الحاء"؛ يعني أن يَحُلّ هنا بضمّ الحاء، ولا يجوز كسرها، وهو كما قال، قال الفيّوميّ رحمه الله: وحَلَلتُ الْعُقْدَة حَلًّا، من باب قتل، واسم الفاعل حَلّالٌ. انتهى
(2)
.
وقوله: (حَتَّى أَقَامَ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ) قال النوويّ رحمه الله: فيه دليل لصحة إطلاق "العشاء الآخرة"، وأما إنكار الأصمعيّ وغيره ذلك، وقولهم: إنه من لحن العوامّ، ومُحالِ كلامهم، وأن صوابه "العشاء" فقط، ولا يجوز وصفها بالآخرة فغلط منهم، بل الصواب جوازه، وهذا الحديث صريح فيه، وقد تظاهرت به أحاديث كثيرة، وقد سبق بيانه واضحًا في مواضع كثيرة من "كتاب الصلاة". انتهى
(3)
، وهو بحث نفيسٌ.
وقوله: (فَصَلَّى، ثُمَّ حَلُّوا) أي حلّ الناس الركاب، وأنزلوا أمتعتهم من ظهور رواحلهم.
وقوله: (قُلْتُ: فَكَيْفَ فَعَلْتُمْ حِينَ أَصْبَحْتُمْ؟ قَالَ: رَدِفَهُ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يظهر منه أن هذا الجواب غير مطابق لما سأله عنه، فإنه سأله عن كيفية صنعهم للنسك، فأجابه بإردافه الفضل بن العباس، وبسبقه على رجليه، وليس كذلك، بل هو مُطابقٌ؛ لأنه أخبره بما يتضمن نَفْرُهُم من المزدلفة إلى منى، فكأنه قال: نفرنا إلى منى. انتهى
(4)
.
وقوله: (وَانْطَلَقْتُ أَنَا فِي سُبَّاقِ قُرَيْشٍ) بضمّ السين المهملة، وتشديد الموحّدة: جمع سابق، كما قال في "الخلاصة":
(1)
"المفهم" 3/ 391.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 148.
(3)
"شرح مسلم" 9/ 32، 33.
(4)
"المفهم" 3/ 391.
وَفُعَّلٌ لِفَاعِلٍ وَفَاعِلَهْ
…
وَصْفَيْنِ نَحْوُ عَاذِلٍ وَعَاذِلَهْ
وَمِثْلُهُ الْفُعَّالُ فِيمَا ذُكِّرَا
…
وَذَانِ فِي الْمُعَلِّ لَامًا نَدَرَا
والمعنى: ذهبت أنا في جملة من سبق النبيّ صلى الله عليه وسلم من المزدلفة إلى منى. وقوله: (عَلَى رِجْلَيِّ) بتشديد الياء على التثنية.
والحديث بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3104] (
…
) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَتَى النَّقْبَ الَّذِي يَنْزِلُهُ الْأُمَرَاءُ نَزَلَ، فَبَالَ، وَلَمْ يَقُلْ: أَهَرَاقَ، ثُمَّ دَعَا بِوَضُوءٍ، فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ: "الصَّلَاةُ أَمَامَكَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قريبًا.
2 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عَيّاش الأسديّ، مولى آل الزبير المدنيّ، ثقةٌ [6].
رَوَى عن جدّه لأمه أبي حبة، وكريب مولى ابن عباس، ومحمد بن أبي بكر بن عوف الثقفيّ، ويحيى بن عروة بن الزبير.
وروى عنه ابن أبي الزناد، ووهيب بن خالد، والسفيانان.
قال الميمونيّ، عن أحمد: محمد بن عقبة، وإبراهيم بن عقبة، وموسى بن عقبة إخوة ثقات، وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: لا أعلم إلا خيرًا، وقال ابن معين، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: شيخ صالحٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد: كان ثقةً.
أخرج له المصنّف، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط متابعةً، هذا برقم (1280)، و (1336):"نعم ولك أجر"، وأعاده بعده.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (لَمَّا أَتَى النَّقْبَ) -بفتح النون، وإسكان القاف- وهو الطريق في الجبل، وقيل: الفرجة بين جبلين
(1)
.
وقوله: (الَّذِي يَنْزِلُهُ الْأُمَرَاءُ) تقدّم في الحديث الماضي أن المراد بهم أمراء بني أميّة، وأن فعلهم هذا مخالف للسنّة، وقد خالفهم الصحابة، ومنهم ابن عمر، وأنكر عليهم عكرمة، وقال: اتّخذه النبيّ صلى الله عليه وسلم مبالًا، واتخذتموه أنتم مصلَّى.
والحديث بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3105] (
…
) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ مَوْلَى ابْنِ سِبَاعٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّهُ كَانَ رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ، فَلَمَّا جَاءَ الشِّعْبَ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى الْغَائِطِ، فَلَمَّا رَجَعَ صَبَبْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِدَاوَةِ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ رَكِبَ، ثُمَّ أَتَى
(2)
الْمُزْدَلِفَةَ، فَجَمَعَ بِهَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدِ) بن نصر، تقدّم قبل بابين.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الحميريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظٌ عَمِي في آخره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 111)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
3 -
(مَعْمَرُ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
4 -
(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
5 -
(عَطَاءٌ مَوْلَى ابْنِ سِبَاعٍ) -بكسر السين المهملة، وتخفيف الموحّدة-
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 33.
(2)
وفي نسخة: "حتى أتى المزدلفة".
هو: عطاء بن يعقوب المدنيّ، مولى ابن سِباع، وقد قيل: إن له رؤيةً، ثقةٌ [3].
قال في "التهذيب": والصحيح أنه ليس بالكيخارانيّ، رَوَى عن أسامة بن زيد، وروى عنه الزهريّ، وأبو الزبير، قال النسائيّ: ثقة، روى له مسلم حديثًا واحدًا في الحج.
ورَوَى عبد الله بن منده في "تاريخه" عن الليث بن ممعد، قال: كان عطاء مولى ابن سِبَاع لا يرفع رأسه إلى السماء، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم مسح برأسه، أورده أبو موسى في "ذيل الصحابة"، وقال: لم يذكره ابن منده، وذكره مسلم في الطبقة الأولى من المدنيين. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله في "شرحه": قوله: "مولى سِبَاع" هكذا وقع في معظم النسخ: "عطاء مولى سِبَاع"، وفي بعض النسخ "مولى أمّ سباع"، وكلاهما خلاف المعروف فيه، وإنما المشهور:"عطاء مولى ابن سباع"، هكذا ذكره البخاريّ في "تاريخه"، وابن أبي حاتم في كتابه "الجرح والتعديل"، وخَلَفٌ الواسطيّ في "الأطراف"، والحميديّ في "الجمع بين الصحيحين"، والسمعانيّ في "الأنساب"، وغيرهم، وهو عطاء بن يعقوب، وقيل: عطاء بن نافع، وممن ذكر الوجهين في اسم أبيه: البخاريُّ، وخَلَفٌ، والحميديّ، واقتصر ابن أبي حاتم، والسمعانيّ، وغيرهما على أنه "عطاء بن يعقوب"، قالوا كلهم: وهو عطاء الكيخارانيّ -بفتح الكاف، وإسكان المثناة من تحتُ، وبالخاء المعجمة- ويقال فيه أيضًا: الكوخارانيّ، واتفقوا على أنها نسبة إلى موضع باليمن، هكذا قاله الجمهور، قال أبو سعد السمعانيّ: هي قرية باليمن، يقال لها: كيخران، قال يحيى بن معين: عطاء هذا ثقةٌ. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال النوويّ: إن عطاء بن يعقوب هو عطاء الكيخارانيّ، ونقله عن جماعة، لكن ردّ هذا الحافظ المزيّ، وقال في ترجمة عطاء بن يعقوب هذا: والصحيح أنه ليس بالكيخارانيّ، وقال في ترجمة عطاء بن نافع الكيخارانيّ: وليس بعطاء بن يعقوب مولى ابن سِبَاعٍ المدنيّ،
(1)
راجع: "تهذيب التهذيب" 7/ 195.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 33، 34.
فرّق بينهما أحمد بن حنبل، وعليّ ابن المدينيّ، ومسلم بن الحجّاج، وغيرهم، وجعلهما البخاريّ واحدًا، وتابعه على ذلك أبو حاتم الرازيّ، وغيره، وذلك معدود في أوهامه. انتهى كلام الحافظ المزيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ.
تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.
و"أسامة بن زيد" رضي الله عنهما ذُكر قبله.
وقوله: (إِلَى الْغَائِطِ) قال الفيّوميّ رحمه الله: الغائط: الْمُطْمَئِنّ الواسع من الأرض، والجمع غيطان، وأَغْواطٌ، وغُوطٌ، ثم أُطلق الغائط على الخارج المستقذَر من الإنسان؛ كراهةً لتسميته باسمه الخاصّ؛ لأنهم كانوا يَقضُون حوائجهم في المواضع الْمُطْمَئِنّة، فهو من مجاز المجاورة، ثم توسّعوا فيه حتى اشتقّوا منه، وقالوا: تغوّط الإنسان، وقال ابن الْقُوطيّة: غاط في الماء غَوْطًا: دخل فيه، ومنه الغائط. انتهى
(2)
.
وقوله: (مِنَ الْإِدَاوَةِ) بكسر الهمزة: الْمِطْهَرة، وجمعها الأَدَوَى بفتح الواو
(3)
.
وقوله: (ثُمَّ أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ) وفي نسخة: "حتى أتى المزدلفة".
والحديث بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3106](1286) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ، وَأُسَامَةُ رِدْفُهُ، قَالَ أُسَامَةُ: فَمَا زَالَ يَسِيرُ عَلَى هَيْئَتِهِ
(4)
حَتَّى أَتَى جَمْعًا).
(1)
"تهذيب الكمال" 20/ 121، 122.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 457.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 9.
(4)
وفي نسخة: "على هينته".
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ) ميسرة الْعَرْزميّ، الكوفيّ، ثقةٌ [5](ت 145)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.
4 -
(عَطَاءُ) بن أبي رَبَاح أسلم المكيّ الفقيه، تقدّم قبل باب.
5 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله الحبر البحر رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قبل باب.
و"أُسَامَةُ بْنُ زيد" رضي الله عنهما ذُكر قبله.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ) أي دَفَعَ منها، قال الفيّوميّ رحمه الله: أفاض الناس من عرفات: دَفَعُوا منها، وكلّ دَفْعَةٍ إفاضةٌ، وأفاضوا من منًى إلى مكة يوم النحر: رجعوا إليها، ومنه طَواف الإفاضة، أي: طواف الرجوع من منى إلى مكة. انتهى
(1)
. (وَأُسَامَةُ رِدْفُهُ) بكسر الراء، وسكون الدال المهملة، أي راكب خلفه، والجملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل (فَمَا) نافية (زَالَ يَسِيرُ عَلَى هَيْئَتِهِ)
(2)
بفتح الهاء، بعدها ياء مثنّاة تحتانيّة ساكنة، ثم همزة: أي على حالته التي هو عليها من الوقار والسكينة، وهذا كما أمر صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك لما سمع وراءه زجرًا شديدًا، وضربًا، وصوتًا للإبل، فأشار بسوطه إليهم، وقال:"أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البرّ ليس بالإيضاع"، رواه البخاريّ، وفي رواية النسائيّ:"يا أيها الناس عليكم بالسكينة والوقار، فإن البرّ ليس بإيضاع الإبل"؛ أي بإسراعها.
ووقع في بعض النسخ بدل "هيئته": "هِينته" بكسر الهاء، والياء، بعدها نون، وهو قريب من معنى الأول، وقال الفيّوميّ رحمه الله: ومشى على هِينته: أي ترفَّق من غير عَجَلَةٍ، وأصلها الواو. انتهى
(3)
.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 485.
(2)
وفي نسخة: "على هينته".
(3)
"المصباح" 2/ 643.
[فإن قلت]: هذه الرواية تدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم كان في دفعه من عرفة يمشي على السكينة، والرواية تدلّ على أنه كان يسير النصّ، وهو الإسراع، فكيف التوفيق بينهما؟.
[أجيب]: بأنه لا تنافي بينهما، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يسير العنَق، وهو السير دون الإسراع، فإذا وجد فجوة نصّ، فهذه الرواية بيّنت كيفيّة سيره إذا لم يجد فجوةً، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(حَتَّى أَتَى جَمْعًا) -بفتح الجيم، وسكون الميم-: أي المزدلفة، وسُمِّيت جَمْعًا؛ لأن آدم اجتمع فيها مع حواء، وازدَلَف إليها، أي دنا منها، ورُوي عن قتادة أنها سُمِّيت جمعًا؛ لأنها يُجمع فيها بين الصلاتين، وقيل: وُصفت بفعل أهلها؛ لأنهم يجتمعون بها، ويزدلفون إلى الله، أي يتقربون إليه بالوقوف فيها، وسُمِّيت المزدلفة: إما لاجتماع الناس بها، أو لاقترابهم إلى منى، أو لازدلاف الناس منها جميعًا، أو للنزول بها في كل زُلْفَة من الليل، أو لأنها منزلة وقربة إلى الله، أو لازدلاف آدم إلى حواء بها، قاله في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، أخرجه هنا [44/ 3106](1286)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3107] (
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، جَمِيعًا عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ أَبُو الرَّبِيعِ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سُئِلَ أُسَامَةُ، وَأَنَا شَاهِدٌ، أَوْ قَالَ: سَأَلْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَرْدَفَهُ مِنْ عَرَفَاتٍ، قُلْتُ: كَيْفَ كَانَ يَسِيرُ
(2)
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ؟ قَالَ: كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ).
(1)
"الفتح" 4/ 617.
(2)
وفي نسخة: "كيف كان سير رسول الله صلى الله عليه وسلم".
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ) سليمان بن داود، تقدّم قريبًا.
2 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب.
3 -
(حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(هِشَامُ) بن عروة، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
5 -
(أَبُوهُ) عروة بن الزبير، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
و"أسامة" ذُكر قبله.
شرح الحديث:
عن هشام بن عروة (عَنْ أَبِيهِ) عروة بن الزبير رحمه الله أنه (قَالَ: سُئِلَ أُسَامَةُ) أي ابن زيد رضي الله عنهما (وَأَنَا شَاهِدٌ) جملة في محلّ نصب على الحال من "أسامةُ"(أَوْ) للشكّ من الراوي (قَالَ) عروة (سَأَلْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ) رضي الله عنهما (وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَرْدَفَهُ) أي أركبه خلفه (مِنْ عَرَفَاتٍ) وقوله: (قُلْتُ) تفسير للسؤال (كَيْفَ كَانَ يَسِيرُ
(1)
رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم) هكذا في بعض النسخ "يسير" بصيغة المضارع، ووقع في بعضها:"سيرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم" بصيغة المصدر مضافًا إلى "رسول الله صلى الله عليه وسلم"(حِينَ أفَاضَ) أي دفع (مِنْ عَرَفَةَ؟ قَالَ) أسامة " (كانَ) صلى الله عليه وسلم (يَسِيرُ الْعَنَقَ) -بفتح المهملة، والنون-: هو السير بين الإبطاء والإسراع، قال في "المشارق": هو سير سهل في سرعة، وقال القزّاز: الْعَنَق سير سريع، وقيل: المشي الذي يتحرّك به عنق الدّابّة، وفي "الفائق": الْعَنَق الخطو الفسيح، وانتصاب "العَنَقَ" على المصدر النوعيّ، كرجعت القهقرى.
(فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً) -بفتح الفاء، وسكون الجيم-: المكان المتّسع بين الشيأين، ورواه أبو مصعب، ويحيى بن بُكير، وغيرهما عن مالك، بلفظ:"فُرْجة"- بضمّ الفاء، وسكون الراء- وهو بمعنى الفجوة (نَصَّ) -بفتح النون، وتشديد الصاد المهملة- أي: أسرع، وقال أبو عبيد: النصّ تحريك الدابّة حتى
(1)
وفي نسخة: "كيف كان سير رسول الله صلى الله عليه وسلم".
يستخرج به أقصى ما عندها، وأصل النصّ غاية المشي، ومنه نَصَصْتُ الشيءَ: رفعته، ثم استُعْمِل في ضرب سريع من السير.
وقال القرطبيّ رحمه الله: النصّ: أرفع السير، يعني أنه كان إذا زاحمه الناس سار برفق لأجلهم، وإذا زال الزحام أسرع، وهذا يدلّ على أن أصل المشروعيّة في ذلك الموضع الإسراع. انتهى
(1)
.
وقال ابن خزيمة رحمه الله: في هذا الحديث دليلٌ على أن الحديث الذي رواه ابن عبّاس عن أسامة أنه قال: "فما رأيت ناقته رافعة يدها حتى أتى جمعًا" أنه محمول على حال الزحام، دون غيره. انتهى.
قال في "الفتح": وأشار بذلك إلى ما أخرجه حفص، من طريق الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، عن أسامة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أردفه حين أفاض من عرفة، وقال:"أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البرّ ليس بالإيجاف"، قال: فما رأيت ناقته رافعة يدها حتى أتى جمعًا
…
الحديث، أخرجه أبو داود، وأخرجه البخاريّ من حديث ابن عباس، ليس فيه أسامة، وأخرج مسلم من طريق عطاء، عن ابن عباس، عن أسامة في أثناء حديث -يعني الحديث الماضي- قال:"فما زال يسير على هينته حتى أتى جمعًا"، وهذا يشعر بأن ابن عباس إنما أخذه عن أسامة رضي الله عنهم. انتهى.
وقال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: في هذا الحديث كيفية السير في الدفع من عرفة إلى مزدلفة لأجل الاستعجال للصلاة؛ لأن المغرب لا تُصلّى إلا مع العشاء بالمزدلفة، فيجمع بين المصلحتين، من الوقار والسكينة عند الزحمة، ومن الإسراع عند عدم الزحام. انتهى.
وفيه أيضًا بيان ما كان عليه السلف -رحمهم الله تعالى- من الحرص على السؤال عن كيفية أحواله صلى الله عليه وسلم في جميع حركاته، وسكناته؛ ليقتدوا به في ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"المفهم" 3/ 392.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [44/ 3107 و 3108](1286) و (البخاريّ) في "الحجّ"(1666) و"الجهاد"(2999) و"المغازي"(4413)، و (أبو داود) في "المناسك"(1923)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(5/ 258 و 267) و"الكبرى"(4019 و 4057)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(3017)، و (مالك) في "الموطّإ"(893)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 248)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 87)، و (ابن أبي شيبة) في "مسنده"(1/ 119 و 130)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 205 و 210)، و (الدارمي) في "سننه"(1880)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 377)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 369 و 370)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(4/ 266)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(5/ 224 و 7/ 198)، و (البزّار) في "مسنده"(7/ 26)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 119) و"المعرفة"(4/ 111)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3108] (
…
) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ، وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَزَادَ في حَدِيثِ حُمَيْدٍ: قَالَ هِشَامٌ: وَالنَّصُّ فَوْقَ الْعَنَقِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الكلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، يقال: اسمه عبد الرحمن، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [8](ت 187) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 339.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ) تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن حُميد بن عبد الرحمن الرُّؤَاسيّ، أبو عوف الكوفيّ، ثقةٌ [8] (ت 189) وقيل:(190) أو بعدها (ع) تقدم في "الصلاة" 20/ 934.
والباقيان ذُكرا في الباب.
وقوله: (قال هشام: وَالنَّصُّ فَوْقَ الْعَنَقِ)"هشام" هو ابن عروة، كما بُيِّن في الرواية التالية، قال في "الفتح" ما حاصله: هذا التفسير من كلام هشام، كما بُيّن في هذه الرواية، وأدرجه يحيى القطّان فيما أخرجه البخاريّ في "الجهاد"، وسفيان فيما أخرجه النسائيّ، وعبد الرحيم بن سليمان، ووكيع فيما أخرجه ابن خُزيمة كلهم عن هشام.
وقد رواه إسحاق في "مسنده" عن وكيع، ففصله، وجعل التفسير من كلام وكيع، ورواه ابن خزيمة من طريق سفيان، ففصله، وجعل التفسير من كلام سفيان، وسفيان ووكيع إنما أخذا التفسير المذكور عن هشام، فرجع التفسير إليه، وقد رواه أكثر رواة "الموطإ" عن مالك، فلم يذكروا التفسير المذكور، وكذا رواه أبو داود الطيالسيّ عن حماد بن سلمة، ومسلم من طريق حماد بن زيد -يعني الرواية السابقة- كلاهما عن هشام. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: رواية عبدة بن سليمان، وعبد الله بن نُمير، وحُميد بن عبد الرحمن ثلاثتهم عن هشام بن عروة هذه ساقها أبو نعيم في "مستخرجه" (3/ 369) فقال:
(2969)
- ثنا أبو بكر الطلحيّ، ثنا عُبيد بن غَنّام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا ابن نُمَير، وعبدة، عن هشام، عن أبيه، قال: سئل أسامة (ح) وثنا الطلحيّ، ثنا عُبيد، ثنا أبو بكر، ثنا حميد بن عبد الرحمن، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: سمعت أسامة بن زيد، سئل كيف كان يسير رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دفع من عرفات، قال: كان يسير العَنَقَ، فإذا وَجَدَ فَجْوَةً نَصّ، وزاد في حديث حميد: قال هشام: والنصُّ فوق الْعَنَق. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3109](1287) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ يَزِيدَ الْخَطْمِيَّ
(1)
راجع: "الفتح" 4/ 608، 609.
حَدَّثَهُ، أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ أَخْبَرَهُ، أنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو أيوب المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 177)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.
2 -
(عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ) الأنصاريّ الكوفيّ، ثقةٌ رُمي بالتشيّع [4](ت 116)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 244.
3 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ الْخَطْمِيُّ) هو: عبد الله بن يزيد بن زيد بن حُصين الأنصاريّ الْخَطميّ، صحابيّ صغير، وكان أميرًا على الكوفة على عهد ابن الزبير، كما يأتي في الرواية التالية (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 456.
4 -
(أَبُو أَيُّوبَ) خالد بن زيد بن كُليب الأنصاريّ الصحابيّ الشهير، من كبار الصحابة رضي الله عنهم، شَهِد بدرًا، ونزل النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه حين قَدِم المدينة، ومات رضي الله عنه غازيًا بالروم سنة (50)، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 113.
والباقيان ذُكرا في الباب، و"يحيى بن سعيد" هو: الأنصاريّ المدنيّ.
وقوله: (صَلَّى مَعَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ) وفي رواية للطبرانيّ من طريق جابر الجعفيّ، عن عديّ بهذا الإسناد:"صلّى بجمع المغرب ثلاثًا، والعشاء ركعتين بإقامة واحدة"، قال في "الفتح": وفيه ردّ على قول ابن حزم: إن حديث أبي أيوب ليس فيه ذكرُ أذان ولا إقامة؛ لأن جابرًا وإن كان ضعيفًا، فقد تابعه محمد بن أبي ليلى، عن عديّ على ذكر الإقامة فيه عند الطبرانيّ أيضًا، فيقوى كلّ واحد منهما بالآخر. انتهى
(1)
.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي أيوب رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
"الفتح" 4/ 617.
أخرجه (المصنّف) هنا [44/ 3109 و 3110](1287)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1674) و"المغازي"(4414)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(1/ 291) و"مناسك الحجّ"(5/ 260) و"الكبرى"(1/ 492 و 2/ 27)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(3020)، و (مالك) في "الموطّإ"(1/ 401)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 263)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 418 و 419 و 420)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(380 و 381)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 370 و 371)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(4/ 122 و 123 و 130)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 120)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3110] (
…
) - (وَحَدَّثَنَاه قُتَيْبَةُ، وَابْنُ رُمْحٍ، عَن اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، قَالَ ابْنُ رُمْحٍ فِي رِوَايَتِهِ: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى الْكُوفَةِ، عَلَى عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلّهم ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: رواية الليث، عن يحيى بن سعيد هذه ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" (3/ 371 - 372) فقال:
(2971)
- حدّثنا إبراهيم بن عبد الله، ثنا محمد بن إسحاق الثقفيّ، ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن عديّ بن ثابت الأنصاريّ.
وثنا محمد بن إبراهيم، ثنا محمد بن زبان، ثنا محمد بن رُمْح، ثنا الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن عدي بن ثابت الأنصاريّ، عن عبد الله بن يزيد الخطميّ، وكان أميرًا على الكوفة على عهد بن الزبير، أنه سمع أبا أيوب يقول: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب والعشاء في حجة الوداع بالمزدلفة. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3111](703) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَن ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْمَغْرِبَ وَاَلْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ جَمِيعًا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) تقدّم قريبًا.
2 -
(ابْنُ عُمَرَ) عبد الله رضي الله عنهما، تقدّم في الباب الماضي.
والباقون ذُكروا في الباب، وشرح الحديث واضح، وهو من أفراد المصنّف رحمه الله، أخرجه هنا [44/ 3111](703)، و (أبو داود) في "المناسك"(1926)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(1/ 291)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 62)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2848)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3112](1288) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ قَالَ: جَمَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعِ، لَيْسَ بَيْنَهُمَا سَجْدَةٌ، وَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ، وَصَلَّى الْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ، فَكَانَ عَبْدُ اللهِ يُصَلِّي بِجَمْعٍ كَذَلِكَ، حَتَّى لَحِقَ بِاللهِ تَعَالَى).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيىَ) التُّجِيبيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
4 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ) بن الخطاب العدويّ، أبو بكر المدنيّ، شقيق سالم، ثقةٌ [3](ت 106)(ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 22/ 1760.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (بِجَمْع)؛ أي بالمزدلفة.
وقوله: (لَيْسَ بَيْنَهُمَا سَجْدَةٌ)؛ يعني بالسجدة صلاة النافلة؛ أي لم يصلّ بينهما نافلةً، وقد جاءت السجدة بمعنى النافلة، وبمعنى الصلاة
(1)
.
وفي رواية البخاريّ من طريق ابن أبي ذئب، عن الزهريّ، عن سالم:"ولم يسبّح بينهما، ولا على إثر كل واحدة منهما"؛ أي لم يتنفل بين الصلاتين، ولا عقب كلّ واحدة منهما. قال في "الفتح": ويستفاد منه أنه ترك التنفل عقب المغرب وعقب العشاء، ولمّا لم يكن بين المغرب والعشاء مُهْلة صَرَّح بأنه لم يتنفل بينهما، بخلاف العشاء، فإنه يَحْتَمِل أن يكون المراد أنه لم يتنفل عقبها، لكنه تنفل بعد ذلك في أثناء الليل، ومن ثم قال الفقهاء: تؤخر سنة العشاءين عنهما، ونَقَلَ ابن المنذر الإجماع على ترك التطوع بين الصلاتين بالمزدلفة؛ لأنهم اتفقوا على أن السنة الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة، ومن تنفل بينهما لم يصح أنه جمع بينهما. انتهى.
قال الحافظ: ويَعْكُر على نقل الاتفاق فعل ابن مسعود رضي الله عنه. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: أراد بما نُقل عن ابن مسعود: ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" من طريق أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: حج عبد الله رضي الله عنه، فأتينا المزدلفة حين الأذان بالعتمة، أو قريبًا من ذلك، فأَمَر رجلًا، فأذن وأقام، ثم صلى المغرب، وصلى بعدها ركعتين، ثم دعا بعشائه فتعشى، ثم أمر رجلًا، فأذن وأقام، ثم صلى العشاء ركعتين
…
الحديث.
ففيه أن ابن مسعود رضي الله عنه صلى سنة المغرب بعدها قبل العشاء، لكنه لم يُسنده إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيَحْتَمل أنه اجتهاد منه، وما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أحقّ أن يُتّبع، فتبصّر.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 35.
وقوله: (وَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ، وَصَلَّى الْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ) فيه دليلٌ على أن المغرب لا تقصر، بل تصلى ثلاثًا سفرًا وحضرًا، وهو مجمع عليه بين المسلمين، وفيه أن العشاء وغيرها من الرباعيّات تُقصر، ولا ينبغي إتمامها، فتفطّن.
وقوله: (حَتَّى لَحِقَ بِاللهِ تَعَالَى)؛ أي حتى مات.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [44/ 3112 و 3113 و 3114 و 3115 و 3116](1288)، و (أبو داود) في "المناسك"(1931 - 1932)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(1/ 239 و 240 و 291 و 2/ 16) و"مناسك الحجّ"(5/ 260) و"الكبرى"(2/ 428)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 80 و 81 و 2/ 33 و 59 و 79 و 62)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 145)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3113] (
…
) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْحَكَمِ، وَسَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّهُ صَلَّى الْمَغْرِبَ بِجَمْعٍ، وَالْعِشَاءَ بِإِقَامَةٍ، ثُمَّ حَدَّثَ عَن ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ صَلَّى مِثْلَ ذَلِكَ، وَحَدَّثَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَنَعَ مِثْلَ ذَلِكَ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) تقدّم قريبًا.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجاج الواسطيّ، ثم البصريّ الإمام الحجة الثبت الناقد الشهير [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.
4 -
(الْحَكَمُ) بن عُتيبة الكَنْديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، ربما دلّس [5](ت 113)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
5 -
(سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلِ) الحضرميّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 122) أو بعدها (ع) تقدم في "الحيض" 5/ 704.
6 -
(سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ) الأسديّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه [3](ت 95)(ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 329.
و"ابن عمر" رضي الله عنهما ذُكر قبله، وشرح الحديث واضح، وقد تقدّمت مسائله قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3114] (
…
) - (وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: صَلَّاهُمَا بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
وكلهم ذُكروا في الباب.
وقوله: "بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ"؛ أي لكلّ واحدة منهما بدليل الرواية الأخرى، فقد أخرج البخاريّ رحمه الله الحديث في "صحيحه"، فقال:
(1673)
- حدّثنا آدم، حدّثنا ابن أبي ذئب، عن الزهريّ، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: جمع النبيّ صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بجمع، كلَّ واحدة منهما بإقامة، ولم يسبّح بينهما، ولا على إِثْرِ كل واحدة منهما. انتهى.
[تنبيه]: رواية وكيع، عن شعبة هذه ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده"(10/ 148) بسند المصنّف رحمه الله، فقال:
(5771)
- حدّثنا أبو خيثمة، حدّثنا وكيع، حدّثنا شعبة، عن الحكم، وسلمة بن كُهيل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، أنه صلاهما بإقامة واحدة، وقال: هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المكان. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3115] (
…
) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: جَمَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ، صَلَّى الْمَغْرِبَ ثَلَاثًا، وَالْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، وقد تقدّم شرح الحديث، وبيان مسائله قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3116] (
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَفَضْنَا مَعَ ابْنِ عُمَرَ، حَتَّى أتَيْنَا جَمْعًا، فَصَلَّى بِنَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَقَالَ: هَكَذَا صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْمَكَانِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ) البجليّ الأحمسيّ مولاهم، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 299.
2 -
(أَبُو إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد الله السبيعيّ الكوفيّ، ثقة مكثر عابد، مدلّسٌ، واختلط بآخره [3](ت 120) أو قبل ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.
والباقون ذُكروا في الباب، وشرح الحديث واضح.
[تنبيه]: هذا الحديث من الأحاديث التي استدركها الدارقطنيّ رحمه الله، فقال: هذا عندي وَهَمٌ من إسماعيل، وقد خالفه جماعة، منهم: شعبة، والثوريّ، وإسرائيل، وغيرهم، فرووه عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن مالك، عن ابن عمر. قال: وإسماعيل وإن كان ثقةً، فهؤلاء أقوم بحديث أبي إسحاق منه. انتهى كلامه رحمه الله.
وأجاب النوويّ رحمه الله، فقال: وجوابه ما سبق بيانه مرات في نظائره أنه يجوز أن أبا إسحاق سمعه بالطريقين، فرواه بالوجهين، وكيف كان فالمتن صحيحٌ، لا مَقْدَحَ فيه. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر أن ما قاله الدارقطنيّ رحمه الله هو الأرجح؛ لأن هؤلاء الجماعة مع كثرتهم، وقوّة حفظهم أولى بالحفظ منه، والذين خالفوه هم: سفيان الثوريّ، وشعبة جبلان في الحفظ، وإسرائيل بن يونس الذي يقال فيه: إنه يحفظ أحاديث جدّه أبي إسحاق كما يحفظ سورة الحمد.
والحاصل أن متن الحديث صحيح لا غبار عليه، فقد ثبت من طرق صحيحة عند مسلم وغيره، وإنما الكلام في رواية إسماعيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، وقد عرفت أن الأرجح رواية أبي إسحاق، عن عبد الله بن مالك
(2)
، عن ابن عمر رضي الله عنهما، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(45) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ زِيَادَةِ التَّغْلِيسِ بصَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَالْمُبَالَغَةِ فِيهِ بَعْدَ تَحَقُّقِ طُلُوعِ الْفَجْرِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3117](1289) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَن
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 36.
(2)
هو عبد الله بن مالك بن الحارث الهمدانيّ، ويقال: الأسديّ الكوفيّ، روى عن عليّ، وابن عمر رضي الله عنهم، وعنه أبو إسحاق السبيعيّ، وأبو روق الْهَمْدانيّ، ذكره ابن حبّان في "الثقات"، له عند أبي داود والترمذيّ حديث الباب فقط. انتهى. "تهذيب التهذيب" 2/ 414، وقال في "التقريب": مقبول من الثالثة.
الْأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى صَلَاةً إِلَّا لِمِيقَاتِهَا، إِلَّا صَلَاتَيْنِ: صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ، وَصَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَئِذٍ قَبْلَ مِيقَاتِهَا).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم قريبًا.
2 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْرَان، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(عُمَارَةُ) بن عُمير التيميّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4] مات بعد المائة، أو قبلها (ع) تقدم في "الصلاة" 29/ 977.
4 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ) بن قيس النخعيّ، أبو بكر الكوفيّ، ثقةٌ، من كبار [3](ت 83)(ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 295.
5 -
(عَبْدُ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه، تقدّم قبل بابين.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم، ثم فصّل؛ لما أسلفته غير مرّة.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه: يحيى، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه، وابن أبي شيبة، فما أخرج له الترمذيّ، وأما أبو كريب فمن شيوخ الجماعة كلهم بلا واسطة، وهم تسعة، وقد تقدّموا غير مرّة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، سوى يحيى، فنيسابوريّ.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: الأعمش، عن عُمارة، عن عبد الرحمن.
5 -
(ومنها): أن فيه عبد الله مهملًا، وهو ابن مسعود؛ لأن الراوي عنه كوفيّ؛ للقاعدة المشهورة التي ذكرها السيوطيّ في "ألفيّة الحديث" بقوله:
وَحَيْثُمَا أُطْلِقَ عَبْدُ اللهِ فِي
…
طَيْبَةَ فَابْنُ عَمَرٍ وَإِنْ يَفِي
بِمَكَّةٍ فَابْنُ الزُّبَيْرِ أَوْ جَرَى
…
بِكُوفَةٍ فَهْوَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُرَى
وَالْبَصْرَةِ الْبَحْرُ وَعِنْدَ مِصْرِ
…
وَالشَّامِ مَهْمَا أُطْلِقَ ابْنُ عَمْرِو
وقد تقدّم هذا غير مرّة، وإنما أعدته تذكيرًا؛ لطول العهد به، فتنبّه.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ الله) بن مسعود رضي الله عنه أنه (قَالَ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى صَلَاةً إِلَّا لِمِيقَاتِهَا) أي في وقتها، فاللام بمعنى "في"، قال ابن هشام الأنصاريّ رحمه الله في "المغني" عند تعداد معاني اللام: والعاشر: موافقة "في"، نحو قوله تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47]، وقوله:{لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187]، وقولهم:"مَضَى لسبيله"، قيل: ومنه قوله تعالى: {يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24]؛ أي في حياتي، وقيل: للتعليل؛ أي لأجل حياتي في الآخرة. انتهى
(1)
.
وفي رواية البخاريّ: "ما رأيتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى صلاةً لغير ميقاتها
…
" (إِلَّا صَلَاَتَيْنِ: صَلَاةَ الْمَغْرِبِ) بنصب "صلاةَ" على البدلية، أو بتقدير "أعني"، أي أعني بهما صلاة المغرب (وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ) قال القاري: أي صلاة المغرب في وقت العشاء أي وصلاة الظهر والعصر بعرفة، فإنه صلى العصر في وقت الظهر، ولعله رَوَى هذا الحديث بمزدلفة، ولذا اكتفى عن ذكر الظهر والعصر، فلا بدّ من تقديرهما، أو ترك ذكرهما لظهورهما عند كل أحد؛ إذ وقع ذلك الجمعُ في مجمع عظيم في النهار على رؤوس الأشهاد، فلا يحتاج إلى ذكره في الاستشهاد، بخلاف جمع المزدلفة، فإنه بالليل، فاختصّ بمعرفته بعض الأصحاب، والله تعالى أعلم.
والحاصل أن في العبارة مسامحةً، وإلا فلا يصح قوله:"إلا الصلاتين"، المرادِ بهما المغرب والعشاء، سواء اتصل الاستثناء، كما هو ظاهر الأداة، أو انقطع، كما بنى عليه ابن حجر
(2)
البناء، فإن صلاة العشاء في ميقاتها المقدر شرعًا إجماعًا. انتهى كلام القاري. وقال وليّ الدين العراقيّ: قوله: "صلاة المغرب والعشاء بجمع" أي وكذا
(1)
"مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 418.
(2)
أراد: ابن حجر الهيتميّ الفقيه الشافعيّ، شارح "المشكاة".
بعرفات أيضًا في الظهرين، كما عند النسائيّ- أي في باب الجمع بين الظهر والعصر بعرفة -عن ابن مسعود رضي الله عنه:"ما رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى صلاة إلا لوقتها إلا بجمع وعرفات"، فلم يَحْفَظ راوي هذه الرواية ذِكْرَ "عرفات"، وحفظه غيره، والحافظ حجة على الناسي. انتهى.
قال صاحب "المرعاة": وحينئذ فالمراد بقوله: "إلا صلاتين": المغرب بمزدلفة، فإنها أُخِّرت، والعصر بعرفة، فإنها قُدِّمت، فهاتان الصلاتان قد وقع فيهما التحويل عن وقتي أدائهما المعهودين في غير هذا اليوم حقيقةً، ثم استَطْرَد بذكر الفجر؛ لأنه متحولًا أيضًا عن وقته المستحب المعتاد في سائر الأيام وإن كان لم يتحول عن وقته الأصليّ.
وقال السنديّ في "حاشية النسائيّ": هذا الحديث من مشكلات الأحاديث، وقد تكلمت عليه في حاشية "صحيح البخاريّ" في "باب من يصلي الفجر بجمع"، والصحيح في معناه أن مراده: ما رأيته صلى الله عليه وسلم صلى صلاة لغير وقتها المعتاد لقصد تحويلها عن وقتها المعتاد، وتقريرها في غير وقتها المعتاد؛ لما في "صحيح البخاري" من روايته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن هاتين الصلاتين حُوِّلتا عن وقتهما في هذا المكان"، وهذا معنى وجيه، ويُحْمَل قوله:"قبل ميقاتها" على هذا على الميقات المعتاد، ويقال: إنه غَلَّس تغليسًا شديدًا يخالف التغليس المعتاد، لا أنه صلى قبل أن يطلع الفجر، فقد جاء في حديثه، وحديث غيره أنه صلى بعد طلوع الفجر، وعلى هذا المعنى لا يَرِدُ شيء سوى الجمع بعرفة، ولعله كان يرى ذلك للسفر، والله أعلم. انتهى.
واستَدَّل الحنفية بحديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا على ترك الجمع بين الصلاتين في غير يوم عرفة وجمع.
وأجاب المجوِّزون بأن مَن حَفِظ حجة على من لم يحفظ، وقد ثبت الجمع بين الصلاتين من حديث ابن عمر، وابن عباس، وغيرهم رضي الله عنهم، وتقدم في موضعه ما فيه كفاية.
وأيضًا فالاستدلال به إنما هو من طريق المفهوم، وهم لا يقولون به، وأما من قال به فشرطه أن لا يعارضه منطوق.
وأيضًا فالحصر فيه ليس على ظاهره؛ لإجماعهم على مشروعية الجمع بين الظهر والعصر بعرفة، وكذا في الفتح.
وقال النوويّ: قد يحتجّ أصحاب أبي حنيفة بهذا الحديث على منع الجمع بين الصلاتين في السفر؛ لأن ابن مسعود رضي الله عنه من ملازمي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر أنه ما رآه يجمع إلا في هذه الليلة، ومذهب الجمهور جواز الجمع في جميع الأسفار المباحة التي يجوز فيها القصر. والجواب عن هذا الحديث أنه مفهوم، وهم لا يقولون به، ونحن نقول بالمفهوم ولكن إذا عارضه منطوق قدمناه على المفهوم، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بجواز الجمع، ثم هو متروك الظاهر بالإجماع في صلاتي الظهر والعصر بعرفات. انتهى.
وقال السنديّ في "حاشية البخاريّ"(1/ 201): قد استَدَلّ به من ينفي جمع السفر كعلمائنا الحنفية، وردّه النوويّ بأنه مفهوم، وهم لا يقولون به، ونحن نقول به إذا لم يعارضه منطوق، كما هنا.
وتعقبه العينيّ، فقال: لا نسلّم أنهم لا يقولون بالمفهوم وإنما لا يقولون بالمفهوم المخالف. انتهى.
قال السنديّ: وهذا عجيب منهما، فإن استدلال الحنفية بصريح النفي الذي هو منطوق، لا بالإثبات الذي يدل عليه الاستثناء بالمفهوم، ولو كان بالإثبات من باب المفهوم المخالف بالاتفاق، فلم يكن لقول العينيّ وجه.
بَقِي أن الاستدلال به فرع تصور معناه، ومعناه ها هنا لا يخلو عن خفاء؛ إذ ظاهره يفيد أنه صلى الفجر قبل وقته، وهو مخالف للإجماع، وقد جاء خلافه في روايات حديث ابن مسعود أيضًا، وفي حديث جابر.
وأجيب بأن المراد أنه صلى قبل الوقت المعتاد بأن غَلَّس.
وردّ بأن هذا يقتضي أن يكون المعتاد الإسفار، وهو خلاف ما يفيده تتبع الأحاديث الصحاح الواردة في صلاة الفجر.
وأجيب بأن المراد التغليس الشديد.
والحاصل أنه صلى يومئذ أول ما طلع الفجر، والمعتاد أنه كان يصلي بعد ذلك بشيء، فيرد أنها صارت حينئذ لوقتها فكيف يصح عدّها لغير وقتها حتى تستثني من قوله:"ما رأيت"
…
إلخ.
وأجيب بأن المراد بقوله: "لغير وقتها" المعتاد.
قلت
(1)
: فيلزم من اعتبار العموم فيه أنه صلى الله عليه وسلم ما صلى صلاة في غير الوقت المعتاد أبدًا، لا بتقديم شيء، ولا بتأخيره، لا سفرًا ولا حضرًا، سوى هاتين الصلاتين، بل كان دائمًا يصلي في وقت واحد، وهذا خلاف ما يعرفه كل أحد بالبديهة، وخلاف ما يفيده تتبع الأحاديث، وخلاف ما أَوَّل به علماؤنا -يعني الحنفيّة- جمعَ السفر من الجمع فعلًا، فإنه لا يكون إلا بتأخير الصلاة الأولى إلى آخر الوقت، فلزم كونها في الوقت الغير المعتاد.
ثم هو مشكل بجمع عرفة أيضًا، وحينئذ فلا بد من القول بخصوص هذا الكلام بذلك السفر مثلًا.
ويبقى بعدُ جمع عرفة، فيقال: لعله ما حضر ذلك الجمع، فما رأى، فلا ينافي قوله:"ما رأيت"، أو يقال: لعله ما رأى صلاة خارجة عن الوقت المعتاد غير هاتين الصلاتين، فأخبر حسب ما رأى، ولا اعتراض عليه، ولا حجة للقائلين بنفي الجمع.
والأحسن منه ما يشير إليه كلام البعض، ثم ذكر السنديّ ما تقدم من كلامه، وتوجيهه في حاشيته على النسائيّ.
(وَصَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَئِذٍ)؛ أي بمزدلفة (قَبْلَ مِيقَاتِهَا)؛ أي قبل وقتها المعتاد فعلُها فيه في الحضر، لا أنه أوقعها قبل طلوع الفجر، كما يتبادر من ظاهر اللفظ، ووقتها المعتاد أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا أتاه المؤذن بطلوع الفجر صلى ركعتي الفجر في بيته، ثم خرج فصلى الصبح، وأما بمزدلفة فكان الناس مجتمعين، والفجر نُصْب أعينهم، فبادر بالصلاة أوَّل ما بَزَغَ، حتى إن بعضهم كان لم يتبيّن له طلوعه.
قال النوويّ رحمه الله: المراد به قبل وقتها المعتاد، لا قبل طلوع الفجر؛ لأن ذلك ليس بجائز بإجماع المسلمين، والغرض أن استحباب الصلاة في أول الوقت في هذا اليوم أشدّ وآكد، ومعناه أنه صلى الله عليه وسلم كان في غير هذا اليوم يتأخر
(1)
القائل: السنديّ رحمه الله.
عن أول طلوع الفجر إلى أن يأتيه بلال، وفي هذا اليوم لم يتأخر؛ لكثرة المناسك فيه، فيحتاج إلى المبالغة في التبكير؛ ليتسع له الوقت.
وقال الإمام ابن خزيمة رحمه الله في "صحيحه": (2855) - ثنا محمد بن يحيى
(1)
، ثنا عبد الله بن محمد النفيليّ، ثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر رضي الله عنه، فذكر الحديث، وقال:"فصلى الفجر حين تبيّن له الصبح" يعني بالمزدلفة، قال أبو بكر
(2)
: قال لنا محمد بن يحيى: قال لنا الحسن بن بشر، عن حاتم: في هذا الخبر، في هذا الموضع بأذان وإقامة، في خبر جابر دلالةٌ واضحةٌ على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى الفجر بالمزدلفة في أول وقتها بعدما بان له الصبح، لا قبل تَبَيُّن الصبح له، وفي هذا ما دلّ على أن ابن مسعود رضي الله عنه أراد بقوله:"وصلى الفجر قبل وقتها بغلس"؛ أي قبل وقتها الذي كان يصليها بغير المزدلفة؛ أي أنه غَلَّس بالفجر أشدّ تغليسًا مما كان يُغَلِّس بها في غير ذلك الموضع، وخبر ابن عمر رضي الله عنهما الذي يلي هذا الباب دالّ على مثل ما دلّ عليه خبر جابر رضي الله عنه؛ لأن في خبر ابن عمر:"يبيت بالمزدلفة حتى يصبح، ثم يصلي الصبح". انتهى كلام ابن خزيمة رحمه الله، وهو نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
وقال الحافظ رحمه الله: ولا حجة فيه لمن منع التغليسَ بصلاة الصبح؛ لأنه ثبت عن عائشة وغيرها، كما تقدم في المواقيت التغليس بها، بل المراد هنا أنه كان إذا أتاه المؤذن بطلوع الفجر صلى ركعتي الفجر في بيته، ثم خرج، فصلى الصبح مع ذلك بغلس، وأما بالمزدلفة فكان الناس مجتمعين، والفجر نصب أعينهم، فبادر بالصلاة أول ما بزغ، حتى إن بعضهم كان لم يتبيّن له طلوعه، وهو بَيّن في رواية إسرائيل عند البخاريّ حيث قال:"ثم صلى الفجر حين طلع الفجر، قائل يقول: طلع الفجر، وقائل يقول: لم يطلع". انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
هو الذهليّ رحمه الله.
(2)
هو ابن خزيمة رحمه الله
(3)
"المرعاة" 9/ 157 - 159.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [45/ 3117 و 3118](1289)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1682)، و (أبو داود) في "المناسك"(1934)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(1/ 291) و"مناسك الحجّ"(5/ 254 و 260 و 262) و"الكبرى"(2/ 430)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 384 و 434)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2854)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 381)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 372)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 124)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3118] (
…
) - (وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَنْ جَرِيرٍ، عَن الْأَعْمَشِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: قَبْلَ وَقْتِهَا بِغَلَسٍ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عثمان بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان العبسيّ، أبو الحسن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ شهير [10](ت 239)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 35/ 246.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد بن قُرط الضبيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
و"الأعمش" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية جرير، عن الأعمش هذه ساقها ابن خزيمة رحمه الله في "صحيحه" (4/ 269) فقال:
(2854)
- ثنا يوسف بن موسى، ثنا جرير، عن الأعمش، عن عُمارة بن عُمير، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: قال عبد الله: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم-
صلى صلاةً إلا لوقتها، إلا هاتين الصلاتين، رأيته يصلي العشاء والمغرب جميعًا بالمزدلفة، وصلى الفجر قبل وقتها بغلس. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(46) - (بَابُ تَقْدِيمِ دَفْعِ الضَّعَفَةِ، مِنَ النِّسَاءِ، وَغَيْرِهِنَّ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى فِي أَوَاخِرِ اللَّيْلِ قَبْلَ زَحْمَةِ النَّاسِ، وَمُكْثِ غَيْرِهِمْ حَتَّى يُصَلُّوا الصُّبْحَ بِالْمُزْدَلِفَةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3119](1290) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا أفلَجُ، يَعْنِي ابْنَ حُمَيْدٍ، عَن الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ، تَدْفَعُ قَبْلَهُ، وَقَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، وَكَانَت امْرَأَةً ثَبِطَةً، يَقُولُ الْقَاسِمُ: وَالثَّبِطَةُ الثَّقِيلَةُ، قَالَ: فَأَذِنَ لَهَا، فَخَرَجَتْ قَبْلَ دَفْعِهِ، وَحَبَسَنَا حَتَّى أَصْبَحْنَا، فَدَفَعْنَا بِدَفْعِهِ، وَلَأَنْ أَكُونَ اسْتَأَذَنْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا اسْتَأَذَنَتْهُ سَوْدَةُ، فَأَكُونَ أَدْفَعُ بِإِذْنِهِ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) الْقعنبيّ الحارثيّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، مدنيّ الأصل، وقد سكنها مدّةً، ثقةٌ عابدٌ، من صغار [9](ت 221) بمكة (خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 17/ 617.
2 -
(أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدِ) بن نافع الأنصاريّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ [7](ت 158) أو بعدها (خ م د س ق) تقدم في "الحيض" 9/ 737.
3 -
(الْقَاسِمُ) بن محمد بن أبي بكر الصدّيق التيميّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه، من كبار [3](ت 106)(ع) تقدم في "الحيض" 3/ 695.
4 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت قريبًا.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (193) من رباعيّات الكتاب.
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين.
3 -
(ومنها): أن القاسم أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة المجموعين في قول بعضهم:
إِذَا قِيلَ مَنْ فِي الْعِلْمِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ
…
مَقَالَتُهُمْ لَيْسَتْ عَنِ الْحَقِّ خَارِجَهْ
فَقُلْ هُمْ عُبَيْدُ اللهِ عُرْوَةُ قَاسِمٌ
…
سَعِيدٌ أَبُو بَكْرٍ سُلَيْمَانُ خَارِجَهْ
4 -
(ومنها): أن عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة المجموعين في قولي:
الْمُكْثِرُونَ فِي رِوَايَةِ الْخَبَرْ
…
مِنَ الصَّحَابَةِ الأَكَارِمِ الْغُرَرْ
أَبُو هُرَيْرَةَ يَلِيهِ ابْنُ عُمَرْ
…
فَأَنَسٌ فَزَوْجَةُ الْهَادِي الأَبَرْ
ثُمَّ ابْنُ عَبَّاسٍ يَلِيهِ جَابِرُ
…
وَبَعْدَهُ الْخُدْرِيُّ فَهْوَ الآخِرُ
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (أَنَّهَا قَالَتْ: اسْتَأَذَنَتْ سَوْدَةُ) بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس العامريّة القرشيّة، أم المؤمنين، تزوّجها النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد خديجة رضي الله عنها، وهو بمكة، وماتت سنة (55) على الصحيح، ليس لها رواية عند المصنّف، وإنما لها ذِكْرٌ فقط، وأخرج لها البخاريّ، وأبو داود، والنسائيّ. (رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ) هي ليلة عيد الأضحى (تَدْفَعُ)؛ أي تُفيض، وترجع إلى منى (قَبْلَهُ) صلى الله عليه وسلم (وَقَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ) -بفتح الحاء، وسكون الطاء المهملتين-: أي زحمتهم (وَكَانَت امْرَأَةً ثَبِطَةً) -بفتح الثاء المثلثة، وكسر الباء الموحّدة، وسكونها، وبالطاء المهملة-: أي بطيئة الحركة، كأنها تثبط بالأرض، أي: تتشبث، وقال ابن قرقول: ضبطناه بكسر الباء الموحّدة، وضبطه الجيّانيّ عن ابن سراج بالكسر، والإسكان. انتهى
(1)
.
وقال في "المشارق": قوله: "ثَبِطة" كذا لجميعهم، وهو المعروف،
(1)
"عمدة القاري" 10/ 19.
ومعناه ثقيلة، وبهذا فسره في الحديث: القاسم، ووقع من حديث أبي نعيم في البخاريّ:"بطيئة"، والأول أصحُّ وإن تقارب المعنى. انتهى
(1)
.
وقال في موضع آخر: "وكانت امرأة ثبطةً" فسّره في الحديث: أي ثقيلةً، وهو صحيح، ضبطناه فيها بكسر الباء، وقيّده الجيّانيّ عن أبي مروان بن سراج بكسرها وسكونها. انتهى
(2)
.
(يَقُولُ الْقَاسِمُ) بن محمد (وَالثَّبِطَةُ: الثَّقِيلَةُ) هذا صريح في أن هذا التفسير من القاسم، وقد ورد عند البخاريّ من رواية محمد بن كثير مدرجًا، ولفظه:"وكانت امرأة ثقيلة ثَبِطَةً"، قال في "الفتح": هذا من الإدراج الواقع قبل ما أُدْرِجَ عليه، وأمثلته قليلة جدًّا، وسببه أن الراوي أَدرَج التفسيرَ بعد الأصل، فظنّ الراوي الآخر أن اللفظين ثابتان في أصل المتن، فقَدَّم وأخر. انتهى
(3)
.
(قَالَ) هكذا النسخ التي بين يديّ، والفاعل ضمير القاسم، ولا بدّ من تأويله؛ لأنه لم يحضر القصّة، وإنما أخذه من عائشة رضي الله عنها، أي: قال القاسم أخذًا من عائشة رضي الله عنها (فَأَذِنَ لَهَا) بكسر الذال المعجمة؛ أي أذِن النبيّ صلى الله عليه وسلم لسودة في الدفع قبل الناس (فَخَرَجَتْ) سودة رضي الله عنها من المزدلفة (قَبْلَ دَفْعِهِ)؛ أي: قبل إفاضته صلى الله عليه وسلم (وَحَبَسَنَا) بالبناء للفاعل، أي منع صلى الله عليه وسلم بقيّة أزواجه، وأصحابه عن الدفع قبله، وفي بعض النسخ:"فَحُبِسنا" بالبناء للمفعول، وفي رواية البخاريّ:"وأقمنا حتى أصبحنا نحنُ، ثم دفعنا بدفعه"(حَتَّى أَصْبَحْنَا) أي دخلنا في الصبح (فَدَفَعْنَا بِدَفْعِهِ)؛ أي مع دفع النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو بسبب دفعه، وقولها:(وَلَأَنْ أَكُونَ) بفتح اللام، في تأويل المصدر مبتدأ، خبره "أحبّ"(اسْتَأَذَنْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا اسْتَأَذَنَتْهُ سَوْدَةُ) رضي الله عنها (فَأَكُونَ) بالنصب عطفًا على "أكون" الأول (أَدْفَعُ) بالرفع، والجملة خبر"أكونَ"(بِإِذْنِهِ) صلى الله عليه وسلم متعلّقٌ بـ "أدفع"(أَحَبُّ إِلَيَ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ) أي مما يُفْرَح به من كل شيء، وقال القرطبيّ رحمه الله: المفروح به: هو كلُّ شيء مُعجبٍ، له بالٌ، بحيث يُفرح به، كما قد جاء في غير موضع: هو أحبّ إليّ من حُمْر النَّعَم. انتهى
(4)
، والله تعالى أعلم
(1)
"مشارق الأنوار" 1/ 88.
(2)
"مشارق الأنوار" 1/ 128.
(3)
راجع: "الفتح" 4/ 627.
(4)
"المفهم" 3/ 394.
بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [46/ 3119 و 3120 و 3121 و 3122](1290)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1680 و 1681)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(5/ 262 و 266) و"الكبرى"(2/ 428)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(3027)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 320)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 30 و 94 و 98 و 133 و 164 و 213)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 82)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2869)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 386 و 387)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 373)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 124)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة تقديم الضعفة إلى منى في أواخر الليل؛ لضرورة الزحام.
2 -
(ومنها): جواز صلاة الصبح بمنى لأصحاب الأعذار، وأما غيرهم فلا يجوز لهم أن يُصَلُّوها إلا بالمزدلفة، على ما هو الراجح من أقوال أهل العلم، كما سيأتي في المسألة التالية.
3 -
(ومنها): بيان سماحة الشريعة، وسهولة تكاليفها، حيث تراعي أصحاب الأعذار، فتيسّر لهم ما يتناسب مع ضرورتهم.
4 -
(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من سعة الخلق، وحسن العشرة لأزواجه، حيث ينفّذ لهن رغبتهنّ وما يُردنه من المباحات الشرعية، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم مبيت الحجاج بالمزدلفة ليلة النحر:
قال النوويّ رحمه الله: اختَلَف العلماء في مبيت الحاج بالمزدلفة ليلة النحر،
والصحيح من مذهب الشافعيّ أنه واجب، من تركه لزمه دم، وصَحّ حجه، وبه قال فقهاء الكوفة، وأصحاب الحديث.
وقالت طائفة: هو سنة، إن تركه فاتته الفضيلة، ولا إثم عليه، ولا دم ولا غيره، وهو قول للشافعيّ، وبه قال جماعة.
وقالت طائفة: لا يصح حجّه، وهو مَحْكيّ عن النخعيّ وغيره، وبه قال إمامان كبيران من أصحابنا -يعني الشافعيّة- وهما: أبو عبد الرحمن ابن بنت الشافعيّ، وأبو بكر بن خزيمة، وحُكِي عن عطاء، والأوزاعيّ أن المبيت بالمزدلفة في هذه الليلة ليس بركن، ولا واجب، ولا سنة، ولا فضيلة فيه، بل هو منزل كسائر المنازل، إن شاء تركه، وإن شاء لم يتركه، ولا فضيلة فيه، وهذا قول باطل.
واختلفوا في قدر المبيت الواجب، فالصحيح عند الشافعيّ أنه ساعة في النصف الثاني من الليل، وفي قول له: ساعة من النصف الثاني، أو ما بعده إلى طلوع الشمس، وفي قول ثالث له: أنه معظم الليل، وعن مالك ثلاث روايات: إحداها: كلّ الليل، والثاني: معظمه، والثالث: أقل زمان. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": وقد اختَلَف السلف في هذه المسألة، فكان بعضهم يقول: من مَرّ بمزدلفة، فلم ينزل بها فعليه دم، ومن نزل بها ثم دفع منها في أيّ وقت كان من الليل فلا دم عليه، ولو لم يقف مع الإمام، وقال مجاهد، وقتادة، والزهريّ، والثوريّ: من لم يقف بها فقد ضَيَّع نسكًا، وعليه دم، وهو قول أبي حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور.
ورُوي عن عطاء، وبه قال الأوزاعيّ: لا دم عليه مطلقًا، وإنما هو منزل: من شاء نزل به، ومن شاء لم ينزل به.
وروى الطبري بسند فيه ضعف، عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا:"إنما جَمْعٌ منزل لدلج المسلمين".
وذهب ابن بنت الشافعيّ، وابن خزيمة إلى أن الوقوف بها ركنٌ لا يتم الحج إلا به، وأشار ابن المنذر إلى ترجيحه، ونقله ابن المنذر عن علقمة، والنخعيّ،
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 38، 39.
والعجب أنهم قالوا: من لم يقف بها فاته الحجّ، ويجعل إحرامه عمرة. واحتَجَّ الطحاويّ بأن الله لم يذكر الوقوف، وإنما قال:{فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} ، وقد أجمعوا على أن من وقف بها بغير ذكر أن حجه تامّ، فإذا كان الذكر المذكور في الكتاب ليس من صُلْب الحجّ، فالموطن الذي يكون الذكر فيه أحرى أن لا يكون فرضًا، قال: وما احتجوا به من حديث عروة بن مُضَرِّسٍ -وهو بضم الميم، وفتح المعجمة، وتشديد الراء المكسورة، بعدها مهملة- رفعه، قال:"من شَهِد معنا صلاة الفجر بالمزدلفة، وكان قد وقف قبل ذلك بعرفة ليلًا أو نهارًا، فقد تمّ حجه"؛ لإجماعهم أنه أَبُو بات بها، ووقف، ونام عن الصلاة فلم يُصَلِّها مع الإمام حتى فاتته أن حجه تامّ. انتهى.
وحديث عروة أخرجه أصحاب "السنن"، وصححه ابن حبان، والدارقطنيّ، والحاكم، ولفظ أبي داود عنه: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموقف -يعني بجمع- قلت: جئت يا رسول الله من جبل طيئ، فأكللت مطيتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جَبَل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من أدرك معنا هذه الصلاة، وأتى عرفات قبل ذلك ليلًا أو نهارًا، فقد تمّ حجه، وقَضَى تَفَثَهُ"، وللنسائيّ:"من أدرك جمعًا مع الإمام والناس حتى يفيضوا، فقد أدرك الحجّ، ومن لم يدرك مع الإمام والناس فلم يدرك"، ولأبي يعلى:"ومن لم يُدرك جمعًا فلا حج له".
وقد صنّف أبو جعفر العُقَيليّ جزءًا في إنكار هذه الزيادة، وبَيَّن أنها من رواية مُطَرِّف عن الشعبيّ، عن عروة، وأن مطرفًا كان يَهِمُ في المتون.
قال: وقد ارتكب ابن حزم الشطط، فزعم أنه من لم يصلّ صلاة الصبح بمزدلفة مع الإمام أن الحج يفوته؛ التزامًا لما ألزمه به الطحاويّ.
ولم يعتبر ابن قدامة مخالفته هذه، فحَكَى الإجماع على الإجزاء، كما حكاه الطحاويّ.
وعند الحنفية يجب بترك الوقوف بها دم لمن ليس به عذر، ومن جملة الأعذار عندهم الزحام. انتهى
(1)
.
(1)
"الفتح" 4/ 625، 626.
قال الجامع عفا الله عنه: قول صاحب "الفتح": وقد ارتكب ابن حزم الشطط
…
إلخ عجيب منه، كيف يرتكب الشطط مَن ظاهر النصوص معه؟ وأعجب منه قوله: ولم يعتبر ابن قُدامة مخالفته
…
إلخ، فهل دعوى ابن قدامة الإجماع، ومن قبله الطحاويّ مسلّم عنده؟ وقد سبق له قوله: وذهب ابن بنت الشافعيّ، وابن خزيمة إلى أن الوقوف بها ركنٌ لا يتم الحج إلا به، وأشار ابن المنذر إلى ترجيحه، ونقله ابن المنذر عن علقمة، والنخعيّ، فأين الإجماع المزعوم؟ هيهات هيهات.
وابن حزم رحمه الله لَمّا قال بهذه المسألة ذكر من سبقه من القائلين بها، فقال: رَوَينا من طريق عبد الرحمن بن مهديّ، نا سفيان الثوريّ، عن سلمة بن كهيل، عن الحسن الْعُرَنيّ، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال:"من أفاض من عرفة، فلا حجّ له"، وعن ابن الزبير رضي الله عنهما، أنه كان يقول في خطبته:"ألا لا صلاة إلا بجمع"، فإذا أبطل الصلاة إلا بمزدلفة، فقد جعلها من فرائض الحجّ، ومن طريق شعبة، عن المغيرة بن مقسم، عن إبراهيم النخعيّ، قال: كان يقال: "من فاته جمعٌ، أو عرفة، فقد فاته الحجّ"، ومن طريق عبد الرحمن بن مهديّ، عن سفيان الثوريّ، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعيّ، قال:"من فاته عرفة، أو جمع، أو جامع قبل أن يزور، فقد فسد حجه"، ومن طريق سفيان الثوريّ أيضًا، عن عبد الله بن أبي السفر، عن الشعبيّ، أنه قال:"من فاته جمع جعلها عمرةً"، وعن الحسن البصريّ:"من لم يقف بجمع، فلا حجّ له"، وعن حمّاد بن سليمان، قال:"من فاته الإفاضة من جمع، فقد فاته الحجّ، فليتحلّل بعمرة، ثم ليحجّ من قابل"
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الإجماع المزعوم غير صحيح، وأن الحقّ أنّ الوقوف بالمزدلفة من واجبات الحجّ، فلا يصحّ الحجّ إلا به، كالوقوف بعرفة، وأقوى دليل لذلك حديث عروة بن مضرّس رضي الله عنه المذكور، فإن قوله صلى الله عليه وسلم:"ومن لم يدرك مع الإمام والناس، فلم يدرك" لا يكون أقلّ دلالة على الوجوب من قوله صلى الله عليه وسلم: "الحجّ عرفة"، فكما أن من لم
(1)
"المحلّى" 7/ 131.
يقف بعرفة لم يدرك الحجّ، فكذلك من لم يقف بالمزدلفة، لم يدرك الحج بهذا النصّ.
وهذا كله في غير المرخّص لهم، من النساء، والأطفال، والعَجَزَة، ومن يقوم عليهم، فإنهم لا يجب عليهم الوقوف بالمزدلفة، بل يجوز لهم أن يتقدّموا إلى منى ليلًا، كما نصّ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، حيث أمر الضعفة أن يتقدّموا من جَمْع بليل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3120] (
…
) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، جَمِيعًا عَن الثَّقَفِيِّ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَن الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَتْ سَوْدَةُ امْرَأَةً ضَخْمَةً ثَبِطَةً، فَاسْتَأَذَنَتْ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ تُفِيضَ مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ، فَأَذِنَ لَهَا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَيْتَنِي كُنْتُ اسْتَأَذَنْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَمَا اسْتَأَذَنَتْهُ سَوْدَةُ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ لَا تُفِيضُ إِلَّا مَعَ الْإِمَامِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل حديث.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل باب.
3 -
(عَبْدُ الْوَهَّابِ) بن عبد المجيد الثقفيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 194) عن نحو (80) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.
4 -
(أيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السَّخْتيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه عابدٌ [5](ت 131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.
5 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ) بن محمد بن أبي بكر الصدّيق التيميّ، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ جليلٌ [6](ت 126) أو بعدها (ع) تقدم في "الحيض" 27/ 822.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقولها: (كَانَتْ سَوْدَةُ امْرَأَةً ضَخْمَةً) وفي الرواية التالية: "كانت امرأةً ثقيلةً"؛ أي مِنْ عِظَم جسمها.
وقولها: (ثَبِطَةً) بفتح فكسر، أو بفتح، فسكون: أي بطيئة الحركة.
وقولها: (أَن تُفِيضَ مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ) بضمّ حرف المضارعة، من الإفاضة، وهو الدفع من جمعِ؛ أي من المزدلفة.
وقوله: (وَكَانَتْ عَائِشَةُ لَا تُفِيضُ إِلَّا مَعَ الْإِمَامِ) يعني أنها رضي الله عنها كانت بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم لا تدفع من مزدلفة إلى منى إلا مع الإمام بعد الصبح والوقوف بالمشعر الحرام؛ عملًا بما عملت به مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، والمراد أنها ما كانت تدفع بالليل كالضعفة.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3121] (
…
) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ الله بْنُ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِم، عَن الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ اسْتَأَذَنْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كَمَاَ اسْتَأَذَنَتْهُ سَودَةُ، فَأُصَلِّي الصُّبْحَ بِمِنًى، فَأَرْمِي الْجَمْرَةَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ النَّاسُ، فَقِيلَ لِعَائِشَةَ: فَكَانَتْ سَوْدَةُ اسْتَأَذَنَتْهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، إِنَّهَا كَانَت امْرَأَةً ثَقِيلَةً ثَبِطَةً، فَاسْتَأْذَنَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَذِنَ لَهَا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نمير، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُوهُ) عبد الله بن نمير، تقدّم قبل باب.
3 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن حفص بن عاصم العمريّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق البحث فيه قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3122] (
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، بَهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
وكلّهم تقدّموا في هذا الباب، والبابين الماضيين، و"عبد الرحمن" هو: ابن مهديّ، و"سفيان" هو: الثوريّ.
[تنبيه]: رواية وكيع عن سفيان الثوريّ، عن عبد الرحمن بن القاسم هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" (6/ 213) فقال:
(25829)
- حدّثنا عبد الله
(1)
، حدّثني أبي، ثنا وكيع، قال: حدّثني سفيان، وعبدُ الرحمن
(2)
، قال: ثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، أن سودة كانت امرأة ثَبِطةً ثقيلةً استأذنت النبيّ صلى الله عليه وسلم أن تدفع قبل دفعته من جمع فأَذِنَ لها، قالت عائشة: ودِدْتُ أني كنت استأذنته. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3123](1291) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، وَهُوَ الْقَطَّانُ، عَن ابْنِ جُرَيْجِ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ، قَالَ: قَالَتْ لِي أَسْمَاءُ، وَهِيَ عِنْدَ دَارِ الْمُزْدَلِفَةِ: هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْتُ: لَا، فَصَلَّتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: يَا بُنَيَّ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَتْ: ارْحَلْ بِي، فَارْتَحَلْنَا حَتَّى رَمَتِ الْجَمْرَةَ، ثُمَّ صَلَّتْ فِي مَنْزِلِهَا، فَقُلْتُ لَهَا: أَيْ هَنْتَاهْ، لَقَدْ غَلَّسْنَا، قَالَتْ: كَلَّا أَيْ بُنَيَّ، إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لِلظُّعُنِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ) تقدّم قريبًا.
2 -
(يَحْيَى الْقَطَّانُ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
4 -
(عَبْدُ اللهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ) هو: عبد الله بن كيسان التيميّ، أبو عمر المدنيّ،
(1)
هو ولد الإمام أحمد راوي "المسند" عنه.
(2)
هو ابن مهديّ.
مولى أسماء بنت أبي بكر الصدّيق، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الحج" 26/ 3005.
5 -
(أَسْمَاءُ) بنت أبي بكر الصدّيق، زوج الزبير بن العوّام رضي الله عنهم، من كبار الصحابيّات، ماتت رضي الله عنها سنة (3 أو 74) وقد عاشت مائة سنة (ع) تقدمت في "الطهارة" 33/ 681.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فانفرد به هو والبخاريّ والنسائيّ.
3 -
(ومنها): أن فيه التحديثَ بصيغة الجمع في موضعين، وبصيغة الإفراد في موضع، وقد صرَّح ابنُ جريج بتحديث عبد الله له، فزالت تهمة التدليس عنه، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ جُرَيْجِ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الله مَوْلَى أَسْمَاءَ) هكذا هو في رواية المصنّف هذه قد صَرَّحَ ابنُ جريج بتحديث عبد الله مولى أسماء له، وكذا هو عند البخاريّ عن مسدد، وكذا رواه ابن خزيمة عن بندار، وكذا أخرجه أحمد في "مسنده" كلهم عن يحيى. وأخرجه المصنّف في الرواية التالية من طريق عيسى بن يونس، وأخرجه الإسماعيليّ من طريق داود العطار، والطبرانيّ من طريق ابن عيينة، والطحاويّ من طريق سعيد بن سالم، وأبو نعيم من طريق محمد بن بكير، كلهم عن ابن جريج. وأخرجه أبو داود عن محمد بن خلاد، عن يحيى القطان، عن ابن جريج، عن عطاء، أخبرني مُخبر عن أسماء.
وأخرجه مالك عن يحيى بن سعيد، عن عطاء أن مولى أسماء أخبره، وكذا أخرجه الطبرانيّ من طريق أبي خالد الأحمر، عن يحيى بن سعيد.
قال الحافظ رحمه الله: فالظاهر أن ابن جريج سمعه من عطاء، ثم لقي عبد الله، فأخذه عنه، ويَحْتَمِل أن يكون مولى أسماء شيخ عطاء غير عبد الله. انتهى
(1)
.
(1)
راجع: " الفتح" 4/ 624.
(قَالَ) عبد الله (قَالَتْ لِي أَسْمَاءُ) بنت أبي بكر رضي الله عنهما مولاته، ذات النطاقين (وَهِيَ عِنْدَ دَارِ الْمُزْدَلِفَةِ: هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟) قال الأبّيّ رحمه الله: الأظهر في سؤالها عن المغيب أنه لطلب الستر؛ لأنه وإن كان الناس لم يدفعوا، فقد يحضر الموسم من ليس بحاجّ، ويَحْتَمِل أنه لتعلم ما بقي من الليل، فتدفع في آخره. انتهى
(1)
.
(قُلْتُ: لَا، فَصَلَّتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: يَا بُنَيَّ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَتْ: ارْحَلْ بِي) أي اذهب معي إلى منى (فَارْتَحَلْنَا حَتَّى رَمَت الْجَمْرَةَ)؛ أي جمرة العقبة (ثُمَّ صَلَّتْ) أي صلاة الصبح (فِي مَنْزِلِهَا)؛ أي في محلّ نزولها من منى، قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهره أن أسماء رمت الجمرة قبل طلوع الفجر، وهو متمسّك الشافعيّ في قوله: بجواز رمي الجمرة من نصف الليل، وذهب الثوريّ، والنخعيّ إلى أنها لا تُرْمَى إلا بعد طلوع الشمس، متمسّكين بما أخرجه النسائيّ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قدّم ضَعَفَة أهله، وأمرهم ألا يرموا حتى تطلع الشمس، وهو صحيح، ومذهب مالك أن الرمي يحِلّ بطلوع الفجر، متمسّكًا بقول عائشة رضي الله عنها:"فأصلي الصبح بمنى، وأرمي الجمرة"، وبحديث ابن عمر رضي الله عنهما وإليه ذهب أحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي. انتهى
(2)
، وسيأتي تحقيق هذه المسألة في المسألة الرابعة -إن شاء الله تعالى-.
(فَقُلْتُ لَهَا: أَيْ هَنْتَاهْ)؛ أي يا هذه، وهو بفتح الهاء، وبعدها نون ساكنة ومفتوحة، وإسكانها أشهر، ثم تاء مثناة من فوقُ، قال ابن الأثير: وتسكن الهاء التي في آخرها، وتُضَمّ، وفي التثنية: يا هنتان، وفي الجمع: يا هنات، وهنوات، وفي المذكر: هَن، وهنان، وهنون
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "هنتاه" مُنَادَى هَنَة التي هي مؤنّث هَنٍ الذي هو كناية عن نكرة، كشيء ونحوه، ولا يُستعمل هناه، ولا هنتاه إلا في النداء خاصّة، نون هنتاه ساكنة، وأصل هائه أن تكون ساكنة؛ لأنها للسكت، لكنّهم شبّهوها بالضمائر، فأثبتوها في الأصل، وضمّوها، كما قال امرؤ القيس [من المتقارب]:
(1)
"شرح الأبيّ" 3/ 395
(2)
"المفهم" 3/ 396، 397.
(3)
"شرح النوويّ" 9/ 39.
وَقَدْ رَابَنِي قَوْلُهَا يَا هَنا
…
هُ وَيْحَكَ أَلْحَقْتَ شَرًّا بشَرِّ
فقولهم: يا هناه، كقولك: يا رجل، ويا هنتاه، كيا امرأةُ. انتهى
(1)
.
(لَقَدْ غَلَّسْنَا) بتشديد اللام، وهو من التغليس، وهو السير بغَلَس، وهي ظلمة آخر الليل، أي تقدمنا على الوقت المشروع، وفي رواية مالك:"لقد جئنا منى بغلس"، وفي رواية داود العطّار:"لقد ارتحلنا بليل"، وفي رواية أبي داود:"فقلت: إنا رمينا الجمرة بليل، وغلّسنا"(قَالَتْ: كَلَّا) أي انزجر، وارتدع عما قلته، قال ابن هشام الأنصاريّ رحمه الله:"كلّا" مركّبة عند ثعلب من كاف التشبيه، و"لا" النافية، قال: وإنما شُدّدت لامها لتقوية المعنى، ولدفع توهّم بقاء معنى الكلمتين، وعند غيره هي بسيطة، وهي عند سيبويه، والخليل، والمبرِّد، والزجّاج، وأكثر البصريين حرفٌ، معناه الرَّدْعُ والزجر، لا معنى لها عندهم إلا ذلك، وعند الكسائيّ ومتابعيه تأتي بمعنى "حقًّا"، وقيل: تكون بمعنى "ألا" الاستفتاحيّة، وقيل: تكون حرف جواب بمنزلة "إِيْ"، و"نعم"، ووردت في القرآن الكريم في ثلاثة وثلاثين موضعً، كلّها في النصف الأخير. انتهى باختصار
(2)
.
وإلى هذا أشار شيخنا المناسيّ رحمه الله في "نظمه" حيث قال:
"كَلَّا" مِنَ الْكَافِ وَ"لَا" مُرَكَّبَهْ
…
فِي قَوْلِ ثَعْلَب وَبِالْعَكْسِ انْتَبَهْ
سِوَاهُ وَهْيَ حَرْفُ رَدْعٍ أَبَدَا
…
عِنْدَ الْخَلِيلِ وَكَثِيرِ مَنْ هُدَى
لِذَا أَجَازُوا الْوَقْفَ فِي آخِرِهَا
…
وَالابْتِدَا بِمَا أَتَى بِإِثْرِهَا
وَشُدَّ لَامُهَا لأَجْلِ التَّقْوِيَهْ
…
مَعْنًى وَدَفْعِ مَا بِهِ أَتَتْ هِيَهْ
وَفِي الثَّلَاثِينَ مَعَ الثَّلَاثَةِ
…
أَتَى بِهَا كَلَامُ رَبِّ الْعِزَّةِ
وَكُلُّهَا فِي آخِرِ النِّصْفَيْنِ مِنْ
…
كَلَام رِبِّنَا الْعَزِيزِ يَا فَطِنْ
قَالَ الْكِسَائِيُّ بِمَعْنَى "حَقًّا"
…
وَكَـ "أَلَا" لِبَعْضِهِمْ جَا نُطْقَا
وَالنَّضْرُ وَالْفَرَّاءُ فِيهَا أَثْبَتَا
…
مَعْنَى"نَعَمْ" وَ"إِيْ" كَمَا عَنْهُمْ أَتَى
(3)
(1)
"المفهم" 3/ 394.
(2)
راجع: "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 377، 378.
(3)
راجع: شرحي "فتح القريب المجيب" لزيادة العلم 1/ 353 - 357.
(أَيْ بُنَيَّ)"أي" بفتح الهمزة، وسكون التحتانيّة: من حروف نداء البعيد، أو كالبعيد، كالنائم، مثل "يا" وأخواتها، كما قال في "الخلاصة":
وَللْمُنَادَى النَّاءِ أَوْ كَالنَّاءِ "يَا"
…
وَأَيْ " وَ"آ" كَذَا "أَيَا" ثُمَّ "هَيَا"
وَالْهَمْزُ لِلدَّانِي وَ"وَا" لِمَنْ نُدِبْ
…
أَوْ"يَا" وَغَيْرُ "وَا" لَدَى اللَّبْسِ اجْتُنِبْ
و"بُنَيَّ" بضمّ الموحّدة، تصغير "ابن"(إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) بكسر الهمزة؛ لوقوعها في الابتداء، ويَحْتَمِل أن تكون بفتحها بتقدير حرف التعليل؛ أي لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم (أَذِنَ) بكسر الذال المعجمة، يقال: أَذِنَ له في الشيء، كسَمِعَ إِذْنًا بالكسر، وأَذِينًا: أباحه له، قاله في "القاموس"
(1)
. (لِلظُّعُنِ) بضم الظاء والعين، وبإسكان العين أيضًا، وهُنَّ النساء، الواحدة ظَعِينة، كسَفِينة وسُفُن، وأصل الظَّعِينة: الهودج الذي تكون فيه المرأة على البعير، فسُمِّيت المرأة به مجازًا، واشتَهَرَ هذا المجاز حتى غَلَبَ، وخَفِيَت الحقيقة، وظَعِينةُ الرجل امرأته، قاله النوويّ رحمه الله
(2)
.
وقال في "العمدة": "الظُّعُنُ" -بضم الظاء، والعين، وبسكون العين أيضًا -: جمع ظَعِينة، وهي النساء، وفي "المحكم": هو جمع ظاعن، وسُمِّيت النساء بها؛ لأنهن يَظْعَنَّ بارتحال أزواجهن، ويُقِمن بإقامتهم، تقول: ظَعَنَ يَظْعُنُ ظَعْنًا، وظُعُونًا: ذهب، وأظعنه هو، والظَّعِينة: الجمل يُظْعَن عليه، والظَّعِينة: الهودج، تكون فيه المرأة، وقيل: هو الهودج كانت فيه امرأة أو لم تكن، وعن ابن السِّكِّيت: كل امرأة ظَعِينة، سواء كانت في هودج أو غيره، وقال ابن سِيدَهْ: الجمع ظعائن، وظُعُنٌ، وأظعان، وظُعُنات، الأخيرتان جمع الجمع، وفي "الجامع": ولا يقال: ظَعُن إلا للإبل التي عليها الهوادج، وقيل: الظُّعُن الجماعة من النساء والرجال، قاله في "العمدة"
(3)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: ظَعَنَ ظَعْنًا، من باب نَفَعَ: ارتَحَلَ، والاسم ظَعَنٌ بفتحتين، ويتعدى بالهمزة، وبالحرف، فيقال: أظعنته، وظَعَنْتُ به، والفاعل ظاعن، والمفعول مظعون، والأصل مظعون به، لكن حُذِفت الصلة؛ لكثرة
(1)
"القاموس المحيط" 4/ 195.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 40.
(3)
"عمدة القاري" 10/ 18.
الاستعمال، وباسم المفعول سُمِّي الرجل، ويقال للمرأة: ظَعِينة فَعِيلة بمعنى مفعولة؛ لأن زوجها يَظْعَن بها، ويقال: الظعينة الْهَوْدج، وسواء كان فيه امرأة أم لا، والجمع ظعائن، وظُعُنٌ بضمتين، ويقال: الظعينة في الأصل وَصْف للمرأة في هَوْدَجها، ثم سميت بهذا الاسم، وإن كانت في بيتها؛ لأنها تصير مظعونة. انتهى
(1)
.
وفي رواية أبي داود: "إنا كنّا نصنع هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية مالك:"لقد كنّا نفعل ذلك مع من هو خير منك"، تعني النبيّ صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أسماء بنت أبى بكر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [46/ 3123 و 3124](1291)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1679)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 347 و 351)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2884)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 374)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(24/ 100)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(5/ 122)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 133)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان جواز تقديم الضَّعَفَة من المزدلفة إلى منى ليلًا، وصحة صلاة الصبح بمنى يوم النحر لهم.
2 -
(ومنها): سماحة الدين، وسهولة تكاليفه، فليس القويّ والضعيف في ذلك سواء، بل يُكَلِّف كلًّا بقدر استطاعته، فقد سهّل للضَّعَفَة في موضع الحرج بسبب شدّة الزحام، فرخّص لهم أن يرموا قبل وقوع الزحام.
3 -
(ومنها): أنه استُدِلّ به على جواز الرمي قبل طلوع الشمس عند مَن
(1)
"المصباح المنير" 2/ 385.
خَصّ التعجيل بالضَّعَفَة، وعند من لم يُخَصِّص، وفيه خلاف سيأتي تحقيقه في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى-.
4 -
(ومنها): أنه استُدِل به أيضًا على إسقاط الوقوف بالمشعر الحرام عن الضعفة، ولكن لا دلالة فيه؛ لأن رواية أسماء هذه ساكتةٌ عن الوقوف، وقد بيّنته رواية ابن عمر رضي الله عنهما الآتية آخر الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في أول وقت الرمي: اعلم أنهم اختلفوا في الوقت الذي يجوز فيه رمي جمرة العقبة للضعفة، وغيرهم، مع إجماعهم على أن من رماها بعد طلوع الشمس أجزأه: فذهبت أسماء بنت أبي بكر، وعكرمة، وخالد، وطاوس، والشعبيّ، وعطاء، والشافعيّ، وأحمد، إلى أن أول الوقت الذي يجزئ فيه رمي جمرة العقبة، هو ابتداء النصف الأخير من ليلة النحر، واستُدلّ لهم بما أخرجه النسائيّ بإسناد حسن، عن عطاء بن أبي رباح، قال: حدّثتني عائشة بنت طلحة، عن خالتها عائشة أم المؤمنين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمَر إحدى نسائه أن تنفر من جَمْع ليلة جَمْع، فتأتي جمرة العقبة، فترميها، وتصبح في منزلها، وكان عطاء يفعله حتى مات.
وبما أخرجه أبو داود بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها، قالت: أرسل النبيّ صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر، فرَمَت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت، فأفاضت، وكان ذلك اليومُ اليومَ الذي يكون عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعتضد بما رواه الخلّال من طريق سليمان بن أبي داود، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: أخبرتني أم سلمة، قالت: قدّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن قدّم من أهله ليلة المزدلفة، قالت: فرميت بليل، ثم مضيت إلى مكة، فصليت بها الصبح، ثم رجعت إلى منى. كذا ذكره ابن القيّم رحمه الله.
وذهب جماعة إلى أن أول وقته بعد طلوع الفجر، وأول الوقت المستحبّ بعد طلوع الشمس، وما بعد الزوال إلى الغروب وقت الجواز بلا إساءة، فإن رمى قبل طلوع الشمس، وبعد طلوع الفجر جاز، وإن رماها قبل الفجر أعادها.
وبهذا قال مالك، وأبو حنيفة، واستُدِلّ لهم بما رواه الطحاويّ بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر نساءه، وثقله صبيحة جَمْع أن يُفيضوا مع أول الفجر بسواد، ولا يرموا إلا مصبحين، وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه في الثقل، وقال: لا ترموا الجمار حتى تصبحوا.
وذهب النخعيّ، ومجاهد، والثوريّ، وأبو ثور إلى أن أول وقته يبتدئ من بعد طلوع الشمس، فلا يجوز رميها عندهم إلا بعد طلوع الشمس، واستدلوا بما أخرجه النسائيّ وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أُغَيلمة بني عبد المطلب على حُمُرات، يَلْطَحُ
(1)
أفخاذنا، ويقول:"أُبَيْنيّ لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس"، وفي رواية: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَدَّم أهله، وأمرهم أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس.
قالوا: إذا كان من رُخّص له مُنع أن يرمي قبل طلوع الشمس، فمن لم يرخّص له أولى.
وذهب بعضهم إلى أن أول وقته للضعفة من طلوع الفجر، ولغيرهم من بعد طلوع الشمس، وهو اختيار ابن القيّم.
واستُدِلّ لذلك بما تقدم عن أسماء رضي الله عنها أنها رمت الجمرة، ثم رجعت، فصلّت الصبح في منزلها، وقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في ذلك للظعن، والحديث في "الصحيحين".
فهذا صريح في أنها رمت الجمرة قبل طلوع الشمس، بل بغلس، وقد صرّحت بأنه صلى الله عليه وسلم أذن في ذلك للظُّعُن، ومفهومه أنه لم يأذن للأقوياء الذكور.
واستُدِلّ لذلك أيضًا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما عند الشيخين أنه كان يقدّم ضعفة أهله، فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بليل، فيذكرون الله ما بدا لهم، ثم يرجعون قبل أن يقف الإمام، وقبل أن يدفع، فمنهم من يقدم لصلاة الفجر، ومنهم من يقدَم بعد ذلك، فإذا قَدِمُوا رموا الجمرة، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن المنذر: السنة أن لا يرمي إلا بعد طلوع الشمس، كما فعل
(1)
اللطح بالحاء المهملة: الضرب الخفيف.
النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز الرمي قبل طلوع الفجر؛ لأن فاعله مخالف للسنة، ومن رمى حينئذ فلا إعادة عليه؛ إذ لا أعلم أحدًا قال: لا يجزئه. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأرجحُ ما ذهب إليه الأولون من جواز الرمي قبل طلوع الشمس لأصحاب الأعذار، ويُحمَل حديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور آنفًا على الاستحباب؛ جمعًا بينه وبين أحاديث أسماء، وعائشة، وابن عمر رضي الله عنهم المتقدّمة، فالمستحبّ أن لا يرمي إلا بعد طلوع الشمس، ولو رمى قبله أجزأه؛ لهذه الأحاديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3124] (
…
) - (وَحَدَّثَنِيهِ عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَن ابْنِ جُرَيْجٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَفِي رِوَايَتِهِ: قَالَتْ: لَا أَيْ بُنَيَّ، إِنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لِظُعُنِهِ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السبيعيّ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
و"ابْنُ جُرَيْجٍ" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية عيسى بن يونس، عن ابن جريج هذه ساقها إسحاق ابن راهويه في "مسنده" (5/ 122) فقال:
(2230)
- أخبرنا عيسى بن يونس، نا ابن جريج، أخبرني عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر، أنها قالت: أي بُنَيّ هل غاب القمر؟ ليلة جَمْع، وهي تصلي
(1)
، فقلت: لا، فَلَبِثَتْ ساعةً، ثم قالت: أي بُنَيّ هل غاب القمر؟ وقد غاب، فقلت: نعم، فقالت: ارتحلوا، فارتحلنا، فمضينا بها حتى رمت
(1)
وقع في النسخة: "وهو يصلي"، وهو غلط، كما تبيّنه رواية مسلم، فتنبّه.
الجمرة، ثم رجعنا بها، حتى صلّت الصبح في منزلها، فقلت لها: أي هنتاه، لقد غَلَّسْنا، فقالت: أي بُنَيّ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَذِنَ للظُّعُن. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3125](1292) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ (ح) وَحَدَّثَنِي عَليُّ بْنُ خَشْرَمٍ، أَخْبَرَنَا عِيسَى، جَمِيعًا عَن ابْنِ جُرَيْجِ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، أَنَّ ابْنَ شَوَّالٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ، فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بِهَا مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون، تقدّم قبل بابين.
2 -
(عَطَاءُ) بن أبي رباح أسلم، تقدّم قبل باب.
3 -
(ابْنُ شَوَّالٍ) هو: سالم بن شَوّال -باسم الشهر- المكيّ، مولى أمّ حبيبة رضي الله عنها، ثقةٌ [3].
رَوَى عن مولاته أم حبيبة رضي الله عنها، وروى عنه عطاء بن أبي رَبَاح، وعمرو بن دينار.
قال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن عيينة: وسالم بن شوال رجل من أهل مكة، لم نسمع أحدًا يحدِّث عنه إلا عمرو بن دينار.
انفرد به المصنّف، والنسائيّ، وليس له عندهما إلا هذا الحديث، وكرّره مرّتين.
4 -
(أُمُّ حَبِيبَةَ) رَمْلة بنت أبي سفيان صخر بن حرب الأمويّة، أمّ المؤمنين، مشهورة بكنيتها، ماتت سنة (2 أو 4 أو 49) وقيل:(50)(ع) تقدمت في "المساجد ومواضع الصلاة" 3/ 1186.
والباقون ذُكروا في الباب، وشرح الحديث واضحٌ، يُعلم مما سبق.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أم حبيبة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [46/ 3125 و 3126](1292)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(5/ 261 - 262)، و (الحميديّ) في "مسنده"(305)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 327 و 426 - 427)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(4/ 235 - 236)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 374 - 375)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3126] (
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ (ح) وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ شَوَّالٍ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، قَالَتْ: كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نُغَلِّسُ مِنْ جَمْعٍ إِلَى مِنًى، وَفِي رِوَايَةِ النَّاقِدِ: نُغَلِّسُ مِنْ مُزْدَلِفَةَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، تقدّم قريبًا.
2 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ) تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقولها: (نُغَلِّسُ) بتشديد اللام، من التغليس، وهو السير بغلس، قال الفيّوميّ: الْغَلَس بفتحتين: ظلام آخر الليل، وغَلّس القومُ تغليسًا: خرجوا بغلس، وغلَّس في الصلاة: صلّاها بغلَس. انتهى.
وقوله: (مِنْ جَمْعٍ إِلَى مِنًى) بفتح الجيم، وسكون الميم: أي من المزدلفة.
والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى شرحه، وبيان مسألتيه قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3127](1293) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، جَمِيعًا عَنْ حَمَّادٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الثَّقَلِ، أَوْ قَالَ: فِي الضَّعَفَةِ مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب.
3 -
(حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) تقدّم أيضًا قبل باب.
4 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ) المكيّ مولى آل قارظ بن شيبة، ثقةٌ كثير الحديث [4](ت 126) وله (86) سنةً (ع) تقدم في "الصيام" 21/ 2662.
5 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما، تقدّم قبل باب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (193) من رباعيّات الكتاب.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة سوى يحيى، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن فيه ابن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة، وبحرها، وترجمان القرآن، ومن المكثرين السبعة، والعبادلة الأربعة، ومن المشهورين بالفتوى، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ) رحمه الله أنه (قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الثَّقَلِ) بفتح الثاء المثلّثة والقاف، وهو المتاع ونحوه، قاله النوويّ، وقال الفيّوميّ: الثَّقَلُ: المتاع، والجمع أَثقالٌ،
مثلُ سبب وأسباب، قال الفارابيّ: الثَّقَلُ: متاع المسافر، وحَشَمُهُ. انتهى
(1)
.
(أَوْ) للشكّ من الراوي (قَالَ: فِي الضَّعَفَةِ) -بفتح الضاد المعجمة، والعين المهملة-: جمع ضعيف، قال ابن مالك رحمه الله في "توضيحه": جمع ضعيف على ضَعَفَة غريبٌ، ومثله خَبِيث وخَبَثَةٌ. انتهى.
وقال الفيّوميّ رحمه الله ما حاصله: جمع ضعيف ضُعَفاءُ، وضِعَافٌ، وجاء ضَعَفَةٌ، وضَعْفَى؛ لأن فعيلًا إذا كان صفة، وهو بمعنى مفعول جُمع على فَعْلَى، مثل قَتيل وقَتْلَى، وجَريح وجَرْحَى، قال الخليل: قالوا: هَلْكَى، ومَوْتَى، ذهابًا إلى أن المعنى معنى مفعول، وقالوا: أحمق وحَمْقَى، وأنوَكُ ونَوْكَى؛ لأنه عيبٌ أُصيبوا به، فكان بمعنى مفعول، وشذّ من ذلك سَقِيمٌ، فجُمع على سِقَام -بالكسر- لا على سَقْمَى، ذهابًا إلى أن المعنى معنى فاعلٍ، ولوحظ في ضعيفِ معنى فاعل، فجُمع على ضعافٍ، وضَعَفَة، مثلُ كافر وكَفَرَة. انتهى.
وقوله: (مِنْ جَمْعٍ) بفتح الجيم، وإسكان الميم، أي من المزدلفة، وهو متعلّق بـ "قَدَّم"، وكذا قوله:(بِلَيْلٍ) والباء بمعنى "في".
[تنبيه]: المراد بالضَّعَفَة هنا هم النساء، والصبيان، والْخَدَم، والمشايخ العاجزون، وأصحاب الأمراض.
وقال ابن حزم: الضعفة، هم الصبيان والنساء فقط، والحديث يردُّ عليه؛ لأنه أعمّ من ذلك، فيدخل فيه الرجال العاجزون، والمرضى؛ إذ لفظ:"الضّعَفَة" أعمّ من النساء، والصبيان، والمشايخ العاجزين، وأصحاب الأمراض؛ لأن العلّة خوف الزحام عليهم.
ويؤيّده رواية الطحاويّ، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعبّاس ليلة المزدلفة: "اذهب بضعفائنا، ونسائنا، فليصلّوا الصبح بمنى، وليرموا جمرة العقبة قبل أن تُصيبهم دفعة الناس"، قال: فكان
(1)
"المصباح المنير" 1/ 83.
عطاء يفعله بعدما كبر وضعف، ولأبي داود من طريق حبيب، عن عطاء، عن ابن عباس:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدّم ضعفاء أهله بغلس"، ولأبي عوانة في "صحيحه" من طريق أبي الزبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدّم العيال، والضَّعَفَة إلى منى من المزدلفة. أفاده في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الصحيح جواز تقدُّم أصحاب الأعذار بالليل من المزدلفة إلى منى، سواء كانوا رجالًا، أو نساءً، وكذا من يقوم عليهم ممن يخدُمهم، وإن كان قويًّا في نفسه؛ لعموم العلّة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [46/ 3127 و 3128 و 3129](1293)، و (البخاريّ) في "الحج"(1677 و 1678 و 1856) و"المغازي"(4196) و"الأدب"(6148)، و (أبو داود) في "المناسك"(1940 و 1941) و"الجهاد"(2538)، و (الترمذيّ) في "الحجّ"(892)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(5/ 261 و 266) وفي "الكبرى"(209/ 4035 و 4036 و 4037 و 4038 و 216/ 4055)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(3025 و 3026)، و (الحميديّ) في "مسنده"(464)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 221 و 222 و 272)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2872)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(9/ 175)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 385)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 375)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(11285 و 11353 و 11354 و 11360 و 11385)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 123)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"الفتح" 4/ 623.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3128] (
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: أَنَا مِمَّنْ قَدَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي ضَعَفَةِ أَهْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
وكلّهم ذُكروا قبله.
وقوله: (أَنَا مِمَّنْ قَدَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي قدّمه، فحذف العائد؛ لكونه فضلة، كما قال في "الخلاصة":
...........................
…
وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي
فِي عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ
…
بِفِعْلٍ أَوْ وَصْفٍ كَـ "مَنْ نَرْجُو يَهَبْ"
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه فيما قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3129] (
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو، عَنْ عَطَاءٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُنْتُ فِيمَنْ قَدَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي ضَعَفَةِ أَهْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلّهم ذُكر في الحديث الماضي، وقبله بحديث.
[تنبيه]: أخرج الطحاويّ طريق عطاء هذه مطوّلة، من رواية إسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصفير، عن عطاء، قال: أخبرني ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس ليلة المزدلفة: "اذهب بضعفائنا، ونسائنا، فليصلّوا الصبح بمنى، وليرموا جمرة العقبة قبل أن تصيبهم دفعة الناس"، قال: فكان عطاء يفعله بعدما كَبِرَ وضَعُفَ، ولأبي داود، من طريق حبيب، عن عطاء، عن ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَدِّم ضعفاء أهله بِغَلَس، ولأبي عوانة في
"صحيحه" من طريق أبي الزبير، عن ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَدِّم العيال والضعفة إلى منى من المزدلفة. ذكره في "الفتح"
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3130](1294) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَ بِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِسَحَرٍ مِنْ جَمْعِ فِي ثَقَلِ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قُلْتُ: أَبَلَغَكَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَ بِي بِلَيْلٍ طَوِيلٍ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا كَذَلِكَ بِسَحَرٍ، قُلْتُ لَهُ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَمَيْنَا الْجَمْرَةَ قَبْلَ الْفَجْرِ؟ وَأَيْنَ صَلَّى الْفَجْرَ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا كَذَلِكَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدِ) بن نصر الْكِسّيُّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ) الْبُرْسانيّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث والإخبار.
شرح الحديث:
عن عَطَاء بن أبي رباح (أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (قَالَ: بَعَثَ بِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال الفيّوميّ رحمه الله: بَعَثَت رسولًا بَعْثًا: أوصلته، وابتعثته كذلك، وفي المطاوع فانبعث مثل كسرته فانكسر، وكلُّ شيء ينبعث بنفسه، فإن الفعل يتعدّى إليه بنفسه، فيقال: بعثه، وكلُّ شيء لا ينبعث بنفسه، كالكتاب والهديّة، فإن الفعل
(1)
"الفتح" 4/ 623.
يتعدّى إليه بالباء، فيقال: بعثتُ به، وأوجز الفارابيّ، فقال: بعثه أي أهبّه، وبَعَثَ به: وَجَهّه. انتهى
(1)
.
(بِسَحَرٍ) الموجود في النسخ بضبط القلم بالكسر منونًا، لكن قال القرطبيّ رحمه الله: الصواب أنه غير منصرف، ودونك نصّه:"بِسَحَرَ" بغير صرف، وهو الصواب؛ لأنه سحر معيّنٌ. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: أشار القرطبيّ رحمه الله بذلك إلى أن "سَحَرَ" هنا غير منصرف؛ للعدل والتعريف، كما قال في "الخلاصة":
وَالْعَدْلُ وَالتَّعْرِيفُ مَانِعَا "سَحَرْ"
…
إِذَا بِهِ التَّعْيِينُ قَصْدًا يُعْتَبَرْ
يعني أن "سحر" إذا أريد به سحر يوم بعينه، نحو جئتك يوم الجمعة سَحَرَ، فسَحَرَ ممنوع من الصرف؛ للعدل وشبه العلميّة، وذلك لأنه معدولٌ عن السَّحَرِ؛ لأنه معرفة، والأصل في التعريف أن يكون بـ "أل"، فعُدِل به عن ذلك، وصار تعريفه كتعريف العلميّة من جهة أنه لم يُلفَظ معه بمعرِّفٍ
(2)
، والله تعالى أعلم.
(مِنْ جَمْعٍ) أي من المزدلفة (فِي ثَقَلِ نَبِيِّ الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي أهله، و"الثقل" بفتحتين: هو الَشيء الذي يثقل حمله (قُلْتُ) الظاهر أن القائل هو ابن جريج، وهذا يدلّ على أن عطاء لم يسمعه من ابن عبّاس، ومما يدلّ على ذلك ما في "مسند أحمد"، ولفظه:"حدّثني عطاء عن ابن عبّاس، قال: ولم يسمعه منه". انتهى
(3)
، لكن الحديث متّصل، فقد تقدّم من رواية عبيد الله بن أبي يزيد: "أنه سمع ابن عبّاس يقول
…
" الحديث (أَبَلَغَكَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (قَالَ: بَعَثَ بِي بلَيْلٍ طَوِيلٍ؟) أراد بهذا الاستفسار هل بعثه صلى الله عليه وسلم لابن عباس كان من أول الليل، أَم لَا؟ (قَالَ: لَا) أي لم يبلغني أنه بعثه بليل طويل (إِلَّا كَذَلِكَ بِسَحَرٍ) أي إلا أن الذي بلغني أن بعثه كان بسحر، وقوله:(قُلْتُ لَهُ)؛ أي لعطاء (فقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَمَيْنَا الْجَمْرَةَ قَبْلَ الْفَجْرِ؟) هذا أيضًا استفسار آخر، هل ابن عبّاس ومن
(1)
"المصباح المنير" 1/ 52.
(2)
راجع: "شرح ابن عقيل على الخلاصة" 2/ 166.
(3)
راجع: "المسند" 1/ 346.
معه رموا الجمرة بليل، أم تأخّروا إلى ما بعد طلوع الشمس؟، وقوله:(وَأَيْنَ صَلَّى الْفَجْرَ؟) هذا أيضًا استفسار ثالث، وهو أنه هل ذكر ابن عبّاس أين صلّوا صلاة الفجر؟، فأجابه أيضًا، فـ (قَالَ: لَا)؛ أي لم يبيّن كلًّا من رمي الجمرة، ومكان الصلاة (إِلَّا كَذَلِكَ) إلا قوله: "بعث بي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسحر من جمع
…
إلخ".
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، كما سبق بيانه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3131](1295) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللهِ أَخْبَرَهُ: أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ، فَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِاللَّيْلِ، فَيَذْكُرُونَ اللهَ مَا بَدَا لَهُمْ، ثُمَّ يَدْفَعُونَ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ الْإِمَامُ، وَقَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ مِنًى لِصَلَاةِ الْفَجْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا قَدِمُوا رَمَوُا الْجَمْرَةَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: أَرْخَصَ فِي أُولَئِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السرح المصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمر بن الخطاب، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون تقدّموا قبل باب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحاد كيفيّة التحمل والأداء.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له البخاريّ والترمذيّ، والثاني تفرّد به هو والنسائيّ، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمدنيين.
4 -
(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ عن تابعيّ.
5 -
(ومنها): أن سالِمًا أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وأبوه أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ (أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللهِ أَخْبَرَهُ: أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ) رضي الله عنهما (كَانَ يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ)؛ أي نساءه، وصبيانه من المزدلفة إلى منى؛ خوفَ التأذي بالعجلة والزحام (فَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) بفتح الميم والعين، وحكى الجوهريّ كسر الميم، وقيل: إنه لغة أكثر العرب، وقال ابن قرقول: كسر الميم لغة، لا رواية، وقال ابن قتيبة: لم يقرأ بها في الشواذّ، وقيل: بل قُرئ، حكاه الْهُذَليّ، وسُمِّي المشعر؛ لأنه مَعْلَمٌ للعبادة، والحرام؛ لأنه من الحرَمِ، أو لحرمته، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قد سبق بيان المشعر الحرام، وذكر الخلاف فيه، وأن مذهب الفقهاء أنه اسم لِقُزَحَ خاصّةً، وهو جبل بالمزدلفة، ومذهب المفسرين، ومذهب أهل السِّيَر أنه جميع المزدلفة، وقد جاء في الأحاديث ما يدلّ لكلا المذهبين، وهذا الحديث دليل لمذهب الفقهاء، وقد سبق أن المشهور فتح الميم من المشعر الحرام، وقيل: بكسرها. انتهى
(2)
.
وقوله: (بِالْمُزْدَلِفَةِ) متعلّق بـ "يَقِفون"، أو بحال من "المشعر الحرام"، وقوله:(بِاللَّيْلِ) متعلّق بـ "يقفون" أيضًا، والباء بمعنى "في" (فَيَذْكُرُونَ اللهَ) فيه مشروعيّة الوقوف عند المشعر الحرام بالدعاء والذكر (مَا بَدَا لَهُمْ) بلا همز: أي ما أرادوا (ثُمَّ يَدْفَعُونَ) أي يُفيضون من المزدلفة إلى منى، ولفظ البخاريّ:"ثم يرجعون"، قال في "الفتح": معناه أنهم يرجعون عن الوقوف إلى الدفع (قَبْلَ أَنْ يَقِفَ الْإِمَامُ) أي بالمشعر الحرام، و"قبلَ" متعلّق بـ "يدفعون"(وَقَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ) أي وقبل أن يُفيض الإمام من المزدلفة متوجهًا إلى منى (فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ) بفتح أوله
(1)
"الفتح" 4/ 622.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 41.
وثالثه، من باب تَعِبَ (مِنًى لِصَلَاةِ الْفَجْرِ) أي عند صلاة الفجر، فاللام بمعنى "عند"(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا قَدِمُوا رَمَوُا الْجَمْرَةَ) يعني أنهم يرمون جمرة العقبة وقت وصولهم إلى منى، ولا يؤخّرون ذلك إلى طلوع الشمس (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: أَرْخَصَ فِي أُولَئِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال في "الفتح": كذا وقع فيه "أَرْخَصَ"، وفي بعض الروايات:"رَخَّصَ" بالتشديد، وهو أظهر من حيث المعنى؛ لأنه من الترخيص، لا من الرُّخَص.
واحتَجَّ به ابن المنذر لقول من أوجب المبيت بمزدلفة على غير الضعفة؛ لأن حكم من لم يُرَخَّص له ليس كحكم من رُخِّص له، قال: ومن زعم أنهما سواء لزمه أن يجيز المبيت على منى لسائر الناس؛ لكونه صلى الله عليه وسلم أرخص لأصحاب السقاية، وللرعاء أن لا يبيتوا بمنى، قال: فإن قال: لا تَعْدُوا بالرُّخَص مواضعها، فليستعمل ذلك هنا، ولا يأذن لأحد أن يتقدم من جَمع إلا من رخّص له رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى، وهو تحقيقٌ نفيس، وقد تقدّم البحث في هذه المسألة مستوفًى في المسألة الرابعة من شرح حديث عائشة رضي الله عنها في قصّة استئذان سودة رضي الله عنها، أول هذا الباب، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخرجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [46/ 3131](1295)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1676)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2871 و 2883)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 384)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 376)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 123)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(47) - (بَابُ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، وَتَكُونُ مَكَّةُ عَنْ يَسَارِهِ، وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ).
[فائدة]: (اعلم): أن العلماء اختلفوا في المعنى الذي أُخذت منه الجمرة، فقال بعض أهل العلم: الجمرة في اللغة الحصاة، وسُمِّيت الجمرة التي هي موضع الرمي بذلك؛ لأنها المحل الذي يُرمَى فيه بالحصى، وعلى هذا فهو من تسمية الشيء باسم ما يَحُلّ فيه، وهو أسلوب عربيّ معروف، وهو عند البلاغيين من نوع ما يسمونه المجاز المرسل، والتجمير: رمي الحصى في الجمار، ومنه قول ابن أبي ربيعة [من الطويل]:
بَدَا لِيَ مِنْهَا مِعْصَمٌ يَوْمَ جَمَّرتْ
…
وَكَفٌّ خَضِيبٌ زُيِّنَتْ بِبَنَانِ
فَوَاللهِ مَا أَدْرِي وَإِنِّي لَحَاسِبٌ
…
بِسَبْعٍ رَمَينَ الْجَمْرَ أَمْ بَثَمَانِ
والْمُجَمَّرُ بصيغة اسم المفعول مضعفًا هو الموضع الذي تُرمَى فيه الجمار، ومنه قول حذيفة بن أنس الْهُذَليّ [من الطويل]:
لَأَدْرَكَهُمْ شُعْثُ النَّوَاصِي كَأَنَّهُمْ
…
سَوَابِقُ حُجَّاجٍ تُوَافِي الْمُجَمَّرَا
وقال بعض أهل العلم: أصل الجمرة من التجمُّر بمعنى التجمع، تقول العرب: تجمَّر القوم إذا اجتمعوا، وانضَمَّ بعضهم إلى بعض، وجَمَّرهم الأمر: أحوجهم إلى التجمُّر، وهو التجمع، وجَمَّر الشيءَ: جمعه، وجَمَّر الأمير الجيشَ: إذا أطال حبسهم مجتمعين بالثَّغْر، ولم يأذن لهم في الرجوع والتفرق، ورَوَى الربيع أن الشافعي أنشده في ذلك قول الشاعر [من الطويل]:
وَجمَّرْتنا تَجْمِيرَ كِسْرَى جُنُودَهُ
…
وَمَنَّيْتَنَا حَتَّى نَسِينَا الأمَانِيَا
والْجَمَارُ: القوم المجتمعون، ومنه قول الأعشى [من الوافر]:
فَمَنْ مُبلغٌ وَائِلًا قَوْمَنا
…
وَأَعنِي بِذَلِكَ بَكْرًا جَمَارَا
أي مجتمعين، وعلى هذا فاشتقاق الجمرة من التجمُّر، بمعنى التجمع؛ لاجتماع الحجيج عندها يرمونها، وقيل: لأن الحصى يتجمع فيها، وقيل: اشتقاق الجمرة من أجمر: إذا أسرع؛ لأن الناس يأتون مسرعين لرميها، وقيل: أصلها من جمّرته: إذا نحّيته، قال الشيخ الشنقيطيّ رحمه الله: وأظهرها
القول الأول. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3132](1296) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَن الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: رَمَى عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ أُنَاسًا يَرْمُونَهَا مِنْ فَوْقِهَا، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: هَذَا وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
كلّهم تقدّموا قبل باب، غير إبراهيم النخعي، فتقدّم في "المساجد ومواضع الصلاة" 19/ 1286، وشرح الحديث يأتي في التالي، وإنما أخّرته إليه؛ لكونه أتمّ مما هنا، فتنبّه.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3133] (
…
) - (وَحَدَّثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ الْأَعْمَشِ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ يَقُولُ وَهُوَ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ: أَلِّفُوا الْقُرْآنَ كَمَا أَلَّفَهُ جِبْرِيلُ، السُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا الْبَقَرَةُ، وَالسُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا النِّسَاءُ، وَالسُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا آلُ عِمْرَانَ، قَالَ: فَلَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ، فَأَخْبَرْتُهُ بِقَوْلِهِ، فَسَبَّهُ، وَقَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ، أَنَّهُ كَانَ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَأَتَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، فَاسْتَبْطَنَ الْوَادِي، فَاسْتَعْرَضَهَا، فَرَمَاهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ: إِنَّ النَّاسَ يَرْمُونَهَا مِنْ فَوْقِهَا، فَقَالَ: هَذَا وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ).
(1)
ذكره في "لسان العرب" 4/ 146، 147، ونقله الشيخ الشنقيطي في "أضواء البيان" 4/ 466، 467.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ) أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 231)(م فق) تقدم في "الإيمان" 41/ 273.
2 -
(ابْنُ مُسْهِرٍ) هو: عليّ بن مُسهِر القرشيّ الكوفيّ القاضي، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخه، فانفرد به هو وابن ماجه في "التفسير".
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين من أوله إلى آخره.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين روى بعضهم عن بعض: الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَن الْأَعْمَشِ) سليمان بن مِهْران أنه (قَالَ: سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ) بن أبي عقيل الثقفيّ الأمير المشهور الظالم المبير، وَليَ إِمْرَة العراق عشرين سنة، ومات سنة (95 هـ). قال الحافظ رحمه الله: ولم يقصد الأعمش الرواية عنه، فلم يكن بأهل لذلك، وإنما أراد أن يَحْكِي القصّة، ويوضّح خطأ الحجاج فيها بما ثبت عمن يُرجَع إليه في ذلك، بخلاف الحجاج، وكان يرى إضافة السورة إلى الاسم، فردّ عليه إبراهيم النخعيّ بما رواه عن ابن مسعود رضي الله عنه من الجواز. انتهى.
(يَقُولُ وَهُوَ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ) جملة في محلّ نصب على الحال (أَلِّفُوا الْقُرْآنَ)؛ أي: اجمعوه (كَمَا أَلَّفَهُ جِبْرِيلُ) قال القاضي عياض رحمه الله: إن كان الحجاج أراد بقوله: "كما أَلَّفه جبريل" تأليف الآي في كل سورة، ونظمها على ما هي عليه الآن في المصحف، فهو إجماع المسلمين، وأجمعوا أن ذلك تأليف النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإن كان يريد تأليف السورة بعضها في أثر بعض، فهو قول
بعض الفقهاء والقراء، وخالفهم المحققون، وقالوا: بل هو اجتهاد من الأئمة، وليس بتوقيف، قال القاضي: وتقديمه هنا "النساء" على "آل عمران" دليل على أنه لم يرد إلا نظم الآي؛ لأن الحجاج إنما كان يتبع مصحف عثمان رضي الله عنه، ولا يخالفه، والظاهر أنه أراد ترتيب الآي لا ترتيب السور. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم البحث في هذا في "كتاب الصلاة" مستوفًى، وأن الأرجح أن ترتيب السور توقيفيّ أيضًا، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
وقوله: (السُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ) بالباء للمفعول (فِيهَا الْبَقَرَةُ) بيان لكيفيّة تأليفه، ومراده أنهم لا يؤلّفونه بقولهم:"سورة البقرة"، وإنما يقولون:"السورة التي تُذكر فيها البقرة"، وفي الرواية التالية: "لا تقولوا: سورة البقرة
…
" (وَالسُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا النِّسَاءُ، وَالسُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا آلُ عِمْرَانَ، قَالَ) الأعمش (فَلَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ) بن يزيد النخعيَّ (فَأَخْبَرْتُهُ بِقَوْلِهِ)؛ أي: بقول الحجّاج المذكور (فَسَبَّهُ) أي شتمه وعابه؛ لإنكاره المعروف (وَقَالَ) إبراهيم (حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ) النخعيّ أخو الأسود (أَنَّهُ كَانَ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه (فَأَتَى) بالبناء للفاعل (جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ) أي الجمرة التي تُرمى إلى جهة العقبة، وهي الجمرة الكبرى، وليست من منى، بل هي حدّ منى من جهة مكة، وهي التي بايع النبيّ صلى الله عليه وسلم الأنصار عندها على الهجرة، والجمرة اسم لمُجتَمَع الحصى، سميت بذلك؛ لاجتماع الناس بها، يقال: تجمّر بنو فلان: إذا اجتمعوا، وقيل: إن العرب تسمّي الحصى الصغار جِمارًا، فسمّيت تسمية الشيء بلازمه، وقيل: لأن آدم، أو إبراهيم عليه السلام لما عرض له إبليس، فحصبه، جَمّر بين يديه؛ أي أسرع، فسمّيت بذلك.
وتمتاز جمرة العقبة عن الجمرتين الأخريين بأربعة أشياء: اختصاصها بيوم النحر، وأن لا يوقف عندها، وترمى ضُحًى، ومن أسفلها استحبابًا، أفاده في "الفتح"
(2)
.
(1)
"إكمال المعلم" 4/ 372، و"شرح النوويّ" 9/ 43، 44.
(2)
"الفتح" 4/ 710.
وقال الفيّوميّ: كلُّ شيء جمعته، فقد جمّرته، ومنه الجمرة، وهي مُجْتَمعُ الحصى بمنًى، فكلّ كُومَةٍ من الحصى جَمْرةٌ، والجمع جَمَرات، وجَمَرات منى ثلاثٌ، بين كلّ جمرتين نحو غَلْوةِ سَهْمٍ. انتهى
(1)
.
(فَاسْتَبْطَنَ الْوَادِي) أي أتى بطن الوادي (فَاسْتَعْرَضَهَا)؛ أي أتاها من جانبها عَرْضًا، قاله ابن الأثير رحمه الله، وفي رواية البخاريّ:"فاستبطن الوادي، حتى إذا حاذى بالشجرة اعترضها"؛ أي الشجرة، وهذا يدلّ على أنه كان هناك شجرة عند الجمرة، وقد روى ابن أبي شيبة، عن الثقفيّ، عن أيوب، قال: رأيت القاسم وسالمًا ونافعًا يرمون من الشجرة، ومن طريق عبد الرحمن بن الأسود، أنه كان إذا جاوز الشجرة رمى العقبة، من تحت غصن من أغصانها، قاله في "الفتح"
(2)
.
(فَرَمَاهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي) أي من أسفله؛ اتباعًا للسنة، كما بيّنه بقوله:"من ها هنا -والذي لا إله غيره- رماها الذي أنزلت عليه سورة البقرة"(بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ) بفتح الصاد والياء: جمع حصاة، وفيه أن الرمي يكون بسبع حصيات لا بأقلّ، وسيأتي قريبًا اختلاف العلماء في ذلك (يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ) فيه أنه يستحبّ التكبير عند رمي حصى الجمار (قَالَ) عبد الرحمن بن يزيد (فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ) كنية عبد الله بن مسعود " (إِنَّ النَّاسَ يَرْمُونَهَا مِنْ فَوْقِهَا)؛ أي من فوق العقبة (فَقَالَ) ابن مسعود"(هَذَا) مشيرًا إلى المكان الذي رمى منه الجمرة، فاسم الإشارة مبتدأ، خبر "مقامُ"، وقوله:(وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ) قسمٌ معترضٌ، أقسم عبد الله رضي الله عنه به تأكيدًا لحديثه (مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ) يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا هو محلّ الردّ على الحجّاج، فابن مسعود رضي الله عنه صحابيّ من أعلم الصحابة بالسنة، وفقيه من أفقه الصحابة بالأحكام الشرعيّة، فقد سماها "سورة البقرة".
وفي رواية الحكم، عن إبراهيم الآتية:"فرمى الجمرة بسبع حصيات، وجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه"، وفي رواية الترمذيّ من طريق أبي
(1)
"المصباح المنير" 1/ 108.
(2)
"الفتح" 4/ 710، 711.
صخرة، عن عبد الرحمن بن يزيد:"لما أتى عبد الله جمرة العقبة، استبطن الوادي، واستقبل القبلة".
قال الحافظ رحمه الله: والذي قبله هو الصحيح، وهذا شاذّ، في إسناده المسعوديّ، وقد اختلط، وبالأول قال الجمهور، وجزم الرافعيّ من الشافعيّة بأنه يستقبل الجمرة، ويستدبر القبلة، وقيل: يستقبل القبلة، ويجعل الجمرة عن يمينه، وقد أجمعوا على أنه من حيث رماها جاز، سواء استقبلها، أو جعلها عن يمينه، أو يساره، أو من فوقها، أو من أسفلها، أو وسطها، والاختلاف في الأفضل.
[تنبيه]: قال ابن الْمُنَيِّر رحمه الله: خَصّ عبد الله سورة البقرة بالذكر؛ لأنها التي ذُكر فيها الرمي، فأشار إلى أن فعله صلى الله عليه وسلم مبيّنٌ لمراد كتاب الله تعالى.
قال الحافظ رحمه الله: ولم أعرف موضع ذكر الرمي من سورة البقرة، والظاهر أنه أراد أن يقول: إن كثيرًا من أفعال الحجّ مذكورٌ فيها، فكأنه قال: هذا مقام الذي أنزلت عليه أحكام المناسك، منبّهًا بذلك على أن أفعال الحجّ توقيفيّةٌ.
وقيل: خصّ البقرة بذلك؛ لطولها، وعظم قدرها، وكثرة ما فيها من الأحكام، أو أشار بذلك إلى أنه يُشرع الوقوف عندها بقدر سورة البقرة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [47/ 3132 و 3133 و 3134 و 3135 و 3136 و 3137](1296)، و (البخاريّ) في "الحج"(1747 و 1748 و 1749 و 1750)، و (أبو داود) في "المناسك"(1974 و 3030)، و (الترمذيّ) في "الحجّ"(901)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(5/ 273 و 274) وفي "الكبرى"(4076 و 4077 و 4078 و 4079)، (وابن ماجه) في "المناسك"(2/ 1008)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 42)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"
(3/ 198)، و (الحميديّ) في "مسنده"(111)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 374 و 408 و 415 و 422 و 436 و 456 و 457)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2879)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3873)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 394)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 377)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(8/ 477)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 129)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1949)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): إثبات رمي جمرة العقبة يوم النحر، قال النوويّ رحمه الله: وهو مجمع عليه، وهو واجب، وهو أحد أسباب التحلل، وهي ثلاثة: رمي جمرة العقبة يوم النحر، فطواف الإفاضة مع سعيه، إن لم يكن سعى، والثالث الحلق عند من يقول: إنه نسك، وهو الصحيح، فلو ترك رمي جمرة العقبة حتى فاتت أيام التشريق، فحجه صحيح، وعليه دم، هذا قول الشافعيّ، والجمهور، وقال بعض أصحاب مالك: الرمي ركن لا يصح الحج إلا به، وحَكَى ابن جرير عن بعض الناس أن رمي الجمار إنما شُرِعَ حفظًا للتكبير، ولو تركه وكبّر أجزأه، ونحوه عن عائشة رضي الله عنها، والصحيح المشهور ما قدمناه.
2 -
(ومنها): بيان المكان الذي تُرمَى منه جمرة العقبة، وهو بطن الوادي، وقد بيّن في الرواية الآتية صفته إذا رمَى، وهو أن يجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، قال النوويّ رحمه الله: فيستحب أن يقف تحتها في بطن الوادي، فيجعل مكة عن يساره، ومنى عن يمينه، ويستقبل العقبة والجمرة، ويرميها بالحصيات السبع، وهذا هو الصحيح في مذهبنا، وبه قال جمهور العلماء، وقال بعض أصحابنا: يُستحب أن يقف مستقبل الجمرة، مستدبرًا مكة، وقال بعض أصحابنا: يستحب أن يقف مستقبل الكعبة، وتكون الجمرة عن يمينه، والصحيح الأول، وأجمعوا على أنه من حيث رماها جاز، سواء استقبلها، أو جعلها عن يمينه، أو عن يساره، أو رماها من فوقها، أو أسفلها، أو وقف في وسطها، ورماها، وأما رميُ باقي الجمرات في أيام التشريق، فيستحب من فوقها. انتهى
(1)
.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 42، 43.
وقال ابن بطال رحمه الله: رمي جمرة العقبة من حيث تيسر من العقبة من أسفلها أو أعلاها أو وسطها، كل ذلك واسع، والموضع الذي يُختار بها بطن الوادي من أجل حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وكان جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يرميها من بطن الوادي، وبه قال عطاء، وسالم، وهو قول الثوريّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وقال مالك: رميها من أسفلها أحب إليّ، وقد روي عن عمر رضي الله عنه عنه أنه جاء، والزحام عند الجمرة، فصَعِدَ، فرماها من فوقها، ذكره في "العمدة"
(1)
.
3 -
(ومنها): جواز الحلف للتأكيد، وإن لم يُستَحْلَف.
4 -
(ومنها): أن الرمي يكون بسبع حصيات، لا بأقلّ من ذلك، قال النوويّ: وهو مجمع عليه، وقد ترجم البخاريّ رحمه الله لحديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا:"باب رمي الجمار بسبع حصيات"، قال الحافظ رحمه الله: أشار في الترجمة إلى رَدِّ ما رواه قتادة عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: ما أبالي رميت الجمار بست أو سبع، وقد أنكر ذلك ابن عباس رضي الله عنهما، وقتادة لم يسمع من ابن عمر، أخرجه ابن أبي شيبة من طريق قتادة، وروي من طريق مجاهد: من رمى بست فلا شيء عليه، ومن طريق طاوس: يتصدق بشيء، وعن مالك والأوزاعي: من رمى بأقل من سبع وفاته التدارك يجبره بدم، وعن الشافعية في ترك حصاة مُد، وفي ترك حصاتين مُدّان، وفي ثلاثة فأكثر دم. وعن الحنفية: إن ترك أقل من نصف الجمرات الثلاث فنصف صاع وإلا فدم. انتهى
(2)
، وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى-.
5 -
(ومنها): استحباب التكبير مع كل حصاة، وهو مذهب العلماء كافّةً، قال القاضي عياض: وأجمعوا على أنه لو ترك التكبير لا شيء عليه.
6 -
(ومنها): أنه استُدلّ به على اشتراط رمي الجمرات واحدةً واحدةَ؛ لقوله: "يُكبّر مع كلّ حصاة"، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"خذوا عني مناسككم"، وخالف في ذلك عطاء، وصاحبه أبو حنيفة، فقالا: لو رَمَى السبع دفعة واحدة أجزأه.
(1)
"عمدة القاري" 10/ 87.
(2)
"الفتح" 4/ 709.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا عزا في "الفتح" هذا القول لأبي حنيفة، وسيأتي عن العينيّ أنه لا يصحّ عنه، فتنبّه.
7 -
(ومنها): جواز قول: "سورة البقرة"، وما ذُكر عن الحجّاج بن يوسف، كما هنا، فمن أخطائه، وجهله بالسنّة، فلا يلتفت إليه.
وقال في "العمدة": فيه أنه لا يكره قول الرجل: "سورة البقرة"، و"سورة آل عمران"، ونحو ذلك، وهو قول كافّة العلماء، إلَّا ما حُكِي عن بعض التابعين كراهة ذلك، وأنه ينبغي أن يقال: السورة التي يذكر فيه كذا، والأصح قول الجمهور؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه"، وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة المرفوعة. انتهى
(1)
.
8 -
(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من مراعاة أحوال النبيّ صلى الله عليه وسلم في كلّ حركةٍ، وهيئةٍ، ولا سيّما في أعمال الحجّ؛ لقوله لهم:"لتأخذوا عني مناسككم".
[فائدة]: زاد محمد بن عبد الرحمن بن يزيد النخعيّ، عن أبيه في هذا الحديث، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه لما فَرَغَ من رمي جمرة العقبة قال:"اللَّهمّ اجعله حجًّا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا". انتهى
(2)
.
وأخرج البيهقيّ عن سالم بن عبد الله بن عمر، أنه استبطن الوادي، ثم رمى الجمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة:"الله أكبر، الله أكبر، اللهم اجعله حجًّا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا، وعملًا مشكورًا"، وقال: حدثني أبي أن
(1)
"عمدة القاري" 10/ 87.
(2)
أخرجه أحمد في "مسنده" 1/ 427، ونصّه: حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا جرير، عن ليث، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، قال: كنت مع عبد الله حتى انتهى إلى جمرة العقبة، فقال: ناولني أحجارًا، قال: فناولته سبعة أحجار، فقال لي: خذ بزمام الناقة، قال: ثم عاد إليها، فرمى بها من بطن الوادي بسبع حصيات، وهو راكب، يكبر مع كل حصاة، وقال:"اللهم اجعله حجًّا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا"، ثم قال: ها هنا كان يقوم الذي أنزلت عليه سورة البقرة. انتهى.
وفي سنده ليس بن أبي سُليم، متكلّم فيه.
النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يرمي الجمرة في هذا المكان، ويقول كلما رمى بحصاة مثل ما قلت.
قال البيهقيّ رحمه الله: عبد الله بن حكيم بن الأزهر ضعيف
(1)
.
وروى حنبل في "المناسك" عن زيد بن أسلم، عن سالم بن عبد الله مثل ذلك، كما في "المغني"
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في وجوب الرمي بسبع حصيات: ذهب أكثر العلماء إلى أن رمي الجمرة لا بدّ أن يكون بسع حصيات، وذهب عطاء إلى أنه إن رمى بخمس أجزأه، وقال مجاهد: إن رمى بستّ فلا شيء عليه، وبه قال أحمد، وإسحاق: واحتُجَّ لهم بما أخرجه النسائيّ من طريق مجاهد، عن سعد بن أبي وقّاص قال:"رجعنا في الحجة مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبعضنا يقول: رميت بسبع حصيات، وبعضنا يقول: رميت بست، فلم يعب بعضهم على بعض".
وبما أخرجه أيضًا عن قتادة قال: سمعت أبا مِجْلَز يقول: سألت ابن عباس عن شيء من أمر الجمار؟ فقال: ما أدري، رماها رسول الله صلى الله عليه وسلم بست أو بسبع.
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور أن الواجب السبع، كما صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، من حديث ابن مسعود، وجابر، وابن عباس، وابن عمر، وغيرهم رضي الله عنهم.
وأجيب عن حديث سعد رضي الله عنه بأنه ليس مرفوعًا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن حديث ابن عباس رضي الله عنهما بأنه ورد على الشكّ من ابن عباس، وشكّ الشاكّ لا يَقْدَح في جزم الجازم، وقد ثبت لدينا أنه صلى الله عليه وسلم رماها بسبع حصيات، وقال:"لتأخذوا عني مناسككم".
ثم إن الجمهور -فيما حكاه القاضي عياض- ذهبوا إلى أنه إن رماها بأقلّ من سبع حصيات، لزمه دم، وهو قول مالك، والأوزاعيّ.
(1)
"السنن الكبرى" للبيهقيّ 5/ 129.
(2)
راجع: "المرعاة" 9/ 184، 185.
وذهب الشافعيّ، وأبو ثور إلى أن على تارك حصاة مدًّا من طعام، وفي اثنتين مدّين، وفي ثلاث فأكثر دمًا.
وللشافعيّ قول آخر أن في الحصاة ثلث دم، وله قول آخر أن في الحصاة درهمًا.
وذهب أبو حنيفة، وصاحباه إلى أنه إن ترك أكثر من نصف الجمرات الثلاث، فعليه دم، وإن ترك أقلّ من نصفها، ففي كلّ حصاة نصف صاع، وعن طاوس: إن رمى ستًّا يُطعم تمرة، أو لقمة.
وذكر الطبريّ عن بعضهم أنه لو ترك رمي جميعهنّ بعد أن يكبّر عند كلّ جمرة سبع تكبيرات أجزأه ذلك، وقال: إنما جعل الرمي في ذلك بالحصى سببًا لحفظ التكبيرات السبع، كما جُعل عقد الأصابع بالتسبيح سببًا لحفظ العدد.
وذكر يحيى بن سعيد أنه سئل عن الخرز، والنوى يُسَبَّح به؟ قال: حسن، قد كانت عائشة رضي الله عنها تقول: إنما الحصى للجمار ليحفظ به التكبيرات.
وقال الحكم، وحماد: من نَسِي جمرة، أو جمرتين، أو حصاتين يُهريق دمًا.
وقال عطاء: من نسي شيئًا من رمي الجمار، فذكر ليلًا، أو نهارًا، فيلزمه ما نسي، ولا شيء عليه، وإن مضت أيام التشريق، فعليه دم، وهو قول الأوزاعيّ.
وقال مالك: إن نسي حصاة من الجمرة حتى ذهبت أيام الرمي، ذبح شاة، وإن نسي جمرة تامة ذبح بقرة.
واختلفوا فيمن رمى سبع حصيات في كلٍّ مرّة واحدةً، فقال الشافعيّ: لا يجزيه، إلا عن حصاة واحدة، ويرمي بعدها ستًّا، وقال عطاء: تجزيه عن السبع، وهو قول أبي حنيفة، كما في سياط الحدّ سوطًا سوطًا، ومجتمعة، إذا علم وصول الكلّ إلى بدنه.
قال العينيّ: هذا الذي ذُكر عن أبي حنيفة ذَكَره صاحب "التوضيح"، وذكر في "المحيط": ولو رمى إحدى الجمار بسبع حصيات رَمْيةً واحدةً، فهي بمنزلة حصاة، وكان عليه أن يرمي ستّ مرات، قال: العمدة في النقل عن
صاحب مذهب من المذاهب على نقل صاحب من أصحاب ذلك المذهب. انتهى كلام العينيّ.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن الرمي بسبع حصيات واجب؛ لثبوته عنه صلى الله عليه وسلم قولًا وفعلًا، وأما ما ذكروه من إيجاب دم أو نحوه في ترك شيء منه، فيحتاج إلى دليل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3134] (
…
) - (وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، كِلَاهُمَا عَن الْأَعْمَشِ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ يَقُولُ: لَا تَقُولُوا سُورَةُ الْبَقَرَةِ، وَاقْتَصَّا الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ مُسْهِرٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ) هو: يعقوب بن إبراهيم بن كثير الْعَبديّ مولاهم، أبو يوسف البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 252) وله (96) سنةً (ع) من مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدم في "الإيمان" 25/ 209.
2 -
(ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ) يحيى بن زكريا بن أبي زائدة الْهَمْدانيّ، أبو سعيد الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 3 أو 184)(ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 121.
3 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم في الباب الماضي.
و"الأعمش" ذُكر قبله.
وقوله: (وَاقْتَصَّا الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ مُسْهِرٍ) الضمير في "اقتصّا" لابن أبي زائدة، وسفيان.
[تنبيه]: رواية ابن أبي زائدة، عن الأعمش هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "سننه"، فقال:
(3074)
- أخبرنا يعقوب بن إبراهيم، قال: أنبأنا ابن أبي زائدة، قال: حدّثنا الأعمش، سمعت الحجاج يقول: لا تقولوا: سورة البقرة، قولوا:
السورة التي يُذكر فيها البقرة، فذكرت ذلك لإبراهيم، فقال: أخبرني عبد الرحمن بن يزيد أنه كان مع عبد الله حين رمى جمرة العقبة، فاستبطن الوادي، واستعرضها يعني الجمرة، فرماها بسبع حصيات، وكبّر مع كل حصاة، فقلت: إن أناسًا يصعدون الجبل، فقال: ها هنا والذي لا إله غيره، رأيت الذي أنزلت عليه سورة البقرة رمى. انتهى.
وأما رواية سفيان بن عيينة، عن الأعمش، فقد ساقها الحميديّ رحمه الله في "مسنده" (1/ 61) فقال:
(111)
- حدّثنا الحميديّ
(1)
، قال: ثنا سفيان، قال: سمعت الأعمش يقول: سمعت الحجاج بن يوسف يقول: لا تقولوا: "سورة البقرة"، ولا سورة كذا، فذكرته لإبراهيم بن يزيد النخعيّ، فقال: أخبرني عبد الرحمن بن يزيد، أنه مشى مع عبد الله بن مسعود في بطن الوادي، فلما أتى الجمرة جعلها عن يمينه، ثم اعترضها، فرماها، فقلت له: يا أبا عبد الرحمن إن ناسًا يرمونها من فوقها، فقال: من ها هنا، والذي لا إله غيره، رأيت الذي أُنزلت عليه سورة البقرة رماها. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3135] (
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَن الْحَكَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، أَنَّهُ حَجَّ مَعَ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: فَرَمَى الْجَمْرَةَ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وَجَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ، وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ، وَقَالَ: هَذَا مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم في الباب الماضي.
(1)
هذا من كلام الراوي عن الحميديّ، فتنبّه.
2 -
(ابْنُ بَشَّارٍ) محمد بُنْدار، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غُندر البصريّ، ثقةٌ صحيح الكتاب [9](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
4 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم قبل بابين.
5 -
(الْحَكَمُ) بن عُتيبة، تقدّم أيضًا قبل بابين.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3136] (
…
) - (وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَلَمَّا أَتَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) العنبريّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
2 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان الْعَنبريّ، أبو المثنّى البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
و"شعبة" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية معاذ بن معاذ، عن شعبة هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3137] (
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُحَيَّاةِ (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَاللَّفْظُ لَهُ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ يَعْلَى، أَبُو الْمُحَيَّاةِ، عَنْ
سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: قِيلَ لِعَبْدِ اللهِ: إِنَّ نَاسًا يَرْمُونَ الْجَمْرَةَ مِنْ فَوْقِ الْعَقَبَةِ، قَالَ: فَرَمَاهَا عَبْدُ اللهِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، ثُمَّ قَالَ: مِنْ هَا هُنَا، وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، رَمَاهَا الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(يَحْيَى بْنُ يَعْلَى، أَبُو الْمُحَيَّاةِ) - بضمّ الميم، وفتح الحاء المهملة، وتشديد التحتانيّة، وآخره هاء - هو: يحيى بن يعلى بن حَرْملة التيميّ الكوفيّ، ثقةٌ [8].
رَوَى عن أبيه، وعبد الملك بن عمير، وسلمة بن كهيل، ومنصور بن المعتمر، وهشام بن حسان، ومحمد بن إسحاق، وليث بن أبي سليم، وغيرهم.
وروى عنه أسود بن عامر شاذان، وإبراهيم بن موسى الفراء، ويحيى بن يحيى النيسابوريّ، وأبو بكر بن أبي شيبة، وهناد بن السريّ، وغيرهم.
قال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
قال مُطَيَّنٌ: مات سنة ثمانين ومائة، وهو ابن ست وتسعين سنةً، فيما أخبرتُ، وكذا قال ابن سعد بنصّه في الطبقة السادسة.
أخرج له المصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
3 -
(سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ) تقدّم قبل بابين.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث بهذا الإسناد من أفراد المصنّف رحمه الله، وشرحه واضحٌ يُعلم مما سبق، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(48) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ رَاكِبًا، وَبَيَانِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ").
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3138](1297) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، جَمِيعًا عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، قَالَ ابْنُ خَشْرَمٍ: أَخْبَرَنَا عِيسَى، عَن ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَيَقُولُ: "لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي، لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس، تقدّم قريبًا.
2 -
(جَابِرُ) بن عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون تقدّموا قبل باب، و"إسحاق بن إبراهيم" هو: ابن راهويه.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ) هكذا صرّح ابن جريج بالإخبار، فزالت عنه تهمة التدليس، كما زالت عن أبي الزبير حيث ذكر:(أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا) رضي الله عنه (يَقُولُ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ) قال القرطبيّ رحمه الله: وكونه صلى الله عليه وسلم رمى راكبًا؛ ليُظهر للناس فعله على ما قرّرناه في طوافه، وسعيه في حديث جابر رضي الله عنه. انتهى
(1)
.
والحديث يدلّ على أن رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا أفضل من رميها راجلًا وماشيًا، وحَكَى النوويّ عن الشافعيّ وموافقيه أنه يستحب لمن وصل راكبًا أن يرمي راكبًا، ولو رمى ماشيًا جاز، ومن وصلها ماشيًا فيرميها ماشيًا، قال: وهذا في يوم النحر، وأما اليومان الأولان من أيام التشريق فالسنة أن يرمي فيها الجمرات الثلاثة ماشيًا، وفي اليوم الثالث يرمي راكبًا.
(1)
"المفهم" 3/ 399، 400.
وقال ابن قدامة رحمه الله
(1)
: ويرميها راكبًا أو راجلًا كيفما شاء؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم رماها على راحلته، رواه جابر، وابن عمر، وأم أبي الأحوص وغيرهم، قال جابر: رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر، رواه مسلم.
وقال نافع: كان ابن عمر يرمي جمرة العقبة على دابته يوم النحر، وكان لا يأتي سائرها بعد ذلك إلا ماشيًا ذاهبًا وراجعًا، رواه أحمد في "المسند"، وفي هذا بيان للفرق بين هذه الجمرة وغيرها، ولأن رمي هذه الجمرة مما يستحب البداية به في هذا اليوم عند قدومه، ولا يسنّ عندها وقوف، ولو سنّ له المشي إليها لشغله النزول عن البداية بها والتعجيل إليه بخلاف سائرها. انتهى
(2)
.
(وَيَقُولُ) عطف على "يرمي"، فيكون من قبيل:"عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا"، أو الجملة حالية ("لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ) قال النوويّ رحمه الله: هذه اللام لام الأمر، ومعناه: خذوا مناسككم، وهكذا وقع في رواية غير مسلم، وتقديره: هذه الأمور التي أتيت بها في حجتي من الأقوال والأفعال والهيئات هي أمور الحج وصِفته، وهي مناسككم، فخذوها عني، واقبلوها، واحفظوها، واعملوا بها، وعلّموها الناس. انتهى
(3)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: ويجوز أن تكون اللام للتعليل، والمعلَّل محذوف، أي يقول: إنما فعلت لتأخذوا عني مناسككم. انتهى.
ويؤيد الأول ما ورد عند النسائيّ، والبيهقيّ، بلفظ:"خذوا عني مناسككم".
وقال القرطبيّ رحمه الله: صحيح روايتنا لهذا الحديث "لنا" بلام الجر المفتوحة، والنون التي هي مع الألف ضمير، أي يقول لنا:"خذوا مناسككم"، فيكون قوله:"لنا" صلة للقول، قال: هو الأفصح، وقد رُوي:"لتأخذوا مناسككم" بكسر اللام للأمر، وبالتاء المثناة من فوقُ، وهي لغة شاذّة، قرأ بها
(1)
"المغني" 3/ 428.
(2)
راجع: "المرعاة" 9/ 178.
(3)
"شرح النوويّ" 9/ 45.
رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} الآية [يونس: 58]. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
(فَإِنِّي لَا أَدْرِي) مفعوله محذوف، أي لا أعلم ماذا يكون؟ (لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي) بفتح الحاء، وهي تَحْتَمَلِ أن تكون مصدرًا، وأن تكون بمعنى السَّنَة (هَذِهِ") أي التي أنا فيها، قال النوويّ رحمه الله: فيه إشارة إلى توديعهم، وإعلامهم بقرب وفاته صلى الله عليه وسلم، وحَثِّهم على الاعتناء بالأخذ عنه، وانتهاز الفرصة من ملازمته، وتعلم أمور الدين، وبهذا سُمِّيت حجة الوداع. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [48/ 3138](1297)، و (أبو داود) في "المناسك"(1970)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(5/ 270) و"الكبرى"(2/ 436)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 301 و 318 و 332 و 337 و 367 و 378)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2877)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 393)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 378)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 194) و"مسند الشاميين"(2/ 54)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4/ 111)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 116 و 130)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر.
2 -
(ومنها): بيان استحباب الرمي راكبًا، فالمستحب لمن أتى راكبًا أن يرمي راكبًا.
3 -
(ومنها): أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أمته بأخذ أمور الدين، ولا سيّما المناسك عنه، ولا يعملوا بهواهم، وإنما يتّبعون ما سنّ لهم، قال النوويّ رحمه الله: وهذا
(1)
"المفهم" 3/ 399، 400.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 45.
الحديث أصل عظيم في مناسك الحج، وهو نحو قوله صلى الله عليه وسلم في الصلاة:"صلّوا كما رأيتموني أصلي". انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا
…
إلخ" أمر للاقتداء به، وحَوَالةٌ على فعله الذي وقع به البيان لمجملات الحجّ في كتاب الله تعالى، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم لما صلّى: "صلُّوا كما رأيتموني أصلي"، متّفقٌ عليه.
قال: ويلزم من هذين الأمرين أن يكون الأصل في أفعال الصلاة والحجّ الوجوب، إلا ما خرج بدليل، كما ذهب إليه أهل الظاهر، وحُكي عن الشافعيّ. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
وقال السنديّ رحمه الله في "حاشية النسائيّ": "خذوا عني مناسككم": أي تعلّموها مني، واحفظوها، وهذا لا يدل على وجوب المناسك، وإنما يدل على وجوب أخذها وتعلّمها، فمن استدلّ به على وجوب شيء من المناسك، فاستدلاله في محل النظر، فليتأمل. انتهى.
وكذا قال في "حاشية مسلم"، وعَلَّل ذلك بقوله: إذ وجوب تعلّم الشيء لا يدلّ على وجوب ذلك الشيء؛ إذ جميع المندوبات، والسنن يجب أخذها وتعلّمها، ولو على وجه الكفاية، وهي غير واجبة عملًا، فافهم، والله تعالى أعلم. انتهى كلام السنديّ رحمه الله
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله السنديّ رحمه الله من أن قوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني
…
إلخ" لا يدلّ على وجوب جميع أفعال المناسك، وإنما يدلّ على وجوب الأخذ والتعلم منه صلى الله عليه وسلم، هو الأظهر مما ذكره القرطبيّ، وغايته أنه يدلّ على وجوب تعلّم جميع المناسك، وأما وجوب كلّ عمل من أعمال المناسك فلا بدّ من شيء زائد، كالأمر به، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 45.
(2)
"المفهم" 3/ 399، 400.
(3)
راجع: "المرعاة" 9/ 179.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3139](1298) - (وَحَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أنَيْسَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ الْحُصَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُهَا تَقُولُ: حَجَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَجَّةَ الْوَدَاعِ، فَرَأَيْتُهُ حِينَ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وَانْصَرَفَ، وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَمَعَهُ بِلَالٌ وَأُسَامَةُ أَحَدُهُمَا يَقُودُ بِهِ رَاحِلَتَهُ، وَالْآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الشَّمْسِ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَوْلًا كَثِيرًا، ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "إِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ مُجَدَّعٌ -حَسِبْتُهَا قَالَتْ -: أَسْوَدُ، يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى، فَاسْمَعُوا لَهُ، وَأَطِيعُوا").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ) الْمِسْمَعيّ النيسابوريّ، نزيل مكة، ثقةٌ، من كبار [11] مات سنة بضع و (140)(م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 60.
2 -
(الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ) هو: الحسن بن محمد بن أعين أبو عليّ الْحَرّانيّ، نُسب لجدّه، صدوقٌ [9](ت 210)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
3 -
(مَعْقِلُ) بن عُبيد الله الْعَبْسيّ مولاهم، أبو عبد الله الْجَزَريّ، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 166)(م د س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
4 -
(زَيْدُ بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ) أبو أسامة الجزريّ، كوفيّ الأصل، ثم سكن الرُّهَا، ثقة له أفراد [6](ت 119)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 96.
5 -
(يَحْيَى بْنُ حُصَيْنٍ) الأحمسيّ البجليّ، ثقة [4].
رَوَى عن جدته أم الحَصين، ولها صحبة، وعن طارق بن شهاب، وعنه أبو إسحاق السبيعيّ، وزيد بن أبي أنيسة، وشعبة.
قال ابن معين، والنسائيّ: ثقة، وزاد أبو حاتم: صدوق، وقال العجليّ: كوفيّ ثقة، وذكره ابن حبّان في "الثقات".
روى له الجماعة، سوى البخاريّ، والترمذيّ، وله ولجدّته في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث هذا برقم (1298) وأعاده بعده، و (1303) و (1838) وأعاده بعده.
6 -
(أُمُّ الْحُصَيْنِ) بنت إسحاق الأحمسيّة، شَهِدت خطبة حجة الوداع، وروتها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك، وروى عنها ابن ابنها يحيى بن الحصين، والْعَيْزار بن حُريث.
أخرج لها الجماعة، سوى البخاريّ، ولها في هذا الكتاب ما مرّ آنفًا في الترجمة السابقة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عن يَحْيَى بْنِ حُصَيْنٍ) الأحمسيّ (عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ الْحُصَيْنِ) رضي الله تعالى عنها (قَالَ: سَمِعْتُهَا تَقُولُ: حَجَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَجَّةَ الْوَدَاعِ) فيه بيان جواز تسميتها بهذا الاسم خلافًا لمن كرهه، كما تقدّم (فَرَأَيْتُهُ) صلى الله عليه وسلم (حِينَ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وَانْصَرَفَ) أي من الجمرة (وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ) جملة حاليّة من الفاعل (وَمَعَهُ بِلَالٌ وَأُسَامَةُ) جملة حاليّة أيضًا، وبلال هو ابن رباح المؤذّن المشهور رضي الله عنه المتوفّى سنة (17) أو (18) أو (20) وأسامة هو: ابن زيد بن حارثة رضي الله عنهما المتوفّى سنة (54). (أَحَدُهُمَا)؛ أي أحد الصحابيين المذكورين (يَقُودُ بِهِ رَاحِلَتَهُ) صلى الله عليه وسلم، والجملة حاليّة أيضًا (وَالْآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ عَلَى رَأسِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الشَّمْسِ)؛ أي يظلّه من أجل شدّة حرارة الشمس، وقد بيّنت في رواية النسائيّ قائد الراحلة بأنه بلال، ورافع الثوب بأنه أسامة، ولفظه: قالت: "حججت في حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فرأيت بلالًا يقوم بخطام راحلته، وأسامة بن زيد رافع عليه ثوبه يُظلّه من الحرّ وهو محرم، حتى رمى جمرة العقبة
…
" الحديث.
وفي رواية ابن حبّان من طريق عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة: "فرأيت أسامة أو بلالًا يقود بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخر رافع ثوبه يستره به من الحرّ حتى رمى جمرة العقبة، ثم انصرف، فوقف الناس، وقد جعل ثوبه من تحت إبطه الأيمن على عاتقه الأيسر، قال: فرأيت تحت غُضروفه الأيمن كهيئة جُمْعٍ، ثم ذكر قولًا كثيرًا
…
" الحديث.
[فإن قلت]: رواية النسائيّ المذكورة، كراوية المصنّف التالية بلفظ:
"والآخر رافع ثوبه يستره من الحرّ حتى رمى جمرة العقبة" تدلّ على أن الإظلال
كان حين رمي الجمرة، ورواية المصنّف هنا بلفظ:"حين رمى جمرة العقبة، وانصرف" تدلّ على أنه كان بعد رمي الجمرة، فكيف التوفيق بين الروايتين؟
[قلت]: يُمكن الجمع بينهما بأن الإظلال كان في الحالين: حال الرمي، وحال الانصراف، والله تعالى أعلم.
(قَالَتْ) أم الحصين رضي الله عنها (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَوْلًا كَثِيرًا) وفي رواية النسائيّ: "ثم خطب الناس، فحمد الله، وأثنى عليه، وذَكَر قولًا كثيرًا" أي ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم في تلك الخطبة أحكامًا كثيرة، ومن جملة ذلك قوله هنا: "إن أُمّر عليكم
…
إلخ".
ومنه: ما يأتي للمصنّف بعد ثلاثة أبواب من طريق شعبة، عن يحيى بن الحصين، عن جدّته:"أنها سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع دعا للمحلِّقين ثلاثًا، وللمقصّرين مرّةً"، ولفظ أحمد في "مسنده": قال: سمعت جدّتي تقول: سمعت نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بعرفات يخطب، يقول:"غفر الله للمحلّق" ثلاث مرّار، قالوا: والمقصّر؟ فقال: "والمقصّرين"، في الرابعة.
(ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "إِنْ أُمِّرَ) بضمّ أوله، وتشديد الميم، مبنيًّا للمفعول: أي جُعل عليكم أميرًا (عَلَيْكُمْ عَبْدٌ مُجَدَّعٌ) أي مقطوع الأطراف، يقال: جَدَعتُ الأنف جدعًا، من باب نفع: قطعته، وكذا الأذنُ، واليدُ، والشفة، قاله الفيّوميّ.
وقال النوويّ رحمه الله: الْمُجَدَّع -بفتح الجيم والدال المهملة المشددة، والجدع: القطع من أصل العضو، ومقصوده التنبيه على نهاية خسته، فإن العبد خسيس في العادة، ثم سواده نقص آخر، وجَدْعه نقص آخر، وفي الحديث الآخر:"كأن رأسه زَبِيبة"، ومَن هذه الصفات مجموعة فيه فهو في نهاية الخسة، والعادة أن يكون ممتهنًا في أرذل الأعمال، فأمر صلى الله عليه وسلم بطاعة وليّ الأمر، ولو كان بهذه الخساسة ما دام يقودنا بكتاب الله تعالى.
قال العلماء: معناه: ما داموا متمسكين بالإسلام، والدعاء إلى كتاب الله تعالى، على أيّ حال كانوا في أنفسهم، وأديانهم، وأخلاقهم، ولا يُشَقّ عليهم العصا، بل إذا ظهرت منهم المنكرات وُعِظُوا، وذُكِّروا.
[فإن قيل]: كيف يؤمر بالسمع والطاعة للعبد، مع أن شرط الخليفة كونه قرشيًّا؟.
[فالجواب]: من وجهين:
(أحدهما): أن المراد بعض الولاة الذين يوليهم الخليفة، ونوابه، لا أن الخليفة يكون عبدًا.
(والثاني): أن المراد لو قَهَرَ عبد مسلم، واستولى بالقهر نَفَذَت أحكامه، ووجبت طاعته، ولم يجز شَقّ العصا عليه، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو بحث نفيسٌ.
وقال القرطبي رحمه الله: قوله: "عبدٌ مجدَّعٌ": مقطوع الأنف والأطراف، والجدع: القطع، والعبد الذي يكون في هذه الضَّعَة هو في نهاية الضّعَةِ والخسّة، وذلك أن العبد إنما تنقطع أطرافه من كثرة العمل، والمشي حافيًا، وهذا منه صلى الله عليه وسلم على جهة الإغياء على عادة العرب في تمكينهم المعاني، وتأكيدها، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من بنى لله مسجدًا، ولو مثلَ مَفْحص قطاة، بنى الله تعالى له بيتًا في الجنّة"، ومفحص القطاة لا يصلح لمسجد، وإنما هو تمثيلٌ للتصغير على جهة الإغياء، فكأنه قال: أصغر ما يكون من المساجد، وعلى هذا التأويل لا يكون حجةً لمن استدلّ على جواز تأمير العبد فيما دون الإمامة الكبرى، وهم بعض أهل الظاهر فيما أحسب، فإنه قد اتّفق على أن الإمام الأعظم لا بدّ أن يكون حرًّا، على ما نصّ أصحاب مالك أن القاضي لا بدّ أن يكون حرًّا، قال: وأمير الجيش والحرب في معناه، فإنها مناصب دينيّةٌ، يتعلّق بها تنفيذ أحكام شرعيّة، فلا يصلح لها العبد؛ لأنه ناقص بالرقّ، محجور عليه، لا يستقلّ بنفسه، ومسلوب أهليّة الشهادة والتنفيذ، فلا يصلح للقضاء، ولا للإمارة، وأظنّ أن جمهور علماء المسلمين على ذلك. انتهى كلام القرطبيّ.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: فيما قاله القرطبيّ من نفيه تولية العبد على الإطلاق، نظر لا يخفى؛ فإن التعليل الذي علّل به عدم الجواز غير لازم، فلو أذن له سيّده، أو كان السيد هو الإمام الأعظم، فولّاه زالت الموانع، فما عزاه إلى بعض أهل الظاهر إن صحّ عنهم هو الظاهر، فليُتأمل، والله تعالى أعلم بالصواب.
وقوله: (حَسِبْتُهَا) من كلام يحيى، أي ظننت جدّتي (قَالَتْ: أَسْوَدُ) بالرفع صفة بعد صفة لـ "عبدٌ"(يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى) فيه إشارةٌ إلى أنه لا طاعة له فيما يُخالف حكم الله تعالى (فَاسْمَعُوا لَهُ، وَأَطِيعُوا") أي: اسمعوا قوله، وأطيعوا أمره، زاد في رواية ابن حبّان المذكورة:"ثم قال: هل بلّغتُ؟ "، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أم الحصين رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [48/ 3139 و 3140](1298) وسيأتي في "الإمارة" برقم (1838)، و (الترمذيّ) في "الجهاد"(1706)، و (النسائيّ) في "البيعة"(4195) وفي "الكبرى"(7815)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2861)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 69 و 5/ 381 و 6/ 402 و 403)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1560 و 1561)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 391 و 4/ 402)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 379)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(10/ 427)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 38) و"الكبير"(25/ 157 - 158)، و (ابن أبي عاصم) في "السنّة"(1062)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 155)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان جواز حجة الوداع، وقد سبق أن من الناس من أنكر ذلك، وكرهه، وهو غلطٌ، وسبق بيان إبطاله.
2 -
(ومنها): أن فيه جواز الرمي راكبًا كما سبق.
3 -
(ومنها): بيان جواز تظليل المحرم على رأسه بثوب وغيره، قال النوويّ رحمه الله: وهو مذهبنا، ومذهب جماهير العلماء، سواء كان راكبًا أو نازلًا، وقال مالك، وأحمد: لا يجوز، وإن فعل لزمته الفدية، وعن أحمد رواية أنه لا فدية، وأجمعوا على أنه لو قعد تحت خيمة، أو سقف جاز، ووافقونا على أنه إذا كان الزمان يسيرًا في الْمِحْمَل لا فدية، وكذا لو استَظَلّ بيده.
وقد يحتجون بحديث عبد الله بن عباس بن أبي ربيعة، قال: صحبت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فما رأيته مُضَرِّبًا فُسْطاطًا حتى رجع، رواه الشافعيّ، والبيهقيّ بإسناد حسن.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أبصر رجلًا على بعيره، وهو محرمٌ، قد استَظَلّ بينه وبين الشمس، فقال: اضْحَ لمن أحرمتَ له، رواه البيهقيّ بإسناد صحيح.
وعن جابر رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "ما من محرم يَضْحَى للشمس حتى تغرُب إلا غربت بذنوبه، حتى يعود كما ولدته أمه"، رواه البيهقيّ، وضعّفه.
واحتَجَّ الجمهور بحديث أم الحصين، وهذا المذكور في مسلم هنا، ولأنه لا يسمى لبسًا، وأما حديث جابر فضعيف، كما ذكرنا، مع أنه ليس فيه نهيٌ، وكذا فعلُ عمر، وقول ابن عمر ليس فيه نهيٌ، ولو كان فحديث أم الحصين رضي الله عنها مقدَّم عليه. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
[تنبيه]: ذكر الأبيّ رحمه الله في "شرحه" أن الرقاشي قال لابن المعدل في يوم شديد الحرّ: أفلا استظللت يا أبا الفضل، فإن في ذلك سعةً؛ للاختلاف فيه، فأنشد له [من الطويل]:
ضَحَيْتُ لَهُ كَيْ أَسْتَظِلَّ بِظِلِّهِ
…
إِذَا الظِّلُّ أَضْحَى فِي الْقِيَامَة قَالِصَا
فَوَا أَسَفَا إِنْ كَانَ سَعْيُكَ بَاطِلًا
…
وَيَا حَسْرَتَا إِنْ كَانَ أَجْرُكَ نَاقِصَا
يقال: ضَحَيتُ، وضحوتُ ضَحيًا وضَحْوًا: برزت للشمس، وضحيتُ ضحى: أصابتني الشمس، ومنه {لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} . انتهى
(2)
.
4 -
(ومنها): بيان الحضّ على طاعة الإمام.
5 -
(ومنها): أن الإمام لا يُشترط أن يكون حرًّا، فقد يتولّى العبد بإذن مولاه، فتجب طاعته، أو يتغلّب، فيتولّى بالقهر والغلبة، فتجب طاعته؛ مراعاة للمصلحة، وصونًا لدماء المسلمين وأموالهم، وأعراضهم.
(ومنها): أن شرط وجوب طاعة الأمير أن يقود بكتاب الله تعالى، وأما إذا أمر بهواه، مخالفًا للكتاب والسنّة، فلا طاعة له، وهذا معنى الحديث الآخر:"إنما الطاعة في المعروف" متّفق عليه، وفي رواية أحمد، وأبي داود،
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 46.
(2)
"شرح الأبيّ" 3/ 399.
والنسائيّ: "لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3140] (
…
) - (وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحِيمِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ أُمِّ الْحُصَيْنِ جَدَّتِهِ، قَالَتْ: حَجَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَجَّةَ الْوَدَاعِ، فَرَأَيْتُ أُسَامَةَ وَبِلَالًا، وَأَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالْآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ يَسْتُرُهُ مِنَ الْحَرِّ، حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ).
قَالَ مُسْلِم: وَاسْمُ أَبِي عَبْدِ الرَّحِيم خَالِدُ بْنُ أَبِي يَزِيدَ، وَهُوَ خَالُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ، رَوَى عَنْهُ وَكِيعٌ، وَحَجَّاجٌ الْأَعْوَرُ
(1)
".
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ) هو: الإمام الحجة المجتهد العلم المشهور، أحمد بن محمد بن جنبل بن هلال بن أسد الشيبانيّ، أبو عبد الله المروزيّ، نزيل بغداد، من كبار [10](ت 241)(ع) تقدم في "الإيمان" 80/ 427.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ) بن عبد الله الباهليّ مولاهم، أبو عبد الله الحرّانيّ، ثقةٌ [9].
رَوَى عن خاله أبي عبد الرحيم، ومحمد بن إسحاق، وخُصيف، وابن عجلان، وهشام بن حسان، وأبي سنان سعيد بن سنان، والمثنى بن الصباح، وغيرهم.
وروى عنه أحمد بن حنبل، وعبد الله بن محمد أبو جعفر النُّفيليّ، وأحمد بن أبي شعيب، وعمرو بن خالد، والعلاء بن هلال، وعبد العزيز بن يحيى، وغيرهم.
(1)
وفي نسخة: "وحجاج الأعور، وغيرهما".
قال النسائيّ: ثقة، وقال أبو عروبة: أدركنا الناس لا يختلفون في فضله وحفظه، وقال العجليّ: ثقة، أرفع من عَتّاب بن بشير.
وقال ابن سعد: كان ثقةً فاضلًا عالِمًا، له فضل وروايةٌ، وفتوى، مات في آخر سنة (191)، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة إحدى، أو اثنتين وتسعين ومائة، وقال العقيليّ: مات سنة اثنتين، وقال أبو موسى: مات سنة ثلاث وتسعين.
أخرج له البخاريّ في "جزء القراءة"، والمصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث
(1)
.
3 -
(أَبُو عَبْدُ الرَّحِيمِ) خالد بن يزيد، ويقال: ابن أبي يزيد، وهو المشهور، ابن سماك بن رُسْتُم، قاله ابن عروبة، وقال الدارقطنيّ: ابن سَمّال -بفتح السين، وتشديد الميم، وباللام- الأمويّ مولاهم، الْحَرَّانيّ، ثقةٌ [6].
رَوَى عن زيد بن أبي أنيسة، وعبد الوهاب بن بخت، وجهم بن الجارود، ومكحول الشاميّ، وعدة.
وروى عنه ابن أخته محمد بن سلمة الحرانيّ، وموسى بن أعين، وعيسى بن يونس، ووكيع، وغيرهم.
قال أحمد، وأبو حاتم: لا بأس به، وقال ابن الجنيد، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو القاسم البغويّ: كان ثقةً، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: حسن الحديث، متقنٌ فيه.
قال محمد بن سلمة: مات سنة (144).
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (قَالَ مُسْلِم: وَاسْمُ أَبِي عَبْدِ الرَّحِيمِ خَالِدُ بْنُ أَبِي يَزِيدَ، وَهُوَ خَالُ
(1)
هذا الذي أثبته في برنامج الحديث، ومن الغريب أنه نقل في "تهذيب التهذيب" عن "الزهرة" أن مسلمًا روى له اثني عشر حديثًا. انتهى، وهذا فيه نظر، فليُحرّر.
مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ، رَوَى عَنْهُ وَكِيعٌ، وَحَجَّاجٌ الْأَعْوَرُ)
(1)
"مسلم" هو المصنّف، صاحب الكتاب، وغرضه بيان اسم أبي عبد الرحيم بأنه خالد بن أبي يزيد، وأنه خال لمحمد بن سلمة الراوي عنه هنا، وهذا البيان من المصنّف رحمه الله يعدّ من النوادر.
[تنبيه]: قال الحافظ أبو عليّ الجيّاني الغسّانيّ رحمه الله في "التقييد": قوله: "روى عنه حجاج الأعور، وكيع" هكذا في رواية أبي أحمد والكسائيّ، وفي نسخة أبي العلاء بن ماهان:"روى عن وكيع وحجّاج"، فقَلَب، والأول هو الصواب. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(49) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ كَوْنِ حَصَى الْجِمَارِ بِقَدْرِ حَصَى الْخَذْفِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3141](1299) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ ابْنُ حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَمَى الْجَمْرَةَ بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون، تقدّم قبل بابين.
2 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) تقدّم أيضًا قبل بابين.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ) الْبُرسانيّ، تقدّم أيضًا قبل بابين.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما، ثم فصّل؛ لما سبق غير مرّة.
(1)
وفي نسخة: "وحجاج الأعور، وغيرهما".
(2)
"تقييد المهمل" 3/ 841.
2 -
(ومنها): أنه مسلسل بالتحديث، والإخبار، والسماع، فانتفت عنه تهمة التدليس في ابن جريج، وأبي الزبير.
3 -
(ومنها): أن جابرًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.
شرح الحديث: عن أبي الزُّبَيْرِ رحمه الله (أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَمَى الْجَمْرَةَ بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ) -بفتح الخاء، وسكون الذال المعجمتين-: معناه الرمي، قال الفيّوميّ رحمه الله: خَذَفتُ الحصاةَ ونحوها خَذْفًا، من باب ضرب: رَميتُها بطرفي الإبهام والسبّابة، وقولهم: يأخذ حصى الخذف معناه: حصى الرمي، والمراد: الحصى الصغار، لكنه أُطلق مجازًا. انتهى
(1)
.
قال النوويّ رحمه الله: فيه دليل على استحباب كون الحصى في هذا القدر، وهو كقدر حبة الباقلا، ولو رَمَى بأكبر، أو أصغر جاز مع الكراهة، وقد سبقت المسألة مستوفاةً قريبًا. انتهى.
وقال القرطبي رحمه الله: قد تقدَّم أن معنى الخذف: رمي الحصى الصغار، واختُلِف في مقدارها، وكلهم يكرهون الكبار؛ لِما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قال في هذا: "إيَّاكم والغلوّ في الدِّين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلوّ في الدين"، رواه النسائيّ
(2)
، وأكثر ما قيل في ذلك: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن حصاه كان مثل البندقة، وقال عطاء: مثل طرف الإصبع، وقال الشافعيّ: أصغر من الأنملة طولًا وعرضًا، وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما: بمثل بعر الغنم، وروي عن مالك: أكبر من ذلك أعجب إليّ. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 165.
(2)
حديث صحيح، رواه النسائيّ في "المجتبى" 5/ 268.
(3)
"المفهم" 3/ 401.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [49/ 3141](1299)، و (الترمذيّ) في "الحجّ"(897)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(5/ 274) و"الكبرى"(2/ 439)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 313 و 319 و 356 و 371)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4/ 83)، و (أبو عوانة) في "مستخرجه"(3/ 379)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 127)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(50) - (بَابُ بَيَانِ وَقْتِ اسْتِحْبَابِ الرَّمْيِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3142] (
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، وَابْنُ إِدْرِيسَ، عَن ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: رَمَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى، وَأَمَّا بَعْدُ فَإِذَا زَالَت الشَّمْسُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ) سليمان بن حيّان الكوفيّ، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 190) أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.
3 -
(ابْنُ إِدْرِيسَ) هو: عبد الله بن إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن الأوديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [8](ت 192)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
والباقون ذُكروا قبله.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: رَمَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْجَمْرَةَ) أي جمرة العقبة (يَوْمَ النَّحْرِ) أي يوم العيد (ضُحًى)، قال العراقيّ رحمه الله: الرواية فيه بالتنوين على أنه مصروف، وهو مذهب النحاة، من أهل البصرة، سواءٌ قُصِد التعريف أو
التنكير، وقال الجوهريّ: تقول: لقيته ضُحًى وضُحَى، إذا أردت به ضُحَى يومك لم تنوّنه -يعني أنه منّون عند التنكير، وغير منوّن عند التعريف- وقال: ضحوةُ النهار بعد طلوع الشمس، ثم بعده الضحى، وهي حين تُشْرِق الشمس مقصورةٌ تؤنث وتذكّر، فمن أَنَّث ذهب إلى أنها جمع ضحوة، ومن ذَكَّر ذهب إلى أنه اسم على فُعَلٍ، مثل صُرَدٍ ونُغَرٍ، وهو ظرف غير متمكن، مثل سحر، قال: ثم بعده الضَّحَاء ممدودٌ مذكرٌ، وهو عند ارتفاع النهار الأعلى، ومنه قول عمر رضي الله عنه: يا عباد الله أضحوا لصلاة الضحى، يعني لا تصلّوها إلا إلى ارتفاع الضحى. انتهى.
فقد تحصّل من هذا أن الضحوة وقت طلوع الشمس، والضحى وقت شروقها، والضَّحَاء وقت ارتفاعها، قال القاري: قوله: "ضحى" أي وقت الضحوة من بعد طلوع الشمس إلى ما قبل الزوال. انتهى
(1)
.
(وَأَمَّا بَعْدُ) بالبناء على الضمّ؛ لقطعه عن الإضافة، ونيّة معناها، أي بعد يوم النحر، وهو أيام التشريق (فَإِذَا زَالَت الشَّمْسُ) أي فيرمي بعد الزوال، قال في "العمدة": يستفاد منه أن الرمي في أيام التشريق محله بعد زوال الشمس، وهو كذلك، وقد اتَّفقَ عليه الأئمة، وخالف أبو حنيفة في اليوم الثالث منها، فقال: يجوز الرمي فيه قبل الزوال استحسانًا مع الكراهة التنزيهية، وقال: إن رمى في اليوم الأول أو الثاني قبل الزوال أعاد وفي الثالث يجزئه. وقال عطاء وطاوس: يجوز في الثلاثة قبل الزوال. انتهى
(2)
.
وقال ابن الهمام رحمه الله: أفاد حديث جابر أن وقت الرمي في اليوم الثاني لا يدخل إلا بعد ذلك، وكذا في اليوم الثالث، وفي رواية غير مشهورة عن أبي حنيفة قال: أحب إلي أن لا يرمي في اليوم الثاني والثالث حتى تزول الشمس، فإن رمى قبل ذلك أجزأه، وحمل المروي من فعله صلى الله عليه وسلم على اختيار الأفضل.
وجه الظاهر اتباع المنقول؛ لعدم المعقولية. كذا في "المرقاة"، وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة الثالثة -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"المرعاة" 9/ 180.
(2)
"عمدة القاري" 10/ 86.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد علّقه البخاريّ رحمه الله في "باب رمي الجمار" بصيغة الجزم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [50/ 3142 و 3143] (
…
)، و (أبو داود) في "المناسك"(1971)، و (الترمذيّ) في "الحجّ"(894)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(5/ 270) و"الكبرى"(2/ 437)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(3053)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 319)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 312 و 319 و 399)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2876 و 2968)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3886)، و (الدارميّ) في "سننه"(5/ 58)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(474)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 220)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 395)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 380)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 200)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 275)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 131 و 148 و 149)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1967)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في وقت الرمي في أيام التشريق:
قال الإمام ابن عبد البرّ رحمه الله: قال مالك، والثوريّ، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وأبو يوسف: لا يجزئ الرمي في غير يوم النحر إلا بعد الزوال، وقال أبو حنيفة: إن فعله أحد قبل الزوال أجزأه، وعن عطاء، وطاوس، وعكرمة مثل قول أبي حنيفة، إلا أن طاوسًا قال: إن شاء رمى من أول النهار ونَفَرَ، وقال عكرمة: إن رمى أول النهار لم ينفر حتى تزول الشمس، وعن عمر، وابن عباس، وابن عمر، وجماعة التابعين مثل قول مالك في ذلك. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: وأما أيام التشريق فمذهبنا، ومذهب مالك، وأحمد،
(1)
"التمهيد لابن عبد البر" 7/ 272.
وجماهير العلماء أنه لا يجوز الرمي في الأيام الثلاثة إلا بعد الزوال؛ لهذا الحديث الصحيح، وقال طاوس، وعطاء: يجزئه في الأيام الثلاثة قبل الزوال، وقال أبو حنيفة، واسحاق ابن راهويه: يجوز في اليوم الثالث قبل الزوال.
قال: دليلنا أنه صلى الله عليه وسلم رَمَى كما ذكرنا، وقال صلى الله عليه وسلم:"لتأخذوا مناسككم". انتهى
(1)
.
ورَوَى الإمام البخاريّ رحمه الله عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال: كنا نتحيّن -أي نراقب الوقت- فإذا زالت الشمس رمينا.
قال الحافظ رحمه الله: فيه دليل على أن السنة أن يرمي الجمار في غير يوم الأضحى بعد الزوال، وبه قال الجمهور، وخالف فيه عطاء، وطاوس فقالا: يجوز قبل الزوال مطلقًا، ورخّص الحنفية في الرمي في يوم النفر قبل الزوال، وقال إسحاق: إن رمى قبل الزوال أعاد إلا في اليوم الثالث فيجزئه. انتهى.
وقال بعض المحقّقين: لا دليل على ما ذهب إليه عطاء وطاوس، لا من فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا من قوله، وأما ترخيص الحنفية في الرمي في يوم النفر قبل الزوال، فاستدلوا عليه بأثر ابن عباس رضي الله عنهما، وهو ضعيف، فالمعتمد ما قال به الجمهور. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: أثر ابن عبّاس رضي الله عنهما: ما أخرجه البيهقيّ بسنده، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"إذا انتفح النهار من يوم النفر الآخر، فقد حَلَّ الرمي والصدر"، قال البيهقيّ: طلحة بن عمرو المكي -يعني أحد رواته- ضعيف
(2)
.
قال ابن الهمام الحنفيّ رحمه الله: ولا شك أن المعتمد في تعيين الوقت للرمي في الأول من أول النهار، وفيما بعده من بعد الزوال ليس إلا فِعله كذلك، مع أنه غير معقول -أي لا مدخل للعقل فيه- ولا يدخل وقته قبل الوقت الذي فَعله فيه صلى الله عليه وسلم كما لا يُفعل في غير ذلك المكان الذي رَمَى فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما رمى صلى الله عليه وسلم في الرابع بعد الزوال فلا يُرمى قبله. انتهى
(3)
.
وقال الشيخ الشنقيطيّ رحمه الله في "أضواء البيان": اعلم أن التحقيق أنه لا
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 48.
(2)
"سنن البيهقيّ الكبرى" 5/ 152.
(3)
راجع: "المرعاة" 9/ 181.
يجوز الرمي في أيام التشريق إلا بعد الزوال؛ لثبوت ذلك عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر حديث جابر رضي الله عنه هذا، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما عند البخاريّ قال: "كنا نتحيّن
(1)
فإذا زالت الشمس رمينا"، وحديث عائشة رضي الله عنها عند الإمام أحمد، وأبي داود قالت: "أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر يوم حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى، فمكث بها ليالي أيام التشريق، يرمي الجمرة إذا زالت الشمس
…
" الحديث، وفي إسناده محمد بن إسحاق ولم يصرّح بالتحديث، وروى الإمام أحمد، وابن ماجه، والترمذيّ، وحسّنه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمار حين زالت الشمس".
وبهذه النصوص الثابتة عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم تعلم أن قول عطاء، وطاوس، بجواز الرمي في أيام التشريق قبل الزوال، وترخيص أبي حنيفة في الرمي يوم النفر قبل الزوال، وقولُ إسحاق: إن رمى قبل الزوال في اليوم الثالث أجزأه، كل ذلك خلاف التحقيق؛ لأنه مخالف لفعل النَّبيّ صلى الله عليه وسلم الثابت عنه المعتضد بقوله:"لتأخذوا عني مناسككم"، ولذلك خالف أبا حنيفة في ترخيصه المذكور صاحباه محمد وأبو يوسف، ولم يُرِد في كتاب الله ولا سنة نبيّه صلى الله عليه وسلم شيء يخالف ذلك، فالقول بالرمي قبل الزوال أيام التشريق لا مستند له البتة، مع مخالفته للسنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي لأحد أن يفعله، والعلم عند الله تعالى. انتهى كلام الشيخ الشنقيطيّ رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله الشيخ الشنقيطيّ رحمه الله تحقيق نفيس، خلاصته أنه لا يجوز الرمي في أيام التشريق إلا بعد الزوال؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
لكن لو أفتى مُفت بقول عطاء وطاوس، وإسحاق، وأبي حنيفة -رحمهم الله تعالى- من جواز الرمي قبل الزوال بسبب ما حدث في الوقت الحاضر من كثرة الحجاج، وموت كثير منهم، وتضرّر جميعهم بسبب كون الرمي بعد الزوال، ولا سيّما في اليوم الأخير، لا أرى به بأسًا؛ لقول الله عز وجل:
(1)
أي نراقب الوقت.
(2)
"أضواء البيان" 4/ 463، 464.
{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} الآية، فتأمله حقّ التأمل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في وجوب الترتيب في رمي الجمرات:
(اعلم): أنه يجب الترتيب في رمي الجمار أيام التشريق، فيبدأ بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف، فيرميها بسبع حصيات، مثل حصى الخذف، يكبّر مع كل حصاة، ثم يقف، فيدعو طويلًا، ثم ينصرف إلى الجمرة الوسطى، فيرميها كالتي قبلها، ثم يقف فيدعو طويلًا، ثم ينصرف إلى جمرة العقبة، فيرميها كذلك، ولا يقف عندها، بل ينصرف إذا رمى.
قال الشيخ الشنقيطيّ رحمه الله: وهذا الترتيب على النحو الذي ذكرنا هو الذي فعله النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، وأمر بأخذ المناسك عنه، فعلينا أن نأخذ عنه من مناسكنا الترتيب المذكور، ففي "صحيح البخاريّ" رحمه الله من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبّر على إثْرِ كل حصاةٍ، ثم يتقدَّم حتى يُسْهِلَ، فيقوم مستقبل القبلة، فيقوم طويلًا، ويدعو، ويرفع يديه، ثم يرمي الوُسطى، ثم يأخذ ذات الشمال، فيستهلّ، ويقوم مستقبل القبلة، فيقوم طويلًا، ويدعو، ويرفع يديه، ويقوم طويلًا، ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرف، فيقول: هكذا رأيت النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يفعله. انتهى.
وهذ نصّ صحيح صريح في الترتيب المذكور، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"لتأخذوا عني مناسككم"، فإن لم يرتب الجمرات بأن بدأ بجمرة العقبة لم يجزئه الرمي منكسًا؛ لأنه خالف هدي النَّبي صلى الله عليه وسلم، وفي "الصحيح":"من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردّ"، وتنكيس الرمي عمل ليس من أمره، فيكون مردودًا، وبهذا قال مالك، والشافعيّ، وأحمد، وجمهور أهل العلم، وقال أبو حنيفة: الترتيب المذكور سنّة، فإن نَكَّس الرمي أعاده، وإن لم يُعِد أجزأه، وهو قول الحسن، وعطاء، واحتجوا بأدلة لا تنهض، وعلى الصحيح الذي هو قول الجمهور: إن الترتيب شرط لو بدأ بجمرة العقبة، ثم الوسطى، ثم الأولى، أو بدأ بالوسطى، ورمى الثلاث، لم يُجزه إلا الأولى؛ لعدم الترتيب في الوسطى، والأخيرة،
فعليه أن يرمي الوسطى، ثم الأخيرة، ولو رمى جمرة العقبة، ثم الأولى، ثم الوسطى أعاد جمرة العقبة وحدها، هذا هو الظاهر. انتهى كلام الشيخ الشنقيطيّ رحمه الله
(1)
، وهو تحقيق نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3143]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، أَخْبَرَنَا عِيسَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلهم ذُكروا في السند الماضي، وقبل باب.
[تنبيه]: رواية عيسى بن يونس، عن ابن جريج هذه ساقها الترمذيّ رحمه الله، فقال:
(818)
- حدّثنا عليّ بن خَشْرَم، حدَّثنا عيسى بن يونس، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يرمي يوم النحر ضُحًى، وأما بعد ذلك فبعد زوال الشمس.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسنٌ صحيحٌ، والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم، أنه لا يرمي بعد يوم النحر إلا بعد الزوال. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(51) - (بَابُ بَيَانِ أَنَّ حَصَى الْجِمَارِ سَبْعٌ)
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3144]
(1300) - (وَحَدَّثَني سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ، وَهُوَ ابْنُ عُبَيْدِ اللهِ الْجَزَرِيُّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ
(1)
"أضواء البيان" 4/ 464، 465.
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الِاسْتِجْمَارُ تَوٌّ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ تَوٌّ، وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ تَوٌّ، وَالطَّوَافُ تَوٌّ، وَإِذَا اسْتَجْمَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَجْمِرْ بِتَوٍّ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ) هو: الحسن بن محمد بن أعين، تقدّم أيضًا قبل بابين.
3 -
(مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ الْجَزَرِيُّ) تقدّم أيضًا قبل بابين.
والباقيان ذُكرا قبله.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرِ) بن عبد الله رضي الله عنهما أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الِاسْتِجْمَارُ) أي الاستنجاء بالأحجار (تَوٌّ) -بفتح المثناة الفوقية، وتشديد الواوّ: أي فردٌ، قال النوويّ رحمه الله: التَّوّ- بفتح التاء المثناة فوقُ وتشديد الواو - هو الوتر، والمراد بالاستجمار الاستنجاء. انتهى.
والإيتار والفردية هنا بالثلاثة، وفي البواقي بالسبعة، بدليل الأحاديث المصرحة بذلك، وقد تقدم في "كتاب الطهارة" أن الإيتار بالثلاثة في الاستنجاء واجب على الصحيح، فلا تغفل. (وَرَمْيُ الْجِمَارِ) في الحجّ (تَوٌّ) أي سبع حصيات وكلها واجبة (وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ تَوٌّ) أي سبع وكلها واجبة (وَالطَّوَافُ) بالبيت (تَوٌّ) أي سبعة أشواط، وكلها فرائض عند الجمهور، وعند الحنفية أربعة أشواط فرض، والباقي واجب.
قال الجزريّ رحمه الله في "النهاية": يريد أنه يرمي الجمار في الحج فردًا، وهي سبع حصيات، ويطوف سبعًا، ويسعى سبعًا، وقيل: أراد بفردية الطواف والسعي أن الواجب منهما مرةً واحدة، لا تُثَنَّى ولا تُكَرَّر، سواء كان المُحْرم مفردًا، أو قارنًا. انتهى. (وَإِذَا اسْتَجْمَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَجْمِرْ بِتَوٍّ") قال المناويّ رحمه الله: ليس هذا تكرارًا، بل المراد بالأول الفعلُ، وبالثاني عددُ الأحجار، وفيه وجوب تعدُّد الحجر؛ لضرورة تصحيح الإيتار بما يتقدمه من الشفع؛ إذ لا قائل بتعيين الإيتار بحجر واحد. انتهى.
وقال القاري: الظاهر أن المراد بالاستجمار هنا أي في قوله: "إذا استجمر أحدكم
…
إلخ": هو التبخر، فإنه يكون بوضع العُود على جمرة النار، فيرتفع التكرار، وهو أولى من قول القاضي عياض، وتبعه الطيبيّ: إن المراد بالأول الفعل، وبالثاني عدد الأحجار. انتهى.
وقال السنديّ في "حاشية مسلم": يَحْتَمِل عندي في وجوه التكرير أن يُحمَل الاستجمار في هذا الحديث في أحد الموضعين على الاستنجاء، وفي الموضع الآخر على التبخر، كتبخير أكفان الميت ونحوه، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
وقال القرطبي رحمه الله: قوله: "الاستجمار توٌّ" قد تقدَّم في "كتاب الطهارة": أن الاستجمار يُقال على استعمال الحجارة في محل الغائط والبول، ويقال على استعمال مجمرة البَخُور. وقد ذكرنا هناك اختيار مالك فيها، وقد ذُكِر في هذا الحديث الاستجمار مرتين، فيَحْسُن في هذا الحديث أن يُحْمَل أحدهما على استعمال الحجارة في المخرجين، والآخر على استعمال البَخُور، كما صار إليه مالك، ويجوز حمل الثاني على التأكيد، وفيه بُعدٌ.
قال: و"التوّ": الوتر والفرد، وفي الحديث:"فما مضت إلا توَّة واحدة" أي: ساعة واحدة، ويقال في غير هذا: جاء فلان تَوًّا؛ أي: قاصدًا لا يُعَرِّج على شيء، ولا خلاف في وجوب الوتر في السعي، والطواف، ورمي الجمار، واختُلِف في الاستنجاء على ما مضى. انتهى
(2)
.
وقيل: التوّ: الوتر، ويكون على وجهين:
أحدهما: أن الطواف سبعة أطواف، وكذلك السعي سبع، وهو غير شفع.
والوجه الآخر: أن الطواف الواجب طوافٌ واحدٌ لا يُثَنّى ولا يُكرّر، وكذلك السعي، سواء أكان المحرم مفردًا، أو قارنًا. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الأخير بعيدٌ، يُبعده سياق الحديث،
(1)
راجع: "المرعاة" 9/ 185، 186.
(2)
"المفهم" 3/ 402، 403.
كما هو ظاهر من تأمّله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [51/ 3144](1300)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 380)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 90)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(52) - (بَابُ تَفْضِيلِ الْحَلْقِ عَلَى التَّقْصِيرِ وَجَوَازِ التَّقْصِيرِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3145]
(1301) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَثنَا لَيْثٌ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ قَالَ: حَلَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَحَلَقَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقَصَّرَ بَعْضُهُمْ، قَالَ عَبْدُ اللهِ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "رَحِمَ اللهُ الْمُحَلِّقِينَ" مَرَّةً، أوْ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ:"وَالْمُقَصِّرِينَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، أبو زكريّاء النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(مُحَمَدُ بْنُ رُمْحٍ) بن المهاجر التُّجيبيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.
3 -
(اللَّيْثُ) بن سعد بن عبد الرحمن الفهميّ مولاهم، أبو الحارث
المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه إمامٌ مشهور [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.
4 -
(قُتَيْبَةُ) بن سعيد الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
5 -
(نَافِعٌ) مولى ابن عمر، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهورٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
6 -
(عَبْدُ اللهِ) بن عمر بن الخطاب العدويّ رضي الله عنهما، مات سنة (3 أو 74)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كلاحقه، وهو (194) من رباعيّات الكتاب، وله فيه ثلاثة من الشيوخ، قَرَن بين الأولين؛ لاتحادهما في الأخذ والأداء، وفصل الثالث بالتحويل؛ لمخالفته لهما في ذلك، وقد بيّنّا وجه ذلك غير مرّة، فلا تغفل.
2 -
(ومنها): أن يحيى نيسابوريّ، وقتيبة بَغْلانيّ، والليث وابن رُمح مصريّان، والباقيان مدنيّان.
شرح الحديث:
(عَنْ نَافِع، أَنَّ عَبْدَ اللهِ) بن عمر رضي الله عنهما (قَالَ: حَلَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية البخاريّ من طريق شعيب بن أبي حمزة، عن نافع:"حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته"، قال في "الفتح": وهذا طرف من حديث طويل، أوّله: "لَمَّا نزل الحجّاج بابن الزبير
…
" الحديث.
[تنبيه]: الذي حلق رأس النبيّ صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع هو معمر بن عبد الله العدويّ، قال النوويّ رحمه الله: هذا هو الصحيح المشهور، وفي "مسند الإمام أحمد" من حديثه أنه هو الذي حلق رأسه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع
(1)
، قال النوويّ:
(1)
قال في "المسند" 6/ 400:
(27290)
- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا يعقوب، قال: ثنا أبي، عن ابن =
وقيل: اسمه خراش بن أُميّة، والصحيح أن خِرَاشًا حلقه في الْحُديبية. انتهى
(1)
.
(وَحَلَقَ طَائِفَة مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقَصَّرَ بَعْضُهُمْ) قال صاحب "المعلم": أعرف منهم عثمان بن عفّان، وأبا قتادة، كما في "مسند أحمد" (قَالَ عَبْدُ اللهِ) بن عمر رضي الله عنهما (إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"رَحِمَ اللهُ الْمُحَلِّقِينَ") جملة خبريّة لفظًا دعائيّة معنى، فهو بمعنى الرواية الآتية:"اللهم ارحم المحلّقين"(مَرَّةً، أَوْ مَزَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ) في المرّة الرابعة بعد أن طلبوا منه الدعاء لهم مررًا ("وَالْمُقَصِّرِينَ") أي: رحم الله المقصّرين. الحديث متّفقٌ عليه، والمسائل المتعلّقة به تأتي بعده، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3146]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اللَّهُمَّ ارْحَم الْمُحَلِّقِينَ"، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "اللَّهُمَّ ارْحَم الْمُحَلِّقِينَ"، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "وَالْمُقَصِّرِينَ").
= إسحاق، قال: حدّثني يزيد بن أبي حبيب المصريّ، عن عبد الرحمن بن عُقبة مولى معمر بن عبد الله بن نافع بن نَضْلَة العدويّ، عن معمر بن عبد الله، قال: كنت أَرْحَلُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، قال: فقال لي ليلةً من الليالي: "يا معمر لقد وجدت الليلةَ في اتساعي اضطرابًا"، قال: فقلت: أما والذي بعثك بالحق، لقد شددتها كما كنت أشُدّها، ولكنه أرخاها مَن فد كان نَفِسَ عليّ لمكاني منك؛ لتستبدل بي غيري، قال: فقال: "أما إني غير فاعل"، قال: فلما نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه بمنى أمرني أن أحلقه، قال: فأخذت الموسى، فقمت على رأسه، قال: فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهي، وقال لي:"يا معمر أمكنك رسول الله صلى الله عليه وسلم من شحمة أذنه، وفي يدك الموسى"، قال: فقلت أما والله يا رسول الله إن ذلك من نعمة الله عليّ ومَنِّه، قال: فقال: "أجل إذًا أقرّ لك"، قال: ثم حلقت رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى.
(1)
راجع: "تنبيه المعلم" ص 222، 223.
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اللَّهُمَّ ارْحَم الْمُحَلِّقِينَ") حيث عملوا بالأفضل؛ لأن العمل بما بدأ الله تعالى في قوله: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} الآية [الفتح: 27] أكمل، وقضاء التَّفَث المأمور به في قوله:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} الآية [الحجّ: 29] يكون به أجمل، ويكون في ميزان العمل أثقل، وفيه دليل على الترحم على الحيّ، وعدم اختصاصه بالميت.
(قَالُوا) أي الصحابة الحاضرون رضي الله عنهم، قال الحافظ: لم أقف في شيء من الطرُق على الذي تولى السؤال في ذلك بعد البحث الشديد. انتهى. (وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللهِ؟) هذه الواو "والمقصّرين" عاطفة على شيء محذوف تقديره: "قل: والمقصرين"، أو: قل: وارحم المقصرين، وهذا يسمى العطف التلقينيّ، كقوله تعالى:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} بعد قوله: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124]، قال الآلوسيّ: ومن ذريتي؟ عطف على كاف {جَاعِلُكَ} يقال: سأكرمك، فتقول: وزيدًا؟ أي وتكرم زيدًا، تريد تلقينه بذلك، قال:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} في معنى: بعض ذريتي، فكأنه قال:"وجاعل بعض ذريتي"، وهو من قبيل عطف التلقين، فيكون خبرًا في معنى الطلب، وكأن أصله: واجعل بعض ذربتي، لكنه عدل إلى المنزل؛ لما فيه من البلاغة من حيث جعله من تتمة كلام المتكلم، كأنه مستحق مثل المعطوف عليه، وجعل نفسه كالنائب عن المتكلم، والعدول من صيغة الأمر للمبالغة في الثبوت، ومراعاة الأدب في التفادي عن صورة الأمر، وفيه من الاختصار الواقع موقعه ما يروق كل ناظر.
قال صاحب "المرعاة": ومن هذا القبيل قوله تعالى: {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ} بعد قوله: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 126]، فإنه يصح التقدير: وارزق من كفر بصيغة الأمر، فالطلب بمعنى الخبر على عكس:
{وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} ، وفائدة العدول تعليم تعميم دعاء الرزق، وأن لا يحجر في طلب اللطف، أو التقديرُ: وأرزق من كفر، بصيغة المتكلم.
وقال الآلوسي: ولك أن تجعل العطف على محذوف: أي ارزق من آمن ومن كفر. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد نظمت العطف التلقينيّ، ومثله الاستثناء التلقينيّ، كحديث:"إلا الإذخر"، بقولي:
وعَطْفُ قَوْلِ قَائِل عَلَى سِوَاهْ
…
بِعَطْفِ تَلْقِينٍ دَعَاه مَنْ حَوَاه
كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {قَالَ وَمِنْ
…
ذُرِّيَّتِي} فَاحْفَظْهُ أَيُّهَا الْفَطِنْ
وَمِثْلُ ذَا اسْتِثْنَاؤُهُمْ كَمَا انْتَظَمْ
…
إِخْرَاجُهُ الإِذْخِرَ عَنْ حُكْمِ الْحَرَمْ
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ") هذا تنبيهٌ على أنه صلى الله عليه وسلم لم يقتصر على المحلِّقين أولًا؛ لعدم الالتفات إلى المقصرين، بل دَعَا لهم قصدًا، وكرر الدعاء لهم خاصّةً؛ لإظهار فضيلة التحليق.
(قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللهِ؟) تأكيد لاستدعاء الرحمة للمقصرين، قال القاري: هل هو قول المحلقين، أو المقصرين، أو قولهما جميعًا؟ احتمالات ثلاث، أظهرها بعض الكل من النوعين.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَالْمُقَصِّرِينَ") قال الحافظ رحمه الله: فيه إعطاء المعطوف حكم المعطوف عليه، ولو تخلل بينهما السكوت بلا عذر، ثم هو هكذا في معظم الروايات عن مالك: الدعاء للمحلقين مرتين، وعطف المقصرين عليهم في المرة الثالثة، وانفرد يحيى بن بكير دون رواة "الموطإ" بإعادة ذلك ثلاث مرات، نبّه عليه ابن عبد البر في "التقصِّي"، وأغفله في "التمهيد"، بل قال فيه: إنهم لم يختلفوا على مالك في ذلك، قال
(2)
: وقد راجعت أصل سماعي من موطأ يحيى بن بكير فوجدته كما قال في "التقصي".
وفي رواية الليث، عن نافع عند مسلم -يعني الرواية السابقة- وعلّقها البخاريّ:"رحم الله المحلقين مرة، أو مرتين"، قالوا: والمقصرين؟ قال: "والمقصرين"، والشك فيه من الليث وإلا فأكثرهم موافق لما رواه مالك،
(1)
راجع: "المرعاة" 9/ 256.
(2)
القائل: الحافظ.
ولمسلم أيضًا
(1)
وعلّقه البخاريّ من رواية عبيد الله -بالتصغير- العمريّ، عن نافع، قال في الرابعة:"والمقصرين".
قال الحافظ: وبيان كونها في الرابعة أن قوله: "والمقصرين" معطوف على مقدّر، تقديره:"يرحم الله المحلقين"، وإنما قال ذلك بعد أن دعا للمحلقين ثلاثًا صريحًا، فيكون دعاؤه للمقصرين في الرابعة، وقد رواه أبو عوانة في "مستخرجه" من طريق الثوريّ، عن عبيد الله بلفظ:"قال في الثالثة: والمقصرين"، والجمع بينهما واضح بأن من قال:"في الرابعة"، فعلى ما شرحناه، ومن قال:"في الثالثة"، أراد أن قوله:"والمقصرين" معطوف على الدعوة الثالثة، أو أراد بالثالثة مسألة السائلين في ذلك، وكان صلى الله عليه وسلم لا يُرَاجَع بعد ثلاث، كما ثبت، ولو لم يَدْعُ لهم بعد ثالث مسألة ما سألوه في ذلك.
وأخرجه أحمد (2/ 34) من طريق أيوب عن نافع بلفظ: "اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: وللمقصرين حتى قالها ثلاثًا أو أربعًا، ثم قال: والمقصرين"، ورواية من جزم مقدمة على من شك. انتهى.
وروى البخاريّ بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر للمحلقين"، قالوا: والمقصرين؟ قال: "اللهم اغفر للمحلقين"، قالوا: والمقصرين؟ قالها ثلاثًا. قال: "وللمقصرين". قال الحافظ: قوله: "قالها ثلاثًا" أي قوله: "اللهم اغفر للمحلقين"، وهذه الرواية شاهدة؛ لأن عبيد الله العمري حفظ الزيادة. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [52/ 3145 و 3146 و 3147 و 3148](1301)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1727)، و (أبو داود) في "المناسك"(1979)،
(1)
هي الرواية التالية.
و (الترمذيّ) في "الحجّ"(913)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(3043)، و (مالك) في "الموطّ"(1/ 395)، و (الطيا لسيّ) في "مسنده"(1835)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 16 و 34 و 79 و 119 و 138 و 141 و 151)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 64)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(485)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2929)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3880)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 310)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 381)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 103) و" المعرفة"(4/ 90)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1963)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن الحلق أفضل من التقصير، حيث دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم للمحلّقين ثلاث مرّات.
وقال في "الفتح": وجه كون الحلق أفضل من التقصير أنه أبلغ في العبادة، وأبين للخضوع والذلّة، وأدلّ على صدق النية، والذي يُقَصِّر يُبقي على نفسه شيئًا مما يتزين به، بخلاف الحالق، فإنه يُشعر بأنه ترك ذلك لله تعالى، وفيه إشارة إلى التجرد، ومن ثم استَحَبّ الصلحاء إلقاء الشعور عند التوبة
(1)
، قال: وأما قول النوويّ تبعًا لغيره في تعليل ذلك بأن المقَصِّر يُبقِي على نفسه الشعر الذي هو زينة، والحاج مأمور بترك الزينة، بل هو أشعث أغبر، ففيه نظر؛ لأن الحلق إنما يقع بعد انقضاء زمن الأمر بالتقشف، فإنه يحلّ له عقبه كل شيء إلا النساء في الحج خاصة. انتهى
(2)
.
2 -
(ومنها): بيان أن التقصير أيضًا جائز؛ لأنه صلى الله عليه وسلم دعا لهم مرة واحدةً، فدلّ على جواز فعلهم.
قال النوويّ رحمه الله: في دعائه صلى الله عليه وسلم للمحلّقين ثلاث مرّات، وللمقصّرين مرّةً بعد ذلك تصريح بجواز الاقتصار على أحد الأمرين، إن شاء اقتصر على
(1)
ما استحبّه الصلحاء من إلقاء الشعور عند التوبة يدلّ له ما جاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل أسلم: "ألق عنك شعر الكفر، واختتن". حديث حسن، رواه أبو داود.
(2)
"الفتح" 4/ 683.
الحلق، وإن شاء على التقصير، وتصريح بتفضيل الحلق، وقد أجمع العلماء على أن الحلق أفضل من التقصير، وعلى أن التقصير يجزئ إلا ما حكاه ابن المنذر عن الحسن البصريّ أنه كان يقول: يلزمه الحلق في أول حجة، ولا يجزئه التقصير، وهذا إن صح عنه مردود بالنصوص، وإجماع من قبله. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): أنه استُدِلّ بقوله: "المحلقين" على مشروعية حلق جميع الرأس؛ لأنه الذي تقتضيه الصيغة؛ إذ لا يقال من حَلَق بعض رأسه: إنه حلقه إلا مجازًا، وقد اختلف العلماء في وجوب حلق جميع الرأس، وسيأتي تحقيق ذلك في المسألة الخامسة -إن شاء الله تعالى-.
4 -
(ومنها): بيان أن التقصير يجزئ عن الحلق، وهو مجمع عليه، إلا ما روي عن الحسن البصريّ أن الحلق يتعيّن في أول حجة، حكاه ابن المنذر بصيغة التمريض، وقد ثبت عن الحسن خلافه، قال ابن أبي شيبة: حدّثنا عبد الأعلى، عن هشام، عن الحسن في الذي لم يحج قطّ، فإن شاء حلق، وإن شاء قصّر، نعم رَوَى ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعيّ قال: إذا حج الرجل أول حجة حلق، فإن حج أخرى: فإن شاء حلق، وإن شاء قصّر، ثم روى عنه أنه قال: كانوا يحبون أن يحلقوا في أول حجة، وأول عمرة. انتهى، وهذا يدل على أن ذلك للاستحباب، لا للزوم، نعم عند المالكية، والحنابلة، أن محل تعيين الحلق والتقصير أن لا يكون المحرم لَبَّد شعره، أو ضَفَّره، أو عَقَصَهُ، وهو قول الثوريّ، والشافعيّ في القديم، والجمهور، وقال في الجديد وفاقًا للحنفية: لا يتعين إلا إن نذره، أو كان شعره خفيفًا لا يمكن تقصيره، أو لم يكن له شعر، فيُمِرَّ الموسى على رأسه.
وأغرب الخطابيّ، فاستدل بهذا الحديث لتعيّن الحلق من لبّد، ولا حجة فيه، قاله في "الفتح"
(2)
.
5 -
(ومنها): مشروعيّة الدعاء من فَعَل ما شُرع له، وتكرار الدعاء من فَعَل الراجح من الأمرين المخيَّر فيهما، والتنبيه بالتكرار على الرجحان، وطلب
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 49، 50.
(2)
"الفتح" 4/ 682، 683.
الدعاء من فَعَل الجائز، وإن كان مرجوحًا
(1)
.
6 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: مذهبنا المشهور أن الحلق، أو التقصير نُسُك من مناسك الحجّ والعمرة، ورُكْنٌ من أركانهما، لا يحصل واحد منهما إلا به، وبهذا قال العلماء كافّة، وللشافعي قول شاذّ ضعيف، أنه استباحة محظور، كالطيب، واللباس، وليس بنسك، والصواب الأول. انتهى
(2)
.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في موضع دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: "اللهم ارحم المحلقين
…
إلخ":
قال في "الفتح": واختَلَفَ المتكلمون على هذا الحديث في الوقت الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال ابن عبد البرّ: لم يذكر أحدٌ من رواة نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن ذلك كان يوم الحديبية، وهو تقصير، وحَذْفٌ، وإنما جرى ذلك يوم الحديبية حين صُدَّ عن البيت، وهذا محفوظ مشهور، من حديث ابن عمر، وابن عباس، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وحُبْشِيّ بن جُنَادة، وغيرهم، ثم أخرج حديث أبي سعيد رضي الله عنه، بلفظ:"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لأهل الحديبية للمحلقين ثلاثًا، وللمقصرين مرةً"، وحديثَ ابن عباس رضي الله عنهما، بلفظ: حَلَق رجال يوم الحديبية، وقَصَّر آخرون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رَحِمَ اللهُ المحلقين
…
" الحديث، وحديثَ أبي هريرة رضي الله عنه، من طريق محمد بن فُضَيل الآتي بعد هذا عند مسلم، ولم يَسُقْ لفظه، بل قال: فذكر معناه، قال الحافظ: وتَجَوَّز في ذلك، فإنه ليس في رواية أبي هريرة تعيين الموضع، ولم يقع في شيء من طرقه التصريح بسماعه لذلك من النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولو وقع لقطعنا بأنه كان في حجة الوداع؛ لأنه شهدها، ولم يَشهد الحديبية، ولم يَسُقْ ابن عبد البر عن ابن عمر في هذا شيئًا، قال: ولم أقف على تعيين الحديبية في شيء من الطرق عنه، قال: وقد قدّمت في صدر الباب أنه مُخَرَّج من مجموع الأحاديث عنه أن ذلك كان في حجة الوداع، كما يومئ إليه صنيع البخاريّ.
وحديث أبي سعيد الذي أخرجه ابن عبد البر، أخرجه أيضًا الطحاويّ من طريق الأوزاعيّ، وأحمدُ، وابن أبي شيبة، وأبو داود الطيالسيّ من طريق هشام
(1)
"الفتح" 4/ 684.
(2)
"شرح النووي" 9/ 50.
الدستوائيّ، كلاهما عن يحيى بن أبي كثير، عن إبراهيم الأنصاريّ، عن أبي سعيد، وزاد فيه أبو داود: أن الصحابة حَلَقُوا يوم الحديبية، إلا عثمان، وأبا قتادة.
وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما: فأخرجه ابن ماجه من طريق ابن إسحاق: حدّثني ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عنه، وهو عند ابن إسحاق في "المغازي" بهذا الإسناد، وأن ذلك كان بالحديبية، وكذلك أخرجه أحمد وغيره من طريقه.
وأما حديث حُبْشيّ بن جُنادة: فأخرجه ابن أبي شيبة، من طريق أبي إسحاق عنه، ولم يعيّن المكان، وأخرجه أحمد من هذا الوجه، وزاد في سياقه عن حُبشيّ، وكان ممن شَهِد حجة الوداع، فذكر هذا الحديث، وهذا يُشعر بأنه كان في حجة الوداع.
وأما قول ابن عبد البر فوَهَمٌ، فقد ورد تعيين الحديبية من حديث جابر، عند أبي قُرَّة في "السنن"، ومن طريق
(1)
الطبرانيّ في "الأوسط"، ومن حديث المسور بن مخرمة، عند ابن إسحاق في "المغازي"، وورد تعيين حجة الوداع من حديث أبي مريم السَّلُوليّ، عند أحمد، وابن أبي شيبة، ومن حديث أم الحصين عند مسلم، ومن حديث قَارِب بن الأسود الثقفيّ، عند أحمد، وابن أبي شيبة، ومن حديث أم عُمارة عند الحارث، فالأحاديث التي فيها تعيين حجة الوداع أكثر عددًا، وأصح إسنادًا، ولهذا قال النوويّ عقب أحاديث ابن عمر، وأبي هريرة، وأم الحصين: هذه الأحاديث تدلّ على أن هذه الواقعة كانت في حجة الوداع، قال: وهو الصحيح المشهور، وقيل: كان في الحديبية، وجزم بأن ذلك كان في الحديبية إمام الحرمين في "النهاية"، ثم قال النوويّ: لا يبعد أن يكون وقع في الموضعين. انتهى.
وقال عياض: كان في الموضعين، ولذا قال ابن دقيق العيد: إنه الأقرب، وقال الحافظ: بل هو المتعين؛ لتظاهر الروايات بذلك في الموضعين، كما قدمناه، إلا أن السبب في الموضعين مختلف، فالذي في الحديبية كان بسبب توقف من توقف من الصحابة عن الإحلال؛ لِمَا دخل
(1)
هكذا النسخة، ولعل الصواب:"ومن طريقه" بالضمير، فليُحرّر.
عليهم من الحزن؛ لكونهم مُنِعُوا من الوصول إلى البيت، مع اقتدارهم في أنفسهم على ذلك، فخالفهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وصالح قريشًا على أن يرجع من العام المقبل، والقصة مشهورة، كما ستأتي في مكانها، فلما أمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالإحلال، توقفوا، فأشارت أم سلمة رضي الله عنها أن يَحِلّ هو صلى الله عليه وسلم قبلهم، ففعل، فتبعوه، فحلق بعضهم، وقَصَّر بعض، وكان من بادر إلى الحلق أسرع إلى امتثال الأمر، ممن اقتصر على التقصير، وقد وقع التصريح بهذا السبب في حديث ابن عباس رضي الله عنها المشار إليه قبلُ، فإن في آخره عند ابن ماجه وغيره:"أنهم قالوا: يا رسول الله ما بال المحلقين ظاهرت لهم بالرحمة؟ قال: لأنهم لم يشكُّوا".
وأما السبب في تكرير الدعاء للمحلقين في حجة الوداع، فقال ابن الأثير في "النهاية": كان أكثر من حج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَسُقِ الهدي، فلما أمرهم أن يفسخوا الحج إلى العمرة، ثم يتحللوا منها، ويحلقوا رؤوسهم شقّ عليهم، ثم لما لم يكن لهم بُدّ من الطاعة، كان التقصير في أنفسهم أخفّ من الحلق، ففعله أكثرهم، فرجّح النبيّ صلى الله عليه وسلم فعل مَن حَلَق؛ لكونه أبين في امتثال الأمر. انتهى.
قال الحافظ: وفيما قاله نظر، وإن تابعه عليه غير واحد؛ لأن المتمتع يستحب في حقه أن يقصر في العمرة، ويحلق في الحج، إذا كان ما بين النسكين متقاربًا، وقد كان ذلك في حقهم كذلك، والأولى ما قاله الخطابيّ وغيره: إن عادة العرب أنها كانت تحب توفير الشعر، والتزين به، وكان الحلق فيهم قليلًا، وربما كانوا يرونه من الشهرة، ومن زِيّ الأعاجم، فلذلك كَرِهُوا الحلق، واقتصروا على التقصير. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم حلق الرأس:
ذهب إلى وجوب حلق جميعه مالك، وأحمد، واستحبه الكوفيون، والشافعيّ، ويجزئ البعض عندهم، واختلفوا فيه: فعن الحنفية الربع، إلا أبا يوسف، فقال: النصف، وقال الشافعي: أقل ما يجب حلق ثلاث شعرات، وفي وجه لبعض أصحابه: شعرة واحدة، والتقصير كالحلق، فالأفضل أن يُقَصِّر
من جميع شعر رأسه، ويستحب أن لا ينقص عن قدر الأنملة، وإن اقتصر على ما دونها أجزأ، هذا للشافعية، وهو مرتب عند غيرهم على الحلق، وهذا كله في حق الرجال، كذا في "الفتح"
(1)
.
وقال ابن قدامة رحمه الله: يلزم التقصير أو الحلق من جميع شعره، كذلك المرأة، نص عليه أحمد، وبه قال مالك، وعن أحمد يجزئه البعض مبنيًا على المسح في الطهارة، وكذلك قال ابن حامد، وقال الشافعي: يجزئه التقصير من ثلاث شعرات، واختار ابن المنذر أنه يجزئه ما يقع عليه اسم التقصير لتناول اللفظ له، ولنا قول الله تعالى:{مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} ، وهذا عام في جميعه، ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم حلق جميع رأسه تفسيرًا لمطلق الأمر به، فيجب الرجوع إليه، ولأنه نُسك تعلق بالرأس، فوجب استيعابه به كالمسح. انتهى
(2)
.
واختار ابن الهمام رحمه الله من الحنفيّة قول مالك في وجوب استيعاب الرأس بالحلق والتقصير، وقال بعد بسط الكلام فيه: فكان مقتضى الدليل في الحلق وجوب الاستيعاب، كما هو قول مالك، وهو الذي أدين الله به، قال: وقياسه على المسح قياس مع الفارق. انتهى.
وقال الشيخ الشنقيطيّ رحمه الله بعد ذكر مذاهب الأئمة في ذلك: أظهر الأقوال عندي أنه يلزم حلق جميع الرأس أو تقصير جميعه، ولا يلزم تتبع كل شعرة في التقصير؛ لأن فيه مشقة كبيرة، بل يكفي تقصير جميع جوانب الرأس مجموعة أو مفرقة، وأنه لا يكفي الربع، ولا ثلاث شعرات خلافًا للحنفية، والشافعية؛ لأن الله تعالى يقول:{مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} ، ولم يقل: بعض رؤوسكم، {وَمُقَصِّرِينَ} أي رؤوسكم لدلالة ما ذكر قبله عليه، وظاهره حلق الجميع أو تقصيره، ولا يجوز العدول عن ظاهر النص إلا لدليل يجب الرجوع إليه، ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:"دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك"، فمن حلق الجميع أو قصّره ترك ما يريبه إلى ما لا يريبه؛ ومن اقتصر على ثلاث شعرات، أو على ربع الرأس لم يَدَعْ ما يريبه؛ إذ لا دليل يجب الرجوع إليه من كتاب ولا سنة على الاكتفاء بواحد منهما، ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما حلق في حجة الوداع حلق
(1)
"الفتح" 4/ 683.
(2)
"المغني" 3/ 393.
جميع رأسه، وأعطى شعر رأسه لأبي طلحة؛ ليفرقه على الناس، وفعلُه في الحلق بيان للنصوص الدالة على الحلق، كقوله:{مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} الآية، وقوله:{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]، قال: وفعله صلى الله عليه وسلم إذا كان بيانًا لنص مجملٍ يقتضي وجوب حكم أن ذلك الفعل المبيِّنَ لذلك النص المجمل واجب، ولا خلاف في ذلك بين من يُعْتَدّ به من أهل الأصول. انتهى كلام الشيخ الشنقيطيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن مما سبق من سوق مذاهب العلماء، وأدلّتهم أن الأرجح هو ما ذهب إليه مالك وغيره من أن الواجب في الحلق حلق جميع الرأس، وكذلك التقصير من جميع الرأس، لظهور حجته، فتبصّر، والله تعالى أعلم أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): هذا الذي ذكرناه من الاختلاف في وجوب حلق جميع الرأس، وعدمه إنما هو في حق الرجال، فأما النساء فإن المشروع في حقهنّ التقصير بالإجماع، ورَوَى أبو داود في "سننه" عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على النساء حلق، إنما على النساء التقصير"
(2)
.
قال وليّ الدين رحمه الله: وقال أصحابنا: فلو حلقت المرأة أجزأها، قال الماورديّ: وتكون مسيئة، وقال جماعة من أصحابنا: يكره لها الحلق، وقال القاضيان: أبو الطيب، وحسين: لا يجوز، قال النوويّ في "شرح المهذب": ولعلهما أرادا أنه مكروه، قال: وقد يُستدل للكراهة بحديث عليّ رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى أن تحلق المرأة رأسها"، رواه الترمذيّ، وقال: فيه اضطراب، ولا دلالة فيه لضعفه، ولكن يُستدلّ بعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"مَن عَمِل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردّ"، وبالحديث الصحيح في نهي النساء عن التشبه بالرجال. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(3)
، وهو بحث نفيسٌ.
(1)
"أضواء البيان" 5/ 183، 184.
(2)
صححه الشيخ الألبانيّ رحمه الله في السلسلة الصحيحة" (605)؛ وأورده في "صحيح أبي داود" (1732).
(3)
راجع: "طرح التثريب في شرح التقريب" 5/ 115.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الواجب في حقّ المرأة المحرمة التقصير دون الحلق، ولا يجوز لها أن تحلق كما قال القاضيان: أبو الطيّب والحسين من الشافعيّة؛ لمخالفتها الواجب عليها، ولحديث: "من عَمِل عملًا
…
إلخ"، وحديث نهي النساء عن التشبّه بالرجال، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[فوائد]: ذكرها الحافظ وفي الدين رحمه الله:
(الأولى): قال: محل التخيير بين الحلق والتقصير عند المالكية والحنابلة ما إذا لم يُلَبِّد شعر رأسه، فإن لبّده أي سَكَّنه بما يمنع الانتفاش، كالصمغ ونحوه تعيّن عندهم الحلق، ولم يجز التقصير، وحكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، وسفيان الثوريّ، ومالك، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وقال به ابن المنذر، وحكاه القاضي عياض، والنوويّ عن جمهور العلماء.
وذهب ابن عباس رضي الله عنهما إلى أنه على ما نوى من ذلك: إن نوى الحلق تعيّن، وإلا فهو على التخيير.
وذهب أبو حنيفة إلى بقاء التخيير في حقه أيضًا، وأنه لا فرق بين الملبّد وغيره، وحكاه ابن المنذر عن أصحاب الرأي، وحكاه النوويّ في "شرح المهذب" عن ابن عباس، وهو قول الشافعيّ في الجديد، وهو الصحيح عند أصحابه، وما حكاه ابن المنذر هو قوله في القديم.
وتمسك الأولون بما رُوي من طريق عبد الله بن عمر العمريّ، عن نافع، عن ابن عمر، أنه صلى الله عليه وسلم قال:"من لَبَّد رأسه فليحلق"، وجعل أصحابنا المعنى في ذلك أن التلبيد لا يفعله إلا من يريد الحلق يوم النحر للنسك، فينزل هذا منزلة نذر الحلق، وجعل المالكية سبب ذلك تعذر التقصير، وقالوا: لا يمكن التقصير مع التلبيد، قال ابن شاس في "الجواهر": ويقوم التقصير مقام الحلق حيث يتمكن من الإتيان به على وجهه، وقد يتعذر إن عجز عن ذلك، فيتعيّن الحلق، كمن لا شعر على رأسه، أو شعره لطيف لا يمكن تقصيره، أو لبّد شعره، مثل أن يجعل الصمغ في الغسول، ثم يلطخ به رأسه عند الإحرام، أو عَقَصه، أو ضَفّره، فإنه لا بد من الحلق في جميع هذه. انتهى.
قال وليّ الدين: وفي ذكره مع ذلك من لا شعر على رأسه نظر، فإن هذا لا يتأتى في حقه حلق ولا تقصير، ومسألة العقص والضفر شكل من التلبيد، فإنه لا يتعذر مع ذلك التقصير بلا شك، بل ولا يتعذر مع التلبيد، والعيان يدفعه، وهذا خلاف في شهادة، والْمُدرَك الذي ذكره أصحابنا أقرب، والله أعلم.
وأشار الخطابيّ إلى الاستدلال لتعيّن الحلق في صورة التلبيد بهذا الحديث، فقال: وفي قوله: "اللهم ارحم المحلقين" وجه آخر، وهو أن السنة فيمن لَبَّد رأسه الحلاق، وإنما يجزئ التقصير فيمن لم يلبّد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد لبد رأسه.
قال وليّ الدين: وفيما ذكره نظرٌ؛ لأن الحديث دل على جواز التقصير في هذه الحالة أيضًا بدعائه صلى الله عليه وسلم للمقصرين، وهو خلاف مُدَّعاه. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر الأرجح قول من قال: إن من لبّد يجوز له الحلق، أو التقصير؛ لعموم الأدلّة، وأما حديث: "من لبّد رأسه
…
إلخ"، فقد ضعّفه البيهقيّ، فلا يصلح للاحتجاج به؛ فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(الثانية): قال وليّ الدين رحمه الله: قال أصحابنا: المقصود من الحلق أو التقصّير إزالة الشعر، فيقوم مقامه النتف، والإحراق، والأخذ بالنورة والمقصين، والقطع بالأسنان وغيرها، ويحصل الحلق بكل واحد من ذلك، قالوا: ومحله ما إذا لم ينذر الحلق، فإن نذره تعيّن، ولم تقم هذه الأمور مقامه، وقد يقال: إن في ذلك استنباط معنى من النصّ يعود عليه بالإبطال، كما قالوا في قول الحنفية: يجوز إخراج القيمة في الزكاة؛ لأنها قد تكون أبلغ في سدّ خلة الفقير، فيحتاج إلى الفرق بين البابين، والمشهور عند المالكية أيضًا إجزاء الأخذ بالنورة، وقال أشهب: لا يجزئ. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: في كون النتف وما ذكر معه يقوم مقام الحلق نظر لا يخفى، كما أشار إليه وليّ الدين في آخر كلامه، فالظاهر أنه يتعيّن الحلق، إلا عند التعذّر، فتأمّل، والله تعالى أعلم.
(الثالثة): أنه رَتَّب ابن عبد البر رحمه الله على ما ذكره من ورود هذا الحديث
في الحديبية، كما تقدّم عنه أن المُحْصَر يجب عليه الحلق، أو التقصير كغيره، فإن سقوط بقية الأركان عنه إنما هو لعجزه عنها، وهو قادر على الحلق، فيبقى وجوبه، وقد حض النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه على ذلك، وبهذا قال مالك، وكذا الشافعيّ؛ بناء على أصح قوليه، وأشهرهما أن الحلق نسك، وحُكِي عن أبي يوسف، وقال أبو حنيفة، ومحمد بن الحسن: ليس عليه حلق، ولا تقصير. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله الأولون من وجوب الحلق أو التقصير على المحصر هو الحقّ؛ لوضوح حجته، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(الرابعة): محل الحلق والتقصير شعر الرأس، دون بقية شعور البدن، واستَحَبّ مالك مع الحلق أن يأخذ من لحيته، وشاربه، وأظافره، وصحّ عن ابن عمر رضي الله عنهما فعلُ ذلك، رواه مالك، والشافعيّ، والبيهقيّ. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: أما الأخذ من اللحية فلا وجه له، ولا يكون فعل ابن عمر في ذلك حجة؛ لصحّة قوله صلى الله عليه وسلم:"أعفوا اللحى"، فلا يعارض المرفوع بفعله، وأما الأخذ من الشارب، والأظافر، فسنّة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(الخامسة): أنه يسقط الحلق والتقصير بفقد شعر الرأس، فإذا كان أصلع، أو محلوقًا، فلا شيء عليه، ولا فدية، ولكن يستحب إمرار الموسى على رأسه عند مالك، والشافعيّ، وأحمد، والجمهور، وأوجبه أبو حنيفة، وأنكره أبو بكر بن داود، وهو محجوج بالإجماع قبله، فقد حكى ابن المنذر إجماع العلماء على أن الأصلع يُمِرّ الموسى على رأسه، قال الشافعيّ: ولو أخذ من شاربه، أو شعر لحيته شيئًا كان أحبّ إلي؛ ليكون قد وضع من شعره شيئًا لله تعالى، قال إمام الحرمين: ولست أرى لذلك وجهًا إلا أن يكون أسنده إلى أثر.
قال الجامع عفا الله عنه: قد أجاد إمام الحرمين رحمه الله في هذا الاعتراض، فكيف تُقام السنة بأخذ شعر اللحية المنهيّ عنه، هيهات هيهات.
وقال المتولي: يستحب أن يأخذ من الشعور التي يؤمر بإزالتها للفطرة، كالشارب، والإبط، والعانة؛ لئلا يخلو نسكه عن حلق.
قال أصحابنا: ولو نبت شعره بعد ذلك لم يلزمه حلق ولا تقصير، بخلاف ما لو كان برأسه شعر، وبه علة تمنع الحلق، فيصبر للإمكان، ولا يفتدي، ولا يسقط عنه الحلق. انتهى كلام وليّ الدين العراقيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3147]
(
…
) - (أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ: أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "رَحِمَ اللهُ الْمُحَلِّقِينَ"، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "رَحِمَ اللهُ الْمُحَلِّقِينَ"، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "رَحِمَ اللهُ الْمُحَلِّقِينَ"، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "وَالْمُقَصِّرِينَ").
قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم في مقدّمة "شرح المقدّمة" أن إبراهيم بن سفيان، صاحب مسلم، فاته من سماع هذا الكتاب من مسلم ثلاثة مواضع: أولها في "كتاب الحج"، وهذا موضعه، "باب تفضيل الحلق على التقصير" رقم (1301)
(2)
حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رحم الله المحلّقين" إلى ثمانية أوراق أو نحوها
(3)
، "باب ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره" رقم (1344) حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجًا من سفر كبّر ثلاثًا
…
" وأن إبراهيم يقول من هنا: عن مسلم، ولا يقول: أخبرنا، كما يقول في باقي الكتاب، وأول هذا قول الجلوديّ هنا: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان عن مسلم بن الحجّاج، قال:
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 5/ 116 - 118.
(2)
رقم الأستاذ محمد عبد الباقي، فتنبّه.
(3)
هذا في النسخ المخطوطة أيام الشيخ ابن الصلاح رحمه الله، وأما الآن بعد أن جاء دور الطباعة، فاختلفت النسخ في عدد الأوراق اختلافًا متباينًا لا يمكن ضبطها بالحصر، فتنبّه.
حدّثنا ابن نمير، حدّثنا أبي، حدّثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رحم الله المحلقين"، قالوا: والمقصرين يا رسول الله
…
إلى آخره.
فقائل: "أخبرنا أبو إسحاق
…
إلخ" هو أبو أحمد محمد بن عيسى بن محمد الزاهد النيسابوريّ الْجُلُوديّ المتوفّى في ذي الحجة سنة (368 هـ)، وتقدّمت ترجمته في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 63.
وأما أبو إسحاق، فهو إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه الزاهد صاحب الإمام مسلم، وراوي الكتاب هذا عنه المتوفّى في رجب سنة (308 هـ) وتقدّمت ترجمته أيضًا في "المقدّمة" 6/ 73، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُوهُ) عبد الله بن نمير الهمدانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) العمريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقيان ذُكرا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3148]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: فَلَمَّا كَانَتْ الرَّابِعَةُ قَالَ: "وَالْمُقَصِّرِينَ").
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(ابْنُ الْمُثَنَّى) هو: محمد، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ الْوَهَّابِ) بن عبد المجيد الثقفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
و"عبيد الله" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية عبد الوهّاب، عن عبيد الله هذه لم أجد من ساقها
بتمامها، فليُنظَر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3149]
(1302) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، جَمِيعًا عَن ابْنِ فُضَيْلٍ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنَا عُمَارَةُ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَلِلْمُقَصِّرِينَ؟ قَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَلِلْمُقَصِّرِينَ؟ قَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَلِلْمُقَصِّرِينَ؟ قَالَ: "وَلِلْمُقَصِّرِينَ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.
2 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قريبًا.
3 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) مَحمد بن العلاء، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلِ) بن غَزْوان الضبيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ رُمي بالتشيّع [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.
5 -
(عُمَارَةُ) بن القعقاع بن شُبْرُمة الضبيّ الكوفيّ، ثقةٌ [6](ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 108.
6 -
(أَبُو زُرْعَةَ) بن عمرو بن جرير بن عبد الله البَجَليّ الكوفيّ، قيل: اسمه هَرِم، أو عمرو، وقيل غير ذلك، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 106.
7 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
و"ابْنُ نُمَيْرٍ" هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، ذكر في الباب، وشرح الحديث يُعلم من شرح حديث ابن عمر رضي الله عنهما الماضي.
[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله: لم أر حديث أبي هريرة، من طريق أبي زرعة بن عمرو بن جرير عنه إلا من رواية محمد بن فضيل هذه، بهذا الإسناد، في جميع ما وقفت عليه من "السنن"، و"المسانيد"، فهي من أفراده عن عمارة، ومن أفراد عمارة عن أبي زرعة، وتابع أبا زرعة عليه عبدُ الرحمن بن يعقوب،
أخرجه مسلم من رواية العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، ولم يَسُقْ لفظه، وساقه أبو عوانة، ورواية أبي زرعة أتمّ. انتهى.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [52/ 3149 و 3150](1302)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1728)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(3043)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 220)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 231 و 411)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 311)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه "(3/ 381 - 382)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 134 و 215)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل الى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3150]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي أُمَيةُ بْنُ بِسْطَامَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، عَن الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ) الْعَيشيّ، أبو بكر البصريّ، صدوق [10](ت 131)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) العيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
3 -
(رَوْحُ) بن عبادة القيسيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ فاضل له تصانيف [9](ت 5 أو 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 476.
4 -
(الْعَلَاءُ) بن عبد الرحمن بن يعقوب الْحُرقيّ، أبو شِبْل المدنيّ، صدوقٌ ربما وَهِمَ [5] مات سنة بضع و (130)(ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
5 -
(أَبُوهُ) عبد الرحمن بن يعقوب الْجُهنيّ المدنيّ مولى الْحُرَقة، ثقةٌ [3](ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
و"أبو هريرة" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية العلاء، عن أبيه هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" (2/ 311) فقال:
(3244)
- حدّثنا أبو أمية، نا أمية بن بسطام، نا يزيد بن زريع، عن رَوح بن القاسم، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رَحِمَ الله المحلقين"، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: "رحم الله المحلقين"، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: "والمقصرين". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3151]
(1303) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، وَأَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ جَدَّتِهِ، أَنَّهَا سَمِعَت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، دَعَا لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثًا، وَلِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً
(1)
، وَلَمْ يَقُلْ وَكِيعٌ: فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قريبًا.
2 -
(أبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ) سليمان بن داود بن الجارود البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 204)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم قريبًا.
4 -
(يَحْيَى بْنُ الْحُصَيْنِ) الأحمسيّ البجليّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(جَدَّتُهُ) أم الحصين بنت إسحاق الأحمسيّة الصحابيّة رضي الله عنها، تقدّمت أيضًا قريبًا.
و"شيخه أبو بكر" ذُكر قبل حديث، وشرح الحديث واضح يُعلم مما سبق.
(1)
وفي نسخة: "مرّة واحدةً".
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث يحيى بن الحصين عن جدّته رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [52/ 3151](1303)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4117)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 230)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 220)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 70 و 5/ 381 و 6/ 402 و 403)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 312) و (ابن راهويه) في "مسنده"(5/ 244)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 382)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 103)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3152]
(1304) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، يَعْني ابْنَ إِسْمَاعِيلَ، كِلَاهُمَا عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَلَقَ رَأْسَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ) -بتشديد الياء- المدنيّ، نزيل الإسكندريّة، حليف بني زُهرة، ثقةٌ [8](ت 181)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 35/ 245.
2 -
(حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) الحارثيّ مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، كوفيّ الأصل، صدوقٌ يَهِمُ، صحيح الكتاب [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الصلاة" 42/ 1086.
3 -
(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عيّاش الأسديّ مولاهم، ثقةٌ فقيهٌ، إمام في المغازي [5](ت 141) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَلَقَ رَأْسَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ) أي: أمر الحالق
-وهو معمر بن عبد الله العدويّ على الصحيح، كما تقدّم- أن يحلقه، لا أنه حلق بنفسه، كما بيّنته رواية أنس رضي الله عنه الآتية في الباب التالي، وسيأتي أيضًا هناك كيفيّة حلقه صلى الله عليه وسلم -إن شاء الله تعالى-.
وهذا الحديث طرف من حديث طويل، أوله: "لَمّا نزل الحجاج بابن الزبير
…
"، نبّه عليه الإسماعيلي، قاله في "الفتح"
(1)
.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [52/ 3152](1304)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1726 و 1729) و (المغازي)(4410 و 4411)، و (أبو داود) في "المناسك"(1980)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 88 - 128)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2930 و 3024)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 654)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 308)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(12/ 381)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 248)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 382)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(53) - (بَابُ بَيَانِ أَنَّ السُّنَّةَ يَوْمَ النَّحْرِ أَنْ يَرْمِيَ، ثُمَّ يَنْحَرَ، ثُمَّ يَحْلِقَ، وَالِابْتِدَاءِ فِي الْحَلْقِ بِالْجَانِبِ الْأَيْمَنِ مِنْ رَأْسِ الْمَحْلُوقِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3153]
(1305) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى مِنًى، فَأَتَى الْجَمْرَةَ، فَرَمَاهَا، ثُمَّ أَتَى مَنْزِلَهُ بِمِنًى، وَنَحَرَ، ثُمَّ قَالَ لِلْحَلَّاقِ: "خُذْ"، وَأَشَارَ إِلَى جَانِبِهِ الْإَيمَنِ، ثُمَّ الْأيْسرَ، ثُمَّ جَعَلَ يُعْطِيهِ النَّاسَ).
(1)
"الفتح" 4/ 678.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، أبو زكرياء النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226) على الصحيح (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(حَفْصُ بْنُ غِيَاثِ) بن طلق بن معاوية النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ القاضي، ثقةٌ فقيهٌ، تغيّر قليلًا في الآخر [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.
3 -
(هِشَامُ) بن حسّان الأزديّ الْقُردوسيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ من أثبت الناس في ابن سيرين [6](ت 7 أو 148)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ) الأنصاريّ مولاهم، أبو بكر بن أبي عمرة البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ كبير القدر [3](ت 110)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 308.
5 -
(أَنَسُ بْنُ مَالِكِ) بن النضر الأنصاريّ الخزرجيّ الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (ت 2 أو 93) وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين من هشام، وحفص كوفيّ، ويحيى نيسابوريّ.
4 -
(ومنها): أن أنسًا رضي الله عنه ذو مناقب جمّة، فهو خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم خدمه عشر سنين، ونال دعوته المباركة، وهو أحد المكثرين السبعة، وآخر من مات من الصحابة بالبصرة، ومن المعمّرين منهم، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسِ بْن مَالِك) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى مِنًى، فَأَتَى الْجَمْرَةَ) أي العقبة (فَرَمَاهَا، ثمَّ أَتَى مَنْزِلهُ بِمِنًى) فيه أنه يستحب إذا قَدِمَ منى أن لا يُعَرِّج على شيء قبل الرمي، بل يأتي الجمرة الكبرى جمرة العقبة راكبًا كما هو، فيرميها، ثم يذهب، فينزل حيث شاء من منى (وَنَحَرَ) أي: هديه، وكان عدده مائة، وقد
نحر بيده ثلاثًا وستين، وأمر عليًّا أن ينحر بقية المائة، وفيه استحباب نحر الهدي بمنى، ويجوز حيث شاء من بقاع الحرم؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نحرت ههنا، وكل منى منحر، فانحروا في رحالكم"، الحديث، رواه مسلم، وفي رواية أبي داود:"كُلُّ عَرَفَةَ مَوْقِفٌ، وَكُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ، وَكُلُّ الْمُزْدَلِفَةِ مَوْقِفٌ، وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ". (ثُمَّ قَالَ لِلْحَلَّاقِ) قال النوويّ رحمه الله: اختلفوا في اسم هذا الرجل الذي حلق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فالصحيح المشهور أنه معمر بن عبد الله الْعَدَويّ، وفي "صحيح البخاريّ" قال: زعموا أنه معمر بن عبد الله، وقيل: اسمه خِرَاش بن أمية بن ربيعة الكُلَبِيُّ -بضم الكاف-: منسوب إلى كُليب بن حبشية، والله أعلم. انتهى
(1)
.
("خُذْ") أي ابدأ بالحلق من ههنا (وَأَشَارَ إِلَى جَانِبِهِ الْأَيْمَنِ) فيه أنه يستحب في حلق الرأس أن يبدأ بالشق الأيمن من رأس المحلوق، وإن كان على يسار الحالق، وإلى ذلك ذهب الجمهور، وقال أبو حنيفة: يبدأ بجانبه الأيسر؛ لأنه على يمين الحالق، والحديث يرد عليه، قال الطيبيّ رحمه الله: دلّ الحديث على أن المستحب الابتداء بالأيمن -من رأس المحلوق- وذهب بعضهم إلى أن المستحب الأيسر. انتهى.
قال القاري رحمه الله: أي ليكون أيمن الحالق، ونُسب إلى أبي حنيفة إلا أنه رجع عن هذا، وسبب ذلك أنه قاس أولًا يمين الفاعل كما هو المتبادر من التيامن، ولمّا بلغه أنه صلى الله عليه وسلم اعتبر يمين المفعول رجع عن ذلك القول المبني على المعقول إلى صريح المنقول؛ إذ الحق بالاتباع أحق، ولو وقف الحالق خلف المحلوق أمكن الجمع بين الأيمنين -أي اجتمع الابتداء بيمين الحالق والمحلوق وارتفع الخلاف- وإذا تعذر الجمع فلا بد من ترجيح ما يدل عليه حديث أنس. انتهى
(2)
.
(ثُمَّ الْأَيْسَرِ) أي ثمّ أشار للحلّاق إلى جانبه الأيسر؛ ليحلقه (ثُمَّ جَعَلَ) صلى الله عليه وسلم (يُعْطِيهِ النَّاسَ) وفي رواية ابن أبي شيبة التالية: "وأشار إلى الجانب الأيمن هكذا، فقسم شعره بين من يليه، قال: ثم أشار إلى الحلاق، وإلى الجانب
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 54.
(2)
"المرعاة" 9/ 261، 262.
الأيسر، فحلقه، فأعطاه أم سُليم"، وفي رواية أبي كريب: "فبدأ بالشقّ الأيمن، فوزّعه الشعرة والشعرتين بين الناس، ثم قال بالأيسر، فصنع مثل ذلك، ثم قال: ها هنا أبو طلحة؟ فدفعه إلى أبي طلحة"، وفي رواية عبد الأعلى الآتية: فحلق شقه الأيمن، فقسمه فيمن يليه، ثم قال: "احلق الشق الآخر"، فقال: "أين أبو طلحة؟ "، فأعطاه إياه.
ورواية أبي عوانة في "صحيحه": "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الحلاق، فحَلَقَ رأسه، ودفع إلى أبي طلحة الشق الأيمن، ثم حلق الشق الآخر، فأمره أن يقسمه بين الناس".
قال الحافظ رحمه الله: ولا تناقض بين هذه الروايات، بل طريق الجمع بينها أنه ناول أبا طلحة كُلًّا من الشقين، فأما الأيمن فوزّعه أبو طلحة بأمره صلى الله عليه وسلم، وأما الأيسر فأعطاه لأم سليم زوجته بأمره أيضًا، زاد أحمد في رواية له:"لتجعلها في طيبها"، وعلى هذا فالضمير في قوله:"يقسمه" في رواية أبي عوانة يعود على الشق الأيمن، وكذا قوله في رواية الباب فقال:"اقسمه بين الناس". انتهى.
وقال المحب الطبري: والصحيح أن الذي وزعه على الناس الشق الأيمن على ما تضمنه حديث توزيع الشعرة والشعرتين بين الناس، وأعطى الأيسر أبا طلحة، أو أم سليم على ما تضمنه أيضًا، ولا تضاد بين الروايتين، لأن أم سليم امرأة أبي طلحة فأعطاه لهما، فنُسبت العطية تارة إليه، وتارة إليها. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [53/ 3153 و 3154 و 3155 و 3156](1305)،
(1)
راجع: "المرعاة" 9/ 262.
و (البخاريّ) في "الوضوء"(170 و 171)، و (أبو داود) في "المناسك"(1981 و 1982)، و (الترمذيّ) في "الحجّ"(912)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 449)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1220)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 111 و 214 و 256)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2928)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3879)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(3/ 292)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(484)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 103) و"المعرفة"(1/ 147)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1962)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان السنة في أعمال الحج يوم النحر بعد الدفع من مزدلفة، ووصوله منى، وهي أربعة: رمي جمرة العقبة أوّلًا، ثم نحر الهدي، أو ذبحه، ثم الحلق أو التقصير، ثم دخوله مكة، وطواف الإفاضة، وكلها ذُكرت في هذا الحديث، إلا طواف الإفاضة.
2 -
(ومنها): بيان أن السنة في هذه الأعمال الأربعة أن تكون مرتبةً كما ذكرنا؛ لهذا الحديث الصحيح، فإن خالف ترتيبها فقدَّم مؤخرًا، أو أخّر مقدَّمًا جاز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"افْعَلْ ولا حرج"، وسيأتي الكلام على هذا في الباب الآتي - إن شاء الله تعالى.
3 -
(ومنها): طهارة شعر الآدميّ، قال النوويّ رحمه الله: وهو الصحيح من مذهبنا، وبه قال جماهير العلماء.
4 -
(ومنها): التبرك بشعره صلى الله عليه وسلم، وجواز اقتنائه للتبرك، وهو خاصّ به صلى الله عليه وسلم، وأما غيره صلى الله عليه وسلم فلا يُشرع التبرّك بشيء من أجزائه؛ لأنه لم يُنقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه أجازه في غيره، ولا عمله الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم كانوا يعلمون فضل أبي بكر رضي الله عنه، وكذا فضل الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، ومع ذلك فلم يتبرّكوا بأجزائهم، فليُتنبّه، فإن هذه مغلطة خطيرة يقع فيها كثير من الناس جهلًا، أو تجاهلًا، والله تعالى المستعان.
5 -
(ومنها): ما قال الزرقانيّ رحمه الله: وإنما قسم صلى الله عليه وسلم شعره في أصحابه؛ ليكون بركة باقية بينهم، وتذكرة لهم، وكأنه أشار بذلك إلى اقتراب الأجل،
وخَصّ أبا طلحة رضي الله عنه بالقسمة؛ التفاتًا إلى هذا المعنى؛ لأنه هو الذي حفر قبره صلى الله عليه وسلم، ولحد له، وبنى فيه اللبن. انتهى.
6 -
(ومنها): مواساة الإمام والكبير بين أصحابه وأتباعه، فيما يفرّقه عليهم من عطاء وهدية.
7 -
(ومنها): أن المواساة لا تستلزم المساواة، حيث إنه صلى الله عليه وسلم أعطى أبا طلحة وزوجه شعر شقّه، ووزّع على سائر الناس مع كثرتهم شعر شقّه الآخر.
8 -
(ومنها): أن فيه تفضيل من يتولى التفرقة على غيره بالزيادة في العطيّة.
9 -
(ومنها): أن حلق الرأس أفضل من التقصير؛ اقتداءً بفعله صلى الله عليه وسلم، ولقوله:"اللهم ارحم المحلّقين ثلاثًا"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3154]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالُوا: أَخْبَرَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ هِشَامٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، أمَّا أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: لِلْحَلَّاقِ هَا، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ، هَكَذَا، فَقَسَمَ شَعَرَهُ بَيْنَ مَنْ يَلِيهِ، قَالَ: ثُمَّ أَشَارَ إِلَى الْحَلَّاقِ، وَإِلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ، فَحَلَقَهُ، فَأَعْطَاهُ أمّ سُلَيْمٍ، وَأمَّا فِي رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ قَالَ: فَبَدَأَ بِالشَّقِّ الْأَيْمَنِ، فَوَزَّعَهُ الشَّعَرَةَ وَالشَّعَرَتَيْنِ بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ قَالَ بِالْأَيْسَرِ، فَصَنَعَ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: "هَا هُنَا أَبُو طَلْحَةَ؟ " فَدَفَعَهُ إِلَى أَبِي طَلْحَةَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
كلهم ذُكروا في الباب، وفي الذي قبله، و"ابن نُمير" هو: محمد بن عبد الله بن نمير.
وقوله: (لِلْحَلَّاقِ هَا) هكذا في رواية مسلم "ها"، وفي رواية أبي يعلى الآتية:"وقال للحلاق: هنا"، وهو اسم إشارة للمكان، أي: ابدأ من هنا، يعني الجانب الأيمن، وأما "ها" في رواية المصنّف، فهي اسم فعل أمر بمعنى
"خذ"، أي خُذ، وابدأ من هذا الجانب، قيل: الصواب مدّها، وفتحها، كما في حديث:"إلا هاء وهاء" في الربا، قال في "النهاية": قال ابن الأثير: أصحاب الحديث يرونه "ها وها" ساكنة الألف، والصواب مدّها، وفتحها؛ لأن أصلها "هاكَ"، أي خذ، فحُذفت الكاف، وعُوّض منها المدّة والهمزة، يقال للواحد: هاءَ، وللاثنين: هاؤما، وللجمع: هاؤمُ، وغيرُ الخطّابيّ يُجيز فيها السكون على حذف العوض، فتَتَنَزّل منزلة "ها" التي للتنبيه، وفيها لغات أخرى. انتهى
(1)
، وسيأتي تمام البحث في هذا في شرح الحديث المذكور في "الربا" -إن شاء الله تعالى-.
وقوله: (فَوَزَّعَهُ الشَّعَرَةَ وَالشَّعَرَتَيْنِ) أي فرّق الشعر المحلوق بين الناس، وقسمه فيهم، كما قبله:"فقسم شعره بين من يليه"، فقوله:"الشعرة والشعرتين" بالنصب على البدليّة من الضمير المفعول في قوله: "فوزّعه".
وقوله: ("هَا هُنَا أَبُو طَلْحَةَ؟ ") استفهام بتقدير أداته، أي أههنا أبو طلحة، وهو زيد بن سهل بن الأسود بن حرام الأنصاريّ النجّاريّ، مشهور بكنيته، زوج أم سليم، شهد بدرًا وما بعدها، ومات سنة (34 هـ) وقيل غير ذلك، وتقدّمت ترجمته في "الحيض" 7/ 720.
وكان له صلى الله عليه وسلم بأبي طلحة وأهل بيته مزيد خصوصيّة ومحبّة ليست لغيرهم من الأنصار، وكثير من المهاجرين الأبرار رضي الله عنهم، وهو الذي حفر قبره الشريف، ولحد له، وبنى فيه اللبِنَ، وخصّه بدفن ابنته أم كلثوم، وزوجها عثمان بن عفان رضي الله عنهما حاضر، قاله القاري رحمه الله
(2)
.
[تنبيه]: رواية أبي بكر بن أبي شيبة، عن حفص ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده" (5/ 227) فقال:
(2840)
- حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا حفص، عن هشام، عن محمد، قال: رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمار، والحلاقُ جالسٌ، فأمر بالبُدْن فنُحِرت، وقال للحلاق:"هنا"، وأشار بيده إلى جانب الأيمن، قال: فقسم
(1)
"النهاية" 5/ 237.
(2)
"المرقاة" 5/ 556.
شعره بين من يليه، قال: ثم أشار إلى الحلاق إلى جانبه الأيسر، فحلقه، فأعطاه أم سليم. انتهى.
وأما رواية أبي كريب، عن حفص، فقد ساقها أبو داود رحمه الله في "سننه"، فقال:
(1691)
- حدّثنا محمد بن العلاء، حدّثنا حفص، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة يوم النحر، ثم رجع إلى منزله بمنى، فدعا بِذِبْح فذبح، ثم دعا بالحلاق، فأخذ بشق رأسه الأيمن، فحلقه، فجعل يقسم بين من يليه الشعرة والشعرتين، ثم أخذ بشق رأسه الأيسر فحلقه، ثم قال:"ها هنا أبو طلحة؟ " فدفعه إلى أبي طلحة. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3155]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْبُدْنِ، فَنَحَرَهَا، وَالْحَجَّامُ جَالِسٌ، وَقَالَ بِيَدِهِ عَنْ رَأْسِهِ
(1)
، فَحَلَقَ شِقَّهُ الْأَيْمَنَ، فَقَسَمَهُ فِيمَنْ يَلِيهِ، ثُمَّ قَالَ:"احْلِق الشِّقَّ الْآخَرَ"، فَقَالَ:"أَيْنَ أَبُو طَلْحَةَ؟ " فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عَبْدُ الْأَعْلَى) بن عبد الأعلى الساميّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (وَالْحَجَّامُ جَالِسٌ) المراد بالحجّام هو: الحالق المذكور في الروايات الأخرى.
(1)
وفي نسخة: "على رأسه".
وقوله: (وَقَالَ بِيَدِهِ عَنْ رَأسِهِ) أي أشار بيده على رأسه، ففيه إطلاق القول على الفعل، وقوله:"عن رأسه" وفي نسخة: "على رأسه".
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3156]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَسَّانَ، يُخْبِرُ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَمَّا رَمَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْجَمْرَةَ، وَنَحَرَ نُسُكَهُ، وَحَلَقَ نَاوَلَ الْحَالِقَ شِقَّهُ الْأَيمَنَ، فَحَلَقَهُ، ثمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الْأنصَارِيَّ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ الشِّقَّ الْأَيْسَرَ، فَقَالَ: "احْلِقْ"، فَحَلَقَهُ، فَأَعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ، فَقَالَ: "اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (لَمَّا رَمَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْجَمْرَةَ) أي جمرة العقبة، وهي الجمرة الكبرى.
وقوله: (وَنَحَرَ نُسُكَهُ) -بسكون السين ويضم- جمع نسيكة وهي الذبيحة، والمراد بُدنه صلى الله عليه وسلم، وقد نحر بيده الكريمة ثلاثًا وستّين بدنةً، وأمر عليًّا أن ينحر بقيّة المائة، كما تقدّم في حديث جابر رضي الله عنه الطويل في صفة حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (وَحَلَقَ) أي أراد حلق رأسه.
وقوله: (فَقَالَ: "اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ") الضمير يرجع إلى شعر الشق الأيمن، لا الأيسر بدليل الروايات الأخرى، والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم أعطى أبا طلحة شعر الشقّين، وأمره أن يقسم الشقّ الأيمن بين الناس، ويُعطي الشق الأيسر أم سليم رضي الله عنه، وهو الذي دلّت عليه الروايات المتقدّمة، فلا بدّ من تأويل هذه الرواية بما يتّفق مع الروايات الأخرى.
والحاصل أنه لا تناقض بين هذه الروايات؛ إذ يُجمَع بينها بأنه صلى الله عليه وسلم ناول أبا طلحة كُلًّا من الشقين، فأما الأيمن فوزّعه أبو طلحة بأمره صلى الله عليه وسلم، وأما الأيسر فأعطاه لأم سليم زوجته بأمره صلى الله عليه وسلم أيضًا فيكون الضمير في قوله:"فاقسمه بين الناس" في هذه الرواية يعود على الشق الأيمن، فتنبّه.
والحديث سبق تمام الكلام فيه فيما قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(54) - (بَابُ مَنْ حَلَقَ قَبْلَ النَّحْرِ، أَوْ نَحَرَ قَبْلَ الرَّمْيِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3157]
(1306) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَن ابْنِ شِهَاب، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: وَقَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى لِلنَّاسِ، يَسْأَلُونَهُ، فَجَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لَمْ أَشْعُرْ، فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ، فَقَالَ: "اذْبَحْ، وَلَا حَرَجَ"، ثُمَّ جَاءهُ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لَمْ أَشْعُرْ، فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، فَقَالَ: "ارْمِ، وَلَا حَرَجَ"، قَالَ: فَمَا سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ، وَلَا أُخِّرَ، إِلا قَالَ: "افْعَلْ، وَلَا حَرَجَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم أيضًا قبل باب.
3 -
(ابْنُ شِهَابٍ) الزهريّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(عِيسَى بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ) التيميّ، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ، من كبار [3](ت 100)(ع) تقدم في "الطهارة" 8/ 570.
5 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) السهميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنه، مات ليالي الحرّة على الأصحّ بالطائف على الراجح (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه أيضًا، فنيسابوريّ.
4 -
(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ عن تابعيّ: ابن شهاب، عن عيسى بن طلحة.
5 -
(ومنها): أن صحابيّه ابن صحابيّ رضي الله عنهما، وهو أحد العبادلة الأربعة.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ شِهَابٍ) كذا في "الموطّإ"، وعند النسائيّ من طريق يحيى القطّان، عن مالك:"حدّثني الزهريّ"
(1)
. (عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ) وفي رواية يونس التالية: "حدّثني عيسى بن طلحة"(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) رضي الله عنه، وفي رواية يونس التالية:"أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص"(قَالَ: وَقَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: على راحلته، كما في رواية يونس التالية، وفي رواية معمر الآتية بلفظ:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته بمنًى"، ورواية يحيى القطان، عن مالك، عن الزهريّ بلفظ:"أنه جلس في حجة الوداع، فقام رجل"، محمولة على أنه ركب ناقته، وجلس عليها (فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى لِلنَّاسِ) أي: لأجلهم، وفي هذه الرواية تعيين مكان الوقوف، وهو منى، وفي رواية عبد العزيز بن أبي سلمة، عن الزهريّ عند البخاريّ في "العلم":"عند الجمرة"، وهو أول منى، لكنه لم يُعَيَّن اليوم، وقد عُيِّنَ في رواية ابن جريج الآتية بلفظ: بينا هو يخطب يوم النحر"، وفي رواية محمد بن أبي حفصة الآتية: "وأتاه رجل يوم النحر، وهو واقف عند الجمرة".
(1)
"الفتح" 4/ 691.
قال القاضي عياض رحمه الله: جمع بعضهم بين هذه الروايات بأنه موقف واحد، على أن معنى "خَطَبَ" أي عَلَّم الناس، لا أنها من خطب الحج المشروعة، قال: ويَحْتَمِل أن يكون ذلك في موطنين: أحدهما على راحلته عند الجمرة، ولم يقل في هذا:"خَطَبَ"، وإنما فيه:"وقف"، و"سئل"، والثاني يوم النحر بعد صلاة الظهر، وذلك وقت الخطبة المشروعة من خُطَب الحج، يُعَلِّم الإمامُ الناسَ ما بقي عليهم من مناسكهم.
قال النوويّ رحمه الله: هذا الاحتمال الثاني هو الصواب.
وقال الحافظ رحمه الله: فإن قيل: لا منافاة بين هذا الذي صوَّبه وبين الذي قبله، فإنه ليس في شيء من طريق الحديثين حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الآتي بعد ذلك، وحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بيان الوقت الذي خطب فيه من النهار.
قلت: نعم لم يقع التصريح بذلك، لكن في رواية ابن عباس رضي الله عنهما عند البخاريّ: إن بعض السائلين قال: رميت بعدما أمسيت، وهذا يدلّ على أن هذه القصة كانت بعد الزوال؛ لأن المساء يُطلَق على ما بعد الزوال، وكأن السائل عَلِمَ أن السنة للحاج أن يرمي الجمرة أول ما يَقْدَم ضحى، فلما أخّرها إلى بعد الزوال سأل عن ذلك، على أن حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما من مخرج واحد لا يُعْرَف له طريق إلا طريق الزهريّ، عن عيسى عنه، والاختلاف من أصحاب الزهريّ، وغايته أن بعضهم ذَكَرَ ما لم يذكر الآخر، واجتمع من مرويِّهم، ورواية ابن عباس أن ذلك كان يوم النحر بعد الزوال، وهو على راحلته يخطب عند الجمرة.
وإذا تقرر أن ذلك كان بعد الزوال يوم النحر تعيّن أنها الخطبة التي شُرِعت لتعليم بقية المناسك، فليس قوله:"خَطَبَ" مجازًا عن مجرد التعليم، بل حقيقة.
ولا يلزم من وقوفه عند الجمرة أن يكون حينئذ رماها، ففي حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند البخاريّ في آخر "باب الخطبة أيام منى": أنه صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر بين الجمرات، فذكر خطبته، فلعل ذلك وقع بعد أن أفاض، ورجع إلى منى. انتهى.
قال صاحب "المرعاة": ولا يُشكل عليه ما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه وقف بمنى للناس يسألونه، بناءً على أن المتبادر منه أن وقوفه كان لتعليم الناس، وسؤالهم، لا للخطبة، فإنه لا منافاة بين الأمرين، فكان أصل وقوفه للخطبة، وكان وقت سؤال أيضًا، فسأله في ذلك الوقت السائل عما فاته من حجه، وعما أدرك، وعما قَدَّمَ وأَخَّر، وسأله قوم عن المستقبل، فعلّمهم دينهم، وأفتى، وأجاب عن مسائلهم.
وذكر ابن حزم في "صفة حجة الوداع": أن هذه الأسئلة عن التقديم والتأخير كانت بعد عوده إلى منى من إفاضته يوم النحر. انتهى.
نعم يُشكل على ما قال الحافظ من كون الخطبة يوم النحر بعد الزوال ما وقع في حديث رافع بن عمرو المزنيّ رضي الله عنه بلفظ: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى
…
" الحديث، فإنه يدل على أن هذه الخطبة كانت وقت الضحى من يوم النحر -أي قبل طواف الإفاضة- ومشى على ذلك ابن القيم في "الهدي"، قال: ولم أقف على دليل صريح من الأحاديث في كون هذه الخطبة بعد الظهر بمنى بعد طواف الإفاضة كما ذهب إليه القائلون بمشروعية الخطبة يوم النحر.
ويمكن أن يجاب عن ذلك بالحمل على التعدد، كما تقدم عن عياض أنه حكاه احتمالًا، وقال المحب الطبريّ بعد ذكر قول ابن حزم المتقدم: قلت: ويَحْتَمِل أن الأسئلة تكررت قبله، أي قبل الزوال وبعده وفي الليل، والله أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: حديث رافع بن عمرو المزنيّ رضي الله عنه هو ما أخرجه أبو داود والنسائيّ بإسناد صحيح، عنه قال:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى، على بغلة شهباء، وعليّ رضي الله عنه يعبّر عنه، والناس بين قاعد وقائم".
فهذا حديث صحيح صريح في كون الخطبة وقت الضحى، لا بعد الزوال، فيردّ ما سبق عن الحافظ من ترجيح كون الخطبة بعد الزوال؛ لأنه لم
(1)
"المرعاة" 9/ 273، 274.
يقع في الروايات كلها التصريح بوقت الخطبة إلا في هذا الحديث، كما يشير إليه كلام الحافظ السابق، فلا ينبغي العدول عنه، فتأمله حقّ التأمل، والله تعالى أعلم.
وقوله: (يَسْأَلُونَهُ) في محل نصب على الحال من الضمير الذي في "وَقَفَ"، أو من "الناس"، أي وقف لهم حال كونهم سائلين له، أو هو استئناف بيانيّ، فكأنه قيل له: ما سبب وقوفه، فأجاب يسألونه (فَجَاءَ رَجُلٌ) عطف على قوله:"وَقَفَ"، قال الحافظ رحمه الله: لم أعرف اسم هذا السائل، ولا الذي بعده في قوله:"ثم جاء آخر"، والظاهر أن الصحابيّ لم يُسَمِّ أحدًا؛ لكثرة من سأل إذ ذاك، وقال في موضع آخر: لم أقف على اسم هذا السائل بعد البحث الشديد، ولا على اسم أحد ممن سال في هذه القصة، وكانوا جماعة، لكن في حديث أسامة بن شريك، عند الطحاويّ وغيره:"كان الأعراب يسألونه"، فكان هذا هو السبب في عدم ضبط أسمائهم. انتهى.
ومما يدل على كون السائلين جماعة متفرقين اختلاف أسئلتهم عن التقديم والتأخير، كما سيأتي بيانها (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لَمْ أَشْعُرْ) -بضم العين- من باب نصر: أي لم أَفْطَنْ، يقال: شَعَرْتُ بالشيء شُعُورًا: إذا فَطِنت له، قيل: وعلى هذا يكون مُؤَدَّى الاعتذار النسيان، قال الباجيّ: يَحْتَمِل أن يريد به نسيت، فقدمت الحلاق. انتهى، وقيل: الشعور: العلم، وعلى هذا المعنى: لم أعلم المسألة قبل هذا، ويؤيده لفظ يونس التالي:"لم أشعُر أن الرمي قبل النحر، فنحرت قبل أن أرمي، وقال آخر: لم أشعر أن النحر قبل الحلق، فحلقت قبل أن أنحر"، فبيّن يونس مُتَعَلَّق الشعور، أي العلم، ولم يفصحه مالك في روايته، وإلى الاحتمالين معًا أشار الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" إذ ترجم على حديث ابن عباس رضي الله عنهما:"باب إذا رَمَى بعدما أمسى، أو حلق قبل أن يذبح ناسيًا، أو جاهلًا"، قال العينيّ رحمه الله: فإن قلت: قيّد في الترجمة كونه ناسيًا أو جاهلًا، وليس في الحديث ذلك، قلت: جاء في حديث عبد الله بن عمرو ذلك، وهو قوله: "لم أشعُر، فحلقت قبل أن أذبح
…
" الحديث، فإن عدم الشعور أعم من أن يكون بجهل أو نسيان، فكأنه أشار إلى ذلك؛ لأن أصل الحديث واحد، وإن كان المخرج متعددًا. انتهى.
وبالاحتمالين معًا فسره القاري حيث قال: "لم أشعر" أي ما عرفت تقديم بعض المناسك وتأخيرها فيكون جاهلًا؛ لقرب وجوب الحج، أو فعلت ما ذكرتُ من غير شعور؛ لكثرة الاشتغال، فيكون مخطئًا. انتهى
(1)
.
(فَحَلَقْتُ) أي شعر رأسي (قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ) أي الهدي، والفاء سببية، جعل الحلق مسبّبًا عن عدم الشعور، كأنه يعتذر لتقصيره (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("اذْبَحْ) أي الآن، وفي رواية يونس التالية:"انحر"(وَلَا حَرَجَ") أي لا ضيق عليك، يعني أنه لا شيء عليه مطلقًا من الإثم، لا في الترتيب، ولا في ترك الفدية، هذا ظاهره، وقال بعض الفقهاء: المراد نفي الإثم فقط، وفيه نظر؛ لأن في بعض الروايات الصحيحة:"ولم يأمر بكفّارة"، قاله في "الفتح"
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: من قال: بعدم الفدية بمخالفة الترتيب في وظائف يوم النحر حَمَلَ نفي الحرج على نفي الإثم والفدية معًا، وهذا هو القول الصحيح، قال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "اذبح، ولا حرج"، ليس أمرًا بالإعادة، وإنما هو إباحة لما فَعَل؛ لأنه سأل عن أمر فَرَغ منه، فالمعنى: افعل متى شئت، ونَفْيُ الحرج بَيِّنٌ في رفع الفدية عن العامد والساهي، وفي رفع الإثم عن الساهي، وأما العامد فالأصل أن تارك السنة عمدًا لا يأثم إلا أن يتهاون، فيأثم للتهاون، لا للترك. انتهى.
وأما من ذهب إلى وجوب الدم فقد حمله على نفي الإثم فقط، قال الباجيّ: يَحْتَمِل أن يريد لا إثم عليك؛ لأن الحرج الإثم، ومعظم سؤال السائل إنما كان ذلك خوفًا من أن يكون قد أثم، فأعلمه النبيّ صلى الله عليه وسلم أن لا حرج عليه؛ إذ لم يقصد المخالفة، وإنما أتى ذلك عن غير علم، ولا قصد مع خفة الأمر. انتهى.
وقال السنديّ رحمه الله في "حاشية ابن ماجه": معناه عند الجمهور أنه لا إثم، ولا دم، ومن أوجب الدم حمله على دفع الإثم وهو بعيد؛ إذ الظاهر عموم النفي لحرج الدنيا، وحرج الآخرة، وأيضًا لو كان دم لبيّنه النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ إذ
(1)
راجع: "المرعاة" 9/ 274.
(2)
"الفتح" 1/ 318، كتاب العلم، رقم (83).
ترك البيان، أو تأخيره عن وقت الحاجة لا يجوز في حقه صلى الله عليه وسلم. انتهى كلام السنديّ رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ.
(ثُمَّ جَاءَهُ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لَمْ أَشْعُرْ) أي لم أَفْطَن، ولم أعلم أن الرمي قبل النحر (فَنَحَرْتُ) الهدي (قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ) الجمرة (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("ارْمِ) الآن (وَلَا حَرَجَ") عليك في ذلك، وفي رواية محمد بن أبي حفصة، عن الزهريّ عند المصنّف الآتية:"إني حلقت قبل أن أرمي، فقال: ارم ولا حرج، وأتاه آخر، فقال: إني ذبحت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج، وأتاه آخر، فقال: إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج".
وفي رواية ابن جريج، عن الزهريّ عند البخاريّ:"فقام إليه رجل، فقال: كنت أحسب أن كذا قبل كذا، ثم قام آخر، فقال: كنت أحسب أن كذا قبل كذا، حلقت قبل أن أنحر، ونحرت قبل أن أرمي، وأشباه ذلك، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: افعل ولا حرج، لهنّ كلِّهنّ، فما سئل يومئذ عن شيء إلا قال: افعل ولا حرج".
وفي حديث معمر عند أحمد زيادة الحلق قبل الرمي أيضًا.
فحاصل ما في حديث عبد الله بن عمرو السؤال عن أربعة أشياء: الحلق قبل الذبح، والحلق قبل الرمي، والنحر قبل الرمي، والإفاضة قبل الرمي، والأولان في حديث ابن عباس أيضًا في "الصحيح"، وللدارقطني من حديثه أيضًاا لسؤال عن الحلق قبل الرمي، وكذا في حديث جابر، وفي حديث أبي سعيد عند الطحاويّ، وفي حديث عليّ عند أحمد السؤال عن الإفاضة قبل الحلق، وفي حديثه عند الطحاويّ السؤال عن الرمي والإفاضة معًا قبل الحلق، وفي حديث جابر الذي علّقه البخاريّ، ووصله ابن حبان وغيره السؤال عن الإفاضة قبل الذبح، وفي حديث أسامة بن شريك السؤال عن السعي قبل الطواف
(1)
.
(1)
هو ما أخرجه أبو داود في "سننه"(2015) بإسناد صحيح عن أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجًّا، فكان الناس يأتونه، فمن قائل: يا رسول الله سعيتُ قبل أن أطوف، أو أخّرت شيئًا، أو قدّمت شيئًا، فكان يقول: =
وقد حمل القائلون بعدم إجزاء السعي قبل الطواف حديث أسامة بن شريك رضي الله عنه هذا على من سعى بعد طواف القدوم قبل طواف الإفاضة، فإنه يصدُق عليه أنه سعى قبل الطواف، أي طواف الركن
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحمل فيه ما لا يخفى؛ إذ يردّه عدم استفصال النبيّ صلى الله عليه وسلم هل طاف للقدوم أم لا؟ فالحقّ أن تقديم السعي على الطواف يجوز مطلقًا؛ لهذا الحديث، فتبّصر، والله تعالى أعلم.
(قَالَ) عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما (فَمَا سُئِلَ) بالبناء للمجهول (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) زاد في الرواية الآتية: "يومئذ"(عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ، وَلَا أُخِّرَ) بالبناء للمجهول في الفعلين، أي عن شيء قُدّم، وحقّه التأخير، ولا عن شيء أُخّر، وحقّه التقديم (إِلَّا قَالَ) صلى الله عليه وسلم للسائل ("افْعَلْ) الآن ما بقي، وقد أجزأك ما فعلت (وَلَا حَرَجَ") عليك في التقديم والتأخير، وفي رواية يونس التالية:"فما سمعته يسأل يومئذ عن أمر مما يَنْسَى المرء، أو يجهل من تقديم بعض الأمور قبل بعض، وأشباهها، إلا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: افعلوا ذلك، ولا حرج".
قال الباجيّ: لا يقتضي هذا رفع الحرج في تقديم شيء ولا تأخيره غير المسألتين المنصوص عليهما، لأننا لا ندري عن أيّ شيء غيرهما سئل في ذلك اليوم، وجوابه إنما كان عن سؤال السائل، فلا يدخل فيه غيره، كما لا يدخل في قوله:"انحر ولا حرج، ارم ولا حرج" غير ذلك مما لم يسئل عنه. انتهى، وكذا قال ابن التين أن هذا الحديث لا يقتضي رفع الحرج في غير المسألتين المنصوص عليهما -يعني المذكورتين في رواية مالك- لأنه خرج جوابًا للسؤال، ولا يدخل فيه غيره. انتهى.
وتعقبه الحافظ، فقال: كأنه غَفَلَ عن قوله في بقية الحديث: "فما سئل
= "لا حرج، إلا على رجل اقتَرَضَ عِرْضَ مسلم، وهو ظالم، فذلك الذي حَرِج، وهلك".
وقوله: "اقترض" بالقاف: أي اقتطع، وقوله:"حَرِجَ" بكسر الراء: أي وقع في الحرج، وهو الإثم، فعطفُ "هلك" عليه تفسيريّ.
(1)
راجع: "المرعاة" 9/ 275.
عن شيء قُدِّم، ولا أُخِّر"، وكأنه حَمَل ما أُبْهِم فيه على ما ذُكِر، لكن قوله في رواية ابن جريج: "وأشباه ذلك"، يردُّ عليه.
قال: وقد تقدم فيما حررناه من مجموع الأحاديث عدّة صور، وبقيت عدّة صور لم تذكرها الرواة، إما اختصارًا، وإمالكونها لم تقع، وبلغت بالتقسيم أربعًا وعشرين صورةً، منها صورة الترتيب المتفق عليها -يعني رمي جمرة العقبة، ثم نحر الهدي، أو ذبحه، ثم الحلق، أو التقصير، ثم طواف الإفاضة، وهي وظائف يوم النحر بالاتفاق. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
، وهو تحقيق نفيسٌ.
وقد أجمع العلماء على مطلوبية هذا الترتيب، إلا أن ابن الجهم من المالكية، استثنى القارن فقال: لا يجوز له الحلق قبل الطواف، وكأنه لاحظ أنه في عمل العمرة، والعمرة يتأخر فيها الحلق عن الطواف، يعني أنه رأى أن القارن عمرته وحجه قد تداخلًا، فالعمرة قائمة في حقه، والعمرة لا يجوز الحلق فيها قبل الطواف، ورَدّ عليه النوويّ بنصوص الأحاديث، والإجماع المتقدم عليه، ونازعه ابن دقيق العيد في ذلك حيث قال؛ وكأنه يريد بنصوص الأحاديث ما ثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنًا في آخر الأمر، وقد حلق قبل الطواف، وهذا إنما ثبت بأمر استدلاليّ، لا نصيّ، أعني كونه صلى الله عليه وسلم قارنًا، وابن الجهم بنى على مذهب مالك، والشافعيّ، ومن قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفردًا، وأما الإجماع فبعيد الثبوت، إن أراد به الإجماع النقليّ القوليّ، وإن أراد السكوتيّ ففيه نظر، وقد يُنازَع فيه أيضًا. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
"الفتح" 4/ 696.
أخرجه (المصنّف) هنا [54/ 3157 و 3158 و 3159 و 3160 و 3161 و 3162 و 3163 و 3164](1306)، و (البخاريّ) في "العلم"(83 و 124) و"الحجّ"(1736 و 1737 و 1738) و"الأيمان والنذور"(6665)، و (أبو داود) في "المناسك"(2014)، و (الترمذيّ) في "الحجّ"(916)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 446 و 447 و 3/ 444)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(3051)، و (مالك) في "الموطّإ"(1/ 421)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 378)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2285)، و (الحميديّ) في "مسنده"(580)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 159 و 160 و 192 و 202 و 210 و 217)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 64 - 65)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2949 و 2951)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3877)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(487 و 488)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 313 و 319 و 320)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 384 - 485)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 237)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(1/ 227)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 251 و 252 و 253)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 140 و 141 و 142) و"المعرفة"(4/ 133)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1963)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان جواز تقديم الذبح على الرمي، والحلق على الذبح، وعلى الرمي، وتقديم الطواف عليها كلِّها.
2 -
(ومنها): جواز القعود على الراحلة للحاجة.
3 -
(ومنها): أنه ينبغي للمسلم أن يتعلّم أحكام دينه بسؤال أهل العلم، ولا يعمل عملًا إلا وهو على بصيرة من حكمه.
4 -
(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الاهتمام بتعليم أمته أمور دينهم، وحثّهم على الأخذ عنه؛ ليكونوا على بصيرة، كما قال تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} الآية.
5 -
(ومنها): وجوب اتّباع أفعال النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لكون الذين خالفوها لَمّا عَلِموا سألوه عن حكم ذلك.
6 -
(ومنها): يسر الشريعة، وسهولة أحكامها، حيث سامحت في التقديم
والتأخير؛ لما ينالهم في ذلك اليوم من شدّة الزحام، وصعوبة المقام، فهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم:"بُعثتُ بالحنيفيّة السمحة"
(1)
.
7 -
(ومنها): أن البخاريّ رحمه الله استَدَلّ به على أن من حلف على شيء، ففعله ناسيًا أن لا شيء عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم التقديم والتأخير في أعمال يوم النحر:
(اعلم): اختلفوا في جواز تقديم بعضها على بعض، فأجمعوا على الإجزاء في ذلك، كما قاله ابن قدامة في "المغني"، إلا أنهم اختلفوا في وجوب الدم في بعض المواضع، وقال القرطبي رحمه الله
(2)
: رُوي عن ابن عباس، ولم يثبت عنه أن من قَدَّم شيئًا على شيء، فعليه دم، وبه قال سعيد بن جبير، وقتادة، والحسن، والنخعيّ، وأصحاب الرأي. انتهى.
قال في "الفتح": وفي نسبة ذلك إلى النخعيّ، وأصحاب الرأي نظر، فإنهم لا يقولون بذلك، إلا في بعض المواضع، كما سيأتي.
قال: وذهب الشافعيّ، وجمهور السلف، والعلماء، وفقهاء أصحاب الحديث إلى الجواز، وعدم وجوب الدم؛ لقوله للسائل:"لا حرج"، فهو ظاهر في رفع الإثم والفدية معًا؛ لأن اسم الضيق يشملهما.
قال الطحاويّ: ظاهر الحديث يدل على التوسعة في تقديم بعض هذه الأشياء على بعض، قال: إلا أنه يَحْتَمِل أن يكون قوله: "لا حرج" أي لا إثم في ذلك الفعل، وهو كذلك من كان ناسيًا أو جاهلًا، وأما من تعمد المخالفة، فتجب عليه الفدية.
وتُعُقِّب بأن وجوب الفدية يحتاج إلى دليل، ولو كان واجبًا لبيّنه صلى الله عليه وسلم حينئذ؛ لأنه وقت الحاجة، ولا يجوز تأخيره.
وقال الطبريّ: لم يسقط النبيّ صلى الله عليه وسلم الحرج، إلا وقد أجزأ الفعل؛ إذ لو لم
(1)
حيث صحيح، راجع:"السلسلة الصحيحة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله 6/ 1022.
(2)
"المفهم" 4/ 694.
يجزئ لأمره بالإعادة؛ لأن الجهل والنسيان لا يضعان عن المرء الحكم الذي يلزمه في الحج، كما لو ترك الرمي ونحوه، فإنه لا يأثم بتركه جاهلًا، أو ناسيًا، لكن يجب عليه الإعادة.
والعجب ممن يَحْمِل قوله: "ولا حرج" على نفي الإثم فقط، ثم يَخُصّ ذلك ببعض الأمور دون بعض، فإن كان الترتيب واجبًا يجب بتركه دم، فليكن في الجميع وإلا فما وجه تخصيص بعض دون بعض، مع تعميم الشارع الجميع بنفي الحرج.
وأما احتجاج النخعيّ، ومن تبعه في تقديم الحلق على غيره بقوله تعالى:{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} قال: فمن حلق قبل الذبح أهراق دمًا عنه، رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح، فقد أجيب بأن المراد ببلوغ محله وصوله إلى الموضع الذي يَحِلّ ذبحه فيه، وقد حصل، وإنما يتم ما أراد أن لو قال: ولا تحلقوا حتى تنحروا.
وقال ابن حزم رحمه الله: أما قول إبراهيم وجابر بن زيد في أن من حلق قبل الذبح والنحر فعليه دم، واحتجاجهم بقول الله تعالى:{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} فغفلة ممن احتجّ بهذا؛ لأن محل الهدي هو يوم النحر بمنى ذُبِح أو نُحر، أو لم يُذْبَح، ولا نُحِر، إذا دخل يوم النحر والهدي بمنى أو بمكة، فقد بلغ محله، فحلّ الحلق، ولم يقل تعالى: حتى تنحروا، أو تذبحوا، وبيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل ذلك مباح، ولا حجة في قول أحد سواه عليه السلام. انتهى
(1)
.
واحتج الطحاويّ أيضًا بقول ابن عباس: "مَن قَدَّم شيئًا من نسكه أو أخّره فليهرق لذلك دمًا". قال: وهو أحد مَن روى أن لا حرج، فدل على أن المراد بنفي الحرج نفي الإثم فقط.
وأجيب بأن الطريق بذلك إلى ابن عباس فيها ضعف، فإن ابن أبي شيبة أخرجها، وفيها إبراهيم بن مهاجر، وفيه مقال، وعلى تقدير الصحة فيلزم من يأخذ بقول ابن عباس أن يوجب الدم في كل شيء من الأربعة المذكورة، ولا يخصه بالحلق قبل الذبح، أو قبل الرمي.
(1)
"المحلَّى" 7/ 183.
وقال ابن دقيق العيد: مَنَعَ مالكٌ، وأبو حنيفة تقديم الحلق على الرمي والذبح؛ لأنه حينئذ يكون حلقًا قبل وجود التحللين، وللشافعي قول مثله، وقد بني القولان له على أن الحلق نسك، أو استباحة محظور، فإن قلنا: إنه نسك جاز تقديمه على الرمي وغيره؛ لأنه يكون من أسباب التحلل، وإن قلنا: إنه استباحة محظور، فلا. قال: وفي هذا البناء نظر؛ لأنه لا يلزم من كون الشيء نسكًا أن يكون من أسباب التحلل؛ لأن النسك ما يثاب عليه، وهذا مالك يرى أن الحلق نسك، ويرى أنه لا يُقَدَّم على الرمي مع ذلك، وقال الأوزاعيّ: إن أفاض قبل الرمي أهراق دمًا، وقال عياض
(1)
: اختُلِف عن مالك في تقديم الطواف على الرمي، وروى ابن عبد الحكم عن مالك أنه يجب عليه إعادة الطواف، فإن توجه إلى بلده بلا إعادة وجب عليه دم، قال ابن بطال: وهذا يخالف حديث ابن عباس، وكأنه لم يبلغه. انتهى، قال الحافظ: وكذا هو في رواية ابن أبي حفصة، عن الزهريّ، في حديث عبد الله بن عمرو، وكأن مالكًا لم يحفظ ذلك عن الزهريّ. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن حمل قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا حرج" على العموم من نفي الإثم ووجوب الدم هو الأقرب، وأقوى حجة على ذلك أنه لو كان الدم واجبًا لبيّنه صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ثم إن هذا الحكم أيضًا عامّ للناسي، والعامد، وليس تقييد السؤال بقوله:"لم أشعُر" يُخرج العمد، قال الشيخ الشنقيطيّ رحمه الله: لا يتضح حمل الأحاديث على من قدم الحق جاهلًا أو ناسيًا، وإن كان سياق حديث عبد الله بن عمرو المتفق عليه يدل على أن السائل جاهل؛ لأن بعض تلك الأحاديث ليس فيها ذكر النسيان ولا الجهل، فيجب استصحاب عمومها حتى يدلّ دليل على التخصيص في النسيان والجهل، وقد تقرر أيضًا في علم الأصول أن جواب المسئول من سأله لا يعتبر فيه مفهوم المخالفة؛ لأن تخصيص المنطوق بالذكر لمطابقة الجواب للسؤال، فلم يتعين كونه لإخراج المفهوم عن حكم المنطوق.
(1)
"إكمال المعلم" 4/ 389.
(2)
"الفتح" 4/ 694، 695.
قال: وبه تعلم أن وصف عدم الشعور الوارد في السؤال لا مفهوم له، وقال الشوكانيّ رحمه الله في "نيل الأوطار": وتعليق سؤال بعضهم بعدم الشعور لا يستلزم سؤال غيره به، حتى يقال: إنه يختص الحكم بحالة عدم الشعور، ولا يجوز اطراحها بإلحاق العمد بها.
وبهذا يعلم أن التعويل في التخصيص على وصف عدم الشعور المذكور في سؤال بعض السائلين غير مفيد للمطلوب. انتهى محل الغرض منه بلفظه. انتهى كلام الشيخ الشنقيطي رحمه الله، وهو بحث نفيسٌ جدًّا
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الحاصل أن القول بعدم وجوب الترتيب في أفعال يوم النحر، سواء كان للناس، أو الجاهل، أو العامد دون وجوب الدم عليه هو الحقّ؛ لقوّة حجته، فتأمل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3158]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ طَلْحَةَ التَّيْمِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ: وَقَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَطَفِقَ نَاسٌ يَسْأَلُونَهُ، فَيَقُولُ الْقَائِلُ مِنْهُمْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي لَمْ أَكُنْ أَشْعُرُ أَنَّ الرَّمْيَ قَبْلَ النَّحْرِ، فَنَحَرْتُ قَبْلَ الرَّمْيِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"فَارْمِ، وَلَا حَرَجَ"، قَالَ: وَطَفِقَ آخَرُ يَقُولُ: إِنِّي لَمْ أَشْعُرْ أَنَّ النَّحْرَ قَبْلَ الْحَلْقِ، فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ، فَيَقُولُ:"انْحَرْ، وَلَا حَرَجَ"، قَالَ: فَمَا سَمِعْتُهُ يُسْأَلُ يَوْمَئِذٍ عَنْ أَمْرٍ، مِمَّا يَنْسَى الْمَرْءُ وَيَجْهَلُ، مِنْ تَقْدِيمِ بَعْضِ الْأُمُورِ قَبْلَ بَعْضٍ
(2)
، وَأَشْبَاهِهَا، إِلَّا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"افْعَلُوا ذَلِكَ، وَلَا حَرَجَ").
(1)
"أضواء البيان" 1/ 88، 89.
(2)
وفي نسخة: "بعض الأمور على بعض".
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التجيبيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (فَطَفِقَ نَاسٌ) بكسر الفاء، وفتحها، قال المجد رحمه الله: طَفَقَ يفعل كذا، كفرح، وضرب طَفَقًا، وطُفُوقًا: إذا واصل الفعل، خاصّ بالإثبات، لا يقال: ما طَفَق. انتهى
(1)
.
وقوله: (مِنْ تَقْدِيمِ بَعْضِ الْأُمُورِ قَبْلَ بَعْضٍ) وفي نسخة: "من تقديم بعض الأمور على بعض".
والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3159]
(
…
) - (حَدَّثَنَا حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ، عَن الزُّهْرِيِّ إِلَى آخِرِهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(حَسَن الْحُلْوَانِيُّ) ابن عليّ بن محمد الخلال الْهُذليّ، أبو عليّ نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [11](ت 242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
2 -
(يَعْقُوبُ) بن إبراهيم بن سعد الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
3 -
(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجة [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
4 -
(صَالِحُ) بن كيسان الغفاريّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو الحارث المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [4] مات بعد (130) أو (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
(1)
"القاموس المحيط" 3/ 258.
و"ابن شهاب" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية صالح بن كيسان، عن الزهريّ هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" (2/ 217) فقال:
(7032)
- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا يعقوب، ثنا أبي، عن صالح، قال ابن شهاب: حدّثني عيسى بن طلحة بن عبيد الله، أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر على راحلته، فطَفَقَ يسألونه، فيقول القائل منهم: يا رسول الله إني لم أكن أشعر أن الرمي قبل النحر، فنحرت قبل أن أرمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ارم، ولا حرج"، وطَفِق آخر، فقال: يا رسول الله إني لم أشعر أن النحر قبل الحلق، فحلقت قبل أن أنحر، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"انحر، ولا حرج"، قال: فما سمعت يومئذ يُسأل عن أمر، مما ينسى الإنسان، أو يجهل، من تقديم الأمور بعضها قبل بعض، وأشباهها، إلا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"افعله، ولا حرج". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل الى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3160]
(
…
) - (وَحَدَّثنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، أَخْبَرَنَا عِيسَى، عَن ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ شِهَابٍ يَقُولُ: حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ طَلْحَةَ، حَدثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ النَّحْرِ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: مَا كُنْتُ أَحْسِبُ يَا رَسُولَ اللهِ أَنَّ كَذَا وَكَذَا قَبْلَ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كُنْتُ أَحْسِبُ أَنَّ كَذَا قَبْلَ كَذَا وَكَذَا، لِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثِ، قَالَ: "افْعَلْ، وَلَا حَرَجَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ) تقدّم قريبًا.
2 -
(عِيسَى) بن يونس بن أبي إسحاق السبيعيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم أيضًا قريبًا. والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (بَيْنَا هُوَ يَخْطُبُ) هي "بين" الظرفيّة، أُشبعت فتحتها، فتولّدت منها الألف، قال المجد رحمه الله
(1)
: وبينا نحنُ كذا هي "بين" أُشبعت فتحتها، فحدثت الألف، وبينا، وبينما من حروف الابتداء، والأصمعيّ يخفض بعد "بينا" إذا صلح موضعه "بين"، كقوله [من الكامل]:
بَيْنَا تَعَنُّقِهِ الْكُمَاةَ وَرَوْغِهِ
…
يَوْمًا أُتِيحَ لَهُ جَرِيءٌ سَلْفَعُ
وقوله: (مَا كُنْتُ أَحْسِبُ) بكسر السين، وفتحها، أي أظنّ.
وقوله: (لِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثِ) يعني الرمي، والذبح، والحلق.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3161]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ (ح) وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، جَمِيعًا عَن ابْنِ جُرَيْجٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، أمَّا رِوَايَةُ ابْنِ بَكْرٍ فَكَرِوَايَةِ عِيسَى، إِلَّا قَوْلَهُ: لِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ، وَأَمَّا يَحْيَى الْأُمَوِيُّ فَفِي رِوَايَتِهِ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ، نَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسّيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ) الْبُرْسانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ) أبو عثمان البغداديّ، ثقةٌ ربّما أخطأ [10](ت 249)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
4 -
(أَبُوهُ) يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص الأمويّ، أبو أيوب الكوفيّ، نزيل بغداد، لقبه الجمل، صدوق يُغرب، من كبار [9](ت 194) وله (80) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
(1)
"القاموس المحيط" 4/ 204.
و"ابن جُريج" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية محمد بن بكر، عن ابن جريج، لم أجد من ساقها تامّة، فليُنظر.
وأما رواية سعيد بن يحيى، عن أبيه، عن ابن جريج، فساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(1622)
- حدّثنا سعيد بن يحيى بن سعيد، حدّثنا أبي، حدّثنا ابن جريج، حدّثني الزهريّ، عن عيسى بن طلحة، أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه حدّثه، أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم النحر، فقام إليه رجل، فقال: كنت أحسب أن كذا قبل كذا، ثم قام آخر، فقال: كنت أحسب أن كذا قبل كذا، حلقت قبل أن أنحر، نحرت قبل أن أرمي، وأشباه ذلك، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"افعل، ولا حرج"، لهنّ كلِّهنّ، فما سئل يومئذ عن شيء إلا قال:"افعل، ولا حرج". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3162]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَن الزُّهْرِيِّ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، فَقَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، قَالَ: "فَاذْبَحْ، وَلَا حَرَجَ"، قَالَ: ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، قَالَ: "ارْمِ، وَلَا حَرَجَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.
3 -
(ابْنُ عُيَيْنَةَ) سفيان، تقدّم في الباب الماضي.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى في شرح حديث أول الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3163]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَن الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى نَاقَةٍ بِمِنًى، فَجَاءَهُ رَجُلٌ، بِمَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام، تقدّم قريبًا.
2 -
(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب، وفيما قبله.
[تنبيه]: رواية معمر، عن الزهريّ هذه ساقها ابن الجارود رحمه الله في "المنتقى" (1/ 130) فقال:
(488)
- حدّثنا محمد بن يحيى، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن الزهريّ، عن عيسى بن طلحة، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته بمنى، فجاء رجل، فقال: يا رسول الله إني كنت أظنّ الحلق قبل النحر، فحلقت قبل أن أنحر، قال:"انحر، ولا حرج"، قال: وجاءه آخر، فقال: يا رسول الله إني كنت أظن الحلق قبل الرمي، فحلقت قبل أن أرمي، قال:"ارم، ولا حرج"، قال: فما سئل يومئذ عن شيء قدّمه رجل وأخّره، إلا قال:"افعل، ولا حرج". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3164]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ قُهْزَاذَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، عَن الزُّهْرِيِّ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَتَاهُ رَجُلٌ يَوْمَ النَّحْرِ، وَهُوَ وَاقِفٌ عِنْدَ الْجَمْرَةِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، فَقَالَ:"ارْمِ، وَلَا حَرَجَ"، وَأَتَاهُ آخَرُ، فَقَالَ:
إِنِّي ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، قَالَ:"ارْمِ، وَلَا حَرَجَ"، وَأَتَاهُ آخَرُ، فَقَالَ: إِنِّي أَفَضْتُ إِلَى الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، قَالَ:"ارْمِ، وَلَا حَرَجَ"، قَالَ: فَمَا رَأَيْتُهُ سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ، إِلَّا قَالَ:"افْعَلُوا، وَلَا حَرَجَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ قُهْزَاذَ)
(1)
المروزيّ، ثقةٌ [11](ت 262) من أفراد المصنّف تقدم في "المقدمة" 5/ 32.
2 -
(عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ) بن شقيق، أبو عبد الرحمن المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [10] (ت 215) وقيل: قبل ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 35.
3 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ) بن واضح الحنظليّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه حجةٌ جواد مجاهدٌ، جُمعت فيه خصال الخير [8](ت 181) وله (63) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 32.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ) ميسرة، أبو سلمة البصريّ، صدوقٌ يُخطئ [7](خ م مد س) تقدم في "الجنائز" 16/ 2187.
[فإن قلت]: كيف أخرج المصنّف رحمه الله لمحمد بن أبي حفصة مع أنه متكلّم فيه، فهو وإن قال ابن المدينيّ: ليس به بأس، إلا أن النسائيّ ضعّفه، وقال ابن عديّ: هو من الضعفاء الذين يُكتب حديثهم، وقال ابن في "الثقات": يُخطئ؟.
[قلت]: إنما أخرج له متابعة، فروايته هذه متابعة لروايات الحفّاظ من أصحاب الزهريّ الذين تقدّموا، فلا يضرّه الكلام فيه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (إِنِّي أَفَضْتُ إِلَى الْبَيْتِ
…
إلخ) قال في "المرعاة" ما حاصله: إن الترتيب بين الرمي والذبح والحلق للقارن والمتمتّع، وبين الرمي والحلق للمفرد واجب عند الحنفيّة، وأما الترتيب بين الرمي والطواف، وبين الحلق والطواف، فليس بواجب عندهم، ففرقوا بين الطواف، وبين الأشياء الثلاثة في ذلك، مع
(1)
بضمّ القاف، وسكون الهاء، ثم زاي، آخره ذال معجمة.
أنه واقع في جملة روايات السؤال عن جميع هذه الصور، وورد الجواب في كلها بلفظ:"لا حرج"، وقد قال بعضهم: إنه لم يجد مع البحث الشديد الفرق بين الطواف، وبين الأفعال الثلاثة وجهًا شافيًا، ورواية مسلم هذه صريحة في الردّ على المالكيّة؛ إذ نُفي فيها الحرج في تقديم الحلق والإفاضة على الرمي. انتهى
(1)
.
والحديث من رواية محمد بن أبي حفصة هذه من أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3165]
(1307) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قِيلَ لَهُ فِي الذَّبْحِ، وَالْحَلْقِ، وَالرَّمْيِ، وَالتَّقْدِيمِ، وَالتَّأْخِيرِ، فَقَالَ: "لَا حَرَجَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون، تقدّم قريبًا.
2 -
(بَهْزُ) بن أسد الْعَمّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9] مات بعد المائتين، وقيل: قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.
3 -
(وُهَيْبُ) بن خالد بن عجلان الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، تغيّر قليلًا بآخره [7](ت 165) أو بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ طَاوُسِ) بن كيسان، أبو محمد اليمانيّ، ثقةٌ فاضلٌ عابدٌ [6](132)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
5 -
(أَبُوهُ) طاوس بن كيسان الْحِمْيريّ مولاهم الفارسيّ، أبو عبد الرحمن اليمانيّ، يقال: اسمه ذكوان، وطاوس لقبه، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ [3](106) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
(1)
راجع: "المرعاة" 9/ 285.
6 -
(ابْنُ عَبَّاس) عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.
وقوله: (قِيلَ لَهُ فِي الذَّبْحِ
…
إلخ) أي: سئل عن حكم الذبح، والحلق، والرمي في تقديم بعضها على بعض، وقد بيّن هذا الذي أجمله في هذه الرواية ما رواه البخاريّ من طريق عكرمة، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم-ـ يُسأل يوم النحر بمنًى، فيقول:"لا حرج"، فسأله رجل، فقال: حلقت قبل أن أذبح، قال:"اذبح، ولا حرج"، وقال: رميت بعدما أمسيتُ، فقال:"لا حرج"، ومن طريق عطاء، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال رجل للنبيّ صلى الله عليه وسلم:"زُرت قبل أن أرمي، قال: "لا حرج"، قال: حلقت قبل أن أذبح قال: "لا حرج"، قال: ذبحت قبل أن أرمي قال: "لا حرج"، وتمام شرح الحديث يُعلم مما مضى.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [54/ 3165](1307)، و (البخاريّ) في "العلم"(83) و"الحجّ"(1721 و 1722 و 1723 و 1734 و 1735) و"الأيمان والنذور"(6666)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4103)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 258 و 269)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(11/ 21)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 142)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(55) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ يَوْمَ النَّحْرِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3166]
(1308) - (حَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَاقِ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَفَاضَ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ رَجَعَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى، قَالَ نَافِعٌ: فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُفِيضُ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَرْجعُ، فَيُصَلِّي الظُّهْرَ بِمِنًى، وَيَذْكُرُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوري، ثقة حافظ [11](ت 245) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي، وقبل بابين، و"عَبْدُ الرَّزَّاقِ" هو: ابن همّام الصنعانيّ.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له ابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، من عبيد الله.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: عبد الله، عن نافع.
5 -
(ومنها): أن ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَفَاضَ يَوْمَ النَّحْرِ) أي طاف طواف الإفاضة، قال الفيّوميّ رحمه الله: أفاض الناس من عرفات: دفعوا منها، وكلُّ دَفْعة إفاضة، وأفاضوا من منى إلى مكة يوم النحر: رجعوا إليها، ومنه طواف الإفاضة: أي طواف الرجوع من منى إلى مكة. انتهى
(1)
.
والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم نزل من منى إلى مكة، بعد رميه، ونحره، وحلقه، فطاف طواف الفرض، أي طواف الإفاضة، ويُسمى أيضًا طواف الزيارة، وكان ذلك وقت الضحى (ثُمَّ رَجَعَ) إلى منى في نفس اليوم (فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى) فيه تصريح بأنه صلى الله عليه وسلم طاف طواف الإفاضة نهارًا، وصلى صلاة الظهر بمنى بعدما رجع من مكة، ويوافقه في وقت الطواف حديث جابر رضي الله عنه الطويل في حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي تقدّم، ويخالفه في الموضع الذي صلى فيه ظهر يوم النحر حيث قال:"ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر"، ففيه التصريح بأنه أفاض نهارًا، وهو نهار يوم النحر، وأنه صلى ظهر يوم النحر
(1)
"المصباح المنير" 2/ 485.
بمكة، وكذلك قالت عائشة رضي الله عنها: إنه طاف يوم النحر، وصلى الظهر بمكة، فاتفق الحديثان في وقت طواف الإفاضة، واختلفا في موضع صلاته لظهر ذلك اليوم.
ووجه الجمع بينهما أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمكة كما قال جابر وعائشة رضي الله عنهما، ثم رجع إلى منى، فوجد أصحابه ينتظرون؛ ليصلّوا معه الظهر، فصلى بهم مرة أخرى، كما صلى بهم صلاة الخوف مرتين: مرة بطائفة، ومرة بطائفة أخرى، في بطن نخل، فرأى جابر وعائشة رضي الله عنها صلاته في مكة، فأخبرا بما رأيا، وقد صدقا، ورأى ابن عمر رضي الله عنهما صلاته بهم في منى، فأخبر بما رأى وقد صدق، وبهذا الجمع جزم النوويّ وغير واحد.
وقد جمع بعضهم بينهما بوجوه أخرى، وصار بعضهم إلى الترجيح، كما تقدم مُفَصّلًا في شرح حديث جابر رضي الله عنه في قصة حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلا تنس نصيبك، والله تعالى وليّ التوفيق.
وقد ورد في بعض الروايات ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم طاف طواف الإفاضة ليلًا، قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": وقال أبو الزبير، عن عائشة، وابن عباس رضي الله عنهم: أخّر النبيّ صلى الله عليه وسلم الزيارة إلى الليل، وقد تقرر أن كل ما علّقه البخاريّ بصيغة الجزم فهو صحيح إلى مَن عَلَّق عنه، مع أنه وصله أحمد، وأبو داود، والترمذيّ، وغيرهم من طريق سفيان الثوريّ، عن أبي الزبير به، وزيارته ليلًا في هذا الحديث المرويّ عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم مخالفة لما تقدم في حديثي جابر وابن عمر رضي الله عنهم، وللجمع بينهما أوجه، كما سبق:
منها: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم طاف طواف الزيارة في النهار يوم النحر، كما أخبر به جابر وعائشة وابن عمر، ثم بعد ذلك صار يأتي البيت ليلًا، ثم يرجع إلى منى، فيبيت بها، وإتيانه البيت في ليالي منى هو مراد عائشة وابن عباس رضي الله عنهم، وقال البخاريّ رحمه الله -في "صحيحه" بعد أن ذكر هذا الحديث الذي علّقه بصيغة الجزم- ما نصه: ويُذكَر عن أبي حسان، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت أيام منى. انتهى.
قال الحافظ رحمه الله: فكأن البخاريّ عَقَّب هذا بطريق أبي حسان؛ ليجمع بين الأحاديث بذلك، فيُحْمَل حديث جابر وابن عمر رضي الله عنهم على اليوم الأول،
وحديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا على بقية الأيام، وهذا الجمع مال إليه النوويّ.
ومنها: أن الطواف الذي طافه النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلًا طواف الوداع، فنشأ الغلط من بعض الرواة، في تسميته بالزيارة، ومعلوم أن طواف الوداع كان ليلًا، فقد روى البخاريّ في "صحيحه" بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رَقَدَ رَقْدةً بالمحصب، ثم ركب إلى البيت، فطاف به"، وهو واضح في أنه صلى الله عليه وسلم طاف طواف الوداع ليلًا، وإلى هذا الجمع مال ابن القيم.
قال الجامع عفا الله عنه: وهو الذي أميل إليه، وأراه أَوْجَهَ الجمع، ولو فُرِض أن أوجه الجمع غير مقنعة، فأحاديث جابر وعائشة وابن عمر صلى الله عليه وسلم:"أنه صلى الله عليه وسلم طاف طواف الزيارة نهارًا" أصح مما عارضها، فيجب تقديمها عليه
(1)
، والله تعالى أعلم.
(قَالَ نَافِعٌ) رحمه الله (فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما (يُفِيضُ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَرْجِعُ، فَيُصَلِّي الظُّهْرَ بِمِنًى) اقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، كما أشار إليه بقوله:(وَيَذْكُرُ) بالبناء للفاعل، أي يذكر ابن عمر رضي الله عنهما (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَهُ) أي فينبغي الاقتداء به في ذلك، فيستحب للحاج أن يرتب هذه الأفعال كما رتّبها النبيّ صلى الله عليه وسلم في يوم النحر، فيرمي أوّلًا، ثم يذبح هديه، ثم يحلق، ثم يطوف للإفاضة، ثم يرجع إلى منى، فيصلّي الظهر بها، فهذا هو الأحسن والأولى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [55/ 3166](1308)، و (أبو داود) في "المناسك"(1998)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 460)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 34)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2941)، و (ابن حبّان) في
(1)
راجع: "المرعاة" 9/ 264، 265.
"صحيحه"(3882 و 3883)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(486)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 475)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 318)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 386)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 144) و"الصغرى"(4/ 257) و"المعرفة"(4/ 125)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): إثبات طواف الإفاضة في الحجّ، وقد أجمع العلماء على أن هذا الطواف، وهو طواف ركن من أركان الحجّ، لا يصح الحجّ إلا به.
2 -
(ومنها): بيان استحباب فعل طواف الإفاضة يوم النحر، وأول النهار، واتفق العلماء على أنه يستحب فعله يوم النحر بعد الرمي، والنحر، والحلق، فإن أخّره عنه، وفعله في أيام التشريق أجزأه، ولا دم عليه بالإجماع، فإن أخّره إلى ما بعد أيام التشريق، وأتى به بعدها أجزأه، ولا شيء عليه عند جمهور العلماء، وقال مالك، وأبو حنيفة: إذا تطاول لزمه معه دم
(1)
.
3 -
(ومنها): بيان شدّة حرص ابن عمر رضي الله عنهما في متابعة النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما يفعله، أو يتركه، وهكذا ينبغي للمسلم أن يكون حريصًا على اتّباعه صلى الله عليه وسلم، ولا سيّما فيما حثّ بالاتّباع فيه، كقوله صلى الله عليه وسلم:"لتأخذوا عني مناسككم"، وقوله صلى الله عليه وسلم:"صلّوا كما رأيتموني أصلي"، فقد ضمن الله تعالى الهداية والفلاح في اتّباعه صلى الله عليه وسلم، فقال الله تعالى:{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} ، وقال تعالى:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3167]
(1309) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الْأَزْرَقُ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ شَيْءٍ
(2)
عَقَلْتَهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَيْنَ صَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيةِ؟ قَالَ: بِمِنًى، قُلْتُ: فَأَيْنَ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ؟ قَالَ: بِالْأَبْطَحِ، ثُمَّ قَالَ: افْعَلْ مَا يَفْعَلُ أُمَرَاؤُكَ).
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 58.
(2)
وفي نسخة: "بشيء".
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الْأَزْرَقُ) هو: إسحاق بن يوسف بن مِرْداس الْمَخزوميّ الواسطيّ، ثقة [9](ت 195) وله (78) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 191.
3 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ) -بضم الراء، مصغّرًا- الأسديّ، أبو عبد الله المكيّ الطائفيّ، نزيل الكوفة، ثقة [4](ت 103) أو بعدها تقدم في "الجمعة" 15/ 2010.
5 -
(أنس بن مالك) بن النضر الصحابيّ الخادم الشهير رضي الله عنه، تقدّم قبل باب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيات المصنف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): ما قاله في "الفتح": ليس لعبد العزيز بن رُفيع، عن أنس رضي الله عنه في "الصحيحين" إلا هذا الحديث الواحد. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ) الأسديّ أنه (قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ) رضي الله عنه، وفي رواية البخاريّ من طريق أبي بكر بن عيّاش، عن عبد العزيز بن رُفيع قال: خرجت إلى منى يوم التروية، فلقيت أنسًا رضي الله عنه ذاهبًا على حمار، فقلت: أين صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا اليوم الظهر؟، قال: انظر حيث يصلي أمراؤك فصلّ.
(قُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ، عَقَلْتَهُ) أي أدركته، وفهمته، والجملة في محلّ جرّ
(1)
"الفتح" 4/ 593.
صفة لـ "شيء"(عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَيْنَ صَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيةِ؟) أي في أيّ مكان صلّاها في اليوم الثامن من ذي الحجة؟.
[تنبيه]: يوم التروية -بفتح التاء المثنّاة الفوقية، وسكون الراء، وكسر الواو، وتخفيف الياء- سُمي بذلك لأنهم كانوا يرْوُون فيها إبلهم، ويتروون بحمل الماء معهم من مكّة إلى عرفات؛ لأن تلك الأماكن لم تكن بها إذ ذاك آبار، ولا عيونٌ، وأما الآن فقد كثُرت جدًّا، واستغنوا عن حمل الماء، وقد رَوَى الفاكهيّ في "كتاب مكة" من طريق مجاهد، قال: قال عبد الله بن عمر: يا مجاهد إذا رأيت الماء بطريق مكة، ورأيت البناء يعلو أخاشبها، فخذ حِذْرك، وفي رواية: فاعلم أن الأمر قد أظلك.
وقيل في تسميته التروية أقوال أخرى شاذّةٌ، منها أن آدم عليه السلام رأى فيه حواء، واجتمع بها، ومنها أن إبراهيم عليه السلام رأى في ليلته أنه يذبح ابنه، فأصبح متفكرًا يتروى، ومنها أن جبريل عليه السلام أرى فيه إبراهيم عليه السلام مناسك الحج، ومنها أن الإمام يُعَلِّم الناس فيه مناسك الحج، ووجه شذوذها أنه لو كان من الأول لكان يوم الرؤية، أو الثاني لكان يوم التروِّي، بتشديد الواو، أو من الثالث لكان من الرؤيا، أو من الرابع لكان من الرواية، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال في "العمدة": ذكره الجوهريّ -يعني يوم التروية- في باب رَوِي معتلّ العين واللام، وذكر فيه موادّ كثيرة، ثم قال: وسمي يوم التروية؛ لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء لما بعدُ، ويكون أصله من رَوِيت من الماء بالكسر أَرْوَى رَيًّا ورِيًّا، ورِوًى، مثل رِضًى، وتكون التروية مصدرًا، من باب التفعيل، تقول: روّيته الماء ترويةً، وأما قول من قال: لأن آدم عليه السلام رأى فيه حوّاء، فغير صحيح من حيث الاشتقاق؛ لأن رأى الذي هو من الرؤية، مهموز العين، معتلّ اللام، نعم جاء من هذا الباب ترئية، وتريّة، ولم يجئ تروية، فالأول من قولك: رأت المرأة ترئية: إذا رأت الدم القليل عند الحيض، والثاني اسم الخرقة التي تعرف بها المرأة حيضها من طهرها، وأما بقية الأقوال، فكون أصلها من الرؤية غير مستبعد، ولكن لم يجئ لفظ التروية منها؛ لعدم المناسبة
(1)
"الفتح" 4/ 591، 592.
بينهما في الاشتقاق، وأما قول من قال: هو من الرواية، فبعيد جدًّا؛ لأنه لم يجئ تروية من هذا الباب؛ لعدم الاشتقاق بينهما. انتهى
(1)
.
(قَالَ) أنس رضي الله عنه (بِمِنًى) الباء بمعنى "في"، متعلّق بفعل مقدّر يدلّ عليه السؤال، أي صلّاها في "منى" (قُلْتُ: فَأَيْنَ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ؟) بفتح النون، وسكون الفاء، وتُفتح: وهو الرجوع من منى بعد انقضاء أعمال الحجّ، وللحجاج نَفْران: الأول: هو اليوم الثاني من أيام التشريق، والثاني: هو اليوم الثالث منها، وهو الثالث عشر من ذي الحجة، وهو المراد هنا؛ لأنه الذي نَفَرَ فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم في حجته (قَالَ: بِالْأَبْطَحِ) أي صلّاها فيه، وهو مكان متّسع بين مكة ومنى، والمراد به المحصّب (ثُمَّ قَالَ: افْعَلْ مَا يَفْعَلُ أُمَرَاؤُكَ) وفي رواية للبخاريّ: "فقال: انظر حيث يصلّي أمراؤك، فصلّ"، وإنما قال أنس رضي الله عنه ذلك؛ لأنه لما بيّن له المكان الذي صلى فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم الظهر يوم التروية، وهو منى، خَشِي عليه أن يَحرص على ذلك، فيُنسَبَ إلى المخالفة، أو تفوته الصلاة مع الجماعة، فقال له: صلّ مع الأمراء حيث يصلّون؛ لأن هذا ليس من النسك الواجبة، بل من مستحبّاتها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفق عليه.
[تنبيه]: قال الإمام الترمذيّ رحمه الله -بعد أن أخرج هذا الحديث-: ما نصّه: صحيح يُستغرب من حديث إسحاق الأزرق، عن الثوريّ، قال الحافظ رحمه الله: يعني أن إسحاق تفرد به، وأظن أن لهذه النكتة أردفه البخاريّ بطريق أبي بكر بن عياش، عن عبد العزيز، ورواية أبي بكر، وإن كان قَصَّرَ فيها كما سنوضحه
(2)
، لكنها متابعة قويّة لطريق إسحاق.
قال: وقد وجدنا له شواهد، منها ما وقع في حديث جابر الطويل في
(1)
"عمدة القاري" 8/ 149، 150.
(2)
سيأتي توضيحه في التنبيه التالي، فتنبّه.
صفة الحج عند مسلم: "فلما كان يومُ التروية توجهوا إلى منى، فأهلّوا بالحج، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى بها الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر
…
" الحديث، وروى أبو داود، والترمذيّ، وأحمد، والحاكم، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بمنى خمس صلوات"، وله عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان يحب إذا استطاع أن يصلي الظهر بمنى يوم التروية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمنى، وحديث ابن عمر في "الموطإ" عن نافع عنه موقوفًا، ولابن خزيمة، والحاكم من طريق القاسم بن محمد، عن عبد الله بن الزبير قال: من سنة الحج أن يصلي الإمام الظهر، وما بعدها، والفجر بمنى، ثم يَغْدُون إلى عرفة. انتهى
(1)
.
[تنبيه آخر]: رواية أبي بكر بن عيّاش المذكورة أخرجها البخاريّ رحمه الله، فقال:
(1654)
- حدّثنا عليّ
(2)
، سمع أبا بكر بن عياش، حدّثنا عبد العزيز، لقيت أنسًا (ح) وحدّثني إسماعيل بن أبان، حدّثنا أبو بكر
(3)
، عن عبد العزيز، قال: خرجت إلى منى يوم التروية، فلقيت أنسًا رضي الله عنه ذاهبًا على حمار، فقلت:"أين صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا اليوم الظهر؟ فقال: انظر حيث يصلي أمراؤك، فَصَلّ". انتهى.
قال في "الفتح": قوله: "انظر حيث يصلي أمراؤك، فَصَلِّ" هذا فيه اختصار، توضحه رواية سفيان، وذلك أنه في رواية سفيان بَيَّن له المكان الذي صلى فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم الظهر يوم التروية، وهو منى، كما تقدم، ثم خَشِيَ عليه أن يَحْرِص على ذلك، فيُنسَب إلى المخالفة، أو تفوته الصلاة مع الجماعة، فقال له: صَلِّ مع الأمراء، حيث يصلّون.
قال: ولما خلت رواية أبي بكر بن عياش عن القدر المرفوع، وقع في بعض الطرق عنه وَهَمٌ، فرواه الإسماعيليّ من رواية عبد الحميد بن بيان عنه،
(1)
"الفتح" 4/ 592.
(2)
قال الحافظ رحمه الله: الذي يظهر لي أنه ابن المدينيّ.
(3)
هو ابن عيّاش.
بلفظ: "أين صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم الظهر هذا اليوم؟ قال: صَلَّى حيث يصلي أمراؤك"، قال الإسماعيليّ: قوله: صَلَّى غلط. قال الحافظ: وَيحْتَمِل أن يكون كانت صَلِّ بصيغة الأمر، كغيرها من الروايات، فأَشبع الناسخ اللام، فكتب بعدها ياء، فقرأها الراوي بفتح اللام.
وأغرب الحميديّ في "جمعه" فحذف لفظ: "فصَلِّ" من آخر رواية أبي بكر بن عياش، فصار ظاهره أن أنسًا أخبر أنه صلى حيث يصلي الأمراء، وليس كذلك، فهذا بعينه الذي أطلق الإسماعيليّ أنه غلط.
وقال أبو مسعود في "الأطراف": جَوَّد إسحاق، عن سفيان هذا الحديث، ولم يُجَوِّده أبو بكر بن عياش.
قال الحافظ: وهو كما قال، وقد قدّمتُ عذر البخاريّ في تخريجه، وأنه أراد به دفع من يتوقف في تصحيحه؛ لتفرد إسحاق به، عن سفيان.
قال: ووقع في رواية عبد الله بن محمد في هذا الباب زيادة لفظة، لم يتابعه عليها سائر الرواة، عن إسحاق، وهي قوله:"أين صلى الظهر والعصر"، فإن لفظ "العصر" لم يذكره غيره، فسيأتي في أواخر صفة الحجّ، عن أبي موسى، محمد بن المثنى عند البخاريّ، وكذا أخرجه ابن خزيمة، عن أبي موسى، وأخرجه أحمد في "مسنده"، عن إسحاق نفسه، وأخرجه مسلم عن زهير بن حرب، وأبو داود، عن أحمد بن إبراهيم، والترمذيّ، عن أحمد بن مُنِيع، ومحمد بن وزير، والنسائيّ، عن محمد بن إسماعيل ابن علية، وعبد الرحمن بن محمد بن سلّام، والدارميّ، عن أحمد بن حنبل، ومحمد بن أحمد، وأبو عوانة في "صحيحه"، عن سعدان بن يزيد، وابنُ الجارود في "المنتقى" عن محمد بن وزير، وسَمُّويه في "فوائده" عن محمد بن بشار بندار، وأخرجه ابن المنذر، والإسماعيليّ من طريق بندار، زاد الإسماعيليّ: وزهير بن حرب، وعبد الحميد بن بيان، وأحمد بن منيع كلّهم، وهم اثنا عشر نفسًا عن إسحاق الأزرق، ولم يقل أحد منهم في روايته:"والعصرَ".
وادَّعَى الداوديّ أن ذكر العصر هنا وَهَمٌ، وإنما ذكر العصر في النَّفْر.
وتُعُقِّب بأن العصر مذكور في هذه الرواية في الموضعين، وقد تقدم التصريح في حديث جابر عند مسلم، بأنه صلى الظهر والعصر، وما بعد ذلك
إلى صبح يوم عرفة بمنى، فالزيادة في نفس الأمر صحيحة، إلا أن عبد الله بن محمد تفرد بذكرها، عن إسحاق، دون بقية أصحابه. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
، وهو بحثٌ مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [55/ 3167](1309)، والبيخاريّ) في "الحجّ"(1653 و 1654 و 1756 و 1763)، و (أبو داود) في "المناسك"(1912)، و (الترمذيّ) في "الحجّ"(964)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(5/ 249) و" الكبرى"(2/ 418)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 100)، و (الدارميّ) في "سننه"(1872)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(958 و 2796)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 369)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 378)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(7/ 107)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 131)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 112)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان المكان الذي يصلي فيه الحجاج الظهر يوم التروية، وهو منى، فيستحبّ إقامة الظهر يوم التروية بمنى، بل يصلي فيه الصلوات الخمس؛ لأنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى منى، فصلى خمس صلوات، وذكر أبو سعيد النيسابوريّ في "كتاب شرف المصطفى" أن خروجه صلى الله عليه وسلم يوم التروية كان ضحى، وفي "سيرة الملا" أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى منى بعدما زاغت الشمس، وفي "شرح الموطا" لأبي عبد الله القرطبيّ: خرج صلى الله عليه وسلم إلى منى عشيّة يوم التروية.
2 -
(ومنها): بيان شدّة اهتمام السلف رضي الله عنهم في السؤال عن سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يعملوا بها، كما حثّ الله عز وجل على ذلك بقوله:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} .
3 -
(ومنها): الإشارة إلى متابعة أُولي الأمر، والاحتراز عن مخالفة الجماعة، لأن أنسًا رضي الله عنه قال:"صلّ حيث يصلي أمراؤك"، قال في "الفتح": وفيه إشعار بأن الأمراء إذ ذاك كانوا لا يواظبون على صلاة الظهر ذلك اليوم
(1)
"الفتح" 4/ 592، 593.
بمكان معين، فأشار أنس إلى أن الذي يفعلونه جائز، وإن كان الاتباع أفضل. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في صلاة الظهر بمنى يوم التروية:
قال في "الفتح": وفي الحديث أن السنة أن يصلّي الحاجّ الظهر يوم التروية بمنى، وهو قول الجمهور، وروى الثوريّ في "جامعه" عن عمرو بن دينار، قال: رأيت ابن الزبير صلّى الظهر يوم التروية بمكة، وقد روى القاسم عنه أن السنّة أن يصليها بمنى، فلعله فعل ما نقله عمرو عنه للضرورة، أو لبيان الجواز، وروى ابن المنذر من طريق ابن عباس رضي الله عنهما، قال:"إذا زاغت الشمس، فليرح إلى منى".
قال ابن المنذر في حديث ابن الزبير: إن من السنة أن يصلي الإمام الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والصبح بمنى، قال به علماء الأمصار، قال: ولا أحفظ عن أحد من أهل العلم أنه أوجب على من تخلّف عن منى ليلة التاسع شيئًا.
ثم روى عن عائشة رضي الله عنها أنها لم تخرج من مكّة يوم التروية حتى دخل الليل، وذهب ثلثه، قال ابن المنذر: والخروج إلى منى في كلّ وقت مباح، إلا أن الحسن، وعطاء، قالا: لا بأس أن يتقدّم الحاجّ إلى منى قبل يوم التروية بيوم، أو يومين، وكرهه مالك، وكره الإقامة بمكة يوم التروية حتى يمسي، إلا إن أدركه وقت الجمعة، فعليه أن يصلّيها قبل أن يخرج. انتهى ما في "الفتح"
(2)
.
وقال في "العمدة" نقلًا عن النوويّ رحمه الله: ويكون خروجهم بعد صلاة الصبح بمكة حتى يُصَلُّوا الظهر في أول وقتها، هذا هو الصحيح المشهور من منصوص الشافعيّ، وفيه قول ضعيف أنهم يصلّون الظهر بمكة، ثم يخرجون، وقال المهلّب: الناس في سعة من هذا، يخرجون متى أحبّوا، ويصلّون حيث أمكنهم، ولذلك قال أنس:"صلّ حيث يصلي أمراؤك"، والمستحبّ في ذلك
(1)
"الفتح" 4/ 592.
(2)
"الفتح" 4/ 594.
ما فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم: "صلى الظهر والعصر بمنى"، وهو قول مالك، والثوريّ، وأبي حنيفة، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور.
وقال ابن حبيب: إذا مالت الشمس يطوف بالبيت سبعًا، ويركع، ويخرج، وإن خرج قبل ذلك فلا حرج، وعادة أهل مكة أن يخرجوا إلى منى بعد صلاة العشاء، وكانت عائشة رضي الله عنها تخرج ثلث الليل، وهذا يدلّ على التوسعة، وكذلك ترك المبيت بمنى ليلة عرفة ليس فيه حرج، إذا وافى عرفة ذلك الوقت الذي يخيّر، وليس فيه جبر كما يجبر ترك المبيت بها بعد الوقوف، أيام رمي الجمار، وبه قال أبو حنيفة، والشافعيّ، وأبو ثور. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: التي تؤيّده الأدلة الصحيحة استحباب الصلوات الخمس في منى من ظهر يوم التروية إلى فجر عرفة، ففي حديث جابر رضي الله عنه الطويل الذي تقدّم للمصنّف: "فلما كان يوم التروية توجّهوا إلى منى، فأهلّوا بالحجّ، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلّى بها الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر
…
" الحديث.
وروى أبو داود، والترمذيّ، وأحمد، والحاكم، من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال:"صلّى النبيّ صلى الله عليه وسلم الظهر يوم التروية، والفجر يوم عرفة بمنى"، ولأحمد من حديثه:"صلّى النبيّ صلى الله عليه وسلم بمنى خمس صلوات"، ولابن خزيمة، والحاكم من طريق القاسم بن محمد، عن عبد الله بن الزبير، قال:"من سنة الحجّ أن يصلّي الإمام الظهر وما بعدها، والفجر بمنى، ثم يغدون إلى عرفة".
فلا ينبغي للحاجّ أن يُهمل هذه السنة، فيتأخّرَ بمكة، وكذا لا ينبغي له أن يتقدّم قبل يوم التروية بيوم أو يومين، إذ هو مخالف للسنّة التي حثّ عليها النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث قال:"خذوا عني مناسككم"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"عمدة القاري" 8/ 151.
(56) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ النُّزُولِ بِالْمُحَصَّبِ يَوْمَ النَّفْرِ، وَالصَّلَاةِ بِهِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3168]
(1315) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، كَانُوا يَنْزِلُونَ الْأَبْطَحَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الرَّازِيُّ) أبو جعفر الجمّال، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 239) أو قبلها (خ م د) تقدم في "الإيمان" 26/ 212.
2 -
(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة السختيانيّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في البابين الماضيين.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبَا بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه (وَعُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنه (كَانُوا يَنْزِلُونَ الْأَبْطَحَ) هو الوادي المبطوح بالبطحاء، قال في "اللسان": الأبطح: مَسِيل واسع فيه دُقَاق الحصى، وقيل: بطحاءُ الوادي ترابٌ ليِّنٌ مما جرّته السيولُ، والجمع بطحاوات، وبِطاحٌ، وقال أيضًا: البطحاءُ هو الحصى الصغار، وقال ابن الأثير: بطحاء الوادي، وأبطحه: حصاه الليّن في بطن المسيل. انتهى
(1)
.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وسيأتي بيان مسائله في الحديث التالي -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"لسان العرب" 2/ 413.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3169]
(
…
) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا صَخْرُ بْنُ جُويرِيَةَ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَرَى التَّحْصِيبَ سُنَّةً، وَكَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ يَوْمَ النَّفْرِ بِالْحَصْبَةِ، قَالَ نَافِعٌ: قَدْ حَصَّبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ) تقدّم قبل باب.
2 -
(رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ) بن العلاء بن حسّان القيسيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، له تصانيف [9](ت 5 أو 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 476.
3 -
(صَخْرُ بْنُ جُوَيْريَةَ)، أبو نافع، مولى بني تميم، ويقال: مولى بني هلال، قال أحمد: ثقةٌ ثقةٌ، وقال القطّان: ذهب كتابه، ثم وجده، فتُكُلّم فيه لذلك [7].
رَوَى عن أبي رجاء العُطَارديّ، وعائشة بنت سعد، ونافع مولى ابن عمر، وهشام بن عروة، وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر، وغيرهم.
وروى عنه أيوب السختيانيّ، وهو أكبر منه، وأبو عمرو بن العلاء، وهو من أقرانه، وحماد بن زيد، وبشر بن المفضَّل، ويحيى القطان، وابن عُلَيّة، وابن مهديّ وغيرهم.
قال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: شيخٌ ثقةٌ ثقةٌ، وقال ابن سعد: كان مولى لبني تميم، وكان ثقةً ثبتًا، وقال عفانّ: كان أثبت في الحديث، وأعرف به من جويرية بن أسماء، وقال أبو زرعة، وأبو حاتم: لا بأس به، وقال أبو داود: تُكلِّم فيه، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وقال الذُّهليّ: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: صالح، وذكر ابن أبي خيثمة في "تاريخه"، قال: رأيت في كتاب عليّ: قال يحيى بن سعيد: ذهب كتاب صخر، فبُعِث إليه من المدينة، وفيه أيضًا: سمعت ابن معين يقول: صخر بن جويرية ليس حديثه بالمتروك، إنما يُتَكَّلم فيه لأنه يقال: إن كتابه سقط. انتهى.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط برقم (1310) و (1735) و (2124) و (2271) و (3003).
والباقيان ذُكرا قبله.
شرح الحديث:
(عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ) رضي الله عنهما (كَانَ يَرَى التَّحْصِيبَ سُنَّةً) أي يعتقد النزول بالْمُحصّب من سنن الحجّ، قال المجد رحمه الله: التحصيب: النوم بالْمُحصّب: الشِّعْب الذي مخرجه إلى الأبطح ساعةً من الليل، أو الْمُحصّب موضع رمي الجمار بمنًى. انتهى
(1)
. (وَكَانَ) ابن عمر رضي الله عنهما (يُصَلِّي الظُّهْرَ) أي والعصر، والمغرب، والعشاء، كما في الرواية الأخرى، ففي رواية البخاريّ من طريق خالد بن الحارث الْهُجيميّ، عن عبيد الله، عن نافع: أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يصلي بها -يعني المحصّب- الظهر والعصر -أحسبه قال: والمغرب، قال خالد: لا أشك في العشاء- ويهجع هجعةً، ويذكر ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقد أخرجه الإسماعيليّ بدون شكّ من طريق سفيان بن عيينة، عن أيوب، وعن عبيد الله بن عمر جميعًا عن نافع:"أن ابن عمر كان يصلي بالأبطح الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، ثم يَهْجع هَجْعةً".
وأخرج البخاريّ عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: أنه صلى الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، ورَقَد رقدة بالمحصّب، ثم ركب إلى البيت، فطاف به.
قال الجامع عفا الله عنه: قد دلّ حديثا ابن عمر، وأنس رضي الله عنهم المذكوران على أنه يستحبّ للحاج أن يصلي بالمحصّب الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، ويبيت به بعض الليالي، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقوله: (يَوْمَ النَّفْرِ) متعلّق بـ"يصلي"، وهو بفتح النون، وسكون الفاء، قال الفيّوميّ رحمه الله: نفر الحاجّ من منى -أي من بابي ضرب، وقعد- دَفَعُوا،
(1)
"القاموس المحيط" 1/ 55.
وللحاجّ نَفْران، فالأول هو اليوم الثاني من أيّام التشريق، والنَّفْرُ الثاني هو اليوم الثالث منها. انتهى
(1)
. (بِالْحَصْبَةِ) متعلّق بـ "يُصلّي"، وهو بفتح الحاء، وسكون الصاد المهملتين: هي المحصّب، قال النوويّ رحمه الله: الْمُحَصَّب -بفتح الحاء والصاد المهملتين- والحصبة -بفتح الحاء، وإسكان الصاد- والأبطح، والبطحاء، وخَيف بني كنانة اسم لشيء واحد، وأصل الخيف: كل ما انحدر عن الجبل، وارتفع عن المسيل. انتهى
(2)
.
(قَالَ نَافِعٌ: قَدْ حَصَّبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي نزل المحصّب (وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ) هذه الرواية ظاهرة في أن قوله: "حصّب رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
إلخ"، مرسل، ورواية أيوب السابقة صريحة في كونه متّصلًا؛ لأنه قال: "عن ابن عمر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم
…
إلخ"، وقد أخرج البخاريّ الرواية المرسلة من طريق خالد بن الحارث، فقال: "حدّثنا عبد الله بن عبد الوهّاب، حدّثنا خالد بن الحارث، قال: سُئل عبيد الله عن المحصّب، فحدّثنا عبيد الله عن نافع، قال: نزل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمر، وابن عمر رضي الله عنهما". انتهى.
قال في "الفتح": قوله: "نزل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
إلخ" هو عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلٌ، وعن عمر منقطع، وعن ابن عمر موصولٌ، وَيحْتَمِل أن يكون نافع سمع ذلك من ابن عمر، فيكون الجميع موصولًا. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [56/ 3168 و 3169](1310)، و (الترمذيّ) في "الحجّ"(921)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(3069)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 89 و 138)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2990 و 2993)، و (أبو نعيم)
(1)
"المصباح المنير" 2/ 617.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 59.
(3)
"الفتح" 4/ 727.
في "مستخرجه"(3/ 387)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 160)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في المراد بالأبطح، والمحصّب في هذه الروايات: قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله في "شرح التقريب": "الأبطح": هو الوادي المبطوح بالبطحاء، و"الْمُحَصَّب" -بضم الميم، وفتح الحاء المهملة، والصاد المهملة المشددة- الذي فيه الحصباء، والبطحاء، والحصباء بمعنى واحد: الحصى الصغار، والمراد به هنا موضع مخصوص، وهو مكان مُتَّسِعٌ بين مكة ومنى، وهو إلى منى أقرب، وهو اسم لما بين الجبلين إلى المقبرة، قال القاضي عياض: وحدّه: من الحجون، ذاهبًا إلى منى، وزعم الدراورديّ أنه ذو طوى، ولم يقل شيئًا.
قال النوويّ: المحصَّب -بفتح الحاء والصاد المهملتين- والحصبة -بفتح الحاء، وإسكان الصاد- والأبطح، والبطحاء، وخَيف بني كنانة اسم لشيء واحد، وأصل الخيف كل ما انحدر عن الجبل، وارتفع عن المسيل.
وذكر ابن عبد البر أن الأبطح المذكور في حديث ابن عمر، وفي حديث عائشة هذا، وفي حديث أبي رافع الآتي ذكره غير المحصَّب، والبطحاء، وخَيف بني كنانة المذكور في حديث أبي هريرة الآتي ذكره، وأن المراد بالأول البطحاء التي بذي الحليفة، قال: وهذه البطحاء هي المعروفة عند أهل المدينة وغيرهم بالْمُعَرَّس. انتهى.
وهو مردود، والصواب ما ذكره النوويّ، من أن هذه المذكورات كلَّها عبارة عن شيء واحد، وَيرُدُّ ما ذكره ابن عبد البر أن لفظ حديث أبي رافع عند مسلم:"لم يأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنزل الأبطح حين خرج من منى، ولكن جئت، فضربت قبته، فجاء، فنزل"، فهذا صريح في أن المراد بالأبطح المكان الذي عند منى.
قال وليّ الدين: إذا تقرر أن الأبطح هو المحصَّب الذي عند منى، فكون عائشة رضي الله عنها لم تكن تنزله عند النَّفْر يَحْتَمِل أن يكون لاعتقادها أنه ليس من المناسك، وإن كان سنةً مستقلةً، وَيحْتَمِل أنه لاعتقادها أنه ليس مستحبًّا أصلًا،
وحينئذ فنزول النبيّ صلى الله عليه وسلم به يَحْتَمِل أن يكون جرى اتفاقًا لا عن قصد، كغيره من منازل الحجّ، ويَحْتَمِل أنه مقصود، لكن لمصلحة دنيوية، ويؤيد الاحتمال الأول حديث أبي رافع المتقدم، فإنه ذكر فيه أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمره بذلك، ويؤيد الاحتمال الثاني قول عائشة رضي الله عنها إنه صلى الله عليه وسلم إنما نزله؛ لكونه أسمح لخروجه، فدلّ على أنه قصد ذلك لهذا المعنى، لا لكونه قربة، ويدلّ على أن النزول فيه كان بالقصد حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه، وهو في "الصحيحين" قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد يومَ النحر، وهو بمنى:"نحن نازلون غدًا بخيف كنانة، حيث تقاسموا على الكفر"، وفي "صحيح البخاريّ" أيضًا عن أسامة بن زيد، قال: قلت: يا رسول الله أين تنزل؟ وذلك في حجته، قال:"وهل تَرَكَ لنا عَقِيل منزلًا؟ نحن نازلون غدًا بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر"، يعني بذلك المحصَّب. وحينئذ فنحتاج إلى الجواب عن حديث أبي رافع.
وقد يجاب عنه بأنه إنما نَفَى أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم له بذلك، ولعله بلغه كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو سمع كلامه، ففعل ذلك بغير أمره، أو وُفِّق لما أراده النبيّ صلى الله عليه وسلم من غير أن يأمره به، وأيضًا، فإنه إنما نَفَى أمره بذلك حين خروجه من منى، فلعله أمره بذلك في وقت آخر، وهذا بعيد.
[فإن قلت]: ففي رواية أخرى للبخاريّ من حديث أبي هريرة: "منزلنا - إن شاء الله- إذا فتح الله الخيفُ، حيث تقاسموا على الكفر"، وهذه تدلّ على أنه قاله في الفتح، وذكر البخاريّ في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا أن ذلك كان حين أراد النبيّ صلى الله عليه وسلم حنينًا، فهذه تقتضي أن المراد نصره في حنين، لا في الفتح، وفي رواية للبخاريّ في حديث أسامة رضي الله عنه:"منزلنا -إن شاء الله- إذا فتح الله الخيفُ".
[قلت]: قد جَمَع بينها المحبّ الطبريّ رحمه الله بأن ذلك جرى منه صلى الله عليه وسلم مرّات، فقال: تكرر منه هذا القول في استقبال فتح مكة، وهو أول أوقات غلبة دين الله تعالى على الكفر، وتنكيس رأس الكفر بها، ثم قاله حين أراد غزو هوازن بحنين، ثم قاله في حجة الوداع، وقال ذلك في الأوقات المذكورة؛ شكرًا لله تعالى، وإظهارًا للدين، وحكم الإسلام، حيث تقاسموا على الكفر، وحيث أظهروا الكفر. انتهى.
ومعنى قوله: "حيث تقاسموا على الكفر": تحالفوا، وتعاهدوا عليه، وهو تحالفهم على إخراج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبني هاشم، وبني المطلب من مكة إلى هذا الشعب، وهو خيف بني كنانة، وكتبوا بينهم الصحيفة المشهورة، وكتبوا أنواعًا من الباطل، وقطيعة الرحم والكفر، فأرسل الله تعالى عليها الأَرَضَة فأكلت كل ما فيها من كفر، وقطيعة رحم وباطل، وتركت ما فيها من ذكر الله تعالى، فأخبر جبرائيل عليه السلام النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، فأخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب، فجاء إليهم أبو طالب، فأخبرهم عنه صلى الله عليه وسلم بذلك، فوجدوه كما أخبر، والقصة مشهورة، وهذا يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم فعل النزول هناك قصدًا؛ لهذه المصلحة الدينية، وهو الشكر لله تعالى على إظهار الدين، ودحض الكفر، وإعلاء كلمة الله تعالى، وإتمام نعمته على المسلمين، وقد تقدم كلام المحبّ الطبريّ في ذلك، وقال النوويّ: قال بعض العلماء: كان نزوله صلى الله عليه وسلم هناك شكرًا لله تعالى على الظهور بعد الاختفاء، وعلى إظهار دين الله تعالى. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله
(1)
، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من ذكر الأقوال، وأدلّتها في هذه المسألة أن الأرجح القول بأن نزوله صلى الله عليه وسلم بالمحصّب كان قصدًا؛ شكرًا لله تعالى، فينبغي للحجاج نزوله؛ اقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وحرصًا على اتّباع السنّة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم النزول بالمحصّب: قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: ذهب أكثر العلماء إلى أنه يستحب للحاجّ إذا فرغ من الرمي، ونَفَر من منى أن يأتي المحصَّب، وينزل به، ويصلي به الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ويبيت به ليلة الرابع عشر، وفي "صحيح البخاريّ" وغيره، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رَقَدَ رَقْدَة بالمحصَّب، ثم ركب إلى البيت، فطاف به، وفي "صحيح مسلم"، عن نافع، أن ابن عمر كان يرى التحصيب سنةً، وكان يصلي الظهر يوم النفر بالحصبة، قال نافع: قد حصب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخلفاء
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 5/ 175 - 177.
بعده، وفي "صحيح البخاريّ" من رواية خالد بن الحارث، قال: سئل عبيد الله، عن المحصَّب، فحدّثنا عن نافع، قال: نزل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمر وابن عمر، وعن نافع، أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يصلي بها -يعني المحصب- الظهر والعصر، أحسبه قال: والمغرب، قال خالد: لا أشك في العشاء، ويَهْجَعُ هَجْعَةً، ويَذْكُر ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قالوا: ولو تَرَكَ النزول به فلا شيء عليه، ولا يؤثِّر في نسكه؛ لأنه سنة مستقلة، ليس من سنن الحجّ، قال: وما ذكرته من استحباب النزول به، هو قول الأئمة الأربعة، وتقدم من "صحيح مسلم" عن أبي بكر وعمر وابنه، أنهم كانوا يفعلون ذلك، وإن كانت تلك الرواية مرسلةً؛ لأنها من رواية سالم، فقد روى مسلم أيضًا من رواية نافع، عن ابن عمر، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، كانوا ينزلون بالأبطح، ورواه الترمذيّ، وابن ماجه، وفيه زيادة ذكر عثمان، وفي "مصنف ابن أبي شيبة": أن عمر قال: يا آل خزيمة حَصِّبوا ليلة النفر، وعن الأسود أنه نزل بالأبطح، فسمع دعاءً، فنظر فإذا هو ابن عمر يرتحل، وعن سعيد بن جبير أنه لما نَفَر أتى الأبطح حين أقبل من منى.
وعن إبراهيم النخعيّ: إذا انتهى إلى الأبطح، فليضع رحله، ثم لِيَزُر البيت، وليضطجع فيه هُنَيهةً، ثم لينفر، وعن طاوس أنه كان يُحَصِّب في شِعْب الخَور.
وأنكر التحصيب جماعة من السلف، فروى الشيخان وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ليس التحصيب بشيء، إنما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي "مصنف ابن أبي شيبة" أنه كان لا ينزل الأبطح، وقال: إنما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه انتظر عائشة، وعن طاوس، وعطاء، ومجاهد، وعروة بن الزبير، وسعيد بن جبير، أنهم كانوا لا يُحَصِّبون، وعن مجاهد أيضًا أنه أنكره.
وقال ابن المنذر: كانت عائشة لا تُحَصِّب هي، ولا أسماء، وكان سعيد بن جبير يفعل ذلك، ثم تركه.
وقال النوويّ: كان أبو بكر وعمر وابن عمر، والخلفاء رضي الله عنهم يفعلونه، وكانت عائشة، وابن عباس لا يقولان به، ويقولان: هو منزل اتفاقيّ، لا مقصودٌ، فحصل خلاف بين الصحابة رضي الله عنهم، ومذهب مالك، والشافعيّ،
والجمهور استحبابه، وأجمعوا على أن من تركه لا شيء عليه. انتهى.
لكنه في "شرح المهذَّب" حَكَى عن القاضي عياض، أنه قال: النزول بالمحصَّب مستحب عند جميع العلماء، وهو عند الحجازيين آكد منه عند الكوفيين، وأجمعوا على أنه ليس بواجب. انتهى، ولم يعترضه في نقل الاتفاق، وأخذ ذلك منه الحافظ زكيّ الدين عبد العظيم، فقال: وهو مستحب عند جميع العلماء، قال الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ": وفيما قاله نظرٌ؛ فإن الترمذيّ حَكَى استحبابه عن بعض أهل العلم، ثم حَكَى كلام النوويّ المتقدم، ثم قال: وهذا هو الصواب.
وقال ابن عبد البرّ في "الاستذكار": هو عند مالك، وجماعة من أهل العلم مستحبّ، إلا أنه عند مالك والحجازيين آكد منه عند الكوفيين، والكل مجمع على أنه ليس من مناسك الحج، وأنه ليس على تاركه فدية ولا دم، والظاهر أن القاضي عياضًا إنما أخذ كلامه المتقدم من ابن عبد البرّ، وسقطت عليه لفظة:"مِنْ"، فبقي: وجماعة أهل العلم، والخلاف في ذلك موجود، على أن بعض العلماء أوَّل كلام من أنكره، على أنه أنكر كونه من المناسك، لا أصل استحبابه، فحَكَى الترمذيّ عن الشافعيّ أنه قال: نزول الأبطح ليس من النسك في شيء، إنما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال العراقيّ في "شرح الترمذيّ: قول ابن عباس: ليس التحصيب بشيء، أي ليس بشيء من المناسك، كما هو مُفَسَّر في كلام الشافعيّ، فقد وعدهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أن ينزل به، كما في حديث أبي هريرة، وأسامة رضي الله عنهما.
وقال ابن المنذر في كلام عائشة رضي الله عنها المتقدم: فدل قولها هذا على أن نزول المحصَّب ليس من المناسك، ولا شيء على من تركه، من فدية، ولا غيرها.
وحَكَى ابن عبد البرّ في الكلام عن حديث بطحاء ذي الحليفة عن بعض أهل العلم، أنه جعله من المناسك التي ينبغي للحاج نزولها، والمبيت فيها، وكلام صاحب "الهداية" من الحنفية يقتضي أنه من المناسك، فإنه صحح أن النزول به كان قصدًا أرى للمشركين لطيفَ صنع الله به، وقال: فصار سنةً، كالرمل في الطواف.
وحَكَى أبو عمرو ابن الحاجب عن مالك، أنه وَسَّعَ في النزول بالمحصَّب على من لا يقتدي به، وكان يفتي به سرًّا، فحصل من ذلك أربعة مذاهب: إنكاره، واستحبابه نسكًا، أو غير نسك، والفرق بين المقتدي به وغيره.
قال العراقيّ رحمه الله: إذا تقرر أن نزول المحصب لا تعلّق له بالمناسك، فهل لكل أحد أن ينزل فيه إذا مرّ به؟ يَحْتَمِل أن يقال باستحبابه مطلقًا، وَيحْتَمِل أن يقال باستحبابه للجمع الكثير، وإظهار العبادة فيه إظهارًا لشكر الله تعالى على رَدّ كيد الكفار، وإبطال ما أرادوه. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن القول باستحباب النزول بالمحصّب مطلقًا هو الأرجح؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين، وقد أسلفت تحقيقه في المسألة الماضية، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3170]
(1311) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَت: نُزُولُ الْأَبْطَحِ لَيْسَ بِسُنَّةٍ، إِنَّمَا نَزَلَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ كَانَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ إِذَا خَرَجَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.
2 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قبل بابين.
3 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
4 -
(هِشَامُ) بن عروة، تقدّم قريبًا.
5 -
(أَبُوهُ) عروة بن الزبير، تقدّم أيضًا قريبًا.
6 -
(عَائِشَةُ) بنت الصدّيق رضي الله عنهما، تقدّمت أيضًا قريبًا.
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 5/ 177.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهم؛ لاتحاد كفيّة الأخذ والأداء.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ، وأما أبو كريب، فمن التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من هشام، والباقون كوفيّون.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، عن خالته، وتابعيّ عن تابعيّ، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210)، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
عن هِشَام بن عروة (عَنْ أَبِيهِ) عروة بن الزبير (عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: نُزُولُ الْأَبْطَحِ) أي: عند النفر من منى، أي النزول فيه (لَيْسَ بِسُنَّةٍ) زاد في رواية أبي داود:"فمن شاء نزل، ومن شاء لم ينزل"، قال ابن المنذر رحمه الله: "ليس بسنّة: أي من أمر المناسك الذي يلزم فعله، وروى أحمد من طريق ابن أبي مليكة، عن عائشة، قالت: ثم ارتحل حتى نزل الحصبة، قالت: والله ما نزلها إلا من أجلي.
قال الجامع عفا الله عنه: قد أسلفت أن الحقّ أن التحصيب سنّة؛ اتِّباعًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين بعده، كما رواه مسلم في الباب.
وقد جمع في "الفتح" بين الآثار المختلفة في الباب، فقال -عند الكلام على حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما الآتي:"ليس التحصيب سنّة"-: من نفى أنه سنّة، كعائشة وابن عبّاس رضي الله عنهم أراد أنه ليس من المناسك، فلا يلزم بتركه شيء، ومن أثبته، كابن عمر- رضي الله عنهما أراد دخوله في عموم التأسّي بأفعاله صلى الله عليه وسلم، لا الإلزام بذلك. انتهى
(1)
.
(إِنَّمَا نَزَلَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ كَانَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ) أي: أسهل لمخرجه
(1)
"الفتح" 4/ 725.
إلى المدينة؛ ليجتمع الناس إليه مدّة مُقَامه، ثم يرحلوا لرحيله، فليس ذاك لقصد النسك حتى يكون سنة (إِذَا خَرَجَ) أي: إذا أراد الخروج متوجّهًا إلى المدينة؛ يستوي في ذلك البطيء والمعتدل ويكون مبيتهم، وقيامهم في السحر، ورحيلهم بأجمعهم إلى المدينة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [56/ 3170 و 3171 و 3172](1311)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1765)، و (أبو داود) في "المناسك"(2008)، و (الترمذيّ) في "الحجّ"(923)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 468)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(3067)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 41 و 190 و 207 و 230)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه، (2987 و 2988)، و (ابن حبّان) في "صحيحه" (208)، و (ابن راهويه) في "مسنده" (2/ 173 و 329 و 358)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه" (3/ 387 و 388)، و (البيهقيّ) في "الكبرى" (5/ 161)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل الى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3171]
(
…
) - (وَحَدَّثناه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ (ح) وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، يَعْنِي ابْنَ زيدٍ (ح) وَحَدَّثَنَاه أَبُو كَامِلٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ، كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ) سليمان بن داود الْعَتكيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.
3 -
(حَمَّادُ بْنُ زْيدٍ) تقدّم قريبًا.
4 -
(أَبُو كَامِلٍ) فضيل بن الحسين الْجَحْدريّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
5 -
(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) العيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
6 -
(حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ) أبو محمد البصريّ، مولى مَعْقل بن يسار، اختلف في اسم أبيه، فقيل: زائدة، وقيل: زيد، صدوقٌ [6](130)(ع) تقدم في "الصلاة" 11/ 889.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامٍ) يعني كلّ هؤلاء الثلاثة: حفص بن غياث، وحماد بن زيد، وحبيب المعلِّم.
[تنبيه]: رواية حفص بن غياث عن هشام، ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:
(3058)
- حدّثنا هنّاد بن السّريّ، حدّثنا ابن أبي زائدة، وعبدة، ووكيع، وأبو معاوية (ح) وحدّثنا عليّ بن محمد، حدّثنا وكيع، وأبو معاوية (ح) وحدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا حفص بن غياث، كلهم عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: إن نزول الأبطح ليس بسنة، إنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليكون أسمح لخروجه. انتهى.
وأما رواية حماد بن زيد، عن هشام، فساقها أبو نعيم رحمه الله، في "مستخرجه"
(1)
(3/ 388) فقال:
(3024)
- وثنا أبو محمد بن حيان، ثنا أبو يعلى، ثنا أبو الربيع، ثنا حماد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: إنما كان المحصب منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليكون أسمح لخروجه. انتهى.
وأما رواية حبيب المعلّم، عن هشام، فساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:
(846)
- حدّثنا محمد بن عبد الأعلى، حدّثنا يزيد بن زُريع، حدّثنا
(1)
ساقه بأسانيد متعدّدة، لكنه قال في آخره:"لفظ أبي الربيع"، يعني أن هذا اللفظ لفظ أبي الربيع الزهرانيّ، عن حماد بن زيد، ولذا اقتصرت عليه، فتنبّه.
حبيب المعلِّم، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: إنما نزل رسول الله الأبطح؛ لأنه كان أسمح لخروجه، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3172]
(
…
) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَابْنَ عُمَرَ كَانُوا يَنْزِلُونَ الْأَبْطَحَ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُ ذَلِكَ، وَقَالَتْ: إِنَّمَا نَزَلَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَنْزِلًا أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) تقدّم قبل باب.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام، تقدّم أيضًا قبل باب.
3 -
(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم أيضًا قبل باب.
4 -
(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم.
5 -
(سَالُمُ) بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكرا في هذا الباب، وقبله بباب.
وقوله: (قَالَ الزُّهْرِيُّ
…
إلخ) هو موصول بالسند السابق، وليس معلّقًا.
[تنبيه]: أثر سالم هذا منقطع بالنسبة لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ لأن الظاهر أنه لم يدرك القصّة، ومتّصل بالنسبة لابن عمر رضي الله عنهما؛ لأنه أدركها، والقاعدة أن من حكى قصّة، أو واقعة حضرها، فهو متّصل، وإن لم يحضرها فمنقطع، قال السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث":
وَكُلُّ مَنْ أَدْرَكَ مَا لَهُ رَوَى
…
مُتَّصِلٌ وَغَيْرُهُ قَطْعًا حَوَى
لكن تقدّم موصولًا من رواية نافع، عن ابن عمر:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر كانوا ينزلون الأبطح".
وأما رواية الزهريّ، عن عروة هنا، فمتّصلة مرفوعة، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3173]
(1312) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، وَاللَّفْظُ لِأَبِي بَكْرٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَيْسَ التَّحْصِيبُ بِشَيْءٍ، إِنَّمَا هُوَ مَنْزِلٌ نَزَلَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) ذُكر قبل حديث.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قريبًا.
3 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى العدنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قبل باب.
4 -
(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ) بن موسى الضبيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ [10](ت 245)(م 4) تقدم في "الإيمان" 1/ 103.
5 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم قبل باب.
6 -
(عَمْرُو) بن دينار المكيّ، تقدّم قريبًا.
7 -
(عَطَاءُ) بن أبي رباح، تقدّم أيضًا قريبًا.
8 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) البحر الحبر رضي الله عنهما، تقدّم قبل باب، وشرح الحديث تقدّم مستوفًى في شرح حديث عائشة رضي الله عنها.
وقول سفيان بن عيينة: (عَنْ عَمْرٍو) وفي رواية البخاريّ: "قال عمرٌو"، قال الدارقطنيّ: هذا الحديث سمعه سفيان من الحسن بن صالح، عن عمرو بن دينار، يعني أنه دَلّسه هنا عن عمرو.
وتُعُقِّب بأن الحميديّ أخرجه في "مسنده" عن سفيان، قال: حدّثنا عمرو، وكذلك أخرجه الإسماعيليّ من طريق أبي خيثمة، عن سفيان، فانتفت تُهْمَة تدليسه، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقوله: (لَيْسَ التَّحْصِيبُ بِشَيْءٍ) ظاهره أنه ليس بسنّة، لكن تقدّم أن بعض
(1)
"الفتح" 4/ 725.
العلماء أوّله بأنه أنكر كونه من المناسك، لا أصل استحبابه، فحَكَى الترمذيّ، عن الشافعيّ أنه قال: نزول الأبطح ليس من النسك في شيء، إنما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال العراقي في "شرح الترمذيّ": قول ابن عباس رضي الله عنهما: "ليس التحصيب بشيء": أي ليس بشيء من المناسك، كما هو مُفَسَّر في كلام الشافعيّ، فقد وَعَدَهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أن ينزل به، كما في حديث أبي هريرة وأسامة رضي الله عنهما، وقال ابن المنذر في كلام عائشة رضي الله عنها المتقدم: فدلّ قولها هذا على أن نزول المحصَّب ليس من المناسك، ولا شيء على من تركه من فدية، ولا غيرها، أفاده وليّ الدين رحمه الله في "شرح التقريب"
(1)
.
فال الجامع عفا الله عنه: قد عرفت فيما سبق أن الحقّ كون النزول بالمحصّب سنّة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نزله قصدًا، وكذا الخلفاء الراشدون، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [56/ 3173](1312)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1766)، و (الترمذيّ) في "الحجّ"(922)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4209)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 191)، و (الحميديّ) في "مسنده"(498)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 221 و 351 و 369)، و (الدارميّ) في "سننه"(1877)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2989)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3174]
(1313) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، جَمِيعًا عَن ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 5/ 179.
صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو رَافِعٍ: لَمْ يَأْمُرْنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَنْزِلَ الْأَبْطَحَ حِينَ خَرَجَ مِنْ مِنًى، وَلَكِنِّي جِئْتُ، فَضَرَبْتُ فِيهِ قُبَّتَهُ، فَجَاءَ فَنَزَلَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي رِوَايَتِهِ: عَنْ صَالِحٍ: قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، وَفِي رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ: قَالَ: عَنْ أَبِي رَافِعٍ، وَكَانَ عَلَى ثَقَلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ) تقدّم قبل باب.
4 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ) الهلاليّ المدنيّ، مولى ميمونة، وقيل: أم سلمة رضي الله عنهما، ثقةٌ فاضلٌ، أحد الفقهاء السبعة، من كبار [3] مات بعد المائة، وقيل: قبلها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 489.
5 -
(أَبُو رَافِعٍ) الْقِبطيّ مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، اسمه إبراهيم، وقيل: أسلم، أو ثابتٌ، أو هُرْمُز، مات رضي الله عنه في خلافة عليّ رضي الله عنه على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 22/ 187.
والباقيان ذُكرا قبله.
شرح الحديث:
(عَنْ سُلَيْمَانَ بْن يَسَارٍ) أنه (قَالَ: قَالَ أَبُو رَافِعٍ) رضي الله عنه (لَمْ يَأْمُرْنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَنْزِلَ الْأَبْطَحَ) أي: لأضرب له قبّته (حِينَ خَرَجَ مِنْ مِنًى) أي: إلى مكة يوم النفر الثاني (وَلَكِنِّي جِئْتُ) الأبطح (فَضَرَبْتُ فِيهِ قُبَّتَهُ) بضم القاف، وتشديد الموحّدة: هي من الخيام بيت صغير مستديرٌ، وهو من بيوت العرب، وقيل: هي البناء من الأَدَم خاصّة، مشتقّ من ذلك، والجمع قُبَبٌ وقِبَابٌ، قاله في "اللسان"
(1)
. (فَجَاءَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَنَزَلَ) ظاهر حديث أبي رافع رضي الله عنه هذا أنه ينفي سنيّة النزول بالمحصّب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما نزله دون قصد، بل لمّا وجد أبا رافع ضرب قبّته هناك نزلها.
(1)
راجع: "لسان العرب" 1/ 659.
وقد أجاد الحافظ رحمه الله حيث علّق على كلام أبي رافع هذا ما خلاصته: لكن لما نزله النبيّ صلى الله عليه وسلم كان النزول به مستحبًّا؛ اتّباعًا له صلى الله عليه وسلم لتقريره على ذلك، وقد فعله الخلفاء بعده، كما رواه مسلم. انتهى باختصار
(1)
.
وقوله: (قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ صَالِحٍ: قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ) قال النوويّ رحمه الله: كذا هو في معظم النسخ، ومعناه: أن الرواية الأولى، وهي رواية قتيبة وزهير قالا فيها:"عن ابن عيينة، عن صالح، عن سليمان"، وأما رواية أبي بكر، ففيها:"عن ابن عيينة، عن صالح، قال: سمعت سليمان"، وهذه الرواية أكمل من رواية "عن"؛ لأن السماع يُحتجّ به بالإجماع، وفي العنعنة خلاف ضعيفٌ، وإن كان قائلها غير مدلِّس، وقد سبقت المسألة.
قال: ووقع في بعض النسخ: "قال أبو بكر في رواية صالح"، وفي بعضها:"قال أبو بكر في رواية: عن صالح، قال: سمعت سليمان"، والصواب الرواية الأولى، وكذا نقلها القاضي عن رواية الجمهور، وقال: هي الصواب. انتهى
(2)
.
وقوله: (وَفِي رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ قَالَ: عَنْ أَبِي رَافِعٍ) يعني أنه وقع في رواية قتيبة، بلفظ:"قال: عن أبي رافع" بدل ما وقع في رواية الآخرين بلفظ: "قال: قال أبو رافع".
(وَكَانَ عَلَى ثَقَلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أي: كان أبو رافع رضي الله عنه خادمًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم، حافظًا لمتاعه، وهو -بفتح الثاء والقاف-: هو متاع المسافر، وما يَحْمِله على دوابه، ومنه قوله تعالى:{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} الآية [النحل: 7]، قاله النوويّ رحمه الله
(3)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: الثَّقَلُ: المتاع، والجمع أَثْقالٌ، مثلُ سبب وأسباب، قال الفارابيّ: الثَّقَلُ: متاع المسافر، وحَشَمُهُ. انتهى
(4)
.
وقال المجد رحمه الله: الثَّقَلٌ محرّكةً: متاع المسافر، وحَشَمُهُ، وكلُّ شيء نفيسٍ مصونٍ، ومنه الحديث:"إني تارك فيكم الثَّقَلَين: كتابَ الله، وعِتْرتي"
(5)
.
(1)
راجع: "الفتح" 4/ 725.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 60، 61.
(3)
"شرح النوويّ" 9/ 61.
(4)
"المصباح المنير" 1/ 83.
(5)
حديث صحيح، أخرجه الترمذيّ.
انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي رافع رضي الله عنه هذا من أفراد المصنف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [56/ 3174](1313)، و (أبو داود) في "المناسك"(2009)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2986)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 388)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3175]
(1314) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "نَنْزِلُ غَدًا إِنْ شَاءَ اللهُ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ، حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ مكثر [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.
2 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
والباقون تقدّموا قبل باب، وشرح الحديث ومسائله تأتي في الحديث التالي؛ وإنما أخّرتها إليه؛ لكونه أتمّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"القاموس المحيط" 3/ 342.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3176]
(
…
) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَني الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ بِمِنًى: "نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ، حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ"، وَذَلِكَ إِنَّ قُرَيْشًا، وَبَنِي كِنَانَةَ تَحَالَفَتْ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ، وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، أَنْ لَا يُنَاكِحُوهُمْ، وَلَا يُبَايِعُوهُمْ، حَتَّى يُسْلِمُوا إِلَيْهِمْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَعْني بِذَلِكَ الْمُحَصَّبَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(الْوَليدُ بْنُ مُسْلِم) القرشيّ مولاهم، أبو العبّاس الدمشقيّ، ثقة، كثير التدليس والتسوية [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.
2 -
(الْأَوْزَاعِيُّ) عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو، ثقةٌ ثبتٌ فقيه مشهور [7](ت 157)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
والباقون ذُكروا في الباب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من الزهريّ، وشيخه، نسائيّ، ثم بغداديّ، والباقيان شاميّان.
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث من أوله إلى آخره، فانتفى عنه تهمة تدليس الوليد.
5 -
(ومنها): أن فيه أبا سلمة مشهور بكنيته، والصحيح أنها اسمه، وقيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، وهو أحد المكثرين السبعة على بعض الأقوال.
6 -
(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.
شرح الحديث:
عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ بِمِنًى) جملة حاليّة، أي والحال أننا بمنى، وقوله:(نَحْنُ نَازِلُونَ) مقول "قال"(غَدًا) أي: في اليوم التالي، قال الفيّوميّ رحمه الله: الغد: اليوم الذي يأتي بعد يومك على أَثَرِهِ، ثم توسّعوا فيه حتى أُطلق على البعيد الْمُتَرَقَّب، وأصله غَدْوٌ، مثل فَلْسٍ، لكن حُذفت اللام، وجُعلت الدال حرف إعراب، قال الشاعر [من الرجز]:
لَا تَقْلُوَاهَا وَادْلُوَاهَا دَلْوَا
…
إِنَّ مَعَ الْيَوْمِ أَخَاهُ غَدْوَا
(1)
وفي الرواية الماضية: "نَنْزِلُ غَدًا إِنْ شَاءَ اللهُ"، فزاد المشيئة؛ تبرّكًا، وامتثالًا لقوله تعالى:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (بِخَيْفِ بَنِي كنَانَةَ) أي: في خيفهم، فالباء بمعنى "في"، والخيف -بفتح الخاء المعجمة، وسكون التحتانيّة، آخره فاء- هو ما انحدر من الجبل، وارتفع عن المسيل، و"كنانة" بكسر الكاف، وتخفيف النون الأولى، قاله في "العمدة"
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: والخيف ساكن الياء: ما ارتفع من الوادي قليلًا عن مسيل الماء، ومنه مسجد الخيف بمنى؛ لأنه بُني في خيف الجبل، والأصل مسجد خيف منى، فخُفّف بالحذف، ولا يكون خيفٌ إلا بين جبلين. انتهى
(3)
.
وفي رواية البخاريّ: "قال النبيّ صلى الله عليه وسلم من الغد يومَ النحر، وهو بمنى نحن نازلون
…
إلخ" وقوله: "يومَ النحر" منصوب على الظرفيّة، أي قال ذلك في غداة يوم النحر، قال الكرمانيّ رحمه الله:[فإن قلت]: النزول في المحصَّب هو في اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، لا في اليوم الثاني من العيد الذي هو الغد حقيقه.
[قلت]: تُجُوِّز عن الزمان المستقبل القريب بلفظ الغد، كما يُتَجَوَّز بالأمس عن الماضي. انتهى
(4)
.
(حَيْثُ تَقَاسَمُوا) أي: تحالفوا (عَلَى الْكُفْرِ) بالله تعالى، وبرسوله صلى الله عليه وسلم، قال النوويّ رحمه الله: ومعنى "تقاسموا على الكفر": تحالفوا، وتعاهدوا عليه،
(1)
"المصباح المنير" 2/ 443.
(2)
"عمدة القاري" 9/ 229.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 186.
(4)
راجع: "عمدة القاري" 9/ 229.
وهو تحالفهم على مقاطعة بني هاشم، وبني المطلب حتى يُسلموا لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك التحالف في خيف بني كنانة، وكتبوا بينهم الصحيفة المشهورة، وكتبوا فيها أنواعًا من الباطل، وقطيعة الرحم والكفر، فأرسل الله تعالى عليها الأَرَضَة، فأكلت كل ما فيها من كفر، وقطيعة رحم وباطل، وتركت ما فيها من ذكر الله تعالى، فأخبر جبريل النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، فأخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب، فجاء إليهم أبو طالب، فأخبرهم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، فوجدوه كما أخبر، والقصة مشهورة، قال بعض العلماء: وكان نزوله صلى الله عليه وسلم هنا شكرًا لله تعالى على الظهور بعد الاختفاء، وعلى إظهار دين الله تعالى. انتهى ببعض تصرّف
(1)
، وستأتي القصّة مطوّلة قريبًا -إن شاء الله تعالى-.
كما أشار إلى كيفيّته بقوله: (وَذَلِكَ) أي: كيفيّة تحالفهم على الكفر (إِنَّ قُرَيْشًا) بفتح الهمزة؛ لوقوعها في موضع الخبر، ووقع في بعض النسخ مضبوطًا بالقلم بكسرها، والظاهر الأول، فتأمل (وَبَنِي كِنَانَةَ) قال في "العمدة": عَطَفَ كنانة على قريش مع أن قريشًا هم أولاد النضر بن كنانة، فيكون من باب التعميم بعد التخصيص، وَيحْتَمِل أن يراد بكنانة غير قريش، فقريش قسيم له، لا قسم منه، قيل: لم يُعْقِب النضر غير مالك، ولا مالك غير فِهْر، فقريش ولد النضر بن كنانة، وأما كنانة فأعقب من غير النضر، فلهذا وقعت المغايرة. انتهى.
وقال في "الفتح": قوله: "أن قريشًا وكنانة" فيه إشعار بأن في كنانة من ليس قرشيًّا؛ إذ العطف يقتضي المغايرة، فيترجح القول بأن قريشًا من ولد فهر بن مالك، على القول بأنهم ولد كنانة، نعم لم يُعْقِب النضرُ غيرَ مالك، ولا مالكٌ غيرَ فِهْر، فقريش ولد النضر بن كنانة، وأما كنانة فأعقب من غير النضر، فلهذا وقعت المغايرة. انتهى
(2)
.
(تَحَالَفَتْ) كان القياس فيه تحالفوا، ولكن أفرده بصيغة المفرد المؤنّث باعتبار الجماعة (عَلَى بَنِي هَاشِمٍ، وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، أَنْ لَا يُنَاكِحُوهُمْ) يعني لا يقع بينهم عقد نكاح، بأن لا يتزوج قرشي وكناني امرأة من بني هاشم وبني
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 61، 62.
(2)
"الفتح" 4/ 505.
عبد المطلب، ولا يزوجوا امرأة منهم إياهم، وكذلك المعنى في قوله:(وَلَا يُبَايِعُوهُمْ) بأن لا يبيعوا لهم، ولا يشتروا منهم، وفي رواية محمد بن مصعب، عن الأوزاعيّ عند أحمد:"أن لا يناكحوهم، ولا يخالطوهم"، وفي رواية الإسماعيليّ:"ولا يكون بينهم وبينهم شيء"، وهي أعم، وهذا هو المراد بقوله في الحديث:"على الكفر"(حَتَّى يُسْلِمُوا) بضمّ أوله، وإسكان السين المهملة، وكسر اللام، أي: حتى يدفعوا (إِلَيْهِمْ) أي: إلى قريش، وكنانة (رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) حتى يقتلوه، وسيأتي القصّة مطوّلة في المسألة الرابعة -إن شاء الله تعالى-.
وقوله: (يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُحَصَّبَ) أي: أراد النبيّ صلى الله عليه وسلم بخيف بني كنانة الْمُحَصَّب، والعناية من بعض الرواة، ويَحْتَمل أن يكون أبا هريرة رضي الله عنه، أو من دونه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [56/ 3175 و 3176 و 3177](1314)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1589 و 1590) و"مناقب الأنصار"(3882) و"المغازي"(4284 و 4285) و"التوحيد"(7479)، و (أبو داود) في "المناسك"(2011)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 467)، و (ابن ماجه) 2/ 981)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 237 و 263 و 353 و 540)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2981 و 2982 و 2984)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 463)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 389)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(1/ 168) و"مسند الشاميين"(4/ 177)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 160 و 6/ 218)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب النزول بالمحصّب، وقد تقدّم أن الأرجح سنيّته، واستحبابه، فتنبّه.
2 -
(ومنها): إظهار الشكر لله تعالى في المحلّ الذي كان معدًّا للشرّ والشرك والضلال، قال القرطبيّ رحمه الله: نزوله صلى الله عليه وسلم بخيف بني كنانة إنما كان شكرًا لله تعالى على ما أظهره على عدوّه المناكد له في ذلك الموضع، وإظهارًا لِمَا صدقه الله تعالى من وعده في قوله:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} الآية [الفتح: 27]. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): أنه ينبغي إذا أراد أن يفعل شيئًا في المستقبل أن يقول: إن شاء الله؛ امتثالًا لأمر الله عز وجل نبيّه صلى الله عليه وسلم بذلك حيث قال: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} الآية [الكهف: 23 - 24].
4 -
(ومنها): بيان ما كانت عليه قريش من شدّة عداوة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكيدهم له، ومحاولتهم قتله، حتى يستريحوا من دعوته إلى الله تعالى، إلا أن الله تعالى أخزاهم، ونصره عليهم، قال الله تعالى:{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} [الصافات: 171 - 173]، وقال:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)} [غافر: 51]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في ذكر سبب قصّة تقاسم قريش وبني كنانة على بني هاشم وبني المطّلب:
(اعلم): أن سبب ذلك -كما قال ابن إسحاق، وموسى بن عقبة، وغيرهما، من أصحاب المغازي-: لما رأت قريش أن الصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة، قد نزلوا أرضًا أصابوا بها أمانًا، وأن عُمَر أسلم، وأن الإسلام فَشَا في القبائل، أجمعوا على أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك أبا طالب، فجمع بني هاشم، وبني المطلب، فأدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شِعْبهم، ومنعوه ممن أراد قتله، فأجابوه إلى ذلك، حتى كُفّارهم فعلوا ذلك حَمِيّةً على عادة الجاهلية، فلما رأت قريش ذلك أجمعوا أن يكتبوا بينهم وبين بني هاشم
(1)
"المفهم" 3/ 411، 412.
والمطلب كتابًا أن لا يعاملوهم، ولا يناكحوهم، حتى يُسْلِموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعلوا ذلك، وعَلَّقوا الصحيفة في جوف الكعبة، وكان كاتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قُصَيّ، فَشُلّت أصابعه، ويقال: إن الذي كتبها النضر بن الحارث، وقيل: طلحة بن أبي طلحة العبدريّ.
قال ابن إسحاق: فانحازت بنو هاشم، وبنو المطلب إلى أبي طالب، فكانوا معه كلهم، إلا أبا لهب، فكان مع قريش، وقيل: كان ابتداء حصرهم في المحرم سنة سبع من المبعث، قال ابن إسحاق: فأقاموا على ذلك سنتين، أو ثلاثًا، وجزم موسى بن عقبة بأنها كانت ثلاث سنين، حتى جَهِدوا، ولم يكن يأتيهم شيء من الأقوات، الا خُفْيةً، حتى كانوا يؤذون من اطَّلَعوا على أنه أرسل إلى بعض أقاربه شيئًا من الصِّلات، إلى أن قام في نقض الصحيفة نفرٌ، من أشدّهم في ذلك صنيعًا هشام بن عمرو بن الحارث العامريّ، وكانت أم أبيه تحت هاشم بن عبد مناف قبل أن يتزوجها جدّه، فكان يصلهم، وهم في الشِّعْب، ثم مشى إلى زُهير بن أبي أمية، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب، فكلمه في ذلك، فوأفقه، ومشيا جميعًا إلى الْمُطْعِم بن عديّ، وإلى زَمْعة بن الأسود، فاجتمعوا على ذلك، فلما جلسوا بالحجر تكلموا في ذلك، وأنكروه، وتواطئوا عليه، فقال أبو جهل: هذا أمر قُضِيَ بليل، وفي آخر الأمر أخرجوا الصحيفة، فمزّقوها، وأبطلوا حكمها.
وذكر ابن هشام أنهم وجدوا الأَرَضَة قد أكلت جميع ما فيها إلا اسم الله تعالى، وأما ابن إسحاق، وموسى بن عقبة، وعروة، فذكروا عكس ذلك أن الأَرَضة لم تدع اسما لله تعالى إلا أكلته، وبقي ما فيها من الظلم والقطيعة، فالله أعلم.
وذكر الواقديّ أن خروجهم من الشِّعب كان في سنة عشر من المبعث، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، ومات أبو طالب بعد أن خرجوا بقليل، قال ابن إسحاق: ومات هو وخديجة في عام واحد، فنالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم تكن تَنَلْهُ في حياة أبي طالب، ذكره في "الفتح"
(1)
.
(1)
"الفتح" 8/ 611، 612، كتاب مناقب الأنصار، رقم (3882).
وقال في "العمدة": ذكر في "الطبقات" أنهم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة، وقال بعضهم: بل كانت عند أمّ الجلاس بنت مخربة الحنظلية، خالة أبي جهل، وحَصَرُوا بني هاشم في شعب أبي طالب ليلةَ هلال المحرم سنة سبع، من حين النبوة، وانحاز بنو المطلب بن عبد مناف إلى أبي طالب في شعبه، وخرج أبو لهب إلى قريش، فظاهرهم على بني هاشم، وبني المطلب، وقطعوا عنهم اْلِميرة والمارّة، فكانوا لا يخرجون إلَّا من موسم إلى موسم، حتى بلغهم الْجَهْد، فأقاموا فيه ثلاث سنين، ثم أطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على أمر صحيفتهم، وأن الأَرَضَة أكلت ما كان فيها من جَوْر وظلم، وبقي ما كان فيها من ذكر الله عز وجل، وفي لفظ: ختموا على الكتاب ثلاثة خواتيم، فذكر ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي طالب، فقال أبو طالب لكفار قريش: إن ابن أخي أخبرني، ولم يَكْذِبني قط أن الله تعالى قد سَلَّطَ على صحيفتكم الأَرَضَة، فلَحَسَتْ ما كان فيها من جَوْر وظلم، وبقي فيها كل ما ذكر به الله تعالى، فإن كان ابنُ أخي صادقًا نزعتم عن سُوء رأيكم، وإن كان كاذبًا دفعته إليكم، فقتلتموه، أو استحييتموه، قالوا: قد أنصفتنا، فإذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسُقِطَ في أيديهم، ونُكِسُوا على رؤوسهم، فقال أبو طالب: علام نُحْبَس، ونُحْصَر، وقد بان الأمر، فتلاوم رجال من قريش على ما صنعوا ببني هاشم، منهم: مُطْعِم بن عديّ، وعديّ بن قيس، وزَمْعة بن الأسود، وأبو الْبُحْتُريّ بن هاشم، وزُهير بن أبي أمية، ولبسوا السلاح، ثم خرجوا إلى بني هاشم، وبني المطلب، فأمروهم بالخروج إلى مساكنهم، ففعلوا، فلما رأت قريش ذلك سُقِطَ في أيديهم، وعَرَفُوا أن لن يُسْلِموهم، وكان خروجهم من الشِّعْب في السنة العاشرة. انتهى
(1)
.
وقد لخّص هذه القصة مع بيان الهجرة إلى الحبشة الحافظ العراقيّ رحمه الله في "ألفية السيرة" حيث قال:
لَمَّا فَشَا الإِسْلَامُ وَاشْتَدَّ عَلَى
…
مَنْ أَسْلَمَ الْبَلَاءُ هَاجَرُوا إِلَى
(1)
"عمدة القاري" 9/ 229، 230.
أَصْحَمَةٍ فِي رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ
…
خَمْسٍ مَضَتْ لَهُمْ مِنَ النُّبُوَّةِ
خَمْسٌ مِنَ النِّسَاءِ وَاثْنَا عَشَرَا
…
مِنَ الرِّجَالِ كُلُّهُمْ قَدْ هَاجَرَا
إلى أن قال:
وَخَرَجَتْ قُرَيشُ فِي الآثَارِ
…
لَمْ يَصِلُوا مِنْهُمْ لأَخْذِ الثَّارِ
فَجَاوَرُوهُ فِي أَتَمِّ حَالِ
…
ثُمَّ أَتَوْا مَكَّةَ فِي شَوَّالِ
مِنْ عَامِهِمْ إِذْ قِيلَ أَهْلُ مَكَّةِ
…
قَدْ أَسْلَمُوا وَلَمْ يَكُنْ بِالثَّبِتِ
فَاسْتَقْبَلُوهُمْ بِالأَذَى وَالشِّدَّةِ
…
فَرَجَعُوا لِلْهَجْرَةِ الثَّانِيَةِ
فِي مائَةٍ عَدُّ الرِّجَالِ مِنْهُمُ
…
وَاثْنَانِ مِنْ بَعْدِ الثَّمَانِينَ هُمُ
فَنَزَلُوا عِنْدَ النَّجَاشِيِّ عَلَى
…
أَتَمِّ حَالٍ وَتَغَيَّظَ الْمَلَا
عَلَى النَّبِيِّ وَعَلَى أَصْحَابِهِ
…
وَكَتَبَ الْبَغِيضُ فِي كِتَابِهِ
عَلَى بَنِي هَاشِمٍ الصَّحِيفَهْ
…
وَعُلِّقَتْ بِالْكَعْبَةِ الشَّرِيفَهْ
أن لَا يُنَاكِحُهُمُ وَلَا وَلَا
…
وَحُصِرُوا فِي الشِّعْبِ حَتَّى أَقْبَلَا
أَوَّلُ عَامِ سَبْعَةٍ لِلْبَعْثِ
…
قَاسَوْا بِهِ جَهْدًا بِشَرِّ مَكْثِ
وَسُمِعَتْ أَصْوَاتُ صِبْيَانِهِمِ
…
فَسَاءَ ذَاكَ بَعْضَ أَقْوَامِهِمِ
وَأُطْلِعَ النَّبِيُّ أَنَّ الأَرَضَهْ
…
أَكَلَتِ الصَّحِيفَةَ الْمُبَغَّضَهْ
مَا كَانَ مِنْ جَوْرٍ وَظُلْمٍ ذَهَبَا
…
وَبَقِي الذِّكْرُ كَمَا قَدْ كُتِبَا
فَوَجَدُوا ذَاكَ كَمَا قَالَ وَقَدْ
…
شُلَّتْ يَدُ الْبَغِيضِ وَاللهِ الصَّمَدْ
فَلَبِسُوا السِّلَاحَ ثُمَّ أُخْرِجُوا
…
مِنْ شِعْبِهِمْ وَكَانَ ذَاكَ الْمَخْرَجَ
فِي عَامِ عَشرَةٍ بِغَيْرِ مَيْنِ
…
وَقِيلَ كَانَ مُكْثُهُمْ عَامَيْنِ
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3177]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، حَدَّثَنِي وَرْقَاءُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَن الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْزِلُنَا إِنْ شَاءَ اللهُ إِذَا فَتَحَ اللهُ الْخَيْفُ، حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(شَبَابَةُ) بن سَوّار المدائنيّ، خُراسانيّ الأصل، يقال: اسمه مروان، مولى بني فَزَارة، ثقةٌ حافظٌ رُمي بالإرجاء [9](ت 4 أو 5 أو 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.
2 -
(وَرْقَاءُ) بن عُمر اليشكريّ، أبو بشر الكوفيّ، نزيل المدائن، ثقةٌ في غير منصور، [7](ع) تقدم في "الصلاة" 31/ 999.
3 -
(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان القرشيّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.
4 -
(الْأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: ("مَنْزِلُنَا) مبتدأ خبره قوله: "الخيفُ"، وقوله:(إِنْ شَاءَ اللهُ) جملة معترضة بين المبتدأ والخبر، وكذا قوله:"إذا فتح الله".
قوله: (إِذَا فَتَحَ اللهُ) هذا ظاهر في أن قوله صلى الله عليه وسلم هذا كان في زمن الفتح، لا في حجة الوداع، وما تقدّم صريح في أنه صلى الله عليه وسلم قاله في منى، ويُجاب بأنه قاله في الوقتين، وقد روى البخاريّ من طريق إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، بلفظ:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد حُنينًا: منزلنا غدًا -إن شاء الله تعالى- بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر"، قال في "الفتح": هكذا أورده مختصرًا، وقد تقدم في "الحج" من طريق شعيب، عن ابن شهاب الزهريّ بهذا الإسناد، بلفظ:"قال حين أراد قدوم مكة"، وهذا لا يعارض ما في الباب؛ لأنه يُحْمَلُ على أنه قال ذلك حين أراد دخول مكة في غزوة الفتح، وفي ذلك القدوم غزا حُنينًا، ولكن تقدم أيضًا من طريق شعيب، عن الزهريّ، بلفظ: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد يومَ النحر، وهو بمنى: نحن نازلون غدًا
…
" الحديث، وهذا ظاهر في أنه قاله في حجة الوداع، فيُحْمَل قوله في رواية
الأوزاعيّ: "حين أراد قدوم مكة" أي: صادرًا من منى إليها لطواف الوداع، وَيحْتَمِل التعدد. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الأظهر في الجمع هو الحمل على التعدّد، أعني أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام زمن الفتح، وقاله أيضًا عام حجة الوداع، وفي كلّ منهما نزل ذلك المكان؛ ليتذكّر ما كانوا عليه من العداوة له، فيشكر الله تعالى على ما أنعم به عليه من الفتح العظيم، وتمكّنه من دخول مكة ظاهرًا على رغم أنف من سعى في إخراجه منها، ومبالغةً في الصفح عن الذين أساءوا، ومقابلتهم بالمنّ والإحسان، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة عليّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة:
قد انتهيتُ من كتابة الجزء الثالث والعشرين من "شرح صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحرَ المحيطَ الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" بعد صلاة العصر من يوم الأربعاء المبارك التاسع من شهر جمادى الأولى 9/ 5/ 1429 هـ الموافق 6 مايو 2008 م.
أسأل الله العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رءوف رحيم.
وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة يونس: 10].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية [سورة الأعراف: 43].
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [سورة الصافات: 180 - 183].
(1)
"الفتح" 8/ 612، كتاب مناقب الأنصار، رقم (3882).
"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".
"السلام على النبيّ ورحمة الله وبركاته".
ويليه -إن شاء الله تعالى- الجزء الرابع والعشرون مفتتحًا بـ (57) - (بَابُ الرُّخْصَةِ فِي تَرْكِ الْبَيْتُوتَةِ بِمَنًى لأَهْلِ السِّقَايَةِ) رقم الحديث [3178](1315).
"سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".