الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
يوم الخميس المبارك العاشر من شهر جمادى الأولى 10/ 5/ 1429 هـ أول الجزء الرابع والعشرين من شرح صحيح الإمام مسلم المسمّى "البحر المحيط الثجّاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" رحمه الله تعالى.
(57) - (بَابُ الرُّخْصَةِ فِي تَرْكِ الْبَيْتُوتَةِ بِمَنًى لأَهْلِ السِّقَايَةِ)
(1)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3178]
(1315) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو أُسَامَةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَن ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ الْعَبَّاسَ ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِي مِنًى، مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حماد بن أسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
2 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) الثانيّ هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
والباقون تقدّموا في البابين الماضيين، وابن نمير "الأول" هو: عبد الله بن نمير، والثاني: ولده محمد بن عبد الله بن نُمير.
[تنبيه]: قوله: (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو أُسَامَةَ)
(1)
هكذا ترجم القرطبيّ رحمه الله في "المفهم"، وترجمته أنسب من ترجمة النوويّ رحمه الله، ولذا اخترتها هنا، فتنبّه.
قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في معظم النسخ ببلادنا، أو كلها، ووقع في بعض نسخ المغاربة:"وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا زهير، وأبو أسامة"، فجعل زهيرًا بدل ابن نمير، قال أبو علي الغسانيّ الجيّانيّ، والقاضي: وقع في رواية ابن ماهان، عن ابن سفيان، عن مسلم، قال. ووقع في رواية أبي أحمد الْجُلُوديّ، عن ابن سفيان، عن زهير. قالا: وهذا وَهَمٌ، والصواب ابن نمير، قالا: وكذا أخرجه أبو بكر بن أبي شيبه في "مسنده"، قال الجيّانيّ: ورواه الكسائيّ عن إبراهيم بن سفيان كما رواه ابن ماهان على الصواب. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ: وإنما ذكر خلف الواسطيّ في كتابه "الأطراف": حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا ابن نمير، وأبو أسامة، ولم يذكر زهيرًا. انتهى.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم المتوفّى سنة (32) تقدّمت ترجمته في "الإيمان" 13/ 159. (اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِي مِنًى) المراد بها ليلة الحادي عشر واللتين بعده (مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ) قال القاري رحمه الله: أي التي بالمسجد الحرام المملوءة من ماء زمرم المندوب الشرب منها عقب طواف الإفاضة وغيره إذا لم يتيسر الشرب من البئر؛ للخلق الكثير، وهي الآن بِركة، وكانت حياضًا في يدي قُصَيّ، ثم منه لابنه عبد مناف، ثم منه لابنه هاشم، ثم منه لابنه عبد المطلب، ثم منه لابنه العباس، ثم منه لابنه عبد الله، ثم منه لابنه عليّ، وهكذا إلى الآن، لكن لهم نُوّاب يقومون بها، قالوا: وهي لآل عباس أبدًا. انتهى.
وروى الفاكهي بسنده عن عطاء قال: سقاية الحاج زمزم، وقال الأزرقي: كان عبد مناف يَحْمِل الماء في الروايا والقِرَب إلى مكة، ويسكبه في حياض من أدم بفناء الكعبة للحجاج، ثم فعله ابنه هاشم بعده، ثم عبد المطلب، فلما حَفَر زمزم كان يشتري الزبيب فينبذه في ماء زمزم، ويسقي الناس، قال ابن إسحاق: لما ولي قصي بن كلاب أمر الكعبة كان إليه الحجابة، والسقاية، واللواء،
(1)
راجع: "تقييد المهمل" 3/ 841، 842.
والرِّفادة، ودار الندوة، ثم تصالح بنوه على أن لعبد مناف السقاية، والرفادة، والبقية للأخوين، ثم ذكر نحو ما تقدم، وزاد: ثم ولي السقاية من بعد عبد المطلب ولده العباس، وهو يومئذ من أحدث إخوته سنًّا، فلم تزل بيده حتى قام الإسلام وهي بيده، فأقرّها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه فهي اليوم إلى بني العباس.
ورَوَى الفاكهيّ من طريق الشعبيّ قال: تكلم العباس، وعليّ، وشيبة بن عثمان في السقاية، والحجابة، فأنزل الله:{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} الآية إلى قوله: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} الآية [التوبة: 19 - 24]، قال: حتى تفتح مكة.
ومن طريق ابن أبي مليكة، عن ابن عباس: أن العباس لما مات أراد علئ أن يأخذ السقاية، فقال له طلحة: أشهد لرأيت أباه يقوم عليها، وأن أباك أبا طالب لنازل في إبله بالأراك بعرفة، قال: فَكَفّ عليّ عن السقاية.
ومن طريق ابن جريج قال: قال العباس: يا رسول الله لو جمعت لنا الحجابة، والسقاية؟ فقال:"إنما أعطيتكم ما تُرْزءون، ولم أعطكم ما تَرزُءون"، الأول بضم أوله، وسكون الراء، وفتح الزاي، والثاني بفتح أوله، وضم الزاي: أي أعطيتكم ما ينقصكم، لا ما تنقصون به الناس.
وروى الطبرانيّ، والفاكهيّ حديث السائب المخزوميّ، أنه كان يقول: اشربوا من سقاية العباس، فإنه من السنة، كذا في "الفتح"
(1)
.
وقال الطبريّ: قال أهل التواريخ: كان أصل السقاية حياضًا من أَدَمٍ توضع على عهد قُصَيّ بفناء الكعبة، وششقي فيها الماء للحاج، وأصل الرفادة خَرْجًا كانت قريش تخرجه من أموالها إلى قُصي يصنع به طعامًا للحاج يأكله من ليس له سعة، وما زال ذلك الأمر حتى قام به هاشم، ثم أخوه المطلب، ثم عبد المطلب، ثم قام به العباس. انتهى
(2)
.
(فَأَذِنَ لَهُ) أي: أذن النبيّ صلى الله عليه وسلم للعبّاس أن يبيت تلك الليالي بمكة، ويترك المبيت بمنى، وفي رواية: رَخَّص رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس أن يبيت بمكة أيام منى من أجل سقايته، والمراد بأيام منى لياليها، كما وقع في رواية البخاري، وهي ليلة الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر.
(1)
"الفتح" 4/ 566، 567.
(2)
راجع: "المرعاة" 9/ 300.
والحديث دليل على مشروعية المبيت في منى ليالي أيام التشريق، وعلى جواز التخلف عن المبيت فيه لأجل السقاية. واتفق العلماء على ذلك، ثم اختلفوا هل المبيت فيه واجب أو سنة؟ وسيأتي تحقيق الخلاف في المسألة الثالثة -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [57/ 3178 و 3179](1315)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1634 و 1743 و 1744 و 1745)، و (أبو داود) في "المناسك"(1959)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 298)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 19 و 22 و 28 و 88)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2957)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 328)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 390)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 130)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 153) و"الصغرى"(4/ 321) و"المعرفة"(4/ 138)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): الرخصة في ترك البيتوتة بمنى لأهل السقاية، ويُلحق بهم غيرهم من أهل الأعذار.
2 -
(ومنها): بيان أن المبيت بمنى ليالي التشريق مأمور به، وهذا متّفقٌ عليه، لكن اختلفوا في وجوبه، وسيأتي تحقيقه في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى-.
3 -
(ومنها): أن فيه دليلًا على وجوب المبيت بمنى، وأنه من مناسك الحج؛ لأن التعبير بالرخصة يقتضي أن مقابلها عزيمة، وأن الإذن وقع للعلة المذكورة، وإذا لم توجد، أو ما في معناها، لم يحصل الإذن، وبالوجوب قال الجمهور، وسيأتي تحقيق ذلك في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى.
4 -
(ومنها): أن فيه استئذانَ الأمراء والكبراء فيما يطرأ من المصالح
والأحكام، وأنه ينبغي لمن استؤمر أن يبادر إلى الإذن عند ظهور المصلحة
(1)
.
5 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: في هذا الحديث من الفقه ما يدلّ على أن سقاية الحاجّ ولاية ثابتةٌ لولد العبّاس، لا يُنازعون فيها، وقال بعض أهل العلم: وفيه إشارة إلى أن الخلافة تكون في ولد العبّاس، وأنه لا ينبغي أن يُنازعوا فيها، وأن ذلك يدوم لهم.
قال الجامع عفا الله عنه: في هذا الاستنباط نظر لا يخفى، فتأمل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم المبيت بمنى ليالي التشريق:
ذهب مالك رحمه الله، وأصحابه إلى أنه واجب، ولو بات ليلة واحدة منها، أو جُلّ ليلة، وهو خارج عن منى لزمه دم؛ لأثر ابن عباس رضي الله عنهما:"من نَسِي من نسكه شيئًا، أو تركه، فليهرق دمًا"، أخرجه البيهقيّ، وروى مالك في "الموطإ" عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لا يَبِيتَنّ أحد من الحاج ليالي منى من وراء العقبة. وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن عدم المبيت بمنى ليالي منى مكروه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بات بمنى، وعمر كان يؤدِّب على ترك المقام بها، ولو بات بغيرها متعمدًا لم يلزمه شيءٌ عند أبي حنيفة، وأصحابه؛ لأنهم يرون أن المبيت بمنى لأجل أن يَسْهُل عليه الرمي في أيامه، فلم يكن من الواجبات عندهم.
وللشافعيّ رحمه الله في هذه المسألة قولان: أصحهما، وأشهرهما، وأظهرهما أنه واجب، والثاني أنه سنة، فعلى القول بأنه واجب فالدم واجب في تركه، وعلى أنه سنة فالدم سنة في تركه، ولا يبزم عندهم الدم إلا في ترك المبيت في الليالي كلها؛ لأنها عندهم كأنها نسك واحد، وإن ترك المبيت في ليلة من الليالي الثلاث، ففيه الأقوال المذكورة في ترك الحصاة الواحدة عندهم، أصحها أن في ترك مبيت الليلة الواحدة مُدًّا والثاني أن فيه درهمًا، والثالث أن فيه ثلث دم، وحكم الليلتين معلوم، والمعتبر في المبيت عندهم الكون بمنى
(1)
راجع: "الفتح" 4/ 706.
معظم الليل؛ إذ المبيت ورد مطلقًا والاستيعاب غير واجب اتفاقًا، فأقيم المعظم مقام الكل، ولا فرق بين أول الليل وآخره، وفي قولٍ أن المعتبر الكون بمنى عند طلوع الفجر، ومن حضر بها قبله فقد أدى واجب المبيت.
وذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى أن المبيت بمنى ليالي منى واجب، فلو ترك المبيت بها في الليالي الثلاث، فعليه دم على الصحيح من مذهبه، وعنه يتصدق بشيء، وعنه لا شيء عليه، فإن ترك المبيت في ليلة من لياليها ففيه ما في الحصاة الواحدة من الأقوال: قيل: مُدّ، وقيل: درهم، وقيل: ثلث دم.
وقال الحافظ رحمه الله: في الحديث دليل على وجوب المبيت بمنى، وأنه من مناسك الحج؛ لأن التعبير بالرخصة يقتضي أن مقابلها عزيمة، وأن الإذن وقع للعلة المذكورة، وإذا لم توجد هي، أو ما في معناها لم يحصل الإذن، وبالوجوب قال الجمهور، وفي قول للشافعيّ، وورواية عن أحمد، وهو مذهب الحنفية أنه سنة، ووجوب الدم بتركه مبني على هذا الاختلاف، ولا يحصل المبيت إلا بمعظم الليل. انتهى، وما ذكره من أخذ الوجوب من الحديث المذكور واضح.
وقال الحافظ رحمه الله: وهل يختص الإذن بالسقاية، وبالعباس، أو بغير ذلك من الأوصاف المعتبرة في هذا الحكم؟ فقيل: يختص الحكم بالعباس، وهو جمود، وقيل: يدخل معه آله، وقيل: قومه، وهم بنو هاشم، وقيل: كل من احتاج إلى السقاية، فله ذلك، ثم قيل أيضًا: يختص الحكم بسقاية العباس، حتى لو عُملت سقاية لغيره لم يرخص لصاحبها في المبيت لأجلها، ومنهم من عمّمه، وهو الصحيح في الموضعين، والعلة في ذلك إعداد الماء للشاربين، وهل يختص ذلك بالماء، أو يلتحق به ما في معناه من الأكل وغيره؟ محل احتمال، وجزم الشافعية بإلحاق من له مال يخاف ضياعه، أو أمر يخاف فوته، أو مريض يتعاهده بأهل السقاية، كما جزم الجمهور بإلحاق الرعاء خاصة.
قال الزرقانيّ رحمه الله: لكنهم لم يجزموا بذلك بالإلحاق، إنما هو بالنص الذي رواه مالك، وأصحاب السنن الأربع عن عاصم بن عدي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى.
قال الحافظ: وهو قول أحمد، واختاره ابن المنذر أعني الاختصاص بأهل السقاية، ورعاء الإبل، والمعروف عن أحمد اختصاص العباس بذلك، وعليه اقتصر صاحب "المغني" حيث قال بعد ذكر حديث ابن عمر: وتخصيص العباس بالرخصة لعذره دليل على أنه لا رخصة لغيره، وعن ابن عباس قال: لم يرخص النبيّ صلى الله عليه وسلم لأحد يبيت بمكة إلا العباس من أجل سقايته، رواه ابن ماجه. انتهى، وقال أيضًا: يجوز للرعاة ترك المبيت بمنى ليالي منى، ويؤخرون رمي اليوم الأول، ويرمون يوم النفر الأول عن الرميين جميعًا لما عليهم من المشقة في المبيت، والإقامة للرمي؛ لحديث أبي البَدّاح بن عاصم بن عدي، عن أبيه قال: رخّص رسول الله صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل في البيتوتة أن يرموا يوم النحر، ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر، فيرموه في أحدهما، رواه مالك، والترمذيّ، والنسائيّ، قال الترمذيّ: هذا حديث صحيح، وهو صحيح كما قال.
وكذلك الحكم في أهل سقاية الحاج لحديث ابن عمر الذي نحن في شرحه، إلا أن الفرق بين الرعاء وأهل السقاية أن الرعاء إذا قاموا حتى غربت الشمس فقد انقضى وقت الرعي، وأهل السقاية يشتغلون ليلًا ونهارًا فافترقا، وصار الرعاء كالمريض الذي يباح له ترك الجمعة لمرضه، فإذا حضرها تعيّنت عليه، والرعاء أبيح لهم ترك المبيت لأجل الرعي، فإذا فات وقته وجب المبيت، وأهل الأعذار من غير الرعاء، كالمرضى، ومن له مال يَخاف ضياعه ونحوهم، كالرعاء في ترك البيتوتة؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم رخص لهؤلاء تنبيهًا على غيرهم، أو نقول: نصّ عليه لمعنى وُجد في غيرهم فوجب إلحاقه بهم. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: أظهر الأقوال عندي -كما قال صاحب "المرعاة"- أن المبيت بمنى أيامَ منى نُسُك من مناسك الحجّ يدخل في قول ابن عباس رضي الله عنه: "من نسي من نسكه شيئًا، أو تركه فليهرق دمًا"
(1)
، والدليل على ذلك ثلاثة أمور:
(1)
هذا أثر صحيح موقوفًا على ابن عباس رضي الله عنهما، قال النوويّ رحمه الله في "شرح المهذب": وأما حديث: "من ترك نسكًا فعليه دم"، فرواه مالكٌ، والبيهقيّ، وغيرهما بأسانيد =
[الأول]: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بات بها الليالي المذكورة، وقال:"لتأخذوا عني مناسككم"، فعلينا أن نأخذ عنه من مناسكنا البيتوتة بمنى الليالي المذكورة.
= صحيحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفًا عليه، لا مرفوعًا، ولفظه عن مالك، عن أيوب، عن سعيد بن جبير: أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "من نسي من نسكه شيئًا، أو تركه، فليهرق دمًا"، قال مالك: لا أدري قال: "ترك"، أم "نسي"، قال البيهقيّ: وكذا رواه الثوريّ، عن أيوب:"من ترك، أو نسي شيئًا من نسكه فليهرق له دمًا"، قال البيهقيّ: فكأنه قالهما، يعني البيهقي أن "أو" ليست للشك، كما أشار إليه مالك، بل للتقسيم، والمراد به يُريق دمًا، سواء ترك عمدًا، أو سهوًا، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله.
وقال الحافظ رحمه الله في "التلخيص الحبير": حديث ابن عباس رضي الله عنهما موقوفًا عليه ومرفوعًا: "من ترك نسكًا فعليه دم"، أما الموقوف فرواه مالك في "الموطإ"، والشافعي عنه، عن أيوب، عن سعيد بن جبير عنه، بلفظ:"من نسي من نسكه شيئًا، أو تركه، فليهرق دمًا"، وأما المرفوع، فرواه ابن حزم، من طريق علي بن الجعد، عن ابن عيينة، عن أيوب به، وأعلّه بالراوي عن علي بن الجعد، أحمد بن علي بن سهل المروزيّ، فقال: إنه مجهول، وكذا الراوي عنه علي بن أحمد المقدسيّ، قال: هما مجهولان. انتهى من "التلخيص الحبير".
قال الجامع: فتبيّن بهذا أن هذا الأثر موقوفًا صحيح في غاية الصحّة، وأما المرفوع، فلا يصحّ، لكن الموقوف له حكم الرفع؛ لأنه مما لا يقال بالرأي، فالاستدلال به على وجوب الدم في ترك النسك صحيح، لا إشكال فيه، وإن لم يرد نصّ بذلك، فتأمل.
وقال الشيخ الشنقيطيّ رحمه الله في "تفسيره" 4/ 473: وجه استدلال الفقهاء به -أي بأثر ابن عباس رضي الله عنهما المذكور- على سائر الدماء التي قالوا بوجوبها غير الدماء الثابتة بالنص، أنه لا يخلو من أحد أمرين:
الأول: أن يكون له حكم الرفع؛ بناءً على أنه تعبد، لا مجال للرأي فيه، وعلى هذا فلا إشكال.
والثاني: أنه لو فُرض أنه مما للرأي فيه مجال، وأنه موقوف ليس له حكم الرفع، فهو فتوى من صحابيّ جليل، لم يُعْلَم لها مخالف من الصحابة رضي الله عنهم، وهم خير أسوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى كلام الشيخ الشنقيطيّ رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب.
[الثاني]: حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الترخيص للعباس الذي نحن في شرحه.
[الأمر الثالث]: هو ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يمنع الحجاج من المبيت خارج منى، ويرسل رجالًا يدخلونهم في منى، وهو من الخلفاء الراشدين الذين أُمرنا بالاقتداء بهم، والتمسك بسنتهم.
والحاصل أن المبيت بمنى ليالي التشريق واجب؛ لهذه الأدلّة المذكورة، وهذا لمن لا عُذر له، وأما أصحاب الأعذار، كأهل السقاية، والرعاة، وغيرهم ممن له عذر يمنعه المبيت بها، فيُرخّص له؛ لحديث الباب في أهل السقاية، وإلحاقًا لغيرهم بهم، كما هو مذهب الجمهور، فتأمل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3179]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ (ح) وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، جَمِيعًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، كِلَاهُمَا عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلهم تقدّموا في الباب، والأبواب الثلاثة قبله.
[تنبيه]: رواية عيسى بن يونس، وابن جريج كلاهما، عن عبيد الله هذه ساقها الإمام البخاريّ رحمه الله، فقال:
(1743)
- حدّثنا محمد بن عبيد بن ميمون، حدّثنا عيسى بن يونس، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: رَخَّص النبيّ صلى الله عليه وسلم (ح) حدثنا يحيى بن موسى، حدثنا محمد بن بكر، أخبرنا ابن جريج، أخبرني عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَذِن (ح) وحدّثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا أبي، حدّثنا عبيد الله، قال: حدّثني نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه: أن العباس رضي الله عنه استأذن النبيّ صلى الله عليه وسلم ليبيت بمكة ليالي منى، من أجل سقايته، فأذن له، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(58) - (بَابُ فَضْلِ الْقِيَامِ بِالسِّقَايَةِ، وَالثَّنَاءِ عَلَى أَهْلِهَا، وَاسْتِحْبَابِ الشُّرْبِ مِنْهَا)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3180]
(1316) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمِنْهَالِ الضَّرِيرُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْمُزَنِيِّ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَأَتَاهُ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: مَا لِي أَرَى بَنِي عَمِّكُمْ يَسْقُونَ الْعَسَلَ، وَاللَّبَنَ، وَأَنْتُمْ تَسْقُونَ النَّبِيذَ، أَمِنْ حَاجَةٍ بِكُمْ، أَمْ مِنْ بُخْلٍ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَا بِنَا مِنْ حَاجَةٍ
(1)
، وَلَا بُخْلٍ، قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَخَلْفَهُ أُسَامَةُ، فَاسْتَسْقَى، فَأَتَيْنَاهُ بِإِنَاءٍ مِنْ نَبِيذٍ، فَشَرِبَ، وَسَقَى فَضْلَهُ أُسَامَةَ، وَقَالَ:"أَحْسَنْتُمْ، وَأَجْمَلْتُمْ، كَذَا فَاصْنَعُوا"، فَلَا نُرِيدُ تَغْيِيرَ مَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمِنْهَالِ الضَّرِيرُ) أبو عبد الله، أو أبو جعفر التميميّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 231)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 60/ 336.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ) تقدّم قبل باب.
3 -
(حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ) ابن أبي حميد، أبو عبيدة البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [5](ت 175)(ع) تقدم في "الطهارة" 23/ 639.
(1)
وفي نسخة: "ما بنا حاجة".
4 -
(بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْمُزَنِيُّ) أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ جليلٌ [3](ت 106)(خت م 4) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 82.
5 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما تقدّم قبل باب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، من أوله إلى آخره.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.
5 -
(ومنها): أن فيه ابن عبّاس رضي الله عنهما حبر الأمة، وبحرها، وأحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْمُزَنِيِّ) -بضمّ الميم، وفتح الزاي-: نسبة إلى مزينة، بحذف ياء التصغير، كما قال في "الخلاصة":
وَفَعَلِيٌّ فِي فَعِيلَةَ الْتُزِمْ
…
وَفُعَلِيٌّ فِي فُعَيْلَةَ حُتِمْ
قال في "اللباب: هذه النسبة لولد عثمان وأوس ابني عَمرو بن أُدّ بن طابخة بن إلياس بن مُضَر، نُسبوا إلى مُزَينة بنت كلب بن وبرة، أم عثمان وأوس، وهم قبيلة كبيرة. انتهى
(1)
.
(قَالَ) بكر بن عبد الله رحمه الله (كُنْتُ جَالِسًا مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَأَتَاهُ أَعْرَابِيٌّ) أي رجل ساكن البادية، قال صاحب "التنبيه": لا أعرفه
(2)
. (فَقَالَ) ذلك الأعرابيّ (مَا لِي)"ما" استفهاميّة، أي أيُّ شيء ثبت لي؟، وقوله:(أَرَى بَنِي عَمِّكُمْ) جملة في محل نصب على الحال، أي حال
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 326.
(2)
"تنبيه المعلم"(ص 224).
كوني رائيًا بني عمّكم، أراد غير بني العبّاس من سائر قريش، وهذا يدلّ على أن السقاية المختصّة ببني العبّاس هي سقاية النبيذ (يَسْقُونَ الْعَسَلَ، وَاللَّبَنَ، وَأَنْتُمْ تَسْقُونَ النَّبِيذَ) هو ما يُعمل من الأشربة من التمر، والزبيب، والعسل، وغير ذلك، يقال: نبذت التمر والزبيب: إذا تركت عليه الماء حتى يشتدّ، قال النوويّ: بحيث يَطيب طعمه، ولا يكون مسكرًا، فأما إذا طال زمنه، وصار مسكرًا، فهو حرام. انتهى.
(أَمِنْ حَاجَةٍ بِكُمْ) أي أهذا من أجل فقركم، وعدم وجود العسل، واللبن عندكم (أَمْ مِنْ بُخْلٍ؟) أي أم تفعلون هذا مع وجود ذلك؛ لأجل بخلكم؟ (فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي على ما أنعم علينا من نعمه الجسام (مَا بِنَا مِنْ حَاجَةٍ)"ما" نافية، و"من" زائدة، كما قال في "الخلاصة":
وَزِيدَ فِي نَفْيٍ وَشِبْهِهِ فَجَرْ
…
نَكِرَةً كَـ "مَا لِبَاغٍ مِنْ مَفَرْ"
وفي بعض النسخ: "ما بنا حاجةٌ" بحذف "من".
(وَلَا بُخْلٍ) بالجرّ عطفًا على "حاجة"، ويجوز رفعه عطفًا على المحلّ؛ لكون الجارّ زائدًا، كما بيّنته آنفًا، أي ليس بنا فقر، ولا بخلٌ، وإنما نفعل هذا؛ تمسّكًا بما تلقّيناه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما بيّنه بقوله:(قَدِمَ) بكسر الدال (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) أي جاء من منى إلى الكعبة، وقوله:(عَلَى رَاحِلَتِهِ) متعلّق بحال مقدّر، أي حال كونه راكبًا على راحلته (وَخَلْفَهُ أسَامَةُ) بن زيد حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن حبّه، مات سنة (54 هـ) تقدّمت ترجمته في "الإيمان" 43/ 284. (فَاسْتَسْقَى) أي طلب السُّقيا (فَأَتَيْنَاهُ بِإِنَاءٍ مِنْ نَبِيذٍ) وأخرج البخاريّ من طريق عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى السقاية، فاستسقى، فقال العباس: يا فضلُ اذهب إلى أمك، فأْتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها، فقال: "اسقني"، قال: يا رسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه، قال: "اسقني"، فشرب منه، ثم أتى زمزم، وهم يسقون، ويعملون فيها، فقال: "اعملوا، فإنكم على عمل صالح"، ثم قال:
"لولا أن تُغْلَبوا
(1)
لنزلت حتى أضع الحبل على هذه"، يعني عاتقه، وأشار إلى عاتقه.
وفي رواية الطبرانيّ، من طريق يزيد بن أبي زياد، عن عكرمة، في هذا الحديث: أن العباس قال له: إن هذا قد مُرِث، أفلا أسقيك من بيوتنا؟ قال:"لا، ولكن اسقني مما يشرب منه الناس".
(فَشَرِبَ) وفي رواية الطبرانيّ المذكورة: "فأُتي به، فذاقه، فقطّب، ثم دعا بماء، فكسره". قال: وتقطيبه إنما كان لحموضته، وكسره بالماء؛ ليهون علميه شربه، قال في "الفتح": وعُرف بهذا جنس المطلوب شربه إذ ذاك. انتهى
(2)
.
(وَسَقَى فَضْلَهُ أُسَامَةَ) رضي الله عنه (وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَحْسَنْتُمْ، وَأَجْمَلْتُمْ) أي فعلتم الحسن الجميل (كَذَا) أي مثل هذا الصنيع، وهو سقي النبيذ (فَاصْنَعُوا") أمرهم صلى الله عليه وسلم بأن يثبتوا على سقي النبيذ، فامتثلوا أمره، فلذا قال ابن عبّاس رضي الله عنهما (فَلَا نُرِيدُ تَغْيِيرَ مَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) المعنى: أننا لا نغيّر سقاء النبيذ إلى سقاء غيره من العسل، واللبن، وإن كان ذلك أولى عند الناس؛ لأننا لا نغيّر شيئًا أمرنا به صلى الله عليه وسلم؛ إذ هو الأولى لنا، واللائق بنا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
قوله: "لولا أن تغلبوا" -بضم أوله، على البناء للمجهول-، قال الداوديّ: أي إنكم لا تتركوني أستقي، ولا أحب أن أفعل بكم ما تكرهون، فتغلبوا، كذا قال، وقال غيره: معناه: لولا أن تقع لكم الغلبة بأن يجب عليكم ذلك بسبب فعلي، وقيل: معناه: لولا أن يغلبكم الولاة عليها حرصًا على حيازة هذه المكرمة، قال الحافظ: والذي يظهر أن معناه: لولا أن تغلبكم الناس على هذا العمل، إذا رأوني قد عملته؛ لرغبتهم في الاقتداء بي، فيغلبوكم بالمكاثرة لفعلت، ويؤيد هذا ما أخرجه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه: أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب، وهم يسقون على زمزم، فقال:"انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن تغلبكم الناس على سقايتكم، لنزعت معكم"، قاله في "الفتح"(4/ 567).
(2)
"الفتح" 4/ 567، 568.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [58/ 3180](1316)، و (أبو داود) في "المناسك"(2021)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 369 و 372)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2947)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 390)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(11/ 137)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 147) و"المعرفة"(4/ 136)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده
(1)
:
1 -
(منها): بيان فضل القيام بالسقاية.
2 -
(ومنها): استحباب شرب الحاجّ وغيره من نبيذ سقاية العبّاس رضي الله عنه.
3 -
(ومنها): استحباب الثناء على أصحاب السقاية، وكلّ صانع جميل.
4 -
(ومنها): أنه استدلّ به بعضهم على جواز صدقة آل البيت بعضهم على بعض، وتُعُقّب بأن هذا ليس بصدقة، وإنما هو ضيافة.
5 -
(ومنها): أن ما وُضع من الماء في المساجد والطرُق يجوز أن يشرب منه الغنيّ؛ لأنه وُضع للكافّة، لا للفقراء، قال مالك: ولم يزل ذلك من أمر الناس
(2)
.
6 -
(ومنها): أنه لا ينبغي التقذّر عن شُرب الماء المسبّل؛ لوضع الناس أيديهم فيه، فقد شرب النبيّ صلى الله عليه وسلم من هذه السقاية؛ لما تقدّم من رواية البخاريّ:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى السقاية، فاستسقى، فقال العبّاس: يا فضلُ اذهب إلى أمك، فأت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها، فقال: "اسقني"، فقال: يا رسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه، قال: "اسقني"، فشرب منه
…
" الحديث.
(1)
المراد: الفوائد التي اشتمل عليها حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما، لا خصوص سياق المصنف، فيشمل ما ذُكر في الشرح أيضًا، فتنبّه.
(2)
"شرح الأبيّ" 3/ 408.
7 -
(ومنها): ما قال في "الفتح": استُدِلّ بهذا الحديث على أن سقاية الحاجّ خاصة ببني العباس، قال ابن بزيزة: أراد بقوله: "لولا أن تُغْلَبوا إلخ" قصر السقاية عليهم، وأن لا يشاركوا فيها. انتهى.
وأما الرخصة في المبيت، ففيها أقوال للعلماء، هي أوجه للشافعية: أصحها لا يختص بهم، ولا بسقايتهم، قال: واستَدَلَّ به الخطابيّ على أن أفعاله صلى الله عليه وسلم للوجوب، وفيه نظر. انتهى
(1)
.
8 -
(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن الذي أُرصِد للمصالح العامة لا يحرم على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا على آله تناوله؛ لأن العباس أَرْصَد سقاية زمزم لذلك، وقد شرب منها النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال ابن المنير في "الحاشية": يُحْمَل الأمرُ في مثل هذا على أنها مُرْصَدةٌ للنفع العام، فتكون للغنيّ في معنى الهديّة، وللفقير صدقة.
9 -
(ومنها): أنه لا يكره طلب السقي من الغير، ولا رَدّ ما يُعْرَض على المرء من الإكرام إذا عارضته مصلحة أولى منه؛ لأن رده صلى الله عليه وسلم لَمّا عَرَض عليه العباس مما يُؤتى به من بيته؛ لمصلحة التواضع التي ظهرت من شربه مما يشرب منه الناس.
10 -
(ومنها): الترغيب في سقي الماء خصوصًا ماء زمزم.
11 -
(ومنها): تواضع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وحرص أصحابه على الاقتداء به، وكراهة التقذّر، والتكرّه للمأكولات والمشروبات.
12 -
(ومنها): أن الأصل في الأشياء الطهارة؛ لتناوله النبيّ صلى الله عليه وسلم من الشراب الذي غُمِست فيه الأيدي
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
راجع: "الفتح" 4/ 568.
(2)
راجع: "الفتح" 4/ 568.
(59) - (بَابٌ في الصَّدَقَةِ بِلُحُومِ الْهَدْيِ، وَجُلُودِهَا، وَجِلَالِهَا، وَلَا يُعْطِي الْجَزَّارَ مِنْهَا شَيْئًا)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3181]
(1317) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أقومَ عَلَى بُدْنِهِ، وَأَنْ أَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا، وَجُلُودِهَا، وَأَجِلَّتِهَا، وَأَنْ لَا أُعْطيَ الْجَزَّارَ مِنْهَا، قَالَ: "نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، أبو زكريّا النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(أَبُو خَيْثَمَةَ) زهير بن معاوية بن حُديج الجعفيّ الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 2 أو 3 أو 174)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.
3 -
(عَبْدُ الْكَرِيمِ) بن مالك الْجَزَريّ، أبو سعيد الأمويّ مولاهم، الْخِضْرميّ
(1)
، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ [5
(2)
] (ت 127)(ع) تقدم في "الصيام" 15/ 2609.
4 -
(مُجَاهِدُ) بن جَبْر المخزوميّ، أبو الحجاج المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه مشهور [3](ت 1 أو 2 أو 3 أو 104)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.
5 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى) الأنصاريّ المدنيّ، ثم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3
(3)
] (ت 86)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
6 -
(عَلِيُّ) بن أبي طالب الهاشميّ الخليفة الراشد، استُشهِد رضي الله عنه في رمضان سنة (40)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
(1)
بكسر الخاء وسكون الضاد المعجمتين: نسبة إلى قرية باليمامة.
(2)
جعله في "التقريب" من السادسة، والظاهر أنه من الخامسة؛ لأنه رأى أنسًا رضي الله عنه، كما في "تهذيب التهذيب"، فتنبّه.
(3)
جعله في "التقريب" من الثانية، والظاهر أنه من الثالثة، كما يظهر من "تت".
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنهم كوفيّون، سوى شيخه، فنيسابوريّ، ومجاهد، فمكيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.
5 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه ذو مناقب جمّة، فهو ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته فاطمة رضي الله عنها، وأول من أسلم من الصبيان، وأحد الخلفاء الراشدين، والعشرة المبشّرين بالجنة، ومات يوم مات وهو أفضل أهل الأرض من بني آدم بإجماع أهل السنّة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى) سيأتي في الرواية الرابعة من طريق الحسن بن مسلم: أن مجاهدًا أخبره، أن عبد الرحمن بن أبي ليلى أخبره، أن عليّ بن أبي طالب أخبره، فوقع التصريح بالإخبار (عَنْ عَلِيٍّ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ) بضمّتين، أو بضمّ، فسكون: جمع بدنة بفتحتين، قال الفيّوميّ رحمه الله: البدنة: جمعها بدنات، مثلُ قَصَبة وقَصَبَات، وبُدُنٌ أيضًا بضمّتين، وإسكانُ الدال تخفيفٌ، وأن البُدُن جمع بَدِينٍ تقديرًا، مثلُ نذير ونُذُرٍ.
قال: والبدنة: قالوا: هي ناقة، أو بقرة، وزاد الأزهريّ: أو بعير ذكر، قال: ولا تقع البدنة على الشاة، وقال بعض الأئمة: البدنة هي الإبل خاصة، ويدل عليه قوله تعالى:{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} الآية، سُمِّيت بذلك؛ لعظم بدنها، وإنما ألحقت البقرة بالإبل بالسنة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"تجزئ البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة"، ففرَّق الحديث بينهما بالعطف؛ إذ لو كانت البدنة في الوضع تُطْلَق على البقرة لما ساغ عطفها؛ لأن المعطوف غير المعطوف عليه، وفي الحديث ما يدلّ عليه، قال: "اشتركنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج والعمرة سبعةٌ منا في بدنة، فقال رجل لجابر: أنشترك في البقرة ما نشترك في الجزور؟
فقال: ما هي إلا من البُدُن، والمعنى في الحكم؛ إذ لو كانت البقرة من جنس البدن، لَمَا جَهِلها أهل اللسان، ولَفُهِمت عند الإطلاق أيضًا.
وقال أيضًا: قالوا: وإذا أُطلقت البَدَنة في الفروع، فالمراد البعير ذكرًا كان أو أنثى. انتهى كلام الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
وقال المجد رحمه الله: البدَنَةُ محرَّكةً من الإبل، والبقر، كالأضحيّة من الغنم تُهدى إلى مكة، للذكر والأنثى، جمعه ككُتُب. انتهى
(2)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله: البدَنَةُ تقع على الجمل، والناقة، والبقرة، وهي بالإبل أشبه. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما أسلفته من أقوال أهل اللغة أن البدنة هي الإبل، والبقر، فلا تُطلق على الغنم، فقول النوويّ في "شرحه": وتُطْلَق على الإبل، والبقر، والغنم، هذا قول أكثر أهل اللغة، ففيه نظر لا يخفى، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقوله: (أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ) أي التي أرصدها للهدي، والمراد أنه يقوم عند نحرها للاحتفاظ بها، وَيحْتَمِل أن يريد ما هو أعمّ من ذلك، أي على مصالحها، في عَلْفها، ورَعْيها، وسَقْيها، وغير ذلك.
ولم يقع في هذه الرواية عدد البُدن، ووقع في رواية البخاريّ من طريق سيف بن أبي سليمان، قال: "سمعت مجاهدًا، يقول: حدّثني ابن أبي ليلى أن عليًّا رضي الله عنه حدّثه قال: أهدى النبيّ صلى الله عليه وسلم مائة بدنة
…
" الحديث، ولأبي داود من طريق ابن إسحاق، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: نَحَرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاثين بدنةً، وأمرني، فنحرت سائرها. وأصح منه ما تقدّم عند مسلم في حديث جابر الطويل، فإن فيه: "ثم انصرف النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المنحر، فنحر ثلاثًا وستين بدنةً، ثم أعطى عليًّا، فنَحَر ما غَبَرَ، وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بَدَنة ببَضْعَة، فجُعِلت في قِدْر، فطُبِخت، فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها"، فعُرِف بذلك أن البُدن كانت مائة بدنة، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحر منها ثلاثًا وستين،
(1)
"المصباح المنير" 1/ 39.
(2)
"القاموس المحيط" 4/ 200.
(3)
"النهاية" 1/ 108.
ونحر عليّ رضي الله عنه الباقي، والجمع بينه وبين رواية ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم نَحَر ثلاثين، ثم أَمَرَ عليًّا أن ينحر، فنَحَرَ سبعًا وثلاثين مثلًا، ثم نَحَر النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاثًا وثلاثين، فإن ساغ هذا الجمع، وإلا فما في "الصحيح"، أصحّ، أفاده في "الفتح"
(1)
.
(وَأَنْ أَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا، وَجُلُودِهَا، وَأَجِلَّتِهَا) بفتح الهمزة، وكسر الجيم، هكذا في هذه الرواية، وفي الرواية الآتية بلفظ:"جِلالها"، وهو الموافق لما في كتب اللغة، ففي "القاموس": "الجلّ بالضمّ، والفتح: ما تُلبَسُهُ الدابّة لِتُصان به، وقد جلّلتها، وجلَلْتُها، جمعه جِلالٌ، وأَجْلالٌ. انتهى
(2)
.
وفي "المصباح": وجُلُّ الدابّة: كثوب الإنسان يَلبسه يَقِيه البردَ، والجمع جِلالٌ، وأَجْلالٌ. انتهى
(3)
.
ولعله -كما قال بعضهم-: جمع جِلال، الذي هو جمع جُلّ، فليُتأمل، والله تعالى أعلم.
وفي رواية البخاريّ: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمره أن يقوم على بُدنه، وأن يقسم بُدنه كلّها، لحومها، وجلودها، وجِلالها"، زاد ابن خزيمة:"على المساكين"، قال ابن خزيمة: المراد بقوله: "يَقسمها كلها على المساكين" أي إلا ما أَمَر به من كل بدنة بِبَضْعة، فطُبِخت كما في حديث جابر -يعني الطويل الذي تقدّم عند مسلم
(4)
.
(وَأَنْ لَا أُعْطِيَ الْجَزَّارَ مِنْهَا) أي وأمرني بعدم إعطاء أجرة الجزّار منها.
وفي الرواية الآتية: "ولا يُعطيَ في جِزارتها منها شيئًا"، وفي رواية البخاريّ:"ولا أُعطي عليها شيئًا في جِزارتها"، وفي لفظ:"ولا يعطي في جزارتها شيئًا"، قال في "الفتح": ظاهرهما أن لا يعطي الجزار شيئًا البتة، وليس ذلك المراد، بل المراد أن لا يعطي الجزار منها شيئًا، كما وقع عند مسلم، وظاهره مع ذلك غير مراد، بل بَيَّن النسائيّ في روايته، من طريق شعيب بن إسحاق، عن ابن جريج، أن المراد منع عطية الجزار من الهدي
(1)
"الفتح" 4/ 668، 669.
(2)
"القاموس المحيط" 3/ 350.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 105، 106.
(4)
راجع: "الفتح" 4/ 670.
عوضًا عن أجرته، ولفظه:"ولا يُعطِي في جزارتها منها شيئًا".
وقال ابن خزيمة رحمه الله: النهي عن إعطاء الجزار: المراد به أن لا يُعْطَى منها عن أجرته، وكذا قال البغويّ في "شرح السنة"، قال: وأما إذا أُعطي أجرته كاملة، ثم تُصُدّق عليه إذا كان فقيرًا كما يتصدق على الفقراء، فلا بأس بذلك.
وقال غيره: إعطاء الجزار على سبيل الأجرة ممنوع؛ لكونه معاوضةً، وأما إعطاؤه صدقة، أو هدية، أو زيادة على حقه فالقياس الجواز، ولكن إطلاق الشارع ذلك قد يُفْهَم منه منع الصدقة؛ لئلا تقع مسامحة في الأجرة لأجل ما يأخذه، فيرجع إلى المعاوضة.
قال القرطبيّ: ولم يرخص في إعطاء الجزار منها في أجرته إلا الحسن البصريّ، وعبد الله بن عُبيد بن عُمير. انتهى
(1)
.
واختُلِف في الْجزارة، فقال ابن التين: الجزارة بالكسر اسم للفعل، وبالضم اسم للسواقط، فعلى هذا فينبغي أن يقرأ بالكسر، وبه صحّت الرواية، فإن صحت بالضم جاز أن يكون المراد: لا يعطى من بعض الجزور أجرة الجزار.
وقال ابن الجوزيّ، وتبعه المحبّ الطبريّ: الجزارة بالضم اسم لما يُعْطَى، كالْعُمَالة وزنًا ومعنًى، وقيل: هو بالكسر كالحجامة، والخياطة، وجَوَّز غيره الفتح.
وقال ابن الأثير: الجزارة بالضم، كالعمالة: ما يأخذه الجزار من الذبيحة عن أجرته، وأصلها أطراف البعير: الرأس، واليدان، والرجلان، سُمِّيت بذلك؛ لأن الجزار كان يأخذها عن أجرته. انتهى
(2)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا") أي نعطي الجزّار أجرته مما لدينا من المال، غير الجزور.
قال القرطبيّ رحمه الله: هذا مبالغة في سدّ الذريعة، وتحقيق للجهة التي تجب
(1)
"المفهم" 3/ 416، و"الفتح" 4/ 670.
(2)
"الفتح" 4/ 669.
عليها أجرة الجازر؛ لأنه لما كان الهدي منفعته له تعينت أجرة الذي تتم به تلك المنفعة عليه.
وقال أبو بكر الجصّاص رحمه الله في "أحكامه": ولما منع النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يعطى الجازر من الهدي شيئًا في جزارتها، وقال: إنا نعطيه من عندنا، دلّ ذلك على معنيين: أحدهما: أن المحظور من ذلك أن يعطيه منها على وجه الأجرة؛ لأن في بعض ألفاظ حديث عليّ رضي الله عنه: "وأمرني أن لا أعطي أجر الجزار منها"، وفي بعضها:"أن لا أعطيه في جزارتها منها شيئًا"، فدل على أنه جائز أن يُعْطَى الجازر من غير أجرته، كما يُعْطَى سائر الناس، وفيه دليل على جواز الإجارة على نحر البدن؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"نحن نعطيه من عندنا"، وهو أصل في جواز الإجارة على كل عمل معلوم، قال: وأجاز أصحابنا -يعني الحنفيّة- الإجارة على ذبح شاة، ومنع أبو حنيفة الإجارة على قتل رجل بقصاص، والفرق بينهما أن الذبح عمل معلوم، والقتل مبهم، غير معلوم، ولا يُدرى أيقتله بضربة، أو ضربتين، أو أكثر. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عليّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [59/ 3181 و 3182 و 3183 و 3184 و 3185](1317)، و (البخاريّ) في "الحجّ "(1707 و 1716 و 1717 و 1718) و"الوكالة"(2299)، و (أبو داود) في "المناسك"(1769)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 457)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 217)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 24)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 79 و 123 و 132 و 143 و 154 و 159)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2919 و 2920 و 2922 و 2923)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 314 و 315)، و (أبو نعيم) في
(1)
"أحكام القرآن" للجصاص 5/ 72، 73.
"مستخرجه"(3/ 391)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 129)، و (البزّار) في "مسنده"(2/ 219)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1/ 255 و 435)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 241 و 9/ 294) و"الصغرى"(4/ 446) و"المعرفة"(4/ 264 و 7/ 233)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب سوق الهَدْي.
2 -
(ومنها) بيان جواز النيابة في نحره، والقيامِ عليه، وتفرقته.
3 -
(ومنها): بيان أنه يتصدق بلحومها، وجلودها، وجلالها.
4 -
(ومنها): بيان أنها تُجَلَّل، واستحبوا أن يكون جُلًّا حسنًا، قال القاضي عياض رحمه الله: التجليل سنة، وهو عند العلماء مختصّ بالإبل، وهو مما اشتَهَر من عمل السلف، قال: وممن رآه مالكٌ، والشافعيّ، وأبو ثور، وإسحاق، قالوا: ويكون بعد الإشعار؛ لئلا يتلطخ بالدم، قالوا: ويستحب أن تكون قيمتها ونفاستها بحسب حال المهدي، وكان بعض السلف يُجَلِّل بالوشي، وبعضهم بالْحِبَرة، وبعضهم بالقباطيّ. انتهى
(1)
.
5 -
(ومنها): بيان أنه لا يجوز أن يُعْطَى الجزّار منها؛ لأن عطيته عوض عن عمله، فيكون في معنى بيع جزء منها، وذلك لا يجوز.
6 -
(ومنها): بيان جواز الاستئجار على النحر، ونحوه.
7 -
(ومنها): أنه استُدِلّ به على منع بيع الجلد، قال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليل على أن جلود الهدي، وجلالها لا تباع؛ لعطفها على اللحم، وإعطائها حكمه، وقد اتفقوا على أن لحمها لا يباع، فكذلك الجلود، والجلال، وأجازه الأوزاعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وهو وجه عند الشافعية، قالوا: ويُصْرَف ثمنه مَصْرِف الأضحية، واستَدَلَّ أبو ثور على أنهم اتفقوا على جواز الانتفاع به، وكل ما جاز الانتفاع به جاز بيعه، وعورض باتفاقهم على جواز الأكل من لحم هدي التطوع، ولا يلزم من جواز أكله جواز بيعه.
قال الحافظ رحمه الله: وأقوى من ذلك في رد قوله ما أخرجه أحمد، من
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 65.
حديث قتادة بن النعمان رضي الله عنه مرفوعًا: "ولا تبيعوا لحوم الهدي، والأضاحيّ، وتصدّقُوا، وكلوا، واستمتعوا بجلودها، ولا تبيعوا، وإن أُطْعِمتم من لحومها، فكلوا إن شئتم"
(1)
. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: مذهبنا أنه لا يجوز بيع جلد الهدي، ولا الأضحية، ولا شيء من أجزائهما، لا بما يُنتفع به في البيت، ولا بغيره، سواء كانا تطوعًا، أو واجبتين، لكن إن كانا تطوعا فله الانتفاع بالجلد وغيره باللبس وغيره، ولا يجوز إعطاء الجزار منها شيئًا بسبب جزارته، هذا مذهبنا، وبه قال عطاء، والنخعيّ، ومالك، وأحمد، وإسحاق، وحَكَى ابن المنذر عن ابن عمر، وأحمد، وإسحاق أنه لا بأس ببيع جلد هديه، ويتصدق بثمنه، قال: ورَخّص في بيعه أبو ثور، وقال النخعيّ، والأوزاعيّ: لا بأس أن يشتري به الْغِربال، والْمُنْخُل، والفأس، والميزان، ونحوها، وقال الحسن البصريّ: يجوز أن يعطى الجزار جلدها، وهذا منابذ للسنة. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3182]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ ابْنُ حَرْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو عمرو بن محمد بن بُكير البغداديّ، نزل الرَّقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.
والباقون تقدّموا في الباب والبابين قبله.
[تنبيه]: رواية ابن عيينة، عن عبد الكريم هذه ساقها أبو داود في "سننه"، فقال:
(1)
لكن الحديث ضعيف؛ ففي إسناده ابن جريج، وأبو الزبير مدلسان، ولم يصرّحا بالسماع، فاستدلال القرطبيّ بكونه معطوفًا على اللحم المتّفق على منع بيعه أشبه، والله تعالى أعلم.
(2)
"الفتح" 4/ 670.
(1506)
- حدّثنا عمرو بن عون، أخبرنا سفيان -يعني ابن عيينة- عن عبد الكريم الجزريّ، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عليّ رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بُدنه، وأَقسم جلودها، وجِلالها، وأمرني أن لا أعطي الجزار منها شيئًا، وقال:"نحن نعطيه من عندنا". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكئالب قال:
[3183]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: أَخْبَرَنَا
(1)
مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، كِلَاهُمَا عَن ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَن ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَلِيٍّ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَيْسَ في حَدِيثِهِمَا أَجْرُ الْجَازِرِ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هو: ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدستوائيّ البصريّ، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
3 -
(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
4 -
(ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ) عبد الله بن يسار الثقفيّ مولاهم، أبو يسار المكيّ، ثقةٌ رُمي بالقدر، وربمًا دلّس [6] تقدم في "الجنائز" 6/ 2134.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ) هو ابن عيينة.
وقوله: (وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هو ابن راهويه، وليس هذا تعليقًا، بل هو موصول، وقد خالف فيه عادته، فهانه يقول في شيوخه:"حدّثنا"، أو "أخبرنا"، والتعبير بـ "قال فلان" يستعملها بعضهم في المنقطع، وراجع تفصيل
(1)
وفي نسخة: "وقال إسحاق: أخبرنا".
المسألة في شرحي
(1)
على "ألفيّة الحديث" للسيوطيّ رحمه الله عند قوله:
وَمَا عَزَا لِشَيْخِهِ بِـ "قَالَا"
…
فَفِي الأَصَحِّ احْكُمْ لَهُ اتِّصَالَا
وقوله: (كِلَاهُمَا عَن ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ) ضمير التثنية لسفيان بن عيينة، وهشام الدستوائيّ.
[تنبيه]: رواية سفيان، عن ابن أبي نَجِيح هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى" 2/ 456 فقال:
(4147)
- أنبأ إسحاق بن إبراهيم، قال: أنبأ سفيان، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عليّ، قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بُدنه، وأمرني أن أَقْسِم جلودها، وجلالها. انتهى.
وأخرجه الحميديّ في "مسنده" 1/ 24، وزاد في آخره: قال الحميديّ: قال سفيان: لم يزدني ابن أبي نَجيح على هذا، فأما عبد الكريم، فحدّثنا أتمّ من هذا
(2)
. انتهى.
وأما رواية هشام الدستوائيّ، عن ابن أبي نَجِيح، فلم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3184]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا، وقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ، أَنَّ مُجَاهِدًا أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمَرَهُ أَنْ يَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْسِمَ بُدْنَهُ كُلَّهَا، لُحُوَمَهَا، وَجُلُودَهَا، وَجِلَالَهَا في الْمَسَاكِينِ، وَلَا يُعْطيَ فِي جِزَارَتهَا مِنْهَا شَيْئًا).
(1)
"إسعاف ذوي الوطر في شرح ألفيّة الأثر" 1/ 176 - 180.
(2)
تقدّمت رواية سفيان، عن عبد الكريم في التنبيه الذي ذكرته في الحديث الماضي.
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ) هو: محمد بن محمد بن مرزوق بن بكير بن البهلول الباهليّ، أبو عبد الله البصريّ، ابن بنت مَهْديّ بن ميمون، نُسب لجدّه، صدوقٌ له أوهام [11].
رَوَى عن أبي عامر العَقَديّ، وسالم بن نوح، ورَوح بن عُبادة، ومحمد بن بَكر الْبُرْسانيّ، وحاتم بن ميمون، ومحمد بن عبد الله الأنصاريّ، وغيرهم.
ورَوَى عنه مسلم، والترمذيّ، وابن ماجه، وحرب بن إسماعيل الكرمانيّ، وأبو بكر بن أبي عاصم، ومحمد بن عبد الله الحضرميّ، وعبدان الأهوازيّ، وغيرهم.
قال أبو حاتم: صدوقٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ووثقه الخطيب، وأورد له ابن عديّ حديثه عن الأنصاريّ، عن أبيه، عن ثُمامة، عن أنس، مرفوعًا:"ليس الخبر كالمعاينة"، وعن الأنصاريّ، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، مرفوعًا:"إذا أكل ناسيًا في رمضان، فلا قضاء عليه، ولا كفارة"، قال ابن عديّ: لم أر له أنكر منهما، وهو لَيِّنٌ، وأبوه ثقة.
قال ابن حبّان، وابن أبي عاصم: مات سنة ثمان وأربعين ومائتين.
روى عنه المصنّف، والترمذيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط
(1)
، برقم (1317)، و (2160)، و (2756)، و (2920).
2 -
(الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمِ) بن يَنّاق المكيّ، ثقةٌ [5] مات قديمًا بعد المائة بقليل (خ م د س ق) تقدم في "صلاة العيدين" 1/ 2044.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.
وقوله: (وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْسِمَ بُدْنَهُ كُلَّهَا إلخ) قال القرطبيّ رحمه الله: وأمره صلى الله عليه وسلم بالتصدق بلحوم البدن، وجلودها، وأجلتها؛ دليل: على أن جلود الهدي وجلالها لا تباع؛ لأنه عطفها على اللحم، وحكم لها بحكمه، وقد اتفق على
(1)
هكذا في برنامج الحديث، وقال في "تهذيب التهذيب": وفي "الزهرة": روى عنه مسلم سبعة أحاديث، وذكره منسوبًا إلى جدّه. انتهى. والظاهر أن ما في البرنامج أقرب إلى الصواب. فتنبّه.
أن لحمها لا يُباع، فكذلك الجلود والجلال. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يكسو جلالها الكعبة، فلما كُسيت الكعبة تصدق بها؛ أخذًا منه بهذا الحديث. انتهى
(1)
.
وقوله: (وَجِلَالَهَا) بكسر الجيم، جمع جُلّ بضم الجيم، وفتحها، قال القرطبيّ رحمه الله: وفيه دليل على تجليل البدن، وهو ما مضى عليه عمل السلف، ورآه أئمة العلماء: مالك، والشافعي، وغيرهما، وذلك بعد إشعار الهدي؛ لئلا تتلطَّخ الجلال، وهي على قدر سعة الهدي؛ لأنها تطوع غير لازم، ولا محدود، قال ابن حبيب: منهم من كان يُجلِّل الوشي، ومنهم من يُجلِّل الْحِبَر، والقباطي، والملاحف، والأُزُر، وتجليلها: ترفيه لها، وصيانة، وتعظيم لحرمات الله، ومباهاة على الأعداء من المخالفين، والمنافقين، وقال مالك: وتُشَقّ على الأسنمة إن كانت قليلة الثمن؛ لئلا تسقط، وما علمتُ من تركَ ذلك إلا ابن عمر استبقاءً للثياب؛ لأنه كان يُجلِّل الجلال المرتفعة من الأنماط، والبرود، والحِبَر، قال مالك: أما الجِلال فتنزع؛ لئلا يخرقها الشوك، قال: وأحب إليّ إن كانت الجلال مرتفعة أن يترك شقُّها، ولا يجللها حتى تغدو من عرفات، ولو كانت بالثمن اليسير فتُشَقّ من حيث يُحْرم، وهذا في الإبل، والبقر دون الغنم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
وقوله: (وَلَا يُعْطِيَ فِي جِزَارَتهَا مِنْهَا شَيْئًا) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ على أنه لا تجوز المعاوضة على شيء منها؛ لأن الجزار إذا عمل عمله استحقّ الأجرة على عمله، فإن دُفع له شيء منها كان ذلك عوضًا على فعله، وهو بيع ذلك الجزء منها بالمنفعة التي عملها، وهي الجزر، والجمهور على أنه لا يعطي الجازر منها شيئًا، تمسُّكًا بالحديث، وكان الحسن البصريّ، وعبد الله بن عبيد بن عمير لا يريان بأسًا أن يعطى الجزار الجلد. انتهى
(3)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في حديث أول الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"المفهم" 3/ 416.
(2)
"المفهم" 3/ 417.
(3)
"المفهم" 3/ 416.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3185]
(
…
) - (وَحَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ مَالِكٍ الجَزَرِيُّ، أَنَّ مُجَاهِدًا أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلّهم ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: رواية ابن جريج، عن عبد الكريم هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى" 2/ 456 فقال:
(4144)
- أخبرني عمران بن يزيد، قال: حدّثنا شعيب، قال: أنبأ ابن جريج، قال: أخبرني عبد الكريم بن مالك، أن مجاهدًا أخبره، أن عبد الرحمن بن أبي ليلى أخبره، أن عليّ بن أبي طالب أخبره، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمره أن يقوم على بُدنه، وأن يَقسم بُدنه كلها، لحومها، وجلودها، وجِلالها، ولا يُعطي من جزارتها منها شيئًا. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(60) - (بَابُ جَوَازِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْهَدْيِ، وَإِجْزَاءِ الْبَقَرَةِ وَالْبَدَنَةِ، كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ سَبْعَةٍ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3186]
(1318) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ ابْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قريبًا.
2 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم قريبًا.
4 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حرام رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قريبًا.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّفرحمه الله، كالإسنادين بعده، وهو (196) من رباعيّات الكتاب، وله فيه إسنادان فرّق بينهما بالتحويل؛ لاختلاف كيفيّة الأخذ، والأداء.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى يحيى، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن صحابيّه ابن صحابيّ رضي الله عنهما، وهو أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما، في الرواية الآتية من طريق ابن جريج، قال:"أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله"، فصرّح أبو الزبير بالسماع، فزالت تهمة التدليس عنه، (قَالَ: نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ) بالتخفيف على المشهور، وقيل: بالتشديد (الْبَدَنَةَ) أي الإبل (عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ). وفي رواية زُهير التالية: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلّين بالحجّ، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل، والبقر، كلُّ سبعة منا في بدنة"، وفي رواية ابن جريج الآتية:"اشتركنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحج والعمرة، كلُّ سبعة في بدنة".
وظاهر هذه الروايات أن البقرة لا تُسَمَّى بدنة، وهو كذلك بالنسبة لغالب استعمالها، ففي "القاموس": البَدَنَة مُحَرَّكَةً، من الإبل والبقر، كالأضحية من الغنم تُهدى إلى مكة المكرمة، للذكر والأنثى، وفي "الصحاح" للجوهري:
البدنة ناقة أو بقرة تُنحر بمكة، وفي "النهاية": البدنة تقع على الجمل، والناقة، والبقرة، وهي بالإبل أشبه، وقال في "الفتح": إن أصل البُدْن من الإبل، وأُلحقت بها البقرة شرعًا. انتهى.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: البدنة: قالوا: هي ناقة، أو بقرة، وزاد الأزهريّ: أو بعيرٌ ذكرٌ، قال: ولا تقع البدنة على الشاة، وقال بعض الأئمة: البدنة هي الإبل خاصّةً، ويدلّ عليه قوله تعالى:{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} ، سُمِّيت بذلك؛ لعظم بَدَنها، وإنما أُلحقت البقرة بالإبل بالسنة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"تجزئ البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة"، ففرّق الحديث بينهما بالعطف؛ إذ لو كانت البدنة في الوضع تُطلق على البقرة، لما ساغ عطفها؛ لأن المعطوف غير المعطوف عليه، وفي الحديث ما يدل عليه، قال:"اشتركنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج والعمرة، سبعة مِنّا في بَدَنة، فقال رجل لجابر: أنشترك في البقرة ما نشترك في الجزور؟ فقال: ما هي إلا من البدن"، والمعنى في الحكم؛ إذ لو كانت البقرة من جنس البُدْن لَمَا جَهِلها أهل اللسان، ولَفُهِمت عند الإطلاق أيضًا، قالوا: وإذا أُطلقت البدنة في الفروع، فالمراد: البعير ذكرًا كان أو أنثى. انتهى كلام الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن أصل البدنة للإبل، لكن تُطلق على البقر أيضًا؛ لاستوائهما في الحكم، كما بُيّن في حديث جابر رضي الله عنه هذا، فافهم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخرجه:
أخرجه (المصنف) هنا [60/ 3186 و 3187 و 3188 و 3189 و 3190
(1)
"المصباح المنير" 1/ 39، 40.
و 3191] (1318)، و (أبو داود) في "المناسك"(2809)، و (الترمذيّ) في "الحجّ "(904 و 1502)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 293 و 301 و 378)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2900 و 2901)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 291 و 317)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 312 و 393)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(7/ 120)، و (الطحاويّ) في "شرح مشكل الآثار"(7/ 18)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 234 و 9/ 294) و"الصغرى"(4/ 506) و"المعرفة"(7/ 235)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان جواز الاشتراك في الهدي، وفي المسألة خلاف بين العلماء، سيأتي تحقيقه في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى-.
2 -
(ومنها): أن البدنة تجزئ عن سبعة، والبقرة عن سبعة، وتقوم كل واحدة منهما مقام سبع شياه، حتى لو كان على المحرم سبعة دماء بغير جزاء الصيد، وذبح عنها بدنة، أو بقرة أجزأه عن الجميع، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
3 -
(ومنها): بيان مشروعيّة الهدي في الحجّ والعمرة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في الاشتراك في الهدي:
قال النوويّ رحمه الله: ذهب الشافعيّ إلى جواز الاشتراك في الهدي، سواء كان تطوعًا أو واجبًا، وسواء كانوا كلهم متقربين، أو بعضهم يريد القربة، وبعضهم يريد اللحم، ودليله هذه الأحاديث الصحيحة، وبهذا قال أحمد، وجمهور العلماء، وقال داود، وبعض المالكية: يجوز الاشتراك في هدي التطوع دون الواجب، وقال مالك: لا يجوز مطلقًا، وقال أبو حنيفة: يجوز إن كانوا كلهم متقربين، وإلا فلا، وأجمعوا على أن الشاة لا يجوز الاشتراك فيها. انتهى.
وقد أَوَّلت المالكية حديث جابر رضي الله عنه هذا بوجوه كلُّها تكلفات باردة، من شاء الوقوف عليها رجع إلى شَرْحَي "الموطإ" للزرقانيّ والباجيّ.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 67.
وأجاب إسماعيل القاضي بأنه كان بالحديبية، حيث كانوا مُحْصَرين.
وتُعُقّب بأنه ثبت عن جابر رضي الله عنه عند مسلم هنا أنه قال: "حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحرنا البعير عن سبعة، والبقرة عن سبعة"، ولا شك أن المراد بحجه صلى الله عليه وسلم حجة الوداع؛ لأنه لم يحج بعد الهجرة حجة غيرها.
وبالجملة فالأحاديث الصحيحة تدل على جواز الاشتراك للسبع في بدنة أو بقرة، ويدل على جواز الاشتراك أيضًا ما رواه البخاريّ عن أبي جمرة قال: سألت ابن عباس عن المتعة، فأمرني بها، وسألته عن الهدي، فقال: فيها جزور، أو بقرة، أو شاة، أو شرك في دم. انتهى.
قال الحافظ رحمه الله قوله: "أو شرك" بكسر الشين المعجمة، وسكون الراء، أي مشاركة في دم، أي حيث يجزئ الشيء الواحد عن جماعة، وهذا موافق لما رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: خرجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلّين بالحج، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كلُّ سبعة منا في بدنة.
وأجاب إسماعيل القاضي عن حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا بأنه خالف أبا جمرة في ذكره الاشتراك المذكور ثقاتُ أصحاب ابن عباس، فرووا عنه أن ما استيسر من الهدي شاة، ثم ساق ذلك بأسانيد صحيحة عنهم، عن ابن عباس، قال: وحدثنا سليمان، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن ابن عباس، قال: ما كنت أرى أن دمًا واحدًا يقضي عن أكثر من واحد. انتهى.
قال الحافظ رحمه الله: ليس بين رواية أبي جمرة، ورواية غيره منافاة؛ لأنه زاد عليهم ذكر الاشتراك، ووافقهم على ذكر الشاة، وإنما أراد ابن عباس بالاقتصار على الشاة الرد على من زعم اختصاص الهدي بالإبل والبقر، وذلك واضح فيما سنذكره بعد هذا، وأما رواية محمد عن ابن عباس فمنقطعة، ومع ذلك لو كانت متصلة احتَمَل أن يكون ابن عباس أخبر أنه كان لا يرى ذلك من جهة الاجتهاد، حتى صح عنده النقل بصحة الاشتراك، فأفتى به أبا جمرة، وبهذا تجتمع الأخبار، وهو أولى من الطعن في رواية من أَجمع العلماء على توثيقه، والاحتجاج بروايته، وهو أبو جمرة الضُّبَعيّ.
وقد رُوي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان لا يرى التشريك، ثم رجع عن ذلك لما بلغته السنّة.
قال أحمد: حدّثنا عبد الوهّاب، حدّثنا مجاهد، عن الشعبيّ، قال: سألت ابن عمر، قلت: الجزور والبقرة تجزئ عن سبعة؟ قال: يا شعبيّ، ولها سبعة أنفس؟ قال: قلت: فإن أصحاب محمد يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنّ الجزور عن سبعة، والبقرة عن سبعة، قال: فقال ابن عمر لرجل: أكذلك يا فلان؟ قال: نعم، قال: ما شعرت بهذا. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من ذكر الأقوال وأدلّتها أن أرجحها هو ما ذهب إليه الجمهور من جواز اشتراك السبعة في الإبل والبقر؛ لوضوح حجته، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: استَدَلّ بقوله: "كل سبعة منا في بدنة" من قال: عدل البدنة سَبْعُ شياه، وهو قول الجمهور، أي في الهدي والأضحية كليهما، وادَّعَى الطحاويّ وابن رُشْد أنه إجماع، وتُعُقّب عليهما بأن الخلاف في ذلك مشهور، حكاه الترمذي في "جامعه" عن إسحاق ابن راهويه، وكذا الحافظ في "الفتح"، وقال: هو -أي إجزاء البدنة عن عشرة- إحدى الروايتين عن سعيد بن المسيب، وإليه ذهب ابن خزيمة من الشافعية
(2)
، واحتجّ له في "صحيحه"، وقوّاه، واحتج له ابن حزم، وكذا ابن خزيمة بحديث رافع بن خديج رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قسم، فعَدَلَ
(1)
راجع: "الفتح" 4/ 634، 635.
(2)
هكذا في "الفتح" يذكر في كثير من المواضع أن ابن خزيمة شافعيّ المذهب، مقلّد له، وقد رددت على هذا في مقدّمة هذا الشرح، وفي شرح "التحفة المرضيّة" في الأصول، ومواضع أخر أن هذا غير صحيح، فإن ابن خزيمة، وكذا ابن حبّان، وغيرهم من أئمة الحديث ليسوا مقلّدين للأئمة، بل هم مجتهدون بأنفسهم، وأكبر دليل على ذلك أن تقرأ مؤلفاتهم، فترى هل ينتصرون للشافعيّ فيها كما يفعل المقلّدون من أمثال البيهقيّ، والطحاويّ، والنووي، ونحوهم، أم يذهبون إلى ما اقتضته النصوص، وإن خالفها الشافعيّ، أو غيره؟، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، فإنه حجة البليد، وملجأ العنيد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
عشرًا من الغنم ببعير
…
الحديث، وهو في "الصحيحين"، واحتجوا أيضًا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في سفر، فحضر الأضحى، فذبحنا البقرة عن سبعة. والبعير عن عشرة، رواه الخمسة إلا أبا داود.
ويجاب عنه بأنه خارج عن محل النزاع لأنه في الأضحية، فإن قالوا: يقاس الهدي عليها، قلنا: هو قياس فاسد الاعتبار؛ لمصادمته النصوص.
ويجاب عن حديث رافع أيضًا بمثل هذا الجواب؛ لأن ذلك التعديل كان في القسمة، وهي غير محل النزاع، وأيضًا حديث جابر في خصوص الهدي، والأخص في محل النزاع مقدم على الأعم، ويؤيد كون البدنة عن سبعة فقط أمْره صلى الله عليه وسلم لمن لم يجد البدنة أن يشتري سُبْعًا فقط، ولو كانت تعدل عُشرًا لأمره بإخراج عُشر؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي الأرجح ما ذهب إليه الجمهور من كون الاشتراك في البدنة لسبعة فقط؛ عملًا بحديث جابر رضي الله عنه، فإن قوله:"أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كلّ سبعة منا في بدنة"، نصّ صريح في ذلك، وأما قياس الهدي بعدله صلى الله عليه وسلم كل عشر من الغنم ببعير في القسمة فغير صحيح؛ لأن القياس في مقابلة النصّ فاسد الاعتبار، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3187]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَدَنَةٍ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ) هو: أحمد بن عبد الله بن يونس التميميّ
(1)
راجع: "المرعاة" 9/ 224 - 226.
اليربوعيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظ، من كبار [10](ت 227)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.
2 -
(أَبُو خَيْثَمَةَ) هو زهير المذكور في السند بعده، تقدّم في الباب الماضي.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3188]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَحَرْنَا الْبَعِيرَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم) بن ميمون، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قريبًا.
3 -
(عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ) بن أبي زيد بن أخطب الأنصاريّ البصريّ، ثقةٌ [6].
رَوَى عن عمه بشير، وأخيه عليّ بن ثابت، وثُمامة بن عبد الله بن أنس، ويحيى بن عَقِيل، وعلباء بن أحمر، وعمرو بن دينار، وقتادة، وأبي الزبير، وغيرهم.
وروى عنه خالد بن الحارث، وابن مهديّ، وابن المبارك، وأبو عامر العَقَديّ، وعثمان بن عُمر بن فارس، ويزيد بن زُريع، وعبد الوارث بن سعيد، ووكيع، وغيرهم.
قال ابن معين، وأبو داود، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: ليس به بأسٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ثقة متقنٌ، وقال يعقوب بن سفيان: لا بأس به.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود في "القدر"، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط برقم (1318)، و (2028)، و (2650)، و (2892).
والباقيان ذُكرا قبله.
وشرح الحديث واضح، وقد تقدّمت مسائله في حديث أول الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3189]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَن ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: اشْتَرَكْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، كُلُّ سَبْعَةٍ فِي بَدَنَةٍ، فَقَالَ رَجُلٌ لِجَابِرٍ: أَيُشْتَرَكُ فِي الْبَدَنَةِ مَا يُشْتَرَكُ فِي الْجَزُورِ؟ قَالَ: مَا هِيَ إِلَّا مِنَ الْبُدْنِ، وَحَضَرَ جَابِرٌ الْحُدَيْبِيَةَ، قَالَ: نَحَرْنَا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ بَدَنَةً، اشْتَرَكْنَا كُلُّ سَبْعَةٍ فِي بَدَنَةٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب، وفيما قبله.
وقوله: (اشْتَرَكْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) قال القرطبيّ رحمه الله: "مع" هذه متعلقة بمحذوف، تقديره: كائنين مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يصح الهدي أن يكون متعلقًا بـ"اشتَرَكنا"؛ لأنه يلزم منه أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم واحدًا من سبعةٍ يشتركون في بَدَنَة، وأنهم شاركوه في هديه، والنقل الصحيح بخلاف ذلك، كما تقدم في حديث جابر وغيره، وإنما أمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يجتمع السبعة في الهدية من بُدنهم. انتهى
(1)
.
وقوله: (فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ) أما الحجّ فأراد به حجة الوداع، وأما العمرة، فأراد به عمرة الْحُديبية، كما يشير إليه قوله:"وحضر جابر الحديبية".
(1)
"المفهم" 3/ 417، 418.
وقوله: (فَقَالَ رَجُلٌ لِجَابِرٍ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفه
(1)
.
وقوله: (أَيُشْتَرَكُ في الْبَدَنَةِ مَا يُشْتَرَكُ فِي الْجَزُورِ؟) ببناء الفعلين للمفعول.
وقوله: (مَا يُشْتَرَكُ فِي الْجَزُورِ؟) قال النوويّ رحمه الله: هكذا في النسخ: "ما يُشتَرك"، وهو صحيح، وتكون "ما" بمعنى "مَنْ"، وقد جاز ذلك في القرآن وغيره، ويجوز أن تكون مصدرية، أي اشتراكًا كالاشتراك في الجزور. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن الوجه الثاني هو الأوضح؛ إذ الأول يلزم منه ارتكاب المجاز، وأيضًا يلزم منه بناء الفعل للفاعل، حتى تكون "ما" فاعلًا، فإن صحّت الرواية بالوجهين، فذاك، وإلا فالأقرب بناؤه للمفعول، وكون "ما" مصدريّة، لا موصولًا اسميًّا، فتأمّل، والله تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله بعد ذكر الاختلافات في الاشتراك في الهدي ما نصّه: وهذا الخلاف إنما هو في الإبل والبقر، وأما الغنم، فلا يجوز الاشتراك فيها اتفاقًا، وقد قدمنا أن اسم البدنة مأخوذ من البدانة، وهي عِظَم الجسم، وأن الجزور من الْجَزْر، وهو: القطع، وأن الجزور من الإبل، والجزرة من الغنم، وقد فَرّق في حديث جابر بين البُدن والجزور؛ لأنه أراد بالبدنة ما ابْتُدئ هديه عند الإحرام، وبالجزور ما اشتُرِي بعد ذلك للنحر، فكأنه ظهر للسائل: أن شأن هذه، أخف في أمر الاشتراك مما أهدي من البُدن، فأجابه بما في معناه: أن الجزور لَمّا اشتُريت للنسك صار حكمها حكم البُدن.
قال: وقد سمعت من بعض مشايخنا أن البدنة في هذا الحديث من الإبل، والجزور فيه من البقر، وكأن السائل سأله عن البقرة؛ هل يَشتَرِك فيها سبعة كما يُشتَرك في البدنة؟ فقال: هي منها في حكم المسؤول عنه، وكأن هذا السائل لم يسمع في هذا ذكر البقر، فسأل عنها، والله أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
وقوله: (مَا هِيَ إِلَّا مِنْ الْبُدْنِ) قال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: الْجَزُور - بفتح الجيم- وهي البعير، قال القاضي: وفرّق هنا بين البدنة والجزور؛ لأن البدنة والهدي ما ابْتُدِئ إهداؤه عند الإحرام، والجزور ما اشتُرِي بعد ذلك
(1)
"تنبيه المعلم" ص 224.
(2)
"المفهم" 3/ 419، 420.
ليُنْحَر مكانها، فَتَوَهَّم السائل أن هذا أحقّ في الاشتراك، فقال في جوابه: الجزور لَمّا اشتُرِيت للنسك صار حكمها كالبُدْن. انتهى
(1)
.
وقوله: (وَحَضَرَ جَابِرٌ الْحُدَيْبِيَةَ) أشار به إلى أن قول جابر رضي الله عنه: اشتركنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحجّ والعمرة، محمول على عمرة الحديبية؛ لأنه حضرها.
وقوله: (اشْتَرَكْنَا كُل سَبْعَةٍ فِي بَدَنَةٍ)"كلّ" يَحْتَمِل أن يكون فاعلًا لـ"اشترك" على لغة "أكلوني البراغيث"، ويَحتَمِل أن يكون مبتدأ خبره الجارّ والمجرور بعده، أي مشترك في بدنة، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قال القرطبيّ رحمه الله: تمسَّك الجمهور من السلف وغيرهم بهذه الأحاديث على جواز الاشتراك في الهدي، وممن قال بهذا ابن عمر، وأنس، وعطاء بن أبي رَباح، والحسن البصري، وطاووس، وسالم، وعمرو بن دينار، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، حكاه ابن المنذر، قال: وقد روينا عن ابن عباس: أنه قال: البدنة عن سبعة، وإن تمتعوا، وبه قال عطاء، وطاووس، وعمرو بن دينار، والثوري، والشافعيّ، قال: وقد روينا عن سعيد بن المسيب: أنه قال: تجزئ الجزور عن عشرة، وبه قال إسحاق.
قال القرطبيّ: وظاهر ما حكاه ابن المنذر: أنهم اشتركوا في الثمن، وأنهم سوّوا في ذلك بين الهدي الواجب والتطوّع، من غير تقييد، ولا تفصيل، وقد فصّل غيره الخلاف فقال: إن الشافعيّ يجيزه في الواجب، وإن كان بعضهم يريد اللحم، وبعضهم يريد الفدية. وأبو حنيفة يجيزه إذا أراد جميعهم الفدية، حكاه الإمام أبو عبد الله، وقال: عندنا في التطوع قولان.
قال ابن المنذر، وقال مالك: لا يشترك في شيء من الهدي، ولا من البُدن، ولا النسك في الفدية، ولا في شيء مما ذكرناه.
قال القرطبيّ: وكأن هذا الذي صار إليه مالك مستنده قول الله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، وأقلّ ما يطلق عليه اسم الهدي شاة، ولم
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 68.
يقل فيه أحدٌ أنه جزءٌ مُسمَّى من اللحم، وقوله تعالى:{فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]، وقد فسَّر النبيّ صلى الله عليه وسلم النسك بشاة في حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه، وكان ذلك أقلّ ما ينطلق عليه الاسم، فكان هو المتعيِّن، ولأنهم قد اتفقوا: على أنه لا يجوز في الهدايا المريض البيِّن المرض، ولا المعيب بنقص عضو، وإذا كان كذلك مع صدق الاسم عليه فأحرى وأولى ألا يجوز جزءٌ من اللحم.
واعتَذَر عن حديث جابر رضي الله عنه: بأن ذلك كان في التطوع، وهو مستند أحد القولين المتقدمين، وليس بالمشهور عن مالك، وبأن تلك الأحاديث ليس فيها تصريح بالاشتراك في الثمن، فلعلَّه قصد التشريك في الثواب، أو التشريك في قسمة الجزور، حتى تقسم البدنة أو الجزور سَبْعَ قِسَم بين سبعة نَفَر، والله أعلم.
وقد أشار إلى هذا جابر رضي الله عنه فقال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أحللنا أن نهدي، ويجتمع النفر منا في الهدية، فإنه مشعر بأن التشريك إنما وقع بعد انفراد المهدي بالهدي، فتأمله. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: إنما نقلت كلام القرطبيّ هذا بطوله، وإن تقدّم ذكر الخلاف في المسألة؛ ليَعلم المنصفون كيف أدّى التقليد بأهله إلى ردّ النصوص الواضحة إلى غير معناها الواضح؛ فكأن من يحاول هذه المحاولة يريد أن يجعل مذهب من قلّده أصلًا، والنصوص فرعًا عليه، ومما يؤسف له أن بعضهم يتفوّه بهذا، ويصرّح به، فيقول: كلّ حديث صحّ، وخالف مذهبنا، فهو إما منسوخٌ، أو مؤوّل، سبحانك هذا بهتان عظيم.
فيا أيها المنصفون اعلموا أن الله تعالى إنما ضمن الهداية والفلاح في اتباع النصوص، لا في تقليد فلان وفلان، فقال تعالى:{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]، وقال:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، وقال:{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 154] وقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ
(1)
"المفهم" 3/ 418، 419.
فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]، وقال:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} [الأحزاب: 36].
فيا أيها العاقل الواجب عليك إذا خالف مذهب نصًّا صريحًا أن تتبع النصّ، وتعتذر عن إمامك عن مخالفته له، لا أن تحاول في ردّ ذلك النصّ وتأويله بما يوافق رأيه؛ لأن الله تعالى جعل التحاكم عند الاختلاف إلى النص، لا إلى أحد من أصحاب الآراء، فقال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} الآية [النساء: 59].
اللهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3190]
(
…
) - (وَحَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ، يُحَدِّثُ عَنْ حَجَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَأَمَرَنَا إِذَا أَحْلَلْنَا أَنْ نُهْدِيَ، وَيَجْتَمِعَ النَّفَرُ مِنَّا فِي الْهَدِيَّةِ، وَذَلِكَ حِينَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا مِنْ حَجِّهِمْ، فِي هَذَا الْحَدِيثِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
كلهم ذُكروا في الباب وفيما قبله.
وقوله: (فَأَمَرَنَا إِذَا أَحْلَلْنَا) بالهمزة رباعيًّا، ولقال: حلّ ثلاثيًّا أيضًا، يقال: حلّ المحرم حِلّا بالكسر، وأحلّ إحلالًا: إذا خرج من إحرامه، فهو مُحلّ، وحِلّ أيضًا تسمية بالمصدر، وحلالٌ أيضًا
(1)
.
وقوله: (أَنْ نُهْدِيَ) بضمّ أوله، من الإهداء رباعيًا، يقال: أهديت الْهَدي إلى الحرم: إذا سقته إليه.
(1)
راجع: "المصباح" 1/ 147.
وقوله: (وَيَجْتَمِعَ النَّفَرُ مِنَّا) بفتح النون والفاء: جماعة الرجال من ثلاثة إلى عشرة، وقيل: إلى سبعة، ولا يقال فيما زاد على العشرة
(1)
.
وقوله: (فِي الْهَدِيَّةِ) بتخفيف الياء التحتانيّة، وتشديدها، واحدة الهدي، قال الفيّوميّ رحمه الله: الهدي: ما يُهدى إلى الحرم من النَّعَم يُثقّلُ، وُيخفّف، الواحدة هَديّةٌ بالتثقيل، والتخفيف أيضًا، وقيل: المثقّل جمع المخفّف. انتهى
(2)
.
وقوله: (وَذَلِكَ حِينَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا مِنْ حَجِّهِمْ) يعني أمْره صلى الله عليه وسلم للصحابة الذين لم يسوقوا الهدي أن يحلّوا بعمل العمرة، ثم يُهلّوا بالحج، فيصيروا متمتّعين، ولذا أمرهم بالهدي؛ لوجوبه عليهم بقوله تعالى:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} الآية [البقرة: 196].
وقوله: (فِي هَذَا الْحَدِيثِ) لعله أشار به إلى حديثه الطويل الذي تقدّم في "صفة حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم"، أي إن هذا الحديث من جملة الحديث الطويل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل الى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3191]
(
…
) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كُنَّا نَتَمَتَّعُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْعُمْرَةِ، فَنَذْبَحُ الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، نَشْتَرِكُ فِيهَا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(هُشَيْمُ) بن بشير بن القاسم بن دينار السلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ، كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7](ت 183) وقد قارب (80)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ) بن أبي سليمان ميسرة الْعَرْزميّ الكوفيّ، ثقة [5](ت 145)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 617.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 636.
3 -
(عَطَاءُ) بن أبي رَباح، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
والباقيان ذُكرا في الباب.
وقوله: (كُنَّا نَتَمَتَّعُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْعُمْرَةِ) قال النوويّ رحمه الله: هذا فيه دليل للمذهب الصحيح عند الأصوليين أن لفظ "كان" لا يقتضي التكرار؛ لأن إحرامهم بالتمتع بالعمرة إلى الحج مع النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما وُجِد مرةً واحدةً، وهي حجة الوداع. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي صححه النوويّ رحمه الله من أن لفظ "كان، لا يقتضي التكرار، خلاف التحقيق، بل التحقيق أنه يفيد التكرار والدوام إلا لقرينة، كهذا الحديث، فكون حجته صلى الله عليه وسلم واحدة هو الذي صرف دلالته عن التكرار والدوام، وقد أشبعت البحث في هذا في "التحفة المرضيّة"، و"شرحها" في الأصول، فلتُراجع عند قولي:
وَلَفْظُ "كَانَ" لِدَوَامِ الْفِعْلِ مَعْ
…
تَكْرَارِهِ عَلَى الْقَوِيِّ الْمُتَّبَعْ
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى البحث فيه مستوفًى في شرح حديث أول الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3192]
(1319) - (حَدَّثَنَا عُثْمَان بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكرِيَّاءَ ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَن ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: ذَبَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَائِشَةَ بَقَرَةً يَوْمَ النَّحْرِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عثمان بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان العبسيّ، أبو الحسن الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظٌ شهير [10](ت 239)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 35/ 246.
2 -
(يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ) الْهَمدانيّ، أبو سعيد الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 3 أو 184) وله (93) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 121.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 69.
والباقون ذُكروا قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أن فيه جابرًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه، وفي الرواية التالية من طريق يحيى الأمويّ: قال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، فصرّح ابن جريج بالإخبار، وأبو الزبير بالسماع، فزالت تهمة التدليس عنهما (قَالَ: ذَبَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي الرواية التالية: "نحر" مكان "ذبح"، والفرق بين النحر والذبح أن النحر يكون في اللَّبّة -بفتح اللام، وتشديد الموحدة- وهي الوَهْدة التي بين أصل العنق والصدر، والذبحُ يكون في الحلق، فالذبح هو قطع العروق التي في أعلى العُنُق تحت اللحيين، قال ابن عابدين رحمه الله: النحر قطع العروق في أسفل العنق عند الصدر، والذبح قطعها في أعلاه تحت اللحيين، وفي "تكملة البحر": ولا بأس بالذبح في الحلق كلِّه، أسفلِهِ وأوسَطِهِ، وأعلاه؛ لأن ما بين اللبة واللحيين هو الحلق، ولأن كله مُجْتَمَعُ العروق، فصار حكم الكل واحد. انتهى، وفي "البدائع": الذبح هو فَرْيُ الأوداج، ومحله ما بين اللبة واللحيين، والنحرُ فَرْيُ الأوداج، ومحله آخر الحلق. انتهى، ذكر هذا كلّه في "المرعاة"
(1)
.
(عَنْ عَائِشَةَ) أي لعائشة رضي الله عنها، ولسائر نسائه، كما سيأتي في الحديث التالي (بَقَرَةً) وَيحْتَمِل أنه ذبح عن عائشة وحدها بقرةً، وجعل بقرة أخرى عن الكل تمييزًا لها؛ لأنها انفردت بسبب موجب وهو القران؛ لأنها أردفت الحج على عمرتها، وهنّ لمّا اشتركن في سببٍ غيرِهِ أشرك بينهنّ، ويكون في ذلك
(1)
"المرعاة" 9/ 204.
تخصيص وتفضيل؛ لأن الواجب في ذلك شاة، أو سبع بدنة، أو بقرةٍ، كما فَعَل في حق صواحبها، ولعل إيثار البقر؛ لأنه المتيسر حينئذ، وإلا فالإبل أفضل منه، وقيل: إنه لبيان الجواز (يَوْمَ النَّحْرِ) أي في حجته، كما في رواية محمد بن بكر التالية قال:"نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عائشة بقرةً في حجته"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [60/ 3192 و 3193](1319)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 378)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 318)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 394)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 238)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في نحر البقر، وذبحها:
ذهب جمهور العلماء إلى أن نحر البقر جائز، وإن كان الذبح مستحبًّا عندهم؛ لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} الآية [البقرة: 67]، وخالف الحسن بن صالح، ومجاهد فاستحبّا نحرها، وقال مالك: إن ذَبَح الجزور من غير ضرورة، أو نَحَر الشاة من غير ضرورة لم تؤكل.
وقال ابن قدامة رحمه الله في "المغني": لا خلاف بين أهل العلم في أن المستحب نحر الإبل، وذبح ما سواها، قال الله تعالى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)} [الكوثر: 2]، وقال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67]، ومعنى النحر أن يضربها بِحَرْبة، أو نحوها في الوَهْدة التي بين أصل عنقها وصدرها، فإن ذُبِح ما يُنحَر، أو نُحِر ما يُذْبَح فجائز، هذا قول أكثر أهل العلم، منهم: عطاء، والزهريّ، وقتادة، ومالك، والليث، والثوريّ، وأبو حنيفة، والشافعيّ، وإسحاق، وأبو ثور، وحُكي عن داود أن الإبل لا تباح إلا بالنحر، ولا يباح غيرها إلا بالذبح؛ لأن الله تعالى قال:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} ، وقال تعالى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)} ، والأمر يقتضي
الوجوب، وحُكي عن مالك أنه لا يجزئ في الإبل إلا النحر.
وحجة الأولين قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرر الدم بما شئت"، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بقرة واحدة. انتهى مختصرًا.
وقال ابن رُشْد رحمه الله: اتفقوا على أن الذكاة في بهيمة الأنعام نَحْرٌ، وذَبْحٌ، وأن من سنة الغنم والطير الذبح، وأن من سنة الإبل النحر، وأن البقر يجوز فيها الذبح والنحر، واختلفوا هل يجوز النحر في الغنم والطير والذبح في الإبل؟ فذهب مالك إلى أنه لا يجوز النحر في الغنم والطير، ولا الذبح في الإبل، وذلك في غير موضع الضرورة، وقال قوم: يجوز جميع ذلك من غير كراهة، وبه قال الشافعيّ، وأبو حنيفة، والثوريّ، وجماعة العلماء، وقال أشهب: إن نحر ما يذبح أو ذبح ما ينحر أُكِل، ولكنه يكره، وفرّق ابن بكير بين الغنم والإبل فقال: يؤكل البعير بالذبح ولا تؤكل الشاة بالنحر، ولم يختلفوا في جواز ذلك في موضع الضرورة.
وسبب اختلافهم معارضة الفعل للعموم، فأما العموم فقوله صلى الله عليه وسلم:"ما أنهر الدم، وذُكر اسم الله عليه فكلوا"، متّفقٌ عليه، وأما الفعل فإنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَحَر الإبل والبقر، وذبح الغنم، وإنما اتفقوا على جواز ذبح البقر، لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} . انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من ذكر المذاهب وأدلّتها أن ما ذهب إليه الجمهور أن المستحبّ نحر الإبل، وذبح البقر، فإن ذبح ما يُنحر، أو نحر ما يُذبح جاز؛ لقوّة حجته، كما سلف آنفًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3193]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ (ح) وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ، حَدَّثَيي أَبِي، حَدَّثَنَا ابْن جُرَيْجٍ،
(1)
راجع: "المرعاة" 9/ 202 - 204.
أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: نَحَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نِسَائِهِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ بَكْرٍ: عَنْ عَائِشَةَ بَقَرَةً في حَجَّتِهِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ) أبو عثمان البغداديّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُوهُ) يحيى بن سعيد بن أبان الأمويّ الكوفيّ، نزيل بغداد، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (نَحَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نِسَائِهِ) وفي حديث عن عائشة رضي الله عنها أيضًا: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر عن أزواجه بقرة في حجة الوداع"، أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائيّ في "الكبرى"، وابن ماجه، كلهم من رواية يونس، عن الزهريّ، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها، لفظ أحمد، ولفظ الثلاثة:"بقرةً واحدةً"، وعن أبي هريرة رضي الله عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح عمن اعتمر من نسائه بقرةً بينهن"، أخرجه أبو داود، والنسائيّ في "الكبرى"، وابن ماجه، والحديثان سكت عنهما أبو داود، والمنذريّ.
وقد روى مالك في "الموطإ"، والبخاريّ في "صحيحه" من طريقه في "باب ذبح الرجل البقر عن نسائه من غير أمرهنّ"، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمن، أنها سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: "خرجنا مع رسول الله لخمس بقين من ذي القعدة، لا نَرَى إلا الحج
…
" الحديث، وفيه: قالت: "فدُخِل علينا يوم النحر بلحم بقر، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: نحر رسول الله عن أزواجه"، وللشيخين من رواية سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد بلفظ: "ذبح".
قال ابن بطال رحمه الله: أخذ بظاهره جماعة، فأجازوا الاشتراك في الهدي، والأضحية، ولا حجة فيه؛ لأنه يَحْتَمِل أن يكون عن كل واحدة بقرة، وأما رواية يونس، عن الزهريّ، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر عن أزواجه بقرة واحدة"، فقد قال إسماعيل القاضي: تفرد يونس بذلك، وقد خالفه غيره. انتهى.
قال الحافظ رحمه الله: رواية يونس أخرجها النسائيّ، وأبو داود، وغيرهما، ويونس ثقة حافظ، وقد تابعه معمر عند النسائيّ أيضًا، ولفظه أصرح من لفظ يونس، قال:"ما ذَبَحَ عن آل محمد في حجة الوداع إلا بقرة"، وروى النسائي أيضًا من طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن اعتمر من نسائه في حجة الوداع بقرة بينهن"، صححه الحاكم، وهو شاهدٌ قويّ لرواية الزهريّ.
وأما ما رواه عَمَّار الدُّهْنيّ عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت:"ذبح عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حججنا بقرةً بقرةً"، أخرجه النسائي أيضًا، فهو شاذٌّ مخالفٌ لما تقدم، وقد رواه البخاريّ في "الأضاحي"، ومسلم أيضًا من طريق ابن عيينة، عن عبد الرحمن بن القاسم، بلفظ:"ضحّى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه البقر"، ولم يذكر ما زاده عمار الدُّهْنيّ. انتهى كلام الحافظ رحمه الله.
وتعقبه الزرقانيّ، فقال: لا شذوذ فيه، فإن عمارًا الدهنيّ -بضم المهملة، وإسكان الهاء، ونون- ثقة صدوقٌ، من رجال مسلم، والأربعة، فزيادته مقبولة فإنه قد حفظ ما لم يحفظ غيره، وزيادته ليست مخالفة لغيره فإن رواية معمر:"ما ذَبَح إلا بقرة" المراد بها جنس بقرة، أي لا بعيرًا، ولا غنمًا، فلا تنافي الرواية الصريحة أنّ عن كل واحدة بقرةً، فمن شرط الشذوذ أن يتعذر الجمع، وقد أمكن، فلا تأييد فيها لرواية يونس التي حكم إسماعيل القاضي بشذوذها؛ لأنه انفرد بقوله:"واحدة"، وإسماعيل من الحفاظ لا يجهل أن يونس ثقة حافظ، وإنما حكم بشذوذ روايته ومخالفة غيره له على القاعدة أن الشاذ ما خالف الثقة فيه الملأ، وحديث أبي هريرة لا شاهد فيه، فضلًا عن قُوّته؛ إذ قوله:"ذبح بقرة بينهن" لا صراحة فيه أنه لم يذبح سواها، وإن كان ظاهره ذلك فتعارضه الرواية الصريحة في التعدد. انتهى.
وردّ بعض المحقّقين على الزرقانيّ تعقّبه هذا، فقال: وفي هذا التعقب نظر؛ لأن عمارًا ويونس اختلفا في ذلك، وعمار وإن كان ثقةً صدوقًا فلا يساوي يونس؛ لأنه ثقة حافظ، كما تقدم في كلام الحافظ، وقال في "التقريب" عن عمار الدُّهْنيّ: صدوقٌ، فإذا تعارضا في الوحدة والتعدد تَرَجَّح حديث
يونس، وقول الزرقانيّ: إن زيادته ليست مخالفة لغيره ليس بصحيح، فإن رواية يونس صريحة في نحر البقرة الواحدة عن أزواجه، ورواية عمار صريحة في التعدد، ولا يمكن الجمع بينهما، ولا يصح إرادة الجنس في رواية معمر؛ للتاء الفارقة بين الواحدة والجنس، قال العينيّ: الفرق بين البقرة والبقر كتمرة وتمر، وعلى تقدير عدم التاء يَحْتَمِل التضحية بأكثر من واحدة. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: فتبيّن بما ذُكر أن تعقّب الزرقانيّ غير صحيح، وأن الصواب مع الحافظ في قوله: إن رواية عمار الدُّهْنيّ: "بقرةً بقرةً" شاذّة، والصحيح ما رواه يونس وغيره: بقرة واحدة، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
[تنبيه]: قد تقدّم أنه اتَّفَقَ من قال بالاشتراك على أنه لا يكون في أكثر من سبعة إلا إحدى الروايتين عن سعيد بن المسيِّب، فقال: تجزئ عن عشرة، وبه قال إسحاق ابن راهويه، وابن خزيمة من الشافعية، واحتج لذلك في "صحيحه"، وقوّاه، وبه قال ابن حزم، وبسط في إثباته، واستدلّ لذلك بما تقدم من أحاديث عائشة، وأبي هريرة، وجابر رضي الله عنهم.
وأجاب الجمهور عن ذلك بوجوه، قال الشوكانيّ: قد استدلّ بقول عائشة المذكور على أن البقرة تجزئ عن أكثر من سبعة، فإن الظاهر أنه لم يتخلَّف أحد من زوجاته يومئذ، وهن تسع، ولكن لا يخفى أن مجرد هذا الظاهر لا تُعارَض به الأحاديث الصريحة الصحيحة الواردة في إجزاء البقرة عن سبعة فقط الْمُجْمَع على مدلولها.
وقيل: إن البقرة كانت عن سبع منهنّ، وعن الباقية لعله ذبح غير البقر، ولا يخفى ما فيه.
وأجاب ابن القيم بأن أحاديث السبعة أكثر وأصح، وحاصله أن الروايات في ذلك مختلفة، وحديث عائشة يدل على الإجزاء لأكثر من سبعة، لكن أحاديث الإجزاء لسبعة فقط أكثر وأصح، فتقدم. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قال ابن القيّم رحمه الله تحقيق نفيسٌ جدًّا.
وخلاصته أن البقرة تُجزئ عن سبعة فقط؛ لتصريح الأحاديث الصحيحة
بذلك، فتقدّم على ما اقتضاه مفهوم حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أنه صلى الله عليه وسلم ذبح بقرة عن أزواجه، وهنّ أكثر من سبعة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
[تنبيه آخر]: اختُلِف في أن البقرة المذكورة في حديث عائشة رضي الله عنها عند مالك، والشيخين كانت أضحية أو هديًا، وبكلا اللفظين وردت الروايات، فرَوَى البخاريّ في "الأضاحي"، ومسلم أيضًا من طريق ابن عيينة، عن عبد الرحمن بن القاسم، بلفظ:"ضحّى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه بالبقر"، وأخرجه مسلم من طريق ابن الماجشون، عن عبد الرحمن، بلفظ:"أهدى" بدل "ضحى"، قال الحافظ: والظاهر أن التصرف من الرواة؛ لأنه ثبت في الحديث ذكر النحر كما تقدم، فحمله بعضهم على الأضحية، فإن رواية أبي هريرة رضي الله عنه صريحة في أن ذلك كان عمن اعتمر من نسائه، فقويت رواية من رواه بلفظ:"أهدى"، وتبيّن أنه هدي التمتع، فليس فيه حجة على مالك في قوله:"لا ضحايا على أهل منى"، وتبيّن توجيه الاستدلال به على جواز الاشتراك في الهدي، والأضحية. انتهى كلام الحافظ.
وهذا كما ترى يدل على أنه مال إلى أن البقرة المذكورة كانت هديًا، ونَحَى في "كتاب الأضاحي" إلى كونها أضحية، حيث قال: قوله: "ضحى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أزواجه بالبقر" ظاهر في أن الذبح المذكور كان على سبيل الأضحية، وحاول ابن التين تأويله ليوافق مذهبه، فقال: المراد أنه ذبحها وقت ذبح الأضحية، وهو ضُحى يوم النحر، قال: وإن حُمِل على ظاهره، فيكون تطوعًا، لا على أنها سنة الأضحية، كذا قال، ولا يخفى بُعده.
واستدل به الجمهور على أن أضحية الرجل تجزئ عنه، وعن أهل بيته، وخالف في ذلك الحنفية، وادَّعَى الطحاوي أنه مخصوص، أو منسوخ، ولم يأت لذلك بدليل. انتهى.
وهذا كما ترى رَجَّحَ ها هنا خلاف ما رجحه في "كتاب الحج".
وذهب ابن القيم: إلى أن الصواب رواية الهدي، فقد قال بعد ذكر مذهب ابن حزم: إن الحاج شُرع له التضحية مع الهدي: والصحيح إن شاء الله أن هدي الحاجّ له بمنزلة الأضحية للمقيم، ولم ينقل أحد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه جمعوا بين الهدي والأضحية، بل كان هديهم هو أضاحيهم، فهو هدي
بمنى وأضحية بغيرها، وأما قول عائشة رضي الله عنها:"ضَحَّى عن نسائه بالبقر"، فهو هدي أُطلِق عليه اسم الأضحية، وأنهنّ كنّ متمتعات، وعليهن الهدي، فالبقر الذي نحره عنهنّ هو الهدي الذي يلزمهن. انتهى.
لكن تبويب البخاري في "كتاب الأضاحى" على حديث عائشة المذكور: "باب الأضحية للمسافر، والنساء"، و"باب من ذبح ضحية غيره"، يدل على أنه حَمَل الحديث على الأضحية، ولذلك استُدِلّ به لمالك على أن التضحية بالبقر أفضل، خلافًا للجمهور؛ إذ قالوا: إن الأفضل البدنة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من راح في الساعة الأولى -أي إلى الجمعة- فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة
…
" إلى آخره، مع أنه ليس في حديث عائشة تفضيل البقر، ولا عموم لفظ، إنما هي قضية عين محتملة لأمور، فلا حجة فيها لمالك.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله الجمهور من تفضيل البدنة على البقرة في التضحية هو الراجح؛ لصريح حديث الجمعة المذكور في ذلك، فتأمّل، والله تعالى أعلم.
واستُدِلّ به أيضًا على الأضحية على النساء، والأضحية على المسافر، وعلى الحاج بمنى، وغير ذلك من المسائل ليس هذا موضع تفصيلها.
وقد ترجم البخاريّ رحمه الله على حديث عائشة رضي الله عنها كما تقدم: "باب ذبح الرجل عن نسائه من غير أمرهنّ"، قال الحافظ: أما قوله من غير أمرهنّ، فأخذه من استفهام عائشة رضي الله عنها عن اللحم لَمّا دُخِل به عليها، ولو كان ذبحه بعلمها لم تحتج إلى الاستفهام، لكن ليس ذلك دافعًا للاحتمال، فيجوز أن يكون علمها بذلك تقدم، بأن يكون استأذنهنّ في ذلك، لكن لما أُدخل اللحم عليها احتَمَلَ عندها أن يكون هو الذي وقع الاستئذان فيه، وأن يكون غير ذلك، فاستفهمت عنه لذلك.
وقال النوويّ: هذا محمول على أنه صلى الله عليه وسلم استأذنهنّ في ذلك، فإن تضحية الإنسان عن غيره لا يجوز إلا بإذنه. انتهى
(1)
.
(1)
راجع: "المرعاة" 9/ 204 - 207.
قال الجامع عفا الله عنه: ما استدلّ به البخاريّ رحمه الله من حديث عائشة رضي الله عنها حيث ترجم لجواز ذبح الرجل عن نسائه من غير أمرهنّ هو الظاهر من الحديث، وهو الأرجح عندي، فأين النصّ الذي يدلّ على وجوب الاستئذان في ذلك حتى يُعارَضَ به ما دلّ عليه هذا الحديث؟ فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(61) - (بَابُ نَحْرِ الْبُدْنِ قِيَامًا مُقَيَّدَةً)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3194]
(1320) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ زِيادِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أتى عَلَى رَجُلٍ، وَهُوَ يَنْحَرُ بَدَنَتَهُ بَارِكَةً، فَقَالَ: ابْعَثْهَا قِيَامًا
(1)
، مُقَيَّدَةً، سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عبد الرحمن بن يزيد الطحّان المزنيّ مولاهم،، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 407.
3 -
(يُونُسُ) بن عُبيد بن دينار العبديّ، أبو عبيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ وَرعٌ [5](ت 139)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.
4 -
(زِيَادُ بْنُ جُبَيْرٍ) -بجيم، وموحَّدة، مصغّرًا- ابن حيّة بن مسعود بن مُعَتِّب الثقفيّ البصريّ، ثقةٌ، يرسل [3](ع) تقدم في "الصيام" 24/ 2675.
[تنبيه]: زياد بن جُبير هذا ليس له في "الصحيحين"، سوى هذا الحديث، وحديث آخر تقدّم في "الصيام"، وقد سبق حديث آخر في "باب ما يُندب للمحرم وغيره قتله من الدوابّ"
(2)
من طريق زيد بن جُبير، عن ابن عمر، وهو
(1)
وفي نسخة: "قَائِمَةً".
(2)
تقدّم برقم [9/ 2870](1200).
غير زياد بن جبير هذا، وليس أخًا له أيضًا؛ لأن زيدًا طائيّ كوفيّ، وزيادًا ثقفيّ بصريّ، لكنهما اشتركا في اتّحاد اسم أبويهما، وفي كونهما ثقةً، وفي روايتهما عن ابن عمر رضي الله عنهما
(1)
.
5 -
(ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، كما مرّ قريبًا.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ) وقد صرّح يونس بالسماع عن زياد عند إسحاق ابن راهويه في "مسنده"، فقال: أخبرنا النضر بن شُميل، حدّثنا شعبة، عن يونس، سمعت زياد بن جبير يقول: انتهيت مع ابن عمر، فإذا رجل قد أضجع بدنته، وهو يريد أن ينحرها، فقال: قيامًا مقيدةً سنة محمد صلى الله عليه وسلم.
(أَنَّ ابْنَ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أتى عَلَى رَجُلٍ) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسمه (وَهُوَ يَنْحَرُ بَدَنَتَهُ بَارِكَةً) منصوب على الحال، وهو اسم فاعل، مِن بَرَك البعير بُرُوكًا، من باب قعد: إذا وقع على بَرْكه، وهو صدره، وأبركته أنا، وقال بعضهم: هو لغة، والأكثر: أنخته، فبَرَكَ، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(2)
.
وفي رواية البخاريّ: "قد أناخ بدنته ينحرها"، زاد أحمد، عن إسماعيل ابن عُليّة، عن يونس:"لينحرها بمنًى"(فَقَالَ: ابْعَثْهَا) أي أَثِرها، يقال: بَعَثتُ الناقة: إذا أثرتَها (قِيَامًا) وفي نسخة: "قائمةً"، وقوله:"قيامًا" أي عن قيام، و"قيامًا" مصدر، بمعنى قائمةٍ، وهي حال مقدَّرة، أو قوله:"ابعثها": أي
(1)
ذكر في "الفتح" نحو هذا، فراجعه في 4/ 664، 665.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 45.
أقمها، أو العامل محذوف، تقديره: انحرها، وقد وقع في رواية عند الإسماعيليّ:"انحرها قائمة"
(1)
.
قال القاري رحمه الله: قوله: "قيامًا" حال مؤكدة، أي قائمةً، وقد صحّت الرواية بها، وعاملها محذوف دلّ عليه أول الكلام، أي انحرها قائمةً، لا ابعثها؛ لأن البعث إنما يكون قبل القيام، اللهم إلا أن تُجعَل حالًا مقدرةً، أي ابعثها مُقَدِّرًا قيامها. انتهى.
(مُقَيَّدَةً) منصوب على الحال، من الأحوال المترادفة، أو المتداخلة، ومعناه: معقولة الرِّجل، وهي قائمة على الثلاث، ولأبي داود، من حديث جابر رضي الله عنه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه كانوا ينحرون البَدَنة معقولةَ اليسرى، قائمةً على ما بقي من قوائمها"، وقال سعيد بن منصور: حدّثنا هشيم، أخبرنا أبو بِشْر، عن سعيد بن جبير: رأيت ابن عمر ينحر بدنته، وهي معقولة إحدى يديها. (سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم) بنصب "سنّة" بعامل مضمر، أي فاعلًا بها سنةَ محمد صلى الله عليه وسلم، أو التقدير: متبعًا سنة محمد صلى الله عليه وسلم، ويجوز رفعه خبرًا لمحذوف، أي هو سنّة محمد صلى الله عليه وسلم"، ويدلّ عليه رواية الحربيّ في "المناسك" بلفظ: فقال له: "انحرها قائمةً، فإنها سنّة محمد صلى الله عليه وسلم"، قاله في "الفتح"
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [61/ 3194](1320)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1713)، و (أبو داود) في "المناسك"(1768)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 453)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 3 و 86 و 139)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2893)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5903)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 66)، و (ابو عوانة) في "مسنده"(5/ 87)، و (أبو نعيم) في
(1)
"الفتح" 4/ 665.
(2)
"الفتح" 4/ 665.
"مستخرجه"(3/ 394)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 237) و"الصغرى"(4/ 444) و"المعرفة"(4/ 261)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1957)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب نحر الإبل قيامًا مقيدةً، قال الباجيّ: وهو مذهب مالك، وجمهور الفقهاء، غير الحسن البصريّ في قوله: تنحر باركة، والأصل في ذلك حديث أنس رضي الله عنه عند البخاريّ أن النبى صلى الله عليه وسلم نحر بيده سبعة بُدن قيامًا. قيل: إنما كان ذلك في الإبل؛ لأنه أمكن لمن ينحرها؛ لأنه يطعن في لبّتها، وأما البقر والغنم التي سنّتها الذبح، فإن إضجاعها أمكن لتناول ذبحها، فالسنة إضجاعها.
وقال ابن قدامة رحمه الله: السنّة نحر الإبل قائمةً معقولةً يدها اليسرى، فيضربها بالحربة في الوَهْدة التي بين أصل العنق والصدر، وممن استحب ذلك مالك، والشافعيّ، وإسحاق، وابن المنذر، واستحب عطاء نحرها باركة، وهذا مخالف للسنّة، وجوز الثوريّ، وأصحاب الرأي كل ذلك، ولنا حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند الشيخين، وحديث جابر عند أبي داود، وفي قول الله تعالى:{وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} دليل على أنها تنحر قائمة، ويروى في تفسير قوله تعالى:{فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} أي قيامًا، وتجزئه كيفما نحر، قال أحمد: ينحر البُدن معقولةً على ثلاث قوائم، وإن خَشِي عليها أن تنفر أناخها. انتهى
(1)
.
وبذلك قالت الحنفية، قال في "الهداية": الأفضل في البُدن النحر، وفي البقر، والغنم الذبح، ثم إن شاء نحر الإبل في الهدايا قيامًا، أو أضجعها، وأيَّ ذلك فعل فهو حسن، والأفضل أن ينحرها قيامًا؛ لما رُوي أنه صلى الله عليه وسلم نحر الهدايا قيامًا، وأصحابه كانوا ينحرونها قيامًا معقولة يدها اليسرى. انتهى.
وقال ابن الهمام رحمه الله بعد ذكر حديث جابر، عن أبي داود المتقدم:
(1)
"المغني" 3/ 431.
وإنما سنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم النحر قيامًا عملًا بظاهر قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36]، والوجوب السقوط، وتحققه في حال القيام أظهر، قال: والاستدلال بقول الله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} أظهر، وقد فسّره ابن عباس بقوله: قيامًا على ثلاث قوائم، وهو إنما يكون بعقل الركبة، والأَولى كونه اليسرى؛ للإتباع، رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم، قال: والحاصل أن القيام أفضل، فإن لم يتسهّل فالقعود أفضل من الاضطجاع. انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): أن فيه تعليمَ الجاهل، وعدم السكوت على مخالفة السنّة، وإن كان مباحًا.
3 -
(ومنها): أن قول الصحابيّ: من السنّة كذا مرفوع حكمًا عند الشيخين؛ لاحتجاجهما بهذا الحديث في "صحيحيهما"، كما قال في "ألفيّة الحديث":
وَلْيُعْطَ حُكْمَ الرَّفْعِ فِي الصَّوَابِ
…
نَحْوُ "مِنَ السُّنَّةِ" فِي الصَّوَابِ
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(62) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ بَعْثِ الْهَدْيِ إِلَى الْحَرَمِ لِمَنْ لَا يُرِيدُ الذَّهَابَ بِنَفْسِهِ، وَاسْتِحْبَابِ تَقْلِيدِهِ، وَفَتْلِ الْقَلَائِدِ، وَأَنَّ بَاعِثَهُ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا، وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ بِذَلِكَ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3195]
(1321) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُهْدِي مِنَ الْمَدِينَةِ، فَأَفتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِهِ، ثُمَّ لَا يَجْتَنِبُ شَيْئًا، مِمَّا يَجْتَنِبُ الْمُحْرِمُ).
(1)
راجع: "المرعاة" 9/ 227.
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ المذكور قبله.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ) بن المهاجر، تقدّم قريبًا.
3 -
(اللَّيْثُ) بن سعد، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(قُتَيْبَةُ) بن سعيد، تقدّم قبل باب.
5 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم، تقدّم قريبًا.
6 -
(عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) تقدّم أيضًا قريبًا.
7 -
(عَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) الأنصاريّة المدنيّة، ثقة [10] ماتت قبل المائة، أو بعدها (ع) تقدمت في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 417.
8 -
(عَائِشَةُ) رضي الله عنها، تقدمت قريبًا.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان فرّق بينهما بالتحويل؛ لاختلاف كيفيّة التحمّل والأداء.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه يحيى، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه، وابن رمح، فانفرد به هو وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من ابن شهاب، وفيه رواية تابعيّ عن تابعي وتابعيّة.
شرح الحديث:
(عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) الأنصاريّة (أَن عَائِشَةَ) رضي الله عنها (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُهْدِي) بضمّ أوله، من الإهداء رباعيًّا، يقال: أهديت للرجل كذا بالألف: إذا بعثت به إليه إكرامًا، فهو هديّةٌ بالتثقيل لا غير، وأهديتُ إلى الحرم: سقته، قاله الفيّوميّ رحمه الله. (مِنَ الْمَدِينَةِ) النبويّة (فَأَفْتِلُ) من باب ضرب، يقال: فَتَله: لَوَاه، كفتّله بالتشديد (قَلَائِدَ هَدْيِهِ) جمع قلادة: هو ما يُجعل في العنق، ولم يتبيّن في هذه الرواية جنس القلائد، وسيأتي من رواية ابن عون، عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"أنا فتلت تلك القلائد من عهن كان عندنا"، ولفظ البخاريّ:"فتلت قلائدها من عِهْنٍ كان عندي" (ثُمَّ لَا
يَجْتَنِبُ شَيْئًا، مِمَّا يَجْتَنِبُ الْمُحْرِمُ) أي من محظورات الإحرام، تعني أنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث هديًا إلى مكة، مقلّدةً، ثم يقيم بالمدينة حلالًا، لا يجتنب شيئًا مما يجتنبه المحرم، وأرادت بذلك الردّ على ابن عباس رضي الله عنهما، وغيره حيث إنهم يرون ذلك، كما سيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [62/ 3195 و 3196 و 3197 و 3198 و 3199 و 3200 و 3201 و 3202 و 3203 و 3204 و 3205 و 3206 و 3207 و 3208](1321)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1696 و 1698 و 1699 و 1700 و 1701 و 1702 و 1703 و 1704 و 1705) و"الوكالة"(2317) و"الأضاحي"(5566)، و (أبو داود) في "المناسك"(1755 و 1757 و 1758 و 1759)، و (الترمذيّ) في "الحجّ"(909)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(5/ 170 و 171 و 172 و 173 و 174 و 175) و"الكبرى"(2/ 36 و 363)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(3094 و 3095 و 3096 و 3098)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 341)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 107)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 82 و 91 و 174 و 191 و 253 و 262)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2573 و 2608)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4009 و 4010 و 4011 و 4012 و 4013)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(112)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 395)، و (الدارميّ) في "سننه"(1911 و 1935 و 1936)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 120)، و (أبو يعلى) في "مسنده "(8/ 357)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 191 و 3/ 843)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 266)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 234)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1890 و 1891)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده
(1)
:
1 -
(منها): بيان استحباب بعث الهدي إلى الحرم، وإن لم يسافر معه مرسله، ولا أحرم في تلك السنة.
قال الحافظ وليّ الدين العراقيّ رحمه الله: [فإن قلت]: في "صحيح البخاريّ" عن عائشة رضي الله عنها: "فَتَلت لهدي النبيّ صلى الله عليه وسلم -يعني القلائد- قبل أن يُحْرِم، يقتضي أنه أحرم بعد ذلك.
[قلت]: يَحْتَمِل أن يكون مرادها قبل السنة التي أحرم فيها، ويَحْتَمِل أنها أخبرت في هذه الرواية عن حاله في سنة إحرامه، وفي الرواية الأخرى عن حاله في سنة أخرى، ويصرّح بأنه فعل ذلك في السنة التي لم يحرم فيها قولها رضي الله عنها من رواية عمرة، عنها:"ثم بعث بها مع أبي"، وهو في "الصحيحين"، والمراد أنه بعث بها مع أبيها، أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه في حجته سنة تسع، وفي "الصحيح" أيضًا:"ثم بعث بها إلى البيت، وأقام بالمدينة"، وهي صريحة فيما ذكرناه. انتهى
(2)
.
2 -
(ومنها): استحباب تقليد الهدي، وهو أن يُجعل في عنقه ما يُستدلّ به على أنه هديٌ، وهو متفق عليه في الإبل، والبقر، واختلفوا في تقليد الغنم، وسيأتي تحقيق الخلاف -إن شاء الله تعالى-.
3 -
(ومنها): بيان استحباب مشروعيّة فتل القلائد.
4 -
(ومنها): بيان أن باعثه لا يصير محرمًا، فلا يحرم عليه شيء حلالٌ بسبب ذلك.
5 -
(ومنها): جواز استخدام الإنسان زوجته في فتل القلائد، ونحوه من الخدمة التي تقوم بها المرأة.
6 -
(ومنها): أنه يستحب إذا أرسل الهدي أن يُشعره، ويقلّده من بيته، وأما إذا أخذه معه، فيستحبّ أن يؤخر ذلك إلى الميقات حين يُحرم، كما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، في عمرة الحديبية، وحجة الوداع.
(1)
المراد فوائد حديث عائشة رضي الله عنها باختلاف رواياته في الباب.
(2)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 5/ 150.
7 -
(ومنها): ما قاله وليّ الدين رحمه الله: هذا الذي ذكرناه من استحباب تقليد الهدي إنما رأيت أصحابنا -يعني الشافعية- ذكروه في الهدي المتطوع به، والمنذور.
وقسم المالكية دماء الحجّ إلى هَدْي، ونسك، وقالوا: إن الهدي جزاء الصيد، وما وجب لنقص في حج، أو عمرة، كدم القران، والتمتع، والفساد، والفوات، وغيرها، وقالوا: إن النسك ما وجب لإلقاء التفث، وطلب الرفاهية من المحظور، المنجبر، وجعلوا التقليد من سنة الهدي.
وقال الحنفية: إن التقليد إنما يكون في هدي المتعة، والتطوع، والقران، دون دم الإحصار، والجماع، والجنايات، وفرّقوا بينها، بأن الأول دم نسك، وفي التقليد إظهاره، وتشهيره، فيليق به، والثاني فإن سببه الجناية، والستر أليق بها، قالوا: ودم الإحصار جائز، فألحق بها. وذكر ابن حزم هذا التفصيل عن أبي حنيفة، ثم قال: وقال مالك، والشافعيّ: يقلّد كلّ هدي، ويُشعر، قال: وهذا هو الصواب؛ لعموم فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونُقِلَ عن أبي حنيفة.
وتعقبه ولي الدين، فقال: وفيما ذكره نظر؛ فإنه لا عموم في فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، والهدي الذي ساقه إنما كان متطوعًا به، ولم يكن عن شيء من الدماء الواجبة المذكورة، والدماءُ الواجبة لا تُساق مع الحاجّ من الأول؛ لأنه لا يدري هل يحصل له ما يوجبها، أم لا؟، ولم أر أصحابنا -يعني الشافعية- تعرّضوا لذلك كما تقدم، فينبغي تحقيقه. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن التقليد والإشعار إنما نقلا في هدي التطوع، والقران، والتمتع، وأما الجنايات، فلم يُنقَلْ فيها ذلك، فما قاله الحنفية أظهر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم تقليد الغنم:
(اعلم): أنهم اختلفوا في استحباب تقليد الغنم، فقال به الشافعيّ، وأحمد، والجمهور، ورواه ابن أبي شيبة عن عائشة، وعن ابن عباس:"لقد رأيت الغنم يؤتى بها مقلّدة"، وعن أبي جعفر:"رأيت الكباش مقلّدة"، وعن عبد الله بن عبيد بن عمير:"إن الشاة كانت تقلّد"، وعن عطاء:"رأيت أناسًا من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم يسوقون الغنم مقلّدة". وحكاه ابن المنذر عن إسحاق،
وأبي ثور، قال: وبه أقول، وإليه ذهب ابن حبيب من المالكية.
وذهب آخرون إلى أنها لا تُقلّد كما أنها لا تُشعر، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، وحكاه ابن المنذر عن أصحاب الرأي. ورواه ابن أبي شيبة عن ابن عمر، وسعيد بن جبير، ويوافقه كلام البخاريّ، فإنه بوّب على هذا الحديث:"فتل القلائد للبُدن والبقر"، فحمل الحديث عليهما، ولم يذكر للغنم، قاله وليّ الدين رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله عن البخاريّ غير صحيح، فقد بوّب البخاريّ بعد بابين لتقليد الغنم، فقال:"باب تقليد الغنم".
وقد ذكر الحافظ كلام وليّ الدين هذا، من غير تصريح باسمه، فقال: أخذ بعض المتأخرين من اقتصار البخاريّ في هذه الترجمة على الإبل، والبقر أنه موافق لمالك، وأبي حنيفة في أن الغنم لا تقلّد، وغفل هذا المتأخر عن أن البخاريّ أفرد ترجمة لتقليد الغنم بعد أبواب يسيرة، كعادته في تفريق الأحكام في التراجم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(2)
.
وقال في "الفتح": قال ابن المنذر: أنكر مالك، وأصحاب الرأي تقليدها، زاد: وكأنهم لم يبلغهم الحديث، ولم نجد لهم حُجة إلا قول بعضهم: إنها تضعف عن التقليد، وهي حُجّة ضعيفة؛ لأن المقصود من التقليد العلامة، وقد اتفقوا على أنها لا تُشعَر؛ لأنها ضعيفة عنه، فتقلّد بما لا يُضعفها. والحنفيّة في الأصل يقولون: ليست الغنم من الهدي، فالحديث حجة عليهم من جهة أخرى.
وقال ابن عبد البرّ: احتجّ من لم ير بإهداء الغنم بأنّه صلى الله عليه وسلم حجّ مرّة واحدة، ولم يهد فيها غنمًا. انتهى.
قال الحافظ: وما أدري ما وجه الحُجة منه؛ لأن حديث الباب دالّ على أنه أرسل بها، وأقام، وكان ذلك قبل حَجّته قطعًا، فلا تعارض بين الفعل والترك؛ لأن مجرّد الترك لا يدلّ على نسخ الجواز.
ثم مَنِ الذي صرّح من الصحابة بأنه لم يكن في هداياه في حَجّته غنم،
(1)
"طرح التثريب" 5/ 151.
(2)
"الفتح" 4/ 649.
حتى يسوغ الاحتجاج بذلك؟، ثم ساق ابن المنذر من طريق عطاء، وعبيد الله بن أبي يزيد، وأبي جعفر محمد بن عليّ، وغيرهم قالوا: رأينا الغنم تقدم مقلّدة. ولابن أبي شيبة عن ابن عبّاس نحوه.
والمراد بذلك الردّ على من ادعى الإجماع على ترك إهداء الغنم، وتقليدها.
وأعلّ بعض المخالفين حديث الباب بأن الأسود تفرّد عن عائشة بتقليد الغنم، دون بقية الرواة عنها، من أهل بيتها، وغيرهم، قال ابن المنذر وغيره: وليست هذه بعلّة؛ لأنه حافظ ثقة، لا يضرّه التفرّد. انتهى
(1)
.
وحُكي عن بعضهم أنه تأوّل هذا الحديثَ على أن معناه أنها فتلت قلائد الهدي من الغنم، أي من صوف الغنم، ورُدّ هذا برواية الأسود، عن عائشة رضي الله عنها:"أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة إلى البيت غنمًا، فقلّدها"، لفظ مسلم، وفي لفظ له:"كنا نقلّد الشاء، فنرسل بها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حلال، لم يحرم منه شيء". وفي لفظ للبخاريّ: "كنت أفتل قلائد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيقلّد الغنم". ولفظ أبي داود: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى غنمًا مقلّدة".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا التأويل الذي قاله هذا البعض باطل؛ لأن هذه الألفاظ لا تحتمله، والله تعالى المستعان.
وخلاصة الأمر أن الحقّ هو ما عليه الجمهور من استحباب تقليد الغنم، كغيرها من الهدايا؛ لصحة أحاديث الباب، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في أن تقليد الهدي، وإرساله هل يوجب إحرامًا، أم لا؟:
ذهب جمهور العلماء من السلف، والخلف، ومنهم الأئمة الأربعة إلى أن من أرسل هديًا إلى الكعبة لا يصير محرمًا بمجرّد ذلك، ولا يجري عليه حكم الإحرام، ولا يلزمه أن يجتنب شيئًا مما يجتنبه المحرم، وسواء قلّد هديه، أم لم يقلّده.
(1)
"الفتح" 4/ 655.
وذهبت طائفة إلى أنه يصير محرمًا بذلك، قال ابن المنذر: كان ابن عمر يقول: إن قلّد هديه، فقد أحرم، وبه قال النخعيّ، والشعبيّ، وقال عطاء: سمعنا ذلك، وقال الثوريّ، وأحمد، وإسحاق: إذا قلّد هديه، فقد أحرم، وبه قال النخعيّ، والشعبيّ، وقال عطاء: وجب عليه، وبه قال أصحاب الرأي. انتهى.
قال وليّ الدين رحمه الله: وحاصل كلامه قولان: أحدهما: أنه يصير محرمًا، والثاني: أنه يجب عليه الإحرام، وعدّهما ابن المنذر قولًا واحدًا، فإنه قال بعد ذلك: وفيه قول ثالث، فحكى المذهب المشهور، وكأن مراد الأخيرين: وجب عليه حكم الإحرام؛ لأنه قد صار محرمًا، فتتّحد المقالتان حينئذ.
وقال الخطّابيّ عن أصحاب الرأي تفريعًا على ما تقدّم نقله عنهم: فإن لم تكن له نية فهو بالخيار بين حجّ وعمرة.
وروى ابن أبي شيبة أنه إذا قلّد هديه، فقد أحرم عن ابن عمر، وابن عباس، والشعبيّ، وسعيد بن جبير، وسعد بن قيس، وميمون بن أبي شبيب، وأنه إذا قلّد فقد وجب عليه الإحرام عن ابن عباس، وهذا يدلّ على التأويل الذي قدّمته، وأن المراد بالعبارتين شيء واحد لكونهما معًا عن ابن عباس.
وروى ابن أبي شيبة أنه إذا قلّد، وهو يريد الإحرام، فقد أحرم عن ابن عباس، وأبي الشعثاء، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وأنه إذا قلّد، وهو يريد الإحرام، فقد وجب عليه الإحرام عن إبراهيم النخعيّ، وكذا حكى الخطابيّ عن سفيان الثوريّ، وأحمد، وإسحاق أنه إذا أراد الحجّ، وقلّد، فقد وجب عليه، وهذا المذكور آخرًا فيه التقييد بأن يكون يريد الإحرام، فإن لم يحمل الإطلاق الأول على التقييد الثاني، وغايرنا بين الإحرام، وإيجاب الإحرام حصل قولان آخران مع القولين الأولين، ويدلّ على أن ذلك لا يتقيد بإرادة الإحرام في قولٍ ما رواه ابن أبي شيبة عن ربيعة بن عبد الله بن الهُدَير أنه رأى ابن عباس، وهو أمير البصرة، متجرّدًا على منبر البصرة، فسأل الناس عنه، فقالوا: إنه أمر بهديه أن يقلّد، فلذلك تجرّد، فلقيت ابن الزبير، فذكرت ذلك له، فقال: بدعة، وربّ الكعبة. وروى ابن أبي شيبة أيضًا عن عطاء، وابن أبي الأسود، قالا: ليس له أن يقلّد، ولا يحرم إلا إن شاء يومًا، أو يومين. (وهذا مذهب خامس).
وحاصله أنه بالتقليد يجب عليه الإحرام، وله تأخيره يومًا، أو يومين، وروى ابن أبي شيبة أيضًا عن الحسن البصريّ أنه إن فعل في أشهر الحجّ وجب عليه الحجّ، وإن كان في غير أشهره لم يجب. (وهذا مذهب سادس).
وروى ابن أبي شيبة أيضًا عن سعيد بن المسيب، والحسن البصريّ أن من بعث بهديه لا يمسك عن شيء مما يمسك عنه المحرم، إلا ليلة جمع، فإنه يمسك عن النساء. (وهذا مذهب سابع).
وروى ابن أبي شيبة أيضًا عن عمر، وعلىّ، وابن عباس، وابن عمر أنه إذا أرسل بدنته، أمسك عما يمسك عنه المحرم، غير أنه لا يلبّي. وهذا (مذهب ثامن)؛ لأنه لم يقيّد ذلك بالتقليد، ولم يقل: إنه محرم، ولا وجب عليه الإحرام، وإنما قال: يمسك عما يمسك عنه المحرم، وهو الذي في "صحيح مسلم" عن ابن عباس أنه قال: من أهدى هديًا حرم عليه ما يحرم على الحاجّ حتى ينحر الهدي، وهذا أصح ما روي عن ابن عباس في هذا، والله أعلم.
وروى ابن أبي شيبة أيضًا عن جعفر بن محمد أنه إذا أرسل بدنته واعدهم يومًا، فإذا كان ذلك اليوم الذي واعدهم أن يُشعَر أمسك عما يمسك عنه المحرم، غير أنه لا يلبّي، وهذا مثل الذي قبله في الإمساك خاصّة، ويخالف بأنه لا يرتبه على مجرد الإرسال، بل لا بدّ معه من الإشعار، فهو (مذهب تاسع).
وروى ابن أبي شيبة أيضًا عن محمد بن سيرين، قال: إذا بعث الرجل بالهدي أمر الذي يبعث به معه أن يقلّد يوم كذا وكذا من ذلك اليوم، ثم يمسك عن أشياء مما يمسك عنها المحرم، وهذا (مذهب عاشر)؛ لأنه لا يطّرد المنع في كلّ ما يجتنبه المحرم، بل يثبت ذلك في بعضها، دون جميعها.
واعلم أن كل من رتّب هذا الحكم على التقليد رتّبه على الإشعار أيضًا، فهو في معناه.
فهذه عشرة مذاهب شاذّة إن لم تؤول، وتردّ إلى مذهب واحد، وكلام النوويّ يقتضي التأويل، فقال في "شرح مسلم" في الكلام على هذا الحديث: فيه أن من بعث هديه لا يصير محرمًا، ولا يحرم عليه شيء مما يحرم على
المحرم، وهذا مذهبنا، ومذهب العلماء كافة إلا رواية حكيت عن ابن عباس، وابن عمر، وعطاء، وسعيد بن جبير، وحكاه الخطابيّ عن أصحاب الرأي أيضًا أنه إذا فعله لزمه اجتناب ما يجتنبه المحرم، ولا يصير محرمًا من غير نية الإحرام.
وقال في "شرح المهذب": إذا قلّد هديه، أو أشعره لا يصير محرمًا بذلك، وإنما يصير محرمًا بنية الإحرام، هذا مذهبنا، ومذهب العلماء كافة، ونقل الشيخ أبو حامد عن ابن عباس، وابن عمر أنه يصير محرمًا بمجرد تقليد الهدي، وهذا فيه تساهل، وإنما مذهب ابن عباس أنه إذا قلّد هديه حرم عليه ما يحرم على المحرم حتى يُنحَر هديُهُ، وكذا مذهب ابن عمر إن صحّ عنه في هذه المسألة شيء. انتهى، فذكر في "شرح مسلم" بعث الهدي، وفي "شرح المهذّب" تقليده. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح" عند شرح ردّ عائشة على ابن عباس رضي الله عنهما ما نصّه: قال ابن التين: خالف ابن عباس في هذا جميع الفقهاء، واحتجّت عائشة بفعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وما روته في ذلك يجب أن يصار إليه، ولعلّ ابن عباس رجع عنه. انتهى.
قال الحافظ: وفيه قصور، فإن ابن عباس لم ينفرد بذلك، بل ثبت ذلك عن جماعة من الصحابة، منهم ابن عمر، رواه ابن أبي شيبة، عن ابن عليّة، عن أيوب، وابنُ المنذر من طريق ابن جريج، كلاهما عن نافع:"أن ابن عمر كان إذا بعث بالهدي يمسك عما يمسك عنه المحرم، إلا أنه لا يلبّي"، ومنهم قيس بن سعد بن عبادة، أخرج سعيد بن منصور من طريق سعيد بن المسيّب عنه نحو ذلك، وروى ابن أبي شيبة من طريق محمد بن عليّ بن الحسين، عن عمر، وعليّ، أنهما قالا في الرجل يُرسل ببدنته:"إنه يمسك عما يمسك عنه المحرم"، وهذا منقطع، وقال ابن المنذر: قال عمر، وعلىّ، وقيس بن سعد، وابن عمر، وابن عباس، والنخعيّ، وعطاء، وابن سيرين، وآخرون: من أرسل الهدي، وأقام حَرُم عليه ما يحرم على المحرم.
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 5/ 153 - 155.
وقال ابن مسعود، وعائشة، وأنس، وابن الزبير، وآخرون: لا يصير بذلك محرمًا، وإلى ذلك صار فقهاء الأمصار.
ومن حجة الأولين ما رواه الطحاويّ، وغيره من طريق عبد الملك بن جابر، عن أبيه، قال: كنت جالسًا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقدّ قميصه من جيبه، حتى أخرجه من رجليه، وقال: "إني أمرت ببُدني التي بعثت بها أن تقلّد اليوم، وتُشعَرَ على مكان كذا وكذا، فلبست قميصي، ونسيت، فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي
…
" الحديث، وهذا لا حجة فيه؛ لضعف إسناده، إلا أن نسبة ابن عباس إلى التفرّد بذلك خطأ.
وقد ذهب سعيد بن المسيب إلى أنه لا يجتنب شيئًا مما يجتنبه المحرم إلا الجماع ليلة جمع، رواه ابن أبي شيبة عنه بإسناد صحيح.
نعم جاء عن الزهريّ ما يدلّ على أن الأمر استقرّ على خلاف ما قال ابن عباس، ففي نسخة أبي اليمان، عن شعيب، عنه، وأخرجه البيهقيّ من طريقه، قال: أوّل من كشف العَمَى عن الناس، وبيّن لهم السنة في ذلك عائشةُ، فذكر الحديث عن عروة، وعمرة، عنها، قال: فلما بلغ الناس قول عائشة أخذوا به، وتركوا فتوى ابن عباس.
وذهب جماعة من فقهاء الفتوى إلى أن من أراد النسك صار بمجرّد تقليده الهدي محرمًا، حكاه ابن المنذر عن الثوريّ، وأحمد، وإسحاق، قال: وقال أصحاب الرأي: من ساق الهدي، وأمّ البيت، ثم قلّد وجب عليه الإحرام، قال: وقال الجمهور: لا يصير بتقليد الهدي محرمًا، ولا يجب عليه شيء، ونقل الخطابيّ عن أصحاب الرأي مثل قول ابن عباس، وهو خطأ عليهم، فالطحاويّ أعلم بهم منه، ولعل الخطابيّ ظنّ التسوية بين المسألتين. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما ذُكر من الأقوال، وأدلتها أن أرجح الأقوال قول الجمهور: إن تقليد الهدي لا يوجب الإحرام، ولا يُحَرِّم شيئًا، فمن بعث بالهدي، لا يلزمه إحرام، ولا اجتناب شيء مما يجتنبه
(1)
"الفتح" 4/ 652، 653.
المحرم؛ لحديث عائشة رضي الله عنها المتّفق عليه الصريح في ذلك، وأما بقية الأقوال فليس عليها حجة، فلا يُلتفت إليها البتّة، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3196]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِيهِ حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، بِهَذَا الإسْنَادِ مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) تقدّم قريبًا.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
و"ابن شهاب" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية يونس، عن ابن شهاب هذه ساقها أبو نعيم في "مستخرجه" 3/ 395 فقال:
(3048)
- ثنا أبو عمرو بن حمدان، ثنا الحسن بن سفيان، ثنا حرملة بن يحيى، وثنا محمد بن إبراهيم، ثنا محمد بن الحسن، ثنا حرملة بن يحيى، ثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، وعمرة، أن عائشة قالت: كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنبعث بالهدي مُقَلَّدًا، وهو مقيم بالمدينة، ثم لا يجتنب حتى يُنْحَرَ هديه. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب،
وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3197]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَن الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَن النَّبِيِ صلى الله عليه وسلم (ح) وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَخَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالُوا: أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَأنِّي أَنْظُرُ إِلَىَّ أفتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِهِ).
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورِ) أبو عثمان الخراسانيّ، ثم المكيّ، ثقةٌ مصنّف [10](ت 227) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 338.
2 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل بابين.
3 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم أيضًا قبل بابين.
4 -
(خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ) البزّار المقرئ البغداديّ، ثقةٌ [10](229)(م د) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
5 -
(حَمَّادُ بْنُ زيدٍ) تقدّم قريبًا.
6 -
(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (كَأنِّي أَنْظُرُ إِلَيَّ إلخ) أي إن تلك الحال كأنها بمرأى مني الآن، لم تغب عن بصري.
[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة، عن الزهريّ ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" 3/ 395 فقال:
(3049)
- ثنا محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا بشر بن موسى، ثنا الحميدي (ح) وثنا فاروق، ثنا أبو مسلم الكشيّ، ثنا الرماديّ، قالا: ثنا سفيان، ثنا الزهريّ، عن عروة، عن عائشة قالت:"كنت أفتل هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديّ هاتين، ثم لا يجتنب مما يجتنبه المحرم". انتهى.
ورواية حماد بن زيد، عن هشام ساقها أبو نعيم أيضًا في "مستخرجه" 3/ 395 فقال:
(3050)
- ثنا أبو محمد بن حيان، ثنا الفريابيّ، ثنا قتيبة (ح) وثنا جعفر بن محمد، ثنا أبو حصين، ثنا يحيى الحِمّانيّ، قالا: ثنا حماد بن زيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت:"كأني أنظر إليّ، وأنا أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لا يجتنب من شيء مما يجتنبه المحرم". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3198]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: كُنْتُ أفتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيَّ هَاتَيْنِ، ثُمَّ لَا يَعْتَزِلُ شَيْئًا، وَلَا يَتْرُكُهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ) بن محمد التيميّ، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ جليلٌ فاضلٌ [6](ت 126) أو بعدها (ع) تقدم في "الحيض" 27/ 822.
2 -
(أَبُوهُ) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصدّيق التيميّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه، من كبار [3](ت 106)(ع) تقدم في "الحيض" 3/ 695.
والباقون ذُكروا قبله، و"سفيان" هو: ابن عيينة.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في شرح أول أحاديث الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3199]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثنا أفلَحُ، عَن الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: فَتَلْتُ قَلَائِدَ بُدْنِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيَّ، ثُمَّ أَشْعَرَهَا، وَقَلَّدَهَا، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إِلَى الْبَيْتِ، وَأقَامَ بِالْمَدِينَةِ، فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَيءٌ كَانَ لَهُ حِلًّا)
(1)
.
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) القعنبي الحارثيّ، أبو عبد الرحمن البصريّ/ مدنيّ، وقد سكنها مدّةً، ثقةٌ عَابدٌ، من صغار [9](ت 221) بمكة (خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 17/ 617.
(1)
وفي نسخة: "كان له حلالًا".
2 -
(أفلَحُ) بن حُميد بن نافع الأنصاريّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقة [7](ت 158) أو بعدها (خ م د س ق) تقدم في "الحيض" 9/ 737.
والباقيان ذُكرا قبله، و"القاسم" هو: ابن محمد.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف، وهو (199) من رباعيّات الكتاب.
وقوله: (كَانَ لَهُ حِلًّا) وفي نسخة: "كان له حلالًا".
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3200]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، قَالَ ابْنُ حُجْرٍ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أيُّوبَ، عَن الْقَاسِمِ، وَأَبِي قِلَابَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَبْعَثُ بِالْهَدْيِ، أفتِلُ قَلَائِدَهَا بِيَدَيَّ، ثُمَّ لَا يُمْسِكُ عَنْ شَيْءٍ لَا يُمْسِكُ عَنْهُ الْحَلَالُ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ) المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244) وقد قارب المائة (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
2 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ) أبو يوسف البغداديّ، ثقةٌ حافظ، أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة [10](ت 252) وله (96) سنةً تقدم في "الإيمان" 25/ 209.
3 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن عليّة، أبو بشر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [8](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
4 -
(أيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السختيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه عابد [5](ت 131) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.
5 -
(أَبُو قِلَابَةَ) عبد الله بن زيد بن عمرو الْجَرميّ البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ كثير الإرسال، فيه نصبٌ يسير [3](ت 104) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.
والباقيان ذُكرا قبله، و"القاسم" هو: ابن محمد.
وقوله: (لَا يُمْسِكُ عَنْ شَيْءٍ) بضمّ حرف المضارعة، من الإمساك، يقال: أمسكت عن الشيء: إذا كففتَ عنه.
والحديث مضى البحث فيه قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3201]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدثَنَا حُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ، حَدَّثنا ابْنُ عَوْنٍ، عَن الْقَاسِمِ، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: أنَا فَتَلْتُ تِلْكَ الْقَلَائِدَ مِنْ عِهْنٍ كَانَ عِنْدَنَا، فَأَصْبَحَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَلَالًا، يَأتِي مَا يَأتِي الْحَلَالُ مِنْ أَهْلِهِ، أَوْ يَأتي مَا يَأتي الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قريبًا.
2 -
(حُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ) بن يسار، ويقال: ابن مالك بن يسار، ويقال: ابن بشر بن مالك بن يسار النَّصْريّ، أبو عبد الله، من آل مالك بن يسار، ثقةٌ [8].
رَوَى عن ابن عون، وزيد بن أبي هاشم مولى بشر بن مالك بن يسار.
وروى عنه أحمد بن حنبل، والزعفرانيّ، والفلاس، وبندار، وأبو موسى، ومحمد بن هشام بن أبي خيرة، ونعيم بن حماد، ويحيى بن معين، وغيرهم.
قال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: الحسين بن الحسن من أصحاب ابن عون، من المعدودين من الثقات، دلَّهم عليه ابن مهدي، كان يحفظ عن ابن عون، وكان حسن الهيئة، ما علمته ثقة، كتبنا عنه، وقال النسائيّ: ثقة، وقال الساجيّ: ثقة صدوق مأمون تَكَلَّم فيه أزهر بن سعد، فلم يُلتَفَت إليه، ومثله
يُجَلَّ عن هذا الموضع، يعني كتاب الضعفاء، وذكره ابن حبان في "الثقات".
وقال أبو موسى: مات سنة (188).
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (1321)، و (1547)، و (2932).
3 -
(ابْنُ عَوْنٍ) هو: عبد الله بن عون بن أرطبان، أبو عون البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ عابدٌ [5](ت 150)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 303.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقولها: (مِنْ عِهْنٍ كَانَ عِنْدَنَا) قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: قد اختُلف في العهن -بكسر العين المهملة، وإسكان الهاء- فقيل: هو الصوف. وقيل: الصوف المصبوغ ألوانًا، وزاد في "الفتح": وقيل: هو الأحمر خاصّة.
قال وليّ الدين أيضًا: وقد ذكر أصحابنا الشافعيّة أن التقليد بالخيوط المفتولة يكون في الغنم، فيقلّدها إما بذلك، وإما بخُرَب القِرَب -بضم الخاء المعجمة- وهي عُراها، وآذانها. وأما الإبل، والبقر، فقالوا: يستحبّ تقليدها بنعلين، من هذه النعال التي تُلبس في الرجلين في الإحرام، ويستحبّ أن يكون لها قيمة، ويتصدّق بهما عند ذبح الهدي.
وقال المالكية: ولو اقتصر على التقليد بنعل واحدة جاز، والأول أفضل، وقال الشافعية: لا تقلد الغنم النعل؛ لثقله عليها، بخلاف الإبل، والبقر، ولم أرهم قالوا: إنه لا تقلد الإبل، والبقر بالْخُرَب، والخيوط، بل استحبّوا أن يكون بالنعال، وسكتوا عما عداها، وهذا الحديث صريح في تقليد الإبل بالخيوط، ولا سيما الرواية:"فتلت قلائد بُدن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أشعرها، وقلّدها"، ومن المعلوم أن الإشعار لا يكون في الغنم، وتناوُل لفظِ البُدن للإبل متفق عليه، وإنما الخلاف في إطلاقه على غيرها، كما تقدّم، والله تعالى أعلم. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": وفيه -يعني قولها: "من عهن"- ردّ على من كره القلائد من الأوبار، واختار أن تكون من نبات الأرض، وهو منقول عن ربيعة،
(1)
"طرح التثريب" 5/ 151، 152.
ومالك، وقال ابن التين: لعله أراد أنه الأولى، مع القول بجواز كونها من الصوف، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
وقولها: (يَأتي مَا يَأتي الْحَلَالُ مِنْ أَهْلِهِ) كناية عن جماع زوجته.
وقولها: (أَوْ يَأتِي مَا يَأتِي الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ) الظاهر أن "أو" للشكّ من الراوي، ووقع في رواية النسائيّ:"وما يأتي الرجل من أهله" فيحتمل أن يكون من عطف التفسير لقولها: "ما يأتي الحلال من أهله"، ويحتمل أن تكون "من" في الأول بمعنى "في"، أي ما يفعله الحلال، وهو في أهله، من الطيب، واللباس، وغيرهما، وعليه يكون قولها:"وما يأتي الرجل من أهله" من عطف الخاصّ على العامّ، وهو الجماع.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3202]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَن الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لًقَدْ رَأَيْتُنِي أَفْتِلُ الْقَلَائِدَ لِهَدْيِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْغَنَمِ، فَيَبْعَثُ بِهِ، ثُمَّ يُقِيمُ فِينَا حَلَالًا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
2 -
(مَنْصُورُ) بن المعتمر بن عبد الله السلميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [6](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 296.
3 -
(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ، ثقةٌ فقيه يرسل كثيرًا [5](ت 96)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.
4 -
(الْأَسْوَدُ) بن يزيد بن قيس بن عبد الله النخعيّ، أبو عمرو، أو أبو
(1)
"الفتح" 4/ 656.
عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ مكثر فقيهٌ [2](ت 4 أو 75)(ع) تقدم في "الطهارة" 32/ 674.
والباقيان ذُكرا في الباب.
وقولها: (مِنَ الْغَنَمِ) فيه ردّ على من نفى تقليد الغنم، وقد ترجم الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:"باب تقليد الغنم"، ثم أورد هذا الحديث؛ ردًّا على هؤلاء.
قال ابن المنذر: أنكر مالك، وأصحاب الرأي تقليدها، زاد غيره: وكأنهم لم يبلغهم الحديث، ولم نجد لهم حجةً، إلا قول بعضهم: إنها تَضْعُف عن التقليد، وهي حجة ضعيفةٌ؛ لأن المقصود من التقليد العلامة، وقد اتفقوا على أنها لا تُشْعَر؛ لأنها تضعف عنه، فتقلَّد بما لا يضعفها، والحنفية في الأصل يقولون: ليست الغنم من الهدي، فالحديث حجة عليهم من جهة أخرى.
وقال ابن عبد البرّ: احتجّ من لم ير إهداء الغنم بأنه صلى الله عليه وسلم حج مرة واحدة، ولم يُهد فيها غنمًا. انتهى.
قال الحافظ رحمه الله: وما أدري ما وجه الحجة منه؛ لأن حديث الباب دالّ على أنه صلى الله عليه وسلم أرسل بها، وأقام، وكان ذلك قبل حَجَّته قطعًا، فلا تعارض بين الفعل والترك؛ لأن مجرد الترك لا يدل على نسخ الجواز، ثم مَنِ الذي صرح من الصحابة بأنه لم يكن في هداياه في حَجَّته غنم حتى يسوغ الاحتجاج بذلك؟، ثم ساق ابن المنذر من طريق عطاء، وعبيد الله بن أبي يزيد، وأبي جعفر محمد بن عليّ، وغيرهم قالوا: رأينا الغنم تقدَّم مُقَلَّدة، ولابن أبي شيبة عن ابن عباس نحوه، والمراد بذلك الردّ على من ادَّعَى الإجماع على ترك إهداء الغنم وتقليدها، وأعلّ بعض المخالفين حديث الباب بأن الأسود تفرد، عن عائشة بتقليد الغنم، دون بقية الرُّوَاة عنها من أهل بيتها وغيرهم، قال المنذريّ وغيره: وليست هذه بعلّة؛ لأنه حافظ ثقة لا يضره التفرد، قاله في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الحقّ مشروعيّة تقليد الغنم،
(1)
"الفتح" 4/ 655.
وأنها من جملة ما يُهدى إلى الحرم؛ لصحّة هذا الحديث، وأما الذين نفوا ذلك، فأحسن الأحوال أن يُعتذر عنهم بعد ثبوت الخبر بذلك لديهم، فتبصّر.
والحديث متّفق عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3203]
(
…
) - (وَحَدَّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبو كُرَيْبٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَن الْأَعْمَشِ، عَنْ اِبْرَاهِيمَ، عَن الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: رُبَّمَا فَتَلْتُ الْقَلَائِدَ لِهَدْيِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَيُقَلِّدُ هَدْيَهُ، ثُمَّ يَبْعَثُ بِهِ، ثمَّ يُقِيمُ، لَا يَجْتَنِبُ شَيْئًا مِمَّا يَجْتَنِبُ الْمُحْرِمُ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(أَبُو كرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قريبًا.
3 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِم في حديث غيره، من كبار [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
4 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبت حافظ، ورع، لكنه يدلّس [5](ت 147) أو بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.
والباقون ذُكروا في الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3204]
(
…
) - (وَحَدَّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيةَ، عَن الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَن الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَهْدَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّةً إِلَى الْبَيْتِ غَنَمًا، فَقَلَّدَهَا).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
وهم المذكورون في السند الماضي.
وقولها: (أَهْدَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّةً إِلَى الْبَيْتِ غَنَمًا، فَقَلَّدَهَا) قال النوويّ رحمه الله: فيه دلالة لمذهبنا، ومذهب الكثيرين أنه يستحب تقليد الغنم، وقال مالك، وأبو حنيفة: لا يستحب، بل خَصّا التقليد بالإبل والبقر، وهذا الحديث صريح في الردّ عليهما. انتهى
(1)
.
والحديث متّفق عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى في الباب، فلا تغفل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3205]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ، عَن الْحَكَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَن الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنَّا نُقَلِّدُ الشَّاءَ، فَنُرْسِلُ بِهَا، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَلَالٌ، لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ مِنْهُ شَىْءٌ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورِ) بن بَهْرَام الْكَوسج التميميّ، أبو يعقوب المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
2 -
(عَبْدُ الصَّمَدِ) بن عبد الوارث العنبريّ مولاهم التَّنُّوريّ، أبو سهل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ في شعبة [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.
3 -
(أَبُوهُ) عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان العنبريّ مولاهم، أبو عُبيدة التّنّوريّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ) -بضمّ الميم، ثم حاء مهملة مخفّفة- الأوديّ، أو الإياديّ الكوفيّ، ثقةٌ [5](ت 131)(ع) تقدم في "الصلاة" 15/ 901.
5 -
(الْحَكَمُ) بن عُتيبة الكِنْديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، ربّما دلّس [5](ت 113) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 72.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: وقع عند بعض الرواة هنا وهَمٌ في هذا الإسناد، نبّه عليه الحافظ أبو عليّ الغسّاني الْجَيّانيّ رحمه الله، ودونك نصّه: قال مسلم: حدّثنا إسحاق بن منصور، قال: حدّثنا عبد الصمد، قال: حدّثنا أبي إلخ، ثم قال: هكذا إسناد هذا الحديث عند أبي العلاء بن ماهان، وعند أبي العبّاس الرازيّ، والكسائيّ، ووقع في بعض النُّسَخ المرويّة عن الْجُلُوديّ: حدّثنا إسحاق، نا عبد الصمد، نا محمد بن جُحادة
…
سقط من الإسناد ذكرُ والد عبد الصمد الراوي عن محمد بن جُحَادة، وهو خطأٌ، وعبد الصمد هو عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد الْعَنْبريّ التميمي مولاهم البصريّ، والساقط من الإسناد هو عبد الوارث بن سعيد أبو عُبيدة. انتهى كلام الغسّانيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
وقولها: (كُنَّا نُقَلِّدُ الشَّاءَ) بالهمزة، وفي رواية النسائيّ:"الشاة" بالتاء، وهي واحد "الشاء"، قال الفيّوميّ رحمه الله: الشاة: من الغنم يقع على الذكر والأنثى، فيقال: هذا شاةٌ للذكر، وهذه شاة للأنثى، وشاةٌ ذكر، وشاةٌ أنثى، وتصغيرها شُوَيهةٌ، والجمع: شاءٌ، وشياه بالهاء رُجوعًا إلى الأصل، كما قيل: شفةٌ وشِفاهٌ، ويقال: أصلها شاهةٌ، مثلُ عاهَةٍ. انتهى
(2)
.
وقولها: (فَنُرْسِلُ بِهَا) هكذا رواية المصنّف بنون المتكلّم، وفي رواية النسائيّ:"فيُرسل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم"، بالياء، وعليها فـ "رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوع على الفاعليّة، فتنبّه.
وقوله: (لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ منه شَىْءٌ) هذا بيان لمعنى قولها: "حلال"، وضمير "عليه" له صلى الله عليه وسلم، وضمير "منه" للحلال، فيكون فيه استخدام، وهو نوع من أنواع البديع، وهو أن يُذكَر لفظ له معنيان، فيراد به أحدهما، ثم يراد بالضمير الراجع إليه معناه الآخر، أو يراد بأحد ضميريه أحد معنييه، ثم بالآخر معناه الآخر، فالأول كقوله [من الوافر]:
إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ
…
رَعَيْنَاهُ وإنْ كَانُوا غِضَابَا
(1)
"تقييد المهمل" 3/ 842.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 328.
أراد بالسماء الغيث، وبالضمير الراجع إليه من "رَعَيناه" النبت، والسماء يُطلق عليهما.
والثاني: كقوله [من الكامل]:
فَسَقَى الْغَضَى وَالسَّاكِنِيهِ وَإنْ هُمُ
…
شبّوه بَيْنَ جَوَانِحِي وَضُلُوعِي
أراد بأحد الضميرين الراجعين إلى "الْغَضَى" وهو المجرور في "الساكنيه" المكان، وبالآخر، وهو المنصوب في "شبّوه" النار، أي أوقدوا بين جوانحي نارَ الغضى، يعني نار الهوى التي تُشبه نار الغضى، قاله الجرجانيّ
(1)
.
ومعنى الاستخدام في هذا الحديث أن قولها: "حلال" خبر قولها:
"ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم"، فهو بمعنى غير محرم بالحجّ، أو العمرة، والضمير في قولها:"منه" راجع إلى "حلال" بمعنى ضدّ الحرام، تعني أنه صلى الله عليه وسلم لم يحرم عليه بسبب إرسال الشاء شيء مما هو حلال له قبل ذلك، والله تعالى أعلم.
ووقع في رواية النسائيّ بلفظ: "كنا نقلّد الشاة، فيُرسل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حلالًا، لم يُحرم من شيء"، فـ "لم يُحرِم" بضمّ حرف المضارعة، أي لم يصر صلى الله عليه وسلم محرمًا من شيء كان حلالا له.
والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3206]
(
…
) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أنَّهَا أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ ابْنَ زِيادٍ كَتَبَ إِلَى عَائِشَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَنْ أَهْدَى هَدْيًا حَرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْحَاجِّ، حَتَّى يُنْحَرَ الْهَدْيُ، وَقَدْ بَعَثْتُ بِهَدْيِي، فَاكْتُبِي إِلَىَّ بِأَمْرِكِ، قَالَتْ عَمْرَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: لَيْسَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، أنَا فَتَلْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيَّ، ثُمَّ قَلَّدَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِي، فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَىْءٌ أَحَلَّهُ اللهُ لَهُ، حَتَّى نُحِرَ الْهَدْيُ).
(1)
"تعريفات السيد الجرجانيّ" ص 17، 18.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، تقدّم قبل باب.
3 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ) بن محمد بن عمرو بن حَزْم الأنصاريّ المدنيّ القاضي، ثقةٌ [5](ت 135) وهو ابن (70) سنةً (ع) تقدم في "الصلاة" 17/ 916.
والباقون ذُكروا في الباب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رواته رواة الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، إلا شيخه أيضًا، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة.
4 -
(ومنها) أن فيه روايةَ تابعيّ، عن تابعيّة هى خالته، فعمرة خالة عبد الله الراوي عنها، كما قاله في "الفتح"
(1)
.
شرح الحديث:
(عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) الأنصاريّة (أنَّهَا أَخْبَرَتْهُ) أي عبد الله بن أبي بكر (أَن ابْنَ زِيَادٍ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع في جميع نسخ "صحيح مسلم": "أن ابن زياد"، قال أبو علىّ الغسانيّ
(2)
، والمازريّ، والقاضي عياض، وجميع المتكلمين على "صحيح مسلم": هذا غلطٌ، وصوابه:"أن زياد بن أبي سفيان"، وهو المعروف بزياد ابن أبيه، وهكذا وقع على الصواب في "صحيح البخاريّ"، و"الموطأ"، و"سنن أبي داود"، وغيرها من الكتب المعتمدة، ولأن ابن زياد لم يدرك عائشة، والله أعلم. انتهى.
ولفظ البخاريّ: "عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها أخبرته أن زياد بن أبي سُفيان"، قال في "الفتح": قوله: "أن زياد بن أبي سفيان" كذا وقع في
(1)
راجع: "الفتح" 4/ 651.
(2)
راجع: "تقييد المهمل" 3/ 842، 843.
"الموطأ"، وكأنّ شيخ مالك حدَّث به كذلك في زمن بني أمية، وأما بعدهم فما كان يقال له: إلا زياد ابن أبيه، وقبل استلحاق معاوية له كان يقال له: زياد بن عُبيد، وكانت أمه سُمَيّة مولاة الحارث بن كَلَدَة الثَّقَفيّ تحت عبيد المذكور، فولدت زيادًا على فراشه، فكان يُنسب إليه، فلما كان في خلافة معاوية شَهِدَ جماعة على إقرار أبي سفيان بأن زيادًا ولده، فاستلحقه معاوية لذلك، وزوّج ابنه ابنته، وأَمَّر زيادًا على العراقين: البصرة والكوفة جمعهما له، ومات في خلافة معاوية سنة ثلاث وخمسين. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: "ابن زياد" الذي وقع غلطًا عند مسلم هو: عبيد الله بن زياد، ولد زياد بن أبيه هذا، وهو الذي قتل الحسين بن عليّ رضي الله عنهما، قاله الأبيّ رحمه الله
(2)
.
(كَتَبَ إِلَى عَائِشَةَ) رضي الله عنها (أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (قَالَ: مَنْ أَهْدَى هَدْيًا حَرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْحَاجِّ، حَتى يُنْحَرَ الْهَدْيُ) ببناء الفعل للمفعول، ولفظ البخاريّ:"حتى يُنحر هديه"(وَقَدْ بَعَثْتُ بِهَدْيِي، فَاكتُبِي إليَّ بِأَمْرِكِ) زاد الطحاويّ من رواية بن وهب، عن مالك:"أو مُرِي صاحب الهدي" أي الذي معه الهدي، أي بما يصنع (قَالَتْ عَمْرَةُ) هو موصول بالسند المذكور، وقد رَوَى الحديث المرفوع عن عائشة: القاسم، وعروة، ومسروق، كما أورد مسلم رواياتهم في هذا الباب، وقد ساق البخاريّ في "الضحايا" رواية مسروق مطولةً، ولفظه: عن مسروق أنه قال: "يا أم المؤمنين إن رجلًا يبعث بالهدي إلى الكعبة، ويجلس في المصر، فيوصي أن تُقَلَّد بدنته، فلا يزال من ذلك اليوم محرمًا حتى يُحِلّ الناس"، فذكر الحديث.
ولفظ الطحاويّ في حديث مسروق: قال: قلت لعائشة: إن رجالًا ها هنا يبعثون بالهدي إلى البيت، ويأمرون الذي يبعثون معه بِمَعْلَم لهم يقلّدها في ذلك اليوم، فلا يزالون محرمين حتى يحلّ الناس
…
الحديث.
وقال سعيد بن منصور: حدثنا هشيم، حدّثنا يحيى بن سعيد، حدّثنا محدِّث عن عائشة، وقيل لها: إن زيادًا إذا بعث بالهدي أمسك عما يمسك عنه المحرم، حتى ينحر هديه، فقالت عائشة: أَوَ له كعبة يطوف بها؟.
(1)
"الفتح" 4/ 651.
(2)
راجع: "شرح الأبيّ" 3/ 413.
قال: وحدّثنا يعقوب، حدّثنا هشام، عن أبيه بلغ عائشة، أن زيادًا بعث بالهدي، وتجرد، فقالت: إن كنت لأفتل قلائد هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم يبعث بها، وهو مقيم عندنا، ما يجتنب شيئًا.
وروى مالك في "الموطأ" عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم التيميّ، عن ربيعة بن عبد الله بن الْهُدير، أنه رأى رجلًا متجردًا بالعراق، فسأل عنه، فقالوا: إنه أمر بهديه أن يُقَلَّد، قال ربيعة: فلقيت عبد الله بن الزبير، فذكرت له ذلك، فقال: بدعة ورب الكعبة.
ورواه ابن أبي شيبة عن الثقفيّ، عن يحيى بن سعيد، أخبرني محمد بن إبراهيم، أن ربيعة أخبره، أنه رأى ابن عباس، وهو أمير على البصرة في زمان عليّ متجردًا على منبر البصرة، فذكره، فعُرف بهذا اسمُ المبهم في رواية مالك
(1)
.
(قَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها (لَيْسَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسِ) رضي الله عنهما، فيه تعقُّب بعض العلماء على بعض، وردّ الاجتهاد بالنصّ (أنا فَتَلْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيَّ) بصيغة التثنية، ويَحْتَمِل أن يكون بصيغة الإفراد؛ لأنه مفرد مضاف، فيعمّ، وفيه رفع مجاز أن تكون أرادت أنها فتلت بأمرها.
(ثُمَّ قَلَّدَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي جعل تلك القلادة في عنقها، وإنما أنّث الضمير؛ لكون الهدي اسم جنس، واحده هدية بالتاء، كما سبق، واسم الجنس يجوز تذكيره وتأنيثه، كما هو مقرّر في محلّه من كتب النحو
(2)
، تقول: قام القوم، وقامت القوم، وجاء الرهط، وجاءت الرهط، والله تعالى أعلم.
وقولها: (بِيَدِهِ) بالإفراد، وهو مفرد مضاف، فيعمّ اليدين، وفي رواية البخاريّ:"بيديه" بالتثنية، قال ابن التين رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون قول عائشة رضي الله عنها: "ثم قلَّدها بيده" بيانًا لحفظها للأمر، ومعرفتها به، ويَحْتَمِل أن تكون أرادت أنه صلى الله عليه وسلم تناول ذلك بنفسه، وعَلِمَ وقت التقليد، ومع ذلك فلم
(1)
راجع: "الفتح" 4/ 652.
(2)
راجع: "حاشية الخضريّ على شرح ابن عقيل على الخلاصة" 1/ 241.
يمتنع من شيء يمتنع منه المحرم؛ لئلا يظنّ أحد أنه استباح ذلك قبل أن يعلم بتقليد الهدي. انتهى.
(ثُمَّ بَعَثَ بِهَا) أي بتلك الهدي المقلَّدة (مَعَ أَبِي) بفتح الهمزة، وكسر الموحّدة الخفيفة، والإضافة إلى ياء المتكلم، تريد أباها أبا بكر الصدّيق رضي الله عنهما، واستفيد من ذلك وقت البعث، وأنه كان في سنة تسع، عام حجّ أبو بكر بالناس.
قال ابن التين رحمه الله: أرادت عائشة رضي الله عنها بذلك علمها بجميع القصّة، ويَحْتَمِل أن تريد أنه آخر فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم لأنه حج في العام الذي يليه حجة الوداع؛ لئلا يَظُنّ ظانّ أن ذلك كان في أول الإسلام، ثم نسخ، فأرادت إزالة هذا اللبس، وأكملت ذلك بقولها:
(فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَيءٌ أَحَلَّهُ اللهُ لَهُ حَتَّى نُحِرَ الْهَدْيُ) أي وانقضى أمره ولم يُحرِم صلى الله عليه وسلم، وتَركُ إحرامه بعد ذلك أحرى، وأولى؛ لأنه إذا انتفى في وقت الشبهة، فلأن ينتفي عند انتفاء الشبهة أولى.
وقولها: (حَتَّى نُحِرَ الْهَدْيُ) ببناء الفعل للمفعول، ويَحْتَمِل أن يكون بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير أبيها.
قال في "الفتح": وحاصل اعتراض عائشة على ابن عباس أنه ذهب إلى ما أفتى به قياسًا للتولية في أمر الهدي على المباشرة له، فبيّنت عائشة أن هذا القياس لا اعتبار له في مقابلة هذه السنة الظاهرة.
وفي الحديث من الفوائد تناول الكبير الشيءَ بنفسه، وإن كان له مَن يكفيه، إذا كان مما يُهْتَمّ به، ولا سيما ما كان من إقامة الشرائع، وأمور الديانة.
وفيه تعقب بعض العلماء على بعض، وردّ الاجتهاد بالنصّ، وأن الأصل في أفعاله صلى الله عليه وسلم التأسي به، حتى تثبت الخصوصية. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"الفتح" 4/ 654.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3207]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَن الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ، وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ تُصَفِّقُ، وَتَقُولُ: كُنْتُ أفتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيَّ، ثُمَّ يَبْعَثُ بِهَا، وَمَا يُمْسِكُ عَنْ شَىْءٍ، مِمَّا يُمْسِكُ عَنْهُ الْمُحْرِمُ، حَتَّى يُنْحَرَ هَدْيُهُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(هُشَيْمُ) بن بشير، تقدّم قبل باب.
2 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ) البجلىّ الأحمسيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 299.
3 -
(الشَّعْبِيُّ) عامر بن شَرَاحيل، أبو عمر الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ فاضلٌ مشهور [3] مات بعد المائة، وله نحو من ثمانين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
4 -
(مَسْرُوقُ) بن الأجدع بن مالك الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو عائشة الكوفيّ، مخضرمٌ ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [2](ت 2 أو 63)(ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 227.
والباقيان ذُكرا في الباب.
وقوله: (سَمِعْتُ عَائِشَةَ، وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ) هذا الحديث مختصر عند المصنّف، وقد ساقه البخاريّ مطوّلًا في كتاب "الأضاحي"، فقال:
(5566)
- حدّثنا أحمد بن محمد، أخبرنا عبد الله
(1)
، أخبرنا إسماعيل، عن الشعبيّ، عن مسروق، أنه أتى عائشة، فقال لها: يا أم المؤمنين إن رجلًا يبعث بالهدي إلى الكعبة، ويجلس في المصر، فيوصي أن تُقَلَّد بدنته، فلا يزال من ذلك اليوم مُحْرِمًا حتى يَحِلَّ الناسُ، قال: فسمعت تصفيقها من وراء الحجاب، فقالت: لقد كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيبعث هديه إلى الكعبة، فما يَحْرُم عليه مما حَلَّ للرجال من أهله، حتى يرجع الناس. انتهى.
(1)
هو ابن المبارك.
وقوله: (تُصَفِّقُ) بضمّ أوله، وتشديد الفاء، مبنيًّا للمفعول: أي تضرب إحدى يديها على الأخرى تعجّبًا، أو تأسّفًا على وقوع ذلك.
وقولها: (حَتَّى يُنْحَرَ هَدْيُهُ) ببناء الفعل للمفعول.
[تنبيه]: استَدَلّ الداوديّ بحديث عائشة رضي الله عنها هذا على أن الحديث الذي روته أم سلمة
(1)
رضي الله عنها مرفوعًا: "إذا دخل العشر، وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يمس من شعره، ولا بشره شيئًا"، يكون منسوخًا بحديث عائشة رضي الله عنها، أو ناسخًا.
وتعقّبه ابن التين بأنه لا يُحتاج إلى ذلك؛ لأن عائشة رضي الله عنها إنما أنكرت أن يصير من يبعث هديه مُحْرمًا بمجرد بعثه، ولم تعترض على ما يُستحب في العشر خاصةً، من اجتناب إزالة الشعر والظفر، ثم قال: لكن عموم الحديث يدلّ على ما قال الداوديّ، وقد استدلّ به الشافعيّ على إباحة ذلك في عشر ذي الحجة، قال: والحديث المذكور أخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ.
وتعقّبه الحافظ، فقال: وفي الاحتجاج نظرٌ، فإنه لا يلزم من دلالته على عدم اشتراط ما يجتنبه المحرم على المضحي، أنه لا يستحب فعل ما ورد به الخبر المذكور لغير المحرم. انتهى، وهو تعقّبٌ جيّدٌ.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدم تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث المذكور أول الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3208]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدثنا أَبِي، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ، كِلَاهُمَا عَن الشَّعْبِىِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ بِمِثْلِهِ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).
(1)
وقع في كلام الداوديّ "ميمونة" بدل "أم سلمة"، وهو غلطٌ، وقد نبّه عليه الحافظ في "الفتح" 12/ 575، 576.
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(عَبْدُ الْوَهَّابِ) بن عبد المجيد بن الصَّلْت الثقفيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 194) عن نحو (80) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.
2 -
(دَاوُدُ) بن أبي هند دينار القشيريّ مولاهم، أبو بكر، أو أبو محمد البصريّ، ثقةٌ متقنٌ [5](ت 140) أو قبلها (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.
3 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: عبد الله بن محمد بن نمير، تقدّم قريبًا.
4 -
(أَبُوهُ) عبد الله بن نمير، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(زَكَرِيَّاءُ) بن أبي زائدة خالد، أو هُبيرة بن ميمون بن فيروز الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ يدلّس [6](ت 7 أو 8 أو 149)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 449.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: رواية داود بن أبي هند، عن الشعبيّ، ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده" 8/ 120 فقال:
(4658)
- حدّثنا عبد الأعلى، حدّثنا يزيد بن هارون، حدّثنا داود بن أبي هند، عن الشعبيّ، عن مسروق، عن عائشة، قالت: كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيبعث بها، ويقيم، فيأتي ما يأتي الحلال قبل أن يبلغ الهدي مكة. انتهى.
ورواية زكرياء، عن الشعبيّ، ساقها إسحاق ابن راهويه رحمه الله في "مسنده" 3/ 1016 فقال:
(1760)
- أخبرنا محمد بن عُبيد، نا زكريا، عن الشعبيّ، حدّثني مسروق، عن عائشة رضي الله عنها قالت: فَتَلْتُ قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهداها، ثم لم يُحْرِم. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(63) - (بَابُ جَوَازِ رُكُوبِ الْبَدَنَةِ الْمُهْدَاةِ لِمَنِ احْتَاجَ إِلَيْهَا)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3209]
(1322) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عن الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً، فَقَالَ: "ارْكَبْهَا"، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهَا بَدَنَةٌ، فَقَالَ: "ارْكَبْهَا ويلَكَ"، فِي الثَّانِيَةِ، أَوْ فِي الثَّالِثَةِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان، تقدّم قريبًا.
2 -
(الْأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقيان تقدّما قبل حديثين.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مما قيل فيه: إنه أصح أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه.
4 -
(ومنها): أنه مُسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة للأخذ عن مالك وغيره.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.
6 -
(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ الْأَعْرَجِ) قال في "الفتح": لم تختلف الرواة عن مالك، عن أبي
الزناد فيه، ورواه ابن عيينة، عن أبي الزناد، فقال:"عن الأعرج، عن أبي هريرة، أو عن أبي الزناد، عن موسى بن أبي عثمان، عن أبيه، عن أبي هريرة"، أخرجه سعيد بن منصور، عنه، وقد رواه الثوريّ، عن أبي الزناد بالإسنادين، مفرّقًا. انتهى.
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، رَأَى رَجُلًا) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسمه بعد طول البحث (يَسُوقُ بَدَنَةً) كذا في معظم الأحاديث، ووقع في الرواية الآتية من طريق بكير بن الأخنس، عن أنس:"مرّ ببدنة، أو هديّة"، ولأبي عوانة من هذا الوجه:"أو هدي"، وهو مما يوضّح أنه ليس المراد بالبدنة مجرّد مدلولها اللغويّ، وفي الرواية التالية من طريق المغيرة بن عبد الرحمن الحزاميّ، عن أبي الزناد:"بينا رجل يسوق بدنة مقلّدةً"، وكذا في طريق همّام بن منبّه، عن أبي هريرة، وللبخاريّ من طريق عكرمة، عن أبي هريرة أنها كانت مُقَلَّدَةً نعلًا، وزاد النسائيّ من رواية ثابت، عن أنس:"وقد جَهَدَه المشي"، ولأبي يعلى من طريق الحسن، عن أنس:"حافيًا"، لكنها رواية ضعيفة
(1)
.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("ارْكَبْهَا") أي اركب بدنتك التي تسوقها؛ لتستريح من تعبك الذي لحقك من مشقّة المشي (قَالَ) الرجل (يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهَا بَدَنَةٌ) هذا ظنٌّ من الرجل أن البدنة لا تُركب.
قال وليّ الدين رحمه الله: المراد بالبدنة هنا، الواحدة من الإبل المهداة إلى البيت الحرام، ويقع هذا اللفظ على الذكر والأنثى بالاتفاق، كما نقله النوويّ وغيره، ونقل ابن عبد البرّ قولًا: إنها تختصّ بالأنثى، وردّه، وهل تختصّ في أصل وضعها بالإبل، أم تستعمل فيها، وفي البقر، أم فيها، وفي الغنم؟ فيه خلاف.
ولو استعملت البدنة هنا في أصل مدلولها لم يحصل الجواب بقوله: "إنها بدنة"، لأن كونها من الإبل مشاهد معلوم، والذي ظنّ أنه خفي من أمرها
(1)
راجع: "الفتح" 4/ 637، 638.
كونها هديًا، فدلّ بقوله:"إنها بدنة"، على أنها مهداة. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله
(1)
.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("ارْكَبْهَا، ويلَكَ") هذه الكلمة أصلها أنها تقال لمن وقع في هَلَكة، فقيل: لأنه كان محتاجًا، قد وقع في تعب وجهد، وقيل: هي كلمة تجري على اللسان، وتُستعمل من غير قصد إلى ما وُضعت له أوّلًا، بل تدعّم بها العرب كلامها، كقولهم: لا أُمّ له، ولا أب له، وتربت يداه، وقاتله الله ما أشجعه، وعَقْرَى، وحَلْقَى، وما أشبه ذلك، قاله النوويّ رحمه الله
(2)
.
وقال في "الفتح": قال القرطبيّ: قالها له تأديبًا؛ لأجل مراجعته له مع عدم خفاء الحال عليه. وبهذا جزم ابن عبد البرّ، وابن العربيّ، وبالغ حتى قال: الويل لمن راجع في ذلك بعد هذا، قال: ولولا أنه صلى الله عليه وسلم اشترط على ربه ما اشترط لهلك ذلك الرجل، لا محالة، قال القرطبيّ: ويَحْتَمِل أن يكون فَهِم عنه أنه يترك ركوبها على عادة الجاهلية في السائبة، وغيرها، فزجره عن ذلك، فعلى الحالتين هي إنشاء، ورجحه عياض، وغيره، قالوا: والأمر هنا، وإن قلنا: إنه للإرشاد، لكنه استحقّ الذمّ بتوقفه على امتثال الأمر، والذي يظهر أنه ما ترك الامتثال عنادًا.
ويَحْتَمِل أن يكون ظنّ أنه يلزمه غُرْمٌ بركوبها، أو إثم، وأن الإذن الصادر له بركوبها إنما هو للشفقة عليه، فتوقّف، فلما أغلظ له بادر إلى الامتثال.
وقيل: لأنه كان أشرف على هَلَكَة من الجهد، و"ويل" كلمة تقال لمن وقع في هلكة، فالمعنى: أشرفت على الهلكة، فاركب، فعلى هذا هي إخبار، وقيل: هي كلمة تُدَعِّم بها العرب كلامها، ولا تقصد معناها، كقوله: لا أم لك، ويقوّيه ما في بعض الروايات بلفظ:"ويحك" بدل "ويلك"، قال الهرويّ:"ويل" يقال لمن وقع في هلكة يستحقّها، و"ويح" لمن وقع في هلكة لا يستحقّها. انتهى
(3)
.
(فِي الثَّانِيَةِ) أي في المرّة الثانية (أَوْ فِي الثَّالِثَةِ) أي أو قال في المرّة
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 5/ 144.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 74.
(3)
"الفتح" 4/ 640.
الثالثة، وهذا شكّ من الراوي، قال القاري:"في الثانية، أو في الثالثة" أي في إحدى المرّتين، متعلّق بـ "قال".
ووقع في رواية همام الثالثة: "ويلك اركبها، ويلك اركبها". ولأحمد من رواية عبد الرحمن بن إسحاق، والثوريّ، كلاهما عن أبي الزناد، ومن طريق عجلان، عن أبي هريرة، قال:"اركبها ويحك"، قال: إنها بدنة، قال:"اركبها ويحك". زاد أبو يعلى من رواية الحسن: "فركبها"، إلا أنها ضعيفة، وللبخاريّ من طريق عكرمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"فلقد رأيته راكبها، يساير النبيّ صلى الله عليه وسلم، والنعل في عنقها".
قال الحافظ: وتبيّن بهذه الطرق أنه أطلق البدنة على الواحدة من الإبل المهداة إلى البيت الحرام، ولو كان المراد مدلولها اللغويّ لم يحصل الجواب بقوله: إنها بدنة؛ لأن كونها من الإبل معلوم، فالظاهر أن الرجل ظنّ أنه خَفِي كونها هديًا، فلذلك قال: إنها بدنة، والحقّ أنه لم يَخْفَ ذلك على النبىّ صلى الله عليه وسلم لكونها كانت مقلّدةً، ولهذا قال له لما زاد في مراجعته:"ويلك". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [63/ 3209 و 3210 و 3211](1322)، و (البخاريّ) في "الحج"(1689 و 1706) و"الوصايا"(2755) و"الأدب"(6160)، و (أبو داود) في "المناسك"(1760)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(5/ 176) و"الكبرى"(2/ 364 - 345)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(3103)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 377)، و (الطيا لسيّ) في "مسنده"(2596)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 254 و 481 و 487)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 399)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 113)، و (ابن
(1)
"الفتح" 4/ 640.
خزيمة) في "صحيحه"(4/ 188)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4014)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5/ 250 و 252 و 265)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 236)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1955)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعية ركوب البدنة، مطلقًا، سواء كان واجبًا، أو متطوّعًا به؛ لكونه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل صاحب الهدي عن ذلك، فدلّ على أن ذلك لا يختلف بذلك، وأصرح من هذا ما أخرجه أحمد من حديث عليّ رضي الله عنه:"أنه سئل: هل يَركب الرجل هديه؟ فقال: لا بأس، قد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يمرّ بالرجال يمشون، فيأمرهم يركبون هديه"، أي هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإسناده صالح، قاله الحافظ رحمه الله
(1)
.
2 -
(ومنها): تكرير الفتوى، والندب إلى المبادرة إلى الامتثال الأمر، وزجر من لم يبادر إلى ذلك، وتوبيخه.
3 -
(ومنها): جواز مسايرة الكبار في السفر.
4 -
(ومنها): أن الكبير إذا رأى مصلحة للصغير، لا يَأنَفُ عن إرشاده إليها.
5 -
(ومنها): أن البخاريّ رحمه الله استَنْبَط من هذا الحديث جواز انتفاع الواقف بوقفه، حيث بوّب بقوله:"باب هل يَنتفع الواقف بوقفه"، قال: وقد اشترط عُمر رضي الله عنه: لا جُناح على من وليه أن يأكل، وقد يلي الواقف وغيره، قال: وكذلك من جعل بدنة، أو شيئًا لله، فله أن ينتفع بها كما ينتفع غيره، وإن لم يشترط. انتهى.
قال وليّ الدين رحمه الله: وقد قال أصحابنا: يجوز أن ينتفع الواقف بأوقافه العامة كآحاد الناس كالصلاة في بقعة جعلها مسجدًا، أو الشرب من بئر وقفها، والمطالعة في كتاب وقفه على المسلمين، والشرب من كيزان سبّلها على العموم، والطبخ في قِدر وقفها على العموم أيضًا، والمشهور عندهم منع وقف الإنسان على نفسه، وهو المنصوص للشافعيّ، ومع ذلك، فاختلفوا فيما لو
(1)
"الفتح" 4/ 638.
شرط الواقف النظر لنفسه، وشرط أجرة، هل يصحّ هذا الشرط؟ وقال النوويّ: الأرجح هنا جوازه، قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: ويتقيد ذلك بأجرة المثل. انتهى.
6 -
(ومنها): أن فيه جواز ركوب الهدي ما لم يضرّ به الركوب؛ لحديث جابر رضي الله عنه الآتي: "اركبها بالمعروف"، وهذا متّفق عليه بين العلماء، قال وليّ الدين: قال الشافعية، والحنفية: ومتى نقصت بالركوب ضمن النقصان، ومقتضى نقل ابن عبد البرّ عن مالك أنه لا يضمن. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لا يخفى أن ما نُقِل عن مالك هو ظاهر الحديث، فتأمّل، والله تعالى أعلم.
7 -
(ومنها): أنه قال الشافعية، والحنفية: كما يجوز ركوبها، يجوز الحمل عليها، ورواه ابن أبي شيبة، عن عطاء، وطاوس، ومنع مالك الحمل عليها، وقال: لا يركبها بالْمِحْمَلَ، حكاه ابن المنذر، وظاهر إطلاق الحديث أن له أن يركبها كيف شاء، ما لم يضرّ بها، والحمل مقيس على الركوب. أفاده وليّ الدين رحمه الله.
8 -
(ومنها): ما قيل: إنه كما يجوز له الركوب بنفسه يجوز له إقامة غيره في ذلك مقامه بالعارية، وحَكَى ابن المنذر عن الشافعيّ أنه قال: له أن يحمل الْمُعْيي، والمضطرّ على هديه، ونقل القاضي عياض الإجماع على منع إجارتها؛ لأنها بيع للمنافع.
9 -
(ومنها): أن بعضهم ألحق بالهدايا في ذلك الضحايا، فله أن يركبها إذا احتاج إلى ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم ركوب الهدايا:
(اعلم): أنهم اختلفوا في هذا على مذاهب:
(أحدها): الجواز مطلقًا، حكاه ابن المنذر عن عروة بن الزبير، وأحمد، وإسحاق، وكذا حكاه النوويّ في "شرحي مسلم، والمهذب" عنهم، وعن مالك في رواية، وعن أهل الظاهر، وحكاه الخطابيّ عن أحمد، وإسحاق، وصرّح عنهما بأنهما لم يشترطا منه حاجة إليه. وهذا هو الذي جزم به الرافعيّ،
والنوويّ في "الروضة" في "كتاب الضحايا". وحكاه النوويّ في "شرح المهذّب" عن الماورديّ، والقفال.
(الثاني): الجواز بشرط الاحتياج لذلك، ولا يركبها من غير حاجة، قال النوويّ في "شرح مسلم": إنه مذهب الشافعيّ، ونقله في "شرح المهذّب" عن تصريح الشيخ أبي حامد، والبندنيجيّ، والمتولّي، وصاحب "البيان"، وآخرين، قال: وهو ظاهر نصّ الشافعيّ، فإنه قال: يركب الهدي إذا اضطرّ إليه.
وتقييد الجواز بشرط الحاجة هو المشهور من مذهب مالك، وأحمد، وجزم المجد ابن تيمية في "المحرّر" بجواز ركوبها مع الحاجة ما لم يضر بها، وبهذا قال ابن المنذر، وجماعة، ورواه ابن أبي شيبة عن الحسن البصريّ، وعروة بن الزبير، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، وحكاه الترمذيّ عن الشافعيّ، وأحمد، وإسحاق.
(الثالث): الجواز بشرط الاضطرار لذلك، نقله ابن المنذر عن الشافعيّ، فقال: وقال الشافعيّ: يركبها إذا اضطرّ ركوبًا، غير قادح، ولا يركبها إلا من ضرورة، وكذا حكى الخطابيّ عن الشافعيّ، ورواه مالك في "الموطإ" عن عروة بن الزبير، وقال ابن المنذر في "الإشراف": وقال أصحاب الرأي: لا يركبها، وإن احتاج، ولم يجد منه بدًّا حمل عليه، وركبه، وروى ابن أبي شيبة عن الشعبيّ، قال: لا يركب البدنة، ولا يحمل عليها إلا مِنْ أَمْرٍ لا يجد منه بدًّا، وحكاه الخطابيّ عن الثوريّ، وقال ابن عبد البرّ: الذي ذهب إليه مالك، وأبو حنيفة، والشافعيّ، وأصحابهم، وأكثر الفقهاء كراهية ركوب الهدي من غير ضرورة. انتهى.
(الرابع): منع ركوبها مطلقًا، قال ابن المنذر: وقال الثوريّ في قوله: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} قال: الولد، واللبن، والركوب، فإذا سُمِّيت بُدنًا ذهبت المنافع، وروى ابن أبي شيبة عن مجاهد:{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} قال: في ألبانها، وظهورها، وأوبارها حتى تسمّى بُدنًا، فإذا سميت بُدنًا فمحلها إلى البيت العتيق.
(الخامس): وجوب ركوبها، حكاه القاضي عياض، وابن عبد البرّ عن
بعض أهل الظاهر؛ تمسكًا بظاهر الأمر، ولمخالفة ما كانوا عليه في الجاهلية من البَحيرة، والسائبة.
قال الحافظ وليّ الدين: فمن قال بالجواز مطلقًا تمسّك بظاهر هذا الحديث، فإنه صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، والأمر هنا للإباحة، ولم يقيّد ذلك بشيء، ومن قيّد الجواز بالحاجة، أو الضرورة قال: هذه واقعة مُحْتَمِلة، وقد دلّت رواية أخرى على أن هذا الرجل كان محتاجًا للركوب، أو مضطرًّا له.
روى النسائيّ عن أنس رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يسوق بدنة، وقد جَهَدَه المشي قال: "اركبها
…
" الحديث، وفي "صحيح مسلم" عن أبي الزبير، قال: سمعت جابر بن عبد الله سئل عن ركوب الهدي، فقال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "اركبها بالمعروف، إذا أُلْجِئت إليها حتى تجد ظهرًا"، ورواه مسلم أيضًا من هذا الوجه بدون قوله: "إذا ألجئت إليها".
ومن منع مطلقًا، فهذا الحديث حجة عليه، ولعله لم يبلغه، ولعل أحدًا لم يقل بهذا المذهب، ويكون معنى قول الثوريّ: ذهبت المنافع، أي بالملك، وإن بقيت بالارتفاق.
ومن أوجب فإنه حمل الأمر على الوجوب، ووجْهه أيضًا مخالفة ما كانت الجاهليّة عليه من إكرام البَحِيرة، والسائبة، والوصيلة، والحامي، وإهمالها بلا ركوب.
ودليل الجمهور أنه صلى الله عليه وسلم أهدى، ولم يركب هديه، ولم يأمر الناس بركوب الهدايا. انتهى كلام وليّ الدين ببعض تصرّف
(1)
.
وتعقّبه الحافظ رحمه الله في قوله: "ولم يأمر الناس إلخ"، فقال: وفيه نظر؛ لِما تقدم من حديث عليّ رضي الله عنه، وله شاهد مرسل عند سعيد بن منصور بإسناد صحيح، ورواه أبو داود في "المراسيل" عن عطاء:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يأمر بالبدنة إذا احتاج إليها سيدها أن يَحْمِل عليها، ويركبها غير مُنْهِكها، قلت: ماذا؟ قال: الرجل الراجل، والمتبع السير، فإن نُتجت حمل عليها ولدها".
قال: ولا يمتنع القول بوجوبه إذا تعيّن طريقًا إلى إنقاذ مهجة إنسان من
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 5/ 144 - 146.
الهلاك. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الحافظ رحمه الله من وجوب الركوب عند شدة الحاجة حسنٌ جدًّا.
والحاصل أن ركوب الهدي بالمعروف جائز عند الاضطرار حتى تزول الضرورة، والدليل على اعتبار هذه القيود حديث جابر رضي الله عنه الآتي في الباب:"اركبها بالمعروف إذ أُلجئت إليها حتى تجد ظهرًا"، فإن مفهومه أنه يركبها بلا إلحاق ضرر بها، إذا كان هو مضطرًّا لركوبها، وأنه إذا وجد غيرها تركها، ثم إنه إذا كان يخاف على نفسه إن لم يركب كان ركوبها واجبًا عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: قال في "الفتح": واختلف المجيزون، هل يَحْمِل عليها متاعه؟ فمنعه مالك، وأجازه الجمهور، وهل يَحْمِل عليها غيره؟ أجازه الجمهور أيضًا على التفصيل المتقدّم، ونقل القاضي عياض الإجماع على أنه لا يؤجرها، وقال الطحاويّ في "اختلاف العلماء": قال أصحابنا، والشافعيّ: إن احتلب منها شيئًا تصدّق به، فإن أكله تصدّق بثمنه، ويركب إذا احتاج، فإن نقصه ذلك ضمن، وقال مالك: لا يشرب من لبنه، فإن شرب لم يَغرَم، ولا يركب إلا عند الحاجة، فإن ركب لم يغرم، وقال الثوريّ: لا يركب إلا إذا اضطرّ. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3210]
(
…
) - (وَحَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِىُّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَن الْأَعْرَجِ، بِهَذَا الإسْنَادِ، وَقَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَدَنَةً مُقَلَّدَةً).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِيُّ) المدنىّ، لقبه قُصيّ، ثقةٌ له غرائب [7](ع) تقدم في "الطهارة" 26/ 653.
(1)
"الفتح" 4/ 639.
(2)
"الفتح" 4/ 639، 640.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: رواية المغيرة بن عبد الرحمن الحزاميّ، عن أبي الزناد لم أجد من ساقها بتمامها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3211]
(
…
) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَدَنَةً مُقَلَّدَةً، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَيلَكَ ارْكَبْهَا"، فَقَالَ: بَدَنَةٌ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "وَيْلَكَ ارْكبْهَا، وَيْلَكَ ارْكبْهَا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(هَمَّامُ بْنُ مُنبِّهِ) بن كامل، أبو عُقبة الصنعانيّ، ثقةٌ [4](ت 132)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
و"أبو هريرة" رضي الله عنه ذُكر قبله.
وقوله: (وَيْلَكَ ارْكَبْهَا) قال وليّ الدين العراقىّ رحمه الله: "ويلك" كلمة تُستعمل في التغليظ على المخاطب، وأصلها لمن وقع في هلكة، وهو يستحقها، فهي كلمة عذاب، بخلاف "ويح" فهي كلمة رحمة، وفيها هنا وجهان:
[أحدهما]: أنها على بابها الأصليّ، ثم يَحْتَمِل أن يكون ذلك لأمر دنيويّ، وهو أن هذا الرجل كان محتاجًا إلى الركوب، فقد وقع في تَعَبٍ وجَهْد، ويدل لذلك قوله في رواية النسائيّ من حديث أنس رضي الله عنه: وقد جَهده المشي.
ويَحْتَمِل أن يكون لأمر دينيّ، وهو مراجعته للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وتأخر امتثاله أمره.
[فإن قلت]: هذا الأمر إنما هو للإباحة عند الجمهور، فكيف استَحْقّ الذم بترك المباح الذي لا حرج فيه؟
[قلت]: لَمّا فَهِمَ منه من توقفه في الإباحة، حيث صار يعارض أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم له بالركوب بقوله:"إنها بدنة" يشير بذلك إلى أنه لا يباح ركوبها؛ لكونها هديًا.
[فإن قلت]: معارضته النبيّ صلى الله عليه وسلم في الإباحة شديدة، تؤدي إلى الكفر، فكيف مَخْلَص هذا الرجل منها؟.
[قلت]: ما عارض عنادًا، بل ظَنّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم. لم يعلم أنها هديٌ، فلما عَلِم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وقال له:"اركبها، وإن كانت بدنة" بادر لامتثال أمره، وركب، وقال أبو هريرة رضي الله عنه:"فلقد رأيته راكبها، يساير النبيّ صلى الله عليه وسلم، والنعل في عنقها"، رواه البخاريّ من رواية عكرمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[فإن قلت]: في الرواية الأولى أنه صلى الله عليه وسلم بدأه بقوله: "ويلك"، ثم قاله له في المرة الثانية، والثالثة، وفي الرواية الثانية أنه قال له ذلك في الثانية، أو الثالثة، فكيف الجمع بينهما؟.
[قلت]: يَحْتَمِل أنه قال له ذلك في الأولى لأمر دنيويّ، وهو ما حَصَل له من الْجَهْد والمشقة بالمشي، وقال له ذلك في الثانية، أو الثالثة لأمر دينيّ، وهو مراجعته له، وتأخر امتثال أمره.
[الوجه الثاني]: أنه لم يُرد بهذه اللفظة موضوعها الأصليّ، بل هي مما يجري على لسان العرب في المخاطبة، من غير قصد لمدلوله، كما قيل في قوله صلى الله عليه وسلم:"تَرِبت يداك"، وقوله:"أفلح وأبيه، عَقْرَى حَلْقَى"، وكما تقول العرب:"لا أمّ له، لا أب له"، و"قاتله الله ما أشجعه"، ونظائر ذلك معروفة، وفي رواية ابن ماجه:"ويحك". انتهى
(1)
.
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 5/ 148، 149.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3212]
(1323) - (وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَسُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، قَالَا: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أنسٍ، قَالَ: وَأَظُنُّنِي قَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ أنسٍ (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَاللَّفْظُ لَهُ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أنسٍ، قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ يَسُوقُ بَدَنَةً، فَقَالَ:"ارْكَبْهَا"، فَقَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، قَالَ:"ارْكَبْهَا" مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ) بن إبراهيم أبو الحارث البغداديّ، مروزيّ الأصل، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 235)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.
3 -
(حُمَيْدٌ) الطويل، تقدّم قريبًا.
4 -
(ثَابِتُ) بن أسلم الْبُنَانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4] مات سنة بضع و (120) وله (86) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
5 -
(أنسٌ) بن مالك رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.
و"يحيى"، و"هُشيم" ذُكرا في الباب وفيما قبله.
شرح الحديث:
(وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَسُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، قَالَا: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أنسٍ، قَالَ: وَأَظُنُّني قَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ أنسٍ).
قال النوويّ رحمه الله: القائل: "وأظنني قد سمعته من أنس" هو حميد، ووقع
في أكثر النسخ: "وأظنني" بنونين، وفي بعضها:"وأظني" بنون واحدة، وهي لغة. انتهى
(1)
.
(قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ يَسُوقُ بَدَنَةً) وفي رواية البخاريّ من طريق قتادة، عن أنس رضي الله عنه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يسوق بدنةً"(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("ارْكَبْهَا"، فَقَالَ) الرجل (إِنَّهَا بَدَنَةٌ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("ارْكَبْهَا" مَرَّتَيْنِ) أي قال ذلك مرتين (أَوْ) أو قاله (ثَلَائًا) أي ثلاث مرّات، وفي رواية بُكَيْرِ بْنِ الْأَخْنَسِ التالية: مُرَّ عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِبَدَنةٍ، أَوْ هَدِيَّةٍ، فَقَالَ:"ارْكَبْهَا"، قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، أَوْ هَدِيَّةٌ، فَقَالَ:"وَإِنْ"، وفي رواية البخاريّ المذكورة:"فقال: اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها ثلاثًا"، قال في "الفتح": وكذا أخرجه أبو مسلم الكجيّ في "السنن" عن مسلم بن إبراهيم شيخ البخاريّ فيه، ومن طريقه أبو نعيم في "المستخرج"، وأخرجه الإسماعيليّ عن أبي خليفة، عن مسلم كذلك، لكن قال في آخره:"ويلك" بدل "ثلاثًا"، وللترمذيّ من طريق أبي عوانة، عن قتادة:"فقال له في الثالثة، أو الرابعة: اركبها ويحك، أو ويلك"، وللنسائيّ من طريق سعيد، عن قتادة:"قال في الرابعة: اركبها ويلك". انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [63/ 3212 و 3213 و 3214](1323)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1690) و"الوصايا"(2754) و"الأدب"(6159)، و (الترمذيّ) في "الحجّ"(911)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(5/ 176) و"الكبرى"(2/ 365)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(3104)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(9/ 353)، و (أحمد) في "مسنده" (3/ 99 و 106 و 167 و 183
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 74، 75.
(2)
"الفتح" 4/ 640، 641.
و 261)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5/ 465)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1411)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 236)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3213]
(
…
) - (وَحَدَّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنا وَكِيعٌ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَخْنَسِ، عَنْ أنسٍ، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: مُرَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِبَدَنَةٍ، أَوْ هَدِيَّةٍ، فَقَالَ: "ارْكَبْهَا"، قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، أَوْ هَدِيَّةٌ، فَقَالَ: "وَإِنْ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(وَكيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قبل بابين.
2 -
(مِسْعَرُ) بن كِدام بن ظُهير الهلاليّ، أبو سلمة الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [7](ت 3 أو 155)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
والباقون ذُكروا في الباب وفيما قبله.
وقوله: (مُرَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) بالبناء للمفعول.
وقوله: (أَوْ هَدِيَّةٍ)"أو" للشكّ من الراوي.
وقوله: (فَقَالَ: "وَإِنْ") هكذا هو في جميع النسخ، "وإن" بحذف فعل شرطها وجوابها، أي: وإن كانت بدنة، فاركبها.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3214]
(
…
) - (وَحَدَّثناه أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثنا ابْنُ بِشْرٍ، عَنْ مِسْعَرٍ، حَدَّثَني بُكَيْرُ بْنُ الْأَخْنَسِ، قَالَ: سَمِعْتُ أنَسًا يَقُولُ: مُرَّ عَلَى النبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِبَدَنَةٍ، فَذَكرَ مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(ابْنُ بِشْرٍ) هو: محمد بن بشر العبديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: رواية محمد بن بشر، عن مسعر هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3215]
(1324) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَن ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ، سُئِلَ عَنْ رُكُوبِ الْهَدْيَ، فَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "ارْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ، إِذَا أُلْجِئْتَ إِلَيْهَا، حَتَّى تَجِدَ ظَهْرًا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وقد تقدّم نفسه قبل بابين.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، أنه قال (أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تدرُس المكىّ (قال: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (يُسْأَلُ عَنْ رُكُوبِ الْهَدْيِ) ببناء الفعل للمفعول، والجملة في محلّ نصب على الحال، وفي الرواية التَّالية: "عن أبي الزبير، قال: سألت جابرًا عن ركوب الهدي
…
" الحديث. فتبيّن أن السائل المبهم في هذه الرواية هو أبو الزبير نفسه (فَقَالَ) جابر رضي الله عنه (سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "ارْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ) أي بالخير، والرفق، والإحسان. قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: يعني بالرفق في الركوب، والسير على الوجه المعروف، من غير عنف، ولا إفحاش. انتهى
(1)
. (إِذَا أُلْجِئْتَ إِلَيْهَا) بالبناء للمفعول، يقال: ألجأته إلى كذا، ولَجَّأته بالهمزة، والتضعيف: اضطررته، وأكرهته، أفاده الفيّوميّ. والمعنى هنا: إذا اضطُرِرت
(1)
"المفهم" 3/ 423.
إلى ركوبها (حَتَّى تَجِدَ ظَهْرًا") قال ابن الأثير: الظهر: الإبل التي يُحمل عليها، وتركب، يقال: عند فلان ظهر: أي إبلٌ، وتُجمع على ظُهران بالضمّ. انتهى، وفي "اللسان": الظهر: الرِّكاب التي تَحْمِل الأثقال في السفر؛ لحملها إياها على ظُهُورها. انتهى.
والمعنى: اركب البدنة إلى أن تجد راحلة ليست هديًا، فتركبَها بدلًا عن ركوب هديك، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ على صحة ما قاله الشافعيّ، وأبو حنيفة، وما حكاه إسماعيل عن مذهب مالك، وقد روي في غير كتاب مسلم: أن النبىّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يسوق بدنةً، وقد جَهَدَه المشى، فقال:"اركبها"
…
الحديث
(1)
. انتهى.
قال السنديّ: وهل بعد أن ركب اضطرارًا له المداومة على الركوب، أو لابدّ من النزول إذا رأى قوّة على المشي؟ قولان، وقد يؤخذ من قوله:"حتى تجد ظهرًا" ترجيح القول الأول، وقد يُمنَعُ ذلك بأنها ليست غاية لمداومة الركوب عليها، بل هي غاية لجواز الركوب كلما أُلجئ إليه، أي له أن يركب كلما أُلجئ إلى أن يجد ظهرًا، فليتأمّل. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف: رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [63/ 3215 و 3216](1324)، و (أبو داود) في "المناسك"(1761)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(5/ 177)، و "الكبرى"(2/ 365)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 317 و 324 و 325 و 348)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2663 و 2664)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4/ 144)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 113)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 263)
(1)
حديث صحيح، رواه أبو داود برقم (1761)، والنسائيّ 5/ 177.
و"الصغرى"(4/ 439) و"المعرفة"(4/ 260)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3216]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ: سَأَلتُ جَابِرًا عَنْ رُكُوبِ الْهَدْيِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "ارْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ، حَتَّى تَجِدَ ظَهْرًا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ) الْمِسْمعيّ النيسابوريّ، نزيل مكة، ثقةٌ، من كبار [11] مات سنة بضع و (240)(م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 60.
2 -
(الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ) هو: الحسن بن محمد بن أعين، نُسب لجدّه، صدوق [9](ت 210)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
3 -
(مَعْقِلُ) بن عبيد الله العبسىّ مولاهم، أبو عبد الله الجزريّ، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 166)(م د س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
والباقيان ذُكرا قبله.
والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(64) - (بَابُ مَا يَفْعَلُ بِالْهَدْيِ إِذَا عَطِبَ فِي الطَّرِيقِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3217]
(1325) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ الضُّبَعِيِّ، حَدَّثَني مُوسَى بْنُ سَلَمَةَ الْهُذَلِيُّ، قَالَ: انْطَلَقْتُ أنَا وَسِنَانُ بْنُ سَلَمَةَ مُعْتَمِرَيْنِ، قَالَ: وَانْطَلَقَ سِنَانٌ مَعَهُ بِبَدَنَةٍ يَسُوقُهَا، فَأَزْحَفَتْ
عَلَيْهِ بِالطَّرِيقِ، فَعَيِيَ بِشَأنِهَا، إِنْ هِيَ أُبْدِعَتْ كَيْفَ يَأتي بِهَا؟
(1)
فَقَالَ: لَئِنْ قَدِمْتُ الْبَلَدَ لَأَسْتَحْفِيَنَّ عَنْ ذَلِكَ
(2)
، قَالَ: فَأَضْحَيْتُ، فَلَمَّا نَزَلْنَا الْبَطْحَاءَ، قَالَ: انْطَلِقْ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ نَتَحَدَّثْ إِلَيْهِ، قَالَ: فَذَكَرَ لَهُ شَأنَ بَدَنَتِهِ، فَقَالَ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ، بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِسِتَّ عَشْرَةَ بَدَنَةً مَعَ رَجُلٍ، وَأمَّرَهُ فِيهَا، قَالَ: فَمَضَى، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ أَصْنَعُ بِمَا أُبْدِعَ عَلَىَّ مِنْهَا؟ قَالَ: "انْحَرْهَا، ثُمَّ اصْبُغْ نَعْلَيْهَا فِي دَمِهَا، ثُمَّ اجْعَلْهُ عَلَى صَفْحَتِهَا، وَلَا تَأكُلْ مِنْهَا أنتَ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِكَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب.
3 -
(أَبُو التَّيَّاحِ الضُّبَعِي) يزيد بن حُميد البصريّ، ثقةٌ ثَبْتٌ [5](ت 128)(ع) تقدم في "الطهارة" 27/ 659.
4 -
(مُوسَى بْنُ سَلَمَةَ الْهُذَلِىُّ) هو: موسى بن سلمة بن الْمُحَبَّق -بوزن مُحَمَّد- الْهُذليّ البصريّ، ثقة [4](م د س) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 1/ 1577.
5 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ) بفتح المثنّاة الفوقانيّة، وتشديد التحتانيّة (الضُّبَعِىِّ) بفتح الضاد المعجمة، وفتح الموحّدة: نسبة إلى ضُبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جَدِيلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن مَعَدّ بن عدنان،، قال السمعانيّ: نزل أكثر هذه القبيلة البصرةَ، وكانت بها محلّة تُنسب إليهم. انتهى
(3)
. (حَدَّثَنى مُوسَى بْنُ سَلَمَةَ الْهُذَلِيُّ) بضمّ الهاء، وفتح الذال المعجمة: نسبة إلى قبيلة يقال لها: هُذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن مَعَدّ بن عدنان، قاله في
(1)
وفي نسخة: "كيف يأتي لها".
(2)
وفي نسخة: "عن ذاك".
(3)
"الأنساب" للسمعانيّ 3/ 587.
"اللباب"
(1)
. (قَالَ: انْطَلَقْتُ أنَا وَسِنَانُ بْنُ سَلَمَةَ) بن الْمُحَبّق، أخو موسى، تأتي ترجمته بعد حديث -إن شاء الله تعالى- (مُعْتَمِرَيْنِ) منصوب على الحال من الفاعل (قَالَ) موسى (وَانْطَلَقَ سِنَانٌ مَعَهُ بِبَدَنَةٍ) بفتحات: هي الناقة، أو البقرة، وقيل: هي الإبل خاصّة، وتقدّم تمام البحث فيها قريبًا، وجملة (يَسُوقُهَا) في محلّ جرّ صفة لـ "بدنة" (فَأَزْحَفَتْ عَلَيْهِ بِالطَّرِيقِ) قال النوويّ رحمه الله:"أزحفت" -بفتح الهمزة، وإسكان الزاي، وفتح الحاء المهملة- هذا رواية المحدثين، لا خلاف بينهم فيه، قال الخطابيّ رحمه الله: كذا يقوله المحدثون، قال: وصوابه، والأجود:"فَأُزْحِفَتْ" -بضم الهمزة- يقال: زَحَفَ البعيرُ: إذا قام، وأزحفه، وقال الهرويّ وغيره: يقال: أزحف البعيرُ وأزحفه السير، بالألف فيهما، وكذا قال الجوهريّ وغيره، يقال: زَحَفَ البعيرُ، وأزحف لغتان، وأزحفه السيرُ وأزحف الرجلُ: وقف بعيره، فحصل أن إنكار الخطابيّ ليس بمقبول، بل الجميع جائز، ومعنى "أزحف": وقف من الْكَلال، والإعياء. انتهى كلام النوويّ: رحمه الله
(2)
، وهو تعقّبٌ جيّد.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: زحف البعير، من باب نَفَعَ: إذا أعيا، فَجَرّ فِرْسِنَهُ، فهو زاحفةٌ، الهاء للمبالغة، والجمع زواحفُ، وأزحف بالألف لغةٌ، ومنه قيل: زَحَفَ الماشي، وأزحف أيضًا: إذا أعيا، قال أبو زيد: ويقال لكلّ مُعْيٍ سمينًا كان، أو مَهْزُولًا: زَحَفَ. انتهى
(3)
.
(فَعَيِيَ بِشَأْنِهَا) ذكر صاحب "المشارق"، و"المطالع" أنه رُوي على ثلاثة أوجه: أحدها، وهي رواية الجمهور:"فَعَيَى" بياءين، من الإعياء، وهو العجز، ومعناه: عَجَزَ عن معرفة حكمها لو عَطِبت عليه في الطريق، كيف يَعْمَل بها.
والوجه الثاني: "فَعَيَّ" بياء واحدة مشددة، وهي لغة بمعنى الأولى.
والوجه الثالث: "فَعُنيَ" بضم العين، وكسر النون، من العناية بالشيء، والاهتمام به. انتهى.
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 446.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 76.
(3)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 251، 252.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "عَيَّ"، أو "عَيِيَ" - مشددًا ومُفككًا، وهما لغتان معروفتان، وعليهما قرئ:{مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} . انتهى
(1)
.
(إِنْ هِيَ أُبْدِعَتْ) قال القرطبيّ رحمه الله: تُروَى "إن" بكسر الهمزة على أنها شرطيّة، وبفتحها على أنها مصدريّة معمولة لحرف جرّ محذوف، فيتعدّى إليها الفعل، وهو قوله:"عيي". انتهى.
وقوله: (أُبْدِعَتْ) -بضم الهمزة، وكسر الدال، وفتح العين، وإسكان التاء- ومعناه: كَلَّت، وأعيت، ووقفت، قال أبو عبيد: قال بعض الأعراب: لا يكون الإبداع إلا بظلع. انتهى.
(كَيْفَ يَأتى بِهَا؟) وقع في بعض النسخ: "لها" باللام، وفي بعضها:"بها" بالباء، وكلاهما صحيح، أي كيف يفعل بها؟ (فَقَالَ) سنان بن سلمة (لَئِنْ قَدِمْتُ الْبَلَدَ) وقع في معظم النسخ:"قَدِمتُ البلدَ"، وفي بعضها:"قَدِمتُ الليلةَ"، وكلاهما صحيحٌ (لَأَسْتَحْفِيَنَّ) -بالحاء المهملة، وبالفاء- ومعناه: لأسالنّ سُؤالًا بليغًا عن ذلك، يقال: أحفى في المسألة: إذا ألحّ فيها، وأكثر منها. قاله النوويّ رحمه الله
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "لأستحفين عن ذلك": أي: لأكثرنَّ السؤال عنه، يقال: أحفى في المسألة، وألَحَّ، وألحف: إذا بالغ فيها، ومنه قوله تعالى:{كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} ؛ أي: كأنه أكثر سؤاله عنها حتى أخبر عنها، ومنه قول الأعشى [من الطويل]:
فَإنْ تَسْألِي عَنَّا فَيَا رُبَّ سائلٍ
…
حَفِىٍّ عَنِ الأَعْشَى به حَيْثُ أَصْعَدَا
(3)
وقوله: (عَنْ ذَلِكَ) وقع في بعض النسخ: "عن ذلك" باللام، وفي بعضها:"عن ذاك" بغير لام (قَالَ: فَأَضْحَيْتُ) - بالضاد المعجمة، وبعد الحاء ياء مثناة تحتُ، قال صاحب "المطالع": معناه: صِرْتُ في وقت الضحى. انتهى. (فَلَمَّا نَزَلْنَا الْبَطْحَاءَ) تأنيث الأبطح، وهو كلّ مكان متّسع، فيه دُقاق الحصى (قَالَ) سنان (انْطَلِقْ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (نَتَحَدَّثْ إِلَيْهِ، قَالَ) موسى بن
(1)
"المفهم" 3/ 425.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 76.
(3)
"المفهم" 3/ 425.
سلمة (فَذَكَرَ) سنان (لَهُ) أي لابن عبّاس رضي الله عنهما (شَأنَ بَدَنَتِهِ) أي قصّتها، وما حدث بها (فَقَالَ) ابن عبّاس رضي الله عنهما (عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ) أي وقعت على الشخص الذي هو خبير بحكمها، حيث سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال في "جمهرة الأمثال": يقول: إنك سألت عن الأمر الخبيرَ به، والخبيرُ: العالم، والْخُبْر: العلم، والْخِبْرة: التجربة؛ لأن العلم يقع معها، وفي القرآن:{وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} ، وقوله تعالى:{فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} ، والسقوط ها هنا بمعنى المصادفة، ومثله قولهم: سقط العشاء به على سرحان، أي صادف به السرحان. انتهى
(1)
.
وقال في "مجمع الأمثال": "الخبير": العالم: والْخُبْر: العلم، و"سَقَطتَ": أي عَثَرَت، عَبَّر عن العثور بالسقوط؛ لأن عادة العاثر أن يسقط على ما يَعْثُر عليه، يقال: إن المثل لمالك بن جبير العامريّ، وكان من حكماء العرب، وتمثّل به الفرزدق للحسين بن عليّ رضي الله عنهما حين أقبل يريد العراق، فلقيه، وهو يريد الحجاز، فقال له الحسين رضي الله عنه: ما وراءك؟ قال: على الخبير سقطتَ، قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أمية، والأمر ينزل من السماء، فقال الحسين رضي الله عنه: صدقتني. انتهى
(2)
.
وقال في "المستقصى في أمثال العرب": سأل حارثةُ بن عبد العزيز العامريُّ مالك بن حنيّ العامريّ، وكانت بينهما منافرة، عن أول من قُرِعت له العصا، فقال:"على الخبير سقطتَ، وبالحليم أحطت"، وهو أول من قاله، وسأل الحسين بن عليّ رضي الله عنهما الفرزدق عن أهل الكوفة، فقال: على الخبير سقطت، قلوب الناس معك، وأسيافهم مع بني أمية، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما دَرّ على معاشهم، وإن امتخضوا قَلّ الديانون منهم، والأمر ينزل من السماء، يُضْرَب للعالم بالأمر، قال ربيعة الأسديّ [من الوافر]:
وَسَائِلَةٍ تُسَائِلُ عَنْ أَبِيهَا
…
فَقُلْتُ لَهَا وَقَعْتِ عَلَى الْخَبِيرِ
(3)
وفيه دليل لجواز ذكر الإنسان بعض ممادحته؛ للحاجة، وإنما ذَكَر ابن
(1)
"جمهرة الأمثال" 2/ 46.
(2)
"مجمع الأمثال" 2/ 24.
(3)
"المستقصى في أمثال العرب" 2/ 164.
عباس ذلك ترغيبًا للسامع في الاعتناء بخبره، وحَثًّا له على الاستماع له، وأنه
عِلْمٌ مُحَقَّقٌ، والله تعالى أعلم.
(بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِسِتَّ عَشْرَةَ بَدَنَةً) اختَلَفت الروايات في مقدار البُدن التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي هذه الرواية أنها ست عشرة بدنة، وفي الرواية التالية:"بثمانَ عشرة بدنةً"، ويمكن الجمع بتعدد القصة، أو يصار إلى ترجيح الرواية المشتملة على الزيادة، إن كانت القصة واحدةً، قاله الشوكانيّ رحمه الله، وقال النوويّ رحمه الله: يجوز أنهما قضيتان، ويجوز أن تكون قضية واحدة، والمراد ثمان عشرة، وليس في قوله:"ست عشرة" نفي الزيادة؛ لأنه مفهوم عدد، ولا عمل عليه، والله أعلم. انتهى.
وأسند الواقديّ في أول غزوة الحديبية القصة بطولها، وفيها أنه صلى الله عليه وسلم استَعْمَل على هديه ناجية بن جندب الأسلميّ، وأمره أن يتقدمه بها، وقال: كان سبعين بدنة، قال القاري رحمه الله: نَقْلُ الواقديّ مخالف لرواية مسلم، اللهم إلا أن يقال: العدد المذكور في رواية مسلم مختصّ بخدمة ناجية له، والباقي لغيره من رفقائه، كما يدل عليه قوله: وأمّره فيها.
(مَعَ رَجُلٍ) قيل: هو ناجية الْخُزاعيّ، وقيل: أبو قبيصة ذؤيب، كما سيأتي في الرواية الثالثة، وهذا فيه نظر؛ لأن حديث أبي قبيصة يرويه ابن عبّاس عنه، وهذا الحديث من مسند ابن عبّاس نفسه، فتأمّل (وَأمّرَهُ فِيهَا) بتشديد الميم: أي جعله أميرًا (فيها) أي لينحرها بمكة (قَالَ) الراوي، وهو ابن عبّاس رضي الله عنهما (فَمَضَى) أي ذهب الرجل منطلقًا إلى مكة (ثُمَّ رَجَعَ) ليستفسر النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما يصنعه إن حدث في البدن شيء (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ أَصْنَعُ بِمَا أُبْدِع عَلَىَّ) -بضم الهمزة، وإسكان الباء، وكسر الدال، مبنيًّا للمفعول: أي بما حُبِس عليّ من الْكَلال (مِنْهَا؟) أي من تلك البُدن، يقال: أبدعَتِ الراحلةُ: إذا كَلّت، وأَعْيت، حتى وَقَفت من الإعياء، وأُبْدِع بالرجل على بناء المجهول: إذا انقَطَعت راحلته به لكلال، ولم يقل هنا: أُبْدِع بي؛ لأنه لم يكن هو راكبًا؛ لأنها كانت بدنة يسوقها، بل قال:"أُبْدِع عليّ"؛ لتضمين معنى الحبس، كما ذكرنا
(1)
. (قَالَ:
(1)
"المرعاة" 9/ 217.
"انْحَرْهَا) أي البُدن التي أُبدعت، وفي حديث ذؤيب أبي قبيصة رضي الله عنه الآتي: "إن عَطِب منها شيء، فخَشِيتَ عليه موتًا، فانحرها" (ثُمَّ اصْبُغْ) -بضم الموحدة، ويجوز فتحها، وكسرها، فهو من باب نفع، ونصر، وضرب (نَعْلَيْهَا) وفي حديث ذؤيب رضي الله عنه: "ثم اغمس نعلها" بالإفراد، ولا تَخالف بين الروايتين؛ لأن المفرد المضاف يعمّ، فيكون بمعنى المثنّى: أي النعل التي قلّدتها في عنقها (فِي دَمِهَا) أي دم البُدن التي نحرتها (ثُمَّ اجْعَلْهُ) ذكّر الضمير، وأفرده بتأويل المذكور، أي اجعل المذكور من النعلين المصبوغين (عَلَى صَفْحَتِهَا) -بفتح الصاد المهملة، وسكون الفاء، هو: الجانب من كلّ شيء، وجمعها صفحات، مثلُ سَجْدة وسجدات، ومثله الصفح بلا هاء، والمعنى: اجعل النعلين على جانب سنام البُدن، وإنما يفعل ذلك؛ ليُعْلَم أنه هديٌ عَطِبَ، فينبغي أن يأكله من يجوز له أكله، وحُكِي عن مالك أنه قال: أمره بذلك؛ ليُعْلَم أنه هدي فلا يستباح إلا على الوجه الذي ينبغي، وفي حديث ذُؤيب: "ثم اضرب به صفحتها". (وَلَا تَأكُلْ مِنْهَا أَنْتَ) للتأكيد (وَلَا أَحَدٌ) أي ولا يأكل أحد (مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِكَ") - بضم الراء، وفتحها، وكسرها، وسكون الفاء، قال المجدّ رحمه الله: الرّفقة مثلثة، وكثُمَامة: جماعة تُرافقهم، جمعه ككتاب، وأصحاب، وصُرَد. انتهى
(1)
.
وقال الشوكانيّ: الرفقة -بضم الراء وكسرها- لغتان مشهورتان، أي رفقاؤك، فـ "أهلِ" زائد، وقال البوصيري: بضم الراء وكسرها وسكون الفاء: جماعة ترافقهم في سفرك، والأهل مقحم.
وقال الطيبيّ رحمه الله: لا يأكل الرفقاء سواء كانوا فقراء، أو أغنياء، وإنما مُنِعوا ذلك قطعًا لأطماعهم؛ لئلا ينحرها أحد، ويتعلل بالعطب. انتهى.
وقال النوويّ رحمه الله: وفي المراد بالرفقة وجهان لأصحابنا: أحدهما: أنهم الذين يخالطون المُهْدِي في الأكل وغيره، دون باقي القافلة.
والثاني: وهو الأصح الذي يقتضيه ظاهر نصّ الشافعيّ، وكلام جمهور
(1)
"القاموس المحيط" 3/ 236.
أصحابنا أن المراد بالرفقة جميع القافلة؛ لأن السبب الذي مُنعت به الرفقة هو خوف تعطيبهم إياه، وهذا موجود في جميع القافلة.
[فإن قيل]: إذا لم تُجَوِّزوا لأهل القافلة أكله، وقلتم بتركه في البرية، كان طعمة للسباع، وهذا إضاعة مال.
[قلنا]: ليس فيه إضاعة مال، بل العادة الغالبة أن سكان البوادي وغيرهم، يتتبعون منازل الحجيج لالتقاط ساقطة، ونحو ذلك، وقد تأتي قافلة في أثر قافلة، والله أعلم. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [64/ 3217 و 3218](1325)، و (أبو داود) في "المناسك"(1763)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 454)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 307)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 217 و 244 و 279)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(3035)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 401)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(12/ 203)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 242) و"المعرفة"(4/ 265)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب بعث الهدايا إلى مكة، وإن لم يذهب بنفسه.
2 -
(ومنها): بيان جواز توكيل من يقوم ببُدنه.
3 -
(ومنها): بيان أن من بُعِث معه هدي إلى الحرم، فعَطِب في الطريق قبل بلوغ محله، أنه ينحره، ثم يصبغ نعليه في دمه، ويضرب بالنعل المصبوغ بالدم صفحة سنامها؛ ليَعْلَم مَن مَرّ بها أنها هدي، فينتفع بها.
4 -
(ومنها): بيان عدم جواز أكلها لأحد من أهل رفقته، قال
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 77، 78.
النوويّ رحمه الله: إذا عَطِب الهديُ وجب ذبحه، وتخليته للمساكين، ويحرم الأكل منها عليه، وعلى رفقته الذين معه في الركب، سواء كان الرفيق مخالطًا له، أو في جملة الناس من غير مخالطة، والسبب في نهيهم قطع الذريعة؛ لئلا يَتَوَصَّل بعض الناس إلى نحره، أو تعييبه قبل أوانه. انتهى
(1)
.
5 -
(ومنها): بيان جواز أكله لسائر الناس إذا كانوا بصفة الاستحقاق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ثم خلّ بينها وبين الناس، فليأكلوا"، رواه مالك في "الموطّإ"، والدارميّ، وابن حبّان في "صحيحه"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في الأكل من الهدي إذا عَطِبَ، فنَحَره:
قال النوويّ رحمه الله: اختَلَف العلماء في الأكل من الهدي إذا عطب، فنحره، فقال الشافعيّ: إن كان هدي تطوع، كان له أن يفعل فيه ما شاء، من بيع، وذبح، وأكل، وإطعام، وغير ذلك، وله ترْكه، ولا شيء عليه في كل ذلك؛ لأنه مُلْكه، وإن كان هديًا منذورًا لزمه ذبحه، فإن ترَكه حتى هلك لزمه ضمانه، كما لو فَرَّط في حفظ الوديعة حتى تلفت، فإذا ذبحه، غمس نعله التي قلّده إياها في دمه، وضرب بها صفحة سنامه، وترَكه موضعه؛ ليَعْلَم مَن مَرَّ به أنه هديٌ، فيأكله، ولا يجوز للمهدي، ولا لسائق هذا الهدي وقائده الأكل منه، ولا يجوز للأغنياء الأكل منه مطلقًا؛ لأن الهدي مُسْتَحَقٌّ للمساكين، فلا يجوز لغيرهم، ويجوز للفقراء من غير أهل هذه الرفقة، ولا يجوز لفقراء الرفقة. انتهى
(2)
.
وقال الشيخ الشنقيطيّ رحمه الله: إن ما عطب بالطريق من الهدي إن كان متعلقًا بذمته سليمًا، فالظاهر أن له الأكل منه، والتصرف فيه؛ لأنه يلزمه بدله سليمًا، وقيل: يلزم الذي عطب والسليم معًا لفقراء الحرم، وأن ما تعلق الوجوب فيه بعين الهدي، كالنذر المعيّن للمساكين، ليس له تصرف فيه، ولا الأكل منه إذا عطب، ولا بعد نحره إن بلغ محله على الأظهر.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 77.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 77.
قال: (واعلم): أن مالكًا وأصحابه يقولون: إن كل هدي جاز الأكل منه للمهدي له أن يطعم منه من شاء من الأغنياء والفقراء، وكل هدي لا يجوز له الأكل منه فلا يجوز إطعامه إلا للفقراء الذين لا تلزمه نفقتهم، وكُره عندهم إطعام الذميين منه.
وأما هدي التطوع، فالظاهر أنه إن عطب في الطريق أُلقيت قلائده في دمه، وخُلِّي بينه وبين الناس، وإن كان له سائق مُرْسَل معه لم يأكل منه هو ولا أحد من رفقته، وليس لصاحبه الأكل منه عند مالك وأصحابه، وهو ظاهر مذهب أحمد، وليس عليه بدله؛ لأنه لم يتعلق بذمته، وأما مذهب الشافعيّ، وأصحابه، فهو أن هدي التطوع باق على ملك صاحبه، فله ذبحه، وأكله، وبيعه، وسائر التصرفات فيه، ولو قلده؛ لأنه لم يوجد منه إلا نية ذبحه، والنية لا تزيل ملكه عنه حتى يذبحه بمحله، فلو عَطِب في الطريق فلمهديه أن يفعل به ما يشاء، من بيع، وأكل، وإطعام؛ لأنه لم يزل في ملكه، ولا شيء عليه في شيء من ذلك.
وأما مذهب أبي حنيفة في هدي التطوع، إذا عطب في الطريق قبل بلوغ محله، فهو أنه لا يجوز لمهديه الأكل منه، ولا لغني من الأغنياء، وإنما يأكله الفقراء.
قال: ووجه قول من قال: إن هدي التطوع إذا عطب في الطريق لا يجوز لمهديه أن يأكل منه، هو أن الإذن له في الأكل جاء النصّ به بعد بلوغه محله، أما قبل بلوغه محله فلم يأت الإذن بأكله، ووجه خصوص الفقراء به؛ لأنه حينئذ يصير صدقة لأن كونه صدقة خير من أن يُترك للسباع تأكله، هكذا قالوا، والعلم عند الله تعالى. انتهى
(1)
.
وأما حكم الهدي الواجب إذا عطب قبل محله فقال الخرقيّ رحمه الله: من ساق هديًا واجبًا فعطب دون محله صنع به ما شاء، وعليه مكانه، قال ابن قدامة رحمه الله: الواجب من الهدي قسمان:
أحدهما: ما وجب بالنذر في ذمته، والثاني ما وجب بغيره، كدم التمتع
(1)
"أضواء البيان" 5/ 180، 181.
والقران والدماء الواجبة بترك واجب أو فعل محظور، وجميع ذلك ضربان: أحدهما: أن يسوقه ينوي به الواجب الذي عليه من غير أن يعيّنه بالقول، فهذا لا يزول ملكه عنه إلا بذبحه، ودفْعه إلى أهله، وله التصرف فيه بما شاء من بيع وهبة وأكل وغير ذلك، وإن عطب تلف من ماله، وإن تعيّب لم يجزئه ذبحه، وعليه الهدي الذي كان واجبًا.
الضرب الثاني: أن يعيّن الواجب عليه بالقول فيقول: هذا الواجب علي، فإنه يتعين الوجوب فيه من غير أن تبرأ الذمة منه، فإن عَطِبَ أو سُرِقَ، أو ضل، أو نحو ذلك لم يُجْزِه، وعاد الوجوب إلى ذمته، وهذا كله لا نعلم فيه مخالفًا.
وروي عن أحمد أنه يذبح المعيب، وما في ذمته جميعًا، ولا يرجع المعيّن إلى ملكه. انتهى.
وقال الشنقيطيّ رحمه الله: الهدي إما واجب، وإما تطوع، والواجب إما بالنذر، أو بغيره، والواجب بالنذر إما معيّن، أو غير معيّن، فالظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه: أن الهدي الواجب بغير النذر، كهدي التمتع والقران والدماء الواجبة بترك واجب، أو فعل محظور، والواجب بالنذر في ذمته، كأن يقول: لله عليّ نذر أن أهدي هديًا؛ أن لجميع ذلك حالين:
(الأولى): أن يكون ساق ما ذُكِر من الهدي ينوي به الهدي الواجب عليه، من غير أن يعيّنه بالقول، كأن يقول: هذا الهدي سقته أريد به أداء الهدي الواجب علي.
(والحالة الثانية): هي أن بسوقه ينوي الهدي المذكور مع تعيينه بالقول، فإن نواه ولم يعيّنه بالقول فالظاهر أنه لا يزال في ضمانه، ولا يزول ملكه عنه إلا بذبحه، ودفْعه إلى مستحقيه، ولذا إن عطب في الطريق فله التصرف فيه بما شاء من أكل وبيع؛ لأنه لم يزل في ملكه، وهو مطالب بأداء الهدي الواجب عليه بشيء آخر غير الذي عُطب، لأنه عُطب في ضمانه، فهو بمنزلة من عليه دَين فحمله إلى مستحقه يقصد دفعه إليه، فتلف قبل أن يوصله إليه، فعليه قضاء الدَّين بغير التالف لأنه تلف في ذمته، وإن تعيّب الهدي المذكور قبل بلوغه محله، فعليه بدله سليمًا، ويفعل بالذي تعيّب ما شاء؛ لأنه لم يزل في ملكه
وضمانه، والذي يظهر: أن له التصرف فيه، ولو لم يعطب ولم يتعيب؛ لأن مجرد نية إهدائه عن الهدي الواجب لا ينقل ملكه عنه، والهدي المذكور لازم له في ذمته حتى يوصله إلى مستحقه، والظاهر أن له نماؤه. وأما الحالة الثانية وهي ما إذا نواه وعيّنه بالقول كأن يقول: هذا هو الهدي الواجب علي. والظاهر أن الإشعار والتقليد كذلك، فالظاهر أنه يتعين الوجوب فيه من غير أن تبرأ الذمة فليس له التصرف فيه ما دام سليمًا، وإن عطب أو سُرق أو ضلّ أو نحو ذلك لم يُجزه، وعاد الوجوب إلى ذمته فيجب عليه هدي آخر، لأن الذمة لا تبرأ بمجرد التعيين بالنية والقول أو التقليد والإشعار، والظاهر أنه إن عطب فعل به ما شاء، لأن الهدي لازم في ذمته وهذا الذي عطب صار كأنه شيء من ماله لا حق فيه لفقراء الحرم؛ لأن حقهم باق في الذمة فله بيعه وأكله وكل ما شاء، وعلى هذا جمهور أهل العلم، وعن مالك: يأكل ويُطعم من شاء من الأغنياء والفقراء، ولا يبيع منه شيئًا، وإن بلغ الهدي محله فذبحه، وسُرِق فلا شيء عليه عند أحمد، قال في "المغني": وبهذا قال الثوريّ، وابن القاسم صاحب مالك، وأصحاب الرأي، وقال الشافعي: عليه الإعادة؛ لأنه لم يوصل الحق إلى مستحقه، فأشبه ما لو لم يذبحه، ولنا: أنه أدى الواجب عليه فبرئ منه كما لو فرّقه، ودليل أنه أدى الواجب: أنه لم يبق إلا التفرقة وليست واجبة، بدليل أنه لو خَلَّى بينه وبين الفقراء أجزأه، ولذلك لما نحر النبيّ صلى الله عليه وسلم البدنات قال: من شاء اقتطع. انتهى.
قال الشنقيطيّ رحمه الله: وأظهر القولين عندي أنه لا تبرأ ذمته بذبحه حتى يوصله إلى المستحقين؛ لأن المستحقين إن لم ينتفعوا به، لا فرق عندهم بين ذبحه وبين بقائه حيًّا، ولأن الله تعالى يقول:{وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28]، ويقول:{وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36]، والآيتان تدلان على لزوم التفرقة، والتخلية بينه وبين الفقراء، يقتسمونه تفرقة ضمنية؛ لأن الإذن لهم في ذلك وهو متيسر لهم كإعطائهم إياه بالفعل، والعلم عند الله تعالى. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما ذهب إليه الأولون من عدم وجوب الإعادة عليه هو الأرجح؛ لأن معنى الإطعام المذكور في الآيتين قد بيّنه صلى الله عليه وسلم-
حيث قال بعد أن نحر خمس بدنات، أو ستًّا:"من شاء اقتطع"
(1)
، وهو حديث صحيح، فبيّن أن المطلوب هو النحر، ثم التخلية بينه وبين مستحقيه، لا تفريقه بينهم، فتأمل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم فيما إذا ضل الهدي المعيّن، فذبح غيره، ثم وجد الضالّ.
قال العلّامة ابن قدامة رحمه الله: وإن ضلّ المعيّن، فذبح غيره، ثم وجده، أو عين غير الضالّ بدلًا عما في الذمة، ثم وجد الضالّ ذبحهما معًا، رُوي ذلك عن عمر، وابنه، وابن عباس رضي الله عنهم، وفعلته عائشة رضي الله عنها، وبه قال مالك، والشافعيّ، وإسحاق، ويتخرج على قولنا فيما إذا تعيب الهدي فأبدله، فإن له أن يصنع به ما شاء أن يرجع إلى ملك أحدهما، لأنه قد ذبح ما في الذمة، فلم يلزمه شيء آخر، كما لو عطب المعيّن، وهذا قول أصحاب الرأي.
ووجه الأول ما رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها أهدت هديين، فأضلتهما فبعث إليها ابن الزبير هديين، فنحرتهما، ثم عاد الضالان فنحرتهما، وقالت: هذه سنة الهدي، رواه الدارقطنيّ، وهذا منصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنه تعلق حق الله بهما بإيجابهما أو ذبح أحدهما، وإيجاب الآخر. انتهى كلام ابن قدامة رحمه الله
(2)
.
قال الشنقيطي بعد ذكره ما تقدّم: وليس في المسألة شيء مرفوع، والأحوط ذبح الجميع كما ذكرنا أنه الأظهر والعلم عند الله تعالى، ثم قال: إن الهدي إن كان معيّنًا بالنذر من الأصل بأن قال: نذرت إهداء هذا الهدي بعينه أو معيّنًا تطوعًا، إذا رآه صاحبه في حالة يغلب على الظن أنه سيموت فإنه تلزمه ذكاته، وإن فرّط فيها حتى مات كان عليه ضمانه، لأنه كالوديعة عنده، أما لو مات بغير تفريطه أو ضل أو سُرق فليس عليه بدل عنه؛ لأنه لم يتعلق الحق بذمته بل بعين الهدي، والأظهر عندي إن لزمه بدله بتفريطه أنه يشتري هديًا مثله وينحره بالحرم بدلًا عن الذي فرّط فيه، وإن قيل بأنه يلزمه التصدق بقيمته على
(1)
رواه أبو داود، وغيره، وصححه ابن خزيمة.
(2)
"المغني" 3/ 285.
مساكين الحرم فله وجه من النظر، والله أعلم، ولا نص في ذلك. انتهى كلام الشيخ الشنقيطيّ رحمه الله، وهو بحثٌ جيّد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم فيما يجوز الأكل منه من الهدايا إذا بلغت محلها، وما لا يجوز:
(اعلم): أنهم اختلفوا في ذلك، فذهب مالك، وأصحابه إلى جواز الأكل من جميع الهدي واجبه وتطوعه إذا بلغ محله إلا ثلاثة أشياء: جزاء الصيد، وفدية الأذى، والنذر الذي هو للمساكين.
وذهب أحمد في المشهور عنه إلى أنه لا يؤكل من الهدايا إلا دم التمتع والقران والتطوع، وبه قالت الحنفية.
قال في "الفتح" -عند شرح ما رواه البخاريّ عن ابن عمر معلقًا: أنه قال: لا يؤكل من جزاء الصيد، والنذر، ويؤكل من سوى ذلك-: وهذا القول إحدى الروايتين عن أحمد، وهو قول مالك، وزاد: إلا فدية الأذى، والرواية الأخرى عن أحمد: لا يؤكل إلا من هدي التطوع، والتمتع، والقران، وهو قول الحنفية؛ بناءً على أصلهم أن دم التمتع والقران دم نسك، لا دم جبران. انتهى.
وقال ابن قدامة رحمه الله: المذهب أنه يأكل من هدي التمتع، والقران، دون ما سواهما، نصّ عليه أحمد، قال: وهذا قول أصحاب الرأي، وعن أحمد أنه لا يأكل من المنذور، وجزاء الصيد، ويأكل مما سواهما، وهو قول ابن عمر، وعطاء، والحسن، وإسحاق؛ لأن جزاء الصيد بدل، والنذر جعله لله تعالى، بخلاف غيرهما.
وقال ابن أبي موسى: لا يأكل أيضًا من الكفارة، ويأكل مما سوى هذه الثلاثة، ونحوه مذهب مالك؛ لأن ما سوى ذلك لم يسمّه للمساكين، ولا مدخل للإطعام فيه، فأشبه التطوع.
وقال الشافعيّ: لا يأكل من واجب؛ لأنه هدي وجب بالإحرام، فلم يجز الأكل منه، كدم الكفارة.
قال ابن قُدامة: ولنا أن أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم تمتعن معه في حجة الوداع،
وأدخلت عائشة الحج على العمرة، فصارت قارنة، ثم ذبح عنهن النبيّ صلى الله عليه وسلم البقرة، فأكلن من لحومها، قال أحمد: قد أكل من البقرة أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها خاصة.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، فساق الهدي من ذي الحليفة. متفق عليه.
وقد ثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر من كل بدنة ببضعة، فجُعِلت في قِدْر، فأكل هو وعليّ من لحمها، وشربا من مرقها. رواه مسلم.
ولأنهما دماء نسك فأشبها التطوع، ولا يؤكل من غيرهما؛ لأنه يجب بفعل محظور، فأشبه جزاء الصيد، فأما هدي التطوع، وهو ما أوجبه بالتعيين ابتداء من غير أن يكون عن واجب في ذمته، وما نحره تطوعًا من غير أن يوجبه، فيستحب أن يأكل منه؛ لقول الله تعالى:{فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 28]، وأقل أحوال الأمر الاستحباب، ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أكل من بُدنه، وقال جابر رضي الله عنه: كنا لا نأكل من بُدننا فوق ثلاث، فرخص لنا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"كلوا، وتزوّدوا"، فأكلنا وتزوّدنا، رواه البخاريّ، وإن لم يأكل فلا بأس، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما نحر البدنات الخمس قال:"من شاء اقتطع"، ولم يأكل منهن شيئًا. انتهى.
قال الشيخ الشنقيطيّ رحمه الله -بعد ذكر مذاهب الأئمة-: الذي يرجحه الدليل في هذه المسألة هو جواز الأكل من هدي التطوع، وهدي التمتع، والقران دون غير ذلك، والأكل من هدي التمتع لا خلاف فيه بين العلماء بعد بلوغه محله، وإنما خلافهم في استحباب الأكل منه، أو وجوبه، ومعلوم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة في حجة الوداع أنه أهدى مائة من الإبل، ومعلوم أن ما زاد على الواحدة منها تطوُّع، وقد أكل منها، وشرب من مرقها جميعًا.
وأما الدليل على الأكل من هدي التمتع والقران، فهو ما ثبت في "الصحيحين" أن أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم ذبح عنهن النبيّ صلى الله عليه وسلم بقرة، ودُخِل عليهن بلحمه، وهن متمتعات، وعائشة منهن قارنة، وقد أكلن جميعًا مما ذُبح عنهنّ في تمتعهن، وقرانهن بأمره صلى الله عليه وسلم، وهو نص صحيح صريح في جواز الأكل من هدي التمتع والقران.
أما غير ما ذكرنا من الدماء فلم يقم دليل يجب الرجوع إليه على الأكل منه، ولا يتحقق دخوله في عموم قوله تعالى:{فَكُلُوا مِنْهَا} ؛ لأنه لترك واجب، أو فعل محظور، فهو بالكفارات أشبه، وعدم الأكل منه أظهر وأحوط، والعلم عند الله تعالى. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره الشيخ الشنقيطيّ رحمه الله تحقيق نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3218]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ مُوسَى بْنِ سَلَمَةَ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بِثَمَانَ عَشْرَةَ بَدَنَةً مَعَ رَجُلٍ، ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ عَبْدِ الْوَارِثِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَوَّلَ الْحَدِيثِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَلىُّ بْنُ حُجْرٍ) تقدّم قبل باب.
2 -
(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) تقدّم أيضًا قبل باب.
والباقون ذُكروا في الباب، وفيما قبله.
وقوله: (بِثَمَانَ عَشْرَةَ بَدَنَةً) تقدّم الجمع بينه وبين الرواية السابقة بلفظ: "بستّ عشرة بدنة" بحمله على قضيّتين، أو بأن مفهوم العدد لا يُعتبر، والأول أظهر، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية إسماعيل ابن عُليّة، عن أبي التّيّاح هذه ساقها ابن الجارود رحمه الله في "المنتقى" 1/ 113 فقال:
(425)
- حدّثنا الحسن بن محمد الزعفرانيّ، قال: ثنا إسماعيل ابن عُليّة، عن أبي التّيّاح، عن موسى بن سلمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم
(1)
"أضواء البيان" 5/ 197، 198.
بعث بثمان عشرة بدنة مع رجل، فأمره فيها بأمره، فانطلق، ثم رجع إليه، فقال: أرأيت إن أُزحف عليّ منها شيء؟ قال: "انحرها، ثم اصبغ نعلها في دمها، ثم اجعلها على صفحتها، ولا تأكل منها أنت، ولا أحد من أهل رفقتها". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3219]
(1326) - (حَدَّثَنِي أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سِنَانِ بْنِ سَلَمَةَ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ ذُؤيبًا أَبَا قَبِيصَةَ حَدَّثَهُ: أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبْعَثُ مَعَهُ بِالْبُدْنِ، ثُمَّ يَقُولُ: "إِنْ عَطِبَ مِنْهَا شَىْءٌ، فَخَشِيتَ عَلَيْهِ مَوْتًا، فَانْحَرْهَا، ثُمَّ اغْمِس نَعْلَهَا فِي دَمِهَا، ثُمَّ اضْرِبْ بِهِ صَفْحَتَهَا، وَلَا تَطْعَمْهَا أنتَ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِكَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ) مالك بن عبد الواحد البصريّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م د) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.
2 -
(عَبْدُ الْأَعْلَى) بن عبد الأعلى الساميّ البصريّ، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.
3 -
(سَعِيدُ) بن أبي عروبة مِهْران اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقة حافظ، له تصانيف، لكنه كثير التدليس، واختلط [6](ت 6 أو 157)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.
4 -
(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدُوسيّ، أبو الخطاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [4](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
5 -
(سِنَانُ بْنُ سَلَمَةَ) بن المحبّق، أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو جبير، ويقال: أبو بشر الْهُذليّ البصريّ، ولد يوم حُنين، وله رؤية، ثقةٌ [2].
قال وكيع عن أبيه، عن سنان: وُلدتُّ يوم حرب، كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمّاني سنانًا.
رَوى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أبيه، وعمر بن الخطاب، وابن عباس.
وروى عنه قتادة، وقيل: لم يسمع منه، وحبيب بن عبد الله الأزدي، وسلمة بن جنادة الهذليّ، وغيرهم.
قال خليفة: ولاه زياد غزو الهند سنة خمسين، وله خبر عجيب في غزو الهند، قال إبراهيم بن الجنيد: قلت لابن معين: إن يحيى بن سعيد يزعم أن قتادة لم يسمع من سنان بن سلمة الهذليّ حديث ذؤيب الخزاعيّ في البُدن، فقال: ومن يشك في هذا، إن قتادة لم يسمع منه، ولم يلقه؟ قيل: مات في آخر أيام الحجاج.
وذكره ابن حبان في "الصحابة"، فقال: وُلد يوم حنين، وأحاديث قتادة عنه مدَلَّسة، مات في آخر ولاية الحجاج، وذكر عمرُ بن شبة أن مُعصبًا استخلفه على البصرة لما خرج لقتال عبد الملك بن مروان، وذلك سنة اثنتين وسبعين، وقال ابن أبي حاتم: روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وقال في "المراسيل": سئل أبو زرعة هل له صحبة؟ فقال: لا، ولكن وُلد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال العجليّ: هو تابعيّ ثقةٌ، وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل البصرة، وذكره في موضع آخر، فقال: كان معروفًا قليل الحديث.
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
6 -
(ذُؤيبٌ أَبُو قَبِيصَةَ) هو: ذُؤيب بن حَلْحَلة بن عمرو بن كُليب الْخُزاعيّ، والد قبيصة، رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في البُدن إن عَطِب منها شيء، وعنه ابن عباس رضي الله عنهما، قال ابن الْبَرْقيّ: جاء عنه حديث واحد، وقال المفضل الغلابيّ، عن ابن معين: أُتِي النبيّ صلى الله عليه وسلم بقبيصة بن ذُؤيب ليدعو له بعد وفاة أبيه، وهذا يدلّ أن ذؤيبًا مات في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد قال ابن عبد البرّ: ذؤيب بن حلحلة، ويقال: ابن حَبِيب بن حلحلة، كان صاحب بُدن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وشَهِد الفتح، وكان يسكن قُدَيدًا، وعاش إلى زمن معاوية رضي الله عنه، قال: وأما أبو حاتم، ففرّق بين ذؤيب بن حلحلة، وبين ذويب بن حبيب، والصواب أنهما واحد، وكذا قال ابن سعد، وأبو القاسم البغويّ، وأنه بقي إلى زمن معاولة رضي الله عنه.
أخرج له المصنّف، وأبو داود في "التفرد"، وابن ماجه، وله عندهم هذا الحديث فقط.
و"ابن عبّاس" رضي الله عنه ذُكر قبله.
وقوله: ("إِنْ عَطِبَ مِنْهَا شَيْءٌ) يقال: عَطِبَ الشيءُ، من باب تَعِبَ: هلك، والمراد هنا قرب هلاكه، بدليل قوله:"فخشيت".
وقوله: (وَلَا تَطْعَمْهَا) من باب تَعِب، وتمام شرح الحديث يُعلم مما مضى.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ذؤيب بن حلحلة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: هذا الحديث مما انتقده الحفّاظ على مسلم رحمه الله، فقد انتقده الحافظ أبو عمّار الشهيد (ت 317 هـ) رحمه الله، فقال: ووجدت فيه -أي في "صحيح مسلم"- حديثَ سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سنان بن سلمة، عن ابن عباس أن ذؤيبًا الْخُزاعي حدّث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: كان يبعث معه بالبُدن
…
الحديث، ورواه معمر بن راشد، عن قتادة نحوه، ورواه همام، عن قتادة، عن سنان، ولم يذكر ابن عباس، وأرسله، وهذا حديث لم يسمعه قتادة من سنان بن سلمة، وسمعه من سنان أبو التيّاح الضبعيّ. حدّثنا محمد بن جعفر، حدّثنا أبو بكر -وهو ابن أبي الأسود- قال: قال يحيى القطّان: لم يسمع قتادة من سنان بن سلمة حديث الْبُدْن، وسمعت عبد الله بن موسى بن أبي عثمان البغداديّ يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: لم يسمع قتادة من سنان بن سلمة حديث الْبُدْن، إنما هو مرسل، قال أبو الفضل: قلت: وقد سمع قتادة من أخيه موسى بن سلمة، وسنان وموسى أخوان. انتهى كلام الحافظ الشهيد رحمه الله
(1)
.
وانتقده أيضًا الحافظ رشيد الدين العطّار (584 - 662 هـ) رحمه الله، فقال في
(1)
تقدّم ذكره في "مقدّمة شرح المقدّمة" جـ 1 ص 148، وإنما أَعَدْتُه لطول العهد به.
"غرر الفوائد": أخرج مسلم رحمه الله في "كتاب الحج" حديث سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سنان بن سلمة، عن ابن عباس، أن ذؤيبا أبا قبيصة حدثه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان يبعث معه بالبُدن
…
" الحديث.
قال الرشيد: وهذا الإسناد غير متصل عند جماعة من أهل النقل، فإن قتادة لم يسمع هذا الحديث من سنان بن سلمة، قاله الإمامان: يحيى بن سعيد القطان، ويحيى بن معين، وناهيك بهما جلالةً، ومعرفة بهذا الشأن، وذكر الحافظ أبو الفضل المقدسيّ أيضًا، أن هذا الحديث معلول من ثلاثة أوجه، عمدتها ما قاله يحيى القطان وابن معين.
قال الرشيد: ومما يؤيد ذلك أن سنان بن سلمة هذا هو سنان بن سلمة بن المحبِّق معدود في الصحابة رضي الله عنهم، وله أيضًا رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نصّ الإمام أبو حاتم الرازي على أن قتادة لم يَلْقَ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنس بن مالك، وعبد الله بن سَرْجِسَ، وذكر البخاريّ في "تاريخه" أنه سمع أنسًا، وأبا الطفيل، ولم يذكر له من الصحابة غيرهما.
والعذر لمسلم رحمه الله أنه إنما أخرج هذا الحديث بهذا الإسناد، في الشواهد؛ ليبيّن -والله أعلم- أنه قد رُوي من غير وجه، عن ابن عباس، وإلا فقد أخرجه قبل ذلك من حديث أبي التياح، عن موسى بن سلمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما متصلًا، فثبت اتصاله في الكتاب. انتهى كلام رشيد الدين العطّار رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد أجاد الحافظ رشيد الدين العطّار رحمه الله فيما أجاب به عن المصنّف رحمه الله، وخلاصته أن الانتقاد مدعوم بأن المصنّف إنما أورده في المتابعة، لا في الأصول؛ ليُبيّن أن الحديث مروي بُطرُق، والمتابعات يُغتفر فيها ما لا يُغتفر في الأصول، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [64/ 3219](1326)، و (ابن ماجه) في
(1)
تقدّم نقل كلام الرشيد رحمه الله هذا في "مقدّمة شرح المقدّمة" جـ 1 ص 120 - 121، وإنما أعدته؛ لما ذكرته.
"المناسك"(3105)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 400)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 225)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2578)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 401)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(4/ 229 - 230)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 284)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(65) - (بَابُ وُجُوبِ طَوَافِ الْوَدَاعِ، وَسُقُوطِهِ عَن الْحَائِضِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3220]
(1327) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثنَا سُفْيَانُ، عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ، عَنْ طَاوُسٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَنْصَرِفُونَ فِي كُلِّ وَجْهٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ"، قَالَ زُهَيْرٌ: يَنْصَرِفُونَ كُلَّ وَجْهٍ، وَلَمْ يَقُلْ: في).
رجال هذا الإسناد: ستة:
وستأتي تراجمهم في شرح الحديث التالي، وزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ رضي الله عنه تقدّم أيضًا قبل بابين.
وقوله: (يَنْصَرِفُونَ فِي كُلِّ وَجْهٍ) أي في كل طريق بعد انقضاء أيام منى، منهم من يطوف ومنهم من لم يطف، وقال القاري: أي بعد حجهم في كل طريق طائفًا وغير طائف.
وقوله: (لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ) أي النفر الأول، وهو الذي يكون في اليوم الثاني من التشريق لمن تعجل، أو النفر الثاني، وهو في اليوم الثالث لمن تأخر، أو لا يخرجن أحدٌ من مكة، والمراد به الآفاقيّ.
وقوله: (قَالَ زُهَيْرٌ) أي ابن حرب شيخه الثاني (يَنْصَرِفُونَ كُلَّ وَجْهٍ، وَلَمْ يَقُلْ: فِي) يعني أن زهير بن حرب قال في روايته: "ينصرفون كلّ وجه" بنصب "كلَّ" على الظرفيّة بدل قول سعيد: "في كلّ وجه" بـ "في" الجارّة، وهذا من ورع المصنّف واحتياطه، وتدقيق التمسّك بألفاظ الشيوخ؛ أداءً للأمانة العلميّة، ببيان
اختلافهم في الألفاظ، وإن لم يختلف المعنى، وتمام شرح الحديث، وبيان مسائله يأتي في الحديث التالي -إن شاء الله تعالى- وإنما أخّرته إليه؛ لأنه اللفظ المتّفق عليه، بخلاف هذا، فإنه من أفراد المصنّف رحمه الله.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3221]
(1328) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَاللَّفْظُ لِسَعِيدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَن ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أبِيهِ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ، إِلَّا أنَّهُ خُفِّفَ عَن الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم أيضًا قبل بابين.
3 -
(سُلَيْمَانُ الْأَحْوَلُ) هو: سليمان بن أبي مسلم المكىّ، خال ابن أبي نَجِيح، قيل: اسم أبيه عبد الله، ثقة [5](ع) تقدم في "الإيمان" 65/ 368.
4 -
(ابْنُ طَاوُسٍ) عبد الله، تقدّم قريبًا.
5 -
(طَاوُسُ) بن كيسان، تقدّم أيضًا قريبًا.
6 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، ذُكر في السند الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتفاقهما في كيفيّة التحمّل والأداء، وأما قوله:"واللفظ لسعيد"، فأراد به اختلافهما في لفظ المتن، فلفظ سعيد هو الذي مرّ في الحديث الماضي، وأما ما هنا فهو لفظ أبي بكر، شيخه الثاني.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمكيين، سوى أبي بكر، فكوفيّ، وطاوس وابنه، فيمانيّان.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عبّاس رضي الله عنهما حبر الأمة وبحرها، وأحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (قَالَ: أُمِرَ النَّاسُ) كذا هو في هذه الرواية بالبناء لما لم يُسَمَّ فاعله، والمراد به النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكذا قوله:"خُفِّف"، وقد رواه سفيان أيضًا عن سليمان الأحول، عن طاوس، في الرواية السابقة، فصرّح فيه بالرفع، حيث قال ابن عباس رضي الله عنهما:"كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينفرنّ أحدٌ حتى يكون آخر عهده بالبيت".
قال في "الفتح": وأخرجه مسلم هو، والذي قبله عن سعيد بن منصور، عن سفيان بالإسنادين فرّقهما، فكأن طاوسًا حدّث به على الوجهين، ولهذا وقع في رواية كلّ من الراويين عنه ما لم يقع في رواية الآخر. انتهى.
(أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالبَيْتِ) أي الطواف به، كما رواه أبو داود، وقوله:"بالبيت" خبر "كان"(إِلّا أنهُ خُفِّفَ) بصيغة المجهول، من التخفيف، أي طوافُ الوداع (عَن الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ) وفي معناها النفساء، وعلى هذا الاستثناء اتفاق جميع أهل العلم، واستدُلّ به على أن الطهارة شرط لصحة الطواف، وقد تقدم الكلام في ذلك، وصنيع البغويّ يدل على أن قوله:"إلا أنه خفف عن المرأة الحائض" تتمة قوله: "لا ينفرنّ أحدكم، إلخ"، وليس كذلك، فإنه قد انتهى إلى قوله:"بالبيت"، والاستثناء المذكور إنما هو تتمة قول ابن عباس رضي الله عنهما، وهو دليل على سقوط طواف الوداع عن المرأة الحائض، فلا يكون واجبًا عليها، ولا يلزمها دم بتركه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [65/ 3220 و 3221 و 3222](1327 و 1328)،
و (البخاريّ) في "الحيض"(329) و"الحجّ"(1755)، و (أبو داود) في "المناسك"(2002)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 466)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(3070)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 131)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 233)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 222)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2999 و 3000)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 402)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 161) و"الصغرى"(4/ 356) و"المعرفة"(4/ 146)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان وجوب طواف الوداع؛ للأمر المؤكّد به في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينفرنّ"، وللتعبير في حق الحائض بالتخفيف، والتخفيف لا يكون إلا من أمر مؤكَّد، قال النوويّ رحمه الله: في الحديث دلالة لمن قال بوجوب طواف الوداع، وأنه إذا تركه لزمه دم، وهو الصحيح في مذهبنا، وبه قال أكثر العلماء. انتهى.
2 -
(ومنها): بيان سقوطه عن الحائض، ومثلها النفساء، ولا يلزمهما بتركه دم، قال النوويّ رحمه الله: الحديث دليل لوجوب طواف الوداع على غير الحائض، وسقوطه عنها، ولا يلزمها دم بتركه، هذا مذهب الشافعيّ، ومالك، وأبي حنيفة، وأحمد، والعلماء كافةً، إلا ما حكاه ابن المنذر عن عمر، وابن عمر، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم أنهم أمروها بالْمُقام لطواف الوداع، دليل الجمهور هذا الحديث، وحديث صفية رضي الله عنها المذكور بعده. انتهى، وسيأتي تحقيق الخلاف في المسألة الخامسة -إن شاء الله تعالى-.
3 -
(ومنها): أنه استدلّ به من قال بوجوب الطهارة للطواف بالبيت، وهو استدلال واضح.
4 -
(ومنها): بيان أن وقت طواف الوداع هو آخر الأمر من شؤون الحجاج عند مفارقة البيت الحرام، قال ابن قُدامة رحمه الله: ووقته بعد فراغ المرء من جميع أموره؛ ليكون آخر عهده بالبيت، على ما جرت به العادة في توديع المسافر إخوانه وأهله، ولذلك قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"حتى يكون آخر عهده بالبيت". انتهى.
5 -
(ومنها): بيان أن قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينفرنّ إلخ" فيه دلالة على أن طواف الوداع لا يجب إلا على من أراد الخروج من مكة من أهل الآفاق، فلا يجب على أهل مكة؛ لأنهم لا ينفرون، قال ابن قُدامة رحمه الله: ومن كان منزله في الحرم، فهو كالمكيّ لا وداع عليه، ومن كان منزله خارج الحرم قريبًا منه فظاهر كلام الخرقيّ أنه لا يخرج حتى يودّع البيت، وهذا قول أبي ثور، وقال أصحاب الرأي في أهل المواقيت: إنهم بمنزلة أهل مكة في عدم وجوب طواف الوداع.
قال: ولنا عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينفرنّ أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت"، ولأنه خارج من مكة، فلزمه التوديع كالبعيد. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم طواف الوداع: قال النوويّ رحمه الله: في الحديث دلالة لمن قال بوجوب طواف الوداع، وأنه إذا تركه لزمه دم، وهو الصحيح في مذهبنا، وبه قال أكثر العلماء، منهم الحسن البصريّ، والحكم، وحمادٌ، والثوريّ، وأبو حنيفة، وأحمدُ، وإسحاق، وأبو ثور، وقال مالك، وداود، وابن المنذر: هو سنة لا شيء في تركه، وعن مجاهد روايتان كالمذهبين. انتهى.
قال في "الفتح": والذي رأيته في "الأوسط" لابن المنذر أنه واجب؛ للأمر به، إلا أنه لا يجب بتركه شيء. انتهى.
قال الشوكانيّ رحمه الله: قد اجتمع في طواف الوداع أمره صلى الله عليه وسلم به ونهيه عن تركه، وفعله الذي هو بيان للمجمل الواجب، ولا شك أن ذلك يفيد الوجوب.
وقال ابن قدامة رحمه الله: طواف الوداع واجب ينوب عنه الدم إذا تركه، وبهذا قال أبو حنيفة، وأصحابه، والثوريّ والشافعيّ، وقال أيضًا: من أتى مكة لا يخلو إما أن يريد الإقامة بها، أو الخروج منها، فإن أقام بها فلا وداع عليه؛ لأن الوداع من المفارق، لا من الملازم، سواء نوى الإقامة قبل النفر أو بعده، وبهذا قال الشافعيّ، وقال أبو حنيفة: إن نوى الإقامة بعد أن حَلّ له
(1)
"المغني" 3/ 237.
النفر لم يسقط عنه الطواف، وهذا فيه نظرٌ؛ لأنه غير مفارق، فلا يلزمه وداع، كمن نواها قبل حل النفر، وإنما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت"، وهذا ليس بنافر.
فأما الخارج من مكة فليس له أن يخرج حتى يُوَدِّع البيت بطواف، وهو واجب من تركه لزمه دم، وبذلك قال الحكم، وحمادٌ، والثوريّ، وإسحاق، وأبو ثور، وقال الشافعيّ في قول له: لا يجب بتركه شيء، وبه قال مالك، كما تقدم، لأنه يسقط عن الحائض، فلم يكن واجبًا.
قال: ولنا ما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلخ". ولمسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينفرنّ أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت"، وليس في سقوطه عن المعذور ما يجوز سقوطه لغيره، كالصلاة تسقط عن الحائض، وتجب على غيرها، بل تخصيص الحائض بإسقاطه عنها دليل على وجوبه على غيرها؛ إذ لو كان ساقطًا عن الكل لم يكن لتخصيصها بذلك معنى. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر من بيان أقوال أهل العلم في هذه المسألة، وأدلّتهم أن الأرجح قول الجمهور، وهو وجوب طواف الوداع على الآفاقيّ، إلا الحائض والنفساء؛ لوضوح أحاديث الباب في ذلك، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيهات]:
(الأول): قال ابن قُدامة رحمه الله: إن أخّر طواف الزيارة، فطافه عند الخروج، ففيه روايتان: إحداهما: يجزئه عن طواف الوداع؛ لأنه أُمر أن يكون آخر عهده بالبيت، وقد فعل، ولأن ما شُرع لتحية المسجد أجزأ عنه الواجب من جنسه، كتحية المسجد بركعتين، تجزئ عنهما المكتوبة، وعنه -أي عن الإمام أحمد- لا يجزئه عن طواف الوداع؛ لأنهما عبادتان واجبتان، فلم تجزئ إحداهما عن الأخرى، كالصلاتين الواجبتين. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن الرواية الأولى أرجح، لظهور
(1)
"المغني" لابن قُدامة رحمه الله 3/ 236، 237.
حجتها، فتأمله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(الثاني): إن طاف للوداع، ثم اشتغل بتجارة، أو إقامة فعليه إعادته، وبهذا قال عطاء، ومالك، والثوريّ، والشافعيّ، وأبو ثور.
وقال أصحاب الرأي: إذا طاف للوداع بعدما حلّ له النفر أجزأه، وإن أقام شهرًا، أو أكثر؛ لأنه طاف بعدما حل له النفر، فلم يلزمه إعادته، كما لو نفر عقيبه.
وحجة الأولين ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينفرنّ أحدٌ حتى يكون آخر عهده بالبيت"، ولأنه إذا أقام بعده خرج عن أن يكون وداعًا في العادة، فلم يجزئه، كما لو طافه قبل حل النفر، قاله ابن قُدامة رحمه الله.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن ما ذهب إليه الأولون أرجح؛ لظاهر الحديث، فتأمله، والله تعالى أعلم.
فأما إن قضى حاجةً في طريقه، أو اشترى زادًا، أو شيئًا لنفسه في طريقه لم يُعِده؛ لأن ذلك ليس بإقامة تُخرِج طوافه عن أن يكون آخر عهده بالبيت، وبهذا قال مالك، والشافعي، قال ابن قُدامة: ولا نعلم مخالفًا لهما، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(الثالث): إن خرج قبل طواف الوداع رجع فطاف، إن كان بالقرب، وإن بَعُدَ بعث بدم، هذا قول عطاء، والثوريّ، والشافعيّ، وإسحاق وأبي ثور.
قال ابن قُدامة رحمه الله: والقريب هو الذي بينه وبين مكة دون مسافة القصر، والبعيد من بلغ مسافة القصر، نَصّ عليه أحمد، وهو قول الشافعيّ، وقال الثوريّ: حدّ ذلك الحرم، فمن كان في الحرم فهو قريب، ومن خرج منه فهو بعيد، وإن لم يمكنه الرجوع لعذر، فهو كالبعيد، ولو لم يرجع القريب الذي يمكنه الرجوع لم يكن عليه أكثر من دم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في طواف الوداع للحائض: قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: قال عامة الفقهاء بالأمصار: ليس على الحائض التي قد أفاضت طواف وداع، وروينا عن عمر بن الخطاب، وابن عمر، وزيد بن ثابت، أنهم أمروها بالمقام إذا كانت حائضًا لطواف الوداع،
وكأنهم أوجبوه عليها، كما يجب عليها طواف الإفاضة؛ إذ لو حاضت قبله لم يسقط عنها، ثم أسند عن عمر بإسناد صحيح إلى نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: طافت امرأة بالبيت يوم النحر، ثم حاضت، فأمر عمر بحبسها بمكة بعد أن ينفر الناس حتى تطهر، وتطوف بالبيت، قال: وقد ثبت رجوع ابن عمر، وزيد بن ثابت عن ذلك، وبقي عمر، فخالفناه؛ لثبوت حديث عائشة.
وأشار برجوع ابن عمر إلى ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" بعد حديث ابن عبّاس هذا عن طاوس قال: وسمعت ابن عمر يقول: إنها لا تنفر، ثم سمعته يقول بعدُ: إن الله عز وجل رخّص لهنّ.
وأشار برجوع زيد بن ثابت إلى ما يأتي لمسلم في الحديث التالي.
وقد روى ابن أبي شيبة من طريق القاسم بن محمد: كان الصحابة يقولون: إذا أفاضت المرأة قبل أن تحيض، فقد فرغت، إلا عمر، فإنه كان يقول: يكون آخر عهدها بالبيت، وقد وافق عمر على رواية ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم غيره، فروى أحمد، وأبو داود، والنسائىّ، والطحاويّ، واللفظ لأبي داود، من طريق الوليد بن عبد الرحمن، عن الحارث بن عبد الله بن أوس الثقفيّ، قال: أتيت عمر، فسألته عن المرأة تطوف بالبيت يوم النحر، ثم تحيض، قال: ليكن آخر عهدها بالبيت، فقال الحارث: كذلك أفتاني، وفي رواية أبي داود: هكذا حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واستدل الطحاويّ بحديث عائشة رضي الله عنها على نسخ حديث الحارث في حق الحائض، وكذلك استدل على نسخه بحديث أم سليم رضي الله عنها عند أبي داود الطيالسيّ أنها قالت: حِضتُ بعدما طُفت بالبيت، فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنفر. انتهى
(1)
.
وقال ابن قدامة رحمه الله: المرأة إذا حاضت قبل أن تُوَدِّع خرجت، ولا وداع عليها، ولا فدية، وهذا قول عامة فقهاء الأمصار، وقد رُوي عن عمر، وابنه أنهما أمرا الحائض بالمقام لطواف الوداع، وكان زيد بن ثابت يقول به، ثم رجع عنه، كما روى مسلم، ورُوي عن ابن عمر أنه رجع إلى قول الجماعة
(1)
راجع: "الفتح" 4/ 718.
أيضًا
(1)
، وقد ثبت التخفيف عن الحائض بحديث صفية رضي الله عنها حين قالوا: يا رسول الله إنها حائض، فقال:"أحابستنا هي؟ " قالوا: يا رسول الله إنها قد أفاضت يوم النحر، قال:"فلتنفر إذًا"، ولا أمرها بفدية ولا غيرها، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما:"أُمِر الناسُ أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خُفّف عن المرأة الحائض"، والحكم في النفساء كالحكم في الحائض. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر من بيان أقوال أهل العلم في هذه المسألة أن الحقّ هو ما عليه الجمهور من أن الحائض ومثلها النفساء لا يجب عليها طواف الوداع، ويُعتذر عن عمر رضي الله عنه بأنه لم يبلغه حديث الرخصة، وإلا لكان أولى الناس عملًا به، ورجوعًا إليه، كما فعل ابنه عبد الله، وكما فعل زيد بن ثابت رضي الله عنهم، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3222]
(
…
) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَن ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِم، عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ، إِذْ قَالَ زيدُ بْنُ ثَابِتٍ: تُفْتِي أَنْ تَصْدُرَ الحَائِضُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهَا بِالْبَيْتِ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِمَّا لَا فَسَلْ
(2)
فُلَانَةَ الْأنصَارِيَّةَ، هَلْ أَمَرَهَا بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: فَرَجَعَ زيدُ بْنُ ثَابِتٍ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَضْحَكُ، وَهُوَ يَقُولُ: مَا أرَاكَ إِلَّا قَدْ صَدَقْتَ).
(1)
رجوع ابن عمر صحيح، فقد روى البخاريّ في "صحيحه" من طريق عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال:"رُخِّص للحائض أن تنفر إذا أفاضت"، قال: وسمعت ابن عمر يقول: إنها لا تنفر، ثم سمعته يقول بعدُ: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم رَخَّص لهنّ. قال الحافظ: قوله: "ثم سمعته يقول بعدُ" إن ذلك كان قبل موت ابن عمر بعام، كما وقع للطحاويّ من رواية عُقَيل، عن الزهري، عن طاوس. انتهى.
(2)
وفي نسخة: "فاسأل".
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ) بن يَنّاق، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله بباب.
شرح الحديث:
(عَنْ طَاوُسٍ) أنه (قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (إِذْ قَالَ زيدُ بْنُ ثَابِتٍ) رضي الله عنهما، و"إذ" ظرفيّة متعلّقة بـ "كنت"، أي وقت قوله (تُفْتِي أَنْ تَصْدُرَ الْحَائِضُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهَا بِالْبَيْتِ؟) هذا الكلام استفهام إنكاريّ بتقدير همزة الاستفهام، وفي رواية النسائيّ في "الكبرى": عن طاوس قال: "كنت عند ابن عباس، فقال له زيد بن ثابت: أأنت الذي تفتي المرأة الحائض أن تنفر قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت؟ فقال له ابن عباس: سل فلانة الأنصارية، هل أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنفر؟ فسألها، ثم رجع، وهو يضحك، فقال: الحديث كما حدثتني"
(1)
.
وللإسماعيلي بعد قوله: "أنت الذي إلخ": "قال: نعم، قال: فلا تفت بذلك، قال: فسل فلانة"، والباقي نحو سياق مسلم، وزاد في إسناده عن ابن جريج قال: وقال عكرمة بن خالد، عن زيد وابن عباس نحوه، وزاد فيه:"فقال ابن عباس: سل أم سليم، وصواحبها هل أمرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك؟ فسألهنّ، فقلن: قد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك".
قال الحافظ رحمه الله: وقد عُرِف برواية عكرمة الماضية، أن الأنصارية هي أم سليم، وأما صواحبها فلم أقف على تسميتهنّ. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: أخرج البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، من طريق أيوب، عن عكرمة، أن أهل المدينة سألوا ابن عباس رضي الله عنهما عن امرأة طافت، ثم حاضت، قال لهم: تنفر، قالوا: لا نأخذ بقولك، وندع قول زيد، قال: إذا قدمتم المدينة فسلوا، فقدِموا المدينة، فسألوا، فكان فيمن سألوا أم سليم، فذكرت حديث صفية. رواه خالد، وقتادة، عن عكرمة. انتهى.
(1)
"السنن الكبرى" 2/ 467.
(2)
"الفتح" 4/ 720، 721.
قوله: "فكان فيمن سألوا أم سليم"، قال في "الفتح": في رواية الثقفيّ: "فسألوا أم سليم وغيرها، فذكرت صفيةَ"، كذا ذكره مختصرًا وساقه الثقفيّ بتمامه، قال:"فأخبرتهم أن عائشة قالت لصفية: أفي الخيبة أنت، إنك لحابستنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ذاك؟ " قالت عائشة: صفية حاضت، قيل: إنها قد أفاضت، قال: "فلا إذًا"، فرجعوا إلى ابن عباس، فقالوا: وجدنا الحديث كما حدثتناه".
وقوله: "رواه خالد" يعني الحذاء، وقتادة عن عكرمة، أما رواية خالد فوصلها البيهقيّ من طريق معلى بن منصور، عن هشيم، عنه، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:"إذا طافت يوم النحر، ثم حاضت فلتنفر"، وقال زيد بن ثابت:"لا تنفر حتى تطهر، وتطوف بالبيت"، ثم أرسل زيد بعد ذلك إلى ابن عباس: إني وجدت الذي قلت كما قلت.
وأما رواية قتادة، فوصلها أبو داود الطيالسيّ في "مسنده"، قال: حدّثنا هشام هو الدستوائيّ، عن قتادة، عن عكرمة، قال:"اختَلَف ابن عباس، وزيد بن ثابت، في المرأة إذا حاضت، وقد طافت بالبيت يوم النحر، فقال زيد: يكون آخر عهدها بالبيت، وقال ابن عباس: "تنفر إن شاءت"، فقالت الأنصار: لا نتابعك يا ابن عباس وأنت تخالف زيدًا، فقال: سلوا صاحبتكم، أم سليم، يعني فسألوها، فقالت: حِضتُ بعدما طفت بالبيت، فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنفر، وحاضت صفية، فقالت لها عائشة: حبستنا، فأمرها النبيّ صلى الله عليه وسلم أن تنفر"، ورواه سعيد بن أبي عروبة في "كتاب المناسك" عن قتادة، عن عكرمة نحوه، وقال فيه:"لا نتابعك إذا خالفت زيد بن ثابت"، وقال فيه:"وأنبئت أن صفية بنت حيي حاضت بعدما طافت بالبيت يوم النحر، فقالت لها عائشة: الخيبة لك، حبستنا، فذكروا ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فأمرها أن تنفر"، وهكذا أخرجه إسحاق في "مسنده" عن عبدة، عن سعيد، وفي آخره:"وكان ذلك من شأن أم سليم أيضًا، أفاده في "الفتح"
(1)
.
(فَقَالَ لَهُ) أي لزيد بن ثابت رضي الله عنه (ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (إِمَّا لَا) قال
(1)
راجع: "الفتح" 4/ 720.
النوويّ رحمه الله: "إمّا لا" بكسر الهمزة، وفتح اللام، وبالإمالة الخفيفة، هذا هو الصواب المشهور، وقال القاضي عياض: ضبطه الطبريّ، والأصيليّ:"إِمّا لِي" بكسر اللام، قال: والمعروف في كلام العرب فتحها، إلا أن تكون على لغة من يميل.
وقال المازريّ: قال ابن الأنباريّ: قولهم: "افعل هذا إما لا" فمعناه: افعل كذا وكذا، إن كنت لا تفعل غيره، فدَخَلت "ما" زائدة على "إن"، كما قال الله تعالى:{فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} [مريم: 26]، فاكتَفَوْا بـ "لا" عن الفعل، كما تقول العرب: إن زارك فزره، وإلا فلا. انتهى
(1)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله: في "النهاية": "إمّا لا" هذه الكلمة تَرِد في المحاورات كثيرًا، وقد جاءت في غير موضع من الحديث، وأصلها "إن"، و"ما"، و"لا"، فأُدغمت النون في الميم، و"ما" زائدة في اللفظ، لا حكم لها، وقد أمالت العرب "لا" إمالةً خفيفةً، قال: والعوام يشبعون إمالتها، فتصير ألفها ياء، وهو خطأ، ومعناه: إن لم تفعل هذا، فليكن هذا. انتهى
(2)
. وقوله: (فَسَلْ) وفي نسخة: "فاسأل"، وهما فعلا أمر، قال الفيّوميّ في مادّة "سأل" ما نصّه: والأمر من سأل اسأل بهمزة وصل، فإن كان معه واو جاز الهمز؛ لأنه الأصل، وجاز الحذف؛ للتخفيف، نحو: واسألوا، وسَلُوا، وفيه لغة سال يسال، من باب خاف، والأمر من هذه: سَلْ، وفي المثنّى والمجموع: سَلَا، وسَلُوا على غير قياس - أي لأن القياس يقتضي أن يقال: سالا، وسالوا، كخافا، وخافوا. انتهى
(3)
.
وقوله: (فُلَانَةَ الْأنصَارِيَّةَ) قد تبيّن بما سبق من الروايات أنها أم سليم الأنصاريّة والدة أنس رضي الله عنها.
(هَلْ أَمَرَهَا بِذَلِكَ) أي بأن تنفر قبل أن تطوف للوداع (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ) طاوس (فَرَجَعَ زيدُ بْنُ ثَابِتٍ) رضي الله عنه أي بعدما سأل فلانة الأنصاريّة (إِلَى
(1)
راجع: إكمال المعلم" 4/ 417، و"شرح النوويّ" 9/ 79، 80.
(2)
"النهاية في غريب الحديث والأثر" 1/ 72.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 297.
ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (يضْحَكُ) جملة حاليّة من الفاعل (وَهُوَ يَقُولُ) جملة حاليّة أيضًا، إما متداخلة، أو مترادفة (مَا) نافية (أَرَاكَ إِلا قَدْ صَدَقْتَ) أي فيما حدّثت به أنه صلى الله عليه وسلم أمر الحائض بأن تنفر بلا طواف الوداع، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [65/ 3222](1328)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1758 و 1759)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4201)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 132)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 226 و 348)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 327)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 402)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 163)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان سقوط طواف الوداع عن الحائض، ومثلها النفساء.
2 -
(ومنها): أن فيه مناقشةَ العلماء لتحقيق الحقّ، وإظهار الخفيّ، لا للمجادلة، والمماراة، فإن ذلك ممنوع.
3 -
(ومنها): أن فيه منقبة عظيمة لابن عبّاس رضي الله عنهما فى سعة علمه، فإن زيدًا رضي الله عنه من العلماء الراسخين، وممن شهد له النبيّ صلى الله عليه وسلم بالعلم، ولا سيّما علم الفرائض الذي يقال فيه: إنه نصف العلم، فقد قال فيه صلى الله عليه وسلم:"أفرضكم زيد"، قال الحافظ رحمه الله: وهو حديث حسنٌ، أخرجه أحمد، وأصحاب السنن، وصححه الترمذيّ، وابن حبان، والحاكم من رواية أبي قلابة، عن أنس، وأُعِلّ بالإرسال، ورجحه الدارقطنيّ، والخطيب، وغيرهما، وله متابعات وشواهد، ذكرتها في "تخريج أحاديث الرافعيّ". انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
ومع ذلك فقد حجّه ابن عبّاس رضي الله عنهما، وذلك مصداق دعائه صلى الله عليه وسلم له - فيما
(1)
"الفتح" 12/ 20، كتاب الفرائض.
أخرجه الشيخان، والإمام أحمد- بقوله:"اللهم علّمه الكتاب"، لفظ البخاريّ، ولفظ أحمد:"اللهم فقهه في الدين، وعلّمه التأويل"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3223]
(1211) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، حَدَّثنَا اللَّيْثُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَعُرْوَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: حَاضَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَىٍّ بَعْدَمَا أفَاضَتْ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَذَكَرْتُ حِيضَتَهَا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ " قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهَا قَدْ كَانَتْ أفَاضَتْ، وَطَافَتْ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ حَاضَتْ بَعْدَ الإفَاضَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"فَلْتَنْفِرْ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف، تقدّم قريبًا.
والباقون كلّهم تقدّموا قبل بابين.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف (وَعُرْوَةَ) بن الزبير (أَنَّ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (قَالَتْ: حَاضَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ) -بضمّ الحاء، وكسرها، والضمّ أشهر- ابن أخطب بن سعيد بن ثعلبة بن عبيد بن كعب الإسرائيليّة، أم المؤمنين من أولاد هارون بن عمران عليه السلام، سباها رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر، ثم أعتقها، ثم تزوجها، رَوَت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عنها ابن أخيها، ومولياها: كنانة، ويزيد بن معتب، وعلي بن الحسين بن علي، ومسلم بن صفوان، وإسحاق بن عبد الله بن الحارث، وذكر ابن عبد البر أن صفية التي روى عنها إسحاق غير صفية بنت حيي، وكذا قال في صفية التي روى عنها مسلم بن صفوان.
قال الواقديّ: ماتت في خلافة معاوية سنة خمسين، وقال غيره: ماتت قبل ذلك سنة ست وثلاثين، حَكَى ذلك ابن حبان بعد أن قدَّم أنها ماتت في خلافة معاوية، قال الحافظ: وهو الذي لا يتجه غيره، فإن في "الصحيحين"
تصريح عليّ بن الحسين بسماعه منها، وكان مولده بعد سنة ست وثلاثين قطعًا. انتهى.
أخرج لها الجماعة، ولها في هذا الكتاب حديث واحد سيأتي في "كتاب السلام" برقم (2175) حديث: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم
…
" الحديث.
(بَعْدَمَا أفَاضَتْ) أي طافت طواف الإفاضة، وهو الذي يُسمّى طواف الزيارة، وهو طواف الركن، وسُمّي بذلك لأن الغالب أنه يُفعل يوم النحر، يُفيض الحاجّ من منى إلى مكة، فيطوف، ثم يرجع، والإفاضة الزَّحْف، والدَّفْعُ في السير بكثرة، ومنه الإفاضة من عرفة، ولا تكون إلا عن تفرّق وجمع، وأصل الإفاضة الصبّ، فاستُعيرت للدفع في السير، وأصله: أفاض نفسَهُ، أو راحلَتَهُ، فرفضوا ذكر المفعول حتى أشبه غير المتعدّي
(1)
. (قَالَتْ عَائِشَةُ: فَذَكَرْتُ حِيضَتَهَا) بكسر الحاء المهملة: أي الحالة التي عليها من الحيض، ويَحْتَمِل أن يكون بفتح الحاء، وهي المرّة من الحيض (لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ ") أي هل هي مانعتنا من الخروج إلى المدينة بلزوم الإقامة في مكة لأجلها إلى أن تطوف بعد فراغها من الحيض؟ ظنّ صلى الله عليه وسلم أنها لم تطف طواف الإفاضة (قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنّهَا قَدْ كَانَتْ أفَاضَتْ) أي طافت طواف الإفاضة، فقولها:(وَطَافَتْ بِالْبَيْتِ) عطف تفسير (ثُمَّ حَاضَتْ بَعْدَ الإفَاضَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَلْتَنْفِرْ") أي فلتُسرع الخروج من مكة راجعة إلى المدينة؛ لتمام حجها، وعدم بقاء شيء عليها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [65/ 3223 و 3224 و 3225 و 3226 و 3227
(1)
"النهاية" لابن الأثير 3/ 484، 485، و"طرح التثريب في شرح التقريب" 5/ 128.
و 3228 و 3229 و 3230] (1211)، و (البخاريّ) في "الحيض"(328) و"الحجّ"(1757) و"المغازي"(4401)، و (الترمذيّ) في "الحجّ"(943)، و (النسائيّ) في "الحيض"(1/ 194) و"الكبرى"(2/ 464 - 465)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(3072)، و (مالك) في "الموطّإ"(1/ 412)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 131)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 102)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 99 و 192 - 193 و 207)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 183)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 568)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(496)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(3002)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(211 - 213)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 121 و 8/ 273) و"الكبير"(23/ 267)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 234)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 323)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 402)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 162) و"الصغرى"(4/ 357) و"المعرفة"(4/ 147)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1974)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في "فوائده:
1 -
(منها): بيان أن طواف الوداع غير واجب على الحائض، فلها النفر من غير أن تفعله، ولا دم عليها، وبهذا قال جمهور العلماء من السلف والخلف، قال ابن عبد البرّ: هو مجمع من فقهاء الأمصار، وجمهور العلماء عليه، لا خلاف بينهم فيه. انتهى، وحَكَى الطحاويّ عن طائفة وجوبه عليها كغيرها، وقد تقدّم تحقيق البحث في المسألة الخامسة في شرح ثاني أحاديث الباب.
2 -
(ومنها): بيان أن طواف الإفاضة ركن لا بدّ منه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لمّا لم يعلم أن صفيّة طافت للإفاضة: "أحابستنا هي؟ "، وهو كذلك بالإجماع.
3 -
(ومنها): بيان اشتراط الطهارة في صحّة الطواف، وهو كذلك عند الجمهور كما تقدّم.
4 -
(ومنها): ما قاله وليّ الدين رحمه الله: مقتضى قوله صلى الله عليه وسلم: "أحابستنا هي؟ " أنها لو لم تكن طافت للإفاضة لم يَرْحَل حتى تطهر من الحيض، وتغتسل، وتطوف، ثم يَحْتَمِل أن ذلك على سبيل اللزوم، وهو ظاهر التعبير
بلفظ الحبس، ويَحْتَمِل أنه غير لازم، وإنما كان يفعله؛ لكونها زوجته، ولهذا احتَبَس على طلب عقد عائشة رضي الله عنها، فعلى الأول يَطّرِد ذلك في حقّ كل امرأة بهذه الصفة، ويُستنبَط منه أن على أمير الحج أن يكُفّ عن الرحيل من مكة لأجل المرأة الحائض إذا لم تطف للإفاضة، ولم تُرِد الإقامة بمكة، ثم ذكر وليّ الدين الاختلاف في المسألة، فراجع ما كتبه في "شرح التقريب"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3224]
(
…
) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، وَأحْمَدُ بْنُ عِيسَى، قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثنَا، وَقَالَ الْآخَرَانِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، بِهَذَا الإسْنَادِ، قَالَتْ: طَمَثَتْ صَفِيَّةُ بنْتُ حُيَيٍّ، زَوْجُ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَداعِ بَعْدَمَا أفَاضَتْ طَاهِرًا. بِمِثْلِ حَدِيثِ اللَّيْثِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السَّرْح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
2 -
(أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى) بن حسّان المعروف بابن التستريّ المصريّ، صدوقٌ [10](ت 243)(خ م س ق) تقدم في "الإيمان" 8/ 134.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل بابين.
وقوله: (طَمَثَتْ) يقال: طَمَثتِ المرأةُ، من باب ضرب: إذا حاضت، وبعضهم يزيد عليه أوّلَ ما تحيض، فهي طامث بغير هاء، وطَمِثَتْ تَطْمَثُ، من باب تَعِبَ، لغةٌ
(2)
.
[تنبيه]: رواية يونس، عن ابن شهاب هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى" 5/ 162 فقال:
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 5/ 125، 126.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 377، 378.
(9533)
- وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو زكريا بن أبي إسحاق، وأبو بكر بن الحسن القاضي، قالوا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأ محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أنبأ ابن وهب، أنبأ يونس بن يزيد، وغيره من أهل العلم، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وعروة بن الزبير، أن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: طَمَثت صفية بنت حُيَيّ زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، بعدما أفاضت طاهرًا، وطافت بالبيت، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"أحابستنا هي؟ "، فقلت: يا رسول الله إنها قد أفاضت، وهي طاهرة، ثم طَمَثت بعد الإفاضة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فلتنفر". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3225]
(
…
) - (وَحَدَّثنَا قُتَيْبَةُ، يَعْنِي ابْنَ سَعِيدٍ، حَدَّثنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثنَا أيُّوبُ، كُلُّهُمْ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أنَّهَا ذَكَرَتْ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ صَفِيَّةَ قَدْ حَاضَتْ. بِمَعْنَى حَدِيثِ الزُّهْرِىِّ).
رجال هذا الإسناد: عشرة:
وكلّهم ذُكروا في هذا الباب، وفي الأبواب الثلاثة الماضية، و"سفيان": هو ابن عيينة، و"عبد الوهّاب" هو: ابن عبد المجيد الثقفيّ، و"أيوب" هو السختيانيّ.
[تنبيه]: رواية الليث بن سعد، عن عبد الرحمن بن القاسم ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى" 2/ 465 فقال:
(4193)
- أنبأ قتيبة بن سعيد، قال: حدّثنا الليث، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: ذكرتُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن صفية بنت حيي حاضت في أيام منى، فقال:"أحابستنا هي؟ " قالوا: إنها قد أفاضت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فلا إذًا". انتهى.
وأما رواية سفيان بن عيينة، عن عبد الرحمن بن القاسم، فقد ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" 6/ 39 فقال:
(24159)
- حدّثنا عبد اللهِ، حدّثني أبي، ثنا سُفْيَانُ، عن عبد الرحمن بن الْقَاسِمِ، عن أبيه، عن عَائِشَةَ، أنها قالت: حَاضَتْ صَفِيَّةُ، فَذَكَرْتُ ذلك لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال:"أَحَابِسَتُنَا هي؟ "، قلت: إنها قد أَفَاضَتْ قبل ذلك، قال:"فَلَا". انتهى.
وأما رواية أيوب، عن عبد الرحمن بن القاسم، فقد ساقها أبو عوانة رحمه الله، في "مسنده" 2/ 326 فقال:
(3309)
- حدّثنا ابن شبابان، نا الحسن بن الحسين، أنا الثقفيّ، يعني عبد الوهاب، أنا أيوب، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، أن صفية بنت حيي حاضت بعدما أفاضت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنك لحابستنا"، فقالت عائشة: إنها قد أفاضت، قال:"فلا إذًا". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3226]
(
…
) - (وَحَدَّثنا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا أفلَحُ، عَن الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنَّا نَتَخَوَّفُ أَنْ تَحِيضَ صَفِيَّةُ قَبْلَ أَنْ تُفِيضَ، قَالَتْ: فَجَاءَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "أَحَابِسَتُنَا صَفِيَّةُ؟ " قُلْنَا: قَدْ أفَاضَتْ، قَالَ: "فَلَا اِذَنْ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
وقد تقدّم نفسه قبل هذا ببابين، ومن لطائفه أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (200) من رباعيّات الكتاب.
وقوله: (فَلَا إِذَنْ) أي فلا حبس علينا حينئذ، أي إذا أفاضت فلا مانع لنا من التوجه؛ لأن الذي يجب عليها قد فعلته.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3227]
(
…
) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ: أنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَىٍّ قَدْ حَاضَتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَعَلَّهَا تَحْبِسُنَا، ألَمْ تَكُنْ قَدْ طَافَتْ مَعَكُنَّ بِالْبَيْتِ؟ " قَالُوا: بَلَى، قَالَ: "فَاخْرُجْنَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
وقد تقدّم نفسه
(1)
قبل الباب ببابين، و"أبو بكر" والد عبد الله هو: ابن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاريّ.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3228]
(
…
) - (حَدَّثَنِي الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَني يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، عَن الْأَوْزَاعِىِّ، لَعَلَّهُ قَالَ: عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أرَادَ مِنْ صَفِيَّةَ بَعْضَ مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ، فَقَالُوا: إِنَّهَا حَائِضٌ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "وَإِنَّهَا لَحَابِسَتُنَا؟ " فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهَا قَدْ زَارَتْ يَوْمَ النَّحْرِ، قَالَ: "فَلْتَنْفِرْ مَعَكُمْ")
(2)
.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى) بن زُهير، أبو صالح الْقَنْطريّ البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 232)(خت م مد س ق) تقدم في "الإيمان" 46/ 294.
(1)
لكن تقدّم هناك أن عبد الله بن أبي بكر إنما روى عن أبيه، عن عمرة، بخلافه هنا، فإنه روى عنها بدون واسطة أبيه، وكلّ صحيح، فتنبّه.
(2)
وفي نسخة: "فلتنفرن معكنّ".
2 -
(يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ) بن واقد الحضرميّ، أبو عبد الرحمن الدمشقيّ القاضي، ثقةٌ رُمي بالقدر [8](ت 183) على الصحيح، وله (80) سنةٍ (ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 294.
3 -
(الْأَوْزَاعِيُّ) عبد الرحمن بن عمرو، تقدّم قريبًا.
4 -
(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) صالح بن المتوكّل الطائيّ مولاهم، أبو نصر البصريّ، ثم اليماميّ، ثقةٌ ثبتٌ يُدلّس ويرسل [5](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.
5 -
(مُحمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ) أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ [4](ت 120)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.
6 -
(أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف، تقدّم قريبًا. و"عَائِشَةُ رضي الله عنها" ذُكرت قبله.
شرح الحديث:
(عَن الْأَوْزَاعِيِّ) عبد الرحمن بن عمرو (لَعَلَّهُ قَالَ: عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع في معظم النسخ، وكذا نقله القاضي عن معظم النسخ، قال: وسقط عند الطبريّ قوله: "لعله قال: عن يحيى بن أبي كثير"، قال: وسقط "لعله قال" فقط لابن الحذّاء، قال القاضي: وأظن أن الاسم كله سقط من كتب بعضهم، أو شَكّ فيه، فألحقه على المحفوظ الصوابِ، ونبّه على إلحاقه بقوله:"لعله". انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قال الحافظ المزيّ رحمه الله في "التحفة": سقط: "يحيى بن أبي كثير" من بعض نسخ مسلم. انتهى.
والحديث أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" 6/ 85 فقال:
(24602)
- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا محمد بن مصعب، قال: ثنا الأوزاعيّ، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن عائشة، قالت: لما أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد من صفية بعض ما يريد الرجل من أهله، فقيل له: إنها حائض، فقال:"عقرى، أحابستنا هي؟ " قالوا: إنها قد طافت يوم النحر، فنفر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن مصعب: ما سمعته يذكر
-يعنى الأوزاعيّ- محمد بن إبراهيم إلا مرةً. انتهى، ومن هذا الوجه أخرجه أبو عوانة في "مسنده".
وأخرجه ابن خزيمة رحمه الله في "صحيحه" 4/ 310 بإسقاط يحيى بن أبي كثير، وتصريح الأوزاعيّ بتحديث محمد بن إبراهيم، فقال:
(2954)
- ثنا الربيع، ثنا بشر بن بكر، عن الأوزاعيّ، حدّثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيميّ، حدّثني أبو سلمة، حدّثتني عائشة، قالت: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أراد من صفية ما يريد الرجل من أهله، فقيل: إنها حائضٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أحابستنا هي؟ " فقالوا: إنها قد أفاضت، فنفر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن الطريقين صحيحتان، فإن الأوزاعيّ يروي عن محمد بن إبراهيم، كما يروي عنه بواسطة يحيى بن أبي كثير، وعلى هذا فالنسختان من "صحيح مسلم" بإثبات يحيى بن أبي كثير، وإسقاطه صحيحتان، وأما إلحاق "لعله" من بعض الرواة فيُمكن أن يُحمل على ظنه، والله تعالى أعلم بالصواب.
(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ مِنْ صَفِيَّةَ) بنت حُيَيّ رضي الله عنها (بَعْضَ مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ) وفي رواية أحمد، وابن خزيمة المذكورتين:"ما يُريد الرجل من أهله"، وكذا عند البخاريّ.
قال الحافظ رحمه الله: وهذا مشكلٌ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إن كان عَلِم أنها طافت طواف الإفاضة، فكيف يقول:"أحابستنا هي؟ "، وإن كان ما عَلِم، فكيف يريد وقاعها قبل التحلل الثاني؟.
ويجاب عنه بأنه صلى الله عليه وسلم ما أراد ذلك منها إلا بعد أن استأذنه نساؤه في طواف الإفاضة، فأذن لهنّ، فكان بانيًا على أنها قد حلّت، فلما قيل له: إنها حائض جوَّز أن يكون وقع لها قبل ذلك حتى منعها من طواف الإفاضة، فاستفهم عن ذلك، فأعلمته عائشة أنها طافت معهنّ، فزال عنه ما خَشِيه من ذلك، والله أعلم. انتهى.
وقد سبق في كتاب الحيض من طريق عمرة عن عائشة أنه قال لهم:
"لعلها تحبسنا ألم تكن طافت معكن؟ "، قالوا: بلى. وسأذكر بقية اختلاف ألفاظ هذه القصة في آخر الباب إن شاء الله تعالى (فَقَالُوا) القائلة هي عائشة رضي الله عنها، كما بيّنه البخاريّ في "صحيحه" من رواية الأعرج، عن أبي سلمة، ولفظه: "فأراد النبيّ صلى الله عليه وسلم منها ما يُريد الرجل من أهله، فقلت: يا رسول الله إنها حائض
…
" الحديث (إِنَّهَا حَائِضٌ) بدون هاء التأنيث؛ لأنه وصف خاصّ بالنساء، فلا يحتاج إلى فارق، وجاء أيضًا حائضة، وجمع الأول حُيّضٌ، مثلُ راكع ورُكّع، وجمع الثاني: حائضات، مثلُ قائمة وقائمات
(1)
. (يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَأِنَّهَا لَحَابِسَتُنَا؟ ") أي مانعتنا من التوجه من مكة في الوقت الذي أردنا التوجه فيه؛ ظَنًّا منه صلى الله عليه وسلم أنها ما طافت طواف الإفاضة، وإنما قال ذلك: لأنه كان لا يتركها، ويتوجه، ولا يأمرها بالتوجه معه، وهي باقية على إحرامها، فيحتاج إلى أن يُقيم حتى تطهر، وتطوف، وتَحِلّ الحلَّ الثاني، قاله في "الفتح"
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليل على أن الكَرِيّ يُحبَس على التي حاضت، ولم تطف طوافَ الإفاضة حتى تطهر، وهو قول مالك، وقال الشافعيّ: لا يُحبس عليها الكريّ، ولْتُكْرِ جملها، أو تحمل مكانها غيرها، وهذا كله في الأمن، ووجود ذي المحرم، وأما مع الخوف، أو عدم ذي المحرم؛ فلا يُحبَس باتفاق؛ إذ لا يمكن أن يسير بها وحدها، ويُفسخ الكراء، ولا يحبس عليها الرفقة، إلا أن يبقى لطهرها كاليوم، والله أعلم. انتهى
(3)
.
(فَقَالُوا) أي الحاضرون، ومنهم عائشة رضي الله عنها، وسيأتي أنه صلى الله عليه وسلم قال لصفيّة رضي الله عنها:"إنك لحابستنا، ثم قال لها: أكنت أفضت يوم النحر؟ قالت: نعم، قال: فانفري"(يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهَا قَدْ زَارَتْ يَوْمَ النَّحْرِ) أي أَدّت طواف الزيارة فيه، قال النوويّ رحمه الله: فيه دليل لمذهب الشافعيّ، وأبي حنيفة، وأهل العراق أنه لا يُكره أن يقال لطواف الإفاضة: طواف الزيارة، وقال مالك: يُكره، وليس للكراهة حجةٌ تُعْتَمَد. انتهى
(4)
. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَلْتَنْفِرْ مَعَكُمْ") وفي
(1)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 159.
(2)
"الفتح" 4/ 719.
(3)
"المفهم" 3/ 428.
(4)
"شرح النوويّ" 9/ 81.
نسخة: "فلتنفرّ معكنّ"، قال النوويّ رحمه الله:"تنفر" بكسر الفاء، وضمّها، والكسر أفصح، وبه جاء القرآن. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى في الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3229]
(
…
) - (حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثنَا مُحَمَّدُ ابْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ (ح) وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، عَن الْحَكَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَن الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا أَرَادَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَنْفِرَ إِذَا صَفِيَّةُ عَلَى بَاب خِبَائِهَا كَئِيبَةً حَزِينَةً، فَقَالَ:"عَقْرَى، حَلْقَى، إِنَّكِ لَحَابِسَتُنَا"، ثُمَّ قَالَ لَهَا:"أكُنتِ أفضْتِ يَوْمَ النَّحْرِ؟ " قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ:"فَانْفِرِي").
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(ابْنُ بَشَّارٍ) محمد البصريّ المعروف ببندار، ئقةٌ حافظ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغندر البصريّ، ئقةٌ صحيح الكتاب [9](193)(ع) تقدّم في "المقدمة" 2/ 2.
3 -
(شُعْبَة) بن الحجّاج، تقدّم قريبًا.
4 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) العنبريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ العنبريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا في هذا الباب، وقبله ببابين، و"الحكم" هو: ابن عتيبة، و"إبراهيم" هو: ابن يزيد النخعيّ، و"الأسود" هو: ابن يزيد النخعيّ عمّ إبراهيم.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 81.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَنْفِرَ) من باب ضرب في اللغة العالية، وبها قرأ السبعة، ونفَرَ نُفُورًا من باب قَعَدَ لغةٌ، وقُرئ بمصدرها في قوله تعالى:{إِلَّا نُفُورًا} ، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
قال في "الفتح": قوله: "لمّا أراد أن ينفر" هذا يُشعر بأن الوقت الذي أراد منها ما يريد الرجل من أهله كان بالقرب من وقت النفر من منى، واستشكله بعضهم
(2)
بناءً على ما فهمه أن ذلك كان وقت الرحيل، وليس ذلك بلازم؛ لاحتمال أن يكون الوقت الذي أراد منها ما أراد سابقًا على الوقت الذي رآها فيه على باب خبائها الذي هو وقت الرحيل، بل ولو اتّحد الوقت لم يكن ذلك مانعًا من الإرادة المذكورة. انتهى
(3)
.
(إِذَا صَفِيَّةُ)"إذا" هي الْفُجائيَّة، أي فاجأه وجود صفية (عَلَى بَابِ خِبَائِهَا كَئِيبَةً) بفتح، فكسر، يقال: كَئِبَ يَكْأَبُ، من باب تَعِبَ كآبةً بمدّ الهمزة، وكَأَبًا، وكَأبَةً، مثلُ سَبَبٍ، وتَمْرَةٍ: حَزِنَ أشدّ الحزن، فهو كَئِبٌ، وكَئِيبٌ
(4)
، فقوله:(حَزِينَةً) تأكيد لمَا قبله (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("عَقْرَى، حَلْقَى) -بالفتح فيهما، ثم السكون، وبالقصر، بغير تنوين- هكذا في الرواية، ويجوز في اللغة التنوين، وصوّبه أبو عبيد؛ لأن معناه الدعاء بالعَقْر والْحَلْق، كما يقال: سَقْيًا، ورَعْيًا، ونحو ذلك من المصادر التي يُدعى بها، وعلى الأول هو نعت لا دُعاء، ثم معنى عقرى: عقرها الله، أي جرحها، وقيل: جعلها عاقرًا لا تَلِد، وقيل: عقر قومها، ومعنى حلقى: حَلَقَ شعرها، وهو زينة المرأة، أو أصابها وجع في حلقها، أو حَلق قومها بشؤمها، أي أهلكهم، وحَكَى القرطبي أنها كلمة تقولها اليهود للحائض، فهذا أصل هاتين الكلمتين، ثم اتَّسع العرب في قولهما بغير إرادة حقيقتهما، كما قالوا: قاتله الله، وتربت يداه، ونحو ذلك، قال القرطبيّ
(1)
"المصباح المنير" 2/ 617.
(2)
هو الحافظ وليّ الدين العراقي رحمه الله، راجع: ما كتبه في "شرح التقريب" 5/ 128، 129.
(3)
"الفتح" 4/ 622.
(4)
"المصباح المنير" 2/ 545.
وغيره: شَتّان بين قوله صلى الله عليه وسلم هذا لصفية، وبين قوله لعائشة لما حاضت معه في الحج:"هذا شيء كتبه الله على بنات آدم "؛ لِما يُشعر به من الميل لها، والحنوّ عليها، بخلاف صفية.
قال الحافظ رحمه الله: وليس فيه دليلٌ على اتّضاع قدر صفية عنده، لكن اختَلَف الكلام باختلاف المقام، فعائشة دخل عليها، وهي تبكي أسَفًا على ما فاتها من النسك، فسلّاها بذلك، وصفية أراد منها ما يريد الرجل من أهله، فأبدت المانع، فناسب كلًّا منهما ما خاطبهما به في تلك الحالة. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ.
(إِنَّكِ لَحَابِسَتُنَا") أي لمانعتنا من الخروج إلى المدينة (ثُمَّ قَالَ لَهَا: "أكُنْتِ أفَضْتِ يَوْمَ النَّحْرِ؟ " قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: "فَانْفِرِي") هو بيان لقوله في الرواية الماضية: "فلا إذًا"، وفي رواية أبي سلمة عند البخاريّ:"قال: اخرجوا"، وفي رواية عمرة:"قال: اخرجي"، وفي رواية الزهري عن عروة، عن عائشة الماضية:"فلتنفر"، ومعانيها متقاربة، والمراد بها كلِّها: الرحيل من منى إلى جهة المدينة.
وفي أحاديث الباب: أن طواف الإفاضة ركنٌ، وأن الطهارة شرط لصحة الطواف، وأن طواف الوداع واجب، وقد تقدم كلّ ذلك مفصّلًا.
قال في "الفتح": واستُدِلّ به على أن أمير الحاج يلزمه أن يؤخر الرحيل؛ لأجل من تحيض، ممن لم تطف للإفاضة.
وتُعُقِّب باحتمال أن تكون إرادته صلى الله عليه وسلم تأخير الرحيل إكرامًا لصفية، كما احتبس بالناس على عقد عائشة، وأما الحديث الذي أخرجه البزار من حديث جابر رضي الله عنه، وأخرجه البيهقيّ في "فوائده" من طريق أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"أميران، وليسا بأميرين: من تبع جنازة، فليس له أن ينصرف حتى تُدْفَن، أو يَأذن أهلها، والمرأة تحجّ، أو تعتمر مع قوم، فتحيض قبل طواف الركن، فليس لهم أن ينصرفوا حتى تطهر، أو تأذن لهم"، فلا دلالة فيه على الوجوب إن كان صحيحًا، فإن في إسناد كل منهما ضعفًا شديدًا.
وقد ذكر مالك في "الموطإ" أنه يلزم الجمّال أن يحبس لها إلى انقضاء أكثر مدة الحيض، وكذا على النفساء، واستشكله ابن الموّاز بأن فيها تعريضًا للفساد، كقطع الطريق، وأجاب عياض بأن محل ذلك مع أمن الطريق، كما أن
محله أن يكون مع المرأة محرم. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3230]
(
…
) - (وَحَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَن الْأَعْمَشِ (ح) وَحَدَّثنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، جَمِيعًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَن الْأَسْوَدِ، عَن عَائِشَةَ، عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم نَحْوَ حَدِيثِ الْحَكَمِ، غيْرَ أنهُمَا لَا يَذْكُرَانِ:"كَئيبَةً حَزِينَةً").
رجال هذا الإسناد: أحد عشر:
وكلّهم ذُكروا في هذا الباب، والأبواب الثلاثة قبله، و"جَرِيرٌ" هو ابن عبد الحميد، و"مَنْصُورٌ" هو: ابن المعتمر.
[تنبيه]: رواية الأعمش، عن إبراهيم، ساقها البخاريّ رحمه الله، فقال:
(1561)
- حدّثنا عثمان، حدّثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنهما: خرجنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا نَرَى إلا أنه الحجُّ، فلما قَدِمنا تطوّفنا بالبيت، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم من لم يكن ساق الهدي أن يحلّ، فَحَلَّ من لم يكن ساق الهدي، ونساؤه لم يَسُقنَ فأحللن، قالت عائشة رضي الله عنهما: فحِضْتُ، فلم أطف بالبيت، فلما كانت ليلة الحصبة، قالت: يا رسول الله يرجع الناس بعمرة وحجة، وأرجع أنا بحجة؟، قال:"وما طُفْتِ ليالي قدمنا مكة؟ " قلت: لا، قال:"فاذهبي مع أخيك إلى التنعيم، فأهلّي بعمرة، ثم مَوْعِدك كذا وكذا"، قالت صفية: ما أَرَاني إلا حابستهم، قال:"عَقْرَى حَلْقَى، أَوَ مَا طُفْتِ يوم النحر؟ " قالت: قلت: بلى، قال:"لا بأس انفري"، قالت عائشة رضي الله عنها: فلقيني النبّيّ صلى الله عليه وسلم، وهو مُصْعِد من مكة، وأنا منهبطة عليها، أو أنا مصعدة، وهو منهبط منها. انتهى.
وأما رواية الأعمش عن إبراهيم، فقد ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" 3/ 405 فقال:
(1)
"الفتح" 4/ 722، 723.
(3083)
- حدّثنا أبو بكر الطَّلْحيّ، ثنا عُبيد بن غَنّام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: ذَكَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صفيةَ، فقلنا: إنها قد حاضت، قال:"عَقْرَى حَلْقَى". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(66) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ دُخُولِ الْكَعْبَةِ لِلْحَاجِّ وَغَيْرِهِ، وَالصَّلَاةِ فِيهَا، وَالدُّعَاءِ فِي نَوَاحِيهَا كُلهَا)
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3231]
(1329) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِي، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْكَعْبَةَ، هُوَ وَأُسَامَةُ، وَبِلَالٌ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ الْحَجَبِيُّ، فَأغلَقَهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ مَكَثَ فِيهَا، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَسَألتُ بِلَالًا حِينَ خَرَجَ مَا صَنَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: جَعَلَ عَمُودَيْنِ عَنْ يَسَارهِ، وَعَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ، وَثَلَاَئةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ، وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ، ثُمَّ صَلَّى).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(يَحْيىَ بْنُ يَحْيىَ التَّمِيمِيُّ) النيسابوريّ، ثقة ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226)(خ م ت س)"تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(مَالِكُ) بن أنس الأصبحيّ إمام دار الهجرة، أبو عبد الله، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين، الإمام المجتهد [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.
3 -
(نَافِعٌ) أبو عبد الله المدنيّ، مولى ابن عمر، ثقة ثبت فقيه مشهور [3](ت 117) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
4 -
(ابْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب، وهو عبد الله الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (73) أو بعدها تقدم في "الإيمان" 1/ 102.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنف رحمه الله، وهو (201) من رباعيّات الكتاب.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، وقد دخلها.
4 -
(ومنها): أن هذا الإسناد أصحّ الأسانيد مطلقًا، كما نُقل عن الإمام البخاريّ رحمه الله.
5 -
(ومنها): أنه فيه ابن عمر رضي الله عنهما أشدّ الناس اتّباعًا للأثر، وأحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْكَعْبَةَ) وكان ذلك في عام الفتح، كما بُيّن في رواية أيوب التالية، قال:"قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، فنزل بفناء الكعبة"، وفي رواية البخاريّ في "كتاب الجهاد" من طريق يونس بن يزيد، عن نافع:"أقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته"، وفي رواية فُليح، عن نافع:"وهو مردف أسامة -يعني ابن زيد- على القصواء"، ثم اتفقا:"ومعه بلال، وعثمان بن طلحة، حتى أناخ في المسجد"، وفي رواية فليح:"عند البيت"، وقال لعثمان:"ائتنا بالمفتاح، فجاءه بالمفتاح، ففتح له الباب، فدخل"، ولمسلم، وعبد الرزاق من رواية أيوب، عن نافع:"ثم دعا عثمان بن طلحة بالمفتاح، فذهب إلى أمه- واسمها: سُلافة: بضم المهملة، والتخفيف، والفاء- فأبت أن تعطيه، فقال: والله لتعطينه، أو لأخرجن هذا السيف من صلبي، فلما رأت ذلك أعطته، فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففتح الباب".
فظهر من رواية فليح أن فاعل "فتح"، هو عثمان المذكور، لكن روى
الفاكهيّ من طريق ضعيفة عن ابن عمر، قال:"كان بنو أبي طلحة يزعمون أنه لا يستطيع أحد فتح الكعبة غيرهم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المفتاح، ففتحها بيده".
(هُوَ وَأُسَامَةُ) بن زيد بن حارثة رضي الله عنهم، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن حبه، هو، وأبوه، وجدّه صحابيون رضي الله عنهم مات بالمدينة سنة (54 هـ) وهو ابن (57) سنةً، وتقدمت ترجمته في تقدم في "الإيمان" 23/ 284. (وَبِلَالٌ) ابن رباح، أبو عبد الله المؤذن، وأمه حمامة، مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أحد السابقين إلى الإسلام، شَهِد بدرًا، وما بعدها، مات سنة (17)، وقيل غير ذلك، وتقدّمت ترجمته في "الطهارة" 23/ 643. (وَعُثْمَانُ بْنُ طلحَةَ) بن أبي طلحة بن عثمان بن عبد العزى بن عبد الدار بن قُصَيّ بن كلاب العبدري، ويقال له:(الْحَجَبِيُّ) -بفتح المهملة، والجيم- ويقال لآل بيته: الْحَجَبة؛ لحجبهم الكعبة، يعرفون الآن بالشيبيون- نسبة إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، وهو ابن عمّ عثمان هذا، لا ولده، وله أيضًا صحبة وروايةٌ، مات عثمان بن طلحة سنة (42)، وقيل: استشهد بأجنادين، وأبطل ذلك العسكريّ، قاله في "الفتح"، و"تقريب التهذيب"
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "الْحَجَبيّ" -بفتح الحاء والجيم-: منسوب إلى حجابة الكعبة، وهي ولايتها، وفتحها، وإغلاقها، وخدمتها، ويقال له ولأقاربه: الْحَجَبيّون، وهو عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، واسم أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قُصَيّ القرشيّ الْعَبْدريّ، أسلم مع خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص في هُدْنة الحديبية، وشَهِد فتح مكة، ودفع النبيّ صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة إليه، وإلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، وقال:"خذوها يا بني طلحة خالدةً تالدةً، لا ينزعها منكم إلا ظالم"، ثم نزل المدينة، فأقام بها إلى وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم تحوّل إلى مكة، فأقام بها حتى تُوُفّي سنة اثنتين وأربعين، وقيل: إنه استُشْهِد يوم أجنادين -بفتح الدال، وكسرها- وهي موضع بقرب بيت المقدس، كانت غزوته في أوائل خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(1)
"تقريب التهذيب" ص 234.
وثبت في "الصحيح" قوله صلى الله عليه وسلم: "كل مأثرة كانت في الجاهلية، فهي تحت قدمي إلا سقاية الحاجّ، وسِدانة البيت".
قال القاضي عياض: قال العلماء: لا يجوز لأحد أن ينزعها منهم، قال: وهي ولاية لهم عليها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتبقى دائمة لهم، ولذرياتهم أبدًا، ولا ينازَعون فيها، ولا يشارَكون ما داموا موجودين صالحين لذلك، والله أعلم. انتهى
(1)
.
تفرّد به المصنّف، وأبو داود، وليس له في هذا الكتاب إلا حديث الباب.
قال المهلّب شارح البخاريّ: إدخال النبيّ صلى الله عليه وسلم معه هؤلاء الثلاثة لمعان تخص كل واحد منهم، فأما دخول عثمان، فلخدمته البيت في الغَلْق، والفتح، والكَنْس، ولو لم يُدخله لغلْق بابها، لتوهّم الناس أنه عَزَله، وأما بلال، فمؤذّنه، وخادم أمْر صلاته، وأما أسامة، فمتولي خدمة ما يحتاج إليه، وهم خاصته، فللإمام أن يخص خاصته ببعض ما يستتر به عن الناس. انتهى.
ويأتي للمصنّف من رواية سالم، عن أبيه زيادة:"ولم يدخلها معهم أحد"، ووقع عند النسائيّ في "مناسك الحجّ" من طريق ابن عون، عن نافع:"ومعه الفضل بن عباس، وأسامة بن زيد، وعثمان بن طلحة، وبلال" فزاد الفضل.
ولأحمد من رواية مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: حدثني أخي الفضل -وكان معه حين دخلها- أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يصلّ في الكعبة، ولكنه لما دخلها وقع ساجدًا بين العمودين، ثم جلس يدعو.
قال الحافظ وليّ الدين العراقيّ رحمه الله: وهذه الرواية شاذّة من وجهين: دخول الفضل معهم، والاقتصار على السجود. انتهى
(2)
.
(فَأغْلَقَهَا) أي: أغلق عثمان بن طلحة الكعبة؛ أي: بابها على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فالفاعل ضمير عثمان، وقد جاء في رواية عبد الله بن عون، عن نافع:
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 83 - 84.
(2)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 5/ 132.
"وأجاف عليهم عثمان بن طلحة الباب"، وكان ذلك بأمره صلى الله عليه وسلم، ففي رواية أيوب، عن نافع الآتية:"وأَمَرَ بالباب، فأُغلق".
وزاد في رواية حسان بن عطية، عن نافع، عند أبي عوانة:"من داخل". ووقع في "الموطإ" بلفظ: "فأغلقاها"، فالضمير لعثمان وبلال، وفي رواية للشيخين:"فأغلقوا"، والجمع بين الروايات أن عثمان هو المباشر لذلك؛ لأنه من وظيفته، وأما ضم بلال فلعله ساعده في ذلك، ورواية الجمع يدخل فيها الآمر بذلك والراضي به.
(عَلَيْهِ) أي: على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي الرواية الآتية:"عليهم" وهو ظاهر، وإنما أُغلق الباب؛ لئلا يزدحم الناس عليه؛ لتوافر دواعيهم على مراعاة أفعاله صلى الله عليه وسلم ليأخذوها عنه، أو ليكون ذلك أسكن لقلبه، وأجمع لخشوعه، وقيل: لئلا يكثر الناس فيصلّوا بصلاته، ويكون ذلك عندهم من المناسك كما فعل في صلاة الليل في رمضان.
وقال في "الطرح": قال ابن بطال: وأما غلق الباب -والله تعالى أعلم- حين صلى في البيت؛ لئلا يَظُنّ الناس أن الصلاة فيه سنّة، فيلزمون ذلك.
وقال النوويّ: إنما أغلقها عليه صلى الله عليه وسلم، ليكون أسكن لقلبه، وأجمع لخشوعه، ولئلا يجتمع الناس، ويدخلوه، أو يزدحموا، فينالهم ضرر، ويتهوش عليه الحال بسبب لغطهم. انتهى.
قال وليّ الدين: وما ذكره النووي أظهر، وأما ما ذكره ابن بطال، فضعيف، فإنه صلى الله عليه وسلم لا يخفي صلاته في البيت، وقد شاهدها جماعة، ونقلوها، وقيل: إنما أغلقها ليصلي إلى جميع جهاتها، فإن الباب إذا كان مفتوحًا، وليس أمامه قدر مؤخرة الرحل لم تصح الصلاة، حكاه المحب الطبري، انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله النوويّ رحمه الله أوضح، كما قال وليّ الدين، والقولان الآخران ليسا بشيء، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
وقد استَدَلَّ البخاري بحديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا على جواز اتخاذ الغَلَق
(1)
"طرح التثريب" 5/ 133.
للمساجد؛ لأجل صونها عما لا يصلح فيها، ولأجل حفظ ما فيها من الأيدي العادية.
(ثُمَّ مَكَثَ فِيهَا) - بضم الكاف، وفتحها-، يقال: مَكَثَ مَكْثًا، من باب نَصَرَ: أقام، وتلَبّث، فهو ماكثٌ، ومَكُثَ مُكْثًا، فهو مَكِيثٌ، مثلُ قَرُبَ قُرْبًا، فهو قريبٌ لغةٌ، وقرأ السبعة قوله تعالى:{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل: 22]، باللغتين، ويتعدّى بالهمزة، فيقال: أمكثه، وتمكّث في أمره: إذا لم يَعْجَل فيه
(1)
.
وفي رواية ابن عون، عن نافع الآتية في الباب:"فمكث فيها مَلِيًّا"، وفي رواية عبيد الله، عن نافع:"فأجافوا عليهم الباب طويلًا"، وفي رواية أيوب، عن نافع:"فمكث فيها ساعةً".
وفي رواية يونس، عن ابن شهاب:"فمكث نهارًا طويلًا"، وفي رواية فُليح:"زمانًا"، بدل "نهارًا"، وفي رواية جويرية، عن نافع عند البخاريّ في "الصلاة":"فأطال"، وللنسائيّ من طريق ابن أبي مليكة:"فوجدت شيئًا، فذهبتُ، ثم جئت سريعًا، فوجدت النبيّ صلى الله عليه وسلم خارجًا منها".
(قَالَ ابْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما (فَسَألتُ بِلَالًا) رضي الله عنه (حِينَ خَرَجَ) أي: من البيت، وفي رواية أيوب التالية:"ثم فُتح الباب، فقال عبد الله: فبادرت الناس، فتلقّيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجًا، وبلالٌ على إِثْره، فقلت لبلال: هل صلّى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم"؟، وفي رواية عبيد الله:"ثم فُتح، فكنت أوّل من دخل، فلقيت بلالًا، فقلت: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ "، وفي رواية عبد الله بن عون:"ثم فُتح الباب، فخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورَقِيتُ الدرجة، فدخلت البيت، فقلت: أين صلّى النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ "، وفي رواية فُليح عن البخاريّ:"ثم خرج، فابتدر الناس الدخول، فسبقتهم"، وفي رواية أيوب:"وكنت رجلًا شابًّا قويًّا، فبادرت الناس، فبدرتهم"، وفي رواية جويرية:"كنت أول الناس ولج على إثره"، وفي رواية مجاهد، عن ابن عمر:"وأجد بلالًا قائمًا بين البابين".
وأفاد الأزرقيّ في "كتاب مكة": "أن خالد بن الوليد كان على الباب،
(1)
"المصباح المنير" 2/ 577.
يَذُبّ عنه الناس"، وكأنه جاء بعدما دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأُغلِق
(1)
.
(مَا صَنَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟)"ما" استفهامية؛ أي: أيَّ شيء صنع في داخل البيت، أصلّى فيه، أم لا؟ وفي رواية جويرية، ويونس، وجمهور أصحاب نافع:"فسألت بلالًا أين صلى؟ "، اختصروا أول السؤال، وثبت في رواية سالم حيث قال:"هل صلى فيه؟ قال: نعم"، وكذا في رواية مجاهد، وابن أبي مليكة، عن ابن عمر:"فقلت: أصلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في الكعبة؟ قال: نعم".
فظهر أنه استثبت أوّلًا، هل صلى أَوْ لا؟ ثم سأل عن موضع صلاته من البيت.
ووقع في رواية يونس، عن ابن شهاب الآتية في الباب:"فأخبرني بلالٌ، أو عثمان بن طلحة" على الشك، والمحفوظ أنه سأل بلالًا، كما في رواية الجمهور.
ووقع عند أبي عوانة من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن ابن عمر:"أنه سأل بلالًا، وأسامة بن زيد حين خرجا، أين صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه؟ فقالا: على جهته"، وكذا أخرج البزار نحوه، ولأحمد، والطبرانيّ من طريق أبي الشعثاء، عن ابن عمر قال:"أخبرني أسامة أنه صلى فيه ها هنا".
ويأتي لمسلم، والطبرانيّ من وجه آخر:"فقلت: أين صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قالوا"، فإن كان محفوظًا حُمِل على أنه ابتدأ بلالًا بالسؤال، كما تقدم تفصيله، ثم أراد زيادة الاستثبات في مكان الصلاة، فسأل عثمان أيضًا، وأسامة، ويؤيد ذلك قوله في رواية ابن عون الآتية:"ونسيت أن أسألهم كم صلى؟ " بصيغة الجمع.
قال الحافظ رحمه الله: وهذا أولى من جزم عياض بوهم الرواية التي أشرنا إليها من عند مسلم، وكأنه لم يقف على بقية الروايات.
قال: ولا يعارض قصته مع قصة أسامة ما أخرجه مسلم أيضًا من حديث ابن عباس؛ أن أسامة بن زيد أخبره: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يُصَلِّ فيه، ولكنه كبّر في نواحيه"، فإنه يمكن الجمع بينهما بأن أسامة حيث أثبتها اعتَمَد في ذلك على
(1)
"الفتح" 4/ 523.
غيره، وحيث نفاها أراد ما في علمه؛ لكونه لم يره صلى الله عليه وسلم حين صلى، وسيأتي مزيد بسط فيه في الكلام على حديث ابن عباس رضي الله عنهما إن شاء الله تعالى-
(1)
.
(قَالَ) بلال رضي الله عنه (جَعَلَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (عَمُودَيْنِ عَنْ يَسَاره، وَعَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ، وَثَلَاَثَه أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ) كذا في هذه الرواية، ولا إشكال فيها، ووقع في رواية للبخاريّ:"جعل عمودًا عن يساره، وعمودًا عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة"، ولا يخفى ما فيها من الإشكال؛ إذ في قوله:"وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة"، إشعار بكون ما عن يمينه أو يساره اثنين.
وأجيب بأن التثنية بالنظر إلى ما كان عليه البيت في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، والإفراد بالنظر إلى ما صار إليه بعدُ، ويؤيده قوله:"وكان البيت يومئذ"؛ لأن فيه إشعارًا بأنه تغير عن هيئته الأولى.
أو يقال: لفظ العمود جنس يَحْتَمِل الواحد والاثنين، فهو مُجْمَل بيّنته رواية: عمودين، أو لم تكن الأعمدة الثلاثة على سمت واحد، بل عمودان متسامتان، والثالث على غير سمتهما، ولفظ "المقدمين" في الرواية الأخرى ليشعر به، أو كان هناك ثلاثة أعمدة مصطفّة، فصلى إلى جنب الأوسط، فمن قال: جعل عمودًا عن يمينه وعمودًا عن يساره، لم يعتبر الذي صلى إلى جنبه، ومن قال: عمودين اعتبره.
[تنبيه]: قال البخاريّ بعد الرواية المذكورة: وقال لنا إسماعيل: حدّثني مالك، وقال:"عمودين عن يمينه"، عكس رواية يحيى بن يحيى، عن مالك هنا، وإسماعيل هو ابن أبي أويس.
قال في "الفتح": وقد ذكر الدارقطنيّ الاختلاف على مالك فيه، فوافق الجمهور عبد الله بن يوسف في قوله:"عمودًا عن يمينه، وعمودًا عن يساره"، ووافق إسماعيل في قوله:"عمودين عن يمينه": ابن القاسم، والقعنبيّ، وأبو مصعب، ومحمد بن الحسن، وأبو حُذافة، وكذا الشافعيّ، وابن مهديّ في إحدى الروايتين عنهما، وقال يحيى بن يحيى النيسابوريّ فيما رواه عنه مسلم:
(1)
راجع: "الفتح" 4/ 524.
"جعل عمودين عن يساره، وعمودًا عن يمينه"، عكس رواية إسماعيل، وكذلك قال الشافعيّ، وبشر بن عمر في إحدى الروايتين عنهما.
وجمع بعض المتأخرين بين هاتين الروايتين باحتمال تعدد الواقعة، وهو بعيدٌ؛ لاتحاد مخرج الحديث، وقد جزم البيهقيّ بترجيح رواية إسماعيل، ومن وافقه.
قال: وفيه اختلاف رابع، قال عثمان بن عمر، عن مالك:"جعل عمودين عن يمينه، وعمودين عن يساره"، قال: ويمكن توجيهه بأن يكون هناك أربعة أعمدة: اثنان مجتمعان، واثنان منفردان، فوقف عند المجتمعين، لكن يعكر عليه قوله:"وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة"، بعد قوله:"وثلاثة أعمدة وراءه"، وقد قال الدارقطنيّ: لم يتابع عثمان بن عمر على ذلك. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: يُستفاد مما ذكره الدارقطنيّ من تفرّد عثمان بن عمر بهذه الرواية المخالفة لروايات الجمهور، وهي قوله:"جعل عمودين عن يمينه، وعمودين عن يساره" أنها رواية شاذّة مردودة للمخالفة المذكورة، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
وقوله: (وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ) إخبار عما كان عليه البيت قبل أن يُهْدَم، ويُبْنَى في زمن ابن الزبير رضي الله عنهما، وأما الآن فعلى ثلاثة أعمدة.
(ثُمَّ صَلَّى) أي: متوجهًا إلى الجدار الغربيّ المقابل للجدار الشرقيّ الذي فيه الباب تقريبًا بينه صلى الله عليه وسلم وبين الجدار الغربي ثلاثة أذرع.
وفي الحديث مشروعية الدخول في الكعبة، واستحبابه، وفيه استحباب الصلاة فيها، وهو ظاهر في النفل، وَيلتحق به الفرض؛ إذ لا فرق بينهما، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفق عليه.
(1)
"الفتح" 2/ 248.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [66/ 3231 و 3232 و 3233 و 3234 و 3235 و 3236 و 3237، (1329)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(505)، و (أبو داود) في "المناسك"(2023)، و (النسائيّ) في "القبلة"(2/ 63) و"الكبرى"(1/ 271)، و (مالك) في "الموطّإ"(1/ 398)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 115)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 33 و 55)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3204)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(1/ 345)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 3)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 326 - 327) و"المعرفة"(2/ 160)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(447)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): رواية المصنف هنا: "جعل عمودين عن يساره، وعمودًا عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه"، وفي رواية أيوب:"قال: بين العمودين تلقاء وجهه"، وفي رواية عبيد الله:"بين العمودين المقدّمين"، وفي رواية سالم، عن أبيه:"صلّى بين العمودين اليمانيين"، وكلّها عند المصنّف.
وفي رواية للبخاريّ: "جَعَل عمودًا عن يساره، وعمودين عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه".
قال الحافظ ولي الدين العراقيّ رحمه الله: قوله: "جعل عمودًا عن يساره، وعمودين عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه"، كذا في رواية البخاريّ عن إسماعيل بن أبي أويس، وكذا في رواية أبي داود عن القعنبي، كلاهما عن مالك، وفي رواية البخاريّ، عن عبد الله بن يوسف، عن مالك:"جعل عمودين عن يساره، وعمودًا عن يمينه".
ونقل ابن عبد البر في "التمهيد" اللفظ الأول عن الأكثر من رواة "الموطإ": منهم يحيى بن يحيى الأندلسيّ، والقعنبيّ، وابن القاسم، وأبو مصعب، وابن بُكير، ومحمد بن الحسن، وإسحاق بن سليمان، وأحمد بن إسماعيل، وابن مهديّ، من رواية أحمد بن سنان القطّان عنه، والشافعيّ، من رواية أبي يحيى، محمد بن سعيد العطار، عنه.
ونقل اللفظ الثاني عن إسحاق بن الطبّاع، ومكيّ بن إبراهيم، وأبي قلابة، عن بشر بن عمر، وبندار، عن ابن مهديّ، كلهم عن مالك.
ونقل اللفظ الثالث عن يحيى بن يحيى النيسابوريّ، وبندار، عن بشر بن عمر، والربيع، عن الشافعيّ، كلهم عن مالك، قال: ورواه عثمان بن عمر، عن مالك، فقال فيه:"جعل عمودين عن يمينه، وعمودين عن يساره"، وقال: ولم يُتَابَع على هذه الرواية، قال: والرواية الأولى أولى بالصواب، إن شاء الله.
وصحح البيهقيّ أيضًا هذه الرواية.
وقال الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ": وهي موافقة لكونه مقابل الباب، وفي رواية في "الصحيح" أيضًا:"صلى بين العمودين اليمانيين".
وإذا تقرر ترجيح الرواية الأولى، فلا ينافيها قوله في الرواية الثانية:"عمودًا عن يمينه، وعمودًا عن يساره"؛ لأن معناها: صلى بين عمودين، وإن كان بجانب أحد العمودين عمود آخر، ولا قوله في الرواية الأخيرة:"بين العمودين اليمانيين"، فإن العَمَد الثلاثة، أحدها يمانيّ، وهو الأقرب إلى الركن اليمانيّ، والآخر، وهو الأقرب إلى الحجر شاميّ، والأوسط بينهما، إن قُرن بالأول، قيل: اليمانيان، وإن قرن بالثاني، قيل: الشاميان، ذكره المحبّ الطبريّ، وهو واضح.
وأما الرواية الثالثة، فإنه يَتَعَذَّر الجمع بينها، وبين الأولى، فهي ضعيفة؛ لشذوذها، ومخالفتها رواية الأكثرين، كما تقدم.
وأما الرواية الرابعة، فهي مقطوع بوهمها؛ إذ ليس هناك أربعة أعمدة، حتى يكون عن يمينه اثنان، وعن يساره اثنان. انتهى
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب دخول الكعبة، لكنه مشروط بأن لا يؤذي أحدًا، وسيأتي البحث فيه في المسألة الخامسة- إن شاء الله تعالى-.
2 -
(ومنها): بيان جواز الصلاة في الكعبة، وسيأتي بيان اختلاف العلماء في ذلك في المسألة السادسة -إن شاء الله تعالى-.
(1)
"طرح التثريب" 5/ 136 - 137.
3 -
(ومنها): رواية الصحابيّ، عن الصحابيّ، وسؤال المفضول مع وجود الأفضل، والاكتفاء به.
4 -
(ومنها): الاحتجاج بخبر الواحد.
5 -
(ومنها): اختصاص السابق بالبقعة الفاضلة.
6 -
(ومنها): السؤال عن العلم، والحرص فيه.
7 -
(ومنها): فضيلة ابن عمر رضي الله عنهما حيث كان شديد الحرص على تتبع آثار النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ ليعمل بها.
8 -
(ومنها): أن الفاضل من الصحابة رضي الله عنهم قد يغيب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض المشاهد الفاضلة، ويحضره من هو دونه، فيَطَّلِع على ما لم يَطَّلع عليه؛ لأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وغيرهما، ممن هو أفضل من بلال رضي الله عنه، ومن ذكر معه، لم يشاركوهم في ذلك.
9 -
(ومنها): أن الإمام البخاريّ رحمه الله استَدَلّ بهذا الحديث على أن الصلاة إلى مقام إبراهيم غير واجبة، وعلى جواز الصلاة بين السواري في غير جماعة.
10 -
(ومنها): ما قيل: إن السترة إنما يشرع اتخاذها حيث يخشى المرور، فإنه صلى الله عليه وسلم صلى بين العمودين، ولم يصلّ إلى أحدهما، لكن هذا -كما قال الحافظ- فيه أنه إنما ترك ذلك للاكتفاء بالقرب من الجدار؛ إذ كان بين مصلاه وبين الجدار نحو ثلاثة أذرع، ولذلك استَدَلّ النسائيّ به على مقدار الدنوّ من السترة.
11 -
(ومنها): أن قول العلماء: تحية المسجد الحرام الطواف مخصوص بغير داخل الكعبة؛ لكونه صلى الله عليه وسلم جاء، فأناخ عند البيت، فدخله، فصلى فيه ركعتين، فكانت تلك الصلاة، إما لكون الكعبة كالمسجد المستقلّ، أو هو تحية المسجد العامّ.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا ذكر الحافظ رحمه الله، ولي فيه نظر؛ إذ تحية المسجد الحرام ركعتان، كسائر المساجد؛ لأنه داخل في عمومها، وأما ما ثبت من أنه صلى الله عليه وسلم أول ما بدأ به في حجه الطواف، فلا يتنافى معه؛ لأنه طاف، ثم صلى ركعتين، والنهي إنما جاء عن الجلوس قبل الركعتين.
والحاصل: أن السنة لمن أحرم بأحد النسكين أن يبدأ بالطواف، ومعلوم أن الطواف بعده ركعتان، وأما غيره فإن أراد أن يطوف طاف، وصلى ركعتين، وإلا صلى ركعتين، بدليل حديث الباب، والله تعالى أعلم بالصواب.
12 -
(ومنها): بيان مشروعية إغلاق الكعبة، ويقاس عليها غيرها من المساجد، وقد قيل في قوله تعالى:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36]: إن المراد إغلاقها في غير وقت الصلاة.
وبوّب الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" على هذا الحديث: "باب الأبواب، والغَلَق للكعبة والمساجد".
وقال ابن بطال رحمه الله: اتخاذ الأبواب للمساجد واجب؛ لِتُصان عن مكان الرِّيَبِ، وتنزّه عما لا يصلح فيها في غير الطاعات، قاله وليّ الدين: رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ويدلّ له حديث عائشة رضي الله عنهما، قالت:"أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن تُنَظَّف، وتُطَيَّب"، وهو حديث صحيح رواه أصحاب السنن إلا النسائيّ، وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه، قال:"أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتخذ المساجد في ديارنا، وأمرنا أن ننظفها". رواه أحمد بإسناد صحيح، والترمذي، وصححه، والمراد بالدار: المحلة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في هذا الحديث استحباب دخول الكعبة، اقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا متَّفقٌ عليه، وقد ورد الترغيب فيه في حديث رواه البيهقيّ، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دخل البيت دخل في حسنة، وخرج من سيئة مغفورًا له"، قال البيهقيّ: تفرد به عبد الله بن المؤمل، وهو ضعيف.
وقال المحب الطبريّ: هو حديث حسنٌ غريبٌ.
قال الجامع عفا الله عنه: كيف يكون حسنًا، وقد تفرّد عبد الله بن المؤمّل، وهو ضعيف؟ والحقّ أنه ضعيف، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
ومحلّ استحبابه إذا لم يؤذ بدخوله أحدًا لزحمة ونحوها، قال
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب"133.
الشافعيّ رحمه الله: وأستحب دخول البيت إن كان لا يؤذي أحدًا بدخوله، ورَوَى أبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من عندي، وهو قرير العين، طيِّب النفس، فرجع إليّ، وهو حزين، فقلت له، فقال:"إني دخلت الكعبة، ووددت أني لم أكن فعلت، إني أخاف أن أكون أتعبت أمتي من بعدي"، لفظ الترمذيّ، وقال: حسن صحيح، ورواه الحاكم في "مستدركه"، وصححه، ولعلّ معناه: إتعابهم بتجشم المشقة في الدخول، مع تعسّر ذلك.
قال الجامع عفا الله عنه: قول الترمذيّ: "حسن صحيح"، وكذا تصحيح الحاكم فيه نظر، بل هو ضعيف؛ لأن في سنده إسماعيل بن عبد الملك، قال عنه أحمد: منكر الحديث.
وفي "مصنف ابن أبي شيبة" عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يا أيها الناس إن دخولكم البيت ليس من حجكم في شيء، وعن إبراهيم النخعيّ في الحاج: إن شاء دخل الكعبة، وإن شاء لم يدخلها، وعن خيثمة: لا يضرك والله أن لا تدخله، وعن عطاء: إن شئت فلا تدخله، قال وليّ الدين رحمه الله: وما ذكره هؤلاء لا ينافي استحباب دخوله، وإنما ذكروا ذلك؛ لئلا يتوهم وجوبه أيضًا، فإنه ليس من جملة المناسك، بل هو مستحبّ مستقل، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": وحَكَى القرطبيّ عن بعض العلماء أن دخول البيت من مناسك الحج.
وردّه بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما دخله عام الفتح، ولم يكن محرمًا.
قال: وأما ما رواه أبو داود، والترمذي، وصححه هو، وابن خزيمة، والحاكم عن عائشة رضي الله عنها: أنه خرج من عندها وهو قرير العين، ثم رجع وهو كئيب، فقال:"دخلت الكعبة، فأخاف أن أكون شققت على أمتي"، فقد يُتَمَسّك به لصاحب هذا القول المحكيّ؛ لكن عائشة لم تكن معه في الفتح، ولا في عمرته، بل ثبت أنه لم يدخل في الكعبة في عمرته، فتعيّن أن القصة كانت في حجته، وهو المطلوب، وبذلك جزم البيهقيّ، وإنما لم يدخل في
(1)
"طرح التثريب" 5/ 130 - 131.
الكعبة في عمرته؛ لِما كان في البيت من الأصنام، والصور، وكان إذ ذاك لا يتمكن من إزالتها، بخلاف عام الفتح. ويَحْتَمِل أن يكون صلى الله عليه وسلم قال ذلك لعائشة رضي الله عنها بعد رجوعه، فليس في السياق ما يمنع ذلك، ونُقل عن جماعة من العلماء أنه لم يدخل الكعبة في حجته، أفاده في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الذي ذكره الحافظ بأنه قال لها ذلك في المدينة، وأنه ليس في السياق ما يمنعه، عندي بعيد، بل السياق يأباه، إلا بتكلف، فإن قوله:"خرج من عندها، وهو قرير العين، ثم رجع وهو كئيب" ظاهر في كون ذلك في مكة، والقول بأنه لم يدخل في حجته البيت لا دليل عليه، فالظاهر ما جزم به البيهقيّ، من أنه دخل في حجته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في حكم الصلاة في الكعبة: قال الحافظ وليّ الدين العراقيّ رحمه الله ما حاصله: في هذا الحديث جواز الصلاة في الكعبة، وهذه الصلاة، وإن كانت نافلة، فالفريضة في معناها؛ لأن الأصل استواء الفرض والنفل في الأركان والشرائط، إلا ما استثني بدليل.
وبهذا قال الشافعيّ، والثوريّ، وأبو حنيفة، وأحمد، والجمهور، كما حكاه النوويّ.
وقال الترمذيّ: والعمل عليه عند أكثر أهل العلم لا يرون بالصلاة في الكعبة باسًا، وقال مالك بن أنس: لا بأس بالصلاة النافلة في الكعبة، وكَرِه أن تصلى المكتوبة في الكعبة، وقال الشافعيّ: لا بأس أن تصلى المكتوبة، والتطوع في الكعبة؛ لأن حكم المكتوبة والنافلة في الطهارة والقبلة سواء. انتهى.
وقال بجواز الصلاة مطلقًا في الكعبة من المالكية: أشهب، وصححه منهم ابن العربيّ، وابن عبد البرّ، والمشهور من مذهب مالك جواز صلاة النافلة فيها، والمنع من الفرض، والسنن؛ كالوتر، وركعتي الفجر، وركعتي الطواف.
وقَيّد ابن بطال عنه ذلك بالطواف الواجب، وإطلاق الترمذيّ عن مالك
(1)
"الفتح" 4/ 526.
تجويز النافلة تبعه عليه ابن العربيّ، فَيَحْتَمِل أنه مقيَّد بما حكيته، ويَحْتَمِل أن الرواية عن مالك في ذلك مختلفة.
وقد حُكي عن عطاء بن أبي رباح تجويز النفل فيها، دون الفرض، فإن كان يقول به على إطلاقه، فهو (مذهب ثالث) في المسألة.
وفيها (مذهب رابع)، وهو منع الصلاة فيها مطلقًا، حكاه القاضي عياض، عن ابن عباس، وهو أحد القولين عن مالك، كما حكاه ابن العربي، وقال به من أصحابه: أصبغ، وحكاه ابن بطال عن محمد بن جرير الطبريّ، وبه قال بعض الظاهرية.
وتمسك هؤلاء بأن الله أمر باستقباله، والمصلي فيه مستدبر لبعضه.
ورَوَى الأزرقيّ أن ابن عباس قال لسماك الحنفيّ: ائتم به كله، ولا تجعلن شيئًا منه خلفك، قال ابن عبد البرّ: لا يصح في هذه المسألة إلا أحد قولين: إما الصحة مطلقًا، أو الفساد مطلقًا، والصواب عندي قول الصحة مطلقًا، ثم بسط ذلك.
وفيه (مذهب خامس): وهو أن التفريق بين الفرض والنفل إنما هو في الاستحباب، فلو صلى الفرض فيها صح، وارتكب خلاف الأولى.
و (مذهب سادس): وهو التفريق في الفرض بين التعمد والنسيان، فيصح مع النسيان دون التعمد.
وتردد الشيخ تقيّ الدين ابن دقيق العيد في "شرح العمدة" عن مالك، فقال: كره الفرض، أو منعه، وعلل تجويز النفل بأنه مظنة التخفيف في الشروط. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله ببعض اختصار
(1)
.
وقال الإمام أبو عمر بن عبد البرّ: رحمه الله: اختلف الفقهاء في الصلاة في الكعبة الفريضة والنافلة، فقال مالك: لا يُصَلَّى فيها الفرضُ، ولا الوترُ، ولا ركعتا الفجر، ولا ركعتا الطواف، ويصلَّى فيها التطوع، وذكر ابن خواز منداد عن مالك وأصحابه، فيمن صلى في الكعبة الفريضة، أو صلى على ظهرها: أعاد ما دام في الوقت في المسألتين جميعًا، وقال الشافعيّ، وأبو حنيفة،
(1)
"طرح التثريب" 5/ 138.
والثوريّ: يصلي في الكعبة الفرض والنوافل كلها، وقال الشافعيّ: إن صلى في جوفها مستقبلًا حائطًا من حيطانها فصلاته جائزة، وإن صلى نحو الباب، والباب مفتوح فصلاته باطلة؛ لأنه لم يستقبل منها شيئًا.
وقال مالك: من صلى على ظهر الكعبة مكتوبةً أعاد في الوقت، وقد رُوي عن بعض أصحاب مالك: يُعيد أبدًا، وقال أبو حنيفة: من صلى على ظهر الكعبة فلا شيء عليه، واختَلَف أهل الظاهر فيمن صلى في الكعبة، فقال بعضهم: صلاته جائزة، وقال بعضهم: لا صلاة له في نافلة ولا فريضة؛ لأنه قد استدبر بعض الكعبة، واحتج قائل هذه المقالة بقول ابن عباس رضي الله عنهما: أُمر الناس أن يصلّوا إلى الكعبة، ولم يؤمروا أن يصلّوا فيها.
قال أبو عمر: لا يصحٍ في هذه المسألة إلا أحد قولين: إما أن يكون من صلى في الكعبة صلاته تامة، فريضة كانت أو نافلة؛ لأنه قد استقبل بعضها، وليس عليه إلا ذلك، أو تكون صلاته فاسدةً، فريضةً كانت أو نافلةً من أجل أنه لم يحصل له استقبال بعضها، إذا صلى داخلها إلا باستدبار بعضها، ولا يجوز ذلك عند من ذهب إلى أن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده في كل باب، والصواب من القول في هذا الباب عندي قول من أجاز الصلاة كلها في الكعبة، إذا استقبل شيئًا منها؛ لأنه قد فَعَلَ ما أُمر به، ولم يأت ما نُهِي عنه؛ لأن استدبارها ههنا ليس بضدّ استقبالها؛ لأنه ثابت معه في بعضها، والضد لا يثبت مع ضده، ومعلوم أن المأمور باستقبال الكعبة لم يؤمر باستقبال جميعها، وإنما توجه الخطاب إليه باستقبال بعضها، والمصلي في جوفها قد استقبل جهة منها، وقطعةً وناحيةً، فهو مستقبل لها بذلك، وقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه صلى فيها ركعتين، وهو المبيّن عن الله مراده، وكل موضع يجوز فيه صلاة النافلة جازت فيه صلاة الفريضة قياسًا ونظرًا؛ إلا أن يمنع من ذلك ما يجب التسليم له، على أنه لا يجب لأحد أن يتعمد صلاة الفريضة فيها، ولو صلى فيها ركعتين نافلة لم يكن بذلك بأس، فإن صلى أحد فيها فريضة فلا حرج، ولا إعادة.
[فإن قيل]: إن النافلة قد تجوز على الدابة للمسافر إلى غير القبلة، ولا تجوز كذلك الفريضة، فلم قيست النافلة على الفريضة؟
[قيل له]: ذلك موضع خصوص بالسنّة؛ لضرورة السفر، كما تجوز صلاة الفريضة للخائف المطلوب راكبًا، مستقبل القبلة، وغير مستقبلها؛ لضرورة الخوف، وليس ذلك بمبيح له الصلاة المفروضة على الدابة في حال الأمن من غير ضرورة، ولا بمبيح ذلك له ترك استقبال القبلة من غير ضرورة، وكذلك الصلاة على الدابة للمتطوع المسافر ليس ذلك بمبيح له الصلاة النافلة، ولا الفريضة على الأرض إلى غير القبلة في الحضر؛ لأنها في السفر حال ضرورة خُصَّت بالسنة، والإجماع، وأما غير ذلك مما تنازع فيه العلماء من هذا الباب، فالواجب أن لا يُفَرَّق فيه بين صلاة النافلة والفريضة، كما أنها لا تفترق في الطهارة، واستقبال القبلة، وقراءة القرآن، والسهو، وسائر الأحكام، وبالله التوفيق. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لقد أجاد الإمام ابن عبد البرّ رحمه الله في هذا البحث، وأعطى المسألة حقّها بما لا مجال للتعليق عليه.
والحاصل أن ما صححه رحمه الله من تصحيح الصلاة في الكعبة مطلقًا، كما هو رأي الجمهور هو الصواب الذي لا محيد عنه؛ لقوّة حجته، وأما الأقوال الأخرى فمما لا دليل عليها، فلا ينبغي الالتفات إليها، ولا الاشتغال بها، فتبصر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): في اختلاف الروايات في إثبات صلاته صلى الله عليه وسلم في الكعبة:
(اعلم) أن هذه الرواية فيها إثبات صلاته صلى الله عليه وسلم فيها.
وفي "الصحيحين" عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل البيت، فكبّر في نواحيه، ولم يصلّ فيه"، ولفظ مسلم:"ودعا، ولم يصلّ".
وإنما تلقى ابن عباس ذلك عن أسامة بن زيد، ففي "صحيح مسلم" عنه: أخبرني أسامة بن زيد: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها، ولم يصلّ فيه حتى خرج، فلما خرج ركع في قبل البيت ركعتين، وقال: هذه القبلة".
(1)
"التمهيد" 15/ 318 - 321.
والعمل على الإثبات، فإنه مقدم على النفي، قال ابن بطال: الآثار أنه صلى أكثر، ولو تساوت في الكثرة، لكان الأخذ بالمثبت أولى من النافي، فقد رَوَى أنه صلى الله عليه وسلم صلى في البيت غيرَ بلال جماعةٌ، منهم: أسامة بن زيد، وعمر بن الخطاب، وجابر، وشيبة بن عثمان، وعثمان بن طلحة، من طُرُق حِسَان، ذكرها الطحاوي كلها في "شرح معاني الآثار".
وقال ابن عبد البرّ: رواية أنه صلى أولى من رواية أنه لم يصلّ؛ لأنها زيادة مقبولة، وليس قول من قال: لم يفعل بشهادة.
وقال النوويّ: أجمع أهل الحديث على الأخذ برواية بلال؛ لأنه مثبت، فمعه زيادة عِلم، فوجب ترجيحه، وكذا حَكَى ابن العربي عن العلماء، ثم قال: وهذا إنما يكون لو كان الخبر عن اثنين، فأما وقد اختلف قول ابن عمر، فأثبت مرة، ونفى أخرى، وقول النفي رواية ابن عباس، فلا أدري ما هذا؟ انتهى.
قال وليّ الدين رحمه الله: وفيه نظر من وجهين:
[أحدهما]: أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون الخبر عن واحد، أو اثنين، فالإثبات مقدم، ولو كان الاختلاف على واحد.
[الثاني]: أن ذِكر ابن عمر سهو، فإنه لم يرد عنه النفي، ولعله أراد أسامة، فسبق قلمه إلى ابن عمر.
فأما نفي أسامة، فقد سبق، وأما إثباته، فروى الإمام أحمد في "مسنده" عن أبي الشعثاء، قال: خرجت حاجًّا، فجئت حتى دخلت البيت، فلما كنت بين الساريتين مضيت حتى لزمت الحائط، فجاء ابن عمر، فصلى أربعًا، فلما صلى، قلت له: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيت؟ فقال: أخبرني أسامة بن زيد أنه صلى ههنا، فقلت: كم صلى؟ فقال: على هذا أجدني ألوم نفسي، إني مكثت معه عمرًا، فلم أساله، كم صلى؟ ".
ويوافق هذه الرواية لفظ رواية مسلم من رواية عبد الله بن عون، عن نافع، عن ابن عمر، فإن فيها بعد ذكر أسامة، وبلال، وعثمان:"فقلت: أين صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: ههنا، قال: ونسيت أن أسألهم، كم صلى؟ " ومقتضاها
نسبة ذلك إلى جميعهم، والمشهور عن أسامة النفي، كما تقدم
(1)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله: إن أهل الحديث وهّنوا هذه الرواية، فقال الدارقطنيّ: وَهِمَ ابن عون هنا، وخالفه غيره، فأسندوه عن بلال وحده.
قال القاضي: وهذا هو الذي ذكره مسلم في باقي الطرق، إلا أن في رواية حرملة، عن ابن وهب:"فأخبرني بلال، أو عثمان بن طلحة". هكذا هو عند عامة شيوخنا، وفي بعض النسخ:"وعثمان"، قال: وهذا يَعْضِد رواية ابن عون، والمشهور انفراد بلال برواية ذلك.
[فإن قلت]: كيف الجمع بين إثبات بلال، ونفي أسامة، مع دخولهما مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في مرة واحدة؟
[قلت]: أجيب عنه بأوجه:
[أحدها]: قال النوويّ: وأما نفي أسامة فسببه أنهم لما دخلوا الكعبة أغلقوا الباب، واشتغلوا بالدعاء، فرأى أسامة النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو، ثم اشتغل أسامة بالدعاء في ناحية من نواحي البيت، والنبيّ صلى الله عليه وسلم في ناحية أخرى، وبلال قريب منه، ثم صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فرآه بلال؛ لقربه، ولم يره أسامة؛ لبُعده واشتغاله، وكانت صلاته خفيفة، فلم يرها أسامة، لإغلاق الباب مع بُعده واشتغاله بالدعاء، وجاز له نفيها عملًا بظنه، وأما بلال فتحققها، فأخبر بها.
[الثاني]: أنه يَحْتَمِل أن يكون أسامة غاب عنه بعد دخوله لحاجة، فلم يشهد صلاته. أجاب به الشيخ محب الدين الطبريّ. انتهى
(2)
.
قال الحافظ: ويشهد له ما رواه أبو داود الطيالسيّ في "مسنده"، عن ابن أبي ذئب، عن عبد الرحمن بن مهران، عن عمير مولى ابن عباس، عن أسامة، قال:"دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة، فرأى صُوَرًا، فدعا بدلو من ماء، فأتيته به، فضرب به الصور"، فهذا إسناد جيّد.
قال القرطبيّ: فلعله استَصْحَب النفي لسرعة عوده. انتهى، وهو مفرعّ على أن هذه القصة وقعت عام الفتح، فإن لم يكن، فقد روى عمر بن شبة في
(1)
سيأتي أن هذه الرواية شاذّة، فلا يُعتمد عليها، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(2)
"طرح التثريب" 5/ 135.
"كتاب مكة"، من طريق علي بن بَذِيمة، وهو تابعيّ، وأبوه- بفتح الموحدة، ثم معجمة، بوزن عظيمة- قال: "دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم الكعبة، ودخل معه بلال، وجلس أسامة على الباب، فلما خرج وجد أسامة، قد احتبى، فأخذ بحبوته، فحلّها
…
" الحديث، فلعله احتبى، فاستراح، فنعس، فلم يشاهد صلاته، فلما سئل عنها نفاها، مستصحبًا للنفي، لقصر زمن احتبائه، وفي كل ذلك إنما نفى رؤيته، لا ما في نفس الأمر. هذا جمع بطريقة الترجيح.
ومنهم من جمع بينهما بغير ترجيح أحدهما على الآخر، وذلك من أوجه:
[أحدها]: حمل الصلاة المثبتة على اللغوية، والمنفية على الشرعية، وهذه طريقة من يكره الصلاة داخل الكعبة، فرضًا ونفلًا، وقد تقدم البحث فيه، ويردّ هذا الحمل ما تقدم في بعض طرقه، من تعيين قدر الصلاة، فظهر أن المراد بها الشرعية، لا مجرد الدعاء.
قال الحافظ أبو عمر رحمه الله في "التمهيد" بعد أن أورد آثارًا، ما نصّه: فهذه آثارٌ تَشْهَد لصحة قول ابن عمر عن بلال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فيها الصلاة المعهودة، لا الدعاء. انتهى
(1)
.
[ثانيها]: قال القرطبيّ: يمكن حمل الإثبات على التطوع، والنفي على الفرض، وهذه طريقة المشهور من مذهب مالك، وقد تقدم البحث فيها.
[ثالثها]: قال المهلّب شارح البخاريّ: يَحْتَمِل أن يكون دخول البيت وقع مرتين، صلى في إحداهما، ولم يصلّ في الأخرى.
وقال ابن حبان: الأشبه عندي في الجمع أن يُجعل الخبران في وقتين، فيقال: لمّا دخل الكعبة في الفتح صلى فيها، على ما رواه ابن عمر، عن بلال، ويجعل نفي ابن عباس الصلاة في الكعبة في حجته التي حج فيها؛ لأن ابن عباس نفاها، وأسنده إلى أسامة، وابنُ عمر أثبتها، وأسند إثباته إلى بلال، وإلى أسامة أيضًا، فإذا حمل الخبر على ما وصفنا بطل التعارض.
قال الحافظ: وهذا جمع حسن، لكن تعقبه النوويّ بأنه لا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم
(1)
"التمهيد لابن عبد البرّ" 15/ 318.
دخل في يوم الفتح، لا في حجة الوداع، ويشهد له ما روى الأزرقي في "كتاب مكة" عن سفيان، عن غير واحد من أهل العلم أنه صلى الله عليه وسلم إنما دخل الكعبة مرة واحدة عام الفتح، ثم حج، فلم يدخلها، وإذا كان الأمر كذلك، فلا يمتنع أن يكون دخلها عام الفتح مرتين، ويكون المراد بالواحدة التي في خبر ابن عيينة: وحدة السفر، لا الدخول، وقد وقع عند الدارقطنيّ من طريق ضعيفة ما يشهد لهذا الجمع، والله تعالى أعلم.
قال: ويؤيد الجمع الأول ما أخرجه عمر بن شبة في "كتاب مكة" من طريق حماد، عن أبي حمزة، عن ابن عباس، قال:"قلت له: كيف أصلي في الكعبة؟ قال: كما تصلي في الجنازة، تسبّح، وتكبّر، ولا تركع، ولا تسجد"، وسنده صحيح. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: أحسن الأجوبة عندي جواب من حمل نفي أسامة على نفي علمه، فلا ينافي إثبات بلال، وأما ابن عباس، فنفيه مستند إلى غيره، فجوابه جواب مستنده، وأما ما نُقِل من إثبات أسامة، فإن صح، فجوابه ما أجاب به ابن حبان، من تعدد الواقعة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثامنة): لم يبيّن في رواية المصنف هنا، ولا في أكثر الروايات عدد ركعات صلاته صلى الله عليه وسلم، بل في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: ونسيت أن أسأله -يعني بلالًا- كم صلى؟ لكن في أوائل الصلاة من "صحيح البخاريّ" عن مسدد، عن يحيى، عن سيف، عن مجاهد، قال:"أُتي ابن عمر رضي الله عنهما، فقيل له: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة، قال ابن عمر: فأقبلت، والنبيّ صلى الله عليه وسلم قد خرج، وأجد بلالًا قائمًا بين البابين، فسألت بلالًا، فقلت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة؟ قال: نعم؛ ركعتين بين الساريتين اللتين على يساره، إذا دخلت، ثم خرج، فصلى في وجه الكعبة ركعتين".
وقد أعادها البخاري في "باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى"، رواها عن أبي نعيم، عن سيف، وليس فيها هذه الزيادة، وهي أن صلاته في الكعبة كانت
(1)
"الفتح" 4/ 529 - 531.
ركعتين، نعم رواها النسائيّ من رواية أبي نعيم، وفيها ذكر الركعتين، وروى النسائي أيضًا عن ابن أبي مليكة أن ابن عمر، قال: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة
…
" الحديث، وفيه: "فسألت بلالًا، هل صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة؟ قال: نعم ركعتين بين الساريتين".
قال وليّ الدين العراقيّ رحمه الله: ولم يستحضر النوويّ رحمه الله في "شرح مسلم" رواية البخاري، فاقتصر على ذكر ما في "سنن أبي داود" بإسناد فيه ضعف، عن عبد الرحمن بن صفوان، قال:"قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: كيف صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل الكعبة؟ قال: صلى ركعتين"، ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" من هذا الوجه، عن صفوان، أو ابن صفوان:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى في البيت ركعتين حين دخله". قال وليّ الدين: ولم أتوقف في رواية البخاري لاستغراب كونه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين، فإن هذا هو المعروف من عادته، إنما توقفت فيها لقول ابن عمر: ونسيت أن أسأله، كم صلى؟ وهو في "الصحيحين"، قال: وقال والدي: يَحْتَمِل أنه لم يسأله عن ذلك، وإنما أخبره به بلال بغير سؤال، وفيه بُعد؛ لأنه لم يكن حينئذ يلوم نفسه على ترك السؤال؛ لحصول مقصوده بدونه، وَيحْتَمِل أن ابن عمر حُدّث به من قبل أن يسأل بلالًا، ثم سال بلالًا بعد ذلك، أو حدّث به بلال بعد ذلك، فذكر فيه أنه صلى ركعتين، وفيه بُعد أيضًا؛ لأن بعض من حدثه عنه بكونه لم يسأل بلالًا عن ذلك إنما سمع منه بعد وفاة بلال.
ويَحْتَمِل أن ابن عمر، وإن سمع من بلال أنه صلى ركعتين، لم يكتف بذلك في أنه لم يصلّ غيرهما؛ لأن من صلى أربعًا أو أكثر يصدق عليه أنه صلى ركعتين على القول بأن مفهوم العدد ليس بحجة، كما هو المرجح في الأصول، فيكون الذي نسي أن يسأله عنه، هل زاد على الركعتين شيئًا، أم لا؟ انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ولا يخفى بُعد الاحتمال الأخير أيضًا، والله تعالى أعلم.
(1)
"طرح التثريب" 5/ 138 - 139.
وقال الحافظ رحمه الله: وقد استَشكَل الإسماعيليّ، وغيره هذا -يعني قوله: صلى ركعتين- مع أن المشهور عن ابن عمر من طريق نافع، وغيره، عنه؛ أنه قال:"ونسيت أن أسأله كم صلى"، فدل على أنه أخبره بالكيفية، وهي تعيين الموقف في الكعبة، ولم يخبره بالكمية، ونسي هو أن يسأله عنها.
والجواب عن ذلك أن يقال: يَحْتَمِل أن ابن عمر اعتمد في قوله في هذه الرواية: "ركعتين" على القدر المتحقق له، وذلك أن بلالًا أثبت له أنه صلى، ولم يُنقل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تنفّل في النهار بأقل من ركعتين، فكانت الركعتان متحققًا وقوعهما، لِما عُرف بالاستقراء من عادته.
فعلى هذا، فقوله:"ركعتين" من كلام ابن عمر، لا من كلام بلال، وقد وجدت ما يؤيد هذا، ويستفاد منه جمع آخر بين الحديثين، وهو ما أخرجه عمر بن شبة في "كتاب مكة" من طريق عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر، في هذا الحديث:"فاستقبلني بلال، فقلت: ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ههنا؟ فأشار بيده؛ أي: صلى ركعتين بالسبابة والوسطى".
فعلى هذا، فيُحْمَل قوله:"نسيت أن أسأله كم صلى" على أنه لم يسأله لفظًا، ولم يجبه لفظًا، وإنما استفاد منه صلاة الركعتين بإشارته، لا بنطقه، وأما قوله في الرواية الأخرى:"نسيت أن أسأله كم صلى"، فيُحْمَل على أن مراده أنه لم يتحقق هل زاد على ركعتين، أو لا؟ وأما قول بعض المتأخرين: يُجمع بين الحديثين بأن ابن عمر نسي أن يسأل بلالًا، ثم لقيه مرة أخرى، فسأله، ففيه نظر، من وجهين:
أحدهما: أن الذي يظهر أن القصة- وهي سؤال ابن عمر عن صلاته في الكعبة- لم تتعدد؛ لأنه أتى في السؤال بالفاء المعقبة في الروايتين معًا، فقال في هذه: فأقبلت، ثم قال: فسألت بلالًا، وقال في الأخرى: فبدرت، فسألت بلالًا، فدل على أن السؤال عن ذلك كان واحدًا في وقت واحد.
ثمانيهما: أن راوي قول ابن عمر: "ونسيت" هو نافع مولاه، ويبعد مع طول ملازمته له إلى وقت موته أن يستمر على حكاية النسيان، ولا يتعرض لحكاية الذكر أصلًا. والله تعالى أعلم.
وأما ما نقله عياض أن قوله: "ركعتين" غلط من يحيى بن سعيد القطان،
لأن ابن عمر قد قال: "نسيت أن أسأله كم صلى" قال: وإنما دخل الوهم عليه من ذكر الركعتين بعد، فهو كلام مردود، والمغلِّط هو الغالط، فإنه ذكر الركعتين قبل، وبعد، فلم يَهِم من موضع إلى موضع، ولم ينفرد يحيى بن سعيد بذلك حتى يغلط، فقد تابعه أبو نعيم، عند البخاريّ، والنسائي، وأبو عاصم عند ابن خزيمة، وعمر بن علي عند الإسماعيليّ، وعبد الله بن نمير عند أحمد، كلهم عن سيف، ولم ينفرد به سيف أيضًا، فقد تابعه عليه خُصيف، عن مجاهد، عند أحمد، ولم ينفرد به مجاهد عن ابن عمر، فقد تابعه عليه ابن أبي مليكة عند أحمد، والنسائي، وعمرو بن دينار، عند أحمد أيضًا باختصار، ومن حديث عثمان بن أبي طلحة، عند أحمد، والطبراني بإسناد قويّ، ومن حديث أبي هريرة عند البزار، ومن حديث عبد الرحمن بن صفوان، قال:"فلما خرج سألت من كان معه؟ فقالوا: صلى ركعتين عند السارية الوسطى"، أخرجه الطبراني بإسناد صحيح، ومن حديث شيبة بن عثمان، قال:"لقد صلى ركعتين عند العمودين"، أخرجه الطبراني باسناد جيد.
فالعجب من الإقدام على تغليط جبل من جبال الحفظ بقول من خفي عليه وجه الجمع بين الحديثين، فقال بغير علم، ولو سكت لسلِم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي ذكره الحافظ في وجه الجمع بين الحديثين أقرب مما تقدم، وحاصله أن ابن عمر رضي الله عنهما فَهِم من إشارة بلال رضي الله عنه أنه صلى ركعتين، ثم ندم على عدم تثبته بالسؤال اللفظي عن عدد الركعات، فبهذا تجتمع الروايتان، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3232]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الزهْرَانِيُّ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، كلُّهُمْ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زيدٍ، قَالَ أَبُو كَامِلٍ: حَدَّثَنَا حَمَّاد، حَدَّثَنَا
(1)
"الفتح" 4/ 530 - 531.
أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ، فَنَزَلَ بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ، وَأَرْسَلَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ، فَجَاءَ
(1)
بِالْمِفْتَحِ، فَفَتَحَ الْبَابَ، قَالَ: ثُمَّ دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَبِلَالٌ، وَأُسَامَةُ بْنُ زيدٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، وَأَمَرَ بِالْبَابِ، فَأُغْلِقَ، فَلَبِثُوا فِيهِ مَلِيًّا، ثُمَّ فَتَحَ الْبَابَ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: فَبَادَرْتُ النَّاسَ، فَتَلَقَّيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَارِجًا، وَبِلَالٌ عَلَى إِثْرِهِ، فَقُلْتُ لِبِلَالٍ: هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: أَيْنَ؟ قَالَ: بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ، تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، قَالَ: وَنَسِيتُ أَنْ أَسْأَلهُ كَمْ صَلَّى؟).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ) سليمان بن داود الْعَتكيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.
2 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع)"تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
3 -
(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فضيل بن حسين البصريّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 237)(خت م د ت س)"تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
4 -
(حَمَّادُ بْنُ زيدٍ) الْجَهضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه، من كبار [8](ت 179)(ع)"تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
5 -
(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السختيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ حجةٌ عابدٌ [5](ت 131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ) قال النوويّ رحمه الله: هذا دليل على أن هذا المذكور في أحاديث الباب من دخوله صلى الله عليه وسلم الكعبة، وصلاته فيها كان يوم الفتح، وهذا لا خلاف فيه، ولم يكن يوم حجة الوداع، والله أعلم. انتهى.
وقال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: دخوله صلى الله عليه وسلم الكعبة كان في الفتح، كما هو
(1)
وفي نسخة: "فجاءه".
في "الصحيحين" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، ولم يدخل الكعبة في عمرته كما في "الصحيحين" عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما، ولم ينقل فيما أعلم دخوله في حجه، ولعل تركه الدخول في عمرته وحجته؛ لئلا يتوهم كونه من المناسك، وليس منها، وإنما هو سنّة مستقلة كما قدمته، وقال البيهقيّ: دخوله كان في حجته، وحديث ابن أبي أوفى في عمرته، فلا معارضة بينهما، وما ذكره من أن دخوله في حجته مردود، وإنما كان في الفتح كما قدمته.
وقال النوويّ في "شرح مسلم": لا خلاف في أن دخوله كان يوم الفتح، ولم يكن في حجة الوداع، ثم قال بعد ذلك: قال العلماء: وسبب عدم دخوله -أي: في عمرته- ما كان في البيت من الأصنام والصُّوَر، ولم يكن المشركون يتركونه ليغيّرها، فلما فتح الله تعالى عليه مكة دخل البيت، وصلى فيه، وأزال الصور قبل دخوله.
قال وليّ الدين رحمه الله: لو كان المعنى ما ذكره لدخل في حجة الوداع، فلعل المعنى الذي أبْديته أوجَه، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال أبو الوليد الأزرقيّ في "تاريخ مكة": حدّثني جدّي، قال: سمعت سفيان يقول: سمعت غير واحد من أهل العلم يذكرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما دخل الكعبة مرة واحدة عام الفتح، ثم حجّ فلم يدخلها.
قال الحافظ العراقيّ رحمه الله في "إحياء القلب الميت بدخول البيت": وإنما أريدَ بذلك بعد الهجرة، فأما قبل الهجرة، وهو بمكة، ففي "طبقات ابن سعد" عن عثمان بن طلحة في أثناء قصة أنه صلى الله عليه وسلم دخلها، على أن في بعض الروايات أنه دخلها يوم الفتح مرتين، رواه الدارقطنيّ عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم البيت، ثم خرج، وبلال خلفه، فقلت لبلال: هل صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، فلما كان من الغد دخل، فسألت بلالًا هل صلى؟ قال: نعم، قال: وقد ورد أيضًا ما يدلّ على أنه دخلها في حجة الوداع، فذكر حديث عائشة رضي الله عنها المتقدّم، وفيه:"أني دخلت الكعبة"، وكأن وجه ذلك أن عائشة رضي الله عنها إنما كانت معه في حجة الوداع. انتهى.
(1)
"طرح التثريب" 5/ 131 - 132.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم لك أن حديث عائشة رضي الله عنها ضعيف، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقوله: (بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ) بكسر الفاء، مثلُ كتاب: الْوَصِيدُ، وهو سعةٌ أمام البيت، وقيل: ما امتَدّ من جوانبه
(1)
.
وقوله: (فَجَاءَ
(2)
بِالْمِفْتَحِ) وفي نسخة: "فجاءه بالمِفْتَح"، وهو بكسر الميم، وسكون الفاء، وفي الرواية الأخرى:"بالمفتاح"، وهما لغتان، قال الفيّوميّ رحمه الله: الْمِفْتاح: الذي يُفتح به الْمِغلاق، والْمِفْتَح مثله، وكأنه مقصور منه، وجمع الأول: مَفاتيح، وجمع الثاني: مفاتح، بغير ياء. انتهى
(3)
.
وقوله: (فَلَبِثُوا فِيهِ مَلِيًّا) بفتح الميم، وكسر اللام، وتشديد الياء؛ أي: طويلًا، قال في "القاموس": والْمَليّ: الْهَوِيّ من الدهر، والساعة الطويلة من النهار. انتهى
(4)
.
وقوله: (عَلَى إِثْرِهِ) بكسر الهمزة، وسكون المثلّثة، لغة في أَثَره بفتحتين، قال الفيّوميّ رحمه الله: وجئتُ في أَثَرِهِ بفتحتين، وإِثْرِهِ بكسر الهمزة، والسكون؛ أي: تبِعته عن قرب. انتهى
(5)
.
وقوله: (وَنَسِيتُ أَنْ أَسْأَلهُ كَمْ صَلَّى؟) هذا يتعارض مع ما وقع في "صحيح البخاريّ" في أوائل "الصلاة" قال: حدّثنا مسدد، حدّثنا يحيى، عن سيف، قال: سمعت مجاهدًا، قال:"أُتِي ابنُ عمر رضي الله عنهما، فقيل له: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة، قال ابن عمر: فأقبلت والنبيّ صلى الله عليه وسلم قد خرج، وأجد بلالًا قائمًا بين البابين، فسألت بلالًا، فقلت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة؟ قال: نعم ركعتين بين الساريتين اللتين على يساره إذا دخلت، ثم خرج، فصلى في وجه الكعبة ركعتين".
(1)
"المصباح المنير" 2/ 482.
(2)
وفي نسخة: "فجاءه".
(3)
"المصباح المنير" 2/ 461.
(4)
"القاموس المحيط" 4/ 391.
(5)
"المصباح المنير" 1/ 4.
وقد تقدّم الجمع بين الروايتين في المسألة الثامنة من مسائل الحديث الماضي، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3233]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ، عَلَى نَاقَةٍ لِأُسَامَةَ بْنِ زيدٍ، حَتَّى أَنَاخَ بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ دَعَا عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ، فَقَالَ:"ائْتِنِي بِالْمِفْتَاحِ"، فَذَهَبَ اِلَى أُمِّهِ، فَأَبتْ أَنْ تُعْطِيَهُ، فَقَالَ: وَاللهِ لَتُعْطِينَهُ
(1)
، أَوْ لَيَخْرُجَنَّ هَذَا السَّيْفُ مِنْ صُلْبِيِ، قَالَ: فَأَعْطَتْهُ إِيَّاهُ، فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ، فَفَتَحَ الْبَابَ، ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زيدٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، ثم المكيّ، ثقةٌ [10](ت 243)(م ت س ق)"تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
2 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ، الإمام الحجة الثقة الحافظ الثبت الفقيه، من كبار [8](ت 198) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383. والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (فَذَهَبَ إِلَى أُمِّهِ) تقدّم أن اسمها سُلافةُ- بضمّ السين المهملة، وتخفيف اللام، وبالفاء.
وقوله: (وَاللهِ لَتُعْطِينَهُ) اللام هي لام القسم، والفعل مرفوع بثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة التي تُرفع بثبوت النون، وتُجزم وتنصب بحذفها، والهاء هو المفعول الثاني، والأول مقدّر؛ أي: لتُعطينه إياي، وفي بعض النسخ:"لتُعطنّه" بنون التوكيد المشدّدة.
(1)
وفي نسخة: "لتُعْطِنَّهُ".
وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زيدٍ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير سفيان بن عيينة.
[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة، عن أيوب هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" (6/ 15) فقال:
(23968)
- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا سفيان، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، وهو على ناقة لأسامة بن زيد، فأناخ -يعني بالكعبة- ثم دعا عثمان بن طلحة بالمفتاح، فذهب يأتيه به، فأبت أمه أن تعطيه، فقال: لتعطينه، أو يخرج بالسيف من صلبي، فدفعته إليه، ففتح الباب فدخل، ومعه بلال، وعثمان، وأسامة، فأجافوا الباب عليهم مَلِيًّا، قال ابن عمر: وكنت رجلًا شابًّا قويًّا، فبادرت الناس، فبدرتهم، فوجدت بلالًا قائمًا على الباب، فقلت: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: بين العمودين المقدَّمين، ونسيت أن أسأله كم صلى؟ انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3234]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثنَا يَحْيَى، وَهُوَ الْقَطَّانُ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْنُ أَبي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثنَا عَبْدَةُ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْبَيْتَ، وَمَعَهُ أُسَامَةُ، وَبِلَالٌ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، فَأَجَافُوا عَلَيْهِم الْبَابَ طَوِيلًا، ثُمَّ فُتِحَ، فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ، فَلَقِيتُ بِلَالًا، فَقُلْتُ: أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْمُقَدَّمَيْنِ، فَنَسِيتُ أَنْ أَسْألهُ كَمْ صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق)"تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(يَحْيَى) بن سعيد الْقَطَّانُ، أبو سعيد البصريّ، الإمام الحجة الثبت الناقد، من كبار [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.
3 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الواسطيّ، ثم الكوفيّ، ثقةٌ حافظ، له تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق)"تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
4 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبت، من كبار [9](ت 201)(ع)"تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
5 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) محمد بن عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظ فاضلٌ [10](ت 234)(ع)"تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
6 -
(عَبْدَةُ) بن سليمان الكلابيّ الكوفىّ، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [8](ت 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 339.
7 -
(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب العُمريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [5] مات سنة بضع و (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (فَأَجَافُوا عَلَيْهِم الْبَابَ) أي: أغلقوا، يقال: أجفتُ الباب: إذا رددتَهُ، قال الشاعر [من الطويل]:
فَجِئْنَا مِنَ الْبَاب الْمُجَافِ تَوَاتُرًا
…
وَإِنْ تَقْعُدَا بِالْخَلْفِ فَالْخَلْفُ وَاسِعُ
(1)
(بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْمُقَدَّمَيْنِ) وفي الرواية الآتية: "صلى بين العمودين اليمانيين"، و"الْعَمُود" -بفتح العين، وضمّ الميم-: الخشبة التي يقوم عليها البيت، جمعه: أَعْمِدَةٌ، وعُمُدٌ -بضمتين-، وعَمَدٌ- بفتحتين-، ويقال له: العماد أيضًا، قاله في "اللسان"، و"المصباح".
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3235]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ، حَدَّثنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أنَّهُ انْتَهَى إِلَى
(1)
"لسان العرب" 9/ 35.
الْكَعْبَةِ، وَقَدْ دَخَلَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَبِلَالٌ، وَأُسَامَةُ، وَأَجَافَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ الْبَابَ، قَالَ: فَمَكَثُوا فِيهِ مَلِيًّا، ثُمَّ فُتِحَ الْبَابُ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَرَقِيتُ الدَّرَجَةَ، فَدَخَلْتُ الْبَيْتَ، فَقُلْتُ: أَيْنَ صَلَّى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالُوا: هَا هُنَا، قَالَ: وَنَسِيتُ أَنْ أَسْأَلهُمْ كَمْ صَلَّى؟).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ) بن المبارك الساميّ الباهليّ البصريّ، صدوقٌ [10](ت 244)(م 4) تقدم في "الجمعة" 6/ 1972.
2 -
(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) بن عُبيد بن سُليم الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.
3 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَوْنِ) بن أرطبان، أبو عون البصري، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عابدٌ [5](ت 150)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 303.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (وَرَقِيتُ الدَّرَجَةَ) بكسر القاف، يقال: رَقِيتُ في السلّم وغيره أَرْقَى، من باب تَعِب رُقِيًّا على فُعُولٍ، ورَقَيًا، مثل فَلْس أيضًا، وارتقيتُ، وترقّيتُ مثله، ورَقِيتُ السطحَ والجبلَ: علَوْتُهُ، يتعدّى بنفسه، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
وقوله: (قَالُوا: هَا هُنَا، قَالَ: وَنَسِيتُ أَنْ أَسْأَلهُمْ كَمْ صَلَّى؟) قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقعت هذه الرواية هنا، وظاهره أن ابن عمر سأل بلالًا وأسامة، وعثمان جميعهم، قال القاضي عياض: ولكن أهل الحديث وَهَّنُوا هذه الرواية، فقال الدارقطنيّ: وَهِمَ ابن عون هنا، وخالفه غيره، فأسندوه عن بلال وحده، قال القاضي: وهذا هو الذي ذكره مسلم في باقي الطرق: "فسألت بلالًا، فقال"، إلا أنه وقع في رواية حرملة، عن ابن وهب:"فأخبرني بلال، وعثمان بن طلحة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في جوف الكعبة". هكذا هو عند عامة شيوخنا، وفي بعض النسخ: وعثمان بن أبي طلحة، قال: وهذا يعضد
(1)
"المصباح المنير" 1/ 236.
رواية ابن عون، والمشهور انفراد بلال برواية ذلك، والله أعلم. انتهى
(1)
.
ونصّ الدارقطنيّ رحمه الله: وأخرج مسلم عن حُميد بن مسعدة، عن خالد، عن ابن عون، عن نافع، عن ابن عمر، عن أسامة وبلال، وعثمان: فسألتهم، وهذا وَهِمَ فيه ابن عون، خالفه أيوب، وعبيد الله، ومالك، وغيرهم، فأسنده، عن بلال وحده. انتهى كلام الدارقطنيّ رحمه الله
(2)
.
وقد ذكر الدارقطنيّ رحمه الله ممن خالف ابن عون في هذا: أيوب السختيانيّ، وعبيد الله بن عمر، ومالك بن أنس، وكلهم عند مسلم، وأشار بقوله:"وغيرهم" إلى أن هناك من خالفه أيضًا، فمنهم: فُليح بن سليمان، عند البخاريّ في "المغازي"
(3)
، ويونس بن يزيد الأيليّ عند البخاريّ في "المغازي" أيضًا
(4)
، كلّ هؤلاء عن نافع، فكلهم خالف ابن عون، فذكر سؤال بلال فقط.
فتبيّن بهذا أن ما ذهب إليه الدارقطنيّ من توهيم ابن عون في قوله: "فسألتهم" هو الظاهر.
والحاصل أن المحفوظ سؤال ابن عمر بلالًا، فتكون رواية ابن عون بلفظ:"فقالوا: ""فسألتهم" شاذّة، فتأمّل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3236]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ؛ أنَّهُ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْبَيْتَ هُوَ، وَأُسَامَةُ بْنُ زيدٍ، وَبِلَالٌ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا فَتَحُوا كنْتُ فِي أَوَّلِ مَنْ وَلَجَ، فَلَقِيتُ بِلَالًا، فَسَأَلْتُهُ، هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ صَلَّى بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ).
(1)
"شرح النووي" 9/ 86.
(2)
راجع: "بين الإمامين: مسلم، والدارقطنيّ" للشيخ ربيع المدخليّ ص 242 - 247.
(3)
"صحيح البخاري""كتاب المغازي" رقم (4289).
(4)
"صحيح البخاري""كتاب المغازي" رقم (4400).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(ابْنُ رُمْح) هو: محمد بن رُمْحٍ بن مهاجر التُّجِيبيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.
2 -
(اللَّيْثُ) بن سعد بن عبد الرحمن الفهميّ مولاهم، أبو الحارث المصريّ، ثقة ثبتٌ إمام فقيه حجة [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.
3 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، أبو بكر المدنيّ الإمام الحجة الفقيه المشهور، من كبار [4](ت 125) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.
4 -
(سَالِمُ) بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب العدويّ، أبو عمر، أو أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه فاضلٌ مشهور [3](ت 106)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 162.
والباقيان ذُكرا في الباب.
وقوله: (وَلَجَ) بفتح الواو واللام، يقال: وَلَجَ الشيء في غيره يَلِجُ، من باب وَعَد وُلُوجًا، وأولجته إيلاجًا: أدخلته
(1)
.
وقوله: (بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ) تثنية يمان، نسبة إلى اليمن البلد المعروف، على غير قياس؛ إذ القياس: يَمَنِيٌّ، وفي ياء يَمَانٍ مذهبان:
[أحدهما]: وهو الأشهر تخفيفها، واقتصر عليه كثيرون، وبعضهم يُنكر التثقيل، ووجهه أن الألف دخلت قبل الياء؛ لتكون عوضًا عن التثقيل، فلا يُثَقَّل؛ لئلا يجمع بين العِوَض، والْمُعَوَّض عنه.
[والثاني]: التثقيل؛ لأن الألف زيدت بعد النسبة، فيبقى التثقيل الدالّ على النسبة تنبيهًا على جواز حذفها، قاله الفيّوميّ رحمه الله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 671.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3237]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبِ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ، قًالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْكَعْبَةَ، هُوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زيدٍ، وَبِلَالٌ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، وَلَمْ يَدْخُلْهَا مَعَهُمْ أَحَدٌ، ثُمَّ أُغْلِقَتْ عَلَيْهِمْ. قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: فَأَخْبَرَنِي بِلَالٌ، أَوْ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق)"تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
2 -
(ابْنُ وَهْب) هو: عبد الله القرشيّ مولاهم، أبو محمد الصريّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ عابدٌ [9](ت 197)(ع)"تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع)"تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (وَلَمْ يَدْخُلْهَا مَعَهُمْ أَحَدٌ) هذه الرواية تردّ على رواية النسائيّ المتقدّمة بأن الفضل بن عبّاس- ضي الله عنهما- كان معهم، وقد تقدّم أنها رواية شاذّة، فتنبّه.
وقوله: (فَأَخْبَرَني بِلَالٌ، أَوْ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ) هكذا في هذه الرواية بالشكّ فيمن أخبر ابن عمر، قال في "الفتح": ووقع في رواية يونس، عن ابن شهاب، عند مسلم:"فأخبرني بلالٌ، أو عثمان بن طلحة" على الشكّ، والمحفوظ أنه سأل بلالًا، كما في رواية الجمهور. انتهى
(1)
.
فتبيّن بهذا أن رواية يونس هذه بالشك شاذّة، كرواية ابن عون الماضية،
(1)
"الفتح" 4/ 524.
والمحفوظ أن السؤال لبلال فقط، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3238]
(1330) - (حَدَّثنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، جَمِيعًا عَنْ ابْنِ بَكْرٍ، قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَسَمِعْتَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: اِنَّمَا أُمِرْتُمْ بِالطَّوَافِ، وَلَمْ تُؤْمَرُوا بِدُخُولهِ؟ قَالَ: لَمْ يَكُنْ يَنْهَى عَنْ دُخُولهِ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ بْنُ زيدٍ، أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ دَعَا فِي نَوَاحِيهِ كُلِّهَا، وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ حَتَّى خَرَجَ، فَلَمَّا خَرَجَ رَكعَ فِي قُبُلِ الْبَيْتِ رَكعَتَيْنِ، وَقَالَ: "هَذ الْقِبْلَةُ"، قُلْتُ لَهُ: مَا نَوَاحِيهَا؟ أَفِي زَوَايَاهَا؟ قَالَ: بَلْ فِي كلِّ قِبْلَةٍ مِنَ الْبَيْتِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ اِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه الْحَنْظليّ، أبو يعقوب المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه إمام حجة مشهور [10](238)(خ م د ت س)"تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
2 -
(عَبْدُ بْن حُمَيْدِ) بن نصر الكسّيّ، أبو محمد، قيل: اسمه عبد الحميد، ثقةٌ حافظ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرِ) بن عثمان الْبُرْسَانيّ، أبو عئمان البصريّ، صدوقٌ [9](ت 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 65/ 369.
4 -
(ابْنُ جُرَيْجِ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم، أبو خالد، وأبو الوليَد المكيّ، ثقةٌ فقيه فاضل، يدلّس وُيرسل [6](ت 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
5 -
(عَطَاءُ) بن أبي رَبَاح أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه مشهور [3](ت 114)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.
6 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما، مات سنة (58) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
7 -
(أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ) بن حارثة الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (54)(ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 284.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحاد كيفيّة أخذه عنهما، ثم فرق بينهما؛ لاختلافهما في ذلك.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، كما أسلفته آنفًا.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمكيين من ابن جريج.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ عن صحابيّ رضي الله عنهما.
شرح الحديث:
عن ابن جريج أنه (قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ) أي: ابن أبي رباح (أَسَمِعْتَ ابْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: إِنَّمَا أُمِرْتُمْ بِالطَّوَافِ) أي: بالبيت (وَلَمْ تؤْمَرُوا بِدُخُولهِ؟) يعني أن دخول البيت ليس من النسك، وإنما النسك هو الطواف به، وفي "مصنّف ابن أبي شيبة": قال ابن عباس رضي الله عنهما: "يا أيها الناس إن دخولكم البيت ليس من حجكم في شيء"، وسنده صحيح، قاله في "العمدة"
(1)
. (قَالَ) عطاء (لَمْ يَكُنْ) أي: ابن عبّاس رضي الله عنهما (يَنْهَى عَنْ دُخُولِهِ) أي: دخول البيت؛ لأنه صلى الله عليه وسلم دخله، ولكنه لا يراه من جملة النسك (وَلَكِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ بْنُ زيدٍ) حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن حبّه رضي الله عنهما.
[تنبيه]: رواية المصنّف رحمه الله هذه صريحة في أن ابن عبّاس رضي الله عنهما عن أسامة، وفي رواية البخاريّ في "الصلاة"، قال: حدّثنا إسحاق بن نصر، قال: حدّثنا عبد الرزّاق، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء، قال: سمعت ابن عبّاس قال: لَمَّا دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نواحيه كلّها، ولم يُصلِّ حتى خرج منه، فلمّا خرج ركع ركعتين في قُبُل الكعبة، وقال:"هذه القبلة". انتهى.
فجعله من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما نفسه، دون واسطة أسامة رضي الله عنه، وقد رجّح في "الفتح" رواية المصنّف، ونصّه: وأخرجه الإسماعيليّ، وأبو نعيم في "مستخرجيهما"، من طريق إسحاق ابن راهويه، عن عبد الرزّاق، شيخ إسحاق بن نصر فيه بإسناده هذا فجعله من رواية ابن عبّاس، عن أسامة بن زيد، وكذلك
(1)
"عمدة القاري" 9/ 246.
رواه مسلم من طريق محمد بن بكر، عن ابن جريج، وهو الأرجح. انتهى
(1)
.
والذي يظهر أن رواية البخاريّ فيها إرسال، فليُتأمّل، والله تعالى أعلم بالصواب.
(أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ) أي: الكعبة؛ لأنه المراد عند الإطلاق، فهو علَم عليه بالغلبة؛ لأن "أل" هنا للغلبة، كما قال في "الخلاصة":
وَقَدْ يَصِيرُ عَلَمًا بِالْغَلَبَهْ
…
مُضَافٌ أَوْ مَصْحُوبُ "أَلْ" كـ "الْعَقَبَه"
وَحَذْفَ "أَلْ" ذِي إِنْ تُنَادِ أَوْ تُضِفْ
…
أَوْجِبْ وَفِي غَيْرِهِمَا قَدْ تَنْحَذِفْ
(دَعَا) أي: طلب من الله عز وجل حاجته (فِي نَوَاحِيهِ) جمع ناحية؛ أي: جوانب البيت، وسُمّيت الناحية؛ لأنك تنحوها؛ أي: تقصدها (كُلِّهَا) بالجرّ توكيد لما قبله، وفي رواية النسائيّ:"دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة، فسبّح في نواحيها، وكبّر، ولم يُصلّ". (وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ) أي: في داخل البيت، قد تقدّم في المسألة السابعة من المسائل المذكورة في شرح حديث ابن عمر رضي الله عنهما المذكور أول الباب الجمع بين نفي أسامة صلاته صلى الله عليه وسلم في الكعبة هنا، وبين إثبات بلال رضي الله عنه لها هناك، فراجعه تستفد علْمًا جَمًّا، وبالله تعالى التوفيق. (حَتَّى خَرَجَ، فَلَمَّا خَرَجَ رَكَعَ) أي: صلّى، أي: أطلق الجزء، وأراد الكلّ (فِي قُبُلِ الْبَيْتِ) -بضم القاف، والموحدة، وقد تسكّن: أي مقابلها، أو ما استقبلك منها، وهو وجهها (رَكْعَتَيْنِ، وَقَالَ: "هَذِهِ الْقِبْلَةُ") الإشارة إلى "الكعبة"، قيل: المراد بذلك تقرير حكم الانتقال عن بيت المقدس، وقيل: المراد أن حكم من شاهد البيت وجوب مواجهة عينه جزمًا، بخلاف الغائب، وقيل: المراد أن الذي أُمرتم باستقباله ليس هو الحرم كله، ولا مكة، ولا المسجد الذي حول الكعبة، بل الكعبة نفسها، أو الإشارة إلى وجه الكعبة؛ أي: هذا موقف الإمام، ويؤيده ما رواه البزار من حديث عبد الله بن حُبْشيّ الْخَثْعَميّ، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى باب الكعبة، وهو يقول:"أيها الناس إن الباب قبلة"، قاله في "الفتح"
(2)
.
(1)
"الفتح" 2/ 120 "الصلاة" رقم (398).
(2)
"الفتح" 2/ 121.
وقال النوويّ: قال الخطّابيّ: معناه أن أمر القبلة قد استقرّ على استقبال هذا البيت، فلا يُنسخ بعد اليوم، فصلّوا إليه أبدًا، قال: وَيحْتَمِل أنه علّمهم سنّة موقف الإمام، وأنه يقف في وجهها دون أركانها، وجوانبها، وإن كانت الصلاة في جميع جهاتها مجزئة. انتهى.
قال النوويّ: ويَحْتَمِل معنى ثالثًا، وهو أن معناه: هذه الكعبة هي المسجد الحرام الذي أُمرتم باستقباله، لا كلّ الحرم، ولا مكة، ولا كلّ المسجد الذي حول الكعبة، بل الكعبة نفسها فقط. انتهى
(1)
.
وقال السنديّ: الإشارة إلى الكعبة المشرّفة، أو جهتها، وعلى الثاني الحصر واضح، وعلى الأول باعتبار من كان داخل المسجد، أو من كان بمكة. انتهى.
قال ابن جريج: (قُلْتُ لَهُ) أي: لعطاء (مَا نَوَاحِيهَا؟ أَفِي زَوَايَاهَا؟) بالفتح: جمع زاوية، وزاوية البيت اسم فاعل من زويت المشيء أزويه: إذا جمعته، وسُمّيت بذلك لأنها جمعت قُطْرًا منه
(2)
. (قَالَ: بَلْ فِي كُلِّ قِبْلَةٍ مِنَ الْبَيْتِ)؛ أي: في كلّ جهة منه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله، وأخرجه البخاريّ من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما في "الصلاة"(398) كما أسلفت بيانه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [66/ 3238](1330)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(5/ 220 - 221) و"الكبرى"(2/ 394 - 395)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(5/ 78)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 452)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 201 و 208)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(432 و 3003)،
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 87.
(2)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 260.
و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3208)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 5) و (الضياء) في "المختارة"(4/ 104 و 121 و 122)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(5/ 158)، و"الكبير"(11/ 303 و 12/ 20)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 52)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 653)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 328) و"الصغرى"(1/ 183) و"المعرفة"(1/ 484 و 2/ 161 و 7/ 430)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(448)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3239]
(1331) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا عَطَاءٌ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْكَعْبَةَ، وَفيهَا سِتُّ سَوَارٍ، فَقَامَ عِنْدَ سَارِيَةٍ، فَدَعَا، وَلَمْ يُصَلِّ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الْحَبَطيّ، أبو محمد الأُبُلّيّ، صدوقٌ يَهِمُ، ورُمي بالقدر، من صغار [9](ت 5 أو 236) وله بضع و (90) سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.
2 -
(هَمَّامُ) بن يحيى بن دينار الْعَوْذيّ، أبو عبد الله، أو أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [7](ت 4 أو 165)(ع)"تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
والباقيان ذُكرا قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كلاحقه، وهو (201) من رباعيّات الكتاب.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، كما أسلفته آنفًا.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْكَعْبَةَ، وَفيهَا سِتُّ سَوَارٍ)
بالفتح: جمع سارية، كجارية، وجوارٍ، وهي الأسطوانة
(1)
. (فَقَامَ عِنْدَ سَارِيةٍ، فَدَعَا، وَلَمْ يُصَلِّ) قال الشوكانيّ رحمه الله: هذا يعارضه ما تقدّم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سأل بلالًا: هل صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم الكعبة؟ فأخبره بأنه صلى فيها، قال: ويقدّم عليه بأنه مُثبت، وهو أولى من النافي، ومن تأوّل حديث بلال بأنه أراد بالصلاة الدعاء فخروج عن الظاهر.
[فإن قيل]: يُرتَكَب للجمع بين الأحاديث.
[قيل]: تأويلٌ ينفيه الصريح، وهو ما في البخاريّ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: فسألت بلالًا: صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في الكعبة؟ قال: نعم ركعتين بين الساريتين على يساره، إذا دخلتَ، ثم خرج، فصلى في وجه الكعبة ركعتين.
قال: لكنه معارَضٌ بما في "الصحيحين" من قول ابن عمر: ونسيت أن أسأله كم صلى؟
قال: وما قد يقال: عدم سؤاله لا يستلزم عدم إخباره: ليس بشيء لمن تأمل السياق، فالأولى أن يُجمَع بينهما بأنه صلى الله عليه وسلم دخلها يوم النحر، فلم يصلّ، ودخلها من الغد فصلى، وذلك في حجة الوداع، وهو مرويّ عن ابن عمر رضي الله عنهما بإسناد حسن، أخرجه الدارقطنيّ، فيُحْمَل حديث ابن عباس رضي الله عنهما عليه. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: بإسناد حسن، هذا قاله قبله السهيليّ في "الروض الأنف"، كما عزاه إليه الزيلعيّ، لكن في تحسينه نظر؛ لأن في إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال عنه في "التقريب": صدوقٌ سيّئ الحفظ جدًّا، فتفرّده بمثل هذا الحديث مما يُحتَمَل، فالحديث ضعيف، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 276.
(2)
"فتح القدير" 2/ 151.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [66/ 3239](1331)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 237 و 311)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7/ 482)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 5)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج-رحمه الله-المذكور أولَ الكتاب قال:
[3240]
(1332) - (وَحَدَّثَنِي سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنِي هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبي خَالِدٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ أَبيِ أَوْفَى، صَاحِبِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْبَيْتَ فِي عُمْرَتِهِ؟ قَالَ: لَا).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ) بن إبراهيم، أبو الحارث البغداديّ، مروزيّ الأصل، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 235)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.
2 -
(هُشَيْمُ) بن بَشير بن القاسم بن دينار السلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ، لكنه كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7](183)(ع)"تقدم في" المقدمة" 3/ 9.
3 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ) البجليّ الأحمسيّ مولاهم، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 299.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى) علقمة بن خالد بن الحارث الأسلميّ الصحابيّ، مات رضي الله عنه (87)(ع) تقدم في "الصلاة" 41/ 1072.
لطائف هذا الاسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقه، وهو (202) من رباعيّات الكتاب.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، كما أسلفته آنفًا.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث، والإخبار، والقول.
4 -
(ومنها): أن صحابيّه من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم، شَهِدَ الْحُديبية، وعُمِّر بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم دهرًا، وهو آخر من مات من الصحابة بالكوفة رضي الله عنه.
شرح الحديث:
عن إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ؛ أنه (قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى) واسم أبيه خالد بن علقمة بن الحارث (صَاحِبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْبَيْتَ) أي: الكعبة؛ لما سبق أنه علم بالغلبة عليها (فِي عُمْرَتِهِ؟) المراد بها عمرة القضاء التي كانت سنة سبع من الهجرة قبل فتح مكة.
ولفظ البخاريّ: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطاف بالبيت، وصلى خلف المقام ركعتين، ومعه مَن يَستُره من الناس، فقال له رجل: أدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة؟ قال: لا.
(قَالَ: لَا) قال النوويّ رحمه الله: هذا مما اتفقوا عليه، قال العلماء: وسبب عدم دخوله صلى الله عليه وسلم ما كان في البيت من الأصنام والصُّوَر، ولم يكن المشركون يتركونه لتغييرها، فلما فتح الله تعالى عليه مكة دخل البيت، وصلى فيه، وأزال الصُّوَر قبل دخوله. انتهى
(1)
.
يعني ثم دخلها، فقد أخرج البخاريّ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمّا قَدِمَ أبى أن يدخل البيت، وفيه الآلهة، فأمر بها، فأُخرجت، فأَخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قاتلهم الله، أما والله لقد عَلِمُوا أنهما لم يستقسما بها قط"، فدخل البيت، فكبّر في نواحيه، ولم يصلّ فيه.
قال الحافظ: ويَحْتَمِل أن يكون دخول البيت لم يقع في الشرط- أي: شرط صلح الحديبية- فلو أراد دخوله لمنعوه، كما منعوه من الإقامة بمكة زيادة على الثلاث، فلم يقصد دخوله؛ لئلا يمنعوه، وفي "السيرة" عن عليّ رضي الله عنه أنه دخلها قبل الهجرة، فأزال شيئًا من الأصنام، وفي "الطبقات" عن عثمان بن طلحة نحو ذلك، فإن ثبت ذلك لم يُشكل على الوجه الأول؛ لأن ذلك الدخول كان لإزالة شيء من المنكرات، لا لقصد العبادة، والإزالة في الهدنة كانت غير ممكنة، بخلاف يوم الفتح.
[تنبيه]: استدل المحبّ الطبريّ بهذا الحديث على أنه صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة
(1)
"شرخ النووي" 9/ 88.
في حجته، وفي فتح مكة، ولا دلالة فيه على ذلك؛ لأنه لا يلزم من نفي كونه دخلها في عمرته أنه دخلها في جميع أسفاره، قاله في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [66/ 3240](1332)، (والبخاريّ) في "الحجّ"(1600)، و (أبو داود) في "المناسك"(1902)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 355)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 6)، و (البغويّ) في "شرح السنة"(7/ 131)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(67) - (بَابُ نَقْضِ الْكَعْبَةِ، وَبِنَائِهَا)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3241]
(1333) - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوَيةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ لي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْلَا حَدَاثَةُ عَهْدِ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ، لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ، وَلَجَعَلْتُهَا عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنَّ قُرَيْشًا حِينَ بَنَتِ الْبَيْتَ اسْتَقْصَرَتْ، وَلَجَعَلْتُ لَهَا خَلْفًا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(أَبُو مُعَاوَيةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِم في حديث غيره، من كبار [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
(1)
"الفتح" 4/ 528 - 529.
3 -
(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) بن الزبير، أبو المنذر المدنيّ، ثقة فقيه، ربمّا دلّس [5](ت 5 أو 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.
4 -
(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العوّام، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهور [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.
5 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، ماتت سنة (57)(ع) تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.
وقوله: (اسْتَقْصَرَتْ) أي: اقتصرت على هذا القدر في البناء؛ لقصور النفقة عن تمامه، وفي الأخرى:"اقتصروا عن قواعد إبراهيم"، وفي الأخرى:"فإن قريشًا اقتصرتها"، وفي الأخرى:"استقصروا من بنيان البيت"، وفي الأخرى:"قصروا في البناء"، وفي الأخرى:"قصرت بهم النفقة"، قال العلماء: هذه الروايات كلها بمعنى واحد، ومعنى "استقصرت": قَصَرَت عن تمام بنائها، واقتصرت على هذا القدر؛ لقصور النفقة بهم عن تمامها، ذكره النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقوله: (وَلَجَعَلْتُ لَهَا خَلْفًا) - بفتح الخاء المعجمة، وإسكان اللام، وبالفاء، هذا الصحيح المشهور، والمراد به بابًا من خَلْفها، وقد جاء مفسّرًا في الرواية الأخرى:"ولجعلت لها بابًا شرقيًّا، وبابًا غربيًّا"، وفي "صحيح البخاريّ": قال هشام: "خَلْفًا" يعني بابًا، وفي الرواية الأخرى لمسلم:"بابين: أحدهما يُدْخَل منه، والآخر يُخْرَج منه"، وفي رواية البخاريّ:"ولجعلت لها خَلْفين"، قال القاضي: وقد ذكر الحربيّ هذا الحديث هكذا، وضبطه "خِلْفَين" بكسر الخاء، وقال: الخالفة عَمُود في مُؤَخَّر البيت، وقال الهرويّ:"خَلْفين" بفتح الخاء، قال القاضي: وكذا ضبطناه على شيخنا أبي الحسين، قال: وذكر الهرويّ، عن ابن الأعرابيّ أن الخلف الظهرُ، وهذا يفسر أن المراد الباب، كما فسّرته الأحاديث الباقية، والله أعلم. انتهى
(2)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وشرحه يأتي فيما بعده، وإنما أخّرته إليه؛ لكونه
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 88 - 89.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 89 - 90.
أتمّ مما هنا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3242]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامٍ، بِهَذَا الإسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَيِ شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(أَبُو كُرَيْب) محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ الكوفيّ، أحد مشايخ الجماعة دون واسطة [10](ت 247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
3 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقة ثبتٌ سنّيّ، من كبار [9](ت 199)(ع)"تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
و"هشام" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية ابن نمير، عن هشام بن عروة هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" مقرونًا بأبي أسامة (6/ 57) فقال:
(24342)
- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا ابن نُمَير، ثنا هشام وأبو أسامة، قال: أنا هشام المعنى، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا حداثة عهد قومك بالكفر، لنقضت الكعبة، ثم جعلتها على أسّ إبراهيم عليه السلام، فإن قريشًا يوم بَنَتْها استَقْصَرت، ولجعلتُ لها خَلْفًا"، قال أبو أسامة:"خِلْفًا". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3243]
(
…
) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأتُ عَلَى مَالِكٍ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ؛ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، أَخْبَرَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ، عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"ألَمْ تَرَيْ أَن قَوْمَكِ حِينَ بَنَوُا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ"، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللهِ، أفَلَا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ". فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، مَا أُرَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ اسْتِلَامَ الرُّكنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ، إِلَّا أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
3 -
(سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمر بن الخطّاب، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
4 -
(عَبْدُ اللهُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ الصِّدِّيقِ) التيميّ المدنيّ، أخو القاسم، ثقةٌ [3].
رَوَى عن عائشة في قصة بناء الكعبة، وعنه سالم بن عبد الله بن عمر، ونافع مولى ابن عمر، قال النسائيّ: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ورَوَى أبو داود في "الطهارة" من حديث أبي حَزْرَة يعقوب بن مجاهد: ثنا عبد الله بن محمد، أبو عتيق أخو القاسم بن محمد، قال: كنا عند عائشة، فذكر حديث:"لا صلاة بحضرة طعام"، كذا في روايته، والحديث قد رواه مسلم من حديث أبي حَزْرة، عن عبد الله بن أبي عتيق، وهو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وهو المحفوظ، وأبو عتيق هو محمد والد هذا، وابن عم القاسم بن محمد وأخيه، وقال مصعب الزبيريّ: أمه أم ولد، قُتِل بالحرّة، وكانت الحرّة في ذي الحجة سنة ثلاث وستين.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له عندهم إلا هذا الحديث، وأعاده هنا بعده.
والباقيان ذُكر قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين، روى بعضهم عن بعض: ابن شهاب، عن سالم، عن عبد الله بن محمد، ورواية الأخيرين من رواية الأقران.
4 -
(ومنها): أن عائشة رضي الله عنها حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبنت حبيبه رضي الله عنهما، أفقه النساء مطلقًا، وأفضل أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا خديجة، ففيه خلاف، ومن المكثرين السبعة، روت (2210) والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) بن عمر بن الخطاب (أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، أَخْبَرَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ) بنصب "عبد الله" على المفعولية، وظاهره أن سالمًا كان حاضرًا لذلك، فيكون من روايته، عن عبد الله بن محمد، وقد صرّح بذلك أبو أويس، عن ابن شهاب، لكنه سماه عبد الرحمن بن محمد، فَوَهِم، أخرجه أحمد، وأغرب إبراهيم بن طهمان، فرواه عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، أخرجه الدارقطنيّ في "غرائب مالك"، والمحفوظ الأول، وقد رواه معمر، عن ابن شهاب، عن سالم، لكنه اختصره.
وأخرجه مسلم في الرواية التالية من طريق نافع، عن عبد الله بن محمد بن أبي بكر
(1)
، عن عائشة، فتابع سالمًا فيه، وزاد في المتن:"ولأنفقت كنز الكعبة"، قال الحافظ: ولم أر هذه الزيادة إلا من هذا الوجه، ومن طريق أخرى، أخرجها أبو عوانة، من طريق القاسم بن محمد، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة.
(عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) رضي الله عنها (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ألَمْ تَرَيْ) خطاب للمرأة، وجزمه بحذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة التي رفعها
(1)
وقع في السند التالي: عبد الله بن أبي بكر بن أبي قحافة، منسوبًا إلى جدّه، وسننبّه عليه هناك -إن شاء الله تعالى-.
بثبوت النون، ونصبها، وجزمها بحذفها؛ أي: ألم تعلمي (أَنَّ قَوْمَكِ) أي: قريشًا (حِينَ بَنَوُا الْكَعْبَةَ) لتضرّرها بالسيول، أو لاحتراقها بسبب شِرارة مِجْمَرَةِ امرأة من قريش، أجمرتها.
أخرج عبد الرزاق، ومن طريقه الحاكم، والطبرانيّ من حديث أبي الطُّفيل، قال: "كانت الكعبة في الجاهليّة مبنية بالرَّضْم، ليس فيها مَدَر، وكانت قدر ما يقتحمها الْعَنَاق، وكانت ثيابها توضع عليها تُسْدَل سَدْلًا، وكانت ذات ركنين، كهيئة هذه الحلقة
(1)
فأقبلت سفينة من الروم، حتى إذا كانوا قريبًا من جُدّة انكسرت، فخرجت قريش لتأخذ خشبها، فوجدوا الروميّ الذي فيها نجّارًا، فقَدِمُوا به، وبالخشب ليبنوا به البيت، فكانوا كلما أرادوا القرب منه لهدمه بدت لهم حيّة فاتحة فاها، فبعث الله طيرًا أعظم من النسر، فغرز مخالبه فيها، فألقاها نحو أجياد، فهدمت قريش الكعبة، وبنوها بحجارة الوادي، فرفعوا في السماء عشرين ذراعًا، فبينما النبيّ صلى الله عليه وسلم يحمل الحجارة من أجياد، وعليه نَمِرة، فضاقت عليه النمرة، فذهب يضعها على عاتقه، فبدت عورته من صغرها، فنودي: يا محمد خمّر عورتك، فلم يُرَ عريانًا بعد ذلك، وكان بين ذلك، وبين المبعث خمس سنين"، قال معمر: وأما الزهريّ، فقال: "لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلم أجمرت امرأة الكعبة، فطارت شرارة من مجمرها في ثياب الكعبة، فاحترقت، فتشاورت قريش في هدمها، وهابوه، فقال الوليد: إن الله لا يُهلك من يريد الإصلاح، فارتقى على ظاهر البيت، ومعه العباس، فقال: اللَّهم لا نريد إلا الإصلاح، ثم هدم، فلما رأوه سالمًا تابعوه"، قال عبد الرزاق: وأخبرنا ابن جريج، قال: قال مجاهد: "كان ذلك قبل المبعث بخمس عشرة سنة"، وكذا رواه ابن عبد البرّ من طريق محمد بن جبير بن مطعم بإسناد له، وبه جزم موسى بن عقبة في "مغازيه"، والأول أشهر، وبه جزم ابن إسحاق.
ويمكن الجمع بينهما بأن يكون الحريق تقدّم وقته على الشروع في البناء.
وذكر ابن إسحاق: "أن السيل كان يأتي، فيصيب الكعبة، فيتساقط من
(1)
إشارة إلى حلقة مدوّرة رُسمت في نسخة. "الفتح" 4/ 486.
بنائها، وكان رَضْمًا فوق القامة، فأرادت قريش رفعها، وتسقيفها، وذلك أن نفراً سرقوا كنز الكعبة"، فذكر القصّة مطوّلًا في بنائهم الكعبة، وفي اختلافهم فيمن يضع الحجر الأسود حتى رَضُوا بأول داخل، فدخل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فحكّموه في ذلك، فوضعه بيده، قال: "وكانت الكعبة على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر ذراعًا". ووقع عند الطبرانيّ من طريق أخرى عن ابن خُثيم، عن أبي الطفيل أن اسم النجّار المذكور: باقوم، وللفاكهيّ من طريق ابن جريج مثله، قال: "وكان يتّجر إلى بندر وراء ساحل عدن، فانكسرت سفينته بالشُّعَيبة، فقال لقريش: إن أجريتم عيري مع عيركم إلى الشام أعطيتكم الخشب، ففعلوا"، وروى سفيان بن عيينة في "جامعه" عن عمرو بن دينار؛ أنه سمع عبيد بن عمير يقول: اسم الذي بنى الكعبة لقريش: باقوم، وكان روميًّا، وقال الأزرقيّ: كان طولها سبعة وعشرين ذراعًا، فاقتصرت قريش منها على ثمانية عشر، ونقصوا من عرضها أذرعًا أدخلوها في الحجر، ذكره في "الفتح"
(1)
.
(اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ") عليه السلام، وذلك لقصور النفقة التي أخرجوها لذلك، فقد ذكر ابن إسحاق في "السيرة" عن عبد الله بن أبي نَجِيح أنه أخبره عن عبد الله بن صفوان بن أميّة: أن أبا وهب بن عابد بن عمران بن مخزوم -وهو جدّ جعدة بن هُبيرة بن أبي وهب المخزوميّ- قال لقريش: لا تُدخلوا فيه من كسبكم إلا الطيّب، ولا تدخلوا فيه مهر بَغِيّ، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس.
وروى سفيان بن عيينة في "جامعه" عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن أبيه، أنه شَهِد عمر بن الخطاب أرسل إلى شيخ من بني زُهْرة، أدرك ذلك، فسأله عمر عن بناء الكعبة؟ فقال: إن قريشًا تقرّبت لبناء الكعبة -أي: بالنفقة الطيبة- فعجزت، فتركوا بعض البيت في الْحِجْر، فقال عمر: صدقت.
[تنبيه]: قال العلماء: بُنِي البيت خمس مرات، بَنَتْه الملائكة، ثم إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ثم قريش في الجاهلية، وحضر النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا البناء، وله خمس وثلاثون سنة، وقيل: خمس وعشرون، وفيه سقط على الأرض حين وقع
(1)
"الفتح" 4/ 485 - 487.
إزاره، ثم بناه ابن الزبير، ثم الحجاج بن يوسف، واستمَرّ إلى الآن على بناء الحجاج، وقيل: بُنِي مرتين آخريين، أو ثلاثًا، قالوا: ولا يُغَيَّر عن هذا البناء، وقد ذَكَروا أن هارون الرشيد سأل مالك بن أنس عن هدمها، وردّها إلى بناء ابن الزبير؛ للأحاديث المذكورة في الباب، فقال مالك: ناشدتك الله يا أمير المؤمنين، أن لا تجعل هذا البيت لعبة للملوك، لا يشاء أحد إلا نقضه وبناه، فتذهب هيبته من صدور الناس، وبالله التوفيق. ذكره النوويّ رحمه الله
(1)
.
قالت عائشة رضي الله عنها (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أفَلَا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟) عليه السلام (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ) -بكسر الحاء المهملة، وسكون الدال المهملة، وقيل: يجوز بالفتحتين، بعدها مثلّثة- بمعنى الحدوث؛ أي: لولا قُرب عهد قريش (بِالْكُفْرِ) يريد أن الإسلام لم يتمكّن في قلوبهم، فلو هُدمت لربما نفروا منه؛ لأنهم يرون تغييره عظيمًا.
فقوله: "حِدْثَانُ" مبتدأ، وخبره محذوفٌ، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":
وَبَعْدَ لَوْلَا غَالِبًا حَذْفُ الْخَبَرْ
…
حَتْمٌ وَفِي نَصِّ يَمِينٍ ذَا اسْتَقَرْ
أي: موجودٌ، وجواب "لولا" قوله:(لَفَعَلْتُ") أي: لهدمتها، وفي الرواية الآتية:"لولا حدثان قومك بالكفر، لنقضت البيت، وأدخلت فيه من الحجر"، وفي رواية:"لولا أن قومك حديثٌ عهدُهم في الجاهلية، فأخاف أن تنكر قلوبهم، لنظرت أن أُدخل الْجَدْر في البيت، وأن أُلزق بابه بالأرض".
وفي رواية: "لولا حداثة عهدهم بالشرك، أعدت ما تركوا منه، فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه، فهلُمّي لأريك ما تركوا منه، فأراها قريبًا من سبعة أذرع".
(قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما لَمّا سمع حديث عائشة رضي الله عنهما هذا (لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها، وهذا من ابن عمر رضي الله عنهما ليس شكًّا في صدق عائشة رضي الله عنها، لكن يقع في كلام العرب كثيرًا صورة التشكيك، والمراد: التقرير واليقين، قاله في "الفتح"
(2)
.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 89.
(2)
"الفتح" 4/ 488.
وقال القاضي عياض رحمه الله: ليس هذا اللفظ من ابن عمر رضي الله عنهما على سبيل التضعيف لروايتها، والتشكيك في صدقها وحفظها، فقد كانت من الحفظ والضبط بحيث لا يُستراب في حديثها، ولا فيما تنقله، ولكن كثيرًا ما يقع في كلام العرب صورة التشكيك والتقرير، والمراد به اليقين، كقوله تعالى:{وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111)} [الأنبياء: 111]، وقوله تعالى:{قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ} الآية [سبأ: 50]
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قول ابن عمر رضي الله عنهما هذا ليس شكًّا منه في سماعها، ولا في سماع الراوي عنها، وإنما هذا على طريقة وضع الشَّرطي المتصل الذي يوضع شرطه تقديرًا ليتبيّن مشروطه تحقيقًا، وله في كلام الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم نظائر، منها: قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)} [الزخرف: 81]، وقوله:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، ومثله كثير، ولِبسط هذا وتحقيقه علمٌ آخر، وقد يأتي هذا النحو في الكلام على طريق تبيين الحال على وجهٍ يأنس به المخاطب، وإظهار التناصف في الكلام، كقوله تعالى:{قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)} [سبأ: 50]، وعلى الجملة: فالشرط يأتي في الكلام على غير وجه الشكِّ، وهو كثير. انتهى
(2)
.
(سَمِعَتْ، هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، مَا أُرَى) بضم الهمزة؛ أي: ما أظنّ (تَرْكَ اسْتِلَامِ الرُّكْنَيْنِ) أي: مسحهما، والسين فيه أصليّة، وهو افتعال من السِّلام، وهي الحجارة، يقال: استلم؛ أي: أصاب السِّلَام، وهي الحجارة، كذا ذكره السيوطيّ رحمه الله.
والمراد هنا مسح الركنين باليد؛ إذ لا يشرع التقبيل بالفم إلا للحجر الأسود (اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ) أي: يقربان (الْحِجْرَ) بكسر الحاء المهملة، وسكون الجيم، وهو معروف على صفة نصف الدائرة، وقدرها تسع وثلاثون ذراعًا، والقدر الذي أُخرج من الكعبة سيأتي بيان مقداره قريبًا -إن شاء الله تعالى- (إِلَّا أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ) بالبناء للمفعول، من التتميم، ووقع عند النسائيّ في
(1)
"إكمال المعلم" 4/ 428 - 429.
(2)
"المفهم" 3/ 435 - 436.
"الكبرى" بلفظ: "لم يتم" مبنيًّا للفاعل، من التمام، أو مبنيًّا للمفعول من الإتمام (عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ) عليه السلام؛ أي: القواعد الأصلية التي بنى إبراهيم عليه السلام البيت عليها.
يعني أن الركنين اللذين يليان الحجر ليسا بركنين، وإنما هما بعض الجدار الذي بنته قريش، فلذلك لم يستلمهما النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث لم يتمّما على الأساس الذي بنى عليه إبراهيم عليه السلام البيت، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [67/ 3241 و 3242 و 3243 و 3244 و 3245 و 3246 و 3247 و 3248 و 3249 و 3250 و 3251](1333)، و (البخاريّ) في "العلم"(126) و"الحجّ"(1583 و 1584 و 1585 و 1586) و"أحاديث الأنبياء"(3368) و"التفسير"(4484) و"التمنّي"(7243)، و (أبو داود) في "المناسك"(2028)، و (الترمذيّ) في "الحجّ"(875)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(2901 و 2902 و 2903 و 2904 و 2911 و 2912 و 2913) وفي "الكبرى"(3883 و 3884 و 3885 و 3893 و 3894 و 3895)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(2955)، و (مالك) في "الموطإ"(813)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(5/ 128)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 113 و 176 و 179 و 180 و 253 و 262)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 170)، و (الدارميّ) في "سننه"(1868 و 1869)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2726 و 2741 و 3022 و 3023)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(3/ 17)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 6 - 7)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 89) و"المعرفة"(4/ 73)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان بناء الكعبة الشريفة.
2 -
(ومنها): ما ترجم عليه البخاريّ في "كتاب العلم" من "صحيحه"، حيث قال:"باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهْم بعض الناس عنه، فيقعوا في أشدّ منه". والمراد بالاختيار في عبارته: المستحبّ، وذلك لأن قريشًا كانت تعظّم أمر الكعبة جدًّا، فخَشِي صلى الله عليه وسلم أن يظنوا لأجل قرب عهدهم بالإسلام أنه غَيَّر بناءها؛ لينفرد بالفخر عليهم في ذلك. قاله في "الفتح"
(1)
.
3 -
(ومنها): ترك المصلحة؛ لأمن الوقوع في المفسدة.
4 -
(ومنها): ومنه ترك إنكار المنكر؛ خشيةَ الوقوع في أنكر منه.
5 -
(ومنها): أن فيه اجتناب وليّ الأمر ما يتسرّع الناس إلى إنكاره، وما يُخشى منه تولّد الضرر عليهم في دين، أو دنيا، إلا الأمور الشرعيّة؛ كأخذ الزكاة، وإقامة الحدود، ونحو ذلك.
6 -
(ومنها): تألُّف قلوب الرعية، وحسن حياطتهم، وأن لا يُنَفَّروا، ولا يتعرض لما يُخاف تنفيرهم بسببه، ما لم يكن فيه ترك أمر شرعيّ.
7 -
(ومنها): أن الإمام يسوس رعيته بما فيه إصلاحهم، ولو كان مفضولًا، ما لم يكن محرَّمًا.
8 -
(ومنها): تقديم الأهمّ، فالأهمّ، من دفع المفسدة، وجلب المصلحة، وأنهما إذا تعارضا بُدئ بدفع المفسدة.
قال النوويّ رحمه الله: وفي هذا الحديث دليل لقواعد من الأحكام، منها: إذا تعارضت المصالح، أو تعارضت مصلحة ومفسدة، وتعذّر الجمع بين فعل المصلحة، وترك المفسدة، بدئ بالأهم؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبر أن نقض الكعبة وردّها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم مصلحة، ولكن تُعارضه مفسدةٌ أعظم منه، وهي خوف فتنة بعض من أسلم قريبًا، وذلك لِمَا كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة، فيرون تغييرها عظيمًا، فتركها صلى الله عليه وسلم. انتهى
(2)
.
9 -
(ومنها): أن المفسدة إذا أُمن وقوعها عاد استحباب عمل المصلحة.
10 -
(ومنها): حديث الرجل مع أهله في الأمور العامة.
(1)
"الفتح" 1/ 390 و 4/ 497.
(2)
"شرح النووي" 9/ 89.
11 -
(ومنها): حرص الصحابة رضي الله عنهم على امتثال أوامر النبىّ صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3244]
(. . .) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَخْرَمَةَ (ح) وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ نَافِعًا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ، يُحَدِّثُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، -أَوْ قَالَ: بِكُفْرٍ- لَأَنْفَقْتُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ وَلَجَعَلْتُ بَابَهَا بِالْأَرْضِ، وَلَأَدْخَلْتُ فِيهَا مِنَ الْحِجْرِ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن السَّرْح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق)"تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبِ) بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقة حافظ فقيه عابد [9](ت 197)(ع)"تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ) السعديّ مولاهم، أبو جعفر، نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.
4 -
(مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرِ) بن عبد الله بن الأشجّ، أبو الْمِسْوَر المدنيّ، صدوقٌ، وروايته عن أبيه وِجادة من كتابه، قاله أحمد، وابن معين، وغيرهما، وقال ابن المدينىّ: سمع من أبيه قليلًا [7](ت 159)(بخ م د س)"تقدم في "الطهارة" 4/ 554.
5 -
(أَبُوهُ) بُكير بن عبد الله بن الأشجّ المخزوميّ مولاهم، أبو عبد الله، أو أبو يوسف المدنيّ، نزيل مصر، ثقةٌ [5](ت 120)(ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.
[فإن قلت]: كيف أخرج مسلم رحمه الله رواية مخرمة، عن أبيه، مع أن الأئمة قالوا: إنها وجادة من كتاب أبيه؟
[قلت]: إنما أخرج له في المتابعات، لا في الأصول، والمتابعات يُغتفر فيها ما لا يُغتفر في الأصول، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: وقع في هذا السند: "عبد الله بن أبي بكر بن أبي قُحافة"، وهو عبد الله بن محمد بن أبي بكر الصدّيق الذي في السند الماضي، نُسب في هذا السند إلى جدّه.
وإنما نبّهت عليه؛ لئلا يلتبس بعبد الله بن أبي بكر الصدّيق، وَلَدُ أبي بكر من صلبه، شقيق أسماء بنت أبي بكر، وهو صحابيّ رضي الله عنه، وقد ثبت ذكره في "صحيح البخاريّ" في قصّة الهجرة عن عائشة رضي الله عنها، قالت: وكان عبد الله بن أبي بكر يأتيهما بأخبار قريش، وهو غلام شابّ فَطِنٌ، فكان يبيت عندهما، ويخرج من السَّحر، فيُصبح مع قريش، قال أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: لم أسمع له بمشهد إلا في الفتح، وحُنين، والطائف، فإن أصحاب المغازي ذكروا أنه رُمي بسهم، فجُرح، ثم اندمل، ثم انتقض، فمات في خلافة أبيه في شوّال سنة إحدى عشرة. انتهى
(1)
.
قوله: ("لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّة
…
إلخ) قال القرطبيّ رحمه الله: فيه حجة لمالك في سد الذرائع على القول بسدِّ الذرائع.
وقوله: (لَأَنْفَقْتُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا الكنز هو المالُ الذي كان يجتمع مما كان يُهدى إلى الكعبة، وأقرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك المال في الكعبة؛ للعلَّة التي ذَكَرَها، وهي: مخافة التنفير، وأقرّه أبو بكر رضي الله عنه، ولم يَعْرِض له، ثم إن عمر رضي الله عنه هَمَّ بقسمته، فخالفه في ذلك بعض الصحابة، واحتج عليه: بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكر لم يفعلا ذلك، فتوقف.
قال القرطبيّ: ولا يظن أن هذا الكنز الذي جرى فيه ما ذكرنا أنه يدخل فيه حُلِيُّ الكعبة الذي حُلِّيت به من الذهب والفضة، كما قد ظنَّه بعضهم، فإن ذلك ليس بصحيح؛ لأن حليتها محتبسة عليها، كحُصرها، وقناديلها، وسائر ما يُحْبَس عليها لا يجوز صرفها في غيرها، ويكون حُكْمُ حليّها حكم حِلْيَة سيف
(1)
راجع: "الإصابة" 4/ 24.
أو مصحف حُبسا في سبيل الله؛ فإنه لا يجوز تغييره عن الوجه الذي حُبس له، وإنما ذلك الكنز كما ذكرناه، وكأنه فضلةُ ما كان يُهدَى إليها عما كانت تحتاج إليه مما ينفق فيها، فلما افتتح النبيّ صلى الله عليه وسلم مكة خاف من نفرة قلوب قريش إن هو أنفقه في سبيل الله، كما قال، وذلك: أنهم كانت عادتهم في ذلك: ألّا يتعرضوا له، فأقرّه النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ لِما ذكرناه، ثم إنه بقي على ذلك في إمارة أبي بكر وعمر، ولا أدري ما صنع به بعد ذلك، وينبغي أن يبحث عنه، قال: وسبيل الله هنا: الجهاد، وهو الظاهر من عُرف الشرع، كما قررناه في كتاب الزكاة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: إخراج القرطبيّ حلي الكعبة من حكم الكنز فيه نظر، لا يخفى، فتأمل، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله: قوله: "ولأنفقت كنز الكعبة" لم أر هذه الزيادة إلا من هذا الوجه، ومن طريق آخر أخرجه أبو عوانة من طريق القاسم بن محمد، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها. انتهى
(2)
.
وقوله: (وَلَجَعَلْتُ بَابَهَا بِالْأَرْضِ) أي: لاصقًا بالأرض، كما قال في الرواية التالية:"لهدمت الكعبة، فألزقتها بالأرض".
وقوله: (وَلَأَدْخَلْتُ فِيهَا مِنَ الْحِجْرِ")"من" هنا للتبعيض، بدليل قوله في الرواية الأخرى:"أدخلت من الحجر خمسة أذرُع"
(3)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3245]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ، عَنْ سَعِيدٍ -يَعْنِي ابْنَ مِينَاءَ- قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: حَدَّثَتْنِي خَالَتِي -يَعْنِي عَائِشَةَ- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَائِشَةُ
(1)
"المفهم" 3/ 434 - 435.
(2)
"الفتح" 4/ 487 - 488.
(3)
"المفهم" 3/ 435.
لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِشِرْكٍ، لَهَدَمْتُ الْكَعْبَةَ، فَأَلْزَقْتُهَا بِالْأَرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ: بَابًا شَرْقِيًّا، وَبَابًا غَرْبِيًّا، وَزِدْتُ فِيهَا سِتَّةَ أَذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ، فَإِنَّ قُرَيْشًا اقْتَصَرَتْهَا حَيْثُ بَنَتِ الْكَعْبَةَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون البغداديّ، مروزيّ الأصل، صدوقٌ فاضلٌ ربّما وَهِمَ [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.
2 -
(ابْنُ مَهْدِيٍّ) عبد الرحمن البصريّ الإمام الحجة الثبت الناقد [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.
3 -
(سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ) هو: "سَلِيم" -بفتح السين المهملة، وكسر اللام- "ابن حيّان" -بفتح الحاء المهملة، وتشديد التحتانيّة- الْهُذليّ البصريّ، ثقةٌ [7](خ م د ت سي ق) 21/ 2199.
4 -
(سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ) مولى الْبَخْتَريّ بن أبي ذُباب، أبو الوليد الحجازيّ المكيّ، أو المدنيّ، ثقةٌ [3](خ م د ت ق) تقدم في "الجنائز" 21/ 2207.
5 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ) بن الْعَوّام القرشيّ الأسديّ، أبو بكر، وأبو خُبيب، كان أول من وُلد في الإسلام بالمدينة من المهاجرين، وولي الخلافة تسع سنين، قتل رضي الله عنه في ذي الحجة سنة (73)(ع)"تقدم في "الطهارة" 16/ 610.
و"عائشة رضي الله عنها "ذُكرت قبله.
وقوله: (فَأَلْزَقْتُهَا بِالْأَرْضِ) أي: جعلتها لاصقة بها، بحيث يكون على وجهها، غير مرتفع عنه، وكان مرتفعًا بحيث لا يُصعَد إليه إلا بالسلّم، كما يأتي التصريح بذلك.
وقوله: (وَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ: بَابًا شَرْقِيًّا، وَبَابًا غَرْبِيًّا) هذا يفسّره ما يأتي من قوله: "بابًا يدخل الناس منه، وبابًا يخرجون منه"، فالباب الشرقيّ هو الباب الذي لها الآن، وهو الباب القديم، والباب الغربيّ هو الذي أراد النبيّ صلى الله عليه وسلم إحداثه، ويكون من خلفه، مقابل الباب الموجود.
وقوله: (سِتَّةَ أَذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ) هكذا وقع في هذه الرواية: "ستة أذرع" بالهاء، وفي الرواية التالية:"خمس أذرع" بحذفها، وفي الرواية التالية: "فأراها
قريبًا من سبعة أذرع" بالهاء، وكلاهما صحيح، ففي الذراع لغتان مشهورتان: التأنيث، والتذكير، والتأنيث أفصح، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقوله: (حَيْثُ بَنَتِ الْكَعْبَةَ)"حيث" هنا بمعنى "حين" كما في الروايات الأخرى، وقد ذكر ابن هشام الأنصاريّ رحمه الله في "مغنيه" أن "حيث" ترد ظرف زمان عند الأخفش
(2)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وشرحه يأتي في الحديث التالي -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3246]
(. . .) - (حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: لَمَّا احْتَرَقَ الْبَيْتُ زَمَنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، حِينَ غَزَاهَا أَهْلُ الشَّامِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ، تَرَكَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، حَتَّى قَدِمَ النَّاسُ الْمَوْسِمَ، يُرِيدُ أَنْ يُجَرِّئَهُمْ، أَوْ يُحَرِّبَهُمْ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ، فَلَمَّا صَدَرَ النَّاسُ، قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي الْكَعْبَةِ، أَنْقُضُهَا
(3)
، ثُمَّ أَبْنِي بِنَاءَهَا، أَوْ أُصْلِحُ مَا وَهَى مِنْهَا؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِنِّي قَدْ فُرِقَ لِي رَأْيٌ فِيهَا، أَرَى أَنْ تُصْلِحَ مَا وَهَى مِنْهَا، وَتَدَعَ بَيْتًا أَسْلَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَأَحْجَارًا أَسْلَمَ النَّاسُ عَلَيْهَا، وَبُعِثَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: لَوْ كَانَ أَحَدُكُمْ احْتَرَقَ بَيْتُهُ، مَا رَضِيَ حَتَّى يُجِدَّهُ
(4)
، فَكَيْفَ بَيْتُ رَبِّكُمْ؟ إِنِّي مُسْتَخِيرٌ رَبِّي ثَلَاثًا، ثُمَّ عَازِمٌ عَلَى أَمْرِي، فَلَمَّا مَضَى الثَّلَاثُ أَجْمَعَ رَأْيَهُ عَلَى أَنْ يَنْقُضَهَا، فَتَحَامَاهُ النَّاسُ أَنْ يَنْزِلَ بِأَوَّلِ النَّاسِ يَصْعَدُ فِيهِ أَمْرٌ مِنَ السَّمَاءِ، حَتَّى صَعِدَهُ رَجُلٌ
(5)
فَأَلْقَى مِنْهُ حِجَارَةً، فَلَمَّا لَمْ يَرَهُ النَّاسُ أَصَابَهُ شَىْءٌ تَتَابَعُوا، فَنَقَضُوهُ حَتَّى بَلَغُوا بِهِ الْأَرْضَ، فَجَعَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَعْمِدَةً، فَسَتَّرَ عَلَيْهَا السُّتُورَ، حَتَّى ارْتَفَعَ بِنَاؤُهُ، وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِنِّي سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْلَا أَنَّ النَّاسَ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ، وَلَيْسَ عِنْدِي مِنَ
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 91.
(2)
راجع: "مغني اللبيب" 1/ 258.
(3)
وفي نسخة: "أأنقضها".
(4)
وفي نسخة: "حتى يجدّده".
(5)
وفي نسخة: "حتى صَعِد رجلٌ".
النَّفَقَةِ مَا يُقَوِّي عَلَى بِنَائِهِ، لَكُنْتُ أَدْخَلْتُ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ خَمْسَ أَذْرُعٍ، وَلَجَعَلْتُ لَهَا بَابًا يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْهُ، وَبَابًا يَخْرُجُونَ مِنْهُ"، قَالَ: فَأَنَا الْيَوْمَ أَجِدُ مَا أُنْفِقُ، وَلَسْتُ أَخَافُ النَّاسَ، قَالَ: فَزَادَ فِيهِ خَمْسَ أَذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ، حَتَّى أَبْدَى أُسًّا نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَبَنَى عَلَيْهِ الْبِنَاءَ، وَكَانَ طُولُ الْكَعْبَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا زَادَ فِيهِ اسْتَقْصَرَهُ، فَزَادَ فِي طُولِهِ عَشْرَ أَذْرُعٍ، وَجَعَلَ لَهُ بَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا يُدْخَلُ مِنْهُ، وَالْآخَرُ يُخْرَجُ مِنْهُ، فَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، كَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، وَيُخْبِرُهُ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَدْ وَضَعَ الْبِنَاءَ عَلَى أُسًّ، نَظَرَ إِلَيْهِ الْعُدُولُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِنَّا لَسْنَا مِنْ تَلْطِيخِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي شَىْءٍ، أَمَّا مَا زَادَ فِي طُولِهِ فَأَقِرَّهُ، وَأَمَّا مَا زَادَ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ فَرُدَّهُ إِلَى بِنَائِهِ، وَسُدَّ الْبَابَ الَّذِي فَتَحَهُ، فَنَقَضَهُ، وَأَعَادَهُ إِلَى بِنَائِهِ).
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ) بن مُصعب التميميّ، أبو السَّريّ الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 243) وله (91) سنةً (عخ م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.
2 -
(ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ) هو: يحيى بن زكريّا بن أبي زائدة الْهَمْدانيّ، أبو سعيد الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 3 أو 184) وله (93) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 121.
3 -
(ابْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ) هو: عبد الملك بن أبي سليمان ميسرة الْعَرْزميّ الكوفيّ، ثقةٌ [5](ت 145)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.
4 -
(عَطَاءُ) بن أبي رَبَاح أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهور، لكنه كثير الإرسال [3](ت 114)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.
والباقيان ذُكرا قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له البخاري في "الصحيح".
3 -
(ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالكوفيين، والثاني بالمدنيين، سوى عطاء، فمكيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وصحابيّ، عن صحابيّة هي خالته.
شرح الحديث:
(عَنْ عَطَاءِ) بن أبي رَبَاح رحمه الله أنه (قَالَ: لَمَّا احْتَرَقَ الْبَيْتُ) أي: البيت الحرام، أحرقه الحصين بن نُمير السكونيّ لَمّا حاصر عبد الله بن الزبير في مكة بعد وقعة الحرّة بالمدينة سنة ثلاث وستين من الهجرة بأمر يزيد بن معاوية، رموا البيت بالمنجنيق، ورموا مع الأحجار بالنار والنفط، ومُشاقات الكتان، وغير ذلك من المحرقات، فاحترق ثياب الكعبة، وأخشاب البيت، وأخذوا يرتجزون، ويقولون:
خَطّارَةٌ مِثْلُ الْفَنِيقِ
(1)
الْمُزْبِدِ
…
نَرْمِي بِهَا أَعْوَادَ هَذَا الْمَسْجِدِ
والخطارة بتشديد الطاء: المنجنيق، وقيل في الحصين بن نمير هذا:
ابْنُ نُمَيْرٍ بِئْسَمَا تَوَلَّى
…
قَدْ أَحْرَقَ الْمَقَامَ وَالْمُصَلَّى
(زَمَنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، حِينَ غَزَاهَا) أي: الكعبة بقرينة البيت (أَهْلُ الشَّامِ) أي: حين غزوا ابن الزبير بمكة، لا أن غزوهم كان لبيت الله الحرام.
وسبب ذلك أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما حين مات معاوية رضي الله عنه امتنع من البيعة ليزيد بن معاوية، وأصرّ على ذلك، حتى أَغرى يزيد بن معاوية مسلمَ بنَ عقبة بالمدينة، فكانت وقعة الحرّة، ثم توجه الجيش إلى مكة، فمات أميرهم مسلم بن عقبة، وقام بأمر الجيش الشاميّ حُصَين بن نُمير، فحصر ابن الزبير بمكة، ورَمَوُا الكعبة بالمنجنيق، حتى احتَرَقَت، ففجأهم الخبر بموت يزيد بن معاوية، فرجعوا إلى الشام، وقام ابن الزبير في بناء الكعبة، ثم دعا إلى نفسه، فبويع بالخلافة، وأطاعه أهل الحجاز، ومصر، والعراق، وخراسان، وكثير من
(1)
"الفَنِيق": الفحلُ المكرم من الإبل الذي لا يُركب، ولا يُهان؛ لكرامته عليهم. اهـ. "لسان العرب" 10/ 313.
أهل الشام، ثم غَلَب مروان على الشام، وقَتَلَ الضحاك بن قيس الأمير مِن قِبَل ابن الزبير بَمْرج راهط، ومضى مروان إلى مصر، وغلب عليها، وذلك كله في سنة أربع وستين، وكَمُل بناء الكعبة في سنة خمس، ثم مات مروان في سنة خمس وستين، وقام عبد الملك ابنه مقامه، وغَلَب المختار بن أبي عبيد على الكوفة، ففرّ منه من كان من قِبَل ابن الزبير، وكان محمد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية، وعبد الله بن عباس مقيمين بمكة منذ قُتِل الحسين، فدعاهما ابن الزبير إلى البيعة له، فامتنعا، وقالا: لا نبايع حتى يجتمع الناس على خليفة، وتبعهما جماعة على ذلك، فشَدَّد عليهم ابن الزبير، وحصرهم فبلغ المختارَ، فجهز إليهم جيشًا، فأخرجوهما، واستأذنوهما في قتال ابن الزبير، فامتنعا، وخرجا إلى الطائف، فأقاما بها حتى مات ابن عباس سنة ثمان وستين، ورحل ابن الحنفية بعده إلى جهة رَضْوَى جبل بِيَنْبُع، فأقام هناك، ثم أراد دخول الشام، فتوجه إلى نحو أيلة، فمات في آخر سنة ثلاث، أو أول سنة أربع وسبعين، وذلك عقب قتل ابن الزبير على الصحيح، وقيل: عاش إلى سنة ثمانين، أو بعد ذلك، وعند الواقديّ أنه مات بالمدينة سنة إحدى وثمانين، وزعمت الكيسانية أنه حيّ لم يمت، وأنه المهديّ، وأنه لا يموت حتى يملك الأرض في خرافات لهم كثيرة، ليس هذا موضعها، ذكر هذا كله الحافظ في "الفتح" ملخَّصًا من طبقات ابن سعد، وتاريخ الطبريّ، وغيره
(1)
.
(فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ) وللفاكهيّ في "كتاب مكة" من طريق أبى أويس، عن يزيد بن رومان وغيره قالوا:"لَمَّا أحرق أهل الشام الكعبةَ، ورَمَوْها بالمنجنيق، وَهَتِ الكعبة".
ولابن سعد في "الطبقات" من طريق أبي الحارث بن زمعة قال: "ارتَحَلَ الحصين بن نُمير -يعني الأمير الذي كان يقاتل ابن الزبير من قِبل يزيد بن معاوية- لما أتاهم موت يزيد بن معاوية في ربيع الآخر سنة أربع وستين، قال: فأمر ابن الزبير بالْخِصَاص
(2)
التي كانت حول الكعبة، فهُدِمت، فإذا الكعبة
(1)
راجع: "الفتح" 10/ 179 "كتاب التفسير" رقم (4666) تفسير "سورة براءة".
(2)
قال في "القاموس": الْخُصّ بالضمّ: البيت من القصب، أو البيت يُسقّف بخشبة، =
تنفض -أي: تتحرك- مُتَوَهِّنةً، ترتج من أعلاها إلى أسفلها، فيها أمثال جيوب النساء من حجارة المنجنيق".
وللفاكهيّ من طريق عثمان بن ساج: "بلغني أنه لَمّا قَدِمَ جيش الحصين بن نُمير، أحرق بعض أهل الشام على باب بني جُمَح، وفي المسجد يومئذ خيام، فمشى الحريق حتى أخذ في البيت، فظنّ الفريقان أنهم هالكون، وضعف بناء البيت، حتى إن الطير ليقع عليه، فتتناثر حجارته".
ولعبد الرزاق، عن أبيه، عن مرثد بن شُرَحبيل: أنه حَضَر ذلك، قال: "كانت الكعبة قد وَهَتْ من حريق أهل الشام، قال: فهدمها ابن الزبير، فتركه ابن الزبير حتى قَدِمَ الناس الموسم، يريد أن يُحَزِّبهم على أهل الشام، فلما صدر الناس، قال: أشيروا عليّ في الكعبة
…
" الحديث.
ولابن سعد من طريق ابن أبي مليكة قال: "لم يَبْنِ ابن الزبير الكعبة حتى حج الناس سنة أربع وستين، ثم بناها حين استَقْبَلَ سنة خمس وستين".
وحَكَى عن الواقدي أنه رَدَّ ذلك، وقال: الأثبت عندى أنه ابتدأ بناءها بعد رحيل الجيش بسبعين يومًا، وجزم الأزرقيّ بأن ذلك كان في نصف جمادى الآخرة، سنة أربع وستين.
قال الحافظ رحمه الله: ويمكن الجمع بين الروايتين بأن يكون ابتداء البناء في ذلك الوقت، وامتدّ أمده إلى الموسم؛ ليراه أهل الآفاق؛ ليشنّع بذلك على بني أمية، ويؤيده أن في "تاريخ المسبحي": أن الفراغ من بناء الكعبة كان في سنة خمس وستين، وزاد المحبّ الطبريّ أنه كان في شهر رجب، والله أعلم.
قال: وإن لم يكن هذا الجمع مقبولًا، فالذي في "الصحيح" مُقَدَّم على غيره. انتهى
(1)
.
(تَرَكَهُ) أي: البيت؛ أي: ترك بناءه (ابْنُ الزُّبَيْرِ، حَتَّى قَدِمَ) بكسر الدال (النَّاسُ الْمَوْسِمَ) بفتح الميم، وسكون الواو، وكسر السين: جمعه: مواسم،
= جمعه خِصَاصٌ، وخُصُوصٌ. انتهى.
(1)
"الفتح" 4/ 492 - 493.
وهو الوقت الذي يَجتمع فيه الحجاج كلَّ سنة، كأنه وُسِم بذلك الوسم، وهو مَفْعِلٌ منه، اسم للزمان؛ لأنه مَعْلَمٌ لهم، يقال: وَسَمَه يَسِمُهُ سِمَةً، ووَسْمًا: إذا أثّر فيه بِكَيّ، قاله ابن الأثير رحمه الله
(1)
.
وقال الأبيّ رحمه الله: كان احتراق البيت لثلاث خلون من شهر ربيع الأول، والموسم هي أيام الحجّ، والتأخير إنما هو فيما بين الزمانين. انتهى.
(يُرِيدُ أَنْ يُجَرِّئَهُمْ، أَوْ يُحَرِّبَهُمْ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ)"أو" للشكّ من الراوي، قال النوويّ رحمه الله: أما الحرف الأول فهو "يُجَرِّئُهُمْ" -بالجيم، والراء، بعدها همزة- من الجراءة؛ أي: يُشَجِّعهم على قتالهم بإظهار قبح فِعالهم، هذا هو المشهور في ضبطه، قال القاضي عياض رحمه الله: ورواه العذريّ: "يُجَرِّبُهُمْ" -بالجيم، والباء الموحدة- ومعناه: يختبرهم، وينظر ما عندهم في ذلك من حَمِيَّة، وغضب لله تعالى ولبيته.
وأما الثاني، وهو قوله:"أو يُحَرِّبُهُمْ" فهو بالحاء المهملة، والراء، والباء الموحدة، وأوله مضموم، ومعناه: يُغيظهم بما يرونه قد فُعل بالبيت، من قولهم: حَرَّبتُ الأسدَ: إذا أغضبته.
قال القاضي: وقد يكون معناه: يَحْمِلهم على الحرب، ويُحَرِّضهم عليها، ويؤكد عزائمهم لذلك، قال: ورواه آخرون: "يُحَزِّبُهم" بالحاء والزاي: يَشُدّ قوتهم، ويُميلهم إليه، ويَجعلهم حِزبًا له، وناصرين له على مخالفيه، وحِزْبُ الرجل من مال إليه، وتحازب القوم: تمالئوا. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: الأول من الجرأة، وهي الشجاعة، والثاني من التحزيب، وهو التجميع، هكذا لابن سعيد، والفارسيّ، وغيرهما، ومعنى ذلك أنه أراد أن يُشجّعهم، أو يُجمّعهم على أهل الشام بإظهار قبح أفعالهم في الكعبة، وروى الْعذريّ الحرف الأول "يُجَرّبهم" -بالباء الموحّدة- من التجربة؛ أي: يختبر ما عندهم من الغضب لله تعالى، ولبيته، وقيّد كافّتهم الحرف الثاني "يُحرّبهم" -
(3)
بالحاء، والراء المهملتين، والباء الموحّدة- من التحريب، وهو
(1)
"النهاية" 5/ 186.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 92.
(3)
"شرح الأبيّ" 3/ 427.
التغضيب، يقال: حَرّبتُ الأسدَ، وأسدٌ مُحَرَّبٌ؛ أي: أغضبته، فهو مُغْضَبٌ. انتهى
(1)
.
(فَلَمَّا صَدَرَ النَّاسُ) أي: رجعوا من الحجّ إلى بلدانهم، وقال الأبيّ: قوله: "فلما صدر الناس" يعني انصرفوا عن الموسم، قال ذلك لأهل مكة، ويَحْتَمِل أن يعني: انصرف رعاع الناس، وبقي خواصّ أهل الموسك. انتهى.
(قَالَ) ابن الزبير رضي الله عنه (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي الْكَعْبَةِ) يقال: أشار عليّ بكذا: إذا أراه ما عنده فيه من المصلحة
(2)
. (أَنْقُضُهَا) وفي بعض النسخ: "أأنقضها" بهمزتين، الأولى للاستفهام (ثُمَّ أَبْنِي بِنَاءَهَا) أي: أبنيها بناء جديدًا (أَوْ أُصْلِحُ مَا وَهَى مِنْهَا؟) أي: ضعُف، يقال: وَهَى الحائط وَهْيًا، من باب وَعَدَ: ضَعُفَ، واستَرْخَى، وكذلك الثوب، والْقِرْبةُ، والْحَبْلُ، ويتعدّى بالهمزة، فيقال: أوهيته، ووَهَى الشئُ: إذا ضَعُفَ، أو سقط، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(3)
.
وفيه دليل لاستحباب مشاورة الإمام أهل الفضل والمعرفة في الأمور المهمة.
(قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (فَإِنِّي قَدْ فُرِقَ لِي رَأْيٌ فِيهَا) -بضم الفاء، وكسر الراء-؛ أي: انكشَف، واتّضَح لي، قال الله تعالى:{وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} الآية [الإسراء: 106]؛ أي: أوضحناه، وبَيّناه، وكشفنا معانيه، قال النوويّ رحمه الله: هذا هو الصواب في ضبط هذه اللفظة، ومعناها، وهكذا ضبطه القاضي عياض، والمحققون، وقد جعله الحميديّ صاحب "الجمع بين الصحيحين" في كتابه "غريب الصحيحين": فَرِقَ بفتح الفاء: بمعنى خاف، وأنكروه عليه، وغَلَّطوا الحميديّ في ضبطه، وتفسيره. انتهى
(4)
.
(أَرَى أَنْ تُصْلِحَ مَا وَهَى مِنْهَا، وَتَدَعَ) أي: تترك (بَيْتًا أَسْلَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَأَحْجَارًا أَسْلَمَ النَّاسُ عَلَيْهَا، وَبُعِثَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ) صلى الله عليه وسلم (لَوْ كَانَ أَحَدُكُمْ احْتَرَقَ بَيْتُهُ، مَا رَضِيَ حَتَّى يُجِدَّهُ) هكذا هو في أكثر النسخ: "يُجِدَّه"
(1)
"المفهم" 3/ 436.
(2)
راجع: "المصباح" 2/ 327.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 674.
(4)
"شرح النوويّ" 9/ 92.
-بضم الياء، وبدال واحدة- وفي كثير منها:"يُجَدِّده" بدالين، وهما بمعنى
(1)
.
قال الأبيّ رحمه الله: قوله: "لو كان أحدكم احترق بيته
…
إلخ" لا تتم هذه الحجة بذاتها؛ لأنه يردّه ما ذَكر ابن عبّاس، وما ذكر مالك للرشيد، وإنما تتمّ بانضمامها إلى حديث عائشة رضي الله عنها. انتهى
(2)
.
(فَكَيْفَ بَيْتُ رَبِّكُمْ؟ إِنَّي مُسْتَخِيرٌ رَبِّي ثَلَاثًا) أي: طالب، وداعٍ ربّي عز وجل أن يختار لي ما هو خير في هذا الأمر ثلاث مرّات (ثُمَّ عَازِمٌ عَلَى أَمْرِي) يقال: عزم على الشيء، وعَزَمه عَزْمًا، من باب ضرب: عَقَدَ ضميره على فعله
(3)
. (فَلَمَّا مَضَى الثَّلَاثُ) أي: الليالي الثلاث (أَجْمَعَ رَأْيَهُ) أي: عزمه، يقال: أجمعتُ المسيرَ والأمرَ، وأجمعتُ عليه، يتعدّى بنفسه، وبالحرف: إذا عزم عليه
(4)
، وقال القرطبيّ:"أجمع رأيه" رباعيًّا: عزم، وأمضى، فأما جَمَعَ ثلاثيًّا: فضدّ التفريق. انتهى
(5)
. (عَلَى أَنْ يَنْقُضَهَا) من باب نصر (فَتَحَامَاهُ النَّاسُ) أي: امتنعوا من نقض البيت خوفًا وهيبةً (أَنْ يَنْزِلَ) أي: مخافة النزول (بِأَوَّلِ النَّاسِ يَصْعَدُ فِيهِ) أي: البيت (أَمْرٌ) مرفوع على الفاعليّة لـ"ينزل"(مِنَ السَّمَاءِ) المراد به العذاب (حَتَّى صَعِدَهُ رَجُلٌ) وفي نسخة: "حتى صَعِدَ رجلٌ"(فَأَلْقَى مِنْهُ حِجَارَةً، فَلَمَّا لَمْ يَرَهُ النَّاسُ أَصَابَهُ شَيْءٌ تَتَابَعُوا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا ضبطناه: "تتابعوا" -بياء موحدة قبل العين- وهكذا هو في جميع نسخ بلادنا، وكذا ذكره القاضي عن رواية الأكثرين، وعن أبي بحر:"تتايعوا" بمثنّاة تحتانيّة بدل الموحّدة، وهو بمعناه، إلا أن أكثر ما يُستعمل بالمثناة في الشرّ خاصّةً، وليس هذا موضعه. انتهى.
وقال ابن عيينة في "جامعه" عن داود بن سابور، عن مجاهد، قال:"خرجنا إلى منى، فأقمنا بها ثلاثًا، ننتظر العذاب، وارتقى ابن الزبير على جدار الكعبة هو بنفسه، فهدم"، وفي رواية أبي أويس: "ثم عَزَل ما كان يصلح أن يعاد في البيت، فبنوا به، فنظروا إلى ما كان لا يصلح منها أن يُبنَى به،
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 93.
(2)
"شرح الأبيّ" 3/ 427.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 408.
(4)
"المصباح المنير" 1/ 109.
(5)
"المفهم" 3/ 437.
فأَمر به أن يحفر له في جوف الكعبة، فيدفن، واتبعوا قواعد إبراهيم من نحو الحجر، فلم يصيبوا شيئًا حتى شَقَّ على ابن الزبير، ثم أدركوها بعدما أمعنوا، فنزل عبد الله بن الزبير، فكشفوا له عن قواعد إبراهيم، وهي صخر أمثال الْخَلِف
(1)
من الإبل، فأنفضوا له؛ أي: حركوا تلك القواعد بالْعُتُلّ، فنفضت قواعد البيت، ورأوه بنيانًا مربوطًا بعضه ببعض، فحمد الله، وكبّره، ثم أحضر الناس، فأمر بوجوههم وأشرافهم، فنزلوا حتى شاهدوا ما شاهدوه، ورأوا بنيانًا متصلًا، فأشهدهم على ذلك.
وروى عبد الرزاق، من طريق ابن سابط، عن زيد:"أنهم كشفوا عن القواعد، فإذا الحجر مثل الْخَلِفة، والحجارة مشبكة بعضها ببعض".
وللفاكهي من وجه آخر، عن عطاء:"قال: كنت في الأمناء الذين جُمِعوا على حفره، فحفروا قامة ونصفًا، فهجموا على حجارة لها عروق تتصل بزرد عرق المروة، فضربوه، فارتجت قواعد البيت، فكبّر الناس، فبنى عليه".
وفي رواية مرثد عند عبد الرزاق: "فكشف عن ربض في الحجر، آخذ بعضه ببعض، فتركه مكشوفًا ثمانية أيام؛ ليشهدوا عليه، فرأيت ذلك الربض مثل خَلِف الإبل، وجهٌ حجر ووجه حجران، ورأيت الرجل يأخذ العتلة فيضرب بها من ناحية الركن، فيهتزّ الركن الآخر"
(2)
.
(فَنَقَضُوهُ حَتَّى بَلَغُوا بِهِ الْأَرْضَ، فَجَعَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَعْمِدَةً، فَسَتَّرَ) هكذا النسخ بتشديد التاء، ولعله للمبالغة، يقال: سَتَرتُ الشيءَ سَتْرًا، من باب قَتَلَ، ويقال لما ينصبه المصلّي قُدّامه علامة لمصلّاه، من عصًا، وتسنيم تُراب وغيره: سُترةٌ؛ لأنه يستر المارّ من المرور؛ أي: يحجبه.
(عَلَيْهَا) أي: على الكعبة، والمراد: المنقوض من بنائها (السُّتُورَ) بالضمّ: جمع سِتْر بالكسر، وهو ما يُستر به، والسُّترةُ بالضمّ مثله، قال ابن
(1)
"الخَلِفة" بكسر اللام: هي الحامل من الإبل، اسم فاعل، يقال: خَلِفت خَلَفًا، من باب تعب: إذا حملت، وتُحذف الهاء، أيضًا، فيقال: خَلِفٌ، قاله في "المصباح" 1/ 178 - 179.
(2)
راجع: "الفتح" 4/ 493 - 494.
فارس: السُّترةُ: ما استترت به كائنًا ما كان، والسِّتارة بالكسر مثله، والسِّتار بحذف الهاء لغةٌ، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
. (حَتَّى ارْتَفَعَ بِنَاؤُهُ) قال القرطبيّ رحمه الله: إنما فَعَل ذلك ابن الزبير؛ لاستقبال المستقبلين، وطواف الطائفين، ولأنّ ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: إن كنت هادمها فلا تدع الناسَ لا قبلة لهم، وهذا يدلّ على أن بقعة البيت ما كانت تتنزّل عندهما منزلة البيت، وقد خالفهما في ذلك جابر رضي الله عنه، وقال: صلُّوا إلى موضعها. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: المقصود بهذه الأعمدة والستور أن يستقبلها المصلّون في تلك الأيام، ويَعْرِفوا موضع الكعبة، ولم تزل تلك الستور حتى ارتفع البناء، وصار مشاهدًا للناس، فأزالها؛ لحصول المقصود بالبناء المرتفع من الكعبة، واستدلّ القاضي عياض بهذا لمذهب مالك في أن المقصود بالاستقبال البناء لا البقعة، قال: وقد كان ابن عباس أشار على ابن الزبير بنحو هذا، وقال له: إن كنت هادمها فلا تدع الناس بلا قبلة، فقال له جابر: صَلُّوا إلى موضعها، فهي القبلة، ومذهب الشافعي وغيره جواز الصلاة إلى أرض الكعبة، ويجزيه ذلك بلا خلاف عنده، سواء كان بقي منها شاخص أم لا، والله أعلم. انتهى
(3)
.
(وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ) رضي الله عنهما (إِنِّي سَمِعْتُ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (تَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ) قال الأبيّ رحمه الله: كان المناسب أن يكون هذا حين الاستشارة، وحين قال ابن عبّاس، ولكن العطف بالواو، والأظهر أن ابن عبّاس لا يخفى عليه ذلك، ولكن رأى أنه فرقٌ بين بناء رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، وبناء غيره، وأنه لو بناها صلى الله عليه وسلم لكان بناؤه أوقع في النفوس من بناءٍ أسلم الناس عليه، ورأى ابن الزبير عكس العلّة، وهو قوله:"فأنا اليوم أجد ما أنفق، ولست أخاف الناس"، ولكن يردّ عليه، أعني على قوله:"أجد ما أنفق، ولا أخاف الناس" ما ذكر ابن عبّاس، وما ذكر مالك للرشيد. انتهى
(4)
.
("لَوْلَا أَنَّ النَّاسَ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ) بالرفع على الفاعليّة لـ"حديث"؛ لأنه
(1)
"المصباح المنير" 1/ 266.
(2)
"المفهم" 3/ 437.
(3)
"شرح النوويّ" 9/ 93 - 94.
(4)
"شرح الأبيّ" 3/ 428.
يعمل عَمَلَ فِعله، وقوله:(بِكُفْرٍ) متعلّق بـ "حديثٌ"، أو بـ "عهدهم"، وقوله:(وَلَيْسَ عِنْدِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يُقَوِّي عَلَى بِنَائِهِ) جملة حاليّة اعتَرضت بين "لولا"، وجوابها، و"يُقَوَّي" من التقوية، وفي بعض النسخ:"ما يُقَوِّيني"، ويَحْتَمِل أن يكون "يَقْوَى" بفتح أوله، وسكون ثانيه، وفتح ثالثه، من قَوَيَ ثلاثيًّا، من باب تَعِب.
(لَكُنْتُ أَدْخَلْتُ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ خَمْسَ أَذْرُعٍ) هكذا في هذه الرواية: "خمسة أذرع"، وهي رواية شاذّة، والمحفوظ ما تقدّم في رواية سعيد بن ميناء، عن عبد الله بن الزبير بلفظ:"وزدت فيها ستة أذرع من الحجر".
قال في "الفتح": وأما رواية عطاء عند مسلم عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: "لكنت أدخل فيها من الحجر خمسة أذرع"، فهي شاذةٌ، والرواية السابقة -يعني:"ستة أذرع"- أرجح؛ لما فيها من الزيادة عن الثقات الحفاظ.
قال: ثم ظهر لي لرواية عطاء وجه، وهو أنه أريدَ بها ما عدا الفرجة التي بين الركن والحجر، فتجتمع مع الروايات الأخرى، فإن الذي عدا الفرجة أربعة أذرع وشيء، ولهذا وقع عند الفاكهيّ من حديث أبي عمرو بن عديّ بن الحمراء؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعائشة في هذه القصة:"ولأدخلت فيها من الحجر أربعة أذرع"، فيُحْمَل هذا على إلغاء الكسر، ورواية عطاء على جبره، ويجمع بين الروايات كلها بذلك، قال: ولم أر من سبقني إلى ذلك. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الجمع الأخير لا يخفى تكلّفه، فالظاهر أن رواية خمسة أذرع شاذّة، كما سبق، فتأمّل، والله تعالى أعلم.
وقال النوويّ رحمه الله: قال أصحابنا: ست أذرع من الحجر مما يلي البيت محسوبة من البيت بلا خلاف، وفي الزائد خلاف، فإن طاف في الحجر، وبينه وبين البيت أكثر من ستة أذرع، ففيه وجهان لأصحابنا:
أحدهما يجوز؛ لظواهر هذه الأحاديث، وهذا هو الذي رجحه جماعات من أصحابنا الخراسانيين.
والثاني: لا يصح طوافه في شيء من الحجر، ولا على جداره، ولا
(1)
"الفتح" 4/ 489.
يصح حتى يطوف خارجًا من جميع الْحِجْر، وهذا هو الصحيح، وهو الذي نصّ عليه الشافعيّ، وقطع به جماهير أصحابنا العراقيين، ورجحه جمهور الأصحاب، وبه قال جميع علماء المسلمين، سوى أبي حنيفة، فإنه قال: إن طاف في الحجر، وبقي في مكة أعاده، وإن رجع من مكة بلا إعادة، أراق دمًا، وأجزأه طوافه، واحتج الجمهور بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم طاف من وراء الحجر، وقال:"لتأخذوا عني مناسككم"، ثم أطبق المسلمون عليه من زمنه صلى الله عليه وسلم إلى الآن، وسواء كان كله من البيت، أم بعضه، فالطواف يكون من ورائه، كما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي رجحه النوويّ رحمه الله من عدم جواز الطواف إلا وراء الحجر كلّه، سيأتي ترجيح خلافه قريبًا -إن شاء الله تعالى-.
(وَلَجَعَلْتُ لَهَا بَابًا يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْهُ، وَبَابًا يَخْرُجُونَ مِنْهُ"، قَالَ) ابن الزبير رضي الله عنهما (فَأَنَا الْيَوْمَ أَجِدُ مَا أُنْفِقُ، وَلَسْتُ أَخَافُ النَّاسَ) أي: لتمكّن الإيمان في قلوبهم (قَالَ: فَزَادَ فِيهِ خَمْسَ أَذْرُعٍ) تقدّم أن الأرجح أنه ستة أذرع (مِنَ الْحِجْرِ، حَتَّى أَبْدَى) أي: أظهر بالحفر (أُسًّا) -بضمّ الهمزة، وتشديد السين المهملة- قال الفيّوميّ رحمه الله: أُسُّ الحائط بالضمّ: أصله، وجمعه آساسٌ، مثلُ قُفْل وأَقفال، وربّما قيل: إِساسٌ، مثلُ عُسّ وعِسَاسٍ، والأَسَاسُ مثله، وجمعه: أُسُسٌ، مثلُ عَنَاقٍ وعُنُقٍ
(2)
، وأَسَّسته تأسيسًا: جعلتُ له أَسَاسًا. انتهى
(3)
. (نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ) إلى ذلك الأُسّ، ففي رواية البخاريّ من طريق جرير بن حازم، عن يزيد بن رُومان، قال:"وشهدت ابن الزبير حين هدمه، وبناه، وأدخل فيه من الحجر، وقد رأيت أساس إبراهيم حجارة كأسنمة الإبل، قال جرير: فقلت له: أين موضعه؟ قال: أُريكه الآن، فدخلت معه الحجر، فأشار إلى مكان، فقال: ها هنا، قال جرير: فحزرت من الحجر ستة أذرع، أو نحوها".
(1)
"شرح النوويّ " 9/ 91.
(2)
قيل: الأولى تمثيله بنحو قَذَالٍ وقُذُل؛ لأن جمع عَنَاق على عُنُق لم يُسمع، وإنما هو أعناق، فتنبّه.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 14 - 15.
قال في "الفتح": قوله: "ستة أذرع أو نحوها" قد ورد ذلك مرفوعًا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم كما تقدم في الطريق الثانية، وأنها أرجح الروايات، وأن الجمع بين المختلف منها ممكن، كما تقدم، وهو أولى من دعوى الاضطراب، والطعن في الروايات المقيّدة؛ لأجل الاضطراب، كما جنح إليه ابن الصلاح، وتبعه النوويّ؛ لأن شرط الاضطراب أن تتساوى الوجوه بحيث يتعذر الترجيح، أو الجمع، ولم يتعذر ذلك هنا، فيتعيّن حمل المطلق على المقيّد، كما هي قاعدة مذهبهما، ويؤيده أن الأحاديث المطلقة والمقيّدة متواردة على سبب واحد، وهو أن قريشًا قَصّروا عن بناء إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأن ابن الزبير أعاده على بناء إبراهيم، وأن الحَجاج أعاده على بناء قريش، ولم تأت رواية قط صريحة أن جميع الحِجر من بناء إبراهيم في البيت. انتهى
(1)
.
(فَبَنَى عَلَيْهِ الْبِنَاءَ، وَكَانَ طُولُ الْكَعْبَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ ذِرَاعًا) وروي أن طولها كان عشرين ذراعًا، ولعل راويه جبر الكسر، وجزم الأزرقيّ بأن الزيادة تسعة أذرع، فلعلّ عطاء جبر الكسر أيضًا، قاله في "الفتح"
(2)
.
وذكر السهيليّ أن طول الكعبة كان من عهد إسماعيل تسعة أذرع، فلما بَنَتْها قريش قبل الإسلام بخمس سنين زادوا في طولها تسعة أذرع، فلما بناها ابن الزبير زاد في طولها تسعة أذرع أيضًا، فكانت سبعة وعشرين، وعلى ذلك هي الآن، ذكره الأبيّ
(3)
.
(فَلَمَّا زَادَ فِيهِ اسْتَقْصَرَهُ) أي: عدّه قصيرًا (فَزَادَ فِي طُولِهِ عَشْرَ أَذْرُعٍ، وَجَعَلَ لَهُ بَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا يُدْخَلُ مِنْهُ، وَالْآخَرُ يُخْرَجُ مِنْهُ) وفي رواية للبخاريّ عن الأسود بن يزيد: "ففعله عبد الله بن الزبير"، وفي رواية إسماعيل بن جعفر عند الإسماعيليّ:"فنقضه عبد الله بن الزبير، فجعل له بابين في الأرض"، ونحوه للترمذيّ من طريق شعبة، عن أبي إسحاق، وللفاكهي من طريق أبي أويس، عن موسى بن ميسرة:"أنه دخل الكعبة بعدما بناها ابن الزبير، فكان الناس لا يزدحمون فيها، يدخلون من باب، ويخرجون من آخر".
(1)
"الفتح" 4/ 495.
(2)
"الفتح" 4/ 495.
(3)
"شرح الأبيّ" 3/ 428.
قال الحافظ رحمه الله: جميع الروايات التي جمعتها هذه القصة متفقة على أن ابن الزبير جعل الباب بالأرض، ومقتضاه أن يكون الباب الذي زاده على سَمْته، وقد ذكر الأزرقيّ أن جملة ما غَيَّره الحَجاج الجدار الذي من جهة الحجر، والباب المسدود الذي في الجانب الغربيّ عن يمين الركن اليمانيّ، وما تحت عتبة الباب الأصليّ، وهو أربعة أذرع وشبر، وهذا موافق لما في الروايات المذكورة، لكن المشاهد الآن في ظهر الكعبة باب مسدود، يقابل الباب الأصليّ، وهو في الارتفاع مثله، ومقتضاه أن يكون الباب الذي كان على عهد ابن الزبير لم يكن لاصقًا بالأرض، فَيَحْتَمِل أن يكون لاصقًا كما صرحت به الروايات، لكن الحَجاج لما غيّره رفعه، ورفع الباب الذي يقابله أيضًا، ثم بدا له فسدّ الباب المجدد، قال: لكن لم أر النقل بذلك صريحًا.
وذكر الفاكهيّ في أخبار مكة أنه شاهد هذا الباب المسدود من داخل الكعبة في سنة ثلاث وستين ومائتين، فإذا هو مقابل باب الكعبة، وهو بقدره في الطول والعرض، وإذا في أعلاه كلاليب ثلاثة، كما في الباب الموجود سواء، فالله أعلم. انتهى
(1)
.
(فَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ) أي: في ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين من الهجرة، وتقدّم أنه كان بويع له، ولم يتخلّف عن بيعته إلا أهل الشام؛ لبيعتهم مروان، وابنه عبد الملك، وكان عبد الملك ولَّى الحَجاج ولايتين، الأولى ولاه فيه الحجاز، والثانية ولاه العراق، ففي ولايته الأولى حاصر فيها ابن الزبير بمكة، وقاتله، حتى قُتل
(2)
. (كَتَبَ الْحَجَّاجُ) بن يوسف بن عقيل الثقفيّ الأمير المشهور الظالم المبير، وقع ذكره وكلامه في "الصحيحين" وغيرهما، وليس بأهل أن يُروى عنه، ولي إمرة العراق عشرين سنة، ومات سنة خمس وتسعين
(3)
. (إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ) بن الحكم بن أبي العاص الأمويّ، أبي الوليد المدنيّ، ثمّ الدمشقيّ، كان طالب علم قبل الخلافة، ثم اشتغل بها، فتغيّر حاله، مُلّك ثلاث عشرة سنةً استقلالًا، وقبلها منازعًا لابن الزبير تسع
(1)
"الفتح" 4/ 494 - 495.
(2)
"شرح الأبيّ" 3/ 428.
(3)
"تقريب التهذيب" ص 65.
سنين، ومات سنة ست وثمانين في شوّال، وقد جاوز الستّين
(1)
. (يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ) أي: بما فعله ابن الزبير في الكعبة، فقوله بعده:"وَيُخْبِرُهُ" من عطف التفسير له (وَيُخْبِرُهُ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَدْ وَضَعَ الْبِنَاءَ عَلَى أُسٍّ، نَظَرَ إِلَيْهِ الْعُدُولُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِنَّا لَسْنَا مِنْ تَلْطِيخِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي شَيْءٍ) من إضافة المصدر إلى الفاعل: أي لسنا مما صدر من ابن الزبير من المعايب في شيء، أفاده الأبيّ رحمه الله
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: يريد بذلك سبّه، وعيبه، يقال: لطّخته: أي رميته بأمر قبيح. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: التلطيخ: التلويث، والتقذير، يقال: لطّخت فلانًا بأمر قبيح: إذا رميته به، ورجلٌ لَطِيخٌ: أي: قَذِرٌ، أراد بذلك العيب لفعله، وهو المعاب.
وقال أيضًا: وما فعله عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما في البيت كان صوابًا وحقًّا، وقبّح الله الحجّاج، وعبد الملك، لقد جهِلا سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجترءا على بيت الله، وعلى أوليائه. انتهى
(4)
.
(أَمَّا مَا زَادَ فِي طُولِهِ فَأَقِرَّهُ) بقطع الهمزة، وتشديد الراء، من الإقرار؛ أي: ثبِّته، ولا تغيّره (وَأَمَّا مَا زَادَ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ فَرُدَّهُ إِلَى بِنَائِهِ) قال بعضهم: هذا من خطأ عبد الملك، بل الأولى والأهمّ العكس؛ لأن الطواف إنما هو من وراء الحجر، وكثيرًا ما يغلط الطائفون، فيطوفون في الحجر، فالاحتياط عما يؤدي إلى الوقوع في ذلك آكد، ويَحْتَمل أن يجاب بأنه إنما فرّق بأن التغيير بإضافة الحجر أبْين، وعبد الملك لا يريد أن يبقى لابن الزبير أثرٌ، ولا ذِكْرُ فعل بحال. انتهى
(5)
.
(وَسُدَّ الْبَابَ الَّذِي فَتَحَهُ، فَنَقَضَهُ، وَأَعَادَهُ إِلَى بِنَائِهِ) يعني البناء الأول المتقدّم على بناء ابن الزبير، وهو الذي عليه الآن، وقد كان الرشيد أراد أن
(1)
"تقريب التهذيب" ص 220.
(2)
"شرح الأبيّ" 3/ 429.
(3)
"شرح النوويّ" 9/ 94.
(4)
"المفهم" 3/ 437 - 438.
(5)
"شرح الأبيّ" 3/ 429.
يردّه على ما بناه ابن الزبير، فقال له مالك: نشدتك الله يا أمير المؤمنين ألا تجعل هذا البيت ملعبةً للملوك، لا يشاء أحدٌ إلا نقض البيت وبناه، فتذهب هيبته من صدور الناس، فترك ما همّ به، واستحسن الناس هذا من مالك، وعَمِلوا عليه، فصار هذا كالإجماع على أنه لا يجوز التعرّض له بهدّ، أو تغيير، قاله القرطبيّ رحمه الله
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا تقدّم أنه متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تخريجه، وأما بسياق القصّة هذه، فمن أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): قال في "الفتح": قال المحبّ الطبريّ في "شرح التنبيه" له: والأصح أن القدر الذي في الحِجر من البيت قدر سبعة أذرع، والرواية التي جاء فيها أن الحِجر من البيت مطلقةً، فيُحْمَل المطلق على المقيّد فإن إطلاق اسم الكل على البعض سائغٌ مجازًا، وإنما قال النوويّ ذلك نصرةً لما رجّحه من أن جميع الحجر من البيت، وعمدته في ذلك أن الشافعيّ نصّ على إيجاب الطواف خارج الحجر، ونقل ابن عبد البرّ الاتفاق عليه، ونقل غيره أنه لا يُعرَف في الأحاديث المرفوعة، ولا عن أحد من الصحابة ومن بعدهم، أنه طاف من داخل الحجر، وكان عملًا مستمرًّا، ومقتضاه أن يكون جميع الحجر من البيت.
وهذا متعقَّبٌ، فإنه لا يلزم من إيجاب الطواف من ورائه أن يكون كله من البيت، فقد نصّ الشافعي أيضاً كما ذكره البيهقيّ في "المعرفة" أن الذي في الحجر من البيت نحو من ستة أذرع، ونقله عن عِدّة من أهل العلم، من قريش لَقِيَهُمْ، كما تقدم، فعلى هذا فلعله رأى إيجاب الطواف من وراء الحجر احتياطًا، وأما العمل فلا حجة فيه على الإيجاب، فلعل النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن بعده فعلوه استحبابًا للراحة من تسوّر الحجر، لا سيما والرجال والنساء يطوفون
(1)
"المفهم" 3/ 438 - 439.
جميعًا، فلا يؤمَن من المرأة التكشف، فلعلهم أرادوا حسم هذه المادة.
وأما ما نقله المهلَّب عن ابن أبي زيد أن حائط الحجر لم يكن مبنيًّا في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، حتى كان عمر فبناه، ووسّعه قطعًا للشك، وأن الطواف قبل ذلك كان حول البيت، ففيه نظرٌ، وقد أشار المهلب إلى أن عمدته في ذلك ما جاء بلفظ: لم يكن حول البيت حائطٌ، كانوا يصلّون حول البيت، حتى كان عمر، فبنى حوله حائطًا جُدره قصيرة، فبناه ابن الزبير. انتهى.
وهذا إنما هو في حائط المسجد، لا في الحجر، فدخل الوهم على قائله من هنا، ولم يزل الحجر موجودًا في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم كما صرّح به في كثير من الأحاديث الصحيحة.
نعم في الحكم بفساد طواف مَن دخل الحجر، وخَلَّى بينه وبين البيت سبعة أذرع نظرٌ، وقد قال بصحته جماعة من الشافعية، كإمام الحرمين، ومن المالكية كأبي الحسن اللخميّ.
وذكر الأزرقيّ أن عرض ما بين الميزاب ومنتهى الحجر سبعة عشر ذراعًا وثلث ذراع، منها عرض جدار الحجر ذراعان وثلث، وفي بطن الحجر خمسة عشر ذراعًا فعلى هذا فنصف الحجر ليس من البيت، فلا يفسد طواف من طاف دونه، والله أعلم.
وأما قول المهلّب: إن الفضاء لا يسمى بيتًا، وإنما البيت البنيان؛ لأن شخصًا لو حلف لا يدخل بيتًا، فانهدم ذلك البيت فلا يحنث بدخوله، فليس بواضح؛ فإن المشروع من الطواف ما شُرع للخليل بالاتفاق، فعلينا أن نطوف حيث طاف، ولا يسقط ذلك بانهدام حرم البيت؛ لأن العبادات لا يسقط المقدور عليه منها بفوات المعجوز عنه، فحرمة البقعة ثابتة، ولو فقد الجدار، وأما اليمين فمتعلقة بالعُرف، ويؤيده ما قلناه أنه لو انهدم مسجد، فنُقلت حجارته إلى موضع آخر بقيت حرمة المسجد بالبقعة التي كان بها، ولا حرمة لتلك الحجارة المنقولة إلى غير مسجد، فدل على أن البقعة أصل للجدار، بخلاف العكس، أشار إلى ذلك ابن الْمُنَيِّر في "الحاشية"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة): حَكَى ابن عبد البرّ، وتبعه عياض وغيره عن الرشيد،
أو المهديّ، أو المنصور أنه أراد أن يعيد الكعبة على ما فعله ابن الزبير، فناشده مالك في ذلك، وقال: أخشى أن يصير ملعبة للملوك فتركه.
قال الحافظ: وهذا بعينه خشية جدّهم الأعلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فأشار على ابن الزبير لَمّا أراد أن يهدم الكعبة، ويجدد بناءها بأن يَرُمّ ما وَهَى منها، ولا يتعرض لها بزيادة ولا نقص، وقال له: لا آمن أن يجيء مِن بعدك أمير، فيغيّر الذي صنعت. أخرجه الفاكهيّ من طريق عطاء عنه.
وذكر الأزرقيّ أن سليمان بن عبد الملك هَمَّ بنقض ما فعله الحَجاج، ثم ترك ذلك لمّا ظهر له أنه فعله بأمر أبيه عبد الملك.
قال: ولم أقف في شيء من التواريخ على أن أحدًا من الخلفاء، ولا من دونهم غَيَّر من الكعبة شيئًا مما صنعه الحَجاج إلى الآن، إلا في الميزاب، والباب، وعتبته، وكذا وقع الترميم في جدارها غير مرة، وفي سقفها، وفي سُلَّم سطحها، وجدد فيها الرخام، فذكر الأزرقيّ عن ابن جريج أن أول من فرشها بالرخام الوليد بن عبد الملك، ووقع في جدارها الشاميّ ترميم في شهور سنة سبعين ومائتين، ثم في شهور سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، ثم في شهور سنة تسع عشرة وستمائة، ثم في سنة ثمانين وستمائة، ثم في سنة أربع عشرة وثمانمائة، وقد ترادفت الأخبار الآن في وقتنا هذا في سنة اثنتين وعشرين أن جهة الميزاب فيها ما يحتاج إلى ترميم، فاهتم بذلك سلطان الإسلام الملك المؤيد، وأرجو من الله تعالى أن يسهل له ذلك، ثم حججت سنة أربع وعشرين، وتأملت المكان الذي قيل عنه، فلم أجده في تلك البشاعة، وقد رُمِّم ما تشعّث من الحرم في أثناء سنة خمس وعشرين إلى أن نقض سقفها في سنة سبع وعشرين على يدي بعض الجند، فجدد لها سقفًا، ورخم السطح، فلما كان في سنة ثلاث وأربعين صار المطر إذا نزل ينزل إلى داخل الكعبة أشدّ مما كان أولًا فأدّاه رأيه الفاسد إلى نقض السقف مرة أخرى، وسدّ ما كان في السطح من الطاقات التي كان يدخل منها الضوء إلى الكعبة، ولزم من ذلك امتهان الكعبة، بل صار العمال يصعدون فيها بغير أدب، فغار بعض المجاورين، فكتب إلى القاهرة يشكو ذلك، فبلغ السلطان الظاهر، فأنكر أن يكون أمر بذلك، وجهز بعض الجند لكشف ذلك، فتعصب للأول بعض من
جاور، واجتمع الباقون رغبة ورهبة، فكتبوا محضرًا بأنه ما فعل شيئًا إلا عن ملأ منهم، وأن كل ما فعله مصلحة، فسكن غضب السلطان، وغطى عنه الأمر.
وقد جاء عن عياش بن أبي ربيعة المخزوميّ، وهو بالتحتانية قبل الألف وبعدها معجمة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن هذه الأمة لا تزال بخير ما عظموا هذه الحرمة -يعني الكعبة- حق تعظيمها، فإذا ضيعوا ذلك هلكوا"، أخرجه أحمد، وابن ماجه، وعمر بن شَبّة في "كتاب مكة"، وسنده حسن، فنسأل الله تعالى الأمن من الفتن بحلمه وكرمه.
قال: ومما يُتعجب منه أنه لم يتفق الاحتياج في الكعبة إلى الإصلاح إلا فيما صنعه الحَجاج، إما من الجدار الذي بناه في الجهة الشامية، وإما في السلّم الذي جدده للسطح والعتبة، وما عدا ذلك مما وقع، فإنما هو لزيادة محضة؛ كالرخام، أو لتحسين كالباب والميزاب، وكذا ما حكاه الفاكهيّ عن الحسن بن مكرم، عن عبد الله بن بكر السهميّ، عن أبيه، قال: جاورت بمكة فعابت -أي: بالعين المهملة، وبالباء الموحدة- أسطوانة من أساطين البيت، فأُخرجت، وجيء بأخرى ليدخلوها مكانها فطالت عن الموضع، وأدركهم الليل، والكعبة لا تفتح ليلًا، فتركوها ليعودوا من غد؛ ليصلحوها، فجاؤوا من غد فأصابوها أقدم من قِدْح؛ أي: بكسر القاف، وهو السهم، وهذا إسناد قويّ، رجاله ثقات، وبكر هو ابن حبيب من كبار أتباع التابعين، وكأن القصة كانت في أوائل دولة بني العباس، وكانت الأسطوانة من خشب، والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3247]
(. . .) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَالْوَلِيدَ بْنَ عَطَاءٍ، يُحَدِّثَانِ عَن الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُبَيْدٍ: وَفَدَ الْحَارِثُ بْنُ
عَبْدِ اللهِ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فِي خِلَافَتِهِ، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: مَا أَظُنُّ أَبَا خُبَيْبٍ -يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ- سَمِعَ مِنْ عَائِشَةَ مَا كَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهَا، قَالَ الْحَارِثُ: بَلَى أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْهَا، قَالَ: سَمِعْتَهَا تَقُولُ مَاذَا؟ قَالَ: قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ قَوْمَكِ اسْتَقْصَرُوا مِنْ بُنْيَانِ الْبَيْتِ، وَلَوْلَا حَدَاثَةُ عَهْدِهِمْ بِالشِّرْكِ، أَعَدْتُ مَا تَرَكُوا مِنْهُ، فَإِنْ بَدَا لِقَوْمِكِ مِنْ بَعْدِي أَنْ يَبْنُوهُ، فَهَلُمِّي لِأُرِيَكِ مَا تَرَكُوا مِنْهُ"، فَأَرَاهَا قَرِيبًا مِنْ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ. هَذَا حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُبَيْدٍ، وَزَادَ عَلَيْهِ الْوَلِيدُ بْنُ عَطَاءٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "وَلَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ مَوْضُوعَيْنِ فِي الْأَرْضِ: شَرْقِيًّا، وَغَرْبِيًّا. وَهَلْ تَدْرِينَ لِمَ كَانَ قَوْمُكِ رَفَعُوا بَابَهَا؟ "، قَالَتْ: قُلْتُ: لَا، قَالَ:"تَعَزُّزًا أَنْ لَا يَدْخُلَهَا إِلَّا مَنْ أَرَادُوا، فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا هُوَ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَهَا يَدَعُونَهُ يَرْتَقِي، حَتَّى إِذَا كَادَ أَنْ يَدْخُلَ دَفَعُوهُ، فَسَقَطَ". قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ لِلْحَارِثِ: أَنْتَ سَمِعْتَهَا
(1)
تَقُولُ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَنَكَتَ سَاعَةً بِعَصَاهُ، ثُمَّ قَالَ: وَدِدْتُ أَنِّي تَرَكْتُهُ، وَمَا تَحَمَّلَ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ) -بتصغير الاسمين- ابن قتادة بن سعد بن عامر بن جُنْدَع بن ليث الليثيّ، ثم الْجُنْدَعيّ، أبو هاشم المكيّ، ثقةٌ [3].
رَوَى عن أبيه، وقيل: لم يسمع منه، وعائشة، وابن عباس، وابن عمر، وأم كلثوم امرأة منهم، والحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وغيرهم.
وروى عنه جرير بن حازم، وإسماعيل بن أمية، وأيوب بن موسى الأمويان، وبُديل بن ميسرة، وابن جريج، والأوزاعيّ، وعكرمة بن عمار، وغيرهم.
قال أبو زرعة: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: ثقةٌ يحتج بحديثه، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان مستجاب الدعوة، وقال داود العطار: كان من أفصح أهل مكة، وقال محمد بن عمر: كان ثقةً
(1)
وفي نسخة: "آنت سمعتها؟ ".
صالحًا، له أحاديث، وقال العجليّ: تابعىّ مكيّ ثقةٌ، وقال ابن حزم في "المحلى": لم يسمع من عائشة، وقال البخاريّ في "التاريخ الأوسط": لم يسمع من أبيه شيئًا، ولا يذكره.
قال عمرو بن عليّ: مات سنة ثلاث عشر ومائة، وقال إسحاق القراب: قُتِل بالشام في الغزوة سنة ثلاث عشرة ومائة.
روى له مسلم والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
2 -
(الْوَلِيدُ بْنُ عَطَاءِ) بن خَبّاب -بمعجمة، وموحّدتين- الحجازيّ، مقبول [6].
روى عن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، عن عائشة، في قصة بناء البيت، وروى عنه ابن جريج، وقرنه بعبد الله بن عُبيد بن عُمير، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الذهبيّ في "الميزان": لا يُعرَف.
انفرد به المصنّف، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
3 -
(الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ) ويقال: ابن عيّاش بن أبي ربيعة، عمرو بن المغيرة بن عبد الله بن عُمَر بن مخزوم الأمير المخزوميّ المعروف بالقُبَاع -بضمّ القاف، وتخفيف الموحّدة- صدوقٌ [2].
رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وعن عمر، ومعاوية، وعائشة، وحفصة، وأم
سلمة.
وروى عنه سعيد بن جبير، والشعبيّ، وعبد الرحمن بن سابط، وأبو قَزَعَة، ومجاهد بن جبر، والزهريّ، وغيرهم.
قال الزبير بن بكار: استعمله ابن الزبير على البصرة، فرأى مكيالًا، فقال: إن مكيالكم هذا لقُبَاع، فلَقَّبوه به، وقال ابن سعد: كان قليل الحديث، رَوَى عن عمر، وروى البخاريّ في "تاريخه" عن الشعبيّ أن الحارث ماتت أمه، وهي نصرانية، فشيّعها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال سفيان: خرج عليهم، فقال: إن لها أهل دين غيركم، فقال معاوية: لقد ساد هذا، وقال ابن سعد: كانت ولايته على البصرة سنةً، واستَعمل ابن الزبير بعده أخاه مصعبًا.
وذكره بعض من ألَّف في الصحابة، وذكره ابن معين في تابعي أهل مكة.
وقال المبرّد: الْقُبَاع بالتخفيف: الذي يُخفي ما فيه، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين.
أخرج له المصنّف، وأبو داود في "المراسيل"، والنسائيّ، وله في هذا
الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1333)، وحديث حفصة رضي الله عنها مرفوعًا (2883): "سيعوذ بهذا البيت -يعني الكعبة- قوم ليست لهم مَنَعَة
…
".
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.
وقوله: (وَفَدَ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللهِ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فِي خِلَافَتِهِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ: "الحارث بن عبد الله"، وليس في شيء منها خلاف، ونُسخ بلادنا هي رواية عبد الغافر بن محمد الفارسيّ، وادَّعَى القاضي عياض أنه وقع هكذا لجميع الرواة، سوى الفارسيّ، فإن في روايته: الحارث بن عبد الأعلى، قال: وهو خطأٌ، بل الصواب: الحارث بن عبد الله، وهذا الذي نقله عن رواية الفارسيّ غير مقبول، بل الصواب أنها كرواية غيره: الحارث بن عبد الله، ولعله وقع للقاضي نسخة عن الفارسيّ فيها هذه اللفظة مصحفة على الفارسيّ، لا من الفارسيّ، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقوله: (مَا أَظُنُّ أَبَا خُبَيْبٍ) بضمّ الخاء المعجمة، مصغّرًا، كنية ابن الزبير، وله كنيتان، هذا، وأبو بكر، والمشهورة هي الأولى.
وقوله: (فَإِنْ بَدَا لِقَوْمِكِ
…
إلخ) أي: ظهر لهم ما لم يظهر أوّلًا.
وقوله: (فَهَلُمِّي) أي: فتعالي، و"هَلُمّ" كلمة بمعنى الدعاء إلى الشيء، كما يقال: تَعَالَ، قال الخليل رحمه الله: أصله: لُمَّ من الضمّ والجمع، ومنه: لَمّ اللهُ شَعَثَهُ، وكأن المنادي أراد: لُمّ نفسك إلينا، و"ها" للتنبيه، وحذفت الألف تخفيفًا؛ لكثرة الاستعمال، وجُعِلا اسمًا واحدًا، وقيل: أصلها: هَلْ أُمَّ: أي قُصِد، فنقلت حركة الهمزة إلى اللام، وسقطت، ثم جُعلا كلمة واحدة للدعاء.
أهل الحجاز يُنادُون بها بلفظ واحد للمذكر، والمؤنث، والمفرد، والجمع، وعليه قوله تعالى:{وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب: 18]. وفي لغة نجد تَلْحقها الضمائر، وتُطابَق، فيقال: هُلُمِّي، وهَلُمَّا، وهَلُمُّوا، وهَلْمُمْنَ؛
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 94.
لأنهم يجعلونها فعلًا، فيلحقونها الضمائر، كما يلحقونها قُمْ، وقُوما، وقوموا، وقُمْنَ. وقال أبو زيد: استعمالها بلفظ واحد للجميع من لغة عُقيل، وعليه قَيْسٌ بعدُ، وإلحاق الضمائر من لغة بني تميم، وعليه أكثر العرب، وتستعمل لازمةً، نحو:{هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب: 18]: أي أقبِل، ومتعديةً، نحو:{هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} [الأنعام: 150]: أي أحضروهم. انتهى
(1)
.
وقوله: (تَعَزُّزًا) معنى "تعزّزًا" أي: تكبّرًا، وتشدّدًا على الناس، قال ابن الأثير رحمه الله: وقد جاء في بعض نسخ مسلم
(2)
: "تعزّرًا" براء بعد زاي، من التعزير؛ أي: التوقير، فإما أن يريد توقير البيت وتعظيمه، أو تعظيم أنفسهم، وتكبّرهم على الناس. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الأول يُبعده السياق، فالمعنى الثاني هو الأقرب، والله تعالى أعلم.
وقوله: (يَدَعُونَهُ) بفتح أوله، وثانيه؛ أي: يتركونه "يرتقي"؛ أي: يصعد إلى الباب.
وقوله: (حَتَّى إِذَا كَادَ أَنْ يَدْخُلَ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في النسخ كلِّها: "كاد أن يدخل"، وفيه حجةٌ لجواز دخول "أَنْ" بعد "كاد"، وقد كثُر ذلك، وهي لغة فصيحة، ولكن الأشهر عدمه. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: أشار النوويّ رحمه الله إلى قول ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة":
كـ"كَانَ""كَادَ" وَ"عَسَى" لَكِنْ نَدَرْ
…
غَيْرُ مُضَارعٍ لِهَذَيْنِ خَبَرْ
وَكَوْنُهُ بِدُونِ "أَنْ" بَعَدَ "عَسَى"
…
نَزْرٌ وَ"كَادَ" الأمْرُ فِيهِ عُكِسَا
وقوله: (فَنَكَتَ سَاعَةً بِعَصَاهُ) أي: بَحَثَ بطرفها في الأرض، وهذه عادة من يُفكّر في أمر مُهِمّ.
وقوله: (وَدِدْتُ) بكسر الدال، من باب تعب، على الأشهر، وجوّز
(1)
"المصباح المنير" 2/ 639 - 640.
(2)
هذه النسخة لم أر من أشار إليها من الشرّاح، فليُنظر.
(3)
"النهاية" 3/ 228.
الكسائيّ: وَدَدَتُ أَوَدّ بفتحتين، وأنكرها البصريون، قال الزجّاج: لم يقل الكسائيّ إلا ما سمِع، ولكنه سمعه ممن لا يوثق بفصاحته. انتهى
(1)
.
وقوله: (وَمَا تَحَمَّلَ) الواو عاطفة، أو هي واو المعيّة؛ أي: مع ما تحمّله.
والحديث تقدّم تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3248]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَبَلَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزاقِ، كِلَاهُمَا عَن ابْنِ جُرَيْجٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ بَكْرٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَبَلَةَ) هو: محمد بن عمرو بن عبّاد بن جَبَلَة بن أبي رَوّاد الْعَتِكيّ، أبو جعفر البصريّ، صدوقٌ [11](234)(م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 348.
2 -
(أَبُو عَاصِمٍ) الضحّاك بن مخلد الشيبانيّ النبيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 212) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
3 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الحميريّ مولاهم، أبو الصنعانيّ، ثقةٌ حافظٌ مصنّف شهير، عَمِي في آخره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع)"تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
و"ابنُ جُريج" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية أبي عاصم، عن ابن جُريج هذه لم أر من ساقها بتمامها، فليُنظر.
وأما رواية عبد الرزّاق، عن ابن جُريج، فقد ساقها عبد الرزّاق في "مصنّفه" (5/ 127) فقال:
(1)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 653.
(9150)
- عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: سمعت عبد الله بن عبيد بن عُمير، قال: وَفَد الحارث بن عبد الله، على عبد الملك في خلافته، فقال عبد الملك: ما أظن أبا خبيب سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها، قال: وكان الحارث مُصَدَّقًا لا يُكَذَّب، قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: سمعتها تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن قومك استقصروا من بنيان البيت، وإني لولا حداثة عهدهم بالشرك، أعدت فيه ما تركوا منه، فإن بدا لقومك أن يبنوه من بعدي، فهَلُمّ لأريك ما تركوا منه"، فأراها قريبًا من سبعة أذرع. هذا حديث عبد الله بن عبيد، وزاد عليه الوليد بن عطاء، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "وجعلت له بابين موضوعين في الأرض، شرقيًّا وغربيًّا، وهل تدرين لِمَ كان قومك رفعوا بابها؟ " قالت: لا، قال:"تعزّزًا؛ لأن لا يُدخلوها إلا من أرادوا، فإن الرجل إذا كَرِهوا أن يدخلها يَدَعُونه، حتى يرتقي، حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط"، قال عبد الملك للحارث: أنت سمعتها تقول هذا؟ قال: نعم، فنكت بعصاه ساعةً، ثم قال: وَدِدت أني تركته، وما تحمّل. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3249]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ بَكْرٍ السَّهْمِيُّ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ، عَنْ أَبِي قَزَعَةً؛ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ، بَيْنَمَا هُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، إِذْ قَالَ: قَاتَلَ اللهُ ابْنَ الزُّبَيْرِ حَيْثُ يَكْذِبُ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، يَقُولُ: سَمِعْتُهَا تَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَائِشَةُ لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ، لَنَقَضْتُ الْبَيْتَ، حَتَّى أَزِيدَ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ، فَإِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرُوا فِي الْبِنَاءِ"، فَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: لَا تَقُلْ هَذَا، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَنَا سَمِعْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ تُحَدِّثُ هَذَا، قَالَ: لَوْ كُنْتُ سَمِعْتُهُ قَبْلَ أَنْ أَهْدِمَهُ لَتَرَكْتُهُ عَلَى مَا بَنَى ابْنُ الزُّبَيْرِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ بَكْرٍ السَّهْمِيُّ) هو: عبد الله بن بكر بن حبيب السهمي
الباهليّ، أبو وهب البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حافظٌ، امتَنَع عن القضاء [9].
رَوَى عن حميد الطويل، وحاتم بن أبي صغيرة، ومهدي بن ميمون، وهشام بن حسان، وأبي المقدام هشام بن زياد، وسعيد بن أبي عروبة، وغيرهم.
وروى عنه أحمد بن حنبل، وعلي ابن المدينيّ، وإسحاق بن منصور الكوسج، وأبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن حاتم بن ميمون، ومحمود بن غيلان، وغيرهم.
قال أحمد، وابن معين، والعجليّ: ثقةٌ، وقال ابن معين أيضًا، وأبو حاتم: صالحٌ، وقال أبو عمرو الطائيّ: عَرَضَ سَوّار على عبد الله بن بكر قضاء الأُبُلّة فأبى، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الدارقطنيّ: ثقةٌ مأمونٌ، وقال ابن قانع: ثقةٌ.
وقال ابن سعد: السهميّ بطن من باهلة، وكان ثقةً، صدوقًا، نزل بغداد على سعيد بن سَلْم، ولم يزل بها حتى مات في المحرم سنة (208).
أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
2 -
(حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ) هو ابن مسلم، أبو يونس القشيريّ، وقيل: الباهليّ مولاهم البصريّ، وأبو صغيرة أبو أمه، وقيل: زوج أمه، ثقةٌ [6].
رَوَى عن عطاء، وعمرو بن دينار، وابن أبي مليكة، وسماك بن حرب، والنعمان بن سالم، وأبي قَزَعة، وغيرهم.
وروى عنه شعبة، وابن المبارك، وابن أبي عديّ، والقطان، ورَوْح بن عُبادة، وغيرهم.
قال ابن معين، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقةٌ، زاد أبو حاتم: صالح الحديث، وقال مسلم عن أحمد: ثقةٌ ثقةٌ، وقال العجليّ، والبزار في "مسنده": ثقةٌ، وقال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله، وقال هاشم بن مَرْثَد، عن ابن معين: لم يسمع من عكرمة شيئًا، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث، برقم (1333) و (1680) و (2085) و (2745) و (2859) و (2876).
3 -
(أَبُو قَزَعَةَ) سُويد بن حُجير الباهليّ البصريّ، ثقة [4](م 4) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (قَاتَلَ اللهُ ابْنَ الزُّبَيْرِ) قال ابن الأثير رحمه الله: "قاتل الله اليهود"؛ أي: قتلهم الله، وقيل: لعنهم، وقيل: عاداهم، وقد تكرّرت في الحديث، ولا تخرُج عن أحد هذه المعاني، وقد تَرِد بمعنى التعجّب من الشيء؛ كقولهم: تربت يداه، وقد تَرِدُ ولا يراد بها وقوع الأمر، ومنه حديث عمر رضي الله عنه:"قاتل الله سمرة". انتهى
(1)
.
وقوله: (فَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: لَا تَقُلْ هَذَا، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ) هذا فيه انتصار للمظلوم، وردّ الغيبة، وتصديق الصادق إذا كذّبه إنسان، والحارث هذا هو المذكور في السند الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3250]
(. . .) -
(2)
(حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، حَدَّثَنَا أَشْعَثُ بْنُ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَن الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَن الْجَدْرِ، أَمِن الْبَيْتِ هُوَ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قُلْتُ: فَلِمَ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِي الْبَيْتِ؟ قَالَ: "إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ"، قُلْتُ: فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا؟ قَالَ: "فَعَلَ ذَلِكِ قَوْمُكِ؛ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا، وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ، لَنَظَرْتُ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِي الْبَيْتِ، وَأَنْ أُلْزِقَ بَابَهُ بِالْأَرْضِ").
(1)
"النهاية" 4/ 12 - 13.
(2)
كتب بعض الشّرّاح هنا ترجمة: "باب جَدْر الكعبة، وبابها"، وحذفته؛ لأن الحديثين من جملة أحاديث الباب الماضي، وهذا هو الذي فعله الأبيّ، والسنوسيّ في "شرحيهما"، والقرطبيّ في "المفهم"، وأبو نعيم في "المستخرج"، فكلّهم أدخلوا الحديثين في جملة أحاديث الباب الماضي، وهو الأظهر، فتأمل، والله تعالى وليّ التوفيق.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ) أبو عثمان الْخُراسانيّ، نزيل مكة، ثقةٌ مصنّفٌ [10](ت 227) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 338.
2 -
(أَبُو الْأَحْوَصِ) سلّام بن سُليم الحنفيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ [7](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.
3 -
(أَشْعَثُ بْنُ أَبِي الشَّعْثَاءِ) سليم بن الأسود المحاربيّ الكوفيّ، ثقةٌ [6](ت 125)(ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 153.
4 -
(الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيد) بن قيس بن عبد الله النخعيّ، أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن الكوفيّ مخضرمٌ ثقةٌ مكثرٌ فقيهٌ [2](ت 4 أ 75)(ع) (تقدم في "الطهارة" 32/ 674.
و"عائشة رضي الله عنها ذُكرت قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، سوى شيخه، فخراسانيّ، ثم مكيّ، وعائشة رضي الله عنها، فمدنيّة، وفيه عائشة رضي الله عنها سبق الكلام عليها قريبًا.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَن الْجَدْرِ) بفتح الجيم، وإسكان الدال المهملة: هو الحِجر، قال في "الفتح": كذا للأكثر، وكذا هو في "مسند مسدّد" شيخ البخاريّ فيه، وفي رواية المستملي:"الجدار" قال الخليل: الْجَدْرُ لغة في الجدار. انتهى.
وَوَهِم من ضبطه بضمها؛ لأن المراد الْحِجْرُ، ولأبي داود الطيالسيّ في "مسنده" عن أبي الأحوص شيخ مسدّد فيه:"الْجَدْر، أو الحجر" بالشك، ولأبي عوانة من طريق شيبان، عن الأشعث:"الْحِجْر" بغير شك. انتهى.
(أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("نَعَمْ") أي: هو من جملة البيت، قال في
"الفتح": هذا ظاهره أن الحجر كله من البيت، وكذا قوله في الطريق الثانية
(1)
: "أَن أدخل الجدر في البيت"، وبذلك كان يفتي ابن عباس رضي الله عنهما كما رواه عبد الرزاق، عن أبيه، عن مَرْثَد بن شُرَحبيل، قال: سمعت ابن عباس يقول: لو وَلِيتُ من البيت ما وَليَ ابن الزبير، لأدخلت الحجر كله في البيت، فَلِمَ يطاف به إن لم يكن من البيت؟
ورَوَى الترمذيّ، والنسائيّ من طريق علقمة، عن أمه، عن عائشة قالت: كنت أُحِبّ أن أصلي في البيت، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، فأدخلني الْحِجْر، فقال:"صلّي فيه، فإنما هو قطعة من البيت، ولكن قومك استقصروه حين بنوا الكعبة، فأخرجوه من البيت"، ونحوه لأبي داود، من طريق صفية بنت شيبة، عن عائشة، ولأبي عوانة من طريق قتادة، عن عروة، عن عائشة، ولأحمد من طريق سعيد بن جبير، عن عائشة، وفيه:"أنها أرسلت إلى شيبة الْحَجَبِيّ ليفتح لها البيت بالليل، فقال: ما فتحناه في جاهلية ولا إسلام بليل".
وهذه الروايات كلها مطلقة، وقد جاءت روايات أصحّ منها مقيَّدةٌ:
منها لمسلم من طريق أبي قَزَعَة، عن الحارث بن عبد الله، عن عائشة، في حديث الباب:"حتى أزيد فيه من الْحِجر"، وله من وجه آخر، عن الحارث، عنها:"فإن بدا لقومك أن يبنوه بعدي، فَهَلُمِّي لأريك ما تركوا منه، فأراها قريبًا من سبعة أذرع"، وله من طريق سعيد بن مِيناء، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة، في هذا الحديث:"وزدت فيها من الْحِجْر ستة أذرع".
وعند البخاريّ في آخر بعض طرق الحديث أن يزيد بن رومان الذي رواه عن عروة أراه لجرير بن حازم، فحَزَره جرير ستة أذرع، أو نحوها.
ولسفيان بن عيينة في "جامعه" عن داود بن شابور، عن مجاهد: أن ابن الزبير زاد فيها ستة أذرع مما يلي الحجر، وله عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن ابن الزبير: ستة أذرع وشبر، وهكذا ذكر الشافعيّ عن عدد لقيهم من أهل العلم، من قريش، كما أخرجه البيهقيّ في "المعرفة" عنه.
وهذه الروايات كلها تجتمع على أنها فوق الستة ودون السبعة، وأما
(1)
أي عند البخاريّ.
رواية عطاء عند مسلم، عن عائشة مرفوعًا:"لكنت أُدخل فيها من الحجر خمسة أذرع"، فهي شاذّة، والرواية السابقة أرجح؛ لِما فيها من الزيادة عن الثقات الحفاظ، قال: ثم ظهر لي لرواية عطاء وجه، وهو أنه أريدَ بها ما عدا الفرجة التي بين الركن والحجر، فتجتمع مع الروايات الأخرى، فإن الذي عدا الفرجة أربعة أذرع وشيء، ولهذا وقع عند الفاكهيّ من حديث أبي عمرو بن عديّ بن الحمراء: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعائشة في هذه القصة: "ولأدخلت فيها من الحجر أربعة أذرع"، فيُحْمَل هذا على إلغاء الكسر، ورواية عطاء على جبره، ويُجْمَع بين الروايات كلها بذلك. قال: ولم أر من سبقني إلى ذلك. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد أسلفت أن كون رواية عطاء بلفظ: "خمسة أذرع" شاذّةً هو الظاهر، فلا تنس نصيبك، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(قُلْتُ: فَلِمَ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِي الْبَيْتِ؟ قَالَ: "إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ") -بتشديد الصاد- أي: النفقة الطيبة التي أخرجوها لذلك، كما جزم به الأزرقيّ وغيره، ويوضحه ما ذكر ابن إسحاق في "السيرة" عن عبد الله بن أبي نَجِيح أنه أخبر عن عبد الله بن صفوان بن أمية، أن أبا وهب بن عابد بن عمران بن مخزوم، وهو جدّ جَعْدة بن هُبيرة بن أبي وهب المخزوميّ قال لقريش: لا تُدخلوا فيه من كسبكم إلا الطيب، ولا تدخلوا فيه مَهْرَ بَغِيّ، ولا بيع رِبًا، ولا مظلمة أحد من الناس.
ورَوَى سفيان بن عيينة في "جامعه" عن عبيد الله بن أبى يزيد، عن أبيه، أنه شهد عمر بن الخطاب أرسل إلى شيخ من بني زُهْرة أدرك ذلك، فسأله عمر عن بناء الكعبة، فقال: إن قريشًا تقربت لبناء الكعبة؛ أي: بالنفقة الطيبة، فعجزت، فتركوا بعض البيت في الحجر، فقال عمر: صدقت. انتهى.
(قُلْتُ: فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا؟) زاد في رواية شيبان التالية: "لا يُصعَد إليه إلا بسلّم"(قَالَ: "فَعَلَ ذَلِكِ قَوْمُكِ؛ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا، وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا)
(1)
"الفتح" 4/ 489.
وجاء من رواية الحارث بن عبد الله، عن عائشة:"فكان الرجل إذا هو أراد أن يدخلها يَدَعُونه يرتقي، حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط". (وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ) بتنوين "حديثٌ"، ورفع "عهدهم" على الفاعليّة له، كما سبق. (فِي الْجَاهِلِيَّةِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ: "في الجاهليّة"، وهو بمعنى "بالجاهليّة"، كما في سائر الروايات. انتهى
(1)
، ولفظ البخاريّ:"بجاهليّة"(فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ) وفي رواية شيبان، عن أشعث التالية:"مخافة أن تَنْفِر قلوبهم" بالفاء بدل الكاف، ونقل ابن بطال عن بعض علمائهم أن النَّفْرة التي خشيها صلى الله عليه وسلم أن ينسبوه إلى الانفراد بالفخر دونهم. انتهى
(2)
. (لَنَظَرْتُ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِي الْبَيْتِ، وَأَنْ أُلْزِقَ بَابَهُ بِالْأَرْضِ") أي: ليتمكّن كلّ من أراد دخول البيت من الدخول فيه دون أن يلحقة مشقّة، مع أنه الموافق لما فعله إبراهيم عليه السلام.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه في الباب الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3251]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ -يَعْنِي ابْنَ مُوسَى- حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَن الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَن الْحِجْرِ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي الْأَحْوَصِ، وَقَالَ فِيهِ: فَقُلْتُ: فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا، لَا يُصْعَدُ إِلَيْهِ إِلَّا بِسُلَّمٍ؟ وَقَالَ: "مَخَافَةَ أَنْ تَنْفِرَ قُلُوبُهُمْ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى) بن أبي المختار باذام الْعَبْسيّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ كان يتشيّع [9](ت 213) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
2 -
(شَيْبَانُ) بن عبد الرحمن التميميّ مولاهم، أبو معاوية الثحويّ
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 97.
(2)
راجع: "الفتح" 4/ 490.
البصريّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ صاحب كتاب [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: رواية شيبان، عن أشعث بن أبي الشعثاء هذه ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:
(2946)
- حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا عبيد الله بن موسى، حدّثنا شيبان، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الْحِجْر، فقال:"هو من البيت"، قلت: ما منعهم أن يُدخِلوه فيه؟ فقال: "عَجَزَت بهم النفقة"، قلت: فما شأن بابه مرتفعًا، لا يُصْعَد إليه إلا بِسُلَّم؟ قال:"ذلك فِعْلُ قومك؛ ليدخلوه من شاءوا، ويمنعوه من شاءوا، ولولا أن قومك حديثُ عهدٍ بكفر مَخَافةَ أن تَنْفِر قلوبهم، لنظرت هل أُغَيِّره، فأُدخل فيه ما انتقص منه، وجعلت بابه بالأرض". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(68) - (بَابُ الْحَجِّ عَن الْعَاجِزِ؛ لِزَمَانَةٍ، وَهَرَمٍ، وَنَحْوِهِمَا، أَوْ لِلْمَوْتِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3252]
(1334) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ تَسْتَفْتِيهِ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ فَرِيضَةَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ) الهلاليّ المدليّ، ثقةٌ فاضل فقيهٌ مشهورٌ، من كبار [3] مات بعد المائة، وقيل: قبلها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 489.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي، وفيما قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ عن تابعيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه سليمان بن يسار أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ) وفي الرواية التالية: "حدّثنا سليمان بن يسار"(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، وفي رواية للبخاريّ، من طريق شعيب، عن ابن شهاب، أخبرني سليمان، أخبرني عبد الله بن عباس.
ثم إن هذه الرواية صريحة في أن هذا الحديث من مسند عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما، وهكذا رواه مالك هنا، وابن عيينة، وصالح بن كيسان كلهم عن الزهريّ، وكذا هو عند أكثر الرواة، عن الزهريّ، عن سليمان، عند الشيخين، وغيرهما.
وخالفهم ابن جريج، عن الزهريّ في الرواية التالية: فقال: عن ابن عبّاس، عن الفضل، أن امرأة من خثعم، فذكره، فجعله من مسند الفضل، وتابعه معمر.
وروى ابن ماجه من طريق محمد بن كريب، عن أبيه، عن ابن عبّاس، أخبرني حصين بن عوف الخثعميّ، قال: قلت: يا رسول الله! إن أبي أدركه الحجّ، ولا يستطيع أن يحجّ
…
الحديث، قال الترمذيّ: سألت محمدًا -يعني البخاريّ- عن هذا؟ فقال: أصحّ شيء فيه ما رُوي عن ابن عبّاس، عن
الفضل، قال: فيحتمل أن يكون ابن عبّاس سمعه من الفضل، ومن غيره، ثم رواه بغير واسطة. انتهى.
قال الحافظ رحمه الله: وإنما رجّح البخاريّ الرواية عن الفضل؛ لأنه كان رِدْف النبيّ صلى الله عليه وسلم حينئذ، وكان عبد الله بن عبّاس قد تقدّم من المزدلفة إلى منى مع الضَّعَفَة.
وأخرج الشيخان من طريق عطاء، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أردف الفضل، فأخبر الفضل أنه لم يزل يُلبّي حتى رمى الجمرة، فكأنّ الفضل حدّث أخاه بما شاهده في تلك الحالة.
ويَحْتَمِل أن يكون سؤال الخثعميّة وقع بعد رمي جمرة العقبة، فحضره ابن عبّاس، فنقله تارةً عن أخيه؛ لكونه صاحب القصّة، وتارة عما شاهده، ويؤيّد ذلك ما وقع عند الترمذيّ، وأحمد، وابنه عبد الله، والطبريّ، من حديث عليّ ما يدلّ على أن السؤال المذكور وقع عند الْمَنْحَر بعد الفراغ من الرمي، وأن العبّاس كان شاهدًا، ولفظ أحمد عندهم، من طريق عبيد الله بن أبي رافع، عن عليّ رضي الله عنه قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة، فقال: "هذا الموقف، وعرفة كلها موقف
…
"، فذكر الحديث، وفيه: ثم أتى الْمَنْحَر، فقال: "هذا المنحر، ومنى كلّها منحر"، قال: واستفتته، وفي رواية ابنه عبد الله: ثم جاءته امرأة شابّةٌ، من خثعم، فقالت: إن أبي شيخ كبيرٌ، قد أفند، وقد أدركته فريضة الله في الحجّ، أفيجزئ عنه أن أؤدّي عنه؟ قال: "نعم، فأدّي عن أبيك"، قال: ولَوَى عنق الفضل، فقال العبّاس: يا رسول الله! لِمَ لويت عنق ابن عمّك؟ قال: "رأيت شابًّا، وشابًّة، فلم آمن عليهما الشيطان".
وظاهر هذا أن العبّاس كان حاضرًا لذلك، فلا مانع أن يكون ابنه عبد الله أيضًا كان معه. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحاصل أن الحديث صحيح من مسند عبد الله بن عباس، ومن مسند الفضل بن عباس رضي الله عنهم، لكن كونه من مسند الفضل أرجح كما قال البخاريّ رحمه الله؛ لأنه صاحب القصّة، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 5/ 151.
(أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: راكبًا خلفه (فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ) قال الحافظ: لم تسمّ (مِنْ خَثْعَمَ) قال القسطلّانيّ: بفتح الخاء المعجمة، وسكون المثلّثة، وفتح العين المهملة، غير مصروف للعلميّة والتأنيث باعتبار القبيلة، لا العلميّة، ووزن الفعل، وهي قبيلة مشهورة؛ أي: من اليمن، وقال السنديّ: غير منصرف للعلميّة ووزن الفعل
(1)
، أو التأنيث؛ لكونه اسم قبيلة.
وقال القاري: أبو قبيلة من اليمن، سُمّوا به، ويجوز صرفه، ومنعه، وقال الزرقانيّ: قبيلة مشهورة، سميت باسم جدّها، واسمه: أفتل بن أنمار، قال الكلبيّ: إنما سُمِّي خثعم بجمل، يقال له: خثعم، ويقال: إنه لما تحالف ولد أفتل على إخوته نحروا بعيرًا، ثم تخثعموا بدمه؛ أي: تلطّخوا به بلغتهم. انتهى
(2)
.
(تَسْتَفْتِيهِ) أي: تطلب منه الفتيا.
[تنبيه]: اتفقت الروايات كلها، عن ابن شهاب على أن السائلة، كانت امرأة، وأنها سألت عن أبيها، وخالفه يحيى بن أبي إسحاق، عن سليمان، فاتفقت الرواة عنه على أن السائل رجل، ثم اختلفوا عليه في إسناده ومتنه:
أما إسناده، فقال هشيم عنه:"عن سليمان، عن عبد الله بن عباس". وقال محمد بن سيرين عنه: "عن سليمان، عن الفضل". أخرجهما النسائيّ، وقال ابن عليّة عنه:"عن سليمان، حدّثني أحد ابني العبّاس: إما الفضل، وإما عبد الله"، أخرجه أحمد.
وأما المتن، فقال هشيم:"أن رجلًا سأل، فقال: إن أبي مات"، وقال ابن سيرين:"فجاء رجلٌ، فقال: إن أمي عجوز كبيرة"، وقال ابن عُليّة:"فجاء رجلٌ، فقال: إن أبي وأمي".
وخالف الجميع معمرٌ، عن يحيى بن أبي إسحاق، فقال في روايته:"إن امرأة سألت عن أمّها".
(1)
وهكذا في شرح السيوطيّ على النسائيّ، لكن الظاهر أن منعه للعلميّة والتأنيث.
(2)
"شرح الزرقاني على الموطأ" 2/ 291.
قال الحافظ رحمه الله: وهذا الاختلاف كلّه عن سليمان بن يسار، فأحببنا أن ننظر في سياق غيره، فإذا كريب قد رواه عن ابن عبّاس، عن حُصين بن عوف الخثعميّ، قال:"قلت: يا رسول الله إن أبي أدركه الحجّ"، وإذا عطاء الخراسانيّ، قد روى عن أبي الغوث بن حصين الخثعميّ:"أنه استفتى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن حجة كانت على أبيه"، أخرجهما ابن ماجه، والرواية الأولى أقوى إسنادًا، وهذا يوافق رواية هشيم في أن السائل عن ذلك رجل سأل عن أبيه، ويوافقه ما روى الطبرانيّ من طريق عبد الله بن شدّاد، عن الفضل بن عباس:"أن رجلًا قال: يا رسول الله! إن أبي شيخ كبير"، ويوافقهما مرسل الحسن، عند ابن خزيمة، فإنه أخرجه من طريق عوف، عن الحسن، قال: "بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل، فقال: إن أبي شيخ كبيرٌ، أدرك الإسلام، لم يحُجّ
…
" الحديث، ثم ساقه من طريق عوف، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال مثله، إلا أنه قال: إن السائل سأل عن أمّه، وهذا يوافق رواية ابن سيرين أيضًا عن يحيى بن أبي إسحاق، كما تقدّم.
قال الحافظ: والذي يظهر لي من مجموع هذه الطرق أن السائل رجلٌ، وكانت ابنته معه، فسألت أيضًا، والمسؤول عنه أبو الرجل، وأمه جميعًا.
ويقرب من ذلك ما رواه أبو يعلى بإسناد قويّ من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، عن الفضل بن عبّاس، قال:"كنت ردف النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأعرابيّ معه بنت حسناء، فجعل الأعرابيّ يَعرِضها لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يتزوّجها، وجعلت ألتفت إليها، ويأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم برأسي، فيلويه، فكان يلبّي حتى رمى جمرة العقبة".
فعلى هذا فقول الشابّة: إن أبي، لعلّها أرادت به جدّها؛ لأن أباها كان معها، وكأنه أمرها أن تسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم ليسمع كلامها، ويراها رجاء أن يتزوّجها، فلما لم يرضها، سأل أبوها، عن أبيه، ولا مانع أن يسأل أيضًا عن أبويه.
وتحصّل من هذه الروايات أن اسم الرجل حصين بن عوف الخثعميّ. وأما ما وقع في الرواية الأخرى أنه أبو الغوث بن حصين فإن إسنادها ضعيف، ولعلّه كان فيه عن أبي الغوث حصين، فزيد في الرواية "ابن"، أو أن
أبا الغوث أيضًا كان مع أبيه حصين، فسأل كما سأل أبوه وأخته، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقيل: الأحسن في الجمع بين ذلك أن يقال: إن البنت المذكورة في رواية أبي يعلى كانت مع عمّ لها، لا مع أبيها، فإن التجوّز في رواية أبي يعلى من لفظ:"معه بنت" أهون من التجوّز في جميع الروايات المختلفة الواردة بلفظ: "إن أبي شيخ كبير"، فالابنة سألت عن أبيها، والعمّ سأل عن أبيه، وأيضًا -على ما أفاد الحافظ- لم يبق الحاجة إلى سؤاله عن أبيه، بعدما سألت هي عنه. انتهى
(2)
.
وذهب الحافظ العراقيّ رحمه الله إلى أن الأَولى في الجمع أن يُحمَل على تعدّد القضيّة، قال: إن السؤال وقع مرّات، مرّة من امرأة عن أبيها، ومرّة من امرأة عن أمها، ومرّة من رجل عن أبيه، ومرّة في السؤال عن الشيخ الكبير، ومرّة في الحجّ عن الميت. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي جمع به الحافظ العراقيّ رحمه الله هو أقرب أوجه الجمع عندي، وأبعدها عن التكلّف، والله تعالى أعلم.
ووقع السؤال عن هذه المسألة من شخص آخر، وهو أبو رَزِين الْعُقَيليّ، وهي قصّة أخرى. قال الحافظ: ومن وحّد بينها وبين حديث الخثعميّة، فقد أبعد، وتكلّف. انتهى كلام الحافظ بتصرّف
(3)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لكن في جعل الروايات المختلفة على يحيى بن أبي إسحاق مفسّرة للروايات المختلفة على الزهريّ عندي نظر؛ لأن روايات يحيى أسانيدها فيها كلامٌ؛ إذ هي مضطربة سندًا ومتنًا، كما سبق بيان ذلك، إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم.
وفي رواية النسائيّ: "سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم غداة جمع".
(فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ) وفي رواية صالح بن كيسان، عن ابن شهاب: "فأخذ
(1)
"الفتح" 5/ 153 - 154.
(2)
راجع: "المرعاة" 9/ 321.
(3)
راجع: "الفتح" 5/ 154.
الفضل بن عبّاس يلتفت إليها، وكانت امرأة حسناء، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الفضل، فحوّل وجهه من الشقّ الآخر"، وفي رواية: "فجاءت امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشقّ الآخر"، وفي رواية: "وكان الفضل رجلًا وضيئًا، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة، فطفق الفضل ينظر إليها، وأعجبه حسنها"، وفي رواية: "فالتفت النبيّ صلى الله عليه وسلم، والفضل ينظر إليها، فأخلف بيده، فأخذ بذقن الفضل، فدفع وجهه عن النظر إليها"، ووقع في رواية الطبريّ في حديث عليّ: "وكان الفضل غلامًا جميلًا، فإذا جاءت الجارية من هذا الشقّ صرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه الفضل إلى الشقّ الآخر، فإذا جاءت إلى الشقّ الآخر، صرف وجهه عنه" -وقال في آخره -:"رأيتُ غلامًا وجاريةً، فخشيت أن يدخل بينهما الشيطان".
(قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ فَرِيضَةَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ) متعلّقٌ بـ "فريضة"، أو بحال مقدّر (فِي الْحَجِّ) أي: في أمره، وشأنه، ويمكن أن تكون "في" بمعنى "من" البيانيّة. قاله القاري. وفي رواية يحيى بن أبي إسحاق، عن سليمان:"إن أبي أدركه الحجّ"(أَدْرَكَتْ أَبِي) لم يسمّ أيضًا، وهو مفعول "أدركت"، وقوله:(شَيْخًا) منصوب على الحال، أو بدلٌ من "أبي"، وقوله:(كبِيرًا) نعتٌ له، وفي الرواية التالية:"إن أبي شيخٌ كبيرٌ، عليه فريضة الله في الحجّ".
قال السنديّ رحمه الله: قوله: "أدركت أبي شيخًا كبيرًا" يفيد أن افتراض الحجّ لا يشترط له القدرة على السفر، وقد قرّر صلى الله عليه وسلم ذلك، فهو يؤيّد أن الاستطاعة المعتبرة في افتراض الحجّ ليست بالبَدن، وإنما هي بالزاد والراحلة، والله تعالى أعلم. انتهى، وسيأتي تحقيق القول في هذا قريبًا، إن شاء الله تعالى.
(لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ) تعني أنه لا يثبت على الدّابّة، ولا يستقرّ؛ لكبر سنّه، والجملة نعت لقوله:"شيخًا"، ويَحْتَمِل أن يكون حالًا أيضًا، فيكون من الأحوال المتداخلة، أو المترادفة.
وفي الرواية التالية: "وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره"، وفي رواية النسائيّ:"لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّحْلِ"، وفي رواية يحيى بن أبي إسحاق، عن سليمان عنده:"لا يثبت على راحلته، فإن شددته خشيت أن يموت"، وفي
رواية صالح بن كيسان، عن ابن شهاب:"لا يستوي على الراحلة"، وفي حديث أبي هريرة عند ابن خزيمة:"وإن شددته بالحبل على الراحلة، خشيت أن أقتله".
والمراد أنه وجب عليه الحجّ، بأن أسلم، وهو بهذه الصفة.
قال الحافظ: وهذا يفهم منه أنّ من قدر على غير هذين الأمرين، من الثبوت على الراحلة، أو الأمن عليه من الأذى لو رُبط لم يُرخّص له في الحجّ عنه، كمن يقدر على محلّ مُوَطّإ؛ كالمِحَفّة
(1)
. انتهى.
(أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟) أي: أيجوز لي أن أنوب عنه فأحجّ عنه؛ لأن ما بعد الفاء الداخلة عليها الهمزة معطوف على مقدّر، وقيل: لا حاجة إلى التقدير، بل الهمزة مقدّمة من تأخير، والأصل "فأأحجّ عنه"، فقدّمت؛ لأن لها صدر الكلام.
وفي رواية عبد العزيز، وشعيب:"فهل يقضي عنه"، وفي حديث عليّ:"هل يُجزئ عنه".
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("نَعَمْ") وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "احججي عن أبيك".
وقوله: (وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ) يعني أن هذه القصّة وقعت في عام حجة الوداع، وفي رواية للبخاريّ من طريق شعيب، عن الزهريّ:"يوم النحر"، وللنسائيّ، من طريق ابن عيينة، عن ابن شهاب:"غداة جمع"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [68/ 3252](1334)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1513) و"جزاء الصيد"(1854 و 1855) و"المغازي"(4399) و"الاستئذان"(6228)، و (أبو داود) في "المناسك"(1809)، و (الترمذيّ) في "الحج"
(1)
بكسر الميم: مركب من مراكب النساء، كالهودج. اهـ. "المصباح".
(928)
، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(5/ 117 و 119 و 8/ 228) و"الكبرى"(2/ 332 و 325 و 3/ 470 و 471)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(2907 و 2909)، و (مالك) في "الموطّإ"(806)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 993)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 219 و 251 و 329 و 346 و 359)، و (الدارميّ) في "سننه"(1833)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(3031 و 3032 و 3036 و 3042)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3989)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(18/ 722 و 723) و"الأوسط"(1/ 121)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 10)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 328 و 329 و 5/ 179)، و"المعرفة"(3/ 472 و 473)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1854)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان جواز الحج عن الحيّ الذي لا يستمسك على الرحل؛ لزمانته، أو هَرَمه.
2 -
(ومنها): بيان جواز ركوب شخصين، فأكثر على دابّة، وهذا مما لا خلاف فيه إذا أطاقت الدّابّة ذلك.
3 -
(ومنها): بيان إباحة الارتداف مع الأكابر، قال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: وذلك من التواضع، وأفعالُ رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها سننٌ مرغوبٌ فيها، يحسن التأسّي بها على كلّ حال، وجميل الارتداف
(1)
بالجليل من الرجال.
4 -
(ومنها): بيان تواضع النبيّ صلى الله عليه وسلم.
5 -
(ومنها): بيان منزلة الفضل بن عبّاس رضي الله عنهما عند النبيّ صلى الله عليه وسلم.
6 -
(ومنها): بيان منع النظر إلى الأجنبيّات، وغضّ البصر، قال القاضي عياض رحمه الله: وزعم بعضهم أنه غير واجب إلا عند خشية الفتنة، قال: وعندي أن فعله صلى الله عليه وسلم إذ غطّى وجه الفضل أبلغ من القول، ثم قال: لعلّ الفضل لم ينظر نظرًا ينكَر، بل خشي عليه أن يؤول إلى ذلك، أو كان قبل نزول الأمر بإدناء الجلابيب.
(1)
هكذا نسخة: "الاستذكار" 12/ 56، ولعلّ الأولى: "ويَجْمُلُ الارتداف
…
إلخ"، فليُتأمل.
وقال ابن بطال رحمه الله: في الحديث الأمر بغض البصر خشية الفتنة، ومقتضاه أنه إذا أُمنت الفتنة لم يَمتنع، قال: ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم لم يحوّل وجه الفضل حتى أدمن النظر إليها؛ لإعجابه بها، فخشي الفتنة عليه. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قول من قيّد بخشية الفتنة هو الظاهر من هذا الحديث؛ لأن الصحابة الآخرين لم ينهاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم عن النظر إليها حينما تسأل، فقد كان العبّاس رضي الله عنه، وغيره حاضرين ذلك السؤال، فتأمله حقّ التأمل، والله تعالى أعلم.
7 -
(ومنها): ما قيل: إن فيه دليلًا على أن نساء المؤمنين ليس عليهنّ من الحجاب ما يلزم أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ إذ لو لزم ذلك جميع النساء لأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم الخثعمية بالاستتار، ولَمَا صَرَف وجه الفضل، قاله ابن بطّال رحمه الله.
8 -
(ومنها): قال ابن بطّال أيضًا: وفيه دليل على أن ستر المرأة وجهها ليس فرضًا؛ لإجماعهم على أن للمرأة أن تبدي وجهها في الصلاة، ولو رآه الغرباء، وأن قوله:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] على الوجوب في غير الوجه. انتهى.
وتعقّبه الحافظ: بأن في استدلاله بقصة الخثعمية لِمَا ادّعاه نظر؛ لأنها كانت محرمة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: وفي تعقّب الحافظ بما قاله نظر؛ إذ كون الخثعميّة في ذلك الوقت محرمة غير محقّق؛ لأن ذلك كما سبق كان في المنحر، بعد أن رجع النبيّ صلى الله عليه وسلم من رمي الجمار، فيحتمل أنها تحلّلت، فليُتأمل، والله تعالى أعلم.
9 -
(ومنها): أنه يؤخذ منه التفريق بين الرجال والنساء في خشية الفتنة، حيث إنه صلى الله عليه وسلم شدّد في الفضل، ولم يشدّد في المرأة.
10 -
(ومنها): بيان ما ركّب في الآدميين من شهوات النساء في الرجال، والرجال في النساء، وما يُخاف من النظر إليهنّ، وكان الفضل من أجمل الشبّان في زمانه.
(1)
"الفتح" 14/ 139 - 140.
وقال ابن بطّال رحمه الله: وفيه مغالبة طباع البشر لابن آدم، وضعفه عما رُكِّب فيه من الميل إلى النساء، والإعجاب بهنّ. انتهى.
11 -
(ومنها): أن فيه الردّ على من زعم أن صوت المرأة عورة، فيجوز سماع صوت المرأة الأجنبيّة للأجانب، والاستماع إلى كلامها في الاستفتاء عن العلم، وإفتائها لمن سألها، وعلى هذا جرى الأمر من لدن العهد النبويّ، فكان الصحابة رضي الله عنهم يستفتون أمهات المؤمنين رضي الله عنهن ويسألونهنَّ عن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك يسألون الصحابيّات، كما كانوا يسألون فاطمة بنت قيس في قصّة المطلّقة، وأسماء بنت عميس في شأن الهجرة، وغير ذلك مما هو في "الصحيحين"، وغيرهما، وكذلك كانت النساء تترافع في الحكم إلى القضاة، ويستفتين العلماء، ويقع لهنّ التعامل بالبيع والشراء، ونحو ذلك، ولم يُنقل في ذلك إنكار عن أحد ممن يُعتبر قوله، فالقول بأن صوت المرأة عورة قول مخالف للأدلّة الشرعيّة. فليتنبّه، والله تعالى أعلم.
12 -
(ومنها): أن على العالم، والإمام أن يغيّر من المنكر كلّ ما يمكنه بحسب ما يقدر عليه إذا رآه، وليس عليه ذلك فيما غاب عنه.
13 -
(ومنها): أنه يجب على الإمام أن يَحُول بين الرجال والنساء اللواتي لا يؤمن عليهنّ، ولا منهنّ الفتنة، ومن الخروج، والمشي منهنّ في الحواضر والأسواق، وحيث ينظرن إلى الرجال، وينظر إليهنّ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما تركت بعدي فتنة أضرّ على الرجال من النساء"، متّفقٌ عليه.
14 -
(ومنها): ما قيل: إن فيه دليلًا على أن إحرام المرأة في وجهها، فتكشفه في الإحرام، ورَوَى أحمد، وابن خزيمة من وجه آخر عن ابن عبّاس رضي الله عنهما؛ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال للفضل حين غطّى وجهه يوم عرفة:"هذا يوم من مَلَكَ فيه سمعه، وبصره، ولسانه غُفر له".
15 -
(ومنها): ما قاله الحافظ أبو عمر رحمه الله: وقد زعم بعض أصحابنا أن في هذا الحديث دليلًا على أن للمرأة أن تحجّ، وإن لم يكن معها ذو محرم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمرأة الخثعميّة:"حجي عن أبيك"، ولم يقل: إن كان معك ذو محرم، قال: وهذا ليس بالقويّ من الدليل؛ لأن العلم ما نُطِقَ
به، لا ما سُكِت عنه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله، واليوم الآخر تسافر، إلا مع ذي محرم، أو زوج"، متّفقٌ عليه، واللفظ لمسلم.
16 -
(ومنها): أن فيه برّ الوالدين، والاعتناء بأمرهما، والقيام بمصالحهما، من قضاء دَين، وخدمة، ونفقة، وغير ذلك من أمور الدِّين والدنيا.
17 -
(ومنها): ما قيل: إنه يدلّ على عدم وجوب العمرة؛ لأن المرأة الخثعميّة لم تذكرها.
وتعُقّب بأن مجرّد ترك السؤال لا يدلّ على عدم الوجوب؛ لاستفادة ذلك من حكم الحجّ، ولاحتمال أن يكون أبوها قد اعتمر قبل الحجّ، على أن السؤال عن الحجّ والعمرة قد وقع في حديث أبي رَزين الْعُقَيليّ رضي الله عنه.
18 -
(ومنها): ما قاله ابن العربيّ رحمه الله: إن حديث الخثعمّية أصل متّفق على صحّته في الحجّ، خارجٌ عن القاعدة المستقرّة في الشريعة، من أنه ليس للإنسان إلا ما سعى؛ رفقًا من الله تعالى في استدراك ما فرّط فيه المرء بولده، وماله.
وتُعُقّب بأنه يمكن أن يدخل في عموم السعي، وبأن عموم السعي في الآية مخصوص اتفاقًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في جواز الحجّ عن الغير:
قال الحافظ أبو عمر رحمه الله تعالى ما حاصله: اختلفوا في حجّ المرء عمن لا يطيق الحجّ من الأحياء، فذهب جماعة منهم إلى أن هذا الحديث مخصوص به أبو الخثعميّة، لا يجوز أن يُتَعدّى به إلى غيره، بدليل قول الله عز وجل:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، ولم يكن أبو الخثعميّة ممن يلزمه الحجّ لَمّا لم يستطع إليه سبيلًا؛ فخصّ بأن يُقضى عنه، وينفعه ذلك، وخُصّت ابنته أيضًا أن تحجّ عن أبيها، وهو حيٌّ.
وممن قال بذلك مالكٌ، وأصحابه، قالوا: خُصّ أبو الخثعميّة، والخثعميّةُ بذلك، كما خُصّ سالم مولى أبي حذيفة برضاعه في حال الكبر، وهذا مما يقول به المخالف، فيلزمه، ورُوي معنى قول مالك عن عبد الله بن الزبير، وعكرمة، وعطاء، والضحّاك، قال ابن الزبير: الاستطاعة: القوّة، وقال
عكرمة: الاستطاعة: الصحّة، وقال أشهب: قيل لمالك: الاستطاعة: الزاد والراحلة؟ قال: لا والله، وما ذاك إلا على قدر طاقة الناس، فربّ رجل يجد زادًا وراحلةً، ولا يقدر على المسير، وآخر يقوى يمشي على راحلته، وإنما هو كما قال الله:{مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} .
وذهب آخرون إلى أن الاستطاعة تكون في البدن والقدرة، وتكون أيضًا بالمال لمن لم يستطع ببدنه، واستدلّوا بهذا الحديث، وما كان مثله.
وممن قال بذلك الشافعيّ، وأبو حنيفة، والثوريّ، وأحمد، وإسحاق، ورُوِي ذلك عن عمر بن الخطّاب، وعبد الله بن عبّاس، وسعيد بن جبير، والحسن، وعمرو بن دينار، والسدّيّ، وجماعة سواهم، كلهم يقولون: السبيل: الزاد والراحلة، وهذا يدلّ على أن فرض الحجّ على البدن والمال.
وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "السبيل: الزاد والراحلة"، من وجوه، منها مرسلة، ومنها ضعيفة. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": وفي هذا الحديث من الفوائد جواز الحجِّ عن الغير، واستدلّ الكوفيّون بعمومه على جواز صحّة حج من لم يحجّ نيابةً عن غيره، وخالفهم الجمهور، فخصّوه بمن حجّ عن نفسه، واستدلّوا بما في "السنن"، وصححه ابن خُزيمة، وغيره، من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما أيضًا: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يُلبّي عن شُبْرُمة، فقال:"أحججت عن نفسك؟ "، فقال: لا، قال:"هذه عن نفسك، ثم احجج عن شُبْرُمة"
(2)
.
واستُدلّ به أيضًا على أنّ الاستطاعة تكون بالغير، كما تكون بالنفس، وعكس بعض المالكيّة، فقال: من لم يستطع بنفسه لم يلاقه الوجوب، وأجابوا عن حديث الباب بأنّ ذلك وقع من السائل على جهة التبرّع، وليس في شيء من طرقه تصريح بالوجوب، وبأنها عبادة بدنيّة، فلا تصحّ النيابة فيها كالصلاة، وقد نقل الطبريّ وغيره الإجماع على أن النيابة لا تدخل في الصلاة، قالوا: ولأن العبادات فُرضت على جهة الابتلاء، وهو لا يوجد في العبادات البدنيّة،
(1)
"الاستذكار" 12/ 62.
(2)
حديث صحيح، رواه أبو داود برقم (1811)، وابن ماجه برقم (2903).
إلا بإتعاب البدن، فبه يظهر الانقياد، أو النفور، بخلاف الزكاة، فإن الابتلاء فيها بنقص المال، وهو حاصلٌ بالنفس، وبالغير.
وأُجيب بأن قياس الحجّ على الصلاة لا يصحّ؛ لأن عبادة الحجّ ماليّة بدنيّة معًا، فلا يترجّح إلحاقها بالصلاة على إلحاقها بالزكاة، ولهذا قال المازريّ: من غَلَّبَ حكم البَدَن في الحجّ ألحقه بالصلاة، ومن غَلَّبَ حكم المال ألحقه بالصدقة، وقد أجاز المالكيّة الحجّ عن الغير إذا أوصى به، ولم يجيزوا ذلك في الصلاة.
وبأن حصر الابتلاء في المباشرة ممنوع؛ لأنه يوجد في الآمر مِنْ بَذْلِهِ المالَ في الأجرة.
وقال القاضي عياض: لا حُجّة للمخالف في حديث الباب؛ لأن قوله: "إن فريضة الله على عباده إلخ" معناه: إن إلزام الله عباده بالحجّ الذي وقع بشرط الاستطاعة صادف أبي بصفة من لا يستطيع، فهل أحجّ عنه؟ أي: هل يجوز لي ذلك، أو هل فيه أجرٌ ومنفعة؟ فقال:"نعم".
وتُعُقّب بأن في بعض طرقه التصريح بالسؤال عن الإجزاء، فيتمّ الاستدلال، وتقدّم في بعض طرق مسلم:"إن أبي عليه فريضة الله في الحجّ". ولأحمد في رواية: "والحجّ مكتوب عليه".
وادّعَى بعضهم أن هذه القصّة مختصّة بالخثعميّة، كما اختصّ سالم مولى أبي حذيفة بجواز إرضاع الكبير. حكاه ابن عبد البرّ.
وتُعُقّب بأن الأصل عدم الخصوصيّة، واحتجّ بعضهم لذلك بما رواه عبد الملك بن حبيب صاحب "الواضحة" بإسنادين مرسلين، فزاد في الحديث:"حُجّ عنه، وليس لأحد بعده"، ولا حجة فيه لضعف الإسنادين، مع إرسالهما، وقد عارضه قوله في حديث الجهنيّة الماضي:"اقضُوا الله، فالله أحقّ بالوفاء".
وادّعَى آخرون منهم أن ذلك خاصّ بالابن يحجّ عن أبيه. ولا يخفى أنه جمود.
وقال القرطبيّ: رأى مالك أن ظاهر حديث الخثعميّة مخالف لظاهر القرآن، فرجّح ظاهر القرآن، ولا شكّ في ترجيحه من جهة تواتره، ومن جهة أن القول المذكور قول امرأة ظنّت ظنًّا، قال: ولا يقال: قد أجابها النبيّ صلى الله عليه وسلم-
على سؤالها، ولو كان ظنّها غلطًا لبيّنه لها؛ لأنا نقول: إنما أجابها عن قولها: "أفأحُجّ عنه؟ قال: حجّي عنه"؛ لِمَا رأى من حرصها على إيصال الخير والثواب لأبيها. انتهى.
وتُعُقّب بأنّ في تقرير النبيّ صلى الله عليه وسلم لها على ذلك حجة ظاهرة.
وأما ما رواه عبد الرزّاق من حديث ابن عبّاس، فزاد في الحديث:"حجّ عن أبيك، فإن لم يزده خيرًا، لم يزده شرًّا"، فقد جزم الحفّاظ بأنها رواية شاذّة، وعلى تقدير صحّتها فلا حجّة فيها للمخالف. انتهى ما في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن ما ذهب إليه من أجاز الحجّ عن الغير عند الضرورة أرجح؛ للأحاديث الصحيحة به؛ كحديث الخثعميّة، وغيرها، وكلّ ما اعترضوا به، فقد علمت جوابه فيما سبق، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: قال في "الفتح": ومن فروع المسألة أن لا فرق بين من استقرّ الوجوب في ذمّته قبل العضب
(2)
، أو طرأ عليه، خلافًا للحنفيّة، وللجمهور ظاهر قصّة الخثعميّة، وأن من حجّ عن غيره وقع الحجّ عن المستنيب، خلافًا لمحمد بن الحسن، فقال: يقع عن المباشر، وللمحجوج عنه أجر النفقة.
واختلفوا فيما إذا عُوفِي المعضوب، فقال الجمهور: لا يجزئه؛ لأنه تبيّن أنه لم يكن ميؤوسًا منه، وقال أحمد، وإسحاق: لا تلزمه الإعادة؛ لئلا يفضي إلى إيجاب حجتين.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الإمامان: أحمد وإسحاق من عدم لزوم الإعادة هو الأرجح عندي؛ لظهور حجته، والله تعالى أعلم.
واتّفَق من أجاز النيابة في الحجّ على أنها لا تجزئ في الفرض إلا عن موت، أو عضب، فلا يدخل المريض لأنه يُرجى برؤه، ولا المجنون؛ لأنه
(1)
"الفتح" 5/ 154 - 156.
(2)
"الْمَعْضُوبُ": هو الضعيف، والزَّمِنُ، لا حَرَاكَ به، قاله في "القاموس"، وفي "المصباح": عَضَبَهُ عَضْبًا، من باب ضَرَبَ: قطعه، ورجلٌ معضوبٌ: زَمِنٌ لا حَرَاكَ به، كأنّ الزَّمَانة عَضَبَته، ومنعته الحركة. انتهى.
يرجى إفاقته، ولا المحبوس؛ لأنه يرجى خَلاصه، ولا الفقير؛ لأنه يمكن استغناؤه. انتهى ما في "الفتح"
(1)
، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3253]
(1335) - (حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، أَخْبَرَنَا عِيسَى، عَن ابْنِ جُرَيْجٍ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ، عَن الْفَضْلِ؛ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ، عَلَيْهِ فَرِيضَةُ اللهِ فِي الْحَجِّ، وَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "فَحُجِّي عَنْهُ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ) بوزن جعفر المروزيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257) أو بعدها، وقد قارب المائة (م ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.
2 -
(عِيسَى) بن يونس بن أبي إسحاق السبيعيّ الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقةٌ مأمونٌ [8] (ت 187) وقيل:(191)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(الْفَضْلُ) بن عبّاس بن عبد المطّلب بن هاشم الهاشميّ، ابن عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأكبر أولاد العبّاس، استُشهِد في خلافة عمر رضي الله عنهما (ع) تقدم في "الصيام" 13/ 2589.
والباقون ذُكروا قبله، وشرح الحديث يُعلم مما مضى.
[تنبيه]: هذا الحديث مما انتقده الدارقطنيّ رحمه الله على الشيخين، فقال في "التتبّع" (103): وأخرج حديث ابن جريج، عن الزهريّ، عن سليمان بن يسار، عن ابن عباس، عن الفضل، وقال الحجاج عن ابن جريج: حُدِّثتُ عن الزهريّ، فإن كان ضبط، فقد أفسد.
(1)
"الفتح" 5/ 156.
وقال في (165): واتّفقا أيضًا، فأخرجا حديث ابن جريج، عن الزهريّ، عن سليمان بن يسار، عن ابن عبّاس، عن أخيه الفضل حديث الخثعميّة، البخاريّ عن أبي عاصم، ومسلم عن عليّ بن خَشْرَم، عن عيسى، عن ابن جريج، قالا جميعًا: عن الزهريّ، وقد أوقفه معمرٌ، والأوزاعيّ، فلم يُخرجاه عنهما، فأما الحديث الذي أخرجاه عن ابن جريج، فإن حجّاجًا قال فيه: عن ابن جريج: حُدِّثتُ عن الزهريّ، وأما مالك، ومن تابعه، فلا يذكرون عن الفضل، إنما قالوا: كان الفضل رديف النبيّ صلى الله عليه وسلم، فصارت روايتهم من مسند عبد الله بن عبّاس، حدّثناه النيسابوريّ، عن ابن رجاء، عن حجّاج، عن ابن جُريج، حُدِّثتُ عن الزهريّ. انتهى.
قال الحافظ رحمه الله: الحديث مُخَرَّج عندهما من رواية مالك وغيره عن الزهريّ، فليس الاعتماد فيه على ابن جريج وحده، مع أن حجّاجًا لم يتابع على هذا السياق، إلا أنه حافظ، وابن جريج مدلِّسٌ، فَتُعْتَمَد رواية حجاج إلى أن يوجد من رواية غيره عن ابن جريج مُصَرَّحًا فيه بالسماع من الزهريّ، فإني لم أره من حديثه إلا معنعنًا، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: حاصل ما أشار إليه الحافظ رحمه الله من الجواب أن الحديث صحيح من مسند ابن عبّاس رضي الله عنهما، كما رواه مالك وغيره، فالاعتماد على هذا الوجه، وأما رواية ابن جريج، فليس الاعتماد عليها؛ لِما ذكره الدارقطنيّ، فإن وُجد طريق صرّح فيها ابن جريج بالسماع عن الزهريّ، فذاك، وإلا فلا اعتماد عليها، والله تعالى أعلم بالصواب.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث الفضل بن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [68/ 3253](1335)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1853 و 1854) و"الاستئذان"(6228)، و (الترمذيّ) في "الحجّ"(928)،
(1)
"هدي الساري" ص 520.
و (النسائيّ) في "كتاب آداب القضاة"(8/ 227)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(2909)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 212 و 213)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(3030)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 10)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(69) - (بَابُ صِحَّةِ حَجِّ الصَّبِيِّ، وَأَجْرِ مَنْ حَجَّ بِهِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3254]
(1336) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، جَمِيعًا عَن ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَقِيَ رَكْبًا بِالرَّوْحَاءِ، فَقَالَ: "مَن الْقَوْمُ؟ " قَالُوا: الْمُسْلِمُونَ، فَقَالُوا: مَنْ أنْتَ؟ قَالَ: "رَسُولُ اللهِ"، فَرَفَعَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا، فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.
2 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل بابين.
3 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني، تقدّم أيضًا قبل بابين.
4 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم أيضًا قبل بابين.
5 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عيّاش الأسديّ مولاهم المدنيّ، أخو موسى، ثقةٌ [6](م د س ق) تقدم في "الحج" 44/ 3102.
6 -
(كُرَيْبٌ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) هو: ابن أبي مسلم الهاشميّ مولاهم، أبو رِشْدين المدنيّ، ثقةٌ [3](98)(ع) تقدم في "الحيض" 2/ 688.
7 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما ذُكر قبله.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (لَقِيَ) بكسر القاف (رَكْبًا) بفتح، فسكون: جمع راكب؛ كصاحب وصَحْبٍ، ويُجمع أيضًا على رُكبان، والمراد به الجماعة الراكبة (بِالرَّوْحَاءِ) ولأبى داود: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالروحاء، فلقي ركبًا، فسلّم عليهم
…
".
و"الرَّوْحاء" -بفتح الراء، وسكون الواو، بعدها حاء مهملة، ممدودًا على وزن حمراء-: اسم موضع بين مكة والمدينة على ثلاثين، أو أربعين ميلًا من المدينة، أفاده في "القاموس"، و"المصباح"، وقال القاضي عياض رحمه الله في "المشارق": هي من أعمال الفُرْع، بينها وبين المدينة نحو أربعين ميلًا، وفي "صحيح مسلم" في "كتاب الأذان": أن الرَّوحاء ستة وثلاثون ميلًا، وفي "كتاب ابن أبي شيبة": ثلاثون ميلًا.
وقد ثبت أن ذلك كان في حجة الوداع، فقد أخرج البيهقيّ أيضًا من طريق محمد بن سُوقة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: رَفَعَت امرأة صبيًّا لها إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في حجته، فقالت: يا رسول الله! ألهذا حجّ؟ قال: "نعم، ولك أجر".
وفي رواية النسائيّ من طريق الثوريّ، عن محمد بن عقبة، عن كريب، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: "صَدَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان بالروحاء لقي قومًا
…
".
وهذه الرواية تدلّ على أن هؤلاء القوم لَقُوا النبيّ صلى الله عليه وسلم في رجوعه من الحجّ، لا في ذهابه له، ومثله رواية البيهقيّ من طريق الشافعيّ، عن ابن عيينة: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَفَلَ، فلما كان بالروحاء لقي ركبًا
…
" الحديث، وفي رواية له من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن أبيه: "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير بطريق مكة كلّمته امرأة
…
" الحديث، وجزم به ابن القيّم في "الهدي"، حيث قال: ثم ارتحل صلى الله عليه وسلم راجعًا إلى المدينة، فلمّا كان بالروحاء لقي ركبًا، فذكر قصّة الصبيّ.
وقيل: وقعت هذه القصّة في مقدمه إلى بيت الله، والمراد بالصدور، والقفول صدوره من المدينة للحجّ، ولا يخفى ما فيه
(1)
.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَن الْقَوْمُ؟ ") وفي رواية النسائيّ: "من أنتم؟ "(قَالُوا: الْمُسْلِمُونَ) خبر لمحذوف؛ أي: نحن المسلمون (فَقَالُوا) أي: القوم (مَنْ أَنْتَ؟) كذا بالإفراد، وفي رواية النسائيّ:"من أنتم".
قال القاضي عياض رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون هذا اللقاء كان ليلًا، فلم يعرفوه صلى الله عليه وسلم، ويَحْتَمِل كونه نهارًا، لكنّهم لم يروه صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، لعدم هجرتهم، فأسلموا في بلدانهم، ولم يهاجروا قبل ذلك. انتهى.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("رَسُولُ اللهِ") أي: أنا رسول الله (فَرَفَعَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا) لا تُعرَف من هي ولا الصبيّ
(2)
، وفي رواية للنسائيّ: "فأخرجت امرأة صبيًّا من الْمِحَفّة، فقالت
…
"، وفي رواية أحمد، وأبي داود: "ففَزِعت امرأة، فأخذت بعضد صبيّ، فأخرجته من مِحَفّتها".
و"المحفّة" -بكسر الميم، وتشديد الفاء-: مركب للنساء، كالهودج، إلا أنها لا تُقبّب كما تقبّب الهوادج.
(فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ؟) وفي الرواية الآتية: "فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَلِهَذَا حَجٌّ؟ " أي: أيحصل لهذا الصبيّ ثواب حجّ، فقوله:"حجّ" فاعل بالجارّ والمجرور؛ لاعتماده على الاستفهام، ويجوز أن يكون مبتدأ مؤخّرًا خبره الجارّ والمجرور قبله، وفي رواية لأحمد:"هل لهذا حجّ؟ ".
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("نَعَمْ) أي: له حجّ، وقوله:(وَلَكِ أَجْرٌ") زاده صلى الله عليه وسلم على سؤالها؛ ترغيبًا لها.
قال عياض رحمه الله: وأجرها فيما تكلّفته في أمره في ذلك، وتعليمه، وتجنيبه ما يجتنبه المحرم.
وقال النوويّ رحمه الله: معناه بسبب حملها، وتجنيبها إياه ما يجتنبه المحرم، وفعل ما يفعله المحرم.
(1)
وراجع: "القرى لقاصد أم القرى" ص 49 - 50، و"المرعاة" 8/ 309.
(2)
"تنبيه المعلم" ص 228.
وقال الصنعانيّ رحمه الله: قوله: "لك أجر" أي: بسبب حملها، وحجّها به، أو بسبب سؤالها عن ذلك الحكم، أو بسبب الأمرين.
وقال القاريّ رحمه الله: أي: أجر السببيّة، وهو تعليمه إن كان مميّزًا، أو أجر النيابة في الإحرام، والرمي، والإيقاف، والحمل في الطواف، والسعي، إن لم يكن مميّزًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: قال الحافظ أبو عمر رحمه الله في كتابه "التمهيد": قد رَوَى هذا الحديث عن إبراهيم بن عقبة جماعةٌ من الأئمة الحفّاظ، فأكثرهم رواه مسندًا، وممن رواه مسندًا معمر، ومحمد بن إسحاق، وسفيان بن عيينة، وموسى بن عقبة، واختُلف فيه على الثوريّ، كما اختُلف على مالك، وكان عند الثوريّ عن إبراهيم، ومحمد ابني عقبة جميعًا، عن كريب.
فرواه أبو نُعيم الفضل بن دُكين، عن الثوريّ، عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب، عن ابن عبّاس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مسندًا.
ورواه وكيع، عن الثوريّ، عن محمد، وإبراهيم ابني عقبة، عن كريب مرسلًا.
ورواه يحيى القطّان، عن الثوريّ، عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب، مرسلًا.
وعن الثوريّ، عن محمد بن عقبة، عن كريب، عن ابن عبّاس، مسندًا.
فقطع يحيى القطّان عن الثوريّ حديث إبراهيم، ووصل حديث محمد.
ورواه محمد بن كثير، عن الثوريّ، عن محمد بن عقبة، عن كريب، عن ابن عبّاس، متّصلًا، ومن وصل هذا الحديث، وأسنده، فقوله أولى.
والحديث صحيح، مسند، ثابت الاتّصال، لا يضرّه تقصير من قصر به؛ لأن الذين أسندوه حفّاظٌ ثقات. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله، وهو تحقيق حسن جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [69/ 3254 و 3255 و 3256 و 3257](1336)، و (أبو داود) في "المناسك"(1736)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(5/ 120 - 121) و"الكبرى"(2/ 326 - 327)، و (مالك) في "الموطّإ"(961)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 283)، و (الحميديّ) في "مسنده"(504)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(3707)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 219 و 244 و 288 و 344)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(3049)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3797)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 11)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(411)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(12176)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 256)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 155)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1853)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة الحجّ بالصغير مطلقًا، سواء كان مميّزًا، أم لا، إذا فَعَل عنه وليّه ما يفعل الحاجّ، وإلى هذا ذهب الجمهور، وسيأتي تحقيق القول فيه في المسألة التالية، إن شاء الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن الصبيّ يثاب على طاعته، ويكتب له حسناته.
3 -
(ومنها): ثبوت الأجر لوليّه إذا حجّ به.
4 -
(ومنها): مشروعيّة الزيادة في الجواب على السؤال؛ زيادة في الفائدة، وهو من مقاصد البلغاء، ومنه حديث:"هو الطهور ماؤه، الحلّ ميتته"، فإن السؤال كان عن حكم ماء البحر، فزادهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في الجواب حكم ميتته؛ زيادة في الفائدة، وإنّ السؤال هنا كان عن حكم حج الصبي، فبيّنه صلى الله عليه وسلم لها، وزادها ثبوت الأجر لها في ذلك، وأما قول كثير من الأصوليين: يجب أن يكون الجواب مطابقًا للسؤال، فليس المراد بالمطابقة عدم الزيادة، بل المراد أن يكون الجواب مفيدًا للحكم المسؤول.
5 -
(ومنها): أن من جهل شيئًا عليه أن يسأل أهل العلم؛ قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
6 -
(ومنها): أن على النساء أن يسألن عما يجهلنه من الأحكام؛
كالرجال، وأن يتفقّهن في الدين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم حجّ الصبيّ:
قال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: أجاز الحجّ بالصبيّ جماعة العلماء بالحجاز، والعراق، والشام، ومصر، وخالفهم في ذلك أهل البدع، فلم يروا الحجّ بهم، وقولهم مهجور عند العلماء؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم حجّ بأُغيلمة بني عبد المطّلب، وقال في الصبيّ: له حجّ، وللذي يُحِجّه أجر، وحجّ أبو بكر بابن الزبير في خرقة، وقال عمر: تُكتب للصبيّ حسناته، ولا تكتب عليه السيّئات، وحجّ السلف قديمًا وحديثًا بالصبيان والأطفال، يُعرّضونهم لرحمة الله، وأخرج أبو داود بإسناد صحيح، عن عبد الملك بن الرَّبيع بن سَبْرة، عن أبيه، عن جدّه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مُرُوا الصبيّ بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، وإذا بلغ عشرًا فاضربوه عليها"، فكما تكون له صلاة، وليست عليه، كذلك له حجّ، وليس عليه.
وأكثر أهل العلم يرون الزكاة في أموال اليتامى، ومحالٌ ألا يؤجروا عليها، فالقلم إنما هو مرفوعٌ عنهم فيما أساءوا في أنفسهم، ألا ترى أن ما أتلفوه من الأموال ضمنوه، وكذلك الدماء، عمدُهم فيها خطأ يؤديه عنهم من يؤديه عن الكبار في خطئهم.
وأجمع العلماء على أن من حجّ صغيرًا قبل البلوغ، أو حُجّ به طفلًا، ثم بلغ، لم يُجزه ذلك عن حجة الإسلام.
وقد شذّت فرقة، فأجازوا له حجه بهذا الحديث، وليس عند أهل العلم بشيء؛ لأن الفرض لا يؤدَّى إلا بعد الوجوب، وهذا ابن عبّاس هو الذي روى هذا الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كان يفتي بالصبيّ يحجّ، ثم يَحتلم، قال: يحجّ حجة الإسلام، وفي المملوك يحجّ، ثم يُعتَق، قال: عليه الحجّ، ذكر عبد الرَّزَّاق عن الثوريّ، عن أبي إسحاق، عن أبي السفر، عن ابن عبّاس، وعن ابن عيينة، عن مطرّف، عن ابن عباس مثله، وعن الثوريّ، عن الأعمش، عن أبي ظَبْيان، عن ابن عبّاس مثله.
وعلى هذا جماعة علماء الأمصار، إلا داود بن عليّ، فإنه خالف في
المملوك، فقال: يجزئه عن حجة الإسلام، ولا يجزئ الصبيّ، وذكر عبد الرزّاق، عن ابن جريج أنه أخبره، عن عطاء، قال: يقضي حجة الصغير عنه، فإذا بلغ فعليه حجة واجبة. قال: وأخبرنا معمرٌ، عن ابن طاوس، عن أبيه مثله.
واختلف الفقهاء في المراهق، والعبد يُحرمان بالحجّ، ثم يَحتلم هذا، ويُعتَق هذا قبل الوقوف بعرفة: فقال مالك: لا سبيل إلى رفض الإحرامين لهذين، ولا لأحد، ويتماديان على إحرامهما، ولا يُجزئهما حجّهما ذلك عن حجة الإسلام.
وقال الشافعيّ: إذا أحرم الصبيّ، ثم بلغ قبل الوقوف بعرفة، فوقف بها محرمًا، أجزأه ذلك عن حجة الإسلام، ولم يحتج واحد منهما إلى تجديد إحرامه.
وقال أبو حنيفة: إذا أحرم الصبيّ، ثم بلغ في حال إحرامه، فإن جدّد إحرامًا قبل وقوفه بعرفة أجزأه، وإن لم يُجدّد إحرامًا لم يُجزئه، قال: وأما العبد؛ فلا يجزئه عن حجة الإسلام، وإن جدّد إحرامًا.
وقال مالك: يُحجّ بالصغير، ويجرّد بالإحرام، ويُمنع من الطيب، ومن كلّ ما يُمنع منه الكبير، فإن قوي على الطواف، والسعي، ورمي الجمار، وإلا طيف به محمولًا، ورُمي عنه، وإن أصاب صيدًا فُديَ عنه، وإن احتاج إلى ما يحتاج إليه الكبير فُعل به ذلك، وفُدي عنه.
وهذا كلّه قول الشافعيّ، وأبي حنيفة، وجماعة الفقهاء؛ إلا أن أبا حنيفة قال: لا جزاء عليه في صيد، ولا فدية عليه في لباس، ولا طيب. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله.
وقال الإمام أبو محمد بن حزم رحمه الله: ونَستَحبّ الحجّ بالصبيّ، وإن كان صغيرًا، أو كبيرًا، وله حجّ، وأجر، وهو تطوّع، وللذي يَحجّ به أجرٌ، ويجتنب ما يجتنب المحرم، ولا شيء عليه إن واقع من ذلك ما لا يحلّ له، ويُطاف به، ويُرمى عنه الجمار إن لم يطق ذلك، ويجزئ الطائف به طوافُه ذلك عن نفسه، وكذلك ينبغي أن يدرّبوا، ويعلّموا الشرائع، من الصلاة، والصوم، إذا أطاقوا ذلك، ويُجنّبوا الحرام كلّه، والله تعالى يتفضّل بأن يأجرهم، ولا يكتب عليهم
إثمًا حتى يبلغوا، قال: والحجّ عملٌ حسنٌ، وقال الله تعالى:{إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30].
[فإن قيل]: لا نيّة للصبيّ.
[قلنا]: نعم، ولا تلزمه، إنما تلزم النيّة المخاطبَ المأمورَ المكلّف، والصبيّ ليس مخاطبًا، ولا مكلّفًا، ولا مأمورًا، وإنما أجره تفضّل من الله تعالى، مجرّد عليه كما يتفضّل على الميت بعد موته، ولا نيّة له، ولا عمل بأن يأجره بدعاء ابنه له بعد موته، وبما يعمله غيره عنه، من حجّ، أو صيام، أو صدقة، ولا فرق، ويفعل الله ما يشاء، وإذا كان الصبيّ قد رُفع عنه القلم، فلا جزاء عليه في صيد إن قتله في الحرم، أو في إحرامه، ولا في حلق رأسه لأذى به، ولا عن تمتّعه، ولا لإحصاره؛ لأنه غير مخاطب بشيء من ذلك، ولو لزمه هديٌ للزمه أن يعوّض منه الصيام، وهو في المتعة، وحلق الرأس، وجزاء الصيد، وهم لا يقولون هذا، ولا يفسد حجه بشيء مما ذكرنا، إنما هو ما عَمِلَ، أو عُمل به أُجر، وما لم يعمل، فلا إثم عليه.
وقد كان الصبيان يحضرون الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، صحّت بذلك آثارٌ كثيرة؛ كصلاته بأمامة بنت أبي العاص، وحضور ابن عبّاس معه الصلاة، وسماعه بكاء الصبيّ في الصلاة، وغير ذلك، ويجزي الطائف به طوافه عن نفسه؛ لأنه طائف، وحاملٌ، فهما عملان متغايران، لكلّ منهما حكم كما هو طائفٌ، وراكب، ولا فرق.
قال: فإن بلغ الصبيّ في حال إحرامه لزمه أن يجدّد إحرامًا، ويَشرع في عمل الحجّ، فإن فاتته عرفة، أو مزدلفة، فقد فاته الحجّ، ولا هدي عليه، ولا شيء، أما تجديده الإحرام؛ فلأنه قد صار مأمورًا بالحجّ، وهو قادرٌ عليه، فلزمه أن يبتدئه؛ لأن إحرامه الأوّل كان تطوّعًا، والفرض أولى من التطوّع. انتهى كلام ابن حزم رحمه الله.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله أبو محمد بن حزم رحمه الله تحقيق نفيسٌ جدًّا، وحاصله جواز الحجّ بالصبيّ، وأنه يكتب له أجره، وأن من حجّ به يؤجر به أيضًا، وأنه يعمل ما يطيق أن يعمله من أعمال الحجّ، وما لا فليس عليه شيء، بل يعمل له من يحجّ به، مثل الرمي وغيره، ويطوف به
حاملًا له، ويعتدّ بذلك الطواف لنفسه، وللصبيّ، وأنه يجنَّب فعل محظورات الحجّ، وإن ارتكب شيئًا من ذلك فلا شيء عليه؛ لأنه مرفوعٌ عنه القلمُ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3255]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَفَعَت امْرَأَةٌ صَبِيًّا لَهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! ألِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) تقدّم قبل باب.
2 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حماد بن أسامة، تقدّم قبل بابين.
3 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه إمام مشهور، من رؤوس [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عيّاش الأسديّ مولاهم، أخو إبراهيم المذكور في السند الماضي، ثقةٌ [6](م س ق) تقدم في "الحج" 44/ 3104.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3256]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ: أَنَّ امْرَأَةً رَفَعَتْ صَبِيًّا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَلَكِ أًجْرٌ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ البصريّ الزَّمِنُ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
2 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن مهديّ بن حسّان الْعَنْبريّ، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ
ثبتٌ حافظٌ ناقدٌ [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.
والباقون ذُكروا قبله، و"سفيان" هو: الثوريّ.
والحديث سبق الكلام فيه فيما قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3257]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: ستة، وهم المذكورون في الأسانيد الماضية.
[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ، عن محمد بن عقبة هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "المجتبى" (5/ 120) فقال:
(2645)
- أخبرنا محمد بن الْمُثَنَّى، قال: حدّثنا يحيى، قال: حدّثنا سُفْيَانُ، عن مُحَمَّدِ بن عُقْبَةَ، عن كُرَيْبٍ، عن ابن عَبَّاسٍ: أَنَّ امْرَأَةً رَفَعَتْ صَبِيًّا لها إلى رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رَسُولَ اللهِ! أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قال: "نعم، وَلَكِ أَجْرٌ". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(70) - (بَابُ فَرْضِ الْحَجِّ مَرَّةً فِي الْعُمُرِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3258]
(1337) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ،
أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ مُسْلِمٍ الْقُرَشِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَطَبَنَا
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"أيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَحُجُّوا"، فَقَالَ
رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ، حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
"لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ -ثُمَّ قَالَ-: ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا
هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ، وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) السلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقةٌ متقنٌ عابدٌ [9](ت 206) وقد قارب التسعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 45.
3 -
(الرَّبِيعُ بْنُ مُسْلِمٍ الْقُرَشِيُّ) الجمحيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [7](ت 167)(بخ م د س) تقدم في "الإيمان" 100/ 526.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ) الْجُمَحيّ مولاهم، أبو الحارث المدنيّ، نزيل البصرة، ثقة ثبت، ربما أرسل [3](ع) تقدم في "الإيمان" 92/ 500.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، تقدّم في "المقدمة" 2/ 4.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذي.
3 -
(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين من الرواية، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: خطب لنا عام فُرِضَ الحجُّ، أو ذَكَر لنا أثناء خطبة من خطبه، ثمّ إنه يمتنع أن تكون هذه الخطبة في الحجّ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما حجّ في العاشر، وفرض الحجّ كان سابقًا، قيل: سنة خمس، وقيل: ست، وقيل: تسع، إلا أن يكون قاله أيضًا في حجة الوداع، أفاده الأبيّ
(1)
.
(1)
"شرح الأبّيّ" 3/ 434.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَيُّهَا النَّاسُ) بحذف حرف النداء، كما قال الحريريّ في
"ملحته":
وَحَذْفُ "يَا" يَجُوزُ فِي النِّدَاءِ
…
كَقَوْلِهِمْ "رَبِّ اسْتَجِبْ دُعَائِي"
(قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَحُجُّوا") بالضمّ، فعل أمر من حجّ، من باب نصر (فَقَالَ رَجُلٌ) هو الأقرع بن حابس التميميّ، كما بيّنه ما أخرجه أصحاب السنن، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام، فقال: إن الله تعالى كَتَبَ عليكم الحجّ، فقال الأقرع بن حابس: كلَّ عام يا رسول الله؟
…
" (أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟) بنصب "كلَّ" على أنه مفعول لفعل مقدّر؛ أي: أنحُجّ كلّ عام، أو نحو ذلك.
قال النوويّ رحمه الله: واختَلَف الأصوليّون في أنّ الأمر هل يقتضي التكرار؟ والصحيح عند أصحابنا لا يقتضيه، والثاني يقتضيه، والثالث يتوقّف فيما زاد على مرّة على البيان، فلا يُحكم باقتضائه، ولا بمنعه، وهذا الحديث قد يَستدلّ به من يقول بالتوقّف؛ لأنه سأل، فقال:"أكلّ عام؟ "، ولو كان مطلقه يقتضي التكرار، أو عدمه لم يسأل، ولقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: لا حاجة إلى السؤال، بل مطلقه محمول على كذا.
وقد يُجيب الآخرون بأنه سأل استظهارًا واحتياطًا، وقوله:"ذروني ما تركتكم" ظاهر في أنه لا يقتضي التكرار.
وقال الماورديّ رحمه الله: ويَحْتَمِل أنه إنما احتَمَل التكرار عنده من وجه آخر؛ لأن الحجّ في اللغة قصد فيه تكررٌ، فاحتَمَل عنده التكرار من جهة الاشتقاق، لا من مطلق الأمر، قال: وقد تعلّق بما ذكرناه عن أهل اللغة ههنا من قال بإيجاب العمرة، وقال: لَمّا كان قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} الآية [آل عمران: 87] يقتضي تكرار قصد البيت بحكم اللغة، والاشتقاق، وقد أجمعوا على أن الحجّ لا يجب إلا مرّة، كانت العودة الأخرى إلى البيت تقتضي كونها عمرة؛ لأنه لا يجب قصده لغير حجّ وعمرة بأصل الشرع. انتهى
(1)
.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 105.
وقال القاري رحمه الله: والأظهر أن مبنى السؤال قياسه على سائر الأعمال؛ كالصلاة، والصوم، والزكاة، ولم يدر أن تكراره كلّ عام بالنسبة إلى جميع المكلّفين من المحال، كما لا يخفى. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد ذكرت هذه المسألة في "التحفة المرضيّة"، فقلت:
اخْتَلَفُوا هَلْ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ
…
إِنْ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِمَرَّةٍ يَبِنْ
أَوْ ضِدِّهَا أَوْ صِفَةٍ أَوْ شَرْطٍ
…
قِيلَ نَعَمْ وَقِيلَ لَيْسَ يُعْطِي
وَأَوَّلًا رَجَّحَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ
…
إِذْ هُوَ غَالِبُ النُّصُوصِ فَاعْلَمْ
(فَسَكَتَ) أي: سكت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ردّ الجواب عن سؤال الرجل (حَتَّى قَالَهَا) أي: كرّر الرجل هذه الجملة (ثَلَاثًا) أي: ثلاث مرّات.
قال التوربشتيّ رحمه الله: إنما سكت النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ زجرًا له عن السؤال الذي كان السكوت عنه أولى؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما بُعث لبيان الشريعة، فلم يكن ليسكت عن بيان أمر عَلِم أن بالأمة حاجةً إلى الكشف عنه، فالسؤال عن مثله تقدُّمٌ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نُهُوا عنه، بقوله تعالى:{لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1]، والإقدام عليه ضرب من الجهل، وشرٌّ، فيه احتمال أن يعاقبوا بزيادة التكليف، وإليه أشار صلى الله عليه وسلم بقوله:"لو قلت: نعم لوجبت".
ثم لَمّا رآه صلى الله عليه وسلم لا ينزجر، ولا يقنع إلا بالجواب الصريح صرّح به (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ قُلْتُ) أي: فرضًا وتقديرًا (نَعَمْ لَوَجَبَتْ) ولا يبعد أن يكون سكوته صلى الله عليه وسلم انتظارًا للوحي.
قال النوويّ رحمه الله: فيه دليلٌ للمذهب الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان له أن يجتهد في الأحكام، ولا يشترط في حكمه أن يكون بوحي، وقيل: يشترط، وهذا القائل يُجيب عن هذا الحديث بأنه لعله أوحي إليه ذلك، والله أعلم. انتهى.
وقال الحافظ رحمه الله: استُدِلَّ به على أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان له أن يجتهد في
الأحكام؛ لقوله: "لو قلت: نعم لوجبت"، ولا يشترط في حكمه أن يكون
(1)
"المرقاة" 5/ 379.
بوحي، وأجاب من منع باحتمال أن يكون أوحي إليه ذلك في الحال. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: مسألة اجتهاده صلى الله عليه وسلم ذكرتها في "التحفة المرضيّة" بقولي:
اخْتَلَفُوا هَلِ الرَّسُولُ يَجْتَهِدْ
…
فَالأَكْثَرُونَ جَوَّزُهُ وَوُجِدْ
وَبَعْضُهُمْ مَنَعَهُ وَالْبَعْضُ فِي
…
حَرْبٍ رَأَى وَالْبَعْضُ ذُو تَوَقُّفِ
وَالْحَقُّ جَائِزٌ وَوَاقِعٌ فَقَدْ
…
جَاءَتْ وَقَائِعُ لَهَا قَدِ اجْتَهَدْ
وَالْخُلْفُ فِي خَطَئِهِ وَصُوِّبَا
…
وُقُوعُهُ بِلَا تَمَادٍ صَاحَبَا
فَاللهُ لَا يُقِرُّهُ عَلَيْهِ بَلْ
…
يُنْزِلُ وَحْيَهُ إِزَالَةَ الْخَلَلْ
ثُمَّةَ ذَا الْخُلْفُ لأَمْرٍ نُسِبَا
…
لِلدِّينِ لَا غَيْرُ فَخُذْهُ رَاغِبَا
أَمَّا الأُمُورُ الدُّنْيَوِيَّةُ فَقَدْ
…
اتَّفَقُوا فِي كَوْنِهِ فِيهَا اجْتَهَدْ
وقال السنديّ رحمه الله: قيل: وهذا بظاهره يقتضي أن أمر افتراض الحجّ كلّ عام كان مفوّضًا إليه، حتى لو قال: نعم لحصل، وليس بمستبعد؛ إذ يجوز أن يأمر الله تعالى بالإطلاق، ويفوّض أمر التقييد إلى الذي فوّض إليه البيان، فهو إن أراد أن يبقيه على الإطلاق يبقيه عليه، وإن أراد أن يقيّده بكلّ عام يقيّده به.
ثم فيه إشارة إلى كراهة السؤال في النصوص المطلقة، والتفتيش عن قيودها، بل ينبغي العمل بها على إطلاقها، حتى يظهر فيها قيد، وقد جاء القرآن موافقًا لهذه الكراهة - يعني قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} الآية [المائدة: 101]. انتهى.
وقوله: (لَوَجَبَتْ) أي: هذه العبادة، أو فريضة الحجّ المدلول عليها بقوله:"قد فَرَضَ"، أو الحجّة كلّ عام، أو حجج كثيرة على كلّ أحد (وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ") وفي رواية النسائيّ:"وَلَوْ وَجَبَتْ، مَا قُمْتُمْ بِهَا" أي: ما قدرتم كلّكم على القيام بأدائها في كلّ عام، فتقعون بذلك في حرج عظيم.
(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("ذَرُونِي) وفي رواية البخاريّ: "دَعُوني" أي: اتركوني من السؤال عن القيود في المطلقات، قال في "القاموس": ذَرْه؛ أي: دَعْه، يَذَرُه تركًا، ولا تقل: وَذْرًا، وأصله وَذِرَهُ يَذَرُهُ، كوَسِعَه يَسَعُهُ، لكن ما نطقوا بماضيه، ولا بمصدره، ولا باسم الفاعل، أو قيل: وَذِرْتُهُ شاذًّا. انتهى.
قال في "الفتح" بعد أن ذكر أن مسلمًا أخرجه مطوّلًا، ما نصّه: وأخرجه
الدارقطنيّ مختصرًا، وزاد فيه:"فنزلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101] "، وله شاهد عن ابن عبّاس، عند الطبريّ في "التفسير"، وفيه: "لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم، فاتركوني ما تركتكم
…
" الحديث، وفيه فأنزل الله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} الآية. انتهى
(1)
.
(مَا تَرَكْتُكُمْ) أي: لأني مبعوث لبيان الشرائع، وتبليغ الأحكام، فما كان مشروعًا أبيّنه لكم لا مَحَالَةَ، ولا حاجة إلى السؤال.
وقال السنديّ رحمه الله: "ما" مصدرية ظرفيّة؛ أي: مدّة تركي إياكم عن التكليف بالقيود فيها، وليس المراد: لا تطلبوا مني العلم ما دام لا أبينُ لكم بنفسي. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": قوله: "ما تركتكم" أي: مدّة تركي إياكم بغير أمر بشيء، ولا نهي عن شيء، وإنما غاير بين اللفظين؛ لأنهم أماتوا الماضي، واسمَ الفاعل منهما، واسمَ مفعولهما، وأثبتوا الفعل المضارع، وهو "يَذَرُ"، وفعل الأمر، وهو "ذَرْ"، ومثله "دَعْ"، و"يَدَعُ"، ولكن سُمع "وَدَعَ"، كما قُرئ به في الشاذّ في قوله تعالى:{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)} [الضحى: 3]، قرأ بذلك إبراهيم بن أبي عَبْلَة، وطائفة، وقال الشاعر [من الطويل]:
وَنَحْنُ وَدَعْنَا آلَ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ
…
فَرَائِسَ أَطْرَافِ الْمُثَقَّفَةِ السُّمْرِ
ويَحْتَمِل أن يكون ذكر ذلك على سبيل التفنّن في العبارة، وإلا لقال: اتركوني.
والمراد بهذا الأمر: ترك السؤال عن شيء لم يقع، خشية أن ينزل به وجوبه، أو تحريمه، وعن كثرة السؤال؛ لما فيه غالبًا من التعنّت، وخشية أن تقع الإجابة بأمر يُستثقَلُ، فقد يؤدّي لترك الامتثال، فتقع المخالفة.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ذروني ما تركتكم": يعني لا تكثروا من الاستفصال عن المواضع التي تكون مقيّدَةً بوجهٍ مّا ظاهرٍ، وإن كانت صالحة
(1)
"الفتح" 15/ 188.
(2)
"شرح السنديّ على النسائيّ" 5/ 110.
لغيره، وبيانُ ذلك: أن قوله: "فحُجّوا"، وإن كان صالِحًا للتكرار، فينبغي أن يُكتَفَى بما يصدُق عليه اللفظ، وهو المرّة الواحدة، فإنها مدلولةُ اللّفظ قطعًا، وما زاد عليها يُتغافَل عنه، ولا يُكثَر السؤال فيه؛ لإمكان أن يكثر الجواب المترتّب عليه، فيضاهي ذلك قصّة بقرة بني إسرائيل، التي قيل لهم فيها: اذبحوا بقرة، فلو اقتصروا على ما يصدق عليه اللفظ، وبادروا إلى ذبح بقرة، أيّ بقرة كانت لكانوا ممتثلين، لكن لما أكثروا السؤال كثُر عليهم الجواب، فَشَدّدوا، فشُدّد عليهم، فذُمّوا على ذلك، فخاف النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل هذا على أمته، ولذلك قال:"فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم"، وعلى هذا يُحْمَل قوله:"فإذا أمرتكم بشيء، فائتوا منه ما استطعتم"، يعني بشيء مطلق، كما إذا قال: صم، أو صلّ، أو تصدّق، فيكفي من ذلك أقلّ ما ينطلق عليه الاسم، فيصوم يومًا، ويصلّي ركعتين، ويتصدّق بشيء يُتصدّق بمثله، فإن قيّد شيئًا من ذلك بقيود، ووصفه بأوصاف لم يكن بدّ من امتثال أمره على ما فصَّلَ، وقَيَّدَ، وإن كان فيه أشدّ المشقّات، وأشدّ التكاليف، وهذا مما لا يُختَلَف فيه إن شاء الله تعالى أنه المراد بالحديث. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقد أخرج البزّار، وابن أبي حاتم في "تفسيره" من طريق أبي رافع، عن أبي هريرة رضي الله عنه عنه، مرفوعًا:"لو اعتَرَضَ بنو إسرائيل أدنى بقرة، فذبحوها، لكفتهم، ولكن شَدَّدُوا، فشدّد الله عليهم"، وفي السند عبّاد بن منصور، وحديثه من قبيل الحسن، وأورده الطبريّ، عن ابن عبّاس، موقوفًا، وعن أبي العالية، مقطوعًا، ذكره في "الفتح"
(2)
.
(فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) أي: من اليهود والنصارى (بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ) كسؤال الرؤية، والكلام، وقضيّة البقرة.
ولفظ البخاريّ من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة:"فإنما أهلك من كان قبلكم سُؤَالُهُمْ".
قال في "الفتح": قوله: "فإنما أهلك" بفتحات
(3)
، وقال بعد ذلك:
(1)
"المفهم" 3/ 447 - 448.
(2)
"الفتح" 15/ 188.
(3)
في هذا الضبط نظرٌ لا يخفى، فتأمل.
"سؤالهم" بالرفع على أنه فاعل "أهلك". وفي رواية غير الكشميهنيّ: "أُهلك" بضمّ أوله، وكسر اللام، وقال بعد ذلك:"بسؤالهم" أي: بسبب سؤالهم، وقوله:"واختلافهم" بالرفع، وبالجرّ على الوجهين. ووقع في غير رواية همام عند أحمد بلفظ:"فإنما أُهْلِكَ"، وفيه "بسؤالهم"، ويتعيّن الجرّ في "واختلافهم"، وفي رواية الزهريّ:"فإنما هَلَكَ"، وفيه "سؤالُهم"، ويتعيّن الرفع في "واختلافهم"، وأما قول النوويّ في "أربعينه": و"اختلافهم" برفع الفاء، لا بكسرها، فإنه باعتبار الرواية التي ذكرها، وهي التي من طريق الزهريّ. انتهى
(1)
.
(وَاخْتِلَافِهِمْ) بالجرّ عطفًا على "كثرة سؤالهم"، لا على "سؤالهم"، إذ الاختلاف، وإن قلّ يؤدّي إلى الهلاك.
ويَحْتَمِل أنه عطف على "سؤالهم"، فيكون إِخْبَارًا عمن تقدّم بأنه كَثُرَ اختلافهم في الواقع، فأدّاهم إلى الهلاك، وهو لا ينافي أن القليل من الاختلاف مؤدّ إلى الفساد، قاله السنديّ رحمه الله
(2)
.
(عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ) يعني أنهم إذا أمرهم الأنبياء بعد السؤال، أو قبله اختلفوا عليهم، فهلكوا، واستحقّوا الإهلاك.
قال الأبّيّ رحمه الله: قوله: "واختلافهم على أنبيائهم" هو زيادة على ما وقع، فإن الذي وقع إنما هو الإلحاح في السؤال، لا الاختلاف. انتهى.
(فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَىْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ) أي: افعلوا من ذلك المأمور به (مَا اسْتَطَعْتُمْ)"ما" موصولة مفعول "أتوا"؛ أي: الذي تستطيعون فعله، أو هي مصدريّة؛ أي: افعلوا قدر استطاعتكم.
قال النوويّ رحمه الله: هذا من قواعد الإسلام المهمّة، ومن جوامع الكلم التي أعطيها صلى الله عليه وسلم، ويدخل فيه ما لا يُحصَى من الأحكام؛ كالصلاة بأنواعها، فإذا عجز عن بعض أركانها، أو بعض شروطها أتى بالباقي، وإذا عجز عن بعض أعضاء الوضوء، أو الغسل غسل الممكن، وإذا وجد بعض ما يكفيه من
(1)
"الفتح" 15/ 189.
(2)
"شرح السنديّ على النسائيّ" 5/ 110 - 111.
الماء لطهارته، أو لغسل النجاسة، فَعل الممكن، وإذا وجبت إزالة منكرات، أو فطرة جماعة من تلزمه نفقتهم، أو نحو ذلك، وأمكنه البعض فعل الممكن، وإذا وجد ما يستر بعض عورته، أو حَفِظَ بعض الفاتحة أتى بالممكن، وأشباه هذا غير منحصرة، وهي مشهورة في كتب الفقه، والمقصود التنبيه على أصل ذلك. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال غيره: فيه أنّ من عجز عن بعض الأمور لا يسقط عنه المقدور، وعبّر عنه بعض الفقهاء بأنّ الميسور لا يسقط بالمعسور، كما لا يسقط ما قدر عليه من أركان الصلاة بالعجز عن غيره، وتصحّ توبة الأعمى عن النظر المحرّم، والمجبوب عن الزنا؛ لأن الأعمى، والمجبوب قادران على الندم، فلا يسقط عنهما بعجزهما عن العزم على عدم العود؛ إذ لا يُتصوّر منهما العود عادة، فلا معنى للعزم على عدمه. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: وهذا الحديث موافق لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. وأما قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] ففيها مذهبان: أحدهما: أنها منسوخة بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} . والثاني: -وهو الصحيح، أو الصواب-، وبه جزم المحققون أنها ليس منسوخةً، بل قوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} مفسّرة لها، ومبيّنة للمراد بها. قالوا: وحقّ تقاته، هو امتثال أمره، واجتناب نهيه، ولم يأمر الله سبحانه وتعالى إلا بالمستطاع، قال الله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقال تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحجّ: 78]، والله تعالى أعلم. انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح": وزعم بعضهم أن قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} نَسَخَ قولَهُ تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} ، والصحيح أن لا نسخ، بل المراد بـ {حَقَّ تُقَاتِهِ} امتثال أمره، واجتناب نهيه مع القدرة، لا مع العجز. انتهى
(4)
.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 106.
(2)
"الفتح" 15/ 190.
(3)
"شرح النوويّ" 9/ 106.
(4)
"الفتح" 15/ 191.
(وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ) أي: من المحرّمات (فَدَعُوهُ") أي: اتركوه كلّه، وفي رواية:"فاجتنبوه".
قال القرطبيّ رحمه الله: يعني أن النهي على نقيض الأمر، وذلك أنه لا يكون مُمْتَثَلًا بمقتضى النهي حتى لا يفعل واحدًا من آحاد ما يتناوله النهي، ومن فعل واحدًا فقد خالف، وعصى، فليس في النهي إلا ترك ما نُهي عنه مطلقًا دائمًا، وحينئذ يكون ممتثلًا لترك ما أمر بتركه، بخلاف الأمر على ما تقدّم.
وهذا الأصل إذا فُهِم هو ومسألة مطلق الأمر؛ هل يُحمَل على الفور، أو التراخي، أو على المرّة الواحدة، أو على التكرار؟ وفي هذا الحديث أبوابٌ من الفقه لا تخفى. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: وأما قوله: "وإذا نهيتكم عن شيء فدَعُوه" فهو على إطلاقه، فإن وُجد عذرٌ يبيحه؛ كأكل الميتة عند الضرورة، وشرب الخمر عند الإكراه، أو التلفّظ بكلمة الكفر إذا أُكره، ونحو ذلك، فهذا ليس منهيًّا عنه في هذا الحال. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(2)
.
وقال في "الفتح": ثم إن هذا النهي عامّ في جميع المناهي، ويُستثنى من ذلك ما يُكره المكلّف على فعله؛ كشرب الخمر، وهذا على رأي الجمهور.
وخالف قوم، فتمسّكوا بالعموم، فقالوا: الإكراه على ارتكاب المعصية لا يُبيحها، والصحيح عدم المؤاخذة إذا وُجد صورة الإكراه المعتبرة، واستثنى بعض الشافعيّة من ذلك الزنا، فقال: لا يُتصوّر الإكراه عليه، وكأنه أراد التمادي فيه، وإلا فلا مانع أن يَنْعَظَ
(3)
الرجل بغير سبب، فيكره على الإيلاج حينئذ، فيولج في الأجنبيّة، فإن مثل ذلك ليس بمحال، ولو فعله مختارًا لكان زانيًا، فتصوّر الإكراه على الزنا.
وقال في موضع آخر: وقال ابن فرج في "شرح الأربعين": قوله: "فاجتنبوه" هو على إطلاقه حتى يوجد ما يُبيحه، كأكل الميتة عند الضرورة،
(1)
"المفهم" 3/ 448.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 106.
(3)
يقال: نَعَظَ ذكره نَعْظًا، ويُحرّك، ونُعُوظًا: قام. انتهى. "القاموس".
وشرب الخمر عند الإكراه، والأصل في ذلك جواز التلفّظ بكلمة الكفر إذا كان القلب مطمئنًّا بالإيمان، كما نطق به القرآن. انتهى.
والتحقيق أن المكلّف في ذلك كلّه ليس منهيًّا عنه في تلك الحال.
وأجاب الماورديّ بأن الكفّ عن المعاصي ترك، وهو سهلٌ، وعمل الطاعة فعلٌ، وهو يشقّ، فلذلك لم يُبَح ارتكاب المعصية، ولو مع العذر؛ لأنه ترك، والترك لا يعجز المعذور عنه، وأباح ترك العمل بالعذر؛ لأن العمل قد يعجز المعذور عنه.
وادّعى بعضهم أن قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} يتناول امتثال المأمور، واجتناب المنهيّ عنه، وقد قيّد بالاستطاعة، واستويا، فحينئذ يكون الحكمة في تقييد الحديث بالاستطاعة في جانب الأمر دون النهي أن العجز يكثر تصوّره في الأمر، بخلاف النهي، فإن تصوّر العجز فيه محصور في الاضطرار. انتهى ما في "الفتح" وهو بحث نفيس جدًّا
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [70/ 3258](1337)، وسيأتي في "الفضائل" عقب حديث رقم (2357)، و (البخاريّ) في "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة"(7288)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(2619) وفي "الكبرى"(3598)، و (الترمذيّ) في "العلم"(2679)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(1 و 2)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 447 و 456 و 467 و 508)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2508)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(18 و 3704)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(3/ 135)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 11)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 281)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 325 و 7/ 103) و"الصغرى"(3/ 491)، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 15/ 189 - 191.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان وجوب الحجّ.
2 -
(ومنها): أن الحجّ لا يتكرّر وجوبه، بل هو مرّة في العمر.
قال الخطّابيّ رحمه الله: لا خلاف في أن الحجّ لا يتكرّر وجوبه، إلا أن هذا الإجماع إنما حصل بدليل، أما نفس اللفظ فقد يوهم التكرار، ولذا سأل السائل، فإن الحجّ في اللغة قصدٌ فيه تكرار. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): أنه يدلّ على أن المسلم إذا حجّ مرّة، ثم ارتدّ عن الإسلام -والعياذ بالله- ثم أسلم أنه لا يلزمه إعادة الحجّ، وهذا مذهب الشافعي رحمه الله، وذهب أبو حنيفة، وأصحابه، ومالك -رحمهم الله تعالى- إلى أن المرتدّ لو عاد إلى الإسلام لا تعود إليه حسنات أعماله، ولكن لا يلزمه إعادة ما أدّاه منها قبل الرّدّة، إلا الحجّ، فيلزمه إعادته؛ لأن وقته العمر، فلما أحبط حجه بالردّة، ثم أدرك وقته مسلمًا لزمه، وكذا يلزمه إعادة فرض أدّاه، فارتدّ، ثم أسلم في الوقت
(2)
.
4 -
(ومنها): أن جميع الأشياء على الإباحة حتى يثبت دليل المنع من قبل الشارع.
5 -
(ومنها): أنه استدلّ به من قال: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في الأحكام؛ لقوله: "ولو قلت: نعم، لوجبت"، وأجاب من منع ذلك باحتمال أن يكون أوحي إليه ذلك في الحال، والقول بثبوت الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم هو الأرجح، كما أسلفته قريبًا، والله تعالى أعلم.
6 -
(ومنها): أن من أُمر بشيء، فعجز عن بعضه، ففعل المقدور أنه يسقط عنه ما عجز عنه، وبذلك استدلّ المزنيّ رحمه الله على أنّ ما وجب أداؤه لا يجب قضاؤه، ومن ثمّ كان الصحيح أن القضاء بأمر جديد.
قال الجامع عفا الله عنه: القول بأن القضاء بالأمر هو الأرجح، كما بيّنته في "التحفة المرضيّة"، و"شرحها".
(1)
"معالم السنن" 2/ 275.
(2)
راجع: "المنهل العذب المورود" 10/ 257 - 258.
7 -
(ومنها): أن اعتناء الشارع بالمنهيّات فوق اعتنائه بالمأمورات؛ لأنه أطلق الاجتناب في المنهيّات، ولو مع المشقّة في الترك، وقيّد في المأمورات بقدر الطاقة، وهذا منقول عن الإمام أحمد رحمه الله.
[فإن قيل]: إن الاستطاعة معتبرة في النهي أيضًا؛ إذ {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
[أجيب]: بأن الاستطاعة تُطلق باعتبارين، قال الحافظ: كذا قيل، والذي يظهر أن التقييد في الأمر بالاستطاعة لا يدلّ على المدّعَى من الاعتناء به، بل هو من جهة الكفّ، إذ كلّ أحد قادر على الكفّ، لولا داعية الشهوة مثلًا، فلا يُتصوّر عدم الاستطاعة عن الكفّ، بل كلّ مكلّف قادرٌ على الترك، بخلاف الفعل، فإن العجز عن تعاطيه محسوس، فمن ثمّ قُيّد في الأمر بحسب الاستطاعة، دون النهي.
وعبّر الطوفيّ في هذا الموضع بأن ترك المنهيّ عنه عبارة عن استصحاب حال عدمه، أو الاستمرار على عدمه، وفعل المأمور به عبارة عن إخراجه من العدم إلى الوجود، وقد نوزع بأن القدرة على استصحاب عدم المنهيّ عنه قد تتخلّف.
واستُدِلّ له بجواز أكل المضطرّ الميتة.
وأجيب بأن النهي في هذا عارضه الإذن بالتناول في تلك الحالة.
8 -
(ومنها): أنه استُدلّ به على أن المكروه يجب اجتنابه؛ لعموم الأمر باجتناب المنهيّ عنه، فشمل الواجب والمندوب.
وأجيب بأن قوله: "فاجتنبوه" يُعمل به في الإيجاب والندب بالاعتبارين، ويجيء مثل هذا السؤال وجوابه في الجانب الآخر، وهو الأمر.
وقال الفاكهانيّ: النهي يكون تارة مع المانع من النقيض، وهو المحرّم، وتارة لا معه، وهو المكروه، وظاهر الحديث يتناولهما.
9 -
(ومنها): أنه استدلّ به على أن المباح ليس مأمورًا به؛ لأن التأكيد في الفعل إنما يناسب الواجب والمندوب، وكذا عكسه.
وأجيب: بأن من قال: المباح مأمور به، لم يُرد الأمر بمعنى الطلب، وإنما أراد بالمعنى الأعمّ، وهو الإذن.
10 -
(ومنها): أنه استُدلّ به على أن الأمر لا يقتضى التكرار، ولا عدمه، وقيل: يقتضيه، وقيل: بل يُتوقّف فيما زاد على مرّة، وحديث الباب يتمسّك به لذلك؛ لما في سببه أن السائل قال في الحجّ:"أكلّ عام؟ "، فلو كان مطلقه يقتضي التكرار، أو عدمه لم يحسُن السؤال، ولا العناية بالجواب، وقد يقال: إنما سأل استظهارًا واحتياطًا.
وقال المازريّ: يَحْتَمِل أن يقال: إن التكرار إنما احتمل من جهة أن الحجّ في اللغة قصد فيه تكرارٌ، فاحتمل عند السائل التكرار من جهة اللغة، لا من صيغة الأمر.
وقد تمسّك به من قال بإيجاب العمرة؛ لأن الأمر بالحجّ إذا كان معناه تكرار قصد البيت بحكم اللغة والاشتقاق، وقد ثبت في الإجماع أن الحجّ لا يجب إلا مرّة، فيكون العود إِليه مرّة أخرى دالًّا على وجوب العمرة.
11 -
(ومنها): أنه استُدلّ به على النهي عن كثرة المسائل، والتعمّق في ذلك.
قال البغويّ رحمه الله في "شرح السنّة": المسائل على وجهين:
"أحدهما": ما كان على وجه التعليم لما يُحتاج إليه من أمر الدين، فهو جائز، بل مأمور به؛ لقوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} الآية [النحل: 43]، وعلى ذلك تتنزّل أسئلة الصحابة رضي الله عنهم عن الأنفال، والكلالة، وغيرهما.
"ثانيهما": ما كان على وجه التعنّت والتكلّف، وهو المراد في هذا الحديث، والله أعلم.
ويؤيّده ورود الزجر في الحديث عن ذلك، وذمّ السلف، فعند أحمد من حديث معاوية:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الأغلوطات"، قال الأوزاعيّ: هي شداد المسائل، وقال الأوزاعيّ أيضًا: إن الله إذا أراد أن يَحْرِمَ عبده بركة العلم ألقى على لسانه المغاليط، فلقد رأيتهم أقلّ الناس علمًا.
وقال ابن وهب: سمعت مالكًا يقول: المراء في العلم يذهب بنور العلم من قلب الرجل.
وقال ابن العربيّ: كان النهي عن السؤال في العهد النبويّ خشية أن ينزل ما يشقّ عليهم، فأما بعده فقد أُمِن ذلك، لكن أكثر النقل عن السلف بكراهة
الكلام في المسائل التي لم تقع، قال: وإنه لمكروه إن لم يكن حرامًا إلا للعلماء، فإنهم فرّعوا، ومهّدوا، فنفع الله من بعدهم بذلك، ولا سيّما مع ذهاب العلماء، ودروس العلم. انتهى ملخّصًا.
قال الحافظ رحمه الله: وينبغي أن يكون محلّ الكراهة للعالم، إذا شغله ذلك عمّا هو أهمّ منه، وكان ينبغي تلخيص ما يكثر وقوعه مجرّدًا عما يندر، ولا سيّما في المختصرات؛ ليسهل تناوله، والله المستعان. انتهى.
12 -
(ومنها): أن فيه إشارةً إلى الاشتغال بالأهمّ المحتاج إليه عاجلًا عما لا يحتاج إليه في الحال، فكأنه قال: عليكم بفعل الأوامر، واجتناب النواهي، فاجعلوا اشتغالكم بها عوضًا عن الاشتغال بالسؤال عما لم يقع.
فينبغي للمسلم أن يبحث عما جاء عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ثم يجتهد في تفهّم ذلك، والوقوف على المراد به، ثم يتشاغل بالعمل به، فإن كان من العلميّات يتشاغل بتصديقه، واعتقاد أحقيّته، وإن كان من العمليّات بذَلَ وُسْعه في القيام به، فعلًا وتركًا، فإن وجد وقتًا زائدًا على ذلك فلا بأس بأن يصرفه في الاشتغال بتعرّف حكم ما سيقع على قصد العمل به أن لو وقع، فأما إن كانت الهمّة مصروفةً عند سماع الأمر والنهي إلى فرض أمور قد تقع، وقد لا تقع مع الإعراض عن القيام بمقتضى ما سمع، فإن هذا مما يدخل في النهي، فالتفقّه في الدين إنما يُحمَد إذا كان للعمل، لا للمراء والجدل
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): عقد الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" في "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة" بابًا مهمًّا جدًّا، له شدّة ارتباط بحديث الباب، وكتب الحافظ رحمه الله في شرحه كلامًا نفيسًا أحببت إيراده تتميمًا للفائدة، ونشرًا للعائدة، قال رحمه الله:
"باب ما يكره من كثرة السؤال، وتكلّف ما لا يعنيه، وقول الله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]. ثم ساق بسنده عن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إن أعظم المسلمين جُرْمًا من
(1)
راجع: "الفتح" 15/ 188 - 192 "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة".
سأل عن شيء، لم يُحرَّم، فحرّم من أجل مسألته"، ثم أورد بعده ثمانية أحاديث.
قال الشارح رحمه الله: كأنه يريد أن يستدلّ بالآية على المدّعَى من الكراهة، وهو مصير منه إلى ترجيح بعض ما جاء في تفسيرها، وقد ذكرتُ الاختلاف في سبب نزولها في "تفسير سورة المائدة"، وترجيح ابن المنيّر أنه في كثرة المسائل عما كان، وعمّا لم يكن، وصنيع البخاريّ يقتضيه، والأحاديث التي ساقها في الباب تؤيّده، وقد اشتدّ إنكار جماعة من الفقهاء ذلك، منهم: القاضي أبو بكر ابن العربيّ، فقال: اعتقد قوم من الغافلين منع السؤال عن النوازل إلى أن تقع تعلّقًا بهذه الآية، وليس كذلك؛ لأنها مصرّحة بأن المنهيّ عنه ما تقع المسألة في جوابه، ومسائل النوازل ليست كذلك. انتهى.
قال الحافظ: وهو كما قال؛ لأن ظاهرها اختصاص ذلك بزمان نزول الوحي، ويؤيّده حديث سعد الذي صدّر به البخاريّ الباب:"من سأل عن شيء، لم يحرّم، فحرّم من أجل مسألته"، فإن مثل ذلك قد أُمن وقوعه، ويدخل في معنى حديث سعد ما أخرجه البزّار، وقال: سنده صالح، وصححه الحاكم، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، رفعه:"ما أحلّ الله في كتابه، فهو حلال، وما حرّم فهو حرام، وما سكت عنه، فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن ينسى شيئًا، ثم تلا هذه الآية: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] ".
وأخرج الدارقطنيّ من حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه، رفعه:"إن الله فرض فرائض، فلا تضيّعوها، وحدّ حدودًا، فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم، غيرَ نسيان، فلا تبحثوا عنها"، وله شاهد من حديث سلمان رضي الله عنه، أخرجه الترمذيّ، وآخر من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أخرجه أبو داود.
وقد أخرج مسلم، وأصله في البخاريّ، من طريق ثابت، عن أنس رضي الله تعالى عنه، قال: "كنّا نُهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، وكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل من أهل البادية، فيسأله، ونحن نسمع
…
" فذكر الحديث.
وللبخاريّ في قصّة اللعان من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل، وعابها".
ولمسلم عن النوّاس بن سمعان رضي الله عنه، قال:"أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة بالمدينة ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم". ومراده أنه قدم وافدًا، فاستمرّ بتلك الصورة لِيُحَصِّلَ المسائل، خشية أن يخرج من صفة الوفد إلى استمرار الإقامة، فيصير مهاجرًا، فيمتنع عليه السؤال، وفيه إشارة إلى أن المخاطب بالنهي عن السؤال غير الأعراب، وفودًا كانوا، أو غيرهم.
وأخرج أحمد عن أبي أُمامة رضي الله عنه، قال: لَمّا نزلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} الآية [المائدة: 5]، كنّا قد اتقينا أن نسأله صلى الله عليه وسلم، فأتينا أعرابيًّا، فرشوناه بُردًا، وقلنا: سل النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولأبي يعلى عن البراء: "إن كان ليأتي عليّ السَّنَةُ أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشيء، فأتهيّب، وإن كنّا لنتمنّى الأعراب -أي: قدومهم- ليسألوا، فيسمعوا هم أجوبة سؤالات الأعراب، فيستفيدوها.
وأما ما ثبت في الأحاديث من أسئلة الصحابة رضي الله عنهم، فيَحْتَمِل أن يكون قبل نزول الآية، ويَحْتَمِل أن النهي في الآية لا يتناول ما يُحتاج إليه مما تقرّر حكمه، أو ما لهم بمعرفته حاجةٌ راهنةٌ؛ كالسؤال عن الذبح بالقصب، والسؤال عن وجوب طاعة الأمراء، إذا أَمروا بغير الطاعة، والسؤال عن أحوال يوم القيامة، وما قبلها من الملاحم والفتن، والأسئلة التي في القرآن؛ كسؤالهم عن الكلالة، والخمر، والميسر، والقتال في الشهر الحرام، واليتامى، والمحيض، والنساء، والصيد، وغير ذلك، لكن الذين تعلّقوا بالآية في كراهية كثرة المسائل عما لم يقع أخذوه بطريق الإلحاق من جهة أن كثرة السؤال لمّا كانت سببًا للتكليف بما يشقّ، فحقّها أن تُجتنب.
وقد عقد الإمام الدارميّ رحمه الله في أوائل "مسنده" لذلك بابًا، وأورد فيه عن جماعة من الصحابة والتابعين آثارًا كثيرةً في ذلك، منها:
عن ابن عمر: "لا تسألوا عما لم يكن، فإني سمعت عمر يلعن السائل عما لم يكن".
وعن عمر: "أحرّج عليكم أن تسألوا عما لم يكن، فإن لنا فيما كان شغلًا".
وعن زيد بن ثابت أنه كان إذا سئل عن الشيء يقول: كان هذا؟ فإن قيل: لا، قال: دعوه حتى يكون.
وعن أُبيّ بن كعب، وعن عمّار كذلك، وأخرج أبو داود في "المراسيل" من رواية يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، مرفوعًا، ومن طريق طاوس، عن معاذ، رفعه:"لا تعجلوا بالبليّة قبل نزولها، فإنكم إن تفعلوا لم يزل في المسلمين من إذا قال سُدّد، أو وفّق، وإن عجلتم تشتّت بكم السبل". وهما مرسلان، يقوّي بعضٌ بعضًا، ومن وجه ثالث عن أشياخ الزبير بن سعيد، مرفوعًا: "لا يزال في أمتي من إذا سُئل سُدّد، وأُرشد، حتى يتساءلوا عما لم ينزل
…
" الحديث نحوه.
قال بعض الأئمة: والتحقيق في ذلك أن البحث عما لا يوجد فيه نصّ على قسمين:
(أحدهما): أن يُبحث عن دخوله في دلالة النصّ على اختلاف وجوهها، فهذا مطلوب، لا مكروه، بل ربّما كان فرضًا على من تعيّن عليه من المجتهدين.
(ثانيهما): أن يدقّق النظر في وجوه الفروق، فيفرّق بين متماثلين بفرق ليس له أثرٌ في الشرع مع وجود وصف الجمع، أو بالعكس، بأن يجمع بين متفرّقين بوصف طرديّ مثلًا، فهذا الذي ذمّه السلف، وعليه ينطبق حديث ابن مسعود، رفعه:"هلك المتنطّعون"، أخرجه مسلم، فرأوا أن فيه تضييع الزمان بما لا طائل تحته، ومثله الإكثار من التفريع على مسألة لا أصل لها في الكتاب، ولا في السنّة، ولا الإجماع، وهي نادرة الوقوع جدًّا، فيصرف فيها زمانًا كان صرفه في غيرها أولى، ولا سيّما إن لزم من ذلك إغفال التوسّع في بيان ما يكثر وقوعه، وأشدّ من ذلك في كثرة السؤال، البحثُ عن أمور مغيبة وَرَدَ الشرع بالإيمان بها، مع ترك كيفيتها، ومنها ما لا يكون له شاهد في عالم الحسّ؛ كالسؤال عن وقت الساعة، وعن الروح، وعن مدّة هذه الأمّة، إلى أمثال ذلك مما لا يُعرف إلا بالنقل الصِّرْف، والكثير منه لم يثبت فيه شيء، فيجب الإيمان به من غير بحث، وأشدّ من ذلك ما يوقع كثرة البحث عنه في الشكّ والحيرة.
وقال بعض الشرّاح: مثال التنطّع في السؤال حتى يفضي بالمسؤول إلى الجواب بالمنع بعد أن يفتي بالإذن أن يسأل عن السِّلَعِ التي توجد في الأسواق، هل يكره شراؤها ممن هي في يده من قبل البحث عن مصيرها إليه، أو لا؟ فيجيبه بالجواز، فإن عاد، فقال: أخشى أن يكون من نهب، أو غصب، ويكون ذلك الوقت قد وقع شيء من ذلك في الجملة، فيحتاج أن يجيبه بالمنع، ويقيّد ذلك، إن ثبت شيء من ذلك حَرُم، وإن تردّد كُره، أو كان خلاف الأولى، ولو سكت السائل عن هذا التنطّع لم يزد المفتي على جوابه بالجواز.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في التمثيل للتنطّع في السؤال بهذا المثال نظر لا يخفى لمن تأمّل، والله تعالى أعلم.
قال: وإذا تقرّر ذلك، فمن يسدّ باب المسائل حتى فاته معرفة كثير من الأحكام التي يكثر وقوعها، فإنه يقلّ فَهْمُهُ وعلمه، ومن توسّع في تفريع المسائل، وتوليدها، ولا سيّما فيما يقلّ وقوعه، أو يندر، ولا سيّما إن كان الحامل على ذلك المباهاة والمغالبة، فإنه يذمّ فعله، وهو عين الذي كرهه السلف.
ومن أمعن في البحث عن معاني كتاب الله، محافظًا على ما جاء في تفسيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه الذين شاهدوا التنزيل، وحصّل من الأحكام ما يستفاد من منطوقه، ومفهومه، وعن معاني السنّة، وما دلّت عليه كذلك، مقتصرًا على ما يصلح للحجّيّة منها، فإنه الذي يُحمَد، ويُنتفع به، وعلى ذلك يُحمل عمل فقهاء الأمصار، من التابعين، فمن بعدهم حتى حدثت الطائفة الثانية، فعارضتها الطائفة الأولى، فكثر بينهم المراء والجدال، وتولّدت البغضاء، وتسمَّوْا خُصُومًا، وهم من أهل دين واحد، والواسط هو المعتدل من كلّ شيء، وإلى ذلك يشير قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الباب:"فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم"، فإن الاختلاف يجرّ إلى عدم الانقياد.
وهذا كلّه من حيث تقسيم المشتغلين بالعلم.
وأما العمل بما ورد في الكتاب والسنّة، والتشاغل به، فقد وقع الكلام
في أيّهما أولى، والإنصاف أن يقال: كلُّ ما زاد على ما هو في حقّ المكلّف فرض عين، فالناس فيه على قسمين: مَنْ وجد في نفسه قوّةً على الفهم، والتحرير، فتشاغله بذلك أولى من إعراضه عنه، وتشاغلِهِ بالعبادة؛ لما فيه من النفع المتعدّي، ومن وجد في نفسه قصورًا، فإقباله على العبادة أولى؛ لعسر اجتماع الأمرين، فإن الأول لو ترك العلم لأوشك أن يضيع بعض الأحكام بإعراضه، والثاني لو أقبل على العلم، وترك العبادة فاته الأمران؛ لعدم حصول الأول له، وإعراضه به عن الثاني. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو بَحْثٌ نفيس جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(71) - (بَابُ سَفَرِ الْمَرْأَةِ مَعَ مَحْرَمٍ إِلَى حَجٍّ وَغَيْرِهِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3259]
(1338) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى، وَهُوَ الْقَطَّانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَن ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ ثَلَاثًا، إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل باب.
3 -
(يَحْيَى) بن سعيد القطّان، تقدّم قريبًا.
4 -
(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر العُمَريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(نَافِعٌ) مولى ابن عمر، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
6 -
(ابْنُ عُمَرَ) عبد الله رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه زهير، فما أخرج له الترمذيّ، وأما ابن المثنّى فهو أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.
4 -
(ومنها): أن ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا) ناهية، ولذا الفعل بعدها مجزوم، ويَحْتَمِل أن تكون نافية، والفعل مرفوعٌ، ويراد بالنفي النهي، والنهي المستفاد من النفي أبلغ؛ لأن النهي نفي لوصف الشيء، والنفي نفي لذاته، ونفي الذات أبلغ من نفي الصفات (تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ) أي: شابة كانت، أو عجوزًا، سفرًا للحجّ أو غيره (ثَلَاثًا) أي: ثلاث ليال، وفي رواية:"فوق ثلاث"، وفي رواية:"ثلاثة"، وفي رواية:"لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، تسافر مسيرة ثلاث ليال، إلا ومعها ذو محرم"، وفي رواية:"لا تسافر المرأة يومين من الدهر، إلا ومعها ذو محرم منها، أو زوجها"، وفي رواية:"نَهَى أن تسافر المرأة مسيرة يومين"، وفي رواية:"لا يحلّ لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة، إلا ومعها ذو حرمة منها"، وفي رواية:"لا يحل لامرأة تؤمن بالله، واليوم الآخر، تسافر مسيرة يوم، إلا مع ذي محرم"، وفي رواية:"مسيرة يوم وليلة"، وفي رواية:"لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم"، هذه كلها روايات مسلم، وفي رواية لأبي داود:"ولا تسافر بَرِيدًا"، والبريد مسيرة نصف يوم.
قال العلماء -رحمهم الله تعالى-: اختلاف هذه الألفاظ لاختلاف السائلين، واختلاف المواطن، وليس في النهي عن الثلاثة تصريح بإباحة اليوم والليلة، أو البريد.
قال البيهقيّ رحمه الله: كأنه صلى الله عليه وسلم سئل عن المرأة تسافر ثلاثًا بغير محرم، فقال: لا، وسئل عن سفرها يومين بغير محرم، فقال: لا، وسئل عن سفرها يومًا، فقال: لا، وكذلك البريد، فأَدَّى كل منهم ما سمعه، وما جاء منها مختلفًا عن رواية واحد، فسمعه في مواطن، فروى تارةً هذا، وتارةً هذا، وكله
صحيح، وليس في هذا كله تحديد لأقل ما يقع عليه اسم السفر، ولم يُرد صلى الله عليه وسلم
تحديد أقل ما يُسَمَّى سفرًا.
فالحاصل أن كل ما يُسَمَّى سفرًا تُنْهَى عنه المرأة بغير زوج، أو محرم، سواءٌ كان ثلاثة أيام، أو يومين، أو يومًا، أو بَرِيدًا، أو غير ذلك؛ لرواية ابن عباس رضي الله عنهما المطلقة، وهي آخر روايات مسلم السابقة:"لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم"، وهذا يتناول جميع ما يُسَمَّى سفرًا، والله أعلم
(1)
.
(إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ") قال النوويّ رحمه الله: حقيقة المحرم من النساء التي يجوز النظر إليها، والخلوة بها، والمسافَرة بها: كلُّ من حَرُم نكاحها على التأبيد، بسبب مباح لحرمتها، فقولنا: على التأبيد احترازٌ من أخت المرأة، وعمتها، وخالتها، ونحوهنّ، وقولنا: بسبب مباح احتراز من أم الموطوءة بشبهة، وبنتها، فإنهما تحرمان على التأبيد، وليستا محرمين؛ لأن وطء الشبهة لا يوصف بالإباحة؛ لأنه ليس بفعل مكلّف، وقولنا: لحرمتها احترازٌ من الملاعِنة، فإنها محرمة على التأبيد بسبب مباح، وليست مَحْرَمًا؛ لأن تحريمها ليس لحرمتها، بل عقوبةً، وتغليظًا، والله أعلم. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ أيضًا: وفيه دلالة لمذهب الشافعيّ، والجمهور، أن جميع المحارم سواء في ذلك، فيجوز لها المسافَرة مع محرمها بالنسب؛ كابنها، وأخيها، وابن أخيها، وابن أختها، وخالها، وعمّها، ومع محرمها بالرضاع؛ كأخيها من الرضاع، وابن أخيها، وابن أختها منه، ونحوهم، ومع محرمها من المصاهرة؛ كأبي زوجها، وابن زوجها، ولا كراهة في شيء من ذلك، وكذا يجوز لكل هؤلاء الخلوة بها، والنظر إليها من غير حاجة، ولكن لا يحل النظر بشهوة لأحد منهم، هذا مذهب الشافعيّ، والجمهور، ووافق مالك على ذلك كله إلا ابن زوجها، فكره سفرها معه؛ لفساد الناس بعد العصر الأول، ولأن كثيرًا من الناس لا ينفرون من زوجة الأب نفرتهم من محارم النسب، قال: والمرأة فتنة إلا فيما جَبَل الله تعالى النفوس عليه من النفرة عن محارم النسب،
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 102 - 104.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 104.
وعموم هذا الحديث يردّ على مالك، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "إلا معها ذو محرم"؛ أي: فيحلّ، ولم يصرح بذكر الزوج. وسيأتي في حديث أبي سعيد رضي الله عنه في هذا الباب بلفظ:"إلا ومعها أبوها، أو ابنها، أو زوجها، أو أخوها، أو ذو محرم منها".
قال: وضابط المحرم عند العلماء مَن حَرُم عليه نكاحها على التأبيد، بسبب مباح لحرمتها، فخرج بالتأبيد أخت الزوجة، وعمتها، وبالمباح أم الموطوءة بشبهة وبنتها، وبحرمتها الملاعِنة، واستثنى أحمد مَن حَرُمت على التأبيد: مسلمةً لها أبٌ كتابيّ، فقال: لا يكون محرمًا لها؛ لأنه لا يؤمَن أن يفتنها عن دينها إذا خلا بها، ومن قال: إن عبد المرأة محرم لها يحتاج أن يزيد في هذا الضابط ما يُدخله.
وقد رَوَى سعيد بن منصور من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: "سفر المرأة مع عبدها ضيعة"، لكن في إسناده ضعف، وقد احتج به أحمد وغيره، وينبغي لمن أجاز ذلك أن يقيّده بما إذا كانا في قافلة، بخلاف ما إذا كانا وحدهما فلا؛ لهذا الحديث.
وفي آخر حديث ابن عباس هذا ما يُشعر بأن الزوج يدخل في مسمى المحرم، فإنه لما استثنى المحرم، فقال القائل: إن امرأتي حاجّةٌ، فكأنه فَهِمَ حال الزوج في المحرم، ولم يَرُدّ عليه ما فهمه، بل قال له: اخرج معها.
واستثنى بعض العلماء ابن الزوج فكره السفر معه؛ لغلبة الفساد في الناس، قال ابن دقيق العيد: هذه الكراهية عن مالك، فإن كانت للتحريم ففيه بُعْدٌ؛ لمخالفة الحديث، وإن كانت للتنزيه، فَيَتوقف على أن لفظ:"لا يحلّ" هل يتناول المكروه الكراهة التنزيهية؟ انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 105.
(2)
"الفتح" 5/ 167.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [71/ 3259 و 3260 و 3261](1338)، و (البخاريّ) في "تقصير الصلاة"(1086 و 1087)، و (أبو داود) في "المناسك"(1727)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 5)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 13 و 19 و 142)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2521)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6/ 434 - 435)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 12 - 13)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 227)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): نهي المرأة عن السفر بغير محرم، قال القاضي عياض: واتَّفَقَ العلماء على أنه ليس لها أن تخرج في غير الحج والعمرة إلا مع ذي محرم، إلا الهجرة من دار الحرب، فاتَّفقوا على أن عليها أن تهاجر منها إلى دار الإسلام، وإن لم يكن معها محرم، والفرق بينهما أن إقامتها في دار الكفر حرام، إذا لم تستطع إظهار الدِّين، وتخشى على دينها ونفسها، وليس كذلك التأخر عن الحج، فإنهم اختلفوا في الحج، هل هو على الفور، أم على التراخي؟ قال القاضي عياض: قال الباجيّ: هذا عندي في الشابة، وأما الكبيرة غير المشتهاة فتسافر، كيف شاءت في كل الأسفار، بلا زوج، ولا محرم، وهذا الذي قاله الباجيّ لا يوافَق عليه؛ لأن المرأة مظنة الطمع فيها، ومظنة الشهوة ولو كانت كبيرة، وقد قالوا: لكل ساقطة لاقطة، ويَجتمع في الأسفار من سفهاء الناس، وسقطهم من لا يرتفع عن الفاحشة بالعجوز وغيرها؛ لغلبة شهوته، وقلة دينه، ومروءته، وخيانته، ونحو ذلك، والله أعلم
(1)
.
2 -
(ومنها): بيان أن للمرأة أن تسافر مع محرمها إلى أيّ سفر أرادت، حجًّا أو عمرةً، أو زيارة أقاربها، أو لطلب علم شرعيّ، أو غير ذلك من الأمور المباحة.
3 -
(ومنها): بيان أن جميع المحارم سواء في سفر المرأة معهم، وبه
(1)
راجع: "شرح النوويّ" 9/ 104 - 105.
قال الشافعيّ، والجمهور، وخالف مالك في ابن زوجها، وقد سبق ردّه.
4 -
(ومنها): أنه استدلّ الحنفيّة برواية ثلاثة أيام لمذهبهم، أن قصر الصلاة في السفر لا يجوز إلا في سفر يبلغ ثلاثة أيام، قال النوويّ: وهذا استدلال فاسدٌ، وقد جاءت الأحاديث بروايات مختلفة، كما سبق، وبيّنا مقصودها، وأن السفر يُطلق على يوم، وعلى بريد، وعلى دون ذلك، وقد أوضحت الجواب عن شبهتهم إيضاحًا بليغًا في باب صلاة المسافر من "شرح المهذّب". انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قد سبق تحقيق هذه المسألة بأدلتها في أبواب المسافر، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.
5 -
(ومنها): عناية الشرع بسدّ طرق الفساد، وإبعاد المسلمين عما يفتح عليهم باب الشرّ والفساد، فإن سفر المرأة بدون محرمها، لا يخفى ما فيه من الفساد العريض، فسدّ هذا الباب بتحريم سفرها إلا مع من يقوم بحمايتها، ويغار عليها من المحارم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في اشتراط المحرم لوجوب الحجّ على المرأة:
قال النوويّ رحمه الله: أجمعت الأمة على أن المرأة يلزمها حجة الإسلام إذا استطاعت؛ لعموم قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} الآية [آل عمران: 97]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "بُنِيَ الإسلام على خمس
…
" الحديث، وفيه: "وحج البيت من استطاع إليه سبيلًا"، واستطاعتها كاستطاعة الرجل، لكن اختلفوا في اشتراط المحرم لها، فأبو حنيفة يشترطه؛ لوجوب الحج عليها، إلا أن يكون بينها وبين مكة دون ثلاث مراحل، ووافقه جماعة من أصحاب الحديث، وأصحاب الرأي، وحُكِي ذلك أيضًا عن الحسن البصريّ، والنخعيّ.
وقال عطاء، وسعيد بن جبير، وابن سيرين، ومالك، والأوزاعيّ، والشافعيّ في المشهور عنه: لا يشترط المحرم، بل يشترط الأمن على نفسها، قال أصحابنا: يحصل الأمن بزوج، أو محرم، أو نسوة ثقات، ولا يلزمها الحج عندنا إلا بأحد هذه الأشياء، فلو وُجدت امرأة واحدة ثقة لم يلزمها، لكن يجوز لها الحج معها، هذا هو الصحيح.
وقال بعض أصحابنا: يلزمها بوجود نسوة، أو امرأة واحدة، وقد يكثر الأمن، ولا تحتاج إلى أحد، بل تسير وحدها في جملة القافلة، وتكون آمنةً، والمشهور من نصوص الشافعيّ، وجماهير أصحابه هو الأول.
واختَلَف أصحابنا في خروجها لحج التطوع، وسفر الزيارة، والتجارة، ونحو ذلك من الأسفار التي ليست واجبة، فقال بعضهم: يجوز لها الخروج فيها مع نسوة ثقات كحجة الإسلام، وقال الجمهور: لا يجوز إلا مع زوج أو محرم، وهذا هو الصحيح؛ للأحاديث الصحيحة. انتهى
(1)
.
قال ابن رشد رحمه الله: اختلفوا هل من شروط وجوب الحج على المرأة أن يكون معها زوج أو محرم منها؟ فقال مالك والشافعي: ليس من شرط الوجوب ذلك، وتخرج المرأة إلى الحج إذا وجدت رفقة مأمونة.
وقال أبو حنيفة وأحمد وجماعة: وجود ذي المحرم ومطاوعته لها شرط في الوجوب، وسبب الخلاف معارضة الأمر بالحج للنهي عن سفر المرأة إلا مع ذي محرم، فمن غَلَّب عموم الأمر قال: تسافر للحج وإن لم يكن معها ذو محرم، ومن خصص العموم بأحاديث النهي، ورأى أنه من باب تفسير الاستطاعة قال: لا تسافر إلا مع ذي محرم. انتهى.
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: هذه المسألة تتعلق بالنصين إذا تعارضا، وكان كل واحد منهما عامًّا من وجه خاصًّا من وجه، بيانه أن قوله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} الآية [آل عمران: 91] الآية عامّ في الرجال والنساء، فمقتضاه أن الاستطاعة على السفر إذا وجدت وجب الحج على الجميع، وقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم" خاصّ بالنساء، عامّ في كل سفر، فيدخل فيه الحج، فمن أخرجه عنه خصّ الحديث بعموم الآية، ومن أدخله فيه خصّ الآية بعموم الحديث، فيحتاج إلى الترجيح من خارج. انتهى.
قال الشوكانيّ رحمه الله: ويمكن أن يقال: إن أحاديث النهي عن السفر من
غير محرم لا تعارض الآية؛ لأنها تضمنت أن المَحْرَم في حقّ المرأة من جملة
الاستطاعة على السفر التي أطلقها القرآن، وليس فيها إثبات أمر غير الاستطاعة
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 104.
المشروطة حتى تكون من تعارض العمومين، لا يقال: الاستطاعة المذكورة قد بُيّنت بالزاد والراحلة؛ لأنا نقول: قد تضمنت أحاديث النهي زيادةً على ذلك البيان باعتبار النساء غيرَ منافية، فيتعيّن قبولها، على أن التصريح باشتراط المَحرم في سفر الحج بخصوصه، كما في حديث ابن عباس عند البزار، والدارقطنيّ، وحديث أبي أمامة عند الطبرانيّ مبطل لدعوى التعارض. انتهى
(1)
.
وقال الطبري في "القرى"(ص 44): وافق أبا حنيفة في اشتراط المحرم، أو الزوج: أصحاب الحديث، وهو قول النخعيّ، والحسن البصريّ، وبه قال أحمد، وإسحاق، وهو أحد قولي الشافعيّ، قال البغويّ في "شرح السنة": والقول باشتراط المحرم أولى؛ لظاهر الحديث، ولم يختلفوا أنها ليس لها الخروج في غير الفرض إلا مع محرم، إلا في كافرة أسلمت في دار الحرب، أو أسيرة تخلّصت فيلزمها الخروج بلا محرم.
وقال الطبريّ (ص 45): ووجه دلالة حديث عديّ
(2)
على عدم ذلك اعتبار المحرم أنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن خروج المرأة وحدها عند أمانها على نفسها،
(1)
راجع: "المرعاة" 8/ 334.
(2)
أشار به إلى ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه"عن عدي بن حاتم رضي الله عنه، قال: بينا أنا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أتاه رجل، فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه الآخر، فشكا إليه قطع السبيل، فقال:"يا عدي هل رأيت الحيرة؟ فإن طالت بك حياة، فلترينّ الظعينة ترتحل من الْحِيرة، حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحدًا إلا الله، ولئن طالت بك حياة لتُفْتَحَنّ كنوز كسرى، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يُخرج ملء كفه من ذهب أو فضة، يطلب من يقبله، فلا يجد أحدًا يقبله منه، وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه، وليس بينه وبينه ترجمان، يترجم له، فليقولنّ: ألم أبعث إليك رسولًا فيبلغك؟، فيقول: بلى، فيقول: ألم أعطك مالًا، وأُفضِل عليك؟ فيقول: بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم، اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة". قال عديّ: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: يخرج ملء كفّه. انتهى.
فوجب وقوعه لا محالة، ودلّ ذلك على الجواز؛ إذ لو حَرُم لبيّنه، فإنه وقت حاجة؛ لأنه كالواقع، وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز.
قال: وهذا القائل يَحْمِل أحاديث اشتراط المحرم على حال الخوف والخطر جمعًا بينهما، وعملًا بهما، وذلك أولى من إهمال بعضها.
ويمكن أن يقال: الحديث دل على الوقوع، لا على الجواز، لا بطريق المطابقة، ولا بالاستلزام؛ لأنه ورد في معرض الثناء على حال الزمان بالأمن والعدل، وذكر خروج المرأة وحدها في معرض الاستدلال على ذلك، سواء كان جائزًا أو غير جائز، فالجواز وعدمه مسكوت عنه، ولا إشعار للفظ الخبر بهما، لا نفيًا ولا إثباتًا؛ إذ لو قال عقيب كلامه: وارتحالها لذلك جائز لها لم يُعَدّ ذلك تكرارًا لما فُهِم من الأول، ولا مؤكدًا للفظه، أو قال: وارتحالها محرّم عليها لم يُعَدّ ذلك نقضًا له، كيف وفي قوله:"لا تخاف أحدًا إلا الله" إشعار بالحرمة؛ إذ لو لم يحرم عليها ذلك لما خافت الله تعالى.
وأما قوله: وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز فمسلّم، ولم يتأخر، فإن أحاديث اشتراط المَحرم إن ثبت الخطاب بها قبل هذا الحديث، فالتحريم ثابت عندهم، وليس في لفظ هذا الحديث ما يناقضه، فيُحمل على ما ذكرناه، وإن كان الخطاب بها متأخرًا عن هذا الحديث، فقد بيّن صلى الله عليه وسلم ما سكت فيه عنه، مما احتَمَل إرادته قبل موته، فلم يتأخر البيان عن وقت الحاجة على الحالين، وهذا هو الظاهر عندي، وإن كان الصحيح من مذهب الشافعي خلافه. انتهى كلام الطبريّ رحمه الله.
وقال الحافظ رحمه الله: ومن الأدلة على جواز سفر المرأة مع النسوة الثقات إذا أُمن الطريق أول أحاديث باب حج النساء -يعني به حديث إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن جدّه قال: أَذِنَ عمر رضي الله عنه لأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم في آخر حجة حجها، فبعث معهنّ عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف- لاتفاق عمر، وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، ونساء النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، وعدم نكير غيرهم من الصحابة عليهنّ في ذلك، ومن أبى ذلك من أمهات المؤمنين فإنما أباه من جهة خاصّة، لا من جهة توقف السفر على المَحرم.
وأجيب بأن أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم كلهن أمهات المؤمنين، وهم محارم لهنّ؛
لأن المَحرم من لا يجوز له نكاحها على التأبيد، فكذلك أمهات المؤمنين حرام على غير النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الجواب فيه نظر لا يخفى، فإن كون أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين، ليس فيه إباحة الخلوة بهنّ، والنظر إليهنّ، بدليل أن آية الحجاب نزلت فيهنّ، بل الحجاب عليهن أشدّ من غيرهنّ.
وخلاصة القول أن القول الأرجح في المسألة قول من قال باشتراط المَحرم لحج المرأة؛ لحديث الباب، وأصرح الأحاديث حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما الآتي لمّا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، فقال رجل: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجّةً، وإني اكتُتبت في غزوة كذا وكذا، قال: انطلق، فحجّ مع امرأتك".
فهذا صريح أن قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تسافر المرأة" عامّ في الحجّ وغيره؛ لأنه لو كان الحج مستثنى من النهي لعَذَر هذا الرجل في خروج امرأته بلا محرم.
والحاصل أنه لا يحلّ للمرأة أن تسافر بدون مَحرم مطلقًا، سواء السفر سفر حجّ، أو غيره، إلا للضرورة التي لا بدّ منها، كأن تُسْلِم في دار الحرب، أو أسرها العدوّ، فيجب عليها السفر إلى دار الإسلام بدون مَحْرَم؛ للضرورة، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3260]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو أُسَامَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، جَمِيعًا عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ. فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ:"فَوْقَ ثَلَاثٍ"، وقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ فِي رِوَايَتِهِ، عَنْ أَبِيهِ:"ثَلَاثَةً، إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة، تقدّم قبل باب.
4 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، تقدّم قريبًا.
و"عبيد الله" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية عبد الله بن نُمير، عن عبيد الله بن عمر هذه ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"
(1)
(6/ 440) فقال:
(2729)
- أخبرنا الحسن بن سفيان، قال: حدّثنا محمد بن عبد الله بن نمير، قال: حدّثنا أبي، قال: حدّثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسافر المرأة إلا ومعها ذو محرم". انتهى.
وأما رواية أبي أسامة فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3261]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، أَخْبَرَنَا الضَّحَّاكُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، تُسَافِرُ مَسِيرَةَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ، أبو عبد الله، ثقة حافظٌ عابد [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
2 -
(ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ) محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فُديك الديليّ مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، صدوقٌ، من صغار [8](ت 200) على الصحيح (ع) تقدم في "الحيض" 16/ 775.
3 -
(الضَّحَّاكُ) بن عثمان بن عبد الله بن خالد بن حِزَام الأسديّ الْحِزاميّ، أبو عثمان المدنيّ، صدوقٌ يَهِم [7](م 4) تقدم في "الحيض" 16/ 774.
والباقيان ذُكرا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
غير أنه سقط من روايته لفظة: "ثلاثة"، فتنبّه.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3262]
(827 مكرّر) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، جَمِيعًا عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَهُوَ ابْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ قَزَعَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مِنْهُ حَدِيثًا، فَأَعْجَبَنِي، فَقُلْتُ لَهُ: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: فَأَقُولُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ أسْمَعْ؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَشُدُّوا الرِّحَالَ إِلَّا إِلَى ثَلَاَثةِ مَسَاجِدَ: مَسْجدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى"، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: "لَا تُسَافِر الْمَرأةُ يَوْمَيْنِ مِنَ الدَّهْرِ، إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا، أَوْ زَوْجُهَا").
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قريبًا.
2 -
(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عثمان بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان العبسيّ، أبو الحسن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ شهير [10](ت 239) وله (83) سنةً (خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 35/ 246.
3 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد بن قُرط الضبيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188) تقدم في "المقدمة"(ع) 6/ 50.
4 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرِ) بن سُويد اللَّخميّ الْفَرسيّ الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ، تغيّر حفظه، وربما دلّس [3](ت 136) وله (103) سنين (ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 296.
5 -
(قَزَعَةُ) بن يحيى البصريّ، ثقة [3](ع) تقدم في "الصلاة" 35/ 1025.
6 -
(أَبُو سَعِيدٍ) سعد بن مالك بن سِنَان الْخُدريّ الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (3 أو 4 أو 65) وقيل:(74)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) الخدريّ رضي الله عنه، وفي الرواية التالية: "عن عبد الملك بن عمير، قال: سمعت قَزَعة، قال: سمعت أبا سعيد الخدريّ، قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم" (قَالَ) أبو سعيد رضي الله عنه (سَمِعْتُ مِنْهُ) أي: من رسول الله صلى الله عليه وسلم (حَدِيثًا) هو حديث مشتمل على أربعة أشياء، ففي الرواية التالية: "سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعًا" (فَأَعْجَبَنِي) زاد في الرواية التالية: "فأعجبنني، وآنقنني"، وهو بمعناه (فَقُلْتُ لَهُ) القائل هو قَزَعة؛ أي: قلت لأبي سعيد رضي الله عنه (أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟) بتقدير همزة الاستفهام؛ أي: أأنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ (قَالَ) أبو سعيد (فَأَقولُ) هذا أيضًا بتقدير همزة الاستفهام؛ أي: أفأقول (عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ أَسْمَعْ؟) والاستفهام للإنكار (قَالَ) قزعة (سَمِعْتُهُ) أي: أبا سعيد (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَشُدُّوا الرِّحَالَ) -بفتح حرف المضارعة، من باب نصر- هكذا رواية المصنّف رحمه الله هنا، فـ "لا" ناهية، والفعل مجزوم بها بحذف النون؛ لأنه من الأمثلة الخمسة التي رفعها بثبوت النون، ونصبها، وجزمها بحذفها، وسيأتي في أواخر "كتاب الحجّ" بلفظ:"لا تُشدّ الرحال" -بضم أوّله مبنيًّا للمفعول- وهو الذي في صحيح البخاريّ، وعليه فـ "لا" نافية، والمراد من النفي هو النهي، قال الطيبيّ: هو أبلغ من صريح النهي، كأنه قال: لا يستقيم أن يُقْصَد بالزيارة إلا هذه البقاع؛ لاختصاصها بما اختُصَّت به.
و"الرِّحَال" بالمهملة: جمع رَحْل، وهو للبعير كالسرج للفرس، وكَنَى بشد الرحال عن السفر؛ لأنه لازِمه، وخرج ذكرُها مخرج الغالب في ركوب المسافر، وإلا فلا فرق بين ركوب الرواحل، والخيل، والبغال، والحمير، والمشي في المعنى المذكور، ويدل عليه قوله في بعض طرقه:"إنما يُسَافَرُ"، أخرجه مسلم، من طريق عمران بن أبي أنس، عن سليمان الأغر، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وسيأتي في أواخر "كتاب الحجّ"
(1)
-إن شاء الله تعالى-.
(إِلَّا إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ) الاستثناء فيه مُفَرَّغ، والتقدير: لا تُشدّ الرحال إلى موضع، ولازِمه منعُ السفر إلى كل موضع غيرها؛ لأن المستثنى منه في المفرَّغ مقدَّر بأعم العامّ، لكن يمكن أن يكون المراد بالعموم هنا الموضع المخصوص، وهو المسجد، كما سيأتي. (مَسْجِدِي هَذَا) أي: المسجد النبويّ
(1)
سيأتي برقم (1397) رقم محمد فؤاد رحمه الله.
بالمدينة، و"مسجدي" بالجر على البدليّة، ويجوز رفعه على تقدير مبتدأ؛ أي: أي أحدها مسجدي، ونصبُه بتقدير فعل؛ أي: أعني، و"قوله:"هذا" بدل، أو عطف بيان لـ"مسجدي"، وأتى به إشارة إلى أن المساجد التي في المدينة غير مسجده ليس لها هذا الفضل، والله تعالى أعلم. (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) أي: المحرم، فهو كقولهم: الكتاب، بمعنى المكتوب، و"المسجد" يجوز فيه أوجه الإعراب الثلاثة المذكورة فيما قبله.
ثم المراد به جميع الحرم، وقيل: يختص بالموضع الذي يُصَلَّى فيه دون البيوت وغيرها، من أجزاء الحرم، قال الطبريّ: ويتأيد بقوله: "مسجدي هذا"؛ لأن الإشارة فيه إلى مسجد الجماعة، فينبغي أن يكون المستثنى كذلك، وقيل: المراد به الكعبة، حكاه المحب الطبري، وذكر أنه يتأيد بما رواه النسائيّ بلفظ:"إلا الكعبة"، وفيه نظر؛ لأن الذي عند النسائيّ:"إلا مسجد الكعبة"، حتى ولو سقطت لفظة "مسجد" لكانت مرادةً، ويؤيد الأول ما رواه الطيالسيّ من طريق عطاء أنه قيل له: هذا الفضل في المسجد وحده، أو في الحرم؟ قال: بل في الحرم؛ لأنه كله مسجد، قاله في "الفتح"
(1)
.
(وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى") أي: بيت المقدس، فـ "الأقصى" نعتٌ لـ "المسجد"، وفي الرواية الآتية:"ومسجد الأقصى" بالإضافة، وهي رواية البخاريّ، وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة، وقد جوّزه الكوفيون، واستشهدوا له بقوله تعالى:{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} [القصص: 44]، والبصريون يؤولونه بإضمار المكان؛ أي: الذي بجانب المكان الغربي، ومسجد المكان الأقصى، ونحو ذلك، وإليه أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:
وَلَا يُضَافُ اسْمٌ لِمَا بِهِ اتَّحَدْ
…
مَعْنًى وَأَوِّلْ مُوهِمًا إِذَا وَرَدْ
وسُمِّي الأقصى؛ لبعده عن المسجد الحرام في المسافة، وقيل: في الزمان، وفيه نظر؛ لأنه ثبت في "الصحيحين" أن بينهما أربعين سنة، وقد تقدّم في أبواب المساجد من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه، وتقدّم أيضًا بيان ما فيه من الإشكال، والجواب عنه.
(1)
"الفتح" 3/ 602.
وقال الزمخشريّ: سُمِّي الأقصى؛ لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد، وقيل: لبُعده عن الأقذار والخَبَث، وقيل: هو أقصى بالنسبة إلى مسجد المدينة؛ لأنه بعيد من مكة، وبيت المقدس أبعد منه.
[فائدة]: لبيت المقدس عدة أسماء تقرب من العشرين، منها: إيلياء بالمد والقصر، وبحذف الياء الأولى، وعن ابن عباس إدخال الألف واللام على هذا الثالث، وبيت الْمَقْدِس بسكون القاف، وبفتحها مع التشديد، والقُدْس، بغير ميم، مع ضم القاف، وسكون الدال، وبضمها أيضًا، وشَلَّم بالمعجمة، وتشديد اللام، وبالمهملة، وشلام بمعجمة، وسَلِم بفتح المهملة، وكسر اللام الخفيفة، وأوري سلم بسكون الواو وبكسر الراء بعدها تحتانية ساكنة، قال الأعشى [من المتقارب]:
وَقَدْ طُفْتُ لِلْمَالِ آفَاقَهُ
…
دِمَشْقَ فَحِمْصَ فَأُورِي سَلِمْ
ومن أسمائه كُورَةُ، وبيت إيل، وصهيون، ومصروث، آخره مثلثةٌ،
وكورشيلا، وبابوش، بموحدتين، ومعجمة، وقد تتبع أكثر هذه الأسماء
الحسين بن خالويه اللغويّ في "كتاب ليس".
وفي هذا الحديث فضيلة هذه المساجد، ومزيتها على غيرها؛ لكونها
مساجد الأنبياء، ولأن الأول قبلة الناس، وإليه حجهم، والثاني كان قبلة الأمم
السالفة، والثالث أُسِّس على التقوى.
وقال النوويّ رحمه الله: فيه بيانُ عظيمِ فضيلة هذه المساجد الثلاثة، ومزيتها على غيرها؛ لكونها مساجد الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- ولفضل الصلاة فيها، ولو نذر الذهاب إلى المسجد الحرام لزمه قصده لحجّ أو عمرة، ولو نذره إلى المسجدين الآخرين، فقولان للشافعيّ، أصحهما عند أصحابه يستحبّ قصدهما، ولا يجب، والثاني يجب، وبه قال كثيرون من العلماء.
وأما باقي المساجد سوى الثلاثة، فلا يجب قصدها بالنذر، ولا ينعقد نذر قصدها، هذا مذهبنا، ومذهب العلماء كافّةً إلا محمد بن مسلمة المالكيّ، فقال: إذا نذر قصد مسجد قباء لزمه قصده؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يأتيه كل سبت راكبًا وماشيًا.
وقال الليث بن سعد: يلزمه قصد ذلك المسجد أيّ مسجد كان، وعلى
مذهب الجماهير لا ينعقد نذره، ولا يلزمه شيء، وقال أحمد: يلزمه كفارة يمين.
واختَلَف العلماء في شدّ الرحال، وإعمال المطيّ إلى غير المساجد الثلاثة، كالذهاب إلى قبور الصالحين، وإلى المواضع الفاضلة، ونحو ذلك، فقال الشيخ أبو محمد الجوينيّ من أصحابنا: هو حرام، وهو الذي أشار القاضي عياض إلى اختياره، والصحيح عند أصحابنا، وهو الذي اختاره إمام الحرمين، والمحققون أنه لا يحرم، ولا يكره، قالوا: والمراد أن الفضيلة التامّة إنما هي في شدّ الرحال إلى هذه الثلاثة خاصّة. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامح عفا الله عنه: لا يخفى أن ما ذهب إليه أبو محمد الْجُوينيّ،
وتبعه القاضي عياض من تحريم شدّ الرحال إلى غير هذه المساجد هو الحقّ؛
لظاهر هذا الحديث، وسيأتي هذا البحث مستوفًى في أواخر "كتاب الحج" -إن
شاء الله تعالى-.
(وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: "لَا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ) يحتمل أن تكون "لا" ناهية، الفعل مجزوم بها، وكُسر؛ لالتقاء الساكنين، ويَحْتَمل أن تكون نافيةً، والفعل مرفوع، والمراد من النفي النهي الأكيد، كما سبق، والوجه الأول يؤيّده قوله:"لا تَشُدُّوا الرحال"(يَوْمَيْنِ) هذا لا يعارض ما سبق بلفظ "ثلاثًا"، وكذا الآتي بلفظ:"مسيرة يوم وليلة"؛ لأنه مما خرج مخرج جواب السؤال، على ما تقدّم بيانه (مِنَ الدَّهْرِ، إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا) أي: صاحب حرمة بسبب النسب، أو المصاهرة، أو الرضاع (أَوْ زَوْجُهَا")، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [71/ 3262 و 3263 و 3264 و 3265 و 3266،
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 106.
(1338)
، و (البخاريّ) في "الصلاة"(1188 و 1197) و"الحجّ"(1864) و"الصوم"(1992 و 1995)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(326)، و (ابن ماجه) في "الصلاة"(1249)، و (الحميديّ) في "مسنده"(750)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 374)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 7 و 34 و 51 و 59 و 71)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 12 - 13)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1617)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 347)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 377 و 393)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(1/ 242)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 452)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(450)، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: تكلّم الدارقطنيّ رحمه الله في إسناد هذا الحديث، فقال في "العلل":(2300) - وسئل عن حديث قَزَعَة بن يحيى، عن أبي سعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، ولا تسافر المرأة
…
". فقال: اختُلِف فيه على قَزَعَة فرواه المغيرة بن عبد الله اليشكريّ، وعُمارة بن عُمير، وقتادة، وعبد الملك بن عُمير، وقيل: عن عبد الملك بن ميسرة، ولا يصحّ، عن قَزَعة، عن أبي سعيد.
ورواه يزيد بن أبي مريم، عن قَزَعَة، عن أبي سعيد، واختُلِف عنه، فرواه سُويد بن عبد العزيز، عن يزيد بن أبي مريم، عن قَزَعة، عن أبي سعيد.
وخالفه صدقة بن خالد، فرواه عن يزيد بن أبي مريم، عن قَزَعة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
وقال محمد بن شعيب بن شابور، عن يزيد بن أبي مريم، عن قَزَعة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي سعيد الخدريّ.
ورواه طلق بن حبيب، عن قَزَعة، عن ابن عمر، واختُلِف عن ابن عيينة، فرواه الحرب بن سريج، عن ابن عيينة، عن عمرو، عن طَلْق، عن قَزَعة، عن ابن عمر مرفوعًا، ورواه غيره من أصحاب ابن عيينة موقوفًا.
وكذلك رواه وَرْقاء وغيره عن عمرو موقوفًا، والصحيح قول من قال: عن قَزَعَة، عن أبي سعيد. انتهى كلام الدارقطنيّ رحمه الله
(1)
.
(1)
"العلل الواردة في الأحاديث النبوية" 11/ 305 - 307.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما قاله الدارقطنيّ رحمه الله أن رواية الشيخين لهذا الحديث هي الصحيحة، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3263]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ قَزَعَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعًا، فَأَعْجَبْنَنِي، وَآنَقْنَنِي: نَهَى أَنْ تُسَافِرَ الْمَرْأَةُ مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ، إِلَّا وَمَعَهَا زَوْجُهَا، أَوْ ذُو مَحْرَمٍ، وَاقْتَصَّ بَاقِيَ الْحَدِيثِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غندر، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ صحيح الكتاب [9](ت 3 أو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
2 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الحجة المشهور [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (فَأَعْجَبْنَنِي، وَآنَقْنَنِي) قال القاضي عياض رحمه الله: معنى "آنقنني": أعجبنني، وإنما كرر المعنى، لاختلاف اللفظ، والعرب تفعل ذلك كثيرًا للبيان والتوكيد، قال الله تعالى:{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} الآية [البقرة: 157] والصلاة من الله الرحمة، وقال تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} الآية [الأنفال: 69]، والطيب هنا الحلال، ومنه قول الْحُطيئة [من الطويل]:
أَلَا حَبَّذَا هِنْدٌ وَأرْضٌ بِهَا هِنْدٌ
…
وَهْنْدٌ أَتَى مِنْ دُونِهَا النَّأْيُ وَالْبُعْدُ
وقال آخر [من الوافر]:
يَبْكِيكَ نَاءٍ بَعِيدُ الدَّارِ مُغْتَرِبٌ
…
يَا لَلْكُهُولِ وَللشُّبَّانِ مُغْتَرِبُ
ومثله في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: "إذا وقعت في آل حاميم وقعت في روضات أتأنّق فيهنّ"، قال أبو عبيد: أي أتتبع محاسنهنّ، وقال أبو حمزة: معناه: أستلذّ بقراءتهنّ، والأنَقُ: الفرَح والسرور، والشيء الأنيق: العجِبُ،
والمونَق المعجَب، ومنه منظرٌ مونقٌ. انتهى
(1)
.
وقوله: (وَاقْتَصَّ بَاقِيَ الْحَدِيثِ) الضمير لشعبة رحمه الله.
[تنبيه]: رواية شعبة، عن عبد الملك بن عُمير هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(1197)
- حدّثنا أبو الوليد، حدّثنا شعبة، عن عبد الملك، سمعت قَزَعَة مولى زياد، قال: سمعت أبا سعيد الخدريّ رضي الله عنه يحدِّث بأربع عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأعجبنني، وآنقنني، قال:"لا تسافر المرأة يومين، إلا معها زوجها، أو ذو محرم، ولا صومَ في يومين: الفطر، والأضحى، ولا صلاة بعد صلاتين: بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب، ولا تُشَدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي".
وأخرجه أيضًا في "الحج"، فقال:
(1864)
- حدّثنا سليمان بن حرب، حدّثنا شعبة، عن عبد الملك بن عمير، عن قَزَعة مولى زياد، قال: سمعت أبا سعيد، وقد غزا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ثنتي عشرة غزوةً، قال: أربع سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال: يُحدّثهن عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "فأعجبنني، وآنقنني: أن لا تسافر امرأة مسيرة يومين، ليس معها زوجها، أو ذو محرم، ولا صومَ يومين: الفطر، والأضحى، ولا صلاة بعد صلاتين: بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا تُشَدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجدي، ومسجد الأقصى". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3264]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَهْمِ بْنِ مِنْجَابٍ، عَنْ قَزَعَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُسَافِر الْمَرْأَةُ ثَلَاثًا، إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ").
(1)
"إكمال المعلم" 4/ 448 بزيادة من "نهاية ابن الأثير" 1/ 76. قال ابن الأثير رحمه الله: والمحدّثون يروونه: "أينقنني"، وليس بشيء. انتهى.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُغِيرَةُ) بن مِقْسَم الضبّيّ مولاهم، أبو هشام الكوفيّ الأعمى، ثقةٌ متقنٌ، إلا أنه يدلّس، ولا سيّما عن إبراهيم [6](ت 136) على الصحيح (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.
2 -
(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد بن قيس النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ يرسل كثيرًا [5](ت 96)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.
3 -
(سَهْمُ بْنُ مِنْجَابِ) بن راشد الضبيّ الكوفيّ، ثقةٌ [6].
رَوَى عن أبيه، والعلاء بن الحضرميّ، وقَرْثَع الضبيّ، وقَزَعة بن يحيى.
وروى عنه إبراهيم النخعيّ، وأبو خَلْدة عمرو بن دينار الكوفيّ، وأبو سنان ضِرَار بن مُرّة الشيبانيّ، وغيرهم.
قال النسائيّ: ثقةٌ، وقال العجليّ: كوفيّ تابعيّ ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، لكنه فرّق بين الذي يروي عن العلاء، فذكره في التابعين، وبين الذي يروي عن قَزَعة وقرثع، فذكره في أتباع التابعين، فالله أعلم، ولَمّا ذكر البخاري في "تاريخه" سهم بن مِنجاب الراوي عن العلاء بن الحضرميّ نسبه سعديًّا، وهذا مما يؤيّد أنه غير الضبيّ، قاله الحافظ رحمه الله
(1)
.
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ في "الشمائل"، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب غير هذا الحديث.
والباقون ذُكروا في الباب، و"جرير" هو: ابن عبد الحميد.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3265]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، جَمِيعًا عَنْ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ أَبُو غَسَّانَ: حَدَّثَنَا مُعَاذٌ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ
(1)
"تهذيب التهذيب" 4/ 229.
قَزَعَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تُسَافِرِ امْرَأَةٌ فَوْقَ ثَلَاثِ
لَيَالٍ، إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ) مالك بن عبد الواحد البصريّ، ثقةٌ [10](230)(م د) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) بُندار، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
3 -
(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدستوائيّ البصريّ، وقد سكن اليمن، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
4 -
(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله سَنْبر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
5 -
(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ يُدلّس، رأس [4](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
والباقيان ذُكرا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3266]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: "أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ، إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ [10](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.
2 -
(سَعِيدُ) بن أبي عروبة مِهْران اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقة حافظٌ، له تصانيف، لكنه كثير التدليس، واختلط [6](ت 6 أو 157)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.
والباقيان ذُكرا في الباب.
[تنبيه]: رواية سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة هذه لم أر من ساقها، فليُنظر، وقد ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه"(4/ 13) إلا أنه بلفظ هشام الدستوائيّ، ودونك نصّه:
(3116)
- حدّثنا محمد بن إبراهيم، أنبأ أحمد بن علي بن المثنى، ثنا محمد بن المنهال، ثنا يزيد بن زُريع، ثنا سعيد، عن قتادة، عن قَزَعة، عن أبي سعيد، قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسافر المرأة فوق ثلاث ليال، إلا مع ذي محرم". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3267]
(1339) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ، تُسَافِرُ مَسِيرَةَ لَيْلَةٍ، إِلَّا وَمَعَهَا رَجُلٌ، ذُو حُرْمَةٍ مِنْهَا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(لَيْثُ) بن سعيد الإمام المصريّ المشهور، تقدّم قريبًا.
2 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ) المقبريّ، أبو سَعْد المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [3] مات في حدود (120) أو قبلها، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.
3 -
(أَبُوهُ) أبو سعيد كيسان المقبريّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [2](ت 100)(ع) تقدم في "الإيمان" 74/ 392.
4 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم في الباب الماضي.
"وقتيبة" ذُكر في الباب.
شرح الحديث:
(عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ) المقبريّ (عَنْ أَبِيهِ) كيسان المقبريّ، وقد اختلف الرواة في زيادة:"عن أبيه"، وسيأتي البحث في ذلك في المسألة الثالثة -إن شاء الله تعالى- (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ) أي: شابّة، أو عجوز (مُسْلِمَةٍ) وفي الرواية التالية: "لا يحل لامرأة
تؤمن بالله، واليوم الآخر، تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم"، ومفهوم هذا أن النهي المذكور يختصّ بالمؤمنات، فتخرج الكافرات، كتابيّة كانت، أو حربيّة، وقد قال به بعض أهل العلم، وأجيب بأن الإيمان هو الذي يستمرّ للمتّصف به خطاب الشرع، فينتفع به، وينقاد له، فلذا قيّده به، أو أن الوصف ذُكر لتأكيد التحريم، ولم يُقصَد به إخراج ما سواه، أفاده في "الفتح"
(1)
.
(تُسَافِرُ) بتقدير "أن" المصدريّة؛ أي: أن تسافر، وكذا الروايات التالية، وحذف "أن" ورفعُ الفعل جائز في سعة الكلام، كما في قوله {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} الآية [الروم: 24]، وأما حذفها، ونصب الفعل فشاذّ إلا في المواضع المعروفة، كما قال في "الخلاصة":
وَشَذَّ حَذْفُ "أَنْ" وَنَصْبٌ فِي سِوَى
…
مَا مَرَّ فَاقْبَلْ مِنْهُ مَا عَدْلٌ رَوَى
ومنه قول الشاعر [من الطويل]:
أَلَا أَيُّهَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الْوَغَى
…
وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي
بنصب "أحضُرَ".
وفي رواية للبخاريّ: "لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر".
(مَسِيرَةَ لَيْلَةٍ) بنصب "مسيرةَ" على الظرفيّة، وهو مصدر ميميّ بمعنى السير؛ كالمعيشة بمعنى العيش، واختلفت الرواية عن أبي هريرة رضي الله عنه في ذكر المدة، ففي هذه الرواية:"مسيرة ليلة"، وفي الرواية التالية:"مسيرة يومٍ"، وفي الرواية الرابعة:"أن تسافر ثلاثًا"، وفي رواية للشيخين:"مسيرة يوم وليلة"، وفي رواية لأبي داود:"بريدًا"، وقد تقدم الكلام في ذلك، وأنه ليس المراد التحديد، بل المدار على ما يُسَمَّى سفرًا، والاختلاف إنما وقع لاختلاف السائل والمواطن، وليس هو من المطلق والمقيد، بل من العام الذي ذُكرت بعض أفراده، وذا لا يُخَصِّص على الأصح
(2)
.
(إِلَّا وَمَعَهَا رَجُلٌ، ذُو حُرْمَةٍ مِنْهَا") وفي رواية: "إلا مع ذي محرم"، وفي أخرى:"إلا مع ذي محرم عليها"، وفي أخرى:"إلا ومعها رجل ذو محرم منها"، وكلّها عند المصنّف، وفي رواية للبخاريّ:"ليس معها حرمة"، هكذا
(1)
"الفتح" 3/ 466 - 467.
(2)
"المرعاة" 8/ 340.
وقع في الروايات، قيل: والظاهر أن لفظ "ذو" مُقْحَمٌ، فإن المحرم للمرأة هو من لا يَحِلّ له نكاحها، وقيل: المراد "ذو رَحِمٍ محرم"؛ أي: ذو قرابة مُحَرَّم تزوجها، قال في "القاموس": ورَحِمٌ مُحَرَّمٌ، محرم تزوُّجها.
قال "صاحب تيسير العلام": المرأة مظنة الشهوة والطمع، وهي لا تكاد تقي نفسها؛ لضعفها ونقصها، ولا يغار عليها مثل محارمها الذين يرون أن النَّيْل منها نَيْلٌ من شرفهم وعرضهم، والرجل الأجنبي حينما يخلو بالأجنبية، يكون مُعَرَّضًا لفتن الشيطان ووساوسه؛ لهذه المحاذير التي هي وسيلة في وقوع الفاحشة، وانتهاك الأعراض، حَرَّم الشارع على المرأة أن تسافر إلا ومعها ذو محرم.
قال: واختلفوا هل المرأة مستطيعة الحجّ بدون المحرم، إذا كانت ذات مال، أم أن وجود المحرم شرط في الاستطاعة؟ والصحيح أنه لا يحل لها الخروج بدون محرم لأيّ سفر، فتكون معذورة غير مستطيعة.
قال: واختلفوا في الكبيرة التي لا تميل إليها النفس، هل تسافر بدون محرم؟ أم لا بد من المحرم؟ والصحيح الأخير؛ لأن الحديث عامّ في كل امرأة، ولا يخلو الأمر من محذور، فلكل ساقطة لاقطة.
قال: واختلفوا هل يكفي أن تكون مع رفقة أمينة، أو تسافر مع امرأة
مسلمة ثقةٌ أم لا؟ والصحيح أنه لا بُدّ من المحرم؛ لعموم الحديث، ولأن غيرة
المحرم، ونظره مفقودان.
واختلفوا في تحديد السفر تبعًا لاختلاف الأحاديث، والأحوط أن يؤخذ بأقلها؛ لأنه لا ينافي ما فوقه، ويكون ما فوقه قضايا عين حسب حال السائل، والله أعلم.
قال: وإذا قارنت حال المسلمين اليوم بهذه النصوص الصحيحة، والآداب العالية، والغيرة الكريمة، والشهامة النبيلة، والمحافظة على الفروج والأعراض، وحفظ الأنساب، وجدت كثيرًا من المسلمين، قد نبذوا دينهم وراءهم ظهريًّا، ومَرَقُوا منه، وصار التصوّن والحياء عندهم ضربًا من الرجعية والجمود، وأما الانحلال الخلقيّ، وخلعُ رداء الحياء والعفاف، فهو التقدّم،
والرُّقِيَّ، فإنا لله وإنا إليه راجعون. انتهى، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، وما أحقّه أن يُكتب بماء الذهب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [71/ 3267 و 3268 و 3269 و 3270](1339)، و (البخاريّ) في "تقصير الصلاة"(1088)، و (أبو داود) في "المناسك"(1723 و 1724)، و (الترمذيّ) في "الرضاع"(1170)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(2899)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 979)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 250 و 340 و 423 و 437 و 445 و 493 و 506)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2523 و 2525)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6/ 435 - 437)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 14)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 139)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1849)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): قد تكلّم الحفّاظ في حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا:
قال النوويّ رحمه الله-بعد إيراده الحديث من رواية يحيى بن يحيى، عن مالك الآتي بعد حديث- ما نصّه: وقع هذا الحديث في نسخ بلادنا: "عن سعيد، عن أبيه"، قال القاضي عياض: وكذا وقع في النسخ عن الْجُلُوديّ، وأبي العلاء، والكسائيّ، وكذا رواه مسلم في الإسناد السابق قبل هذا عن قتيبة، عن الليث، عن سعيد، عن أبيه، وكذا رواه البخاريّ ومسلم من رواية ابن أبي ذئب، عن سعيد، عن أبيه.
قال: واستدرك الدارقطنيّ عليهما إخراجهما هذا عن ابن أبي ذئب، وعلى مسلم إخراجه إياه عن الليث، عن سعيد، عن أبيه، وقال: الصواب عن سعيد، عن أبي هريرة، من غير ذكر أبيه، واحتَجَّ بأن مالكًا، ويحيى بن أبي كثير، وسهيلًا قالوا: عن سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة، ولم يذكروا عن أبيه، قال: والصحيح عن مسلم في حديثه هذا عن يحيى بن يحيى، عن مالك، عن
سعيد، عن أبي هريرة، من غير ذكر أبيه، وكذا ذكره أبو مسعود الدمشقيّ، وكذا رواه معظم رواة "الموطأ" عن مالك.
قال الدارقطنيّ: ورواه الزهرانيّ والقرويّ عن مالك، فقالا: عن سعيد، عن أبيه. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله
(1)
.
قال النوويّ: وذكر خلف الواسطيّ في "الأطراف" أن مسلمًا رواه عن يحيى بن يحيى، عن مالك، عن سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، وكذا رواه أبو داود، في "كتاب الحج" من "سننه"، والترمذيّ في "النكاح" عن الحسن بن عليّ، عن بشر بن عمر، عن مالك، عن سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال الترمذيّ: حديث حسن صحيحٌ، ورواه أبو داود في "الحج" أيضًا عن القعنبيّ، والعلاء، عن مالك، عن يوسف بن موسى، عن جرير، كلاهما عن سهيل، عن سعيد، عن أبي هريرة.
فحصل اختلاف ظاهر بين الحفاظ في ذكر أبيه، فلعله سمعه من أبيه، عن أبي هريرة، ثم سمعه من أبي هريرة نفسه، فرواه تارةً كذا، وتارةً كذا، وسماعه من أبي هريرة صحيحٌ معروفٌ، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(2)
.
وقال الإمام البخاريّ رحمه الله بعد إخراج الحديث من طريق ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبريّ، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه ما نصّه: تابعه يحيى بن أبي كثير، وسهيلٌ، ومالكٌ، عن المقبريّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه. انتهى.
قال في "الفتح": قوله: تابعه يحيى بن أبي كثير، وسهيلٌ، ومالكٌ، عن المقبريّ -يعني سعيدًا- عن أبي هريرة -يعني لم يقولوا: عن أبيه- فعلى هذا فهي متابعة في المتن، لا في الإسناد، على أنه قد اختُلِف على سهيل، وعلى مالك فيه، وكأن الرواية التي جزم بها المصنّف أرجح عنده عنهم.
ورجح الدارقطنيّ أنه عن سعيد، عن أبي هريرة، ليس فيه "عن أبيه"، كما رواه معظم رواه "الموطأ"، لكن الزيادة من الثقة مقبولةٌ، ولا سيما إذا كان حافظًا، وقد وافق ابن أبي ذئب على قوله:"عن أبيه" الليثُ بنُ سعد، عند أبي داود، والليثُ، وابنُ أبي ذئب من أثبت الناس في سعيد.
(1)
"إكمال المعلم" 4/ 449 - 450.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 107 - 109.
قال: فأما رواية يحيى، فأخرجها أحمد، عن الحسن بن موسى، عن شيبان النحويّ، عنه، ولم أجد عنه فيه اختلافًا، إلا أن لفظه:"أن تسافر يومًا إلا مع ذي محرم"، ويُحْمَل قوله:"يومًا" على أن المراد به اليوم بليلته، فيوافق رواية ابن أبي ذئب.
وأما رواية سهيل، فذكر ابن عبد البر أنه اضطُرِب في إسنادها ومتنها، وأخرجه ابن خزيمة من طريق خالد الواسطيّ، وحماد بن سلمة، وأخرجه أبو داود، وابن حبان، والحاكم، من طريق جرير، كلاهما عن سهيل بن أبي صالح، عن سعيد، عن أبي هريرة، كما علَّقه البخاريّ، إلا أن جريرًا قال في روايته:"بَرِيدًا" بدل "يومًا"، وقال بشر بن المفضل، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، أبدل سعيدًا بأبي صالح، وخالف في اللفظ أيضًا، فقال:"تسافر ثلاثًا"، أخرجه مسلم.
ويَحْتَمِل أن يكون الحديثان معًا عند سهيل، ومن ثَمَّ صحح ابن حبان الطريقين عنه، لكن المحفوظ عن أبي صالح، عن أبي سعيد، كما تقدمت الإشارة إليه.
وأما رواية مالك فهي في "الموطأ"، كما قال البخاريّ، وأخرجها مسلم، وأبو داود، وغيرهما، وهو المشهور عنه، ورواها بشر بن عمر الزهرانيّ عنه، فقال: عن سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، أخرجه أبو داود، والترمذيّ، وأبو عوانة، وابن خزيمة من طريقه، وقال ابن خزيمة: إنه تفرد به عن مالك، وفيه نظرٌ؛ لأن الدارقطنيّ أخرجه في "الغرائب" من رواية إسحاق بن محمد الفرويّ، عن مالك كذلك، وأخرجه الإسماعيليّ، من طريق الوليد بن مسلم، عن مالك، والمحفوظ عن مالك ليس فيه قوله:"عن أبيه"، والله أعلم. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله في رواية مالك: "وأخرجها مسلم" يقتضي أن رواية مالك عند مسلم بإسقاط "عن أبيه"، لكن الموجود في النسخ عندنا بإثباتها، كما سبق في كلام القاضي عياض، والنوويّ، فتنبّه.
والذي يظهر لي أن هذا الحديث مما سمعه سعيد المقبريّ، عن أبيه، عن أبي هريرة، وسمعه أيضًا عن أبي هريرة، فكان يحدّث بالوجهين، قال الإمام ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه": سمع هذا الخبرَ سعيدٌ المقبريّ عن أبي هريرة،
وسمعه من أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، فالطريقان جميعًا محفوظان. انتهى
(1)
.
وقال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: هكذا رواه جماعة الرواة لـ"الموطأ" عن مالك، عن سعيد بن أبي سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة، ورواه بشر بن عمر، عن مالك، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، وكان سعيد بن أبي سعيد فيما يقولون: قد سمع من أبي هريرة، وسمع من أبيه، عن أبي هريرة، كذا قال ابن معين وغيره، فجعلها كلها أحيانًا عن أبي هريرة. انتهى
(2)
.
والحاصل أن جعْله مما رواه سعيد المقبريّ بالوجهين: عن أبيه، عن أبي هريرة، وعن أبي هريرة نفسه، أولى من تخطئة رواية مسلم وغيره، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3268]
(. . .) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَن ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ، إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ) محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب القرشيّ العامريّ، أبو الحارث المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ [7](ت 8 أو 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 93.
والباقون ذُكروا في الباب.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
راجع: "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 6/ 438.
(2)
"التمهيد لابن عبد البرّ" 21/ 50.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3269]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ عَلَيْهَا").
رجال الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم قبل بابين.
2 -
(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم أيضًا قبل بابين.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث مضى الكلام فيه في الذي قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3270]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ، يَعْنِي ابْنَ مُفَضَّلٍ، حَدَّثَنَا سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ أَنْ تُسَافِرَ ثَلَاثًا، إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فضيل بن حسين البصريّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 237)(خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
2 -
(بِشْرُ بْنُ مُفَضَّلِ) بن لاحق الرَّقَاشيّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [8](ت 6 أو 178)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.
3 -
(سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ) السمّان المدنيّ، ثقةٌ [6](ت 138)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 161.
4 -
(أَبُوهُ) أبو صالح ذكوان السّمّان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
و"أبو هريرة" ذُكر قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، ومضى البحث فيه مستوفى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3271]
(1340) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَن الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمٍ الْآخِرِ، أَنْ تُسَافِرَ سَفَرًا يَكُونُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا، إِلَّا وَمَعَهَا أَبُوهَا، أَوْ ابْنُهَا، أَوْ زوْجُهَا، أَوْ أَخُوهَا، أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا")
(1)
.
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قبل باب.
2 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم قريبًا.
3 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الأسديّ الكاهليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ، يدلّس [5](ت 147)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا) من عطف العامّ على الخاصّ.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3272]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).
(1)
كان الأولى للمصنّف رحمه الله إيراد هذا الحديث مع أحاديث أبي سعيد الخدريّ رحمه الله المذكورة قبل حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فتأمّل.
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ) عبد الله بن سعيد بن حُصين الْكِنديّ الكوفيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257)(ع)، وهو أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدم في "المقدمة" 4/ 17.
2 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح بن مَلِيح الرُّؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 6 أو 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: رواية وكيع، عن الأعمش هذه ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:
(2889)
- حدّثنا عليّ بن محمد، حدّثنا وكيعٌ، حدّثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسافر المرأة سفرًا ثلاثة أيام فصاعدًا، إلا مع أبيها، أو أخيها، أو ابنها، أو زوجها، أو ذي محرم". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3273]
(1341) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ، يَقُولُ: "لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ، وَلَا تُسَافِر الْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَم"، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ امْرَأَتي خَرَجَتْ حَاجَّةً، وَإِنِّي اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كذَا وَكذَا، قَالَ: "انْطَلِقْ، فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم قبل باب.
2 -
(عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ) الأثرم الْجُمَحيّ، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.
3 -
(أَبُو مَعْبَدٍ) نافذ -بالذال المعجمة- مولى ابن عبّاس المكيّ، ثقة [4](ت 104)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 130.
4 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما تقدّم قبل باب.
والباقيان ذُكرا في الباب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما، ثم فصّل؛ لما سبق غير مرّة.
2 -
(منها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فما أخرج لهما الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمكيين، سوى شيخيه أيضًا، فالأول كوفيّ، والثاني نسائيّ، ثم بغداديّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: عمرو، عن أبي معبد، وهو من رواية الأقران؛ لأنهما من طبقة واحدة.
5 -
(ومنها): أنه فيه ابن عبّاس رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والمشهورين بالفتوى.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ) -بفتح الميم، وسكون العين المهملة، وفتح الموحّدة- اسمه نافذ، قال في "الفتح": كذا رواه عبد الرزاق، عن ابن جريج، وابن عيينة، كلاهما عن عمرو، عن أبي معبد به، ولعمرو بهذا الإسناد حديث آخر، أخرجه عبد الرزاق وغيره، عن ابن عيينة عنه، عن عكرمة، قال: جاء رجل إلى المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أين نزلت؟ " قال: على فلانة، قال:"أغلقت عليها بابك؟ -مرتين- لا تحجنّ امرأة إلا ومعها ذو محرم"، ورواه عبد الرزاق أيضًا عن ابن جريج، عن عمرو، أخبرني عكرمة، أو أبو معبد، عن ابن عباس، قال الحافظ: والمحفوظ في هذا مرسلُ عكرمة، وفي الآخر رواية أبي معبد، عن ابن عباس رضي الله عنهما. انتهى
(1)
.
(قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ، يَقُولُ:
(1)
"الفتح" 5/ 164.
"لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ) قال النوويّ رحمه الله: هذا استثناء
منقطعٌ؛ لأنه متى كان معها محرم لم تبق خلوةٌ، فتقدير الحديث: لا يقعدنّ رجل مع امرأة، إلا ومعها محرم. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": فيه منع الخلوة بالأجنبية، وهو إجماع، لكن اختلفوا هل يقوم غير المحرم مقامه في هذا؛ كالنسوة الثقات؟ والصحيح الجواز؛ لضعف التهمة به، وقال القفّال: لا بُدّ من المحرم، وكذا في النسوة الثقات في سفر الحجّ لا بدّ من أن يكون مع إحداهنّ محرم، ويؤيده نصّ الشافعيّ أنه لا يجوز للرجل أن يصلي بنساء مفردات، إلا أن تكون إحداهنّ محرمًا له. انتهى.
وقال النوويّ رحمه الله: وقوله صلى الله عليه وسلم: "ومعها ذو محرمٌ" يَحْتَمِل أن يريد محرمًا لها، ويَحْتَمِل أن يريد محرمًا لها أو له، وهذا الاحتمال الثاني هو الجاري على قواعد الفقهاء، فإنه لا فرق بين أن يكون معها محرم لها؛ كابنها، وأخيها، وأمها، وأختها، أو يكون محرمًا له؛ كأخته، وبنته، وعمته، وخالته، فيجوز القعود معها في هذه الأحوال.
ثم إن الحديث مخصوص أيضًا بالزوج، فإنه لو كان معها زوجها، كان كالمحرم، وأولى بالجواز، وأما إذا خلا الأجنبي بالأجنبية من غير ثالث معهما، فهو حرام بإتفاق العلماء، وكذا لو كان معهما من لا يُسْتَحَى منه؛ لصغره، كابن سنتين، وثلاث، ونحو ذلك، فإن وجوده كالعدم، وكذا لو اجتمع رجال بامرأة أجنبية فهو حرام، بخلاف ما لو اجتمع رجل بنسوة أجانب، فإن الصحيح جوازه.
قال: والمختار أن الخلوة بالأمرد الأجنبي الحسن كالمرأة، فتحرم الخلوة به، حيث حرمت بالمرأة، إلا إذا كان في جمْع من الرجال المصونين.
قال الجامع عفا الله عنه: تحريم الخلوة بالأمرد الحسن مما لا دليل عليه،
فقد كان في أولاد الصحابة رضي الله عنهم من كان صبيح الوجه، فما نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الخلوة بهم، وكذا لم يوجد من الخلفاء الراشدين، ولا من غيرهم من الصحابة النهي عن ذلك، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 109.
قال: قال أصحابنا: ولا فرق في تحريم الخلوة حيث حرمناها بين الخلوة في صلاة، أو غيرها، ويستثنى من هذا كله مواضع الضرورة، بأن يجد امرأة أجنبية منقطعة في الطريق، أو نحو ذلك، فيباح له استصحابها، بل يلزمه ذلك إذا خاف عليها لو تركها، وهذا لا اختلاف فيه، ويدلّ عليه حديث عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك. انتهى
(1)
.
(وَلَا تُسَافِر الْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَم") تقدّم شرح هذه الجملة قريبًا (فَقَامَ رَجُلٌ) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسم الرجل، ولا امرأته، ولا على تعيين الغزوة المذكورة (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً) أي: مريدة أداء الحجّ (وَإِنِّي اكْتُتِبْتُ) بالبناء للمفعول؛ أي: كَتَبْتُ نفسي في أسماء مَن عُيِّن في تلك الغزوة، وقال القرطبيّ: أي ألزمت، وأثبتّ نفسي في ديوان ذلك البعث. انتهى
(2)
. (فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا) وفي رواية للبخاريّ: "فقال رجل: يا رسول الله إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا، وامرأتي تريد الحجّ"، قال ابن الْمُنَيِّر: الظاهر أن ذلك كان في حجة الوداع، فيؤخذ منه أن الحجّ على التراخي؛ إذ لو كان على الفور لما تأخر الرجل مع رفقته الذين عُيِّنوا في تلك الغَزَاة، قال الحافظ: كذا قال، وليس ما ذكره بلازم؛ لاحتمال أن يكونوا قد حَجُّوا قبل ذلك مع مَن حجّ في سنة تسع، مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أو أن الجهاد قد تعيّن على المذكورين بتعيين الإمام، كما لو نزل عدوّ بقوم، فإنه يتعيّن عليهم الجهاد، ويتأخر الحج اتفاقًا. انتهى.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("انْطَلِقْ) أي: اذهب (فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ") قال القرطبيّ رحمه الله: هو فسخٌ لِمَا كان التزم من المضيّ للجهاد، ويدل: على تأكُّد أمر صيانة النساء في الأسفار، وعلى أن الزوج أحقّ بالسفر مع زوجته من ذوي رحمها، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم لم يسأله هل لها محرم أم لا؟ ولأن الزوج يَطّلع من الزوجة على ما لا يَطّلع منها ذو المحرم، فكان أولى، فإذًا قوله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث:"إلا ومعها ذو محرمٍ"؛ إنما خرج خطابًا لمن لا زوج لها، والله تعالى أعلم. انتهى
(3)
.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 109.
(2)
"المفهم" 3/ 453.
(3)
"المفهم" 3/ 453.
وفي رواية البخاريّ: "فقال: اخرُج معها"، قال في "الفتح": قوله: "اخرج معها" أخذ بظاهره بعض أهل العلم، فأوجب على الزوج السفر مع امرأته إذا لم يكن لها غيره، وبه قال أحمد، وهو وجهٌ للشافعية، والمشهور أنه لا يلزمه؛ كالوليّ في الحج عن المريض، فلو امتَنَع إلا بأجرة لزمها؛ لأنه من سبيلها، فصار في حقها كالمؤنة.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن ما ذهب إليه الإمام أحمد، ومن قال بقوله، من وجوب سفر الزوج مع امرأته إذا لم يوجد لها محرم غيره هو الأرجح؛ لظاهر أمره صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
قال: واستُدِلّ به على أنه ليس للزوج منع امرأته من حج الفرض، وبه قال أحمد، وهو وجه للشافعية، والأصح عندهم أن له منعها؛ لكون الحج على التراخي.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن ما قاله الإمام أحمد رحمه الله من أنه ليس له أن يمنعها عن فرض الحج، هو الأظهر، فتأمل، والله تعالى أعلم.
قال: وأما ما رواه الدارقطنيّ من طريق إبراهيم الصائغ، عن نافع، عن ابن عمر، مرفوعًا في امرأة لها زوج، ولها مالٌ، ولا يأذن لها في الحج، فليس لها أن تنطلق إلا بإذن زوجها.
فأجيب عنه بأنه محمول على حجّ التطوع عملًا بالحديثين.
ونقل ابن المنذر الإجماع على أن للرجل مَنْع زوجته من الخروج في الأسفار كلها، وإنما اختلفوا فيما كان واجبًا.
واستَنْبَطَ منه ابن حزم جواز سفر المرأة بغير زوج، ولا محرم؛ لكونه صلى الله عليه وسلم لم يأمر بردّها، ولا عاب سفرها.
وتُعُقّب بأنه لو لم يكن ذلك شرطًا لَمَا أمر زوجها بالسفر معها، وتركه الغزو الذي كُتب فيه، ولا سيّما وقد رواه سعيد بن منصور، عن حماد بن زيد، بلفظ:"فقال رجل: يا رسول الله! إني نذرت أن أخرج في جيش كذا وكذا"، فلو لم يكن شرطًا ما رخّص له في ترك النذر. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم
(1)
"الفتح" 5/ 168 - 169.
بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [71/ 3273 و 3274 و 3275](1341)، و (البخاريّ) في "جزاء الصيد"(1862) و"الجهاد"(3006 و 3061) و"النكاح"(5233)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(2/ 968)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 286)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 221)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 222 و 346)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 15)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(4/ 137)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2731 و 3756)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(11/ 224 - 225)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4/ 279)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 112)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 226) و"المعرفة"(4/ 251)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1849)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): النهي عن سفر المرأة بدون محرم لحجّ، أو غيره.
2 -
(ومنها): تحريم الخلوة بالأجنبيّة.
3 -
(ومنها): جواز الخلوة بالمرأة إذا كان معها زوج، أو محرم.
4 -
(ومنها): أن فيه تقديم الأهم، فالأهم، من الأمور المتعارضة، فإنه لَمّا عَرَضَ له الغزو والحج رَجَّح الحجّ؛ لأن امرأته لا يقوم غيره مقامه في السفر معها، بخلاف الغزو، والله أعلم.
5 -
(ومنها): أن الحج في حقّ مثله أفضل من الجهاد؛ لأنه اجتمع له مع حج التطوع في حقّه تحصيل حجّ الفرض لامرأته، وكان اجتماع ذلك له أفضل من مجرّد الجهاد الذي يحصل المقصود منه بغيره
(1)
.
(1)
"الفتح" 7/ 259 "كتاب الجهاد" رقم (3006).
6 -
(ومنها): مشروعيّة كتابة الجيش.
7 -
(ومنها): نظر الإمام لرعيّته بالمصلحة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3274]
(. . .)(وَحَدَّثَنَاه أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَمْرٍو، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ) سليمان بن داود الْعَتَكيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(حَمَّادُ) بن زيد، تقدّم أيضًا قريبًا.
و"عمرو" هو: ابن دينار المذكور قبله.
[تنبيه]: رواية حمّاد بن زيد، عن عمرو بن دينار هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(1862)
- حدّثنا أبو النعمان، حدّثنا حماد بن زيد، عن عمرو، عن أبي معبد مولى ابن عباس، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم"، فقال رجل: يا رسول الله إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا، وامرأتي تريد الحجّ، فقال:"اخرُج معها". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3275]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، يَعْنِي ابْنَ سُلَيْمَانَ الْمَخْزُومِيُّ، عَن ابْنِ جُرَيْجٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ: "لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ").
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(هِشَامُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمَخْزُومِيُّ) المكيّ، مقبول [8](خت م ق) تقدم في "الحج" 23/ 2989.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم قبل بابين.
وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) لم يتقدّم لابن جريج ذكرٌ في السند الماضي، فكان الأولى للمصنّف رحمه الله، كما جرت به عادته أن يذكر هنا شيخَ ابن جريج، وهو عمرو بن دينار، حتى تكون الإحالة واضحةً، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية ابن جريج، عن عمرو بن دينار هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(3061)
- حدّثنا أبو نعيم، حدّثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن أبي معبد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني كُتِبت في غزوة كذا وكذا، وامرأتي حاجّة، قال:"ارجع، فَحُجّ مع امرأتك". انتهى.
[تنبيه آخر]: هذا الحديث آخر الفَوَات الذي لم يسمعه أبو إسحاق إبراهيم بن سفيان: من الإمام مسلم رحمه الله، وقد سبق بيان أوله عند أحاديث:"رحم الله المحلِّقين والمقصرين"، رقم [52/ 3145](1301)، فعدة ما فاته سماعه من الأحاديث (128) حديثًا.
ومن هنا قال أبو إسحاق: حدّثنا مسلم بن الحجاج، قال: وحدّثني هارون بن عبد الله، قال: حدّثنا حجاج بن محمد، قال: قال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير
…
الحديث، وهو أول الباب الذي يُذكر متصلًا بهذا، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(72) - (بَابُ مَا يَقُولُ إِذَا رَكِبَ إِلَى سَفَرِ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3276]
(1342) - (حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ؛ أَنَّ عَلِيًّا الْأَزْدِيَّ أَخْبَرَهُ؛ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ
عَلَّمَهُمْ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ، خَارِجًا إِلَى سَفَرٍ، كَبَّرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ:" {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)} [الزخرف: 13، 14]، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا، وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ، وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ"، وَإِذَا رَجَعَ قَالَهُنَّ، وَزَادَ فِيهِنَّ:"آيِبُونَ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن مروان الْحَمّال الْبَزّاز، أبو موسى البغداديّ، ثقةٌ [10](243) وقد ناهز الثمانين (م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.
2 -
(حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ) الأعور الْمصّيصيّ، أبو محمد الترمذيّ الأصل، نزيل بغداد، ثمّ المصّيصة، ثقةٌ ثبتٌ، اختلط في آخره [9](ت 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 94.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) تقدّم في السند الماضي.
4 -
(أبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ يُدلّس [4](ت 226)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
5 -
(عَلِيٌّ الْأزدِيُّ) هو: عليّ بن عبد الله الأزديّ، أبو عبد الله بن أبي الوليد البارقيّ، صدوقٌ
(1)
[3].
رَوَى عن ابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، وعُبيد بن عُمير، وأرسل عن زيد بن حارثة.
وروى عنه مجاهد بن جبر، وهو من أقرانه، ويعلى بن عطاء العامريّ، وأبو الزبير، وقتادة، وعثمان بن أبي سليمان، وأبو بشر جعفر بن أبي وحشية، وغيرهم.
(1)
قال في "التقريب": صدوق ربّما أخطأ. انتهى. قوله: ربما أخطأ: هذه الزيادة فيها نظر؛ لأنه لم يصفه أحد بها، راجع: ترجمته في "تهذيب التهذيب" 7/ 313.
قال ابن عديّ: ليس عنده كثير حديث، وهو عندي لا بأس به، ونقل ابن خلفون، عن العجليّ أنه وَثَّقه، وقال منصور، عن مجاهد: كان علي الأزديّ يختم القرآن في رمضان كل ليلة.
أخرج له المصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
6 -
(ابْنُ عُمَرَ) عبد الله بن عمر الخطّاب رضي الله عنهما، تقدّم في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، وعليّ الأزديّ، كما أسلفتهُ آنفًا.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث، والإخبار، فانتفت تهمة التدليس من ابن جريج، وأبي الزبير.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما، وقد سبق القول فيه قريبًا.
شرح الحديث:
عن أبي الزبير المكيّ (أَنَّ عَلِيًّا الْأَزْدِيَّ أَخْبَرَهُ؛ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ) رضي الله عنهما (عَلَّمَهُمْ؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ) أي: استقرّ على ظهر مركوبه (خَارِجًا) أي: من البلد، مائلًا أو منتهيًا (إِلَى سَفَرٍ، كَبَّرَ ثَلَاثًا) لعل الحكمة أن الْمَقام مقام علو، وفيه نوع عظمة، فاستحضر عظمة خالقه، ويؤيده أن المسافر إذا صَعِد عاليًا كبّر، وإذا نزل سبّح، ويمكن أن يكون التكبير للتعجب من التسخير.
(ثُمَّ قَالَ) أي: قرأ، أي قال بنيّة القراءة؛ امتثالًا لقوله تعالى:{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)} [الزخرف: 12 - 14].
(" {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا}) أي: ذلل لنا هذا المركوب، فانقاد لنا،
لا ضعفًا، بل لتسخير الله تعالى إياه لنا ({وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}) أي: مطيقين
قبل ذلك، أو المعنى: لولا تسخيره ما كنا جميعًا مقتدرين على ركوبه، مِن أقرن له: إذا أطاقه، وقَوِي عليه، وهو اعتراف بعجزه، وأن تمكنه من الركوب عليه إنما هو بإقدار الله تعالى وتسخيره له.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: {مُقَرَّنِينَ} : مُطيقين، قاله ابن عباس. قال الشاعر [من الوافر]:
لَقَدْ عَلِمَ القَبَائلُ مَا عَقِيلٌ
…
لَنَا فِي النَّائِبَاتِ بِمُقْرِنِينَا
أي: بمطيقين، وقال الأخفش: ضابطين، وقال قتادة: مماثلين، من الْقِرْن في القتال، وهو المِثل، ويَحْتَمِل أن يكون من المقارنة؛ أي: الملازمة. انتهى
(1)
.
({وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا}) أي: لا إلى غيره ({لَمُنْقَلِبُونَ}) أي: راجعون، وهذا تنبيهٌ على المطالبة بالشكر على ما أنعم، وعلى العدل فيما سخر، وقيل: معنى {لَمُنْقَلِبُونَ} أي: لصائرون إليه بعد مماتنا، وإليه سيرنا الأكبر، واللام للتأكيد، وهذا من باب التنبيه بسير الدنيا على سير الآخرة، كما نبّه بالزاد الدنيوي على الزاد الأخروي في قوله تعالى:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [الأعراف: 26]، وباللباس الدنيوي على الأخروي في قوله تعالى:{وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26]، قال البيضاوي رحمه الله: اتصال قوله: {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)} بما قبله؛ لأن الركوب للنقل، والنُّقلة العظمى هو الانقلاب إلى الله تعالى، فينبغي للراكب أن لا يغفل عنه، ويستعدّ للقاء الله، يعني مِن شكر هذه النعمة أن يذكر عاقبة أمره، ويعلم أن استواءه على مركب الحياة كاستوائه على ظهر ما سَخَّر له ما لم يكن في المبدأ مطيقًا له، ولا يجد في المنتهى بُدًّا من النزول عنه، كذا في "اللمعات".
وقال الطيبيّ: الانقلاب إليه تعالى هو السفر الأعظم، فينبغي أن يتزوّد له. انتهى.
وهذا الدعاء يُسَنّ عند ركوب أيّ دابة كانت، لسفر أو غيره، فقوله
تعالى: {مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ} المراد به الإبل؛ لغالب الواقع في بلاد العرب،
(1)
"المفهم" 3/ 453 - 454.
وقول الراوي: "خارجًا إلى سفر" حكاية للحال، ودلالة على ضبط المقال
(1)
.
(اللَّهُمَّ) وفي رواية أحمد
(2)
، والترمذيّ:"ثم يقول: اللهم"(إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ) أي: العمل الصالح، والخلُق الحسن (وَالتَّقْوَى) أي: الخوف الحامل على التحرّز من المعاصي والمكروه، أو المراد من البرّ: الإحسان إلى الناس، أو من الله إلينا، ومن التقوى امتثال الأوامر، واجتناب النواهي (وَمِنَ الْعَمَلِ) أي: جنسه (مَا تَرْضَى) به عنّا (اللَّهُمَّ هَوِّنْ) أمرٌ من التهوين؛ أي: يسِّر (عَلَيْنَا سَفَرَنَا) منصوب على المفعوليّة لـ "هَوِّنْ"، وقوله:(هَذَا) عطف بيان، أو بدل من"سفرنا"، وفي رواية الترمذيّ:"اللهم هوِّن علينا المسير"(وَاطْوِ) أمرٌ من طَوَى يَطوِي طَيًّا، من باب رمى يرمي رَمْيًا (عَنَّا بُعْدَهُ) وفي رواية:"لنا بُعده" أي: قَرِّب لنا بُعْدَ هذا السفر، قيل: هو عبارة عن تيسير السير بإعطاء القوّة له، ولمركوبه، وقيل: معناه: اطْوِ لنا بُعْدَه حقيقةً، أو المراد: خَفِّف مشاقه.
والأظهر حمله على حقيقته؛ إذ لا مانع من ذلك، ففي رواية أبي داود:"اللهم اطو لنا البعد"، وأخرج الترمذيّ، وحسنه، وابن ماجه، وصححه ابن حبّان أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل:"اللهم اطو له الأرض، وهوّن عليه السفر"، فقد دعا بطيّ الأرض، والله تعالى يفعل ما يشاء، يطوي المكان، ويطوي الزمان، والمعنى: ارفع عنا مشقة السفر بتقريب المسافة البعيدة لنا حسًّا، والله تعالى أعلم.
(اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ) أي: الحافظ والمعين، يعني أنك أنت الصاحب الذي تصحبنا بحفظك ورعايتك، والصاحب في الأصل الملازِم، وأراد بذلك مصاحبة الله إياه بالعناية والحفظ، وذلك أن الإنسان أكثر ما يبغي الصحبة في السفر، يبتغيها للاستيناس بذلك، والاستظهار به، والدفاع لما ينوبه من النوائب، فنبّه بهذا القول على حسن الاعتماد عليه، وكمال الاكتفاء عن صاحب سواه، قال البغويّ رحمه الله: قوله: "أنت الصاحب في السفر" أي: الحافظ، يقال: صَحِبك الله؛ أي: حَفِظك، وقوله سبحانه وتعالى: {وَلَا هُمْ مِنَّا
(1)
راجع: "المرقاة" 5/ 332.
(2)
"المسند" 2/ 145.
{يُصْحَبُونَ} [الأنبياء: 43] أي: لا يُجارون، ومن صَحِبه الله لم يضرّه شيء. انتهى.
(وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ) أي: الذي يخلفنا في أهلينا بإصلاح أحوالهم، بعد مغيبنا، وانقطاع نظرنا عنهم. و"الخليفة": من ينوب عن المستخلِف فيما يستخلفه فيه، يعني الذي يقوم مقام أحد في إصلاح أمره، والمعنى هنا: أنت الذي أرجوه، وأعتمد عليه في غيبتي عن أهلي أن يَلُمّ شعثهم، ويُثَقِّف أَوَدَهم، ويداوي سَقَمهم، ويحفظ عليهم دينهم، وأمانتهم.
(اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ) أي: أستجير، وأتحصّن (بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ) -بفتح الواو، وإسكان العين المهملة، وبالثاء المثلثة، وبالمد- أي: شدّته، ومشقّته، وتعبه، وأصله من الْوَعْث، وهو الرمل، والمشي فيه يشتدّ على صاحبه، ويشُقّ، ويقال: رملٌ أوعث، ورملة وعثاء؛ أي: لمّا يشتد فيه السير لِلِينه، ثم قيل للشدة والمشقة: وعثاء على التمثيل، وقال التوربشتيّ: وعثاء السفر: مشقته، أُخِذ من الوَعْث، وهو المكان السهل الكثير الدهس الذي يُتْعِب الماشي فيه، ويشقّ عليه.
(وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ) قال الجزريّ رحمه الله: المنظر هو ما ينظر إليه من أهله، وماله، وحاله، والكآبة -بفتح الكاف، وبالمد- هي تغير النفس بالانكسار من شدّة الهمّ والحزن، يقال: كَئِب كآبةً، واكتئب، فهو مكتئب، وكئيب. انتهى.
وقال الشوكانيّ رحمه الله: الكآبة بالمد: التغير والانكسار، من مشقّة السفر، وما يحصل على المسافر من الاهتمام بأموره. انتهى، والمنظر -بفتح الظاء المعجمة- مصدر ميميّ؛ أي: مِنْ تغيّر الوجه بنحو مرض، والنفس بالانكسار مما يَعْرِض لها فيما يحبه، مما يورث الهمّ والحزن، وقيل: المراد منه الاستعاذة من كل منظر يُعقِب الكآبةَ عند النظر إليه.
(وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ) -بفتح اللام- مصدر ميميّ؛ أي: سوء الرجوع (فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ") أي: من سوء الانقلاب إلى أهله، وماله، وذلك بأن يرجع منقوصًا، مهمومًا بما يسوءه، وقيل: أي من أن يعود إلى وطنه، فيرى في أهله وماله ما يسوءه، مثل أن يصيب ماله آفةٌ، أو يجد أهله مرضى، أو فُقِد
بعضهم، وقيل: أي من أن يَطْمَع ظالم، أو فاجر في المال والأهل.
(وَإِذَا رَجَعَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم من سفره إلى أهله (قَالَهُنَّ) أي: الكلمات، أو الْجُمَل المذكورة، وهي: "اللهم إنا نسألك
…
إلخ" (وَزَادَ فِيهِنَّ) أي: في جملتهنّ بأن قال بعدهنّ ("آيِبُونَ) بهمزة ممدودة، بعدها همزة مكسورة: اسم فاعل من آب يئوب: إذا رجع، ومن تكلم به بالياء بعد الهمزة الممدودة فقد أخطأ، كذا قيل؛ أي: نحن راجعون من السفر بالسلامة إلى الوطن (تَائِبُونَ) أي: من المعصية إلى الطاعة.
وقال القرطبيّ: "آيبون": جمع آيب، وهو الراجع بالخير هنا، و"تائبون": جمع تائب من الذنب، وأصل التوبة الرجوع، وكذلك حدّها بعض أئمتنا بأن قال: التوبة هي الرجوع عمَّا هو مذموم شرعًا إلى ما هو محمود شرعًا. انتهى
(1)
.
(عَابِدُونَ) خاضعون متذلّلون (لِرَبِّنَا حَامِدُونَ") مثنون عليه تعالى بصفات كماله وجلاله، وشاكرون عوارف أَفْضاله، قاله القرطبيّ: رحمه الله
(2)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: "لربّنا" يجوز أن يتعلق بقوله: "عابدون"؛ لأن عَمَل اسم الفاعل ضعيف، فيقوى به، أو بـ "حامدون"؛ ليفيد التخصيص؛ أي: نحمد ربنا، لا نحمد غيره، وهذا أولى؛ لأنه كالخاتمة للدعاء، ومثله في التعليق قوله تعالى:{لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى} [البقرة: 2] يجوز أن يقف على {لَا رَيْبَ} ، فيكون {فِيهِ هُدًى} مبتدأ وخبره، فيقدّر خبر {لَا رَيْبَ} مثله، ويجوز أن يتعلق بـ {لَا رَيْبَ} ، ويقدّر مبتدأ لـ {هُدًى} . انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف: رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
"المفهم" 3/ 454.
(2)
"المفهم" 3/ 454.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1893.
أخرجه (المصنّف) هنا [72/ 3276](1342)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2599)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3447)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 460 و 5/ 248 - 249) و"عمل اليوم والليلة"(548)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 144 و 150)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2542)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2695 و 2696)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 285)، و (الحاكم) في "مستدركه"(2/ 254)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 16 - 17)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب التكبير ثلاثًا إذا خرج إلى السفر.
2 -
(ومنها): ما قال النوويّ رحمه الله: وفي الحديث استحباب هذا الذكر عند ابتداء الأسفار كلها، وقد جاءت فيه أذكار كثيرة جمعتها في "كتاب الأذكار"
(1)
.
3 -
(ومنها): أنه ينبغي للعبد أن يكون دائم الالتجاء إلى ربّه سفرًا وحضرًا؛ ليكون في حفظه وكلاءته.
4 -
(ومنها): جواز إطلاق "الصاحب"، و"الخليفة" على الله سبحانه وتعالى، وأما قول القرطبيّ: ولا يسمّى الله تعالى بالصاحب، ولا بالخليفة؛ لعدم الإذن، وعدم تكرارهما في الشريعة، ففيه نظر لا يخفى، فما هو الإذن الذي يريده؟ وهل من شرط تسمية الله تعالى تكراره في النصوص؟ هذا مما لا دليل عليه.
والحاصل أن ما صحّ في الأحاديث الصحيحة إطلاقه على الله سبحانه وتعالى، كهذا الحديث، فلنا إطلاقه عليه تعالى على المعنى اللائق به تعالى، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
5 -
(ومنها): بيان عظم نعم الله سبحانه وتعالى على عباده حيث سخّر لهم هذه الدوابّ العظيمة الجسم، والشديدة القوى من الإبل وغيرها حتى انقادت لهم، وخضعت وذلّت، وسَهُل عليهم ركوبها دون مشقّة، وعناء، وتبلِّغهم حيث شاءوا حاملة إياهم، وما يشاءون من أحمالهم، كما قال تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 111، و"المرعاة" 8/ 168 - 169.
لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)} [النحل: 5 - 8] سبحانك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3277]
(1343) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَرْجِسَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَافَرَ يَتَعَوَّذُ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ، وَالْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْنِ، وَدَعْوَةِ الْمَظْلُومِ، وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(زهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) ابن إبراهيم بن مقسم الأسديّ مولاهم، أبو بشر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [8](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
3 -
(عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ) ابن سليمان، أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقةٌ [4] مات بعد (140)(ع) تقدم في "المقدمة 5/ 27.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ سَرْجِسَ) الْمُزنيّ، حليف بني مخزوم، صحابيّ سكن البصرة (م 4) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 10/ 1651.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (402) من رباعيّات الكتاب.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخه، فنسائيّ، ثم بغداديّ.
4 -
(ومنها): أن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب
الستّة إلا نحو سبعة أحاديث، راجع:"تحفة الأشراف"
(1)
.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَرْجِسَ) رضي الله عنه-بفتح السين المهملة، وسكون الراء، وكسر الجيم- (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَافَرَ يَتَعَوَّذُ) أي: يتحصّن، ويلتجأ إلى الله عز وجل (مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ) وفي الرواية التالية:"اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر"، و"الوَعْثاء" -بفتح الواو، وإسكان العين المهملة، وبالثاء المثلثة، وبالمدّ-: هي المشقّة والشدّة.
(وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ)"الكآبة" -بفتح الكاف، وبالمدّ-: هي تغيّر النفس من حُزْن ونحوه، و"الْمُنْقَلب" -بفتح اللام-: المرجع، قاله النوويّ.
وقال في "المرعاة": بفتح الكاف، وهمزة ممدودة، أو ساكنة، كرَأْفة ورآفة، قال في "القاموس": الكَأْبُ والْكَأْبة، والكآبة: الغمّ، وسوء الحال، والانكسار من حزن، و"المنقلب" -بفتح اللام-: مصدرٌ بمعنى الانقلاب، أو اسم مكان، والإضافة ظرفية، قال الخطابيّ: معناه أن ينقلب إلى أهله كئيبًا حزينًا؛ لعدم قضاء حاجته، أو إصابة آفة له، أو يجدهم مرضى، أو مات منهم بعضهم. انتهى
(2)
.
(وَالْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْنِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في معظم النسخ من "صحيح مسلم""بعد الكون" بالنون، بل لا يكاد يوجد في نسخ بلادنا إلا بالنون، وكذا ضبطه الحفاظ المتقنون في "صحيح مسلم"، قال القاضي: وهكذا رواه الفارسيّ وغيره من رواة "صحيح مسلم"، قال: ورواه العذريّ: "بعد الكور" بالراء، قال: والمعروف في رواية عاصم الذي رواه مسلم عنه بالنون، قال القاضي: قال إبراهيم الحربيّ: يقال: إن عاصمًا وَهِمَ فيه، وإن صوابه "الْكَوْرُ" بالراء، قلت: وليس كما قال الحربيّ، بل كلاهما روايتان، وممن ذكر الروايتين جميعًا الترمذيّ في "جامعه"، وخلائق من المحدثين، وذكرهما أبو عبيد، وخلائق من أهل اللغة، وغريب الحديث، قال الترمذيّ بعد أن رواه
(1)
"تحفة الأشراف" 4/ 239 - 242.
(2)
"المرعاة" 8/ 170.
بالنون: ويروى بالراء أيضًا، ثم قال: وكلاهما له وجه، قال: ويقال: هو الرجوع من الإيمان إلى الكفر، أو من الطاعة إلى المعصية، ومعناه: الرجوع من شيء إلى شيء من الشرّ، هذا كلام الترمذيّ، وكذا قال غيره من العلماء: معناه بالراء والنون جميعًا: الرجوع من الاستقامة، أو الزيادة إلى النقص، قالوا: ورواية الراء مأخوذة من تكوير العمامة، وهو لَفُّها، وجمْعها، ورواية النون مأخوذة من الْكَوْن مصدرِ كان يكون كونًا: إذا وُجِدَ واستَقَرّ.
وقال المازريّ: في رواية الراء قيل أيضًا: إن معناه أعوذ بك من الرجوع عن الجماعة بعد أن كنا فيها، يقال: كار عمامته: إذا لَفّها، وحارها: إذا نقضها، وقيل: نعوذ بك من أن تفسد أمورنا بعد صلاحها، كفساد العمامة بعد استقامتها على الرأس، وعلى رواية النون قال أبو عبيد: سئل عاصم عن معناه، فقال: ألم تسمع قولهم: حار بعدما كان؟ أي: إنه كان على حالة جميلة، فرجع عنها، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "الحور بعد الكور" بالراء، هكذا رواية العذريّ وابن الحذاء، ومعناه: الزيادة والنقصان، وقيل: الخروج من الجماعة بعد أن كان فيها، يقال: كار عمامته: أي: لفَّها، وحارها؛ أي: نقضها، وقيل: الفساد بعد الصلاح، وقيل: القلَّة بعد الكثرة، وقيل: الرّجوع من الجميل إلى القبيح.
ورواه الفارسيّ وابن سعيد -وهو المعروف من رواية عاصم الأحول-: "بعد الكون" بالنون، قال أبو عبيد: سئل عاصم عن معناه، فقال: ألم تسمع إلى قولهم: حار بعدما كانَ؟ يقول: إنه كان على حالة جميلة فحار عن ذلك؛ أي: رجع، قال أبو إسحاق الحربي: يُقال: إن عاصمًا وَهِمَ فيه، وصوابه:"الكور" بالراء، والله أعلم. انتهى
(2)
.
وقال في "المرعاة": قوله: "من الحور بعد الكون" بالنون مصدر كان يكون كونًا، من كان التامة، دون الناقصة، يعني من النقصان والتغير بعد الثبات والاستقرار، وقيل: معناه الرجوع عن الحالة المستحسنة بعد أن كان عليها،
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 111 - 112.
(2)
"المفهم" 3/ 455.
وفي كلامهم: حار بعدما كان، يريد كان على حالة جميلة فحار عن ذلك؛ أي: رجع، قال الله تعالى:{إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى} [الانشقاق: 14، 15] أي: لن يرجع. انتهى
(1)
.
(وَدَعْوَةِ الْمَظْلُومِ) أي: وأعوذ بك من أن يدعو عليّ أحدٌ ظلمته، وإنما استعاذ من دعوة المظلوم؛ لأنها مستجابة، ففي حديث خزيمة بن ثابت رضي الله عنه مرفوعًا:"اتقوا دعوة المظلوم، فإنها تُحْمَل على الغمام، يقول الله: وعزتي، وجلالي، لأنصرنّك ولو بعد حين"
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "ودعوة المظلوم" أي: أعوذ بك من الظلم، فإنه يترتب عليه دعاء المظلوم، ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، ففيه التحذير من الظلم، ومن التعرض لأسبابه. انتهى
(3)
.
(وَسُوءِ الْمَنْظَرِ) بالظاء المعجمة؛ أي: المرأى، وهو كلُّ منظر يُعقب النظر إليه سُوءًا (فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ) أراد به أن لا يرى في أهله وماله مكروهًا يسوؤه، وهذا بمعنى ما سبق:"وسوء المنقلب في المال والأهل"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن سَرْجِسَ رضي الله عنه هذا من أفراد
المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [72/ 3277 و 3278](1343)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3439)، و (النسائيّ) في "الاستعاذة"(8/ 272 - 273) و"الكبرى"(4/ 459) و"عمل اليوم والليلة"(499)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(3888)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(5/ 154)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" (6/
(1)
"المرعاة" 8/ 170.
(2)
رواه الطبرانيّ في "المعجم الصغير"، والضياء في "المختارة"، وصححه الشيخ
الألبانيّ في "صحيح الجامع الصغير".
(3)
"شرح النوويّ" 9/ 112.
78)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 163)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 82 - 83)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 373)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2533)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 182 - 183)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 16 - 17)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 250)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3278]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ (ح) وَحَدَّثَنِي حَامِدُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، كِلَاهُمَا عَنْ عَاصِمٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الْوَاحِدِ:"فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ"، وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ خَازِمٍ قَالَ: يَبْدَأُ بِالْأَهْلِ إِذَا رَجَعَ، وَفِي رِوَايَتِهِمَا جَمِيعًا:"اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حَامِدُ بْنُ عُمَرَ) بن حفص بن عمر بن عُبيد الله بن أبي بكرة الثقفيّ البكراويّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، قاضي كِرْمان، ثقةٌ [10](ت 233)(خ م) تقدم في "الطهارة" 26/ 649.
2 -
(عَبْدُ الْوَاحِدِ) بن زياد الْعَبْديّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [8](ت 176) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.
والباقون ذُكروا في الباب وفيما قبله.
وقوله: (وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ خَازِمٍ) هو أبو معاوية الضرير.
[تنبيه]: رواية أبي معاوية، عن عاصم الأحول لم أجد من ساقها، فليُنظر.
وأما رواية عبد الواحد بن زياد، عن عاصم، فقد ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى" (5/ 250) فقال:
(10083)
- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو الفضل بن إبراهيم، ثنا أحمد بن سلمة، ثنا حامد بن عمر البكراويّ، وأحمد بن عبدة الضبيّ، عن
عبد الواحد بن زياد، عن عاصم الأحول، عن عبد الله بن سَرْجِس، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا سافر قال: "اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في سفرنا، واخلُفنا في أهلنا، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، ومن الْحَوْر بعد الْكَوْر، ومن دعوة المظلومين، ومن سوء المنظر في الأهل والمال". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(73) - (بَابُ مَا يَقُولُ إِذَا قَفَلَ مِنْ سَفَرِ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3279]
(1344) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ (ح) وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، وَهُوَ الْقَطَّانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَفَلَ مِنَ الْجُيُوشِ، أَو السَّرَايَا، أَو الْحَجِّ، أَوْ الْعُمْرَةِ، إِذَا أَوْفَى عَلَى ثَنِيَّةٍ، أَوْ فَدْفَدٍ، كَبَّرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ:"لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، سَاجِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدِ) بن يحيى اليشكريّ، أبو قُدامة السَّرَخسيّ، نزيل نيسابور، ثقةٌ مأمونٌ سُنّيّ [10](ت 241)(خ م س) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.
والباقون كلّهم تقدّموا قبل باب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان، فرّق بينهما بالتحويل.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، والثاني انفرد به هو، والبخاريّ، والنسائيّ.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما، تقدّم الكلام فيه قريبًا.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَفَلَ) -بقاف، ثم فاء- أي: رجع وزنًا ومعنى، ومنه تسمى القافلة، قال في "النهاية": قَفَل أي: عاد من سفره، وقد يقال للسفر: قُفُول في الذهاب والمجيء، وأكثر ما يُستعمل في الرجوع. انتهى
(1)
.
قال وليّ الدين رحمه الله: القفول: الرجوع من السفر، ويقال في المضارع: يَقْفُل بالضم، ولا يُستعمل القفول في ابتداء السفر، وإنما سُمِّي المسافرون قافلةً؛ تفاؤلًا لهم بالقفول والسلامة، على أن الجوهريّ قال: إن القافلة هي الرُّفْقة الراجعة من السفر، وقال القتبيّ: لا يقال لهم في مبدئهم: قافلة. انتهى.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: قَفَلَ من سفره قُفُولًا، من باب قَعَدَ: رجع، والاسم قَفَلٌ -بفتحتين- ويَتَعَدَّى بالهمزة، فيقال: أقفلته، والفاعل من الثلاثيّ: قافل، والجمع قافلةٌ، وجمع القافلة قَوَافلُ، وتُطلَق القافلة على الرُّفْقَة، واقتَصَر عليه الفارابيّ، قال في "مجمع البحرين": ومَن قال: القافلة: الراجعةُ من السفر فقط، فقد غَلِطَ، بل يقال للمبتدئة بالسفر أيضًا؛ تفاؤلًا لها بالرجوع، وقال الأزهريّ مثله، قال: والعرب تُسمِّي الناهضين للغزو قافلةً؛ تفاؤلًا بقفولها، وهو شائع. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما حقّقه الفيّوميّ رحمه الله أن القافلة تُطلق على المبتدئة للسفر، والراجعة منه، فما تقدّم فيما ذكره وليّ الدين من أنه لا يقال لهم ذلك، غير صحيح، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(1)
"النهاية" 4/ 92 - 93.
(مِنَ الْجُيُوشِ) بالضمّ: جمع جيش، وهو العسكر العظيم
(1)
، وقال المجد رحمه الله:"الجيش" هو: الجند، أو السائرون لحرب، أو غيرها. انتهى
(2)
. (أَو السَّرَايَا) بالفتح: جمع سَرِيّة، وهي قطعة من الجيش، فَعِيلة بمعنى فاعلة؛ لأنها تسري في خُفية، وتُجمع أيضًا على سَرِيّات، مثلُ عطيّة وعطيّات
(3)
، وقال صلى الله عليه وسلم:"خير الصحابة أربعةٌ، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولا تهزم اثنا عشر ألفًا من قلة"
(4)
.
(أَو الْحَجِّ، أَو الْعُمْرَةِ) كأنه قصد استيعاب أنواع سفره صلى الله عليه وسلم ببيان أنه لا يخرج عن هذه الثلاثة، هي الغزو، والحجّ، والعمرة، وإلا فظاهره اختصاص ذلك بهذه الأمور، وليس الحكم كذلك عند الجمهور، بل يُشرَع قول ذلك في كل سفر، إذا كان سفر طاعة، كصِلَة الرحم، وطلب العلم؛ لما يشمل الجميع من اسم الطاعة، وقيل: يتعدى أيضًا إلى المباح؛ لأن المسافر فيه لا ثواب له، فلا يمتنع عليه فعل ما يحصل له الثواب، وقيل: يشرع في سفر المعصية أيضًا؛ لأن مرتكبها أحوج إلى تحصيل الثواب من غيره، وهذا التعليل مُتَعَقَّبٌ؛ لأن الذي يخصه بسفر الطاعة، لا يمنع من سافر في مباح، ولا في معصية من الإكثار من ذكر الله، وإنما النزاع في خصوص هذا الذكر في هذا الوقت المخصوص، فذهب قوم إلى الاختصاص؛ لكونها عبادات مخصوصة، شُرع لها ذكر مخصوص، فتختص به؛ كالذكر المأثور عقب الأذان، وعقب الصلاة، وإنما اقتصر الصحابيّ على الثلاث؛ لانحصار سفر النبيّ صلى الله عليه وسلم فيها
(5)
.
(إِذَا أَوْفَى) أي: ارتفع، أو أقبل وأطلّ (عَلَى ثَنِيَّةٍ) بمثلّثة، ثم نون، ثم تحتانيّة ثقيلة: هي العقبة، وقال القرطبيّ:"الثنيّة" هي: الهضبة، وهي الكوم دون الجبل
(6)
. (أَوْ فَدْفَدٍ) -بفتح الفاء، بعدها دال مهملة، ثم فاء، ثمّ دالٌ-
(1)
"المفهم" 3/ 456.
(2)
"القاموس المحيط" 2/ 266.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 275.
(4)
حديث صحيح، أخرجه أبو داود (2611)، والترمذيّ (1555)، وابن ماجه (2728).
(5)
راجع: "الفتح" 14/ 426 "كتاب الدعوات" رقم (6385).
(6)
"المفهم" 3/ 456.
والأشهر تفسيره بالمكان المرتفع، وقيل: هو الأرض المستوية، وقيل: الفلاة الخالية من شجر وغيره، وقيل: غليظ الأودية ذات الحصى، وقيل: الجَلْد من الأرض في ارتفاع، وجمعه فدافد.
وقال القرطبيّ: "الفدفد": ما غَلُظ من الأرض، وارتفع، وجمعه: فدافد، قال: وتكبيره صلى الله عليه وسلم في هذه المواضع المرتفعة إشعار بأن أكبرية كل كبير إنما هي منه، وأنها محتقرة بالنسبة إلى أكبريته تعالى وعظمته، وتوحيدُه الله تعالى هناك: إشعار بانفراده عز وجل بإيجاد جميع الموجودات، وبأنه المألوه؛ أي: المعبود في كل الأماكن من الأرضين والسموات، كما قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84]. انتهى
(1)
.
وفي رواية البخاريّ: "يُكبّر على كلّ شَرَف" -بفتح الشين المعجمة، والراء، بعدها فاءٌ- هو المكان العالي.
(كَبَّرَ ثَلَاثًا) قال الطيبيّ رحمه الله: وجه التكبير على الأماكن العالية، هو استحباب الذكر عند تجدد الأحوال والتقلبات، وكان صلى الله عليه وسلم يراعي ذلك في الزمان والمكان؛ لأن اختلاف أحوال العبد في الصباح والمساء، والصعود والهبوط، وما أشبه ذلك، مما ينبغي أن لا ينسى ربه عند ذلك، فإنه هو المتصرف في الأشياء بقدرته المدبر لها قبل صنعه. انتهى.
وقال الزين العراقيّ رحمه الله: مناسبة التكبير على المرتفع أن الاستعلاء محبوب للنفس، وفيه ظهور وغلبة، فينبغي للمتلبس به أن يذكر عنده أن الله أكبر من كل شيء، ويشكر له ذلك، ويستمطر منه المزيد. انتهى.
(ثُمَّ قَالَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ) قال القرطبيّ: الملك أصله الشدّ والرّبط، والْمُلك بالضم يتضمّن الملك بالكسر، ولا ينعكس. انتهى
(2)
. (وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قال الحافظ رحمه الله: يَحْتَمِل أنه كان يأتي بهذا الذكر عقب التكبير، وهو على المكان المرتفع، ويَحْتَمل أن التكبير يختص بالمكان المرتفع، وما بعده إن كان متسعًا أكمل الذكر المذكور فيه، وإلا فإذا هبط سبَّح، كما في حديث جابر رضي الله عنه عند
(1)
"المفهم" 3/ 456.
(2)
"المفهم" 3/ 356.
البخاريّ: "قال: كنّا إذا صَعِدنا كبّرنا، وإذا نزلنا سَبّحنا"، ويَحْتَمِل أن يكمل الذكر مطلقًا عقب التكبير، ثم يأتي بالتسبيح إذا هبط.
قال القرطبيّ رحمه الله: وفي تعقيب التكبير بالتهليل إشارة إلى أنه المنفرد بإيجاد جميع الموجودات، وأنه المعبود في جميع الأماكن.
(آيِبُونَ) بالرفع خبر مبتدأ محذوف؛ أي: نحن آئبون، أي راجعون، وليس المراد الإخبار بمحض الرجوع، فإنه تحصيل الحاصل، بل الرجوع في حالة مخصوصة، وهي تلبُّسهم بالعبادة المخصوصة، والاتصاف بالأوصاف المذكورة.
وقال وليّ الدين رحمه الله: [فإن قلت]: ما فائدة الإخبار بالأَوْب، وهو الرجوع من السفر كما تقدم، وذلك ظاهر من حالهم، وما تحت الإخبار بذلك من الفائدة؟
[قلت]: قد يراد أَوْبٌ مخصوصٌ، وهو الرجوع عن المخالفة إلى الطاعة، أو التفاؤل بذلك، أو الإعلام بأن السفر المقصود قد انقضى، فهو استبشار بكمال العبادة، والفراغ منها، وحصول المقصود والظفر به. انتهى
(1)
.
(تَائِبُونَ) أي: إلى ربنا، من التوبة وهي الرجوع عما هو مذموم إلى ما هو محمود شرعًا، وفيه إشارة إلى التقصير في العبادة، قاله صلى الله عليه وسلم على سبيل التواضع، أو تعليمًا لأمته، أو المراد أمته، وقد تستعمل التوبة لإرادة الاستمرار على الطاعة، فيكون المراد أن لا يقع منهم ذنب.
وقال وليّ الدين رحمه الله: وقوله: "تائبون" يَحْتَمِل أن يكون إشعارًا بحصول التقصير في العبادة، فيتوب من ذلك، وهو تواضع، وهضم للنفس، أو تعليم لمن يقع ذلك منه في سفر الطاعات، فيَخْلِطه بما لا يجوز فعله، ويَحْتَمِل الإشارة بذلك إلى أن ما كان فيه من طاعة الحجّ، أو العمرة، أو الغزو قد كَفَّر ما مضى، فيسأل التوبة فيما بعده، وقد تُسْتَعمل التوبة في العصمة، فيَسأل أن لا يقع منه بعده ما يحتاج إلى تكفير، وهذا اللفظ وإن كان خبرًا، فهو في معنى الدعاء، ولو كان إِشعارًا بأنهم رحبوا بهذه الأوصاف؛ لَنَصَبها على الحال،
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 5/ 186.
فقال: تائبين عابدين إلى آخره، وهو غير مناسب أيضًا لما فيه من تزكية النفس، وإظهار الأعمال. انتهى
(1)
.
وقوله: (عَابِدُونَ، سَاجِدُونَ) جمع ساجد، وأصله الخضوع والتذلّل، ومنه قول الشاعر:
تَرَى الأُكْمَ فِيهَا سُجَّدًا لِلْحَوَافِرِ
أي: متذلِّلةً خاضعةً، قاله القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
(لِرَبِّنَا حَامِدُونَ) كلُّها رَفْعٌ بتقدير "نحن"، والجارّ والمجرور متعلق بـ "حامدون"، أو بـ "ساجدون"، أو بهما، أو بالصفات الخمسة على طريق التنازع.
وقال وليّ الدين رحمه الله: قوله: "ساجدون" بعد قوله: "عابدون" مِن ذكْر الخاصّ بعد العامّ، وقوله:"لربنا" يَحْتَمِل تعلقه بقوله: "ساجدون" أي: نسجد له، لا لغيره من الأصنام وغيرها، ويَحْتَمِل أن يكون معمولًا مقدمًا لقوله:"حامدون" أي: نحمده دون غيره؛ لرؤيتنا النعمة منه؛ إذ هو المنعم بها، لا رب سواه. انتهى.
(صَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ) أي: فيما وعد به من إظهار دينه في قوله: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً} الآية [الفتح: 20]، وقوله:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} الآية [النور: 55]، وقوله:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحجّ: 40]، وهذا في سفر الغزو، والمناسب لسفر الحجّ والعمرة قوله تعالى:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} الآية [الفتح: 27](وَنَصَرَ عَبْدَهُ) يريد صلى الله عليه وسلم نفسه الكريمة (وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ") أي: من غير فعل أحد من الآدميين، واختُلِف في المراد بالأحزاب هنا، فقيل: هم كفار قريش، ومن وافقهم من العرب، واليهود الذين تحزّبوا؛ أي: تجمعوا في غزوة الخندق، ونزلت في شأنهم "سورة الأحزاب"، وقيل: المراد أعمّ من ذلك؛ أي: أحزاب الكفار في جميع الأيام والمواطن، قال النوويّ: والمشهور الأول.
وقيل: فيه نظر؛ لأنه يتوقف على أن هذا الذكر إنما شُرع من بعد الخندق.
(1)
"طرح التثريب" 5/ 186.
(2)
"المفهم" 3/ 456.
وأجيب: بأن غزوات النبيّ صلى الله عليه وسلم التي خرج فيها بنفسه محصورة، والمطابق منها لذلك غزوة الخندق؛ لظاهر قوله تعالى في "سورة الأحزاب":{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} الآية [الأحزاب: 25]، وفيها قبل ذلك:{إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} الآية [الأحزاب: 9].
والأصل في الأحزاب أنه جمع حِزْب، وهو القطعة المجتمعة من الناس، فاللام إما جنسيّة؛ أي: كل من تحزب من الكفار، وإما عهديّة، والمراد من تقدّم، وهو الأقرب، وقال القرطبيّ رحمه الله: ويَحْتَمِل أن يكون هذا الخبر بمعنى الدعاء، كأنه قال: اللهم افعل ذلك وحدك، والأول أظهر، قاله الحافظ
(1)
.
وقال القاري رحمه الله: قوله: "وهزم الأحزاب" أي: القبائل المجتمعة من الكفار لحرب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكانوا اثني عشر ألفًا توجهوا من مكة إلى المدينة، واجتمعوا حولها، سوى من انضم إليهم من اليهود، ومضى عليهم قريب من شهر، لم يقع بينهم حرب، إلا الترامي بالنبل والحجارة؛ زعمًا منهم أن المؤمنين لم يطيقوا مقابلتهم، فلا بُدّ أنهم يهربون، فأرسل الله عليهم ريحًا في ليلة شاتية، سَفّت التراب على وجوههم، وأطفأت نيرانهم، وقلعت أوتادهم، وأكفأت قدورهم، وأرسل الله ألفًا من الملائكة، فكَبّرت في ذوائب عسكرهم، فهاصت الخيل وقذف في قلوبهم الرعب، فانهزموا، ونزل قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} الآية [الأحزاب: 9]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [73/ 3279 و 3280](1344)، و (البخاريّ) في
(1)
"الفتح" 14/ 427.
"العمرة"(1797) و"الجهاد"(2995 و 3084) و"المغازي"(4116) و"الدعوات"(6385)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2770)، و (الترمذيّ) في "الحجّ"(950)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 477 و 5/ 236 و 6/ 138) و"عمل اليوم والليلة"(539 و 540)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 980)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(9235)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 361 و 12/ 519)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 286)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 5 و 10 و 15 و 21 و 38 و 63 و 105)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 376)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2707)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(12/ 307 و 369)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 398 و 399)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 17 - 18)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 259)، و"المعرفة"(4/ 269)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب الإتيان بهذا الذكر في القفول من سفر الغزو، والحج، والعمرة، وهل يختصّ ذلك بهذه الأسفار، أو يتعدّى إلى كل سفر طاعة؛ كالرباط، وطلب العلم، وصلة الرحم، أو يتعدى إلى السفر المباح أيضًا؛ كالنزهة، أو يستمر في كل سفر، ولو كان محَرَّمًا يَحْتَمِل أوجهًا:
[أحدها]: الاختصاص، وذلك لأن هذا ذكر مخصوص شُرِع بأثر هذه العبادات المخصوصة، فلا يتعدى إلى غيرها؛ كالذكر عقب الصلاة من التسبيح، والتحميد، والتكبير على الهيئة المخصوصة، فإنه لا يتعدى إلى غيرها من العبادات؛ كالصيام ونحوه، والأذكار المخصوصة متعبَّد بها في لفظها، ومحلها، ومكانها، وزمانها.
[الثاني]: أنه يتعدى إلى سائر أسفار الطاعة؛ لكونها في معناها في التقرب بها.
[الثالث]: أنه يَتَعدَّى إلى الأسفار المباحة أيضًا، وعلى هذين الاحتمالين فالتقييد في الحديث إنما هو لكونه صلى الله عليه وسلم لم يكن يسافر بغير المقاصد الثلاثة، فقيده بحسب الواقع، لا لاختصاص الحكم به.
[الرابع]: تعدّيه إلى الأسفار المحرَّمة؛ لأن مرتكب الحرام أحوج إلى الذكر من غيره؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات.
وقال الحافظ العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذيّ": سواء فيه السفر لحجّ، أو عمرة، أو غزو، كما في الحديث، أو لغير ذلك، من طلب علم، وتجارة، وغيرهما. انتهى.
قال ولده وليّ الدين رحمه الله: فمثّل بطلب العلم، وهو من الطاعات، وبالتجارة، وهي من المباحات، ولم يمثل المحرّم، لكنه مندرج في إطلاقه. انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): أن الحديث صريح في اختصاص التكبير ثلاثًا بحالة كونه على المكان المرتفع، وأما قوله: "ثم يقول: لا إله إلا الله
…
" إلى آخره، فيَحْتَمِل الإتيان به، وهو على المكان المرتفع، ويَحْتَمِل ألا يتقيد بذلك، بل إن كان المكان المرتفع واسعًا قاله فيه، وإن كان ضيّقًا كمّل بقية الذكر بعد انهباطه، ولا يستمرّ واقفًا في المكان المرتفع لتكميله، قاله وليّ الدين رحمه الله أيضًا.
3 -
(ومنها): ما قال الحافظ العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذيّ": مناسبة التكبير على المكان المرتفع، أن الاستعلاء والارتفاع محبوب للنفوس، وفيه ظهورٌ وغلبةٌ على من هو دونه في المكان، فينبغي لمن تلبّس به أن يذكر عند ذلك كبرياءَ الله تعالى، وأنه أكبر من كل شيء، ويشكر له ذلك، يستمطر بذلك المزيد مما مَنّ به عليه.
وقال أبو العباس القرطبيّ رحمه الله توحيده لله تعالى هناك إشعار بانفراده تعالى بإيجاد جميع الموجودات، وبأنه المألوه؛ أي: المعبود في كل الأماكن من الأرضين والسموات.
ورَوَى ابن السنيّ في "عمل اليوم والليلة" عن أنس رضي الله عنه قال: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا علا نشزًا من الأرض، قال: اللهم لك الشرف على كل شرف، ولك الحمد على جمل حال".
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 5/ 184 - 185.
قال وليّ الدين رحمه الله: ويَحْتَمِل أن سبب ذلك إظهار ذكر الله تعالى، وتوحيده، ومنّته على أهل دينه، وذلك في الأماكن العالية أظهر منه في الأماكن المنخفضة، وفي "صحيح البخاريّ" عن جابر رضي الله عنه قال:"كنا إذا صَعِدنا كبّرنا، وإذا نزلنا سبَّحنا"، وفي "سنن أبي داود"، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما:"وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم وجيوشه إذا عَلَوُا الثنايا كبّروا، وإذا هَبَطُوا سبَّحُوا، فوُضِعت الصلاة على ذلك".
ويَحْتَمِل أن يكون سبب التسبيح في الانهباط، أن الانخفاض محل الضيق، والتسبيح سبب للفرج، ومنه قوله تعالى في حق يونس:{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)} [الصافات: 143، 144]، وكانت مقالته في بطن الحوت:{سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} . انتهى
(1)
.
4 -
(ومنها): ما قال الحافظ العراقيّ رحمه الله: وجه مناسبة قوله: "صدق الله وعده" إن كان سفر حجّ، أو عمرة، تذكيره بذلك وعد الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27]، وإن كان رجوعًا من غَزَاة تذكيره قوله تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الآية [النور: 55]، وقوله تعالى:{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} [الفتح: 20]، قال: وفي حديث أنس رضي الله عنه عند مسلم: "أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأبو طلحة، وصفية رديفته على ناقته، حتى إذا كان بظهر المدينة قال: آيبون، تائبون
…
" الحديث، فهذا كان مَقْفَله من خيبر، وكانت متصلة بقصة الأحزاب:{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)} [الأحزاب: 12]، فردّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك عليهم. انتهى
(2)
.
5 -
(ومنها): أن مجموع هذا الذكر إنما كان صلى الله عليه وسلم يأتي به عند القفول، وكان يأتي بصدره في الخروج أيضًا كما تقدّم في الباب الماضي: "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجًا إلى سفر كبّر ثلاثًا، ثم قال: سبحان الذي سخّر
(1)
"طرح التثريب" 5/ 185 - 186.
(2)
"طرح التثريب" 5/ 187.
لنا هذا
…
الحديث، وفي آخره:"وإذا رجع قالهنّ، وزاد فيهنّ: آيبون، تائبون، عابدون لربنا حامدون"، وتقدم حديث البخاريّ:"كنا إذا صعدنا كبّرنا، وإذا نزلنا سبّحنا"، وحديث أبي داود:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وجيوشه إذا عَلَوا الثنايا كبّروا، وإذا هبطوا سبّحوا"، وقال صلى الله عليه وسلم-للرجل الذي قال له: أوصني، لمّا أراد سفرًا-:"عليك بتقوى الله، والتكبير على كل شَرَف" رواه الترمذيّ، وهو حديث حسن، ولم يخصّ ذلك بالرجعة من سفره
(1)
.
6 -
(ومنها): ما قاله الزرقانيّ رحمه الله: في الحديث جواز السجع في الدعاء، والكلام بلا تكلف، وإنما يُنْهَى عن التكلف؛ لأنه يشغل عن الإخلاص، ويقدح في النية، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3280]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، يَعْنِي ابْنَ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا مَعْنٌ، عَنْ مَالِكٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، أَخْبَرَنَا الضَّحَّاكُ، كلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ، إِلَّا حَدِيثَ أَيُّوبَ، فَإِنَّ فِيهِ التَّكْبِيرَ مَرَّتَيْنِ).
رجال هذا الإسناد: أحد عشر:
1 -
(أَيُّوبَ) بن أبي تميمة كيسان، تقدّم قريبًا.
2 -
(مَعْنُ) بن عيسى بن يحيى الأشجعيّ مولاهم، أبو يحيى المدنيّ القزّاز، ثقةٌ ثبتٌ، قال أبو حاتم: هو أثبت أصحاب مالك، من كبار [10](ت 198)(ع) تقدم في "الطهارة" 7/ 563.
والباقون ذُكروا في الباب، والبابين قبله.
[تنبيه]: رواية أيوب السختيانيّ، عن نافع هذه ساقها الترمذيّ رحمه الله، فقال:
(1)
راجع: "طرح التثريب" 5/ 187.
(873)
- حدّثنا عليّ بن حُجْر، أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قفل من غزوة، أو حجّ، أو عمرة، فَعَلا فَدْفَدًا من الأرض، أو شَرَفًا كبّر ثلاثًا، ثم قال: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آيبون، تائبون، عابدون، سائحون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهَزَم الأحزاب وحده". انتهى.
وأما رواية مالك بن أنس، عن نافع، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله، في "صحيحه"، فقال:
(1670)
- حدّثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قَفَل من غزو، أو حجّ، أو عمرة، يكبّر على كل شَرَف من الأرض، ثلاث تكبيرات، ثم يقول:"لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قديرٌ، آيبون، تائبون، عابدون، ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده". انتهى.
وأما رواية الضحّاك بن عثمان، عن نافع، فقد ساقها أبو عوانة في "مسنده" (2/ 399) فقال:
(3582)
- حدّثنا أحمد بن الفرج الحمصيّ، نا ابن أبي فُديك، قال: حدّثني الضحاك بن عثمان، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قَفَل من الغزو، أو الحجّ، أو العمرة، يكبّر على كل شَرَف ثلاث تكبيرات، ثم يقول:"لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قديرٌ، آيبون، تائبون، عابدون، سائحون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3281]
(1345) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالكٍ: أَقْبَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَا
وَأَبُو طَلْحَةَ، وَصَفِيَّةُ رَدِيفَتُهُ عَلَى نَاقَتِهِ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِظَهْرِ الْمَدِينَةِ، قَالَ:"آيِبُونَ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ"، فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ ذَلِكَ حَتَّى قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ) الحضرميّ مولاهم البصريّ النحويّ، صدوقٌ ربما أخطأ [5](ت 136)(ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 2/ 1586.
2 -
(أَنَسُ بْنُ مَالِكِ) بن النضر الأنصاريّ الخزرجيّ الخادم الشهير، مات رضي الله عنه سنة (2 أو 93) وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
والباقيان ذُكرا قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله؛ كالأسانيد الثلاثة التالية، وهو (205) من رباعيّات الكتاب.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخه أيضًا، فنسائيّ، ثم بغداديّ.
4 -
(ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم خدمه عشر سنين، وهو أحد المكثرين السبعة، وآخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة، وكان معمّرًا، قد جاوز المائة.
شرح الحديث:
(عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ) أنه (قَالَ: قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَقْبَلْنَا مَعَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم) أي: من غزوة خيبر، فقالها مختصرة، عند المصنّف، وقد ساقها البخاريّ رحمه الله مطوّلة، من طريق عبد الوارث بن سعيد، قال: حدّثني يحيى بن أبي إسحاق، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم مَقْفَله من عُسْفان
(1)
ورسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته، وقد أردف صفية بنت حُيَيّ، فَعَثَرت
(1)
هكذا الرواية، قيل: هذا وَهَمٌ؛ لأن غزوة عُسفان كانت سنة ستّ، وإرداف صفية رضي الله عنهما =
ناقته، فصُرِعا جميعًا، فاقتحم أبو طلحة، فقال: يا رسول الله جعلني الله فداءك، قال:"عليك المرأة"، فقَلَب ثوبًا على وجهه، وأتاها، فألقاه عليها، وأصلح لهما مركبهما، فركبا، واكتنفنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فلما أشرفنا على المدينة قال:"آيبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون"، فلم يزل يقول ذلك حتى دخل المدينة.
وقوله: (أَنَا) أتى به توكيدًا للضمير المرفوع المتّصل، حتى يعطف عليه ما بعده، وليس لازمًا؛ لوجود الفصل بالظرف، وإلى هذا أشار في "الخلاصة" حيث قال:
وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ
…
عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ
أَوْ فَاصِلٍ مَّا وَبِلَا فَصْلٍ يَرِدْ
…
فِي النَّظْمِ فَاشِيًا وَضُعْفَهُ اعْتَقِدْ
وقوله: (وَأَبُو طَلْحَةَ) مرفوع بالعطف على الفاعل، وهو أبو طلحة الأنصاريّ، زيد بن سَهْل بن الأسود بن حَرَام الخزرجيّ، مشهور بكنيته، من كبار الصحابة رضي الله عنهم، شَهِدَ بدرًا وما بعدها، مات سنة (34)، وقيل غير ذلك، وتقدّمت ترجمته في "الحيض" 7/ 720. (وصَفِيَّةُ رَدِيفَتُهُ) أي: راكبة خلفه صلى الله عليه وسلم، والجملة في محلّ نصب على الحال.
وهي أم المؤمنين صفيّة بنت حُيى بن أخطب الإسرائيليّة، تزوّجها النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد خيبر، وماتت سنة (36)، وقيل: في خلافة معاوية رضي الله عنهما، وهو الصحيح، تقدّمت ترجمتها في "الحج" 65/ 3223.
(عَلَى نَاقَتِهِ) متعلّق بـ "رديفته"(حَتَّى إِذَا كُنَّا بِظَهْرِ الْمَدِينَةِ) أي: بظاهرها (قَالَ: "آيِبُونَ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ") تقدّم شرح هذه الكلمات في الحديث الماضي (فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ ذَلِكَ) أي: الذكر المذكور، ففيه استحباب تكرار هذا الذكر (حَتَّى قَدِمْنَا) بكسر الدال (الْمَدِينَةَ) النبويّة زادها الله تعالى شرفًا وعِزًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
= كان في غزوة خيبر، فالصواب مقفله من خيبر، وقيل: لعله في طريق خيبر مكان يسمّى عُسفان، وقيل: أضافه لتقارب الغزوتين، وهذا هو ما مال إليه الحافظ رحمه الله، راجع:"الفتح" 7/ 338 - 339 "كتاب الجهاد والسير" رقم (3086).
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [73/ 3281 و 3282](1345)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(3085 و 3086) و"اللباس"(5968) و"الأدب"(6185)، و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة"(551)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 483 و 535)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 187 و 189)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 18)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 108)، و (تمّام الرازي) في "فوائده"(1/ 90)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده
(1)
:
1 -
(منها): بيان ما يُستحبّ أن يقال عند الرجوع من السفر.
2 -
(ومنها): بيان جواز إرداف المرأة خلف الرجل.
3 -
(ومنها): بيان مشروعيّة ستر المرأة عن الناس، وستر من لا تجوز رؤيته، وستر الوجه عنه.
4 -
(ومنها): استحباب خدمة الإمام والعالم، وخدمة أهل الفضل.
5 -
(ومنها): استحباب اكتناف الإمام، والاجتماع حوله عند دخول المدن.
6 -
(ومنها): استحباب حمد الله تعالى للمسافر عند إتيانه سالمًا إلى أهله، وسؤاله الله التوبة.
7 -
(ومنها): وجوب احتجاب أمهات المؤمنين -رضى الله عنهنّ- وإن كنّ كالأمهات.
8 -
(ومنها): جواز تدارك المرأة الأجنبيّة إذا سقطت، أو كادت تسقط،
فيُعينها على التخلّص مما يُخشى عليها، كما فعل أبو طلحة رضي الله عنه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
المراد فوائد الحديث برواياته المختلفة، فيشمل ما ذُكر في الشرح أيضًا، وليس خصوص سياق المصنّف فقط، فتنبّه.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3282]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ) بن المبارك السّاميّ الباهليّ البصريّ، صدوقٌ [10](ت 244)(م 4) تقدم في "الجمعة" 6/ 1972.
2 -
(بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ) بن لاحق البصريّ، تقدّم قبل باب.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: هذا الإسناد من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقه، ولاحقيه، وهو (206) من رباعيّات الكتاب.
[تنبيه آخر]: رواية بشر بن المفضّل، عن يحيى بن أبي إسحاق هذه ساقها البخاريّ، فقال:
(3086)
- حدّثنا عليٌّ، حدّثنا بشر بن المُفَضّل، حدّثنا يحيى بن أبي إسحاق، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه أقبل هو وأبو طلحة، مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ومع النبيّ صلى الله عليه وسلم صفية مردفها على راحلته، فلما كانوا ببعض الطريق عَثَرَت الناقة، فصُرع النبيّ صلى الله عليه وسلم والمرأة، وإن أبا طلحة -قال: أحسب قال: - اقتحم عن بعيره، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله جعلني الله فداءك، هل أصابك من شيء؟ قال:"لا، ولكن عليك بالمرأة"، فألقى أبو طلحة ثوبه على وجهه، فقصد قصدها، فألقى ثوبه عليها، فقامت المرأة، فشدّ لهما على راحلتهما، فركبا، فساروا، حتى إذا كانوا بظهر المدينة، أو قال: أشرفوا على المدينة قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "آيبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون"، فلم يزل يقولها حتى دخل المدينة. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(74) - (بَابُ التَّعْرِيسِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، وَالصَّلَاةِ بِهَا، إِذَا صَدَرَ مِنَ الْحَجِّ، أَو الْعُمْرَةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3283]
(1257)
(1)
- (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَاخَ بِالْبَطْحَاءِ الَّتِي بِذِي الْحُلَيْفَةِ، فَصَلَّى بِهَا، وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ).
رجال هذا الإسناد: أربعة، وكلّهم تقدّموا في الباب الماضي.
[تنبيه]: هذا الإسناد من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقيه، ولاحقه، وهو (207) من رباعيّات الكتاب.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَاخَ) بالنون، والخاء المعجمة؛ أي: أبرك بعيره، والمراد أنه نزل بها (بِالْبَطْحَاءِ الَّتي بِذِي الْحُلَيْفَةِ) وتُسَمَّى الْمُعَرَّس أيضًا، وهي بضم الميم، وفتح العين، والراء المهملتين، مع تشديد الراء، وآخره سين مهملة، وأصل الْمُعَرَّس موضع النزول مطلقًا، أو في آخر الليل، قال أبو زيد: عَرَّس القوم في المنزل: إذا نزلوا به أيَّ وقت كان من ليل أو نهار، وقال الخليل، والأصمعيّ: التعريس النزول آخر الليل، وصار هذا اللفظ عَلَمًا بالغلبة على موضع معيّن، وهو على ستة أميال من المدينة، كما حكاه أبو داود في "سننه" عن محمد بن إسحاق المدينيّ، وجزم به في "المشارق"
(2)
.
(فَصَلَّى بِهَا) قال في "الفتح": يَحْتَمِل أن تكون هذه الصلاة للإحرام، ويَحْتَمِل أن تكون للفريضة، وقد ثبت من حديث أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم صلى العصر
(1)
هذا الرقم مكرر.
(2)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 5/ 180.
بذي الحليفة ركعتين، ثم إن هذا النزول يَحْتَمِل أن يكون في الذهاب، وهو الظاهر من تصرّف البخاريّ، ويَحْتَمِل أن يكون في الرجوع، ويؤيده حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند البخاريّ بلفظ:"وإذا رجع صلى بذي الحليفة، ببطن الوادي، وبات حتى أصبح"، ويمكن الجمع بأنه كان يفعل الأمرين ذهابًا وإيابًا. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: كونه في الرجوع هو الأظهر، كما يدلّ عليه قوله:"كان إذا صدر من الحجّ أو العمرة أناخ بالبطحاء"، وأصرح منه رواية البخاريّ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج من طريق الشجرة، ويدخل من طريق الْمُعَرَّس، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج إلى مكة يصلي في مسجد الشجرة، وإذا رجع صلى بذي الحليفة، ببطن الوادي، وبات حتى يصبح. انتهى، والله تعالى أعلم.
(وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما (يَفْعَلُ دلِكَ) اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، كما حثّ الله سبحانه وتعالى عليه بقوله:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21].
وقال القاضي عياض رحمه الله: والنزول بالبطحاء بذي الحليفة في رجوع الحاجّ ليس من مناسك الحج، وإنما فَعله من فَعله من أهل المدينة؛ تبركًا بآثار النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولأنها بطحاء مباركةٌ، قال: واستَحَبّ مالك النزول، والصلاة فيه، وأن لا يُجَاوَزَ حتى يُصَلَّى فيه، وإن كان في غير وقت صلاة مَكَث حتى يدخل وقت الصلاة، فيصلي، قال: وقيل: إنما نزل به صلى الله عليه وسلم في رجوعه حتى يُصبح؛ لئلا يفجأ الناس أهاليهم ليلًا، كما نَهَى عنه صريحًا في الأحاديث المشهورة. انتهى، وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة الثالثة -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [74/ 3283 و 3284 و 3285](1257)،
و (البخاريّ) في "الحجّ"(1532)، و (أبو داود) في "المناسك"(2044)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(5/ 127) و"الكبرى"(2/ 330 و 477)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 405)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 28 و 112 و 138)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(5/ 236)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 19)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(3/ 87)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 244 - 245) و"المعرفة"(3/ 540)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب الصلاة في بطحاء ذي الحليفة، وقال إسماعيل القاضي: إنه صلى الله عليه وسلم إنما كان يصلي فيه نافلةً، لكن من ضرورة المبيت به أنه يصلي فيه فريضة، وسيأتي قول مالك: لا ينبغي لأحد مجاوزته، حتى يصلي فيه، وكذا استحباب الشافعي له، وقول أبي حنيفة: إن أحبّ أن يُعَرِّس به حتى يصلي فَعَلَ.
2 -
(ومنها): أنه لو مر به في وقت كراهة الصلاة استُحبّ له الانتظار حتى يدخل وقت جواز الصلاة، وسيأتي قول مالك رحمه الله: مَن مَرَّ به في غير وقت صلاة، فليُقِم حتى تَحِلّ الصلاة، ثم يصلي ما بدا له.
3 -
(ومنها): في رواية عبيد الله بن عمر، عن نافع زيادة المبيت بها إلى الصباح، والأخذ بالزيادة لازم، قال وليّ الدين رحمه الله: ومقتضى ما قالوه في مبيت المزدلفة حصول القصد بالمبيت بها نصف الليل، لكن إن كان المعنى أن لا يَطْرُق أهله ليلًا اقتَضَى ذلك الاستمرارَ إلى الصباح؛ لئلا يقع في هذا المحذور، ويدل لذلك قوله:"وبات حتى يصبح".
4 -
(ومنها): أنه قد يقال: مقتضى قوله في رواية موسى بن عقبة الآتية: "إذا صدر عن الحجّ، أو العمرة" التقييد بذلك، ومقتضى المعنى عدم التقييد، واستحباب الصلاة بها، والمبيت لكل مارّ بها، وإن لم يكن صادرًا من حجّ، ولا عمرة، قال وليّ الدين: وعدم التقييد هو الصواب، قال: ويدلّ له ما صحّ من شرف البقعة، وأنها مباركة، وأما التقييد في تلك الرواية، فإنما هو لفعل ابن عمر، ولم يكن ابن عمر يمرّ عليها إلا في حجّ، أو عمرة، ولم يبق بعد الفتح غزو من تلك الجهة؛ لأنها صارت كلها دار سلام. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن التقييد بمن صدر من حجّ، أو عمرة هو الأقرب؛ اتّباعًا لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم يثبت عنه في غير ذلك، فينبغي التقيّد بما ثبت عنه، فتأمّل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في نزول النبيّ صلى الله عليه وسلم ببطحاء ذي الحليفة:
(اعلم): أنهم اختلفوا في ذلك على أقوال:
[أحدها]: أن ذلك جَرَى اتّفاقًا، لا عن قصد، فهو كبقية منازل الحجّ، وهو ظاهر ما حكاه ابن عبد البرّ عن محمد بن الحسن، أنه قال: إنما هو مثل المنازل التي نزل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من منازل طريق مكة، وبلغنا أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يتبع آثاره تلك، فينزل بها، فكذلك قيل مثل ذلك بالْمُعَرَّس، وذكر محمد هذا توجيهًا لقول أبي حنيفة: مَن مَرّ بالمعرَّس من ذي الحليفة راجعًا من مكة، فإن أحب أن يُعَرِّس به حتى يصلي فَعَلَ، وليس ذلك عليه.
[ثانيها]: أنه قَصَد النزول به، لكن لا لمعنى فيه، حَكَى القاضي عياض عن بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم إنما نزل به في رجوعه حتى يُصبح؛ لئلا يفجأ الناسُ أهاليهم ليلًا، كما نَهَى عنه صريحًا في الأحاديث المشهورة.
[ثالثها]: أنه نزل به قصدًا؛ لمعنى فيه، وهو التبرك به، ويدل له أنه صلى الله عليه وسلم أُتِي به، فقيل له: إنك ببطحاء مباركة، ويدل له أيضًا صلاته صلى الله عليه وسلم به، وما فُهِم من لفظ الحديث من مواظبته على النزول به، لكنه ليس من مناسك الحجّ، بل هو سنة مستقلّة، وبهذا قال الجمهور، قال مالك في "الموطإ": لا ينبغي لأحد أن يجاوز الْمُعَرَّس إذا قَفَل حتى يصلي فيه، وأنه مَن مَرّ به في غير وقت صلاة، فليُقِم حتى تَحِلّ الصلاة، ثم يصلي ما بدا له؛ لأنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَرَّس به، وأن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أناخ به، قال ابن عبد البرّ: واستحبه الشافعيّ، ولم يأمر به، وقال إسماعيل بن إسحاق القاضي: ليس نزوله صلى الله عليه وسلم بالمعَرَّس كسائر منازل طريق مكة؛ لأنه كان يصلي الفريضة حيث أمكنه، والمعرَّس إنما كان يصلي فيه نافلة، ولا وجه لتزهيد الناس في الخير، ولو كان المعرَّس كسائر المنازل ما أنكر ابن عمر على نافع تأخّره عنه، وذكر
حديث موسى بن عقبة، عن نافع، أن ابن عمر سبقه إلى المعرَّس، فأبطأ عليه، فقال: ما حبسك؟ فذكر عذرًا، فقال: ظننت أنك أخذت الطريق، ولو فعلتَ لأوجعتك ضربًا.
[رابعها]: أنه من مناسك الحجّ، وهذا شيء اقتضت عبارة ابن عبد البرّ في "التمهيد" حكايته عن ابن عمر رضي الله عنهما، فإنه قال: وليس ذلك من سنن الحج، ومناسكه التي يجب على تاركها فديةٌ، أو دمٌ، عند أهل العلم، ولكنه حَسَنٌ عند جميعهم، إلا ابن عمر، فإنه جعله سنةً. انتهى.
قال وليّ الدين رحمه الله: فإن كانت هذه العبارة ليست صريحةً في إيجاب ابن عمر فديةً بتركه، فهي صريحة في أن ابن عمر زاد على غيره من أهل العلم في استحبابه، زيادة لم يقولوا بها، فَيُعَدّ حينئذ مذهبًا غير ما تقدم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن ما ذهب إليه الجمهور من استحباب النزول في بطحاء ذي الحليفة، هو الحقّ؛ اقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، ولكنه ليس من مناسك الحجّ الذي يلزم بتركه فدية، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3284]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِى مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ الْمِصْرِيُّ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُنِيخُ بِالْبَطْحَاءِ الَّتى بِذِي الْحُلَيْفَةِ الَّتي كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُنِيخُ بِهَا، وَيُصَلِّي بِهَا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ الْمِصْرِيُّ) تقدّم قريبًا.
2 -
(اللَّيْثُ) بن سعد الإمام المصريّ المشهور، تقدّم قبل بابين.
3 -
(قُتَيْبَةُ) بن سعيد، تقدّم أيضًا قبل بابين.
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 5/ 181 - 182.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: هذا الإسناد من رباعيّات المصنّف رحمه الله؛ كالأسانيد الثلاثة الماضية، وهو (208) من رباعيّات الكتاب.
والحديث متّفقٌ عليه، ومضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3285]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمُسَيَّبِيُّ، حَدَّثَنِى أَنَسٌ، يَعْنِى أَبَا ضَمْرَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ، كَانَ إِذَا صَدَرَ مِنَ الْحَجِّ، أَو الْعُمْرَةِ، أَنَاخَ بِالْبَطْحَاءِ الَّتِي بِذِي الْحُلَيْفَةِ الَّتِي كَانَ يُنِيخُ بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمُسَيَّبِيُّ) هو: محمد بن إسحاق بن محمد بن عبد الرحمن الْمُسَيَّبِيّ، من ولد الْمُسَيَّب بن عابد المخزوميّ المدنيّ، صدوقٌ [10](ت 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.
2 -
(أَنَسُ) بن عياض بن ضمرة، أَبُو ضَمْرَةَ الليثيّ المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 200) وله (96) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.
3 -
(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عيّاش الأسديّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ، إمام في المغازي [5](ت 141) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (كَانَ إِذَا صَدَرَ مِنَ الْحَجِّ، أَو الْعُمْرَةِ) أي: رجع من أحدهما، قال الفيوميّ رحمه الله: صَدَرَ صُدُورًا، من باب قَعَدَ، وأصدرته بالألف، وأصله الانصراف، يقال: صَدَرَ القومُ، وأصدرناهم: إذا صرفتهم، وصَدَرتُ عن الموضع صَدْرًا، من باب قَتَل: رجعتُ، قال الشاعر [من البسيط]:
وَلَيْلَةٍ قَدْ جَعَلْتُ الصُّبْحَ مَوْعِدَهَا
…
صَدْرَ الْمَطِيَّةِ حَتَّى تَعْرِفَ السَّدَفَا
فـ"صَدْرَ" مصدر، والاسم الصَّدَرُ بفتحتين. انتهى
(1)
.
قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله:
[فإن قلت]: فلم خَصّ ذلك بصدوره ورجوعه من الحجّ أو العمرة، ولم كان لا يفعل ذلك في المضيّ إليهما؟
[قلت]: لأنه في المضيّ إليهما لا يمرّ من تلك الطريق، وإنما كان يخرج من طريق الشجرة؛ للاتباع كما تقدّم، وينبغي أن يقال: لو مَرّ بالْمُعَرَّس في ذهابه إلى مكة استُحِبّ له الصلاة به، والله أعلم. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: هذا الحديث مختصر عند المصنّف رحمه الله، وقد ساقه البخاريّ رحمه الله مطوّلًا، فقال:
(1767)
- حدّثنا إبراهيم بن المنذر، حدّثنا أبو ضمرة، حدّثنا موسى بن عقبة، عن نافع؛ أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يبيت بذي طُوى بين الثنيتين، ثم يدخل من الثنية التي بأعلى مكة، وكان إذا قَدِم مكة حاجًّا أو معتمرًا لم يُنِخْ ناقته إلا عند باب المسجد، ثم يدخل، فيأتي الركن الأسود، فيبدأ به، ثم يطوف سبعًا، ثلاثًا سعيًا، وأربعًا مشيًا، ثم ينصرف، فيصلي ركعتين، ثم ينطلق قبل أن يرجع إلى منزله، فيطوف بين الصفا والمروة، وكان إذا صدر عن الحجّ أو العمرة، أناخ بالبطحاء التي بذي الحليفة، التي كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُنيخ بها. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3286]
(1346) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، وَهُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ مُوسَى، وَهُوَ ابْنُ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ فِي مُعَرَّسِهِ، بِذِي الْحُلَيْفَةِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ) بن الزِّبْرِقَان المكيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ يَهِمُ [10](ت 234)(خ م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 335.
(2)
"طرح التثريب" 5/ 183.
2 -
(حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) الحارثيّ مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، كوفيّ الأصل، صدوقٌ يَهِمُ، صحيح الكتاب [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الصلاة" 42/ 1086.
3 -
(سَالِمُ) بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب، تقدّم قريبًا.
والباقيان ذُكرا قبله، الحديث متّفقٌ عليه، وشرحه يأتي في الحديث التالي، وإنما أخّرته إليه؛ لكونه أتمّ مما هنا، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3287]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارِ بْنِ الرَّيَّانِ، وَسُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، وَاللَّفْظُ لِسُرَيْجٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ وَهُوَ فِي مُعَرَّسِهِ، مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، فِي بَطْنِ الْوَادِي، فَقِيلَ: إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ. قَالَ مُوسَى: وَقَدْ أَنَاخَ بِنَا سَالِمٌ بِالْمُنَاخِ مِنَ الْمَسْجِدِ الَّذِي كَانَ عَبْدُ اللهِ يُنِيخُ بِهِ، يَتَحَرَّى مُعَرَّسَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ أَسْفَلُ مِنَ الْمَسْجِدِ الَّذِي بِبَطْنِ الْوَادِي، بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ وَسَطًا مِنْ ذَلِكَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارِ بْنِ الرَّيَّانِ) الهاشميّ مولاهم، أبو عبد الله البغداديّ الرُّصَافيّ، ثقةٌ [10](238) وله (93) سنةً (م د) تقدم في "الإيمان" 30/ 228.
2 -
(سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ) البغداديّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق القارئ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
والباقون ذُكروا قبله.
شرح الحديث:
(عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ) عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ) بالبناء للمفعول؛ أي: أتاه ملك من ربه، وهو
جبريل؛ في منامه، وفي رواية البخاريّ:"أنه أُري وهو في مُعَرَّسٍ بذي الحليفة"(وَهُوَ فِي مُعَرَّسِهِ) جملة في محلّ نصب على الحال من النائب عن الفاعل.
و"الْمُعَرَّسُ" -بضمّ الميم، وفتح العين المهملة، وتشديد الراء المفتوحة، ثم سين مهملة- بصيغة اسم المفعول: موضع نزول المسافر للاستراحة، وهو هنا موضع تعريس رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة، قال السيوطيّ رحمه الله في "شرحه على النسائيّ": هو على ستة أميال من المدينة. انتهى.
والمراد بـ "المعرّس" هو وادي العقيق المذكور فيما أخرجه البخاريّ رحمه الله، عن عمر رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: "أتاني الليلة آتٍ من ربّي، فقال: صلّ في هذا الوادي المبارك، وقُلْ: عمرةٌ في حجة".
قال في "الفتح": هو بقرب المدينة، بينه وبين المدينة أربعة أميال، روى الزبير بن بكّار في "أخبار المدينة" أنّ تُبّعًا لَمّا رجع من المدينة انحدر في مكان، فقال: هذا عقيق الأرض، فسمّي العقيق. انتهى
(1)
.
وقوله: (مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ) بيان لـ"المعرّس"، فهو متعلّق بحال مقدّر؛ أي: حال كونه كائنًا من ذي الحليفة، وقوله:(فِي بَطْنِ الْوَادِي) متعلّق أيضًا بحال مقدّر؛ أي: حال كونه كائنًا في بطن الوادي (فَقِيلَ) أي: قال له الملك الآتي (إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ)"البطحاء" تأنيث الأبطح، وهو مَسِيلٌ واسعٌ فيه دُقاق الحصى، أفاده في "القاموس".
وفي حديث عمر رضي الله عنه المذكور: "فقال: صلّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة".
وفي الحديث فضلُ العقيق، كفضل المدينة، وفضل الصلاة فيه، وفيه استحباب نزول الحاجّ في منزلة قريبة من البلد، ومبيتهم بها؛ ليجتمع إليهم من تأخر عنهم ممن أراد مرافقتهم، وليستدرك حاجته من نسيها مثلًا، فيرجع إليها من قريب. انتهى
(2)
.
(1)
"الفتح" 4/ 407.
(2)
"الفتح" 4/ 408.
(قَالَ مُوسَى) بن عقبة (وَقَدْ أَنَاخَ) أي: أبرك ناقته (بِنَا سَالِمٌ) أي: ابن عبد الله بن عمر (بِالْمُنَاخِ) بضمّ الميم: موضع الإناخة؛ أي: محلّ تبريك الإبل (مِنَ الْمَسْجِدِ الَّذِي كَانَ عَبْدُ اللهِ) بن عمر (يُنِيخُ بِهِ) وفي رواية البخاريّ: "وقد أناخ بنا سالمٌ يتوخّى بالمناخ الذي كان عبد الله يُنيخ"، ومعنى يتوخّى بالخاء المعجمة؛ أي: يقصد.
وقوله: (يَتَحَرَّى) جملة في محلّ نصب على الحال؛ أي: حال كونه متحرّيًا، وطالبًا (مُعَرَّسَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: المحلّ الذي نزل فيه صلى الله عليه وسلم (وَهُوَ أَسْفَلُ) بالرفع على الخبريّة (مِنَ الْمَسْجِدِ الَّذِي بِبَطْنِ الْوَادِي) أي: وادي العقيق، وفيه إشارة إلى أن هناك مسجدًا بُني في ذلك الزمان، وليس هو معرّسه صلى الله عليه وسلم (بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ وَسَطًا مِنْ ذَلِكَ) بنصب وسطًا؛ أي: حال كونه متوسّطًا بين بطن الوادي، وبين القبلة.
وقال الكرمانيّ: فإن قلت: ما فائدة قوله: "وسطًا"، وهو معلوم من قوله:"بينه وبين الطريق"؟
قلت: بيان أنه في حَلَق الواسط، لا قُرب له إلى أحد الجانبين، كما هو المشهور من الفرق بين الوَسَط بتحريك السين، والْوَسْط بسكونها
(1)
.
وفي رواية البخاريّ: "وهو أسفل من المسجد الذي ببطن الوادي، وبينهم وبين الطريق وسطٌ من ذلك".
قال في "الفتح": قوله: "وهو أسفلُ" بالنصب
(2)
، ويجوز الرفع، والمراد بالمسجد الذي كان هناك في ذلك الزمان، وقوله:"بينه" أي: بين المعرَّس، وفي رواية الحمويّ:"بينهم" أي: بين النازلين، وبين الطريق، وقوله:"وَسَطٌ من ذلك" بفتح المهملة؛ أي: متوسط بين بطن الوادي وبين الطريق، وعند أبي ذرّ:"وسطًا من ذلك" بالنصب. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"عمدة القاري" 9/ 149.
(2)
قوله: "بالنصب" فيه نظر لا يخفى، بل الذي يظهر أنه بالرفع فقط، فتأمله.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [74/ 3286 و 3287](1346)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1535) و"الحرث والمزارعة"(2336) و"الاعتصام بالكتاب والسنّة"(7345)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(5/ 126) و"الكبرى"(2/ 330)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 87 و 90 و 104 و 136)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2616)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 426)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 19 - 20)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(8/ 52) و"الكبير"(12/ 299)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 350)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 245)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(75) - (بَابُ لَا يَحُجُّ الْبَيْتَ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَبَيَانُ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3288]
(1347) - (حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (ح) وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونسُ؛ أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ أَخْبَرَهُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِي الْحَجَّةِ الَّتى أَمَّرَهُ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُونَ فِي النَّاسِ، يَوْمَ النَّحْرِ:"لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ"، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: يَوْمُ النَّحْرِ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، مِنْ أَجْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ) السعديّ مولاهم، تقدّم قريبًا.
2 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ) تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله المصريّ، ثقة عابد [9](ت 197) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
4 -
(عَمْرُو) بن الحارث بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ حافظ [7] مات قبل (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.
5 -
(يُونسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم قريبًا.
6 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم، تقدّم أيضًا قريبًا.
7 -
(حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 105)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
8 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخيه.
3 -
(ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالمصريين، والثاني مسلسل بالمدنيين.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.
5 -
(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه، رأس المكثرين من الرواية، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: بَعَثَنِي) أي: أرسلني (أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ) رضي الله عنه.
قال الطحاويّ رحمه الله في "مشكل الآثار": هذا مشكلٌ؛ لأن الأخبار في هذه القصّة تدلّ على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان بعث أبا بكر رضي الله عنه بذلك، ثم أتبعه عليًّا رضي الله عنه، فأمره أن يؤذّن، فكيف يبعث أبو بكر أبا هريرة، ومن معه بالتأذين، مع صرف الأمر عنه في ذلك إلى عليّ؟
ثم أجاب بما حاصله: إن أبا بكر كان الأمير على الناس في تلك الحجة بلا خلاف، وكان عليّ هو المأمور بالتأذين، وكأن عليًّا لم يُطِق التأذين بذلك وحده، واحتاج إلى من يُعينه على ذلك، فأرسل معه أبو بكر أبا هريرة، وغيره ليساعدوه على ذلك، ثم ساق من طريق المحرّر بن أبي هريرة، عن أبيه، قال: "كنت مع عليّ حين بعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم ببراءة إلى أهل مكة، فكنت أنادي معه بذلك حتى يَصْحَل صوتي
(1)
، وكان هو ينادي قبلي حتى يَعْيَى".
فالحاصل أن مباشرة أبي هريرة لذلك كانت بأمر أبي بكر، وكان ينادي بما يُلقيه إليه عليّ مما أُمر بتبليغه. ذكره في "الفتح"
(2)
.
(فِي الْحَجَّةِ) بالفتح المرة من الحج، وهو متعلّق بـ "بعثني" (الَّتِي أَمَّرَهُ) بتشديد الميم؛ أي: جعله أميرًا (عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ) وذلك سنة تسع من الهجرة، قال السهيليّ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم من تبوك أراد الحجّ، فذكر مخالطة المشركين للناس في حجهم، وتلبيتهم بالشرك، وطوافهم عراة بالبيت، وكانوا يقصدون بذلك أن يطوفوا كما وُلدوا بغير الثياب التي أذنبوا فيها، وظلموا، فأمسك صلى الله عليه وسلم عن الحج في ذلك العام، وبعث أبا بكر رضي الله عنه بسورة براءة؛ لينبذ إلى كلّ ذي عهد من المشركين عهده، إلا بعض بني بكر الذين كان لهم عهد إلى أجل خاصّ
(3)
.
(فِي رَهْطٍ) بفتح، فسكون؛ أي: في جملة جماعة، والرهط من الرجال ما دون العشرة، وقيل: إلى الأربعين، ولا يكون فيهم امرأة، ولا واحد له من لفظه، ويجمع على أرهُط، وأرهاط، وأراهط جمعُ الجمع.
قال الحافظ: وقد وَقَفْتُ ممن سُمّي، ممن كان مع أبي بكر في تلك الحجة على أسماء جماعة، منهم سعد بن أبي وقّاص، فيما أخرجه الطبريّ، من طريق الحكم، عن مصعب بن سعد، عن أبيه، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر، فلما انتهينا إلى ضَجْنَان أتبعه عليًّا، ومنهم جابر. روى الطبريّ من
(1)
أي تذهب حِدّته.
(2)
"الفتح" 10/ 165 "كتاب التفسير" رقم (4656).
(3)
راجع: "عمدة القاري" 8/ 112.
طريق عبد الله بن خُثيم، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر على الحجّ، فأقبلنا معه. انتهى
(1)
.
(يُؤَذِّنُونَ فِي النَّاسِ) من التأذين، أو الإيذان، وهو الإعلام، وهو اقتباس من قوله تعالى:{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية [التوبة: 3] أي: إعلام، قاله في "الفتح".
وفي رواية للبخاريّ: "يؤذن في الناس" بالإفراد، قال في "العمدة": الضمير فيه راجع إلى الرهط، باعتبار اللفظ، ويجوز أن يكون لأبي هريرة على الالتفات. انتهى
(2)
.
(يَوْمَ النَّحْرِ) ظرف لـ "يؤذّنون"("لَا يَحُجُّ) وفي رواية للبخاريّ: "أن لا يحجّ"، وفي لفظ:"أن لا يحجّنّ"، وفي رواية النسائيّ:"ألا لا يحجّن"، و "أَلَا" بفتح الهمزة، واللام المخففة، تأتي على أوجه، ولكن هنا للتنبيه، فتدلّ على تحقق ما بعدها (بَعْدَ الْعَامِ) أي: بعد الزمان الذي فيه الإعلام (مُشْرِكٌ) بالرفع فاعل "يحجّ"، قال النوويّ رحمه الله: هذا موافقٌ لقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]، والمراد بالمسجد الحرام ها هنا الحرم كله، فلا يُمَكَّن مشرك من دخول الحرم بحال، حتى لو جاء في رسالة، أو أمر مُهِمٍّ لا يمكَّن من الدخول، بل يَخرُج إليه من يقضي الأمر المتعلق به، ولو دَخَل خفية، ومَرِضَ ومات نُبِش، وأُخرِج من الحرم. انتهى
(3)
.
قال في "الفتح": قوله: "وأن لا يحج بعد العام مشرك" هو منتزع من قوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} ، والآية صريحة في منعهم دخول المسجد الحرام، ولو لم يقصدوا الحجّ، ولكن لما كان الحج هو المقصود الأعظم صَرَّح لهم بالمنع منه، فيكون ما وراءه أولى بالمنع، والمراد بالمسجد الحرام هنا الحرم كله. انتهى.
(وَلَا يَطُوفُ) يَحْتَمِل أن يكون مرفوعًا، و"لا" نافية، ويجوز أن يُقرأ بفتح
(1)
"الفتح" 10/ 165.
(2)
"عمدة القاري" 8/ 113.
(3)
"شرح النوويّ" 9/ 116.
الطاء، وتشديد الواو، مجزومًا بالعطف على محل "يحجّ"(بِالْبَيْتِ) متعلق بـ "يطوف"(عُرْيَانٌ) بالرفع على الفاعلية لـ "يطوف".
قال النوويّ رحمه الله: هذا إبطال لما كانت الجاهلية عليه، من الطواف بالبيت عُرَاةً، واستَدَلَّ به أصحابنا وغيرهم على أن الطواف يُشترط له ستر العورة، والله أعلم. انتهى
(1)
.
(قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: يَوْمُ النَّحْرِ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، مِنْ أَجْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ) قال النوويّ: معناه إن الله تعالى قال: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} [التوبة: 3]، فَفَعَلَ أبو بكر، وعليّ وأبو هريرة، وغيرهم، من الصحابة هذا الأذان يوم النحر، بإذن النبيّ صلى الله عليه وسلم في أصل الأذان، والظاهر أنه عَيَّن لهم يوم النحر، فتعيّن أنه يوم الحج الأكبر، ولأن معظم المناسك فيه.
وقد اختَلَفَ العلماء في المراد بيوم الحج الأكبر، فقيل: يوم عرفة، وقال مالك، والشافعيّ، والجمهور: هو يوم النحر، ونقل القاضي عياض عن الشافعيّ أنه يوم عرفة، وهذا خلاف المعروف من مذهب الشافعيّ.
قال العلماء: وقيل: الحج الأكبر؛ للاحتراز من الحج الأصغر، وهو العمرة، واحتج من قال: هو يوم عرفة بالحديث المشهور: "الحج عرفةُ"، والله أعلم. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": استنبطه حميد من قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} ، ومن مناداة أبي هريرة بذلك بأمر أبي بكر يوم النحر، فدل على أن المراد بيوم الحج الأكبر يوم النحر، قال: واختُلِف في المراد بالحج الأصغر، فالجمهور على أنه العمرة، وَصَلَ ذلك عبد الرزاق من طريق عبد الله بن شداد، أحد كبار التابعين، ووصله الطبريّ عن جماعة، منهم: عطاءٌ، والشعبيّ، وعن مجاهد: الحج الأكبر القِرَان، والأصغر الإفراد، وقيل: يوم الحج الأصغر يوم عرفة، ويوم الحج الأكبر يوم النحر؛ لأن فيه تتكمل بقية المناسك، وعن الثوريّ: أيام الحج تُسَمَّى يوم الحج الأكبر، كما
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 116.
(2)
"شرح مسلم" 9/ 116.
يقال: يوم الفتح، وأيده السُّهَيليّ بأن عليًّا أمر بذلك في الأيام كلها، وقيل: لأن أهل الجاهلية كانوا يَقِفُون بعرفة، وكانت قريش تقف بالمزدلفة، فإذا كان صبيحة النحر وقف الجميع بالمزدلفة، فقيل له: الأكبر؛ لاجتماع الكل فيه، وعن الحسن: سُمِّي بذلك؛ لاتفاق حج جميع الملل فيه، وروى الطبريّ من طريق أبي جُحيفة وغيره: أن يوم الحج الأكبر يوم عرفة، ومن طريق سعيد بن جبير: أنه النحر، واحتَجَّ بأن يوم التاسع، وهو يوم عرفة إذا انسلخ قبل الوقوف، لم يفت الحجّ، بخلاف العاشر، فإن الليل إذا انسلخ قبل الوقوف فات، وفي رواية الترمذيّ من حديث عليّ مرفوعًا وموقوفًا:"يومُ الحج الأكبر يومُ النحر"، ورَجَّح الموقوف. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا مُتَّفَقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [75/ 3288](1347)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(369) و"الحج"(1622) و"الجزية والموادعة"(4656 و 4657) و"المغازي"(4363) و"التفسير"(4655 و 4656 و 4657)، و (أبو داود) في "المناسك"(1946)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(2958 و 2959) و"الكبرى"(3948 و 3949)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 79 و 4/ 184)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 447)، و (الدارميّ) في "سننه"(1430)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2702)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3820)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(5/ 233)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 87 - 88)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1912) وفي "التفسير"(2/ 268)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أنه لا يجوز أن يحجّ البيت مشرك، ولا يطوف به عريان.
(1)
"الفتح" 10/ 169 - 170 "كتاب التفسير" تفسير "سورة براءة" رقم (4657).
2 -
(ومنها): بيان وجوب ستر العورة في الطواف.
3 -
(ومنها): بيان تحريم دخول مكة على المشركين.
4 -
(ومنها): بيان فضل أبي بكر رضي الله عنه على بقية الصحابة رضي الله عنهم، حيث قدّمه صلى الله عليه وسلم ليحجّ بالناس في تلك السنة.
5 -
(ومنها): إبطال ما كان عليه أهل الجاهلية من الضلالات، والجهل، والسفاهة، حيث إنهم كانوا يعتقدون أن كشف العورة أمام بيت الله، وأمام الجمع العظيم قربة مما يقرّبهم إلى الله تعالى، فما أشدّ جهلهم، وما أكثر انحرافهم.
6 -
(ومنها): ما استنبطه حميد بن عبد الرحمن الراوي له عن أبي هريرة رضي الله عنه من أن يوم الحجّ الأكبر هو يوم النحر، حيث إن تبليغ هذه الأمور وقع فيه، وهو استنباط حسنٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: أخرج الإمام البخاريّ رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا في "صحيحه"، أتمّ من رواية المصنّف، فقال في "كتاب التفسير":
(4656)
- حدّثنا عبد الله بن يوسف، حدّثنا الليث، حدّثني عُقيل، قال ابن شهاب: فأخبرني حميد بن عبد الرحمن؛ أن أبا هريرة قال: بعثني أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحجة في المؤذنين بعثهم يوم النحر، يؤذّنون بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، قال حميد: ثم أردف النبيّ صلى الله عليه وسلم بعليّ بن أبي طالب، فأمره أن يؤذّن ببراءة، قال أبو هريرة: فأَذَّن معنا عليّ في أهل منى يوم النحر ببراءة، وأن لا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُرْيان.
وقال أيضًا:
(4657)
- حدّثنا إسحاق، حدّثنا يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب؛ أن حميد بن عبد الرحمن أخبره؛ أن أبا هريرة أخبره؛ أن أبا بكر رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أَمَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها قبل حجة الوداع، في رهط يؤذّنون في الناس، أن لا يحجنّ بعد العام مشرك، ولا يطوف
بالبيت عريان، فكان حميد يقول: يومُ النحر يومُ الحج الأكبر، من أجل حديث أبي هريرة. انتهى. قوله: "بعثني أبو بكر
…
إلخ": قال الطحاويّ في "مشكل الآثار": هذا مشكل؛ لأن الأخبار في هذه القصة تدلّ على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان بعث أبا بكر بذلك، ثم أتبعه عليًّا، فأمره أن يؤذن، فكيف يبعث أبو بكر أبا هريرة ومن معه بالتأذين، مع صرف الأمر عنه في ذلك إلى عليّ؟ ثم أجاب بما حاصله أن أبا بكر كان الأمير على الناس في تلك الحجة بلا خلاف، وكان عليّ هو المأمور بالتأذين بذلك، وكأنّ عليًّا لم يطق التأذين بذلك وحده، واحتاج إلى من يُعينه على ذلك، فأرسل معه أبو بكر أبا هريرة وغيره؛ ليساعدوه على ذلك، ثم ساق من طريق المحرَّر بن أبي هريرة، عن أبيه، قال: كنت مع عليّ حين بعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم ببراءة إلى أهل مكة، فكنت أنادي معه بذلك حتى يَصْحَلَ صوتي
(1)
، وكان هو ينادي قبلي حتى يَعْيَ. وأخرجه أحمد أيضًا وغيره، من طريق مُحَرَّر بن أبي هريرة.
فالحاصل أن مباشرة أبي هريرة لذلك، كانت بأمر أبي بكر، وكان ينادي بما يُلقيه إليه عليّ مما أُمر بتبليغه.
وقوله: "قال حميد" هو ابن عبد الرحمن بن عوف: ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعليّ، وأمره أن يؤذّن ببراءة. هذا القدر من الحديث مرسلٌ؛ لأن حميدًا لم يُدرك ذلك، ولا صَرَّح بسماعه له من أبي هريرة، لكن قد ثبت إرسال عليّ من عدّة طرق، فروى الطبريّ من طريق أبي صالح، عن عليّ قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر ببراءة إلى أهل مكة، وبعثه على الموسم، ثم بعثني في أثره، فأدركته فأخذتها منه، فقال أبو بكر: ما لي؟ قال: "خيرٌ، أنت صاحبي في الغار، وصاحبي على الحوض، غير أنه لا يُبَلِّغ عني غيري، أو رجل مني".
ومن طريق عمرو بن عطية، عن أبيه، عن أبي سعيد مثله.
ومن طريق العُمَريّ، عن نافع، عن ابن عمر كذلك.
(1)
أي حتى تذهب حدّته.
ورَوَى الترمذيّ من حديث مِقْسَم، عن ابن عباس مثله مطوَّلًا، وعند الطبرانيّ من حديث أبي رافع نحوه، لكن قال:"فأتاه جبريل، فقال: إنه لن يؤديها عنك إلا أنت، أو رجل منك".
ورَوَى الترمذيّ، وحسنه، وأحمد من حديث أنس رضي الله عنه قال: بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم براءة مع أبي بكر، ثم دعا عليًّا فأعطاها إياه، وقال:"لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي"، وهذا يوضح قوله في الحديث الآخر:"لا يبلغ عني"، ويُعْرَف منه أن المراد خصوص القصة المذكورة، لا مطلق التبليغ.
ورَوَى سعيد بن منصور، والترمذيّ، والنسائيّ، والطبريّ من طريق أبي إسحاق، عن زيد بن يُثَيع، قال: سألت عليًّا: بأيّ شيء بُعِثت؟ قال: بـ "أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يجتمع مسلم مع مشرك في الحج بعد عامهم هذا، ومن كان له عهدٌ فعهده إلى مُدَّته، ومن لم يكن له عهدٌ فأربعة أشهر".
واستُدِلّ بهذا الكلام الأخير على أن قوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2]، يَختصّ بمن لم يكن له عهد مؤقت، أو لم يكن له عهد أصلًا، وأما من له عهد مؤقت فهو إلى مدته، فروى الطبريّ من طريق ابن إسحاق قال: هم صنفان: صنفٌ كان له عهد دون أربعة أشهر، فأُمهل إلى تمام أربعة أشهر، وصنفٌ كانت له مدة عهده بغير أجل، فقُصِرت على أربعة أشهر.
وروى أيضًا من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، أن الأربعة الأشهر أجلُ من كان له عهدٌ مؤقت بقدرها، أو يزيد عليها، وأما من ليس له عهد فانقضاؤه إلى سلخ المحرم؛ لقوله تعالى:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، ومن طريق عَبِيدة بن سلمان، سمعت الضحاك؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاهد ناسًا من المشركين من أهل مكة وغيرهم، فنزلت براءة، فنَبَذَ إلى كل أحد عهده، وأجَّلهم أربعة أشهر، ومن لا عهد له، فأجله انقضاء الأشهر الحرم، ومن طريق السُّدّيّ نحوه، ومن طريق معمر، عن الزهريّ قال: كان أول الأربعة أشهر عند نزول براءة في شوال، فكان آخرها آخر المحرم، فبذلك يُجْمَع بين ذكر الأربعة أشهر، وبين قوله:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} .
واستبعد الطبري ذلك من حيث إن بلوغهم الخبر إنما كان عندما وقع النداء به في ذي الحجة، فكيف يقال لهم: سيحوا أربعة أشهر، ولم يبق منها إلا دون الشهرين؟ ثم أسند عن السُّدّيّ وغير واحد التصريح بأن تمام الأربعة الأشهر في ربيع الآخر
(1)
.
وقوله: "أن يؤذّن ببراءة" يجوز فيه التنوين بالرفع على الحكاية، وبالجر، ويجوز أن يكون علامة الجر فتحة، وهو الثابت في الروايات.
وقوله: "فأذّن معنا عليٌّ في أهل منى يوم النحر إلخ" قال الكرمانيّ رحمه الله: فيه إشكالٌ؛ لأن عليًّا كان مأمورًا بأن يؤذن بـ "براءة"، فكيف يؤذن بـ "أن لا يحج بعد العام مشرك"؟
ثم أجاب بأنه أَذَّن ببراءة، ومن جملة ما اشتَمَلت عليه "أن لا يحج بعد العام مشرك"، من قوله تعالى فيها:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28].
ويَحْتَمِل أن يكون أُمِر أن يؤذّن بـ "براءة"، وبما أُمر أبو بكر أن يؤذن به أيضًا.
قال الحافظ رحمه الله: وفي قوله: "يؤذن ببراءة" تَجَوُّزٌ؛ لأنه أُمر أن يؤذن ببضع وثلاثين آية، منتهاها عند قوله تعالى:{وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 9]، فروى الطبريّ من طريق أبي معشر، عن محمد بن كعب وغيره، قال: بَعَثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرًا على الحج سنة تسع، وبعث عليًّا بثلاثين، أو أربعين آية من "براءة".
ورَوَى الطبري من طريق أبي الصَّهْباء، قال: سألت عليًّا عن يوم الحج الأكبر، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر يقيم للناس الحج، وبعثني بعده بأربعين آية من "براءة" حتى أَتَى عرفة، فخَطَب، ثم التفت إليّ، فقال: يا عليّ قم، فأدِّ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقمت، فقرأت أربعين آية من أول براءة، ثم صدرنا حتى رَمَيت الجمرة، فطفقت أتتبع بها الفساطيط، أقرؤها عليهم؛ لأن الجميع لم يكونوا حضروا خطبة أبي بكر يوم عرفة.
(1)
"الفتح" 10/ 166 - 167.
وأما ما وقع في حديث جابر، فيما أخرجه الطبريّ، وإسحاق في "مسنده"، والنسائيّ، والدارميّ كلاهما عنه، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، من طريق ابن جريج، حدّثني عبد الله بن عثمان بن خُثيم، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حين رجع من عمرة الجعرانة بَعَث أبا بكر على الحجّ، فأقبلنا معه، حتى إذا كنا بالْعَرْج ثُوِّب بالصبح، فسمع رَغْوة ناقة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإذا عليّ عليها، فقال له: أميرٌ، أو رسولٌ؟ فقال: بل أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ "براءة"، أقرؤها على الناس، فقدمنا مكة، فلما كان قبل يوم التروية بيوم، قام أبو بكر، فخطب الناس بمناسكهم، حتى إذا فرغ قام عليّ، فقرأ على الناس "براءة"، حتى ختمها، ثم كان يوم النحر كذلك، ثم يوم النفر كذلك.
فيُجْمَع بأن عليًّا قرأها كلها في المواطن الثلاثة، وأما في سائر الأوقات فكان يُؤَذِّن بالأمور المذكورة "أن لا يحج بعد العام مشرك إلخ"، وكان يستعين بأبي هريرة وغيره في الأذان بذلك.
وقد وقع في حديث مِقْسَم عن ابن عباس، عند الترمذيّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بَعَث أبا بكر
…
الحديث، وفيه: فقام عليّ أيام التشريق، فنادى:"ذمة الله، وذمة رسوله بريئة من كل مشرك، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، ولا يحجنّ بعد العام مشرك، ولا يطوفنّ بالبيت عُريان، ولا يدخل الجنة إلا مؤمن"، فكان عليّ ينادي بها، فإذا بَحّ
(1)
قام أبو هريرة فنادى بها.
وأخرج أحمد بسند حسن، عن أنس رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بَعَث بـ "براءة" مع أبي بكر، فلما بلغ ذا الحليفة قال:"لا يبلّغها إلا أنا، أو رجل من أهل بيتي"، فبعث بها مع عليّ، قال الترمذيّ: حسن غريب.
ووقع في حديث عليّ رضي الله عنه عند أحمد: لَمّا نزلت عشر آيات من"براءة" بعث بها النبيّ صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر؛ ليقرأها على أهل مكة، ثم دعاني، فقال:"أدرك أبا بكر، فحيثما لقيته، فخذ منه الكتاب"، فرجع أبو بكر، فقال:
(1)
من باب تعِب: أخذته بُحّة، وهي خشونة، وغلظة في الصوت.
يا رسول الله، نزل فيّ شيء؟ فقال:"لا، إلا أنه لن يؤدي"، أو "لكن جبريل قال: لا يؤدي عنك إلا أنت، أو رجل منك".
قال العماد بن كثير: ليس المراد أن أبا بكر رجع من فوره، بل المراد رجع من حجته.
قال الحافظ: ولا مانع من حمله على ظاهره؛ لقرب المسافة، وأما قوله: عشر آيات، فالمراد أولها:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]
(1)
.
[تنبيه]: وقع في رواية شعيب بن أبي حمزة، عن الزهريّ قوله:"فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام، فلم يحج عام حجة الوداع التي حج فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم مشرك". انتهى.
قال الحافظ: وسياق رواية شعيب يوهم أن ذلك مما نادى به أبو بكر، وليس كذلك، فقد تضافرت الروايات عن أبي هريرة بأن الذي كان ينادي به هو ومن معه مِن قِبَل أبي بكر شيئان: منع حج المشركين، ومنع طواف العريان، وأن عليًّا أيضًا كان ينادي بهما، وكان يزيد:"من كان له عهد فعهده إلى مدّته، وأن لا يدخل الجنة إلا مسلم"، وكأن هذه الأخيرة كالتوطئة؛ لأن لا يحج البيت مشرك، وأما التي قبلها فهي التي اختَصَّ عليّ بتبليغها، ولهذا قال العلماء: إن الحكمة في إرسال عليّ بعد أبي بكر أن عادة العرب جَرَت بأن لا ينقض العهد إلا من عقده، أو من هو منه بسبيل من أهل بيته، فأجراهم في ذلك على عادتهم، ولهذا قال:"لا يبلّغ عني إلا أنا، أو رجل من أهل بيتي".
وروى أحمد، والنسائيّ من طريق مُحَرّر بن أبي هريرة، عن أبيه، قال: كنت مع عليّ حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة بـ "براءة"، فكنا ننادي:"أن لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فأجله أربعة أشهر، فإذا مضت فإن الله بريء من المشركين ورسوله، ولا يحج بعد العام مشرك"، فكنت أنادي حتى صَحِلَ صوتي.
[تنبيه آخر]: اتفقت الروايات على أن حجة أبي بكر كانت سنة تسع، ووقع في حديث لعبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيِّب،
(1)
"الفتح" 10/ 168 - 169.
عن أبي هريرة، في قوله:{بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 1] قال: لما كان زمن خيبر اعتَمَر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة، ثم أَمَّر أبا بكر الصديق على تلك الحجة، قال الزهريّ: وكان أبو هريرة يحدِّث أن أبا بكر أَمَره أن يؤذّن بـ "براءة"، ثم أتبع النبيّ صلى الله عليه وسلم عليًّا
…
الحديث.
قال الشيخ عماد الدين ابن كثير: هذا فيه غرابة من جهة أن الأمير في سنة عمرة الجعرانة، كان عَتّاب بن أَسِيد، وأما حجة أبي بكر فكانت سنة تسع.
قال الحافظ: يمكن رفع الإشكال بأن المراد بقوله: "ثم أمر أبا بكر" يعني بعد أن رجع إلى المدينة، وطَوَى ذكر مَن وَلِيَ الحج سنة ثمان، فإن النبىّ صلى الله عليه وسلم لَمّا رجع من العمرة إلى الجعرانة، فأصبح بها توجه هو ومن معه إلى المدينة، إلى أن جاء أوان الحج، فأمَّر أبا بكر، وذلك سنة تسع، وليس المراد أنه أمّر أبا بكر أن يحج في السنة التي كانت فيها عمرة الجعرانة، وقوله:"على تلك الحجة" يريد الآتية بعد رجوعهم إلى المدينة. انتهى ملخّصًا من الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(76) - (بَابُ بَيَانِ فَضْلِ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3289]
(1348) - حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ يُونُسَ بْنَ يُوسُفَ، يَقُولُ: عَن ابْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟ ").
(1)
"الفتح" 10/ 170 - 171 "كتاب التفسير" تفسير "سورة براءة" رقم (466 و 467).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى) بن حسّان المصريّ، يُعرف بابن التَّسْتُريّ، صدوقٌ، تُكُلّم في بعض سماعاته، قال الخطيب: بلا حجة [10](ت 243)(خ م ي ق) تقدم في "الإيمان" 8/ 134.
2 -
(مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ) تقدّم قريبًا.
3 -
(أَبُوهُ) بكير بن عبد الله بن الأشجّ المدنيّ، نزيل مصر، تقدّم قريبًا.
4 -
(يُونُسُ بْنُ يُوسُفَ) بن حِمَاس -بكسر المهملة، وتخفيف الميم، وآخره مهملة- ابن عمرو الليثيّ المدنيّ. وقيل: يوسف بن يونس بن حِمَاس، ثقةٌ عابد [6].
روى عن عمّه، وسعيد بن المسيّب، وسُليمان بن يسار، وعطاء بن يسار. وروى عنه ابن جُريج، وبُكير بن الأشجّ، وعبد الله بن عبد الله الأمويّ، ومالك، والدراورديّ.
قال أبو حاتم: محلّه الصدق، لا بأس به، وقال النسائيّ: ثقة، وقال البزّار: صالح الحديث، وذكره ابن حبّان في "الثقات" فيمن اسمه يوسف، وقال: وهو الذي يُخطئ فيه عبد الله بن يوسف التِّنِّيسيّ عن مالك، فيقول: يونس بن يوسف، وكان من عُبّاد أهل المدينة، لَمَح يومًا امرأة، فدعا الله تعالى، فأذهب عينيه، ثم دعا، فردّ عليه بصره.
أخرج له المصنّف، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1348)، وحديث (1905): "إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل
…
".
5 -
(ابْنُ الْمُسَيِّبِ) سعيد المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت، من كبار [3](ت 94)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
6 -
(عَائِشَةُ) رضي الله عنها، تقدّمت قريبًا.
والباقيان تقدّما في السند الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُباعيّات المصنف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحادهما في كيفيّة التحمّل، والأداء.
2 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخيه، وابن وهب، فمصريون.
(ومنها): أن رواية بكير عن يونس من رواية الأكابر عن الأصاغر؛ لأن بكيرًا من الطبقة الخامسة، ويونس من السادسة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ الْمُسَيَّبِ) أنه (قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها (إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ) قال أبو العباس القرطبيّ رحمه الله: رَوَينا "أكثر" رفعًا، ونصبًا، فرفعه على التميميّة، ونصبه على الحجازيّة، وهو في الحالين خبر، لا وصفٌ، والمجروران بعده مبيّنان، فـ "من يوم عرفة" يبيّن الأكثرية، مما هي؟ ومن "أن يُعتق" يبيّن المميّز، وتقدير الكلام: ما يومٌ أكثر من يوم عرفة عتيقًا من النار. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: أشار القرطبيّ رحمه الله إلى قول الحريريّ رحمه الله في مُلحته:
وَ"مَا" الَّتِي تَنْفِي كَـ "لَيْسَ" النَّاصِبَهْ
…
فِي قَوْلِ سُكَّانِ الْحِجَازِ قَاطَبَهْ
وقول ابن مالك رحمه الله في "خلاصته":
إِعْمَالَ "لَيْسَ" أُعْمِلَتْ "مَا" دُونَ "إِنْ"
…
مَعَ بَقَا النَّفِيِ وَتَرْتِيبٍ زُكِنْ
وقال في "المرعاة": قوله: "ما من يوم""من" زائدة "أكثر" بالنصب، وقيل: بالرفع "من" زائدة أيضًا.
وقال السنديّ في "حاشية النسائيّ": قوله: "أكثر من أن يعتق" أي: أكثر من جهة الإعتاق، وبملاحظته فليست هذه "من" التفضيلية، وإنما التفضيلية هي "من" التي في قوله:"من يوم عرفة".
وقال الطيبي: "ما" بمعنى "ليس"، واسمها "يوم"، و"مِنْ" زائدة. انتهى،
قال القاري: فتقديره: ما من يوم أكثر إعتاقًا فيه اللهُ عبدًا من النار من يوم عرفة. انتهى.
وقال السنديّ في "حاشية ابن ماجه": "أكثر" جاء بالنصب على أنه خبر "ما" العاملة على لغة الحجاز، وبالرفع على إبطال عمل "ما" على وجهين، و"أن يُعْتِق" فاعل اسم التفضيل، ويَحْتَمِل على تقدير الرفع أن يجعل "أن يُعتق" مبتدأ خبره "أكثر"، والجملة خبر "ما"، وتجويز فتح "أكثر" على أنه صفة "يوم" محمول على لفظه، إلا أنه جُرّ بالفتحة؛ لكونه غير منصرف، وتجويز رفعه على أنه صفة له حمل له على محله، أو على أنه خبر لما بعده، والجملة صفة، فذاك يُحوج إلى تقدير خبر مثل موجود بلا حاجة إليه. انتهى.
وقال الأبيّ: "ما" نافية، وتدخل على المبتدأ والخبر، وللعرب فيها مذهبان، فالحجازيون يرفعون بها المبتدأ الاسم، وينصبون الخبر، والتميميون يرفعون بها الاسمين.
وقال النوويّ: رَوَينا الحديث بنصب "أكثر" على أن "ما" حجازية، وبرفعه على أنها تميمية، و "من" زائدة، والتقدير:"ما يوم أكثر"، والمجروران بعده مُبَيِّنان، فـ "مِن يوم عرفة"، مُبَيِّنٌ للأكثرية، مما هي؟ و"من أن يعتق" مُبَيِّن للمبيَّن. انتهى
(1)
.
(مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ) بضم أوله، من الإعتاق رباعيًّا (فِيهِ عَبْدًا) زاد في رواية النسائيّ:"أو أمةً"(مِنَ النَّارِ) متعلّق بـ "يُعتق"(مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ) متعلّق بـ "أكثر"(وَإِنَّهُ لَيَدْنُو) من الدنوّ، وهو القرب.
قال القرطبيّ: قوله: "وإنه ليدنو" هذا الضمير عائدٌ إلى الله تعالى، والدنوّ دنوّ إفضال وإكرام، لا دنوّ انتقال ومكان؛ إذ يتعالى عنه، ويتقدّس. انتهى.
وقال النوويّ: قال القاضي عياض: قال المازريّ: معنى "يدنو" في هذا الحديث؛ أي: تدنو رحمته وكرامته، لا دنوّ مسافة ومماسّة، قال القاضي: يتأول فيه ما سبق في حديث النزول إلى السماء الدنيا، كما جاء في الحديث الآخر من غيظ الشيطان يوم عرفة؛ لما يرى من تنزّل الرحمة، قال القاضي:
(1)
راجع: "المرعاة" 9/ 135 - 136.
وقد يريد دنوّ الملائكة إلى الأرض، أو إلى السماء بما ينزل معهم من الرحمة، ومباهاة الملائكة بهم عن أمره سبحانه وتعالى. انتهى ما ذكره النوويّ.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي ذكروه من تأويل هذا الحديث غير صحيح، والصواب إثبات صفة الدنوّ لله سبحانه وتعالى حقيقة، على ما يليق بجلاله، وإنما أدّاهم إلى هذا التأويل السخيف قياسهم الغائب بالشاهد، فظنوا أنهم لو أثبتوا ذلك له لزم تشبيهه بخلقه، وهذا زعم باطل، فالله سبحانه وتعالى له الصفات العلى، لا تشبه الصفات، كما أن له ذات لا تشبه الذوات، فالمخلوق له ذاته، وصفاته الخاصّة به، والخالق له ذاته، وصفاته اللائقة بجلاله، ولا يلزم من هذا الإثبات تشبيه أصلًا، وقد ذكرنا غير مرّة أن مذهب السلف قاطبة في مثل هذا الحديث أن يؤمنوا به كما جاء، ويفوّضون الكيفية إلى الله تعالى، فيؤمنون بأن لله تعالى دنوًّا حقيقيًّا، على ما يليق بجلاله، وكذلك له نزول كل ليلة إلى السماء الدنيا، وأن له استواءً على العرش كما يليق به، وغير ذلك مما أثبته سبحانه وتعالى لنفسه من الصفات، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم فيما صحّ عنه من الروايات، وأن الدنوّ، والنزول، والاستواء معان معلومة لكلّ من يعرف كلام العرب، فهي ثابتة له تعالى، وإنما المجهول كيفيتها.
فالحقّ أن الله سبحانه وتعالى له الدنوّ، والنزول، والاستواء، وغيرها من الصفات الثابتة له حقيقةً، لا مجازًا، على كيفية يعلمها هو، لا نعلمها، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ) أي: يفاخرهم بهم، وقال القرطبيّ: أي يُثني عليهم عندهم، ويعظّمهم بحضرتهم، كما في الحديث الآخر:"يقول للملائكة: انظروا إلى عبادي جاءوني شُعْثًا غُبْرًا، أُشهدكم أني قد غفرت لهم"، قال: وكأن هذا -والله أعلم- تذكير للملائكة بقولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30] وإظهار لتحقيق قوله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
(1)
"المفهم" 3/ 460.
وقال في "المرعاة": "ثم يباهي بهم" أي: بالحجاج "الملائكة" قال بعضهم: أي يُظهر على الملائكة فضل الحجاج وشرفهم.
وقال التوربشتيّ: المباهاة هو المفاخرة، وهي موضوعة للمخلوقين فيما يترفعون به على أكفاءهم، وتعالى الله الملك الحقّ عن التعزز بما اخترعه ثم تعبّده، وانما هو من باب المجاز، أي: يُحِلّهم من قربه وكرامته بين أولئك الملأ مَحَلّ الشيء المباهى به، ويَحْتَمِل أن يكون ذلك في الحقيقة راجعًا إلى أهل عرفة، أي: يُنزلهم من الكرامة منه منزلة يقتضي المباهاة بينهم، وبين الملائكة، وإنما أضاف العمل إلى نفسه تحقيقًا لكون ذلك عن موهبته، والله أعلم. انتهى كلام التوربشتيّ.
قال الجامع عفا الله عنه: دعواه المجاز في المباهاة هو نظير ما سبق في تأويلهم الدنوّ، فالحقّ أن المباهاة على ظاهرها، وقد أجاد صاحب المرعاة رحمه الله حيث عقّب على كلام التوربشتيّ هذا، فقال: قلت: الحديث محمول على ظاهره، من غير تأويل، وتكييف، كما هو مذهب السلف الصالح في النزول، والعلوّ، وغيرهما من الصفات، من إمرارها على ظاهرها، وتفويض الكيفية إلى علمه سبحانه وتعالى، فالدنوّ، والمباهاة، معناهما معلوم، والكيفية مجهولة، فنقول: إنه تعالى يدنو من عباده عشية عرفة بعرفات، ويباهي بهم الملائكة كيف يشاء، فيقول: ما أراد هؤلاء؟ انتهى كلامه رحمه الله
(1)
، وهو تعقّب حسنٌ جدًّا، فتمسّك به، ولا تَمِل إلى مذهب هؤلاء المأوّلين، فإنه خطأ مبين، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(وَيَقُولُ) سبحانه وتعالى (مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟ ")"ما" استفهامية، والاستفهام هنا للتعجّب، كما في قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} الآية [الفرقان: 45].
قال القرطبيّ رحمه الله: أي إنما حملهم على ذلك حتى خرجوا من أوطانهم، وفارقوا أهاليهم، ولذّاتهم، ابتغاء مرضاتي، وامتثال أمري. انتهى
(2)
وقال القاري: قوله: (مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟) أَيْ: أَيّ شيء أراد هؤلاء حيث تركوا أهلهم، وأوطانهم، وصرفوا أموالهم، وأتعبوا أبدانهم، أي: ما أرادوا
(1)
"المرعاة" 9/ 136.
(2)
"المفهم" 3/ 461.
إلا المغفرة، والرضا، والقرب، واللقاء، ومن جاء هذا الباب لا يَخشى الرد، أو التقدير: ما أراد هؤلاء فهو حاصل لهم، ودرجاتهم على قدر مراداتهم ونيّاتهم، أو: أي شيء أراد هؤلاء؟ أي شيئًا سهلًا يسيرًا عندنا؛ إذ مغفرة الذنوب الكثيرة مثل التراب، لا يتعاظم عند رب الأرباب. انتهى
(1)
.
وقال القاضي عياض: وقد وقع الحديث في "صحيح مسلم" مختصرًا، وذكره عبد الرزاق في "مسنده" من رواية ابن عمر رضي الله عنهما: "إن الله ينزل إلى السماء الدنيا، فيباهي بهم الملائكة، يقول: هؤلاء عبادي، جاءوني شُعْثًا، غُبْرًا، يرجون رحمتي، ويخافون عذابي، ولم يروني، فكيف لو رأوني
…
" وذكر باقي الحديث.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لعل القاضي أراد بالاختصار كونه بمعناه، وإلا فلا معنى لدعوى اختصار حديث صحابيّ عن حديث صحابيّ آخر الاختصار المشهور عند المحدثين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [76/ 3289](1348)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(5/ 251) و "الكبرى"(2/ 420)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(3014)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 373)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 27)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 301)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل يوم عرفة، قال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث ظاهر الدلالة في فضل يوم عرفة، وهو كذلك، ولو قال رجل: امرأتي طالق في أفضل الأيام، فلأصحابنا وجهان: أحدهما: تطلق يوم الجمعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:
(1)
راجع: "المرقاة" 5/ 511.
"خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة"، كما سبق في "صحيح مسلم". وأصحّهما يوم عرفة؛ للحديث المذكور في هذا الباب، ويتأول حديث يوم الجمعة على أنه أفضل أيام الأسبوع. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث "خير يوم طلعت فيه الشمس
…
" أخرجه النسائيّ في "كتاب الجمعة" برقم (4/ 1373)، وقد استوفيت البحث فيه في "شرحي"، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.
2 -
(ومنها): عظيم منّ الله سبحانه وتعالى على المؤمنين، وإكرامه لهم، حيث يباهي بهم الملائكة لوقوفهم بعرفة.
3 -
(ومنها): إثبات صفة الدنوّ لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله.
4 -
(ومنها): إثبات صفة القول له تعالى أيضًا كذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3290]
(1349) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سُمَىٌّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن الحارث بن هشام المدنيّ، ثقةٌ [6](ت 130) مقتولًا بقُديد (ع) تقدم في "الصلاة" 18/ 918.
2 -
(أَبُو صَالِحٍ السَّمَّانِ) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
والباقون ذُكروا في البابين الماضيين.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 117.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه أيضًا، فنيسابوريّ.
4 -
(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه، أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ سُمَيٍّ) قال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: تفرّد سميّ بهذا الحديث، واحتاج إليه الناس فيه، فرواه عنه مالك، والسفيانان، وغيرهما، حتى إن سهيل بن أبي صالح حدّث به عن سُميّ، عن أبي صالح، فكأن سهيلًا لم يسمعه من أبيه، وتحقق بذلك تفرّد سميّ به، فهو من غرائب الصحيح. انتهى.
(عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ) أي: منتهية إلى العمرة، قال القاري: أي العمرة المنضمّة إلى العمرة، أو العمرة الموصولة، أو المنتهية إلى العمرة، وقال المناويّ: أي العمرة حال كون الزمن بعدها ينتهى إلى العمرة، فـ "إلى" للانتهاء على أصلها، وقال الباجيّ، وتبعه ابن التين: إن "إلى" يَحْتَمِل أن تكون بمعنى "مع"، كقوله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} الآية [النساء: 2]، وقوله:{مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [الصفّ: 14]، فيكون التقدير: العمرة مع العمرة مكفّرةٌ لما بينهما، فإذا كانت للغاية كان المكفّر هو العمرة الأولى، وإذا كانت بمعنى "مع" كان المكفّر العمرتين، ويدلّ للثاني حديث:"العمرتان تكفّران ما بينهما"، أخرجه البيهقيّ في "شعب الإيمان" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال المناويّ: فيه من لم أعرفهم، ولم أرهم في كتب الرجال.
وقال السنديّ رحمه الله: قيل: يَحْتَمِل أن تكون "إلى" بمعنى "مع"؛ أي: العمرة مع العمرة، أو بمعناها متعلّقة بـ "كفّارة"؛ أي: تكفّر إلى العمرة، ولازمه أنها تكفّر الذنوب المتأخّرة. انتهى.
(كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا) هذا ظاهر في فضل العمرة، وأنها مكفّرة للخطايا الواقعة بين العمرتين، قال الحافظ ابن عبد البرّ:"كفّارة لما بينهما" من الذنوب الصغائر، دون الكبائر، قال: وذهب بعض علماء عصرنا إلى تعميم ذلك، ثم بالغ في الإنكار عليه، قال الزرقانيّ: وكأنه يعني الباجيّ، فإنه قال:"ما" من ألفاظ العموم، فتقتضي من جهة اللفظ تكفير جميع ما يقع بينهما إلا ما خصّه الدليل.
واستشكل بعضهم كون العمرة كفّارة مع أن اجتناب الكبائر يكفّر، فماذا تكفّره العمرة؟
وأجيب بأن تكفير العمرة مقيّد بزمنها، وتكفير الاجتناب عامّ لجميع عُمُر العبد، فتغايرا من هذه الحيثيّة، ذكره الزرقانيّ
(1)
.
وقال العينيّ: ظاهر الحديث أن الأولى هي المكفّرة؛ لأنها التي وقع الخبر عنها أنها تكفّر، ولكن الظاهر من جهة المعنى أن العمرة الثانية هي التي تكفّر ما قبلها إلى العمرة التي قبلها، فإن التكفير قبل وقوع الذنب خلاف الظاهر. انتهى
(2)
.
وقال الأبيّ: الأظهر أن الحديث خرج مخرج الحثّ على تكرير العمرة والإكثار منها؛ لأنه إذا حُمل على غير ذلك يُشكل بما إذا اعتمر مرّة واحدة، فإنه يلزم عليه أن لا فائدة لها؛ لأن فائدتها، وهو التكفير مشروطة بفعلها ثانية؛ إلا أن يقال: لم تنحصر فائدة العبادة في تكفير السيّئات، بل يكون فيها، وفي ثبوت الحسنات، ورفع الدرجات، كما ورد في بعض الأحاديث: من فعل كذا كُتب له كذا كذا حسنة، ومحيت عنه كذا كذا سيئة، ورُفعت له كذا كذا درجة، فتكون فائدتها إذا لم تكرّر ثبوت الحسنات، ورفع الدرجات، قال: وقال شيخنا أبو عبد الله -يعني ابن عرفة-: إذا لم تكرّر كفّر بعض ما وقع بعدها، لا كلّه -والله أعلم- بقدر ذلك البعض
(3)
.
(وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ) قال ابن الأثير رحمه الله: هو الذي لا يخالطه شيء من
(1)
"شرح الزرقانيّ على الموطّأ" 2/ 268.
(2)
"عمدة القاري" 10/ 108 - 109.
(3)
"شرح الأبّيّ" 3/ 444.
المآثم، وقيل: هو المقبول الْمُقَابَلُ بالبرّ، وهو الثواب، يقال: بَرّ حجّه -بالبناء للفاعل- وبُرَّ حجّه -بالبناء للمفعول- وبرّ اللهُ حجّه وأبرّه بِرًّا بالكسر، وإبرارًا. انتهى
(1)
.
وقال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: "الحج المبرور": هو المتقبّل، وقيل: الذي لا رياء فيه، ولا سمعة، ولا رَفَث، ولا فسوق، وكانت النفقة فيه من المال الطيّب، وعن ابن عمر، قال: الحجّ المبرور إطعام الطعام، وحسن الصحبة، ورَوَى ضمرة بن ربيعة، عن ثور بن يزيد، قال: من أمّ هذا البيت، ولم يكن فيه ثلاث خصال، لم يَسلَم له حجه: من لم يكن له حِلْمٌ يضبط به جهله، ووَرَعٌ عما حرّم الله عليه، وحسن الصحبة لمن صحبه. ثم أخرج بسنده عن جابر رضي الله عنه، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما برّ الحجّ؟ قال: "إطعام الطعام، وطيب الكلام"
(2)
، قال: وذكر ابن شاهين بسنده: قال رجل للحسن: يا أبا سعيد ما الحجّ المبرور؟ قال: أن يدفع زاهدًا في الدنيا، راغبًا في الآخرة. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله باختصار
(3)
.
وقال النوويّ رحمه الله: الأصحّ الأشهر أن المبرور هو الذي لا يخالطه إثم، مأخوذ من البرّ، وهو الطاعة، وقيل: هو المقبول، ومن علامة القبول أن يرجع خيرًا مما كان، ولا يعاود المعاصي، وقيل: هو الذي لا رياء فيه، وقيل: هو الذي لا يعقبه معصية، وهما داخلان فيما قبلهما. انتهى
(4)
.
وقال في "الفتح": قال ابن خالويه: المبرور المقبول، وقال غيره: الذي لا يخالطه شيء من الإثم. ورجّحه النوويّ، وقال القرطبيّ: الأقوال التي ذُكرت في تفسيره متقاربة المعنى، وهي أنه الحجّ الذي وُفِّيَت أحكامه، ووقع موقعًا لما طُلب من المكلّف على الوجه الأكمل، وقيل: إنه يظهر بآخره، فإن
(1)
"النهاية" 1/ 117.
(2)
قال الهيثميّ رحمه الله في "مجمع الزوائد"(3/ 207): رواه الطبرانيّ في "الأوسط"، وإسناده حسن، وسيأتي تعقّبه قريبًا.
(3)
راجع: "الاستذكار" 11/ 230 - 235.
(4)
"شرح النوويّ" 9/ 122.
رجع خيرًا مما كان عُرف أنه مبرور، ولأحمد، والحاكم من حديث جابر: قالوا: يا رسول الله ما برّ الحجّ؟ قال: "إطعام الطعام، وإفشاء السلام". وفي إسناده ضعف، فلو ثبت لكان هو المتعيّن، دون غيره. انتهى بتصرّف يسير
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحديث المذكور قال الحاكم: صحيح الإسناد، وقال الذهبيّ: صحيح، وحسّن سنده المنذريّ في الترغيب، والهيثميّ في "مجمع الزوائد"، لكن الحقّ تضعيفه كما قال الحافظ؛ لأن في سند أحمد محمد بن ثابت مجمع على ضعفه، وفي سند الحاكم أيوب بن سُويد، ضعّفه الجمهور، بل قال ابن معين: يسرق الأحاديث، والله تعالى أعلم.
وقال ابن العربيّ: الحجّ المبرور هو الذي لا معصية بعده، قال الأبيّ: وهو الظاهر؛ لقوله في الحديث الآخر: "من حجّ هذا البيت، فلم يَرْفُث، ولم يفسق
…
" الحديث؛ إذ المعنى: ثم لم يفعل شيئًا من ذلك، ولهذا عطفه بالفاء المُشعرة بالتعقيب، وإذا فسّر بذلك كان الحديثان بمعنى واحد، وتفسير الحديث بالحديث أولى، ويكون الرجوع بلا ذنب كناية عن دخول الجنّة مع السابقين. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله ابن العربي، واستظهره الأبىّ هو الأرجح عندي، لكن بإبدال قوله:"بعده" بلفظ "فيه"، يعني أن الحجّ المبرور هو الذي ليس فيه رفثٌ، ولا فسوقٌ، بمعنى أنه لا معصية في حال إيقاعه، بل اجتنب فيه المحظورات الشرعية حال أدائه.
والحاصل أن معنى الحديثين واحدٌ، فيكون حديث:"من حجّ هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" تفسيرًا لمعنى قوله: "الحجّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنّة"، فإنه إذا رجع كيوم ولدته أمّه؛ أي: ليس عليه شيء من الذنوب كان من أهل الجنّة السابقين إليها من غير شكّ، والله تعالى أعلم.
(لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ) أي: ثوابٌ (إِلَّا الْجَنَّةُ") بالرفع، أو النصب، وهو نحو "ليس الطيب إلا المسك" بالرفع، فإن بني تميم يرفعونه حملًا لها على "ما" في الإهمال عند انتقاض النفي، كما حَمَل أهلُ الحجاز "ما" على "ليس" في
(1)
"الفتح" 5/ 6 - 7.
الإعمال عند استيفاء شروطها، كذا قاله ابن هشام الأنصاريّ في "مغني اللبيب".
قال النوويّ رحمه الله: "ليس له جزاء إلا الجنّة" معناه: أنه لا يقتصر لصاحبه من الجزاء على تكفير بعض ذنوبه، بل لا بدّ أن يدخل الجنّة. انتهى.
وقال السنديّ: "ليس له جزاء إلا الجنّة": أي دخولُها أوّلًا، وإلا فمطلق الدخول يكفي فيه الإيمان، وعلى هذا فهذا الحديث من أدلّة أن الحجّ تُغفر به الكبائر أيضًا؛ لحديث:"رجع كيوم ولدته أمه"، بل هذا الحديث يفيد مغفرة ما تقدّم من الذنوب، وما تأخّر، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله السنديّ رحمه الله من تكفير الحجّ المبرور جميع الذنوب كبائرها وصغائرها، هو الأرجح عندي؛ لوضوح حجته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفَقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [76/ 3290 و 3291](1349)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1773)، و (الترمذيّ) في "الحج"(933)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(5/ 112 و 115) و"الكبرى"(2/ 322)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(2888)، و (مالك) في "الموطّأ"(776)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(5/ 4)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 318)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 120)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 246 و 461 و 462)، و (الدارميّ) في "سننه"(1795)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2513)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 27)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 278 و 5/ 329 و 7/ 94)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(12/ 11)، و (الضياء) في "المختارة"(8/ 195)، و (البيهقيّ)
(1)
"شرح السندي على النسائيّ" 5/ 112.
في "الكبرى"(4/ 343 و 5/ 261) و"المعرفة"(3/ 497)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): وهو بيان فضل الحجّ المبرور.
2 -
(ومنها): بيان فضل المتابعة بين العمرتين.
3 -
(ومنها): مشروعية الاستكثار من الاعتمار؛ خلافًا لقول من قال: يكره أن يعتمر في السنة أكثر من مرّة؛ كالمالكيّة، ولمن قال: مرّة في الشهر، من غيرهم، وسيأتي الكلام عليه في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى-.
4 -
(ومنها): أن فيه إشارة إلى جواز الاعتمار قبل الحجّ، وقد ترجم الإمام البخاريّ رحمه الله على ذلك، فقال:"باب من اعتمر قبل الحجّ"، ثم أورد في الباب حديث أن عكرمة بن خالد سأل ابن عمر رضي الله عنهما عن العمرة قبل الحجّ؟ فقال: لا بأس، اعتمر النبيّ قبل أن يحجّ. انتهى.
وأخرج الإمام أحمد، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق قال: حدثنا عكرمة بن خالد بن العاصي المخزوميّ، قال: قَدِمت المدينة في نَفَر من أهل مكة، فلقيت عبد الله بن عمر، فقلت: إنا لم نَحُجّ قط، أفنعتمر من المدينة؟ قال: نعم، وما يمنعكم من ذلك؟ فقد اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عُمَره كلها قبل حجه، قال: فاعتمرنا.
قال ابن بطال رحمه الله: هذا يدلّ على أن فرض الحجّ كان قد نزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل اعتماره، ويتفرّع عليه، هل الحج على الفور أو التراخي؟ وهذا يدلّ على أنه على التراخي، قال: وكذلك أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه بفسخ الحجّ إلى العمرة دالّ على ذلك. انتهى.
قال الحافظ: وقد نوزع في ذلك؛ إذ لا يلزم من صحة تقديم أحد النسكين على الآخر نفي الفورية فيه. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: في هذا التعقّب نظر لا يخفى؛ إذ ما ذكره ابن بطّال رحمه الله من الاستدلال بما ذُكر على عدم الفوريّة واضح لا خفاء فيه، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
5 -
(ومنها): أن جعل العمرة مكفّرةً، والحجّ جزاءه الجنّة يقتضي أن الحجّ أكمل من العمرة.
6 -
(ومنها): ما قاله الإمام ابن القيّم رحمه الله: في الحديث دليل على التفريق بين الحجّ والعمرة في التكرار، إذ لو كانت العمرة كالحجّ لا يُفعَل في السنة إلا مرّة لسوّى بينهما، ولم يفرّق. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم العمرة:
وقال النوويّ رحمه الله: اختَلَف العلماء في وجوب العمرة، فمذهب الشافعيّ، والجمهور أنها واجبة، وممن قال به: عمر، وابن عمر، وابن عباس، وطاوس، وعطاء، وابن المسيب، وسعيد بن جبير، والحسن البصريّ، ومسروق، وابن سيرين، والشعبيّ، وأبو بردة بن أبي موسى، وعبد الله بن شداد، والثوريّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، وداود.
وقال مالك، وأبو حنيفة، وأبو ثور: هي سنةٌ، وليست واجبة، وحُكِي أيضًا عن النخعيّ. انتهى
(1)
.
وقال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب وجوب العمرة، وفضلها".
قال في "الفتح": وجزم المصنف بوجوب العمرة، وهو متابعٌ في ذلك للمشهور عن الشافعيّ، وأحمد، وغيرهما، من أهل الأثر، والمشهور عن المالكية أن العمرة تطوّعٌ، وهو قول الحنفية.
واستدلوا بما رواه الحجاج بن أرطاة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه: أَتَى أعرابيّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أخبرني عن العمرة، أواجبة هي؟ فقال:"لا، وأَن تعتمر خير لك"، أخرجه الترمذيّ، والحجاج ضعيف.
وقد رَوَى ابن لهيعة، عن عطاء، عن جابر، مرفوعًا:"الحج والعمرة فريضتان"، أخرجه ابن عديّ، وابن لهيعة ضعيف، ولا يثبت في هذا الباب عن جابر شيء، بل رَوَى ابن الجهم المالكيّ بإسناد حسن عن جابر رضي الله عنه:"ليس مسلم إلا عليه عمرة"، موقوفٌ على جابر رضي الله عنه.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 118.
واستدَلّ الأولون بما ذُكِر في هذا الباب، وبقول صُبَيّ بن مَعْبد لعمر رضي الله عنه:"رأيت الحج والعمرة مكتوبين عليّ، فأهللت بهما، فقال له: هُدِيت لسنة نبيك"، أخرجه أبو داود، وروى ابن خزيمة وغيره في حديث عمر، سؤال جبريل عن الإيمان، والإسلام، فوقع فيه:"وأن تحجّ، وتعتمر"، وإسناده قد أخرجه مسلم، لكن لم يسق لفظه.
وبأحاديث أُخَر غير ما ذُكِر، وبقوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]؛ أي: أقيموهما، وزعم الطحاويّ أن معنى قول ابن عمر:"العمرة واجبة"؛ أي: وجوب كفاية، ولا يخفى بُعده مع اللفظ الوارد عن ابن عمر.
وذهب ابن عباس، وعطاء، وأحمد إلى أن العمرة لا تجب على أهل مكة، وإن وجبت على غيرهم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن من ذِكر هذه الأقوال، وأدلّتها أن ما ذهب إليه الأولون من كون العمرة واجبة مطلقًا، سواء كان الشخص مكيًّا، أو آفاقيًّا هو الحقّ؛ لوضوح أدلّته، كما سبق آنفًا، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في مشروعيّة تكرار العمرة: ذهب الجمهور إلى استحباب تكرار العمرة في السنة الواحدة مرارًا، وهو المذهب الصحيح؛ للأحاديث الصحيحة الكثيرة في الترغيب في الاستكثار منها، كحديث الباب.
وذهب مالك، وأصحابه إلى أنه يُكره أن يعتمر في السنة أكثر من عمرة. وقال آخرون: لا يعتمر في شهر أكثر من عمرة.
قال الحافظ: واستدلّ لهم بأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعلها إلا من سنة إلى سنة، وأفعاله على الوجوب أو الندب.
وتُعُقّب بأن المندوب لم ينحصر في أفعاله، فقد كان يترك الشيء، وهو يستحبّ فعله لرفع المشقّة عن أمّته، وقد ندب إلى ذلك بلفظه، فثبت الاستحباب من غير تقييد. انتهى
(2)
.
(1)
"الفتح" 5/ 5 - 6.
(2)
"الفتح" 5/ 7.
وقد حقّق المسألة الإمام ابن حزم رحمه الله وردّ على القائلين بكراهة التكرار في كتابه "المحلّى"، ودونك عبارته:
[مسألة]: والحجّ لا يجوز إلا مرّة في السنة، وأما العمرة فنُحبّ الإكثار منها؛ لما ذكرنا من فضلها، فأما الحجّ فلا خلاف فيه، وأما العمرة، فإننا روينا من طريق مجاهد، قال عليّ بن أبي طالب: في كلّ شهر عمرة، وعن القاسم بن محمد أنه كره عمرتين في شهر واحد. وعن عائشة أم المؤمنين أنها اعتمرت ثلاث مرّات في عام واحد، وعن سعيد بن جبير، والحسن البصريّ، ومحمد بن سيرين، وإبراهيم النخعيّ كراهة العمرة أكثر من مرّة في السنة، وهو قول مالك، وروينا عن طاوس: إذا مضت أيام التشريق، فاعتَمِر متى شئت. وعن عكرمة: اعتَمِرْ متى أمكنك الموسَى، وعن عطاء إجازة العمرة مرّتين في الشهر، وعن ابن عمر أنه اعتمر مرّتين في عام واحد مرّة في رجب، ومرّةً في شوّال، وعن أنس بن مالك أنه أقام مدّة بمكّة، فكلما جمّ رأسه خرج فاعتمر، وهو قول الشافعيّ، وأبي حنيفة، وأبي سليمان -يعني داود الظاهريّ- وبه نأخذ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعمر عائشة مرّتين في الشهر الواحد، ولم يكره صلى الله عليه وسلم ذلك، بل حضّ عليها، وأخبر أنها تكفّر ما بينها، وبين العمرة الثانية فالإكثار منها أفضل، وبالله تعالى التوفيق.
واحتجّ من كَره ذلك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في عام إلا مرّة واحدة. قلنا: لا حجة في هذا؛ لأنه إنما يُكره ما حَضَّ على تركه، وهو عليه السلام لم يحجّ مذ هاجر إلا حجة واحدة، ولا اعتمر مذ هاجر إلا ثلاث عُمَر، فيلزمكم أن تكرهوا الحجّ إلا مرّة في العمر، وأن تكرهوا العُمَر إلا ثلاث مرّات في الدهر، وهذا خلاف قولكم، وقد صحّ أنه كان عليه السلام يترك العمل، وهو يحبّ أن يعمل به، مخافة أن يشقّ على أمته، أو أن يُفْرَضَ عليهم.
والعجب أنهم يستحبّون أن يصوم المرء أكثر من نصف الدهر، وأن يقوم أكثر من ثلث الليل، وقد صحّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصم قط شهرًا كاملًا، ولا أكثر من نصف الدهر، ولا قام بأكثر من ثلاث عشرة ركعة، ولا أكثر من ثلث الليل، فلم يروا فعله عليه السلام ههنا حجة في كراهة ما زاد على صحّة نهيه عن الزيادة في الصوم، ومقدار ما يقام من الليل على أكثر من ذلك، وجعلوا
فعله عليه السلام في أنه لم يعتمر في العام إلا مرّة مع حضّه على العمرة، والإكثار منها حجة في كراهة الزيادة على عمرة من العام، وهذا عجبٌ جدًّا. انتهى كلام ابن حزم رحمه الله، وهو بَحْثٌ نفيسٌ جدًّا.
والحاصل أن الحقّ قول من قال بمشروعيّة تكرار العمرة؛ لوضوح حجته، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): في أقوال أهل العلم في وقت العمرة:
قال النوويّ رحمه الله: واعلم أن جميع السنة وقت للعمرة، فتصحّ في كلّ وقت منها، إلا في حقّ من هو متلبّسٌ بالحجّ، فلا يصحّ اعتماره حتى يفرغ من الحجّ، ولا تكره عندنا لغير الحاجّ في يوم عرفة، والأضحى، والتشريق، وسائر السنة، وبهذا قال مالك، وأحمد، وجماهير العلماء.
وقال أبو حنيفة: تُكره في خمسة أيام: يوم عرفة، والنحر، وأيام التشريق، وقال أبو يوسف: تكره في أربعة أيام: وهي عرفة، والتشريق. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال الحافظ رحمه الله: واتفقوا على جوازها في جميع الأيام لمن لم يكن متلبّسًا بأعمال الحجّ، إلا ما نُقل عن الحنفيّة أنه يكره في يوم عرفة، ويوم النحر، وأيّام التشريق، ونقل الأثرم عن أحمد: إذا اعتَمَر فلا بدّ أن يحلق، أو يقصّر، فلا يعتمر بعد ذلك إلى عشرة أيام؛ ليتمكّن من حلق الرأس فيها، قال ابن قُدامة: هذا يدلّ على كراهة الاعتمار عنده في دون عشرة أيام. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي في استثناء الأيام التي ذكروا أن العمرة تُكره فيها نَظَرٌ، فالذي يظهر أنها تجوز في كلّ أيام السنة؛ إذ لا نصّ، ولا إجماع في استثناء بعض الأيام المذكورة، حتى نعتمد عليه في كراهتها فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 118.
(2)
"الفتح" 5/ 7.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3291]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْأُمَوِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ، عَنْ سُهَيْلٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنِى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، جَمِيعًا عَنْ سُفْيَانَ، كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكٍ).
رجال هذا الإسناد: تسعة عشر:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ) تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل بابين.
3 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو عمرو بن محمد بن بكير البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.
4 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل بابين.
5 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم قريبًا.
6 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْأُمَوِيُّ) هو: محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب الأمويّ البصريّ، صدوقٌ، من كبار [10](ت 244)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 96/ 516.
7 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ) الدبّاغ البصريّ، مولى حفصة بنت سيرين، ثقةٌ [7](ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 14/ 1674.
8 -
(سُهَيْلُ) بن أبي صالح، تقدّم قريبًا.
9 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، تقدّم أيضًا قريبًا.
10 -
(أَبُوهُ) عبد الله بن نمير، تقدّم أيضًا قريبًا.
11 -
(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر الْعُمريّ، تقدّم قبل بابين.
12 -
(أَبو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قريبًا.
13 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم أيضًا قريبًا.
14 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم أيضًا قريبًا.
15 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن مهديّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
16 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (جَمِيعًا عَنْ سُفْيَانَ) أي: أن كلًّا من وكيع وعبد الرحمن بن مهدي رويا عن سفيان الثوريّ.
وقوله: (كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ سُمَيٍّ) الإشارة إلى كلّ من ابن عيينة، وسهيل بن أبي صالح، وعبيد الله العمريّ، وسفيان الثوريّ، روى أربعتهم عن سُميّ.
[تنبيه]: أما رواية سفيان بن عيينة، عن سُميّ، فساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه" (3/ 120) فقال:
(12639)
- حدّثنا أبو بكر
(1)
، قال: حدثنا ابن عُيَيْنَةَ، عن سُمَىٍّ، عن أبي صَالِحٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ، قال: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ ليس له جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ". انتهى.
وأما رواية عبيد الله العمريّ، عن سُميّ، فساقها ابن خزيمة رحمه الله في "صحيحه" (4/ 359) فقال:
(3072)
- ثنا عليّ بن المنذر، ثنا ابن نمير
(2)
، عن عبيد الله، عن سُميّ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"العمرة إلى العمرة كفارة لِما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة". انتهى.
وأما رواية سفيان الثوريّ، عن سُميّ، فساقها الترمذيّ في "جامعه" (4/ 11) فقال:
(855)
- حدّثنا أبو كريب، حدّثنا وكيع، عن سفيان، عن سُميّ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العمرة إلى العمرة تكفّر ما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"، قال الترمذيّ: هذا حديث حسن صحيح. انتهى.
(1)
هو ابن أبي شيبة.
(2)
هو عبد الله والد محمد.
وأما رواية سهيل بن أبي صالح، عن سُميّ، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3292]
(1350) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَتَى هَذَا الْبَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ").
رجال الإسناد: سبعة:
1 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم قريبًا.
2 -
(مَنْصُورُ) بن المعتمر السلميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [6](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 296.
3 -
(أَبُو حَازِمٍ) سلمان الأشجعيّ الكوفيّ، ثقةٌ [3](ت 100)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.
والباقون ذُكروا قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له أبو داود، وابن ماجه، والثاني ما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أن فيه الإخبارَ والتحديثَ والعنعنة، وكلها من صيغ الإتصال على الأصح في "عن" من غير المدلس، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قال في "الفتح": صرّح منصور بسماعه له عن أبي حازم في رواية شعبة، فانتفى بذلك تعليل من أعلّه بالاختلاف على منصور؛ لأن البيهقيّ أورده من طريق إبراهيم بن طهمان، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي حازم، زاد فيه رجلًا، فإن كان إبراهيم حفظه، فلعلّه حمله منصور عن هلال،
ثمّ لقي أبا حازم، فسمعه منه، فحدّث به على الوجهين، وصرّح أبو حازم بسماعه له من أبي هريرة عند البخاريّ من طريق شعبة. انتهى. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَتَى هَذَا الْبَيْتَ) وفي رواية للبخاريّ من طريق الثوريّ، عن منصور: "مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ" في رواية له من طريق سيّار، عن أبي حازم: "من حجّ لله"؛ أي: لابتغاء وجه الله تعالى، والمراد به الإخلاص.
ورواية مسلم هذه بلفظ: "من أتى هذا البيت"، تشمل الحجّ والعمرة، وقد أخرجه الدارقطنيّ من طريق الأعمش، عن أبي حازم، بلفظ:"من حجّ، أو اعتمر"، لكن في الإسناد إلى الأعمش ضعف، قاله في "الفتح".
وقال في موضع آخر: ويَجوز حمل لفظ "حجّ" على ما هو أعمّ من الحجّ والعمرة، فتساوي رواية "من أتى" من حيث إن الغالب أن إتيانه إنما هو للحجّ، أو العمرة. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أنه لا تَساوي بين الحجّ والعمرة في هذا الفضل، فالأَولى حمل رواية "من أتى" على رواية "من حجّ"، فيكون المعنى: من أتى هذا البيت للحجّ، والدليل على ذلك التفريق الذي تقدّم في حديث:"العمرةُ إلى العمرة كفّارة لما بينهما، والحجّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنّة"، فهذا التفريق يرشد إلى زيادة فضل الحجّ على العمرة، فتأمّل، والله تعالى أعلم.
(فَلَمْ يَرْفُثْ) بتثليث الفاء في الماضي، والضمّ، والفتح في المضارع، والرفث: الجماع، ويُطلق على التعريض به، وعلى الفحش من القول، وقال الأزهريّ: الرفث اسم جامع لكلّ ما يريده الرجل من المرأة، وكان ابن عمر يخصّه بما خوطب به النساء، وقال عياض: هذا من قول الله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ} [البقرة: 193]، والجمهور على أن المراد به في الآية الجماع. انتهى.
قال الحافظ: والذي يظهر أن المراد به في الحديث ما هو أعمّ من ذلك، وإليه نحا القرطبيّ، وهو المراد بقوله في "الصيام":"فإذا كان صوم أحدكم، فلا يرفث". انتهى
(1)
.
وفي "المصباح": رَفَث في منطقه رَفْثًا، من باب طلب، ويَرْفِث بالكسر لغة: أفحش فيه، أو صرّح بما يُكْنَى عنه من ذكر النكاح، وأرفث بالألف لغة، والرفث: النكاح، فقوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} [البقرة: 186] المراد الجماع، وقوله تعالى:{فَلَا رَفَثَ} قيل: فلا جماع، وقيل: فلا فُحش من القول، وقيل: الرفث يكون في الفرج بالجماع، وفي العين بالغمز للجماع، وفي اللسان للمواعدة به. انتهى
(2)
.
وفي "القاموس": الرفَثُ محرّكة: الجماع، والفحش، كالرُّفُوث، وكلام النساء في الجماع، أو ما وُوجِهنَ به من الفحش، وقد رَفُث، كنَصَر، وفَرِحَ، وكَرُم، وأرفث. انتهى
(3)
.
فيستفاد من عبارة "القاموس" أن ماضيه مثلث العين، ومضارعه فيه الضمّ، والفتح فقط. فقول الحافظ في "الفتح": فاء الرفث مثلّثة في الماضي والمضارع، والأفصح الفتح في الماضي، والضمّ في المستقبل، ففيه نظر، فتأمل، والله تعالى أعلم.
(وَلَمْ يَفْسُقْ) أي: لم يأت بسيّئة، ولا معصية، وأغرب ابن الأعرابيّ، فقال: إن لفظ الفسق لم يُسمع في الجاهليّة، ولا في أشعارهم، وإنما هو إسلاميّ، وتُعُقّب بأنه كثُر استعماله في القرآن، وحكايته عمّن قبل الإسلام، وقال غيره: أصله: انفسقت الرُّطَبَة: إذا خرجت، فسمّي الخارج عن الطاعة فاسقًا، قاله في "الفتح"
(4)
.
وقال في "القاموس": الفِسْق بالكسر: الترك لأمر الله تعالى، والعصيان، والخروج عن طريق الحقّ، أو الفجور؛ كالفسوق، فَسُق، كنصر، وضرب، وكرم، فِسقًا، وفسوقًا، وإنه لفسق: خروج عن الحقّ، وفَسَقَ عن أمر ربّه:
(1)
"الفتح" 4/ 390.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 232.
(3)
"القاموس المحيط" 1/ 167.
(4)
"الفتح" 4/ 391.
جار، والرُّطَبَة عن قشرها: خرجت، كانفسقت، قيل: ومنه الفاسق؛ لانسلاخه عن الخير، والفويسقة: الفأرة؛ لخروجها من جُحْرها على الناس. انتهى
(1)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: الرفث التصريح بذكر الجماع، والإعراب به، وقال الأزهريّ: هو كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة، وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى:{فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]: الرفث إتيان النساء، والفسوقُ السباب، والجدال المراء، يعني مع الرفقاء، والخَدَم والْمُكَارِين، وإنما لم يُذكر الجدال في الحديث؛ اعتمادًا على الآية، والفاء في "فلم يرفث" معطوف على الشرط، وجوابه "رجع"؛ أي: صار، والجارّ والمجرور خبرٌ، ويجوز أن يكون حالًا؛ أي: رجع مشابهًا لنفسه في البراءة من الذنوب في يوم ولدته أمه. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله
(2)
.
وإنما صرّح بنفي الفسق في الحجّ، مع كونه ممنوعًا في كلّ حال، وفي كلّ حين؛ لزيادة التقبيح، والتشنيع، ولزيادة تأكيد النهي عنه في الحجّ، وللتنبيه على أن الحجّ أبعد الأعمال عن الفسق، والله تعالى أعلم.
(رَجَعَ) أي: صار، أو رجع من ذنوبه، أو حجته، أو فرغ من أعمال الحجّ، وحَملُهُ على معنى رجع إلى بيته بعيد، قاله السنديّ رحمه الله (كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ")"ما" مصدريّة، فيكون المعنى على حذف مضاف؛ أي: كحال ولادة أمه له، يعني أنه لا شيء عليه من الذنوب، وفي رواية البخاريّ:"رجع كيوم ولدته أمه"، وفي رواية أحمد، والدارقطنيّ:"رجع كهيئته يوم ولدته أمه"؛ أي: بغير ذنب مشابهًا لنفسه يوم ولدته أمه، إذ لا معنى لتشبيه الشخص باليوم، أفاده السنديّ.
وظاهر الحديث غفران الصغائر والكبائر، والتَّبِعَات، وهو من أقوى الشواهد لحديث العبّاس بن مِرْداس رضي الله عنه المصرّح بذلك، وله شاهد من حديث ابن عمر في "تفسير الطبريّ"، وإليه ذهب القرطبيّ، وعياضٌ، لكن قال الطبريّ: هو محمول بالنسبة إلى المظالم على من تاب، وعجز عن وفائها.
(1)
"القاموس المحيط" 3/ 276.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1938 - 1939.
وقوله: "فلم يرفث"، والواو في قوله:"ولم يفسق" عطف على الشرط في قوله: "من أتى"، وجوابه "رجع"، والجارّ والمجرور خبر له، ويَحْتَمِل أن يكون حالًا؛ أي: صار مشابهًا لنفسه في البراءة عن الذنوب في يوم ولدته أمه.
وقوله: "كيومِ ولدته" يجوز بناء "يومَ" على الفتح؛ لإضافته إلى جملة، ويجوز إعرابه، فيكون مجرورًا بالكسرة، كما قال ابن مالك في "خلاصته":
وَابْنِ أَوَ اعْرِبْ مَا كَـ "إِذْ" قَدْ أُجْرِيَا
…
وَاخْتَرْ بِنَا مَتْلُوِّ فِعْلٍ بُنِيَا
وَقَبْلَ فِعْلٍ مُعْرَبٍ أَوْ مُبْتَدَا
…
أَعْرِبْ وَمَنْ بَنَى فَلَنْ يُفَنَّدَا
قال الحافظ رحمه الله: وذكر لنا بعض الناس أن الطيبيّ
(1)
أفاد أن الحديث إنما لم يُذكر فيه الجدال كما ذُكر في الآية على طريقة الاكتفاء بذكر البعض، وترك ما دلّ عليه ما ذُكر، ويَحْتَمِل أن يقال: إن ذلك يختلف بالقصد؛ لأن وجوده لا يؤثّر في ترك مغفرة ذنوب الحاجّ إذا كان المراد به المجادلة في أحكام الحجّ فيما يظهر من الأدلّة، أو المجادلة بطريق التعميم، فلا يؤثّر أيضًا، فإن الفاحش منها داخل في عموم الرفث، والحسن منها ظاهر في عدم التأثير، والمستوي الطرفين لا يؤثّر أيضًا. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [76/ 3292 و 3293 و 3294](1350)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1521) و"المحصر"(1819 و 1820)، و (الترمذيّ) في "الحجّ"(811)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(5/ 114) و"الكبرى"(2/ 321)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(2889)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(8800)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2519)، و (الحميديّ) في "مسنده"
(1)
تقدّم قريبًا نقل كلام الطيبيّ، فلا تنس.
(2)
"الفتح" 4/ 391.
(1004)
، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 120)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 484 و 494)، و (الدارميّ) في "سننه"(1796)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2514)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3694)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 29)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 238 و 257)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(926 و 1809 و 1910)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(3724)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 284)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 262)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1841) و"التفسير"(1/ 173)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل الحجّ.
2 -
(ومنها): بيان أن الحجّ المستوفي للشروط المذكورة في هذا الحديث مكفّرٌ للذنوب، كبائرها، وصغائرها.
3 -
(ومنها): أن الفسوق، وإن كانت ممنوعة في جميع حالات العبد، إلا أن ذلك يتأكّد في حالة الحجّ.
4 -
(ومنها): أن فيه الحثّ على عناية الحاجّ في تخليص حجه عما يشينه من هذه الأمور المذكورة.
5 -
(ومنها): بيان شؤم الذنوب والمعاصي حيث إنها تنقص الأعمال الصالحة، وتجعلها قليلة الفائدة، بل ربما أبطلتها، فينبغي العناية بالابتعاد عنها، وإن بدرت بادرة بادر إلى التوبة منها، والرجوع واللجوء إلى الله سبحانه وتعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3293]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، وَأَبِي الْأَحْوَصِ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ مِسْعَرٍ، وَسُفْيَانَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ مَنْصُورٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَفِي حَدِيثِهِمْ جَمِيعًا:"مَنْ حَجَّ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ").
رجال هذا الإسناد: أحد عشر:
1 -
(أَبُو عَوَانَةَ) وضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ الْبَزّاز، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
2 -
(أَبُو الْأَحْوَصِ) سلّام بن سُليم الْحَنَفيّ الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ صاحب حديث [7](179)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.
3 -
(مِسْعَرُ) بن كِدام بن ظُهير الهلاليّ، أبو سلمة الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [7](ت 3 أو 155)(ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 31.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غندر، أبو عبد الله البصريّ، تقدّم قريبًا.
5 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام المشهور، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ مَنْصُورٍ) يعني أن كلًّا من أبي عوانة، وأبي الأحوص، ومسعر، وسفيان الثوريّ، وشعبة، كلّ هؤلاء الخمسة رووا هذا الحديث عن منصور بن المعتمر.
[تنبيه]: رواية أبي عوانة، وأبي الأحوص كليهما عن منصور، لم أجد من ساقها، فليُنظر.
وأما رواية وكيع عن مسعر، وسفيان فقد ساقها أبو بكر بن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه" (3/ 120) فقال:
(12640)
- حدّثنا أبو بكر، قال: حدّثنا وَكِيعٌ، قال: حدّثنا مِسْعَرٌ، وَسُفْيَانُ، عن مَنْصُورٍ، عن أبي حَازِمٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حج، فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كما ولدته أمه". انتهى.
وأما رواية شعبة، عن منصور، فقد ساقها الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في "مسنده" (2/ 410) فقال:
(9302)
- حدّثنا عبد اللهِ، حدّثني أبي، ثنا محمد بن جَعْفَرٍ، قال: ثنا شُعْبَةُ، عن سَيَّارٍ، عن أبي حَازِمٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ قال: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "من حَجَّ هذا الْبَيْتَ، فلم يَرْفُثْ، ولم يَفْسُقْ، رَجَعَ كما وَلَدَتْهُ أُمُّهُ". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3294]
(
…
) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ سَيَّارٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(هُشَيْمُ) بن بشير الواسطيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(سَيَّارٌ) أبو الحكم الْعَنَزيّ الواسطيّ، ويقال: البصريّ، واسم أبيه وَرْدان، وقيل: ورد، وقيل غير ذلك، ثقةٌ [6](ت 122)(ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: رواية سيّار، عن أبي حازم ساقها البخاريّ رحمه الله، فقال:
(1449)
- حدّثنا آدَمُ، حدّثنا شُعْبَةُ، حدّثنا سَيَّارٌ أبو الْحَكَم، قال: سمعت أَبَا حَازِمٍ، قال: سمعت أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "من حَجَّ للهِ، فلم يَرْفُثْ، ولم يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(77) - (بَابُ نُزُولِ الْحَاجِّ بِمَكَّةَ، وَتَوْرِيثِ دُورِهَا)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3295]
(1351) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَن ابْنِ شِهَابٍ؛ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ حُسَيْنٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَخْبَرَهُ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، أنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَتَنْزِلُ فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ؟ فَقَالَ: "وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ، أَوْ دُورٍ؟ ". وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ، هُوَ وَطَالِبٌ، وَلَمْ يَرِثْهُ جَعْفَرٌ، وَلَا عَلِيٌّ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَكَانَ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن السرح المصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنِ) بن عليّ بن أبي طالب الهاشميّ، زين العابدين المدنيّ، ثقة ثبتٌ فقيهٌ عابدٌ فاضلٌ مشهور [3](ت 93) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 30/ 1818.
3 -
(عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ) بن العاص الأمويّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقة [3](ع) تقدم في "الجنائز" 9/ 2149.
4 -
(أُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ) بن شَرَاحيل الكلبيّ الأمير، أبو محمد، وأبو زيد الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بالمدينة سنة (54) وهو ابن (75) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 284.
والباقون تقدّموا قبل باب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما لما مرّ غير مرّة.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من ابن شهاب، والباقون مصريّون.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض.
5 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث، والإخبار، سوى موضع واحد.
6 -
(ومنها): أن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن حبّه.
شرح الحديث:
(عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ) رضي الله عنهما (أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَتَنْزِلُ فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ؟) وفي الرواية التالية: "أين تَنْزِل غَدًا؟ وذلك في حجته حين دنونا
من مكة"، قال في "الفتح": ظاهر هذه القصة أن ذلك كان حين أراد في دخول مكة، ويزيده وضوحًا رواية زَمْعة بن صالح، عن الزهريّ، بلفظ: "لما كان يومُ الفتح قبل أن يدخل النبيّ صلى الله عليه وسلم مكة قيل: أين تنزل؟ أفي بيوتكم؟ .. " الحديث، وروى عليّ ابن المدينيّ، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن عليّ بن حسين، قال: قيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة: أين تنزل؟ قال: "وهل ترك لنا عقيل من طَلّ؟ "، قال علي ابن المدينيّ: ما أشكّ أن محمد بن عليّ بن الحسين أخذ هذا الحديث عن أبيه، لكن في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك حين أراد أن ينفر من منى، فَيُحْمَل على تعدد القصة. انتهى
(1)
.
وقوله: (فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ؟) قال القاضي عياض رحمه الله: لعله أضاف الدار إليه صلى الله عليه وسلم؛ لسكناه إياها مع أن أصله كان لأبي طالب؛ لأنه الذي كفله، ولأنه أكبر ولد عبد المطلب، فاحتوى على أملاك عبد المطلب، وحازها وحده؛ لسنّه على عادة الجاهلية، قال: ويَحْتَمِل أن يكون عَقِيل باع جميعها، وأخرجها عن أملاكهم، كما فعل أبو سفيان وغيره بدور من هاجر من المؤمنين، قال الداوديّ: فباع عَقيل جميع ما كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ولمن هاجر من بني عبد المطلب. انتهى
(2)
.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ) بفتح، فكسر، هو عَقِيل بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم الهاشميّ، أبو يزيد، وقيل: أبو عيسى، أسلم قبل الحديبية، وشَهِد غزوة مؤتة، وكان أسنّ من جعفر بعشر سنين، وكان جعفر أسنّ من عليّ بعشر سنين، وكان عَقِيل من أنسب قريش وأعلمهم بأيامها، روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه محمد، وحفيده عبد الله بن محمد بن عَقِيل، وعطاء، وأبو صالح السمان، وموسى بن طلحة، والحسن البصريّ ومالك بن أبي عامر الأصبحيّ.
(1)
"الفتح" 4/ 502.
(2)
راجع: "شرح النوويّ" 9/ 120.
قال ابن سعد: قالوا: مات في خلافة معاوية بعدما عَمِي، وفي تاريخ البخاري الأصغر بسند صحيح أنه مات في أول خلافة يزيد بن معاوية قبل وَقْعة الحرّة، وقال ابن سعد: خرج عَقِيل مهاجرًا في أول سنة ثمان، فشَهِد مؤتة، ثم رجع، فعَرَض له مرض، فلم يُسْمَع له بخبر، لا في فتح مكة، ولا حُنين، ولا الطائف، وله عَقِب.
قال الحافظ: وفيما قال نظرٌ، فقد رَوَى الزبير بن بكار، من طريق الحسين بن عليّ قال: كان ممن ثبت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم حُنين: العباس، وعليّ، وعَقِيل، وسَمَّى جماعةً. انتهى.
أخرج له النسائيّ، وابن ماجه، وليس له عند غيرهما إلا مجرّد الذكر.
(مِنْ رِبَاعٍ) بكسر الراء: جمع رَبْع، بفتح الراء، وسكون الموحدة، وهو المنزل المشتمِل على أبيات، وقيل: هو الدار، فعلى هذا فقوله:(أَوْ دُورٍ؟ ") إما للتأكيد، أو من شك الراوي، وفي رواية محمد بن أبي حفصة:"من منزل"، وأخرج هذا الحديث الفاكهي من طريق محمد بن أبي حفصة، وقال في آخره:"ويقال: إن الدار التي أشار إليها كانت دار هاشم بن عبد مناف، ثم صارت لعبد المطلب ابنه، فقسمها بين ولده حين عُمِّر، فمن ثَمّ صار للنبيّ صلى الله عليه وسلم حَقُّ أبيه عبد الله، وفيها وُلد النبيّ صلى الله عليه وسلم"
(1)
.
وقوله: (وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ) قال في "العمدة": إدراج من بعض الرواة، ولعله من أسامة، كذا قال الكرَمانيّ
(2)
، وقوله:(هُوَ) أُتي؛ ليعطف قوله: "وطالبٌ" على الضمير المتّصل في "وَرِثَ"، وإن كان الفصل حصل بالمفعول، قال في "الخلاصة":
وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ
…
عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ
أَوْ فَاصِلٍ مَّا وَبِلَا فَصْلٍ يَرِدْ
…
فِي النَّظْمِ فَاشِيًا وَضُعْفَهُ اعْتَقِدْ
(1)
"الفتح" 4/ 503.
(2)
"عمدة القاري" 9/ 227.
(وَطَالِبٌ، وَلَمْ يَرِثْهُ جَعْفَرٌ، وَلَا عَلِيٌّ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَكَانَ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ) مُحَصَّل هذه القصّة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما هاجر استولى عَقِيل وطالب على الدار كلها، باعتبار ما ورثاه من أبيهما؛ لكونهما كانا لم يُسلما، وباعتبار ترك النبيّ صلى الله عليه وسلم لحقّه منها بالهجرة، وفُقِد طالب ببدر، فباع عَقِيل الدار كلها.
وحَكَى الفاكهيّ أن الدار لم تَزَل بأولاد عَقيل إلى أن باعوها لمحمد بن يوسف أخي الحجاج بمائة ألف دينار، وزاد في روايته من طريق محمد بن أبي حفصة: فكان عليّ بن الحسين يقول: من أجل ذلك تركنا نصيبنا من الشِّعْب؛ أي: حصة جدّهم عليّ من أبيه أبي طالب.
وقال الداوديّ وغيره: كان من هاجر من المؤمنين باع قريبه الكافر داره، وأمضى النبيّ صلى الله عليه وسلم تصرفات الجاهلية؛ تأليفًا لقلوب من أسلم منهم.
وقال الخطابيّ: وعندي أن تلك الدار إن كانت قائمة على ملك عَقِيل، فإنما لم ينزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها دُور هجروها في الله تعالى، فلم يرجعوا فيما تركوه.
وتُعُقّب بأن سياق الحديث يقتضي أن عَقيلًا باعها، ومفهومه أنه لو تركها لنزلها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [77/ 3295 و 3296 و 3297](1351)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1588 و 3058 و 4282)، و (أبو داود) في "سننه"(2010 و 2909 و 2910)، و (الترمذيّ) في "جامعه"(2107)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 480)، و (ابن ماجه)(2729 و 2730 و 2942)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(6/ 14)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 200 و 201 و 202)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2985)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 436)، و (أبو
نعيم) في "مستخرجه"(4/ 29 - 30)، و (الدارقطني) في "سننه"(3/ 62)، و (الحاكم) في "مستدركه"(2/ 658)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 160 و 6/ 218) و"المعرفة"(4/ 427)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن دور مكة تورّث لأهلها.
2 -
(ومنها): بيان جواز بيع دور مكة وإجارتها، وبهذا احتجّ الشافعيّ رحمه الله على ذلك.
3 -
(ومنها): بيان أن المسلم لا يرث الكافر، وعلى ذلك كافّة فقهاء الأمصار، إلَّا ما حُكي عن معاوية، ومعاذ، والحسن البصريّ، وإبراهيم النخعيّ، وإسحاق؛ أن المسلم يرث الكافر، وأجمعوا على أن الكافر لا يرث المسلم، قاله في "العمدة"
(1)
. وسيأتي تحقيق ذلك مستوفًى في محلّه من كتاب الفرائض -إن شاء الله تعالى-.
4 -
(ومنها): بيان أن مكة فُتحت صلحًا، فدُورها مِلْكٌ لأهلها، وفي ذلك خلاف سيأتي في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم دُور مكة:
قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب توريث دُور مكة، وبيعها، وشرائها، وأن الناس في المسجد الحرام سواءٌ خاصّةً؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)} [الحج: 25] "، ثم أخرج حديث أسامة رضي الله عنه المذكور هنا، محتجًّا على ما ترجم به.
قال في "الفتح": أشار بهذه الترجمة إلى تضعيف حديث علقمة بن نَضْلة قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وما تُدْعَى رباع مكة إلا السوائب، من احتاج سكن. أخرجه ابن ماجه، وفي إسناده انقطاع، وإرسال.
(1)
"عمدة القاري" 9/ 228.
وقال بظاهره: ابن عمر، ومجاهد، وعطاء، قال عبد الرزاق عن ابن جريج: كان عطاء يَنْهَى عن الكراء في الحرم، فأخبرني أن عمر نَهَى أن تُبَوَّب دُور مكة؛ لأنها ينزل الحاج في عرصاتها، فكان أول من بَوَّب داره سهيل بن عمرو، واعتَذَر عن ذلك لعمر.
وروى الطحاويّ من طريق إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، أنه قال: مكة مباح لا يحل بيع رباعها، ولا إجارة بيوتها.
وروى عبد الرزاق، من طريق إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عمر: لا يحل بيع بيوت مكة، ولا إجارتها.
وبه قال الثوريّ، وأبو حنيفة، وخالفه صاحبه أبو يوسف، واختُلِف عن محمد، وبالجواز قال الجمهور، واختاره الطحاويّ.
ويجاب عن حديث علقمة على تقدير صحته بِحمله على ما سيُجمع به ما اختُلف عن عمر في ذلك.
واحتَجّ الشافعيّ بحديث أسامة المذكور في هذا الباب، قال الشافعيّ: فأضاف الملك إليه، وإلى من ابتاعها منه، وبقوله صلى الله عليه وسلم عام الفتح:"من دخل دار أبي سفيان، فهو آمن"، فأضاف الدار إليه.
واحتَجّ ابنُ خزيمة بقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} الآية [الحشر: 8]، فنَسب الله الديار إليهم، كما نسب الأموال إليهم، ولو كانت الديار ليست بملك لهم لما كانوا مظلومين في الإخراج من دُور ليست بملك لهم، قال: ولو كانت الدور التي باعها عَقِيل لا تُملك لكان جعفر وعليّ أولى بها؛ إذ كانا مسلمين دونه.
وثبت أن عمر اشترى دارًا للسجن بمكة، ولا يعارض ما جاء عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر أنه كان ينهى أن تُغْلَق دُور مكة في زمن الحج، أخرجه عبد بن حميد، وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن منصور، عن مجاهد: أن عمر قال: يا أهل مكة لا تتخذوا لدُوركم أبوابًا؛ لينزل البادي حيث شاء.
ويُجمع بينهما بكراهة الكراء رفقًا بالوفود، ولا يلزم من ذلك منع البيع والشراء، وإلى هذا جنح الإمام أحمد، وآخرون، واختُلف عن مالك في ذلك،
قال القاضي إسماعيل: ظاهر القران يدلّ على أن المراد به المسجد الذي يكون فيه النسك والصلاة، لا سائر دور مكة، وقال الأبهريّ: لم يَختلف قول مالك وأصحابه في أن مكة فُتحت عنوةً، واختلفوا هل مَنّ بها على أهلها؛ لعظم حرمتها، أو أُقِرّت للمسلمين؟ ومن ثم جاء الاختلاف في بيع دورها، والكراء، والراجح عند من قال: إنها فُتحت عنوةً أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم مَنّ بها على أهلها، فخالفت حكم غيرها من البلاد في ذلك. ذكره السهيليّ وغيره.
وليس الاختلاف في ذلك ناشئًا عن هذه المسألة، فقد اختَلَف أهل التأويل في المراد بقوله هنا:{الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} هل هو الحرم كله، أو مكان الصلاة فقط؟ واختلفوا أيضًا هل المراد بقوله:{سُوءٍ} في الأمن والاحترام، أو فيما هو أعمّ من ذلك؟ وبواسطة ذلك نشأ الاختلاف المذكور أيضًا.
قال ابن خزيمة: لو كان المراد بقوله تعالى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} جميع الحرم، وأن اسم المسجد الحرام واقع على جميع الحرم، لما جاز حفر بئر، ولا قبر، ولا التغوط، ولا البول، ولا إلقاء الجيف والنتن، قال: ولا نعلم عالمًا مَنَع من ذلك، ولا كَرِه لحائض، ولا لجُنب دخول الحرم، ولا الجماع فيه، ولو كان كذلك لجاز الاعتكاف في دور مكة، وحوانيتها، ولا يقول بذلك أحدٌ، والله أعلم.
قال الحافظ: والقول بأن المراد بالمسجد الحرام: الحرم كله وَرَدَ عن ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، أخرجه ابن أبي حاتم وغيره عنهم، والأسانيد بذلك كلها إليهم ضعيفة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من ذكر أقوال أهل العلم في هذه المسألة، وبيان أدلّتهم أن أرجح الأقوال قول الشافعيّ، ومن تبعه، وهو قول البخاريّ أن دور مكة مِلْكٌ لأهلها، يجوز توريثها، وبيعها، وإجارتها؛ لوضوح علّته، كما علمته آنفًا، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"الفتح" 4/ 500 - 502.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3296]
(
…
) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الرَّازِيُّ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، جَمِيعًا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، قَالَ ابْنُ مِهْرَانَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَن الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا؟ وَذَلِكَ فِي حَجَّتِهِ، حِينَ دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ، فَقَالَ: "وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مَنْزِلًا؟ ").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الرَّازِيُّ) أبو جعفر الجمّال، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 239) أو قبلها (خ م د) تقدم في "الإيمان" 26/ 212.
2 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسيّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(مَعْمَرُ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3297]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، وَزَمْعَةُ بْنُ صَالِحٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا إِنْ شَاءَ اللهُ؟ وَذَلِكَ زَمَنَ الْفَتْحِ، قَالَ: "وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ مَنْزِلٍ؟ ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم) تقدّم قريبًا.
2 -
(رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ) القيسيّ، أبو محمد البصريّ، ثقة فاضلٌ، له تصانيف [9](ت 5 أو 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 476.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ) ميسرة، أبو سلمة البصريّ، صدوقٌ يُخطئ [7](تخ م مد سي) تقدم في "الجنائز" 16/ 2187.
4 -
(زَمْعَةُ بْنُ صَالِحٍ) الْجَنَديّ بفتح الجيم، والنون، أبو وهب اليمانيّ، نزيل مكة، ضعيف، وحديثه عند مسلم مقرون [6].
رَوَى عن سلمة بن وَهْرام، وابن طاوس، وعمرو بن دينار، والزهريّ، وغيرهم.
وروى عنه ابنه وهب، وابن جريج، وهو من أقرانه، والسفيانان، وابن وهب، وابن مهديّ، وعبد الرزاق، ووكيعٌ، وروح بن عبادة، وأبو عاصم، وأبو نعيم، وغيرهم.
قال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: ضعيفٌ، وقال الدُّوريّ عن ابن معين: ضعيفٌ، وهو أصلح حديثًا من صالح بن أبي الأخضر، وقال مرة أخرى: زمعة صويلح الحديث، وقال الآجريّ عن أبي داود: ضعيفٌ، قال: وسألت يحيى: صالح بن أبي الأخضر أكبر عندك، أو زمعة؟ فقال: لا هو، ولا زمعة، قال ابن عيينة: ربّما سمعت هشام بن حُجير يقول لزمعة: إنما أنت جَدْيٌ، ما لك وللحديث؟ قال أبو داود: صالح أحب إليّ من زمعة، أنا لا أخرج حديث زمعة، وقال البخاريّ: يخالف في حديثه، تركه ابن مهديّ أخيرًا، وقال عمرو بن عليّ: فيه ضَعْفٌ، وقد روى عنه الثوريّ، وابن مهديّ، وما سمعت يحيى ذكره قطّ، وهو جائز الحديث مع الضعف الذي فيه، وقال الْجُوزَجانيّ: متماسكٌ، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، ووهيب أوثق منه، وقال النسائيّ: ليس بالقويّ، كثير الغلط عن الزهريّ، وقال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عنه، فقال: لَيِّن، واهي الحديث، حديثه عن الزهري كأنه يقول مناكير، وقال ابن عديّ: ربما يَهِم في بعض ما يرويه، وأرجو أن حديثه صالح، لا بأس به، وقال ابن حبان: كان رجلًا صالِحًا يَهِمُ، ولا يَعلَم، ويُخطئ ولا يَفهم، حتى
غلب في حديثه المناكير التي يرويها عن المشاهير، وقال الحاكم أبو أحمد: أبو وهب زمعة بن صالح ليس بالقويّ عندهم، وقال ابن خزيمة: في قلبي منه شيء، وقال في موضع آخر: أنا بريء من عهدته، وقال النسائيّ في "الجرح والتعديل": ضعيف، وقال الساجيّ: ليس بحجة في الأحكام.
أخرج له المصنّف، وأبو داود في "المراسيل"، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث مقرونًا.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(78) - (بَابُ جَوَازِ الْإِقَامَةِ بِمَكَّةَ لِلْمُهَاجِرِ مِنْهَا بَعْدَ فَرَاغِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَا زِيَادَة)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3298]
(1352) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، يَعْنِي ابْنَ بِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُمَيْدٍ؛ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، يَسْأَلُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ، يَقُولُ: هَلْ سَمِعْتَ فِي الْإِقَامَةِ بِمَكَّةَ شَيْئًا؟ فَقَالَ السَّائِبُ: سَمِعْتُ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لِلْمُهَاجِرِ إِقَامَةُ ثَلَاثٍ بَعْدَ الصَّدَرِ بِمَكَّةَ"، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) القعنبيّ الحارثيّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، مدنيّ، وقد سكنها مدّةً، ثقة عَابدٌ، من صغار [9](ت 221) بمكة (خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 17/ 617.
2 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو أيوب المدنيّ، ثقة [8](ت 177)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.
3 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حُمَيْدٍ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقة [5].
رَوَى عن أبيه، والسائب بن يزيد، وسعيد بن المسيِّب، وغيرهم.
ورَوَى عنه صالح بن كيسان، وسليمان بن بلال، وحاتم بن إسماعيل، وغيرهم.
قال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ليس به بأس، وقال أبو حاتم، وأبو داود: ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث، وقال العجليّ: مدنيّ ثقة، وقال النسائيّ في "الجرح والتعديل": ثقة.
قال ابن حبان في "الثقات": مات بالعراق في أول خلافة أبي جعفر سنة (137).
روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث بالمكرّر، برقم (1352) وأعاده بعده مرّتين، و (1460) و (1977) وأعاده بعده، و (2511).
4 -
(السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ) الْكِندي الصحابيّ الصغير، مات رضي الله عنه سنة (91) وقيل: قبل ذلك، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم، وتقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 17/ 1712.
5 -
(الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ) حليف بني أُميّة، واسم الحضرميّ عبد الله بن عِمَاد
(1)
بن أكبر بن ربيعة بن مالك بن عُوَيف، وله عدة إخوة، يقال: إنهم أحد عشر، وأخوه عمرو بن الحضرميّ أول قتيل من المشركين، قتله المسلمون، وكان ماله أوّلَ مال خُمّس في الإسلام، وبسببه كانت وقعة بدر.
روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في مُكث المهاجر، وعنه السائب بن يزيد، وأبو هريرة، وحيان الأعرج، وسَهْم بن مِنجاب، وزياد بن حُدَير.
وكان يقال: إنه مُجاب الدعوة، وولّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم البحرين، وأقرّه أبو بكر، وعمر، ثم ولّاه عمر البصرة، فمات قبل أن يَصِلَ إليها سنة (14).
(1)
بالدال المهملة، ووقع في بعض النسخ عمّار بالراء، والأول هو الصواب.
وقال ابن سيرين، عن ابن العلاء بن الحضرمي: إن أباه كتب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فبدأ باسمه. وقال أبو حسان الزياديّ: مات سنة (21) وله مناقب، وفضائل كثيرة.
أخرج له الجماعة الحديث المتقدم، وليس له في هذا الكتاب، وكذا عند البخاريّ إلا هذا الحديث، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فما أخرج له ابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ.
4 -
(ومنها): أن السائب بن يزيد رضي الله عنه آخر من مات بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم، كما أسلفته آنفًا.
5 -
(ومنها): أن صحابيه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب الستة، إلا ثلاثة أحاديث: حديث الباب عنهم جميعًا، وحديث:"أنه كتب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فبدأ باسمه" عند أبي داود رقم (5135)، وأخرجه أحمد أيضًا (4/ 339)، وحديث:"بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البحرين، أو إلى هَجَر، فكنت آتي الحائط يكون بين الإخوة، يُسْلِم أحدهم، فآخذ من المسلم العشر، ومن المشرك الخراج" عند ابن ماجه رقم (1831)، وأخرجه أحمد أيضًا (5/ 52)، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُمَيْد) بن عبد الرحمن بن عوف (أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ) الأمويّ الخليفة الراشد، مات رحمه الله في رجب سنة (101)، وله أربعون سنة، ومدّة خلافته سنتان ونصف، وتقدّمت ترجمته في "المقدّمة" 6/ 46. وقوله:(يَسْأَلُ) جملة حاليّة من المفعول (السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ) بن سعيد بن ثُمامة الْكِنديّ المعروف بابن أخت النمر الصحابيّ الصغير، حُجّ به في عام حجة الوداع، وهو ابن سبع سنين، وولّاه عمر رضي الله عنه سوق المدينة، وسبق آنفًا
أنه آخر من مات بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم، وقوله:(يَقُولُ) هذه الجملة تفصيل وبيان لكيفيّة السؤال (هَلْ سَمِعْتَ فِي الْإِقَامَةِ بِمَكَّةَ) أي: في مقدار الوقت الذي يجوز للمهاجر أن يقيمه فيها إذا عاد إليها لحجّ، أو عمرة، أو نحو ذلك (شَيْئًا؟) وفي الرواية التالية:"عن حميد بن عبد الرحمن، قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول لجلسائه: ما سمعتم في سُكنى مكة؟ "، وفي رواية البخاريّ من طريق حاتم بن إسماعيل، عن عبد الرحمن بن حميد الزهريّ، قال:"سمعت عمر بن عبد العزيز، يسأل السائب بن يزيد ابن أخت نَمِر، قال: ما سمعتَ في سُكنى مكةَ؟ .. ".
(فَقَالَ السَّائِبُ: سَمِعْتُ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لِلْمُهَاجِرِ إِقَامَةُ ثَلَاثٍ) من إضافة المصدر إلى الظرف؛ أي: له أن يقيم مدة ثلاث ليال، ذكّر الضمير لكون التمييز محذوفًا، فيجوز الوجهان، كما سبق غير مرّة (بَعْدَ الصَّدَرِ) بفتح المهملتين؛ أي: بعد الرجوع من منى، وانتهاء نسكه (بِمَكَّةَ") متعلّق بـ"إقامة"، وقوله:(كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا) الظاهر أنه مدرج من بعض الرواة، وفي الرواية التالية:"يُقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا"، وفي الرواية الثالثة:"ثلاث ليالٍ يمكثهنّ المهاجر بعد الصدر"، وفي الرواية الرابعة:"مَكْثُ الْمُهَاجِرِ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثٌ".
قال النوويّ رحمه الله: معنى هذا الحديث أن الذين هاجروا يَحْرُم عليهم استيطان مكة، وحَكَى عياض أنه قول الجمهور، قال: وأجازه لهم جماعة -يعني بعد الفتح- فحملوا هذا القول على الزمن الذي كانت الهجرة المذكورة واجبة فيه.
قال: واتفق الجميع على أن الهجرة قبل الفتح كانت واجبة عليهم، وأن سُكنى المدينة كان واجبًا لنصرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومواساته بالنفس، وأما غير المهاجرين، فيجوز له سُكنى أيّ بلد أراد، سواء مكة وغيرها بالاتفاق. انتهى كلام القاضي
(1)
.
ويستثنى من ذلك مَن أَذِنَ له النبيّ صلى الله عليه وسلم بالإقامة في غير المدينة.
(1)
راجع: "شرح النوويّ" 9/ 122.
وقال القرطبيّ رحمه الله: المراد بهذا الحديث من هاجر من مكة إلى المدينة لنصرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يُعنى به من هاجر من غيرها؛ لأنه خرج جوابًا عن سؤالهم لمّا تحرّجوا من الإقامة بمكة؛ إذ كانوا قد تركوها لله تعالى، فأجابهم بذلك، وأعلمهم أن إقامة الثلاث ليس بإقامة.
قال: والخلاف الذي أشار إليه عياض كان فيمن مضى، وهل ينبني عليه خلاف فيمن فرّ بدينه من موضع يَخاف أن يُفتن فيه في دينه، فهل له أن يرجع إليه بعد انقضاء تلك الفتنة؟ يمكن أن يقال: إن كان تركها لله كما فعله المهاجرون، فليس له أن يرجع لشيء من ذلك، وإن كان تركها فرارًا بدينه، ليَسلَم له، ولم يقصد إلى تركها لذاتها، فله الرجوع إلى ذلك. انتهى.
قال الحافظ: وهو متجه، إلا أنه خَصّ ذلك بمن ترك رباعًا أو دورًا، ولا حاجة إلى تخصيص المسألة، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي فيما قاله القرطبي نظران:
أما أوّلًا: ففي تعميمه المنع لكل من فرّ بدينه؛ لأن ذلك يَحتاج إلى دليل، من نصّ أو إجماع.
وأما ثانيًا: ففي تفريقه بين مَن فَرّ بدينه، ومن ترك بلده لله، فإنه لا فرق بينهما في الحقيقة، كما هو ظاهر، فتأمّل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: حديث العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه هذا مُتّفقٌ عليه.
المسألة الثانية: في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [78/ 3298 و 3299 و 3300 و 3301 و 3302](1352)، و (البخاريّ) في "مناقب الأنصار"(3933)، و (أبو داود) في "المناسك"(2022)، و (الترمذيّ) في "الحجّ"(949)، و (النسائيّ) في "تقصير الصلاة في السفر"(3/ 122) و"الكبرى"(1/ 588 و 2/ 469)، و (ابن ماجه) في
(1)
"الفتح" 8/ 727 "كتاب مناقب الأنصار" رقم (3933).
"إقامة الصلاة"(1073)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 368)، و (الحميديّ) في "مسنده"(844)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(5/ 20 - 21)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 339 و 5/ 52)، و (الدارميّ) في "سننه"(1520)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3906 و 3907)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 31)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 66)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(18/ 171)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 147)، والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما يجوز للمهاجر أن يقيمه بمكة بعد قضاء نسكه، وهو مدة ثلاث ليال.
2 -
(ومنها): أن النسائيّ رحمه الله ترجم في كتابه بقوله: "باب المقام الذي يُقصر بمثله الصلاة"، ثمَّ أورد الحديث احتجاجًا لما ترجم له، وهو أن مدة الإقامة التي تُقصر فيها الصلاة ثلاثة أيام، وما زاد على ذلك يكون في حكم الحضر، فيُتمّ فيه، وهذا هو مذهب الشافعيّ، ومالك -رحمهما الله تعالى-، ووجه الدلالة منه أن الترخيص في الثلاث يدلّ على بقاء حكم السفر، بخلاف الأربعة، فالأربع حدّ الإقامة، وما دونه حدّ السفر، فتقصر الصلاة فيه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد ذكرت في "شرحي على النسائيّ" أن هذا الاستدلال عندي غير صحيح؛ لأنه يردّه ما فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم، مع أصحابه رضي الله عنهم، حيث أقاموا أربعة أيام بمكة، وقد عزموا قبل ذلك على إقامة تلك المدة؛ لأنهم يعلمون أن أفعال الحج لا تنتهي إلا بهذا القدر من الزمن، فدلّ على أن الأربعة لها حكم السفر.
والراجح ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله، وهو أن كل من أقام مدة إقامة النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة، وهي أربعة أيام قَصَر، ومن زاد أتمٍ، والله تعالى أعلم.
3 -
(ومنها): أن الإقامة بمكة كانت حرامًا على من هاجر منها قبل الفتح، لكن أبيح لمن قصدها منهم بحجّ أو عمرة أن يقيم بعد قضاء نسكه ثلاثة أيام، لا يزيد عليها، وبهذا رَثَى النبيّ صلى الله عليه وسلم لسعد بن خولة رضي الله عنه أن مات بمكة.
وما ادعاه الداوديّ من اختصاص ذلك بالمهاجرين الأولين، فقد ردّه في "الفتح" بأنه لا معنى لتقييده بالأولين.
4 -
(ومنها): أنه استُدلّ به على أن طواف الوداع عبادة مستقلة، ليست من مناسك الحجّ، وهو أصح الوجهين في مذهب الشافعيّ؛ لقوله في هذا الحديث:"بعد قضاء نسكه"؛ لأن طواف الوداع لا إقامة بعده، ومتى أقام بعده خرج عن كونه طواف الوداع، وقد سماه قبله قاضيًا لمناسكه، فخرج طواف الوداع عن أن يكون من مناسك الحج، قاله في "الفتح"
(1)
، وهو بحث مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3299]
(
…
) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُمَيْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، يَقُولُ لِجُلَسَائِهِ: مَا سَمِعْتُمْ فِي سُكْنَى مَكَّةَ؟ فَقَالَ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ: سَمِعْتُ الْعَلَاءَ، أَوْ قَالَ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يُقِيمُ الْمُهَاجِرُ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) تقدّم قبل باب.
2 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم أيضًا قبل باب.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ) أي: بعد فراغه من أعمال الحجّ، وأصل النُّسُك بضمتين: العبادة، والمراد هنا أفعال الحج، يقال: نسك لله ينسُك، من باب قتل: تطوَّع بقُربة، ومنه قوله تعالى:{إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام: 162]، ومناسك الحج: عباداته، وقيل: مواضع العبادات، أفاده الفيوميّ
(2)
.
وقوله: (ثَلَاثًا) أي: ثلاثة أيام بلياليها، وذَكَّر العدد؛ لكون التمييز محذوفًا، كما تقدم.
(1)
"الفتح" 8/ 727 "كتاب مناقب الأنصار" رقم (3933).
(2)
"المصباح المنير" 2/ 603 - 604.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3300]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ جَمِيعًا، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُمَيْدٍ؛ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، يَسْأَلُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ، فَقَالَ السَّائِبُ: سَمِعْتُ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "ثَلَاثُ لَيَالٍ يَمْكُثُهُنَّ الْمُهَاجِرُ بِمَكَّةَ بَعْدَ الصَّدَرِ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ) هو: حسن بن عليّ بن محمد الخلال، نزيل مكة، ثقةٌ حافظ، له تصانيف [11](ت 242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
2 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
4 -
(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة حجةٌ [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
5 -
(صَالِحُ) بن كيسان الغفاريّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو الحارث المدنيّ، ثقة ثبتٌ فقيهٌ [4] مات بعد (130 أو 140)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (يَمْكُثُهُنّ الْمُهَاجِرُ) من باب قتل؛ أي: يُقيم، ويتلَبّثُ، ومَكُث مُكثًا، فهو مَكيث، مثلُ قرُب قُربًا، فهو قريب لغةٌ، وقرأ بها السبعة قوله تعالى:{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل: 22] باللغتين. قاله الفيّوميّ.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى القول فيه قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3301]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، وَأَمْلَاهُ عَلَيْنَا إِمْلَاءً، أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ؛ أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَخْبَرَهُ؛ أَنَّ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ أَخْبَرَهُ؛ أَنَّ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ أَخْبَرَهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَكْثُ الْمُهَاجِرِ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثٌ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ) بن أبي وقّاص الزهريّ، أبو محمد المدنيّ، ثقة حجة [4](ت 134)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 72/ 388.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (مَكْثُ الْمُهَاجِرِ) مبتدأ خبره "ثلاث"؛ أي: ثلاث ليال بأيّامهنّ، قال المجد رحمه الله: الْمِكْثُ مُثلّثًا، ويُحَرَّكُ، والْمِكِّيثَى، ويُمدّ، والْمُكُوثُ، والْمُكْثَانُ بضمّهما: اللُّبْثُ، والفعل كنصَرَ، وكَرُمَ. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3302]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).
(1)
"القاموس المحيط" 1/ 175.
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: حجاج بن أبي يعقوب يوسف بن حجّاج الثقفيّ البغداديّ، ثقة حافظٌ [11](ت 259)(م د) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.
2 -
(الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ) أبو عاصم النبيل الكوفيّ، ثقة ثبتٌ [9](ت 212)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
و"ابنُ جريج" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية الضحّاك بن مخلد، عن ابن جريج هذه ساقها الدارميّ رحمه الله في "سننه" (1/ 425) فقال:
(1511)
- أخبرنا أبو عَاصِمٍ، عن ابن جُرَيْجٍ، عن إسماعيل بن مُحَمَّدٍ، عن حُمَيْدِ بن عبد الرحمن بن عَوْفٍ، عن السَّائِبِ بن يَزِيدَ، عن الْعَلَاءِ بن الْحَضْرَمِيِّ، قال: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مُكْثُ الْمُهَاجِرِ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثٌ". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(79) - (بَابُ تَحْرِيمِ مَكَّةَ، وَصَيْدِهَا، وَخَلَاهَا، وَشَجَرِهَا، وَلُقَطَتِهَا، إِلَّا لِمُنْشِدٍ عَلَى الدَّوَامِ)
[تنبيه]: (اعلم): أن مكة -حرسها الله تعالى- هي الاسم المشهور لتلك البقعة المباركة، ولها أسماء أخرى كثيرة، وقد عُنِي الناس بجمعها، منهم العلامة اللغويّ مجد الدين الشيرازيّ، والنوويّ، وقد ذكرها التقيّ الفاسيّ في "شفاء الغرام" مع بيان معاني بعض الأسماء، وقال المحبّ الطبريّ: سَمَّى الله تعالى مكة بخمسة أسماء: مكة، وبكة، والبلد، والقرية، وأم القرى، فأما مكة ففي قوله تعالى:{بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح: 24]، وفي تسميتها بهذا الاسم أربعة أقوال:
[أحدها]: لأنها يؤمُّها الناس من كل مكان، فكأنهم تجذبهم إليها من قول العرب: امْتَكَّ الفصيلُ ما في ضرع الناقة إذا لم يُبْق فيه شيئًا.
[الثاني]: لأنها تَمُكّ من ظلم فيها؛ أي: تهلكه.
[الثالث]: لجهد أهلها، ومن قولهم: تمكّكتُ العظم: إذا أخرجت مُخّه، والتمكُّك الاستقصاء.
[الرابع]: لقلة الماء بها.
وأما بَكّة ففي قوله تعالى: {لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [آل عمران: 90]، وفي تسميتها بذلك ثلاثة أقوال:
[أحدها]: لازدحام الناس بها، يقال: هم فيها يتباكُّون أي: يزدحمون، قاله ابن عباس رضي الله عنهما.
[والثاني]: لأنها تبكّ أعناق الجبابرة؛ أي: تدقّها، وما قصدها جبار إلا قصمه الله تعالى.
[والثالث]: لأنها تَضَع من نَخْوَة المتكبرين.
وأما تسميتها بالبلد ففي قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)} [البلد: 1] قال المفسرون: أراد مكة، والبلد في اللغة صدر القرى.
وأما تسميتها بالقرية ففي قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} الآية [النحل: 112]، الإشارة إلى مكة، فإنها كانت ذات أمن يَأْمَن أهلها أن يُغار عليهم، وكانوا أهل طمأنينة، لا يحتاجون إلى الانتقال عنها؛ لخوف، أو ضيق، والقرية اسم لما يَجمع جماعة كثيرة من الناس، من قولهم: قَرَيتُ الماء في الحوض: إذا جمعته فيه.
وأما تسميتها أم القرى ففي قوله تعالى: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} الآية [الأنعام: 92]، يعني مكة، وفي تسميتها بذلك أربعة أقوال:
[أحدها]: أن الأرض دُحيت من تحتها، قاله ابن عباس رضي الله عنهما، وقال ابن قتيبة: لأنها أقدم الأرض.
[والثاني]: لأنها قبلة يؤمها جميع الأمة.
[الثالث]: لأنها أعظم القرى شأنًا.
[الرابع]: لأن فيها بيت الله تعالى، ولمّا جرت العادة أن بلد الملك وبيته مقدّمان على جميع الأماكن سُمّيت أُمًّا؛ لأن الأم متقدمة.
وسمّاها الله أيضًا في القرآن بالبلد الأمين، وبالبلدة، وبمعاد -بفتح الميم-.
فأما الأول: ففي قوله تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)} [التين: 3] قال ابن عباس: يعني مكة.
وأما الثاني: ففي قوله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} [النمل: 93] قال الواحديّ في "الوسيط": هي مكة.
وأما الثالث: ففي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85] قال ابن عباس: إلى مكة.
قال التقيّ الفاسيّ بعد ذكر هذه الأسماء الثمانية: فهذه ثمانية أسماء لمكة مأخوذة من القرآن العظيم، ولم يذكر المحبّ الطبريّ من أسمائها المأخوذة من القرآن إلا خمسة؛ لأنه قال: سَمَّى الله تعالى مكة بخمسة أسماء: بكة، ومكة، والبلد، والقرية، وأم القرى. انتهى.
وأما حرم مكة فهو ما أحاطها، وأطاف بها من جوانبها، جعل الله تعالى له حكمها في الحرمة تشريفًا لها، وسُمِّي حرمًا؛ لتحريم الله تعالى فيه كثيرًا مما ليس بمحرَّم في غيره من المواضع، وحدّه من طريق المدينة عند التنعيم على ثلاثة أميال من مكة، وقيل: أربعة، وقيل: خمسة، ومن طريق اليمن طَرَف أضاة لبن، على ستة أميال من مكة، وقيل: سبعة، ومن طريق الجعرانة على تسعة أميال -بتقديم المثناة الفوقية على السين- ومن طريق الطائف على عرفات، من بطن نمرة سبعة أميال -بتقديم السين على الباء- وقيل: ثمانية، ومن طريق جُدّة عشرة أميال.
وقال الرافعيّ: هو من طريق المدينة على ثلاثة أميال، ومن العراق على سبعة، ومن الجعرانة على تسعة، ومن الطائف على سبعة، ومن جُدّة على عشرة، والسبب في بُعْد بعض الحدود وقرب بعضها ما قيل: إن الله تعالى لما أَهبَط على آدم عليه السلام بيتًا من ياقوتة، أضاء لهم ما بين المشرق والمغرب، فنفرت الجنّ والشياطين؛ ليقربوا منها، فاستعاذ منهم بالله، وخاف على نفسه منهم، فبعث الله ملائكة، فحَفّوا بمكة من كل جانب، ووقفوا مكان الحرم؛ أي: في موضع أنصاب الحرم، يحرُسون آدم، فصار حدود الحرم موضع وقوف الملائكة، وقيل: إن الخليل؛ لما وضع الحجر الأسود في الركن حين بنى
الكعبة، أضاء له نور، وصل إلى أماكن الحدود، فجاءت الشياطين، فوقفت عند الأعلام، فبناها الخليل عليه السلام حاجزًا، رواه مجاهد، عن ابن عباس، وعنه أن جبرائيل عليه السلام أرى إبراهيم عليه السلام موضع أنصاب الحرم، فنصبها، ثم جدّدها إسماعيل، ثم جدّدها قُصَيّ بن كلاب، ثم جدّدها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما ولي عمر رضي الله عنه بعث أربعة من قريش، فنصبوا أنصاب الحرم، ثم جددها معاوية رضي الله عنه، ثم عبد الملك بن مروان، كذا ذكر القسطلانيّ في "شرح البخاريّ"، ونحوه في "القرى" ص 602 للمحبّ الطبري، وارجع لمزيد من البسط إلى "شفاء الغرام" 1/ 54 - 66.
[تنبيه]: إن عَلَمي الحرم من طريق جدّة هما العَلَمان القديمان من زمن نبيّنا إبراهيم صلى الله عليه وسلم بإشارة جبريل عليه السلام بوضعهما في تلك البقعة، كسائر حدود الحرم من الجهات الأخرى، أما العلمان الجنوبيان المسامتان لعلمي الحرم المذكورين، فقد أُحدثا في جمادى الثانية سنة ست وسبعين وثلاثمائة وألف من أجل طريق السيارات المؤدي بينهما، ثم صار عدول السيارات من هذا الطريق الجنوبي الذي يمر بين العلمين المحدثين إلى الطريق الشمالي الذي يمر بين علمي الحرم القديمين، ولإزالة اللبس لزم التنبيه على ذلك، وحيث الحال ما تقدم من أن حدود الحرم مختلفة في القرب والبعد، وأن وضع حدود الحرم هو بإيقاف جبريل عليه الصلاة والسلام لأبينا إبراهيم صلى الله عليه وسلم على حدود الحرم، وظهور أن حدّا الحرم من طريق المدينة ثلاثة أميال، ومن طريق جُدّة عشرة أميال، مع أن الحدين متجاوران فبذلك تبيّن أنه ليس للاجتهاد في تحديد الحرم مساغٌ، وأنه لا يجوز لأحد أن يُحْدِث حدًّا للحرم، ويضع عليه أنصابًا من تلقاء نفسه؛ لأنه قد لا يكون ذلك حدًّا للحرم في نفس الأمر، أما إذا أتى على محل ليس به أعلام، فإنه ينظر إلى محاذاة أقرب الأعلام إليه، وليس في الإمكان سوى ذلك مع عدم الجزم بأن هذا حدّ للحرم، والله أعلم، كذا في "مفيد الأنام"، ذكره في "المرعاة"
(1)
.
(1)
"المرعاة" 9/ 459 - 461.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3303]
(1353) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ فَتْحِ مَكَّةَ: "لَا هِجْرَةَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا"، وَقَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَتْحِ مَكَّةَ: "إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بحُرْمَةِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا يَلْتَقِطُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا"، فَقَالَ الْعَبَاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِلَّا الْإِذْخِرَ، فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ، وَلِبُيُوتِهِمْ، فَقَالَ: "إِلَّا الْإِذْخِرَ").
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ) ابن راهويه، تقدّم قبل حديث.
2 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم قبل بابين.
3 -
(مَنْصُورُ) بن المعتمر، تقدّم أيضًا قبل بابين.
4 -
(مُجَاهِدُ) بن جبر المخزوميّ مولاهم، أبو الحجّاج المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه إمام مشهور [3](ت 1 أو 2 أو 3 أو 104)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.
5 -
(طَاوُسُ) بن كيسان الْحِمْيريّ مولاهم، أبو عبد الرحمن اليمانيّ، ثقةٌ فقيه فاضلٌ [3](ت 106) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
6 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله الحبر البحر رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخه، فما أخرج له ابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، بل هو من رواية الأقران.
4 -
(ومنها): أن فيه ابن عبّاس رضي الله عنهما من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة روى (1696) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ) قال في "الفتح": كذا رواه منصور موصولًا، وخالفه الأعمش، فرواه عن مجاهد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، مرسلًا، أخرجه سعيد بن منصور، عن أبي معاوية، عنه. وأخرجه أيضًا عن سفيان، عن داود بن شابور، عن مجاهد، مرسلًا، ومنصور ثقة حافظ، فالحكم لوصله. انتهى
(1)
.
(عَن ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ) ظرف متعلّق بـ"قال"، وقوله:(فَتْحِ مَكَّةَ) بالجرّ بدلًا عن "الفتح"("لَا هِجْرَةَ) أَي: بعد الفتح، وأفصح بذلك في بعض الروايات؛ أي: لا هجرة من مكة إلى المدينة مفروضة بعد الفتح، كما كانت قبله، وقد عقد البخاريّ في أواخر الجهاد:"باب لا هجرة بعد الفتح"، قال الحافظ: أي: بعد فتح مكة، أو المراد ما هو أعمّ من ذلك؛ إشارةً إلى أن حُكم غير مكة في ذلك حكمها، فلا تجب الهجرة من بلد قد فتحه المسلمون، أما قبل فتح البلد فمَن به من المسلمين أحد ثلاثة:
الأول: قادر على الهجرة منها، لا يمكنه إظهار دينه بها، ولا أداء واجباته، فالهجرة منه واجبة.
الثاني: قادرٌ لكنه يمكنه إظهار دينه، وأداء واجباته، فمستحبة؛ لتكثير المسلمين، ومعونتهم، وجهاد الكفار، والأمن من غدرهم، والراحة من رؤية المنكر بينهم.
الثالث: عاجز بعذر من أَسْرٍ، أو مرض، أو غيره فتجوز له الإقامة، فإن حَمَل على نفسه، وتكلّف الخروج منها أُجِر. انتهى.
وقال التوربشتيّ رحمه الله: قوله: "لا هجرة" كانت الهجرة إلى المدينة بعد أن هاجر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضًا على المؤمن المستطيع؛ ليكون في سعة من أمر دينه، فلا يمنعه عنه مانع، ولينصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في إعلاء كلمة الله، وإظهار
(1)
"الفتح" 5/ 119.
دينه، فينحاز إلى حزب الحقّ وأنصار دعوته، ويفارق فريق الباطل، فلا يُكثِّر سوادهم إلى غير ذلك من المعاني الموجبة لكمال الدين، فلما فتح صلى الله عليه وسلم مكة، وأظهره الله على الدين كلّه، أعلمهم بأن الهجرة المفروضة قد انقطعت، وأن المسابقة بالهجرة بعد الفتح قد انتهت، وأنه ليس لأحد بعد ذلك أن ينال فضيلة الهجرة إليه، ولا أن ينازع المهاجرين في مراتبهم، وحقوقهم. انتهى
(1)
.
(وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ) أي: لكن لكم طريقٌ إلى تحصّل الفضائل التي في معنى الهجرة، وذلك بالجهاد، ونيّة الخير في كل شيء، من لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحوه، وارتفاع "جهادٌ" على الابتداء، وخبره محذوف مقدّمًا، تقديره: لكم جهادٌ، قاله في "العمدة"
(2)
.
قال في "الفتح": المعنى أن وجوب الهجرة من مكة انقطع بفتحها؛ إذ صارت دار إسلام، ولكن بقي وجوب الجهاد على حاله عند الاحتياج إليه، وفسّره بقوله:"فإذا استُنفرتم فانفروا"؛ أي: إذا دُعيتم إلى الغزو فأجيبوا.
قال الخطابي وغيره: كانت الهجرة فرضًا في أول الإسلام على من أسلم؛ لقلة المسلمين بالمدينة، وحاجتهم إلى الاجتماع، فلما فتح الله مكة دخل الناس في دين الله أفواجًا، فسقط فرض الهجرة إلى المدينة، وبقي فرض الجهاد، والنية على من قام به، أو نزل به عدوّ. انتهى.
قال الحافظ: وكانت الحكمة أيضًا في وجوب الهجرة على من أسلم؛ ليَسلم من أذى ذويه من الكفار، فإنهم كانوا يعذِّبون من أسلم منهم إلى أن يرجع عن دينه، وفيهم نزلت:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} الآية [النساء: 97]، وهذه الهجرة باقية الحكم في حق من أسلم في دار كفر، وقَدَر على الخروج منها.
وقد رَوَى النسائي من طريق بهز بن حكيم بن معاوية، عن أبيه، عن جدّه مرفوعًا:"لا يقبل الله من مشرك عملًا بعدما أسلم، أو يفارقَ المشركين".
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 2040.
(2)
"عمدة القاري" 10/ 191.
ولأبي داود من حديث سمرة مرفوعًا: "أنا بريء من كل مشرك يقيم بين أظهر المشركين". وهذا محمول على من لم يأمن على دينه.
قال: وقوله: "ولكن جهادٌ ونية" قال الطيبيّ وغيره: وهذا الاستدراك يقتضي مخالفة حكم ما بعده لما قبله، والمعنى أن الهجرة التي هي مفارقة الوطن التي كانت مطلوبة على الأعيان إلى المدينة انقطعت، إلا أن المفارقة بسبب الجهاد باقية، وكذلك المفارقة بسبب نيّة صالحة كالفرار من دار الكفر، والخروج في طلب العلم، والفرار بالدين من الفتن، والنية في جميع ذلك.
وقال الطيبيّ رحمه الله: "ولكن جهادٌ" عطف على محل مدخول: "لا"، والمعنى: أن الهجرة من الأوطان، إما هجرة إلى المدينة للفرار من الكفار، ونصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإما إلى الجهاد في سبيل الله، وإما إلى غير ذلك من تحصيل الفضائل؛ كطلب العلم، وابتغاء فضل الله تعالى من التجارة، وما شاكلهما، فانقطعت الأولى، وبقيت الأخريان، فاغتنموهما، ولا تقاعدوا عنهما، فإذا استُنفرتم فانفروا. انتهى
(1)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله: الجهاد: محاربة الكفّار، وهو المبالغة، واستفراغ ما في الوسع والطاقة من قول، أو فعل، يقال: جَهَدَ الرجلُ في الشيء: إذا جدّ فيه، وبالغ، وجاهد في الحرب مجاهدةً وجهادًا.
قال: والمراد بالنيّة: إخلاص العمل لله تعالى؛ أي: إنه لم يبق بعد فتح مكة هجرة؛ لأنها صارت دار إسلام، وإنما هو الإخلاص في الجهاد، وقتال الكفّار. انتهى
(2)
.
(وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ) بصيغة المجهول؛ أي: إذا طُلبتم للنَّفْر، وهو الخروج إلى الجهاد (فَانْفِرُوا") بكسر الفاء أي: اخرجوا، والمعنى: إذا دعاكم السلطان إلى غزو فاذهبوا.
وقال في "النهاية": الاستنفار: الاستنجاد، والاستنصار؛ أي: إذا طُلب
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 2041.
(2)
"النهاية في غريب الحديث والأثر" 1/ 319.
منكم النُّصْرة، فأجيبوا، وانصروا، خارجين إلى الإعانة. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: يريد أن الخير الذي انقطع بانقطاع الهجرة يمكن تحصيله بالجهاد، والنية الصالحة، وإذا أَمركم الإمام بالخروج إلى الجهاد ونحوه، من الأعمال الصالحة فاخرجوا إليه.
(وَقَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (يَوْمَ الْفَتْحِ، فَتْحِ مَكَّةَ) قال القاري رحمه الله: أعاده تأكيدًا، أو إشارةً إلى وقوع هذا القول وقتًا آخَر من ذلك اليوم، والله تعالى أعلم. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: كونه تأكيدًا هو الأولى، وأما وقوعه في وقت آخر فبعيد، يُبعده وقوعه في رواية للبخاريّ بلفظ: "فإذا استُنفرتم فانفروا، فإن هذا بلد
…
إلخ" بالفاء، وليس فيه قوله: "وقال يوم فتح مكة"، فقد أخرجه في "الحجّ" من طريق عثمان بن أبي شيبة، عن جرير، بهذا اللفظ، فدلّ على أنه حديث واحد.
قال في "الفتح": الفاء أي: في قوله: "فإن هذا" جواب شرط محذوف، تقديره: إذا علمتم ذلك فاعلموا، أن هذا بلد حرام، وكأن وجه المناسبة أنه لما كان نصب القتال عليه حرامًا كان التنفير يقع منه لا إليه. انتهى.
("إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ) أي: مكة يعني حَرَمها، قال القاري: أو المراد بالبلد أرض الحرم جميعها (حَرَّمَهُ اللهُ) أي: حكم بتحريمه وقضاه، وظاهره أن حكم الله تعالى في مكة أن لا يقاتَل أهلها، ويُؤَمَّن من استجار بها، ولا يتعرض له، وهو أحد أقوال المفسرين في قوله تعالى:{وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} الآية [آل عمران: 97]، وقوله:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} الآية [العنكبوت: 67](يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) يعني أن تحريمه أمر قديمٌ، وشريعة سالفة مستمرّةٌ.
والمعنى: أن تحريمه من الله تعالى، وليس مما أحدثه الناس، أو اختص بشرعه.
[فإن قلت]: هذا يعارضه ما في حديث جابر رضي الله عنه الآتي عند مسلم،
(1)
"النهاية" 5/ 92.
وحديث أنس رضي الله عنه عند البخاريّ: "إن إبراهيم حرم مكة"، فكيف التوفيق بينهما؟
[أجيب]: بأن إسناد التحريم إلى إبراهيم عليه السلام من حيث إنه مبلّغه، فإن الحاكم بالشرائع والأحكام كلها هو الله تعالى، والأنبياء يبلّغونها، فكما تضاف إلى الله تعالى من حيث إنه الحاكم بها، تضاف إلى الرسل أيضًا؛ لأنها تُسمع منهم، وتُبيّن على ألسنتهم.
والحاصل أنه عليه السلام أظهر تحريمه مُبَلِّغًا عن الله تعالى بعد أن كان مهجورًا، لا أنه ابتدأ تحريمه.
وقيل: إنه حرّمها بإذن الله، يعني أنه تعالى كتب في اللوح المحفوظ يوم خلق السماوات والأرض أن إبراهيم سيحرِّم مكة بأمر الله تعالى، كذا في "إرشاد الساري"، وهذا القول ليس بشيء، فتنبّه.
وقال في "العمدة": معنى قوله: "إن إبراهيم حرّم مكة": أعلن بتحريمها، وعَرَّف الناس بأنها حرام بتحريم الله إياها، فلما لم يُعْرَف تحريمها إلا في زمانه على لسانه أضيف إليه، وذلك كما في قوله تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} الآية [الزمر: 43]، فإنه أضاف إليه التوفي، وفي آية أخرى:{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} الآية [السجدة: 11]، فأضاف إلى الملك التوفي، وقال في آية أخرى:{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} [النحل: 28، 32] فأضاف إليهم التوفي، وفي الحقيقة المتوفِّي هو الله عز وجل، وأضاف إلى غيره؛ لأنه ظهر على أيديهم. انتهى.
وقال في "الفتح": لا معارضة بين الحديثين؛ لأن معنى قوله: "إن إبراهيم حرم مكة" أي: بأمر الله تعالى، لا باجتهاده، أو أن الله قضى يوم خلق السماوات والأرض أن إبراهيم سيحرِّم مكة، أو المعنى أن إبراهيم أول من أظهر تحريمًا بين الناس، وكانت قبل ذلك عند الله حرامًا، أو أول من أظهره بعد الطوفان، وقال القرطبيّ: معناه: إن الله حرم مكة ابتداء من غير سبب يُنسب لأحد، ولا لأحد فيه مدخل، قال: ولأجل هذا أكد المعنى بقوله في حديث أبي شُرَيح الآتي: "ولم يُحَرِّمها الناس"، والمراد بقوله:"ولم يحرمها الناس" أن تحريمها ثابت بالشرع، لا مدخل للعقل فيه، أو المراد أنها من محرمات الله، فيجب امتثال ذلك، وليس من محرمات الناس، يعني في
الجاهلية، كما حَرّموا أشياء من عند أنفسهم، فلا يسوغ الاجتهاد في تركه، وقيل: معناه إن حُرمتها مستمرة من أول الخلق، وليس مما اختَصَّت به شريعة النبيّ صلى الله عليه وسلم.
(فَهُوَ) أي: البلد (حَرَامٌ) أي محرّم محترم (بِحُرْمَةِ اللهِ) أي: بسبب حرمة الله، فالباء للسببية، ويجوز أن تكون للملابسة، فيكون متعلق الباء محذوفًا؛ أي: متلبسًا بحرمة الله، وهو تأكيد للتحريم، وقوله:(إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) إيماء إلى عدم نسخه، وقال الحافظ رحمه الله: قوله: "بحرمة الله" أي: بتحريمه، وقيل: الحرمة الحقّ؛ أي: حرام بالحق المانع من تحليله، واستُدِلّ به على تحريم القتل، والقتال بالحرم، وسيأتي البحث في هذا مستوفًى في المسألة الرابعة -إن شاء الله تعالى-.
(وَإِنَّهُ) الضمير للشأن؛ أي: إن الشأن والحال (لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي) زاد في بعض طرق البخاريّ: "ولا يَحِلّ لأحد بعدي"، قال المحبّ الطبريّ رحمه الله: هذا القول يَحْتَمِل وجوهًا، ثم ذكرها، وقال: الوجه الرابع، وهو أقواها، وأسلمها عن الاعتراض: أن يريد تحريم القتل بها، وكان مستحَقًّا، حتى لو دخل كافر بغير أمان، أو زانٍ محصَن، أو من قَتل إنسانًا عمدًا عدوانًا لم يُقتل بها، بل يُضَيَّق عليه حتى يخرج، وهذا مذهب أبي حنيفة، وإحدى الروايتين عن أحمد، وقول بعض أصحاب مالك، وكذلك القتال أيضًا لا يكون بقتل، بل بالحصر، والتضييق، والمدافعة حتى يخرجوا منها، ولا كذلك سائر البلاد، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم:"فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي: وقتله ابن خَطَل وغيره، وقد عاذوا بالحرم، فيقال لهم:"إن الله أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يأذن لكم"، فمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يقتدوا به في هذه الرخصة، وأن يعد سببها تحقيقًا لاختصاصه صلى الله عليه وسلم بهذه الرخصة. انتهى.
وقال ابن بطال رحمه الله: المراد بقوله: "ولا تحل لأحد بعدي" الإخبار عن الحكم في ذلك، لا الإخبار بما سيقع؛ لوقوع خلاف ذلك في الشاهد، كما وقع من الحجاج وغيره. انتهى. ومحصله أنه خبر بمعنى النهي، بخلاف قوله:"لم يحل القتال فيه لأحد قبلي"، فإنه خبر محضٌ، أو معنى قوله:"ولا تحل لأحد بعدي" أي: لا يُحِلّه الله بعدي؛ لأن النسخ ينقطع بعده؛ لكونه خاتم النبيين.
(وَلَمْ يَحِلَّ) أي: القتال (لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ) أي: مقدارًا من الزمان، وهو ما بين طلوع الشمس وصلاة العصر، وقد ورد عند أحمد، من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه: "لَمّا فُتحت مكة قال: كُفّوا السلاح، إلا خُزاعة عن بني بكر، فأَذِن لهم حتى صلى العصر، ثم قال: كُفّوا السلاح، فلقي رجل من خزاعة رجلًا من بني بكر من غد بالمزدلفة فقتله، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام خطيبًا، فقال: ورأيته مسندًا ظهره إلى الكعبة
…
" فذكر الحديث.
ويستفاد منه أن قتْل من أذن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قتلهم، كابن خَطَل وقع في الوقت الذي أبيح للنبيّ صلى الله عليه وسلم فيه القتال خلافًا لمن حَمَل قوله:"ساعة من نهار" على ظاهره، فاحتاج إلى الجواب عن قصة ابن خطل، كذا في "الفتح".
وقال القاري: قوله صلى الله عليه وسلم: "ولم يَحل لي إلا ساعة من نهار"؛ أي: أُحل لي ساعة إراقة الدم، دون الصيد، وقطع الشجر.
وقال الخطابيّ: قيل: إنما أُحلت له في تلك الساعة إراقة الدم دون الصيد، وقطع الشجر، وسائر ما حُرِّم على الناس منه. انتهى.
وقال الطبريّ: ويَحْتَمِل العموم، فإن انتشار العسكر لا يخلو من تنفير صيد، ودوس خَلًا، وقطعه، وغير ذلك، والعمد والخطأ فيه سواء، وقال أيضًا: يَحْتَمِل أن يكون المراد جميع ما حُرِّم فيه من تنفير الصيد، واختلاء الخلا، وعضد الشجر؛ لأن ذلك من لوازم انتشار العسكر غالبًا، فالصيد ينفر بذلك، والدواب يُختلى لها، ويُخبط، فحصوله وإن كان تبعًا وضمنًا، لكنه لما كان معلومًا بالضرورة كان كالمباشر. انتهى.
(فَهُوَ) أي: البلد (حَرَامٌ) أي: على كلّ أحد بعد تلك الساعة (بِحُرْمَةِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) أي: بتحريمه المؤبّد إلى قيام الساعة.
(لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: لا يقطع، والعضد: القطع، يقال: عضدت الشجرة أَعضِدها بالكسر عضدًا، من باب ضرب: قطعتها، وفي حديث أبي شُرَيح:"ولا يعضدُ بها شجر" قال ابن الجوزيّ: أصحاب الحديث يقولون: "يعضد" بضم الضاد، وقال لنا ابن الخشّاب: هو بكسرها، والمعضد بكسر أوله: الآلة التي يقطع بها، قال الخليل: المعضد: الممتهن من السيوف
في قطع الشجر، وقال الطبريّ: أصله من عَضَدَ الرجل: إذا أصابه بسوء في عضده، ووقع في رواية لعمر بن شبّة بلفظ:"لا يخضد" بالخاء المعجمة بدل العين المهملة، وهو راجع إلى معناه، فإن أصل الخضد الكسر، ويستعمل في القطع.
(شوكه) وقال القاري: قوله: "ولا يُعضد شوكه"؛ أي: ولو حصل التأذي به، وأما قول بعض الشافعية: إنه يجوز قطع الشوك المؤذي، فمخالف لإطلاق النصّ، ولذا جرى جمع من متأخريهم على حرمة قطعه مطلقًا، وصححه النوويّ في "شرح مسلم"، واختاره في عدّة كتبه. انتهى.
وقال الخطابي في "المعالم": أما الشوك فلا بأس بقطعه؛ لما فيه من الضرر، وعدم النفع، ولا بأس بأن يُنتفع بحطام الشجر، وما بلي منه. انتهى.
وقال الحافظ: وأجازوا -أي: الشافعية- قطع الشوك؛ لكونه يؤذي بطبعه، فأشبه الفواسق، ومنعه الجمهور؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا، وصححه المتولي من الشافعية، وأجابوا بأن القياس المذكور في مقابلة النصّ فلا يعتبر به، حتى ولو لم يرد النصّ على تحريم الشوك لكان في تحريم قطع الشجر -كما في حديث أبي شُريح رضي الله عنه الآتي- دليل على تحريم قطع الشوك؛ لأن غالب شجر الحرم كذلك، ولقيام الفارق أيضًا، فإن الفواسق المذكورة تَقْصِد بالأذى، بخلاف الشجر.
وقال ابن قدامة: ولا بأس بالانتفاع بما انكسر من الأغصان، وانقطع من الشجر، بغير صنع آدميّ، ولا بما يسقط من الورق، نَصّ عليه أحمد، ولا نعلم فيه خلافًا. انتهى.
(وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ) بضم أوله، وتشديد الفاء المفتوحة، مبنيًّا للمفعول؛ أي: لا يصاح عليه، فينفر، وقال سفيان بن عيينة: معناه أن يكون في ظلّ الشجرة، فلا ينفّر ليجلس مكانه، ويستظلّ.
قال الطبريّ: لا خلاف أنه لو نفّره، وسَلِم فلا جزاء عليه، لكنه يأثم بارتكابه النهي، فلو أتلفه، أو تلف بتنفيره وجب جزاؤه.
وقال النوويّ: يحرم التنفير، وهو الإزعاج عن موضعه، فإن نفّره عصى، سواء تلف، أو لا، فان تلف في نفاره قبل سكونه ضمن، وإلا فلا.
قال العلماء: يستفاد من النهي عن التنفير تحريم الإتلاف بالأولى. انتهى.
وقال الحافظ: قيل: تنفير الصيد كناية عن الاصطياد. وقيل: هو على ظاهره، وفي "صحيح البخاريّ" عن خالد الحذّاء، عن عكرمة، قال: هل تدري "ما لا ينفّر صيدها؟ " هو أن ينحّيه من الظلّ ينزل مكانه، قيل: نبّه عكرمة بذلك على المنع من الإتلاف، وسائر أنواع الأذى، تنبيهًا بالأدنى على الأعلى.
وقد خالف عكرمةَ عطاءٌ، ومجاهد، فقالا: لا بأس بطرده ما لم يُفض إلى قتله، أخرجه ابن أبي شيبة، وروى ابن أبي شيبة أيضًا من طريق الحكم، عن شيخ من أهل مكة أن حمامًا كان على البيت، فذرق على يد عمر، فأشار عمر بيده، فطار، فوقع على بعض بيوت مكة، فجاءت حيّة، فأكلته، فحكم عمر على نفسه بشاة، وروي من طريق أخرى عن عثمان نحوه.
(وَلَا يَلْتَقِطُ) بالبناء للفاعل (إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا) هكذا في هذه الرواية لم يذكر المفعول، وهو "لقطته"، وقد ذُكر في رواية البخاريّ وغيره، ولفظه:"ولا يلتَقِط لُقَطَته إلا من عرّفها"، فقوله:"لُقَطَتَهُ" بالنصب على أنه مفعول مقدّم على الفاعل، وهو قوله:"إلا من عرّفها".
و"اللقطة": الشيء الذي يُلتقط، وهو بضم اللام، وفتح القاف على المشهور، عند أهل اللغة، والمحدّثين، وقال عياض: لا يجوز غيره، وقال الزمخشريّ في "الفائق": اللقطة بفتح القاف، والعامة تسكّنها، كذا قال، وقد جزم الخليل بأنها بالسكون، قال: وأما بالفتح فهو اللاقط، وقال الأزهريّ: هذا الذي قاله هو القياس، ولكن الذي سُمع من العرب، وأجمع عليه أهل اللغة، والحديث الفتح، وقال ابن برّيّ: التحريك للمفعول نادر، فاقتضى أن الذي قاله الخليل هو القياس، وفيها لغتان أيضًا: لُقَاطة بضم اللام، ولَقطة بفتحها، وقد نظم الأربعة ابن مالك حيث قال:
لُقَاطَةٌ وَلَقْطَةٌ وَلُقَطَهْ
…
وَلُقْطَةٌ مَا لَاقِطٌ قَدْ لَقَطَهْ
ووجّه بعض المتأخّرين فتح القاف في المأخوذ أنه للمبالغة، وذلك لمعنى فيها اختصّت به، وهو أن كلّ من يراها يميل لأخذها، فسميت باسم الفاعل لذلك. قاله في "الفتح".
(إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا) بتشديد الراء، من التعريف؛ أي: من أراد تعريفها،
وإشهارها، ثم يحفظها لمالكها، ولا يتملّكها، بخلاف لقطة غير الحرم، فإنه يلتقطها ليتصرّف فيها بعد التعريف سنة.
وقال السنديّ رحمه الله: قيل: أي: إلا من عرّفها على الدوام؛ ليحصل به الفردتى بين الحرم وغيره، وإلا لا يحسن ذكره ههنا في محل ذكر الأحكام المخصوصة بالحرم الثابتة له بمقتضى التحريم، ومن لا يقول بوجوب التعريف على الدوام يرى أن تخصيصه كتخصيص الإحرام بالنهي عن الفسوق في قوله تعالى:{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] مع أن النهي عامّ.
وحاصله زيادة الاهتمام بأمر الإحرام، وبيان أن الاجتناب عن الفسوق في الإحرام آكد، فكذا التخصيص ههنا لزيادة الاهتمام بأمر الحرم، وأن التعريف في لقطته متأكد.
وقال في "الفتح": والمعنى: لا تحلّ لقطتها إلا لمن يريد أن يعرّفها فقط، فأما من أراد أن يعرّفها، ثم يتملّكها فلا، وهذا يدلّ على أنَّ الاستثناء في حديث الباب لم يُرد به العباس أن يستثني هو، وإنما أراد أن يلقّن النبيّ صلى الله عليه وسلم الاستثناء، أفاده في "الفتح".
(وَلَا يُخْتَلَى) بضم الياء، وسكون الخاء المعجمة، وفتح الفوقية واللام؛ أي: لا يُجَزّ، ولا يقطع (خَلَاهَا") -بفتح المعجمة، مقصورًا: الرَّطْب من الكلأ، فإذا يبس فهو حَشِيش، وهَشِيم.
وقال الفيوميّ: والخلا بالقصر: الرطب من النبات، الواحدة خَلاة، مثل حصًى وحصاة. قال في "الكفاية": الخلا: الرَّطْب، وهو ما كان غَضًّا من الكلأ، وأما الحشيش فهو اليابس. واختليتُ الخلأَ اختلاءً: قطعته، وخليته خَلْيًا، من باب رمى مثله، والفاعل مُخْتَلٍ، وخالٍ، وفي الحديث:"لا يُختلى خلاها"؛ أي: لا يُجَزُّ. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": الخلا هو الرَّطْب من النبات، واختلاؤه قطعه، واحتشاشه، واستدل به على تحريم رعيه، لكونه أشد من الاحتشاش، وبه قال
(1)
"المصباح المنير" 1/ 181.
مالك، والكوفيون، واختاره الطبريّ، وقال الشافعيّ: لا بأس بالرعي؛ لمصلحة البهائم، وهو عمل الناس، بخلاف الاحتشاش، فإنه المنهيّ عنه، فلا يُتَعَدَّى ذلك إلى غيره. انتهى.
وفي "المدونة": قال مالك: لا بأس بالرعي في حرم مكة، وحرم المدينة في الحشيش، والشجر، وفي آخر "جامع الحج" من "الموطأ": سئل مالك: هل يَحتشّ الرجل لدابته من الحرم؟ فقال: لا، قال الباجيّ: وهذا كما قال أن لا يَحتش أحد في الحرم لدابته، ولا لغير ذلك، إلا الإذخر الذي أباحه النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن احتَشّ في الحرم فلا جزاء عليه، ولا بأس أن يرعى الإبل في الحرم.
والفرق بينه وبين الاحتشاش: أن الاحتشاش تناول قطع الحشيش، وإرسال البهائم للرعي ليس بتناول لذلك، وهذا لا يمكن الاحتراز منه، ولو مُنع منه لامتنع السفر في الحرم، والمقام فيه؛ لتعذر الامتناع منه والتحرز. انتهى.
قال الحافظ: وفي تخصيص التحريم بالرَّطْب إشارة إلى جواز رعي اليابس واختلائه، وهو أصح الوجهين للشافعية؛ لأن النبت اليابس كالصيد الميت.
قال ابن قدامة: لكن في استثناء الإذخر إشارةٌ إلى تحريم اليابس من الحشيش، ويدل عليه أن في بعض طرق حديث أبي هريرة:"ولا يُحتَشّ حشيشُها"، قال: وأجمعوا على إباحة أخذ ما استنبته الناس في الحرم، من بقل، وزرع، ومشموم، فلا بأس برعيه واختلائه. انتهى.
(فَقَالَ الْعَبَّاسُ) بن عبد المطلب، عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم المتوفَّى سنة (32) أو بعدها، تقدّمت ترجمته في "الإيمان" 13/ 159، زاد في رواية النسائيّ:"وكان رجلًا مجرّبًا".
(يَا رَسُولَ اللهِ إِلَّا الْإِذْخِرَ) يجوز فيه الرفع، على أنه بدلٌ مما قبله، والنصب؛ لكونه مستثنًى بعد النفي، واختار ابن مالك النصب؛ لكون الاستثناء وقع متراخيًا عن المستثنى منه.
و"الإذخر" -بكسر الهمزة، والخاء المعجمة، بينهما ذال معجمة ساكنة-: نبت معروف عند أهل مكة، طَيِّب الريح، له أصل مُندفن؛ أي: ماضٍ في
الأرض، وقضبان دقاق ينبت في السهل والحزن، وبالمغرب صنف منه فيما قاله ابن البيطار، قال: والذي بمكة أجوده، وأهل مكة يُسَقِّفون به البيوت بين الخشب، يعني يجعلونه تحت الطين، وفوق الخشب؛ ليسد الخلل، فلا يسقط الطين، وكذا يجعلونه في القبور، يعني يسُدُّون به الخلل بين اللبنات في القبور، وكانوا يستعملونه بدلًا من الحَلفاء في الوقود، ولهذا قال العباس:"فإنه لقينهم"، ووقع عند عُمَر بن شَبّة:"فقال العباس: يا رسول الله إن أهل مكة لا صبر لهم عن الإذخر لقينهم وبيوتهم"، وهذا يدل على أن الاستثناء في حديث الباب لم يرد به أن يستثنى هو، وإنما أراد به أن يلقن النبيّ صلى الله عليه وسلم الاستثناء.
(فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ) و"القين" بفتح القاف، وسكون التحتانيّة، بعدها نون: الحدّاد، وحاجته إليه أنه يوقد به النار، وقال الطبريّ: القين عند العرب كلّ ذي صناعة يُعالجها بنفسه. ووقع في رواية للبخاريّ في "المغازي": "فإنه لابدّ منه للقين، والبيوت"، وفي رواية له:"فإنه لصاغتنا، وقبورنا"، ووقع في مرسل مجاهد عند عمر بن شبّة الجمع بين الثلاثة، ووقع عنده أيضًا:"فقال العباس: يا رسول الله إن أهل مكة لا صبر لهم عن الإذخر، لقينهم، وبيوتهم".
(وَلِبُيُوتِهِمْ) أي: لسقفها (فَقَالَ: "إِلَّا الْإِذْخِرَ") هو استثناء بعض من كلّ؛ لدخول الإذخر في عموم ما يُختلى.
قال في "الفتح": اختلفوا هل كان قوله صلى الله عليه وسلم: "إلا الإذخر" باجتهاد، أو وحي؟ وقيل: كَأَنَّ الله تعالى فوّض له الحكم في هذه المسألة مطلقًا، وقيل: أوحي إليه قبل ذلك أنه إن طلب أحد استثناء شيء من ذلك، فأجب سؤاله.
وقال الطبريّ: ساغ للعباس أن يستثني الإذخر؛ لأنه احْتَمَل عنده أن يكون المراد بتحريم مكة تحريم القتال، دون ما ذُكر من تحريم الاختلاء، فإنه من تحريم الرسول صلى الله عليه وسلم باجتهاده، فساغ له أن يسأله استثناء الإذخر، وهذا مبنيّ على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان له اجتهاد في الأحكام، وليس ما قاله بلازم، بل في تقريره صلى الله عليه وسلم للعباس على ذلك دليل على جواز تخصيص العامّ.
وحَكَى ابن بطال عن المهلّب أن الاستثناء هنا للضرورة؛ كتحليل أكل الميتة عند الضرورة، وقد بيّن العباس ذلك بأن الإذخر لا غنى لأهل مكة عنه.
وتعقّبه ابن المنيّر بأن الذي يباح للضرورة يشترط حصولها فيه، فلو كان الإذخر مثل الميتة لامتنع استعماله إلا فيمن تحقّقت ضرورته إليه، والإجماع على أنه مباح مطلقًا بغير قيد الضرورة. انتهى.
قال الحافظ: ويَحْتَمِل أن يكون مراد المهلّب بأن أصل إباحته كانت للضرورة، وسببها، لا أنه يريد أنه مقيّد بها.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي أجاب به الحافظ عن المهلّب فيه نظر؛ إذ يردّه ظاهر تشبيهه بأكل الميتة عند الضرورة، فتأمل، والله تعالى أعلم.
وقال ابن المنيّر رحمه الله: الحقّ أن سؤال العباس كان على معنى الضراعة، وترخيص النبيّ صلى الله عليه وسلم كان تبليغًا عن الله تعالى، إما بطريق الإلهام، أو بطريق الوحي، ومن ادّعى أن نزول الوحي يحتاج إلى أمد متّسع فقد وهم. انتهى، وهو تحقيقٌ وجيهٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [79/ 3303 و 3304](1353)، وسيأتي أيضًا في "الجهاد"، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1349)، وفي "الحجّ"(1587 و 1833 و 1834)، و"البيوع"(2090)، و"الجهاد"(2783 و 2825 و 3077)، و"الجزية والموادعة"(3189)، و"المغازي"(4313)، و (أبو داود) في "المناسك"(2017)، و"الجهاد"(2480)، و (الترمذيّ) في "السير"(1590)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(5/ 203 - 204 و 7/ 146)، و"الكبرى" في "السير"(2/ 384)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2773)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(9193 و 9711)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 226 و 255 و 315 و 316 و 355 و 359)، و (الدارميّ) في "سننه"(2512)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3720)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(10943 و 10944)، و"الأوسط" (1/ 159
و 8/ 140)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 363)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(3/ 96 و 97 و 4/ 235)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 434 و 4/ 188)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 33 و 34)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(509)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 195 و 6/ 199 و 9/ 16)، و"المعرفة"(2/ 202 و 209)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(1/ 9 و 13)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2003)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان حرمة مكّة -حرسها الله تعالى-.
2 -
(ومنها): أن فيه بشارةً بأن مكة تبقى دار إسلام أبدًا، لا يُتصور منها الهجرة.
3 -
(ومنها): أن فيه وجوب تعيين الخروج في الغزو على من عيّنه الإمام، وأن الأعمال تُعتبر بالنيات، وقال الخطابيّ رحمه الله: في الحديث إيجاب النفير، والخروج إلى العدو إذا وقعت الدعوة، وهذا إذا كان فيمن بإزاء العدو كفايةٌ، فإن لم يكن فيهم كفاية فهو فرض على المطيقين للجهاد، والاختيار للمطيق له مع وقوع الكفاية بغيره أن لا يقعد عن الجهاد، قال الله تعالى:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} الآية [النساء: 95]، وقد ترجم البخاريّ لهذا الحديث:"باب وجوب النفير، وما يجب من الجهاد والنية"، وقوله:{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41].
قال الحافظ رحمه الله: قوله: "وما يجب من الجهاد والنية" أي: وبيان القدر الواجب من الجهاد، ومشروعية النية في ذلك، وللناس في الجهاد حالان:
إحداهما: في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، والأخرى بعده، فأما الأولى: فأول ما شُرع الجهاد بعد الهجرة النبوية إلى المدينة اتفاقًا، ثم بعد أن شُرع هل كان فرض عين، أو كفاية؟ قولان مشهوران للعلماء، وهما في مذهب الشافعيّ.
وقال الماورديّ: كان عينًا على المهاجرين دون غيرهم، ويؤيده وجوب الهجرة قبل الفتح في حق كل من أسلم إلى المدينة؛ لنصر الإسلام.
وقال السهيليّ رحمه الله: كان عينًا على الأنصار دون غيرهم، ويؤيده مبايعتهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة على أن يؤووا رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصروه، فيخرج من قولهما أنه كان عينًا على الطائفتين، كفاية في حق غيرهم، ومع ذلك فليس في حق الطائفين على التعميم، بل في حقّ الأنصار إذا طرق المدينة طارق، وفي حق المهاجرين إذا أريد قتال أحد من الكفار ابتداء، ويؤيد هذا ما وقع في قصّة بدر فيما ذكره ابن إسحاق، فإنه كالصريح في ذلك، وقيل: كان عينًا في الغزوة التي يخرج فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم دون غيرها.
والتحقيق أنه كان عينًا على من عيّنه النبيّ صلى الله عليه وسلم في حقه، ولو لم يخرج.
الحال الثاني: بعده صلى الله عليه وسلم فهو فرض كفاية على المشهور، إلا أن تدعو الحاجة إليه، كأن يَدْهَمَ العدوّ، ويتعين على من عيّنه الإمام، ويتأدى فرض الكفاية بفعله في السنَةِ مرةً عند الجمهور.
ومن حجتهم أن الجزية تجب بدلًا عنه، ولا تجب في السنة أكثر من مرة اتفاقًا، فليكن بدلها كذلك، وقيل: يجب كلما أمكن، وهو قويّ، والذي يظهر أنه استمرّ على ما كان عليه في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى أن تكاملت فتوح معظم البلاد، وانتشر الإسلام في أقطار الأرض، ثم صار إلى ما تقدم ذكره.
والتحقيق أيضًا أن جنس جهاد الكفار متعيّن على كل مسلم، إما بيده، وإما بلسانه، وإما بماله، وإما بقلبه. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ وبحثٌ أنيسٌ.
وسيأتي مزيد الكلام في هذا، وبسط الكلام في أحكام الجهاد في "كتاب الجهاد" -إن شاء الله تعالى-.
4 -
(ومنها): تحريم قطع شجر الحرم، وشوكه، قال القرطبيّ رحمه الله: خصّ الفقهاء الشجر المنهيّ عن قطعه بما يُنبته الله تعالى من غير صنع آدميّ، فأما ما ينبت بمعالجة آدميّ، فاختلف فيه، فالجمهور على الجواز، وقال الشافعيّ: في الجميع الجزاء، ورجحه ابن قدامة. واختلفوا في جزاء ما قُطع من النوع الأول، فقال مالك: لا جزاء فيه، بل يأثم، وقال عطاء: يستغفر، وقال أبو حنيفة: يؤخذ بقيمته هدي، وقال الشافعيّ: في العظيمة بقرة، وفيما دونها شاة، واحتجّ الطبريّ بالقياس على جزاء الصيد، وتعقّبه ابن القصّار بأنه
كان يلزمه أن يجعل الجزاء على المحرم إذا قطع شيئًا من شجر الحلّ، ولا قائل به، وقال ابن العربيّ: اتفقوا على تحريم قطع شجر الحرم، إلا أن الشافعي أجاز قطع السواك من فروع الشجرة، كذا نقله أبو ثور عنه، وأجاز أيضًا أخذ الورق والثمر إذا كان لا يضرّها، ولا يهلكها، وبهذا قال عطاء، ومجاهد، وغيرهما، وأجازوا قطع الشوك لكونه يؤذي بطبعه، فأشبه الفواسق، ومنعه الجمهور، لهذا الحديث، وصححه المتولي من الشافعيّة، وأجابوا بأن القياس المذكور في مقابلة النصّ، فلا يعتبر به، حتى ولو لم يرد النصّ على تحريم الشوك، لكان في تحريم قطع الشجر دليل على تحريم قطع الشوك؛ لأن غالب شجر الحرم كذلك، ولقيام الفارق أيضًا، فإن الفواسق المذكورة تقصد بالأذى، بخلاف الشجر، قال ابن قدامة: ولا بأس بالانتفاع بما انكسر من الأغصان، وانقطع من الشجر بغير صنع آدميّ، ولا بما يسقط من الورق. نصّ عليه أحمد، ولا نعلم فيه خلافًا.
5 -
(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن لقطة مكة لا تلتقط للتملّك، بل للتعريف خاصّة، وهو قول الجمهور، وإنما اختصَّ بذلك عندهم لإمكان إيصالها إلى ربّها؛ لأنها إن كانت للمكيّ فظاهر، وإن كانت للآفاقيّ، فلا يخلو أفق غالبًا من وارد إليها، فإذا عرّفها واجدها في كلّ عام سهل التوصّل إلى معرفة صاحبها، قاله ابن بطال. وقال أكثر المالكية، وبعض الشافعية: هي كغيرها من البلاد، وإنما تختصّ مكة بالمبالغة في التعريف لأن الحاج يرجع إلى بلده، وقد لا يعود، فاحتاج الملتقط بها إلى المبالغة في التعريف.
6 -
(ومنها): أن بعضهم استدلّ بهذا الحديث على اشتراط الإحرام على من دخل الحرم. قال القرطبيّ: معنى قوله: "حرّمه الله" أي: يحرم على غير المحْرم دخوله حتى يُحرم، ويَجري هذا مجرى قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] أي: وطؤهنّ، وقوله:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] أي: أكلها، فعُرف الاستعمال يدلّ على تعيين المحذوف، قال: وقد دلّ على صحة هذا المعنى اعتذاره صلى الله عليه وسلم عن دخوله مكة غير محرم، مقاتلًا بقوله:"لم تحلّ لي إلا ساعة من نهار" الحديث.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وهذا الاستدلال بعيد، وسيأتي بعد باب
تحقيق المسألة، وأن الحقّ عدم وجوب الإحرام إلا لمن أراد الحج، أو العمرة -إن شاء الله تعالى-.
7 -
(ومنها): أنه استدلّ به على تحريم قطع حشيش الحرم، واختُلف في رعيه، فقال مالك، والكوفيون، واختاره الطبريّ: هو أشدّ من الاحتشاش، وقال الشافعيّ: لا بأس بالرعي لمصلحة البهائم، وهو عمل الناس، بخلاف الاحتشاش، فإنه المنهيّ عنه، فلا يتعدّى ذلك إلى غيره.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الشافعيّ رحمه الله هو الأرجح عندي؛ لظاهر النصّ، والله تعالى أعلم.
قال في "الفتح": وفي تخصيص التحريم بالرطب إشارة إلى جواز رعي اليابس، واختلائه، وهو أصحّ الوجهين للشافعيّة؛ لأن النبت اليابس كالصيد الميت. قال ابن قدامة: لكن في استثناء الإذخر إشارة إلى تحريم اليابس من الحشيش، ويدلّ عليه أن في بعض طرق حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"ولا يُحتشّ حشيشها"، قال: وأجمعوا على إباحة أخذ ما استنبته الناس في الحرم، من بقل، وزرع، ومشموم، فلا بأس برعيه، واختلائه. انتهى.
8 -
(ومنها): أن بعضهم استدلّ به على جواز النسخ قبل الفعل، حيث استثنى صلى الله عليه وسلم بقوله:"إلا الإذخر". قال الحافظ: وليس بواضح.
9 -
(ومنها): جواز الفصل بين المستثنى والمستثنى منه، ومذهب الجمهور اشتراط الاتصال، إما لفظًا، وإما حكمًا؛ لجواز الفصل بالتنفّس مثلًا، وقد اشتهر عن ابن عباس رضي الله عنهما الجواز مطلقًا، ويمكن أن يحتجّ له بظاهر القصة.
وأجابوا عن ذلك بأن هذا الاستثناء في حكم المتصل؛ لاحتمال أن يكون صلى الله عليه وسلم أراد أن يقول: "إلا الإذخر"، فشغله العباس بكلامه، فوصل كلامه بكلام نفسه، فقال:"إلا الإذخر"، وقد قال ابن مالك: يجوز الفصل مع إضمار الاستثناء، متّصلًا بالمستثنى منه.
10 -
(ومنها): بيان خصوصية النبيّ صلى الله عليه وسلم بما ذُكر في الحديث.
11 -
(ومنها): جواز مراجعة العالم في المصالح الشرعية، والمبادرة إلى ذلك في المجامع، والمشاهد.
12 -
(ومنها): عظيم منزلة العباس رضي الله عنه عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنايته بمكة؛ لكونه كان بها أصله، ومنشؤه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): أنه استُدلّ بقوله: "لم يحلّ فيه القتال لأحد قبلي"، وزاد في رواية أخرى للبخاريّ:"ولا يحلّ لأحد بعدي" على تحريم القتل، والقتال بالحرم، فأما القتل فنقل بعضهم الاتفاق على جواز إقامة حدّ القتل فيها على من أوقعه فيها، وخصّ الخلاف بمن قتل في الحلّ ثم لجأ إلى الحرم، وممن نقل الإجماع على ذلك ابن الجوزيّ، واحتجّ بعضهم بقتل ابن خطل بها، ولا حجة فيه؛ لأن ذلك كان في الوقت الذي أُحلت فيه للنبيّ صلى الله عليه وسلم كما تقدّم. وزعم ابن حزم أن مقتضى قول ابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم، وغيرهما أنه لا يجوز القتل فيها مطلقًا، ونقل التفصيل عن مجاهد، وعطاء.
وقال أبو حنيفة: لا يُقتل في الحرم حتى يخرج إلى الحلّ باختياره، لكن لا يجالس، ولا يكلّم، ويوعظ، ويذكّر حتى يخرج.
وقال أبو يوسف: يُخرَج مضطرًّا إلى الحلّ، وفعله ابن الزبير. وروى ابن أبي شيبة من طريق طاوس، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما:"من أصاب حدًّا، ثم دخل الحرم، لم يُجالس، ولم يبايع".
وعن مالك، والشافعيّ: يجوز إقامة الحدّ مطلقًا فيها؛ لأن العاصي هتك حرمة نفسه، فأبطل ما جعل الله له من الأمن.
وأما القتال، فقال الماورديّ: من خصائص مكة أن لا يحارب أهلها، فلو بغوا على أهل العدل، فإن أمكن ردّهم بغير قتال لم يجز، وإن لم يمكن إلا بالقتال، فقال الجمهور: يقاتَلون؛ لأن قتال البغاة من حقوق الله تعالى، فلا يجوز إضاعتها.
وقال آخرون: لا يجوز قتالهم، بل يضيّق عليهم إلى أن يرجعوا إلى الطاعة. قال النوويّ: والأول نصّ عليه الشافعيّ، وأجاب أصحابه عن الحديث بحمله على تحريم نصب القتال بما يعمّ أذاه، كالمنجنيق، بخلاف ما لو تحصّن الكفّار في بلد، فإنه يجوز قتالهم على كلّ وجه. وعن الشافعيّ قول آخر بالتحريم، اختاره القفّال، وجزم به في "شرح التلخيص"، وقال به جماعة من
علماء الشافعيّة، والمالكيّة. قال الطبريّ: من أتى حدًّا في الحلّ، واستجار بالحرم، فللإمام إلجاؤه إلى الخروج منه، وليس للإمام أن ينصب عليه الحرب، بل يُحاصره، ويضيّق عليه حتى يُذعن للطاعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"وإنما أُحلّت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس"، فعُلم أنها لا تحلّ لأحد بعده بالمعنى الذي حلّت له به، وهو محاربة أهلها، والقتل فيها. ومال ابن العربيّ إلى هذا.
وقال ابن المنيّر: قد أكّد النبيّ صلى الله عليه وسلم التحريم بقوله: "حرّمه الله"، ثم قال:"فهو حرام بحرمة الله"، ثم قال:"ولم تحلّ لي إلا ساعة من نهار"، وكان إذا أراد التأكيد ذكر الشيء ثلاثًا، قال: فهذا نصّ لا يحتمل التأويل.
وقال القرطبيّ: ظاهر الحديث يقتضي تخصيصه صلى الله عليه وسلم بالقتال؛ لاعتذاره عما أبيح له من ذلك مع أن أهل مكة كانوا إذ ذاك مستحقّين للقتال، والقتل؛ لصدّهم عن المسجد الحرام، وإخراجهم أهله منه، وكفرهم، وهذا الذي فهمه أبو شُريح كما في حديثه الآتي، وقال به غير واحد من أهل العلم.
وقال ابن دقيق العيد: يتأكّد القول بالتحريم بأن الحديث دالّ على أن المأذون للنبيّ صلى الله عليه وسلم فيه لم يؤذن لغيره فيه، والذي وقع له إنما هو مطلق القتال، لا القتال الخاصّ بما يعمّ، كالمنجنيق، فكيف يسوغ التأويل المذكور؟ وأيضًا فسياق الحديث يدلّ على أن التحريم لإظهار حرمة البقعة بتحريم سفك الدماء فيها، وذلك لا يختصّ بما يستأصل، قاله في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما ذُكر من التحقيقات المذكورة أن القول الراجح تحريم القتال في الحرم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم، هل مكة فتحت عنوة، أو صلحًا؟:
ذهب جمْع من أهل العلم إلى أنها فتحت عنوةً، وهو قول الأكثرين.
وذهب الشافعيّ، وأحمد في رواية عنه إلى أنها فتحت صلحًا؛ واحتجّوا
(1)
"الفتح" 4/ 522 - 523.
بتأمين النبيّ صلى الله عليه وسلم أهلها، ولإضافة الدار إلى أهلها؛ ولأنها لم تُقسم، ولأن الغانمين لم يملكوا دُورها، وإلا لجاز إخراج أهل الدار منها.
واحتجّ الأولون بما وقع من تصريحه صلى الله عليه وسلم من الأمر بالقتال، ووقوعه من خالد بن الوليد، وبتصريحه صلى الله عليه وسلم بأنها أُحلت له ساعة من نهار، ونهيه عن التأسي به في ذلك.
وأجابوا عن ترك القسمة بأنها لا تستلزم عدم العنوة، فقد تفتح البلدة عنوة، ويمنّ على أهلها، ويُترك لهم دُورهم، وغنائمهم؛ لأن قسمة الأرض المغنومة ليست متفقًا عليها، بل الخلاف ثابت عن الصحابة، فمن بعدهم، وقد فُتحت أكثر البلاد عنوة، فلم تقسم، وذلك في زمن عمر، وعثمان، مع وجود أكثر الصحابة، وقد زادت مكة عن ذلك بأمر يمكن أن يدّعى اختصاصها به، دون بقية البلاد، وهي أنها دار النسك، ومتعبّد الخلق، وقد جعلها الله تعالى حرمًا، سواء العاكف فيه والباد.
قال الحافظ: وأما قول النوويّ: احتجّ الشافعيّ بالأحاديث المشهورة بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم صالحهم بمرّ الظهران قبل دخول مكة، ففيه نظر؛ لأن الذي أشار إليه إن كان مراده ما وقع له صلى الله عليه وسلم:"من دخل دار أبي سفيان، فهو آمن"، كما في "صحيح البخاريّ"، وكذا:"من دخل المسجد"، كما عند ابن إسحاق، فإن ذلك لا يسمى صلحًا إلا إذا التزم من أشير إليه بذلك الكفّ عن القتال، والذي ورد في الأحاديث الصحيحة ظاهر في أن قريشًا لم يلتزموا ذلك؛ لأنهم استعدّوا للحرب، كما ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم:"إن قريشًا وَبَّشَتْ أوباشًا لها، وأتباعًا، فقالوا: نقدّم هؤلاء، فإن كان لهم شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطيناه الذي سألنا، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: أترون أوباش قريش؟ ثم قال بإحدى يديه على الأخرى؛ أي: احصدوهم حصدًا، حتى توافوني على الصفا، قال: فانطلقنا، فما نشاء أن نقتل أحدًا إلا قتلناه".
وإن كان مراده بالصلح وقوع عقد به، فهذا لم يُنقل، ولا أظنه عنى إلا الاحتمال الأول، وفيه ما ذكرته.
وتمسّك أيضًا من قال: إنه مبهم بما وقع عند ابن إسحاق في سياق قصّة الفتح: فقال العباس: لعلي أجد بعض الحطابة، أو صاحب لبن، أو ذا حاجة
يأتي مكة، فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا إليه، فيستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة، ثم قال في القصّة بعد قصّة أبي سفيان:"من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن"، فتفرق الناس إلى دورهم، وإلى المسجد.
وعند موسى بن عقبة في "المغازي " -وهي أصحّ ما صُنّف في ذلك عند جماعة- ما نصّه: أن أبا سفيان، وحكيم بن حزام، قالا: يا رسول الله كنت حقيقًا أن تجعل عُدّتك، وكيدك بهوازن، فإنهم أبعد رحمًا، وأشدّ عداوة، فقال:"إني أرجو أن يجمعهما الله لي: فتح مكة، وإعزاز الإسلام بها، وهزيمة هوازن، وغنيمة أموالهم"، فقال أبو سفيان، وحكيم: فادع الناس بالأمان، أرأيت إن اعتزلت قريش، فكفّت أيديها أآمنون هم؟ قال:"من كفّ يده، وأغلق داره، فهو آمن"، قالوا: فابعثنا نؤذّن بذلك فيهم، قال:"انطلقوا، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل دار حكيم فهو آمن"، ودار أبي سفيان بأعلى مكة، ودار حكيم بأسفلها، فلما توجها قال العباس: يا رسول الله إني لا آمن أبا سفيان أن يرتدّ، فردّه حتى تريه جنود الله، قال:"افعل"، فذكر القصّة، وفي ذلك تصريح بعموم التأمين، فكان هذا أمانًا منه لكل من لم يقاتل من أهل مكة، فمن ثمّ قال الشافعيّ: كانت مكة مأمونة، ولم يكن فتحها عنوةً، والأمان كالصلح، وأما الذين تعرّضوا للقتال، أو الذين استُثنوا من الأمان، وأمر أن يُقتلوا، ولو تعلّقوا بأستار الكعبة، فلا يستلزم ذلك أنها فتحت عنوة.
ويمكن الجمع بين حديث أبي هريرة في أمره صلى الله عليه وسلم بالقتال، وبين تأمينه صلى الله عليه وسلم لهم بأن يكون التأمين علّق بشرط، وهو ترك قريش المجاهرة بالقتال، فلما تفرّقوا إلى دُورهم، ورضوا بالتأمين المذكور لم يستلزم أن أوباشهم الذين لم يقبلوا ذلك، وقاتلوا خالد بن الوليد، ومن معه، فقاتلهم حتى قتلهم، وهزمهم أن تكون البلدة فُتحت عنوة؛ لأن العبرة بالأصول، لا بالأتباع، وبالأكثر، لا بالأقلّ، ولا خلاف مع ذلك أنه لم يجر فيها قسم غنيمة، ولا سبي من أهلها ممن باشر القتال أحد، وهو مما يؤيّد قول من قال: لم يكن فتحها عنوة. وعند أبي داود بإسناد حسن، عن جابر رضي الله عنه؛ أنه سئل: هل غنمتم يوم الفتح شيئًا؟ قال: لا.
وجنحت طائفة -منهم الماورديّ- إلى أن بعضها فتح عنوة لِمَا وقع من قصّة خالد بن الوليد المذكورة، وقرر ذلك الحاكم في "الإكليل".
قال الحافظ: والحقّ أن صورة فتحها كان عنوة، ومعاملة أهلها معاملة من دخل بأمان.
ومنع جمعٌ منهم السهيليّ ترتب عدم قسمتها، وجواز بيع دُورها، وإجارتها على أنها فُتحت صلحًا:
أما أوّلًا: فلأن الإمام مخيّر في قسمة الأرض بين الغانمين، إذا انتُزِعَت من الكفار، وبين إبقائها وقفًا على المسلمين، ولا يلزم من ذلك منع بيع الدور، وإجارتها.
وأما ثانيًا: فقال بعضهم: لا تدخل الأرض في حكم الأموال؛ لأن من مضى كانوا إذا غلبوا على الكفار لم يغنموا الأموال، فتنزل النار، فتأكلها، وتصير الأرض عمومًا لهم، كما قال الله تعالى:{ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} الآية [المائدة: 21]. وقال: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} الآية [الأعراف: 137]. والمسألة مشهورة فلا نطيل بها هنا، قاله في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يترجح عندي قول من قال: إن مكة فتحت عنوة؛ لوضوح أدلته المتقدّمة، ولا يلزم من ذلك عدم قسمتها بين الغانمين، لأن للإمام أن يمتنّ على أهل البلد بما رأى، فقد منّ صلى الله عليه وسلم على أهل مكة بأنفسهم، وأموالهم، فتأمل، وستكون لنا عودة إلى تكميل ما تبقّى من البحث في محله -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3304]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا مُفَضَّلٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، فِي هَذَا الْإِسْنَادِ بِمِثْلِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ: "يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
(1)
"الفتح" 9/ 398 - 400 "كتاب المغازي" رقم (4280).
وَالْأَرْضَ"، وَقَالَ بَدَلَ "الْقِتَالِ": "الْقَتْلَ"، وَقَالَ: "لَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ، إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(يَحْيَى بْنُ آدَمَ) بن سليمان الأمويّ مولاهم، أبو زكرياء الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ، من كبار [9](ت 203)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
3 -
(مُفَضَّلُ) بن المُهَلْهَل السعديّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقة ثبتٌ نَبِيلٌ عابدٌ [7](ت 167)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
و"منصور" بن المعتمر ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية المفضّل، عن منصور هذه ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، (9/ 35) فقال:
(3720)
- أخبرنا الْمُفَضَّل بن محمد الْجَنَديّ، قال: حدّثنا الحسن بن عليّ الحلوانيّ، قال: حدّثنا يحيى بن آدم، قال: حدّثنا مُفَضَّل بن مُهَلْهَل، عن منصور، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرام، حرّمه الله إلى يوم القيامة، لا يُنَفَّر صيده، ولا يُعْضَد شوكه، ولا تُلْتَقط لقطته، إلا مَن عَرَّفها، ولا يُخْتَلَى خَلاؤه"، فقال العباس: إلا الإذخر، فإنه لبيوتهم، فقال:"إلا الإذخر، ولا هجرةَ، ولكن جهاد ونيّة، وإذا استنفرتم فانفروا". انتهى.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3305]
(1354) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ، أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ: ائْدَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ، أحَدِّثْكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ، حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ؛ أَنَّهُ حَمِدَ اللهَ،
وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:"إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا، فَقُولُوا لَهُ: إِنَّ اللهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، وَلْيُبَلِّغ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ"، فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ: مَا قَالَ لَكَ عَمْرٌو؟ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا، وَلَا فَارًّا بِدَمٍ، وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قريبًا.
2 -
(لَيْثُ) بن سعد الإمام المصريّ المشهور، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ) المقبريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(أَبُو شُرَيْحٍ الْعَدَوِيُّ) الْخُزاعيّ الْكَعْبيّ، اسمه خُوَيلد بن عمرو، أو عكسه، وقيل: عبد الرحمن بن عمرو، وقيل: هانئ، وقيل: كعب، صحابيّ نزل المدينة، ومات رضي الله عنه سنة (68) على الصحيح (ع) تقدم في "شرح المقدمة"ج 2 ص 483.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (209) من رباعيات الكتاب.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أن فيه مدنيين: سعيد، وأبو شريح، ومصريين: الليث، وقتيبة، وهو وإن كان بغلانيًّا، إلا أنه دخل مصر.
4 -
(ومنها): أن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب الستّة إلا نحو ستّة أحاديث، راجع:"تحفة الأشراف"(9/ 223 - 226)، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيّ) وكذا وقع في رواية البخاريّ في "الحج"، فقال
في "الفتح": كذا وقع هنا، وفيه نظر؛ لأنه خُزاعيّ، من بني كعب بن ربيعة بن لحيّ، بطن من خزاعة، ولهذا يقال له: الكعبيّ أيضًا، وليس هو من بني عديّ، لا من عديّ قريش، ولا عديّ مُضَر، فلعله كان حليفًا لبني عديّ بن كعب من قريش، وقيل: في خُزاعة بطن يقال لهم: بنو عديّ ..
وقد وقع في رواية ابن أبي ذئب، عن سعيد: سمعت أبا شريح. أخرجه أحمد. انتهى.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "عن أبي شُريح الْعَدَويّ" هكذا ثبت في "الصحيحين" الْعَدَويّ في هذا الحديث، ويقال له أيضًا: الْكَعبيّ، والْخُزاعيّ، قيل: اسمه خُويلد بن عمرو، وقيل عمرو بن خُويلد، وقيل: عبد الرحمن بن عمرو، وقيل: هانئ بن عمرو، أسلم قبل فتح مكة، وتوفي بالمدينة سنة ثمان وستين. انتهى
(1)
.
(أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيد) بن العاص بن أمية القرشيّ الأمويّ المعروف بالأشدق، وليست له صحبة، ولا كان من التابعين لهم بإحسان (وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ) جمع بعث بمعنى مبعوث، وهو من تسمية المفعول بالمصدر، والمراد به الجيش المجهّز لقتال عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما (إِلَى مَكَّةَ) متعلّق بيبعث، وجملة:"وهو يبعث إلخ" في محل نصب على الحال من عمرو؛ أي: والحال أن عمرو بن سعيد يرسل الجيوش لقتال عبد الله بن الزبير؛ لكونه امتنع من مبايعة يزيد بن معاوية، واعتصم بالحرم، وكان عمرو والي يزيد على المدينة.
[فائدة]: ذكر في "الفتح" في "كتاب العلم" قصة بعث عمرو بن سعيد بعثه إلى مكة، وملخصها: أن معاوية عهد بالخلافة بعده ليزيد بن معاوية، فبايعه الناس، إلا الحسين بن عليّ، وابن الزبير، فأما ابن أبي بكر، فمات قبل موت معاوية، وأما ابن عمر، فبايع ليزيد عقب موت أبيه، وأما الحسين بن عليّ، فسار إلى الكوفة لاستدعائهم إياه ليبايعوه، فكان ذلك سبب قتله، وأما ابن الزبير، فاعتصم، ويسمّى عائذ البيت، وغلب على أمر مكة، فكان يزيد بن
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 127.
معاوية يأمر أمراءه على المدينة أن يجهّزوا الجيوش، فكان آخر ذلك أن أهل المدينة اجتمعوا على خلع يزيد من الخلافة.
وذكر في "كتاب الحجّ" ما نصّه: وقد ذكر الطبريّ القصّة عن مشايخه، فقالوا: كان قدوم عمرو بن سعيد واليًا على المدينة من قِبَل يزيد بن معاوية في ذي القعدة سنة ستين. وقيل: قدمها في رمضان منها، وهي السنة التي ولي فيها يزيد الخلافة، فامتنع ابن الزبير من بيعته، وأقام بمكة، فجهّز إليه عمرو بن سعيد جيشًا، وأَمّر عليهم عمرو بن الزبير، وكان معاديًا لأخيه عبد الله، وكان عمرو بن سعيد قد ولّاه شرطته، ثم أرسله إلى قتال أخيه، فجاء مروان إلى عمرو بن سعيد، فنهاه، فامتنع، وجاء أبو شُريح، فذكر القصّة، فلما نزل الجيش ذا طُوَى خرج إليهم جماعة من أهل مكة، فهزموهم، وأُسر عمرو بن الزبير، فسجنه أخوه بسجن عارم، وكان عمرو بن الزبير قد ضرب جماعة من أهل المدينة ممن اتُّهِم بالميل إلى أخيه، فأقادهم عبد الله منه حتى مات عمرو من ذلك.
[تنبيه]: وقع في "السير" لابن إسحاق، و"مغازي الواقديّ" أن المراجعة المذكورة وقعت بين أبي شريح، وبين عمرو بن الزبير، فإن كان محفوظًا احتمل أن يكون أبو شُريح راجع الباعث، والمبعوث. والله أعلم. انتهى.
(ائْذَنْ لِي) فعْل أمْر من الإذن، ووقع عند النسائيّ:"ايذن لي" بالياء، وأصله ائذن بهمزتين، فقُلبت الثانية ياء لسكونها، وانكسار ما قبلها.
(أَيُّهَا الْأَمِيرُ) بحذف حرف النداء، وأصله: يا أيها الأمير، ويستفاد منه حسن التَّلَطُّفِ في مخاطبة السلطان ليكون أدعى لقبوله النصيحة، وأن السلطان لا يخاطَب إلا بعد استئذانه، ولاسيما إذا كان في أمر يُعْتَرض به عليه، فيترك ذلك، والغلظة له قد يكون سببًا لإثارة نفسه، ومعاندة من يخاطبه (أُحَدِّثْكَ) بالجزم؛ لأنه جواب الأمر (قَوْلًا، قَامَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) جملة "قام" صفة لـ"قولًا"(الْغَدَ) منصوب على الظرفية متعلق بـ"قام"(مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ) أي: أنه خطب في اليوم الثاني من فتح مكة.
ووقع عند أحمد، من طريق ابن إسحاق، عن سعيد المقبريّ زيادة في أوله توضّح المقصود، وهي: "لَمّا بَعَث عمرو بن سعيد إلى مكة بعْثه لغزو ابن
الزبير أتاه أبو شُريح، فكلمه، وأخبره بما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج إلى نادي قومه، فجلس فيه، فقمت إليه، فجلست معه، فحَدَّث قومه، قال: قلت له: يا هذا إنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة، فلما كان الغد من يوم الفتح عَدَت خُزاعة على رجل من هُذيل، فقتلوه، وهو مشرك، فقام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبًا"، فذكر الحديث.
وأخرج أحمد أيضًا من طريق الزهريّ، عن مسلم بن يزيد الليثيّ، عن أبي شُريح الخزاعيّ أنه سمعه يقول: "أذن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح في قتال بني بكر حتى أصبنا منهم ثأرنا، وهو بمكة، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع السيف، فلقي الغدَ رهطٌ منا رجلًا من هذيل في الحرّ يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان وَتَرَهم في الجاهلية، وكانوا يطلبونه، فقتلوه، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب غضبًا شديدًا ما رأيته غضب غضبًا أشدّ منه، فلما صلى قام، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإن الله حرّم مكة
…
الحديث.
(سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ) أراد أنه بالغ في حفظه، والتثبت فيه، وأنه لم يأخذه بواسطة، وأتى بالتثنية تأكيدًا (وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ، حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ) أي: بذلك القول.
وفي هذا الكلام إشارة إلى بيان حفظه له من جميع الوجوه، فقوله:"سمعته" أي: حملته عنه بغير واسطة، وذكر الأذنين للتأكيد، وقوله:"ووعاه قلبي" تحقيق لفهمه، وتثبّته، وقوله:"وأبصرته عيناي" زيادة في تحقيق ذلك، وأن سماعه منه ليس اعتمادًا على الصوت فقط، بل مع المشاهدة، وقوله:"حين تكلّم به" أي: بالقول المذكور، ويؤخذ من قوله:"ووعاه قلبي" أن العقل محله القلب.
وقال النوويّ رحمه الله: أراد بهذا كلِّه المبالغة في تحقيق حفظه إياه، وتيقنه زمانَهُ ومكانَهُ، ولفظه. انتهى
(1)
.
(أَنَّهُ حَمِدَ اللهَ) هو بيان لقوله: "تكلم". ويؤخذ منه استحباب الثناء على الله تعالى بين يدي تعليم العلم، وتبيين الأحكام، والخطبة في الأمور
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 127.
المهمّة، وقد تقدم من رواية ابن إسحاق أنه قال فيها:"أما بعد"(وَأثْنَى عَلَيْهِ) عطف على جملة الحمد، من عطف العام على الخاصّ (ثُمَّ قَالَ:"إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ) بضم أوله، من التحريم؛ أي: أن تحريمها كان بوحي من الله، لا أنها اصطلح الناس على تحريمها بغير أمر الله تعالى، وتقدم الجمع بين هذا وبين حديث: "إن إبراهيم حرّم مكة" في شرح حديث ابن عباس رضي الله عنهما الماضي.
(وَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ، يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فيه تنبيه على الامتثال؛ لأن من آمن بالله لزمته طاعته، ومن آمن باليوم الآخر لزمه امتثال ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه؛ خوف الحساب عليه.
قال النوويّ رحمه الله: هذا قد يحتجّ به من يقول: إن الكفار غير مخاطَبين بفروع الشريعة، والصحيح عند الأكثرين أنهم مخاطبون بها كما هم مخاطبون بأصوله، وجوابهم بأنه صلى الله عليه وسلم إنما قال:"ولا يحلّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر"؛ لأن المؤمن هو الذي ينقاد لأحكام شرعنا، وينزجر عن محرّماته، ويستثمر أحكامه، فجعل الكلام فيه، وليس فيه نفي ذلك عن غيره. انتهى.
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: الذي أراه أنه خطاب التهييج، نحو قوله تعالى:{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]. فالمعنى أن استحلال هذا المنهيّ عنه لا يليق بمن يؤمن بالله، واليوم الآخر، بل ينافيه، فهذا هو المقتضي لذكر هذا الوصف، ولو قيل: لا يحلّ لأحد مطلقًا لم يحصل منه هذا الغرض، وإن أفاد التحريم.
(أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا) بكسر الفاء، من باب ضرب، وفيه لغة أخرى، من باب قتل، وهو صبّ الدم، والمراد به القتل.
واستدلّ به على تحريم القتل والقتال بمكة، وهو القول الراجح، وتقدّم تحقيقه قريبًا (وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرًا) بكسر الضاد المعجمة، وفتح الدال المهملة؛ أي: يُقطع بالمِعضد، وهو آلة كالفأس.
(فَإِنْ تَرَخَّصَ أَحَدٌ لِقِتَالِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا) وفي رواية ابن أبي ذئب عند أحمد: "فإن ترخّص مترخّص، فقال: أُحلّت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله أحلها
لي، ولم يُحلّها للناس". وفي مرسل عطاء بن يزيد، عند سعيد بن منصور: "فلا يستنّ بي أحد، فيقول: قتل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم" (فَقُولُوا لَهُ: إِنَّ اللهَ أَذِنَ لِرَسُيولهِ) صلى الله عليه وسلم (وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ) بفتح أوله، والفاعل "الله"، ويروى بضمة على البناء للمفعول.
والحاصل أن استدلاله باطل بوجهين: من جهة الخصوص، وعدم البقاء.
وقوله (لِي) التفات؛ لأن نسق الكلام: وإنما أذن له؛ أي: لرسوله صلى الله عليه وسلم (فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ) أي: مقدارًا من الزمان، وهو ما بين طلوع الشمس، وصلاة العصر، وفي "مسند أحمد"، من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه: "لما فتحت مكة، قال: كفّوا السلاح، إلا خزاعة عن بني بكر، فأذن لهم حتى صلى العصر، ثم قال: كفوا السلاح، فلقي رجل من خزاعة رجلًا من بني بكر من غد بالمزدلفة، فقتله، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام خطيبًا، فقال - ورأيته مسندًا ظهره إلى الكعبة
…
"، فذكر الحديث.
ويستفاد منه أن قتل من أذن النبيّ في قتلهم -كابن خطل- وقع في الوقت الذي أبيح للنبيّ صلى الله عليه وسلم فيه القتال، خلافًا لمن حَمَل قوله:"ساعة من النهار" على ظاهره، فاحتاج إلى الجواب عن قصّة ابن خطل.
(وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا) أي: الحكم الذي في مقابلة إباحة القتال المستفاد من لفظ الإذن (الْيَوْمَ) المراد به الزمن الحاضر، وقد بيّن غايته في رواية ابن أبي ذئب المذكورة بقوله:"ثم هي حرام إلى يوم القيامة"، وكذا في حديث ابن عباس رضي الله عنهما المتقدّم بقوله:"فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة"(كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ) وكتب السنديّ رحمه الله على قوله: "وقد عادت حرمتها إلخ" ما نصّه: كناية عن عودة حرمتها بعد تلك الساعة كما كانت قبل تلك الساعة، فلا إشكال بأن الخطبة كانت في الغد من يوم الفتح، وعود الحرمة كان بعد تلك الساعة، لا في الغد، فما معنى اليوم، ولا بأن أمس هو يوم الفتح، وقد رُفعت الحرمة فيه، فكيف قيل:"كحرمتها بالأمس"؟
ويَحْتَمِل أن يقال: "اليوم" ظرف للحرمة، لا للعود، ومعنى "كحرمتها" أي: كرفع حرمتها؛ أي: العود كالرفع، حيث كان كلّ منهما بأمره تعالى، والله
تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
(وَلْيُبَلَّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ") أي: ليبلّغ الشخص الحاضر هذه الخطبة إلى من غاب عنها.
قال ابن جرير رحمه الله: فيه دليل على جواز قبول خبر الواحد؛ لأنه معلوم أن كلّ من شهد الخطبة قد لزمه الإبلاغ، وأنه لم يأمرهم بإبلاغ الغائب عنهم إلا وهو لازم له فرض العمل بما أُبلِغَهُ، كالذي لزم السامع سواءً، وإلا لم يكن للأمر بالتبليغ فائدة. انتهى.
وقال النوويّ رحمه الله: هذا اللفظ قد جاءت به أحاديث كثيرة، وفيه التصريح بوجوب نقل العلم، وإشاعة السنن والأحكام. انتهى
(2)
.
(فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ) رضي الله عنه (مَا قَالَ لَكَ عَمْرُو؟)"ما" استفهاميّة؛ أي: أيَّ شيء قال لك عمرو بن سعيد حين أخبرته بهذا الحديث؟ (قَالَ) أي: قال عمرو (أَنَّا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْح) قال القرطبيّ رحمه الله: قول عمرو بن سعيد هذا ليس بصحيح للذي تمسّك به أبو شُريح رضي الله عنه، ولما في حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما كما قدّمناه، وحاصل قوله أنه تأويل غير معضود بدليل. انتهى
(3)
.
(إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ) بالذال المعجمة؛ أي: لا يُجير، ولا يَعصِم (عَاصِيًا، وَلَا فَارًّا بِدَم) -بالفاء، وتثقيل الراء-؛ أي: هاربًا، والمراد من وجب عليه القتل، فهَرَب إلى مكة مستجيرًا بالحرم، وهي مسألة فيها خلاف بين العلماء، وأغرب عمرو بن سعيد في سياقه الحكم مساق الدليل، وفي تخصيصه العموم بلا مستند.
(وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ) -بفتح المعجمة، وإسكان الراء، ثم موحدة- يعني السرقة، وقيل:"الخربة" بالضم: الفساد، وبالفتح: السرقة، وأصلها سرقة الإبل، ثم استُعْمِلت في كل سرقة، وعن الخليل: الخربة الفساد في الإبل، وقيل: العيب، وقيل: بضم أوله: العورة، وقيل: الفساد، وبفتحه: الفعلة الواحدة من الخرابة، وهي السرقة.
(1)
"شرح السنديّ على النسائيّ" 5/ 206.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 128.
(3)
"المفهم" 3/ 475.
وقد وَهِمَ من عدّ كلام عمرو بن سعيد هذا حديثًا، واحتجّ بما تضمنه كلامه.
قال ابن حزم: لا كرامة للَطيم الشيطان يكون أعلم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأغرب ابن بطال، فزعم أن سكوت أبي شُريح عن جواب عمرو بن سعيد دالّ على أنه رجع إليه في التفصيل المذكور.
ويعكر عليه ما وقع في رواية أحمد أنه قال في آخره: "قال أبو شريح: فقلت لعمرو: قد كنتُ شاهدًا، وكنتَ غائبًا، وقد أمرنا أن يبلغ شاهدنا غائبنا، وقد بلغتك"، فهذا يشعر بأنه لم يوافقه، وإنما ترك مشاققته لعجزه عنه لما كان فيه من قوة الشوكة.
وقال ابن بطال أيضًا: ليس قول عمرو جوابًا لأبي شُريح؛ لأنه لم يختلف معه في أن من أصاب حدًّا في غير الحرم، ثم لجأ إليه أنه يجوز إقامة الحدّ عليه في الحرم، فإن أبا شريح أنكر بعث عمرو الجيش إلى مكة، ونصب الحرب عليها، فأحسن في استدلاله بالحديث، وحاد عمرو عن جوابه، وأجاب عن غير سؤاله.
وتعقّبه الطيبيّ بأنه لم يَحِد في جوابه، وإنما أجاب بما يقتضي القول بالموجَب، كأنه قال له: صحّ سماعك، وحفظك، لكن المعنى المراد من الحديث الذي ذكرته خلاف ما فهمته منه، فإن ذلك الترخص كان بسبب الفتح، وليس بسبب قتل من استحقّ القتل خارج الحرم، ثم استجار بالحرم، والذي أنا فيه من القبيل الثاني.
قال الحافظ: لكنها دعوى من عمرو بغير دليل؛ لأن ابن الزبير لم يجب عليه حدّ، فعاذ بالحرم فرارًا منه حتى يصحّ جواب عمرو.
نعم كان عمرو يرى وجوب طاعة يزيد الذي استنابه، وكان يزيد أمر ابن الزبير أن يبايع له بالخلافة، ويحضر إليه في جامعة، يعني مغلولًا، فامتنع ابن الزبير، وعاذ بالحرم، فكان يقال له بذلك: عائذ الله، وكان عمرو يعتقد أنه عاص بامتناعه من امتثال أمر يزيد، ولهذا صدر كلامه بقوله:"إن الحرم لا يعيذ عاصيًا"، ثم ذكر بقية ما ذكر استطرادًا، فهذه شبهة عمرو، وهي واهية،
قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال في موضع آخر: وقد تشدّق عمرو في الجواب، وأتى بكلام ظاهره حقّ، لكن أراد به الباطل، فإن الصحابيّ أنكر عليه نصب الحرب على مكة، فأجابه بأنها لا تمنع من إقامة القصاص، وهو صحيح، إلا أن ابن الزبير لم يرتكب أمرًا يجب عليه فيه شيء من ذلك
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي شريح رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [79/ 3305](1355)، و (البخاريّ) في "العلم"(104) و"الحج"(1832) و"المغازي"(4295)، و (الترمذيّ) في "الحج"(409) و"الديات"(1406)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(2877) وفي "الكبرى"(3859)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 200)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 31 و 32 و 384 و 385)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(22/ 185)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 433)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 33)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 59 و 9/ 212) و"المعرفة"(6/ 175)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان تحريم القتال في حرم مكة.
2 -
(ومنها): بيان شرف مكة حرسها الله تعالى.
3 -
(ومنها): استحباب تقديم الحمد والثناء على الله تعالى قبل الدخول في الكلام المقصود.
4 -
(ومنها): أن التحليل والتحريم من عند الله تعالى، لا مدخل للبشر فيه، وأن ذلك لا يُعْرَف إلا منه سبحانه وتعالي، وأن وظيفة الرسل تبليغ ذلك إلى الناس.
(1)
"الفتح" 4/ 519 - 520.
(2)
"الفتح" 1/ 269 "كتاب العلم".
5 -
(ومنها): إثبات خصائصَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واستواء المسلمين معه في الأحكام، إلا في تلك الخصائص.
6 -
(ومنها): فضل أبي شريح رضي الله عنه؛ لاتّباعه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه، مع أن من واجهه بهذا معروف بالجور والظلم.
7 -
(ومنها): جواز إخبار المرء عن نفسه بما يقتضي ثقته، وضبطه لِمَا سمعه، ونحو ذلك.
8 -
(ومنها): إنكار العالم على الحاكم ما يغيّره من أمر الدين، والموعظة بلطف، وتدرّج، والاقتصار في الإنكار على اللسان، إذا لم يستطع باليد.
9 -
(ومنها): وقوع التأكيد في الكلام البليغ.
10 -
(ومنها): جواز المجادلة في الأمور الدينيّة.
11 -
(ومنها): جواز النسخ.
12 -
(ومنها): أن مسائل الاجتهاد لا يكون فيها مجتهد حجة على مجتهد.
13 -
(ومنها): الخروج عن عهدة التبليغ، والصبر على المكاره لمن لا يستطيع بُدًّا من ذلك.
14 -
(ومنها): أن في قوله: "ووعاه قلبي" دليلًا على أن العقل محله القلب، لا الدماغ، وهو قول الجمهور؛ لأنه أَبُو كان محله الدماغ لقال: ووعاه رأسي، وفي المسألة قول ثالث، أنه مشترك بينهما.
15 -
(ومنها): أنه تمسك به من قال: إن مكة فتحت عنوة. قال النوويّ: تأوّل من قال: فتحت صلحًا بأن القتال كان جائزًا له لو فعله، لكن لم يحتج إليه.
وتعقّب بأنه خلاف الواقع، فالحقّ أنها فتحت عنوة، إلا أنه صلى الله عليه وسلم منّ على أهلها، وقد تقدّم تحقيق ذلك في شرح حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3306]
(1355) - (حَدَّثَني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، جَمِيعًا عَنْ الْوَلِيدِ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثنَا الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَني يَحْيىَ بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرُّحْمَنِ، حَدَّثَنى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا
فَتَحَ اللهُ عَلَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، قَامَ فِي النَّاسِ، فَحَمِدَ اللهَ، وَأثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:"إِنَّ اللهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهَا لَنْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَإِنَّهَا لَنْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، فَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ، وَمَن قُتِلَ لَهُ قَتِيل، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُفْدَى، وَإِمَّا أَنْ يُقْتَلَ"، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: إِلَّا الإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي قُبُورِنَا وَبُيُوتنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِلَّا الإِذْخِرَ"، فَقَامَ أَبُو شَاهٍ، رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالَ: اكْتُبُوا لِي يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"اكْتبُوا لِأَبِي شَاهٍ". قَالَ الْوَلِيدُ: فَقُلْتُ لِلْأَوْزَاعِيِّ: مَا قَوْلُهُ: اكْتبوا لِي يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: هَذ الْخُطْبَةَ الَّتي سَمِعَهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ) أبو قُدامة السرخسيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(الْوَليدُ بْنُ مُسْلِم) القرشيّ مولاهم، أبو العبّاس الدمشقيّ، ثقةٌ، لكنه كثير التدليس والتسوية [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.
4 -
(الْأَوْزَاعِيُّ) عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو، أبو عمرو الفقيه، ثقةٌ جليلٌ [7](ت 157)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
5 -
(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) صالح بن المتوكّل، أبو نصر البصريّ، نزيل اليمامة، ثقةٌ ثبتٌ يدلّس ويرسل [5](ت 132) أو قبل ذلك (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 424.
6 -
(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهري المدنيّ، ثقةٌ مكثر فقيه [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.
7 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما، ثم فضل.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، والثاني تفرّد به هو والبخاريّ، والنسائيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث من أوله إلى آخره.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين.
شرح الحديث:
عن أبي سَلَمَةَ بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عوف أنه قال: (حَدَّثَني أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (قَالَ: لَمَّا فَتَحَ اللهُ عَلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَكَةَ، قَامَ فِي النَّاسِ) ظاهره أن الخطبة وقعت عقيب الفتح، وليس كذلك، بل وقعت بعد الفتح عقب قتل رجل من خُزاعة رجلًا من بني ليث، والدليل على ذلك ما في الرواية التالية من طريق شيبان النحويّ، عن يحيى بن أبي كثير: "إن خُزاعة قتلوا رجلًا من بني ليث عام فتح مكة بقتيل منهم قتلوه، فأُخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرَكِب راحلته، فخطب، فقال: إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلّط عليها رسوله والمؤمنين
…
" الحديث.
(فَحَمِدَ اللهَ، وَأثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ اللهَ حَبَسَ) أي: منع (عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ) -بالفاء المكسورة، وسكون الياء، آخر الحروف- وهو الحيوان المشهور الذي ذكره الله تعالى في قوله:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)} [الفيل: 1]، فأرسل الله تعالى على أصحابه طيرًا أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، حين وصلوا إلى بطن الوادي بالقرب من مكة
(1)
.
وفي رواية البخاريّ: "إن الله حبس عن مكة القتل، أو الفيل" بالشكّ، الأول بالقاف، والتاء المثناة من فوقُ، وقال الكرمانيّ: ما يدلّ عليه أنه رُوي: والفتك أيضًا بالفاء والكاف، وفسَّره بسفك الدم، وله وجه إن ساعدته الرواية، قاله في "العمدة"
(2)
.
وقال في "الفتح": المراد بحبس الفيل حبس أهل الفيل، وأشار بذلك
(1)
"عمدة القاري" 2/ 165.
(2)
"عمدة القاري" 2/ 165.
إلى القصة المشهورة للحبشة في غزوهم مكة، ومعهم الفيل، فمنعها الله منهم، وسلّط عليهم الطير الأبابيل، مع كون أهل مكة إذ ذاك كانوا كفّارًا، فحرمة أهلها بعد الإسلام آكد، لكن غزو النبيّ صلى الله عليه وسلم إياها مخصوص به على ظاهر هذا الحديث وغيره
(1)
.
(وَسَلَّطَ عَلَيْهَا) أي: على مكة؛ أي: على أهلها الكفّار (رَسُولَهُ) صلى الله عليه وسلم (وَالْمُؤْمِنِينَ) أي: الصحابة الذين غزوها معه صلى الله عليه وسلم (وَإِنَّهَا لَنْ تَحِل لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي) أي: من الأنبياء وغيرهم، زاد في الرواية التالية:"ولن تحلّ لأحد بعدي"(وَإنَّهَا أُحِلَتْ لِي سَاعَة مِنْ نَهَارٍ) معنى إحلال مكة: إحلال القتل فيها (وَإِنَّهَا لَنْ تَحِل لِأَحَدٍ بَعْدِي، فَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا) بتشديد الفاء، مبنيًّا للمفعول؛ أي: لا يُهاج عن حاله، ولا يُتعرّض له، قال عكرمة: هو أن يُنَحّيه من الظلّ إلى الشمس
(2)
، وقد تقدّم فيه القول مستوفًى.
(وَلَا يُخْتَلَى) بالبناء للمفعول أيضًا، وهو: بالخاء المعجمة؛ أي: لا يُجَزّ، ولا يُقْطَع، قال الجوهريّ: تقول: خَلَيت الخلا، واختليته؛ أي: جَزَزته، وقطعته، فاختَلَى، والْمِخْلَى ما يُجَزّ به الخلا، والْمِخلاة: ما يجعل فيه الخلاء، وقال ابن السكيت: خَلَيت دابتي أَخليها: إذا جَزَزت لها الخلا، والسيف يَختلِي؛ أي: يَقْطَع، والمختلون، والخالون: الذين يختلون الخلاء، ويقطعونه، واختَلَت الأرضُ؛ أي: كثر خَلاها.
و"الْخَلا" مقصورًا: الرَّطْب من الحشيش، الواحدة خلاة، وفي بعض الطرق:"ولا يُعْضَد شوكُها"، "ولا يُخْبَط شوكها"، ومعنى الجميع متقارب
(3)
.
(شَوْكُهَا) جمع الشوكة، وشجر شائك، وشوك، وشاك، وقال ابن السّكِّيت: يقال: هذه شجرة شاكة؛ أي: كثيرة الشوك.
وقال في "الفتح": قوله: "لا يُختلى شوكها" بالخاء المعجمة؛ أي: لا يُحصَد، يقال: اختليته: إذا قطعته، وذكرُ الشوك دالّ على منع قطع غيره من باب أولى. انتهى
(4)
.
(1)
"الفتح" 1/ 360 - 361.
(2)
"المفهم" 3/ 471.
(3)
"عمدة القاري" 2/ 164.
(4)
"الفتح" 1/ 361.
(وَلَا تَحِلُّ) بالبناء للفاعل (سَاقِطَتُهَا) أي: الشيء الذي سقط من صاحبه سهوًا (إِلَّا لِمُنْشِدٍ) يريد لا تحل البتةَ، فكأنه قيل: إلَّا لمنشد؛ أي: لا يحل له منها إلَّا إنشادها، فيكون ذلك مما اختَصَّت به مكة، كما اختَصَّت بأنها حرام، وأنه لا يُنَفَّر صيدها، وغيرهما من الأحكام.
وقال المازريّ: معناه المبالغة في التعريف؛ لأن الحاج قد لا يعود إلَّا بعد أعوام، فتدعو الضرورة لإطالة التعريف، بخلاف غيرها من البلاد، ولأن الناس ينتابون إلى مكة، ويقال: جاء الحديث ليقطع وَهْمَ من يظنّ أنه يُسْتَغْنَى عن التعريف هنا؛ إذ الغالب أن الحجيج إذا تفرقوا مُشَرِّقين ومُغَرِّبين، ومَدَّت المطايا أعناقها يقول القائل: لا حاجة إلى التعريف، فذكر صلى الله عليه وسلم أن التعريف فيها ثابت، كغيرها من البلاد.
ومنهم من قال: التقدير: إلَّا من سمع ناشدًا يقول: من أضل كذا، فحينئذ يجوز للملتقط أن يرفعها إذا رآها؛ ليردّها على صاحبها، وهذا مروي عن إسحاق ابن راهويه، والنضر بن شُميل.
وقيل: لا تحل إلَّا لربها الذي يطلبها، قال أبو عبيد: هو جيِّد في المعنى، لكن لا يجوز في العربية أن يقال للطالب: منشد.
قال العينيّ: قال بعضهم: الناشد المعرِّف، والمنشد الطالب، فيصح هذا التأويل على هذا التقرير.
قال القاضي عياض في "المشارق": ذكر الحريريّ اختلاف أهل اللغة في الناشد والمنشد، وأن بعضهم عكس، فقال: الناشد المعرِّف، والمنشد الطالب، واختلافهم في تفسير الحديث بالوجهين. انتهى
(1)
.
(وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيل، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ) لفظة "خَيْر" ههنا بمعنى أفعل التفضيل، والمعنى أفضل النظرين، وقد فسَّرَ النظرين بقوله:"إما أن يُفدى، وإما أن يُقتَل".
وقال النوويّ رحمه الله: معناه أن وليّ المقتول بالخيار، إن شاء قَتَل القاتل، وإن شاء أخذ فداءه، وهي الدية، وهذا تصريح بالحجة للشافعيّ وموافقيه: أن
(1)
"عمدة القاري" 2/ 166.
الوليّ بالخيار بين أخذ الدية وبين القتل، وأن له إجبار الجاني على أي الأمرين شاءَ وليُّ القتيل، وبه قال سعيد بن المسيِّب، وابن سيرين، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وقال مالك: ليس للوليّ إلا القتل، أو العفو، وليس له الدية، إلا برضى الجاني، وهذا خلاف نَصّ هذا الحديث.
قال: وفيه أيضًا دلالة لمن يقول: القاتل عمدًا يجب عليه أحد الأمرين: القصاص، أو الدية، وهو أحد القولين للشافعيّ، والثاني أن الواجب القصاص، لا غير، وإنما تجب الدية بالاختيار، وتظهر فائدة الخلاف في صُوَرٍ: منها: أَبُو عفا الوليّ عن القصاص إن قلنا: الواجب أحد الأمرين، سقط القصاص، ووجبت الدية، وإن قلنا: الواجب القصاص بعينه، لم يجب قصاص، ولا دية، وهذا الحديث محمول على القتل عمدًا، فإنه لا يجب القصاص في غير العمد. انتهى
(1)
.
(إِمَّا أَنْ يُفْدَى) بالبناء للمفعول؛ أي: يُعطى الفدية، وهي الدية، كما الرواية الأخرى (وَإِمَّا أَنْ يُقْتَلَ") بالبناء للمفعول أيضًا؛ أي: يُقتل القاتل قصاصًا.
وفي رواية للبخاريّ: "إما أن يُعْقَل"، من العَقْل، وهو الدية، "وإما أن يقاد أهل القتيل" بالقاف؛ أي: يقتص، ووقع في "سنن أبي داود":"إما أن ياخذوا العقل، أو يقتلوا"، وهي أبين الروايات، فقوله:"أو يقتلوا" مفسران لسائر الروايات.
وقال القاضي عياض رحمه الله: وقع هنا؛ أي: عند البخاريّ في "العلم" في جميع النسخ: "وإما أن يقاد" بالقاف، ويوافقه ما جاء في "كتاب الديات":"إما أن يُودَى، وإما أن يُقاد"، وكذلك في مسلم، وحكى بعضهم يعني في مسلم:"يفادى" بالفاء، موضع يقاد، قال: والصواب الأول، وهو القاف؛ لأن على الفاء يَخْتَلّ اللفظ؛ لأن العقل هو الفداء، فيتحصل التكرار، قال: والصواب أن القاف مع قوله: "يُعْقَل"، والفاء مع قوله:"يُقْتَل"؛ لأن العقل هو الفداء، وأما "يُعْقَل" مع "يُفْدَى"، أو "يفادَى"، فلا وجه له.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 129.
قال العينيّ رحمه الله: حاصل الكلام أن الرواية على وجهين: من قال: "وإما أن يقاد" بالقاف، من الْقَوَد، وهو القصاص، قال فيما قبله:"إما أن يُعْقَ"، بالعين والقاف، من العقل، وهو الدية، ومن قال:"وإما أن يُفادَى" بالفاء، من المفاداة، قال فيما قبله:"إما أن يُقْتَلَ" بالقاف والتاء المثناة من فوقُ، وهو القتل الذي هو القود. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ الْعَبَّاسُ) بن عبد المطّلب عم النبي صلى الله عليه وسلم (إِلَّا الإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَا نَجْعَلُهُ فِي قُبُورِنَا) أي: لأنه تُسَدّ به فُرَجُ اللحد المتخلِّلة بين اللبنات (وَبُيُوتنَا) أي: لأنه يُسَقَّف به البيت فوق الخشب، وقيل: كانوا يخلطونه بالطين؛ لئلا يتشقق إذا بُنِي به كما يُفْعَل بالتبن.
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "إِلَّا الإِذْخِرَ") بكسر الهمزة: نبتٌ طيّب الرائحة.
(فَقَامَ أَبُو شَاهٍ) -بشين معجمة، وهاء بعد الألف، في الوقف والدرج، ولا يقال: بالتاء، قالوا: ولا يعرف اسم أبي شاه هذا، وإنما يُعْرَف بكنيته، وهو كلبيّ يمنيّ، وفي "المطالع": وأبو شاه مصروفًا ضبطته وقرأته أنا معرفة ونكرة، وعن ابن دِحية أنه بالتاء منصوبًا، وقال النوويّ: هو بهاء في آخره درجًا ووقفًا، قال: وهذا لا خلاف فيه، ولا يُغْتَرّ بكثرة من يُصَحِّفه ممن لا يأخذ العلم على وجهه، ومن مظانه. انتهى.
وقوله: (رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ) بدل من "أبو شاه"(فَقَالَ: اكتُبُوا لِي يَا رَسُولَ اللهِ) أي: مُرْ بعضهم يكتبه لي، وفي الرواية التالية:"اكتب لي" بالإفراد، والمراد به أيضًا أن يأمر بالكتابة (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ") فيه ديلٌ على جواز كتابة العلم، وهو مذهب الجمهور، وقد كرهه قوم من أهل العلم؛ تمسّكًا بحديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه الآتي عند مسلم في "كتاب العلم": "لا تكتبوا عني غير القرآن
…
" الحديث، لكن سبب النهي فيه أن لا يتّكل الناس على الكتب، ويتركوا الحفظ، أو لئلا يختلط بالقرآن غيره؛ لقوله في الحديث نفسه: "فمن كتب عني سوى القرآن فليمحه"
(2)
.
(1)
"عمدة القاري" 2/ 166.
(2)
رواه أحمد في "مسنده"(3/ 12)، ومسلم (3004).
(قَالَ الْوَليدُ) بن مسلم (فَقُلْتُ لِلْأَوْزَاعِيِّ: مَا قَوْلُهُ)"ما" استفهاميّة؛ أي: أي شيء يريد بقوله: (اكْتُبُوا لِي يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ) الأوزاعيّ (هَذِهِ الْخُطْبَةَ الَّتِي سَمِعَهَا مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم) يعني أنه يريد كتابة الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك المكان؛ لئلا ينساها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [79/ 3306 و 3307](1355)، و (البخاريّ) في "العلم "(112) و"جزاء الصيد"(1833 و 1834) و"اللقطة"(2434) و"الديات"(6880)، و (أبو داود) في "المناسك"(2017 و 3649 و 4505)، و (الترمذيّ) في "الديات"(1405) و"العلم"(2667)، و (النسائيّ) في "القسامة"(8/ 38) و"الكبرى"(3/ 434)، و (ابن ماجه) في "الديات"(2624)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 326 و 406)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 238)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3715)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 434)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 33)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 134)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 52) و"دلائل النبوّة"(5/ 84)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان تحريم حرم مكة حرسها الله تعالى.
2 -
(ومنها): ما قاله ابن بطال رحمه الله: فيه إباحة كتابة العلم، وكَرِه قوم كتابة العلم؛ لأنها سبب لضياع الحفظ، والحديث حجة عليهم، ومن الحجة أيضًا ما اتفقوا عليه من كتابة المصحف الذي هو أصل العلم، وكان للنبيّ صلى الله عليه وسلم كتَّاب يكتبون الوحي، وقال الشعبيّ: إذا سمعت شيئًا فاكتبه، ولو في الحائط.
قال في "العمدة": محل الخلاف كتابة غير المصحف، فما اتفقوا لا يكون من الحجة عليهم.
وقال عياض: إنما كَرِه مَن كَرِه من السلف من الصحابة والتابعين كتابة
العلم في الصحف، وتدوين السنن؛ لأحاديث رُويت فيها، منها: حديث أبي سعيد: "استأذنّا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتابة، فلم يأذن لنا"
(1)
.
وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -أن لا نكتب شيئًا"
(2)
.
ولئلا يُكتب مع القرآن شيءٌ، وخوف الاتكال على الكتابة، ثم جاءت أحاديث بالإذن في ذلك؛ كحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما-يريد قول عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بَشَر، يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ بإصبعه إلى فيه، فقال:"اكتُب، فوالذي نفسي بيده ما يَخْرُج منه إلا حق"
(3)
.
قال: وأجازه معظم الصحابة والتابعين، ووقع عليه بعدُ الاتفاق، ودعت إليه الضرورة؛ لانتشار الطرق، وطول الأسانيد، واشتباه المقالات، مع قلة الحفظ، وكَلَال الفهم. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله
(4)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "اكتبوا لأبي شاه" تصريح بجواز كتابة العلم غير القرآن، ومثله حديث عليّ رضي الله عنه: ما عندنا إلا ما في هذه الصحيفة، ومثله حديث أبي هريرة رضي الله عنه: كان عبد الله بن عمرو يَكْتُب، ولا أكتب، وجاءت أحاديث بالنهي عن كتابة غير القرآن، فمن السلف من منع كتابة العلم، وقال جمهور السلف: بجوازه، ثم أجمعت الأمة بعدهم على استحبابه، وأجابوا عن أحاديث النهي بجوابين:
(1)
رواه الترمذيّ برقم (2556) وفي سنده سفيان بن وكيع ضعيف، وصححه الشيخ الألبانيّ رحمه الله.
(2)
رواه أحمد في "مسنده" 5/ 182، وأبو داود في "سننه"(3648) وهو ضعيف؛ لأن في سنده كثير بن زيد متكلّم فيه، وفيه أيضًا المطّلب بن حنطب، كثير التدليس، ولم يصرّح بالسماع.
(3)
حديث صحيح، رواه أحمد في "مسنده"(2/ 162)، وأبو داود في "سننه"(3648).
(4)
راجع: "إكمال المعلم" 4/ 447.
أحدهما: أنها منسوخة، وكان النهي في أول الأمر قبل اشتهار القرآن لكل أحد، فنُهي عن كتابة غيره؛ خوفًا من اختلاطه واشتباهه، فلما اشتَهَر، وأُمنت تلك المفسدة أُذِن فيه.
والثاني: أن النهي نهيُ تنزيه لمن وَثق بحفظه، وخيف اتكاله على الكتابة، والإذن لمن لم يوثق بحفظه. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): أن فيه دليلًا على أن الخطبة يُستحبّ أن تكون على موضع عال، منبرٍ أو غيره، في جمعة أو غيرها.
4 -
(ومنها): استَدَلَّ بقوله: "وسَلَّط عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم" مَن يرى أن مكة فُتحت عَنْوَةً، وأن التسليط الذي وقع للنبي صلى الله عليه وسلم مقابَل بالحبس الذي وقع لأصحاب الفيل، وهو الحبس عن القتال، هذا قول الجمهور، وقال الشافعيّ: فُتِحت صلحًا، والراجح قول الجمهور، وقد سبق البحث فيه مستوفىً في المسائل التي تقدّمت في شرح حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما.
5 -
(ومنها): أن فيه دليلًا على تحريم قطع الشجر في الحرم، مما لا ينبته الآدميون في العادة، وعلى تحريم خلاه، وهذا بالاتفاق، واختلفوا فيما ينبته الآدميون، قاله النووي، وقد تقدّم البحث فيه أيضًا مستوفًى.
6 -
(ومنها): أنه استَدَلّ أهل الأصول بهذا الحديث وشِبهه على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان مُتَعَبَّدًا باجتهاده فيما لا نَصّ فيه، وهو الأصح عندهم، ومنعه بعضهم، وممن قال بالأول الشافعيّ، وأحمد، وأبو يوسف، واختاره الآمديّ، وصحح الغزالي الجواز، وتوقف في الوقوع، وقال ابن الخطيب الرازيّ: توقف أكثر المحققين في الكل، وجوّزه بعضهم في أمر الحرب، دون غيره، واستَدَلَّ من قال بوقوعه بما جاء في هذا الحديث، وفي قوله صلى الله عليه وسلم لمّا قيل له في فرض الحجّ: أكلّ عام يا رسول الله؟ قال: "لو قلت: نعم لوجبت. . ." الحديث، وبقوله تعالى:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} الآية [آل عمران: 159]، وبقوله تعالى في أسارى بدر:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} الآية [الأنفال: 67]، ولو كان حَكَم بالنصّ لَمَا عوتب.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 129 - 130.
وأجاب المانعون عن الكل بأنه يجوز أن يقارنها نصوص، أو تقدم عليها بأن يوحى إليه؛ أنه إذا كان كذا فافعل كذا، مثل أن لا يستثني "إلَّا الإذخر" حين سأل العباس، أو كان جبريل؛ حاضرًا، فأشار عليه به، وحينئذ يكون بالوحي، لا بالاجتهاد.
قال المهلَّب: يجوز أن الله تعالى أعلم رسوله صلى الله عليه وسلم بتحليل المحرمات عند الاضطرار، فكان هذا من ذلك الأصل، فلما سأل العباس حكم فيه.
وقال بعضهم في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} : إنه مخصوص بالحرب، وفيه نظر لا يخفى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الخلاف في اجتهاد النبيّ صلى الله عليه وسلم قد تقدّم تحقيقه، وأن جوازه ووقوعه هو الحقّ؛ لوضوح أدلته، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
7 -
(ومنها): بيان أن وليّ القتيل بالخيار بين أخذ الدية، وبين القتل، وليس له إجبار الجاني على أيّ الأمرين شاء، وبه قال الشافعيّ وأحمد، وقال مالك في المشهور عنه: ليس إلَّا القتل، أو العفو، وليس له الدية إلَّا برضى الجاني، وبه قال الكوفيون.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله الأولون هو الأرجح؛ لظاهر هذا الحديث، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
8 -
(ومنها): أن فيه دليلًا على أن القاتل عمدًا يجب عليه أحد الأمرين: القصاص، أو الدية، وهو أحد قولي الشافعيّ، وأصحهما عنده أن الواجب القصاص، والدية بدل عند سقوطه، وهو مشهور مذهب مالك، وعلى القولين للولي العفو عن الدية، ولا يحتاج إلى رضى الجاني، ولو مات، أو سقط الطرف المستحَقّ وجبت الدية، وبه قال أحمد، وعن أبي حنيفة ومالك: إنه لا يُعْدَل إلى المال إلا برضى الجاني، وإنه لو مات الجاني سقطت الدية، وهو قول قديم للشافعي، ورجّحه الشيخ تقي الدين في "شرحه"
(2)
.
(1)
راجع: "عمدة القاري" 2/ 167 - 168.
(2)
راجع: "عمدة القاري" 2/ 168.
9 -
(ومنها): ما قاله في "الفتح": استُدِلّ بحديثي ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم المذكورين في هذا الباب على أن لُقطة مكة لا تُلتقط للتملُّك، بل للتعريف خاصّةً، وهو قول الجمهور، وإنما اختَصَّت بذلك عندهم؛ لإمكان إيصالها إلى ربها؛ لأنها إن كانت للمكيّ فظاهر، وإن كانت للآفاقي فلا يخلو أُفُقٌ غالبًا من وارد إليها، فإذا عَرَّفها واجدها في كل عام سَهُل التوصل إلى معرفة صاحبها. قاله ابن بطال.
وقال أكثر المالكية، وبعض الشافعية: هي كغيرها من البلاد، وإنما تختص مكة بالمبالغة في التعريف؛ لأن الحاج يرجع إلى بلده، وقد لا يعود، فاحتاج ملتقطها إلى المبالغة في التعريف.
واحتَجّ ابن الْمُنَيِّر لمذهبه بظاهر الاستثناء؛ لأنه نفى الحل واستثنى المنشد، فدَلّ على أن الحل ثابت للمنشد؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات، قال: ويلزم على هذا أن مكة وغيرها سواء، والقياس يقتضي تخصيصها.
والجواب أن التخصيص إذا وافق الغالب لم يكن له مفهوم، والغالب أن لقطة مكة ييأس ملتقطها من صاحبها، وصاحبها من وجدانها؛ لتفرّق الخلق إلى الآفاق البعيدة، فربما داخل الملتقط الطمع في تملّكها من أول وهلة، فلا يُعَرِّفها، فنهى الشارع عن ذلك، وأمر أن لا يأخذها إلا من عَرَّفها، وفارقت في ذلك لقطة العسكر ببلاد الحرب بعد تفرقهم، فإنها لا تُعَرَّف في غيرهم باتفاق، بخلاف لقطة مكة، فيشرع تعريفها؛ لإمكان عود أهل أفق صاحب اللقطة إلى مكة، فيحصل متوصل إلى معرفة صاحبها.
وقال إسحاق ابن راهويه: قوله: "إلا لمنشد" أي: لمن سمع ناشدًا يقول: من رأى لي كذا فحينئذ يجوز لواجد اللقطة أن يُعَرِّفها ليردّها على صاحبها، وهو أضيق من قول الجمهور؛ لأنه قيّده بحالة للمعرِّف دون حالة.
وقيل: المراد بالمنشد: الطالب، حكاه أبو عبيد.
وتعقبه بأنه لا يجوز في اللغة تسمية الطالب منشدًا.
قال الحافظ: ويكفي في ردّ ذلك قوله في حديث ابن عباس: "لا يَلتقط لقطتها إلا مُعَرِّف"، والحديث يفسّر بعضه بعضًا، وكأن هذا هو النكتة في
تصدير البخاريّ الباب بحديث ابن عباس رضي الله عنهما. انتهى
(1)
.
وأما اللغة فقد أثبت الحربيّ جواز تسمية الطالب منشدًا، وحكاه عياض أيضًا.
10 -
(ومنها): أنه استُدِلَّ به أيضًا على أن لقطة عَرَفة، والمدينة النبوية، كسائر البلاد؛ لاختصاص مكة بذلك، وحَكَى الماورديّ في "الحاوي" وجهًا في عرفة أنها تلتحق بحكم مكة؛ لأنها مجمع الحجاج كمكة، ولم يرجح شيئًا، قاله في "الفتح"
(2)
.
11 -
(ومنها): أنه استُدل به أيضًا على جواز تعريف الضالة في المسجد الحرام، بخلاف غيره من المساجد، وهو أصح الوجهين عند الشافعية
(3)
، والله أعلم.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3307]
(
…
) - (حَدَّثَنى إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ شَيْبَانَ، عَنْ يَحْيَى، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ؛ أنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: إِنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا رَجُلًا مِنْ بَنِي لَيْثٍ، عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ، بِقَتِيلٍ مِنْهُمْ قَتَلُوهُ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَخَطَبَ، فَقَالَ: "إِن الله حَبَسَ عَنْ مَكَةَ الْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، ألَا وَإنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَنْ تَحِل لِأَحَدٍ بَعْدِي، ألا وَإنَّهَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ، ألا وَإنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ حَرَامٌ، لَا يُخْبَطُ شَوْكُهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا
(4)
، وَلَا يَلْتَقِطُ سَاقِطَتَهَا اِلا مُنْشِدٌ، وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُعْطَى -يَعْنِي الدِّيَةَ، وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ أَهْلُ الْقَتِيلِ"، قَالَ: فَجَاءَ رَجُل مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، يُقَالُ لَهُ: أَبُو شَاهٍ، فَقَالَ: اكْتُبْ لِي يَا
(1)
"الفتح" 6/ 247 "كتاب اللقطة" رقم (2434).
(2)
"الفتح" 6/ 248 رقم (2434).
(3)
"الفتح" 6/ 248 رقم (2434).
(4)
وفي نسخة: "شجراؤها".
رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ:"اكتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ"، فَقَالَ رَجُل مِنْ قُرَيْشٍ: إِلَّا الإِذْخِرَ، فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي بُيُوتنَا وَقُبُورِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِلا الإِذْخِرَ").
رجال هذا الإسناد: ستةٌ:
1 -
(إِسْحَاق بْنُ مَنْصُورٍ) الْكَوسج التميميّ، أبو يعقوب المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
2 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى) بن أبي المختار باذام العبسيّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ يتشيّع [9](ت 213) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
3 -
(شَيْبَانُ) بن عبد الرحمن التميميّ مولاهم، أبو معاوية النحويّ البصريّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ صاحب كتاب [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (إِنَّ خُزَاعَةَ) -بضم الخاء المعجمة، وبالزاي- حَيّ من الأزد، سُمُّوا بذلك؛ لأن الأزد لما خرجوا من مكة، وتفرّقوا في البلاد، تخلفت عنهم خُزاعة، وأقامت بها، ومعنى خَزَعَ فلان عن أصحابه: تخلّف عنهم.
وقال في "الفتح": قوله: "إن خُزاعة"؛ أي: القبيلة المشهورة، والمراد واحد منهم، فأطلق عليه اسم القبيلة؛ مجازًا، واسم هذا القاتل خِرَاش بن أمية الخزاعيّ، والمقتول في الجاهلية منهم اسمه أحمر، والمقتول في الإسلام من بني ليث لم يُسَمّ، هكذا ذكر في "الفتح" في "كتاب العلم"
(1)
، ولكنه قال في "كتاب الديات" -بعد ذكره ما ذُكر هنا- ما نصّه: ثم رأيت في "السيرة النبويّة" لابن إسحاق أن الخزاعيّ المقتول اسمه: منبّه. انتهى
(2)
.
وقوله: (مِنْ بَنِي لَيْثٍ) هو أيضًا اسم قبيلة، وقال الرشاطيّ: ليث في كنانة، ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وفي عبد القيس ليث بن بكر بن حداءة بن ظالم بن ذُهْل بن عَجِل بن عمرو بن وديعة بن لكيز بن أفصى بن عبد القيس. انتهى
(3)
.
(1)
"الفتح" 1/ 360 رقم (112).
(2)
راجع: "الفتح" 16/ 38 رقم (6881).
(3)
"عمدة القاري" 2/ 164.
وقوله: (فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ) الراحلة: الناقة التي تصلح لأن تُرْحَل، ويقال: الراحلة: المركب من الإبل ذكرًا كان أو أنثى، وفي "العباب": الراحلة: الناقة التي يختارها الرجل لمركبه ورحله على النجابة، وتمام الخلق، وحسن المنظر، فإذا كانت في جماعة الإبل عُرفت، قاله القتيبيّ، وقال الأزهريّ: الراحلة عند العرب تكون الجمل النجيب، والناقة النجيبة، وليست الناقة أولى بهذا الاسم من الجمل، والهاء فيه للمبالغة، كما يقال: رجل داهية، وراوية، وقيل: سُمّيت راحلة؛ لأنها تُرْحَل، كما قال الله تعالى:{فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} ؛ أي: مرضية. انتهى
(1)
.
وقوله: (أَلا) -بفتح الهمزة، وتخفيف اللام- للتنبيه، فتدلّ على تحقق ما بعدها.
وقوله: (وَإِنَّهَا) عطف على مقدر؛ لأن "أَلَا" لها صدر الكلام، والمقتضى أن يقال: ألا إنها بدون الواو، كما في قوله تعالى:{أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة: 12] والتقدير: ألا إن الله حَبَس عنها الفيل، وإنها لم تحل لأحد
…
إلخ.
وقوله: (حَرَامٌ) مرفوع؛ لأنه خبر لقوله: "إنها"، لا يقال: إنه ليس بمطابق للمبتدإ، والمطابقة شرط؛ لأنا نقول: إنه مصدر في الأصل، فيستوي فيه التذكير والتانيث، والإفراد والجمع، أو هو صفة مشبهة، ولكن وصفيته زالت لغلبة الاسمية عليه، فتساوى فيه التذكير والتأنيث
(2)
.
وقوله: (لَا يُخْبَطُ شَوْكُهَا) بالبناء للمفعول؛ أي: لا يُسقط، يقال: خبَطتُ الورق من الشجر خَبْطًا، من باب ضَرَب: أسقطته، فإذا سقط فهو خَبَطٌ بفتحتين، فَعَلٌ بمعنى مفعول، وهو مسموع كثيرًا، قاله الفيّوميّ
(3)
.
وقال القرطبيّ: الخبْطُ: ضرب أوراق الشجر بالعصا لعلف المواشي، يقال: خبط، واختبط، والمصدر منه الْخَبْط بسكون الباء، والاسم بتحريكها. انتهى
(4)
.
(1)
"عمدة القاري" 2/ 168.
(2)
"عمدة القاري" 2/ 164.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 163.
(4)
"المفهم" 3/ 470 - 471.
وقوله: (وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا) وفي نسخة: "شجراؤها" وهي لغة في الشجر، قال المجد رحمه الله: الشَّجَرُ، والشِّجَرُ، والشَّجْرَاءُ؛ كجَبَل، وعِنَب، وصَحْراءَ، والشِّيَر بالياء، كعِنَبَ من النبات ما قام على ساق، أو سما بنفسه، دَقَّ، أو جلّ، قاوم الشتاء، أو عَجَزَ عنه، الواحدة بِهاء. انتهى
(1)
.
وقوله: (فَقَالَ رَجُل مِنْ قُرَيْشٍ) تقدّم أنه العبّاس بن عبد المطّلب رضي الله عنه.
والحديث متّفق عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(80) - (بَابُ النَّهْيِ عَنْ حَمْلِ السِّلَاحِ بِمَكَّةَ بِلَا حَاجَةٍ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3308]
(1356) - (حَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبِ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا مَعْقِل، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَحِلُّ لِأَحَدِكُمْ أَنْ يَحْمِلَ بِمَكَّةَ السِّلَاحَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ) الْمِسْمَعيّ النيسابوريّ، نزيل مكة، ثقةٌ، من كبار [11] مات سنة بضع و (240)(م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 60.
2 -
(ابْنُ أَعْيَنَ) هو: الحسن بن محمد بن أعين، أبو عليّ الحرّانيّ، نُسب لجدّه، صدوق [9](ت 210)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
3 -
(مَعْقِلُ) بن عبيد الله الْعَبْسيّ مولاهم، أبو عبد الله الجزريّ، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 166)(م د س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
4 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم، المكيّ، صدوقٌ يُدلّس [4](ت 126)(م) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
(1)
"القاموس المحيط" 2/ 56.
5 -
(جَابِرُ) بن عبد الله بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ، غزا تسع عشرة غزوة، ومات بالمدينة بعد السبعين، وهو ابن (94)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرِ) بن عبد الله رضي الله عنهما أنه (قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَحِلُّ لِأَحَدِكُمْ أَنْ يَحْمِلَ بِمَكَةَ السِّلَاحَ") أي: بلا ضرورة عند الجمهور، ومطلقًا عند الحسن، وحجة الجمهور ما رواه البراء رضي الله عنه قال: اعتَمَر النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، فأَبَى أهل مكة أن يَدَعوه يدخل مكة، حتى قاضاهم لا يُدْخِل مكة سلاحًا إلا في القِرَاب، وما رواه ابن عمر رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمرًا، فحال كفار قريش بينه وبين البيت
…
" الحديث، وفيه: "قاضاهم على أن يعتمر العام المقبل، ولا يَحْمِل سلاحًا عليهم إلا سيوفًا
…
" إلخ، أخرجهما أحمد، والبخاريّ.
قال الشوكانيّ رحمه الله: في الحديثين دليل على جواز حمل السلاح بمكة؛ للعذر والضرورة، فيُخَصَّص بهذين الحديثين عموم حديث جابر رضي الله عنه عند مسلم، يعني به حديث الباب، قال: فيكون هذا النهي فيما عدا مَن حمله للحاجة والضرورة، هالى هذا ذهب الجماهير من أهل العلم؛ أي: أن النهي محمول على حمل السلاح بغير ضرورة ولا حاجة، فإن كانت حاجة جاز، قال: وهكذا يُخَصَّص بحديثي البراء وابن عمر رضي الله عنهم عمومُ قول ابن عمر رضي الله عنهما للحجّاج: "وأدخلت السلاح الحرم، ولم يكن السلاح يُدْخَل الحرم"، فيكون مراده: لم يكن السلاح، يدخل الحرم لغير حاجة، فإنه قد دخل صلى الله عليه وسلم به غير مرة، كما في دخوله يوم الفتح هو وأصحابه، ودخوله صلى الله عليه وسلم للعمرة، كما في حديث البراء وابن عمر رضي الله عنهم. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: هذا النهي إذا لم تكن حاجة، فإن كانت حاجة جاز، هذا مذهبنا، ومذهب جماهير العلماء.
(1)
"نيل الأوطار" 5/ 76.
وقال القاضي عياض رحمه الله: هذا محمول عند أهل العلم على حمل السلاح لغير ضرورة، ولا حاجة، فإن كانت حاجة جاز، قال القاضي: وهذا مذهب مالك، والشافعيّ، وعطاء، قال: وكرهه الحسن البصريّ؛ أي: مطلقًا؛ تمسكًا بظاهر هذا الحديث، يعني النهي، وحجة الجمهور دخول النبيّ صلى الله عليه وسلم عام عمرة القضاء بما شرطه من السلاح في القِرَاب، ودخوله صلى الله عليه وسلم عام الفتح متأهبًا للقتال. انتهى.
وقال ابن قدامة رحمه الله بعد ذكر حديث البراء رضي الله عنه: هذا ظاهر في إباحة حمله عند الحاجة؛ لأنهم لم يكونوا يَأمنون أهل مكة أن ينقضوا العهد، ويُخْفِروا الذمة، واشترطوا حمل السلاح في قِرابه، فأما من غير خوف، فإن أحمد: قال: لا إلا من ضرورة، وإنما منع منه لأن ابن عمر رضي الله عنهما قال:"لا يُحْمَل المحرم السلاح في الحرم".
وقال القاري بعد ذكر كلام القاضي عياض: وفيه بحث ظاهر؛ إذ المراد بحمل السلاح أن يكون ظاهرًا، بحيث يكون سبب لرُعْب مسلم، أو أذى أحد، كما هو مشاهد اليوم، ويؤيده أنه كان ابن عمر يمنع ذلك في أيام الحجاج، وأما عام الفتح فهو مستثنى من هذا الحكم، فإنه كان أبيح له ما لم يُبح لغيره من نحو حمل السلاح. انتهى
(1)
.
قال صاحب "المرعاة" رحمه الله: والحق ما ذهب إليه الجمهور من حمل حديث جابر على حمل السلاح لغير ضرورة وحاجة؛ لأن فيه الجمعَ بين الأحاديث، وأما تخصيصه بحمل السلاح ظاهرًا بحيث يكون سببًا لرُعْب مسلم، أو أذى أحد، فلا يخفى ما فيه. انتهى
(2)
، وهو تعقّب حسن، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
"مرقاة المفاتيح" 5/ 608.
(2)
"المرعاة" 9/ 478 - 479.
أخرجه (المصنّف) هنا [80/ 3308](1356)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 433)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 34)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 155)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2005)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(81) - (بَابُ جَوَازِ دُخُولِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَام)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3309]
(1357) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِي، ويحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَقتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، أمَّا الْقَعْنَبِي فَقَالَ: قَرَأتُ عَلَى مَالِكِ بْنِ أنسٍ، وَأمَّا قُتيْبَةُ فَقَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، وقَالَ يَحْيَى، وَاللَّفْظُ لَهُ: قُلْتُ لِمَالِكٍ: أَحَدَّثَكَ ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ؛ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ، عَامَ الْفَتْحِ، وَعَلَى رَأْسِهِ مِغْفَرٌ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَهُ رَجُل، فَقَالَ: ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَستَارِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: "اقْتُلُوهُ"؟ فَقَالَ مَالِكٌ: نَعَمْ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ) تقدّم قبل باب.
2 -
(يَحْيى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم أيضًا قبل باب.
3 -
(قُتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(مَالِكُ بْنُ أنسٍ) إمام دار الهجرة، تقدّم قريبًا.
5 -
(ابْنُ شِهَاب) محمد بن مسلم، تقدّم قبل بابين.
6 -
(أنسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (210) من رباعيّات الكتاب، وله فيه ثلاثة من الشيوخ، قرن بينهم؛ لاتحاد كيفيّة أخذه منهم، ثم فرّق؛ لاختلافهم في ذلك.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه: القعنبيّ، ويحيى، فالأول ما أخرج له ابن ماجه، والثاني ما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، وشيخه، ويحيى وقتيبة قد دخلا المدينة؛ للأخذ عن مالك وغيره.
4 -
(ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه، أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة رضي الله عنهم، مات سنة (92) أو (93) وقد جاوز عمره مائة سنة.
5 -
(ومنها): أن فيه قولَ يحيى بن يحيى: "قلت لمالك: أحدّثك ابن شهاب، عن أنس؟ "، ثم قال في آخر الحديث:"فقال: نعم"، يعني: فقال مالك: نعم، ومعناه: أحدّثك ابن شهاب، عن أنس بكذا؟ فقال مالك: نعم حدّثني به، وقد جاء في "الصحيحين" في مواضع كثيرة مثل هذه العبارة، ولا يقول في آخره: قال: نعم.
وقد اختَلَف العلماء في اشتراط قوله: "نعم" في آخر مثل هذه الصورة، وهي إذا قرأ على الشيخ، قائلًا: أخبرك فلان، أو نحوه، والشيخ مُصْغٍ له، فاهِمٌ لما يُقرأ، غير منكِر، فقال بعض الشافعيين، وبعض أهل الظاهر: لا يصح السماع إلا بها، فإن لم ينطق بها لم يصحّ السماع، وقال جماهير العلماء، من المحدثين، والفقهاء، وأصحاب الأصول: يُستَحَبّ قوله: نعم، ولا يشترط نطقه بشيء، بل يصحّ السماع مع سكوته، والحالة هذه؛ اكتفاءً بظاهر الحال، فإنه لا يجوز لمكلف أن يُقِرَّ على الخطأ في مثل هذه الحالة، قال القاضي عياض: هذا مذهب العلماء كافّةً، ومن قال من السلف: نعم، إنما قاله توكيدًا، واحتياطًا، لا اشتراطًا. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه، وفي رواية أبي أويس عند ابن سعد:"أنّ أنس بن مالك حدّثه"(أَن النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ) أي: في السنة التي فُتحت فيها
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 132.
مكة (وَعَلَى رَأسِهِ مِغْفَرٌ) جملة حالية من الفاعل، وفي رواية النسائيّ رحمه الله:"وعليه المغفر".
و"المغفر" بكسر الميم، وسكون المعجمة، وفتح الفاء، ويقال له: مِغفرة بزيادة الهاء في آخره: هو زَرْدٌ يُنسج من الدروع على قدر الرأس، يُلبس تحت القلنسوة، حكاه في "الصحاح" عن الأصمعيّ، وصدّر به صاحب "المحكم" كلامه، وقيل: هو رفرف البيضة، وقيل: هو حلق يتقنّع به المتسلّح، وقال في "المشارق": هو ما يُجعل من فضل دروع الحديد على الرأس، مثل القلنسوة، والخمار
(1)
.
وفي رواية زيد بن الحباب، عن مالك:"يوم الفتح، وعليه مغفر من حديد"، أخرجه الدارقطنيّ في "الغرائب"، والحاكم في "الإكليل"، وكذا هو في رواية أبي أويس، قاله في "الفتح"، و"طرح التثريب"
(2)
.
(فَلَمَّا نَزَعَهُ) أي: نزع النبيّ صلى الله عليه وسلم المغفر الذي على رأسه (جَاءَهُ رَجُلٌ) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسمه، إلا أنه يَحْتَمِل أن يكون هو الذي باشر قتله، وقد جزم الفاكهيّ في "شرح العمدة" بأن الذي جاء بذلك هو أبو برزة الأسلميّ، وكأنه لمَّا رجح عنده أنه هو الذي قتله رأى أنه هو الذي جاء مخبرًا بقصّته، ويرجحه قوله في رواية يحيى بن قَزَعَة في "المغازي":"فقال: اقتله" بصيغة الإفراد (فَقَالَ) ذلك الرجل (ابْنُ خَطَلٍ) -بفتح الخاء المعجمة، والطاء المهملة، آخره لام- وسيأتي بيان الاختلاف في اسمه قريبًا -إن شاء الله تعالى- (مُتَعَلّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ) -بفتح الهمزة، جمع سِتْر بكسر، فسكون- وكان تعلقه بها استجارةً بها، وذلك كما ذكر الواقديّ أنه خرج إلى الخندَمَة ليقاتل على فرس، وبيده قناة، فلما رأى خيل الله، والقتل دخله رُعْبٌ، حتى ما يستمسك من الرعدة، فرجع حتى انتهى إلى الكعبة، فنزل عن فرسه، وطرح سلاحه، ودخل تحت أستارها، فأخذ رجل من الركب سلاحه، وفرسه، فاستوى عليه، وأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك (فَقَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم ("اقْتُلُوهُ") زاد الوليد بن مسلم عن
(1)
"طرح التثريب" 5/ 86.
(2)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 5/ 86.
مالك: فقُتل، أخرجه ابن عائذ، وصححه ابن حبان، وأخرج عمر بن شبّة في "كتاب مكة" عن السائب بن يزيد، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استخرج من تحت أستار الكعبة ابن خطل، فضُربت عنقه صبرًا بين زمزم ومقام إبراهيم، وقال:"لا يُقْتَل قرشيّ بعد هذا صبرًا"، قال الحافظ: رجاله ثقات، إلا أن في أبي معشر مقالًا.
واختُلف في اسم قاتله، ففي حديث سعيد بن يربوع عند الدارقطنيّ، والحاكم؛ أنه صلى الله عليه وسلم قال:"أربعة لا أؤمّنهم لا في حلّ، ولا حرم: الحويرث بن نُقيد -بالنون، والقاف، مصغّرًا- وهلال بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن أبي سرح"، قال: فأما هلال بن خطل، فقتله الزبير
…
الحديث، وفي حديث سعد بن أبي وقّاصّ عند البزّار، والحاكم، والبيهقيّ في "الدلائل" نحوه، لكن قال:"أربعة نفر، وامرأتين، فقال: اقتلوهم، وإن وجدتموهم متعلّقين بأستار الكعبة"، فذكرهم، لكن قال: عبد الله بن خطل بدل هلال، وقال: عكرمة، بدل الحويرث، ولم يسمّ المرأتين، وقال: "فأما عبد الله بن خطل، فأُدرك، وهو متعلّق بأستار الكعبة، فاستبق إليه سعيد بن حريث، وعمار بن ياسر، فسبق سعيد عمّارًا، وكان أشبّ الرجلين، فقتله
…
" الحديث.
وفي زيادات يونس بن بُكير في "المغازي" من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه نحوه.
وروى ابن أبي شيبة، والبيهقيّ في "الدلائل" من طريق الحكم بن عبد الملك، عن قتادة، عن أنس:"أَمَّنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم فتح مكة، إلا أربعة من الناس: عبد العزّى بن خطل، ومقيس بن صبابة الكنانيّ، وعبد الله بن أبي سرح، وأم سارة، فأما عبد العزى بن خطل، فقُتل، وهو متعلّق بأستار الكعبة"، وروى ابن أبي شيبة من طريق أبي عثمان النهديّ:"أن أبا برزة الأسلميّ قتل ابن خطل، وهو متعلّق بأستار الكعبة"، وإسناده صحيح مع إرساله، وله شاهد عند ابن المبارك في "البرّ والصّلة" من حديث أبي برزة نفسه، ورواه أحمد من وجه آخر، وهو أصحّ ما ورد في تعيين قاتله، وبه جزم
البلاذريّ، وغيره من أهل العلم بالأخبار، وتُحمل بقية الروايات على أنهم ابتدروا قتله، فكان المباشر له منهم أبو برزة.
ويَحْتَمِل أن يكون غيره شاركه فيه، فقد جزم ابن هشام في "السيرة" بأن سعيد بن حريث، وأبا برزة الأسلميّ اشتركا في قتله، ومنهم من سمّى قاتله سعيد بن ذؤيب، وحَكَى المحبّ الطبري؛ أن الزبير بن العوّام هو الذي قتل ابن خطل.
وروى الحاكم من طريق أبي معشر، عن يوسف بن يعقوب، عن السائب بن يزيد، قال:"فأخذ عبد الله بن خطل من تحت أستار الكعبة، فقُتل بين المقام وزمزم".
وقد جمع الواقديّ عن شيوخه أسماء من لم يؤمَّن يوم الفتح، وأُمر بقتله عشرة أنفس: ستة رجال، وأربع نسوة.
والسبب في قتل ابن خطل، وعدم دخوله في قوله:"من دخل المسجد، فهو آمن" ما روى ابن إسحاق في "المغازي": حدثني عبد الله بن أبي بكر، وغيره؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة، قال:"لا يُقتل أحدٌ، إلا من قاتل، إلا نفرًا سماهم، فقال: اقتلوهم، وإن وجدتموهم تحت أستار الكعبة، منهم عبد الله بن خطل، وعبد الله بن سعد".
وإنما أمر بقتل ابن خطل؛ لأنه كان مسلمًا، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، مصدّقًا، وبعث معه رجلًا من الأنصار، وكان معه مولى يخدمه، وكان مسلمًا، فنزل منزلًا، فأمر المولى أن يذبح تيسًا، ويصنع له طعامًا، فنام، واستيقظ، ولم يصنع له شيئًا، فعدا عليه فقتله، ثم ارتدّ مشركًا، وكانت له قينتان، تغنّيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى الفاكهيّ من طريق ابن جريج، قال: قال مولى ابن عباس: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا من الأنصار، ورجلًا من مزينة، وابن خطل، وقال: أطيعا الأنصاريّ حتى ترجعا، فقتل ابن خطل الأنصاريّ، وهرب المزنيّ، وكان ممن أهدر النبيّ صلى الله عليه وسلم دمه يوم الفتح.
ومن النفر الذين كان أهدر دمهم النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل الفتح غير من تقدّم ذكره: هبار بن الأسود، وعكرمة بن أبي جهل، وكعب بن زُهير، ووحشيّ بن حرب،
وأسيد بن إياس بن أبي زُنيم، وقينتا ابن خطل، وهند بنت عتبة.
والجمع بين ما اختُلِفَ فيه من اسمه أنه كان يسمى عبد العزّى، فلما أسلم سمّي عبد الله، وأما من قال: هلال، فالتبس عليه بأخ له اسمه هلال، بيّن ذلك الكلبيّ في النسب، وقيل: هو عبد الله بن هلال بن خطل، وقيل: غالب بن عبد الله بن خطل، واسم خطل: عبد مناف، من بني تميم بن فهر بن غالب، قاله في "الفتح"
(1)
.
(فَقَالَ مَالِكُ) بن أنس رحمه الله جوابًا عن سؤال يحيى بن يحيى بقوله: "أَحدّثك ابن شهاب
…
إلخ" (نَعَمْ) أي: حدّثني به، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [81/ 3309](1357)، و (البخاريّ) 107/ 2868 و 2869 و"الكبرى"(107/ 3850 و 3851). (وأخرجه) في "جزاء الصيد"(1846) و"الجهاد والسير"(3044) و"المغازي"(4286) و"اللباس"(5808)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2685)، و (الترمذيّ) في "الجهاد"(1693) وفي "الشمائل"(105)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(5/ 200 و 201) و"الكبرى"(2/ 302 و 5/ 171)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2805)، و (مالك) في "الموطّإ"(964)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(14/ 492)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1212)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 109 و 164 و 180 و 185 و 224 و 231 و 232 و 240)، و (الدارميّ) في "سننه"(1938)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه "(4/ 355)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3719)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 281)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 34)، و (البزّار) في "مسنده"(3/ 350)، و (الضياء) في "المختارة"(3/ 248 و 502)، و (الطبرانيّ)
(1)
"الفتح" 5/ 140 - 142.
في "الأوسط"(9/ 29) و"الكبير"(10/ 112)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 101 و 6/ 245 - 246)، و (أبو الشيخ) في "أخلاق النبيّ صلى الله عليه وسلم"(ص 143)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 59 و 8/ 205) و"المعرفة"(4/ 169 و 7/ 137)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2006)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): أنه قد اشتهر أن هذا الحديث تفرّد به الزهريّ، عن أنس رضي الله عنه، لكن قال الحافظ رحمه الله: وقد وقع لي من رواية يزيد الرَّقَاشي، عن أنس، في "فوائد أبي الحسن الفرّاء الموصليّ"، وفي الإسناد إلى يزيد مع ضعفه ضعف. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لكن مثل هذه المتابعة لا تُخرجه عن الغرابة؛ إذ يزيد الرقاشيّ لا يُعتبر به؛ لشدة ضعفه، ولاسيما مع ضعف الإسناد إليه، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
ثم قيل: إن مالكًا تفرّد به عن الزهريّ، وممن جزم بذلك ابن الصلاح في "علوم الحديث" له في الكلام على الشاذّ.
وتعقّبه الحافظ العراقيّ بأنه ورد من طريق ابن أخي الزهريّ، وأبي أوشى، ومعمر، والأوزاعيّ، وقال: إن رواية ابن أخي الزهريّ عند أبي بكر البزّار في "مسنده"، ورواية أبي أُويس عند ابن سعد في "الطبقات"، وابن عديّ في "الكامل"، وإن رواية معمر ذكرها ابن عديّ في "الكامل"، وإن رواية الأوزاعيّ ذكرها المزيّ في "الأطراف"، ولم يذكر العراقيّ من أخرج روايتهما.
قال الحافظ: وقد وجدت رواية معمر في "فوائد ابن المقري"، ورواية الأوزاعيّ في "فوائد تمّام".
ثم نقل الحافظ العراقيّ عن ابن مسدي في "معجم شيوخه" أن أبا بكر بن العربيّ قال لأبي جعفر ابن المرخي -حين ذكر له أنه لا يُعرف إلا من حديث مالك، عن الزهريّ- قال: قد رويته من ثلاثة عشر طريقًا، غير طريق مالك، فقالوا له: أفدنا هذه الفوائد، فوعدهم، ولم يُخرج لهم شيئًا.
ثم تعقّب ابن مسدي هذه الحكاية بأن شيخه فيها، وهو أبو العباس العشاب كان متعصبًا على ابن العربيّ؛ لكونه كان متعصّبًا على ابن حزم، فالله
أعلم، كذا قال وليّ الدين رحمه الله
(1)
.
وعبارة الحافظ في "الفتح": وأطال ابن مسدي في هذه القصّة، وأنشد فيها شعرًا، وحاصلها أنهم اتهموا ابن العربيّ في ذلك، ونسبوه إلى المجازفة، ثم شرع ابن مسدي يقدح في أصل القصّة، ولم يُصِب في ذلك، فراوي القصّة عدل متقن، والذين اتهموا ابن العربيّ في ذلك هم الذين أخطئوا؛ لقلّة اطلاعهم، وكأنه بَخِل عليهم بإخراج ذلك؛ لما ظهر له من إنكارهم، وتعنّتهم.
وقد تتبّعت طرقه حتى وقفت على أكثر من العدد الذي ذكره ابن العربيّ -ولله الحمد- فوجدته من رواية اثني عشر نفسًا، غير الأربعة التي ذكرها الحافظ العراقيّ، وهم: عُقيلٌ في "معجم ابن جُميع"، ويونس بن يزيد في "الإرشاد" للخليليّ، وابن أبي حفص في "الرواة عن مالك" للخطيب، وابن عيينة في "مسند أبي يعلى"، وأسامة بن زيد في "تاريخ نيسابور"، وابن أبي ذئب في "الحلية"، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي الموالي في "أفراد الدارقطنيّ"، وعبد الرحمن، ومحمد ابنا عبد العزيز الأنصاريان في "فوائد عبد الله بن إسحاق الخراسانيّ"، وابن إسحاق في "مسند مالك" لابن عديّ، وبحر السقاء، ذكره جعفر الأندلسيّ في تخريجه للجيزي -بالجيم، والزاي-، وصالح بن أبي الأخضر، ذكره أبو ذرّ الهرويّ عقب حديث يحيى بن قَزَعَة، عن مالك، المخرّج عند البخاريّ في "المغازي".
فتبيّن بذلك أن إطلاق ابن الصلاح متعقّبٌ، وأن قول ابن العربيّ صحيح، وأن كلام من اتهمه مردود، ولكن ليس في طرقه شيء على شرط الصحيح إلا طريق مالك، وأقربها رواية ابن أخي الزهريّ، فقد أخرجها النسائيّ في "مسند مالك"، وأبو عوانة في "صحيحه"، وتليها رواية أبي أويس، أخرجها أبو عوانة أيضًا، وقالوا: إنه كان رفيق مالك في السماع عن الزهريّ، فيُحْمَل قول من قال: انفرد به مالك؛ أي: بشرط الصحّة، وقول من قال: توبع؛ أي: في الجملة.
وعبارة الترمذيّ سالمة من الاعتراض، فإنه قال -بعد تخريجه-: حسن
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 5/ 83 - 84.
صحيح غريب، لا يُعرف كثير أحد رواه غير مالك، عن الزهريّ، فقوله:"كثير" يشير إلى أنه توبع في الجملة. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
، وهو بحث ممتع جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان جواز دخول مكة بغير إحرام، وذلك لمن لم يُرِد الحجّ، أو العمرة، وفي ذلك خلاف، سيأتي تحقيقه في المسألة السادسة -إن شاء الله تعالى-.
2 -
(ومنها): أنه استُدلّ به على أنه صلى الله عليه وسلم فتح مكة عَنْوةً.
وأجاب النوويّ بأنه صلى الله عليه وسلم كان صالَحهم، لكن لمّا لم يَأْمَن غدرهم دخل متأهبًا.
قال الحافظ: وهذا جواب قويّ، إلا أن الشأن في ثبوت كونه صالحهم، فإنه لا يُعْرَف في شيء من الأخبار صريحًا.
قال الجامع عفا الله عنه: الأرجح أن مكة فُتحت عنوة، كما أسلفت تحقيق ذلك قريبًا، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.
3 -
(ومنها): أنه استُدِلّ بقصّه ابن خطل على جواز إقامة الحدود والقصاص في حرم مكة.
قال ابن عبد البرّ رحمه الله: كان قتل ابن خطل قَوَدًا من قتله المسلم، وقال السهيليّ: فيه أن الكعبة لا تعيذ عاصيًا، ولا تمنع من إقامة حدّ واجب، وقال النوويّ: تأوّل من قال: لا يُقتل فيها على أنه صلى الله عليه وسلم قتله في الساعة التي أبيحت له، وأجاب عنه الشافعية بأنها إنما أُبيحت له ساعة الدخول حتى استولى عليها، وأذعن أهلها، وإنما قتل ابن خطل بعد ذلك. انتهى.
وتُعُقّب بأن المراد بالساعة التي أحلّت له ما بين أول النهار، ودخول وقت العصر، وقَتْل ابن خطل كان قبل ذلك قطعًا؛ لأنه قيّد في الحديث بأنه كان عند نزعه صلى الله عليه وسلم المغفر، وذلك عند استقراره بمكة.
وقد قال ابن خزيمة رحمه الله: المراد بقوله في حديث ابن عباس: "ما
(1)
"الفتح" 5/ 139 - 140.
أحلّ الله لأحد فيه القتل غيري" أي: قتل النفر الذين قُتلوا يومئذ: ابن خطل، ومن ذُكر معه، قال: وكان الله قد أباح له القتال، والقتل معًا في تلك السنة، وقتل ابن خطل وغيره بعد تقضي القتال.
4 -
(ومنها): أنه استُدلّ به أيضًا على جواز قتل الذميّ إذا سبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه نظر، كما قال ابن عبد البرّ؛ لأن ابن خطل كان حربيًّا، ولم يُدخله رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانه لأهل مكة، بل استثناه مع من استثنى، وخرج أمره بقتله مع أمانه لغيره مخرجًا واحدًا، فلا دلالة فيه لما ذُكر. انتهى.
ويمكن أن يُتَمَسّك به في جواز قتل من فعل ذلك بغير استتابة من غير تقييد بكونه ذميًّا، لكن ابن خطل عمل بموجبات القتل، فلم يتحتّم أن سبب قتله السبّ، ذكره في "الفتح"
(1)
.
5 -
(ومنها): أنه استَدلّ به البخاريّ وغيره على جواز قتل الأسير صبرًا، وهو استدلال واضح؛ لأن القدرة على ابن خطل صيّرته كالأسير في يد الإمام، وهو مخيّرٌ فيه بين القتل وغيره. لكن قال الخطابيّ: إنه صلى الله عليه وسلم قتله بما جناه في الإسلام، وقال ابن عبد البرّ: قتله قوَدًا من دم المسلم الذي غدر به، وقتله، ثم ارتدّ، كما تقدّم.
6 -
(ومنها): أنه استُدِلّ به على جواز قتل الأسير من غير أن يُعْرَض عليه الإسلام، ترجم بذلك أبو داود.
7 -
(ومنها): مشروعية لُبس المغفر، وغيره من آلات الحرب حال الخوف من العدوّ، وأنه لا ينافي التوكّل، وقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه: "اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما دخل مكة طاف، وطفنا معه، ومعه من يستره من أهل مكة أن يرميه أحد
…
" الحديث، وإنما احتاج إلى ذلك؛ لأنه كان حينئذ محرمًا، فخشي الصحابة أن يرميه بعض سفهاء المشركين بشيء يؤذيه، فكانوا حوله، يسترون رأسه، ويحفظونه من ذلك.
8 -
(ومنها): جواز رفع أخبار أهل الفساد إلى ولاة الأمور، ولا يكون
(1)
"الفتح" 5/ 143 - 144.
ذلك من الغيبة المحرّمة، ولا النميمة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): ظاهر حديث الباب أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة يوم الفتح لم يكن محْرمًا، وقد صرّح بذلك مالك راوي الحديث، كما ذكره البخاريّ في "كتاب المغازي" عن يحيى بن قَزَعَة، عن مالك عقب هذا الحديث:"قال مالك: ولم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما نرى -والله أعلم- يومئذ محرمًا". انتهى.
وقول مالك هذا رواه عبد الرحمن بن مهديّ، عن مالك، جازمًا به، أخرجه الدارقطنيّ في "الغرائب".
ووقع في "الموطإ" من رواية أبي مصعب وغيره، قال مالك:"قال ابن شهاب: ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ محرمًا"، وهذا مرسل، ويشهد له ما رواه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ:"دخل يوم فتح مكة، وعليه عمامة سوداء، بغير إحرام"، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، عن طاوس، قال:"لم يدخل النبيّ صلى الله عليه وسلم مكة إلا محرمًا، إلا يوم فتح مكة"، قاله في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحقّ أنه صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله تعالى عنهم دخلوا مكة يوم الفتح غير محرمين، فهو دليل واضح للمذهب الصحيح أن دخولها بغير إحرام لمن لم يُرِد الحج، أو العمرة جائز، كما سيأتي تحقيقه في المسألة التالية، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في دخول مكة بغير إحرام: ذهب أصحاب الشافعيّ: إلى أن الأصحّ إن لم يتكرّر دخوله عدم وجوب الإحرام عليه، وهذا قول أكثرهم، فإن تكرر كالحطابين، ونحوهم، فهو أولى بعدم الوجوب، وهو المذهب.
وذهب الحنابلة إلى وجوب الإحرام إلا على الخائف، وأصحاب الحاجات المتكرّرة، هذا هو المشهور عندهم، ولم يوجبه بعضهم، وعن أحمد ما يدلّ عليه.
(1)
"الفتح" 5/ 142 - 143.
وذهب المالكية في المشهور عنهم إلى وجوبه على غير ذوي الحاجات المتكررة، قال وليّ الدين: ولم أرهم استثنوا الخائف، والظاهر أنهم لا ينازعون في استثنائه، فهو أولى بعدم الوجوب من ذوي الحاجات المتكررة.
وذهب أبو مصعب إلى عدم وجوبه، وهو رواية ابن وهب عن مالك، وَرُوِيَ عنه أيضًا مثل رواية غيره من أصحابه، حكاه ابن عبد البرّ.
وذهب الحنفية إلى وجوبه مطلقًا، قال وليّ الدين: ولم أرهم استثنوا من ذلك إلا من كان داخل الميقات، فلم يوجبوا عليه الإحرام، والظاهر أنهم أيضًا لا ينازِعون في الخائف، بل ولا في ذوي الحاجات المتكرّرة، وإن لم يصرّحوا باستثنائهم، فإنهم علّلوا منع الوجوب فيمن هو داخل الميقات بأنه يكثر دخولهم مكة، وفي إيجاب الإحرام عليهم كلّ مرّة حرج بيّنٌ، فصاروا كأهل مكة، حيث يباح لهم الخروج منها، ثم دخولها بغير إحرام، لكن مقتضى كلام ابن قدامة في "المغني" منازعتهم في هاتين الصورتين أيضًا.
وقد تحرّر من ذلك أن المشهور من مذهب الشافعيّ عدم الوجوب مطلقًا، ومن مذاهب الأئمة الثلاثة الوجوب، إلا فيما يُستثنى، وحكاه ابن عبد البرّ، والقاضي عياض عن أكثر العلماء. وعدمُ الوجوب محكي عن عبد الله بن عمر، وبه قال الزهريّ، والحسن البصريّ، وزعم ابن عبد البرّ انفرادهما بذلك من بين السلف، وأن المشهور عن الشافعيّ الوجوب، وليس كما قال، وذهب إلى عدم الوجوب أيضًا: داود، وابن حزم، فقد نصره في كتابه "المحلّى"، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيميّة، وأبو الوفاء بن عقيل، قال ابن مفلح في "الفروع": وهي ظاهرة.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحقّ أنّ دخول الحرم بغير إحرام لمن لم يُرِد الحج، أو العمرة جائزٌ؛ لحديث الباب، فقد دخل صلى الله عليه وسلم، وأصحابه غير محرمين، ولصريح قوله صلى الله عليه وسلم عند تحديده المواقيت:"هن لهنّ، ولمن أتى عليهنّ، من غير أهلهنّ، ممن كان يريد الحج، والعمرة"، متّفق عليه، فقد صرّح بأن وجوب الإحرام من المواقيت المحدّدة لمن أراد الحج، أو العمرة، فدلّ على أن من لم يُردهما، أو أحدهما لا يجب عليه الإحرام منها.
وأيضًا فقد كان المسلمون في عهده صلى الله عليه وسلم يترددون إلى مكة في حوائجهم، فلم يُنقل عنه أنه أمر أحدًا بأن يدخل محرمًا.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
وبالسند المتّصل إلى الامام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3310]
(1358) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التمِيمِي، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّقَفِيُّ، وَقَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وقَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمَّارٍ الدُّهْنِيُّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الأنصَارِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ، وَقَالَ قُتَيْبَةُ: دَخَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَعَلَيْهِ عِمَامَة سَوْدَاءُ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ، وَفي رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ: قَالَ: حَدَّثنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُعَاوِيةُ بْنُ عَمَّارٍ الدُّهْنِيُّ) هو: معاوبة بن عمّار بن أبي معاوية الدُّهْنيّ البجليّ الكوفيّ، صدوق [8].
روى عن أبيه، وأبي الزبير، وجعفر بن محمد.
وروى عنه قتيبة بن سعيد، ويوسف بن عديّ، ويحيى بن يحيى النيسابوريّ، وغيرهم.
قال ابن معين، والنسائيّ: ليس به بأس، وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه، ولا يُحتجّ به، وقال يعقوب بن سفيان: لا بأس به، وذكره ابن حبّان في "الثقات".
روى له البخاريّ في "خلق أفعال العباد"، والمصنّف، وأبو داود في "المراسيل"، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب ولا عند النسائيّ إلا هذا الحديث.
وقال في "تهذيب التهذيب": له في "صحيح مسلم"، والنسائيّ حديث واحد متابعة في دخوله صلى الله عليه وسلم مكة بغير إحرام. انتهى
(1)
.
(1)
"تهذيب التهذيب" 4/ 110 - 111.
[تنبيه]: قوله: "الدُّهْنِيّ": هو -بضم الدال المهملة، وإسكان الهاء، وبالنون-: منسوب إلى دُهْن، وهم بطن من بَجِيلة، قال النوويّ رحمه الله: وهذا الذي ذكرناه من كونه بإسكان الهاء هو المشهور، ويقال: بفتحها، وممن حَكَى الفتح أبو سعيد السَّمْعانيّ في "الأنساب"، والحافظ عبد الغنيّ المقدسيّ. انتهى
(1)
.
والباقون ذُكروا في الباب، وفي الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (211) من رباعيّات الكتاب.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه يحيى، كما مرّ في السند الماضي، ومعاوية، كما ذكرته آنفًا.
3 -
(ومنها): أن فيه جابرًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله الْأنصَارِيِّ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ) وقوله: (وَقَالَ قُتَيْبَةُ: دَخَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَةَ) يعني أن قُتيبة زاد في روايته قوله: "يوم فتح مكة"(وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ) جملة في محل نصب على الحال، وفيه جواز لباس الثياب السُّود، وفي حديث عمرو بن حريث رضي الله عنه الآتي:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس، وعليه عمامة سوداء". قال النوويُّ: فيه جواز لباس الأسود في الخطبة، وإن كان الأبيض أفضل منه، كما ثبت في الحديث الصحيح:"خير لباسكم البياض"، وإنما لَبس العمامة السوداء في هذا الحديث بيانًا للجواز. انتهى. (بِغَيْرِ إِحْرَامٍ) هذا صريح في كون النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح هو، وأصحابه غير محرمين، فدلّ على جواز دخولها بغير إحرام لمن لا يريد حجًّا، ولا عمرة.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 132 - 133.
وقوله: (وَفي رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ: قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ) فيه بيان تصريح معاوية بن عمّار بتحديث أبي الزبير له، بخلاف يحيى بن يحيى، فإنه رواه بالعنعنة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [81/ 3310 و 3311](1358)، و (أبو داود) في "اللباس"(4076)، و (الترمذيّ) في "اللباس"(1735) وفي "الشمائل"(107)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(5/ 201) و"الزينة"(8/ 211) وفي "الكبرى"(2/ 382 و 5/ 112 و 497 و 498)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2822) وفي "اللباس"(3585)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 422 و 14/ 493)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 241)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 363 و 3/ 363 و 387)، و (الدارميّ) في "سننه"(1939)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 34 - 35)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3722)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(4/ 371 و 5/ 308 و 7/ 99)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3/ 44 و 4/ 110)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 478)، و (البزّار) في "مسنده"(4/ 180)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 177) و"المعرفة"(2/ 526 و 3/ 32)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2007)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): زعم الحاكم في "الإكليل" أن بين حديث أنس رضي الله عنه الذي قبل هذا في المغفر، وبين حديث جابر رضي الله عنه هذا في العمامة السوداء معارضة.
وتعقّبوه باحتمال أن يكون أول دخوله كان على رأسه المغفر، ثم أزاله، ولبس العمامة بعد ذلك، فحَكَى كل منهما ما رآه، ويؤيّده أن في حديث عمرو بن حُريث رضي الله عنه الآتي:"أنه صلى الله عليه وسلم خطب الناس، وعليه عمامة سوداء"، وكانت الخطبة عند باب الكعبة، وذلك بعد تمام الدخول.
وهذا الجمع للقاضي عياض رحمه الله، وقال غيره: يُجمع بأن العمامة السوداء كانت ملفوفة فوق المغفر، أو كانت تحت المغفر، وقاية لرأسه صلى الله عليه وسلم من صدإ الحديد، فأراد أنس بذكر المغفر كونه دخل متهيئًا للحرب، وأراد جابر بذكر العمامة كونه دخل غير محرم، وبهذا يدفع إشكال من قال: لا دلالة في الحديث على جواز دخول مكة بغير إحرام؛ لاحتمال أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم كان محرمًا، ولكنه غطى رأسه لعذر، فقد اندفع ذلك بتصريح جابر رضي الله عنه بأنه لم يكن محرمًا.
وأما دعوى أن دخول مكة بغير إحرام من خصائص النبيّ صلى الله عليه وسلم، فغير صحيحة؛ إذ الخصائص لا تثبت إلا بدليل، ومما يبطلها أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا محرمين مثله، فبطل ما ادّعوه. انتهى من "الفتح" باختصار، وتصرّف
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3311]
(
…
) - (حَدَّثنا عَلِيُّ بْنُ حَكِيمٍ الْأَوْدِيُّ، أَخْبَرَنَا شَرِيك، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِي، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَلِيُّ بْنُ حَكِيمٍ الْأَوْدِيُّ) أبو الحسن الكوفيّ، ثقةٌ [10].
رَوى عن ابن إدريس، وابن المبارك، وحميد بن عبد الرحمن الرُّؤاسيّ، وشريك بن عبد الله النخعيّ، وابن عيينة، وعلي بن مسهر، وغيرهم.
وروى عنه البخاريّ في "الأدب المفرد"، ومسلم، وروى النسائيّ، عن عثمان بن خُرّزاذ عنه، وأبو الصلت عبد السلام بن صالح الهرويّ، وهو من أقرانه، وابن أخيه أحمد بن عثمان بن حكيم، ويعقوب بن سفيان، وغيرهم.
قال ابن الجنيد، عن ابن معين: ثقةٌ، ليس به بأسٌ، وقال أبو حاتم:
(1)
"الفتح" 5/ 143.
صدوقٌ، وقال الآجريّ عن أبي داود: صدوقٌ خرج مع أبي السرايا، وقال النسائيّ، ومحمد بن عبد الله الحضرميّ: ثقةٌ، مات سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وفيها أرَّخه ابن قانع، وزاد: في رمضان، وكان ثقةٌ صالِحًا.
روى عنه البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط
(1)
.
2 -
(شَرِيكُ) بن عبد الله النخعيّ الكوفي القاضي بواسط، ثم الكوفة، أبو عبد الله، صدوق يُخطئ كثيرًا، وتغيّر حفظه منذ ولي قضاء الكوفة، وكان عادلًا فاضلًا عابدًا شديدًا على أهل البِدَع [8](ت 7 أو 178)(خت م 4) تقدم في "الصلاة" 36/ 1030.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: رواية شريك بن عبد الله عن عمّار الدُّهنيّ هذه ساقها النسائيّ في "المجتبى"(8/ 211) فقال:
(5345)
- أخبرنا عَمْرُو بن مَنْصُورٍ، قال: حدّثنا الْفَضْلُ بن دُكَيْنٍ، عن شَرِيكٍ، عن عَمَّارٍ الدُّهْنِيُّ، عن أبي الزُّبَيْرِ، عن جَابِرٍ، قال: دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الْفَتْحِ، وَعَلَيْهِ عِمَامَة سَوْدَاءُ. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3312]
(1359) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَا: أَخْبَرَنَا وَكيعٌ، عَنْ مُسَاوِرٍ الْوَرَّاقِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ أَبِيهِ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النَّاسَ، وَعَلَيْهِ عِمَامَة سَوْدَاءُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل باب.
(1)
ونقل في "تهذيب التهذيب"(7/ 274) عن "الزهرة" أن مسلمًا روى عنه، حديثين، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.
2 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قريبًا.
3 -
(مُسَاوِرٌ الْوَرَّاقُ) الكوفيّ الشاعر، يقال: اسم أبيه سَوّار بن عبد الحميد، صدوقٌ [7].
رَوَى عن سيّار أبي الحكم، ويقال: إنه أخوه لأمه، وجعفر بن عمرو بن حريث، وشعيب بن يسار مولى ابن عباس، وغيرهم.
وروى عنه ابن عيينة، وعبيد الله الأشجعيّ، ووكيع، وأبو أسامة.
قال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: كان يقول الشعر، ما أرى بحديثه بأسًا، وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال محمد بن عبيد المكيّ، عن ابن عيينة: سمعت مساورًا الورّاق يقول: ما كنت أقول للرجل: إني أحبك في الله، ثم أمنعه شيئًا من الدنيا، وذكره أسلم بن سهل الواسطيّ في "تاريخ واسط" في أهل القرن الثاني، وجزم بأنه أخو سَيّار لأمه، ويقال: هو مساور بن سَوّار بن عبد الحميد، وله أخبار كثيرةٌ، وأشعار شهيرةٌ.
أخرج له المصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وأعاده بعده.
4 -
(جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ) المخزوميّ، صدوقٌ [3](م د تم س ق) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 41/ 1869.
5 -
(أَبُوهُ) عمرو بن حُريث بن عمرو بن عثمان بن عبد الله بن عُمر بن مخزوم القرشيّ المخزوميّ، صحابيّ صغير، مات سنة (85)(ع) تقدم في "الصلاة" 36/ 1028.
و"يحيى بن يحيى" ذُكر قبل حديث، وشرح الحديث يأتي في الحديث التالي، وإنما أخّرته؛ لكونه أتمّ من هذا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الامام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3313]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْحَسَنُ الْحُلْوَانِيُّ، قَالَا: حَدَّثنَا أَبُو أسَامَةَ، عَنْ مُسَاوِرٍ الْوَرَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَني، وَفِي رِوَايَةِ الْحُلْوَانِيِّ:
قَالَ: سَمِعْتُ جَعْفَرَ بْنَ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كأَني أَنْظُرُ إِلَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ، وَعَلَيْهِ عِمَامَة سَوْدَاءُ، قَدْ أَرْخَى طَرَفَيْهَا بَيْنَ كتِفَيْهِ، وَلَمْ يَقُلْ أَبُو بَكْرٍ: عَلَى الْمِنْبَرِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قريبًا.
2 -
(الْحَسَنُ الْحُلْوَانيُّ) هو: الحسن بن عليّ بن محمد، تقدّم قبل بابين.
3 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
شرح الحديث:
(عَنْ مُسَاوِرٍ الْوَرَّاقِ) أنه (قَالَ: حَدَّثَنِي) وقوله: (وَفِي رِوَايَةِ الْحُلْوَانِيِّ: قَالَ: سَمِعْتُ) بيّن به الاختلاف بين شيخيه: ابن أبي شيبة، والحسن الحلوانيّ، فالأول قال في روايته: حدّثني أبو أسامة، عن مساور قال: حدّثني جعفر بن عمرو بن حُريث، وقال الثاني: حدثنا أبو أسامة، عن مساور قال: سمعت (جَعْفَرَ بْنَ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ) فـ"جعفر" تنازعاه كلٌّ من "حدّثني"، و"سمعت"، فالأول يطلبه للرفع على الفاعليّة، والثاني يطلبه للنصب على المفعوليّة، وإلى التنازع أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:
إِنْ عَامِلَانِ اقْتَضَيَا فِي اسْم عَمَلْ
…
قَبْلُ فَلِلْوَاحِدِ مِنْهُمَا الْعَمَلْ
وَالثَّانِ أَوْلَى عِنْدَ أَهْلِ الْبَصْرَهْ
…
وَاخْتَارَ عَكْسًا غَيْرُهُمْ ذَا أَسْرَهْ
(عَنْ أَبِيهِ) عمرو بن حُريث رضي الله عنه بالتصغير القرشيّ المخزوميّ، الصحابي الصغير، مات سنة (85) وقيل: قُبض النبيّ صلى الله عليه وسلم، وله اثنتا عشرة سنةً؛ أنه (قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ) متعلّق بحال مقدّر؛ أي: حال كونه قائمًا على المنبر (وَعَلَيْهِ عِمَامَة) بكسر العين المهملة (سَوْدَاءُ) فيه لُبْس الثوب الأسود في الخطبة، وإن كان الأبيض أفضل منه، كما ثبتٌ في الحديث الصحيح:"خير ثيابكم البياض"، وأما لُبس الخطباء السواد في حال الخطبة فجائز، ولكن الأفضل البياض كما ذكرنا، وإنما لَبِس صلى الله عليه وسلم العمامة السوداء بيانًا للجواز. وجملة "وعليه عمامة سوداء" في محلّ نصب على الحال، وكذا قوله:
(قَدْ أَرْخَى) أي: سَدَلَ، وأرسل (طَرَفَيْهَا) بالتثنية أي: طرفي عمامته، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع نسخ بلادنا، وغيرها:"طرفيها" بالتثنية، وكذا هو في "الجمع بين الصحيحين" للحميدي، وذكر القاضي عياض أن الصواب المعروف "طَرَفها" بالإفراد، وأنّ بعضهم رواه:"طرفيها" بالتثنية، والله أعلم. انتهى
(1)
.
(بَيْنَ كَتِفَيْهِ) فيه أن إرسال طرفي العمامة بين الكتفين، ولبس الزينة يوم الجمعة سنة، قال الأمير الصنعانيّ رحمه الله: من آداب العمامة إرسال العَذَبة بين الكتفين، ويجوز تركها بالأصالة
(2)
، وسيأتي بسط حكم إرخاء العمامة في "كتاب اللباس" -إن شاء الله تعالى-.
وقوله: (وَلَمْ يَقُلْ أَبُو بَكْرٍ: عَلَى الْمِنْبَرِ) يعني أن شيخه أبا بكر بن أبي شيبة لم يذكر في روايته لفظة: "على المنبر"، وإنما ذكرها الحلوانيّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عمرو بن حُريث رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [81/ 3312 و 3313](1359)، و (أبو داود) في "اللباس"(4077)، و (الترمذيّ) في "الشمائل"(115 و 116)، و (النسائيّ) في "الزينة"(8/ 211) و"الكبرى"(5/ 498)، و (ابن ماجه) في "اللباس"(1104 و 2821 و 3587)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 180)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 307)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 35)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 246 و 281) و"المعرفة"(2/ 526 و 3/ 32)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 133 - 134.
(2)
راجع: "المرعاة" 4/ 499.
(82) - (بَابُ فَضْلِ الْمَدِينَةِ، وَدُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا بِالْبَرَكَةِ، وَبَيَانِ تَحْرِيمِهَا، وَتَحْرِيمِ صَيْدِهَا، وَشَجَرِهَا، وَبَيَانِ حُدُودِ حَرَمِهَا)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3314]
(1360) - (حَدَّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، يَعْني ابْنَ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيَّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ الله بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِم: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِن إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَدَعَا لِأَهْلِهَا، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ، كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَإِنِّي دَعَوْتُ فِي صَاعِهَا، وَمُدِّهَا، بِمِثْلَي مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ لِأَهْلِ مَكَّةَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10]، (ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
2 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ) الْجُهنيّ مولاهم، أبو محمد المدنيّ، صدوقٌ كان يُحدّث من كُتب غيره، فيُخطئ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
3 -
(عَمْرُو بْنُ يَحْيَى الْمَازِنيُّ) المدنيّ، ثقةٌ [6] مات بعد (130)(ع) تقدم في "الإيمان" 88/ 464.
4 -
(عَبَّادُ بْنُ تَمِيمِ) بن غَزِيّة الأنصاريّ المازنيّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الحيض" 25/ 810.
5 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمِ) بن كعب الأنصاريّ المازنيّ، أبو محمد الصحابيّ الشهير، استُشهد بالحرّة سنة (63)(ع) تقدم في "الطهارة" 7/ 561.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، وشيخه، وإن كان بغلانيًّا إلا أنه دخل المدينة.
4 -
(ومنها): أن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم صفة الوضوء وغير ذلك من الأحاديث، ويقال: إنه هو الذي قَتَل مسيلمة الكذّاب، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زيدِ بْنِ عَاصِم) المازنيّ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِن إِبْرَاهِيمَ) الخليل عليه السلام (حَرَّمَ مَكَةَ) اي: أظهر للناس تحريمها بعد أن نسوه، وإلا فتحريمها من الله عز وجل يوم خلق السماوات والأرض، كما سبق بيانه.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إن إبراهيم حرّم مكة" أي: بلّغ حكم تحريمها، وعلى ذلك يُحمل قول نبيّنا صلى الله عليه وسلم:"وإني أحرّم ما بين لابتيها"، وقد دلّ على صحة هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم:"إن الله حرّم مكة، ولم يُحرّمها الناس"، متّفقٌ عليه. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: هذا دليل لمن يقول: إن تحريم مكة إنما هو كان في زمن إبراهيم عليه السلام، والصحيح أنه كان يوم خلق الله السماوات والأرض، وقد سبقت المسألة مستوفاةً قريبًا، وذكروا في تحريم إبراهيم عليه السلام احتمالين:
أحدهما: أنه حرّمها بأمر الله تعالى له بذلك، لا باجتهاده، فلهذا أضاف التحريم إليه تارةً، وإلى الله تعالى تارةً.
والثاني: أنه دعا لها، فحرّمها الله تعالى بدعوته، فأضيف التحريم إليه لذلك. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى كون الاحتمال الثاني بعيدًا، فلا تغفُل، والله تعالى أعلم.
(وَدَعَا لِأَهْلِهَا) أي: بالبركة (وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ) أي: ما بين لابتيها، أو ما بين عَير إلى ثور، كما يأتي في الروايات الآتية (كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ) عليه السلام
(1)
"المفهم" 3/ 479.
(مَكَّةَ، وَإِنِّي دَعَوْتُ) أي: بالبركة (فِي صَاعِهَا، وَمُدِّهَا) قال القرطبيّ رحمه الله؛ أي: في ذي صاعها، وذي مدِّها، يعني: فيما يُكال بالصَّاع والمدّ، ووجهُ البركة تكثير ذلك، وتضعيفه في الوجود، أو في الشِّبَع، وقد فَعَل الله تعالى كل ذلك بالمدينة، فانجلب الناس إليها من كل أرض وبلد، وصارت مُسْتَقَرَّ ملوكٍ، وجُلبت إليها الأرزاق، وكثرت فيها مع قلة أكل أهلها، وترك نَهَمهم، وإنما هي وجبة واحدة يأكلون فيها العُلْقة من الطعام، والكفَّ من التمر، ويُكتفى به، ثم لا يلزم أن يكون ذلك فيها دائمًا، ولا في كل شخص، بل تتحقق إجابة دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا وُجد ذلك في أزمان، أو في غالب أشخاص، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
(بِمِثْلَيْ) بالتثنية، وهو مضاف إلى (مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ) عليه السلام (لِأَهْلِ مَكَّةَ") هو ما فسّره في حديث أنس رضي الله عنه الآتي:"اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما بمكة من البركة"، وفي لفظ:"اللهم بارك لهم في مدّهم وصاعهم"، وفي لفظ:"اللهم بارك لهم في مكيالهم، وبارك لهم في صاعهم، وبارك لهم في مُدّهم"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [82/ 3314 و 3315](1360)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2129)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 40)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 401)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 36 - 37)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 197)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل المدينة، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم جعلها حرمًا.
(1)
"المفهم" 3/ 480.
2 -
(ومنها): بيان أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا لها بأن يجعل الله تعالى بها من البركة ضعف ما جعله في مكة.
3 -
(ومنها): بيان أن إبراهيم الخليل عليه السلام حرّم مكة؛ أي: بيّن للناس تحريم الله تعالى لها، كما سبق بيانه.
4 -
(ومنها): بيان أن إبراهيم عليه السلام دعا بالبركة لمكة، ففي "صحيح البخاريّ" في الحديث الطويل في قصّة إبراهيم وإسماعيل، وأمه قال:"اللهم بارك لهم في اللحم والماء"، ولم يكن لهم يومئذ حبّ، ولو كان لهم لدعا لهم فيه".
5 -
(ومنها): أن فيه حجةً ظاهرةً للشافعيّ، ومالك، وموافقيهما في تحريم صيد المدينة، وشجرها، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم حرم المدينة:
ذهب الإمامان: مالك، والشافعيّ، ومن وافقهم إلى تحريم صيد المدينة، وشجرها؛ لظاهر أحاديث الباب.
وذهب الإمام أبو حنيفة إلى إباحة ذلك، واحتُجَّ له بحديث:"يا أبا عُمير ما فَعَلَ النُّغَير". وأجاب الأولون عن هذا بجوابين:
أحدهما: أنه يَحْتَمِل أن حديث النغير كان قبل تحريم المدينة.
والثاني: يَحْتَمِل أنه صاده من الحلّ، لا من حرم المدينة، قال النوويّ رحمه الله: وهذا الجواب لا يلزم على أصولهم؛ لأن مذهب الحنفية أن صيد الحلّ إذا أدخله الحلال إلى الحرم ثبت له حكم الحرم، ولكن أصلهم هذا ضعيف، فيُرَدّ عليهم بدليله.
والمشهور من مذهب مالك، والشافعيّ، والجمهور أنه لا ضمان في صيد المدينة، وشجرها، بل هو حرام بلا ضمان.
وقال ابن أبي ذئب، وابن أبي ليلى: يجب فيه الجزاء كحرم مكة، وبه قال بعض المالكية، وللشافعيّ قول قديم أنه يُسلَب القاتل؛ لحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الذي ذكره مسلم بعدَ هذا، قال القاضي عياض: لم يقل بهذا
القول أحد بعد الصحابة، إلا الشافعيّ في قوله القديم، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث نصٌّ في تحريم صيد المدينة، وقطع شجرها، وهو حجة للجمهور على أبي حنيفة وأصحابه في إباحة ذلك، وانكارهم على من قال بتحريم المدينة؛ بناءً منهم على أصلهم في ردِّهم أخبار الآحاد فيما تعم به البلوى، وقد تكلَّمنا معهم في هذا الأصل في باب أحداث الوضوء، ولو سلِّم لهم ذلك جدلًا، فتحريم المدينة قد انتشر عند أهل المدينة والمحدِّثين، وناقلي الأخبار، حتى صار ذلك معلومًا عندهم، بحيث لا يشكّون فيه، والذي قصَّر بأبي حنيفة وأصحابه في ذلك قلَّة اشتغالهم بالحديث، ونقْل الأخبار، وإلا فما الفرق بين الأحاديث الشاهدة بتحريم مكة، وبين الشاهدة بتحريم المدينة في الشهرة، ولو بحثوا عنها، وأمعنوا فيه حصل لهم منها مثل الحاصل لهم من أحاديث مكة.
والجمهور على أن صيدها لا جزاء فيه؛ لعدم النص على ذلك، ولم يتحققوا جامعًا بين الصَّيدين، فلم يُلحقوه به.
وقد قال بوجوب الجزاء فيه: ابن أبي ذئب، وابن أبي ليلى، وابن نافع من أصحابنا -يعني المالكيّة- واختَلَف قول الشافعيّ في ذلك.
فأما الشجر فيحرم قطعه منها أيضًا، وهو محمول على مثل ما حُمِل عليه شجر مكة، وهو ما لم يُعالج إنباتَه الآدميّ، ويدلّ على صحة ذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قطع نخل المسجد، وقد ذكر ابن نافع، عن مالك أنه قال: إنما نُهي عن قطع شجر المدينة؛ لئلا تتوحش، وليبقى فيها شجرها؛ ليستأنس، ويستظل به مَن هاجر إليها.
قال القرطبيّ: وعلى هذا فلا يُقطع منها نخل ولا غيره، وحينئذ تزول خصوصية ذكر العضاه، وهو شجر البادية، الذي ينبت لا بصنع آدميّ، والأول أولى، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن مما سبق أن أرجح المذاهب مذهب من قال بتحريم صيد المدينة، وشجرها؛ لوضوح الأدلة على ذلك، وأن من فعل
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 134.
(2)
"المفهم" 3/ 481.
ذلك فقد أثم، ولا شيء عليه من الفدية؛ لعدم ورود نصّ بذلك، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى الامام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3315]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو كامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، يَعْني ابْنَ الْمُخْتَارِ (ح) وَحَدَّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ (ح) وَحَدَّثَنَاه إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا الْمَخْزُومِيُّ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، كُلُّهُمْ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، هُوَ الْمَازِنيُّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، أَمَّا حَدِيثُ وُهَيْب فَكَرِوَايَةِ الدَّرَاوَرْدِيِّ:"بِمِثْلَيْ مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ"، وَأمَّا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ، فَفِي رِوَايَتِهِمَا:"مِثْلَ مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فُضيل بن حسين البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
2 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ) الدبّاغ البصريّ، مولى حفصة بنت سيرين، ثقةٌ [7](ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 14/ 1674.
3 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل حديث.
4 -
(خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ) الْقَطَوانيّ، أبو الْهَيثم الْبَجَليّ مولاهم الكوفيّ، صدوقٌ يتشيّع، وله أفراد، من كبار [10](ت 213)(خ م كد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 65/ 367.
5 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) المدنيّ، تقدّم قريبًا.
6 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل حديثين.
7 -
(الْمَخْزُومِيُّ) المغيرة بن سلمة، أبو هشام البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [9](ت 200)(خت م د س ق) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.
8 -
(وُهَيْبُ) بن خالد بن عجلان الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، لكنه تغيّر قليلًا بآخره [7](ت 165) أو بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.
و"عَمْرُو بْنُ يَحْيَى" ذُكر قبله.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى) أي: كل هؤلاء الثلاثة: عبدِ العزيز بن المختار، وسليمانَ بن بلال، ووُهيبِ بنِ خالد رووا هذه الحديث عن عمرو بن يحيى المازنيّ بسنده الماضي، وهو: عن عبّاد بن تميم، عن عمّه عبد اللَّه بن زيد بن عاصم رضي الله عنه.
[تنبيه]: أما رواية عبد العزيز بن المختار، عن عمرو بن يحيى، فقد ساقها البيهقيّ رحمه الله في "السنن الكبرى" (5/ 197) فقال:
(9736)
- وأخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق المزَكِّي، ثنا أبو عبد اللَّه محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن رجاء بن السنديّ، ثنا أبو كامل الْجَحْدريّ، ثنا عبد العزيز بن المختار، عن عمرو بن يحيى، عن عباد بن تميم، عن عمه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن إبراهيم عليه السلام حَرَّم مكة، وإني حَرَّمت المدينة، كما حَرَّم إبراهيم مكة، ودعوت لها في مُدِّها وصاعها، مثل ما دعا إبراهيم عليه السلام لمكة". انتهى.
وأما رواية سليمان بن بلال، عن عمرو بن يحيى، فقد ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" (4/ 36) فقال:
(3162)
- حدّثنا أبو بكر عبد اللَّه بن يحيى الطَّلْحيّ، ثنا عُبيد بن غَنّام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا خالد بن مَخْلَد، ثنا سليمان بن بلال، حدَّثني عمرو بن يحيى المازنيّ، عن عَبّاد بن تميم، عن عبد اللَّه بن زيد، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم حَرَّم مكة، ودعا لأهلها، وإني حَرَّمت المدينة، كما حَرَّم إبراهيم مكة، وإني دعوت في صاعها ومُدّها، بمثل ما دعا إبراهيم لأهل مكة". انتهى.
وأما رواية وُهيب، عن عمرو بن يحيى، فقد ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"
(1)
(2/ 400) فقال:
(1)
لكن لفظه: "بمثل" بالإفراد، وكذا وقع في "مسند الإمام أحمد" رحمه الله، والمصنّف صرّح بأن رواية وُهيب "بمثلي" بالتثنية، ولعله وقع في روايته هكذا، كما وقع عند غيره بالإفراد، واللَّه تعالى أعلم.
(3589)
- حدّثنا الصغانيّ، نا عفّان بن مسلم، نا وُهيبٌ، نا عمرو بن يحيى، عن عَبّاد بن تميم، عن عبد اللَّه بن زيد، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن إبراهيم حَرّم مكة، ودعا لها، وحرَّمت المدينة، كما حَرّم إبراهيم مكة، ودعوت لها في مُدّها وصاعها، بمثل ما دعا إبراهيم لمكة". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل الى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3316]
(1361) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا بَكْرٌ، يَعْنِي ابْنَ مُضَرَ، عَنْ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَإِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا"، يُرِيدُ الْمَدِبنَةَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(بَكْرُ بْنُ مُضَرَ) بن محمد بن حكيم، أبو محمد، أو أبو عبد الملك المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 3 أو 174)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 36/ 249.
2 -
(ابْنُ الْهَادِ) يزيد بن عبد اللَّه بن أسامة بن الهاد الليثيّ، أبو عبد اللَّه المدنىّ، ثقةٌ مكثرٌ [5](ت 139)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.
3 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ) بن عمرو بن حزم الأنصاريّ النجّاريّ المدنيّ القاضي، اسمه وكنيته واحد، وقيل: كنيته أبو محمد، ثقةٌ عابدٌ [5](ت 120) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 80/ 422.
4 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ) بن عفّان الأمويّ الملقّب بالْمُطْرَف -بسكون الطاء المهملة، وفتح الراء-؛ لحسنه، وأمه حفصة بنت عبد اللَّه بن عمرو، ثقةٌ شريف [3].
رَوَى عن أبيه، وابن عمرو، وابن عباس، وعبد الرحمن بن أبي عمرة، والحسين بن عليّ، ورافع بن خَدِيج، وغيرهم.
وروى عنه ابنه محمد المعروف بالديباج، والزهريّ، وأبو بكر بن حزم، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة، وهشام بن سعد.
كان شريفًا جوادًا مُمَدَّحًا، قال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
وقال الزبير: وله يقول الفرزدق [من الوافر]:
نَمَى الْفَارُوقُ أُمَّكَ وَابْنُ أَرْوَى
…
أَبَاكَ فَأَنْتَ مُنْصَدِعُ النَّهَارِ
هُمَا قَمَرَا السَّمَاءِ وَأَنْتَ نَجْمٌ
…
بِهِ بِاللَّيْلِ يُدْلِجُ كُلُّ سَارِ
قال أبو عبيد القاسم، وابن سعد، وابن يونس: مات بمصر سنة ست وتسعين.
ذكره الزبير في النسب، فقال: كان يقال له: الْمُطْرَف من حسنه، وجماله، وهي مضبوطة بضم الميم، وسكون المهملة، وفتح الراء، ومنهم من فتح الطاء، وشدّد الراء.
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1361)، وحديث (1719):"ألا أخبركم بخير الشهداء: الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها".
5 -
(رَافِعُ بْنُ خَدِيجِ) بن عديّ الحارثيّ الأوسيّ الأنصاريّ الصحابيّ الجليل، أولُ مشاهده أُحُدٌ، ثم الخندق، مات سنة (3 أو 74)، وقيل: قبل ذلك (ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 489.
و"قُتيبة بن سعيد" ذُكر في الباب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى بكر بن مضر، وعبد اللَّه بن عمرو بن عثمان، كما أسلفته آنفًا.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من ابن الهاد، وشيخه بغلانيّ، وبكر مصريّ.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض، ورواية الأولين من رواية الأقران؛ لأنهما من الطبقة الخامسة.
شرح الحديث:
(عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ) الأنصاريّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ) الخليل عليه السلام (حَرَّمَ مَكَّةَ) أي: أظهر تحريمها للناس (وَإِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا").
قال ابن الأثير رحمه الله: اللابة: الْحَرّة، وهي الأرض ذات الحجارة السود التي قد أُلبستها؛ لكثرتها، وجمعها لاباتٌ، فإذا كثُر فهى اللابُ، واللُّوبُ، مثل قارةٍ وقارٍ، وقُورٍ، وألفها منقلبة عن الواو. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قال أهل اللغة، وغريب الحديث: اللابتان: الْحَرّتان، واحدتهما لابةٌ، وهي الأرض الْمُلَبَّسة حجارةً سوداء، وللمدينة لابتان: شرقية وغربية، وهي بينهما، ويقال: لابةٌ، ولُوبة
(2)
، ونُوبة بالنون، ثلاث لغات مشهورات، وجمع اللابة في القِلّة لابات، وفي الكثرة لابٌ، ولُوبٌ. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: اللابة: الأرض ذات الحجارة، وهي الحرَّة، وجمعها في القلة: لاباتٌ، وفي الكثرة: لابٌ، ولُوبٌ. كـ "قارة" و"قُور"، و"ساحة" و"سُوح"، و"باحة" و"بُوح"، قاله ابن الأنباريّ، واللابتان: الحرتان: الشرقية والغربية، وللمدينة حرتان، في القبلة والْجُرُف، وترجع إليهما الشرقية، والغربية، قال الهرويّ: يقال: ما بين لابتيها أجهل من فلان؛ أي: ما بين طرفيها. انتهى
(4)
.
وقال أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: اللابتان: هما الحرتان، واللابة: الحَرة، وهي الأرض التي أُلبست الحجار السود الْجُرْد، وجمع اللابة لاباتٌ، ولُوبٌ، وكذلك فسّره ابن وهب وغيره، قال ابن وهب: وهو قول مالك.
وقال ابن وهب أيضًا: وهذا الذي حرّمه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من المدينة، إنما
(1)
"النهاية في غريب الأثر والحديث" 4/ 274.
(2)
بضمّ اللام.
(3)
"شرح النوويّ" 135/ 9.
(4)
"المفهم" 3/ 480.
هو في قتل الصيد، قيل له: فما حَرَّم منها في قطع الشجر؟ قال: حَدُّ ذلك بَرِيد في بَرِيد، بلغني ذلك عن عمر بن عبد العزيز.
وقال ابن نافع: اللابتان إحداهما التي ينزل فيها الحاجّ إذا رجعوا من مكة، وهي بغربيّ المدينة، والأخرى مما يليها من شرقيّ المدينة، قال: وما بين هاتين الحرتين حرام أن يصاد فيها وَحْشٌ أو طيرٌ.
قال ابن نافع: وحَرّة أخرى مما يلي قبلة المدينة، وحرة رابعة مما يلي دُبُر المدينة، فما بين هذه الْحِرَار في الدور كلها حرام أن يصاد فيها، ومن فعل ذلك أَثِمَ، ولم يكن عليه جزاء فيما صاد.
قال أبو عمر: أجمع الفقهاء، أئمة الفتوى بالأمصار، وأتباعهم أن لا جزاء في صيد المدينة، وشَذّت فرقة، فقالت: فيه الجزاء؛ لأنه حرم نَبِيّ؛ قياسًا على مكة؛ لأنها حرم إبراهيم عليه السلام.
قال: واتّفق ما لك، والشافعيّ، وأصحابهما، وأحمد بن حنبل، وجمهور أهل العلم أن الصيد في حرم المدينة لا يجوز، وعلى ذلك كان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله
(1)
.
وقوله: (يُرِيدُ الْمَدِينَةَ) هذا ملحق من بعض الرواة، ولم يتبيّن لي من هو؟ ذُكر لبيان الضمير في قوله:"لابتيها"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث رافع بن خَدِيج رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [82/ 3316 و 3317](1361)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 141)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 36 - 37)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 197)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(4/ 257 - 258)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"الاستذكار" 8/ 233 - 234.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3317]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّه بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ؛ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ خَطَبَ النَّاسَ، فَذَكَرَ مَكَّةَ وَأَهْلَهَا وَحُرْمَتَهَا، وَلَمْ يَذْكُر الْمَدِينَةَ وَأَهْلَهَا وَحُرْمَتَهَا، فَنَادَاهُ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، فَقَالَ: مَا لِي أَسْمَعُكَ ذَكَرْتَ مَكَّةَ وَأَهْلَهَا وَحُرْمَتَهَا، وَلَمْ تَذْكُرْ الْمَدِينَةَ وَأَهْلَهَا وَحُرْمَتَهَا، وَقَدْ حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا، وَذَلِكَ عِنْدَنَا فِي أَدِيمٍ خَوْلَانِيٍّ، إِنْ شِئْتَ أَقْرَأَتُكَهُ، قَالَ: فَسَكَتَ مَرْوَانُ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ سَمِعْتُ بَعْضَ ذَلِكَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عُتْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ) التيميّ مولاهم المدنيّ، وهو ابن أبي عتبة، ثقةٌ [6]
رَوى عن عُبيد بن حُنين، وحمزة بن عبد اللَّه بن عمر، ونافع بن جبير بن مطعم، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وعبد اللَّه بن رافع بن خديج، وعكرمة مولى ابن عباس.
وروى عنه ابن إسحاق، وسليمان بن بلال، وإسماعيل ومحمد ابنا جعفر بن أبي كثير، ومسلم بن خالد الزَّنْجيّ، وسعيد بن أبي هلال، وغيرهم.
ذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكر الخطيب في "الموضح" أن البخاريّ فَرّق بين عتبة بن أبي عتبة، وعتبة بن مسلم، والصواب أنهما واحد، ونَقَل ذلك عن عبد الغنيّ بن سعيد الأزديّ وغيره، قال: وكان سعيد بن أبي هلال يقول تارة: عن عتبة بن مسلم، وتارةً عن عتبة بن أبي عتبة.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1361)، و (2225):"إن كان الشؤم في شيء. . . " الحديث.
2 -
(نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ) بن مُطعم النوفليّ، أبو محمد، أو أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [3](ت 99)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 482.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.
وقوله: (أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ) بن أبي العاص بن أميّة، أبو عبد الملك الأمويّ المتوفّى سنة (65) وليس له في هذا الكتاب رواية، وإنما له ذكر فقط، وله رواية عند البخاريّ، والأربعة، وقد تقدّمت ترجمته في "الصيام" 13/ 2589.
وقوله: (فِي أَدِيم خَوْلَانِيٍّ)"الأَدِيم": الجلد المدبوغ، والجمع أَدَمٌ بفتحتين، وبضمّتين أيضًا، وهو القياس، مثل بَرِيد وبُرُدٍ
(1)
.
أراد رافع بن خَدِيج رضي الله عنه أن حديث تحريم المدينة محفوظ عندهم بكتابته في جلد مدبوغ، منسوب إلى خَوْلان، وهي كما في "معجم البلدان" كُورة من كُور اليمن، وقرية كانت بقرب دمشق خَرِبت، وبها قبر أبي مسلم الْخَولانيّ، ولعلّ أديم تلك النواحي في ذلك الزمان كان من أنعم الجلود التي يكتبون فيها
(2)
.
وقوله: (إِنْ شِئْتَ أَقْرَأْتُكَهُ) أي: وإن أردت التثبّت بقراءة المكتوب بنفسك مكّنتك من قراءته.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى تمام البحث فيه في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3318]
(1362) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي أَحْمَدَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَسْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ، مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا، لَا يُقْطَعُ عِضَاهُهَا، وَلَا يُصَادُ صَيْدُهَا").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، تقدّم قريبًا.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 9.
(2)
من هامش النسخة التركيّة لـ "صحيح مسلم" 4/ 113.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَسْدِيُّ) هو: محمد بن عبد اللَّه بن الزبير بن عُمر بن درهم الأسديّ، أبو أحمد الزبيريّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](203)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 314.
3 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا في البابين الماضيين، وشرح الحديث واضح يُعلم مما سبق.
وقوله: (لَا يُقْطَعُ عِضَاهُهَا) ببناء الفعل للمفعول، و"الْعِضَاهُ" -بكسر العين المهملة- وزانُ كتاب، من شجر الشوك؛ كالطَّلْح، والْعَوْسَج، واستثنى بعضهم الْقَتَادَ، والسِّدْرَ، فلم يجعله من العِضَاهِ، والهاء أصليّة، قاله الفيّوميّ رحمه الله.
وقوله: (وَلَا يُصَادُ صَيْدُهَا)"الصَّيْدُ" بفتح، فسكون: اسم لما يُصاد، فَعْلٌ بمعنى مفعول، أو هو من التسمية بالمصدر، والجمع صُيُود، يقال: صاد الرجل الطيرَ وغيره يصيده صَيْدأ، فالطير مَصِيد، والرجل صائدٌ، وصَيّادٌ، قال ابن الأعرابيّ: يقال: صاد يَصَادُ، وبات يَبَاتُ، وعاف يَعَافُ، وخالَ الغيثَ يَخاله لغةٌ في يَفْعِلُ بالكسر. انتهى
(1)
.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [82/ 3318](1362)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4284)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 336 و 393)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 37)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 325)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 198)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 353.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3319]
(1363) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ حَكِيم، حَدَّثَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَي الْمَدِينَةِ، أَنْ يُقْطَعَ عِضَاهُهَا، أَوْ يُقْتَلَ صَيْدُهَا"، وَقَالَ:"الْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ، لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، لَا يَدَعُهَا أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْهَا، إِلَّا أَبْدَلَ اللَّهُ فِيهَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، وَلَا يَثْبُتُ أَحَدٌ عَلَى لَأْوَائِهَا وَجَهْدِهَا، إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا، أَوْ شَهِيدًا، يَوْمَ الْقِيَامَةِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد اللَّه بن نمير الْهَمْدانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(أَبُوهُ) هو عبد اللَّه بن نُمير المذكور قبله.
4 -
(عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمِ) بن عَبّاد بن حُنيف الأنصاريّ الأوسيّ، أبو سهل المدنيّ، ثم الكوفيّ، ثقةٌ [5] مات قبل (140)(خت م 4) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.
5 -
(عَامِرُ بْنُ سَعْدِ) بن أبي وقّاص الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 104)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.
6 -
(أَبُوهُ) سعد بن أبي وقّاص مالك بن وُهيب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب الزُّهريّ، أبو إسحاق الصحابيّ الشهير، مات بالعقيق (55) على المشهور (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
و"أبو بكر بن أبي شيبة" ذُكر في السند الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان فرّق بينهما بالتحويل.
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين سوى عامر بن سعد، فمدنيّ، وأبوه كان واليًا على الكوفة في خلافة عمر رضي الله عنهما.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والابن عن أبيه.
5 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، فهو أول من رمى بسهم في سبيل اللَّه، وهو أحد العشرة المبشّرين بالجنّة رضي الله عنهم، وهو آخر من مات منهم.
شرح الحديث:
عن عَامِرِ بْن سَعْدٍ (عَنْ أَبِيهِ) سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَي الْمَدِينَةِ) بتخفيف الموحدة: تثنية لابة، وهي الحَرَّة، وهي الأرض ذات الحجارة السود، كأنها أُحرقت بالنار، وأراد بهما حرتين تكتنفانها، وجمع اللابة لُوبٌ ولاباتٌ، ولابٌ، قال ابن حبيب: هما الحرتان الشرقية والغربية، وللمدينة حرتان حرة بالقبلة من جهة الجنوب، وحرة بالجرف، من جهة الشمال، فهي حِرَارٌ أربع، لكن يرجع كلها إلى الحرتين الشرقية والغربية؛ لاتصالهما بهما، ولذلك جمعها صلى الله عليه وسلم في اللابتين.
وقال السمهوديّ: ما بين لابتيها؛ أي: حرتيها، الشرقية والغربية، والمدينة بينهما، ولها أيضًا حرّة بالقبلة، وحرّة بالشام، لكنهما يرجعان إلى الشرقية والغربية؛ لاتصالهما بهما، ولهذا جمعها صلى الله عليه وسلم كلها في اللابتين كما نبّه عليه الطبريّ. انتهى.
قال الحافظ رحمه الله: قد تكرر ذكر اللابتين في الحديث، ووقع في حديث جابر عند أحمد:"وأنا أحرّم المدينة ما بين حرتيها"، فادَّعَى بعض الحنفية أن الحديث مضطرب؛ لأنه وقع في رواية:"ما بين جبليها"، وفي رواية:"ما بين لابتيها"، وفي رواية:"مأزميها".
وتُعُقِّب بأن الجمع بينها واضح، وبمثل هذا لا تُرَدّ الأحاديث الصحيحة، فإن الجمع أَبُو تعذر أمكن الترجيح، ولا شك أن رواية:"ما بين لابتيها"، أرجح؛ لتوارد الرواة عليها، ورواية "جبليها" لا تنافيها، فيكون عند كل لابة جبلٌ، أو لابتيها من جهة الجنوب والشمال، وجبليها من جهة الشرق والغرب، وتسمية الجبلين في رواية أخرى لا تضرّ، وأما رواية "مأزميها"، فهي في بعض
طُرُق أبي سعيد، والمأزم بكسر الزاي: المضيق بين الجبلين، وقد يُطلق على الجبل نفسه.
قال صاحب "المرعاة": كذا قال الحافظ في شرح حديث أنس في "باب حرم المدينة"، وفيه نظرٌ، فإنه ليس عند كل جبل لابة، ولا أن لابتيها من جهة الجنوب والشمال، وجبليها من جهة المشرق والمغرب، بل الحقيقة أن حديث "ما بين لابتيها" يعني من جهة المشرق والمغرب، فإن من جهة المشرق حرّة، ومن جهة المغرب أخرى، وحديث "ما بين جبليها"، يعني الحرتين الجنوبية والشمالية.
قال النوويّ رحمه الله: للمدينة لابتان: شرقية وغربية، وهي بينهما، قال: والمراد باللابتين الحرتان، قال: وهذه الأحاديث كلها متفقةٌ، فما بين لابتيها بيان لحدّ حَرَمها من جهتي المشرق والمغرب، وما بين جبليها لحدّه من جهة الجنوب والشمال.
وقال الحافظ في باب لابتي المدينة في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "ما بين لابتيها حرام": إن المدينة بين لابتين: شرقية وغربية، ولها لابتان أيضًا من الجانبين الآخرين، إلا أنهما يرجعان إلى الأُوليين؛ لاتصالهما بهما.
والحاصل أن جميع دُورها كلها داخل ذلك. انتهى.
وقال النوويّ رحمه الله: ومعنى قوله: "ما بين لابتيها"، للابتان وما بينهما، والمراد تحريم المدينة، ولابتيها؛ يعني أن اللابتين داخلتان أيضًا، قال الأبيّ: ولعلها بدليل آخر، وإلا فلفظ "بين" لا يشملهما. انتهى
(1)
.
وقوله: (أَنْ يُقْطَعَ عِضَاهُهَا) ببناء الفعل للمفعول، بدل اشتمال من المفعول، وتقدّم معنى العِضَاه (أَوْ يُقْتَلَ صَيْدُهَا") ببناء الفعل للمفعول أيضًا.
(وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("الْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ) قال القاري رحمه الله: أي: لأهلها، من المؤمنين في الدنيا والآخرة، وذلك مطلق إن كان قبل الفتح، ومُقَيَّد بغير مكة إن كان بعده، أو المراد بالخيرية من جهة بركة المعيشة، فلا ينافي بركة الفضيلة الزائدة الثابتة لمكة بالأحاديث الصحيحة الصريحة. انتهى.
(1)
راجع: "المرعاة" 9/ 512 - 515.
قال صاحب "المرعاة": واحتَجّ ابن رشد بالحديث على تفضيل المدينة على مكة، ولا دليل فيه؛ لأن كونها خيرًا مطلق يصدق بصورة، ككونها خيرًا من الشام، لا من كل الأرض.
وقال السند رحمه الله في "حاشية مسلم" قوله: "المدينة خير لهم" قال ذلك في ناس يتركون المدينة إلى بعض بلاد الرخاء؛ كالشام وغيره، كما سيجيء، وهؤلاء الناس هم المراد بضمير:"لهم"؛ أي: المدينةُ خير لأولئك التاركين لها من تلك البلاد التي يتركون المدينة لأجلها، فلا دليل في الحديث على تفضيل المدينة على مكة، كما لا يخفى. انتهى، وهو بحث نفيسٌ.
(لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)؛ أي: ما فيها من الخير لَمَا فارقوها، ولَمَا اختاروا غيرها عليها، وما تحولوا للتوسعة في الدنيا.
قال السنديّ رحمه الله: ليس المراد به أنها خير على تقدير العلم؛ إذ المدينة خير لهم علموا أو لا، بل المراد لو علموا بذلك لَمَا فارقوها، وقد تُجعل كلمة "لو" للتمني لكن قد يقال: كثير منهم يبلغهم الخبر، ويفارقونها، فأولئك قد علموا بذلك لبلوغهم الخبر، ومع ذلك فارقوها، فكيف يصح:"لو علموا بذلك لما فارقوها"؟
قلت: يمكن دفعه بأن المراد لو علموا بذلك عيانًا، وليس الخبر كالمعاينة، أو يقال: هو من تنزيل العالم الذي لا يَعمل بعلمه بمنزلة الجاهل، كأنه ما عَلِم هذا.
وقد يقال: المعنى: المدينة خير لهم لو كانوا من أهل العلم؛ إذ البلدة الشريفة لا ينتفع بها إلا أهل الشرف الذين يعملون على مقتضى العلم، وأما من ليس من أهل العلم فلا ينتفع بالبلدة الشريفة، بل ربما يتضرر، فخيرية البلدة ليست إلا لأهلها، ومن يليق للاقإمة فيها فافهم. انتهى. وهو بحث نفيسٌ.
وقال الأبيّ رحمه الله: "لو" هذه إن كانت امتناعية فجوابها محذوف؛ أي: لو كانوا من أهل العلم لعلموا ذلك، ولم يفارقوا المدينة، وإن كانت متعدية
(1)
فالتقدير: لو كانوا يعلمون ذلك لَمَا فارقوها، وإن كانت للتمني لم تفتقر إلى
(1)
هكذا قال، انظر ما معنى كونها متعدّية؟.
جواب، وعلى التقديرين هو تجهيل لمن فعل ذلك؛ لتفويته على نفسه أجرًا عظيمًا، ولذلك قال:"إلا أبدل اللَّه فيها خيرًا منهم"، كما قال تعالى:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [محمد: 40]؛ أي: يخلق خلقًا سواكم على خلاف صفتكم من الرغبة في الإيمان.
[فائدة]: ذُكر أن الرشيد حجّ، فلما خرج من المدينة يريد مكة أرسل إلى مالك مع الربيع بأربعة آلاف دينار، فقال له مالك: ضعها هناك، فلما رجع الرشيد إلى المدينة أرسل إلى مالك: تزاملني إلى مدينة السلام، فردّ إليه: قال صلى الله عليه وسلم: "والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون"، والمال حاضرٌ، لم أمسّ منه بشيء. انتهى
(1)
.
وقوله: (لَا يَدَعُهَا أَحَدٌ) جملة مستأنفة؛ أي: لا يترك المدينة أحد ممن استوطنها (رَغْبَةً عَنْهَا) بالنصب على أنه مفعول لأجله، وهو علّة لتركه لها؛ أي: لأجل رغبته عن ثواب الساكن فيها، وأما من خرج لضرورة شدّة زمان، أو فتنة، فليس ممن يخرج رغبةً عنها.
وقال القرطبيّ، والمازريّ: قوله: "رغبةً عنها"؛ أي: كراهةً لها، مِن رَغِبت عن الشيء: إذا كرهته.
وقال الباجيّ: الظاهر عندي أنه إنما أراد به الخروج عن استيطانها إلى استيطان غيرها، وأما من كان مستوطنًا غيرها، يعني من كان وطنه غيرها، فقَدِم عليها طالبًا للقربة بإتيانها، ورجع إلى وطنه، أو كان مستوطنًا بها، فسافر عنها لحاجة، أو لضرورة شدّة زمان، أو فتنة، فليس ممن يخرج رغبة عنها. انتهى.
(إِلا أَبْدَلَ اللَّهُ فِيهَا) أي: في المدينة (مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ) قال الباجيّ: أي: بمولود يولد فيها، أو بمنتقل ينتقل إليها من غيرها، قيل: هذا خاص بزمن حياته صلى الله عليه وسلم، وقيل: بل دائمًا، ويدل عليه قوله في حديث:"يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه، هَلُمّ إلى الرخاء، المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون".
وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: هذا في حياته صلى الله عليه وسلم، وذلك مثل الأعرابي القائل:
(1)
"شرح الأبيّ" 3/ 458 - 459.
"أقلني بيعتي"، ومعلوم أن من رغب عن جواره أبدله اللَّه خيرًا منه، وأما بعد وفاته فقد خرج منها جماعة من أصحابه، ولم تعوَّض المدينة خيرًا منهم.
قال الزرقانيّ رحمه الله: يعني كأبي موسى الأشعريّ، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وأبي عبيدة بن الجرّاح، وعليّ، وطلحة، والزبير، وعمار، وحذيفة، وعبادة بن الصامت، وبلال، وأبي الدرداء، وأبي ذرّ، وغيرهم رضي الله عنهم، فقد قَطَنُوا غيرها، وماتوا خارجًا عنها، ولم تُعَوَّض المدينة مثلهم؛ فضلًا عن خير منهم، وقال صلى الله عليه وسلم على التخصيص بزمنه صلى الله عليه وسلم.
وقال الأبيّ رحمه الله: الأظهر أن ذلك ليس خاصًّا بالزمن النبويّ، ومن خرج من الصحابة رضي الله عنهم لم يخرج رغبةً عنها، بل إنما خرج لمصلحة دينية، من تعليم، أو جهاد، أو غير ذلك. انتهى.
قال الزرقانيّ رحمه الله: لا يقال: ليس النزاع في أن خروجهم لِمَا ذُكِر إنما هو في تعويضها بخير منهم، وهذا لم يقع، فالأظهر التخصيص؛ لأنا نقول: الإبدال مُقَيَّد بالخروج رغبةً عنها، فلا يَرِدُ أن الخارج لمصلحة دينية لم تُعَوَّض مثلهم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن حمله على العموم هو الأظهر، والأرجح؛ لأن تركها مقيّد بالرغبة عنها؛ أي: فمن خرج عنها رغبة عنها أبدل اللَّه فيها من هو خير منه، ولا يَرِد أن الصحابة المذكورين خرجوا عنها؛ لأنهم ما خرجوا رغبةً عنها، بل كانت هي أحبّ إليهم من غيرها، لكنهم رأوا أن خروجهم لمصلحة دينيّة أرجح وأولى لهم، فخرجوا لذلك مع شدّة رغبتهم لسكناها، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
(وَلَا يَثْبُتُ أَحَدٌ) أي: بالصبر (عَلَى لَأْوَائِهَا) بالمد، وبسكون الهمزة الأولى، وتُبدل ألفًا؛ أي: شدّة جوعها (وَجَهْدِهَا) بفتح الجيم، وقد تُضم؛ أي: مشقتها، مما يجد فيه من شدّة الحرّ، وكُربة الغُربة، وأذية من فيها من أهل البدعة لأهل السنة، قال الجوهريّ: اللأواء الشدّة، لكن المراد هنا ضيق المعيشة والقحط؛ لِمَا في أكثر الروايات:"على لأوائها، وشدّتها"، فلا بد من
(1)
"المرعاة" 9/ 514.
الاختلاف في معناهما، وإن كان يمكن أن يكون العطف تفسيريًّا، وتأكيديًّا؛ لأن التأسيس أولى، والأصل في العطف التغاير، فيحمل اللأواء على ضيق المعيشة، والجهد على ما يصيبهم من الحرّ، وعلى ما يصيب المهاجر فيها من وحشة الغربة، وغير ذلك، كذا في "المرقاة"، و"شرح المصابيح" للتوربشتيّ
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قال أهل اللغة: "اللأواء" بالمد الشدّة والجوع، وأما "الْجَهْدُ" فهو المشقة، وهو بفتح الجيم، وفي لغة قليلة بضمها، وأما "الْجُهد" بمعنى الطاقة فبضمّها على المشهور، وحكي فتحها. انتهى
(2)
.
وقال الأبيّ: الحديث خرج مخرج الحثّ على سكناها، فمن لزم سكناها دخل في ذلك، ولو لم تلحقه لأواء؛ لأن التعليل بالغالب والمظنة لا يضر فيه التخلف في بعض الصور؛ كتعليل القصر بمشقة السفر، فإن المَلِك يَقْصُر، ولو لم تلحقه مشقّة؛ لوجود السفر. انتهى
(3)
.
(إِلَّا كُنْتُ) بصيغة المتكّلم (لَهُ شَفِيعًا، أَوْ شَهِيدًا) قال القاضي عياض رحمه الله: سئلت قديمًا عن معنى هذا الحديث يعنى أن "أو" هذه، هل هي للشكّ أو غيره؟ ولِمَ خَصّ ساكن المدينة بالشفاعة هنا، مع عموم شفاعته صلى الله عليه وسلم، وادخاره إياها لأمته؟
قال: وأجبت عنه بجوابٍ شافٍ مُقنع في أوراق اعتَرَف بصوابه كل واقف عليه.
قال: وأذكر الآن منه -يعني في شرح مسلم- لُمَعًا تليق بهذا الموضع، قال بعض شيوخنا:"أو" هنا للشكّ، والأظهر عندنا أنها ليست للشك؛ لأن هذا الحديث رواه جابر بن عبد اللَّه، وسعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وأبو سعيد، وأبو هريرة، وأسماء بنت عُميس، وصفية بنت أبي عبيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ، ويبعد اتفاق جميعهم، أو رواتهم على الشك، وتطابقهم فيه على صيغة واحدة، بل الأظهر أنه صلى الله عليه وسلم قال هكذا، فإما أن يكون أُعلم بهذه الجملة هكذا -أي من اللَّه تعالى- وإما أن يكون "أو" للتقسيم، ويكون شهيدًا لبعض
(1)
"المرعاة" 9/ 514.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 136.
(3)
"شرح الأبيّ" 3/ 459.
أهل المدينة، وشفيعًا لباقيهم، إما شفيعًا للعاصين، وشهيدًا للمطيعين، وإما شهيدًا لمن مات في حياته، وشفيعًا لمن مات بعده، أو غير ذلك، وهذه خصوصية زائدة على الشفاعة لمكانة المذنبين يوم القيامة، وعلى شهادته على جميع الأمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في شهداء أُحد:"أنا شهيد على هؤلاء"، فيكون لتخصيصهم بهذا كله مزيةٌ وزيادةُ منزلةٍ وحظوةٍ.
قال: وقد تكون "أو" بمعنى الواو، فيكون لأهل المدينة شفيعًا وشهيدًا معًا.
قال: وقد رُوي: "إلا كنت له شهيدًا، وله شفيعًا". انتهى. قال الزرقانيّ: بالواو رواه البزار من حديث ابن عمر.
قال عياض: وإذا جعلنا "أو" للشك كما قيل، فإن كانت اللفظة الصحيحة:"شهيدًا" اندفع الاعتراض؛ لأنها زائدة على الشفاعة المدَّخرة المجردة لغيرهم، وإن كانت:"شفيعًا" فاختصاص أهل المدينة بهذا مع ما جاء من عمومها، وادخارها لجميع الأمة أن هذه شفاعة أخرى غير العامة التي هي لإخراج أمته من النار، ومعافاة بعضهم منها بشفاعته صلى الله عليه وسلم في القيامة، وتكون هذه الشفاعة بزيادة الدرجات، ورفعها، أو تخفيف السيئات، أو بما شاء اللَّه من ذلك، أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع من الكرامة؛ كإيوائهم إلى ظل العرش، أو كونهم في رَوْح، وعلى منابر، أو الإسراع بهم إلى الجنة، أو غير ذلك، من خصوص الكرامات الواردة لبعضهم دون بعض. انتهى
(1)
.
وقوله: (يَوْمَ الْقِيَامَةِ") فيه إشارة إلى بشارةِ حُسن الخاتمة، وتنبيهٌ على أنه ينبغي للمؤمن أن يكون صابرًا، بل شاكرًا على إقامته في المدينة، ولا ينظر إلى ما في البلدان الأخرى، من النِّعَم الصورية؛ لأن العبرة بالنعم الحقيقية الأخروية، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"إكمال المعلم" 4/ 482 - 483.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [82/ 3319 و 3320](1363)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4279)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 181 و 184)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(153)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 442)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 45 و 47)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(9/ 42)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 58)، و (البزّار) في "مسنده"(3/ 335)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 197)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن المدينة حَرَمٌ ما بين لابتيها، فلا يجوز قطع عضاهها، ولا قتل صيدها.
2 -
(ومنها): بيان ما أكرم اللَّه سبحانه وتعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم حيث جعل وطنه حرمًا آمنًا، كمكة المشرّفة.
3 -
(ومنها): الحثّ على لزوم سكنى المدينة، وعدم الانتقال منها لغيرها لرغبة في الدنيا، وطمع في ملذّاتها.
4 -
(ومنها): أن من خرج منها رغبة عنها، وكراهية لها فإن اللَّه سبحانه وتعالى يُبدل فيها خيرًا منه.
5 -
(ومنها): بيان فضل من صبر على شدّة المدينة، ومشقّتها، وذلك أنه سبحانه وتعالى يكون شفيعًا له فيما قصّر فيه، وشهيدًا له فيما عمل من الخير، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3320]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ الْأَنْصَارِيُّ، أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقاصٍ، عَنْ أَبِيهِ؛ أَن
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ. ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ، وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ:"وَلَا يُرِيدُ أَحَدٌ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِسُوءٍ، إِلَّا أَذَابَهُ اللَّهُ فِي النَّارِ ذَوْبَ الرَّصَاصِ، أَوْ ذَوْبَ الْمِلْحِ فِي الْمَاءِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ) بن الحارث بن أسماء الْفَزَاريّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، نزيل مكة، ثم دمشق، ثقةٌ حافظٌ، يُدلّس أسماء الشيوخ [8](ت 193)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 138.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: ("وَلَا يُرِيدُ أَحَدٌ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِسُوءٍ، إِلَّا أَذَابَهُ اللَّهُ فِي النَّارِ ذَوْبَ الرَّصَاصِ، أَوْ ذَوْبَ الْمِلْحِ فِي الْمَاءِ") قال القاضي عياض رحمه الله: هذه الزيادة، وهي قوله:"في النار" تدفع إشكال الاحاديث التي لم تُذكَر فيها هذه الزيادة، وتُبَيِّن أن هذا حكمه في الآخرة، قال: وقد يكون المراد به: من أرادها في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم كُفِي المسلمون أمرَهُ، واضمحَلّ كيده، كما يضمحلّ الرصاص في النار، قال: وقد يكون في اللفظ تأخير وتقديم؛ أي: أذابه اللَّه ذوب الرصاص في النار، ويكون ذلك لمن أرادها في الدنيا، فلا يُمهله اللَّه، ولا يُمَكِّن له سلطانَهُ، بل يُذهبه عن قرب، كما انقضى شأن من حاربها أيام بني أمية، مثل مسلم بن عقبة، فإنه هلك في منصرفه عنها، ثم هلك يزيد بن معاوية مرسله على أثر ذلك، وغيرهما ممن صنع صنيعهما، قال: وقيل: قد يكون المراد: من كادها اغتيالًا، وطلبًا لغِرّتها في غفلة، فلا يتم له أمره، بخلاف من أتى ذلك جهارًا كأمراء استباحوها، على ظاهر الحديث. انتهى
(1)
.
وقيل: قوله: (فِي النَّارِ) متعلّق بالمصدر، يعني قوله:"ذَوْبَ الرصاص"؛ أي: يذوب كذوب الرصاص في النار، فعلى هذا تكون العقوبة في الدنيا.
(1)
"إكمال المعلم" 4/ 484.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إلا أذابه اللَّه في النار" ظاهر هذا أن اللَّه تعالى يعاقبه بذلك في النار، ويَحْتَمِل أن يكون ذلك كنايةً عن إهلاكه في الدنيا، أو عن توهين أمره، وطمس كلمته، كما فعل اللَّه ذلك بمن غزاها، وقاتل أهلها فيمن تقدّم، كمسلم بن عقبة؛ إذ أهلكه اللَّه منصرفه عنها، وكإهلاك يزيد بن معاوية إثر إغزائه أهل المدينة، إلى غير ذلك. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: رواية مروان بن معاوية، عن عثمان بن حكيم هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى" (2/ 486) فقال:
(4279)
- أخبرني أيوب بن محمد، قال: حدّثنا مروان، قال: حدّثنا عثمان بن حكيم، قال: أخبرني عامر بن سعد، عن أبيه؛ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"لا يخرج أحد من المدينة، راغبًا عنها، إلا أبدلها اللَّه خيرًا منه، ولا يَثبُت فيها أحد يصبر على جهدها وشدتها، حتى يموت فيها، إلا كنت له شهيدًا، أو شفيعًا يوم القيامة، وحَرَّم ما بين لابتيها؛ أن يُقْطَع عِضاهها، أو يُقتل صيدها، ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه اللَّه في النار ذوب الرصاص، أو ذوب الملح في الماء". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3321]
(1364) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، جَمِيعًا عَنْ الْعَقَدِيِّ، قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ؛ أَنَّ سَعْدًا رَكِبَ إِلَى قَصْرِهِ بِالْعَقِيقِ، فَوَجَدَ عَبْدًا يَقْطَعُ شَجَرًا، أَوْ يَخْبِطُهُ، فَسَلَبَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدٌ جَاءَهُ أَهْلُ الْعَبْدِ، فَكَلَّمُوهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى غُلَامِهِمْ، أَوْ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ مِنْ غُلَامِهِمْ، فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أَرُدَّ شَيْئًا نَفَّلَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ).
(1)
"المفهم" 3/ 483.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو) أبو عامر الْعَقَديّ البصريّ، ثقةٌ [9](ت 4 أو 205)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.
4 -
(عَبْدُ اللَّه بْنُ جَعْفَرِ) بن عبد الرحمن بن الْمِسْوَر بن مَخْرمة الْمَخْرميّ، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 170)(خت م 4) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 22/ 1318.
5 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن سعد بن أبي وقّاص الزهريّ، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ حجةٌ [4](ت 134)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 72/ 388.
والباقيان ذُكرا قبله.
شرح الحديث:
(عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْد) بن أبي وقّاص (أَنَّ سَعْدًا) هو أبوه سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه أنه (رَكِبَ إِلَى قَصْرِهِ بِالْعَقِيقِ) اسم موضع قريب من المدينة، وقال القرطبيّ رحمه الله: العقيق: موضع بينه وبين المدينة عشرة أميال، وبه مات سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه، وحُمِل إلى المدينة، فصُلّي عليه، ودُفن فيها. انتهى
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: والعقيق: الوادي الذي شقّه السيل قديمًا، وهو في بلاد العرب عدّة مواضع، منها العقيق الأعلى عند مدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم مما يلي الْحَرّة إلى منتهى البقيع، وهو مقابر المسلمين، ومنها العقيق الأسفل، وهو أسفل من ذلك، ومنها العقيق الذي يجري ماؤه من غَوْرَي تِهامة، وأوسطه، بحذاء ذات عرق، قال بعضهم: ويتّصل بعقيقي المدينة. انتهى
(2)
.
(فَوَجَدَ عَبْدًا يَقْطَعُ شَجَرًا) أي: شجر حرم المدينة (أَوْ) الظاهر أنها للشكّ من الراوي (يَخْبِطُهُ) بكسر الباء، يقال: خَبَطت الورَق من الشجر خَبْطًا، من باب ضرب: إذا أسقطته
(3)
. (فَسَلَبَهُ)؛ أي: أخذ ثيابه، والسَّلَب بفتحتين:
(1)
"المفهم" 3/ 483.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 422.
(3)
"المصباح" 1/ 163.
الشيءُ المسلوب؛ أي: المأخوذ، وبإسكان اللام المصدر، قال الفيّوميّ رحمه الله: سلبته ثوبه سَلْبًا، من باب قتل: أخذت الثوب منه، فهو سَلِيبٌ، ومسلوبٌ، واستلبته، وكان الأصل: سَلَبتُ ثوب زيد، لكن أُسند الفعل إلى زيد، وأُخِّر الثوب، ونُصب على التمييز، ويجوز حذفه؛ لفهم المعنى. انتهى
(1)
.
(فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدٌ) رضي الله عنه إلى بيته، أو إلى المدينة (جَاءَهُ أَهْلُ الْعَبْدِ، فَكَلَّمُوهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى غلَامِهِمْ، أَوْ عَلَيْهِمْ)"أو" للشكّ من الراوي (مَا أَخَذَ مِنْ غُلَامِهِمْ، فَقَالَ) سعد" (مَعَاذَ اللَّهِ) بفتح الميم مصدر لفعل مقدّر؛ أي: أعوذ باللَّه معاذًا (أَنْ أَرُدَّ شَيْئًا نَفَّلَنِيهِ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم) بتشديد الفاء؛ أي: جعله نفلًا بالتحريك، أو أعطانيه نَفَلًا؛ أي: غنيمة بإذنه لكلّ من رأى صائدًا، أو قاطع شجر أن يأخذ سَلَبه.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "نَفَلنيه"؛ أي: أعطانيه نافلةً، وأصل النافلة: الزيادة. انتهى.
(وَأَبَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ) قال القرطبيّ رحمه الله: وإنما فعل سعد هذا؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَمَر بذلك في حقّ مَن صاد في حرم المدينة، كما رواه أبو داود من حديث سعد أيضًا، وذكر نحو حديث مسلم في الشجر، ثم قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من أخذ أَحَدًا يصيد في حرم المدينة فليسلبه"، وكان سعدًا قاس قطع شجرها على صيدها؛ بجامع كونهما مُحَرَّمين بحرمة الموضع، وهذا كله مبالغة في الرَّدع، والزجر، لا أنها حدود ثابتةٌ في كل أحدٍ، وفي كل وقت، وامتناعه من ردّ السَّلب؛ لأنه رأى أن ذلك أدخل في باب الإنكار والتشديد، ولتنتشر القضية في الناس، فينكفوا عن الصيد، وقطع الشجر. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: لي في قول القرطبيّ رحمه الله هذا وقفتان:
الأولى في قوله: "وكأن سعدًا قاس إلخ"، فإن الظاهر أنه ثبت عنده أنه صلى الله عليه وسلم نصّ على قطع الشجر أيضًا، ويدلّ على ذلك ما أخرجه الشاشيّ في
(1)
"المصباح" 1/ 284.
(2)
"المفهم" 3/ 484.
"مسنده"
(1)
وإن كان في سنده ضعف، ولفظه:"سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينهى أن يُقطع من شجر المدينة، وقال: من فَعَل ذلك، فلمن أخذه سلَبه".
والثانية في قوله: "لا أنها حدود ثابتة إلخ" ففيه نظر لا يخفى، بل الحقّ ما سيأتي في كلام النوويّ رحمه الله من أنها حدود ثابتة على كلّ من فعل ذلك؛ لظاهر الحديث، كما هو مذهب الإمام الشافعيّ رحمه الله القديم، ورجحه المحققون من أصحابه، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [82/ 3321](1364)] و (أحمد) في "مسنده"(1/ 168)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 38)، و (الحاكم) في "مستدركه"(1/ 662)، و (البزّار) في "مسنده"(3/ 311 و 329)، و (الشاشيّ) في "مسنده"(1/ 190)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 199) و"الصغرى"(4/ 127) و"المعرفة"(4/ 205)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حرم المدينة:
قال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث صريح في الدلالة لمذهب مالك،
(1)
قال الشاشيّ رحمه الله في "مسنده"(1/ 190): (139) - حدّثنا عيسى بن أحمد العسقلانيّ، أنا يزيد بن هارون، أنا ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، عن بعض ولد سعد، أن سعدًا خرج، فرأى عبيدًا من عبيد المدينة يقطعون من شجر المدينة، فسلبهم متاعهم، فجاء مواليهم إلى سعد، فقالوا: إن غلمانك أخذوا متاع غلماننا، فمُرهم فليردّوه علينا، فقال: ليس غلماني أخذوه، ولكن أنا أخذته، سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينهى أن يُقطَع من شجر المدينة، وقال:"من فعل ذلك فلمن أخذه سلَبه"، فهو شيء نفلنيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فما كنت لأردّه، ولكن سلوني من مالي. انتهى.
وفي إسناده جهالة، وصالح مولى التوأمة متكلّم فيه.
والشافعيّ، وأحمد، والجماهير، في تحريم صيد المدينة، وشجرها، كما سبق، وخالف فيه أبو حنيفة، كما قدمناه عنه، وقد ذكر هنا مسلم رحمه الله في "صحيحه" تحريمها مرفوعًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من رواية عليّ بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد اللَّه، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وعبد اللَّه بن زيد، ورافع بن خَدِيج، وسهل بن حُنيف، وذكر غيرُهُ من رواية غيرهم أيضًا، فلا يُلتفت إلى من خالف هذه الأحاديث الصحيحة المستفيضة.
قال: وفي هذا الحديث دلالة لقول الشافعيّ القديم: إن من صاد في حرم المدينة، أو قَطَع من شجرها أُخِذ سَلَبه، وبهذا قال سعد بن أبي وقاص، وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم.
قال القاضي عياض: ولم يقل به أحد بعد الصحابة إلا الشافعيّ في قوله القديم، وخالفه أئمة الأمصار.
قال النوويّ: ولا تضر مخالفتهم إذا كانت السنة معه، وهذا القول القديم هو المختار؛ لثبوت الحديث فيه، وعمل الصحابة على وفقه، ولم يثبت له دافع.
قال أصحابنا: فإذا قلنا بالقديم، ففي كيفية الضمان وجهان: أحدهما: يُضْمَن الصيد، والشجر، والكلأ، كضمان حرم مكة، وأصحهما، وبه قطع جمهور المفرِّعين على هذا القديم أنه يُسلَب الصائد، وقاطع الشجر والكلأ، وعلى هذا فالمراد بالسَّلَب وجهان: أحدهما: أنه ثيابه فقط، وأصحهما، وبه قطع الجمهور؛ أنه كسلب القتيل من الكفار، فيدخل فيه فرسه، وسلاحه، ونفقته، وغير ذلك، مما يدخل في سَلَب القتيل.
وفي مصرف السَّلَب ثلاثة أوجه لأصحابنا: أصحهما أنه للسالب، وهو الموافق لحديث سعد، والثاني: أنه لمساكين المدينة، والثالث لبيت المال.
وإذا سَلَب أَخَذ جميع ما عليه إلا ساتر العورة، وقيل: يؤخذ ساتر العورة أيضًا، قال أصحابنا: ويُسْلَب بمجرد الاصطياد، سواء أتلف الصيد، أم لا. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 138 - 139.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي ذكره النوويّ رحمه الله في هذه المسألة بحثٌ نفيسٌ جدًّا، وخلاصته أن الصحيح أن المدينة حرم ما بين لابتيها، وأنه لا يجوز صيدها، ولا شجرها، فمن صاد فيها، أو قطع الشجر جاز لمن وجده أن يأخذ منه سلبه؛ لحديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنهما هذا، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
وقال في "الفتح": وقع في حديث جابر رضي الله عنه عند أحمد: "وأنا أُحرِّم المدينة ما بين حرتيها"، فادّعَى بعض الحنفية أن الحديث مضطربٌ؛ لأنه وقع في رواية:"ما بين جبليها"، وفي رواية:"ما بين لابتيها"، وفي رواية:"مأزميها".
وتُعُقِّب بأن الجمع بينهما واضح، وبمثل هذا لا تُرَدّ الأحاديث الصحيحة، فإن الجمع لو تعذر أمكن الترجيح، ولا شك أن رواية:"ما بين لابتيها" أرجح؛ لتوارد الرواة عليها، ورواية "جبليها" لا تنافيها، فيكون عند كل لابة جبل، أو لابتيها من جهة الجنوب والشمال، وجبليها من جهة الشرق والغرب، وتسمية الجبلين في رواية أخرى لا تضرّ، وأما رواية "مأزميها" فهي في بعض طرق حديث أبي سعيد، والمأزم بكسر الزاي: المضيق بين الجبلين، وقد يطلق على الجبل نفسه.
واحتَجّ الطحاويّ بحديث أنس في قصة أبي عُمير: "ما فَعَلَ النُّغَير؟ " قال: لو كان صيدها حرامًا ما جاز حبس الطير.
وأجيب باحتمال أن يكون من صيد الحلّ، قال أحمد: من صاد من الحلّ، ثم أدخله المدينة لم يلزمه إرساله؛ لحديث أبي عُمير، وهذا قول الجمهور، لكن لا يَرِدُ ذلك على الحنفية؛ لأن صيد الحلّ عندهم إذا دخل الحرم كان له حكم الحرم.
ويَحْتَمِل أن تكون قصة أبي عُمير كانت قبل التحريم.
واحتَجَّ بعضهم بحديث أنس في قصة قطع النخل لبناء المسجد، ولو كان قطع شجرها حرامًا ما فعله صلى الله عليه وسلم
وتُعُقّب بأن ذلك كان في أول الهجرة، وحديث تحريم المدينة كان بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من خيبر كما سيأتي في حديث أنس رضي الله عنه واضحًا.
وقال الطحاويّ: يَحْتَمِل أن يكون سبب النهي عن صيد المدينة، وقطع شجرها كون الهجرة كانت إليها، فكان بقاء الصيد والشجر مما يزيد في زينتها، ويدعو إلى ألفتها، كما روي ابن عمر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن هدم آطام المدينة، فإنها من زينة المدينة، فلما انقطعت الهجرة زال ذلك.
قال الحافظ: وما قاله ليس بواضح؛ لأن النسخ لا يثبت إلا بدليل، وقد ثبت على الفتوى بتحريمها سعدٌ، وزيد بن ثابت، وأبو سعيد، وغيرهم، كما أخرجه مسلم.
وقال ابن قُدامة: يحرم صيد المدينة، وقطع شجرها، وبه قال مالك، والشافعيّ، وأكثر أهل العلم، وقال أبو حنيفة: لا يحرم.
ثم مَن فَعَل مما حرم عليه فيه شيئًا أَثِمَ، ولا جزاء عليه في رواية لأحمد، وهو قول مالك، والشافعيّ في الجديد، وأكثر أهل العلم.
وفي رواية لأحمد -وهو قول الشافعيّ في القديم، وابن أبي ذئب، واختاره ابن المنذر، وابن نافع من أصحاب مالك، وقال القاضي عبد الوهاب: إنه الأقيس، واختاره جماعة بعدهم-: فيه الجزاء، وهو كما في حرم مكة، وقيل: الجزاء في حرم المدينة أخذ السَّلَب؛ لحديث صححه مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وفي رواية لأبي داود:"مَن وَجَد أَحَدًا يصيد في حرم المدينة، فليسلبه".
قال القاضي عياض: لم يقل بهذا بعد الصحابة إلا الشافعيّ في القديم.
وتعقّبه الحافظ بأنه اختاره جماعة معه، وبعده؛ لصحة الخبر فيه، ولمن قال به اختلاف في كيفيته، ومصرفه، والذي دل عليه صنيع سعد رضي الله عنه عند مسلم وغيره، أنه كسلب القتيل، وأنه للسالب، لكنه لا يُخَمَّس.
وأغرب بعض الحنفية، فادَّعَى الإجماع على ترك الأخذ بحديث السلب، ثم استدلّ بذلك على نسخ أحاديث تحريم المدينة، ودعوى الإجماع مردودة، فبطل ما ترتب عليها.
قال ابن عبد البرّ: لو صح حديث سعد لم يكن في نسخ أخذ السلب ما يُسقط الأحاديث الصحيحة. انتهى
(1)
.
(1)
"الفتح" 5/ 178 - 180.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن مما سبق من بيان مذاهب العلماء، وأدلّتهم في مسألة حكم حرم المدينة أن الأرجح مذهب من قال بتحريم المدينة ما بيت لابتيها، كما حدّه صلى الله عليه وسلم بذلك، وأنه لا يُختلى خلاها، ولا يصاد صيده، وأن من فعل ذلك جاز لمن وجده أن يأخذ سلبه، كما فعل سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه، فهذا هو المذهب الذي تؤيّده النصوص الصحيحة الصريحة في ذلك، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
[تنبيه]: يجوز أخذ العَلَف للدوابّ من حرم المدينة؛ لحديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه الآتي عند مسلم: "ولا تُخبَط فيها شجرة إلا لعلف"، ولأبي داود من طريق أبي حسان، عن عليّ رضي الله عنه نحوه
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3322]
(1365) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ حُجْرٍ، جَمِيعًا عَنْ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ ابْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّه بْنِ حَنْطَبٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي طَلْحَةَ: "الْتَمِسْ لِيَ غُلَامًا مِنْ غِلْمَانِكُمْ، يَخْدُمُنِي"، فَخَرَجَ بِي أَبُو طَلْحَةَ يُرْدِفُنِي وَرَاءَهُ، فَكُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلَّمَا نَزَلَ. وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: ثُمَّ أَقْبَلَ، حَتَّى إِذَا بَدَا لَهُ أُحُدٌ، قَالَ: "هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ"، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا، مِثْلَ مَا حَرَّمَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) الْمَقَابريّ، أبو زكريّاء البغداديّ، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 234) وله (77) سنةً (عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
2 -
(ابْنُ حُجْرٍ) هو: عليّ بن حُجر بن إياس السعديّ المروزيّ، ثقةٌ
(1)
راجع: "الفتح" 5/ 180.
حافظٌ، من صغار [9](ت 244) وقد قارب المائة، أو جاوزها (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
3 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرقيّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو
(1)
مَوْلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ) أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ربّما وَهِمَ [5] مات بعد (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.
5 -
(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه، تقدّم في الباب الماضي.
و"قتيبة بن سعيد" ذُكر في الباب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كالأسانيد الأربعة اللاحقة، وهو (212) من رباعيّات الكتاب، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم، ثم فرّق؛ لِما أسلفته غير مرّة.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه: يحيى، وابن حجر، كما أسلفته آنفًا.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث، والإخبار، والسماع.
4 -
(ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه وتقدّم البحث فيه قريبًا.
شرح الحديث:
عن عَمْرُو بْنِ أَبِي عَمْرٍ ومَوْلَى الْمُطَّلِب بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْن حَنْطَبٍ المدنيّ (أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي طَلْحَةَ) زوج أم أنس، واسمه زيد بن سهل الأنصاريّ رضي الله عنهما، وقد مرّ قريبًا (الْتَمِسْ) أي: اطلب (لِي غُلَامًا مِنْ غِلْمَانِكُمْ) هذا الطلب كان عند خروجه صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، كما سيأتي من رواية البخاريّ المطوّلة، وقوله:(يَخْدُمُنِي) يجوز فيه الجزم؛ لأنه جواب الأمر، ويجوز الرفع على تقدير: هو يخدمني، وهو بضمّ الدال المهملة، من بابي نصر، وفرح، خِدْمةً بالكسر، والفتح، فهو خادم، غلامًا كان، أو جاريةً،
(1)
اسم أبي عمرو: ميسرة.
والخادمة بالهاء في المؤنّث قليلٌ، والجمع خَدَمٌ بفتحتين، وخُدّام بالضم، والتشديد
(1)
.
قال في "الفتح": قد استُشْكِل من حيث إن ظاهره أن ابتداء خدمة أنس رضي الله عنه للنبيّ صلى الله عليه وسلم من أول ما قَدِمَ المدينة؛ لأنه صح عنه أنه قال: خَدِمتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم تسع سنين، وفي رواية عشر سنين، وخيبر كانت سنة سبع، فيلزم أن يكون إنما خَدَمه أربع سنين، قاله الداودي وغيره.
وأجيب بأن معنى قوله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة: "التمس لي غلامًا من غلمانكم" تعيينُ مَن يخرج معه في تلك السَّفْرة، فَعَيَّن له أبو طلحة أنسًا، فينحط الالتماس على الاستئذان في المسافرة به، لا في أصل الخدمة، فإنها كانت متقدمة، فَيُجْمَعُ بين الحديثين بذلك. انتهى
(2)
.
(فَخَرَجَ بِي أَبُو طَلْحَةَ يُرْدِفُنِي) بضمّ أوله، من الإرداف، والجملة حاليّة، والرديف: هو الذي تحمله خلفك على ظهر دابّتك، وقوله:(وَرَاءَهُ) ظرف لـ "يُردفني"(فَكُنْتُ أَخْدُمُ) بضمّ الدال، وكسرها، كما مرّ آنفًا (رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلَّمَا نَزَلَ)؛ أي: في أي وقت، وفي أي مكان نزل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقوله:(وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ) إشارة إلى أن في الحديث اختصارًا، وقد ساقه البخاريّ في "صحيحه" مطوّلًا، فقال: حدّثنا قتيبة، حدّثنا يعقوب، عن عمرو، عن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأبي طلحة:"التمس غلامًا من غلمانكم، يخدمني حتى أخرج إلى خيبر"، فخرج بي أبو طلحة، مردفي، وأنا غلام، راهقت الْحُلُم، فكنت أخدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا نزل، فكنت أسمعه كثيرًا يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزَن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضِلَع الدين، وغلبة الرجال". ثم قَدِمنا خيبر، فلما فتح اللَّه عليه الحصن، ذُكر له جمال صفية بنت حيي بن أخطب، وقد قُتل زوجها، وكانت عروسًا، فاصطفاها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لنفسه، فخرج بها، حتى بلغنا سد الصهباء حَلّت، فبنى بها، ثم صنع حيسًا في نِطَعٍ صغير، ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "آذن من
(1)
راجع: "المصباح" 1/ 165.
(2)
"الفتح" 7/ 171 "كتاب الجهاد والسير" رقم (2893).
حولك"، فكانت تلك وليمة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على صفية، ثم خرجنا إلى المدينة، قال: فرأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُحَوِّي لها وراءه بعباءة، ثم يجلس عند بعيره، فيضع ركبته، فتضع صفية رجلها على ركبته، حتى تركب، فسرنا حتى إذا أشرفنا على المدينة، نظر إلى أُحد، فقال: "هذا جبل يحبنا ونحبه"، ثم نظر إلى المدينة، فقال: "اللهم إني أحرِّم ما بين لابتيها بمثل ما حَرَّم إبراهيم مكة، اللهم بارك لهم في مُدِّهم وصاعهم". انتهى.
(ثُمَّ أَقْبَلَ)؛ أي: توجّه إلى المدينة (حَتَّى إِذَا بَدَا)؛ أي: ظهر (لَهُ أُحُدٌ) بضمّتين: جبل بقرب مدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم من جهة الشام، وكانت به الوقعة المشهورة في أوائل شوّال سنة ثلاث من الهجرة، وهو مذكّر، فينصرف، وقيل: يجوز تأنيثه على توهّم البقعة، فيُمنع، وليس بالقويّ، قاله الفيّوميّ
(1)
. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("هَذَا) إشارة إلى أُحُد (جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ) قال النوويّ رحمه الله: الصحيح المختار أن معناه أن أُحُدًا يحبنا حقيقةً، جعل اللَّه تعالى فيه تمييزًا يحب به، كما قال {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74]، وكما حَنّ الْجِذْع اليابس، وكما سَبَّح الحصى، وكما فَرَّ الحجر بثوب موسى صلى الله عليه وسلم، وكما قال نبينا صلى الله عليه وسلم:"إني لأعرف حجرًا بمكة، كان يسلِّم عليّ"، وكما دعا الشجرتين المفترقتين، فاجتمعا، وكما رَجَفَ أُحُدٌ وعليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، فضربه صلى الله عليه وسلم برجله، وقال له:"اثبُت أُحدُ، فما عليك إلا نبيّ، أو صديق، أو شهيدان"، وكما كلّمه ذراع الشاة، وكلّها أحاديث صحيحةٌ، وكما قال:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]، والصحيح في معنى هذه الآية أن كل شيء يسبح حقيقةً بحسب حاله، ولكن لا نفقهه، وهذا وما أشبهه شواهدُ لما اخترناه، واختاره المحققون في معنى الحديث، وأن أُحدًا يحبنا حقيقة، وقيل: المراد يحبنا أهلُه، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه. انتهى كلام النوويّ رحمه الله ببعض تصرّف
(2)
.
[تنبيه]: هذه الرواية ظاهرة أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك لَمّا رآه في حال رجوعه من خيبر، وفي حديث قتادة، عن أنس أنه قال ذلك لَمّا رآه في حال رجوعه من
(1)
"المصباح المنير" 1/ 6.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 139 - 140.
الحجّ، ووقع في رواية أبي حميد الساعدي الآتية [3372](1392) أنه قال لهم ذلك لَمّا رجع من تبوك، وأشرف على المدينة، قال:"هذه طابة، وهذا أُحُدٌ، وهو جبل يحبنا ونحبه".
ويُجمع بينها بأنه تكرر منه صلى الله عليه وسلم ذلك القول، أفاده في "الفتح"
(1)
.
قال: وللعلماء في معنى ذلك أقوال:
[أحدها]: أنه على حذف مضاف، والتقدير: أهلُ أُحُد، والمراد بهم الأنصار؛ لأنهم جيرانه.
[ثانيها]: أنه قال ذلك للمسرة حيث يبشّره بلسان الحال إذا قدم من سفر بقربه من أهله ولُقْياهم، وذلك فعل من يُحِبّ بمن يُحب.
[ثالثها]: أن الحب من الجانبين على حقيقته وظاهره؛ لكون أُحُد من جبال الجنة، كما ثبتٌ في حديث أبي عبس بن جبر مرفوعًا:"جبل أُحد يحبنا ونحبه، وهو من جبال الجنة"، أخرجه أحمد، ولا مانع في جانب البلد من إمكان المحبة منه، كما جاز التسبيح منها؛ أي: الجبال، وقد خاطبه صلى الله عليه وسلم مخاطبة من يعقل فقال لَمّا اضطَرَب:"اسكن أُحد. . . " الحديث.
وقال السهيليّ: كان صلى الله عليه وسلم يحب الفال الحسن، والاسم الحسن، ولا اسم أحسن من اسم مشتق من الأحدية، قال: ومع كونه مشتقًّا من الأحدية، فحركات حروفه الرفع، وذلك يُشعر بارتفاع دِين الأحد وعلُوّه، فتعلق الحب من النبيّ صلى الله عليه وسلم به لفظًا ومعنى، فخُصّ من بين الجبال بذلك، واللَّه أعلم.
وقال الحافظ أيضًا في "باب من غزا بصبي للخدمة": قيل: هو على الحقيقة، ولا مانع من وقوع مثل ذلك بأن يخلق اللَّه المحبة في بحض الجمادات، وقيل: هو على المجاز، والمراد أهل أُحد على حدّ قوله تعالى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، وقال الشاعر [من الوافر]:
وَمُا حُبُّ الدِّيَارِ شَغَفْنَ قَلْبِي
…
وَلَكِنْ حُبُّ مَنْ سَكَنَ الدّيَارَا
انتهى
(2)
.
(1)
راجع: "الفتح" 9/ 160 "كتاب المغازي" رقم (4085).
(2)
"الفتح" 7/ 171 "كتاب الجهاد" رقم (2892).
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الحقّ ما تقدّم عن النوويّ رحمه الله أن الصحيح المختار أن معناه أن أُحُدًا يحبنا حقيقةً، جعل اللَّه تعالى فيه تمييزًا يحب به؛ لما سبق من الأدلة الكثيرة الواضحة في حمله على الحقيقة، فلا تلتفت إلى هذه التأويلات الباردة، واللَّه سبحانه وتعالى يتولّى هداك.
وقال الزرقانيّ رحمه الله: قوله: "يحبنا" حقيقةً كما رجحه جماعة، وقد خاطبه صلى الله عليه وسلم مخاطبة من يعقل، فقال -لما اضطرب-:"اسكن"، فوضع اللَّه الحب فيه، كما وضع التسبيح في الجبال مع داود، والخشية في الحجارة التي قال فيها:{وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74]، وكما حَنّ الجذع لفراقه حتى سمع الناس حنينه، فلا يُنْكَر وصف الجماد بحب الأنبياء، وقد سَلّم عليه الحجر، والشجر، وسبّحت الحصيات في يده، وكلمته الذراع، وأَمَّنت حوائط البيت، وأُسْكُفّة الباب على دعائه صلى الله عليه وسلم إشارةً إلى مزيد حب اللَّه إياه، حتى أسكن حبه في الجماد، وغرس محبته في الحجر، مع فضل يبسه، وقوة صلابته.
وقوله: "نحبه" حقيقةً أيضًا؛ لأن جزاء مَن يُحِبّ أن يُحَبّ، ولأنه من جبال الجنة، كما رواه أحمد عن أبي عبس بن جبر، كما تقدم، وللبزار، والطبرانيّ:"أُحُدٌ هذا جبل يحبنا ونحبه، على باب من أبواب الجنة"؛ أي: من داخلها، فلا ينافي رواية الطبرانيّ أيضًا:"أُحُدٌ ركن من أركان الجنة"؛ لأنه ركن داخل الباب، بدليل رواية ابن سلام في تفسيره أنه ركن باب الجنة.
وقيل: هو على حذف المضاف؛ أي: يحبنا أهله، وهُم الأنصار؛ لأنهم جيرانه، وكانوا يحبونه صلى الله عليه وسلم، ويحبهم.
وقيل: لأنه كان يبشره بلسان الحال إذا قدم من سفر بقربه من أهله ولقائهم، وذلك فِعل المحب بمن يحب، فكان يفرح إذا طلع له استبشارًا بالأوبة من السفر، والقرب من الأهل.
وضُعِّف بما في رواية الطبرانيّ عن أنس: "فإذا جئتموه، فكلوا من شجره، ولو من عضاهه" بكسر المهملة، وضاد معجمة: كلُّ شجرة عظيمة ذات شوك، فحَثّ على عدم إهمال الأكل، حتى لو فرض أنه لا يوجد إلا ما لا يؤكل، كالعضاه يمضغ منه؛ تبركًا، ولو بلا ابتلاع.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: حديث الطبرانيّ هذا ضعيف
(1)
، فتنبّه.
(فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ)؛ أي: اطّلع عليها، وقارب دخولها (قَالَ:"اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا) يأتي تفسير الجبلين في حديث عليّ رضي الله عنه الآتي بأنه صلى الله عليه وسلم حرّم ما بين عَيْرٍ إلى ثور، وهما جبلان على طرفي المدينة جنوبها، وشمالها (مِثْلَ مَا حَرَّمَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ) عليه السلام (مَكَةَ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ") أي: مدّ أهل المدينة، وصاعهم، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [82/ 3322 و 3323](1365)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2235) و"الجهاد والسير"(2893) و"أحاديث الأنبياء"(3367) و"المغازي"(4083 و 4084 و 4211) و"الأطعمة"(5425) و"كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة"(7333)، و (أبو داود) في "سننه"(2995)، و (الترمذيّ) في "جامعه"(3922)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 149 و 240 و 242)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6/ 370)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 38 - 39)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 197 و 9/ 125)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام.
2 -
(ومنها): بيان جواز استخدام اليتيم بغير أُجْرَة؛ لأن ذلك لم يقع ذكره في هذا الحديث، وجواز حمل الصبيان في الغزو.
وتعقّبه الحافظ رحمه الله، فقال: كذا قاله بعض الشراح، وتبعوه، وفيه نظرٌ؛ لأن أنسًا رضي الله عنه حينئذ كان قد زاد على خمسة عشر؛ لأن خيبر كانت سنة سبع من الهجرة، وكان عمره عند الهجرة ثمان سنين، ولا يلزم من عدم ذكر الأجرة عدم وقوعها. انتهى.
(1)
راجع: "السلسلة الضعيفة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله 4/ 349.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: تعقّب الحافظ في الأجرة محلّ نظر؛ فإن أنسًا رضي الله عنه خدم النبيّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فهل هذه المدة كلّها كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يدفع له الأجرة؟ هذا يحتاج إلى نصّ صحيح، فتأمّل، واللَّه تعالى أعلم.
3 -
(ومنها): أن قوله صلى الله عليه وسلم: "هذا جبل يحبنا ونحبه" الصواب أنه محمول على الحقيقة، ولا يجوز فيه دعوى المجاز، فتبصّر.
قال في "العمدة": في الحديث جواز استخدام اليتيم بغير أجرة؛ لأن أنسًا كان يخدمه صلى الله عليه وسلم من غير اشتراط أجرة، ولا نفقة، فجائز على اليتيم أن تسلِّمه أمه، أو وصيّه، وشبههما في الصناعة، والمهنة، وهو لازم له، ومنعقد عليه، وفي "التوضيح": وفيه جواز استخدام اليتامى بشبعهم، وكسوتهم، وجواز الاستخدام لهم بغير نفقة، ولا كسوة إذا كان في خدمة عالم، أو إمام في الدِّين؛ لأنه لم يُذكَر في حديث أنس رضي الله عنه أن له أجر الخدمة، وإن كان قد يجوز أن تكون نفقته من عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. انتهى
(1)
.
4 -
(ومنها): ما قيل: إنه يؤخذ من هذا الحديث أن أُحُدًا أفضل الجبال، وقيل: عرفة، وقيل: أبو قبيس: وقيل: الذي كلّم اللَّه عليه موسى عليه السلام، وقيل: قاف، قيل: وفيه قبر هارون أخي موسى عليه السلام ولا يصح.
5 -
(ومنها): ما قاله المهلَّب رحمه الله: في حديث أنس رضي الله عنه يعني قوله في رواية البخاريّ: "لا يُقطع شجرها، ولا يُحدث فيها حدث"- دلالة على أن المنهيّ عنه في الحديث الماضي مقصور على القطع الذي يحصل به الإفساد، فأما من يقصد الإصلاح، كمن يغرس بستانًا مثلًا، فلا يمتنع عليه قطع ما كان بتلك الأرض من شجر يضرّ بقاؤه، قال: وقيل: بل فيه دلالة على أن النهي إنما يتوجه إلى ما أنبته اللَّه من الشجر، مما لا صنع للآدميّ فيه، كما حُمِل عليه النهي عن قطع شجر مكة، وعلى هذا يُحْمَل قطعه صلى الله عليه وسلم النخل، وجعله قبلة المسجد، ولا يلزم منه النسخ. انتهى
(2)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"عمدة القاري" 14/ 178.
(2)
راجع: "الفتح" 5/ 180.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3323]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ) تقدّم قريبًا.
2 -
(يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ) المدنيّ، نزيل الإسكندريّة، حليف بني زُهْرة، ثقةٌ [8](ت 181)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 35/ 245.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: هذا الإسناد من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقه ولواحقه الثلاثة.
[تنبيه آخر]: رواية يعقوب بن عبد الرحمن، عن عمرو بن أبي عمرو هذه ساقها البخاريّ رحمه الله فقال:
(2893)
- حدّثنا قتيبة، حدّثنا يعقوب، عن عمرو، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأبي طلحة: "التمس غلامًا من غلمانكم يخدمني، حتى أخرج إلى خيبر"، فخرج بي أبو طلحة مُردفي، وأنا غلام، راهقت الحلُم، فكنت أخدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا نزل، فكنت أسمعه كثيرًا يقول:"اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضَلَع الدين، وغلبة الرجال"، ثم قَدِمنا خيبر، فلما فتح اللَّه عليه الحصن، ذُكِر له جمالُ صفية بنت حُيَيّ بن أخطب، وقد قُتِل زوجها، وكانت عروسًا، فاصطفاها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لنفسه، فخرج بها، حتى بلغنا سَدَّ الصهباء حَلَّت، فبنى بها، ثم صَنَعَ حَيْسًا في نِطَعٍ صغير، ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"آذِنْ من حولك"، فكانت تلك وليمةَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على صفية، ثم خرجنا إلى المدينة، قال: فرأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُحَوِّي لها وراءه بِعَبَاءة، ثم يجلس عند بعيره، فيضع ركبته، فتضع صفية رجلها على ركبته، حتى تركب، فسرنا، حتى إذا
أشرفنا على المدينة نظر إلى أُحد، فقال:"هذا جبل يحبنا ونحبه"، ثم نظر إلى المدينة، فقال:"اللهم إني أحرِّم ما بين لابتيها بمثل ما حَرَّم إبراهيم مكة، اللهم بارك لهم في مُدِّهم وصاعهم". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3324]
(1366) - (وَحَدَّثنَاه حَامِد بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، قَالَ: قلْت لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَحَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، مَا بَيْنَ كَذَا إِلَى كَذَا، "فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا"، قَالَ: ثُمَّ قَالَ لِي: هَذِهِ شَدِيدَةٌ، "مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا"، قَالَ: فَقَالَ ابْنُ أَنَسٍ: "أَوْ آوَى مُحْدِثًا").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(حَامِدُ بْن عُمَرَ) البكراويّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ الْوَاحِدِ) بن زياد، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(عَاصِمٌ) بن سليمان الأحول، تقدّم أيضًا قريبًا.
و"أنس بن مالك رضي الله عنه" ذُكر قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كالإسنادين السابقين، واللاحقين، وهو (213).
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فقد تفرّد به هو والبخاريّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين من أوله إلى آخره.
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث، والقول، وفيه أنس بن مالك رضي الله عنهما، وقد تقدّم البحث فيه قريبًا.
شرح الحديث:
عن عَاصِمٍ الأحول أنه (قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه، وفي الرواية التالية:"سالت أنسًا"(أَحَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ؟ قَالَ) أنس (نَعَمْ)؛ أي: نعم حرّمها (مَا) موصولة؛ أي: المكان الذي (بَيْنَ كَذَا إِلَى كَذَا) هكذا وقع في حديث أنس رضي الله عنه مبهمًا، وسيأتي في حديث عليّ رضي الله عنه الآتي بعد ثلاثة أحاديث:"المدينة حرم ما بين عَيْرٍ إلى ثور"، وسيأتي تمام البحث فيه هناك -إن شاء اللَّه تعالى- ("فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا") قال القرطبيّ رحمه الله: يعني من أحدث ما يُخالف الشرع من بدعة، أو معصية، أو ظلم، كما قال:"من أحدث في أمرنا ما ليس منه، فهو رَدٌ" متّفقٌ عليه
(1)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله معناه من أتى فيها إِثْمًا، أو آوى من أتاه، وضمّه إليه وحماه، وهو نحو قوله تعالى:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] ويقال: أَوَى، وآوَى، بالقصر والمدّ في الفعل اللازم والمتعدي جميعًا، لكن القصر في اللازم أشهر وأفصح، والمدّ في المتعدي أشهر وأفصح
(2)
.
قال النوويّ رحمه الله: وبالأفصح جاء القرآن العزيز في الموضعين، قال اللَّه تعالى:{أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} [الكهف: 63]، وقال في المتعدي:{وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} [المؤمنون: 50]
(3)
.
قال القاضي: ولم يُرْوَ هذا الحرف إلا "مُحْدِثًا" بكسر الدال، ثم قال: وقال الإمام المازريّ: رُوي بوجهين: كسرِ الدال، وفتحها، قال: فمن فتح أراد الإحداث نفسه، ومن كسر أراد فاعل الحدث. انتهى
(4)
.
(قَالَ) عاصم (ثُمَّ قَالَ) أنس (لِي: هَذِهِ شَدِيدَةٌ) الإشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث. . . إلخ"، وهذا إعظام من أنس رضي الله عنه لها؛ لاقترانها بالوعيد الشديد ("مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا) أي: فعل فيها شيئًا مُحدثًا، فالحدث هو الأمر الحادث المنكر الذي ليس بمعروف في السنّة، فهو يعمّ المعاصي، والْبِدَع، والْخُرَافات
(1)
"المفهم" 3/ 487.
(2)
"إكمال المعلم" 4/ 486.
(3)
"شرح النووي" 9/ 140.
(4)
"إكمال المعلم" 4/ 486.
(فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) هذا وعيد شديد لمن ارتكب هذه الجريمة، قال القاضي عياض رحمه الله: واستدلوا بهذا على أن ذلك من الكبائر؛ لأن اللعنة لا تكون إلا في كبيرة، ومعناه: أن اللَّه تعالى يلعنه، وكذا تلعنه الملائكة، والناس أجمعون، وهذا مبالغة في إبعاده عن رحمة اللَّه تعالى، فإن اللعن في اللغة هو الطرد والإبعاد، قالوا: والمراد باللعن هنا العذاب الذي يستحقه على ذنبه، والطرد عن الجنة أول الأمر، وليست هي كلعنة الكفار الذين يُبعَدون من رحمة اللَّه تعالى كلّ الإبعاد. انتهى
(1)
.
(لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا") قال القاضي عياض: قال المازريّ: اختلفوا في تفسيرهما، فقيل: الصرف الفريضة، والعدل النافلة، وقال الحسن البصريّ: الصرف النافلة، والعدل الفريضة عكس قول الجمهور، وقال الأصمعيّ: الصرف التوبة، والعدل الفدية، ورُوي ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال يونس: الصرف الاكتساب، والعدل الفدية، وقال أبو عبيدة: العدل الحيلة، وقيل: العدل المثل، وقيل: الصرف الدية، والعدل الزيادة، قال القاضي: وقيل: المعنى لا تُقبل فريضته، ولا نافلته قبول رضًا، وإن قُبلت قبول إجزاء، وقيل: يكون القبول هنا بمعنى تكفير الذنب بهما، قال: وقد يكون معنى الفدية هنا أنه لا يجد في القيمة فداء يفتدي به، بخلاف غيره من المذنبين الذين يتفضل اللَّه على من يشاء منهم، بأن يفديه من النار بيهوديّ، أو نصرانيّ، كما ثبت في "الصحيح". انتهى.
(قَالَ) عاصم (فَقَالَ ابْنُ أَنَسٍ) قال النوويّ رحمه الله: كذا وقع في أكثر النسخ: "فقال ابن أنس"، ووقع في بعضها:"فقال أنس" بحذف لفظة: "ابن"، قال القاضي: ووقع عند عامة شيوخنا: "فقال ابن أنس" بإثبات "ابن"، قال: وهو الصحيح، وكأنّ ابن أنس ذَكَّر أباه هذه الزيادة؛ لأن سياق هذا الحديث من أوله إلى آخره من كلام أنس، فلا وجه لاستدراك أنس بنفسه، مع أن هذه اللفظة قد وقعت في أول الحديث في سياق كلام أنس في أكثر الروايات، قال: وسقطت عند السمرقنديّ، قال: وسقوطها هناك يُشبه أن يكون هو
(1)
"إكمال المعلم" 4/ 486، و"شرح النوويّ" 9/ 140.
الصحيح، ولهذا استُدرِكَت في آخر الحديث. انتهى كلام القاضي رحمه الله
(1)
.
[تنبيه]: قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" بعد إخراج الحديث عن موسى بن إسماعيل، عن عبد الواحد بسند المصنّف ما نصّه: قال عاصم: فأخبرني موسى بن أنس أنه قال: "أو آوى مُحدثًا". انتهى.
قال في "الفتح": قوله: "قال عاصم: فأخبرني" هو موصول بالسند المذكور، وقوله:"موسى بن أنس" ذكر الدارقطني أن الصواب عن عاصم، عن النضر بن أنس، لا عن موسى، قال: والوهم فيه من البخاريّ، أو شيخه، قال عياض: وقد أخرجه مسلم على الصواب.
قال الحافظ: إن أراد أنه قال: عن النضر فليس كذلك، فإنه إنما قال لما أخرجه عن حامد بن عُمَر عن عبد الواحد، عن عاصم، عن ابن أنس، فإن كان عياض أراد أن الإبهام صواب فلا يخفى ما فيه، والذي سماه النضر هو مسدد، عن عبد الواحد، كذا أخرجه في "مسنده"، وأبو نعيم في "المستخرج" من طريقه، وقد رواه عمرو بن أبي قيس، عن عاصم، فَبَيَّن أن بعضه عنده عن أنس نفسه، وبعضه عن النضر بن أنس، عن أبيه، أخرجه أبو عوانة في "مستخرجه"، وأبو الشيخ في "كتاب الترهيب" جميعًا من طريقه، عن عاصم، عن أنس، قال عاصم: ولم أسمع من أنس: "أو آوى مُحدِثًا"، فقلت للنضر: ما سمعت هذا، يعني القدر الزائد من أنس؟ قال: لكني سمعته منه أكثر من مائة مرة. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: في تعقّب الحافظ على القاضي عياض نظر؛ لأن القاضي لم يذكر انتقاد الدارقطني المذكور في كتابه أصلًا، وإنما مراده في قوله:"وقد أخرجه مسلم على الصواب" هو ما سلف في كلامه من تصويبه قوله: "ابن أنس" على قول من قال: "أنس"، بإسقاط لفظة "ابن"، وأما رواية موسى بن أنس، أو النضر بن أنس، فلم يتعرّض القاضي لذكرها أصلًا، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"إكمال المعلم" 4/ 486 - 487.
(2)
"الفتح" 17/ 180 - 181 "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة" رقم (7306).
("أَوْ آوَى مُحْدِثًا") أي: ضمّ إليه من فعل معصية، ومنعه ممن له عليه حقّ ونصرة.
والمراد بالْحَدَث، والْمُحْدِث الظلم، والظالم، على ما قيل، أو ما هو أعمّ من ذلك، وهو أولى؛ لظاهر النصّ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [82/ 3324](1366)، و (البخاريّ) في "فضائل المدينة"(1867) و"الاعتصام بالكتاب والسنّة"(7306)، و (أحمد) في "مسنده"(13/ 99 و 238)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 39)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل المدينة، وما أكرم اللَّه سبحانه وتعالى به نبيّه صلى الله عليه وسلم حيث جعل بلده حرمًا آمنًا، كما حرّم مكة يوم خلق السماوات والأرض.
2 -
(ومنها): بيان حدود حرم المدينة بأنه ما بين كذا وكذا، والمراد ما بين عير إلى ثور، كما يأتي في حديث عليّ رضي الله عنه.
3 -
(ومنها): بيان تحريم الْحَدث من المعاصي، والْبِدَع، والْخُرَافات في المدينة، وهو وإن كان محرّمًا في غيرها أيضًا، إلا أنه فيها أشدّ؛ للوعيد الشديد المذكور.
4 -
(ومنها): ما قاله القاضي عياض رحمه الله: استُدِلّ بهذا الحديث على أن الْحَدَث في المدينة من الكبائر، والمراد بلعنة الملائكة والناس المبالغة في الإبعاد عن رحمة اللَّه، قال: والمراد باللعن هنا العذاب الذي يستحقه على ذنبه في أول الأمر، وليس هو كلعن الكافر.
5 -
(ومنها): أن فيه جوازَ لعن أهل المعاصي والفساد، لكن لا دلالة فيه على لعن الفاسق المعيَّن.
6 -
(ومنها): بيان أن الْمُحْدِث، والمؤوي للْمُحْدِث في الإثم سواء.
7 -
(ومنها): ما قاله ابن بطال رحمه الله: دَلّ الحديث على أن من أحدث حَدَثًا، أو آوى مُحْدِثًا في غير المدينة أنه غير متوعَّد بمثل ما تُوُعِّد به مَن فَعَل ذلك بالمدينة، وإن كان قد عُلِم أن من آوى أهل المعاصي أنه يشاركهم في الإثم، فإن مَن رَضِي فعل قوم وعملهم التحق بهم، ولكن خُصَّت المدينة بالذكر؛ لشرفها؛ لكونها مهبط الوحي، وموطن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها انتشر الدين في أقطار الأرض، فكان لها بذلك مزيد فضل على غيرها.
وقال غيره: السرُّ في تخصيص المدينة بالذكر أنها كانت إذ ذاك موطن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم صارت بعده موضع الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3325]
(1367) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ، قَالَ: سَأَلتُ أَنَسًا: أَحَرَّمَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، "هِيَ حَرَامٌ، لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) السلميّ، أبو خالد الواسطيّ، ثقةٌ متقنٌ عابدٌ [9](ت 206) وقد قارب التسعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 45.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله؛ كالأسانيد الثلاثة الماضية، والسند التالي.
وقوله: (لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: لا يُقطع نباتها، يقال: اختليتُ الخلا اختلاءً: قطعته، و"الخلا" بالقصر الرَّطْبُ من النبات، والواحدة خلاة، مثلُ حصًى وحصاة، قال في "الكفاية": الخلا: الرَّطْب، وهو
ما كان غَضًّا من الكلإ، وأما الحشيش فهو اليابس، أفاده الفيّوميّ
(1)
.
وفي رواية البخاريّ من طريق ثابت بن يزيد، عن عاصم:"لا يُقطع شرها"، وفي حديث جابر رضي الله عنه الماضي عند مسلم:"لا يُقطع عِضَاهها، ولا يُصاد صيدها"، ونحوه في حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه الماضي أيضًا.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3326]
(1368) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مِكْيَالِهِمْ، وَبَارِكْ لَهُمْ فِي صَاعِهِمْ، وَبَارِكْ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) إمام دار الهجرة، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) الأنصاريّ، أبو يحيى المدنيّ، ثقةٌ حجةٌ [4](ت 132) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 30/ 667.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله؛ كالأسانيد الأربعة الماضية.
والحديث متّفقٌ عليه، وشرحه واضح يُعلم مما سبق، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3327]
(1369) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّامِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، قَالً: سَمِعْتُ يُونُسَ، يُحَدِّثُ
(1)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 181.
عَن الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا بِمَكَّةَ مِنَ الْبَرَكَةِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّامِيُّ) هو: إبراهيم بن محمد بن عَرْعرة بن الْبِرِند الساميّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حافظٌ، تَكَلّم فيه أحمد في بعض سماعه [10](تم د س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 31/ 1394.
2 -
(وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ) بن حازم الأزديّ، ابو عبد اللَّه البصريّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 315.
3 -
(أَبُوهُ) جرير بن حازم بن زيد بن عبد اللَّه الأزديّ، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ، في حديثه عن قتادة ضعفٌ [6](ت 170)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 81.
4 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم قريبًا.
5 -
(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم، تقدّم في الباب الماضي.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: ("اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا بِمَكَّةَ مِنَ الْبَرَكَةِ") قال القاضي عياض رحمه الله: البركة هنا بمعنى النموّ والزيادة، وتكون بمعنى الثبات واللزوم، قال: فقيل: يَحْتَمِل أن تكون هذه البركة دينية، وهي ما تتعلق بهذه المقادير من حقوق اللَّه تعالى في الزكاة، والكفارات، فتكون بمعنى الثبات، والبقاء لها؛ كبقاء الحكم بها ببقاء الشريعة وثباتها، ويَحْتَمِل أن تكون دنيوية، من تكثير المكيل، والمقدر بهذه الأكيال، حتى يكفي منه ما لا يكفي من غيره في غير المدينة، أو ترجع البركة إلى التصرف بها في التجارة، وأرباحها، وإلى كثرة ما يكال بها من غلاتها، وثمارها، أو تكون الزيادة فيما يكال بها؛ لاتساع عيشهم، وكثرته بعد ضيقه، لَمّا فتح اللَّه عليهم، ووسّع من فضله لهم، وملّكهم من بلاد الْخِصْب والرِّيف بالشام والعراق ومصر وغيرها، حتى كثر الحمل إلى المدينة، واتسع عيشهم حتى صارت هذه البركة في الكيل نفسه، فزاد مدّهم، وصار هاشميًّا مثل مدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم مرتين، أو مرة ونصفًا، وفي هذا كله ظهور
إجابة دعوته صلى الله عليه وسلم وقبولها. انتهى كلام القاضي رحمه الله
(1)
.
قال النوويّ رحمه الله بعد كلام عياض هذا: والظاهر من هذا كله أن البركة في نفس المكيل في المدينة بحيث يكفي المدّ فيها لمن لا يكفيه في غيرها. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": قوله: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا بِمَكَّةَ مِنَ الْبَرَكَةِ"؛ أي: من بركة الدنيا، بقرينة قوله في الحديث الآخر:"اللهم بارك لنا في صاعنا ومُدّنا"، ويَحْتَمِل أن يريد ما هو أعمّ من ذلك، لكن يُستثنى من ذلك ما خرج بدليل؛ كتضعيف الصلاة بمكة على المدينة، واستدل به عن تفضيل المدينة على مكة، وهو ظاهر من هذه الجهة، لكن لا يلزم من حصول أفضلية المفضول في شيء من الأشياء ثبوت الأفضلية له على الإطلاق.
وأما مَن ناقض ذلك بأنه يلزم أن يكون الشام، واليمن أفضل من مكة؛ لقوله في الحديث الآخر:"اللهم بارك لنا في شامنا"، وأعادها ثلاثًا، فقد تُعُقّب بأن التأكيد لا يستلزم التكثير المصرَّح به في حديث الباب، وقال ابن حزم: لا حجة في حديث الباب لهم؛ لأن تكثير البركة بها لا يستلزم الفضل في أمور الآخرة.
وردّه عياض بأن البركة أعمّ من أن تكون في أمور الدين أو الدنيا؛ لأنها بمعنى النماء والزيادة، فأما في الأمور الدينية فلِما يتعلق بها من حقّ اللَّه تعالى من الزكاة، والكفارات، ولا سيما في وقوع البركة في الصاع والمدّ.
وقال النوويّ: الظاهر أن البركة حصلت في نفس المكيل، بحيث يكفي المدّ فيها من لا يكفيه في غيرها، وهذا أمر محسوس عند من سكنها.
وقال القرطبيّ: إذا وجدت البركة فيها في وقت، حصلت إجابة الدعوة، ولا يستلزم دوامها في كل حين، ولكل شخص. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله القرطبيّ رحمه الله فيه نظرٌ لا يخفى؛
(1)
راجع: "إكمال المعلم" 4/ 488.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 142.
(3)
"الفتح" 5/ 202 - 203 رقم (1885).
لأن دعاءه صلى الله عليه وسلم للمدينة بهذه البركة إنما هو على وجه العموم لها، فلا ينبغي تقييده بوقت دون وقت، فتفطّن.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه قبل حديثين، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3328]
(1370) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي مُعَاوِيةَ، قَالَ أَبُو كُرَيْب: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَطَبَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ عِنْدَنَا شَيْئًا نَقْرَؤُهُ، إِلَّا كِتَابَ اللَّهِ، وَهَذِهِ الصَّحِيفَةَ، قَالَ: وَصَحِيفَةٌ مُعَلَّقَةٌ فِي قِرَابِ سَيْفِهِ، فَقَدْ كَذَبَ، فِيهَا أَسْنَانُ الإِبِلِ، وَأَشْيَاءُ مِنَ الْجِرَاحَاتِ، وَفَيهَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "الْمَدِينَةُ حَرَمٌ، مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّه، وَالْمَلَاِئِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا، وَلَا عَدْلًا، وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، وَمَنْ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، أَوْ انْتَمَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّه، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا، وَلَا عَدْلًا" وَانْتَهَى حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ وَزُهَيْرٍ عِنْدَ قَوْلِهِ: "يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ"، وَلَمْ يَذْكُرَا مَا بَعْدَهُ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِهِمَا: مُعَلَّقَةٌ فِي قِرَابِ سَيْفِهِ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو مُعَاوِيةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ) ابن يزيد بن شَرِيك، أبو أسماء الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ [5](ت 92)(ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 406.
5 -
(أَبُوهُ) يزيد بن شريك بن طارق التيميّ الكوفيّ، ثقةٌ، يقال: إنه أدرك الجاهليّة [2] مات في خلافة عبد الملك (ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 406.
6 -
(عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ) الهاشميّ، أبو الحسن، الخليفة الراشد، استُشهد رضي الله عنه في رمضان سنة (40)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
والباقيان ذُكرا في الباب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتحاد كيفية أخذه عنهم، ثم فرّق؛ لاختلافهم في ذلك.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة سوى شيخيه: أبي بكر، وزهير، فما أخرج لهما الترمذيّ، وأما شيخه أبو كريب، فمن التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين من أوله إلى آخره، سوى زُهير، فنسائيّ، ثم بغداديّ.
4 -
(ومنها)؛ أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض، وفيه رواية الابن عن أبيه.
5 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه ذو مناقب جمّة، فهو أحد الخلفاء الراشدين الأربعة، وأحد العشرة المبشّرين بالجنّة، ومات رضي الله عنه وهو أفضل الأحياء من بني آدم في الأرض بإجماع أهل السنّة، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ) يزيد بن شريك بن طارق، قال في "الفتح": وهذه رواية أكثر أصحاب الأعمش عنه، وخالفهم شعبة، فرواه عن الأعمش، عن إبراهيم التيميّ، عن الحارث بن سُويد، عن عليّ، أخرجه أحمد، والنسائيّ، قال الدارقطنيّ في "العلل": والصواب رواية الثوريّ ومن تبعه. انتهى
(1)
.
(1)
"الفتح" 5/ 182.
(قَالَ: خَطَبَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ) رضي الله عنه (فَقَالَ: مَنْ) شرطيّة مبتدأ (زَعَمَ أَنَّ عِنْدَنَا شَيْئًا نَقْرَؤُهُ) وفي رواية البخاريّ: "ما عندنا شيء إلا كتاب اللَّه"، قال في "الفتح": قوله: "ما عندنا شيءٌ"؛ أي: مكتوب، وإلا فكان عندهم أشياء من السنة سوى الكتاب، أو المنفيّ شيء اختصوا به عن الناس، وسبب قول عليّ هذا يظهر مما أخرجه أحمد، من طريق قتادة، عن أبي حسان الأعرج "أن عليًّا كان يأمر بالأمر، فيقال له: قد فعلناه، فيقول: صدق اللَّه ورسوله، فقال له الأشتر: إن هذا الذي تقول، أهو شيء عهده إليك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما عهد إليّ شيئًا خاصّةً دون الناس، إلا شيئًا سمعته منه، فهو في صحيفة، في قراب سيفي، فلم يزالوا به، حتى أخرج الصحيفة، فإذا فيها. . . "، فذكر الحديث، وزاد فيه:"المؤمنون تتكافأ دماؤهم، وشمعى بذمتهم أدناهم، وهم يَدٌ على من سواهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده"، وقال فيه:"إن إبراهيم حرّم مكة، وإني أحرّم ما بين حرتيها، وحماها كله، لا يُختلى خَلاها، ولا يُنَفَّر صيدها، ولا تلتقط لقطتها، ولا يقطع منها شجرة، إلا أن يَعْلِف رجل بعيره، ولا يُحْمَل فيها السلاح لقتال"، والباقي نحوه.
وأخرجه الدارقطنيّ من وجه آخر عن قتادة، عن أبي حسان، عن الأشتر، عن عليّ، ولأحمد، وأبي داود، والنسائيّ من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن قيس بن عُباد، قال: انطلقت أنا، والأشتر إلى عليّ، فقلنا: هل عهد إليك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شيئًا لم يعهده إلى الناس عامة؟ قال: لا، إلا ما في كتابي هذا، قال: وكتاب في قراب سيفه، فإذا فيه:"المؤمنون تتكافأ دماؤهم" فذكر مثل ما تقدم إلى قوله: "في عهده، من أحدث حدثًا" إلى قوله: "أجمعين"، ولم يذكر بقية الحديث.
ولمسلم من طريق أبي الطفيل: "كنت عند عليّ، فأتاه رجل، فقال: ما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُسِرّ إليك؟ فغضب، ثم قال: ما كان يُسِرّ إليّ شيئًا يكتمه عن الناس، غير أنه حدّثني بكلمات أربع"، وفي رواية له:" ما خَصّنا بشيء، لم يعمّ به الناس كافّةً، إلا ما كان في قراب سيفي هذا، فأخرج صحيفة مكتوبًا فيها: لعن اللَّه من ذبح لغير اللَّه، ولعن اللَّه من سرق منار الأرض، ولعن اللَّه من لعن والده، ولعن اللَّه من آوى محدثًا".
وفي رواية للبخاريّ في "العلم" من طريق أبي جُحيفة، قلت لعليّ: هل عندكم كتاب؟ قال: "لا، إلا كتاب اللَّه، أو فَهْمٌ أُعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة"، قال: قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: "العقلُ، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر".
والجمع بين هذه الأخبار أن الصحيفة المذكورة كانت مشتملة على مجموع ما ذُكِر، فنَقَلَ كلُّ راوٍ بعضها، وأتمّها سياقًا طريق أبي حسان
(1)
، كما ترى، واللَّه أعلم. انتهى
(2)
.
(إِلَّا كِتَابَ اللَّهِ)"إلا" هنا بمعنى "غير"، فتكون صفة ثانية لـ "شيئًا"؛ أي: شيئًا غير كتاب اللَّه
(3)
. (وَهَذِهِ الصَّحِيفَةَ، قَالَ) يزيد بن شريك (وَصَحِيفَة مُعَلَّقَةٌ فِي قِرَابِ سَيْفِهِ) بكسر القاف: هو الغلاف الذي يُجعل فيه السيف بغمده، وقوله:(فَقَدْ كَذَبَ) خبر المبتدإ، وهو "مَن" الشرطيّة.
(1)
نصّ "المسند"(1/ 119):
(959)
- حدّثنا عبد اللَّه، حدّثني أبي، ثنا بهز، ثنا همام، أنبأنا قتادة، عن أبي حسان، أن عليًّا رضي الله عنه كان يأمر بالأمر، فيؤتى، فيقال: قد فعلنا كذا وكذا، فيقول: صدق اللَّه ورسوله، قال: فقال له الأشتر: إن هذا الذي تقول قد تفشى في الناس، أفشيء عهده إليك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قال عليّ رضي الله عنه: ما عَهِد إليّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شيئًا خاصّة دون الناس إلا شيء سمعته منه، فهو في صحيفة في قراب سيفي، قال: فلم يزالوا به، حتى أخرج الصحيفة، قال: فإذا فيها: "من أحدث حَدَثًا، أو آوى محدثًا، فعليه لعنة اللَّه، والملائكة، والناس أجمعين، لا يُقْبَل منه صرف، ولا عدل -قال: وإذا فيها- إن إبراهيم حرّم مكة، وإني أُحَرِّم المدينة، حرام ما بين حرتيها، وحماها كله، لا يُختلى خلاها، ولا يُنَفَّر صيدها، ولا تلتقط لقطتها، إلا لمن أشار بها، ولا تُقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره، ولا يُحمل فيها السلاح لقتال". قال: وإذا فيها: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يَدٌ على من سواهم، ألا لا يُقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده". انتهى.
(2)
"الفتح" 5/ 182 - 183.
(3)
راجع: "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" في مجيء "إلا" بمعنى "غير" 1/ 148 - 152.
وفي رواية البخاريّ في "كتاب الجزية" من طريق سفيان، عن الأعمش:"ما كتبنا عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا القرآن، وما في هذه الصحيفة"، وفي رواية له في "العلم" من طريق مُطَرِّف، عن الشعبيّ، عن أبي جحيفة قال: قلت لعليّ رضي الله عنه: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب اللَّه، أو فَهْمٌ أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة.
قال الحافظ: قوله: "هل عندكم" الخطاب لعليّ رضي الله عنه، والجمع إما لإرادته مع بقية أهل البيت، أو للتعظيم، وقوله:"كتاب" أي: مكتوب أخذتموه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، مما أوحي إليه، ويدل على ذلك رواية البخاريّ في "الجهاد":"هل عندكم شيء من الوحي، إلا ما في كتاب اللَّه؟ ". وله في "الديات": "هل عندكم شيء مما ليس في القرآن؟ "، وفي "مسند إسحاق ابن راهويه" رحمه الله عن جرير، عن مُطَرِّف:"هل علمت شيئًا من الوحي؟ ".
وإنما سأله أبو جحيفة عن ذلك؛ لأن جماعة من الشيعة كانوا يزعمون أن عند أهل البيت لا سيّما عليّ أشياءَ من الوحي، خَصَّهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بها لم يطلع غيرهم عليها.
وقد سأل عليًّا عن هذه المسألة أيضًا قَيس بن عُبَاد -بضم العين، وتخفيف الباء- والأشتر النخعيّ، وحديثهما عند النسائيّ، ومسند الإمام أحمد (1/ 122).
(فِيهَا)؛ أي: في تلك الصحيفة المعلّقة في قراب سيفه (أَسْنَانُ الإِبِلِ)؛ أي: بيان مقادير أسنان الإبل التي تُعطى في الدية (وَأَشْيَاءُ مِنَ الْجِرَاحَاتِ)؛ أي: الجراحات التي تكون في بدن الإنسان بسبب الاعتداء عليه، فيجب فيها القصاص، أو الدية.
(وَفِيهَا)؛ أي: تلك الصحيفة أيضًا (قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "الْمَدِينَةُ حَرَمٌ، مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ) قال النوويّ رحمه الله: أما "عَيْرٌ" فبفتح العين المهملة، وإسكان المثناة تحتُ، وهو جبل معروف، قال القاضي عياض: قال مصعب بن الزبير وغيره: ليس بالمدينة عَيْرٌ، ولا ثَوْرٌ، قالوا: وإنما ثور بمكة، قال: وقال الزبير: عَيْرٌ جبل بناحية المدينة، قال القاضي: أكثر الرواة في كتاب البخاري ذكروا عَيْرًا، وأما ثور فمنهم من كَنَى عنه بكذا، ومنهم من ترك مكانه بياضًا؛ لأنهم اعتقدوا
ذكر ثور هنا خطأ، قال المازريّ: قال بعض العلماء: ثور هنا وَهَمٌ من الراوي، وإنما ثور بمكة، قال: والصحيح إلى أُحُدٍ، قال القاضي: وكذا قال أبو عبيد: أصل الحديث من عَيْرٍ إلى أُحُد، هذا ما حكاه القاضي، وكذا قال أبو بكر الحازميّ الحافظ وغيره من الأئمة: إن أصله من عَيْر إلى أُحُد.
قال النوويّ: ويَحْتَمِل أن ثورًا كان اسمًا لجبل هناك، إما أُحد، وإما غيره، فخفي اسمه، واللَّه أعلم.
(واعلم): أنه جاء في هذه الرواية ما بين عَيْر إلى ثَوْر، أو إلى أُحُد على ما سبق، وفي رواية أنس السابقة:"اللهم إني أُحَرِّم ما بين جبليها"، وفي الروايات السابقة:"ما بين لابتيها"، والمراد باللابتين الحرتان، كما سبق، وهذه الأحاديث كلها متفقة، فما بين لابتيها بيان لحدّ حَرَمها من جهتي المشرق والمغرب، وما بين جبليها بيان لحدّه من جهة الجنوب والشمال، واللَّه أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقد تقدّم في حديث أنس رضي الله عنه: "المدينة حرَمٌ من كذا إلى كذا"، قال في "الفتح": هكذا جاء مبهمًا وسيأتي في حديث عليّ رضي الله عنه أي عند البخاريّ- بلفظ: "ما بين عائر إلى كذا"، فعيَّن الأول، وهو بمهملة وزن فاعل، وذكره في "الجزية" وغيرها بلفظ:"عَيْرٍ" بسكون التحتانية، وهو جبل بالمدينة، كما سنوضحه. قال: واتفقت روايات البخاريّ كلها على إبهام الثاني، ووقع عند مسلم:"إلى ثور"، فقيل: إن البخاريّ أبهمه عمدًا؛ لما وقع عنده أنه وَهَمٌ، وقال صاحب المشارق، والمطالع: أكثر رواة البخاريّ ذكروا عَيْرًا، وأما ثور فمنهم من كَنَى عنه بكذا، ومنهم من ترك مكانه بياضًا، والأصل في هذا التوقفِ قولُ مصعب الزبيريّ: ليس بالمدينة عَيْر، ولا ثور، وأثبت غيره عَيْرًا، ووافقه على إنكار ثور، قال أبو عبيد: قوله: "ما بين عير إلى ثور" هذه رواية أهل العراق، وأما أهل المدينة، فلا يعرفون جبلًا عندهم، يقال له: ثور، وإنما ثور بمكة، ونرى أن أصل الحديث: ما بين عير إلى أُحُد.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 143.
قال الحافظ: وقد وقع ذلك في حديث عبد اللَّه بن سلام عند أحمد، والطبرانيّ.
وقال عياض: لا معنى لإنكار عير بالمدينة، فإنه معروف، وقد جاء ذِكره في أشعارهم، وأنشد أبو عبيد البكريّ في ذلك عِدّة شواهد، منها قول الأحوص المدنيّ الشاعر المشهور [من الطويل]:
فَقُلْتُ لِعَمْرٍو تِلْكَ يَا عَمْرُو نَارُهُ
…
تَشِبُّ قَفَا عَيْرٍ فَهَلْ أَنْتَ نَاظِرُ
وقال ابن السِّيد في "المثَلَّث": عَيْرٌ اسم جبل بقرب المدينة معروف، وروى الزبير في أخبار المدينة، عن عيسى بن موسى، قال: قال سعيد بن عمرو لبشر بن السائب: أتدري لِم سكنّا العقبة؟ قال: لا، قال: لأنا قتلنا منكم قتيلًا في الجاهلية، فأُخرجنا إليها، فقال: وددت لو أنكم قتلتم منا آخر، وسكنتم وراء عَيْرٍ، يعني جبلًا، كذا في نفس الخبر.
وقد سلك العلماء في إنكار مصعب الزبيريّ لعير وثور مسالك، منها ما تقدّم، ومنها قول ابن قُدامة: يَحْتَمِل أن يكون المراد: مقدار ما بين عير وثور، لا إنهما بعينهما في المدينة، أو سَمَّى النبيّ صلى الله عليه وسلم الجبلين اللذين بطرفي المدينة عَيْرًا وثَوْرًا؛ ارتجالًا، وحكى ابن الأثير كلام أبي عبيد مختصرًا، ثم قال: وقيل: إن عيرًا جبل بمكة، فيكون المراد: أحرم من المدينة مقدار ما بين عير وثور بمكة على حذف المضاف، ووصف المصدر المحذوف.
وقال النوويّ: يَحْتَمِل أن يكون ثور كان اسم جبل هناك، إما أُحد، وإما غيره.
وقال المحب الطبريّ في "الأحكام" بعد حكاية كلام أبي عبيد، ومن تبعه: قد أخبرني الثقة العالم أبو محمد عبد السلام البصريّ أن حِذاء أُحُد عن يساره جانحًا إلى ورائه جبل صغير، يقال له: ثور، وأخبر أنه تكرر سؤاله عنه لطوائف من العرب؛ أي: العارفين بتلك الأرض، وما فيها من الجبال، فكل أخبر أن ذلك الجبل اسمه ثور، وتواردوا على ذلك، قال: فعلمنا أن ذكر ثور في الحديث صحيح، وأن عدم علم أكابر العلماء به؛ لعدم شهرته، وعدم بحثهم عنه، قال: وهذه فائدة جليلة. انتهى.
قال الحافظ: وقرأت بخط شيخ شيوخنا القطب الحلبيّ في "شرحه":
حَكَى لنا شيخنا الإمام أبو محمد عبد السلام بن مزروع البصريّ، أنه خَرَج رسولًا إلى العراق، فلما رجع إلى المدينة كان معه دليلٌ، وكان يذكر له الأماكن والجبال، قال: فلما وصلنا إلى أُحُد، إذا بقربه جبل صغير، فسألته عنه، فقال: هذا يسمى ثورًا، قال: فعلمت صحة الرواية.
قال الحافظ: وكأن هذا كان مبدأ سؤاله عن ذلك، وذكر شيخنا أبو بكر بن حسين المراغيّ نزيل المدينة في مختصره لأخبار المدينة: أن خَلَف أهل المدينة ينقلون عن سلفهم، أن خَلْف أُحُد من جهة الشمال جبلًا صغيرًا إلى الحمرة بتدوير يسمى ثورًا، قال: وقد تحققته بالمشاهدة.
قال الحافظ: وأما قول ابن التين أن البخاريّ أبهم اسم الجبل عمدًا؛ لأنه غَلَطٌ، فهو غلط منه، بل إبهامه من بعض رواته، فقد أخرجه في "الجزية"، فسمّاه، واللَّه أعلم. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن من هذا البحث الطويل أن الصواب أن ما وقع في "صحيح مسلم" هنا بلفظ: "المدينة حرم ما بين عَيْر وثور" رواية صحيحة؛ لِما مرّ آنفًا من أن المحقّقين أثبتوا وجود جبلين مسمّيين بهذين الاسمين، فلا يضرّ عدم معرفة كثير ممن قصّر في البحث والتتبّع لهما؛ فإن من حفظ حجة على من لم يحفظ، فتبصّر بالإنصاف، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(فَمَنْ أَحْدَثَ)؛ أي: فعل (فِيهَا)؛ أي: في المدينة (حَدَثًا) بفتحتين؛ أي: منكرًا، أو بدعةً، وهي ما خالف الكتاب والسنّة، وقال العينيّ رحمه الله: هو الأمر الحادث الذي ليس بمعتاد، ولا معروف في السنّة. انتهى. (أَوْ آوَى)؛ أي: ضمّ، وحمي، ومكّن، وأجار (مُحْدِثًا) بكسر الدال، وفتحها على الفاعل والمفعول، فمعنى الكسر: من نصر جانيًا، وآواه، وأجاره من خصمه، وحال بينه وبين أن يقتصّ منه، ومعنى الفتح: هو الأمر المبتدَع نفسه، ويكون معنى إيوائه: الرضا به، فإنه إذا رضي ببدعته، وأقرّ عليها، ولم يُنكرها، فقد آواه، قاله العينيّ، وقال القاري: بكسر على الرواية الصحيحة؛ أي: مبتدعًا، وقيل: أي: جانيًا بأن يحول بينه وبين خصمه أن يقتصّ منه، ويُروى بفتح الدال؛ أي: أمرًا مبتَدَعًا، وإيواؤه الرضا به، والصبر عليه. انتهى. (فَعَلَيْهِ)؛ أي: فعلى كلّ
منهما (لَعْنَةُ اللَّهِ)؛ أي: طرده، وإبعاده من رحمته (وَالْمَلَائِكَةِ)؛ أي: دعاؤهم عليه بالبعد عن رحمة اللَّه تعالى (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)؛ أي: عليه دعاؤهم بالطرد من رحمة اللَّه تعالى (لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا، وَلَا عَدْلًا) قال في "الفتح": اختُلِف في تفسيرهما، فعند الجمهور: الصرف الفريضة، والعدل النافلة، ورواه ابن خزيمة بإسناد صحيح، عن الثوريّ، وعن الحسن البصريّ بالعكس، وعن الأصمعيّ: الصرف التوبة، والعدل الفدية، وعن يونس مثله، لكن قال: الصرف الاكتساب، وعن أبي عبيدة مثله، لكن قال: العدل الحيلة، وقيل: المثل، وقيل: الصرف الدية، والعدل الزيادة عليها، وقيل: بالعكس، وحكى صاحب "المحكم": الصرف الوزن، والعدل الكيل، وقيل: الصرف القيمة، والعدل الاستقامة، وقيل: الصرف الدية، والعدل البديل، وقيل: الصرف الشفاعة، والعدل الفدية؛ لأنها تعادل الدية، وبهذا الأخير جزم البيضاويّ، وقيل: الصرف الرشوة، والعدل الكفيل، قاله أبان بن ثعلب، وأنشد:
لَا نَقْبَلُ الصَّرْفَ وَهَاتُوا عَدْلَا
فحصلنا على أكثر من عشرة أقوال. انتهى
(1)
.
(وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ)؛ أي: عهدهم وأمانهم (وَاحِدَةٌ)؛ أي: كالشيء الواحد، لا يختلف باختلاف مراتب الناس، فلا يجوز لأعلى الناس أن ينقض ما عقدهم أدناهم.
وحاصل المعنى: أن أمان المسلمين للكافر صحيح، فإذا أَمَّنه واحدٌ من المسلمين حَرُم على غيره التعرض له ما دام في أمْن المسلم، وللأمان شروط معروفة.
وقال البيضاويّ: الذِّمة: العهد، سُمّي بها؛ لأنه يُذَمّ متعاطيها على إضاعتها.
وقوله: (يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ)؛ أي: يتولاها، ويلي أمرها أدنى المسلمين مرتبة، والمعنى أن ذمة المسلمين واحدة، سواءٌ صدرت من واحد، أو أكثر، شريفٍ، أو وضيعٍ، فإذا أَمَّن أَحد من المسلمين كافرًا، وأعطاه ذمة لم يكن
(1)
"الفتح" 5/ 183.
لأحد نقضه، فيستوي في ذلك الرجلُ، والمرأةُ، والحرّ، والعبد؛ لأن المسلمين كنفس واحدة.
قال النوويّ: فيه دلالة لمذهب الشافعيّ، وموافقيه أن أمان المرأة والعبد صحيح؛ لأنهما أدنى من المذكور الأحرار. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": دخل في قوله: "أدناهم" -أي: أقلُّهم- كلُّ وضيع بالنصّ، وكلُّ شريف بالفحوي، فدخل في أدناهم: المرأة، والعبد، والصبيّ، والمجنون.
قال: فأما المرأة، فقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على جواز أمان المرأة، إلا شيئًا ذكره عبد الملك؛ يعني ابن الماجشون، صاحب مالك، لا أحفظ ذلك عن غيره، قال: إن أمر الأمان إلى الإمام، وتأوّل ما ورد مما يخالف ذلك على قضايا خاصّة، قال ابن المنذر: وفي قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "يسعى بذمتهم أدناهم" دلالة على إغفال هذا القائل. انتهى. وجاء عن سحنون مثل قول ابن الماجشون، فقال: هو إلى الإمام: إن أجازه جاز، وإن ردّه رُدّ.
وأما العبد فأجاز الجمهور أمانه، قاتل أو لم يقاتِل، وقال أبو حنيفة: إن قاتل جاز أمانه، وإلا فلا، وقال سحنون: إذا أذن له سيده في القتال صح أمانه، وإلا فلا.
وأما الصبي فقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم أن أمان الصبي غير جائز. انتهى. قال الحافظ: وكلام غيره يشعر بالتفرقة بين المراهق وغيره، وكذلك المميِّز الذي يعقل، والخلاف عن المالكية والحنابلة.
وأما المجنون فلا يصح أمانه بلا خلاف، كالكافر، لكن قال الأوزاعيّ: إن غزا الذميّ مع المسلمين فأَمَّن أَحَدًا، فإن شاء الإمام أمضاه، وإلا فليردّه إلى مأمنه.
وحكى ابن المنذر عن الثوريّ أنه استثنى من الرجال الأحرارِ الأسير في أرض الحرب، فقال: لا ينفذ أمانه، وكذلك الأجير. انتهى
(2)
.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 144.
(2)
راجع: "الفتح" 7/ 463 - 465 "كتاب الجزية" رقم (3171 و 3172).
(وَمَنْ ادَّعَى)؛ أي: انتسب (إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ) المعروف (أَوْ انْتَمَى)؛ أي: انتسب (إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ) وفي رواية البخاريّ: "ومن والى قومًا بغير إذن مواليه"، قال في "الفتح": قوله: "ومن يتولى قومًا بغير إذن مواليه" لم يَجعل الإذن شرطًا لجواز الادّعاء، وإنما هو لتأكيد التحريم؛ لأنه إذا استأذنهم في ذلك منعوه، وحالوا بينه وبين ذلك. قاله الخطابيّ وغيره.
ويَحتَمِل أن يكون كَنَى بذلك عن بيعه، فإذا وقع بيعه جاز له الانتماء إلى مولاه الثاني، وهو غير مولاه الأول، أو المراد موالاة الحِلْف، فإذا أراد الانتقال عنه لا ينتقل إلا باذن.
وقال البيضاويّ: الظاهر أنه أراد به ولاء العتق؛ لعطفه على قوله: "من ادَّعى إلى غير أبيه"، والجمعِ بينهما بالوعيد، فإن العتق من حيث إنه لُحْمة كلُحْمة النسب، فإذا نُسب إلى غير من هو له، كان كالدّعِيّ الذي تبرأ عمن هو منه، وأَلحق نفسه بغيره، فيستحق به الدعاء عليه بالطرد، والإبعاد عن الرحمة.
ثم أجاب عن الإذن بنحو ما تقدم، وقال: ليس هو للتقييد، وإنما هو للتنبيه على ما هو المانع، وهو إبطال حق مواليه، فأورد الكلام على ما هو الغالب. انتهى
(1)
.
(فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا، وَلَا عَدْلًا").
وقوله: (وَانْتَهَى حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ) يعني ابن أبي شيبة شيخه الأول (وَزُهَيْرٍ) يعني ابن حرب، شيخه الثاني (عِنْدَ قَوْلِهِ:"يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ"، وَلَمْ يَذْكُرَا مَا بَعْدَهُ، وَلَيْسَ في حَدِيثِهِمَا: مُعَلَّقَةٌ في قِرَابِ سَيْفِهِ).
قال الجامع عفا اللَّه عنه: أما حديث زهير، فقد أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (1/ 228) فقال:
(263)
- حدّثنا أبو خيثمة، حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا الأعمش، عن إبراهيم التيميّ، عن أبيه، قال: خطبنا عليّ، فقال: من زعم أن عندنا شيئًا نقرؤه، إلا كتاب اللَّه، وهذه الصحيفة، صحيفة فيها أسنان الإبل، وأشياء من
(1)
"الفتح" 5/ 184.
الجراحات، فقد كذب، قال: وفيها: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "المدينة حرمٌ ما بين عير إلى ثور، من أحدث فيها حَدَثًا، أو آوى مُحْدِثًا، فعليه لعنة اللَّه، والملائكة، والناس أجمعين، لا يقبل اللَّه منه يوم القيامة عدلًا، ولا صرفًا، وذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم". انتهى.
وأما حديث أبي بكر بن أبي شيبة، فلم أجد من ساقه بسياق المصنّف، وأخرجه هو في "مصنّفه"(6/ 510) مختصرًا موقوفًا على عليّ رضي الله عنه، ولفظه:
(33396)
- حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم التيميّ، عن أبيه، عن عليّ، قال:"ذمّة المسلمين واحدةٌ، يسعى بها أدناهم". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [82/ 3328 و 3329 و 3330](1370) وسيعيده في "كتاب العتق" أيضًا، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1870) و"الجزية"(3172 و 3179) و"الفرائض"(6755 و 6903 و 6915) و"الاعتصام بالكتاب والسنّة"(7300)، و (أبو داود) في "المناسك"(2034)، و (الترمذيّ) في "الولاء والهبة"(2127)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 486)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(9/ 263)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 81 و 151 و 126)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 240 - 241)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 40 - 41)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3716 و 3717)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(263)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 196 و 8/ 193 و 9/ 93) و"الصغرى"(8/ 51) و"المعرفة"(7/ 33)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل المدينة، وأنها حرم ما بين عَيْر إلى ثور، فلا يُنفّر صيدها، ولا يُقطع شجرها، إلَّا لعلف الدوابّ.
2 -
(ومنها): بيان تحريم إحداث البدع والْخُرافات، وسائر المحرّمات
في المدينة، وهو إن كان حرامًا في غيرها، إلَّا أنه فيها أشدّ، وأخطر؛ لأنها موطن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ودار الهجرة، ومهبط الوحي، ومأوى الصالحين، فيُشدّد فيها ما لا يُشدّد في غيرها، فمن خالف في ذلك، وأحدث ما لم يأذن به اللَّه سبحانه وتعالى، فعليه الوعيد المذكور في الحديث.
3 -
(ومنها): أن في قول عليّ رضي الله عنه: "من زعم أن عندنا شيئًا نقرؤه إلَّا كتاب اللَّه، وهذه الصحيفة، فقد كذب" تصريح منه رضي الله عنه بإبطال ما تزعمه الرافضة والشيعة، ويخترعونه من قولهم: إن عليًّا رضي الله عنه أوصى إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم بأمور كثيرة، من أسرار العلم، وقواعد الدين، وكنوز الشريعة، وأنه صلى الله عليه وسلم خَصّ أهل البيت بما لم يُطلع عليه غيرهم، وهذه دعاوى باطلة، واختراعات فاسدة، لا أصل لها، ويكفي في إبطالها قول عليّ رضي الله عنه هذا، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
4 -
(ومنها): أن فيه دليلًا على جواز كتابة العلم، وقد بوّب البخاريّ رحمه الله في "كتاب العلم" من "صحيحه":"باب كتابة العلم"، ثم أورد حديث عليّ رضي الله عنه هذا من رواية أبي جُحيفة عنه. انتهى.
5 -
(ومنها): بيان وحدة أمان المسلمين، وأن من عقد أمانًا لكافر لا يحلّ لغيره نقضه، سواء كان رجلًا كان أو امرأةً، حرًّا كان، أو عبدًا، فمن نقض عهد مسلم، فعليه الوعيد المذكور في الحديث.
6 -
(ومنها): أنه صريح في غِلظ تحريم انتماء الإنسان إلى غير أبيه، أو انتماء العتيق إلى ولاء غير مواليه؛ لما فيه من كفر النعمة، وتضييع حقوق الإرث، والولاء، والعَقْل، وغير ذلك، مع ما فيه من قطيعة الرحم، والعقوق، فمن فعل ذلك، فعليه الوعيد المذكور في الحديث أيضًا.
قال الأبيّ رحمه الله: ومن الانتماء إلى غير الأب: انتماء ولد الزنا إلى من يعرف أنه خُلق من مائه الفاسد؛ لأنه ليس باب شرعيّ.
[فإن قلت]: فقول الغلام في حديث جُريج الراهب: أبي الراعي فلان، يدلّ على أنه أبٌ حقيقيّ.
[أجيب]: بأن ذلك شرع من قبلنا، أو أنه أبٌ لغةً، والمقصود في
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 143.
الحديث إنما هو البيان مِنْ ماء من هو؟ ومن ذلك ما يتّفق لكثير من المرابطين ينتمي، ويقول: أنا ابن فلان، وليس بابنه، وإنما يقوله يتوصّل به لنيل شيء من الدنيا، أو ليُكرَم، وإن كان إنما يقول ذلك ليأمن على نفسه، فذلك خفيفٌ، ولكن يورّي أحسنُ له. انتهى
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3329]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، جَمِيعًا عَن الْأَعْمَشِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَ حَدِيثِ أَبِي كُرَيْب، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، إِلَى آخِرِهِ، وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ:"فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفٌ، وَلَا عَدْلٌ"، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِهِمَا:"مَن ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ"، وَلَيْسَ في رِوَايَةِ وَكِيعٍ ذِكْرُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ، قاضي الموصل، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
2 -
(أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ) هو: عبد اللَّه بن سعيد بن حصين الكنديّ، أحد التسعة الذين يروي عنهم الجماعة بلا واسطة، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ) هكذا النسخ، "وزاد" بإفراد الضمير، وهو يعود إلى عليّ بن مسهر، ووكيع، بتأويل؛ أي: زاد كلٌّ منهما.
وقوله: (فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا. . . إلخ) -بالخاء المعجمة، والفاء-؛ أي: نقض العهد، يقال: خَفَرته بغير ألف: إذا أمّنته، وأخفرته بالألف: إذا نقضت عهده، والمعنى: فمن نقض أمان مسلم، فتعرّض لكافر أَمّنه مسلم، فعليه لعنة اللَّه. . . إلخ.
(1)
راجع: "شرح الأبيّ" 3/ 464.
[تنبيه]: أما رواية عليّ بن مسهر، عن الأعمش، فلم أجد من ساقها بتمامها.
وأما رواية وكيع، عن الأعمش، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
حدّثني مُحَمَّدٌ، أخبرنا وَكِيعٌ، عن الْأَعْمَشِ، عن إبراهيم التَّيْمِيِّ، عن أبيه، قال: خَطَبَنَا عَلِيٌّ، فقال: ما عِنْدَنَا كِتَابٌ نَقْرَؤُهُ، إلَّا كِتَابَ اللَّهِ، وما في هذه الصَّحِيفَةِ، فقال: فيها الْجِرَاحَاتُ، وَأَسْنَانُ الْإِبِلِ، وَالْمَدِينَةُ حَرَمٌ ما بين عَيْرٍ إلى كَذَا، فَمَنْ أَحْدَثَ فيها حَدَثًا، أو آوَى فيها مُحْدِثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ منه صَرْفٌ، ولا عَدْلٌ، وَمَنْ تَوَلَّى غير مَوَالِيهِ، فَعَلَيْهِ مِثْلُ ذلك، وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا، فَعَلَيْهِ مِثْلُ ذلك. انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3330]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَن الْأَعْمَشِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ مُسْهِرٍ، وَوَكِيعٍ، إِلَّا قَوْلَهُ: "مَنْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ"، وَذِكْرَ اللَّعْنَةِ لَهُ)
(1)
.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ) أبو سعيد البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 235) على الأصحّ وله (85) سنةً (خ م د س) تقدم في "المقدمة" 6/ 75.
[تنبيه]: وقع في نسخة شرح النوويّ، وكذا بعض النسخ الأخرى:"عبد اللَّه بن عمر" بتكبير "عبد"، وهو غلط، والصواب ما في شرح الأبيّ:"عبيد اللَّه" بالتصغير، فتنبّه، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ) هو: محمد بن أبي بكر بن عليّ بن
(1)
وفي نسخة: "وذكر اللعنة لهم".
عطاء بن مُقَدَّم الثقفيّ، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.
3 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) تقدّم قريبًا.
و"سفيان" بن سعيد الثوريّ، و"الأعمش" ذُكرا في الباب.
وقوله: (إِلَّا قَوْلَهُ: "مَنْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ"، وَذِكْرَ اللَّعْنَةِ لَهُ) وقع في بعض النسخ: "وذكر اللعنة لهم".
ومعنى كلامه رحمه الله أن في حديث سفيان وقع ذكر قوله: "فعليه لعنة اللَّه، والملائكة، والناس أجمعين" صريحًا عند ذكر من تولّى غير مواليه، وأما ابن مسهر، ووكيع، فلم يذكراه صريحًا بل أشارا إليه بقولهما:"فعليه مثل ذلك"، كما تقدّم نصّ ذلك من رواية البخاريّ في التنبيه الماضي.
[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ، عن الأعمش هذه ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده" (1/ 254) فقال:
(296)
- حدّثنا عبيد اللَّه بن عمر، حدّثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم التيميّ، عن أبيه، عن عليّ، قال: ما عندنا إلَّا كتاب اللَّه، وهذه الصحيفة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن المدينة حرام، ما بين عائر إلى ثور، من أحدث فيها حَدَثًا، أو آوى مُحدثًا، فعليه لعنة اللَّه، والملائكة، والناس أجمعين، لا يُقبل منه صرفٌ، ولا عدلٌ، وقال: ذمة المسلمين واحدةٌ، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة اللَّه، والملائكة، والناس أجمعين، لا يُقبَل منه صرفٌ، ولا عدلٌ، ومن تولى قومًا بغير إذن مواليه، فعليه لعنة اللَّه، والملائكة، والناس أجمعين، لا يقبل اللَّه منه صرفًا ولا عدلًا". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3331]
(1371) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْمَدِينَةُ حَرَمٌ، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ،
وَالْمَلَاِئِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَدْلٌ، وَلَا صَرْفٌ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ) الكوفيّ المقرئ، ثقةٌ عابدٌ [9](ت 3 أو 204) وله (4 أو 85) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 154.
2 -
(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثقفيّ، أبو الصلت الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنّيّ [7](ت 160) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.
3 -
(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان تقدّم قريبًا.
4 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم قبل بابين.
والباقيان ذُكرا قبله، و"سليمان" هو الأعمش، وشرح الحديث واضحٌ، يُعلم مما سبق.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [82/ 3331 و 3332](1371)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 526)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 241)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 41)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 196)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3332]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ النَّضْرِ بْنِ أَبِي النَّضْرِ، حَدَّثَنِي أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ الْأَشْجَعِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَن الْأَعْمَشِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، مِثْلَهُ، وَلَمْ يَقُلْ: "يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، وَزَادَ: "وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَدْلٌ، وَلَا صَرْفٌ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ النَّضْرِ بْنِ أَبِي النَّضْرِ) البغداديّ، وقد يُنسب لجدّه، واسمه كنيته، وقيل: محمد، وقيل: أحمد، ثقةٌ [11](ت 245)(م ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.
2 -
(أَبُو النَّضْرِ) هاشم بن القاسم بن مسلم الليثيّ مولاهم، البغداديّ، لقبه قيصر، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 207) وله (73) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.
3 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ الْأَشْجَعِيُّ) ابن عُبيد الرحمن بتصغير الاسمين، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ مأمون، أثبت الناس كتابًا في الثوريّ، من كبار [9](ت 182)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 10/ 146.
والباقيان ذُكرا قبله، و"سفيان" هو: الثوريّ.
وقوله: (وَلَمْ يَقُلْ) الفاعل ضمير سفيان الثوريّ، وكذا في "زاد".
[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ، عن الأعمش هذه ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" ببعض اختلاف (4/ 42) فقال:
(3177)
- ثنا عليّ بن هارون، ثنا جعفر الفريابي (ع) وحدّثنا محمد بن المظفر، ثنا عبد اللَّه بن إسحاق (ع) وحدّثنا أبو محمد بن حيان، ثنا عبدان بن أحمد، قالوا: ثنا أبو بكر بن أبي النضر، قال: ثنا أبو النضر، ثنا الأشجعيّ، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "المدينة حَرَمٌ، فمن أحدث فيها حدثًا، أو آوى مُحدثًا، فعليه لعنة اللَّه، والملائكة، والناس أجمعين، وذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلمًا، فعليه لعنة اللَّه، والملائكة، والناس أجمعين، لا يقبل اللَّه منه صرفًا، ولا عدلًا". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3333]
(1372) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَوْ رَأَيْتُ
الظِّبَاءَ تَرْتَعُ بِالْمَدِينَةِ، مَا ذَعَرْتُهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا حَرَامٌ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، هو من الفقهاء السبعة.
5 -
(ومنها): أن صحابيّه أحفظ من روى الحديث في دهره.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَوْ رَأَيْتُ الظِّبَاءَ) بالكسر والمدّ، قال الفيّوميّ رحمه الله:"الظَّبْيُ": معروف، وهو اسم للذكر، والتثنية: ظَبْيان، على لفظه، وبه كُنِي، ومنه أبو ظبيان، وجمعه: أَظْبٍ، وأصله أَفْعُلٌ، مثل أفلس، وظُبِيٌّ، مثل فُلُوس، والأنثى: ظبيةٌ بالهاء، لا خلاف بين أئمة اللغة أن الأنثى بالهاء، والذكر بغير هاء، قال أبو حاتم: الظبية الأنثي، وهي عَنْزٌ، وماعِزةٌ، والذكر ظَبْيٌ، ويقال له: تَيْسٌ، وذلك اسمه إذا أَثْنَى، ولا يزال ثَنِيًّا حتى يموت، ولفظ الفارابيّ، وجماعةٍ: الظبية أُنثى الظِّباء، وبها سمّيت المرأة، وكُنِيَت، فقيل: أم ظبية، والجمع ظَبَيَات، مثلُ سَجْدَة وسَجَدَات، والظِّبَاءُ جمعٌ يعمّ المذكور والإناث، مثل سَهْمٍ وسِهَامٍ، وكَلْبةٍ وكِلاب. انتهى
(1)
.
(تَرْتَعُ بِالْمَدِينَةِ) من باب نفع؛ أي: تَرْعَى، وقيل: تسعى، وتنبسط (مَا)
(1)
"المصباح المنير" 2/ 384.
نافية (ذَعَرْتُهَا) من باب نَفَعَ؛ أي: أفزعتها، وقيل: نَفّرتها، وقال المازريّ: الذُّعر: الفزع، ومنه قول زُهير بن أبي سُلمى [من الكامل]:
وَلأَنْتَ أَشْجَعُ مِنْ أُسَامَةَ إِذْ
…
دُعِيَتْ نَزَالِ وَلُجَّ فِي الذُّعْرِ
ثم ذكر أبو هريرة رضي الله عنه علّة عدم ذَعره لها، فقال:(قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) فالجملة تعليليّة ("مَا) موصولة مبتدأ خبرها "حرامٌ"(بَيْنَ لَابَتَيْهَا) أي: حرّتي المدينة (حَرَامٌ") أي: محرّم أن يُخلى خلاه، ويُقطع شجره، ويُنفّر صيده.
وقال في "الفتح": قوله: "لو رأيت الظباء ترتع"؛ أي: تسعي، أو ترعى بالمدينة ما ذعرتها؛ أي: ما قصدت أَخْذَها، فأخفتها بذلك، وكَنَى بذلك عن عدم صيدها، واستدل أبو هريرة رضي الله عنه بقوله صلى الله عليه وسلم:"ما بين لابتيها حرام"؛ لأن المراد بذلك المدينة؛ لأنها بين لابتين: شرقيّة وغربيّة، ولها لابتان أيضًا من الجانبين الآخرين، إلَّا أنهما يرجعان إلى الأوّلين؛ لاتصالهما بهما.
والحاصل أن جميع دُورها كلُّها داخل ذلك.
قال: وفي قول أبي هريرة رضي الله عنه هذا إشارة إلى قوله في الحديث الماضي: "لا يُنَفَّر صيدها"، ونقل ابن خزيمة الاتفاق على أن لا جَزَاءَ في حيد المدينة، بخلاف صيد مكة. انتهى
(1)
.
وقال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: وفي هذا الحديث من الفقه تحريم المدينة، وإذا كانت حرامًا لَمْ يجز فيها الاصطياد، ولا قطع الشجر، كهيئة مكة، إلَّا أنه لا جزاء فيه عند العلماء، كذلك قال مالك، والشافعيّ، وأصحابهما، وقال أبو حنيفة: صيد المدينة غير محرَّم، وكذلك قطع شجرها، وهذا الحديث حجة عليه، مع سائر ما في تحريم المدينة من الآثار، واحتَجّ لأبي حنيفة بعض من ذهب مذهبه بحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من وجدتموه يصيد في حدود المدينة، أو يقطع من شجرها، فخذوا سلبه"، وأخذ سعد سَلَب من فعل ذلك، قال: وقد اتفق الفقهاء على أنه لا يؤخذ سَلَب من صاد في المدينة، فدلّ ذلك على أنه منسوخ، قال: وقد يَحْتَمِل أن يكون معنى النهي عن صيد المدينة، وقطع
(1)
"الفتح" 5/ 1289.
شجرها؛ لأن الهجرة كانت إليها، فكان بقاء الصيد والشجر مما يزيد في زينتها، ويدعو إلى أُلفتها، كما رُوي عن نافع، عن ابن عمر؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن هدم آطام المدينة، فإنها من زينة المدينة.
قال أبو عمر: ليس في هذا كله حجةٌ؛ لأن حديث سعد ليس بالقويّ
(1)
، ولو صحّ لم يكن في نسخ أخذ السلب ما يُسقط ما صحّ من تحريم المدينة، وما تأوّله في زينة المدينة فليس بشيء؛ لأن الصحابة تلقّوا تحريم المدينة بغير هذا التأويل، وسعد قد عَمِل بما رَوَي، فأيُّ نسخ ها هنا.
قال: وفي قول أبي هريرة رضي الله عنه: "ما ذَعَرْتُها" دليل على أنه لا يجوز ترويع الصيد في حرم المدينة، كما لا يجوز ترويعه في الحرم -المكيّ- واللَّه أعلم.
قال: وكذلك نزعُ زيد بن ثابت من يد الرجل النَّهْس، وهو طائر، كان صاده بالمدينة دليل على أن الصحابة فَهِمُوا مراد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في تحريمه صيد المدينة، فلم يجيزوا فيها الاصطياد، ولا تملّك ما يصطاد، ولذلك نَزَعَ زيد النهس، وسَرَّحه من يد صائده. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [82/ 3333 و 3334](1372)، و (البخاريّ) في "فضائل المدينة"(1869 و 1873)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3921)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 889)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 295)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 236 و 279 و 286 و 376)، و (أبو نعيم) في
(1)
الظاهر أنه أراد بهذا السياق الذي ساقه هو، وإلا فأصل حديث سعد أخرجه مسلم، فهو صحيح بلا شكّ، فتنبّه.
"مستخرجه"(4/ 42)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 135)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3751)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 196)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3334]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَن الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا بَيْنَ لَابَتَي الْمَدِينَةِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَلَوْ وَجَدْتُ الظِّبَاءَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا، مَا ذَعَرْتُهَا، وَجَعَلَ اثْنَيْ عَشَرَ مِيلًا حَوْلَ الْمَدِينَةِ حِمًى).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب، و"إسحاق بن إبراهيم" هو: ابن راهويه.
وقوله: (وَجَعَلَ اثْنَيْ عَشَرَ مِيلًا حَوْلَ الْمَدِينَةِ حِمًى) الضمير في "جَعَلَ" راجع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما يدل على ذلك حديث عديّ بن زيد الجذاميّ عند أبي داود، ولفظه:"حَمَى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كلَّ ناحية من المدينة، بَرِيدًا بَرِيدًا، لا يُخبط شجره، ولا يُعضد، إلَّا ما يساق به الجمل"
(1)
.
قال في "العون": فهذا الحديث مثل ما في "الصحيحين"؛ لأن البريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، وهذان الحديثان فيهما التصريح بمقدار حرم المدينة. انتهى
(2)
.
وقوله: (حِمًى) بكسر الحاء المهملة، والقصر، بوزن رِضًى؛ أي:
(1)
أخرجه أبو داود في "سننه"(2036) لكنه ضعيف؛ لجهالة في إسناده.
(2)
"عون المعبود" 6/ 16.
ممنوعًا، قال الفيّوميّ رحمه الله: حَمَيتُ المكانَ من الناس حَمْيًا، من باب رَمَي، وحِمْيَةً بالكسر: مَنَعْتُهُ عنهم، والْحِمَاية اسم منه، وأحميته بالألف جعلته حِمًى لا يُقْرَبُ ولا يُجتَرأ عليه، قال الشاعر [من الطويل]:
وَنَرْعَى حِمَى الأَقْوَامِ غَيْرَ مُحَرَّمٍ
…
عَلَيْنَا وَلَا يُرْعَى حِمَانَا الَّذِي نَحْمِي
وأحميته بالألف أيضًا: وجدته حِمًى، وتثنية الْحِمَى حِمَيَان بكسر الحاء، على لفظ الواحد، وبالياء، وسُمِع بالواو، فيقال: حِمَوَان، قاله ابن السِّكِّيت. انتهى
(1)
.
فـ "حِمًى" مفعول ثان لـ "جَعَل"، فهو منصوب منوّنٌ، والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم جعل هذا المقدار من المدينة ممنوع الكلأ من عامّة الناس؛ لأجل إبل الصدقة، ونَعَم الجزية.
والحديث متّفقٌ عليه، إلَّا قوله:"وجعَلَ اثني عشر ميلًا حول المدينة حِمًى"، فإنه من أفراد المصنّف رحمه الله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3335]
(1373) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا أَوَّلَ الثَّمَرِ، جَاءُوا بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا أَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثَمَرِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا، اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ، وَخَلِيلُكَ، وَنَبِيُّكَ، وَإِنِّي عَبْدُكَ، وَنَبِيُّكَ، وَإِنَّهُ دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وَإِنِّي أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ، بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وَمِثْلِهِ مَعَهُ"، قَالَ: ثُمَّ يَدْعُو أَصْغَرَ وَلِيدٍ لَهُ، فَيُعْطِيهِ ذَلِكَ الثَّمَرَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سُهَيْلُ بْنُ أَبِىِ صَالِحٍ) تقدّم قريبًا.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 153.
والباقون ذُكروا في الباب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، وشيخه دخلها.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّهُ قَالَ: كَانَ النَّاسُ)؛ أي: الصحابة رضي الله عنهم (إِذَا رَأَوْا أَوَّلَ الثَّمَرِ) بفتحتين، وأول الثمر يُسَمَّى الباكورة، فالمعنى أنهم إذا رأوا باكورة الثمر، وهي أول ما يُدْرَك من الفاكهة (جَاءُوا بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أي: هدية له صلى الله عليه وسلم، كما يدلّ عليه إعطاؤه للوليد، قال العلماء: كانوا يفعلون ذلك رغبة في دعائه صلى الله عليه وسلم في الثمر، وللمدينة، والصاع، والمدّ، وإعلامًا له صلى الله عليه وسلم بابتداء صلاحها لِما يتعلق بها من الزكاة وغيرها، وتوجيه الخارصين، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال الأبيّ رحمه الله: وقيل: إنما كانوا يؤثرونه به على أنفسهم حبًّا له صلى الله عليه وسلم، ويرونه أولى الناس بما يسبق إليهم من خير من ربهم.
وقال الزرقانيّ رحمه الله: إما هديةً وجلالةً ومحبةً وتعظيمًا له صلى الله عليه وسلم، وإما تبركًا بدعائه لهم بالبركة، وهو الذي يغلب على ظني، وسياق الحديث يدل عليه، والمعنيان محتملان، قاله ابن عبد البرّ رحمه الله وكذا ذكر هذين الاحتمالين التوربشتيّ.
وقال الباجيّ رحمه الله: يريد بالثمر ثمر النخل؛ لأنه هو المقصود ثمارها، وأَتَوْا به؛ تبركًا بدعائه صلى الله عليه وسلم، وإعلامًا له ببدوّ الصلاح، إما لِما كان يتعلق به من إرسال الْخُرّاص؛ ليستحلوا أكلها، والتصرف فيها، وإما لِيُعلموه جواز بيع ثمارهم لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيعها قبل بُدُوّها. انتهى
(2)
.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 146.
(2)
راجع: "المرعاة" 9/ 516.
(فَإِذَا أَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) قال الزرقانيّ: زاد في بعض طرق الحديث: "وضعه على وجهه"؛ أي: إظهارًا للفرح والمسرّة (قَالَ: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثَمَرِنَا) بالنماء، والزيادة، والبقاء (وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا)؛ أي: في ذاتها، من جهة سعتها، ووسعة أهلها، وقد استجاب اللَّه تعالى دعاءه صلى الله عليه وسلم بأن وسع نفس المسجد، وما حوله من المدينة، وكثر الخلق فيها، حتى عُدّ من الفَرَس المعدّ للقتال المهيَّأ بها في زمن عمر رضي الله عنه أربعون ألف فرس، والحاصل أن المراد بالبركة هنا ما يَشْمَل الدنيوية والأخروية والحسبة، قاله القاري رحمه الله. وقيل: بارك لنا في مدينتنا في أمور أخرى أيضًا سوى الثمار.
(وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا)؛ أي: فيما يكال به كَمّيةً، وكيفيةَ (وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا) قال الزرقانيّ رحمه الله؛ أي: بارك لنا في ما يكال في صاعنا، وبارك لنا في ما يكال في مُدّنا، فحذف المقدَّر؛ لفهم السامع، وهو من باب ذكر المحلّ وارادة الحالّ.
وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: هذا من فصيح كلامه وبلاغته صلى الله عليه وسلم، وفيه استعارة؛ لأن الدعاء إنما هو للبركة في الطعام المكيل بالصاع والمد، لا في الظروف.
ويَحْتَمِل على ظاهر العموم أن تكون فيهما.
وقال القاضي عياض رحمه الله: البركة هنا بمعنى النماء والزيادة، وتكون بمعنى الثبات واللزوم، قال: فقيل: يَحْتَمِل أن تكون هذه البركة دينية، وهي ما تتعلق بهذه المقادير من حقوق اللَّه تعالى في ذكر الزكوات، والكفارات، فتكون بمعنى الدعاء للثبات والبقاء لها، كبقاء الحكم بها ببقاء الشريعة وثباتها، ويَحْتَمِل أن تكون دنيوية، من تكثير المال، والقدر بهذه الأكيال، حتى يكفي منه ما لا يكفي من غيره في غير المدينة، أو ترجع البركة إلى التصرف بها في التجارة، وأرباحها، أو إلى كثرة ما يكال بها من غلاتها وثمارها، أو تكون الزيادة فيما يكال بها لاتساع عيشهم، وكثرته بعد ضيقه، بما فتح اللَّه عليهم، ووسّع من فضله لهم، وتمليكهم من بلاد الْخِصب والرِّيف بالشام والعراق ومصر وغيرها، حتى كثر الحمل إلى المدينة، واتسع عيشهم حتى صارت هذه البركة في الكيل نفسه، فزاد مُدّهم، وصار هشاميًّا مثل مُدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم مرتين، أو
مرّة ونصفًا، وفي هذا كله ظهور إجابة دعوته صلى الله عليه وسلم وقبولها. انتهى كلام القاضي رحمه الله.
وقال النوويُّ رحمه الله: الظاهر من هذا كله أن المراد البركة في نفس الكيل في المدينة، بحيث يكفي المدّ في المدينة لمن لا يكفيه في غيرها، وهذا أمر محسوس عند من سكنها.
قال الطيبيّ: ولعل الظاهر هو قول عياض: "أو لاتساع عيش أهلها. . . إلخ"؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك إبراهيم لمكة"، ودعاء إبراهيم عليه السلام هو قوله:{فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37]، يعني: وارزقهم من الثمرات بأن تُجلَب إليهم من البلاد، لعلهم يشكرون النعمة في أن يُرزقوا أنواع الثمرات في وادٍ ليس فيه نجم، ولا شجر، ولا ماء، لا جرم أن اللَّه أجاب دعوته، فجعله حرمًا آمنًا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقًا من لدنه، ولعمري إن دعاء حبيب اللَّه صلى الله عليه وسلم استجيب لها، وضأعف خيرها على غيرها، بأن جلب إليها في زمن الخلفاء الراشدين من مشارق الأرض ومغاربها، من كنوز كسري، وقيصر، وخاقان ما لا يحصى ولا يحصر، وفي آخر الأمر يَأْرِز الدين إليها من أقاصي الأرض، وشاسع البلاد، ويَنصُر هذا التأويل قوله في حديث أبي هريرة:"أُمرت بقرية تأكل القرى"، ومكة أيضًا من مأكولها. انتهى.
وقال الباجيّ: يَحْتَمِل أن يريد بالبركة بركة الدنيا والآخرة، ففي الدنيا أن يكون الطعام الذي يكتال به تكثر بركته، بأن يجزئ منه العدد ما لا يجزئ ما كيل بغيره، أو يبارك في التصرف به على وجه التجارة، بمعنى الأرباح، أو يريد به المكيل، فيكون ذلك دعاؤه في كثرة ثمارهم وغلاتهم، وأما البركة الدينية فإنها بهذا الكيل يتعلق كثير من العبادات، من أداء زكاة الحبوب، والفطر، والكفارات. انتهى.
قال المباركفوري رحمه الله في "مرعاته": الأرجح عندنا هو ما قاله النوويّ، فإنه هو الظاهر من ألفاظ هذا الحديث، وما ورد في معناه كما لا يخفى على المتأمل.
[تنبيه]: قال الزرقانيّ رحمه الله: هل يختص الدعاء المذكور بالمدّ
المخصوص بزمانه صلى الله عليه وسلم، أو يعم كل مُدّ تعارفه أهل المدينة في سائر الأعصار، زاد أو نقص، وهو الظاهر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أضافه إلى المدينة تارةً، وإلى أهلها أخرى، ولم يضفه إلى نفسه الزكية، فدل على عموم الدعوة، لا على خصوصه بمدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كما أفاده بعض العلماء. انتهى.
قال المباركفوريّ: وإلى الخصوص يظهر ميل البخاريّ حيث ترجم على حديث أنس: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم بارك لهم في مكيالهم، وبارك لهم في صاعهم، ومدّهم"، بلفظ:"باب بركة صاع النبيّ صلى الله عليه وسلم ومدّه". انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن ما سبق عن الزرقانيّ رحمه الله من عموم دعوته صلى الله عليه وسلم لصاع أهل المدينة ومدّهم في سائر الأعصار، هو الظاهر؛ للنصوص الكثيرة الدالّة على العموم، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
(اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ) عليه السلام (عَبْدُكَ) كما قال اللَّه تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} الآية [ص: 45](وَخَلِيلُكَ) كما قال اللَّه تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 124](وَنَبِيُّكَ) كما قال اللَّه تعالى {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)} [مريم: 41](وَإِنِّي عَبْدُكَ) كما قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} الآية [الإسراء: 1](وَنَبِيُّكَ) كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45)} [الأحزاب: 45].
[فائدة]: قيل: إنما لم يقل النبيّ صلى الله عليه وسلم "وخليلك"، مع أنه خليلٌ، كما صرّح به في أحاديث عدة؛ رعايةً للأدب في ترك المساواة بينه وبين أبيه إبراهيم عليه السلام.
وقال الطيبيّ رحمه الله: وإنما لم يذكر الخلّة لنفسه، مع أنه أيضًا خليل اللَّه تعالى، على ما دلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم في باب مناقب أبي بكر:"وقد اتخذ اللَّه صاحبكم خليلًا"، رواه مسلم؛ رعاية للأدب في ترك المساواة بين نفسه صلى الله عليه وسلم، وبين أبيه إبراهيم عليه السلام، قال: وفي عدم تصريحه به مع رعاية الأدب تنبيه على تنويهه، وجلالة شأنه، وأنه أرفع درجةً، وأعظم قدرًا، ونحوه قوله تعالى:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}
(1)
"المرعاة" 9/ 517 - 518.
[البقرة: 254]: الظاهر أنه أراد محمدًا صلى الله عليه وسلم، وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله، وإعلاء قدره ما لا يخفى؛ لِما فيه من الشهادة على أنه الْعَلَمُ الذي لا يشتبه، والمتميّز الذي لا يلتبس، وسئل الحطيئة عن أشعر الناس فذكر زهيرًا، والنابغة، ثم قال: ولو شئت لذكرت الثالث، أراد نفسه، ولو صَرَّح به لم يُفْخِّم أمره. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.
(وَإِنَّهُ)؛ أي: إبراهيم عليه السلام (دَعَاكَ لِمَكَّةَ)؛ أي: بقوله: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37](وَإِنِّي أَدْعُوكَ)؛ أي: أطلب منك (لِلْمَدِينَةِ، بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ لِمَكةَ، وَمِثْلِهِ مَعَهُ") بجرّ "مثله"، هكذا هو مضبوط في النسخ بضبط القلم، ويَحْتَمل أن يكون بالرفع مبتدأ، والظرف خبره، والجملة في محلّ نصب على الحال؛ أي: والحال أن مثل ذلك المثل مَعَهُ.
وفي الرواية التالية: "اللهم بارك لنا في مدينتنا، وفي ثمارنا، وفي مدّنا، وفي صاعنا بركةً مع بركة".
وحاصل المعنى: أدعوك بضُعف ما دعا به إبراهيم، وقد تقدّم في حديث أنس رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم:"اللهم اجعل بالمدينة ضُعفي ما جعلت بمكة من البركة"، متّفقٌ عليه.
قال القاضي أبو محمد: في هذا دليل على فضل المدينة على مكة؛ لأن تضعيف الدعاء لها إنما هو لفضلها على ما قصر عنها.
وقال الباجيّ: والذي عندي أن وجه الدليل من ذلك أن إبراهيم عليه السلام دعا لأهل مكة بما يختص دنياهم، فقال:{وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 126]، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا لأهل المدينة بمثل ذلك، ومثله معه، فيَحْتَمِل أن يريد به، وبدعاء آخر معه، وهو لأمر آخرتهم، فتكون الحسنات تضاعف للمدينة بمثل ما تضاعف بمكة، فإنما معنى فضيلة إحدى البقعتين على الأخرى في تضعيف الحسنات.
ويَحْتَمِل أن يريد أن إبراهيم عليه السلام أيضًا دعا لأهل مكة بأمر آخرتهم،
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 2053 - 2054.
وعَلِمَ هو صلى الله عليه وسلم، فدعا بمثل ذلك، وبمثله معه، فيعود إلى مثل ما قدّمنا ذِكره.
ويَحْتَمِل أن يريد أن إبراهيم عليه السلام دعا لأهل مكة في ثمراتهم ببركة، قد أجاب اللَّه دعاءه فيه، وأنه صلى الله عليه وسلم دعا لأهل المدينة في ثمراتهم أيضًا بمثل ذلك، ومثله معه، فلا يكون هذا دليلًا على فضل المدينة على مكة في أمر الآخرة، وإنما يدل على أن البركة في ثمارهم مثل البركة في ثمار مكة، إما لقرب تناولها، أو لكثرتها، أو للبركة في الاقتيات بها، أو ليوصل من يقتات بها في المدينة إلى مثلي ما يتوصل به من يقتات في مكة بثمارها. انتهى.
وقال الحافظ في شرح حديث أنس المذكور: أي: من بركة الدنيا، بقرينة قوله في حديث آخر:"اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا"، ويَحْتَمِل أن يريد ما هو أعمّ من ذلك، لكن يستثنى منه ما خرج بدليل؛ كتضعيف الصلاة بمكة على المدينة، واستُدِلّ به على تفضيل المدينة على مكة، وهو ظاهر من هذه الجهة، لكن لا يلزم من حصول أفضلية المفضول في شيء من الأشياء ثبوت الأفضلية له على الإطلاق، أما من ناقض ذلك بأنه يلزم أن يكون الشام واليمن أفضل من مكة لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر:"اللهم بارك لنا في شامنا"، وأعادها ثلاثًا، فقد تُعُقّب بأن التأكيد لا يستلزم التكثير المصرَّح به في حديث الباب.
وقال ابن حزم: لا حجة في حديث الباب لهم؛ لأن تكثير البركة بها لا يستلزم الفضل في أمور الآخرة؛ لأن البركة أعمّ من أن تكون في أمور الدين أو الدنيا؛ لأنها بمعنى النماء والزيادة إلى آخر ما قدّمنا من كلامه. انتهى
(1)
.
(قَالَ) أي: أبو هريرة رضي الله عنه (ثُمَّ يَدْعُو) صلى الله عليه وسلم (أَصْغَرَ وَلِيدٍ)؛ أي: مولود، فعيل بمعنى مفعول (لَهُ) يعني أصغر طفل من أهل بيته صلى الله عليه وسلم، وفي الرواية التالية:"ثم يعطيه أصغر من يحضره من الولدان".
قال القاري رحمه الله: التحقيق أن الروايتين؛ يعني الرواية المطلقة والمقيدة محمولتان على الحالتين، والمعنى أنه إذا كان عنده، أو قريبًا منه وليد له أعطاه، أو وليد آخر من غير أهله أعطاه؛ إذ لا شك أنهما لو اجتمعا لشرَّك
(1)
"المرعاة" 9/ 518 - 519.
بينهما، نعم إذا لم يكن أحد حاضرًا عنده فلا شبهة أنه ينادي أحدًا من أولاد أهله لأنه أحق ببره من غيره.
(فَيُعْطِيهِ)؛ أي: الولد (ذَلِكَ الثَّمَرَ) قال الباجيّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يريد بذلك عظم الأجر في إدخال المسرّة على من لا ذنب له؛ لصغره؛ فإن سروره به أعظم من سرور الكبير، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [82/ 3335 و 3336](1373)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(362)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3454)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 83) وفي "عمل اليوم والليلة"(302)، و (ابن ماجه) في "الأطعمة"(3329)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3747)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 885)، و (ابن السنّيّ) في "عمل اليوم والليلة"(280)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 106 - 107)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 43)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2012)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل المدينة، وذلك حيث دعا لها النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يجعل اللَّه تعالى فيها ضُعف ما بمكة من البركة، وقد استجاب اللَّه تعالى له.
2 -
(ومنها): ما قال أبو عمر رحمه الله: فيه من الآداب، وجميل الأخلاق إعطاء الصغير من الولدان التُّحْفَة والطُّرْفة، وما يَسُرّ به، ويُعجبه، وينفعه، وأنه أولى بذلك من الكبير؛ لقلة صبره، وشدّة فرحه باليسير منه، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحب الأطفال، ويلاطفهم، ويعجبه أن يَسُرّهم، وفي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة.
وعن أنس رضي الله عنه قال: إن كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليخالطنا، حتى إن كان
ليقول لأخ لي صغير: "يا أبا عُمير ما فَعَل النُّغَير؟ "، رواه البخاريّ
(1)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله: تخصيصه صلى الله عليه وسلم أصغر وليد يحضره؛ لأنه ليس فيه ما يُقسَم على الولدان، وأما من كَبُر منهم فإنه يتخلق بأخلاق الرجال في الصبر، ويلوح لي أنه تفاؤل بنماء الثمار وزيادتها؛ لدفعها لمن هو في سنّ النماء والزيادة، كما قيل في قلب الرداء للاستسقاء، وقيل: إنما خصهم بذلك؛ للمناسبة الواقعة بين الولدان وبين الباكورة؛ لقربهما من الإبداع؛ أي: حِدْثان عهدهما بالإبداع.
3 -
(ومنها): ما قال أبو عمر رحمه الله أيضًا: أما دعاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حديث أنس بالبركة لأهل المدينة في مكيالهم، وصاعهم، ومُدّهم، فالمعنى فيه -واللَّه أعلم- صرف الدعاء بالبركة إلى ما يكال بالمكيال، والصاع، والمدّ من كل ما يكال، وهذا من فصيح كلام العرب أن يُسَمَّى الشيءُ باسم ما قَرُب منه، ولو لم تكن البركة في كل ما يكال، وكانت في المكيال لم تكن في ذلك منفعة، ولا فائدة، بل لو رُفعت البركة من المكيل، فكانت في المكيال كانت مصيبة، وهذا محال في معنى الحديث، وقد جَلّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يدعو بما لا فائدة فيه.
4 -
(ومنها): أن فيه دليلًا على أن الإنفاق بالكيل أفضل منه بغير الكيل، وقد ثبتٌ مرفوعًا:"كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه"
(2)
.
والفائدة في حديث أنس رضي الله عنه الدعاء من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالبركة لأهل المدينة في طعامهم، والندب إلى استعمال الكيل في كل ما يكال، ويمكن فيه الكيل ويوزن.
وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المكيال مكيال أهل المدينة، والوزن وزن أهل مكة"
(3)
، قاله أبو عمر رحمه الله
(4)
.
(1)
راجع: "الاستذكار" 8/ 218 - 219.
(2)
أخرجه البخاريّ في "صحيحه" من حديث المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه.
(3)
حديث صحيح، أخرجه النسائيّ بسند صحيح.
(4)
"الاستذكار" 8/ 218.
5 -
(ومنها): ما قال أبو عمر رحمه الله أيضًا: فيه اختصاص الرئيس في الخير والدين والعلم والسلطان بالهدية والطُّرْفة؛ رجاء دعائه بالبركة، وبِرًّا به، وإكرامًا له، وتبركًا بدعوته، وأما دعاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة، فمجاب كله -إن شاء اللَّه عز وجل وإذا كانت الإجابة موجودة لغيره، فما ظنك به صلى الله عليه وسلم.
قال: وقد يَحْتَمِل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم بارك لنا" يريد نفسه، وأصحابه الذين آمنوا به، وصدّقوه، واتبعوه على دينه في زمانه، وتدرك بركة تلك الدعوة في قوله:"اللهم بارك لنا" كل من كان حيًّا مولودًا في مدّته، وكل من آمن به، واتبعه من ساكني المدينة -إن شاء اللَّه عز وجل ومعلوم أنه لم يُرِد بدعائه طعام المنافقين، ولم يُدخله في دعوته تلك؛ لأنه لم يقصدهم بذلك. انتهى.
6 -
(ومنها): ما قال أبو عمر رحمه الله أيضًا: وقد ظَنّ قوم أن هذا الحديث يدل على أن المدينة أفضل من مكة بدعاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لها بمثل ما دعا به إبراهيم لمكة، ومثله معه، وليس كما ظنوا؛ لأن دعاء إبراهيم لمكة لم تُعرف فضيلة مكة به وحده، بل كان فضلها قبل أن يدعو لها، ودعاء إبراهيم عليه السلام قد علمناه بما نَطَق به القرآن في قوله عز وجل:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ} الآية [البقرة: 126]، وقد كانت مكة حَرَمًا آمنًا بدليل حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن اللَّه تعالى حرّم مكة، ولم يحرّمها الناس"، متّفقٌ عليه، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إن اللَّه تعالى حرّم مكة يوم خلق السماوات والأرض. . . " الحديث متّفقٌ عليه.
وأجمع المسلمون على القول بأن مكة حرم اللَّه، وقالوا في المدينة: حرم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقد دعا إبراهيم لمكة بنحو دعاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم للمدينة.
ثم أخرج بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما في الحديث الطويل حين نزل إبراهيم بابنه إسماعيل، وأمه هاجر مكة، ثم رجع إلى الشام، ثم عاد إليها بعد مدة، وقد ماتت أم إسماعيل، وتزوج إسماعيل في جُرْهُم، فوجد امرأته في المرة الثانية، ولم يجد إسماعيل، فسألها عنه، فقالت: مَرَّ إلى الصيد، فقال: وما
طعامكم؟ قالت: اللحم والماء، فقال: اللهم بارك لهم في لحمهم ومائهم، قالها ثلاثًا، والحديث أخرجه البخاريّ بطوله.
قال أبو عمر: ولو كان الدعاء للمدينة بالبركة دليلًا على فضلها على مكة، لكانت الشام واليمن أفضل من مكة؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا بالبركة لأهلها، ولم يذكر في ذلك الحديث مكة، وهذا لا يقوله مسلم.
قال: ومما يدلّ على فضل مكة على غيرها قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "بُني الإسلام على خمس. . . "، فذكر منها حج البيت الحرام، وقال صلى الله عليه وسلم:"الإلحاد فيه من الكبائر"، وجعل اللَّه الكعبة البيت الحرام قبلة للمسلمين في صلاتهم، وقال صلى الله عليه وسلم:"قبلتكم أحياءً وأمواتًا"
(1)
.
ورضي اللَّه عز وجل، من عباده بحط أوزارهم، بأن يقصد القاصد البيت الحرام حاجا مرّة في دهره.
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو واقف بالْحَزَوَّرة في سوق مكة:"واللَّه إنك لخير أرض اللَّه عز وجل وأحب أرض اللَّه عز وجل إلى اللَّه عز وجل، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت"
(2)
، قال: وهو حديث لا يختلف أهل العلم بالحديث في صحته.
قال: وأما ما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال في حين خروجه من مكة إلى المدينة: "اللهم إنك تعلم أنهم أخرجوني من أحب البلاد إليّ، فأسكنّي أحب البلاد إليك"، فهو حديث موضوع منكر، لا يختلف أهل العلم في نكارته وضعفه، وأنه موضوع، وينسبون وضعه إلى محمد بن الحسن بن زِبَالة المدنيّ، وحملوا عليه فيه، وتركوه.
قال أبو عمر: وأخبرنا عبد الرحمن بن يحيى، قال: حدّثني عليّ بن مسرور، قال: حدّثني أحمد بن داود، قال: حدّثني سحنون بن سعيد، قال:
(1)
أخرجه أبو داود بسند حسن، عن عبيد بن عمير، عن أبيه أنه حدّثه، وكانت له صحبة أن رجلًا سأله فقال: يا رسول اللَّه ما الكبائر؟ فقال: "هنّ تسع"، فذكر معناه، زاد:"وعقوق الوالدين المسلمين، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتًا".
(2)
حديث صحيح، أخرجه الترمذيّ، وقال: حسن غريب صحيح.
حدّثني عبد اللَّه بن وهب، قال: حدّثني مالك بن أنس: أن آدم لما أُهبط إلى الأرض بالهند، قال: يا رب هذه أحب الأرض إليك أن تُعْبَد فيها؟ قال: بل مكة، فسار آدم حتى أتى مكة، فوجد عندها ملائكة يطوفون بالبيت، ويعبدون اللَّه عز وجل، فقالوا: مرحبًا يا آدم يا أبا البشر، إنا ننتظرك ها هنا منذ ألفي سنة، فهذه حكاية مالك رحمه الله وقوله، وخبره عن مكة
(1)
. انتهى كلام ابن البرّ رحمه الله باختصار
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما سبق من الأدلّة الكثيرة الصحيحة أن مكة أفضل من المدينة، وأنه لا يلزم من حديث الباب تفضيلها عليها، وهذا هو الصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3336]
(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَنِيُّ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُؤْتَى بِأَوَّلِ الثَّمَرِ، فَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، وَفِي ثِمَارِنَا، وَفِي مُدِّنَا، وَفِي صَاعِنَا، بَرَكَةً مَعَ بَرَكَةٍ"، ثُمَّ يُعْطِيهِ أَصْغَرَ مَنْ يَحْضُرُهُ مِنَ الْوِلْدَانِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، و"عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَنِيُّ" هو: الدّرَاورديّ.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"الاستذكار" 8/ 223.
(2)
"الاستذكار" 8/ 218 - 222.
(83) - (بَابُ التَّرْغِيبِ فِي سُكْنَى الْمَدِينَةِ، وَالصَّبْرِ عَلَى لَأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3337]
(1374) - (حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ وُهَيْبٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ؛ أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى الْمَهْرِيِّ؛ أَنَّهُ أَصَابَهُمْ بِالْمَدِينَةِ جَهْدٌ وَشِدَّةٌ، وَأَنَّهُ أَتَى أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي كَثِيرُ الْعِيَالِ، وَقَدْ أَصَابَتْنَا شِدَّةٌ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَنْقُلَ عِيَالِي إِلَى بَعْضِ الرِّيفِ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: لَا تَفْعَلْ، الْزَمْ الْمَدِينَةَ، فَمنَّا خَرَجْنَا مَعَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَظُنُّ
(1)
أَنَّهُ قَالَ: حَتَّى قَدِمْنَا عُسْفَانَ، فَأَقَامَ بهَا لَيَالِيَ، فَقَالَ النَّاسُ: وَاللَّهِ مَا نَحْنُ هَا هُنَا فِي شَيْءٍ، وَإِنَّ عِيَالَنَا لَخُلُوفٌ، مَا نَأْمَنُ عَلَيْهِمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"مَا هَذَا الَّذِي بَلَغَنِي مِنْ حَدِيثِكُمْ؟ "، مَا أَدْرِي كَيْفَ قَالَ:"وَالَّذِي أَحْلِفُ بِهِ، أَوْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ هَمَمْتُ، أَوْ إِنْ شِئْتُمْ"، لَا أَدْرِي أَيَّتَهُمَا قَالَ؟ "لَآمُرَنَّ بِنَاقَتِي تُرْحَلُ، ثُمَّ لَا أَحُلُّ لَهَا عُقْدَةً حَتَّى أَقْدَمَ الْمَدِينَةَ"، وَقَالَ: "اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، فَجَعَلَهَا حَرَمًا، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ حَرَامًا، مَا بَيْنَ مَأْزِمَيْهَا، أَنْ لَا يُهْرَاقَ فِيهَا دَمٌ، وَلَا يُحْمَلَ فِيهَا سِلَاحٌ لِقِتَالٍ، وَلَا تُخْبَطَ فِيهَا شَجَرَةٌ، إِلَّا لِعَلْفٍ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، اللَّهُمَّ اجْعَلْ مَعَ الْبَرَكَةِ بَرَكَتَيْنِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنَ الْمَدِينَةِ شِعْبٌ، وَلَا نَقْبٌ إِلَّا عَلَيْهِ
(2)
مَلَكَانِ يَحْرُسَانِهَا، حَتَّى تَقْدَمُوا إِلَيْهَا"، ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: "ارْتَحِلُوا"، فَارْتَحَلْنَا، فَأَقْبَلْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَوَالَّذِي نَحْلِفُ بِهِ، أَوْ يُحْلَفُ بِهِ -الشَّكُّ مِنْ حَمَّادٍ- مَا وَضَعْنَا رِحَالَنَا حِينَ دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ، حَتَّى أَغَارَ عَلَيْنَا بَنُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَطَفَانَ، وَمَا يَهِيجُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ شَيْءٌ).
(1)
وفي نسخة: "أظنّه".
(2)
وفي نسخة: "إلا وعليه".
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(حَمَّادُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ) البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [11].
رَوَى عن أبيه، ووهب بن جرير بن حازم، وعنه مسلم، والنسائيّ، وعثمان بن خُرّزاذ، ومحمد بن إسحاق الصنعانيّ، ويعقوب بن سفيان، ومحمد بن إسحاق السراج، وغيرهم.
قال النسائيّ: بغداديّ ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال السرّاج: مات ببغداد سنة (244).
تفرّد به المصنّف، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
2 -
(أَبُوهُ) إسماعيل بن إبراهيم المعروف بابن عُليّة، تقدّم قريبًا.
3 -
(وُهَيْبُ) بن خالد الباهليّ البصريّ، ذُكر في الباب.
4 -
(يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ) الحضرميّ مولاهم البصريّ النحويّ، صدوقٌ ربّما أخطأ [5](136)(ع) تقدّم قريبًا.
5 -
(أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى الْمَهْرِيِّ) ثقةٌ
(1)
[3].
رَوَى عن أبي ذرٍّ الغفاريّ، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وأبي سعيد الخدريّ، وحمزة بن سفينة، وعنه ابناه: أبو السَّمَيط سعيد ويزيد، وسعيد المقبريّ، ويحيى بن أبي إسحاق الحضرميّ، وسعيد بن أبي هلال، وغيرهم، ووثّقه العجليّ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1374) وكرّره ثلاث مرّات، و (1896):"لينبعث من رجلين أحدهما، والأجر بينهما"، وأعاده بعده.
6 -
(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سِنان رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.
(1)
وقوله في "التقريب": "مقبول" غير مقبول؛ لأنه روى عنه جماعة، ووثقه العجليّ، وابن حبّان، وأخرج له مسلم في "الصحيح"، راجع:"تهذيب الكمال" 33/ 359 مع ما كتبه الدكتور بشار في هامشه.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، ومولى المهريّ، كما أسلفته آنفًا.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.
4 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ) الحضرميّ مولاهم (أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى الْمَهْرِيّ) لا يُعرف اسمه (أَنَّهُ أَصَابَهُمْ بالْمَدِينَةِ جَهْدٌ) بفتح الجيم؛ أي: مشقّة، فقوله:(وَشِدَّةٌ) تأكيد له (وَأَنَّهُ أَتَى أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ) رضي الله عنه (فَقَالَ لَهُ: إِنِّي كَثِيرُ الْعِيَالِ) بالكسر: أهل البيت، ومن يمونه الإنسان، والواحد عَيِّل بتشديد الياء، مثل جِيَاد وجَيِّدٍ (وَقَدْ أَصَابَتْنَا شِدَّةٌ) قال الأبيّ رحمه الله: لا يُعارض هذا دعائه صلى الله عليه وسلم بالبركة؛ إذ لا منافاة بين ثبوت الشدّة وثبوت البركة فيها، وتخلّفها عن بعض لا يضرّ. قال: بهذا كان شيخنا يُجيب، والأظهر على قدّمنا أن البركة هي في تحصيل القوت، وأن المدّ بها يُشبع ما يُشبع ثلاثة أمثاله بغيرها، فتكون الشدّة في تحصيل المدّ، والبركة في تضعيف القوت به. انتهى
(1)
.
(فَأَرَدْتُ أَنْ أَنْقُلَ) بضمّ القاف، من باب نصر (عِيَالِي إِلَى بَعْضِ الرِّيفِ) بكسر الراء: هي الأرض التي فيها زرعٌ، وخِصْبٌ، وجمعه أريافٌ، ويقال: أَرْيفنا؛ أي: صِرنا إلى الريف، وأرافت الأرض: أخصبت، فهي ريفة
(2)
. (فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ) رضي الله عنه (لَا تَفْعَل)؛ أي: تنقل عيالك من المدينة إلى الريف (الْزَمْ الْمَدِينَةَ) ثم علّل نهيه بقوله: (فَإِنَّا خَرَجْنَا مَعَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَظُنُّ) وفي نسخة: "أظنّه"، والظاهر أن قائل أظنّه أبو سعيد مولى المهريّ (أَنَّهُ قَالَ) أي: أن أبا سعيد الخدريّ قال (حَتَّى قَدِمْنَا) بكسر الدال (عُسْفَانَ) بضمّ العين، وسكون
(1)
"شرح الأبيّ" 3/ 466.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 146 - 147.
السين المهملتين، ثم فاء: موضع بين مكة والمدينة، ويُذكّر، ويؤنّث، قال الفيّوميّ: ويُسمّى في زماننا مَدْرَجَ عُثمان، وبينه وبين مكة نحو ثلاث مراحل، ونونه زائدة. انتهى
(1)
. (فَأَقَامَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (بِهَا)؛ أي: بعُسفان، تقدّم آنفًا أنها تذكّر وتؤنّث (لَيَالِيَ، فَقَالَ النَّاسُ: وَاللَّهِ مَا) نافية (نَحْنُ هَا هُنَا فِي شَيْءٍ)؛ أي: لسنا في شيء نافع لنا (وَإِنَّ عِيَالَنَا لَخُلُوفٌ) بضمّ الخاء المعجمة؛ أي: لا حافظ لهم، ولا حامي، يقال: حيٌّ خُلُوفٌ؛ أي: غاب عنهم رجالهم، قاله القرطبيّ
(2)
، وقال النوويّ: أي: ليس عندهم رجال، ولا من يحميهم
(3)
، وقال ابن الأثير: يقال: حيّ خُلُوفٌ: إذا غاب الرجال، وأقام النساء، ويُطلق على المقيمين، والظاعنين. انتهى
(4)
. (مَا نَأْمَنُ) بفتح الميم، من باب تَعِب (عَلَيْهِمْ)؛ أي: نخاف عليهم العدوّ أن يأتيهم ونحن غائبون (فَبَلَغَ ذَلِكَ النّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "مَا) استفهاميّة (هَذَا الَّذِي بَلَغَنِي مِنْ حَدِيثِكُمْ؟ ")؛ أي: أيُّ شيء هذا الذي بلغني مما تحدّثتم به من شؤون عيالكم؟ وقوله: (مَا أَدْرِي كَيْفَ قَالَ) هذا شكّ من أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه فيما عبّر به النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ربّه عند حلفه، هل قال:("وَالَّذِي أَحْلِفُ بِهِ) أي: وهو اللَّه تعالى (أَوْ) قال: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ هَمَمْتُ) من باب نصر (أَوْ إِنْ شِئْتُمْ"، لَا أَدْرِي أَيُّتَهُمَا قَالَ؟) وهذا أيضًا شكّ في لفظ الحديث، هل قال صلى الله عليه وسلم:"لقد هممت، أو قال: إن شئتم"("لَآمُرَنَّ بِنَاقَتِي تُرْحَلُ) بضمّ أوله، وإسكاء الراء، مبنيًّا للمفعول؛ أي: يشدّ عليها رحلها، وضبطه القرطبيّ بتشديد الحاء (ثُمَّ لَا أَحُلُّ لَهَا عُقْدَةً حَتَّى أَقْدَمَ الْمَدِينَةَ") قال القرطبيّ: أي أصِلُ المشي والإسراع، وذلك لمحبته الكونَ في المدينة، وشدّة شوقه إليها. انتهى
(5)
.
وقال النوويّ: معناه: ثم أواصل السير، ولا أحلّ عن راحلتي عُقدة من عُقَد حملها، ورحلها، حتى أصل المدينة؛ لمبالغتي في الإسراع إليها
(6)
، (وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ) عليه السلام (حَرَّمَ مَكَّةَ)؛ أي: أظهر للناس تحريمها؛
(1)
"المصباح المنير" 2/ 409.
(2)
"المفهم" 3/ 490.
(3)
"شرح النوويّ" 9/ 147.
(4)
"النهاية" 2/ 68.
(5)
"المفهم" 3/ 490.
(6)
"شرح النوويّ" 9/ 147.
لأن تحريم مكة قديم، حرّمها اللَّه سبحانه وتعالى يوم خلق السماوات والأرض، فإسناد التحريم إلى إبراهيم عليه السلام مجاز، كما مرّ تحقيقه (فَجَعَلَهَا حَرَمًا، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ) قال التوربشتيّ: أراد بذلك تحريم التعظيم، دون ما عداه من الإحكام المتعلّقة بالحرم، ومن الدليل عليه قوله في هذا الحديث:"لا يُخبط شجرها إلَّا لعلف"، وأشجار حرم مكة لا يجوز خبطها بحال، وصيدها، وإن رأى تحريمه نفر يسير من الصحابة، فإن الجمهور منهم لم يُنكروا اصطياد الطيور بالمدينة، ولم يبلغنا فيه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهي من طريق يُعتمد عليه، وقد قال لأبي عُمير:"ما فَعَلَ النُّغير؟ "، ولو كان حرامًا لَمْ يسكت عنه في موضع الحاجة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله التوربشتيّ قد تقدّم لك أن الصحيح خلافه، وأن المدينة حرم يحرم صيدها، وقطع شجرها إلَّا ما استُثني في هذا الحديث، ومن الغريب قوله:"ولم يبلغنا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهي من طريق يُعتمد عليه"، فهل بعد ما تقدّم في "صحيح مسلم" من قوله صلى الله عليه وسلم:"إِنِّي أحرّم ما بين لابتي المدينة أن يُقطع عِضاهها، أو يُقتل صيدها" يريد أصحّ من هذا؟ أو نسيه، أو تغافل عنه، وهو مذكور في الكتاب الذي شرحه، وهو "مشكاة المصابيح"، إن هذا لشيء عجيب!!!.
وقوله: (حَرَامًا)؛ أي: حرّمتُ المدينة، فحَرُمت حرامًا، كما في قوله تعالى:{وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17)} [نوح: 17]، وقوله:(مَا بَيْنَ مَأْزِمَيْهَا) بدل من "المدينة"، ويَحْتَمِل أن يكون "حرامًا" مفعولًا لفعل محذوف؛ أي: جعلت حرامًا ما بين مأزميها، فـ "ما بين مأزميها" مفعول ثان، و"المأزم" بهمزة بعد الميم، وبكسر الزاي، هو الجبل، وقيل: المضيق بين الجبلين ونحوه، والأول هو الصواب هنا، ومعناه: ما بين الجبلين، كما سبق في حديث أنس رضي الله عنه وغيره، قاله النوويّ
(2)
.
وقوله: (أَنْ لَا يُهْرَاقَ فِيهَا دَمٌ) قال الطيبيّ رحمه الله: وقع موقع التفسير لِما
(1)
راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 2055.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 147.
حرّم، كأنه قال: وذلك أن لا يُهراق فيها دم، وليس من المفعوليّة في شيء، ولو كان مفعولًا به لقيل: إني حرّمت أن يهراق بها دم، والمراد من النهي عن إراقة الدم هو النهي عن القتال فيها، وذلك أن إراقة الدم الحرام ممنوع عنها على الإطلاق، والمباح منه لَمْ نجد فيه اختلافًا يُعتدّ به إلَّا في حرم مكة. انتهى
(1)
.
(وَلَا يُحْمَلَ) بالبناء للمفعول (فِيهَا سِلَاحٌ لِقِتَالٍ، وَلَا تُخْبَطَ فِيهَا شَجَرَةٌ) ببناء الفعل للمفعول أيضًا، وبابه ضرب، والخبط هو ضرب الشجر بالعصا ليتناثر ورقها، واسم الورق الساقط: خَبَطٌ بالتحريك، فَعَلٌ بمعنى مفعول.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "لا يُحمل فيها سلاح، ولا يُخبط فيها شجرة) هذا كله يقضي التسوية بين حرم المدينة وحرم مكة، وهو ردٌّ على أبي حنيفة، على ما تقدّم. انتهى.
(إِلَّا لِعَلْفٍ) بإسكان اللام، وهو مصدر عَلَفْتُ عَلْفًا، من باب ضرب، وأما العلَفُ بفتح اللام، فاسم الحشيش، والتبن، والشعير، ونحوها، وفيه جواز أخذ أوراق الشجر للعلف، وهو المراد هنا، بخلاف خبط الأغصان، وقطعها، فإنه حرام
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إلَّا لعلْف" لم يُذكر هذا الاستثناء في شجر مكة، وهو جارٍ فيها، ولا قرن بينهما، وكذلك ذكر في مكة:"إلَّا الإذخر"، ولم يذكره في المدينة، وهو أيضًا جارٍ فيها؛ إذ لا فرق بين الحرمين.
والحاصل من الاستثناءين: أن ما دَعَت الحاجة إليه من العلف، والانتفاع بالحشيش جاز تناوله على وجه الْهَشّ، والرفق من غير عُنف، ولا كسر غصن، وهو حجة على من منع شيئًا من ذلك. انتهى
(3)
.
(اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، اللَّهُمَّ اجْعَلْ مَعَ الْبَرَكَةِ بَرَكَتَيْنِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنَ الْمَدِينَةِ شِعْبٌ) بكسر الشين المعجمة، وسكون العين المهملة: هو
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 2055.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 147 - 148.
(3)
"المفهم" 3/ 491.
الطريق، وقيل: الطريق في الجبل، والجمع شِعابٌ بالكسر، قاله الفيّوميّ (وَلَا نَقْبٌ) بفتح النون، وسكون القاف: هو الطريق في الجبل، وعلى التفسير الثاني لـ "الشِّعْب" يكون عطف تفسير، وعلى الأول فالعطف مغاير.
وقال النوويّ: قال أهل اللغة: "الشِّعْب" بكسر الشين: هو الفُرْجة النافذة بين الجبلين، وقال ابن السِّكِّيت هو الطريق في الجبل، و"النَّقْبُ" بفتح النون على المشهور، وحَكَى القاضي ضمها أيضًا، وهو مثل الشِّعْب، وقيل: هو الطريق في الجبل، قال الأخفش: أنقاب المدينة: طُرُقها، وفِجَاجُها. انتهى
(1)
.
(إِلَّا عَلَيْهِ) وفي نسخة: "إلَّا وعليه"؛ أي: على ذلك الشعب، والنَّقْب (مَلَكَانِ يَحْرُسَانِهَا) بضمّ الراء، من باب نصر؛ أي: يحفظانها (حَتَّى تَقْدَمُوا) بفتح الدال، من باب تَعِبَ (إِلَيْهَا")؛ أي: إلى المدينة.
(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (لِلنَّاسِ: "ارْتَحِلُوا"، فَارْتَحَلْنَا، فَأَقْبَلْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَوَالَّذِي نَحْلِفُ بِهِ) أي: نقسم به، وهو اللَّه سبحانه وتعالى (أَوْ يُحْلَفُ بِهِ -الشَّكُّ مِنْ حَمَّادٍ-) هو ابن إسماعيل، شيخ المصنّف (مَا وَضَعْنَا رِحَالَنَا) بكسر الراء: جمع رَحْل، بفتح، فسكون، كسَهْمٍ، وسِهَامٍ، وهو كلِّ شيء يُعَدّ للرحيل، من وِعَاء للمتاع، ومَرْكَب للبعير، وحِلْسٍ، ورَسَن، ويُجمع أيضًا على أَرْحُل، كفلْسٍ وأَفْلُسٍ
(2)
. (حِينَ دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ، حَتَّى أَغَارَ عَلَيْنَا بَنُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَطَفَانَ، وَمَا يَهِيجُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ شَيْءٌ) قال النوويّ رحمه الله: معناه أن المدينة في حال غيبتهم، كانت مَحْمِيّةً، محروسةً، كما أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى إن بني عبد اللَّه بن غَطَفان أغاروا عليها حين قَدِمنا، ولم يكن قبل ذلك يَمنعهم من الإغارة عليها مانع ظاهر، ولا كان لهم عدوّ يَهِيجهم، ويشتغلون به، بل سبب منعهم قبل قدومنا حِراسة الملائكة، كما أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى.
قال القرطبيّ رحمه الله: وفي هذا ما يدلّ على أن حراسة الملائكة للمدينة إنما كان إذ ذاك في مدة غيبة النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه عنها، نيابة عنهم. انتهى
(3)
.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 148.
(2)
راجع: "المصباح" 1/ 222.
(3)
"المفهم" 3/ 491.
وقوله: (بَنُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَطَفَانَ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع في بعض النسخ عبد اللَّه، بفتح العين مكبّرًا، ووقع في أكثرها عُبيد اللَّه، بضم العين مصغرًا، والأول هو الصواب، بلا خلاف، بين أهل هذا الفنّ، قال القاضي عياض: حدّثنا به مكبرًا أبو محمد الْخُشَنيّ، عن الطبريّ، عن الفارسيّ "بنو عبد اللَّه" على الصواب، قال: ووقع عند شيوخنا في نسخ مسلم من طريق ابن ماهان، ومن طريق الْجُلُوديّ "بنو عبيد اللَّه" مصغرًا، وهو خطأ، قال: وكان يقال لهم في الجاهلية: بنو عبد الْعُزَّى، فسمّاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بني عبد اللَّه، فسمّتهم العرب بني مُحَوَّلة؛ لتحويل اسمهم، واللَّه أعلم. انتهى
(1)
.
وقوله: (وَمَا يَهِيجُهُمْ) قال أهل اللغة: يقال: هاج الشرّ، وهاجت الحربُ، وهاجها الناسُ؛ أي: تحركت، وحَرَّكوها، وهِجْتُ زيدًا: حَرّكته للأمر، كُلُّهُ ثلاثيّ. انتهى
(2)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [83/ 3337 و 3338 و 3339 و 3340 و 3341](1374)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 485)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 437)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 43)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل المدينة، وأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حرّمها، كما حرّم إبراهيم عليه السلام مكة.
2 -
(ومنها): شدّة محبته صلى الله عليه وسلم للمدينة، واشتياقها إليها إذا خرج منها، حتى يعود.
(1)
"إكمال المعلم" 4/ 495.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 148.
3 -
(ومنها): بيان فضلها، وحِراستها في زمنه صلى الله عليه وسلم، وكثرة الْحُرّاس، واستيعابهم الشعاب؛ زيادةً في الكرامة لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3338]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عَلِيُّ بْنِ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى الْمَهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، وَمُدِّنَا، وَاجْعَلْ مَعَ الْبَرَكَةِ بَرَكَتَيْنِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ) الْهُنَائيّ البصريّ، ثقةٌ، كان له عن يحيى بن أبي كثير كتابان، أحدهما سماع، والآخر إرسال، فحديث الكوفيين عنه فيه شيء، من كبار [7](ع) تقدم في "الإيمان" 79/ 417.
3 -
(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) اسم أبيه صالح بن المتوكّل، أبو نصر اليماميّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3339]
(. . .)(وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا شَيْبَانُ (ع) وَحَدَّثَنى إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا حَرْب، يَعْنِي ابْنَ شَدَّادٍ، كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى) بن أبي المختار باذام الْعَبْسيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(شَيْبَانُ) بن عبد الرحمن النحويّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الْكَوْسَج، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(عَبْدُ الصَّمَدِ) بن عبد الوارث بن سعيد الْعَنبريّ مولاهم، أبو سهل البصريّ، ثقةٌ [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.
6 -
(حَرْبُ بْنُ شَدَّادٍ) اليشكريّ، أبو الخطّاب البصريّ العطّار، ويقال: القطّان، ويقال: القصّاب، ثقةٌ [7].
رَوَى عن يحيى بن أبي كثير، وقتادة، والحسن، وحُصين بن عبد الرحمن، وشَهْر.
وروى عنه ابن مهديّ، وأبو داود الطيالسيّ، وعبد الصمد بن عبد الوارث، وجعفر بن سليمان، وعمرو بن مرزوق، وغيرهم.
قال عبد الصمد: ثنا حرب بن شداد، وكان ثقةً، وقال أحمد: ثبتٌ في كل المشايخ، وقال عمرو بن عليّ: كان يحيى لا يحدِّث عنه، وكان عبد الرحمن يحدِّث عنه، وقال ابن معين، وأبو حاتم: صالح، وذكره ابن حبان في "الثقات".
وقال أبو موسى محمد بن المثنّى: مات سنة (161).
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب تسعة أحاديث.
و"يحيى بن أبي كثير" تقدم قريبًا.
[تنبيه]: رواية شيبان، وحرب بن شدّاد كلاهما عن يحيى بن أبي كثير لَمْ أجد من ساقها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3340]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى الْمَهْرِيِّ؛ أَنَّهُ جَاءَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ لَيَالِي الْحَرَّةِ، فَاسْتَشَارَهُ فِي الْجَلَاءِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَشَكَا إِلَيْهِ أَسْعَارَهَا، وَكَثْرَةَ عِيَالِهِ، وَأَخْبَرَهُ أَنْ لَا صَبْرَ لَهُ عَلَى جَهْدِ الْمَدِينَةِ وَلَأْوَائِهَا، فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ لَا آمُرُكَ بِذَلِكَ، إِنِّي
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَصْبِرُ أَحَدٌ عَلَى لَأْوَائِهَا
(1)
فَيَمُوتَ، إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا، أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(لَيْثُ) بن سعد الإمام المصريّ المشهور، تقدّم قريبًا.
3 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ) كيسان المقبريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (لَيَالِي الْحَرَّةِ)؛ يعني الفتنة المشهورة التي نُهبت فيها المدينة سنة ثلاث وستّين.
قوله: "ليالي الحرة"؛ يعني به حَرّة المدينة، كان بها مقتلة عظيمة في أهل المدينة، كان سببها: أن ابن الزبير وأكثر أهل الحجاز كرهوا بيعة يزيد بن معاوية، فلما مات معاوية رضي الله عنه وجَّه يزيدُ مسلمَ بنَ عقبة المرّيّ في جيشٍ عظيم من أهل الشام، فنزل بالمدينة، فقاتل أهلها، فهزمهم، وقتلهم بحرَّة المدينة قتلًا ذريعًا، واستباح المدينة ثلاثة أيام، فسُمّيت وقعة الحرَّة بذلك، ثم إنه توجه بذلك الجيش يريد مكة، فمات مسلم بقُديد، وولي الجيش الحصين بن نمير، وسار إلى مكة، وحاصر ابن الزبير، وأُحرقت الكعبة، حتى انهدم جدارها، وسقط سقفها، فبينما هم كذلك، بلغهم موت يزيد فتفرقوا، وبقي ابن الزبير بمكة إلى زمان الحجاج، وقتله لابن الزبير، رضي اللَّه عن ابن الزبير وأبيه. انتهى
(2)
.
وقوله: (فِي الْجَلَاءِ مِنَ الْمَدِينَةِ)"الْجَلاءُ" -بفتح الجيم والمدّ-: الفرار من البلد إلى غيره، قاله النوويّ رحمه الله
(3)
.
وقال القرطبيّ: "الجلاء" بفتح الجيم، والمدّ: الانتقال من موضع إلى آخر، والجلاء -بكسر الجيم والمد-: هو جِلاء السيف والعروس، والجلى
(1)
وفي نسخة: "على جهد المدينة، ولأوائها".
(2)
"المفهم" 3/ 492.
(3)
"شرح النوويّ" 9/ 149.
-بفتح الجيم والقصر-: هو جلى الجبهة، وهو انحسار الشعر عنها، يقال منه: رجل أجلى وأجلح. انتهى
(1)
.
وقوله: (عَلَى لَأْوَائِهَا)؛ أي: على ضيق المعيشة فيه، وفي نسخة:"على جَهْد المدينة، ولأوائها".
وقوله: (إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا، أَوْ شَهِيدًا) قال بعضهم: "أو" للتقسيم، والمعنى: كنت شفيعًا لمن مات بها بعدي، وشهيدًا لمن مات بها في زماني، وإن جُعلت "أو" بمعنى الواو، كما ورد في بعض الروايات بالواو، فلا يحتاج إلى هذا التوجيه، فيكون إشارة إلى اختصاص أهل المدينة بالفضيلتين: الشهادة على رسوخ إيمانهم، والشفاعة ليُتجاوز عن عصيانهم. انتهى.
وقوله: (إِذَا كَانَ مُسْلِمًا) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يُقَيّد ما تقدَّم من مطلقات هذه الألفاظ، ويُنَبِّه على القاعدة المقرَّرة، من أن الكافر لا تناله شفاعة شافع؛ كما قال اللَّه تعالى مخبرًا عنهم:{فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)} [الشعراء: 100 - 101].
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى تمام البحث فيه قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3341]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، وَاللَّفْظُ لِأَبِي بَكْرٍ وَابْنِ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَن الْوَلِيدِ بْنِ كثِيرٍ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ؛ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِيهِ أَبِي سَعِيدٍ؛ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنِّي حَرَّمْتُ مَا بَيْنَ لَابَتَي الْمَدِينَةِ، كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ". قَالَ: ثُمَّ كَانَ أَبُو سَعِيدٍ يَأْخُذُ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَجِدُ أَحَدَنَا فِي يَدِهِ الطَّيْرُ، فَيَفُكُّهُ مِنْ يَدِهِ، ثُمَّ يُرْسِلُهُ).
(1)
"المفهم" 3/ 492 - 493.
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(أَبُو كُرَيْبٍ). محمد بن العلاء، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
3 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة، تقدّم قبل باب.
4 -
(الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ) المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، ثم الكوفيّ، صدوقٌ عارف بالمغازي، ورمي برأي الخوارج [6](ت 151)(ع) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.
5 -
(سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن أبي سعيد الخدريّ الأنصاريّ المدنيّ، مقبول [7].
روى عن أبيه، وعنه الوليد بن كثير، ومحمد بن إسحاق، وسهيل بن أبي صالح. ذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكر ابن سعد أن سعيدًا هذا لقبه رُبيح، والأرجح أنهما أخوان.
تفرّد به المصنّف، وليس له عنده في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث.
6 -
(عَبْدَ الرَّحْمَنُ) بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ الأنصاريّ الخزرجيّ، ثقةٌ [3](ت 122)(خت م 4) تقدم في "الحيض" 16/ 774.
والباقيان ذُكرا في الباب.
وقوله: (فِي يَدِهِ الطَّيْرُ) جملة اسميّة وقعت حالًا، نحو: كلّمته فُوه إلى فيّ.
والحديث من أفراد المصنّف، وقد سبق البحث فيه قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3342]
(1375) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَن الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ يُسَيْرِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، قَالَ: أَهْوَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: "إِنَّهَا حَرَمٌ آمِنٌ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(الشَّيْبَانِيُّ) سليمان بن أبي سليمان فَيْرُوز، أبو إسحاق الكوفيّ، ثقةٌ [5] مات في حدود (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 38/ 259.
3 -
(يُسَيْرُ بْنُ عَمْرٍو) أو ابن جابر الكوفيّ، وقيل: أصله أُسير، فقُلبت الهمزة، مختلف في نسبته، فقيل: كِنْديّ، وقيل غير ذلك، وله رؤية، ثقةٌ [2](ت 85)(خ م قد س) تقدم في "الزكاة" 47/ 2470.
4 -
(سَهْلُ بْنُ حُنَيْفِ) بن واهب الأنصاريّ الأوسيّ الصحابيّ البدريّ، استخلفه عليّ رضي الله عنهما على البصرة، ومات في خلافته (ع) تقدم في "الجنائز" 23/ 2225.
و"شيخه" ذُكر قبله.
شرح الحديث:
(عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ) أنه (قَالَ: أَهْوَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: أومأ، وأشار (بِيَدِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: "إِنَّهَا حَرَمٌ آمِنٌ) كما قال اللَّه تعالى لمكة: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ} الآية [العنكبوت: 67]، وأصل الأمن: طُمانينة الناس، وزوال الخوف.
قال النوويّ رحمه الله: فيه دلالة لمذهب الجمهور في تحريم صيد المدينة، وشجرها، وقد سبقت المسألة. انتهى
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سهل بن حُنيف رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [83/ 3342](1375)، و (أبو بكر بن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 406) وفي "مسنده"(1/ 66)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 486)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 402)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 150.
(4/ 44)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(6/ 92)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 197 - 198)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3343]
(1376) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، وَهِيَ وَبِيئَةٌ، فَاشْتَكَى أَبُو بَكْرٍ، وَاشْتَكَى بِلَالٌ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَكْوَى أَصْحَابِهِ، قَالَ: "اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ، كَمَا حَبَّبْتَ مَكَّةَ، أَوْ أَشَدَّ، وَصَحِّحْهَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا، وَحَوِّلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدَةُ) بن سليمان الكلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، يقال: اسمه عبد الرحمن، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [8](ت 187) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 339.
2 -
(هِشَامُ) بن عروة بن الزبير الأسديّ، أبو المنذر، أو أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ، ربّما دلّس [5](ت 5 أو 146) وله (87) سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.
3 -
(أَبُوه) عروة بن الزبير بن العوّام الأسديّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه مشهور [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.
4 -
(عَائِشَةُ) بنت الصدّيق رضي الله عنهما، أم المؤمنين، ماتت رضي الله عنها سنة (57) على الصحيح، تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.
و"شيخه" ذُكر قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من هشام، والباقيان كوفيّان.
4 -
(ومنها): أنه رواية الابن عن أبيه، عن خالته، وتابعيّ عن تابعيّ.
5 -
(ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: قَدِمْنَا) بكسر الدال (الْمَدِينَةَ) في الهجرة يوم الإثنين لثنتي عشرة خلت من ربيع الأول، في أحد الأقوال، قاله الزرقانيّ (وَهِيَ وَبِيئَةٌ) بفتح الواو، وكسر الموحّدة؛ أي: كثيرة الوباء، قال الفيّوميّ رحمه الله: الْوَبَاء بالهمز: مَرَضٌ عامٌّ، يُمَدّ ويُقْصَر، وُيجمَع الممدود على أَوْبِئة، مثلُ متاع وأَمْتِعَة، والمقصور على أَوْباء، مثلُ سبب وأسباب، وقد وَبِئت الأرضُ تَوْبَأُ، من باب تَعِبَ وَبْئًا، مثلُ فَلْس: كَثُر مرضها، فهي وَبِئَةٌ، ووَبِيئةٌ، على فَعِلَة وفَعِيلةٍ، ووُبِئت بالبناء للمفعول، فهي مَوْبُوءة؛ أي: ذات وَبَاء. انتهى
(1)
.
وفي رواية للبخاريّ: "قالت: وقدِمنا المدينة، وهي أوبأ أرض اللَّه"، بالهمز بوزن أفعل، من الوباء، قال الحافظ: الوباء أعمّ من الطاعون، وحقيقته مرضٌ عام ينشأ عن فساد الهواء، وقد يسمى طاعونًا بطريق المجاز، قال: وما كان وباء المدينة إلا حُمَّى كما هو مُبَيَّن في حديث عائشة رضي الله عنها، قال: وزاد محمد بن إسحاق في روايته، عن هشام بن عروة، قال هشام: وكان وباؤها معروفًا في الجاهلية، وكان الإنسان إذا دخلها وأراد أن يَسْلَم من وبائها قيل له: انْهَقْ، فَيَنْهَق كما ينهق الحمار، وفي ذلك يقول الشاعر [من الطويل]:
لَعَمْرِي لَئِنْ غَنَّيْتُ مِنْ خِيفَةِ الرَّدَى
…
نَهِيقَ حِمَارٍ إِنَّنِي لَمُرَوَّعُ
قال القاضي عياض رحمه الله: قدومه صلى الله عليه وسلم على الوباء، مع صحة نهيه عنه؛ لأن النهي إنما هو في الموت الذريع والطاعون، والذي بالمدينة إنما كان وخمًا يمرض بسببه كثير من الغرباء؛ يعني أن المنهيّ عنه إنما هو في القدوم على الوباء الذريع والطاعون، وما كان بالمدينة ليس كذلك، وإنما كان مجرد حُمَّى تَشْتَدّ وتطول مدتها بالنسبة إلى الغرباء، ولا يغلب الموت بسببها، قال: أو أن
(1)
"المصباح المنير" 2/ 646.
قدومه المدينة كان قبل النهي؛ لأن النهي كان في المدينة بعد استيطانها. انتهى
(1)
.
وقال الحافظ رحمه الله: لا يعارض قدومه على المدينة، وهي بهذه الصفة نهيه صلى الله عليه وسلم عن القدوم على الطاعون؛ لأن ذلك قبل النهي، أو أن النهي يختص بالطاعون ونحوه، من الموت الذريع، لا المرض ولو عمّ.
(فَاشْتَكَى أَبُو بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه (وَاشْتَكَى بِلَالٌ) المؤذّن رضي الله عنه، وفي رواية البخاريّ:"وُعِكَ أبو بكر وبلالٌ"، وهو: بضم الواو، وكسر العين، على صيغة المجهول؛ أي: أصابه الوَعْكُ، وهو الْحُمَّي، وقيل: هو مغث الْحُمّي، وهو ممارستها المحمومَ حتى تصرعه.
قال الحافظ: وفي حديث البراء عند البخاريّ في "الهجرة" أن عائشة رضي الله عنها أيضًا وُعِكت، وكان وصولها إلى المدينة مع آل أبي بكر، هاجر بهم أخوها عبد اللَّه، وخرج زيد بن حارثة، وأبو رافع ببنتي النبيّ صلى الله عليه وسلم فاطمة وأم كلثوم، وأسامة بن زيد، وأمه أم أيمن، وسودة بنت زمعة، وكانت رقية بنت النبيّ صلى الله عليه وسلم سبقت مع زوجها عثمان، وأُخِّرت زينب، وهي الكبرى عند زوجها أبي العاص بن الربيع.
قال الزرقانيّ: وعند النسائيّ، وابن إسحاق، عن هشام، عن أبيه، عنها: لما قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهي أوبأ أرض اللَّه، أصاب أصحابه منها بلاءٌ، وسَقَمٌ، وصرف اللَّه ذلك عن نبيّه صلى الله عليه وسلم، وأصابت أبا بكر، وبلالًا، وعامر بن فُهيرة، فاستأذنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في عيادتهم، وذلك قبل أن يُضْرَب علينا الحجاب، فأذِن لي، فدخلت عليهم، وهم في بيت واحد.
وعند البخاريّ: فجئت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأخبرته؛ أي: بما صدر عن أبي بكر رضي الله عنه حين قلت له: يا أبت كيف تجدك؟ وكان إذا أخذته الحمى يقول:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ
…
وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
وقد ساق البخاريّ الحديث مطوّلًا فقال: عن عائشة رضي الله عنها قالت:
(1)
راجع: "إكمال المعلم" 4/ 496.
لَمّا قَدِم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة، وُعِك أبو بكر، وبلال، فكان أبو بكر إذا أخذته الْحُمّى يقول [من الرجز]:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ
…
وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
وكان بلال إذا أُقْلِع عنه الحمى يرفع عَقِيرته، يقول [من الطويل]:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً
…
بِوَادٍ وَحَوْلِي إَذْخِرٌ وَجَلِيلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجِنَّةٍ
…
وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ
وقال: اللهم الْعَنْ شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خَلَف، كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء، ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"اللهم حبب إلينا المدينة، كحبنا مكة، أو أشدّ، اللهم بارك لنا في صاعنا، وفي مدنا، وصححها لنا، وانقُلْ حُمّاها إلى الجحفة"، قالت: وقَدِمنا المدينةَ، وهي أوبأ أرض اللَّه، قالت: فكان بُطحانُ يجري نَجْلًا، تعني ماءً آجِنًا.
وفي رواية له في "المناقب": قالت: لَمّا قَدِمَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة وُعِك أبو بكر، وبلالٌ، قالت: فدخلت عليهما، فقلت: يا أبت كيف تجد؟ ويا بلال كيف تجدك؟ وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول. . . الحديث.
قال ابن عبد البرّ رحمه الله: إِذْخِرٌ، وجَلِيلٌ نبتان من الكلأ طيب الرائحة، يكونان بمكة، وأوديتها، لا يكادان يوجدان في غيرها، وقيل: الجليل: نبت ضعيف صفراء يُحشى بها خُصاص البيوت وغيرها.
و"مَجِنّة" بفتح الميم، وكسر الجيم، وتشديد النون: موضع بأعلى مكة على أميال، كان يقام للعرب بها سوق، وبعضهم يكسر ميمها، والفتح أكثر، وهي زائدة.
و"شامةٌ، وطَفِيلٌ" جبلان على نحو ثلاثين ميلًا من مكة في جهة اليمن، وقيل: جبلان مُشْرِفان على مَجِنّة، على بريدين من مكة، وقيل: عينان عندها، قال الزرقانيّ: وجُمع باحتمال أن المعينين بقرب الجبلين، أو فيهما.
وحاصل ما قال بلال: "أنه كان يذكر مكة، وصحة هوائها، وعذوبة مائها، ولطافة جبالها، ونباتها، ونفحة رياح نباتها الذي بمنزلة بناتها وأبنائها".
وعند ابن إسحاق: فذكرت ذلك، فقلت: يا رسول اللَّه إنهم ليهذون، وما يعقلون، من شدة الحمى.
(فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَكْوَى أَصْحَابِهِ) رضي الله عنهم (قَالَ: لا اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا) بصيغة الأمر من التحبيب (الْمَدِينَةَ) منصوب على المفعوليّة (كَمَا حَبَّبْتَ) إلينا (مَكَّة) وفي رواية البخاريّ: "كحبّنا مكة"(أَوْ أَشَدَّ) أي: من حب مكة، قال الزرقانيّ رحمه الله: فاستجاب اللَّه دعاءه، فكانت أحبّ إليه من مكة، كما جزم به بعضهم، وكان يُحَرِّك دابته إذا رأى المدينة من حبها. انتهى.
وقال القاري رحمه الله: "أو أشد"؛ أي: بل أكثر وأعظم، يعني أن "أو" هنا بمعنى "بل"، ويؤيده أنه في رواية:"وأشد" بالواو، قال: ولا ينافي هذا ما سبق أنه صلى الله عليه وسلم قال لمكة: "إنكّ أحب البلاد إليّ، وإنكِ أحب أرض اللَّه إلى اللَّه"، وفي رواية:"لقد عرفت أنك أحب البلاد إلى اللَّه، وأكرمها على اللَّه"، فإن المراد به المبالغة، أو لأنه لَمَّا أوجب اللَّه على المهاجرين مجاورة المدينة، وترك التوطن والسكون بمكة، طلب من اللَّه أن يزيد محبة المدينة في قلوب أصحابه رضي الله عنهم؛ لئلا يميلوا بأدنى الميل غَرَضًا به؛ إذ المراد بالمحبة الزائدة الملاءمة لملاذّ النفس، ونفي مشاقّها، لا المحبة المرتبة على كثرة المثوبة، فالحيثية مختلفة، ويؤيد ما قرّرناه قوله:(وَصَحِّحْهَا)؛ أي: المدينة من الوباء، قال القاري: أي: اجعل هواءها، وماءها صحيحًا (وَبَارِكْ لنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَما) تقدّم الكلام على هذا، قال الزرقانيّ: فاستجاب اللَّه تعالى دعاءه، فطيَّب هواءها، وترابها، ومساكنها، والعيش بها.
وقال ابن بطال وغيره: من أقام بها يَجِد من ترابها وحيطانها رائحة طيبةً، لا تكاد توجد في غيرها، قال بعضهم: وقد تكرر دعاؤه بتحبيبها والبركة في ثمارها، والظاهر أن الإجابة حصلت بالأول، والتكرير لطلب المزيد.
(وَحَوِّلْ) وفي رواية البخاريّ: "وانقل"(حُمَّاهَا) أي: وبائها، وشدّتها، وكثرتها (إِلَى الْجُحْفَةِ) -بضم الجيم، وسكون الحاء-: أحد المواقيت المشهورة، وقد تقدم ذكرها في حديث المواقيت.
قال الخطابيّ وغيره: كان ساكنو الجحفة في ذلك الوقت اليهود، وهم أعداء الإسلام والمسلمين، ولذا توجه دعاؤه صلى الله عليه وسلم عليهم.
وقال عياض: فيه معجزة له صلى الله عليه وسلم، فإن الجحفة من يومئذ وَبِيئة وَخْمَةٌ، لا يشرب أحدٌ من مائها إلَّا حُمّ؛ أي: من الغرباء الداخلين عليها.
قال السمهوديّ: والموجود الآن من الحمى بالمدينة ليس حمى الوباء، بل رحمة ربنا، ودعوة نبينا صلى الله عليه وسلم للتكفير، قال: وفي الحديث: "أصح المدينة ما بين حَرّة بني قريظة والعريض"، وهو يؤذن ببقاء شيء منها بها، وأن الذي نُقِل عنها أصلًا ورأسًا سلطانها، وشدتها، ووباؤها، وكثرتها بحيث لا يُعَدّ الباقي بالنسبة إليه شيئًا.
قال: ويَحْتَمِل أنها رُفعت بالكلية، ثم أعيدت خفيفةً؛ لئلا يفوت ثوابها، كما أشار إليه الحافظ، ويدل له ما روى أحمد بإسناد صحيح، وأبو يعلى، وابن حبان في "صحيحه"، والطبرانيّ عن جابر:
استأذنت الحمى على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:"من هذه؟ " قالت: أُمُّ مِلْدَم، قال: فأمر بها إلى أهل قباء، فلَقُوا ما لا يعلم إلا اللَّه، فأتوه، فَشَكَوا ذلك إليه، فقال:"ما شئتم؟ إن شئتم دعوت اللَّه ليكشفها عنكم، وإن شئتم تكون لكم طهورًا"، قالوا: أوَ تفعل؟ قال: "نعم"، قالوا: فدعها. انتهى.
قال الحافظ: وقد استَشْكَل بعض الناس الدعاء برفع الوباء؛ لأنه يتضمن الدعاء برفع الموت، والموت حتم مَقْضِيّ، فيكون ذلك عَبَثًا.
وأجيب بأن ذلك لا ينافي التعبد بالدعاء؛ لأنه قد يكون من جملة الأسباب في طول العمر، أو رفع المرض، وقد تواترت الأحاديث بالاستعاذة من الجنون، والجذام، وسيئ الأسقام، ومنكرات الأخلاق، والأهواء، والأدواء، فمن ينكر التداوي بالدعاء يلزمه أن ينكر التداوي بالعقاقير، ولم يقل بذلك إلا شذوذ، والأحاديث الصحيحة تردّ عليهم، وفي الالتجاء إلى الدعاء مزيد فائدة، ليست في التداوي بغيره؛ لما فيه من الخضوع والتذلل للربّ سبحانه وتعالى، بل منع الدعاء من جنس ترك الأعمال الصالحة؛ اتكالا على ما قُدِّر، فيلزم ترك العمل جملةً، وردّ البلاء بالدعاء، كردّ السهم بالتُّرْس، وليس من شرط الإيمان بالقدر أن لا يتترس من رمي السهم، واللَّه أعلم. انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [83/ 3343 و 3344](1376)، و (البخاريّ) في "فضائل المدينة"(1889) و"مناقب الأنصار"(3926) و"المرضى"(5654) و (5677) و"الدعوات"(6372)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 484 و 4/ 354 و 361)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 890)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 56 و 82 و 260)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3724)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 45)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 78)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 382)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2013)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده
(1)
:
1 -
(منها): بيان فضائل المدينة، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا ربه أن يحبّبها إلى المسلمين أكثر من حبهم لمكة، فاستجاب اللَّه له.
2 -
(ومنها): بيان جواز الدعاء على الكفار بالأمراض، والهلاك، وللمسلمين بالصحة، وطيب بلادهم، والبركة فيها، وكشف الضرّ، والشدائد عنهم.
3 -
(ومنها): إظهار معجزة عجيبة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث نقل اللَّه تعالى الحمى من المدينة إلى الجحفة، ولا تزال من يومئذ وَبِيئة لا يشرب أحدٌ من مائها إلَّا حُمّ، ولا يمر بها طائر إلَّا حُمّ وسقط.
4 -
(ومنها): بيان ما هو متعارّفٌ حتى الآن، من تنكُّر البلدان على من لم يعرف هواها، ولم يغذَّ بمائها.
5 -
(ومنها): أن فيه عيادة الجِلّة السادة لإخوانهم، ومُواليهم الصالحين.
6 -
(ومنها): مشروعيّة عيادة النساء الرجال الأجانب، حيث عادت عائشة "بلالًا".
7 -
(ومنها): مشروعيّة سؤال العليل عن حاله بكيف تجدك؟ وكيف أنت؟ ونحو ذلك.
(1)
أي: فوائد حديث عائشة رضي الله عنها برواياته المختلفة التي ذكرتها في الشرح، لا خصوص سياق المصنّف، فتنبّه.
8 -
(ومنها): فيه أن إشارة المريض إلى ذكر ما يجد ليس بشكوى، وإذا جاز استخبار العليل، جاز إخباره عما به، ومن رَضِي فله الأجر والرضى، ومن سَخِط فله السخط والبلوى.
9 -
(ومنها): ما قال الإمام ابن عبد البرّ رحمه الله: فيه جواز إنشاد الشعر، والتمثل به، واستماعه، وإذا كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يسمعه، وأبو بكر ينشده، فهل للتقليد والاقتداء موضع أرفع من هذا؟ وما استنشده رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأُنشد بين يديه أكثر من أن يحصي، ولا يُنكِر الشعرَ الحسنَ أحدٌ من أولي العلم، ولا من أولي النُّهَي، وليس أحد من كبار الصحابة، وأهل العلم، وموضع القدوة إلَّا وقد قال الشعر، وتمثّل به، أو سمعه فرضيه، وذلك ما كان حكمه مباحًا من القول، ولم يكن فيه فحشٌ، ولا خَنًى، ولا لمسلمٍ أَذًى، فإن كان ذلك فهو والمنثور من الكلام سواء، لا يحل سماعه، ولا قوله. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3344]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: عبد اللَّه بن نُمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم في الباب الماضي.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: رواية أبي أسامة، عن هشام بن عروة، لم أجد من ساقها، فليُنظر.
وأما رواية عبد اللَّه بن نُمير، عن هشام، فقد ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" (6/ 56) فقال:
(1)
"التمهيد" 22/ 194.
(24333)
- حدّثنا عبد اللَّه
(1)
، حدّثني أبي، ثنا ابن نمير، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قَدِم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة، وهي أوبأ أرض اللَّه فاشتكى أبو بكر، قالت: فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اللهم حبب إلينا المدينة، كحبنا مكة، أو أشدّ، وصححها، وبارك لنا في مدّها، وصاعها، وانقُلْ حُمَّاها، فاجعلها في الجحفة". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[345]
(1377) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَن ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ صَبَرَ عَلَى لَأْوَائِهَا، كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا، أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ) بن فارس العبديّ البصريّ، بخاريّ الأصل، ثقةٌ [9](ت 209)(ع) تقدم في "الإيمان" 79/ 417.
2 -
(عِيسَى بْنُ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ) بن عمر بن الخطّاب العدويّ، أبو أيوب المدنيّ، لقبه رَبَاح، ويقال له: عيسى بن حفص الأنصاريّ؛ لأن أمه كانت أنصاريّةً، ثقةٌ [6](157)(خ م د س ق) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 1/ 1579.
3 -
(نَافِعٌ) مولى ابن عمر، تقدّم قريبًا.
4 -
(ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قريبًا.
وشيخ المصنّف ذُكر في الباب، وشرح الحديث، ومسائله تأتي في الحديث التالي، وإنما أخّرتها إليه؛ لكونه أتمّ مما هنا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
هو ولد الإمام أحمد.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3346]
(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ قَطَنِ بْنِ وَهْبِ بْنِ عُويمِرِ بْنِ الْأَجْدَعِ، عَنْ يُحَنَّسَ مَوْلَى الزُّبَيْرِ، أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي الْفِتْنَةِ، فَأَتَتْهُ مَوْلَاة لَهُ تُسَلِّمُ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ: إِنِّي أَرَدْتُ الْخُرُوجَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، اشْتَدَّ عَلَيْنَا الزَّمَانُ، فَقَالَ لَهَا عَبْدُ اللَّهِ: اقْعُدِي لَكَاعٍ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ، إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَهِيدًا، أَوْ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قَطَنُ بْنُ وَهْبِ بْنِ عُوَيْمِرِ بْنِ الْأَجْدَعِ) الليثيّ، أو الْخُزاعيّ، أبو الحسن المدنيّ، صدوقٌ [6].
رَوَى عن عمه، ويُحَنَّس مولى آل الزبير، وعُبيد بن عُمير الليثيّ، وغيرهم.
وروى عنه مالك بن أنس، وعبيد اللَّه بن عمر العمريّ، وعبد الأعلى بن أبي فَرْوة، وعمر بن صهبان، والضحاك بن عثمان الحزاميّ، والوليد بن كثير المدنيّ، وآخرون.
قال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال النسائيّ: ليس به بأسٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
تفرّد به المصنّف، والنسائيّ، وليس له عندهما إلا هذا الحديث، وأعاده هنا بعده.
2 -
(يُحَنَّسُ مَوْلَى الزُّبَيْرِ) هو: يُحَنَّس -بضمّ أوله، وفتح الحاء المهملة، وتشديد النون المكسورة، ويجوز فتحها، آخره سين مهملة- ابن أبي موسى، ويقال: ابن عبد اللَّه، أبو موسى المدنيّ الأسديّ، مولى مصعب بن الزبير، ثقةٌ مُقرئ [3].
رَوَى عن عمر بن الخطاب، والزبير بن العوّام، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وعائشة، وابن عمر، وأنس.
وروى عنه يحيى بن سعيد الأنصاريّ، وقَطَن بن وهب، ومحمد بن إبراهيم التيميّ، ووهب ابن كيسان.
قال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
تفرد به المصنّف، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1377) وأعاده بعده، وحديث (2259):"لأن يمتلئ جوف رجل قيحًا خير له من أن يمتلئ شِعْرًا".
والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي.
شرح الحديث:
(عَنْ يُحَنَّسَ) -بضم المثناة تحتُ، وفتح الحاء المهملة، وكسر النون وفتحها، وجهان مشهوران، والسين مهملة، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "يُحنِّس" بضمّ الياء، وكسر النون، وتشديدها، رويناه، وهو المشهور، وقد ضُبط عن أبي بحر:"يُحنَّس" بفتح النون. انتهى
(2)
.
(مَوْلَى الزُّبَيْرِ) وفي الرواية التالية: "يُحَنِّس مولى مصعب بن الزبير"، قال النوويّ رحمه الله: هو لأحدهما حقيقةً، وللآخر مجازًا. انتهى.
(أَخْبَرَهُ)؛ أي: أخبر قَطَنَ بن وهب (أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما (فِي الْفِتْنَةِ) الظاهر أنه أراد فتنة الحرّة التي وقعت في زمن يزيد بن معاوية، وقد تقدّم بيانها قريبًا (فَأَتَتهُ مَوْلَاةٌ لَهُ) لم أر من ذكر اسمها (تُسَلِّمُ عَلَيْهِ)؛ أي: تسليم التوديع، حتى تخرج من المدينة (فَقَالَتْ: إِنِّي أَرَدْتُ الْخُرُوجَ)؛ أي: من المدينة إلى غيرها (يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هو كنية عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما، وقولها:(اشْتَدَّ عَلَيْنَا الزَّمَانُ) بيان لسبب خروجها من المدينة، واعتذار لذلك، تعني أنه اشتدّ علينا القحط في هذا الزمان بسبب الفتنة، فأردت الخروج من المدينة (فَقَالَ لَهَا عَبْدُ اللَّهِ) بن عمر رضي الله عنهما (اقْعُدِي لَكَاعِ) بحذف حرف النداء؛ أي: يا لكاع، قال الحريريّ في "ملحة الإعراب":
وَحَذْفُ "يَا" يَجُوزُ فِي النِّدَاءَ
…
كَقَوْلِهِمْ "رَبِّ اسْتَجِبْ دُعَائِي"
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 151.
(2)
"المفهم" 3/ 494.
قال النوويّ رحمه الله: "لَكَاع" -بفتح اللام، وأما العين فمبنية على الكسر- قال أهل اللغة: يقال: امرأة لَكَاعِ، ورجل لُكَعُ -بضم اللام، وفتح الكاف- ويطلق ذلك على اللئيم، وعلى العبد، وعلى الغبيّ الذي لا يهتدي لكلام غيره، وعلى الصغير. انتهى
(1)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله: "اللُّكَعُ" عند العرب: العبد، ثم استُعمل في الْحُمْق والذّمّ، يقال للرجل: لُكَع، وللمرأة: لَكَاعِ، وقد لَكِعَ الرجل يَلْكَع -من باب تَعِبَ- لَكْعًا، ولَكَاعَةً: لَؤُمَ، وهو ألكع، وأكثر ما يقع في النداء، وهو اللئيم، وقيل: الْوَسِخُ، وقد يُطلق على الصغير، ومنه الحديث أنه صلى الله عليه وسلم جاء يطلب الحسن بن عليّ، فقال: "أَثَمَّ لُكَعُ
(2)
"، فإن أُطلق على الكبير أريد به الصغير العلم والعقل. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: لا يُستعمل لَكَاع، ولُكَعُ إلا في النداء، يقال: للذكر: يا لُكَعُ، وللأنثى: يا لَكَاعِ، وربّما جاء في الشعر في غير النداء للضرورة، كقوله:
أُطَوِّفُ مَا أُطَوِّفُ ثُمَّ آوِي
…
إِلَى بَيْتٍ قَعِيدَتُهُ لَكَاعِ
وإلى قاعدة الأسماء الملازمة للنداء أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" بقوله:
وَفُلُ بَعْضُ مَا يَخْتَصُّ بِالنِّدَا
…
لُؤمَانُ نَوْمَانُ كَذَا وَاطَّرَدَا
فِي سَبِّ الانْثَى وَزْنُ يَا خَبَاثِ
…
وَالأَمْرُ هَكَذَا مِنَ الثُّلَاثِي
وَشَاعَ فِي سَبِّ الذُّكُورِ فُعَلُ
…
وَلَا تَقِسْ وَجُرَّ فِي الشِّعْرِ فُلُ
وإنما قال ابن عمر رضي الله عنهما لها هذا؛ تبسّطًا مع مولاته، وإنكارًا عليها إرادة الخروج من المدينة؛ لأنه لا ينبغي الخروج منها؛ لأجل الشدّة والمشقّة.
وقال النوويّ رحمه الله: وخاطبها ابن عمر رضي الله عنهما بهذا إنكارًا عليها؛ لإدلاله عليها؛ لكونها ممن ينتمي إليه، ويتعلق به، وحَثِّها على سكنى المدينة؛ لما فيه من الفضل. انتهى.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 151.
(2)
أخرجه الشيخان.
(3)
"النهاية" 4/ 268 بزيادة من "القاموس" 3/ 82.
ثم بيّن ابن عمر رضي الله عنهما سبب نهيها بقوله: (فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَصْبِرُ) بكسر الباء، من باب ضرب (عَلَى لَأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ) قال ابن عبد البرّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "على لأوائها، وشدّتها" يعني المدينة، والشدّة: الجوع، واللأواء تعذُّر المكسب، وسوء الحال. انتهى
(1)
.
وقال المازريّ رحمه الله: اللأواء: الجوع، وشدّة المكسب، وضمير "شدّتها" يَحْتَمِل أن يعود على اللأواء، ويَحْتَمِل أن يعود على المدينة، قال الأبيّ رحمه الله: الحديث خرج مخرج الحثّ على سكناها، فمن لزم سكناها داخل في ذلك، ولو لم تلحقه لأواء؛ لأن التعليل بالغالب والمظنة لا يضرّ فيه التخلف في بعض الصور؛ كتعليل القصر بمشقة السفر، فإن الملك يقصر، وإن لم تلحقه مشقة؛ لوجود السفر. انتهى
(2)
.
(إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَهِيدًا، أَوْ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ") قد تقدّم عن القاضي عياض رحمه الله أن الأظهر في "أو" هذه أنها ليست للشكّ، وإنما هي للتقسيم، فيكون شهيدًا لبعض أهل المدينة، وشفيعًا لباقيهم، إما شفيعًا للعاصين، وشهيدًا للمطيعين، وإما شهيدًا من مات في حياته، وشفيعًا من مات بعده، أو غير ذلك، وهذه خصوصية زائدة على الشفاعة للمذنبين، أو للعاصين في القيامة، وعلى شهادته على جميع الأمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في شهداء أُحُد:"أنا شهيد على هؤلاء"، فيكون لتخصيصهم بهذا كله مزية، وزيادة منزلة وحَظْوَةٍ، قال: وقد تكون "أو" بمعنى الواو، فيكون لأهل المدينة شفيعًا وشهيدًا. انتهى، وقد سبق تمام البحث فيه في "شرح حديث سعد بن أبي وقّاص" الماضي في الباب الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
"التمهيد" لابن عبد البرّ 21/ 23.
(2)
"شرح الزرقانيّ" 4/ 273.
أخرجه (المصنّف) هنا [83/ 3345 و 3346 و 13347](1377)، و (الترمذيّ) في (3918)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 487)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 155)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 45)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(12/ 347)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 167)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(7/ 124)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل المدينة، وفضل سكناها.
2 -
(ومنها): بيان فضل الصبر على لأوائها، وشدّتها.
3 -
(ومنها): بيان فضل النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ما حصل للمدينة من الفضل إلا بسببه صلى الله عليه وسلم.
4 -
(ومنها): ما قال العلماء: وفي هذه الأحاديث المذكورة في الباب، مع ما سبق، وما بعدها، دلالات ظاهرة على فضل سكنى المدينة، والصبر على شدائدها، وضيق العيش فيها، وأن هذا الفضل باقٍ مستمرٌّ إلى يوم القيامة.
وقد اختلف العلماء في المجاورة بمكة والمدينة، فقال أبو حنيفة، وطائفة: تُكره المجاورة بمكة، وقال أحمد بن حنبل، وطائفة: لا تكره المجاورة بمكة، بل تستحبّ، وإنما كرهها من كرهها لأمور: منها: خوف الملل، وقلة الحرمة للأُنس، وخوف ملابسة الذنوب، فإن الذنب فيها، أقبح منه في غيرها، كما أن الحسنة فيها أعظم منها في غيرها.
واحتَجّ من استحبها بما يحصل فيها من الطاعات التي لا تحصل بغيرها، وتضعيف الصلوات والحسنات وغير ذلك.
قال النوويّ رحمه الله: والمختار أن المجاورة بهما جميعًا مستحبة، إلا أن يغلب على ظنه الوقوع في المحذورات المذكورة وغيرها، وقد جاورتهما خلائق لا يُحصون، من سلف الأمة وخلفها، ممن يُقتدى به، وينبغي للمجاور الاحتراز من المحذورات، وأسبابها، واللَّه أعلم. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله النوويّ رحمه الله من استحباب مجاورة الحرمين مع مراعاة آدابهما؛ رغبةً فيما يحصل من الفضل، وتَضاعف
الحسنات هو الحقّ؛ لوضوح أدلّته، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3347]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، أَخْبَرَنَا الضَّحَّاكُ، عَنْ قَطَنٍ الْخُزَاعِيِّ، عَنْ يُحَنَّسَ مَوْلَى مُصْعَبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ صبَرَ عَلَى لَأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا، كُنْتُ لَهُ شَهِيدًا، أَوْ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، يَعْنِي الْمَدِينَةَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ) محمد بن إسماعيل بن مسلم المدنيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(الضَّحَّاكُ) بن عثمان بن عبد اللَّه الحزاميّ المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (يَعْنِي الْمَدِينَةَ) تفسير لضمير المؤنّث في قوله: "لأوائها، وشدّتها"، ويَحْتَمل أن يكون من المصنّف، أو ممن فوقه.
والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3348]
(1378) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، جَمِيعًا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَاءِ الْمَدِينَةِ وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي، إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ شَهِيدًا").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن يعقوب الْحُرَقيّ مولاهم، أبو شِبْل
المدنيّ، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [5] مات سنة بضع ومائتين (ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
2 -
(أَبُوهُ) عبد الرحمن بن يعقوب الْجُهنيّ الْحُرقيّ مولاهم، المدنيّ، ثقةٌ [3](ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
والباقون ذُكروا في الباب والباب الماضي، و"يحيى بن أيوب" هو: المقابري البغداديّ، و"ابن حُجر": هو عليّ، وشرح الحديث واضح، يُعلم مما سبق.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [83/ 3348 و 3349 و 3350](1378)، و (الترمذيّ) في "الفضائل"(3924)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1167)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 287 و 288 و 343 و 397)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 438)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 47)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 372)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3349]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي هَارُونَ مُوسَى بْنِ أَبِي عِيسَى؛ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْقَرَّاظَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى الْعدنيّ، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم قريبًا.
3 -
(أَبُو هَارُونَ مُوسَى بْنِ أَبِي عِيسَى) الْحَنّاط -بحاء مهملة، ونون مشدّدة- الغفاريّ المدنيّ، واسم أبيه ميسرة، ثقةٌ [6].
رَوَى عن دينار أبي عبد اللَّه القراظ، وعبد الوهاب بن بخت، وعون بن
عبد اللَّه بن عتبة، وقيس بن سعد المكيّ، وأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، وموسى بن أنس بن مالك، ونافع مولى ابن عمر، وأبي طيبة المدنيّ.
وروى عنه حفص بن ميسرة، والليث، وابن عيينة، وعبد العزيز بن عبد الصمد العَمّيّ، ويحيى القطان.
قال الدُّوريّ: سألت ابن معين عنه، فقال: هو مدنيّ، قلت: هو أخو عيسى الحنّاط، فقال: كذا أظنّه، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
روى له البخاريّ في التعاليق
(1)
، والمصنّف، وأبو داود، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1378)، والحديث الآتي بعد بابين برقم (1386):"من أراد أهل هذه البلدة بسوء. . . " الحديث.
4 -
(أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقَرَّاظُ) -بظاء معجمة- الْخُزَاعيّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ يُرسل [3].
رَوى عن معاذ بن جبل، وسعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة رضي الله عنهم.
وروى عنه عمرو بن يحيى بن عُمارة، ومحمد بن عمرو بن علقمة، وزيد بن أسلم، وعبد اللَّه بن عبد الرحمن بن يُحَنَّس، وأسامة بن زيد الليثيّ، وغيرهم.
قال أبو حاتم الرازيّ: روى عن سعد بن أبي وقاص، ولا ندري سمع منه أم لا؟ وذكره ابن حبان في "الثقات".
تفرّد به المصنّف، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا حديثان فقط، هذا برقم (1378)، والحديث الآتي بعد بابين برقم (1386):"من أراد أهل هذه البلدة بسوء. . . " الحديث كرّره ثلاث مرّات.
(1)
قال في "تهذيب التهذيب" 10/ 325: روايته عند البخاريّ في "كتاب الجنائز" عقب حديث سفيان، عن عمرو، عن جابر، في قصة موت عبد اللَّه بن أُبَيّ، قال سفيان: وقال أبو هارون، فذكر طَرَفًا من الحديث، فعند المزيّ أنه هذا، وعند غيره أبو هارون الْغَنَويّ إبراهيم بن العلاء، وعلى تقدير كونه هو موسى، فحديثه في البخاري موصول، لا معلَّقٌ. انتهى.
5 -
(أبُو هُرَيْرَة) رضي الله عنه، تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة، عن أبي هارون هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3350]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَصْبِرُ أَحَدٌ عَلَى لَأْوَاءِ المَدِينَةِ" بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يُوسُفُ بْنُ عِيسَى) الزهريّ، أبو يعقوب المروزيّ، ثقةٌ فاضلٌ [10].
رَوَى عن عمه يحيى، وحفص بن غياث، والفضل بن موسى، وأبي معاوية، ووكيع، وابن عيينة، وعبد اللَّه بن نُمير، وعلي بن عاصم، وابن فُضيل، وغيرهم.
وروى عنه البخاريّ، ومسلم، والترمذيّ، والنسائيّ، وأحمد بن سيار المروزيّ، وعبدة بن سليمان البصريّ، والحسن بن سفيان، وآخرون.
قال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الحاكم: هو جدّ شيخنا أبي الفضل الحسن بن يعقوب بن يوسف البخاريّ، وكان شيخنا أبو الفضل يذكر فضائل جدّه، وزهده، وورعه، وكثرة صدقاته، وإحسانه، وما خلَّف من أوقافه ببخارى، ونيسابور.
قال البخاريّ، والنسائيّ، وابن حبّان: مات سنة تسع وأربعين ومائتين. وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
2 -
(الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى) السِّينانيّ، أبو عبد اللَّه المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 192)(ع) تقدم في "الجنائز" 26/ 2236.
3 -
(صَالِحُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ) السمّان، أبو عبد الرحمن المدنيّ، أخو سُهيل، وعَبّاد، ثقة [5].
روى عن أبيه، وأنس بن مالك، وروى عنه هشام بن عروة، وابن أبي ذئب، وعبد اللَّه بن سعيد بن أبي هند، وغيرهم.
قال ابن معين: أبو صالح السمّان كان له ثلاثة بنين: سُهيل، وعباد، وصالح، وكلهم ثقةٌ، وقال الْبَرْقانيّ: قال الدارقطنيّ: له حديثان، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو بكر البزار: ثقةٌ.
تفرّد به المصنّف، والترمذيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، استغربه الترمذيّ، وحسّنه.
والباقون ذُكروا في الباب وفي الذي قبله.
[تنبيه]: رواية أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه هذه ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:
(3859)
- حدّثنا محمود بن غيلان، حدّثنا الفضل بن موسى، حدّثنا هشام بن عروة، عن صالح بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحدٌ، إلا كنت له شهيدًا، أو شفيعًا يوم القيامة".
قال أبو عيسى: هذا حديث حسنٌ غريبٌ من هذا الوجه، قال: وصالح بن أبي صالح أخو سُهيل بن أبي صالح. انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(84) - (بَابُ صِيَانَةِ الْمَدِينَةِ مِنْ دُخُولِ الطَّاعُونِ، وَالدَّجَّالِ إِلَيْهَا)
وبالسند المتّصل إِلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3351]
(1379) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلَائِكَةٌ، لَا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ، وَلَا الدَّجَّالُ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) الْمُجْمِر المدنيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الطهارة" 9/ 575.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (216) من رباعيّات الكتاب.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه أيضًا، فنيسابوريّ.
4 -
(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في عصره.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ") بفتح الهمزة، وسكون النون: جمع قلة لِنَقَب، بفتح النون والقاف، بعدها موحدة، ووقع في حديث أنس، وأبي سعيد عند البخاريّ:"على نقابها" بكسر النون: جمع نَقْب بالسكون، وهما بمعنى، قال ابن وهب: المراد بها مداخلها، وهي أبوابها، وفوهات طرقها التي يُدْخَل منها، كما جاء في الحديث الآخر:"على كل باب منها ملك"، وقيل: طرقها، وأصل النَّقْب: الطريق بين الجبلين، وقيل: الأنقاب الطُّرُق التي يسكنها الناس.
وقال ابن عبد البرّ رحمه الله
(1)
: وأما قوله: "أنقاب المدينة"، فإنه أراد طُرُقها، وفِجاجها، والواحد منها نَقَب، ومن ذلك قول اللَّه عز وجل:{فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ} ؛ أي: جعلوا فيها طُرُقًا، ومسالك، قال امرؤ القيس [من الوافر]:
وَقَدْ نَقَّبْتُ فِي الآفَاقِ حَتَّى
…
رَضِيتُ مِنَ السَّلَامَةِ
(2)
بِالإِيَابِ
(مَلَائِكَة) يَحرُسونها (لَا يَدْخُلُهَا) قال الطيبيّ رحمه الله: جملة مستأنفة، بيان لموجب استقرار الملائكة على الأنقاب (الطَّاعُونُ) قال في "الفتح" في "باب ما يذكر في الطاعون" من "كتاب الطب":"الطاعون" بوزن فاعُول، عَدَلُوا به عن
(1)
راجع: "التمهيد" 16/ 180.
(2)
هكذا في "لسان العرب" 1/ 769 بلفظ: "السلامة"، وهو الموافق للوزن، ووقع في "التمهيد" 16/ 180 بلفظ:"الغنية"، والظاهر أن الوزن لا يساعده، فتأمل.
أصله، ووضعوه دالّا على الموت العامّ كالوباء، ويقال: طُعِن فهو مطعون، وطَعِين: إذا أصابه الطاعون، وإذا أصابه الطَّعْن بالرمح، فهو مطعون، هذا كلام الجوهريّ.
وقال صاحب "النهاية": الطاعون: المرض العامّ الذي يَفْسُد له الهواء، وتَفْسُد به الأمزجة والأبدان.
وقال ابن العربيّ: الطاعون: الوجع الغالب الذي يُطفئ الروح، كالذبحة، وسُمِّي بذلك؛ لعموم مصابه، وسرعة قتله.
وقال الداوديّ: الطاعون: حبة تَخْرُج من الأرقاع، وفي كل طيّ من الجسد، والصحيح أنه الوباء.
وقال ابن عبد البرّ: الطاعون: غُدّة تخرج في المراقّ، والآباط، وقد تخرج في الأيدي، والأصابع، وحيث شاء اللَّه.
وقال النوويّ في "الروضة": قيل: الطاعون انصباب الدم إلى عضو، وقال آخرون: وهو هيجان الدم، وانتفاخه، قال المتولّي: وهو قريب من الجذام، من أصابه تآكلت أعضاؤه، وتساقط لحمه، وقال الغزاليّ: هو انتفاخ جميع البدن من الدم، مع الحمى، أو انصباب الدم إلى بعض الأطراف، فينتفخ، ويحمَرّ، وقد يذهب ذلك العضو، وقال النوويّ أيضًا في "تهذيبه": هو بَثْر، ووَرَم مؤلم جدًّا يخرج مع لهب، ويسودّ ما حواليه، أو يخضرّ، أو يحمرّ حمرة شديدة بنفسجية كَدِرةً، ويحصل معه خفقان، وقيء، ويخرج غالبًا في المراقّ والآباط، وقد يخرج في الأيدي والأصابع، وسائر الجسد.
وقال جماعة من الأطباء، منهم أبو علي بن سيناء: الطاعون مادة سُمّيّة تُحدِث وَرَمًا قتّالًا يحدث في المواضع الرخوة، والمغابن من البدن، وأغلب ما تكون تحت الإبط، أو خلف الأذن، أو عند الأرنبة، قال: وسببه دم رديء مائل إلى العفونة والفساد، يستحيل إلى جوهر سُمّيّ يُفسد العضو، ويغير ما يليه، ويؤدي إلى القلب كيفية رديئة، فيحدث القيء، والغثيان، والغشي، والخفقان، وهو لرداءته لا يقبل من الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع، وأردؤه ما يقع في الأعضاء الرئيسية، والأسود منه قلّ من يسلم منه، وأسلمه الأحمر، ثم الأصفر، والطواعين تكثر عند الوباء في البلاد الوبئة، ومن ثَمّ
أُطلق على الطاعون وباء، وبالعكس، وأما الوباء فهو فساد جوهر الهواء الذي هو مادة الروح ومدده.
ثم قال الحافظ: هذا ما بلغنا من كلام أهل اللغة، وأهل الفقه، والأطباء في تعريفه، والحاصل أن حقيقته وَرَمٌ ينشأ عن هيجان الدم، أو انصباب الدم إلى عضو فيفسده، وأن غير ذلك من الأمراض العامّة الناشئة عن فساد الهواء يسمى طاعونًا بطريق المجاز؛ لاشتراكهما في عموم المرض، أو كثرة الموت، والدليل على أن الطاعون غير الوباء حديث:"أن الطاعون لا يدخل المدينة"، وقد ورد في حديث عائشة رضي الله عنها: قدمنا المدينة وهي أوبأ أرض اللَّه، وفيه قول بلال رضي الله عنه:"أخرجونا إلى أرض الوباء"، وغير ذلك من الأحاديث الدالة على أن الوباء كان موجودًا بالمدينة، وفي حديث أبي الأسود:"قَدِمت المدينة في خلافة عمر، وهم يموتون موتًا ذريعًا". وقد سبق في حديث العرنيين في "الطهارة" أنهم استوخموا المدينة، وفي لفظ: أنهم قالوا: إنها أرض وَبِئة، فكل ذلك يدلّ على أن الوباء كان موجودًا بالمدينة، وقد صَرَّح في الحديث بأن الطاعون لا يدخلها، فدلّ على أن الوباء غير الطاعون، وأن من أطلق على كل وباء طاعونًا، فبطريق المجاز، قال أهل اللغة: الوباء هو المرض العامّ، يقال: أوبأت الأرض فهي مُوبئة، وَوَبَئت بالفتح فهي وبئة، وبالضم فهي موبوءة، والذي يفترق به الطاعون من الوباء: أصل الطاعون الذي لم يتعرض له الأطباء، ولا أكثر من تكلم في تعريف الطاعون، وهو كونه من طعن الجنّ، ولا يخالف ذلك ما قال الأطباء من كون الطاعون ينشأ عن هيجان الدم، أو انصبابه؛ لأنه يجوز أن يكون ذلك يحدث عن الطعنة الباطنة، فتحدث منها المادّة السُّمّية، ويهيج الدم بسببها، أو ينصبّ، وإنما لم يتعرض الأطباء لكونه من طعن الجنّ؛ لأنه أمر لا يدرك بالعقل، وإنما يُعرف من الشارع، فتكلموا في ذلك على ما اقتضته قواعدهم.
وقال الكلاباذيّ في "معاني الأخبار": يَحْتَمِل أن يكون الطاعون على قسمين: قسم يحصل من غلبة بعض الأخلاط، من دم، أو صفراء، محترقة، أو غير ذلك، وقسم يكون من وَخْز الجنّ كما تقع الجراحات من القروح التي
تخرج في البدن، من غلبة بعض الأخلاط، وإن لم يكن هناك طعن، وتقع الجراحات أيضًا من طعن الإنس. انتهى.
ومما يؤيد أن الطاعون يكون من طعن الجنّ وقوعه غالبًا في أعدل الفصول، وفي أصح البلاد هواء، وأطيبها ماءً، ولأنه لو كان بسبب فساد الهواء لدام في الأرض؛ لأن الهواء يفسد تارةً، ويصح أخرى، وهذا يذهب أحيانًا ويجيء أحيانًا على غير قياس، ولا تجربة، فربما جاء سنة على سنة، وربما أبطأ سنين، وبأنه لو كان كذلك لعمّ الناس والحيوان، والموجود بالمشاهدة أنه يصيب الكثير، ولا يصيب من هم بجانبهم، مما هو في مثل مزاجهم، ولو كان كذلك لعمّ جميع البدن، وهذا يختص بموضع من الجسد، ولا يتجاوزه، ولأن فساد الهواء يقتضي تغيّر الأخلاط، وكثرة الأسقام، وهذا في الغالب يقتل بلا مرض، فدل على أنه من طعن الجنّ كما ثبت في الأحاديث الواردة.
منها حديث أبي موسى رضي الله عنه رفعه: "فناء أمتي بالطعن والطاعون"، قيل: يا رسول اللَّه هذا الطعن قد عرفناه، فما الطاعون؟ قال:"وخز أعدائكم من الجنّ، وفي كلٍّ شهادةٌ"، أخرجه أحمد، من رواية زياد بن علاقة عن رجل، عن أبي موسى.
وفي رواية له عن زياد: حدّثني رجل من قومي قال: كنا على باب عثمان ننتظر الإذن، فسمعت أبا موسى، قال زياد: فلم أرض بقوله: فسألت سيد الحيّ، فقال: صدق. وأخرجه البزار والطبراني من وجهين آخرين عن زياد، فسمّيا المبهم يزيد بن الحارث، وسمّاه أحمد في رواية أخرى أسامة بن شريك، ولا معارضة بينه وبين من سمّاه يزيد بن الحارث؛ لأنه يُحْمَل على أن أسامة هو سيد الحيّ الذي أشار إليه في الرواية الأخرى، واستثبته فيما حدثه به الأول، وهو يزيد بن الحارث، ورجاله رجال "الصحيحين" إلا المبهم، وأسامة بن شريك صحابيّ مشهور، والذي سمّاه، وهو أبو بكر النهشليّ من رجال مسلم، فالحديث صحيح بهذا الاعتبار، وقد صححه ابن خزيمة، والحاكم، وأخرجاه، وأحمد، والطبراني من وجه آخر، عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعريّ، قال: سألت عنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:"هو وخز أعدائكم من الجنّ، وهو لكم شهادة"، ورجاله رجال الصحيح، إلا أبا بَلْج -بفتح
الموحدة، وسكون اللام، بعدها جيم- واسمه يحيى، وثقه ابن معين، والنسائيّ، وجماعة، وضعّفه جماعة بسبب التشيع، وذلك لا يقدح في قبول روايته عند الجمهور.
وللحديث طريق ثالثة، أخرجها الطبراني من رواية عبد اللَّه بن المختار، عن كريب بن الحارث بن أبي موسى، عن أبيه، عن جدّه، ورجاله رجال الصحيح، إلا كريبًا، وأباه، وكريب وثقه ابن حبان، وله حديث آخر في الطاعون، أخرجه أحمد، وصححه الحاكم من رواية عاصم الأحول، عن كريب بن الحارث، عن أبي بردة بن قيس، أخي أبي موسى الأشعريّ، رفعه:"اللهم اجعل فناء أمتي قتلًا في سبيلك بالطعن والطاعون".
قال العلماء: أراد صلى الله عليه وسلم أن يحصل لأمته أرفع أنواع الشهادة، وهو القتل في سبيل اللَّه بأيدي أعدائهم، إما من الإنس، وإما من الجن.
ولحديث أبي موسى شاهد من حديث عائشة، أخرجه أبو يعلى، من رواية ليث بن أبي سُليم، عن رجل، عن عطاء، عنها، وهذا سند ضعيف.
وآخر من حديث ابن عمر، سنده أضعف منه، والعمدة في هذا الباب على حديث أبي موسى، فإنه يحكم له بالصحة؛ لتعدد طرقه إليه.
وقوله: "وَخْز" -بفتح أوله، وسكون المعجمة، بعدها زاي- قال أهل اللغة: هو الطعن إذا كان غير نافذ، ووصف طعن الجن بأنه وخزٌ؛ لأنه يقع من الباطن إلى الظاهر، فيؤثر في الباطن أوّلًا، ثم يؤثر في الظاهر، وقد لا ينفذ، وهذا بخلاف طعن الإنس، فإنه يقع من الظاهر إلى الباطن، فيؤثر في الظاهر أوّلًا، ثم يؤثر في الباطن، وقد لا ينفذ.
[تنبيه]: يقع في الألسنة وهو في "النهاية" لابن الأثير بلفظ: "وخز إخوانكم من الجنّ"، قال الحافظ: ولم أره بلفظ: "إخوانكم" بعد التتبع الطويل البالغ في شيء من طرُق الحديث المسندة، لا في الكتب المشهورة، ولا الأجزاء المنثورة، وقد عزاه بعضهم لمسند أحمد، والطبرانيّ، وكتاب الطواعين لابن أبي الدنيا، ولا وجود لذلك في واحد منها. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
(1)
"الفتح" 13/ 130 - 134 "كتاب الطبّ" رقم (5728 - 5733).
وقال الزرقانيّ رحمه الله: فإن قيل: إذا كان الطعن من الجنّ، فكيف يقع في رمضان، والشياطين تُصَفّد فيه، وتسلسل؟
[أجيب]: باحتمال أنهم يطعنون قبل دخول رمضان، ولا يظهر التأثير إلا بعد دخوله، وقيل غير ذلك، ويمكن أن يقال: إن المصفَّد بعض الشياطين، كما وقع في بعض الروايات، وهم الْمَرَدة، لا كلهم، فإن تصفيد الشياطين لا يستلزم تصفيد الجانّ كلهم.
وقد استُشكِل عدم دخول الطاعون المدينة مع كون الطاعون شهادةً، وكيف قُرن بالدجال، ومُدحت المدينة بعدم دخولهما؟
قال الحافظ رحمه الله: والجواب أن كون الطاعون شهادةً ليس المراد بوصفه بذلك ذاته، وإنما المراد أن ذلك يترتب عليه، وينشأ عنه؛ لكونه سببه، فإذا استُحْضِر ما تقدم من أنه طعن الجنّ حَسُنَ مَدْحُ المدينة بعدم دخوله إياها، فإن فيه إشارة إلى أن كفار الجن وشياطينهم ممنوعون من دخول المدينة، ومن اتفق دخوله إليها لا يتمكن من طعن أحد منهم.
فإن قيل: طعن الجن لا يختص بكفارهم، بل قد يقع من مؤمنيهم.
قلنا: دخول كفار الإنس المدينة ممنوع، فماذا لم يسكن المدينة إلا من يُظهر الإسلام جرت عليه أحكام المسلمين، ولو لم يكن خالص الإسلام فحصل الأمن من وصول الجن إلى طعنهم بذلك، فلذلك لم يدخلها الطاعون أصلًا.
وقد أجاب القرطبيّ في "المفهم" عن ذلك، فقال: المعنى لا يدخلها من الطاعون مثل الذي وقع في غيرها كطاعون عَمَوَاس، والجارف، وهذا الذي قاله يقتضي تسليم أنه دخلها في الجملة، وليس كذلك، فقد جزم ابن قتيبة في "المعارف"، وتبعه جمعٌ جَمّ من آخرهم الشيخ محيي الدين النوويّ في "الأذكار" بأن الطاعون لم يدخل المدينة أصلًا، ولا مكة أيضًا، لكن نقل جماعة أنه دخل مكة في الطاعون العام الذي كان في سنة تسع وأربعين وسبعمائة، بخلاف المدينة، فلم يذكر أحد قط أنه وقع بها الطاعون أصلًا.
ولعل القرطبيّ بَنَى على أن الطاعون أعمّ من الوباء، أو أنه هو، وإنه الذي ينشأ عن فساد الهواء، فيقع به الموت الكثير، وقد مضى في "الجنائز" من
"صحيح البخاريّ" قول أبي الأسود: قَدِمت المدينة، وهم يموتون بها موتًا ذريعًا، فهذا وقع بالمدينة، وهو وباء بلا شك، ولكن الشأن في تسميته طاعونًا.
والحقّ أن المراد بالطاعون في هذا الحديث المنفي دخوله المدينة الذي ينشأ عن طعن الجنّ، فيهيج بذلك الطعن الدم في البدن، فيَقتل، فهذا لم يدخل المدينة قط، فلم يتضح جواب القرطبيّ.
وأجاب غيره بأن سبب الترجمة لم ينحصر في الطاعون وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ولكن عافيتك أوسع لي"، فكان منع دخول الطاعون المدينة من خصائص المدينة، ولوازم دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم لها بالصحة.
وقال آخر: هذا من المعجزات المحمدية؛ لأن الأطباء من أولهم إلى آخرهم عجزوا أن يدفعوا الطاعون عن بلد بل عن قرية، وقد امتنع الطاعون عن المدينة هذه الدهور الطويلة. قال الحافظ: هو كلام صحيح، ولكن ليس هو جوابًا عن الإشكال.
ومن الأجوبة أنه صلى الله عليه وسلم عوّضهم عن الطاعون بالحمى؛ لأن الطاعون يأتي مرة بعد مرة، والحمى تتكرر في كل حين، فيتعادلان في الأجر، ويتم المراد من عدم دخول الطاعون لبعض ما تقدم من الأسباب.
قال الحافظ: ويظهر لي جواب آخر بعد استحضار الحديث الذي أخرجه أحمد من رواية أبي عسيب -بمهملتين، آخره موحدة، بوزن عظيم- رفعه:"أتاني جبريل بالحمى والطاعون، فأمسكت الحمى بالمدينة، وأرسلت الطاعون إلى الشام"، وهو أن الحكمة في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة كان في قلة من أصحابه عددًا ومددًا، وكانت المدينة وبئة كما سبق من حديث عائشة رضي الله عنها، ثم خُيِّر النبيّ صلى الله عليه وسلم في أمرين يحصل بكل منهم الأجر الجزيل، فاختار الحمى حينئذ لقلّة الموت بها غالبًا، بخلاف الطاعون، ثم لما احتاج إلى جهاد الكفار، وأذن له في القتال، كانت قضية استمرار الحمى بالمدينة أن تُضعف أجساد الذين يحتاجون إلى التقوية لأجل الجهاد، فدعا بنقل الحمى من المدينة إلى الجحفة، فعادت المدينة أصح بلاد اللَّه بعد أن كانت بخلاف ذلك، ثم كانوا من حينئذ من فاتته الشهادة بالطاعون، ربما حصلت له بالقتل في سبيل اللَّه، ومن فاته
ذلك حصلت له الحمى التي هي حظ المؤمن من النار، ثم استمر ذلك بالمدينة تمييزًا لها عن غيرها؛ لتحقيق إجابة دعوته صلى الله عليه وسلم، وظهور هذه المعجزة العظيمة بتصديق خبره هذه المدة المتطاولة، واللَّه أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو تحقيق نفيسٌ.
وقال الزرقانيّ رحمه الله: قد امتنع الطاعون عن المدينة بدعائه صلى الله عليه وسلم وخبره هذه المدد المتطاولة فهو خاص بها.
وجزم ابن قتيبة في "المعارف"، والنوويّ في "الأذكار" بأن الطاعون لم يدخل مكة أيضًا معارضًا بما نقله غير واحد بأنه دخلها في سنة سبع وأربعين وسبعمائة، لكن في "تاريخ مكة" لعمر بن شبة برجال الصحيح، عن أبي هريرة مرفوعًا:"المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة، على كل نَقْب منها ملك، فلا يدخلهما الدجال، ولا الطاعون"، وحينئذ فالذي نُقِل أنه دخل مكة في التاريخ المذكور ليس كما ظُنّ، أو يقال: إنه لا يدخلهما من الطاعون مثل الذي يقع في غيرهما، كالجارف، وعمواس.
وفي حديث أنس عند البخاريّ في "الفتن": "فيجد الملائكة يحرسونها"؛ يعني المدينة فلا يقربها الدجال، ولا الطاعون؛ إن شاء اللَّه.
وقد اختُلف في هذا الاستثناء، فقيل: هو للتبرك، فيشملهما، وقيل: هو للتعليق، وأنه يختص بالطاعون، ومقتضاه جواز دخول الطاعون المدينة.
قال الحافظ في "الفتن": وكونه للتبرك هو أولى، وقال السمهوديّ بعد ذكر هذه الرواية: هذا يقتضي جواز دخول الطاعون المدينة، ويردّه الجزم في سائر الأحاديث، والصواب حفظها منه، كما هو المشاهد، وقيل: المراد بالطاعون في هذا الحديث المنفيّ دخوله المدينة طاعون العذاب، فتأمل
(1)
.
(وَلَا) يدخل المدينة أيضًا (الدَّجَّالُ") هو فَعّال -بفتح أوله، وتشديد الجيم- من الدجل، وهو التغطية، والمراد المسيح الأعور، وسُمّي الكذابُ دجّالًا؛ لأنه يغطي الحق بباطله، ويقال: دَجَلَ البعير بالقَطِران: إذا غطّاه، والإناء بالذهب إذا طلاها، وقال ابن دريد: سُمِّي دجالًا؛ لأنه يغطي الحق
(1)
راجع: "المرعاة" 9/ 535 - 539.
بالكذب، وقيل: لضربه نواحي الأرض، وقيل: بل قيل ذلك؛ لأنه يغطي الأرض، فرجع إلى الأول، وقال القرطبي في "التذكرة": اختُلِف في تسميته دجالًا على عشر أقوال، وقال صاحب "القاموس": إنه اجتمع له من الأقوال في سبب تسميته الدجال المسيح خمسون قولًا، كذا في الفتح، وسيأتي تمام البحث فيه في أواخر الكتاب حيث يذكر المصنّف رحمه الله أحاديث الدجّال -إن شاء اللَّه تعالى-.
وفي هذا الحديث بيان فضل المدينة، وفضل سكناها؛ إذ لا يدخلها الطاعون، ولا الدجال، وهو رأس الفتنة، وأنه يطأ الأرض كلها، ويدخلها حاشا المدينة، ويُروى في غير هذا الحديث أنه لا يدخل مكة ولا المدينة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [84/ 3351](1379)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1880) و"الطبّ"(5731) و"الفتن"(7133)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 485 و 4/ 363)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 892)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 237 و 375 و 378 و 483)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 442)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 47)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 129)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3352]
(1380) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، جَمِيعًا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي الْعَلَاءُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَأْتِي الْمَسِيحُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، هِمَّتُهُ
(1)
الْمَدِينَةُ، حَتَّى يَنْزِلَ دُبُرَ أُحُدٍ، ثُمَّ تَصْرِفُ الْمَلَائِكَةُ وَجْهَهُ قِبَلَ الشَّامِ، وَهُنَالِكَ يَهْلِكُ").
(1)
وفي نسخة: "وهمّته".
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وتقدّموا قبل حديثين.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَأْتِي الْمَسِيحُ)؛ أي: الدجال (مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ) بكسر القاف، وفتح الموحدة؛ أي: من جهة المشرق (هِمَّتُه) وفي بعض النسخ: "وهمّته" بالواو؛ أي: قصده ونيّته (الْمَدِينَةُ)؛ أي: دخول المدينة؛ لتخريبها، وإفسادها (حَتَّى يَنْزِلَ دُبُرَ أُحُدٍ) بضم الدال، والموحدة؛ أي: خلف أُحُد بضمّتين، وهو الجبل المعروف قربَ المدينة (ثُمَّ) بعدما تقع قصة الرجل السابق (تَصْرِفُ)؛ أي: تردّ (الْمَلَائِكَةُ وَجْهَهُ)؛ أي: توجهه وقصده (قِبَلَ الشَّامِ)؛ أي: جهة البلد المعروف؛ لأن هلاكه على يد عيسى؛ هناك، كما أشار إليه بقوله:"وهناك يهلك".
وفي هذا الحديث دليل بطلان دعوى الدجّال الربوبيّة، وأمارة عجزه، ونقصانه، حيث رجع القهقرى، ولم يقدر أن يدخل دارًا فيها مَدْفَن سيد الورى صلى الله عليه وسلم، وكذا لا يدخل مكة أيضًا، كما صحّ في الأحاديث الأخرى.
وقوله: (وَهُنَالِكَ)؛ أي: في الشام (يَهْلِكُ") بكسر اللام، من باب ضرب، وذلك حيث ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام عند المنارة البيضاء شرقيّ دمشق، واضعًا يديه على أجنحة ملكين، ثم يطلبه، فيجده بباب لُدّ بضمّ اللام، وتشديد الدال المهملة، موضع بالشام، وقيل: بفلسطين
(1)
، فيقتله، وسيأتي الحديث في ذلك مطوّلًا في "كتاب الفتن" -إن شاء اللَّه تعالى-، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [84/ 3352](1380)، و (الترمذيّ) في "الفتن"
(1)
"النهاية" 4/ 245.
(2243)
، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 397 و 407 و 457)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5774)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 47)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 346)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(85) - (بَابٌ الْمَدِينَةُ تَنْفِي شِرَارَهَا، وَتُسَمَّى طَابَةَ، وَطَيْبَةَ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3353]
(1381) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، يَعْنِي الدَّرَاوَرْدِيَّ، عَنْ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، يَدْعُو الرَّجُلُ ابْنَ عَمِّهِ وَقَرِيبَهُ، هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ، هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَخْرُجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْهَا، إِلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ فِيهَا خَيْرًا مِنْهُ، أَلَا إِن الْمَدِينَةَ كَالْكِيرِ، تُخْرِجُ الْخَبِيثَ، لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَنْفِيَ الْمَدِينَةُ شِرَارَهَا، كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ").
رجال الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ، يَعْنِي الدَّرَاوَرْدِيَّ) هو: ابن محمد بن عُبيد المدنيّ، تقدّم قبل بابين.
والباقون ذُكروا في السند الماضي.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ) هذا الزمان هو الذي يأتي ذكره بعد باب من حديث سفيان بن أبي زهير رضي الله عنه مرفوعًا: "تُفْتَحُ الشام، فيخرج من المدينة قوم بأهليهم يبسّون، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. . . " الحديث (يَدْعُو الرَّجُلُ ابْنَ عَمِّهِ وَقرِيبَهُ) وقوله: (هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ) مقول لقول مقدّر حال؛ أي: قائلًا: "هَلُمّ إلى الرخاء"، ومعنى
"هلُمّ"؛ أي: أقبل، وتعال، قال الفيّوميّ رحمه الله: هَلُمّ كلمة، بمعنى الدعاء إلى الشيء، كما يقال: تَعالَ، قال الخليل:"أصله لُمّ من الضمّ، والجمعِ، ومنه: لَمَّ اللَّهُ شَعَثَهُ، وكأن المنادِيَ أراد: لُمَّ نفسك إلينا، و"ها" للتنبيه، وحذفت الألف تخفيفًا؛ لكثرة الاستعمال، وجُعلا اسمًا واحدًا، وقيل: أصلها: هَلْ أُمَّ؛ أي: قُصِد، فنُقلت حركة الهمزة إلى اللام، وسقطت، ثم جُعلا كلمة واحدةً للدعاء، وأهل الحجاز ينادون بها بلفظ واحد للمذكر والمؤنث، والمفرد، والجمع، وعليه قوله تعالى:{وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب: 18]، وفي لغة نجد تَلْحَقها الضمائر، وتُطابق، فيقال: هَلُمِّي، وهَلُمَّا، وهَلُمُّوا، وهَلْمُمْنَ؛ لأنهم يجعلونها فعلًا، فيُلْحِقونها الضمائر، كما يلحقونها قُمْ، وقوما، وقوموا، وقَمْنَ، وقال أبو زيد: استعمالها بلفظ واحد للجميع من لغة عُقَيل، وعليه قيس بعدُ، وإلحاق الضمائر من لغة بني تميم، وعليه أكثر العرب، وتُستعمل لازمةً، نحو:{هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب: 18]؛ أي: أَقْبِل، ومتعديةً، نحو:{هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} [الأنعام: 150]؛ أي: أَحْضِرُوهم. انتهى
(1)
.
وقوله: (هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ) كرّره للتأكيد (وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ) جملة حاليّة؛ أي: يتنادون بما ذُكر، والحال أن سكنى المدينة خير لهم مما ينتقلون إليه من فتوحات سائر البلدان (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)"لو" شرطيّة، جوابها محذوف؛ لدلالة ما قبله عليه، ومفعول "يعلم" محذوف أيضًا؛ أي: لو كانوا يعلمون خيريّتها لمَا خرجوا منها.
قال القرطبيّ رحمه الله: هذا منه صلى الله عليه وسلم إخبار عن أمر غيب، وقع على نحو ما ذكر، فكان ذلك من أدلة نبوَّته، وعَنَى بذلك أن الأمصار تُفْتَح على المسلمين، فتكثر الخيرات، وتترادف عليهم الفتوحات، كما قد اتَّفَقَ عند فتح الشام، والعراق، والدِّيار المصرية، وغير ذلك، فَرَكَن كثير ممن خرج من الحجاز، وبلاد العرب إلى ما وجدوا من الخصب، والدَّعَةِ بتلك البلاد المفتوحة، فاتخذوها دارًا، ودَعَوا إليهم مَن كان بالمدينة؛ لشدَّة العيش بها، وضيق الحال، فلذلك قال صلى الله عليه وسلم:"والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون"، وهي خير من
(1)
"المصباح المنير" 2/ 639 - 640.
حيث تعذر الترفه فيها، وعدم الإقبال على الدنيا بها، وملازمة ذلك المحل الشريف، ومجاورة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ففي حياته صلى الله عليه وسلم صحبته، ورؤية وجهه الكريم، وبعد وفاته مجاورة جَدَثه
(1)
الشريف، ومشاهدة آثاره المعظَّمة، فطوبى من ظَفِر بشيء من ذلك، وأحسن اللَّه عزاءَ من لم يَنَلْ شيئًا مِمَّا هنالك. انتهى
(2)
.
(وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) أقسم النبيّ صلى الله عليه وسلم باللَّه الذي نفسه صلى الله عليه وسلم بيده سبحانه وتعالى، وفيه إثبات اليد للَّه تعالى على ما يليق بجلاله (لَا يَخْرُجُ مِنْهُمْ)؛ أي: من أهل المدينة الذين يدعو بعضهم بعضًا إلى الرخاء (أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْهَا)؛ أي: كراهية لها، وزُهدًا في فضلها، يقال: رَغِبتُ في الشيء، ورَغِبته يتعدّى بالحرف، وبنفسه أيضًا: إذا أردته رَغْبًا، بفتح الغين، وسكونها، ورَغْبَى، بفتح الراء، وضمّها، ورَغْباءً بالفتح والمدّ، ورَغِبْتُ عن الشيء: إذا لم تُرِدْه
(3)
. (إِلَّا أخْلَفَ اللَّهُ) بالألف؛ أي: أبدل اللَّه، قال الفيّوميّ: خَلَفَ اللَّه عليك: كان خليفةَ أبيك عليك، أو من فقدته، ممن لا يُتَعَوَّض، كالعمّ، وأخلف عليك بالألف: رَدّ عليك مثل ما ذهب منك، وأخلف اللَّه عليك مالك، وأخلف لك مالك، وأخلف لك بخير، وقد يُحْذَف الحرف، فيقال: أخلف اللَّه عليك، ولك خيرًا، قاله الأصمعيّ، والاسم: الْخَلَف بفتحتين، قال أبو زيد: وتقول العرب أيضًا: خَلَفَ اللَّه لك بخير، وخَلَف عليك بخير، يَخْلُف بغير ألف. انتهى
(4)
.
(فِيهَا)؛ أي: في المدينة (خَيْرًا مِنْهُ)؛ أي: أفضل من ذلك الخارج دِينًا، وصلاحًا، وإصلاحًا.
قال القرطبي رحمه الله: يعني أن الذي يخرج من المدينة راغبًا عنها؛ أي: زاهدًا فيها، إنما هو إما جاهل بفضلها، وفضل الْمُقام فيها، وإما كافر بذلك، وكل واحد من هذين إذا خرج منها، فمن بقي من المسلمين خير منه، وأفضل على كل حال، وقد قضى اللَّه تعالى بأن مكة، والمدينة لا يخلوان من أهل العلم، والفضل، والدِّين إلى أن يرث اللَّه الأرض، ومن عليها، فهم الخلف
(1)
الْجَدَث -بفتحتين-: القبر.
(2)
"المفهم" 3/ 496.
(3)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 231.
(4)
"المصباح المنير" 1/ 178 - 179.
ممن خرج رغبةً عنها. انتهى
(1)
.
(ألا) أداة استفتاح وتنبيه، تدلّ على تحقّق ما بعدها، وتدخل على الجملة الاسمية، كقوله تعالى:{أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 13]، وعلى الفعلية، نحو قوله تعالى:{أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا} [هود: 8]
(2)
. (إِنَّ الْمَدِينَةَ كَالْكِيرِ) بكسر الكاف: زِقّ الْحَدّاد الذي يَنفُخ به، ويكون أيضًا من جلد غليظ، وله حافات، وجمعه كِيَرَةٌ، مثلُ عِنَبَةٍ، وأَكْيَارٌ، وقال ابن السِّكِّيت: سمعت أبا عمرو يقول: الْكُورُ بالواو: الْمَبْنيّ من الطين، والْكِيرُ بالياء: الزِّقّ، والجمع أَكيارٌ، مثلُ حِمْل وأحمال. انتهى
(3)
.
(تُخْرِجُ الْخَبِيثَ) قال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: خَبَث الحديد، والفضة، هو وسخهما، وقَذَرهما الذي تخرجه النار منهما
(4)
.
وقال القرطبي رحمه الله: هذا تشبيه واقع؛ لأن الكيرَ لشدَّة نفخه يَنفي عن النار السُّخَام
(5)
، والدُّخَان، والرَّماد، حتى لا يبقى إلا خالصُ الجمر والنار، هذا إن أراد بالكير الْمِنفَخ الذي ينفخ به النار، وأما إذا أراد به الموضع المشتمل على النار، وهو المعروف عند أهل اللغة، فيكون معناه: أن ذلك الموضع لشدَّة حرارته يَنزعُ خبث الحديد، والذهب، والفضة، ويُخرِج خلاصة ذلك، والمدينة كذلك بما فيها من شدّة العيش، وضيق الحال، تُخَلِّص النفس من شهواتها، وشَرَهها، وميلها إلى اللذات، والمستحسنات، فتتزكى النفس عن أدرانها، وتبقى خلاصتُها، فيظهر سرُّ جوهرها، وتعمّ بركاتها، ولذلك قال في الرواية الأخرى:"تَنْفِي خَبَثها، ويَنْصَع طيبها"
(6)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: قوله: "لِما فيها من شدّة العيش. . . إلخ" فيه نظر؛ إذ لو كان لذلك لكان كلّ بلد فيه شدّة عيش، وخشونة حال أن يكون كذلك، فلا يكون للمدينة فضلٌ أصلًا، بل الحقّ أن ذلك لخصوصيّة المدينة،
(1)
"المفهم" 3/ 496 - 497.
(2)
راجع: "مغني اللبيب" 1/ 143 - 144.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 545.
(4)
"شرح النوويّ" 9/ 153 - 154.
(5)
السُّخَام وزانُ غُرَاب: سواد القِدر.
(6)
"المفهم" 3/ 497.
وما جعل اللَّه تعالى فيها من السرّ العظيم، حيث كانت مُهاجَرَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ومهبط الوحي، فتَنفي الأشرار، وتُبقِي الأخيار، واللَّه تعالى أعلم.
(لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَنْفِيَ الْمَدِينَةُ شِرَارَهَا، كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ") قال القاضي عياض رحمه الله: الأظهر أن هذا مختص بزمن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يكن يصبر على الهجرة، والمقام معه إلا من ثبت إيمانه، وأما المنافقون، وجهلة الأعراب، فلا يصبرون على شدة المدينة، ولا يحتسبون الأجر في ذلك، كما قال ذلك الأعرابيّ الذي أصابه الْوَعْك: أقِلْني بيعتي. انتهى كلام القاضي عياض.
وتعقّبه النوويّ، فقال: هذا الذي ادَّعَى أنه الأظهر، ليس بالأظهر؛ لأن هذا الحديث الأول في "صحيح مسلم" أنه صلى الله عليه وسلم قال:"لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها، كما ينفي الكير خبث الحديد"، وهذا -واللَّه أعلم- في زمن الدجال، كما جاء في الحديث الصحيح الذي ذكره مسلم في أواخر الكتاب، في أحاديث الدجال أنه يقصد المدينة، فترجُف المدينة ثلاث رَجَفات، يُخرج اللَّه بها منها كلَّ كافر ومنافق، فيَحْتَمِل أنه مختص بزمن الدجال، ويَحْتَمِل أنه في أزمان متفرقة، واللَّه أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الأَولى كما سيأتي عن الحافظ أن كلًّا من الزمنين مراد في الحديث، فقد وقع ذلك في عهده صلى الله عليه وسلم، كما سيأتي في الحديث التالي من قصّة الأعرابي الذي طلب إقالة بيعته، وسيقع أيضًا في آخر الزمان عند مجيء الدجال إلى المدينة، ونزوله في بعض ناحية المدينة، كما سيأتي في "كتاب الفتن"، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [85/ 3353](1381)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3734)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(3/ 157)، و (أبو نعيم) في
"مستخرجه"(4/ 47 - 48)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3354]
(1382) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحُبَابِ سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى، يَقُولُونَ: يَثْرِبَ، وَهِيَ الْمَدِينَةُ، تَنْفِي النَّاسَ، كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) الأنصاريّ القاضي المدنيّ، ثقةُ ثبتٌ [5](ت 144)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.
2 -
(أَبُو الْحُبَابِ سَعِيدُ بْنُ يَسَارٍ) المدنيّ، ثقةٌ متقنٌ [3](ت 117) أو قبلها بسنة (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 5/ 1614.
والباقون ذُكروا في الباب، وفي الذي قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، إلا شيخ المصنّف، فبَغْلانيّ، وقد دخل المدينة.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه، وسبق القول فيه قريبًا.
شرح الحديث:
(عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الأنصاريّ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحُبَابِ) -بضم الحاء المهملة، وبالموحدتين الأولى خفيفة- وقوله:(سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ) اسم أبي الْحُباب، وهو منصوب على البدليّة، أو عطف البيان.
[تنبيه]: قال الإمام ابن عبد البرّ رحمه الله: اتفق الرواة عن مالك على إسناده، إلا إسحاق بن عيسى الطباع، فقال: عن مالك، عن يحيى، عن سعيد بن المسيِّب، بدل سعيد بن يسار، وهو خطأ.
قال الحافظ: وتابعه أحمد بن عمر، عن خالد السلميّ، عن مالك، وأخرجه الدارقطنيّ في "غرائب مالك"، وقال: هذا وَهَمٌ، والصواب عن يحيى، عن سعيد بن يسار. انتهى
(1)
.
(يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: أمرني ربي بالهجرة إليها، أو سكناها، فالأول محمول على أنه قاله بمكة، والثاني على أنه قاله بالمدينة (تَأْكُلُ الْقُرَى)؛ أي: تغلبهم، وكَنَى بالأكل عن الغلبة؛ لأن الآكل غالب على المأكول، ووقع في "موطإ ابن وهب": قلت لمالك: ما تأكل القرى؟ قال: تفتح القرى، وبَسَطَهُ ابن بطال، فقال: معناه يفتح أهلها القرى، فيأكلون أموالهم، ويَسْبُون ذراريَّهم، قال: وهذا من فصيح الكلام، تقول العرب: أكلنا بلد كذا: إذا ظهروا عليها، وسبقه الخطابيّ إلى معنى ذلك أيضًا.
وقال النوويّ: ذكروا في معناه وجهين: أحدهما هذا، والآخر أن أكلها، ومِيرتها من القرى الْمُفْتَتَحة، وإليها تساق غنائمها.
وقال ابن الْمُنير في "الحاشية": يَحْتَمِل أن يكون المراد بأكلها القرى غلبة فضلها على فضل غيرها، ومعناه أن الفضائل تَضْمَحِلّ في جنب عظيم فضلها، حتى تكاد تكون عَدَمًا.
قال الحافظ: والذي ذكره احتمالًا ذكره القاضي عبد الوهاب، فقال: لا معنى لقوله: "تأكل القرى" إلا رجوح فضلها عليها، وزيادتها على غيرها، كذا قال، ودعوى الحصر مردودةٌ؛ لما مضى، ثم قال ابن الْمُنَيِّر: وقد سمّيت مكة أم القرى، قال: والمذكور للمدينة أبلغ منه؛ لأن الأمومة لا تنمحي إذا وَجَدت ما هي له أمّ، لكن يكون حقّ الأم أظهر، وفضلها أكثر. انتهى
(2)
.
وقال ابن حبّان: قوله: "تأكل القرى" هذا تمثيلٌ، مراده أن الإسلام
(1)
"الفتح" 5/ 185.
(2)
"الفتح" 5/ 185 - 186.
ابتداؤه في المدينة، ثم يغلب على سائر القرى، ويعلو سائر المُلك، فكأنها قد أتت عليها، لا أن المدينة تأكل القُرى. انتهى
(1)
.
وقال البغويّ رحمه الله في "شرح السنّة": قوله: "تأكل القرى"؛ أي: يُجلب إليها طعام القرى، فهي تأكلها، وأراد ما يَحصُل من الفتوح على أيديهم، ويصيبون من الغنائم، وأضاف الأكل إلى القرية، والمراد: أهلها، كما قال تعالى:{يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} [يوسف: 48] أضاف الأكل إلى السنين، والمراد: أهل زمانها.
قال: وسُمّيت القرية قريةً؛ لاجتماع الناس فيها، من قَرَيت الماء في الحوض؛ أي: جمعته، ورُوي أن عمر بن عبد العزيز حين خرج من المدينة التفت إليها، فَبَكَى، ثم قال: يا مزاحم أتخشى أن نكون ممن نَفَتِ المدينة؟ انتهى
(2)
.
(يَقُولُونَ: يَثْرِبَ، وَهِيَ الْمَدِينَةُ)؛ أي: إن بعض المنافقين يسميها يثرب، واسمها الذي يليق بها المدينة، وفَهِم بعض العلماء من هذا كراهة تسمية المدينة يثرب، وقالوا: ما وقع في القرآن إنما هو حكاية عن قول غير المؤمنين.
ورَوَى أحمد من حديث البراء بن عازب يرفعه: "مَن سَمَّى المدينة يثرب، فليستغفر اللَّه، هي طابة، هي طابة".
ورَوَى عمر بن شبة من حديث أبي أيوب رضي الله عنه: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نَهَى أن يقال للمدينة: يثرب"، ولهذا قال عيسى بن دينار من المالكية: مَن سَمَّى المدينة يثرب كُتبت عليه خطيئة، قال: وسبب هذه الكراهة؛ لأن يثرب إمّا من التثريب الذي هو التوبيخ، والملامة، أو من الثَّرْب، وهو الفساد، وكلاهما مستقبح، وكان صلى الله عليه وسلم يُحب الاسم الحسن، وَيكره الاسم القبيح.
وذكر أبو إسحاق الزجاج في "مختصره"، وأبو عبيد البكريّ في "معجم ما استعجم" أنها سُمِّيت يثرب باسم يثرب بن قانية بن مهلايل بن عيل بن
(1)
"الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 9/ 39 - 40.
(2)
"شرح السنة" 7/ 320 - 321.
عيص بن إرم بن سام بن نوح؛ لأنه أول من سكنها بعد العرب، ونزل أخوه خيبور خيبر، فسُمّيت به، وسقط بعض الأسماء من كلام البكريّ
(1)
.
(تَنْفِي النَّاسَ) قال القاضي عياض رحمه الله: وكأن هذا مختصّ بزمنه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يكن يصبر على الهجرة والمقام معه بها، إلا من ثبت إيمانه، وقال النوويّ: ليس هذا بظاهر؛ لأن عند مسلم: "لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها، كما ينفي الكير خبث الحديد"، وهذا -واللَّه أعلم- زمن الدجال. انتهى.
قال الحافظ رحمه الله: ويَحْتَمِل أن يكون المراد كلّا من الزمنين، وكان الأمر في حياته كذلك؛ للسبب المذكور، ويؤيده قصة الأعرابيّ الآتية في حديث جابر التالي، فإنه صلى الله عليه وسلم ذكر هذا الحديث مُعَلِّلًا به خروج الأعرابيّ وسؤاله الإقالة عن البيعة، ثم يكون ذلك أيضًا في آخر الزمان عندما ينزل بها الدجال، فتَرْجُف بأهلها، فلا يبقى منافق، ولا كافر إلا خرج إليه، وهو متّفقٌ عليه أخرجه البخاريّ في "الحجّ"، ومسلم في "الفتن"، وأما ما بين ذلك فلا. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(2)
، وهو تحقيق حسن جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.
(كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ) بكسر الكاف، وسكون التحتانية، وفيه لغة أخرى: كُور بضم الكاف، قال في "الفتح": والمشهور بين الناس أنه الزِّقّ الذي يُنفخ فيه، لكن أكثر أهل اللغة على أن المراد بالكير: حانوت الحداد، والصائغ، قال ابن التين: وقيل: الكير هو الزِّقّ، والحانوت هو الكُور، وقال صاحب "المحكم": الكير: الزِّقّ الذي يَنفُخ فيه الحداد، ويؤيد الأول ما رواه عمر بن شبة في "أخبار المدينة" بإسناد له إلى أبي مودود، قال: رأى عمر بن الخطاب كِير حداد في السوق، فضربه برجله، حتى هدمه.
(خَبَثَ الْحَدِيدِ) منصوب على المفعوليّة لـ "ينفي"، وهو: بفتح الخاء المعجمة، والموحدة، بعدها مثلثة؛ أي: وسخه الذي تُخرجه النار، والمراد: أنها لا تترك فيها مَن في قلبه دَغَلٌ، بل تميّزه عن القلوب الصادقة، وتخرجه كما يُمَيِّز الحداد رديء الحديد من جيّده، ونسبة التمييز للكير؛ لكونه السبب
(1)
"الفتح" 5/ 186.
(2)
"الفتح" 5/ 186.
الأكبر في اشتعال النار التي يقع التمييز بها
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [85/ 3354 و 3355](1382)، و (البخاريّ) في "فضائل المدينة"(1871)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 482 و 6/ 430)، و (مالك) في "الموطّإ"، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(17165)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1152)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 237 و 247 و 384)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3723)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 439)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 48)، و (الطحاويّ) في "شرح مشكل الآثار"(2/ 332 و 333)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 261)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2016)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل المدينة.
2 -
(ومنها): بيان أنها تغلب سائر القرى.
3 -
(ومنها): ما قاله ابن عبد البرّ رحمه الله: في هذا الحديث دليل على كراهية تسمية المدينة بيثرب على ما كانت تُسَمَّى في الجاهلية، وأما القرآن فَنَزَل بذكر يثرب على ما كانوا يعرفون في جاهليتهم، ولعل تسمية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إياها بطيبة كان بعد ذلك، وهو الأغلب في ذلك. انتهى
(2)
.
4 -
(ومنها): ما قاله في "الفتح": استُدِلّ بهذا الحديث على أن المدينة أفضل البلاد، قال المهلَّب: لأن المدينة هي التي أدخلت مكة وغيرها من القرى في الإسلام، فصار الجميع في صحائف أهلها، ولأنها تنفي الخبث.
وأجيب عن الأول بأن أهل المدينة الذين فتحوا مكة معظمهم من أهل
(1)
"الفتح" 5/ 187.
(2)
"التمهيد" لابن عبد البرّ 23/ 171.
مكة، فالفضل ثابت للفريقين، ولا يلزم من ذلك تفضيل إحدى البقعتين، وعن الثاني بأن ذلك إنما هو في خاصّ من الناس، ومن الزمان، بدليل قوله تعالى:{وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} الآية [التوبة: 101]، والمنافق خبيث بلا شكّ، وقد خرج من المدينة بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم معاذٌ، وأبو عبيدة، وابن مسعود، وطائفة، ثم عليّ، وطلحة، والزبير، وعمار، وآخرون، وهم من أطيب الخلق، فدلّ على أن المراد بالحديث تخصيص ناس دون ناس، ووقت دون وقت، قال ابن حزم: لو فُتِحَت بلدة من بلد فثبت بذلك الفضل للأُولى للزم أن تكون البصرة أفضل من خراسان، وسجستان، وغيرهما مما فُتح من جهة البصرة، وليس كذلك. انتهى
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3355]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، جَمِيعًا عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَا:"كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ الْخَبَثَ"، لَمْ يَذْكُرَا:"الْحَدِيدَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرّقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.
2 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى العدنيّ، تقدّم قبل باب.
3 -
(سُفْيَانُ) بن عُيينة، تقدّم أيضًا قبل باب.
4 -
(ابْنُ الْمُثَنَّى) محمد، أبو موسى، تقدّم قريبًا.
5 -
(عَبْدُ الْوَهَّابِ) بن عبد المجيد بن الصَّلْت الثقفيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.
و"يحيى بن سعيد" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد، ساقها عبد الرزّاق رحمه الله في "مصنّفه" (9/ 267) فقال:
(1)
"الفتح" 5/ 187.
(17165)
- عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"أُمِرت بقرية تأكل القرى، يقولون: يثرب، وهي المدينة، تنفي الناس، كما ينفي الكير الخبث". انتهى.
وأما رواية عبد الوهّاب، عن يحيى بن سعيد، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3356]
(1383) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ؛ أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَصَابَ الْأَعْرَابِيَّ وَعْكٌ بِالْمَدِينَةِ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ جَاءَهُ، فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى، ثُمَّ جَاءَهُ، فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى، فَخَرَجَ الْأَعْرَابِيُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ، تَنْفِي خَبَثَهَا، وَيَنْصَعُ طَيِّبُهَا").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ) بن عبد اللَّه بن الْهُدَير التيميّ المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [3](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.
2 -
(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن عمرو بن حرام رضي الله عنهما، تقدّم قبل بابين.
والباقيان تقدّما في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (217) من رباعيّات الكتاب.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة.
4 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بن عمرو بن حَرَام رضي الله عنهما، ووقع عند البخاريّ في "الأحكام" تصريحٍ محمد بن المنكدر بالسماع من جابر، ولفظه:"سمعت جابرًا"(أَنَّ أَعْرَابِيًّا) قال الحافظ: لم أقف على اسمه، إلا أن الزمخشريّ ذى في "ربيع الأبرار" أنه قيس بن أبي حازم، وهو مشكلٌ؛ لأنه تابعيّ كبير مشهورٌ، صرّحوا بأنه هاجر، فوجد النبيّ صلى الله عليه وسلم قد مات، فإن كان محفوظًا، فلعلّه آخر، وافق اسمه، واسم أبيه، وفي "الذيل" لأبي موسى في الصحابة: قيس بن أبي حازم المنقريّ، فَيَحْتَمِل أن يكون هو هذا. انتهى
(1)
.
(بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَصَابَ الْأَعْرَابِيَّ وَعْكٌ بِالْمَدِينَةِ)"الْوَعْك" -بفتح الواو، وسكون المهملة، وقد تُفتح، بعدها كاف-: الْحُمّى، وقيل: ألمها، وقيل: إرعادها، وقال الأصمعيّ: أصله شدّة الحرّ، فأُطلق على حَرّ الحمّى، وشدّتها (فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَقِلْنِي بَيْعَتِي) بفتح الهمزة، من الإقالة؛ أي: ارفع عنّي البيعة التي بايعتنيها، يقال: أقال اللَّه عَثْرته: إذا رفعه من سقوطه، ومنه الإقالة في البيع؛ لأنها رفع العَقْد، وقاله قَيْلًا، من باب باع لغةٌ، قاله الفيّوميّ رحمه الله.
وهذا من الأعرابيّ سوء ظن، حيث توهّم أن ما أصابه من الوعك إنما هو بسبب ما فَعَل من البيعة، فتوهّم أنه صلى الله عليه وسلم لو أقاله لَذَهب ما لحِقه من الوعك.
ثم إنّ ظاهره أنه سأل الإقالة من الإسلام، وبه جزم القاضي عياض، وقال غيره: إنما استقاله من الهجرة، وإلا لكان قتله على الرّدّة.
(فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) قال ابن التين: إنما امتنع النبيّ صلى الله عليه وسلم من إقالته؛ لأنه لا يُعين على معصية؛ لأن البيعة في أول الأمر كانت على أن لا يخرُج من المدينة إلا بإذنه، فخروجه عصيان، قال: وكانت الهجرة إلى المدينة فرضًا قبل فتح مكة على كلّ من أسلم، ومن لم يهاجر لم يكن بينه وبين المؤمنين موالاةٌ؛ لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}
(1)
"الفتح" 4/ 584 "كتاب فضائل المدينة" حديث: 1883.
[الأنفال: 72]، فلمّا فُتحت مكة، قال صلى الله عليه وسلم:"لا هجرة بعد الفتح"، ففي هذا إشعارٌ بأن مبايعة الأعرابيّ المذكور كانت قبل الفتح.
(ثُمَّ جَاءَهُ، فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى، ثُمَّ جَاءَهُ، فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى، فَخَرَجَ الْأَعْرَابِيُّ) أي: من المدينة قصدًا لإقالة أثر البيعة (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ) تقدّم الكلام عليه قريبًا (تَنْفِي) بفتح أوله؛ أي: تُخرج (خَبَثَهَا) بمعجمة، وموحّدة، مفتوحتين (وَتَنْصَعُ) بفتح أوله، وسكون النون، وبالمهملتين، من النُّصُوع، وهو الخلوص، والمعنى أنها إذا نفت الخبث تميّز الطيب، واستقرّ فيها (طِيبَهَا) قال في "الفتح": ضبطه الأكثر بالنصب على المفعوليّة، وفي رواية الكشميهني بالتحتانيّة أوله، ورفع "طيبها" على الفاعليّة، و"طَيّبها" للجميع بالتشديد، وضبطه القزّاز بكسر أوله، والتخفيف، ثم استشكله، فقال: لم أر للنصوع في الطيب ذكرًا، وإنما الكلام يتضوعّ بالضاد المعجمة، وزيادة الواو الثقيلة، قال: ويروى "وتنضخ" بمعجمتين. وأغرب الزمخشريّ في "الفائق"، فضبطه بموحّدة، وضاد معجمة، وعين، وقال: هو من أبضعه بضاعة: إذا دفعها إليه، يعني المدينة تُعطي طيبها من سكنها، وتعقّبه الصغانيّ بأنه خالف جميع الرواة في ذلك، وقال ابن الأثير: المشهور بالنون، والصاد المهملة. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وينصع طيبها"؛ أي: يصفو، ويخلُص، يقال: طيبٌ ناصعٌ: إذا خلصت رائحته، وصَفَت مما ينقصها، وروينا "طيبها" هنا -يعني "صحيح مسلم"- بفتح الطاء، وتشديد الياء، وكسرها، وقد رويناه في "الموطّأ" هكذا، وبكسر الطاء، وتسكين الياء، وهو أليق بقوله: وينصع؛ لأنه يقال: نصع الطيب: إذا قويت رائحته. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: الذي رأيته في كتب اللغة التي بين يديّ أن "نصع" لازم، ففي نصب "طيبها" به نظر لا يخفى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"الفتح" 4/ 585 "كتاب فضائل المدينة".
(2)
"المفهم" 4/ 498 - 499.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [85/ 13356](1383)، و (البخاريّ) في "فضائل المدينة"(1883) و"الأحكام"(7209 و 7211 و 7216) و"الاعتصام"(7322)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3920)، و (مالك) في "الموطّإ"(1639)، و (النسائيّ) في "البيعة"(4187) و"الكبرى"(7807)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(9/ 266)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 521)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(12/ 180)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 306 و 307 و 365 و 392)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 440)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 48 - 49)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3732)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(2/ 298)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2015)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل المدينة، وهو أن اللَّه سبحانه وتعالى جعلها كالكير، تنفي أشرار الناس، وتخلّص أخيارها.
2 -
(ومنها): بيان حكم استقالة البيعة، وهو التحريم، فلا يجوز من بايع على الإسلام أن يترك الإسلام، ولا من بايع على الهجرة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يترك الهجرة.
3 -
(ومنها): ما قاله ابن المنيّر رحمه الله: ظاهر الحديث ذمّ من خرج من المدينة، وهو مشكلٌ، فقد خرج منها جمعٌ كثيرٌ، من الصحابة، وسكنوا غيرها من البلاد، وكذا مَن بعدهم مِن الفضلاء.
والجواب أن المذموم من خرج عنها كراهةً لها، ورغبةً عنها، كما فعل الأعرابيّ المذكور، وأما المشار إليهم، فإنما خرجوا لمقاصد صحيحة، كنشر العلم، وفتح بلاد الشرك، والمرابطة في الثُّغُور، وجهاد الأعداء، وهم مع ذلك على اعتقاد فضل المدينة، وفضل سكناها. انتهى
(1)
.
(1)
راجع: "الفتح" 15/ 112 "كتاب الأحكام" حديث: 7210.
4 -
(ومنها): ما قاله أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: في هذا الحديث من العلم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يبايع الناس على حدود الإسلام، ومعنى ذلك أنه كان يبايعهم على شروط الإسلام، ومعالمه، وهذا معروف في غير ما حديث، وكان ذلك الوقت من حدود الإسلام، وفرائضه البيعة على هجرة الأوطان، والبقاء مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان قطع اللَّه ولاية المؤمنين المهاجرين ممن لم يهاحر منهم، فقال:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]، وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أنا بريء من كل مسلم باق مع مشرك"
(1)
، وكان يشترط عليهم السمع والطاعة، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، إلى أشياء كثيرة، كان يشترطها قد ورد في الآثار ذكرها، كبيعته للنساء وغيرها، وقد ورد بالنصّ بيعته للنساء المهاجرات، وسكت عن الرجال لدخولهم في المعنى، كدخول من أُحصن من الرجال في قوله:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4]، ومثل هذا كثير، وقد ذكر جرير رضي الله عنه أنه اشترط عليهم النصح لكل مسلم.
قال: ومعنى هذه المبايعة -واللَّه أعلم- الإعلام بحدود الإسلام، وشرائعه، وآدابه، وقال الشافعيّ رحمه الله: أما بيعة النساء فلم يشترط فيها السمع والطاعة؛ لأنهن ليس عليهنّ جهاد كافرٍ، ولا باغٍ، وإنما كانت بيعتهنّ على الإسلام وحدوده.
قال أبو عمر: قد كانت البيعة على وجوه:
منها: أنها كانت أوّلًا على القتال، وعلى أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم، وأبناءهم، ونساءهم، وعلى نحو ذلك كانت بيعة العقبة الثانية قبل الهجرة، ثم لمّا هاجر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بايع الناس على الهجرة،
(1)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود في "سننه" بإسناد صحيح، عن جرير بن عبد اللَّه رضي الله عنه، قال:"بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم، فاعتصم ناس منهم بالسجود، فأسرع فيهم القتل"، قال: فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأمر لهم بنصف العقل، وقال:"أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين"، قالوا: يا رسول اللَّه لم؟ قال: "لا تراءى ناراهما". انتهى.
وقال: "أنا بريء من كل مسلم مع مشرك"، فكان على الناس فرضًا أن ينتقلوا إلى المدينة؛ إذ لم يكن للإسلام دار ذلك الوقت غيرها، ويَدَعُوا دار الكفر، وعلى هذا -واللَّه أعلم- كانت بيعة هذا الأعرابيّ المذكور في هذا الحديث عن الإسلام، والهجرة، فلمّا لَحِقه من الْوَعْك ما لحقه، تشاءم بالمدينة، وخرج عنها منصرفًا إلى وطنه من أهل الكفر، ولم يكن ممن رسخ الإيمان في قلبه، وربما كان من جنس الأعراب الذين قال اللَّه عز وجل:{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 97].
ولما فُتِحَت مكة لم يبايع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحدًا على الهجرة، وإنما كانت البيعة على الإقامة بدار الهجرة قبل أن يفتح اللَّه على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة، وكان المعنى في البيعة على الهجرة: الإقامة بدار الهجرة، وهي المدينة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حياته، حتى يصرفهم فيما يحتاج إليه، من غزو الكفار، وحفظ المدينة، وسائر ما يحتاج إليه، وكان خروجهم راجعين إلى دار أعرابيتهم حرامًا عليهم؛ لأنهم كانوا يكونون بذلك مرتدين إلى الأعرابية من الهجرة، ومن فعل ذلك كان ملعونًا على لسان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ألا ترى إلى حديث شعبة، والثوريّ، عن الأعمش، عن عبد اللَّه بن مُرّة، عن الحارث بن عبد اللَّه، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه قال:"آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهداه إذا علموا به، والواشمة، والمستوشمة للحسن، ولاوي الصدقة، والمرتد أعرابيّا بعد هجرته، ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة"
(1)
.
ورُوي عن عقبة بن عامر الجهنيّ، قال: بلغني قدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، وأنا في غنيمة لي، فرفضتها، ثم أتيته، فقلت: جئت أبايعك، فقال:"بيعة أعرابية، أو بيعة هجرة؟ "، قلت: بيعة هجرة، قال: فبايعته، وأقمت.
قال أبو عمر: ففي قول عقبة في هذا الحديث: فبايعته، وأقمت دليل على أن البيعة على الهجرة توجب الإقامة بالمدينة، وأن البيعة الأعرابية تخالفها، لا توجب الإقامة بالمدينة على أهلها، ويدلك على ذلك أن مالك بن الحويرث وغيره، من الأعراب، بايعوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأقاموا عنده أيامًا، ثم
(1)
حديث صحيح، أخرجه ابن خزيمة، والحاكم.
رجعوا إلى بلادهم، وقال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم، وعلّموهم، وصلّوا كما رأيتموني أصلي"، وهذا الأعرابي المذكور في حديث مالك كان -واللَّه أعلم- ممن بايع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على المقام بدار الهجرة، فمن هنا أبى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من إقاله بيعته.
قال: وفي إباء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من إقالة البيعة دليل على أن من العقود عقودًا إلى المرء عقدها، وليس له حلُّها، ولا نقضها، وذلك أن من عقد عقدًا يجب عقده، ولا يحل نقضه، لم يجز له أن ينقضه، ولم يحلّ له فسخه، وإن كان الأمر كان إليه في العقد، فليس إليه ذلك في النقض، وليس كل ما للإنسان عقده له فسخه، ولم يكن لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يقيله بيعته؛ لأن الهجرة كانت مفترضة يومئذ، كما لم يكن له أن يُبيح له شيئًا حظرته عليه الشريعة، إذا دخل فيها، ولزمته أحكامها إلا بوحي من اللَّه، وأما مَن بعده فليس ذلك حكمه بوجه من الوجوه؛ لأن الوحي بعده صلى الله عليه وسلم قد انقطع.
قال: وفي هذا الحديث بيان فضل المدينة، وأنها بقعة مباركة، لا يستوطنها إلا المرضيّ من الناس، قال أبو عمر: وهذا عندي إنما كان بالنبيّ صلى الله عليه وسلم منذ نزلها، وقد كانت قبله كسائر ديار الكفر، ولما تُوُفّي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بقي فضل قبره، ومسجده، والمدينة لا ينكر فضلها.
قال: وأما قوله: "تنفي خبثها، وينصع طيبها"، فمعناه: أنها تنفي حُثالة الناس، ورُذالتهم، ولا يبقى فيها إلا الطيب الذي اختاره اللَّه عز وجل لصحبة نبيّه صلى الله عليه وسلم، والخبث رُذالة الحديد، ووسخه الذي لا يثبت عند النار.
وأما قوله: "وينصع" فإنه يعني: يبقى ويثبت، ويظهر، وأصل النُّصُوع في الألوان البياض، يقال: أبيض ناصعٌ، ويَقَقٌ، كما يقال: أحمر قانئ، وأسود حالك، وأصفر فاقع، والمراد بهذه الكلمات الثبوت والصحة، والناصع: الخالص السالم، قال النابغة الذبيانيّ [من الطويل]:
أَتَاكَ بِقَوْلٍ هَلْهَلِ النَّسْجِ كَاذِبٍ
…
وَلَمْ يَأْتِ بِالْحَقِّ الَّذِي هُوَ نَاصِعُ
أي: خالصٍ سالمٍ من الاختلاف، وأما الخبث فلا يثبت، وما لا يثبت فليس ظهوره بظهور، وشبّه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة في ذلك الوقت بالكير، والنار الذي لا يُبقي على عمله إلا طيبه، ويدفع الخبث، وكذلك كانت المدينة لا
يبقى فيها، ولا يثبت إلا الطيب من الناس لصحبته صلى الله عليه وسلم، وللفهم عنه، فلما مات خرج عنها كثير من جلّة أصحابه؛ لنشر علمه، والتبليغ لدينه صلى الله عليه وسلم.
[فإن قيل]: إن عمر بن عبد العزيز قد خَشِي أن يكون ممن نَفَت المدينة، وليس ذلك في المعنى الذي ذكرت من صحبة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والأخذ عنه، بل ذلك لفضل المدينة الباقي إلى يوم القيامة.
[قيل له]: لا يُنكِر فضل المدينة عالم، ولكن قوله:"تنفي خبثها، وينصع طيبها" ليس إلا على ما قلنا، بدليل خروج الفضلاء الصحابة الطيبين منها إلى الشام، والعراق، ولا يجوز أن يقال في واحد منهم: إنهم كانوا خبثاء رضي الله عنهم، وقد يقول العالم القول على الإشفاق على نفسه، فلا يكون في ذلك حجة على غيره.
قال أبو عمر: كان خروج عمر بن عبد العزيز من المدينة حين قال هذا القول، فيما ذكر أهل السير، في شهر رمضان، من سنة ثلاث وتسعين، وذلك أن الحجاج كتب إلى الوليد، فيما ذكروا؛ أن عمر بن عبد العزيز بالمدينة كهف للمنافقين، فجاوبه الوليد: إني أعزله، فعزله، ووَلَّى عثمان بن حيان الْمُرّيّ، وذلك في شهر رمضان المذكور، فلما صار عمر بالسويداء، قال لمزاحم: يا مزاحم أتخاف أن نكون ممن نفت المدينة؟
وقال ميمون بن مهران: ما رأيت ثلاثة في بيت خيرًا من عمر بن عبد العزيز، وابنه عبد الملك، ومولاه مزاحم. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث طويل مفيدٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3357]
(1384) - (وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، وَهُوَ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيٍّ، وَهُوَ ابْنُ ثَابِتٍ، سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ، عَنْ زيدِ بْنِ
(1)
"التمهيد" لابن عبد البرّ 12/ 224 - 231.
ثَابِتٍ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّهَا طَيْبَةُ -يَعْنِي الْمَدِينَةَ- وَإِنَّهَا تَنْفِي الْخَبَثَ، كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْفِضَّةِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
2 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان العنبريّ، أبو المثنّى البصريّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام المشهور، تقدّم قريبًا.
4 -
(عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ) الأنصاريّ الكوفيّ، ثقةٌ رُمي بالتشيّع [4](ت 116)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 244.
5 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ) بن زيد بن حُصين الأنصاريّ الْخَطْميّ الصحابيّ الصغير، وليَ الكوفة لابن الزبير رضي الله عنهم (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 456.
6 -
(زَيْدُ بْنُ ثَابِتِ) بن الضحّاك بن لَوْذان الأنصاريّ النجّاريّ، أبو سعيد، وأبو خارجة الصحابيّ المشهور، مات رضي الله عنه سنة (5 أو 48) وقيل: بعد (50)(ع) تقدم في "الحيض" 22/ 793.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، كما أسلفته آنفًا.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ رضي الله عنهما، كلاهما أنصاريّان.
4 -
(ومنها): أن زيد بن ثابت رضي الله عنه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، وكان من الراسخين في العلم، وكان كاتب الوحي لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
شرح الحديث:
(عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ) رضي الله عنه، وفي رواية البخاريّ:"قال: سمعت زيد بن ثابت رضي الله عنه"، فصرّح بالسماع (عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّهَا طَيْبَةُ -يَعْنِي الْمَدِينَةَ) العناية من بعض الرواة، ولم يتبيّن لي من هو؟ يعني أنه صلى الله عليه وسلم سمى المدينة طيبة، وفي حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه التالي: "إن اللَّه تعالى سَمّى المدينة طابة"،
وسيأتي الكلام عليه هناك (وَإِنَّهَا تَنْفِي الْخَبَثَ، كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْفِضَّةِ") هذا الحديث مختصر عند المصنّف، وقد ساقه البخاريّ مطوّلًا، فقال: حدّثنا سليمان بن حرب، حدّثنا شعبة، عن عديّ بن ثابت، عن عبد اللَّه بن يزيد، قال: سمعت زيد بن ثابت رضي الله عنه يقول: لما خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى أُحُد رجع ناس من أصحابه، فقالت فرقة: نقتلهم، وقالت فرقة: لا نقتلهم، فنزلت:{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} الآية [النساء: 88]، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنها تنفي الرجال، كما تنفي النارُ خَبَثَ الحديد". انتهى.
قال في "الفتح": قوله: "رجع ناس من أصحابه" هم عبد اللَّه بن أُبَيّ ومن تبعه
(1)
، والغرض منه هنا بيان ابتداء قوله:"تنفي الرجال"، وأنه كان في أُحُد.
وقوله: "الرجال" كذا للأكثر، وللكشميهنيّ:"الدجال" بالدال، وتشديد الجيم، وهو تصحيف، ووقع في غزوة أُحُد:"تنفي الذنوب"، وفي "تفسير النساء":"تنفي الخبث"، وأخرجه في هذه المواضع كلها من طريق شعبة، وقد أخرجه مسلم، والترمذيّ، والنسائيّ، من طريق غُندر، عن شعبة باللفظ الذي أخرجه في "التفسير"، من طريق غندر، وغندر أثبت الناس في شعبة، وروايته توافق رواية حديث جابر الذي قبله، حيث قال فيه:"تنفي خبثها"، وكذا أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، بلفظ:"تخرج الخبث"، وفي رواية:"تنفي الناس"، والرواية التي هنا بلفظ:"تنفي الرجال" لا تنافي الرواية بلفظ: "الخبث"، بل هي مفسرة للرواية المشهورة، بخلاف:"تنفي الذنوب"، ويَحْتَمِل أن يكون فيه حذفٌ، تقديره أهل الذنوب، فيلتئم مع باقي الروايات. انتهى
(2)
،
(1)
هو عبد اللَّه بن أبيّ وأصحابه، وقد ورد ذلك صريحًا في رواية موسى بن عقبة في "المغازي"، وأن عبد اللَّه بن أبيّ كان وافق رأيه رأي النبيّ صلى الله عليه وسلم على الإقامة بالمدينة، فلما أشار غيره بالخروج، وأجابهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فخرج، قال عبد اللَّه بن أبيّ لأصحابه: أطاعهم وعصاني، علام نقتل أنفسنا؟ فرجع بثلث الناس، قال ابن إسحاق في روايته: فاتّبعهم عبد اللَّه بن عمرو بن حرام، وهو والد جابر، وكان خزرجيًا، كعبد اللَّه بن أبيّ، فناشدهم أن يرجعوا، فأبوا، فقال: أبعدكم اللَّه. انتهى. "الفتح" 9/ 126.
(2)
"الفتح" 5/ 201 - 202.
واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
[تنبيه]: هذا الحديث تقدّم أن البخاريّ رحمه الله ساقه مطوّلًا، وأما المصنّف رحمه الله، ففرّقه، فأخرج هنا قوله:"إنها" طيبة إلخ"، وأخرج ما يتعلّق بقصّة رجوع بعضهم من أُحد في "باب ذكر المنافقين"، قال الحافظ رحمه الله: وهذا من نادر صنيعه، بخلاف البخاريّ، فإنه يقطّع الحديث كثيرًا في الأبواب. انتهى
(1)
.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [85/ 3357](1384)، و (البخاريّ) في "فضائل المدينة"(1884)، و"المغازي"(4050) و"التفسير"(4589)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3028)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 372) وفي "مسنده" أيضًا (1/ 104)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 184 و 187 و 188 و 287)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 49)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 108)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3358]
(1385) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَهَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْمَدِينَةَ طَابَةَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) ذُكر أول الباب.
2 -
(هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ) التميميّ، أبو السّريّ الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 243) وله (91) سنةً (عخ م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.
(1)
"الفتح" 9/ 126 "كتاب المغازي" رقم (4050).
3 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.
4 -
(أَبُو الْأَحْوَصِ) سلّام بن سُليم الحنفيّ، تقدّم قريبًا.
5 -
(سِمَاكُ) بن حرب البكريّ، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوقٌ تغيّر بآخره، فربما تلقّن [4](ت 123)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.
6 -
(جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ) بن جُنادة السُّوَائيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، نزل الكوفة، ومات بها بعد السبعين (ع) تقدم في "الحيض" 24/ 808.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (218) من رباعيّات الكتاب.
2 -
(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، سوى قتيبة، فبغلانيّ.
[تنبيه]: وقع في شرح النوويّ زيادة أبي كريب في هذا السند، قال النوويّ رحمه الله: قوله: "وحدّثنا قتيبة بن سعيد، وهنّاد بن السريّ، وأبو كريب، وأبو بكر بن أبي شيبة"، هكذا وقع في بعض النسخ، ووقع في أكثرها بحذف ذكر أبي كريب. انتهى
(1)
.
[تنبيه آخر]: إن قلت: كيف أخرج المصنّف هذا الحديث، فإنه من رواية سماك، وقد عرفت أنه متكلّم فيه؟
[قلت]: إنما أخرج له لأن شعبة رواه عنه، فقد أخرجه ابن حبّان في "صحيحه" من طريقه، ومعروف أن شعبة لا يروي للمختلطين، والمدلّسين من مشايخه إلا صحيح حديثهم.
وأيضًا فللحديث شواهد، منها حديث زيد بن ثابت المذكور قبله، وحديث أبي حميد الساعديّ رضي الله عنه عند البخاريّ: أقبلنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم من تبوك حتى أشرفنا على المدينة، فقال:"هذه طابة"، وغير ذلك من الأحاديث، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 156.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) رضي الله عنهما، وفي رواية ابن حبّان من طريق شعبة:"قال: سمعت جابر بن سمرة يقول"، فصرّح سماك بالسماع (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْمَدِينَةَ طَابَةَ") أي: إن اللَّه تعالى سمّاها في اللوح المحفوظ، أو في التوراة، أو أمر نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يسميها بها رَدًّا على المنافقين في تسميتها بيثرب، و"طابة" بتخفيف الموحدة، كشامة تأنيث طاب، وأصلها طيبة، قُلبت الياء ألفًا؛ لتحرِّكها وانفتاح ما قبلها.
وقال القرطبي رحمه الله: طيبة، وطابة من الطيب، وذلك أنها طيّبة التربة، والرائحة، وهي تربة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتُطيّب من سكنها، ويستطيبون بها. انتهى
(1)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله: طيبة وطابة من الطيب؛ لأن المدينة كان اسمها يَثْرِب، والثَّرْبُ: الفساد، فنَهَى أن تُسمّى به، وسمّاها طيبة، وطابة، وهما تأنيث طَيْب، "وطَاب" بمعنى الطيّب، وقيل: هو من الطَّيِّب، بمعنى الطاهر؛ لخلوصها من الشرك، وتطهيرها منه. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: فيه استحباب تسميتها طابة، وليس فيه أنها لا تُسَمَّى بغيره، فقد سمّاها اللَّه تعالى المدينة في مواضع من القرآن، وسمّاها النبيّ صلى الله عليه وسلم طيبة في الحديث الذي قبل هذا، من هذا الباب. انتهى
(3)
.
ورَوَى البخاريّ من حديث أبي حميد الساعديّ رضي الله عنه قال: أقبلنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم من تبوك، حتى أشرفنا على المدينة، فقال:"هذه طابة".
وروى أبو داود الطيالسيّ في "مسنده" عن شعبة، عن سماك:"كانوا يسفون المدينة يَثْرِب، فسمّاها النبيّ صلى الله عليه وسلم طابة"، وأخرجه أبو عوانة.
والطاب، والطيب لغتان بمعنى، واشتقاقهما من الشيء الطيّب، وقيل: لطهارة تربتها، وقيل: لطيبها لساكنها، وقيل: من طيب العيش بها، وقال بعض أهل العلم: وفي طيب ترابها وهوائها دليل شاهد على صحة هذه التسمية؛ لأن من أقام بها يجد من تربتها، وحيطانها رائحة طيبة، لا تكاد توجد في غيرها. انتهى.
(1)
"المفهم" 3/ 498.
(2)
"النهاية" 3/ 149.
(3)
"شرح النوويّ" 9/ 156.
وقال في "المرعاة": وهذه الثلاثة؛ أي: طابة، وطيبة -بتشديد المثناة التحتية- وطَيبة بسكونها، كهيبة، وشيبة، مع المطيَّبة أخوات لفظًا ومعنى، مختلفات صيغة ومبنى، قال السمهوديّ: تسميتها بهذه الأسماء إما من الطَّيب بتشديد المثناة، وهو الطاهر؛ لطهارتها من أدناس الشرك، أو لموافقتها من قوله تعالى:{بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس: 22]، أو لحلول الطيب بها صلى الله عليه وسلم، أو لكونها كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها، وإما من الطِّيب بكسر الطاء، وسكون المثناة؛ لطيب أمورها كلها، وطيب رائحتها، ووجود ريح الطيب بها، قال ابن بطال: من سكنها يجد من تربتها وحيطانها رائحة حسنة، وقال الإشبيلي: لتربة المدينة نفحة ليس طيبها كما عُهِد من الطيب، بل عجب من الأعاجيب. انتهى
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن سمُرة رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [85/ 3358](1385)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 482)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(12/ 179)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 89 و 101 و 106 و 108)، و (عبد اللَّه بن أحمد) في "زوائد المسند"(5/ 94 و 96 و 97 و 98)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3726)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1688)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(1892)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 49)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فيما جاء في أسماء المدينة:
(اعلم): أنه ورد للمدينة النبوية أسماء كثيرة، منها: ما رواه عمر بن شبة في "أخبار المدينة" من رواية زيد بن أسلم، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "للمدينة
(1)
"المرعاة" 9/ 532.
عشرة أسماء، هي: المدينة، وطابة، وطيبة، والمطيَّبة، والمسكينة، والدار، وجابرة، ومجبورة، ومُنِيرة، ويثرب".
ومن طريق محمد بن أبي يحيى قال: لم أزل أسمع أن للمدينة عشرة أسماء، هي: "المدينة، وطيبة، وطابة، والمطيبة، والمسكينة، والمدرى
(1)
، والجابرة، والمجبورة، والمحببة، والمحبوبة".
ورواه الزبير في "أخبار المدينة" من طريق ابن أبي يحيى مثله، وزاد: والقاصمة، ومن طريق أبي سهل بن مالك، عن كعب الأحبار، قال: نجد في كتاب اللَّه الذي أُنزل على موسى عليه السلام أن اللَّه قال للمدينة: يا طيبة، ويا طابة، ويا مسكينة، لا تقبلي الكنوز، أرفع أجاجيرك على القرى.
وروى الزبير في "أخبار المدينة" من حديث عبد اللَّه بن جعفر قال: سمى اللَّه المدينة الدار، والإيمان، ومن طريق عبد العزيز الدراورديّ قال: بلغني أن لها أربعين اسمًا، ذكره في "الفتح"
(2)
، وقد أبلغها السمهوديّ رحمه الله في كتابه "وفاء الوفا" إلى نيّف وتسعين اسمًا
(3)
.
وقد نظمت ما تقدّم بقولي:
وَلمَدِينَةِ الرَّسُولِ وَرَدَا
…
عِدَّةُ أَسْمَاءٍ فَهَاكَ رَشَدَا
طَابَةُ طَيْبَةُ كَذَا الْمَدِينَةُ
…
جَابِرَةٌ وَالدَّارُ وَالْمِسْكِينَةُ
مَجْبُورَةٌ يَثْرِبُ وَالْمُطَيَّبَهْ
…
ثُمَّ الْمَحْبُوبَةُ مَعَ الْمُحَبَّبَهْ
كَذَلِكَ الإِيمَانُ وَالْقَاصِمَةُ
…
فَهَذِهِ أَسْمَاؤُهَا السَّامِيَةُ
وَزَادَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنْ جَاوَزَا
…
تِسْعِينَ فِي "الْوَفَا"
(4)
تَرَاهُ أَحْرَزَا
واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
هذا الاسم لم أعرف ضبطه، ولا المعنى المناسب له، ولذا لم أدخله في النظم، فتأمل.
(2)
"الفتح" 5/ 188 - 189.
(3)
هو نور الدين عليّ بن أحمد السمهوديّ المتوفّى سنة (911 هـ) صاحب كتاب "وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى"، فقد ذكر في ذلك الكتاب نحو أربعة وتسعين اسمًا، فراجعه تستفد.
(4)
أي: في الكتاب المسمَّى بـ "وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى" المذكور آنفًا.
(86) - (بَابٌ مَنْ أَرَادَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِسُوءٍ أَذَابَهُ اللَّهُ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3359]
(1386) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ دِينَارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، كِلَاهُمَا عَن ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يُحَنَّسَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقَرَّاظِ؛ أَنَّهُ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَرَادَ أَهْلَ هَذِهِ الْبَلْدَةِ بِسُوءٍ، يَعْنِي الْمَدِينَةَ، أَذَابَهُ اللَّهُ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون البغداديّ السّمين، صدوقٌ فاضلٌ ربما وَهِم [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.
2 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ دِينَارٍ) التمّار، أبو إسحاق البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 232)(م) تقدم في "الإيمان" 41/ 272.
3 -
(حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ) الأعور، أبو محمد الْمصِّيصيّ، ترمذيّ الأصل، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ، اختلط في آخره [9](ت 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 94.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم قبل بابين.
5 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم قريبًا.
6 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم أيضًا قريبًا.
7 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يُحَنَّسَ) بتحتانيّة مضمومة، ثم حاء مهملة مفتوحة، ونون ثقيلة، حجازيّ مقبول [6].
رَوَى عن دينار بن عبد اللَّه القَرّاظ، ويحيى بن أبي سفيان الأخنسيّ.
وروى عنه ابن جريج، والدّرَاورديّ، وابن أبي فُديك.
ذكره ابن حبان في: الثقات".
روى له مسلم هذا الحديث فقط، وأبو داود حديثًا آخر في فضل الإحرام من بيت المقدس، كذا قال أبو داود، عن أحمد بن صالح، عن ابن أبي
فُديك، عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن يُحَنّس، ورواه البخاريّ في "تاريخه" عن أبي يعلى محمد بن الصلت، عن ابن أبي فديك، عن محمد بن عبد الرحمن بن يُحَنّس، أورده في ترجمة محمد، وقال: لا يُتابع على حديثه.
8 -
(أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقَرَّاظُ) واسمه دينار، تقدّم قبل باب.
9 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، تقدّم في الباب الماضي.
شرح الحديث:
(عَنْ) عبد الملك بن عبد العزيز (بْنِ جُرَيْجٍ) أنه قال: (أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يُحَنَّسَ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا صوابه: أخبرني عبد اللَّه -بفتح العين- مكبَّرًا، وهكذا هو في جميع نسخ بلادنا، ومعظم نسخ المغاربة، ووقع في بعضها: عبيد اللَّه -بضم العين- مصغرًا، وهو غلط، قال: و"يُحَنّس" بكسر النون وفتحها سبق قريبًا. انتهى. (عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقَرَّاظِ) -بالظاء المعجمة- منسوب إلى القَرَظ الذي يُدبَغ به، قال ابن أبي حاتم: لأنه كان يبيعه، واسم أبي عبد اللَّه القرّاظ هذا دينار، وقد سمّاه في الرواية التي بعد هذه، في حديثه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه (أَنَّهُ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّهُ قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَرَادَ أَهْلَ هَذِهِ الْبَلْدَةِ بِسُوءٍ، يَعْنِي الْمَدِينَةَ، أَذَابَهُ اللَّهُ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ") قال النوويّ رحمه الله: قيل: يَحْتَمِل أن المراد: مَن أرادها غازيًا مُغِيرًا عليها، ويَحْتَمِل غير ذلك، وقد سبق بيان هذا الحديث قريبًا في الأبواب السابقة. انتهى.
وتقدّم لمسلم من طريق عامر بن سعد، عن أبيه، في أثناء حديث:"ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء، إلا أذابه اللَّه في النار ذَوْب الرَّصاص، أو ذوب الملح في الماء"، قال عياض: هذه الزيادة تدفع إشكال الأحاديث الأُخَر، وتوضح أن هذا حكمه في الآخرة.
ويَحْتَمِل أن يكون المراد: من أرادها في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم بسوء اضمَحَلّ أمره، كما يضمحل الرصاص في النار، فيكون في اللفظ تقديم وتأخير، ويؤيده قوله:"أو ذوب الملح في الماء".
ويَحْتَمل أن يكون المراد: لمن أرادها في الدنيا بسوء، وأنه لا يُمْهَل، بل
يَذهب سلطانه عن قُرْب، كما وقع لمسلم بن عقبة وغيره، فإنه عوجل عن قرب، وكذلك الذي أرسله، قال: ويَحْتَمِل أن يكون المراد: من كادها اغتيالًا، وطلبًا لغِرّتها في غفلة، فلا يتم له أمر، بخلاف من أتى ذلك جهارًا، كما استباحها مسلم بن عقبة وغيره.
ورَوَى النسائيّ من حديث السائب بن خلاد، رفعه:"من أخاف أهل المدينة ظالمًا لهم، أخافه اللَّه، وكانت عليه لعنة اللَّه"، الحديث، ولابن حبان نحوه من حديث جابر، ذكره في "الفتح"
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [85/ 3359 و 3360 و 3361](1386)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 483)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(2/ 1039) و"الفتن"(1361)، و (عبد الرزّاق) في "مسنده"(9/ 263 - 264)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1167)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 279 و 309 و 330 - 331 و 357)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 585)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3737)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 441 - 442)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 50 - 51)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(9/ 42)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 391)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 422)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3360]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ دِينَارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ (ح) وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، جَمِيعًا عَن ابْنِ
(1)
"الفتح" 5/ 196 - 197.
جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ؛ أَنَّهُ سَمِعَ الْقَرَّاظَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي هُرَيْرَةَ، يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَرَادَ أَهْلَهَا بِسُوءٍ، يُرِيدُ الْمَدِينَةَ، أَذَابَهُ اللَّهُ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ". قَالَ ابْنُ حَاتِمٍ فِي حَدِيثِ ابْنِ يُحَنَّسَ بَدَلَ قَوْلِهِ: "بِسُوءٍ": "شَرًّا").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ) بن أبي حسن المازنيّ المدنيّ، ثقةٌ [6] مات بعد (130)(ع) تقدم في "الإيمان" 88/ 464.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى شرحه، وبيان مسألتيه في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3361]
(. . .) - (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي هَارُونَ مُوسَى بْنِ أَبِي عِيسَى (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، جَمِيعًا سَمِعَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْقَرَّاظَ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلهم ذُكروا في الباب، وفي الأبواب الثلاثة الماضية، غير:
1 -
(مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو) بن علقمة بن وقّاص الليثيّ المدنيّ، صدوقٌ له أوهام [6](ت 145)(ع) تقدم في "الصلاة" 42/ 1085.
[تنبيه]: رواية أبي هارون موسى بن أبي عيسى، عن أبي عبد اللَّه القَرّاظ، ساقها الحميديّ رحمه الله في "مسنده" (2/ 492) فقال:
(1167)
- حدّثنا الحميديّ، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا أبو هارون موسى بن أبي عيسى المدينيّ الخياط؛ أنه سمع أبا عبد اللَّه القَرّاظ يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أيما جَبّار أراد أهل المدينة بسوء أذابه اللَّه في النار، كما يذوب الملح في الماء، ولا يصبر أحد على لأوائها وشدتها، إلا كنت له شهيدًا أو شفيعًا يوم القيامة". انتهى.
وأما رواية محمد بن عمرو، عن القَرّاظ، فقد ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" (9/ 54) فقال:
(3737)
- أخبرنا جعفر بن أحمد بن سنان القطان، قال: حدّثنا أحمد بن المقدام، قال: حدّثنا بِشر بن الْمُفَضَّل، قال: حدّثنا محمد بن عمرو، قال: حدّثني أبو عبد اللَّه القرّاظ؛ أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من أراد أهل المدينة بسوء أذابه اللَّه، كما يذوب الملح في الماء". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3362]
(1387) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ؛ يَعْنِي ابْنَ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عُمَرَ ابْنِ نُبَيْهٍ، أَخْبَرَنِي دِينَارٌ الْقَرَّاظُ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقاصٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَرَادَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِسُوءٍ أَذَابَهُ اللَّهُ، كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ في الْمَاءِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) الحارثيّ، أبو إسماعيل المدنيّ، كوفيّ الأصل، صدوق صحيح الكتاب يَهِم [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الصلاة" 42/ 1086.
2 -
(عُمَرُ بْنُ نُبَيْهٍ) -بنون، وموحّدة، مصغّرًا- الكعبيّ الْخُزاعيّ الحجازيّ، ثقةٌ
(1)
[6].
رَوَى عن أبيه، ودينار أبي عبد اللَّه القرّاظ، وجُمْهان الأسلمىّ، وحمران، وقيل: جُمهان مولى يعقوب القبطيّ، وآخرين.
وروى عنه ابنه حفص، وشريك بن أبي نَمِر، وهو من أقرانه، وسليمان بن بلال، وإسماعيل بن جعفر، وحاتم بن إسماعيل، والدّرَاورديّ، ويحيى القطان، وأبو ضمرة، وغيرهم.
(1)
هذا أولى من قول "التقريب": لا بأس به؛ لأنه روى عنه جماعة، ووثقه ابن المدينيّ، وابن حبّان، وأخرج له المصنّف هنا، ولم يطعن فيه أحد، فهو ثقة.
قال عليّ ابن المدينيّ، عن يحيى بن سعيد: لم يكن به بأس، وقال ابن المدينيّ أيضًا: عمر بن نُبيه شيخ ثقةٌ، وقال النسائيّ في "التمييز": ليس به بأس، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مدنيّ.
تفرّد به المصنّف، والنسائيّ، وليس له عندهما إلا هذا الحديث.
3 -
(سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ) رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.
والباقيان ذُكرا في الباب، وقبله، وشرح الحديث واضح، يُعلم مما سبق.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [86/ 3362 و 3363 و 3364](1387)، و (البخاريّ) في "فضائل المدينة"(1877)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 483)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 441)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 51)، و (البزّار) في "مسنده"(4/ 76)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3363]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، يَعْنِي ابْنَ جَعْفَرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ نُبَيْهٍ الْكَعْبِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقَرَّاظِ؛ أَنَّهُ سَمِعَ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ، غير أَنَّهُ قَالَ: "بِدَهْمٍ، أَوْ بِسُوءٍ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ المدنيّ، تقدّم قبل باب.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (بِدَهْمٍ، أَوْ بِسُوءٍ) بفتح الدال المهملة، وإسكان الهاء: الداهية، والجيش العظيم، أو الفساد العظيم، والدَّهْمُ، والدَّهْماءُ من أسماء الداهية
(1)
.
(1)
"المفهم" 3/ 500.
[تنبيه]: رواية إسماعيل بن جعفر، عن عمر بن نُبيه، ساقها أبو نعيم في "مستخرجه" (4/ 51) فقال:
(3205)
- ثنا أبو عمرو بن حمدان، ثنا الحسن بن سفيان، ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا إسماعيل بن جعفر، عن عُمر بن نُبيه الكعبيّ (ح) وثنا محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل، حدّثني أبي، ثنا يحيى بن سعيد، عن عُمر بن نبيه (ح) وثنا أحمد بن جعفر النسائيّ، ثنا يوسف القاضي، ثنا أبو الربيع، ثنا إسماعيل بن جعفر (ح) وثنا أبو محمد بن حيان، ثنا القاسم بن فُورك، ثنا أبو عمر الدُّوريّ، ثنا إسماعيل بن جعفر، ثنا عُمر بن نبيه، حدّثني أبو عمر الدُّوريّ، ثنا إسماعيل بن جعفر، ثنا عمر بن نبيه
(1)
، حدّثني أبو عبد اللَّه القرّاظ، قال: سمعت سعد بن مالك يقول: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "من أراد أهل المدينة بدَهْم، أو بسوء أذابه اللَّه، كما يذوب الملح في الماء"، قال: لفظ يحيى بن سعيد، وإسماعيل مثله. انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3364]
(. . .) - (وَحَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أُسَامَةُ بْنُ زيدٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقَرَّاظِ، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ وَسَعْدًا يَقُولَانِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ في مُدِّهِمْ"، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَفيهِ: "مَنْ أَرَادَ أَهْلَهَا بِسُوءٍ أَذَابَهُ اللَّهُ، كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ في الْمَاءِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(عُبَيْدُ اللَّه بْنُ مُوسَى) الْعَبْسيّ، تقدّم أيضًا قبل بابين.
3 -
(أُسَامَةُ بْنُ زيدِ) الليثيّ مولاهم، أبو زيد المدنيّ، صدوقٌ يَهِم [7](ت 158)(خت م 4) تقدم في "الصلاة" 42/ 1085.
(1)
كذا وقع التكرار في هذا السند، فليُحرّر.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: رواية أسامة بن زيد الليثيّ، عن أبي عبد اللَّه القَرّاظ، ساقها الإِمام أحمد رحمه الله في "مسنده" (2/ 330) فقال:
(8355)
- حدّثنا عبد اللَّه، حدّثني أبي، ثنا عثمان بن عُمر، ثنا أسامة بن زيد، ثنا أبو عبد اللَّه القَرّاظ؛ أنه سمع سعد بن مالك، وأبا هريرة، يقولان: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اللهم بارك لأهل المدينة في مدينتهم، وبارك لهم في صاعهم، وبارك لهم في مُدّهم، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك، وإني عبدك ورسولك، وإن إبراهيم سألك لأهل مكة، وإني أسألك لأهل المدينة، كما سألك إبراهيم لأهل مكة، ومثله معه، إن المدينة مشتبكة بالملائكة، على كل نَقَب منها ملكان يحرسانها، لا يدخلها الطاعون، ولا الدجال، فمن أرادها بسوء أذابه اللَّه، كما يذوب الملح في الماء". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(87) - (بَابُ التَّرْغيبِ في سُكْنَى الْمَدِينَةِ عِنْدَ فَتْحِ الْأَمْصَارِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3365]
(1388) - (حَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تُفْتَحُ الشَّامُ، فَيَخْرُجُ مِنَ الْمَدِينَةِ قَوْم بِأَهْلِيهِمْ يَبُسُّونَ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ، لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، ثُمَّ تُفْتَحُ الْيَمَنُ، فَيَخْرُجُ مِنَ الْمَدِينَةِ قَوْمٌ بِأَهْلِيهِمْ يَبُسُّونَ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ، لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، ثُمَّ تُفْتَحُ الْعِرَاقُ، فَيَخْرُجُ مِنَ الْمَدِينَةِ قَوْمٌ بِأَهْلِيهِمْ يَبُسُّونَ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ، لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة
إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظٌ له تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
2 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح بن مَلِيح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابد، من كبار [9](ت 6 أو 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
3 -
(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) بن الزبير الأسديّ، أبو المنذر المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ ربّما دلّس [5](ت 5 أو 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.
4 -
(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العوّام الأسديّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ ثبت فقيهٌ مشهورٌ [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 407.
5 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ) بن العوّام القرشيّ الأسديّ، أبو بكر، وأبو خبيب الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (73)(ع) تقدم في "الطهارة" 16/ 610.
6 -
(سُفْيَانُ بْنُ أَبِي زُهَيْرٍ) الأزديّ، من أزد شنوءة، رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه السائب بن يزيد، وعبد اللَّه، وعروة ابنا الزبير، صحابيّ يُعَدّ في أهل المدينة.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وابن ماجه، وله عندهم حديثان فقط، هذا في فضل المدينة، وآخر في اقتناء الكلب، سيأتي للمصنّف برقم (1576):"من اقتنى كلبًا لا يغني عنه زرعًا. . . " الحديث.
[تنبيه]: واسم أبي زُهير الْقَرِد -بفتح القاف، وكسر الراء، بعدها مهملة- وقيل: نُمير، وهو الشنوئيّ، من أزد شنوءه -بفتح المعجمة، وضم النون، وبعد الواو همزة مفتوحة- وفي النسب كذلك، وقيل: بفتح النون، بعدها همزة مكسورة، بلا واو، وشنوءة هو عبد اللَّه بن كعب بن مالك بن نضر بن الأزد، وسُمِّي شنوءة؛ لشنآن كان بينه وبين قومه، ذكره في "الفتح"
(1)
.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، والصحابيّ، كما أسلفته آنفًا.
(1)
"الفتح" 5/ 193.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، ووكيع، فكوفيّان.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، هو أبوه، وصحابيّ، عن صحابيّ.
5 -
(ومنها): أن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب الستة إلا الحديثان المذكوران آنفًا.
شرح الحديث:
(عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ) عروة بن الزبير (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ) وهو أخو عروة، ففي الإسناد صحابيّ، عن صحابيّ، وتابعيّ، عن تابعيّ؛ لأن هشامًا قد لقي بعض الصحابة
(1)
.
(عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ) قال في "الفتح": كذا للأكثر، ورواه حماد بن سلمة، عن هشام، عن أبيه كذلك، وقال في آخره:"قال عروة: ثم لقيتُ سفيانَ بن أبي زُهير عند موته، فأخبرني بهذا الحديث"، وذكر عليّ ابن المدينيّ أنه اختُلِف فيه على هشام اختلافًا آخر، فقال وهيب وجماعة، كما قال مالك، وقال ابن عيينة، عن هشام بسنده: عن سفيان بن الغوث، وقال أبو معاوية، عن هشام بسنده: عن سفيان بن عبد اللَّه الثقفيّ.
قال الحافظ: قد رواه الحميديّ، عن سفيان على الصواب، ورواه أبو خيثمة، عن جرير، فقال: سفيان بن أبي قلابة
(2)
، كأنه عَرَف خطأ جرير، فَكَنَى عنه. انتهى.
(قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تُفْتَحُ الشَّامُ") بهمزة ساكنة، ويجوز تخفيفها، والنسبة إليه شَأْميّ على الأصل، ويجوز شَآمٍ بالمدّ من غير ياء، مثل يَمَني، ويَمَانٍ
(3)
.
وفي رواية ابن جريج التالية: "يُفتح اليمن، فيأتي قوم يبسّون. . . "، فقدّم
(1)
"الفتح" 5/ 193.
(2)
هذا نسخة "الفتح"، والظاهر أنه "سفيان أبي فلان"، فتصحّف إلى أبي قلابة، فليُحرّر.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 328.
فتح اليمن على الشام والعراق، وهي رواية مالك عند البخاريّ، وهي الموافقة للواقع، قال ابن عبد البرّ وغيره: افتُتِحت اليمن في أيام النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي أيام أبي بكر، وافتُتحت الشام بعدها، والعراق بعدها، وفي هذا الحديث عَلَمٌ من أعلام النبوة، فقد وقع على وفق ما أخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعلى ترتيبه، ووقع تفرّق الناس في البلاد؛ لِمَا فيها من السعة والرخاء، ولو صبروا على الإقامة بالمدينة، لكان خيرًا لهم.
وفي هذا الحديث فضل المدينة على البلاد المذكورة، وهو أمر مُجْمَعٌ عليه، وفيه دليل على أن بعض البقاع أفضل من بعض، ولم يختلف العلماء في أن للمدينة فضلًا على غيرها، وإنما اختلفوا في الأفضلية بينها وبين مكة.
(فَيَخْرُجُ مِنَ الْمَدِينَةِ) النبويّة (قَوْمٌ بِأَهْلِيهِمْ يَبُسُّونَ) -بفتح أوله، وضم الموحدة، وبكسرها- من بَسّ يَبِسّ، قال ابن عبد البرّ في رواية يحيى بن يحيى: بكسر الموحدة، وقيل: إن ابن القاسم رواه بضمها، قال أبو عبيد: معناه يسوقون دوابهم، والبَسّ سوق الإبل، تقول: بَسْ بَسْ عند السوق، وإرادة السرعة، وقال الداوديّ: معناه: يزجرون دوابهم، فيَبُسُّون ما يطؤونه من الأرض، من شدة السير، فيصير غُبارًا، قال تعالى:{وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5)} [الواقعة: 5]؛ أي: سالت سَيْلًا، وقيل: معناه: سارت سيرًا، وقال ابن القاسم: البَسّ المبالغة في الْفَتِّ، ومنه قيل للدقيق المصنوع بالدهن: بَسِيسٌ، وأنكر ذلك النوويّ، وقال: إنه ضعيف، أو باطلٌ
(1)
.
قال ابن عبد البرّ: وقيل: معنى يبسّون: يسألون عن البلاد، ويستقرئون أخبارها؛ ليسيروا إليها، قال: وهذا لا يكاد يعرفه أهل اللغة، وقيل: معناه يُزَيِّنون لأهلهم البلاد التي تُفتَح، ويدعونهم إلى سكناها، فيتحملون بسبب ذلك من المدينة راحلين إليها، ويشهد لهذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدّم عند مسلم مرفوعًا:"يأتي على الناس زمان، يدعو الرجل ابن عمه وقريبه، هَلُمّ إلى الرخاء، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون"، وعلى هذا فالذين يتحملون غير
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 158.
الذين يبسون، كأن الذي حضر الفتح أعجبه حسن البلد، ورخاؤها
(1)
، فدعا قريبه إلى المجيء إليها؛ لذلك، فَيَتَحَمَّل المدعوّ بأهله وأتباعه.
قال ابن عبد البرّ
(2)
: ورُوي "يُبِسُّون" بضم أوله، وكسر ثانيه، من الرباعيّ، من أَبَسَّ إِبساسًا، ومعناه يُزَيِّنون لأهلهم البلد التي يقصدونها، وأصل الإبساس للتي تُحْلَب حتى تُدِرَّ باللبن، وهو أن يُجري يده على وجهها، وصفحة عنقها، كأنه يُزَيِّن لها ذلك، ويُحَسِّنه لها، وإلى هذا ذهب ابن وهب، وكذا رواه ابن حبيب، عن مُطَرِّف، عن مالك:"يُبِسُّون" من الرباعيّ، وفسّره بنحو ما ذكرنا، وأنكر الأول غاية الإنكار.
وقال النووي: الصواب أن معناه الإخبار عمن خرج من المدينة مُتَحَمِّلًا بأهله باسًّا في سيره، مُسرعا إلى الرخاء، والأمصار المفتتحة
(3)
.
قال الحافظ: ويؤيده رواية ابن خزيمة، من طريق أبي معاوية، عن هشام، عن عروة، في هذا الحديث، بلفظ:"تُفْتَح الشامُ، فيخرج الناس من المدينة إليها، يُبِسُّون، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون"، ويوضح ذلك ما رَوَى أحمد، من حديث جابر رضي الله عنه؛ أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"ليأتينّ على أهل المدينة زمان، يَنطلِق الناس منها إلى الأرياف، يلتمسون الرخاء، فيجدون رخاء، ثم يأتون، فيتحملون بأهليهم إلى الرخاء، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون"، وفي إسناده ابن لَهِيعة، ولا بأس به في المتابعات، وهو يوضح ما قلناه، واللَّه أعلم.
ورَوَى أحمد في أول حديث سفيان هذا قصةً، أخرجها من طريق بِشر بن سعيد؛ أنه سمع في مجلس الليثيين، يذكرون أن سفيان بن أبي زُهير أخبرهم؛ أن فرسه أعيت بالعقيق، وهو في بعث، بعثهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فرجع إليه يستحمله، فخرج معه يبتغي له بعيرًا، فلم يجده إلا عند أبي جهم بن حُذيفة العدويّ، فسامه له، فقال له أبو جهم: لا أبيعكها يا رسول اللَّه، ولكن خذه،
(1)
أنّث الضمير؛ لأن البلد يُذكّر، ويؤنّث، كما في "المصباح المنير" 1/ 60.
(2)
"التمهيد" 22/ 224 - 225، و"الاستذكار" 26/ 27 - 28.
(3)
"شرح النوويّ" 9/ 158.
فاحمل عليه من شئت، ثم خرج حتى إذا بلغ بئر إهاب، قال:"يوشك البنيان أن يأتي هذا المكان، ويوشك الشام أن يُفتح، فيأتيه رجال من أهل هذا البلد، فيعجبهم رَيعه، ورخاؤه، والمدينة خير لهم. . . "، الحديث
(1)
.
(وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ، لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)؛ أي: بفضلها من الصلاة في المسجد النبويّ، وثواب الإقامة فيها، وغير ذلك، ويَحْتَمِل أن تكون "لو" بمعنى "ليت"، فلا يحتاج إلى تقدير، وعلى الوجهين ففيه تجهيل لمن فارقها، وآثر غيرها، قالوا: والمراد به الخارجون من المدينة رغبةً عنها، كارهين لها، وأما من خرج لحاجة، أو تجارة، أو جهاد، أو نحو ذلك، فليس بداخل في معنى الحديث.
وقال البيضاويّ: المعنى: أنه يُفتح اليمن، فيُعجب قومًا بلادها وعيش أهلها فيحملهم ذلك على المهاجرة إليها بأنفسهم، وأهليهم حتى يخرجوا من المدينة، والحال أن الإقامة في المدينة خير لهم؛ لأنها حرم الرسول صلى الله عليه وسلم، وجواره، ومهبط الوحي، ومنزل البركات، لو كانوا يعلمون ما في الإقامة بها من الفوائد الدينية، والعوائد الأخروية التي يُسْتَحْقَر دونها ما يجدونه من الحظوظ الفانية العاجلة بسبب الإقامة في غيرها.
وقوّاه الطيبيّ لتنكير "قوم"، ووصفهم بكونهم يبسّون، ثم توكيده بقوله:"لو كانوا يعلمون"؛ لأنه يُشعر بأنهم ممن رَكَن إلى الحظوظ البهيمية، والحطام الثاني، وأعرضوا عن الإقامة في جوار الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك كَرَّر قومًا ووصفه في كل قرينة بقوله:"يبسّون" استحضارًا لتلك الهيئة القبيحة.
قال: والذي يقتضيه هذا المقام أن يُنَزَّل "يعلمون" منزلة اللازم؛ لينتفي عنهم العلم والمعرفة بالكلية، ولو ذُهب مع ذلك إلى معنى التمني لكان أبلغ؛ لأن معنى التمني طلب ما لا يمكن حصوله؛ أي: لَيْتَهُم كانوا من أهل العلم؛ تغليظًا وتشديدًا. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله
(2)
.
(ثُمّ تُفْتَحُ الْيَمَنُ) هو الإقليم المعروف، سُمّي بذلك؛ لأنه عن يمين
(1)
"الفتح" 5/ 194 - 195.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 2058.
الشمس عند طلوعها، وقيل: لأنه عن يمين الكعبة
(1)
. (فَيَخْرُجُ مِنَ الْمَدِينَةِ) النبويّة (قَوْمٌ بِأَهْلِيهِمْ يَبُسُّونَ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ، لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، ثُمَّ تُفْتَحُ الْعِرَاقُ) بكسر العين المهملة، وتخفيف الراء: الإقليم المعروف، ويُذكّر ويؤنث، قيل: هو مُعرّبٌ، وقيل: سُمّي عِراقًا؛ لأنه سَفَلَ عن نجد، ودنا من البحر؛ أخذًا من عِرَاق الْقِرْبة والْمَزَادة، وغير ذلك، وهو ما ثَنَوْهُ، ثم خَرَزُوه مَثْنِيًا، قاله الفيّومي رحمه الله
(2)
.
(فَيَخْرُجُ مِنَ الْمَدِينَةِ) النبويّة (قَوْمٌ بِأَهْلِيهِمْ يَبُسُّونَ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ، لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ")؛ أي: لو كانوا من ذوي العلم لَمَا خرجوا منها، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سفيان بن أبي زُهير رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [87/ 3365 و 3366](1388)، و (البخاريّ) في "فضائل المدينة"(1875)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4264)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 887 - 888)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(17159)، و (الحميديّ) في "مسنده"(865)، و (ابن أبي شيبة) في "مسنده"(2/ 279)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 220)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6673)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(6408)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(1112)، و (البيهقيّ) في "دلائل النبوّة"(6/ 320)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2018). واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل المدينة النبويّة، وفضل السكنى فيها، والصبر على شدّتها، وضيق العيش بها.
2 -
(ومنها): ما قاله الإِمام ابن عبد البرّ رحمه الله: وفي هذا الحديث عَلَمٌ
(1)
"المصباح المنير" 2/ 682.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 405.
من أعلام نبوّته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه غَيْبٌ كان بعده، قد أخبر به، وهو لا يعلم من الغيب إلا ما أظهره اللَّه عليه، وأَوْحَى به إليه، فقد افتُتِحَت بعده الشام، والعراق، واليمن بعضها، وقد خرج الناس من المدينة إلى الشام، وإلى اليمن، وإلى العراق، وكان ما قاله صلى الله عليه وسلم، وكذلك لو صبروا بالمدينة لكان خيرًا لهم، قال صلى الله عليه وسلم:"لا يصبر أحد على لأوائها، وشدّتها إلا كنت له شهيدًا، أو شفيعًا يوم القيامة". انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): أن فيه بيان فضل المدينة على اليمن، وعلى الشام، وعلى العراق، وهو أمرٌ مُجمع عليه، لا خلاف بين العلماء فيه، وقد صحّت الأخبار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بفضل المدينة، وأجمع علماء الأمة على أن لها فضلًا معروفًا لأن مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم وقبره فيها، وإنما اختلفوا في الأفضل منها ومن مكة لا غير، وقد تقدّم أن الجمهور على تفضيل مكة على المدينة، وهو الصحيح، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
4 -
(ومنها): أن فيه دليلًا على أن بعض البقاع أفضل من بعض، ولا يوصل إلى شيء من ذلك إلا بتوقيف من جهة الخبر، وأما القياس والنظر فلا مدخل له في شيء من ذلك، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3366]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يُفْتَحُ الْيَمَنُ، فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ، فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ، لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، ثُمَّ يُفْتَحُ الشَّامُ، فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ، فَيَتَحَمَّلُونَ بأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ، لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، ثُمَّ يُفْتَحُ الْعِرَاقُ، فَيَأْتِي قَوْم يَبُسُّونَ، فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ، لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ").
(1)
"التمهيد" 22/ 224.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، وفي الباب الماضي.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(88) - (بَابُ إِخْبَارِه صلى الله عليه وسلم بِتَرْكِ النَّاسِ الْمَدِينَةَ عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3367]
(1389) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو صَفْوَانَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ (ح) وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، وَاللَّفْظُ لَهُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ؛ أَنَّهُ سَمِعَ؛ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْمَدينَةِ: "لَيَتْرُكَنَّهَا أَهْلُهَا عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ، مُذَلَّلَةً لِلْعَوَافي، يَعْنِي السِّبَاعَ وَالطَّيْرَ".
قَالَ مُسْلِم: أَبُو صَفْوَانَ هَذَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، يَتِيمُ ابْنِ جُرَيْجٍ عَشْرَ سِنِينَ، كَانَ في حَجْرِهِ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو صَفْوَانَ) عبد اللَّه بن سعيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص الأمويّ الدمشقيّ، نزيل مكة، ثقةٌ [9].
ذَهَبت به أمه أمّ جميل بنت عمرو بن عبد اللَّه بن صفوان بن أمية إلى مكة حين قُتل أبوه مع مروان بن محمد.
رَوَى عن أبيه، وابن جريج، ويونس بن يزيد الأيليّ، وأسامة بن زيد الليثيّ، ومالك، وابن أبي ذئب، ومجالد، وثور بن يزيد، وغيرهم.
وروى عنه أحمد، والشافعيّ، والحميديّ، وعليّ ابن المدينيّ، وأبو
خيثمة، ونعيم بن حماد، ومحمد بن عابد المكيّ، وقتيبة بن سعيد، وغيرهم.
قال ابن معين، وعليّ ابن المدينيّ، وأبو مسلم عبد الرحمن بن يونس المستملي: ثقةٌ، وقال أبو زرعة: لا بأس به، صدوقٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال عليّ ابن المدينيّ: قال لي أبو صفوان: كان مؤدِّبي يحيى بن يحيى الغسانيّ، قال عليّ: وكان أفقه قرشيّ رأيته، وقال الدارقطنيّ: من الثقات، حَكَى بعضهم أنه تُوُفّي في حدود المائتين.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، هذا برقم (1389) وحديث (1606):"الحلف منفقة للسلعة. . . "، و (1619):"أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم. . . "، و (1665):"للعبد المملوك المصلح أجران"، و (168)
(1)
: "الحمد للَّه الذي هداك للفطرة. . . ".
3 -
(يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ) الأيليّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
5 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد اللَّه القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ فقيهٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
6 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم، تقدّم قريبًا.
7 -
(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) تقدّم أيضًا قريبًا.
8 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه ذُكر قبل باب.
وقوله: (لِلْمَدِينَةِ) اللام بمعنى "عن"؛ أي: شأنها، وحالها، ونظيره قوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} الآية [الأحقاف: 11]
(2)
.
وقوله: (عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ)؛ أي: على أحسن حال كانت عليها.
وقوله: (مُذَلَّلَةً لِلْعَوَافِي)؛ أي: متمكنا منها العوافي، غير محميّة عنها،
(1)
هذا رقم مكرّر، فتنبّه.
(2)
راجع: "مغني اللبيب" 1/ 419.
ولا ممتنعة منها، وتذليل القطف تسهيل اجتنائه، وإدناؤه من قاطفه، كما قال تعالى:{وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} [الإنسان: 14].
وقوله: (يَعْنِي السِّبَاعَ وَالطَّيْرَ) يعني أنه صلى الله عليه وسلم أراد بقوله: "للعوافي"، والمعنى أن أهل المدينة يتركونها في حال أحسنيّتها مُخلّاةً للوحش والطير.
وقوله: (قَالَ مُسْلِم) وابن الحجّاج، صاحب الكتاب، وقوله:(هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ) نسبه لجدّه، فهو عبد اللَّه بن سعيد بن عبد الملك، ولم أر هذا الكلام في غير هذا الكتاب.
وقوله: (يَتِيمُ ابْنِ جُرَيْجٍ عَشْرَ سِنِينَ. . . إلخ) قال في "التهذيب": ذهبت به أمه أمّ جميل بنت عمرو بن عبد اللَّه بن صفوان بن أمية إلى مكة حين قُتل أبوه مع مروان بن محمد بنهر أبي فُطْرُس، وذلك سنة اثنتين وثلاثين ومائة. انتهى
(1)
.
وقوله: (كَانَ فِي حَجْرِهِ) بفتح الحاء، وقد تكسر، وأصله حِضْنُ الإنسان، وهو ما دون إبطه إلى الْكَشْح، والمراد هنا أنه في كَنَفه، وحِمَايته
(2)
، ولعل ابن جريج تزوّج أمه، فربّاه، واللَّه تعالى أعلم.
والحديث متّفقٌ عليه، وسيأتي شرحه مستوفًى في الحديث التالي، وإنما أخّرته إليه؛ لكونه أتمّ سياقًا مما هنا، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3368]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْب بْنِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، عَن ابْنِ شِهَابٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ؛ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يَتْرُكُونَ الْمَدِينَةَ عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ، لَا يَغْشَاهَا إِلَّا الْعَوَافِي -يُرِيدُ عَوَافِيَ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ- ثُمَّ يَخْرُجُ
(1)
"تهذيب الكمال" 15/ 35، و"تهذيب التهذيب" 2/ 346.
(2)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 121 - 122.
رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ، يُرِيدَانِ الْمَدِينَةَ، يَنْعِقَانِ بِغَنَمِهِمَا، فَيَجِدَانِهَا وَحْشًا، حَتَّى إِذَا بَلَغَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ خَرَّا عَلَى وُجُوهِهِمَا").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ) الْفَهميّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ [11](ت 248)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.
2 -
(أَبُوهُ) شعيب بن الليث بن سعد الفهميّ مولاهم، أبو عبد الملك المصريّ ثقةٌ نبيلٌ فقيهٌ، من كبار [10](ت 199)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.
3 -
(جَدُّهُ) الليث بن سعد الإِمام المشهور المصريّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(عُقَيْلُ بْنُ خَالِدِ) الأمويّ مولاهم، أبو خالد الأيليّ، ثم المدنيّ، ثم الشاميّ، ثم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 133.
والباقون ذُكروا قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة من الليث بن سعد.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمصريين إلى عُقيل، ثم بالمدنيين.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية الراوي عن أبيه عن جدّه، وتابعيّ عن تابعيّ، هو أحد الفقهاء السبعة، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ (أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ؛ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ("يَتْرُكُونَ الْمَدِينَةَ) هكذا رواية المصنّف: "يتركون" بتحتانيّة، وفي رواية البخاريّ:"تتركون"، قال في "الفتح": كذا للأكثر بتاء الخطاب، والمراد بذلك غير المخاطبين؛ لكنهم من أهل البلد، أو من نسل المخاطبين، أو من نوعهم، قال: ورُوي: "يتركون"، بتحتانية، ورجّحه القرطبي.
(عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ)؛ أي: على أحسن حال كانت عليه من قبلُ، قال
القرطبيّ تبعًا لعياض: وقد وُجد هذا الذي قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذلك حيث صارت بعده صلى الله عليه وسلم معدن الخلافة، وموضعها، ومقصد الناس، وملجأهم، ومَعقلهم، حتى تنافس الناس فيها، وتوسّعوا في خططها، وغَرَسوا، وسكنوا منها ما لم يُسكن من قبلُ، وبنوا فيها، وشيّدوا حتى بلغت المساكن إهاب، كما سيأتي في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي -إن شاء اللَّه تعالى-، وجُلبت إليها خيرات الأرض كلّها، وصارت من أعمر البلاد فلما انتهت حالها كمالًا وحُسنًا، انتقلت الخلافة عنها إلى الشام، ثم إلى العراق، وتغلبت عليها الأعراب، وتعاورتها الفتن، فخاف أهلها، فارتحلوا عنها.
قال: وذكر الأخباريّون أنها خلت من أهلها، وبقيت ثمارها للعوافي: الطير والسباع، كما قال صلى الله عليه وسلم، ثم تراجع الناس إليها، وفي حال خلائها غَذَت الكلاب على سواري المسجد، وعوافي الطير: هي الطالبة لما تأكل، يقال: عفوته أعفوه: إذا طلبت معروفه، وغَذَّى الكلب يُغَذّي: إذا بال دفعة بعد دفعة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
(لَا يَغْشَاهَا) أي: لا يأتيها، يقال: غَشِيته أغشاه، من باب تَعِبَ: أتيته، والاسم الْغِشْيان بالكسر
(2)
. (إِلَّا الْعَوَافِي)"إلا" هنا ملغاة، و"العوافي" مرفوع على الفاعليّة لـ "يغشاها"، فالاستثناء مفرّغ، ثم فسّر العوافي بقوله:(يُرِيدُ) النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: "العوافي"(عَوَافِيَ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ) قال النوويّ رحمه الله: أما "العوافي" فقد فسّرها في الحديث بالسباع والطير، وهو صحيح في اللغة، مأخوذ من عَفَوته: إذا أتيته تطلب معروفه، وأما معنى الحديث، فالظاهر المختار أن هذا الترك للمدينة يكون في آخر الزمان، عند قيام الساعة، وتوضّحه قصة الراعيين من مزينة، فإنهما يَخِرّان على وجوههما، حين تدركهما الساعة، وهما آخر من يُحْشَر، كما ثبت في "صحيح البخاريّ"، فهذا هو الظاهر المختار.
وقال القاضي عياض: هذا مما جرى في العصر الأول وانقضى، قال: وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم، فقد تُركت المدينة على أحسن ما كانت حين انتقلت
(1)
"المفهم" 3/ 501.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 448.
الخلافة عنها إلى الشام والعراق، وذلك الوقت أحسن ما كانت للدين والدنيا، أما الدين فلكثرة العلماء وكمالهم، وأما الدنيا فلعمارتها، وغرسها، واتّساع حال أهلها، قال: وذكر الأخباريون في بعض الفتن التي جرت بالمدينة، وخاف أهلها أنه رَحَلَ عنها أكثر الناس، وبقيت ثمارها، أو أكثرها للعوافي، وخَلَت مُدّة، ثم تراجع الناس إليها، قال: وحالها اليوم قريب من هذا، وقد خَرِبت أطرافها. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله.
وقال في "الفتح": و"العوافي" جمع عافية، وهي التي تطلب أقواتها، ويقال للذكر: عَافٍ، قال ابن الجوزيّ: اجتمع في العوافي شيئان:
أحدهما: أنها طالبة لأقواتها، من قولك: عَفَوتُ فلانًا أعفوه، فأنا عَافٍ، والجمع عُفَاةٌ؛ أي: أتيت أطلب معروفه.
والثاني: من العَفَاء، وهو الموضع الخالي الذي لا أنيس به، فإن الطير والوحش تقصده لأمنها على نفسها فيه.
وقال النوويّ: المختار أن هذا الترك يكون في آخر الزمان، عند قيام الساعة، ويؤيده قصة الراعيين، فقد وقع عند مسلم بلفظ:"ثم يُحْشَر راعيان"، وفي رواية البخاريّ: أنهما آخر من يحشر.
قال الحافظ: ويؤيده ما رَوَى مالك، عن ابن حماس -بمهملتين، وتخفيف- عن عمه، عن أبي هريرة، رفعه:"لَتُتْرَكَنَّ المدينةُ على أحسن ما كانت، حتى يدخل الذئب، فيَعْوِي على بعض سواري المسجد، أو على المنبر"، قالوا: فلمن تكون ثمارها؟ قال: "للعوافي: الطيرِ، والسباع"، أخرجه مَعْن بن عيسى في "الموطإ"، عن مالك، ورواه جماعة من الثقات خارج "الموطإ".
قال: ويشهد له أيضًا ما روى أحمد، والحاكم، وغيرهما من حديث مِحْجَن بن الأدرع الأسلميّ، قال: بعثني النبيّ صلى الله عليه وسلم لحاجة، ثم لقيني، وأنا خارج من بعض طرق المدينة، فأخذ بيدي حتى أتينا أُحُدًا، ثم أقبل على المدينة، فقال:"ويل أمها قريةً، يوم يَدَعُها أهلها، كأينع ما يكون"، قلت: يا رسول اللَّه مَن يأكل ثمرها؟ قال: "عافية الطير والسباع".
ورَوَى عمر بن شبة بإسناد صحيح، عن عوف بن مالك، قال: دخل
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المسجد، ثم نظر إلينا، فقال:"أما واللَّه ليَدَعَنَّها أهلُها مُذَلَّلَة أربعين عامًا للعوافي، أتدرون ما العوافي؟ الطير والسباع".
قال الحافظ: وهذا لم يقع قطعًا.
وقال المهلّب: في هذا الحديث أن المدينة تُسْكَن إلى يوم القيامة، وإن خَلَت في بعض الأوقات؛ لقصد الراعيين بغنمهما إلى المدينة.
(ثُمَّ يَخْرُجُ رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ) وفي رواية البخاريّ: "وآخر من يحشر راعيان من مزينة"، قال في "الفتح": هذا يَحْتَمِل أن يكون حديثًا آخر مستقلًّا، لا تعلق له بالذي قبله، ويَحْتَمِل أن يكون من تتمة الحديث الذي قبله، وعلى هذين الاحتمالين يترتب الاختلاف الذي حكيته عن القرطبيّ، والنوويّ، والثاني أظهر. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: ومما يؤيّد الثاني، وهو كونه من تتمّة الحديث رواية المصنّف بلفظ:"ثمّ يَخرُجُ"، فقد عطفه بـ "ثُمَّ" المرتّبة بمهلة، فتأمل، واللَّه تعالى أعلم.
(يُرِيدَانِ الْمَدِينَةَ، يَنْعِقَانِ بِغَنَمِهِمَا) بكسر العين المهملة، وفتحها، بعدها قاف، يقال: نَعَقَ بغنمه: كمنع، وضرب نَعْقًا، ونَعِيقًا، ونُعاقًا بالضمّ، ونَعَقَانًا بفتحات: صاح بها، وزجرها، قاله المجدّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": والنَّعِيق زجر الغنم، يقال: نَعَق يَنْعَق بكسر العين وفتحها، نَعِيقًا، ونُعَاقًا: ونَعَقاقًا: إذا صاح بالغنم، وأغرب الداوديّ، فقال: معناه: يطلب الكلأ، وكأنه فسّره بالمقصود من الزجر؛ لأنه يزجرها عن المرعى الوَبِيل إلى المرعى الوسيم. انتهى
(2)
.
(فَيَجدَانِهَا وَحْشًا)؛ أي: خاليةً ليس بها أحدٌ، والوحش من الأرض: الخلاء، أَو كثيرة الوحش لَمّا خلت من سكانها، ورواه البخاريّ بلفظ:"وحُوشًا"؛ أي: يجدانها ذات وحش، أو يجدان أهلها قد صاروا وُحُوشًا، قال في "الفتح": وهذا على أن الرواية بفتح الواو؛ أي: يجدانها خاليةً.
وقال النوويّ: الصحيح أن معناه يجدانها ذات وحوش، قال: وقد يكون
(1)
"القاموس المحيط" 3/ 286.
(2)
"الفتح" 5/ 191.
وَحْشًا بمعنى وحوش، وأصل الوحش كلُّ شيء توحَّش من الحيوان، وجمعه وُحُوشٌ، وقد يعبّر بواحده عن جمعه، وحُكِي عن ابن المرابط أن معناه أن غنم الراعيين المذكورين تصير وُحوشًا، إما بأن تنقلب ذاتها، وإما أن تتوحش وتنفر منهما، وعلى هذا فالضمير في "يجدانها" يعود على الغنم، والظاهر خلافه، قال النوويّ: الصواب الأول.
وقال القرطبيّ: القدرة صالحة لذلك. انتهى.
قال الحافظ: ويؤيده أن في بقية الحديث: أنهما يخران على وجوههما إذا وصلا إلى ثنية الوداع، وذلك قبل دخولهما المدينة بلا شكّ، فيدلّ على أنهما وجدا التوحش المذكور قبل دخول المدينة، فيقوى أن الضمير يعود على غنمهما، وكان ذلك من علامات قيام الساعة، ويوضح هذا رواية عمر بن شبة في "أخبار المدينة" من طريق عطاء بن السائب، عن رجل من أشجع، عن أبي هريرة موقوفًا، قال:"آخر من يحشر رجلان: رجل من مزينة، وآخر من جهينة، فيقولان: أين الناس؟ فيأتيان المدينة، فلا يريان إلا الثعالب، فينزل إليهما ملكان، فيسحبانهما على وجوههما، حتى يلحقاهما بالناس".
(حَتَّى إِذَا بَلَغَا) أي: الراعيان (ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ) قال المجد رحمه الله: الثنيةُ: العَقَبةُ، أو طريقها، أو الجبل، أو الطريقة فيه، أو إليه. انتهى
(1)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله: الثنيّةُ في الجبل كالعَقَبة فيه، وقيل: هو الطريق العالي فيه، وقيل: أعلى المسيل في رأسه. انتهى
(2)
.
و"الوَداع" بفتح الواو اسم من التوديع، قال الفيّوميّ رحمه الله: ودّعتُهُ توديعًا، والاسم: الوَداع بالفتح، مثلُ سلّ سَلَامًا، وهو أن تُشَيِّعه عند سفره. انتهى
(3)
.
وسُمّي ثنيّة الوداع؛ لأن الخارج من المدينة يمشي معه الموَدِّعُون إليها، قاله في "العمدة"
(4)
.
وقوله: (خَرَّا عَلَى وُجُوهِهِمَا") كناية عن سقوطهما ميتين، وتقدّم في رواية البخاريّ:"وآخر من يحشر راعيان من مزينة"، قال في "الفتح": لم يذكر في
(1)
"القاموس المحيط" 4/ 309.
(2)
"النهاية" 1/ 226.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 653.
(4)
"عمدة القاري" 10/ 238.
الحديث -يعني في رواية مسلم هذه- حشرهما، وإنما ذكر مقدمته؛ لأن الحشر إنما يقع بعد الموت، فذكر سبب موتهما، والحشر يعقبه، وقوله على هذا:"خَرّا على وجوههما": سقطا ميتين، أو المراد بقوله:"خَرَا على وجوههما"؛ أي: سقطا بمن أسقطهما، وهو الملَك، كما تقدم في رواية عمر بن شبة، وفي رواية للعقيليّ: أنهما كانا ينزلان بجبل وَرْقان، وله من حديث حذيفة بن أَسِيد: أنهما يفقدان الناس، فيقولان: ننطلق إلى بني فلان، فيأتيانهم، فلا يجدان أحدًا، فيقولان:"ننطلق إلى المدينة، فينطلقان، فلا يجدان بها أحدًا، فينطلقان إلى البقيع، فلا يريان إلا السباع والثعالب"، وهذا يوضح أحد الاحتمالات المتقدمة.
وقد رَوَى ابن حبان من طريق عروة، عن أبي هريرة، رفعه:"آخر قرية في الإِسلام خرابًا المدينة"، وهو يناسب كون آخر من يُحْشَر يكون منها.
[تنبيه]: أنكر ابن عمر على أبي هريرة تعبيره في هذا الحديث بقوله: "خير ما كانت"، وقال: إن الصواب: "أَعْمَرَ ما كانت"، أخرج ذلك عمر بن شبة في "أخبار المدينة" من طريق مُساحق بن عمرو؛ أنه كان جالسًا عند ابن عمر، فجاء أبو هريرة، فقال له: لِمَ ترُدّ عليّ حديثي؟ فواللَّه لقد كنتُ أنا وأنت في بيت، حين قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"يخرج منها أهلها خير ما كانت"، فقال ابن عمر: أجل، ولكن لم يقل: خير ما كانت، إنما قال:"أعمر ما كانت"، ولو قال: خير ما كانت، لكان ذلك، وهو حيّ وأصحابه، فقال أبو هريرة: صدقت، والذي نفسي بيده.
ورَوَى مسلم من حديث حذيفة؛ أنه لما سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عمن يُخْرِج أهل المدينة من المدينة، ولعمر بن شبة من حديث أبي هريرة: قيل: يا أبا هريرة، من يخرجهم؟ قال: أمراء السوء، ذكره في "الفتح"
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"الفتح" 5/ 192.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [88/ 3367 و 3368](1389)، و (البخاريّ) في "فضائل المدينة"(1874)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 888)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 403)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 234 و 385 و 390)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 609)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 52 - 53)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6772). وفوائد الحديث تُعلم مما سبق، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(89) - (بَابُ مَا بَيْنَ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ رَوْضَة مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3369]
(1390) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زيدٍ الْمَازِنيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب.
2 -
(مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) إمام دار الهجرة، تقدّم قريبًا.
3 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ) بن محمد بن عمرو بن حَزْم الأنصاريّ المدنيّ القاضي، ثقةٌ [5](ت 135)(ع) تقدم في "الصلاة" 17/ 916.
4 -
(عَبَّادُ بْنُ تَمِيمِ) بن غَزِيّة الأنصاريّ المازنيّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الحيض" 25/ 810.
5 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ الْمَازِنيُّ) هو: عبد اللَّه بن زيد بن عاصم بن كعب
الأنصاريّ المازنيّ، أبو محمد الصحابيّ الشهير، استُشهد بالحرّة سنة (63)(ع) تقدم في "الطهارة" 7/ 566.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، وشيخه، وإن كان بغلانيًّا إلا أنه دخل المدينة؛ للأخذ عن مالك وغيره.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زيدٍ الْمَازِنيِّ) لأنَّه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ("مَا) اسم موصول مبتدأ، والظرف صلتها" و"روضة" خبرها، و"من رياض الجنّة" بيان لـ "ما" (بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي) كذا هو في حديث عبد اللَّه بن زيد، وحديث أبي هريرة بلفظ: "بيتي"، قال في "الفتح"عند شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: "ما بين بيتي ومنبري"، كذا للأكثر، ووقع في رواية ابن عساكر وحده: "قبري" بدل "بيتي"، وهو خطأ، فقد تقدم هذا الحديث في "كتاب الصلاة" قبيل "الجنائز" بهذا الإسناد بلفظ: "بيتي"، وكذلك هو في "مسند مسدد" شيخ البخاري فيه.
وقال القرطبي: الرواية الصحيحة: "بيتي"، ويروى:"قبري" وكأنه بالمعنى؛ لأنه دفن في بيت سكناه.
نعم وقع في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عند البزار بسند رجاله ثقات، وعند الطبرانيّ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ القبر، فعلى هذا المراد بالبيت في قوله:"بيتي" أحد بيوته صلى الله عليه وسلم، لا كلها، وهو بيت عائشة رضي الله عنها الذي صار فيه قبره، وقد ورد الحديث بلفظ:"ما بين المنبر وبيت عائشة روضة من رياض الجنة"، أخرجه الطبرانيّ في "الأوسط". انتهى
(1)
.
(1)
"الفتح" 5/ 205 - 206.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: أخرج النسائيّ في "الكبرى"(2/ 489) فقال:
(4290)
- أنبأ قتيبة بن سعيد، والحارث بن مسكين، قراءةً عليه وأنا أسمع، عن سفيان، عن عمار الدُّهنيّ، عن أبي سلمة، عن أم سلمة؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة"، قال النسائيّ: في حديث الحارث: "ما بين قبري ومنبري".
قال الجامع عفا اللَّه عنه: رجال هذا الحديث رجال الصحيح، فما قاله في "الفتح" من أن رواية "قبري" خطأ فيه نظر، اللهم إلا إذا أراد بالنسبة لرواية البخاريّ، فالحقّ أن رواية "قبري" صحيحة، ويكون ذلك عَلمًا من أعلام النبوّة بأن أشار صلى الله عليه وسلم أنه سيدفن في ذلك المحلّ، أو يكون من الرواية بالمعنى، والأول أولى، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
(رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ") قال النوويّ رحمه الله: ذكروا في معناه قولين: أحدهما: أن ذلك الموضع بعينه يُنقل إلى الجنة، والثاني أن العبادة فيه تؤدي إلى الجنة، قال الطبريّ: في المراد ببيتي هنا قولان: أحدهما: القبر، قاله زيد بن أسلم، كما رُوي مفسرًا: بين قبري ومنبري، والثاني: المراد بيت سكناه على ظاهره، ورُوي:"ما بين حجرتي ومنبري"، قال الطبريّ: والقولان متفقان؛ لأن قبره في حجرته، وهي بيته. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "روضة من رياض الجنّة"؛ أي: كروضة من رياض الجنة في نزول الرحمة، وحصول السعادة بما يَحصُل من ملازمة حِلَق الذِّكر، لا سيّما في عهده صلى الله عليه وسلم، فيكون تشبيهًا بغير أداة، أو المعنى أن العبادة فيها تؤدي إلى الجنة، فيكون مجازًا، أو هو على ظاهره، وأن المراد أنه روضة حقيقةً، بأن يُنتقل ذلك الموضع بعينه في الآخرة إلى الجنة، هذا مُحَصَّل ما أوّله العلماء في هذا الحديث، وهي على ترتيبها هذا في القوّة. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي الأَولى حمل الحديث على ظاهره؛ لأن حمل النصوص على ظاهر ما دلّت عليه، ويتبادر إلى الذهب إذا أمكن هو المتعيّن، ثم هو مع ذلك لا ينافي المعاني الأُخَرَ، بأن يقال: هو روضة من
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 161 - 162.
(2)
"الفتح" 5/ 206.
رياض الجنّة حقيقة، وهو محلّ نزول الرحمة، وأن العبادة فيه توصل إلى الجنة، فتأمّل، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن زيد الأنصاريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [89/ 3369 و 3370](1390)، و (البخاريّ) في "كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة"(1195)، و (النسائيّ) في "كتاب المساجد"(2/ 35)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 39 و 40 و 41)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 54)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3370]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَنِيُّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زيدٍ الْأَنْصَارِيِّ؛ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا بَيْنَ مِنْبَرِي وَبَيْتِي رَوْضَةٌ مِنْ رِياضِ الْجَنَّةِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَنيُّ) الدراورديّ، تقدّم قبل بابين.
3 -
(يَزِيدُ بْنُ الْهَادِ) هو: يزيد بن عبد اللَّه بن أسامة بن الهاد الليثيّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ مُكثرٌ [5](ت 139)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسألتيه في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3371]
(1391) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّه (ح) وَحَدَثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَة مِنْ رَياضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(محمدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) بن فَروخ القطّان، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ إمام قُدوة، من كبار [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.
3 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد اللَّه بن نُمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(أَبُوهُ) عبد اللَّه بن نُمير الهمدانيّ الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(عُبَيْدُ اللَّه) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر الْعُمريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [5] مات سنة بضع و (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
6 -
(خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن خُبيب بن يساف الأنصاريّ، أبو الحارث المدنيّ، ثقةٌ [4](ت 132)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
7 -
(حَفْصُ بْنُ عَاصِمِ) بن عمر بن الخطّاب العمريّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
والباقيان ذُكرا في الباب الماضي، وشرح الحديث يُعلم مما سبق.
وقوله: (وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي) قال القاضي عياض رحمه الله: قال أكثر العلماء: المراد منبره صلى الله عليه وسلم بعينه الذي كان في الدنيا، قال: وهذا هو الأظهر، قال: وأنكر كثير منهم غيره، قال: وقيل: إن له هناك منبرًا على حوضه، وقيل: معناه أن قصد منبره، والحضور عنده لملازمة الأعمال الصالحة يورد
صاحبه الحوض، ويقتضي شربه منه. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "ومنبري على حوضي"؛ أي: يُنقل يوم القيامة، فيُنصب على الحوض، وقال الأكثر: المراد منبره بعينه الذي قال هذه المقالة، وهو فوقه، وقيل: المراد المنبر الذي يوضع له يوم القيامة، والأول أظهر، ويؤيده حديث أبي سعيد المتقدِّم، وقد رواه الطبراني في "الكبير" من حديث أبي واقد الليثيّ رفعه:"أن قوائم منبري رواتب في الجنة"، وقيل: معناه أن قصد منبره، والحضور عنده لملازمة الأعمال الصالحة يورد صاحبه إلى الحوض، ويقتضي شربه منه، واللَّه أعلم.
ونقل ابن زِبالة أن ذَرْع ما بين المنبر والبيت الذي فيه القبر الآن ثلاث وخمسون ذراعًا، وقيل: أربع وخمسون وسدس، وقيل: خمسون إلا ثلثي ذراع، وهو الآن كذلك، فكأنه نقص لما أُدخل من الحجرة في الجدار.
واستُدِلّ به على أن المدينة أفضل من مكة؛ لأنه أثبت أن الأرض التي بين البيت والمنبر من الجنة، وقد قال في الحديث الآخر:"لقاب قوس أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها".
وتعقبه ابن حزم بأن قوله أنها من الجنة مجازٌ؛ إذ لو كانت حقيقة لكانت كما وصف اللَّه الجنة: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118)} [طه: 118]، وإنما المراد أن الصلاة فيها تؤدي إلى الجنة، كما يقال في اليوم الطيب: هذا من أيام الجنة، وكما قال صلى الله عليه وسلم:"الجنة تحت ظلال السيوف"، قال: ثم لو ثبت أنه على الحقيقة لما كان الفضل إلا لتلك البقعة خاصّة، فإن قيل: إن ما قَرُب منها أفضل مما بَعُد لزمهم أن يقولوا: إن الجحفة أفضل من مكة، ولا قائل به. انتهى
(2)
.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
"إكمال المعلم" 4/ 509.
(2)
راجع: "الفتح" 5/ 206.
أخرجه (المصنّف) هنا [89/ 3371](1391)، و (البخاريّ) في "كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة"(1196) و"فضائل المدينة"(1888) و"الرقاق"(6588) و"الاعتصام"(7335)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3915 و 3916)، و (مالك) في "الموطّإ"(1/ 197)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(5243)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 236 و 276 و 297 و 401 و 465 و 528 و 533) و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3750)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 54)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 246) و"معرفة الآثار"(2/ 341)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(452)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(90) - (بَابُ فَضْلِ جَبَل أُحُدٍ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3372]
(1392) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ السَّاعِدِيِّ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: ثُمَّ أَقْبَلْنَا حَتَّى قَدِمْنَا وَادِي الْقُرَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي مُسْرعٌ، فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ فَلْيُسْرِعْ مَعِي، وَمَنْ شَاءَ فَلْيَمْكُثْ"، فَخَرَجْنَا حَتَّى أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: "هَذِهِ طَابَةُ، وَهَذَا أُحُدٌ، وَهُوَ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ) تقدّم قريبًا.
2 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ المدنيّ، تقدم أيضًا قريبًا.
3 -
(عَمْرُو بْنُ يَحْيَى) بن عمارة المازنيّ المدنيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
4 -
(عَبَّاسُ بْنُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ) أدرك زمن عثمان رضي الله عنه، ثقةٌ [4].
رَوَى عن أبيه، وأبي أُسيد، وأبي حُميد الساعديين، وأبي هريرة، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل، وعبد اللَّه بن الزبير، وغيرهم.
وروى عنه ابناه: أُبَيّ، وعبد المهيمن، وعمرو بن يحيى بن عُمارة، وعبد الرحمن بن سليمان ابن الْغَسيل، وعُمارة بن غَزِيّة، وابن إسحاق، وغيرهم.
قال ابن معين، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن سعد: كان ثقةٌ قليل الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات".
قال الهيثم بن عديّ: تُوُفِّي بالمدينة زمن الوليد بن عبد الملك، قال الحافظ المزيّ: كذا قال، والأشبه أن يكون زمن الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وذلك قريب من سنة عشرين ومائة.
وقال الحافظ: قد أَرَّخ وفاته في زمن الوليد بن عبد الملك، كما قال الهيثم محمدُ بن سعد، عن شيخه الواقديّ وغيره، وخليفة بن خياط، ويعقوب بن سفيان، وابن حبان، وزاد: سنة تسعين، وزاد: ابن سعد: وُلِد في عهد عمر، وقُتل عثمان، وهو ابن خمسة عشر سنة، وكان منقطعًا إلى ابن الزبير. انتهى.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1392)، وأعاده في "كتاب الفضائل"، وحديث (1610):"من اقتطع شبرًا من الأرض ظلمًا طَوَّقه اللَّه إياه يوم القيامة من سبع أرضين".
5 -
(أَبُو حُمَيْدٍ) الساعديّ الصحابيّ المشهور، واسمه المنذر بن سعد بن المنذر، أو ابن مالك، وقيل: اسمه عبد الرحمن، وقيل: عمرو، شَهِدَ أُحُدًا وما بعدها، وعاش إلى خلافة يزيد سنة ستين (ع) تقدم في "الصلاة" 17/ 916.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ) الساعديّ، قد تقدّم آنفًا الخلاف في اسمه، أنه (قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ) تقدّم أنها كانت في رجب سنة تسع من الهجرة، فصالح النبيّ صلى الله عليه وسلم أهلها من غير قتال، وقوله:(وَسَاقَ الْحَدِيثَ) الظاهر
أن الضمير لعبد اللَّه بن مسلمة شيخه، وفيه إشارة إلى أن المصنّف اختصره هنا، وقد ساقه بطوله في "كتاب الفضائل"، بالسند المذكور هنا: عن أبي حميد قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، فأتينا وادي القرى على حديقة لامرأة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"اخرُصوها"، فخرصناها، وخرصها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عشرة أوسق، وقال:"أحصيها حتى نرجع إليك -إن شاء اللَّه-"، وانطلقنا حتى قَدِمنا تبوك، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"سَتَهُبّ عليكم الليلة ريحٌ شديدةٌ، فلا يقم فيها أحدٌ منكم، فمن كان له بعير فليشدّ عِقاله"، فهبت ريح شديدةٌ، فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبل طيئ، وجاء رسول ابن العلماء صاحب أيلة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بكتاب، وأهدى له بغلة بيضاء، فكتب إليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأهدى له بُرْدًا، ثم أقبلنا حتى قَدِمنا وادي القرى، فسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المرأة عن حديقتها، كم بلغ ثمرها؛ فقالت: عشرة أوسق، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إني مسرع، فمن شاء منكم فليسرع معي، ومن شاء فليمكث"، فخرجنا حتى أشرفنا على المدينة، فقال:"هذه طابة، وهذا أُحُدٌ، وهو جبل يحبنا ونحبه"، ثم قال:"إن خير دور الأنصار دار بني النجار، ثم دار بني عبد الأشهل، ثم دار بني عبد الحارث بن الخزرج، ثم دار بني ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير"، فَلَحِقنا سعد بن عبادة، فقال أبو أسيد: ألم تر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خَيَّر دور الأنصار، فجعلنا آخرًا، فأدرك سعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه خَيَّرت دور الأنصار، فجعلتنا آخرًا، فقال:"أوَليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار؟ ".
(وَفِيهِ)؛ أي: في ذلك الحديث الذي ساقه، وهو الذي ذكرته الآن (ثُمَّ أَقْبَلْنَا)؛ أي: إلى المدينة راجعين من تبوك (حَتَّى قَدِمْنَا) بكسر الدال (وَادِي الْقُرَى) اسم موضع قريب من المدينة على الحجاج من جهة الشام
(1)
. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي مُسْرعٌ) أي: إلى المدينة (فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ)؛ أي: الإسراعَ (فَلْيُسْرع مَعِي، وَمَنْ شَاءَ فَلْيَمْكُثْ)؛ أي: فيتأخّر في المسير، ولا يَعْجل فيه، إنما قال صلى الله عليه وسلم لهم ذلك؛ تيسيرًا عليهم؛ لئلا يشقّ عليهم الإسراع معه، ففيه كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على أصحابه رضي الله عنهم (فَخَرَجْنَا حَتى أَشْرَفْنَا)؛ أي: قاربنا، واطّلعنا
(1)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 654.
(عَلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("هَذِهِ) الإشارة إلى المدينة (طَابَةُ) تقدّم أنها بمعنى طيبة، قال في "القاموس" و"شرحه": وطَيْبَةُ عَلَمٌ على المَدِينَة النَّبَوِيّةِ -على سَاكِنِها أَفْضَلُ الصَّلَاة وأَتَمُّ السَّلَام- وعَلَيْهِ اقْتَصَر الجَوْهَرِيُّ، قال ابن بَرِّيّ، وقد سَمَّاهَا النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بِعِدَّة أَسْمَاء، كَطَابَةَ، والطَّيِّبَةِ، والمُطَيَّبَة، والجَابِرَة، والمَجْبُورَة، والحَبِيبَة، والمَحْبُوبَة، والمُوفِيَة، والمِسْكِينَة، وغَيْرِهَا، مِمَّا سَرَدْنَاهَا في غير هذا المحل، وفي الحَدِيث أَنَّه أَمَرَ أَنْ تُسَمَّى المَدِينة طَيْبَةَ، وطَابَة، وهما تَأنِيثُ طَيْبٍ، وطَاب، بمَعْنَى الطِّيبِ؛ لأَن المَدِينَةَ كانَ اسمُهَا يَثْرِبَ، والثَّرْبُ الفَسَادُ، فنَهَى أَن يُسَمَّى بِهَا، وسَمَّاها طَابَةَ، وطَيْبَةَ، وقِيلَ: هُوَ مِنَ الطَّيِّب الطَّاهِرِ؛ لخُلُوصِهَا من الشِّرْكِ، وتَطْهِيرِها مِنْهُ، ومِنْه:"جُعِلَت لِي الأَرْضُ طَيِّبَةً طَهُورًا"؛ أي: نَظِيفَةً غير خَبِيثَة، والمُطَيَّبَةُ، في قَول المُصَنّفِ مَضْبُوطٌ بِصِيغَة المَفْعُولِ، وَهُو طَاهِرٌ، ويَحْتَمِلُ بِصِيغَةِ الفَاعِل؛ أي: المُطَهِّرَةُ المُمَحِّصَةُ لذُنُوبِ نَازِليهَا. انتهى
(1)
، وتقدّم البحث في أسمائها قريبًا، فلا تغفل.
(وَهَذَا أُحُدٌ، وَهُوَ جَبَلٌ يُحِبنا وَنُحِبُّهُ") تقدّم أن الصحيح في معناه أنه على ظاهره، وأن اللَّه سبحانه وتعالى جعل فيه إدراكا وتمييزًا، فيُحب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه حقيقةً، وقيل: معناه يحبنا أهله، وهم أهل المدينة، وهذا تأويل ضعيف، كما سبق تحقيقه في حديث أنس رضي الله عنه المتقدّم برقم [3322](1365)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي حُميد الساعديّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [90/ 3372](1392)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1481) و"فضائل المدينة"(1872) و"الجزية"(3161) وفي "مناقب الأنصار"(3791) و"المغازي"(4422)، و (أبو داود) في "الخراج "(3079)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(14/ 539 - 540)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 424)،
(1)
"القاموس"، و"شرحه تاج العروس" 1/ 359.
و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2314)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4503)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 122)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3373]
(1393) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أُحُدًا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ) العنبريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر العنبريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ) السَّدُوسيّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [6](155)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 126.
4 -
(قَتَادَةُ) بن دعامة بن قتادة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ يُدلّس، رأس [4](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
5 -
(أنسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه، تقدّم قريبًا، وشرح الحديث يُعلم مما سبق.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [90/ 3373 و 3374](1393) و (البخاريّ) في "المغازي"(4083)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3922)، و (ابن ماجه) في "المناسك"(3115)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 889)، و (عبد الرزّاق) في "مصنفه"(17170)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 140)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 54)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3725)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5/ 325 و 438)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3374]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنِي حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ، حَدَّثَنَا قُرَّةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أُحُدٍ، فَقَالَ: "إِنَّ أُحُدًا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ) البصريّ، نزيل بغداد، تقدّم قريبًا.
2 -
(حَرَمِيُ بْنُ عُمَارَةَ) بن أبي حفصة ثابت -بنون وموحّدة، ثم مثنّاة- وقيل: ثابت، الْعَتَكيّ البصريّ، أبو رَوْح، صدوقٌ يَهِمُ [9](ت 201)(خ م د س ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 31/ 1394.
والباقون ذُكروا قبله، والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(91) - (بَابُ فَضْلِ الصَّلَاةِ بِمَسْجِدَيْ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3375]
(1394) - (حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَاللَّفْظُ لِعَمْرٍو، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَن الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "صَلَاةٌ في مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: ابن محمد بن بُكير البغداديّ، نزيل الرقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.
2 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا قبل باب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحاد كيفية التحمّل والأداء.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له الترمذي، وابن ماجه، والثاني ما أخرج له الترمذي.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعيّ، هو أحد الفقهاء السبعة، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في عصره.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) أي: بسند الحديث إليه صلى الله عليه وسلم، وإنما عدل عن الصيغ المألوفة، كـ "سمعت"، و"قال"، و"عن"، ونحوها إلى هذا لكونه نسي الصيغة، فأتى بما يعمّ الجميع، واللَّه تعالى أعلم (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("صَلَاةٌ في مَسْجِدِي هَذَا) قال النوويّ رحمه الله: ينبغي أن يَحْرِص المصلي على الصلاة في الموضع الذي كان في زمانه صلى الله عليه وسلم دون ما زيد فيه بعده؛ لأن التضعيف إنما ورد في مسجده، وقد أكّده بقوله:"هذا" بخلاف مسجد مكة، فإنه يشمل جميع مكة، بل صحح النوويّ أنه يعم جميع الحرم (أَفْضَلُ) وفي الرواية التالية:"خيرٌ"(مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ) أي: في غير المسجد النبويّ، وفي الرواية التالية:"فيما سواه من المساجد"(إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) سقط هذا الاستثناء من بعض النسخ سهوًا، وقد اختُلف في هذا الاستثناء على حسب اختلافهم في مكة والمدينة أيّهما أفضل، والجمهور على أن مكة أفضل من المدينة، وهو المذهب الصحيح، وسيأتي تحقيق البحث في ذلك في المسألة الرابعة -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [91/ 3375 و 3376 و 3377 و 3378 و 3379](1394)، و (البخاريّ) في "فضائل المدينة"(1190)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(325) و"المناقب"(3916)، و (النسائيّ) في "المساجد"(2/ 35) و"مناسك الحجّ"(5/ 213) و"الكبرى"(1/ 257 و 2/ 390)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(1404)، و (مالك) في "الموطّإ"(1/ 196)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(5/ 121 و 122 و 123)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 371)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 419)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 256 و 371 و 386 و 468 و 473 و 484 و 499)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 330)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1621 و 1625)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 55 - 57)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(1/ 247)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(5/ 114) و"الكبير"(2/ 133)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 278)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 246) و"المعرفة"(2/ 157)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل الصلاة في المسجد الحرام، وهل هو خاص بالمسجد أم يعمّ الحرم كله؟ فيه خلاف، والصحيح أنه يعمّ الحرم كلّه، كما سيأتي تحقيقه قريبًا -إن شاء اللَّه تعالى-.
2 -
(ومنها): بيان فضل الصلاة في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، حيث إنه يُضاعَف على غيره بأكثر من ألف صلاة، إلا المسجد الحرام، وهل هو خاص بما كان مسجدًا في عهده، أم يعمّ الزائد بعده؟ فيه خلاف سيأتي تحقيقه قريبًا أيضًا -إن شاء اللَّه تعالى-.
3 -
(ومنها): كون مكة أفضل من المدينة؛ حيث إن الصلاة في مكة أفضل من الصلاة في المدينة، وهو رأي الجمهور، وخالف في ذلك مالك، وسيأتي تحقيق القول في ذلك أيضًا في المسألة الخامسة -إن شاء اللَّه تعالى-.
4 -
(ومنها): أنه يؤخذ منه أن من نذر أن يصلي في أحد هذه المساجد الثلاثة لزمه الوفاء به، إلا إذا كان مكانه أفضل من مكان النذر، وإليه ذهب مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: لا يلزمه، وله أن يصلي في أي محل شاء، وإنما يجب عنده المشي إلى المسجد الحرام إذا نذر حجًّا أو عمرة.
والقول الأول هو الأرجح؛ لهذا الحديث، ولما رواه أحمد، وأبو داود من حديث جابر رضي الله عنه، أن رجلًا قال يوم الفتح: يا رسول اللَّه، إني نذرت إن فتح اللَّه عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس، فقال:"صل ههنا"، فسأله؟ فقال:"شأنك إذن"، ورواه أيضًا البيهقيّ، والحاكم، وصححه، وصححه أيضًا ابن دقيق العيد في "الاقتراح".
ولأحمد، وأبي داود أيضًا: عن بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذا الخبر، وزاد: فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "والذي بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق لو صليت ههنا لقضى عنك ذلك كل صلاة في بيت المقدس".
قال الشوكانيّ رحمه الله: سكت عنه أبو داود، والمنذريّ، وله طرق، رجال بعضها ثقات.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: فيؤخذ منه أنه لو كان غير مكة، ومثله المدينة لم يقض عنه نذره، بل يجب الوفاء به.
وأما ما عدا المساجد الثلاثة فلا يتعين مكانًا للنذر، ولا يجب الوفاء به عند الجمهور، أفاده في "النَّيل"
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في معنى الاستثناء في قوله: "إلا المسجد الحرام":
(اعلم) أنهم اختلفوا في معنى هذا الاستثناء، فقال الجمهور: معناه إلا المسجد الحرام، فإن الصلاة فيه أفضل من الصلاة في مسجد المدينة، حكاه ابن عبد البرّ عن ابن الزبير، وعطاء بن أبي رَبَاح، وقتادة، وسفيان بن عيينة، ومن المالكية: مُطَرِّف، وابن وهب، وجماعة أهل الأثر، وقال به الشافعيّ، وأحمد.
ويدل له ما رواه الإِمام أحمد، والبزار في "مسنديهما"، وابن حبان في "صحيحه"، والبيهقي في "السنن الكبرى"، وغيرهم، عن عبد اللَّه بن الزبير، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما
(1)
راجع: "نيل الأوطار" 1/ 238 - 240.
سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا".
قال ابن عبد البرّ رحمه الله: اختُلِف على ابن الزبير في رفعه ووقفه، ومَن رفعه أحفظ وأثبت من جهة النقل، وهو أيضًا صحيح في النظر؛ لأن مثله لا يُدرك بالرأي، مع شهادة أئمة الحديث للذي رفعه بالحفظ والثقة، وقال النوويّ رحمه الله: حديث حسن، وقال الحافظ العراقي في "شرح الترمذيّ": رجاله رجال الصحيح.
وروى ابن ماجه من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعًا: "صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه"، وفي بعض النسخ:"من مائة صلاة فيما سواه"، فعلى الأول معناه: فيما سواه إلا مسجد المدينة، وعلى الثاني: معناه: من مائة صلاة في مسجد المدينة، ورجال إسناده ثقات، لكنه من رواية عطاء في ذلك عنه.
قال ابن عبد البر: جائز أن يكون عند عطاء في ذلك عنهما، وعلى ذلك يحمله أهل العلم بالحديث، ويؤيده أن عطاء إمام واسع الرواية، معروف بالرواية عن جابر وابن الزبير.
وروى البزار والطبراني من حديث أبي الدرداء رفعه: "الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة". قال البزار: إسناده حسن.
وفي "سنن ابن ماجه" حديث آخر يقتضي تفضيل الصلاة في مسجد مكة، إلا أنه مخالف لما تقدم في قدر الثواب، رواه عن أنس مرفوعًا، وفيه:"وصلاته في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة، وصلاته في مسجدي بخمسين ألف صلاة، وصلاته في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة"، قال العراقيّ رحمه الله: فيه أبو الخطاب الدمشقيّ يحتاج إلى الكشف عنه.
وذهب آخرون إلى أن معنى الاستثناء: إلا المسجد الحرام، فإن الصلاة في مسجدي أفضل من الصلاة فيه بدون ألف صلاة، ذكر ابن عبد البر أن يحيى بن يحيى سأل عبد اللَّه بن نافع عن معنى هذا الحديث، فذكر هذا، ثم
قال ابن عبد البر: تأويل ابن نافع بعيد عند أهل المعرفة باللسان، قال: ويلزمه أن يقول: إن الصلاة في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بتسعمائة ضعف وتسعة وتسعين ضعفًا، وإذا كان هكذا لم يكن للمسجد الحرام فضل على سائر المساجد إلا بالجزء اللطيف على تأويل ابن نافع، وحسبك ضعفًا بقولٍ يؤول إلى هذا.
وقال ابن بطال: مثّل بعض العلماء بلسان العرب الاستثناء في هذا الحديث بمثال بَيِّن فيه معناه، فإذا قلت: اليمن أفضل من جميع البلاد بألف درجة، إلا العراق جاز أن يكون العراق مساويًا لليمن، وجاز أن يكون فاضلًا، وأن يكون مفضولًا، فإن كان مساويًا فقد عُلم فضله، وإن كان فاضلًا أو مفضولًا لم يُعلم مقدار المفاضلة بينهما، إلا بدليل على عدة درجات، إما زائدة على ذلك، أو ناقصة عنه.
قال وليّ الدين العراقيّ رحمه الله: هذا كلام فيه إنصاف، بخلاف كلام ابن نافع، وقد قام الدليل على أن المسجد الحرام فاضل بمائة درجة، وقد سبق ذلك، فوجب الرجوع إليه.
ثم قال ابن عبد البرّ رحمه الله: وقد زعم بعض المتأخرين من أصحابنا: أن الصلاة في مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بمائة صلاة، ومن غيره بألف صلاة، قال: واحتَجَّ لذلك بما رواه سفيان بن عيينة، عن زياد بن سعد، عن سليمان بن عتيق، قال: سمعت ابن الزبير، قال: سمعت عمر بن الخطاب، يقول:"صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيما سواه".
قال: وتأول بعضهم هذا الحديث أيضًا عن عمر على أن الصلاة في مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم خير من تسعمائة صلاة في المسجد الحرام، قال: وهذا كله تأويل لا يعضده دليل، وحديث سليمان بن عتيق هذا لا حجة فيه؛ لأنه مختلف في إسناده، وفي لفظه، وقد خالف فيه من هو أثبت منه، فمن الاختلاف أنه روي عنه، عن ابن الزبير، عن عمر بلفظ:"صلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاة في مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وبلفظ:"صلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإنما فضله عليه بمائة صلاة".
قال: فكيف يحتجون بحديث قد روي فيه ضِدَّ ما ذكروه نصًّا من روايات الثقات إلى ما في إسناده من الاختلاف أيضًا؟
وقد ذكره عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرني سليمان بن عتيق، وعطاء، عن ابن الزبير أنهما سمعاه يقول:"صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيه، ويشير إلى مسجد المدينة".
ثم رَوَى ابن عبد البر بإسناده عن سليمان بن عتيق، عن ابن الزبير، عن عمر:"صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإنما فضله عليه بمائة صلاة"، ثم قال: على أنه لم يُتابع سليمان بن عتيق على ذكره عمر، وهو مما أخطأ فيه عندهم، وانفرد به، وما انفرد به فلا حجة فيه، وإنما الحديث محفوظ عن ابن الزبير. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما سبق من التحقيق أن المراد بالاستثناء تفضيل المسجد الحرام على مسجد المدينة، كما هو رأي الجمهور، فما ذهبوا إليه هو الحقُّ؛ لظهور أدلّته، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): أنه استَدَلّ الجمهور بهذا الحديث بالتقرير الذي تقدم على تفضيل مكة على المدينة؛ لأن الأمكنة تشرف بفضل العبادة فيها على غيرها، مما تكون العبادة فيه مرجوحة.
وهو مذهب سفيان بن عيينة، والشافعي، وأحمد، في أصح الروايتين عنه، وابن وهب، ومطرف، وابن حبيب؛ الثلاثة من أصحاب المالكية، وحكاه الساجيّ، عن عطاء بن أبي رباح، والمكيين، والكوفيين، وبعض البصريين والبغداديين، وحكاه ابن عبد البر رحمه الله عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وأبي الدرداء، وابن عمر، وجابر، وعبد اللَّه بن الزبير، وقتادة، لكن حَكَى القاضي عياض، والنووي عن عمر أن المدينة أفضل، وحكاه ابن بطال، عن عمر بصيغة التمريض، فقال: وروي عن عمر، قال ابن عبد البر: وقد روي عن
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 6/ 46 - 49.
مالك ما يدل على أن مكة أفضل الأرض كلها، قال: لكن المشهور عن أصحابه في مذهبه تفضيل المدينة.
ومما يدل للجمهور ما رواه الترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه عن عبد اللَّه بن عديّ بن حمراء رضي الله عنه، قال: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم واقفًا على الْحَزَوَّرة، فقال:"واللَّه إنك لخير أرض اللَّه، وأحب أرض اللَّه إلى اللَّه، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت"، قال الترمذيّ: حسن صحيح، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، وقال ابن عبد البر: هذا من أصح الآثار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: وهذا قاطع في محل الخلاف. انتهى.
وذهب آخرون إلى تفضيل المدينة على مكة، وهو قول مالك، وأهل المدينة، وحكاه زكريا الساجيّ عن بعض البصريين والبغداديين، وتقدم قول من حكاه عن عمر.
قال ابن عبد البرّ رحمه الله: واستَدَلّ أصحابنا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة"، قال: ورَكَّبوا عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها"، قال: وهذا لا دليل فيه على ما ذهبوا إليه؛ لأنه إنما أراد به ذمّ الدنيا والزهد فيها، والترغيب في الآخرة، فأخبر أن اليسير من الجنة خير من الدنيا كلها، وأراد بذكر السوط -واللَّه تعالى أعلم- التقليل، لا أنه أراد موضع السوط بعينه، بل موضع نصف سوط، وربع سوط من الجنة الباقية خير من الدنيا الفانية، ثم قال: ولا حجة لهم في شيء مما ذهبوا إليه، ولا يجوز تفضيل شيء من البقاع على شيء إلا بخبر يجب التسليم له، ثم ذكر حديث ابن حمراء المتقدم، وقال: كيف يترك مثل هذا النصّ الثابت، ويُمال إلى تأويل لا يجامع متأوله عليه؟ انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكِر أن الأرجح في المسألة هو ما ذهب إليه الجمهور من تفضيل مكة على المدينة؛ لقوة حجته.
وقد أشبع الكلام الإِمام المجتهد البارع أبو محمد بن حزم رحمه الله في كتابه "الْمُحَلَّى" ناصرًا رأي الجمهور في تفضيل مكة على المدينة، ومُفَنِّدًا رأي
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 6/ 49 - 50.
القائلين بالعكس، وناقضًا لما تمسكوا به، بما لا تجده في كتاب غيره، فلتُراجع كتابه المذكور
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): استثنى القاضي عياض رحمه الله من القول بتفضيل مكة البقعة التي دُفن فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وضمّت أعضاءه الشريفة، وحكى اتفاق العلماء على أنها أفضل بقاع الأرض.
وقال النوويّ في "شرح المهذب": ولم أر لأصحابنا تعرُّضًا لما نقله، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: وتُعُقِّب على القاضي بأن هذا لا يتعلق بالبحث المذكور؛ لأن محله ما يترتب عليه الفضل للعباد.
وأجاب القرافيّ: بأن سبب التفضيل لا ينحصر في كثرة الثواب على العمل، بل قد يكون لغيرها، كتفضيل جلد المصحف على سائر الجلود.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: جواب القرافيّ هذا غير مفيد، بل التعقب المذكور على وجهه، فافهم.
قال ابن عبد البر: وكان مالك يقول: مِنْ فَضْلِ المدينة على مكة أني لا أعلم بقعة فيها قبر نبيّ معروف غيرها، قال ابن عبد البر: يريد ما يُشَكّ فيه، فإن كثيرًا من الناس يزعم أن قبر إبراهيم عليه السلام بيت المقدس، وأن قبر موسى عليه السلام هناك، ثم ذكر حديث أبي هريرة المرفوع في سؤال موسى عليه السلام ربه أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر، ثم قال: إنما يُحتج بقبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على من أنكر فضلها، أما من أقر به، وأنه ليس على وجه الأرض أفضل بعد مكة منها، فقد أنزلها منزلتها، واستعمل القول بما جاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في مكة، وفيها.
ثم روى ابن عبد البر عن عليّ بن أبي طالب أنه قال: إني لأعلم أي بقعة أحب إلى اللَّه في الأرض؟ هي البيت الحرام، وما حوله.
وقال بعضهم: سبب تفضيل البقعة التي ضمت أعضاءه الشريفة أنه روي "أن المرء يدفن في البقعة التي أخذ منها ترابه عندما يُخْلَق"، رواه ابن عبد البر في أواخر "التمهيد" من طريق عطاء الخراسانيّ موقوفًا، وعلى هذا، فقد رَوَى
(1)
"المحلى" 7/ 279 - 290.
الزبير بن بكار أن جبريل عليه السلام أخذ التراب الذي خُلِق منه النبيّ صلى الله عليه وسلم من تراب الكعبة، فعلى هذا؛ فالبقعة التي ضمت أعضاءه من تراب الكعبة، فيرجع الفضل المذكور إلى مكة، إن صح ذلك، واللَّه تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: مثل هذه الأمور تحتاج إلى دليل صحيح، وهذه الأخبار التي أوردها هنا لم يثبت لدينا صحّتها، فلا يُعتمد عليها فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): قال الحافظ وليّ الدين العراقيّ رحمه الله نقلًا عن والده في "شرح الترمذيّ" ما نصه: في حديث عبد اللَّه بن الزبير، وجابر، وابن عمر، وأبي الدرداء، وأنس رضي الله عنهم مرفوعًا:"إن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة"، وفي حديث عمر رضي الله عنه موقوفًا عليه:"إن الصلاة فيه خير من مائة صلاة"، وهكذا رواه الطبراني في "الأوسط" من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا، وفي بعض طرق أثر عمر:"إن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاة بمسجد المدينة"، وفي حديث الأرقم:"إن الصلاة بمكة أفضل من ألف صلاة ببيت المقدس" رواه أحمد وغيره.
قال: والجمع بين هذا وبين ما تقدم؛ أن يُحْمَل أثر عمر باللفظ الأول، وحديث عائشة على تقدير صحتهما على أن المراد خير من مائة صلاة في مسجد المدينة، فيكون موافقًا لحديث ابن الزبير، ومن معه، وحديث الأرقم، وأثر عمر باللفظ الثاني يقتضي أن تكون الصلاة في المسجد الحرام بألف ألف صلاة، وإذا تعذّر الجمع، فيرجع إلى الترجيح، وأصح هذه الأحاديث حديث ابن الزبير، وجابر، وابن عمر، وأبي الدرداء، فإن أسانيدها صحيحة.
قال: وأما الاختلاف في مسجد المدينة، فأكثر الأحاديث الصحيحة:"إن الصلاة فيه خير من ألف صلاة"، وفي حديث أبي الدرداء:"إنها بألف صلاة" من غير تفضيل على الألف، وفي حديث أنس عند ابن ماجه:"إن الصلاة فيه بخمسين ألف صلاة"، وفي حديث أبي ذر عند الطبراني في "الأوسط":"إن الصلاة فيه أفضل من أربع صلوات ببيت المقدس".
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 6/ 50 - 51 بزيادة من "الفتح" 3/ 81 - 82.
قال: وقد اختَلَفت الأحاديث في المقدار الذي تضاعف به الصلاة في مسجد بيت المقدس، فعند ابن ماجه من حديث ميمونة مولاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن الصلاة فيه كألف صلاة في غيره"، وعند الطبراني في حديث أبي الدرداء:"إن الصلاة بخمسمائة صلاة"، وفي حديث أنس عند ابن ماجه:"إن الصلاة فيه بخمسين ألف صلاة".
فعلى هذا تكون الصلاة بمسجد المدينة إما بأربعة آلاف على مقتضى حديث ميمونة، وإما بألفين على مقتضى حديث أبي الدرداء، وإما بمائتي ألف صلاة على مقتضى حديث أنس، لكنه في هذا الحديث سوّى بين مسجد المدينة وبين مسجد بيت المقدس.
وأصح طرق أحاديث الصلاة ببيت المقدس: "إنها بألف صلاة"، فعلى هذا أيضًا يستوي المسجد الأقصى مع مسجد المدينة، وعند أحمد من حديث أبي هريرة، أو عائشة، مرفوعًا:"صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الأقصى"، وعلى هذا فتُحْمَل هذه الرواية على تقدير ثبوتها: إلا المسجد الأقصى، فإنهما مستويان في الفضل، ولا مانع من المصير إلى هذا؛ أي: فإنه ليس بأفضل من ألف صلاة فيه، بل هو مساوٍ له.
وأصح طرق أحاديث التضعيف في المدينة: "إنها أفضل من ألف"، والأصح في بيت المقدس "إنها بألف"، فيمكن أيضًا أن يكون التفاوت بينهما بالزيادة على الألف، واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذيّ"
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: عندي الأَولى في مثل هذا الاختلاف أن يُسْلَك مسلك الترجيح، فيؤخذ بالأصح، كما أشار إليه العراقيّ آنفًا، فلا حاجة لسائر الروايات المخالفة للأصح، فليتنبه، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثامنة): ظاهر الحديث أنه لا فرق في تضعيف الصلاة بين الفرض والنفل، وبه قال الشافعية، ومُطَرِّف، من المالكية، وذهب الطحاويّ
(1)
"طرح التثريب" 6/ 51 - 52.
إلى اختصاص التضعيف بالفرض، وهو مقتضى كلام ابن حزم الظاهريّ؛ لأنه أوجب صلاة الفرض في أحد المساجد الثلاثة بنذره ذلك، ولم يوجب التطوع فيها بالنذر، وقال النوويّ: وهو خلاف الأحاديث الصحيحة.
قال وليّ الدين العراقيّ رحمه الله: قد يقال: لا عموم في اللفظ؛ لأنه نكرة في سياق الإثبات، وساعد ذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة"، وقد يقال: هو عامّ؛ لأنه وإن كان في الإثبات، فهو في معرض الامتنان.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله أخيرًا هو الأَولى، فالنص عامّ، وإن كان في سياق الإثبات، بدليل أن الكلام ذُكر لبيان امتنان اللَّه تعالى على نبيّه صلى الله عليه وسلم، حيث فَضَّل مسجده بهذا الفضل العظيم، واللَّه تعالى أعلم.
وقال الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ": تكون النوافل في المسجد مضاعفة بما ذُكر من ألف في المدينة، ومائة ألف في مكة، ويكون فعلها في البيت أفضل، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة"، بل ورد في بعض طرقه أن النافلة في البيت أفضل من فعلها في مسجده صلى الله عليه وسلم. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": ويمكن أن يقال: لا مانع من إبقاء الحديث على عمومه، فتكون صلاة النافلة في البيت بالمدينة، أو مكة تضاعف على صلاتها في البيت بغيرهما، وكذا في المسجدين، وإن كانت في البيوت أفضل مطلقًا. انتهى
(2)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة التاسعة): استُدِلّ بهذا الحديث على أن تضعيف الصلاة في مسجد المدينة يختص بمسجده صلى الله عليه وسلم الذي كان في زمنه، دون ما أُحدث بعده فيه من الزيادة في زمن الخلفاء الراشدين وغيرهم؛ لأن التضعيف إنما ورد في مسجده، وذاك هو مسجده، وأيضًا أكد ذلك بقوله في رواية "الصحيحين":"مسجدي هذا"، وبذلك صرح النوويّ، وقال: ينبغي أن يحرص المصلي على ذلك، ويتفطن لما ذكرته.
(1)
"طرح التثريب" 6/ 52.
(2)
"الفتح" 3/ 608.
قال ولي الدين رحمه الله: وهذا بخلاف المسجد الحرام، فإنه لا يختص التضعيف بالمسجد الذي كان في زمنه صلى الله عليه وسلم، بل يشمل جميع ما زيد فيه؛ لأن اسم المسجد الحرام يعم الكل، بل المشهور عند الشافعية أن التضعيف يعمّ مكة، بل صحح النووي أنه يعمّ الحرم الذي يحرم صيده. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي فيما قاله النوويّ رحمه الله في المسجد النبوي نظر؛ إذ الظاهر أن قوله: "مسجدي هذا" إنما هو للاحتراز من غيره من مساجد المدينة" فلا يمنع دخول الزيادة بعده صلى الله عليه وسلم، ويدل على ذلك أثر عمر رضي الله عنه، قال: "لو مدّ مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ذي الحليفة لكان منه"، وفي لفظ: "لو زدنا فيه حتى بلغ الجبّانة كان مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وجاءه اللَّه بعامر"، رواه عمر بن شبة من طريقين مرسلين عنه موقوفًا، ورفعه ضعيفٌ جدًّا كما بيّنه الشيخ الألبانيّ رحمه الله
(2)
، واللَّه تعالى أعلم.
قلت: وقد حقّق الموضوع شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله تحقيقًا حسنًا حيث قال: وقد جاءت الآثار بأن حكم الزيادة في مسجده صلى الله عليه وسلم حكم المزيد، تضعف فيه الصلاة بألف صلاة، كما أن المسجد الحرام حكم الزيادة فيه حكم المزيد، فيجوز الطواف فيه، والطواف لا يكون إلا في المسجد، لا خارجًا منه.
ولهذا اتفق الصحابة على أنهم يصلّون في الصف الأول من الزيادة التي زادها عمر، ثم عثمان، وعلى ذلك عمل المسلمون كلهم، فلولا أن حكمه حكم مسجده، لكانت تلك الصلاة في مسجد غيره، ويأمرون بذلك.
ثم قال: وهذا هو الذي يدل عليه كلام الأئمة المتقدمين، وعملهم، فإنهم قالوا: إن صلاة الفرض خلف الإِمام أفضل، وهذا الذي قالوه هو الذي جاءت به السنة، وكذلك كان الأمر على عهد عمر، وعثمان رضي الله عنهما، فإن كلًّا منهما زاد من قبلي المسجد، فكان مقامه في الصلوات الخمس في الزيادة، وكذلك مقام الصف الأول الذي هو أفضل ما يقام فيه بالسنة والإجماع، وإذا
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 6/ 52 - 53.
(2)
"السلسلة الضعيفة" 2/ 402 - 403.
كان كذلك، فيمتنع أن تكون الصلاة في غير مسجده أفضل منها في مسجده، وأن يكون الخلفاء الراشدون، والصفوف الأول كانوا يصلّون في غير مسجده، وما بلغني عن أحد من السلف خلاف هذا، لكن رأيت بعض المتأخرين قد ذكر أن الزيادة ليست من مسجده، وما علمت له في ذلك سلفًا من العلماء. انتهى كلام شيخ الإِسلام رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله شيح الإِسلام حسن جدًّا، ولعله أشار بما ذكره عن بعض المتأخرين ما تقدم عن النوويّ رحمه الله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة العاشرة): قال النوويّ رحمه الله: قال العلماء ما حاصله: إن المضاعفة المذكورة في هذا الحديث إنما هي فيما يرجع إلى الثواب، فثواب صلاة فيه يزيد على ثواب ألف صلاة في غيره، ولا يتعدى ذلك إلى الإجزاء عن الفوائت، حتى لو كان عليه صلاتان، فصلى في مسجد المدينة صلاة لم تجزه عنهما، وهذا لا خلاف فيه، ذكره وليّ الدين رحمه الله
(2)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3376]
(. . .) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ عبدٌ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَن الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "صَلَاةٌ في مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلفٍ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ، إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكِسّيّ، تقدّم قريبًا.
(1)
راجع: "السلسلة الضعيفة"، للشيح الألبانيّ رحمه الله 2/ 403.
(2)
"طرح التثريب" 6/ 53.
3 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
4 -
(مَعْمَرُ) بن راشد الصنعانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3377]
(. . .) - (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِمْصِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا الزُّبَيْدِيُّ، عَن الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّه الْأَغَرَّ مَوْلَى الْجُهَنِيِّينَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: صَلَاةٌ في مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ، إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَإنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آخِرُ الأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ مَسْجِدَهُ آخِرُ الْمَسَاجِدِ. قَالَ أَبُو سَلَمَةَ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَمْ نَشُكَّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ عَنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَنَعَنَا ذَلِكَ أَنْ نَسْتَثْبِتَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ، حَتَّى إِذَا تُوُفِّيَ أَبُو هُرَيْرَةَ تَذَاكَرْنَا ذَلِكَ، وَتَلَاوَمْنَا أَنْ لَا نَكُونَ كلَّمْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ فِي ذَلِكَ، حَتَّى يُسْنِدَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنْ كَانَ سَمِعَهُ مِنْهُ، فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ جَالَسَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ قَارِظٍ، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ الْحَدِيثَ، وَالَّذِي فَرَّطْنَا فِيهِ مِنْ نَصِّ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ، فَقَالَ لَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَإِنِّي آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ مَسْجِدِي آخِرُ الْمَسَاجِدِ").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الْكَوْسج التميميّ، أبو يعقوب المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
2 -
(عِيسَى بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِمْصِيُّ) أبو موسى السلميّ، مقبول [6].
رَوَى عن أبيه، ومحمد بن حرب الخولانيّ، وإسماعيل بن عياش، وبقية بن الوليد، وغيرهم.
وروى عنه ابنه موسى، وإسحاق بن منصور الْكَوْسَج، وابن وَارَةَ، وأحمد بن عليّ الخراز.
ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يُغْرِبُ.
تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1394)، وحديث (1429):"من دُعي إلى عُرْس أو نحوه، فليُجب".
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ) الْخَوْلانيّ الْحِمْصيّ الأبرش، ثقةٌ [9](ت 194)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 10/ 1174.
4 -
(الزُّبَيْدِيُّ) محمد بن الوليد بن عامر، أبو الْهُذيل الحمصيّ القاضي، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار أصحاب الزهريّ [7](ت 6 أو 7 أو 149)(خ م د س ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 10/ 1174.
5 -
(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ مكثرٌ فقيهٌ [3](ت 94)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 423.
6 -
(أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَغَرُّ مَوْلَى الْجُهَنِيِّينَ) هو: سلمان المدنيّ، أصله من أصبهان، ثقةٌ، من كبار [3](ع) تقدم في "الإيمان" 53/ 319.
7 -
(عبد اللَّه بن إبراهيم بن قارظ) وقيل: إبراهيم بن عبد اللَّه بن قارظ، ووهم من زعم أنهما اثنان، صدوق، من [3](م د ت س) تقدم في "الحيض" 22/ 794.
والباقيان ذُكرا قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها:) أنه من ثُمانيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، إلا شيخه، فما أخرج له أبو داود، وعيسى، فمن أفراده.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من الزهريّ، والباقون حمصيّون، سوى شيخه، فمروزيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيين، عن تابعيّ: الزهريّ عن أبي سلمة والأغرّ كلاهما عن عبد اللَّه بن إبراهيم بن قارظ، وروايتهما عنه من
رواية الأقران، فأبو سلمة والأغر وابن قارظ أقران، وأن صحابيه أكثر الصحابة رواية للحديث، روى (5374) حديثًا، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ (وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْأَغَرِّ مَوْلَى الْجُهَنِيِّينَ) -بضم الجيم، وفتح الهاء- نسبة إلى جُهينة قبيلة من قضاعة، قاله في "لبّ اللباب" (وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي هُرَيْرَةَ) هكذا رواية المصنّف رحمه الله بلفظ:"وكان" بإفراد الضمير، وهو يعود إلى أبي عبد اللَّه الأغَرّ، ووقع في رواية النسائيّ بلفظ:"وكانا" بضمير المثنّى، وعليه يعود الضمير إلى أبي سلمة، وأبي عبد اللَّه الأغرّ، ولعله في رواية المصنّف إنما أفرده؛ لشهرة أبي سلمة بصحبة أبي هريرة رضي الله عنه، فلا يحتاج إلى التنصيص عليه، فتأمل، واللَّه تعالى أعلم.
(أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يَقُولُ: صَلَاةٌ في مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ) أي: ثوابًا (مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ، إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) أي: فإن الصلاة فيه أفضل من الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم، وقيل: التقدير: إلا المسجد الحرام، فإنه يفضله بدون الألف، والأول هو الراجح، وتقدم تحقيقه في شرح الحديث الماضي، فتنبّه.
ثم علل هذا التفضيل بقوله: (فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ) قال اللَّه تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] وأخرج الشيخان وغيرهما عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل الأنبياء، كمثل رجل بني دارًا فأكملها، وأحسنها، إلا موضع لَبِنَةٍ، فكان من دخلها، فنظر إليها، قال: ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة، فأنا موضع اللبنة، خُتِمَ بي الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-".
(وَإِنَّ مَسْجِدَهُ آخِرُ الْمَسَاجِدِ) قال الحافظ أبو حاتم بن حبان رحمه الله في "صحيحه"(4/ 502): يريد به آخر المساجد للأنبياء، لا أن مسجد المدينة آخر مسجد بني في هذه الدنيا. انتهى.
وقال السنديّ رحمه الله: أي: آخر المساجد الثلاثة المشهود لها بالفضل، أو
آخر مساجد الأنبياء، أو أنه يبقى آخر المساجد، ويتأخر عن المساجد الأخر في الفناء؛ أي: فكما أنه تعالى شرّف آخر الأنبياء، شرف كذلك مسجده الذي هو آخر المساجد، بأن جعل الصلاة فيه كألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام، واللَّه تعالى أعلم. انتهى.
(قَالَ أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن (وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ) الأغرّ (لَمْ نَشُكَّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (كَانَ يَقُولُ عَنْ حَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي: يُخبر بهذا الحديث، آخذًا عن حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والمراد أنهما كانا لا يشكّان في كون أبي هريرة رضي الله عنه يخبر بهذا الحديث عنه صلى الله عليه وسلم لا من عنده، ولجزمهما بذلك لم يسألاه من أين أخذه؟ كما بيّنا ذلك بقولهما:"فمنعنا أن نستثبت. . . إلخ".
[فائدة]:
يجوز في قوله: "لم نَشُكّ" تحريك كافه بالحركات الثلاث: الفتح تخفيفًا، والكسر على أصل التخلص من التقاء الساكنين، والضم، وهو الأكثر في كلامهم، إتباعًا لحركة الفاء، وكذا كلُّ فعل مُضَعَّف مجزوم، إذا كان مضموم الفاء، كـ "لم يَرُدّ"، أو مكسورها، كـ "لم يَفِرّ"، وأما مفتوحها، فليس فيه الضم، كـ "لم يَعَضِ"، ومثله الأمر في هذا كله، كرُدِ، وفِرِّ، وعَضِ.
وهنا حكاية مَلِيحَة، أحببت إيرادها؛ لكونها ظريفة، مستحسنة، مشتملة على أحكام حركات الفعل المضارع المضعَّف الآخِرِ، وأمرِهِ؛ لكثرة تكرره في الأحاديث، مثل هذا الحديث، ومثل الحديث الماضي في "الصلاة":"ووقت العصر ما لم تصفرّ الشمس".
قال العلامة ابن حمدون رحمه الله في "حاشية ابن حمدون على شرح المكّوديّ لألفية ابن مالك" في "باب الإدّغام"، ما نصه:
(تتمة) حكاية جَرَت عادتهم بذكرها هنا، لمناسبتها، نَقَلَها صاحبُ "الأنيس المطرب" عن الفقيه البوعصامي في ترجمته، وذلك أن بعضهم سأل الفقيه المذكور عن حركة آخر الفعل المضارع المجزوم المضعَّف الآخر، وعن الأمر منه، نحو لم يَشُدّ، وشُدّ؟ فقال: إن لهذه المسألة قصةً اتفقت للراعي رحمه الله مع بعض أصحابه.
قال الراعي: كان لي صاحب في خواصّ الملك، فسألني يومًا عن الفعل المضارع المجزوم المضعف، وعن الأمر منه؛ فلما شرعت في الجواب، فَهِمتُ منه، كأنه إنما سألني مختبرًا ما عندي، وأنه غير محتاج إلى جوابي، فسكت عنه، فأعاد السؤال مرارًا، فحلفت يمينًا مغلظة أن لا أخبره حتى ينزل من موضع عالٍ، هو به، ويقعد على الأرض وسط المدرسة من غير حائل بينه، وبين الأرض، ويخضع لي، كما يخضع الصبي لمؤدبه، وإلا فهؤلاء العلماء فيهم كفاية عني في هذه المسألة وغيرها.
فرَدَّدَ الأمر في نفسه مرارًا، وأطرق، ثم قال: لا بأس بالذلّ في طلب العلم، فإنه عِزّ على الحقيقة، ثم فعل ما طُلب منه، والطَّلَبَةُ ينظرون.
فقلت: يا عبد اللَّه لم تجئني هذه المسألة رَخِيصة، وسأحدّثك كيف استوفيتها:
(اعلم): أني رَحَلْتُ يومًا لشيخنا وسيدنا أبي الحسن علي بن محمد الأندلسيّ الْغَرْنَاطيّ رحمه الله، وكان فقيرًا مُقِلًا، وكان أبوه، وأخوه يعيشان من نقل الحطب على حمارين لهما، وكان أبي تاجرًا في سوق القُمَاش.
فكنت أخدُم الشيخ خدمة العبيد الناصحين، فأتيت له صبيحة يوم بارد، فقلت: هل من حاجة؟ قال: نعم، ليس عندنا ماء، ثم أخرج إليّ سَطْلًا من نُحاس وقُلَّة يسعان أربعين رطلًا من الماء، والماء من بيته على مسافة بعيدة، فأتيت بنحو اثنتي عشرة نَقْلَة حتى امتلأ الزِّير
(1)
، وجميع أواني الدار.
ثم سَلَّمتُ عليه، وأردت الخروج، وأنا في غاية التعب، قد ابْتَلَّتْ ثيابي، وامتلأت بالطين، وأنا أرتعد من البرد، فلما رأى ما بي، قال: اقعد حتى أعطيك مسألة جليلة، فقعدت معه.
فقال: ذكر صاحب "الدرّ
(2)
المكنون": أنه وصل رجل إلى إشبيلية يقصد قراءة الحديث على أبي بكر الحافظ، فلما قرأ عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "ما لم تصفر الشمس"، وفي الحلقة جماعة من الطلبة، فيهم أبو بكر الشلوبين، فقال الشيخ:
(1)
"الزِّيرُ بالكسر: الدَّنُّ. انتهى "القاموس".
(2)
وقع في النسخة: "الدار"، والظاهر أنه تصحيف من "الدُّرّ"، فليُحرّر.
كيف تضبطون الراء من قوله: "ما لم تصفرّ الشمس"؟ فقالوا بأجمعهم بالفتح، ما عدا أبا بكر، فإنه بقي ساكتًا.
فأنشد الشيخ:
أوْرَدَها سَعْدٌ وَسَعْدٌ مُشْتَمِلْ
…
مَا هَكَذَا يَا سَعْدُ تُورَدُ الإبِلْ
ثم التفت إلى أبي بكر، وقال: ما تقول أنت؟ فقال: إن العرب على ثلاث فِرَقٍ، مُتْبِعُون، وكاسرون، وفاتحون.
فالمتبعون، يُتبعون الحرف المضعَّف لحركة الحرف الذي قبله؛ فإن كانت ضمة ضمّوه، نحو: لم يردُّ، ورُدُّ، وإن كانت فتحة، أو ألفًا فتحوا، نحو: لم يَعَضَّ، وعَضَّ، وقوله تعالى:{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233]، وإن كانت كسرة كسروه، نحو لم يفرِّ، وفرِّ يا عمرو، إلا في ثلاثة مواضع، فإنهم لا يتبعون لما قبله:
أحدها: إذا اتصل بالفعل ضمير مذكر غائب، فإن المتبعين إنما يتبعون لحركة الضمير، فيقولون: لم يَفِرُّهُ، وفِرُّهُ، بضم الراء فيهما، ولم يَعَضُّهُ، بضم الضاد، وعليه يخرج قوله تعالى:{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} [الواقعة: 79] إن قلنا: إن "لا" ناهية، لا نافية.
ثانيها: إذا اتَّصَل بالفعل ضمير مؤنث غائب، نحو رُدَّهَا، ولم يَرُدَّهَا، وفِرّها، بفتح الحرف المدغم فيه اتباعًا لحركة الهاء، وإنما أتبعوا حركة الهاء في الموضعين لخفة الهاء، فلم يعتدوا بها فاصلًا، فكأن الضمةَ باشرت واو الصلة، والفتحةَ باشرت ألف الصلة.
ثالثها: إن لقي آخرَ الفعل ساكنٌ من كلمة أخرى، لامُ تعريف، أو غيرُها، فيرجع المتبعون هنا للكسر، نحو غُضّ الطرفَ، وعليه يقال:"ما لم تصفرّ الشمس" بكسر الراء، لا غير.
والفرقة الثانية: الكاسرون؛ يَكسِرُون آخرَ الفعل مطلقًا على أصل التقاء الساكنين، فيقولون: ردِّ زيدًا، ولم يردّ، بكسر الدال فيهما، فعلى هذه اللغة، إنما يقال:"ما لم تصفرّ" بالكسر أيضًا، وهذه اللغة لغة كعب، ونُمير.
والفرقة الثالثة: الفاتحون، وهم على قسمين: فُصَحاء، وغير فصحاء، فالفصحاء ينتقلون إلى الكسر إذا عارضهم ساكن من كلمة أخرى، فيقولون مُدّ
الحبل، وشُدّ الرَّحْلَ، بكسر المدغم فيه منها، فيقال حينئذ:"ما لم تصفر" بالكسر أيضًا، وغير الفصحاء لا يزالون على أصلهم من الفتح، ولو لقي آخرَ الفعل ساكنٌ؛ وعليه فيقال:"ما لم تصفرَّ" بفتح الراء، وعليه فجميع العرب يكسرون آخر الفعل إذا لقيه ساكن، إلا غير الفصحاء، ممن لغتهم الفتح، فإنهم يفتحونه.
فلما فرغ الشلوبين، أنشد الشيخ (من الخفيف):
ذُو المَعَالِي فَلْيَعْلُوَنْ مَنْ تَعَالَى
…
هَكَذَا هَكَذَا وَإلَّا فَلَا لَا
وقد نظم هذا التفصيل العلامة القاضي الولي الصالح أبو العباس سيدي أحمد بن الحاج، فقال [من الرجز]:
إنْ جُزِمَ الْفِعْلُ الَّذِي قَدْ شُدِّدَا
…
آخِرُهُ كَلا تَضُرَّ أَحَدًا
فَاكْسِرهُ مُطْلَقًا لِقَوْمٍ وافْتَحَا
…
لآخَرِينَ ثُمَّ إنَّ الفُصَحَا
مِنْ هَؤلاءِ حَيْثُ يَلْقَى ساكِنَا
…
يَأْتُونَ بِالْكَسْرِ كَسُرِّ الْحَزَنَا
ثَالِثَةُ اللُّغَاتِ أن يُتْبَعَ مَا
…
يَلِي فَإثْرَ ضَمَّةٍ لَهُ اضْمُمَا
وَافْتَحْهُ بَعْدَ فَتْحَةٍ أوْ أَلِفِ
…
وبَعْدَ كسْرَةٍ لَهُ الْكَسْرُ يَفِي
إلا بِنَحْوِ مُسُّهُ وَفِرُّهُ
…
فَالضَّمُّ عِنْدَهُمْ كَلا تُمِرُّهُ
وَنَحْوَ رُدَّهَا وَحُبَّهَا افْتَحَا
…
لِصِلَةٍ وَخِفَّةٍ قَدْ أُوضِحَا
وَنَحْوُ غُضِ الطَّرْفَ عَضِ اللَّحْمَا
…
فَاكْسِرْهُ لِلسَّاكِنِ فَابغِ الْعِلْمَا
انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب.
(فَمَنَعَنَا ذَلِكَ) ببناء الفعل للفاعل، و"نا" مفعول مقدّم، واسم الإشارة فاعل مؤخّر، وأشار به إلى قوله:"لم نشكّ. . . إلخ"؛ أي: منعنا من الاستثبات عدم شكّنا في كون أبي هريرة رضي الله عنه يقول ذلك ناقلًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
و"مَنَعَ" فعل متعدٍّ إلى اثنين، قال الفيّوميّ رحمه الله: منعته الأمرَ، ومنعته من الأمر، منعًا، فهو ممنوع؛ أي: محروم، يتعدى إلى مفعولين تارة بنفسه، وتارة بحرف الجر إلى الثاني. انتهى
(2)
.
(1)
"الفتح الودودي على المكودي" 2/ 206، 207.
(2)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 580.
ووقع في رواية النسائيّ: "فَمُنِعْنَا أن نستثبت أبا هريرة" ببناء الفعل للمفعول.
(أَنْ نَسْتَثْبِتَ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ)؛ أي: نطلب منه ثبوت كون الحديث عنه صلى الله عليه وسلم، قال في "اللسان": واستثبت في أمره: إذا شاور، وفَحَصَ عنه.
فقوله: "أن نَستثبت. . . إلخ" في تأويل المصدر مفعول ثان لـ "مَنَعَنَا" على الأول، وعلى الثاني يكون مجرورًا بـ "مِنْ" محذوفةً قياسًا، كما قال في "الخلاصة":
وَعَدِّ لَازِمًا بِحَرْفِ جَرِّ
…
وَإِنْ حُذِفْ فَالنَّصْبُ لِلْمُنْجَرِّ
نَقْلًا وَفِي "أَنَّ" و"أَنْ" يَطَّرِدُ
…
مَعْ أَمْنِ لَبْسٍ كَـ "عَجِبْتُ أَنْ يَدُوا"
والتقدير هنا: منعنا من استثباته في ذلك الحديث.
(حَتَّى إِذَا تُوُفِّيَ أَبُو هُرَيْرَةَ تَذَاكَرْنَا ذَلِكَ) الحديث (وَتَلَاوَمْنَا)؛ أي: لام بعضنا بعضًا؛ أي: عَذَله (أَنْ لَا نَكُونَ كَلَّمْنَا أَبا هُرَيْرَةَ فِي ذَلِكَ) والمصدر المؤول مجرور بـ "على" مقدرةً؛ أي: عَذَل بعضنا بعضًا على عدم تكليمنا إياه في شأن هذا الحديث (حَتَّى يُسْنِدَهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِنْ كَانَ سَمِعَهُ مِنْهُ) صلى الله عليه وسلم، ووقع في "السنن الكبرى" بلفظ:"حتى نسنده" بالنون بدل الياء؛ أي: حتى نرويه مسندًا إليه صلى الله عليه وسلم (فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ) أي: على ذكر شأن ذلك الحديث، وتلاومهم على تقصيرهم في عدم الاستثبات فيه.
وأصل "بينا": "بَيْنَ"، فأشبعت فتحتها، فصارت ألفًا، ويقال:"بينما"، و "بينا"، وهما ظرفا زمان، بمعنى المفاجأة، ويضافان إلى الجملة؛ فعليةً كانت أو اسميةً، ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى، وقد يقترن بـ "إذ"، و "إذا" أحيانًا، وقد تقدَّم البحث في هذا مستوفًى.
فـ "بينا" هنا مضافة إلى جملة "نحن على ذلك"، وجوابها قوله:(جَالَسَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ قَارِظٍ) المدنيّ (فَذَكَرْنَا ذَلِكَ الْحَدِيثَ، وَ) ذكرنا الأمر (الَّذِي فَرَّطْنَا فِيهِ) أي: قَصَّرنا فيه، يقال: فَرَّط في الأمر، تفريطًا: قَصَّر فيه، وضَيَّعه، وأفرط إفراطًا: أسرف، وجاوز الحد، قاله الفيوميّ رحمه الله.
وقوله: (مِنْ نَصِّ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ) بيان للموصول؛ أي: من رفعه الحديث
إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأخذه عنه، يقال: نَصَصتُ الحديث نَصًّا، من باب نصر: رفعته إلى من أحدثه، ونَصَّ النساءُ العروسَ، نَصًّا، رفعنها على الْمِنَصَّة - بكسر الميم -، وهي الكرسيّ الذي تقف عليه في جلائها، قاله الفيوميّ.
يعني أنهما ذكرا لعبد الله بن إبراهيم تفريطهما في شأن هذا الحديث، حيث إنهما لم يسألاه هل سمعه من النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أو لا؟
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: إنما تلاوما على هذا، وإن كان الأمر لا يحتاج إلى ذلك؛ إذ الحديث ليس مما يقال من قبل الرأي، فهو مرفوع حكمًا؛ لكونهما تركا الأولى في ذلك، وهو الرفع اللفظيّ، فإنه أرفع منزلة من الرفع الحكميّ.
والحاصل أنهما تأسفا على عدم تلقيهما الحديث مرفوعًا لفظًا، وإن كان مرفوعًا حكمًا، والله تعالى أعلم.
(فَقَالَ لَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَإِنِّي آخِرُ الْأنبِيَاءِ، وَإِنَّ مَسْجِدِي آخِرُ الْمَسَاجِدِ") الظاهر أن الحديث فيه اختصار من أوله، وهو قوله:"صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام"، فتكون الفاء في قوله:"فإني" للتعليل، كما سبق.
ويدل على أن عبد الله بن إبراهيم سمع أوّل الحديث المذكور من أبي هريرة رضي الله عنه ما أخرجه النسائيّ في "سننه"، من طريق سعد بن إبراهيم؛ أن أبا سلمة قال: سألت الأغرَّ عن هذا الحديث، فحَدَّث الأغرّ؛ أنه سمع أبا هريرة، يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا الكعبة".
وأخرجه البخاريّ من طريق زيد بن رباح، وعبيد الله بن أبي عبد الله الأغرّ، عن أبي عبد الله الأغرّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام".
ثم وجدت الدارقطنيّ رحمه الله ساقه بتمامه في "العلل"، من طريق عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، عن ابن شهاب، عن أبي عبد الله الأغرّ مولى الجهنيين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف
صلاة في المساجد إلا المسجد الحرام، فإني آخر الأنبياء، وإنه آخر المساجد"
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن مما سبق أن عبد الله بن إبراهيم أفاد أبا سلمة، وأبا عبد الله الأغرّ كون أبي هريرة أثبت سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصار الحديث مرفوعًا لفظًا أيضًا.
والحاصل أن أبا هريرة رضي الله عنه حدّث بهذا الحديث أبا سلمة، وأبا عبد الله الأغرّ، وهو بصورة الموقوف، وحَدَّث به عبد الله بن إبراهيم مصَرِّحًا فيه بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من رواية أبي سلمة، وأبي عبد الله الأغر كلاهما عن عبد الله بن إبراهيم بن قارظ، عنه من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [91/ 3377](1394)، و (النسائيّ) في "المساجد"(2/ 35) و"مناسك الحجّ"(5/ 214) و"الكبرى"(1/ 257)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 371)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 256 و 278 و 473 و 485)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 330)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1621)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(1/ 247)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 56)، وفوائده تقدّمت، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [3378](. . .) - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، جَمِيعًا عَن الثَّقَفِيِّ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ
(1)
"العلل الواردة في الأحاديث النبوية للدارقطنيّ" 9/ 400.
يَقُولُ: سَأَلْتُ أبا صَالِحٍ: هَلْ سَمِعْتَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَذْكُرُ فَضْلَ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ قَارِظٍ؛ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ، أَوْ كَأَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدَّم قريبًا.
2 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر، تقدَّم أيضًا قريبًا.
3 -
(عَبْدُ الْوَهَّابِ) بن عبد المجيد الثقفيّ، تقدَّم أيضًا قريبًا.
4 -
(يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ) الأنصاريّ المدنيّ، تقدَّم أيضًا قريبًا.
5 -
(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، تقدَّم أيضًا قريبًا. و "أبو هريرة رضي الله عنه" ذُكر قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق شرحه، وبيان مسائله قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلي الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3379]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا يَحْيَى الْقَطَّانُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ) أبو قُدامة السرخسيّ، نزيل نيسابور، ثقةٌ ثبتٌ سنّيّ [10](ت 241)(خ م س) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون، تقدَّم قريبًا.
3 -
(يَحْيَى الْقَطَّانُ) تقدَّم قبل باب.
والباقيان ذُكرا في الباب، ويحيى بن سعيد رضي الله عنه هو: الأنصاريّ.
[تنبيه]: رواية يحيى القطّان، عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" (2/ 251) فقال:
(7415)
- ثنا يحيى، عن يحيى
(1)
، حدّثني ذكوان أبو صالح، عن إبراهيم بن عبد الله، أو عبد الله بن إبراهيم - شكّ، يعني يحيى- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3380]
(1395) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى، وَهُوَ الْقَطَّانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَن ابْنِ عُمَرَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أفضَلُ مِنْ ألفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر الْعُمريّ، تقدَّم قبل باب.
2 -
(نَافِعٌ) مولى ابن عمر، تقدَّم قريبًا.
3 -
(ابْنُ عُمَرَ) عبد الله رضي الله عنهما، تقدَّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله، وشرح الحديث واضح، يعلم مما سبق.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [91/ 3380 و 3381 و 3382 و 3383](1395)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(5/ 213) و"الكبرى"(2/ 390)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(1405)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 16 و 53 و 68 و 101)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 388)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 163)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 56)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 246)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
سقط قوله: "عن يحيى" من بعض نسخ "المسند"، وهو غلط صريح، فتنبّه.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3381]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو أُسَامَةَ (ح) وَحَدَّثَنَاه ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَاه مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، كُلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدَّم قريبًا.
2 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نمير، تقدَّم قبل باب.
3 -
(أَبُوهُ) هو: عبد الله بن نُمير، تقدَّم أيضًا قبل باب.
4 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة بن زيد، تقدَّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: رواية عبد الله بن نُمير، عن عبيد الله، ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه" (1/ 451) فقال:
(1405)
- حدّثنا إسحاق بن مَنْصُورٍ، ثنا عبد اللهِ بن نُمَيْرٍ، عن عُبَيْدِ اللهِ، عن نَافِعٍ، عن ابن عُمَرَ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"صَلَاةٌ في مَسْجِدِي هذا أَفْضَلُ من أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ من الْمَسَاجِدِ، إلا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ". انتهى.
وأما رواية أبي أسامة، عن عُبيد الله، فقد ساقها أبو بكر بن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه" (2/ 147) فقال:
(7514)
- حدّثنا أبو أُسَامَةَ، قال: ثنا عبيد اللهِ بن عُمَرَ عن نَافِعٍ، عَنِ ابن عُمَرَ، قال: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "صَلَاةٌ في مَسْجِدِي هذا أَفْضَلُ من أَلْفِ صَلَاةٍ في غَيْرِهِ، إلا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ". انتهى.
وأما رواية عبد الوهّاب الثقفيّ، عن عبيد الله، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3382]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ مُوسَى الْجُهَنِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى) بن يزيد التميميّ، أبو إسحاق الْفَرّاء الرازيّ، يلقّب بالصغير، ثقةٌ حافظٌ [10] بعد (220)(ع) تقدم في "الحيض" 7/ 721.
2 -
(ابْنُ أَبِى زَائِدَةَ) هو: يحيى بن زكريّاء بن أبي زائدة الْهَمْدانيّ، أبو سعيد الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 3 أو 184) وله (93) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 121.
3 -
(مُوسَى الْجُهَنِيُّ) هو: موسى بن عبد الله، ويقال: ابن عبد الرحمن، أبو سلمة، ويقال: أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ عابد، لم يصحّ أن القطّان طَعَن فيه [6].
رَوَى عن زيد بن وهب، وأبي بردة بن أبي موسى، ومصعب بن سعد، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وأبي زرعة بن عمرو بن جرير، والشعبيّ، ومجاهد، ونافع مولى ابن عمر، وعدّة.
وروى عنه شعبة، والثوريّ، والحسن بن صالح، وعليّ بن مسهر، وعبد الله بن نُمير، ومروان بن معاوية، والقطان، وابن أبي زائدة، وغيرهم.
قال عليّ بن المدينيّ، عن يحيى بن سعيد القطان: كان ثقةً، وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه، وعن ابن معين: ثقةٌ، وكذا قال النسائيّ، وقال العجليّ: ثقة، في عداد الشيوخ، وقال أبو زرعة: صالح، وقال أبو حاتم: لا بأس به، وذكره ابن حبان في "الثقات" وأَرَّخ وفاته سنة أربع وأربعين ومائة، وكذا قال ابن سعد، وقال: كان ثقةً، قليل الحديث، وعن يعلى بن عبيد قال: كان بالكوفة أربعة من رؤساء الناس ونبلائهم، وذكره منهم، وعن مسعر قال: ما رأيت موسى الجهني إلا وهو في اليوم الآتي خير منه في اليوم الماضي.
أخرج له المصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا برقم (1395)، وحديث (2696):"لا إله إلا الله وحده لا شريك له. . ."، و (2698):"أيعجز أحدكم أن يكتسب كلّ يوم ألف حسنة. . .".
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: رواية موسى الجهنيّ، عن نافع ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى" (2/ 390) فقال:
(3880)
- أنبأ عمرو بن عليّ، ومحمد بن المثنى، قالا: حدّثنا يحيى بن سعيد، عن موسى بن عبد الله الْجُهَنيّ، قال: سمعت نافعًا، قال: حدّثنا عبد الله بن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام".
ثم قال النسائيّ رحمه الله: لا أعلم أحدًا روى هذا الحديث، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، غير موسى الجهنيّ، وخالفه ابن جريج وغيره. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قول النسائي رحمه الله: "لا أعلم. . . إلخ" فيه نظر؛ لأنه لم ينفرد به، بل تابعه أيوب السختيانيّ عند المصنّف في الرواية التالية، فالحقّ أن رواية موسى صحيحة، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3383]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السختيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ فقيهٌ [5](ت 131)(ع) تقدَّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.
والباقون كلّهم ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: انتقد الدارقطنيّ رحمه الله على مسلم في هذا الإسناد، فقال: وأخرج مسلم حديث عبيد الله، وموسى الجهنيّ، عن نافع، عن ابن عمر:"صلاة في مسجدي"، وأتبعه بمعمر، عن أيوب، عن نافع، وليس بالمحفوظ عن أيوب، وخالفهم ابن جريج، وليث، روياه عن نافع، عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد، عن ميمونة، وأخرج القولين، ولم يُخرجه البخاريّ من رواية نافع بوجه. انتهى.
حاصل ما أشار إليه الدارقطنيّ مسألتان:
الأولى: أن هذا الحديث ليس بمحفوظ عن أيوب.
والثانية: اختلاف أصحاب نافع عليه، فمنهم من روى الحديث عنه، عن ابن عمر، وهم عبيد الله بن عمر العمريّ، وموسى الجهنيّ، وأيوب السختيانيّ، وكلهم عند مسلم، ومنهم من رواه عن نافع، عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد، عن ميمونة، وهما ابن جريج، والليث بن سعد.
والجواب عن الأولى أن أيوب لم ينفرد به، بل تابعه عليه عبيد الله العمريّ، وموسى الجهنيّ، وكلهم حفّاظ، فالحديث محفوظ.
والجواب عن الثانية: وهي اختلاف أصحاب نافع عليه، فالذي يظهر أن ما ذهب إليه مسلم هو الصواب، وهو صحة الروايتين، وهو الذي رجحه النوويّ، متعقّبًا لترجيح القاضي عياض ما قاله الدارقطنيّ.
والحاصل أن مذهب المصنّف في تصحيح الروايتين هو الظاهر، وقد أجاد البحث في هذا الشيخ ربيع المدخليّ حفظه الله في كتابه "بين الإمامين: مسلم والدارقطنيّ" فراجعه تستفد
(1)
، وبالله تعالى التوفيق.
[تنبيه آخر]: رواية أيوب السختيانيّ، عن نافع لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3384]
(1396) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، جَمِيعًا عَن اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَعْبَدٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ امْرَأَةً اشْتَكَتْ شَكْوَى، فَقَالَتْ: إِنْ شَفَانِي اللهُ لَأَخْرُجَنَّ، فَلَأُصَلِّيَنَّ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَبَرَأَتْ، ثُمَّ تَجَهَّزَتْ تُرِيدُ الْخُرُوجَ، فَجَاءَتْ مَيْمُونَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تُسَلِّمُ عَلَيْهَا، فَأَخْبَرَتْهَا ذَلِكَ، فَقَالَتْ: اجْلِسِي، فَكُلِي مَا صَنَعْتِ، وَصَلِّي فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، فَإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "صَلَاةٌ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ، إِلَّا مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ").
(1)
راجع ص 253 - 258.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدَّم قبل باب.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ) بن المهاجر، تقدَّم قريبًا.
3 -
(اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ) الإمام المشهور المصريّ، تقدَّم قبل بابين.
4 -
(إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَعْبَدِ) بن عبَّاس بن عبد المطّلب الهاشميّ المدنيّ، صدوقٌ [3](م د س ق) تقدم في "الصلاة" 42/ 1079.
5 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله الحبر البحر رضي الله عنهما، تقدّم في "الإيمان" 6/ 124.
6 -
(مَيْمُونَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) بنت الحارث رضي الله عنها، تقدّمت في "الحيض" 1/ 687. و "نافع" ذُكر في الباب.
شرح الحديث:
(عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَعْبَدٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ) هذا مما انتُقد على مسلم، فإن الحديث كما قيل: عن إبراهيم بن عبد الله، عن ميمونة، ليس فيه "عن ابن عبَّاس"، وسيأتي تحقيق البحث في ذلك في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى - (أَنَّهُ)؛ أي: ابن عبَّاس (قَالَ: إِنَّ امْرَأَةً اشْتَكَتْ شَكْوَى)؛ أي: مرضت مرضًا (فَقَالَتْ: إِنْ شَفَانِي اللهُ لَأَخْرُجَنَّ)؛ أي: لأخرجنّ من بيتي، وأسافرنّ إلى بيت المقدس (فَلَأُصَلِّيَنَّ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ) تقدَّم أنه يجوز فيه "المقدَّس" بضمّ الميم، وفتح القاف، وفتح الدال المشدّدة، بصيغة اسم المفعول المضعَّف، و"الْمَقْدِس" بفتح الميم، وسكون القاف، وكسر الدال، ومعنى الأول: المطهّر من الأرجاس، ومعنى الثاني: محل الطهارة من الأرجاس (فَبَرَأَتْ) أي: تعافت من مرضها، و"برأ" من باب نفع، وتَعِبَ، وبَرُؤَ بُرْئًا من باب قَرُبَ لغة فيه
(1)
. (ثُمَّ تَجَهَّزَتْ) أي: تهيّأت للسفّر، وجِهازُ السفر: أُهْبته، وما يُحتاج إليه في قطع المسافة، وهو بفتح الجيم، وبه قرأ السبعة في قوله تعالى:{فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} الآية [يوسف: 70]، والكسر لغة قليلةٌ، وجَهازُ العروس والميت باللغتين أيضًا
(2)
. (تُرِيدُ الْخُرُوجَ)؛ أي: إلى بيت
(1)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 47.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 113.
المقدس (فَجَاءَتْ مَيْمُونَةَ) رضي الله عنها (زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تُسَلِّمُ عَلَيْهَا) أي: تسليم توديع (فَأَخْبَرَتْهَا ذَلِكَ)؛ أي: بما جرى من شأنها في نذرها ذلك، وعزمها على وفائها به (فَقَالَتْ) ميمونة رضي الله عنها (اجْلِسِي)؛ أي: في بيتك، ولا داعي أن تخرجي إلى بيت المقدس (فَكُلِي مَا صنَعْتِ)؛ أي: الذي صنعته زادًا للسفر (وَصَلِّي فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: للوفاء بنذرك، ثم حجّتها فيما أفتتها به بالفاء التعليليّة، فقالت:(فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "صَلَاةٌ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ، إِلَّا مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ") هكذا هنا بالإضافة، ووقع في بعض المواضع من النسائيّ بلفظ:"إلا المسجد الكعبة" بتعريف المسجد أيضًا، وعليه فـ "الكعبة" بدل من "المسجد".
والمراد بـ "مسجد الكعبة" الحرم كله على الراجح، فاستدلال بعضهم بهذه الرواية على تخصيص الفضل بما حول الكعبة فقط دون بقية الحرم غير صحيح؛ فإن هذه الرواية بمعنى الروايات الأخرى:"إلا المسجد الحرام"؛ إذ الكعبة تطلق على الحرم كله، بدليل قوله تعالى:{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} الآية [المائدة: 95]، فإنه لا خلاف بين أهل العلم أن المراد بالكعبة الحرم كله، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله؛ أي: واصلًا إلى الكعبة، والمراد وصوله إلى الحرم بأن يُذبح هناك، ويفرَّق لحمه على مساكين الحرم، وهذا أمر مُتَّفَقٌ عليه في هذه الصورة. انتهى
(1)
.
وقال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": ولم يُرِد الكعبة بعينها، فإن الهدي لا يبلغها؛ إذ هي في المسجد، وإنما أراد الحرم، ولا خلاف في هذا. انتهى
(2)
.
فظهر بهذا أنه لا اختلاف بين الروايتين، إذ معناهما واحد، وهو الحرم كله، كما سيأتي تحقيقه في المسائل، إن شاء الله تعالى.
[فائدة]: قال الحافظ وليّ الدين العراقيّ رحمه الله: (واعلم): أن للمسجد الحرام أربعة استعمالات:
(1)
"تفسير ابن كثير" 2/ 103.
(2)
"الجامع لأحكام القرآن" 6/ 314.
أحدها: نفس الكعبة، كقوله تعالى:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144].
الثاني: الكعبة، وما حولها من المسجد، كقوله تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1]، فالمراد نفس المسجد في قول أنس بن مالك رضي الله عنه، ورجحه الطبريّ، وفي "الصحيح" ما يدل له، وقيل: أُسري به من بيت أم هانئ رضي الله عنها، وقيل: من شعب أبي طالب، فيكون المراد على هذا في هذه الآية: مكة.
الثالث: جميع مكة، ومنه قوله تعالى:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [الفتح: 27]، قال ابن عطية: وعِظم القصد هنا إنما هو مكة.
الرابع: جميع الحرم الذي يحرم صيده، ومنه قوله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [التوبة: 7]، وإنما كان عهدهم بالحديبية، وهي من الحرم، وكذلك قوله تعالى:{ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنه الحرم جميعه. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الحاصل أن استعمال المسجد الحرام للحرم كله أكثر، فتفطن.
ثم إنه قد اختُلِف في هذا الاستثناء على حسب اختلافهم في مكة والمدينة، أيهما أفضل؟ فعند الشافعيّ رحمه الله: معناه إلا مسجد الكعبة، فإن الصلاة فيه، أفضل من الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم، وعند مالك رحمه الله: إلا مسجد الكعبة، فإن الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم تفضله بدون الألف، والقول الأول أرجح، وقد تقدَّم تحقيق القول في ذلك قريبًا، وبالله تعالى التوفيق.
[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: أفتت ميمونة رضي الله عنها هذه المرأة التي نذرت الصلاة في بيت المقدس أن تصلي في مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم، واستدلت بالحديث، وهذه الدلالة ظاهرة، قال: وهذا حجة لأصح الأقوال في مذهبنا في هذه المسألة، فإنه إذا نذر صلاة في مسجد المدينة، أو الأقصى، هل تتعين؟ فيه قولان: الأصح تتعين، فلا تجزئه تلك الصلاة في غيره، والثاني: لا تتعين بل
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 6/ 53.
تجزئه تلك الصلاة حيث صلى، فإذا قلنا تتعين، فنذرها في أحد هذين المسجدين، ثم أراد أن يصليها في الآخر ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: يجوز، والثاني: لا يجوز، والثالث: وهو الأصح إن نذرها في الأقصى جاز العدول إلى مسجد المدينة، دون عكسه، والله أعلم. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ميمونة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [91/ 3384](1396)، و (النسائيّ) في "المساجد"(2/ 213) و"مناسك الحجّ"(5/ 213) و"الكبرى"(1/ 256)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 333)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 57)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 83) و"المعرفة"(7/ 349)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في انتقاد الحفّاظ لإسناد هذا الحديث:
قال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث مما أُنكر على مسلم بسبب إسناده، قال الحفّاظ: ذِكْرُ ابن عباس فيه وَهَمٌ، وصوابه عن إبراهيم بن عبد الله، عن ميمونة رضي الله عنها، هذا هو المحفوظ من رواية الليث، وابن جريج، عن نافع، عن إبراهيم بن عبد الله، عن ميمونة رضي الله عنها، من غير ذكر ابن عباس، وكذلك رواه البخاريّ في "صحيحه"، عن الليث، عن نافع، عن إبراهيم، عن ميمونة، ولم يذكر ابن عباس.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "وكذلك رواه البخاريّ في "صحيحه". . . إلخ"، فيه نظرٌ، فإن البخاريّ رحمه الله لم يُخرج في "صحيحه" حديث ميمونة رضي الله عنها هذا أصلًا، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
قال: وقال الدارقطنيّ في "كتاب العلل": وقد رواه بعضهم عن ابن عباس، عن ميمونة، وليس يثبت، وقال البخاريّ في "تاريخه الكبير"
(2)
:
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 167.
(2)
"التاريخ الكبير" 1/ 302 - 303.
إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن العباس بن عبد المطلب، عن أبيه، وميمونة، وذكر حديثه هذا، من طريق الليث، وابن جريج، ولم يذكر فيه ابن عباس، ثم قال: وقال لنا المكيّ، عن ابن جريج؛ أنه سمع نافعًا قال: إن إبراهيم بن معبد حدَّث أن ابن عباس حدثه، عن ميمونة، قال البخاريّ: ولا يصح فيه ابن عباس.
قال القاضي عياض: قال بعضهم: صوابه إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس؛ أنه قال: إن امرأة اشتكت إلخ.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد اختَلَف الحفاظ في إسناد حديث ميمونة رضي الله عنها هذا، فمنهم من رجح أن الصواب ذكر "ابن عباس" بين إبراهيم بن عبد الله، وميمونة رضي الله عنها، وهو رأي الإمام مسلم، حيث أخرجه في "صحيحه"، والحافظ المزيّ، كما في "تحفته"
(1)
.
ومنهم من رجح إسقاطه، وقال: الصواب "عن إبراهيم، عن ميمونة"، وهو رأي البخاريّ في "تاريخه الكبير"، والدارقطنيّ في "العلل"، والنسائيّ" في "سننه"، والقاضي عياض في "الإكمال".
ومنهم من رأى صحة الطريقين، وهو الذي مال إليه النوويّ، كما مرّ في كلامه آنفًا.
قلت: عندي أن ما ذهب إليه البخاريّ، والدارقطنيّ رحمه الله وغيرهما، من كون ذكر ابن عبَّاس وَهَمًا هو الأرجح؛ لكثرة من رواه هكذا، قال الحافظ في "النكت الظراف": رويناه في جزء "أبي الجهم" عن الليث ليس فيه "ابن عبَّاس"، وكذا أخرجه أحمد في "مسنده"(6/ 334) عن عليّ بن إسحاق، عن ابن المبارك، عن ابن جُريج، وكذا أخرجه الطحاويّ من رواية أبي عاصم، عن ابن جريج، ومن رواية ابن وهب عن الليث، ليس في شيء منها "ابن عبَّاس". انتهى
(2)
.
والحاصل أن عدم ذكر "ابن عبَّاس" في هذا السند هو الأرجح، فتأمّل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
راجع: "تحفة الأشراف" 12/ 485 - 496.
(2)
"النكت الظراف" 12/ 485.
(92) - (بَابُ فَضْلِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3385]
(1397) - (حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، جَمِيعًا عَن ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ عَمْرٌو: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَن الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِي هَذَا، وَمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى").
رجال هذا الإسناد: ستة:
وتقدّم في أول الباب الماضي، فلا حاجة إلى إعادته.
شرح الحديث:
(عَنْ سَعِيد) بن الْمُسيِّب، قال في "الفتح": ووقع عند البيهقيّ من وجه آخر، عن عليّ ابن المدينيّ، قال: حدّثنا به سفيان مرةً بهذا اللفظ، وكان أكثر ما يحدث به بلفظ:"تُشَدُّ الرحال". انتهى
(1)
. (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) أي يبلغ أبو هريرة رضي الله عنه بهذا الحديث النبي صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنه يُسنده إليه، ويرويه عنه، وقد تقدَّم قريبًا وجه عدوله عن الصيغ المشهورة، كـ "سمعت"، ونحوها إلى هذا، فلا تنس، ووقع عند البخاريّ من رواية ابن المدينيّ، عن ابن عيينة، بلفظ:"عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم"("لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ) - بضم أوّله - بلفظ النفي، والمراد النهي عن السفر إلى غيرها، قال الطيبيّ رحمه الله: هو أبلغ من صريح النهي، كأنه قال: لا يستقيم أن يُقصَد بالزيارة إلا هذه البقاع؛ لاختصاصها بما اختَصَّت به.
و"الرِّحَال" - بالمهملة -: جمع رَحْل، وهو للبعير كالسرج للفرس، وكَنَى بشدّ الرحال عن السفر؛ لأنه لازمه، وخرج ذكرها مخرج الغالب في ركوب
(1)
"الفتح" 3/ 601.
المسافر، وإلا فلا فرق بين ركوب الرواحل، والخيل، والبغال، والحمير، والمشي في المعنى المذكور، ويدل عليه قوله في بعض طرقه:"إنما يُسَافَرُ"، وهو الحديث الأخير عند مسلم في هذا الباب.
(إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ) الاستثناء هنا مُفَرَّغ، والتقدير لا تشد الرحال إلى موضع من المواضع، ولازمه منع السفر إلى كلّ موضع غيرها؛ لأن المستثنى منه في المفرَّغ مقدَّر بأعم العامّ، لكن يمكن أن يكون المراد بالعموم هنا الموضع المخصوص، وهو المسجد كما سيأتي.
(مَسْجِدِي هَذَا) المراد مسجده صلى الله عليه وسلم الخاصّ بالصلاة، لا كلّ الحرم، فـ "مسجدي" يجوز فيه أوجه الإعراب الثلاثة: الجرّ على البدليّة، والرفع بتقدير مبتدأ، أي أحدهما، والنصب بتقدير فعل، كـ "أعني"(وَمَسْجِدِ الْحَرَامِ) أي الْمُحَرَّم، وهو كقولهم: الكتاب، بمعنى المكتوب، و"مسجد" يجوز فيه أوجه الإعراب، كسابقه، وهو في رواية المصنّف بالإضافة إلى "الحرام"، فيكون من إضافة الموصوف إلى الصفة، جوّزه الكوفيّون، ومنعه البصريّون، وفي رواية البخاريّ:"والمسجد الحرام" بالتوصيف.
والمراد به جميع الحرم، وقيل: يَختص بالموضع الذي يُصَلَّى فيه دون البيوت وغيرها من أجزاء الحرم، قال الطبريّ: ويتأيد بقوله: "مسجدي هذا"؛ لأن الإشارة فيه إلى مسجد الجماعة، فينبغي أن يكون المستثنى كذلك، وقيل: المراد به الكعبة، حكاه المحبّ الطبريّ، وذكر أنه يتأيد بما رواه النسائي بلفظ:"إلا الكعبة"، وفيه نظر؛ لأن الذي عند النسائيّ:"إلا مسجد الكعبة"، حتى ولو سقطت لفظة مسجد لكانت مرادة، ويؤيد الأول ما رواه الطيالسيّ من طريق عطاء؛ أنه قيل له: هذا الفضل في المسجد وحده، أو في الحرم؟ قال: بل في الحرم؛ لأنه كله مسجد، قاله في "الفتح"
(1)
.
(وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى) أي بيت المقدس، وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة، وقد جوّزه الكوفيون، واستشهدوا له بقوله تعالى:{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} [القصص: 44]، والبصريون يؤولونه بإضمار المكان، أي الذي بجانب
(1)
"الفتح" 3/ 602.
المكان الغربي، ومسجد المكان الأقصى، ونحو ذلك، وسُمِّي الأقصى؛ لبعده عن المسجد الحرام في المسافة، وقيل: في الزمان، وفيه نظر؛ لأنه ثبت في "الصحيح" أن بينهما أربعين سنةً، وقال الزمخشريّ: سُمِّي الأقصى؛ لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد، وقيل: لبعده عن الأقذار والخبث، وقيل: هو أقصى بالنسبة إلى مسجد المدينة؛ لأنه بعيد من مكة، وبيت المقدس أبعد منه.
[فائدة]: لبيت المقدس عدّة أسماء تقرُب من العشرين، منها:"إيلياء" بالمدّ، والقصر، وبحذف الياء الأولى، وعن ابن عباس إدخال الألف واللام على هذا الثالث، و"بيت المقدس"، بسكون القاف، وبفتحها مع التشديد، و"القُدْس"، بغير ميم مع ضم القاف، وسكون الدال، وبضمها أيضًا، و"شَلَّم" بالمعجمة، وتشديد اللام، وبالمهملة، و"شَلام" بمعجمة، و"سَلِم"، بفتح المهملة، وكسر اللام الخفيفة، و"أَوْرِي سَلِم" بسكون الواو، وبكسر الراء بعدها تحتانية ساكنة قال الأعشى [من المتقارب]:
وَقَدْ طُفْتُ لِلْمَالِ آفَاقَهُ
…
دِمَشْقَ فَحِمْصَ فَأَوْرِي سَلِمْ
ومن أسمائه: "كورة"، و"بيت إيل"، و"صهيون"، و"مصروث" آخره مثلثة، و"كورشيلا"، و "بابوس" بموحدتين ومعجمة، وقد تتبع أكثر هذه الأسماء الحسين بن خالويه اللغويّ في كتاب "ليس"، ذكره في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [92/ 3385 و 3386 و 3387](1397)، و (البخاريّ) في "فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة"(1189)، و (أبو داود) في "المناسك"(2033)، و (النسائيّ) في "المساجد"(2/ 37) و"الكبرى"(1/ 258)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(1409)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"
(1)
"الفتح" 3/ 602 - 603.
(9158)
، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 418 - 419)، و (الحميديّ) في "مسنده"(943)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 234 و 238 و 278)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1619)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 57 - 58)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(1/ 244)، و (الخطيب البغداديّ) في "تاريخه"(9/ 222)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 244 و 10/ 82) و"المعرفة"(7/ 347)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضيلة هذه المساجد الثلاثة، ومزيتها على غيرها؛ لكونها مساجد الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ولأن الأول قبلة الناس جميعًا، وإليه حجهم، والثاني كان قبلة الأمم السالفة، والثالث أُسِّس على التقوى.
قال في "زهر الرُّبَى": قال الشيخ تقيّ الدين السبكيّ: ليس في الأرض بقعة لها فضل لذاتها حتى تُشَدّ الرجال إليها لذلك الفضل غير البلاد الثلاثة، وأما غيرها من البلاد فلا تشد الرجال إليها لذاتها، بل لزيارة، أو جهاد، أو علم، أو نحو ذلك. انتهى
2 -
(ومنها): أن من نذر إتيان هذه المساجد الثلاثة للصلاة فيها يلزمه الوفاء به؛ لأنه طاعة، والطاعة تلزم بالنذر، وسيأتي تحقيق اختلاف العلماء فيه في المسألة الخامسة - إن شاء الله تعالى -.
3 -
(ومنها): أن من نذر إتيان غير هذه المساجد الثلاثة للصلاة لا يلزمه الوفاء به؛ لأنها لا فضل لبعضها على بعض، فتكفي صلاته في أيّ مسجد كان، وسيأتي بيان اختلاف العلماء فيه أيضًا في المسألة السادسة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم شدّ الرحال إلى غير هذه المساجد الثلاثة:
(اعلم): أنهم اختلفوا في شدّ الرحال إلى غيرها؛ كالذهاب إلى زيارة الصالحين أحياءً وأمواتًا، وإلى المواضع الفاضلة؛ لقصد التعبد فيها بالصلاة، أو غيرها، فقال الشيخ أبو محمد الجوينيّ: يحرم شدّ الرحال إلى غيرها؛ عملًا
بظاهر هذا الحديث، وأشار القاضي حسين من الشافعية إلى اختياره، وبه قال القاضي عياض وطائفة.
ويدل عليه إنكار بصرة بن أبي بصرة الغفاريّ رضي الله عنه على أبي هريرة رضي الله عنه، حين لقيه راجعًا من الطور، وكان قد أتى إليه ليصلي فيه، فقال له: لو لقيتك من قبل أن تأتيه لم تأته، قال أبو هريرة: ولم؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تُعْمَل المطيّ إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي، ومسجد بيت المقدس"
(1)
، فاستدل به بصرة على إنكاره إتيانه الطور، فدلّ على أنه يرى حمل الحديث على عمومه، ووافقه أبو هريرة.
قال في "الفتح": والصحيح عند إمام الحرمين وغيره من الشافعية أنه لا يحرم، وأجابوا عن حديث الباب بأجوبة: منها أن المراد أن الفضيلة التامة إنما هي في شدّ الرجال إلى هذه المساجد، بخلاف غيرها، فإنه جائز، وقد وقع في رواية لأحمد بلفظ:"لا ينبغي للمطي أن تعمل"، وهو لفظ ظاهر في غير التحريم.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في هذا الجواب نظر لا يخفى؛ إذ لفظ "لا ينبغي" ظاهر في المنع والتحريم، فقد أكثر استعمال الشرع له في ذلك، قال الله تعالى:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]، وكما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاريّ:"شتمني ابن آدم، وما ينبغي له أن يشتمني. . ."، وقال تعالى:{وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)} [مريم: 92]، وقال:{قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [الفرقان: 18] وبالجملة فهذه اللفظة في استعمال الشرع عظيمة الشأن، فالقول بأنها ظاهرة في غير التحريم غير صحيح، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
ومنها: أن النهي مخصوص بمن نذر على نفسه الصلاة في مسجد من سائر المساجد غير الثلاثة، فإنه لا يجب الوفاء به، قاله ابن بطال.
وقال الخطابيّ: اللفظ لفظ الخبر، ومعناه الإيجاب فيما ينذره الإنسان
(1)
رواه النسائيّ في "المجتبى" في "الجمعة"(45/ 1430).
من الصلاة في البقاع التي يتبرك بها، أي لا يلزم الوفاء بشيء من ذلك غير هذه المساجد الثلاثة.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا التخصيص لا دليل عليه؛ بل الظاهر إجراء عموم النص على ظاهره، فيعمّ النذر وغيره، والله تعالى أعلم.
ومنها: أن المراد حكم المساجد فقط، وأنه لا تشد الرجال إلى مسجد من المساجد للصلاة فيه غير هذه المساجد الثلاثة، وأما قصد غير المساجد لزيارة صالح، أو قريب، أو صاحب، أو طلب علم، أو تجارة، أو نزهة، فلا يدخل في النهي.
قال الحافظ: ويؤيده ما روى أحمد من طريق شهر بن حوشب، قال: سمعت أبا سعيد، وذُكرت عنده الصلاة في الطور، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي للمطي أن تشد رجاله إلى مسجد ينبغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا"، وشهر حسن الحديث، وإن كان فيه بعض الضعف.
ومنها: أن المراد قصدها بالاعتكاف، فيما حكاه الخطابي عن بعض السلف أنه قال: لا يعتكف في غيرها، وهو أخص من الذي قبله، قال الحافظ: ولم أر عليه دليلًا.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الراجح عندي ما ذهب إليه الأولون، وهو أن النهي للتحريم عمومًا، فيحرم شد الرجال إلى غير المساجد الثلاثة؛ لوضوح الحجة في ذلك، إلا ما خُص بالدليل؛ كالسفر للجهاد، والتجارة، وطلب العلم، ونحو ذلك، فتأمّل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في الخلاف بين أهل العلم فيمن نذر إتيان هذه المساجد الثلاثة:
ذهب مالك، وأحمد، والشافعيّ، والبويطيّ - رحمهم الله تعالى - إلى وجوب الوفاء عليه، واختاره أبو إسحاق المروزيّ رحمه الله.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يجب الوفاء مطلقًا.
وقال الشافعيّ رحمه الله: في "الأم": يجب في المسجد الحرام؛ لتعلّق
النسك به، بخلاف المسجدين الآخرين، قال الحافظ: وهذا هو المنصور لأصحاب الشافعيّ.
قال ابن التين: والحجة على الشافعي أن إعمال المطيّ إلى مسجد المدينة، والمسجد الأقصى، والصلاة فيهما قربة، فوجب أن يلزم بالنذر؛ كالمسجد الحرام.
وقال ابن المنذر رحمه الله: يجب إلى الحرمين، وأما الأقصى فلا، واستأنس بحديث جابر رضي الله عنه: أن رجلًا قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس، قال:"صلِّ ههنا"
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الأرجح عندي قول الأولين؛ لحديث الباب، إذ شدّ الرحل إلى هذه المساجد مشروع، ومن نذر أن يطيع الله في المشروع لزمه الوفاء به؛ لِما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" عن عائشة رضي الله عنها، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه".
والحاصل: أن من نذر السفر إلى أحد هذه المساجد الثلاثة لزمه الوفاء به، أي لمن كان في مكة والمدينة، فيكفيه أن يصلي فيهما، ولا يلزمه السفر إلى بيت المقدس؛ لِما دلّ عليه حديث جابر رضي الله عنه المذكور، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): من نذر إتيان غير هذه المساجد الثلاثة لصلاة أو لغيرها لا يلزمه الوفاء به؛ لأنه لا فضل لبعضها على بعض، فتكفي صلاته في أيّ مسجد كان.
قال النوويّ رحمه الله: لا اختلاف في ذلك إلا ما رُوي عن الليث أنه قال: يجب الوفاء به. وعن الحنابلة رواية: يلزمه كفارة يمين، ولا ينعقد نذره، وعن المالكية رواية: إن تعلقت به عبادة تختص به، كرباط لزم، وإلا فلا، وذُكر عن محمد بن مسلمة المالكي أنه يلزم في مسجد قباء؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم "كان يأتيه كل سبت".
(1)
حديث صحيح أخرجه أبو داود، والدارميّ.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما كان من غير شدّ رحل يلزم الوفاء به؛ لقوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"أوف بنذرك"، فالوفاء بالنذر واجب بالنصّ، إلا أن يكون في أحد المساجد الثلاثة، فيكفيه أن يصلي ما نذره في غيرها؛ لكونها أفضل، وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم أمر من نذر أن يصلي في بيت المقدس بالصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم؛ لكونه أفضل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): أنه قد وقع نزاع في شد الرجال لزيارة قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال بتحريمه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، واحتج على ذلك بحديث الباب، ورَدّ عليه الشيخ تقيّ الدين السبكيّ رحمه الله، وألّف في ذلك كتابًا، وانتصر الحافظ شمس الدين بن عبد الهادي رحمه الله لابن تيمية، وردّ على السبكي، وألّف في ذلك كتابًا.
وخلاصة القول: إن شيخ الإسلام لا يقول بتحريم الزيارة مطلقًا، بل يقول باستحبابها، وإنما يقول بتحريم شدّ الرحال إليها؛ لحديث الباب، وقد يتوهم بعض الجهلة أنه يقول بتحريم الزيارة مطلقًا، وهذا خطأ عليه، فتنبه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن الأولى أن ينوي المسجد عند شدّ الرحل، فإذا وصل هناك توجه للزيارة؛ لأنها مشروعة في أصلها إجماعًا، فهذا أسلم، استبراء لدينه، وقد أخرج الشيخان عن النُّعمان بن بشير رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:"ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه. . ." الحديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3386]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، عَنْ مَعْمَرٍ، عَن الزُّهْرِيَّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدَّم في الباب الماضي.
2 -
(عَبْدُ الْأَعْلَى) بن عبد الأعلى الساميّ البصريّ، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.
3 -
(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدَّم في الباب الماضي.
و"الزهريّ" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية معمر، عن الزهريّ ساقها عبد الرزّاق في "مصنّفه" 5/ 132 فقال:
(9158)
- عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، عن ابن المسيِّب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تشدُّ الرحال إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3387]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِى عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ؛ أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ أَبِي أَنَسٍ حَدَّثَهُ؛ أَنَّ سَلْمَانَ الْأَغَرَّ حَدَّثَهُ؛ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يُخْبِرُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّمَا يُسَافَرُ اِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ، وَمَسْجِدِي، وَمَسْجِدِ إِيلِيَاءَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ) السعديّ مولاهم، أبو جعفر نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253) وله (83) سنةً (م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله، تقدَّم قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرِ) بن عبد الله بن الحكم بن رافع الأنصاريّ المدنيّ، صدوقٌ رمي بالقدر، وربّما وَهِمَ [6](ت 153)(خت م 4) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 4/ 1195.
4 -
(عِمْرَانُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ) القرشيّ العامريّ المدنيّ، نزيل الإسكندريّة، ثقةٌ [5](ت 117)(بخ م د ت س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 56/ 1557.
5 -
(سَلْمَانُ الْأَغَرُّ) هو أبو عبد الله المدنيّ، مولى الجهنيين، تقدَّم في الباب الماضي.
و"أبو هريرة" ذُكر قبله.
وقوله: (وَمَسْجِدِ إِيلِيَاءَ) هو بيت المقدس، وفيه ثلاث لغات: أفصحهنّ، وأشهرهنّ هذه الواقعة هنا إيلياء، بكسر الهمزة، واللام، وبالمدّ، والثانية كذلك، إلا أنه مقصورٌ، والثالثة إلياء، بحذف الياء، وبالمدّ، وهو المسجد الأقصى، سُمي الأقصى؛ لبعده من المسجد الحرام
(1)
.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(93) - (بَابُ بَيَانِ أَنَّ الْمَسْجِدَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى هُوَ مَسْجِدُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3388]
(1398) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ حُمَيْدٍ الْخَرَّاطِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: مَرَّ بِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: كَيْفَ سَمِعْتَ أَبَاكَ يَذْكُرُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى؟ قَالَ: قَالَ أَبِي: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ الْمَسْجِدَيْنِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى؟ قَالَ: فَأخَذَ كَفًّا مِنْ حَصْبَاءَ، فَضَرَبَ بِهِ
(2)
الْأَرْضَ، ثُمَّ قَالَ:"هُوَ مَسْجِدُكُمْ هَذَا"، لِمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ أبَاكَ هَكَذَا يَذْكُرُهُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون، تقدَّم في الباب الماضي.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 168.
(2)
وفي نسخة: "بها".
2 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، تقدَّم أيضًا في الباب الماضي.
3 -
(حُمَيْدٌ الْخَرَّاطُ) ابن زياد، أبو صخر بن أبي المخارق، صاحب الْعَبَاء، مدنيّ، سكن مصر، صدوقٌ يهم [6](ت 189)(بخ م د ت عس ق) تقدم في "الطهارة" 5/ 558.
4 -
(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف، تقدَّم أيضًا في الباب الماضي.
5 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) الأنصاريّ الخزرجيّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 112) وله (77) سنةً (خت م 4) تقدم في "الحيض" 16/ 774.
6 -
(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سِنان الأنصاريّ الخزرجيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، تقدَّم قريبًا.
شرح الحديث:
(عَنْ حُمَيْدٍ الْخَرَّاطِ) بفتح الخاء المعجمة، وتشديد الراء: نسبة إلى خرط الخشب، قاله في "اللباب"
(1)
، وقال الفيّوميّ: خَرَطتُ الورَقَ خَرْطًا، من بابي ضرب، وقتل: حتَته من الأغصان. انتهى
(2)
؛ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف (قَالَ: مَرَّ بِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ) أبو سلمة (قُلْتُ لَهُ: كَيْفَ سَمِعْتَ أَبَاكَ) أبا سعيد الخدريّ رضي الله عنه (يَذْكُرُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى؟) أي: بيان المراد بالمسجد الذي أُسس على التقوى في قوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} الآية [التوبة: 108].
فقوله: "أسس على التقوى"؛ أي: بُنيت جدره، ورفعت قواعده، والأُسّ: أصل البناء؛ وكذلك الأساس، والأسس مقصور منه، وجمع الأس: إساس، مثل عُسّ، وعِساس، وجمع الأساس: أسس، مثل قذال، وقذل، وجمع الأسس: آساس، مثل سبب، وأسباب. انتهى
(3)
.
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 290.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 167.
(3)
"تفسير القرطبي" 8/ 259.
وتأسيس البناء: تثبيته، ورفعه، ومعنى تأسيسه على التقوى: تأسيسه على الخصال التي تُتَّقَى بها العقوبة. انتهى
(1)
.
وقوله: "من أول يوم" متعلق بـ "أُسِّس"؛ أي: أسس على التقوى من أول يوم من أيام تأسيسه، فـ "مِن" لابتداء الغاية في الزمان، كما في قول الشاعر [من الطويل]:
تُخُيِّرْنَ مِنْ أَزْمَانِ يَوْمِ حَلِيمَةٍ
…
إِلَى الْيَوْمِ قَدْ جُرِّبْنَ كُلَّ التَّجَارِبِ
وقيل: "من" بمعنى "في".
(قَالَ) عبد الرحمن (قَالَ أَبِي) أي: أبو سعيد رضي الله عنه (دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ بَعْضِ نِسَائِهِ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفها. انتهى
(2)
. (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أيُّ الْمَسْجِدَيْنِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم مجيبًا عن سؤال أبي سعيد رضي الله عنه، وقوله: (فَأخَذَ كَفًّا مِنْ حَصْبَاءَ، فَضَرَبَ بِهِ
(3)
الْأَرْضَ) جملة معترضة بين القول ومقوله، وقوله:(ثُمَّ قَالَ) تأكيد لـ "قال" الأول؛ أعاده لطول الفصل، نظير قوله تعالى:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ} الآية [البقرة: 89]("هُوَ) أي: المسجد الذي أُسّس على التقوى (مَسْجِدُكُمْ هَذَا") أي: المسجد النبويّ، كما بيّنه الراوي بقوله:(لِمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ) متعلِّق بمحذوف؛ أي: قال هذا لمسجد المدينة النبويّة (قَالَ) أبو سلمة (فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ أَبَاكَ) أي: أبا سعيد الخدريّ رضي الله عنه (هَكَذَا يَذْكُرُهُ) أي: مثل هذا الذي ذكرتَ عنه لي ذكره لي.
وقد أخرج هذا الحديث أحمد، والترمذيّ، والنسائيّ، قال الإمام أحمد رحمه الله 3/ 89: حدّثنا موسى بن داود، حدثنا ليث
(4)
، عن عمران بن أبي أنس، عن سعيد بن أبي سعيد الخدريّ، قال: تمارى رجلان في المسجد الذي أُسِّس على التقوى من أول يوم، فقال أحدهما: هو مسجد قباء، وقال الآخر:
(1)
"فتح القدير" 2/ 403.
(2)
"تنبيه المعلم" ص 231.
(3)
وفي نسخة: "بها".
(4)
هو ابن سعد الإمام المصريّ المشهور.
هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هو مسجدي هذا"، وكذا رواه الترمذيّ، والنسائيّ، وصححه الترمذيّ.
وأخرجه أحمد أيضًا عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: اختَلَف رجلان رجل من بني خُدْرة، ورجل من بني عَمرو بن عوف، في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال الخدريّ: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الْعَمْريّ: هو مسجد قباء، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألاه عن ذلك، فقال:"هو هذا المسجد"، لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال في ذلك يعني مسجد قباء، وفي رواية الترمذيّ:"وفي ذلك خير كثيرٌ".
قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي قريبًا ما يصرّح أن الرجل الخدريّ هو أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه الراوي لهذا الحديث نفسُهُ.
قال النوويّ رحمه الله: هذا نَصّ بأنه المسجد الذي أسس على التقوى المذكور في القرآن، ورَدٌّ لما يقول بعض المفسرين: إنه مسجد قباء، وأما أخذه صلى الله عليه وسلم الحصباء، وضربه في الأرض، فالمراد به المبالغة في الإيضاح؛ لبيان أنه مسجد المدينة، والحصباء بالمدّ: الحصى الصغار. انتهى
(1)
.
وقال الحافظ العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذيّ": قد وردت أحاديث تدل على أنه مسجد قباء، وهذا الحديث أرجح، وأصحّ، وأصرح.
وقال ابن عطية رحمه الله: الذي يليق بالقصّة أنه مسجد قباء، قال: إلا أنه لا نظر مع الحديث. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي تحقيق اختلاف العلماء في هذه المسألة في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 169.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [93/ 3388 و 3389](1398)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3099)، و (النسائيّ) في "المساجد"(2/ 36) و "الكبرى"(776 و 11228)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 372 و 373)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 8)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 662)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 58)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1606)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(17220)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في المعنى المراد بقوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} الآية [التوبة: 108].
فقالت طائفة: إنه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مروي عن عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وسعيد بن المسيِّب، واختاره ابن جرير الطبريّ.
وقالت طائفة: إنه مسجد قباء، رواه عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، ورواه عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري عن عروة بن الزبير، وبه قال عطية العوفيّ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، والشعبيّ، والحسن البصريّ، ونقله البغويّ عن سعيد بن جبير، وقتادة. ذكره ابن كثير رحمه الله في "تفسيره"
(1)
.
وقال في "الفتح": وقد اختُلِف في المراد بقوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} الآية [التوبة: 108]، فالجمهور على أن المراد به مسجد قباء، وهو ظاهر الآية، ثم ذكر حديث أبي سعيد المذكور، وغيره، ثم قال: قال القرطبيّ: هذا السؤال صدر ممن ظهرت له المساواة بين المسجدين في اشتراكهما في أن كلًّا منهما بناه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلذلك سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عنه، فأجاب بأن المراد مسجده، وكأن المزيّة التي اقتضت تعيينه دون مسجد قباء، لكون مسجد قباء لم يكن بناؤه بأمر جزم من الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم، أو كان رأيًا رآه بخلاف مسجده، أو كان حصل له، أو لأصحابه فيه من الأحوال القلبية ما لم يحصل لغيره. انتهى.
(1)
راجع: "تفسير ابن كثير" 2/ 404 - 405.
ويَحْتَمِل أن تكون المزية لِمَا اتَّفَقَ من طول إقامته صلى الله عليه وسلم بمسجد المدينة، بخلاف مسجد قباء، فما أقام به إلا أيامًا قلائل، وكفى بهذا مزية، من غير حاجة إلى ما تكلفه القرطبيّ.
والحقّ أن كلًّا منهما أسس على التقوى، وقوله تعالى في بقية الآية:{فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108]، يؤيِّد كون المراد مسجد قباء، وعند أبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"نزلت {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} في أهل قباء".
وعلى هذا فالسر في جوابه صلى الله عليه وسلم بأن المسجد الذي أسس على التقوى مسجده رَفْعُ توهم أن ذلك خاصّ بمسجد قباء، والله تعالى أعلم.
قال الداوديّ وغيره: ليس هذا اختلافًا؛ لأن كلا منهما أسس على التقوى، وكذا قال السهيليّ، وزاد غيره أن قوله تعالى:{مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} يقتضي أنه مسجد قباء؛ لأن تأسيسه كان في أول يوم حلّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دار الهجرة، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
وقال العلامة الشوكانيّ رحمه الله في "تفسيره": وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، ومسلم، والترمذيّ، والنسائيّ، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن خزيمة، وابن حبان، وأبو الشيخ، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في "الدلائل" عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، قال: اختلف رجلان، رجل من بني خدرة، وفي لفظ: تماريت أنا ورجل من بني عمرو بن عوف في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال الخدري: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال العمري: هو مسجد قباء، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألاه عن ذلك؟ فقال:"هو هذا المسجد"، لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"وفي ذلك خير كثير"، يعني مسجد قباء.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، والزبير بن بكار في "أخبار المدينة"، وأبو يعلى، وابن حبان، والطبراني، والحاكم في "الكنى"، وابن مردويه عن سهل بن سعد الساعدي نحوه.
(1)
"الفتح" 7/ 288 - 289.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وابن المنذر، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والخطيب، والضياء في "المختارة"، عن أُبيّ بن كعب، قال: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى؟ قال: "هو مسجدي هذا"، وأخرج الطبرانيّ، والضياء المقدسيّ في "المختارة"، عن زيد بن ثابت مرفوعًا، مثله.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن مردويه، والطبرانيّ من طريق عروة بن الزبير، عن زيد بن ثابت، قال: المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عروة: مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم خير منه، إنما نزلت في مسجد قباء.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن مردويه عن ابن عمر، قال: المسجد الذي أسس على التقوى: مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأخرج المذكوران عن أبي سعيد الخدريّ مثله.
وقد روي عن جماعة غير هؤلاء مثل قولهم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقيّ في "الدلائل" عن ابن عباس أنه مسجد قباء، وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك مثله.
قال العلامة الشوكانيّ رحمه الله ما خلاصته: إنه لا يخفى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد عيّن هذا المسجد الذي أسس على التقوى، وجزم بأنه مسجده صلى الله عليه وسلم، كما قدّمنا من الأحاديث الصحيحة، فلا يقاوم ذلك قول فرد من الصحابة، ولا جماعة منهم، ولا غيرهم، ولا يصح إيراده في مقابلة ما قد صح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا فائدة من إيراد ما ورد في فضل الصلاة في مسجد قباء، فإن ذلك لا يستلزم كونه المسجد الذي أسس على التقوى، على أن ما ورد في فضائل مسجده صلى الله عليه وسلم أكثر مما ورد في فضل مسجد قباء بلا شك.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الشوكانيّ صلى الله عليه وسلم، واختاره قبله ابن جرير، وابن عطية، والقرطبيّ في تفسيرهم، من ترجيح قول من قال بظاهر حديث الباب، من أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم لا مسجد قباء، تحقيق حقيق بالقبول؛ لموافقته الصحيح الصريح من النقول، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3389]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الْأَشْعَثِيُّ، قَالَ سَعِيدٌ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ أبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِى سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَن النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ، وَلَمْ يَذْكر عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي سَعِيدٍ فِي الْإِسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الْأَشْعَثِيُّ) الْكِنديّ، أبو عثمان الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م س) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.
2 -
(حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) تقدَّم قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله، وفي الباب الماضي، وحميدٌ رضي الله عنه هو ابن زياد الخرّاط.
[تنبيه]: رواية حاتم بن إسماعيل، عن حُميد الخرّاط ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه" 2/ 148 فقال:
(7526)
- حدّثنا حاتم بن إسماعيل، عن حميد بن صخر، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد، قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألته عن المسجد الذي أسس على التقوى، فقبض قبضةً من الحصى، ثم ضرب بها الأرض، فقال:"هذا هو"، يعني مسجد المدينة. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(94) - (بابُ فَضْلِ مَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَالصَّلَاةِ فِيهِ، وَزَيارَتِهِ)
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3390]
(1399) - (حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أيوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَزُورُ قُبَاءً رَاكِبًا وَمَاشِيًا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعِ) بن عبد الرحمن الأصمّ البغويّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 244) وله (84) سنةً (ع) تقدم في "الحج" 7/ 2841.
2 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن عليّة، تقدَّم قريبًا.
والباقون تقدّموا قبل بابين.
شرح الحديث:
(عَنْ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَزُورُ قُبَاءً) - بضم القاف، وتخفيف الباء الموحدة - فيه أربع لغات: المدّ، والقصر، والصرف، وعدمه، ومثله في هذا الضبط حراء.
وقال في "الفتح": وقباء - بضم القاف، ثم موحدة ممدودة عند أكثر أهل اللغويون، وأنكر السكري قصره، لكن حكاه صاحب "العين"، قال البكري: من العرب من يُذَكِّره، فيصرفه، ومنهم من يؤنثه، فلا يصرفه، وفي "المطالع": هو على ثلاثة أميال من المدينة، وقال ياقوت: على ميلين، على يسار قاصد مكة، وهو من عوالي المدينة، وسُمِّي باسم بئر هناك، والمسجد المذكور هو مسجد بني عمرو بن عوف، وهو أول مسجد أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب.
وقوله: (رَاكِبًا وَمَاشِيًا) منصوب على الحال؛ أي: حال كونه راكبًا أحيانًا، وماشيًا أحيانًا. والمراد أنه يأتيه بحسب ما تيسر له، والواو بمعنى "أو"، زاد في الرواية التالية:"فيصلي فيه ركعتين"، وعلّقه البخاريّ، وادَّعَى الطحاويّ أن هذه الزيادة مدرجة، وأن أحد الرواة قاله من عنده؛ لعلمه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان من عادته أن لا يجلس حتى يصلي.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله الطحاويّ دعوى بلا حجة، بل هي زيادة صحيحة مسندة، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
وللشيخين من رواية عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: "كان
(1)
"الفتح" 3/ 82.
النبيّ صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء كل سبت ماشيًا وراكبًا، وكان عبد الله بن عمر يفعله".
[تنبيه]: قيل: السر في كونه صلى الله عليه وسلم يخص السبت بالإتيان فيه، كونه أمكن لمواصلة الأنصار، وتفقد أحوالهم، وحال من تأخر منهم عن حضور الجمعة معه صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [94/ 3390 و 3391 و 3392 و 3393 و 3394 و 3395 و 3396 و 3397 و 3398](1399)، و (البخاريّ) في "فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة"(1193 و 1194)، و (أبو داود) في "المناسك"(2040)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1840)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 373)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 291)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 30 و 58 و 65 و 72 و 108)، و (الحاكم) في "مستدركه"(1/ 487)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 60 - 61)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(4/ 357)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 252)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 248)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(458)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أن حديث الباب على اختلاف طرقه يدلّ على استحباب إتيان مسجد قباء، وصلاة ركعتين فيه، وأن ذلك ليس من باب شدّ الرحل المنهيّ عنه في الباب الماضي؛ لأن ذلك كناية عن السفر، وهذا ليس سفرًا.
2 -
(ومنها): بيان مشروعيّة زيارة قباء راكبًا وماشيًا، قال النوويّ رحمه الله: وهكذا جميع المواضع الفاضلة تجوز زيارتها راكبًا وماشيًا.
3 -
(ومنها): بيان استحباب كون صلاة النفل بالنهار ركعتين، كصلاة
الليل، قال النوويّ: وهو مذهبنا، ومذهب الجمهور، وفيه خلاف أبي حنيفة، وسبقت المسألة في "كتاب الصلاة".
4 -
(ومنها): أن في قوله: "كلَّ سبت" فيه جواز تخصيص بعض الأيام بالزيارة، قال النوويّ: وهذا هو الصواب، وقول الجمهور، وكَرِه ابن مسلمة المالكيّ ذلك، قالوا: لعله لم تبلغه هذه الأحاديث. انتهى والله تعالى أعلم.
5 -
(ومنها): أن فيه - كما قال في "الفتح" - جوازَ تخصيص بعض الأيام ببعض الأعمال الصالحة، والمداومة على ذلك.
قال الجامع عفا الله عنه: يعني إلا ما ورد النهي عنه؛ كالنهي عن تخصيص يوم الجمعة بالصوم، وليله بالقيام، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3391]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأتي مَسْجِدَ قُبَاءٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا، فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ. قَالَ أبُو بَكْرٍ فِي رِوَايَتِهِ: قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلّهم تقدّموا قبل بابين، و "أبو أسامة" هو: حمّاد بن أسامة، و "عبيد الله" هو: ابن عمر العمريّ.
والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3392]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْتِى قُبَاءً رَاكِبًا وَمَاشِيًا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلّهم تقدّموا قبل بابين، و "يحيى" هو: القطّان.
والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3393]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو مَعْنٍ الرَّقَاشِيُّ زَيْدُ بْنُ يَزِيدَ الثّقَفِيُّ بَصْرِيٌّ ثِقَةٌ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ، عَن ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ يَحْيَى الْقَطَّانِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو مَعْنٍ الرَّقَاشِيُّ زَيْدُ بْنُ يَزِيدَ الثّقَفِيُّ بَصْرِيٌّ ثِقَةٌ)[11](م) من أفراد المصنّف تقدم في "الإيمان" 57/ 328.
2 -
(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.
3 -
(ابْنُ عَجْلَانَ) هو: محمد القرشيّ مولى فاطمة بنت الوليد المدنيّ، صدوقٌ اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة [5](ت 148)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 10/ 150.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ يَحْيَى الْقَطَّانِ) يعني الذي قبله.
[تنبيه]: رواية محمد بن عجلان، عن نافع، ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" 4/ 60 فقال:
(3230)
- ثنا أبو الفرج أحمد بن جعفر النسائيّ، ثنا يوسف القاضي، ثنا محمد بن بكر المقدميّ ثنا عمر بن عليّ، عن ابن عجلان (ح) وثنا أبو محمد بن حيان، ثنا عبد الرحمن بن الحسن، ثنا الزعفرانيّ، وابن عفان قالا: ثنا أسباط، ثنا ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يأتي قباء راكبًا وماشيًا. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3394]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأتِي قُبَاءً رَاكِبًا وَمَاشِيًا).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
"يحيى بن يحيى" التميميّ، و "مالك بن أنس" تقدّما قريبًا، والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: هذا الإسناد، والأسانيد الثلاثة الآتية كلها من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهذا هو (219) من رباعيّات الكتاب.
والحديث متّفقٌ عليه، ومضى تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3395]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالَ ابْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْتِي قُبَاءً رَاكِبًا وَمَاشِيًا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ البغداديّ، تقدَّم قريبًا.
2 -
(قُتَيْبَةُ) بن سعيد، تقدَّم قبل بابين.
3 -
(ابْنُ حُجْرٍ) هو: عليّ، تقدَّم قريبًا.
4 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزرقيّ، تقدَّم أيضًا قريبًا.
5 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ) العدويّ مولى ابن عمر، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ [4](ت 127)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.
و"عبد الله بن عمر رضي الله عنه" ذُكر قبله، والإسناد رباعيّ، كما مرّ، وهو (220) من رباعيّات الكتاب.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3396]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَأْتِي قُبَاءً كُلَّ سَبْتٍ، وَكَانَ يَقُولُ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَأْتِيهِ كُلَّ سَبْتٍ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل باب، والإسناد رباعيّ، وهو (221) من رباعيّات الكتاب.
والحديث تقدَّم البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3397]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْتِي قُبَاءً، يَعْنِي كُلَّ سَبْتٍ، كَانَ يَأْتِيهِ رَاكِبًا وَمَاشِيًا، قَالَ ابْنُ دِينَارٍ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ).
رجال هذا الإسناد: أربعة أيضًا:
وابن أبي عمر هو: محمد بن يحيى، تقدَّم قبل بابين، و "سفيان" هو: ابن عيينة، تقدَّم أيضًا قبل باب، والباقيان، ذُكرا قبله.
والحديث قد سبق البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3398]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ هَاشِمٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَن ابْنِ دِينَارٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَلَمْ يَذْكُرْ كُلَّ سَبْتٍ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ هَاشِمِ) بن حيّان الْعَبْديّ، أبو عبد الرحمن الطُّوسيّ، سكن نيسابور، ثقةٌ صاحب حديث، من صغار [10] مات سنة بضع و (250)(م) من أفراد المصنّف تقدم في "الإيمان" 3/ 112.
2 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدَّم قريبًا.
3 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدَّم أيضًا قريبًا.
و"ابن دينار" هو: عبد الله المذكور قبله، والإسناد رباعيّ أيضًا، وهو (222) من رباعيّات الكتاب.
[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ، عن عبد الله بن دينار ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" 4/ 61 فقال:
(3234)
- ثنا أبو محمد بن حيان، ثنا إسحاق بن أحمد، ثنا أحمد، ثنا أبو كريب، وهناد، قالا: ثنا وكيع، عن سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء، راكبًا، وماشيًا. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة عليّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة:
قد انتهيتُ من كتابة الجزء الرابع والعشرين من "شرح صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحرَ المحيطَ الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" وقت السحر من ليلة الخميس الرابع عشر من شهر رجب المبارك (14/ 7/ 1429 هـ) الموافق (17 يوليو 2008 م).
أسأل الله العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رءوف رحيم.
وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية [الأعراف: 43].
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 182].
"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".
"السلام على النبيّ ورحمة الله وبركاته".
ويليه - إن شاء الله تعالى - الجزء الخامس والعشرون مفتتحًا بـ 16 - (كتابُ النِّكاح)، (1) - (بَابُ التَّرْغِيبِ فِي النِّكَاحِ، وَالنَّهْيِ عَنِ التَّبَتُلِ) رقم الحديث [3399](1400).
"سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".