الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
ليلة الجمعة الخامس عشر من شهر رجب المبارك 15/ 7/ 1429 هـ أول الجزء الخامس والعشرين من شرح صحيح الإمام مسلم المسمّى "البحر المحيط الثجّاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" رحمه الله تعالى.
16 - (كِتَاب النِّكَاحِ)
أي: هذا كتاب في ذكر الأحاديث الدالّة على أحكام النكاح.
مسألتان تتعلّقان بهذه الترجمة:
(المسألة الأولى): في بيان معنى النكاح لغة وشرعًا:
قال الأزهريّ: أصل النكاح في كلام العرب الوطء، وقيل للتزوُّج: نكاح لأنه سبب للوطء المباح، وقال الزّجَاجيّ: هو في كلام العرب الوطء، والعقد جميعًا، وفي "المغرب": وقولهم: النِّكَاح الضمُّ مجاز، وفي "المغيث": النكاح التزويج.
وقال أبو عليّ الفارسيّ: فرّقت العرب بينهما فرقًا لطيفًا، فإذا قالوا: نَكَحَ فلانةَ، أو بنت فلان، أو أخته أرادوا عَقَدَ عليها، وإذا قالوا: نَكَحَ امرأته، أو زوجته لم يُريدوا إلا الوطء؛ لأن بذكر امرأته، أو زوجته يُستغنى عن ذكر العقد، وقال الفرّاء: العرب تقول: نُكْحُ المرأةِ - بضمّ النون -: بُضْعُها، وهي كناية عن الفرج، فإذا قالوا: نَكَحَها: أرادوا أصاب نُكْحها، وهو فرجها.
وفي "المحكم": النكاح: الْبُضْعُ، وذلك في نوع الإنسان خاصّة، واستعمله ثعلب في الذُّبَاب، نَكَحَها يَنكِحُها نَكْحًا - بالفتح -، ونِكاحًا - بالكسر -، وليس في الكلام فَعَلَ يَفْعِلُ
(1)
، مما لام الفعل منه حاء إلا يَنكِحُ،
(1)
قوله: "وليس في الكلام فَعَل يفعِل. . . إلخ" الحصر إضافيّ، وإلا فقد فاته يَنْتِحُ، ويَنْزِحُ، ويَصْمِحُ، ويَجْنِحُ، ويَأْمِحُ، ذكره في هامش "لسان العرب" 2/ 626.
ويَنْطِحُ، ويَمْنِحُ، ويَنْضِحُ، ويَنْبِحُ، ويَرْجِحُ، ويَأنِحُ، وَيأْزِحُ، ويَمْلِحُ القدر
(1)
، والاسم النُّكْح - بالضمّ -، والنِّكْحُ - بالكسر -، ونِكْحُها - بكسر، فسكون -: الذي يتزوّجها، وهي نِكْحَته، وامرأةٌ ناكحٌ بغير هاء: ذات زوج، قال الشاعر [من الطويل]:
أَحَاطَتْ بِخُطَّابِ الأَيَامَى وَطُلِّقَتْ
…
غَدَاةَ غَدٍ مِنْهُنَّ مَنْ كَانَ نَاكِحًا
[من المتقارب]:
وَمِثْلُكَ نَاحَتْ عَلَيْهِ النِّسَا
…
ءُ مِنْ بَيْنِ بِكْرٍ إِلَى نَاكِحِهْ
ويقوّيه قول الآخر [من الوافر]:
لَصَلْصَلَةُ اللِّجَامِ بِرَأْسِ طِرْفٍ
…
أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَنْكِحِنِي
قال ابن الأثير: ولا يقال: ناكح إلا إذا أرادوا بناء الاسم من الفعل، فيقال: نكحَتْ، فهي ناكحٌ، ومنه حديث سُبيعة:"ما أنت بناكح حتى تنقضي العدّة".
واستنكح في بني فلان: تزوّج فيهم، وحكى الفارسيّ: استنكحها، كنكحها؛ وأنشد [من الطويل]:
وَهُمْ قَتَلُوا الطَّائِيَّ بِالْحِجْرِ عَنْوَةً
…
أبَا جَابِرٍ وَاسْتَنْكَحُوا أُمَّ جَابِرِ
(2)
(1)
قال العلامة العينيّ رحمه الله: هذه الأفعال التي قالوا: إنها جاءت على يَفْعِل بكسر العين، يعني في المضارع، قد جاء منها بفتح العين أيضًا في المضارع، قال الجوهريّ: نَطَحَهُ الكبشُ يَنْطِحُهُ، ويَنْطَحُهُ، بكسر عين الفعل وفتحها، ومنحه يَمْنِحُهُ ويَمْنَحُهُ، من المنح، وهو العطاء، ويقال: نَضَحَتِ القربةُ تَنْضَحُ بالفتح، وتنْضِحُ بالكسر، قاله الجوهريّ ونبح الكلب يَنْبَحُ بالفتح، ويَنْبِح بالكسر نَبْحًا، ونَبِيحًا، ونُبَاحًا، ونِبَاحًا بالضم، والكسر، ورَجَحَ الميزان يَرْجَحُ بالكسر، والفتح، ويَرْجُحُ بالضم، ويقال: أَنَحَ الرجل يَأْنِحُ بالكسر أَنْحًا، وأَنِيحًا، وأُنُوحًا: إذا ضَجر من ثِقَل يجده من مرض، أو بُهْرٍ، كأنه يتنخنخ، ولا يبين، وأَزَحَ الرجلُ يَأْزِحُ أُزُوحًا بالزاي: إذا تَقَبَّض، ومَلَحْتُ القدرَ أمْلِحِهَا بالفتح والكسر، مَلْحًا بالفتح: إذا طرحت فيها من الملح بقَدَرٍ، وتقول: أملحت القدرَ إذا أكثرت فيها الملح حتى فسدت، وفي "التوضيح": وللنكاح عدة أسماء جمعها أبو القاسم اللغويّ، فبلغت ألف اسم وأربعين اسمًا. انتهى. "عمدة القاري" 20/ 64 بتصرّف.
(2)
راجع: "لسان العرب" في مادة: "نكح" و"عمدة القاري" 20/ 64.
قال النوويّ: وأما حقيقة النكاح عند الفقهاء ففيها ثلاثة أوجه لأصحابنا - يعني الشافعيّة - حكاها القاضي حسين من أصحابنا في "تعليقه":
[أصحّها]: أنه حقيقة في العقد مجاز في الوطء، وهذا هو الذي صححه أبو الطيّب، وأطنب في الاستدلال له، وبه قطع المتولّي وغيره، وبه جاء القرآن العزيز، والأحاديث.
[والثاني]: أنه حقيقة في الوطء، مجاز في العقد، وبه قال أبو حنيفة.
[والثالث]: أنه حقيقة فيهما بالاشتراك. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ: حقيقة النكاح: الوطء، وأصله الإيلاج، وهو الإدخال، وقد اشتهر إطلاقه على العقد، كما قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب: 49] أي: إذا عقدتم عليهنّ. وقد يُطلق النكاح، وُيراد به العقد والوطء، كما في قوله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} الآية [البقرة: 221]؛ أي: لا تعقدوا عليهنّ، ولا تطؤوهنّ. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": النكاح في اللغة الضمّ والتداخل، وتجوّز من قال: إنه الضمّ، وقال الفرّاء: النُّكْح بضمّ، ثم سكون: اسم الفرج، ويجوز كسر أوله، وكثُر استعماله في الوطء، وسُمّي به العقد لكونه سببه، قال أبو القاسم الزجّاجيّ: هو حقيقةٌ فيهما، وقال الفارسيّ: إذا قالوا: نكح فلانة، أو بنت فلان، فالمراد العقد، وإذا قالوا: نكح زوجته، فالمراد الوطء، وقال آخرون: أصله لزوم شيء لشيء، مستعليًا عليه، ويكون في المحسوسات، وفي المعاني، قالوا: نكح المطرُ الأرضَ، ونكح النعاسُ عينَهُ، ونَكَحْتُ القَمْحَ في الأرض: إذا حرثتها، وبذرته فيها، ونكحت الحصاةُ أخفاف الإبل.
وفي الشرع: حقيقةٌ في العقد، مجاز في الوطء على الصحيح، والحجّة في ذلك كثرةُ وروده في الكتاب والسنّة للعقد حتى قيل: إنه لم يَرِد في القرآن إلا للعقد، ولا يَرِدُ مثلُ قوله:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]؛ لأن شرط الوطء في التحليل إنما ثبت بالسنّة، وإلا فالعقد لا بدّ منه؛ لأن قوله: {حَتَّى
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 176.
(2)
"المفهم" 4/ 80.
تَنْكِحَ} معناه حتّى تتزوّج؛ أي: يعقد عليها، ومفهومه أن ذلك كافٍ بمجرّده، لكن بيّنت السنّة أن لا عبرة بمفهوم الغاية، بل لا بدّ بعد العقد من ذوق العُسَيلَة، كما أنه لا بُدّ بعد ذلك من التطليق، ثم العدّة.
نعم أفاد أبو الحسين بن فارس أن النكاح لم يَرِد في القرآن إلا للتزويج، إلا في قوله تعالى:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} الآية [النساء: 6]، فإن المراد به الْحُلُم، والله أعلم.
وفي وجه للشافعيّة؛ كقول الحنفيّة أنه حقيقة في الوطء، مجازٌ في العقد، وقيل: مقولٌ بالاشتراك على كلّ منهما، وبه جزم الزّجّاجيّ، قال الحافظ: وهذا الذي يترجّح في نظري، وإن كان أكثر ما يُستعمل في العقد، ورجّح بعضهم الأول بأن أسماء الجماع كلّها كنايات؛ لاستقباح ذكره، فيبعُدُ أن يستعير من لا يقصد فحشًا اسم ما يستفظعه لما لا يستفظعه، فدلّ على أنه في الأصل للعقد، وهذا يتوقّف على تسليم المدّعَى أنها كلّها كنايات، وقد جمع اسم النكاح ابن القطّان، فزادت على الألف. انتهى
(1)
.
وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله في "المغني": النكاح في الشرع: هو عقد التزويج، فعند إطلاق لفظه يَنصرف إليه، ما لم يَصرفه عنه دليلٌ، وقال القاضي: الأشبه بأصلنا أنه حقيقةٌ في العقد والوطء جميعًا؛ لقولنا بتحريم موطوءة الأب من غير تزويج؛ لدخوله في قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الآية [النساء: 22].
وقيل: بل هو حقيقة في الوطء، مجاز في العقد، تقول العرب: أَنكَحْنا الفَرَا، فسنَرَى؛ أي: أضربنا فحل حمر الوحش أمَّه، فسنرى ما يتولّد منهما، يُضرب مثلًا للأمرين يجتمعون عليه، ثم يتفرّقون عنه، وقال الشاعر [من الطويل]:
وَمِنْ أَيِّمٍ قَدْ أَنْكَحَتْنَا رِمَاحُنَا
…
وَأُخْرَى عَلَى خَالٍ وَعَمٍّ تَلَهَّفُ
والصحيح ما قلنا؛ لأن الأشهر استعمال لفظة النكاح بإزاء العقد في الكتاب، والسنّة، ولسان أهل العرف، وقد قيل: ليس في الكتاب لفظ نكاح بمعنى الوطء، إلا قوله تعالى:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]؛ ولأنه يصحّ
(1)
"الفتح" 11/ 313.
نفيه عن الوطء، فيقال: هذا سِفَاح، وليس بنكاح، ويُروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"وُلدتُ من نكاح، لا من سِفَاح"
(1)
، ويقال عن السُّرِّيّة: ليست بزوجة، ولا منكوحة، ولأن النكاح أحد اللفظين اللذين ينعقد بهما عقد النكاح، فكان حقيقة فيه؛ كاللفظ الآخر، وما ذكره القاضي يُفضي إلى كون اللفظ مشتركًا، وهو على خلاف الأصل، وما ذكره الآخرون يدلّ على الاستعمال في الجملة، والاستعمال فيما قلنا أكثر وأشهر، ثم لو قُدِّر كونه مجازًا في العقد لكان استمالًا عرفيًّا، يجب صرف اللفظ عند الإطلاق إليه؛ لشهرته، كسائر الأسماء العرفيّة. انتهى كلام ابن قدامة رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تلخّص مما سبق أن الأرجح قول من قال: إن النكاح حقيقة في العقد، مجاز في الوطء؛ لقوّة دليله كما بيّنها ابن قدامة آنفًا، والله تعالى أعلم بالصواب.
(المسألة الثانية): في بيان فوائد النكاح، وحكمة مشروعيّته:
(اعلم): أن للنكاح خمس فوائد: الولد، وكسر الشهوة، وتدبير المنزل، وكثرة العشيرة، ومجاهدة النفس بالقيام بهنّ:
(فأما الفائدة الأولى): فالولد، وهو الأصل، وله وُضِع النكاح، والمقصود إبقاء النسل، وأن لا يخلو العالم عن جنس الإنس، وإنما الشهوة خلقت باعثة مستحثة كالموكل بالفحل في إخراج البذر وبالأنثى في التمكين من الحرث تلطفًا بهما في السياقة إلى اقتناص الولد بسبب الوقاع؛ كالتلطف بالطير في بث الحب الذي يشتهيه ليساق إلى الشبكة. وكانت القدرة الأزلية غير
(1)
أورده الهيثميّ رحمه الله في "مجمع الزوائد" 8/ 214 وقال: رواه الطبرانيّ عن المدينيّ، عن أبي الحويرث، ولم أعرف المدينيّ، ولا شيخه، وبقيّة رجاله وُثِّقوا. انتهى، وبإسناد الطبرانيّ المذكور أخرجه البيهقيّ في "الكبرى"(7/ 190) فتبيّن بهذا أن الحديث لا يصحّ بهذا الإسناد؛ للجهالة المذكورة.
ثم رأيت الشيخ الألبانيّ رحمه الله حسّنه في "إرواء الغليل"(6/ 329 - 334)، وقال بعد أن أجرى الدراسة في طرقه: وخلاصته أن الحديث من قسم الحسن عندي؛ لأنه صحيح الإسناد عن أبي جعفر مرسلًا. ثم ذكر له شاهدين، والله تعالى أعلم.
(2)
"المغني" 9/ 339 - 340.
قاصرة عن اختراع الأشخاص ابتداء من غير حراثة وازدواج، ولكن الحكمة اقتضت ترتيب المسببات على الأسباب مع الاستغناء عنها؛ إظهارًا للقدرة وإتمامًا لعجائب الصنعة، وتحقيقًا لما سبقت به المشيئة وحقّت به الكلمة وجرى به القلم.
وفي التوصل إلى الولد قربة من أربعة أوجه، هي الأصل في الترغيب فيه عند الأمن من غوائل الشهوة، حتى لم يحب أحدهم أن يلقى الله عزبًا.
الأول: موافقة محبة الله بالسعي في تحصيل الولد لإبقاء جنس الإنسان.
والثاني: طلب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تكثير من به مباهاته.
والثالث: طلب التبرك بدعاء الولد الصالح بعده.
والرابع: طلب الشفاعة بموت الولد الصغير إذا مات قبله.
(الفائدة الثانية): التحصن من الشيطان، وكسر التَّوَقان، ودفع غوائل الشهوة، وغض البصر، وحفظ الفرج، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم:"من استطاع منكم الباءة، فليتزوج، فإنه أغضّ للبصر، وأحصن للفرج، فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء".
(الفائدة الثالثة): ترويح النفس، وإيناسها بالمجالسة، والنظر، والملاعبة، وفي ذلك إراحة للقلب، وتقوية له على العبادة، فإن النفس ملولٌ، وهي عن الحق نَفُورٌ؛ لأنه على خلاف طبعها، فلو كُلِّفت المداومة بالإكراه على ما يخالفها جَمَحَتْ وثابت، وإذا رُوِّحت باللذات في بعض الأوقات قَوِيت، ونَشِطت، وفي الاستئناس بالنساء من الاستراحة ما يزيل الكرب، ويروح القلب، وينبغي أن يكون لنفولس المتقين استراحات بالمباحات، ولذلك قال الله تعالى:{لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189].
(الفائدة الرابعة): تفريغ القلب عن تدبير المنزل، والتكفل بشغل الطبخ، والكنس، والفرش، وتنظيف الأواني، وتهيئة أسباب المعيشة، فإن الإنسان لو لم يكن له شهوة الوقاع لتعذر عليه العيش في منزله وحده؛ إذ لو تكفل بجميع أشغال المنزل لضاع أكثر أوقاته، ولم يتفرغ للعلم والعمل، فالمرأة الصالحة للمنزل عون على الدين بهذه الطريق، واختلال هذه الأسباب شواغل، ومشوشات للقلب، ومنغصات للعيش.
ولذلك قال أبو سليمان الدارانيّ رحمه الله: الزوجة الصالحة ليست من الدنيا، فإنها تفرغك للآخرة، وإنما تفريغها بتدبير المنزل، وبقضاء الشهوة جميعًا.
(الفائدة الخامسة): مجاهدة النفس، ورياضتها بالرعاية، والولاية، والقيام بحقوق الأهل، والصبر على أخلاقهن، واحتمال الأذى منهنّ، والسعي في إصلاحهن، وإرشادهنّ إلى طريق الدين، والاجتهاد في كسب الحلال لأجلهنّ، والقيام بتربيته لأولاده، فكل هذه أعمال عظيمة الفضل، فإنها رعاية، وولاية، والأهل والولد رعية، وفضل الرعاية عظيم إنما يحترز منها من يحترز خِيفة من القصور عن القيام بحقها. ذكر هذه الفوائد الغزاليّ رحمه الله في "إحيائه"
(1)
، وهي فوائد مهمّة، وعوائد جسيمة.
وقال الشيخ وليّ الله الدهلويّ رحمه الله في كتابه "حجة الله البالغة": الأصل في ذلك أن حاجة الجماع أوجبت ارتباطًا، واصطحابًا بين الرجل والمرأة، ثم الشفقة على المولود، أوجبت تعاونًا منهما في حضانته، وكانت المرأة أهدأهما للحضانة بالطبع، وأخفهما عقلًا، وأكثرهما انحجامًا من المشاقّ، وأتمهما حياءً، ولزومًا للبيت، وأحذقهما سعيًا في محقرات الأمور، وأوفرهما انقيادًا، وكان الرجل أسدّهما عقلًا، وأشدهما ذبًّا عن الذِّمَارِ، وأجرأهما على الاقتحام في المشاقّ، وأتمهما تِيهًا، وتسلطًا، ومناقشةً، وغَيْرَةً، فكان معاش هذه لا تتم إلا بذاك، وذاك يحتاج إلى هذه، وأوجبت مزاحمات الرجال على النساء، وغيرتهم عليهنّ ألا يصلح أمرهم إلا بتصحيح اختصاص الرجل بزوجته على رؤوس الأشهاد، وأوجبت رغبة الرجل في المرأة، وكرامتها على وليها، وذبّه عنها أن يكون مهرٌ، وخِطْبةٌ، وتَصَدٍّ من الوليّ، وكان لو فُتح رغبة الأولياء في المحارم أفضى ذلك إلى ضرر عظيم عليها، من عَضْلها عمن ترغب فيه، وألا يكون لها من يطالب عنها بحقوق الزوجية، مع شدّة احتياجها إلى ذلك، وتكدير الرحم بمنازعات الضَّرّات، ونحوها، مع ما تقتضيه سلامة المزاج من قلة الرغبة في التي نشأ منها، أو نشأت منه، أو كان كعصى دوحة، وأوجب الحياء عن ذكر الحاجة إلى الجماع، أن تجعل مدسوسة في ضمن عروج يتوقع
(1)
"إحياء علوم الدين" 2/ 25.
لهما، كأنه الغاية التي وجدا لها، وأوجب التلطف في التشهير، وجعل الملاك المنزليّ عروجًا أن تجعل وليمة يدعى الناس إليها، ودُفٌّ وطَرَبٌ.
وبالجملة فلوجوه جمة مما ذكرنا، ومما حذفنا - اعتمادًا على ذهن الأذكياء - كان النكاح بالهيئة المعتادة، أعني نكاح غير المحارم، بمحضر من الناس، مع تقديم مهر، وخِطبة، وملاحظة كفاءة، وتَصَدٍّ من الأولياء، ووليمةٍ، وكون الرجال قوامين على النساء، متكفلين معاشهنّ، وكونهن خادماتٍ، حاضناتٍ مطيعاتٍ سنةً لازمةً، وأمرًا مسلَّمًا عند الكافة، وفطرة فطر الله الناس عليها، لا يختلف في ذلك عربهم، ولا عجمهم، ولمّا لم يكن بذل الجهد منهما في التعاون، بحيث يجعل كلُّ واحد ضررَ الآخر ونفعه كالراجع إلى نفسه، إلا بأن يوطّنا أنفسهما على إدامة النكاح، ولا بدّ من إبقاء طريق للخلاص إذا لم يطاوعا، ولم يتراضيا، وإن كان من أبغض المباحات وجب في الطلاق ملاحظة قيود، وعدّة، وكذا في وفاته عنها تعظيمًا لأمر النكاح في النفوس، وأداءً لبعض حق الإدامة، ووفاء لعهد الصحبة، ولئلا تشتبه الأنساب. انتهى المقصود من كلام وليّ الله الدهلويّ رحمه الله
(1)
، وهو كلام حسنٌ، والله تعالى أعلم بالصواب.
(1) - (بَابُ التَّرْغِيبِ فِي النِّكَاحِ، وَالنَّهْيِ عَنِ التَبَتُّلِ)
(2)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3399]
(1400) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَن الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ
(1)
"حجة الله البالغة" 1/ 87 - 89.
(2)
ترجم القرطبيّ رحمه الله بنحو هذه الترجمة، وهي أخصر من ترجمة النوويّ رحمه الله ومن تبعه، فلذا اخترتها.
عَبْدِ اللهِ بِمِنًى، فَلَقِيَهُ عُثْمَانُ، فَقَامَ مَعَهُ يُحَدِّثُهُ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ألَا نُزَوِّجُكَ جَارِيَةً شَابَّةً، لَعَلَّهَا تُذَكِّرُكَ بَعْضَ مَا مَضَى مِنْ زَمَانِكَ؟ قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: لَئِنْ قُلْتَ ذَاكَ، لَقَدْ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَن اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) أبو زكرياء النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226) على الصحيح (خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظٌ صاحب تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ) أبو كريب الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247) وله (87) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
4 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِم في حديث غيره، ورُمي بالإرجاء، من كبار [9](ت 195) وله (82) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
5 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الأسديّ الكاهليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ عارف بالقراءة، ورعٌ، لكنه يدلّس [5](ت 7 أو 148)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.
6 -
(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ، ثقةٌ فقيه، يرسل كثيرًا [5](ت 96)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.
7 -
(عَلْقَمَةُ) بن قيس بن عبد الله النخعيّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عابدٌ [2] مات بعد (60) وقيل: بعد (70)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.
8 -
(عَبْدُ اللهِ) بن مسعود بن غافل بن حبيب الْهُذليّ، أبو عبد الرحمن الصحابيّ الشهير، مات سنة (32) أو التي بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتحاد كيفيّة أخذه عنهم، ثم فصّل؛ لاختلافهم فيها.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه: يحيى، وأبي بكر، فالأول ما أخرج له أبو داود، وابن ماجه، والثاني ما أخرج له الترمذيّ، وأما شيخه محمد بن العلاء فقد اتّفق الجماعة بالرواية عنه بلا واسطة، كما مرّ غير مرّة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين من أوله إلى آخره، سوى شيخه يحيى، فنيسابوريّ، والظاهر أنه دخل الكوفة.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين الكوفيين روى بعضهم عن بعض، ورواية الأولين من رواية الأقران.
5 -
(ومنها): أن هذا الإسناد أصحّ الأسانيد، وهي ترجمة الأعمش، عن إبراهيم النخعيّ، عن علقمة، عن ابن مسعود رضي الله عنه، قاله في "الفتح"
(1)
.
6 -
(ومنها): أن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، فهو أحد السابقين الأولين إلى الإسلام، ومن كبار علماء الصحابة، ذو مناقب جمّة، وأمّره عمر رضي الله عنه على الكوفة.
شرح الحديث:
(عَنْ إِبْرَاهِيمَ) النخعيّ، وفي رواية للبخاريّ تصريح كلّ من الأعمش، وإبراهيم بالتحديث، ولفظه:"حدّثنا عمر بن حفص، حدّثنا أبي، حدّثنا الأعمش، قال: حدّثني إبراهيم، عن علقمة. . ."(عَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ عَبْدِ الله) أي: ابن مسعود رضي الله عنه (بِمِنًى، فَلَقِيَهُ عُثْمَانُ) وفي رواية البخاريّ: "فلقيه عثمان بمنى"، قال في "الفتح": كذا وقع في أكثر الروايات، وفي رواية زيد بن أبي أنيسة، عن الأعمش عند ابن حبان:"بالمدينة"، وهي شاذّةٌ. انتهى. (فَقَامَ مَعَهُ) أي: قام عثمان مع عبد الله، ويَحْتَمِل العكس (يُحَدِّثُهُ) جملة
(1)
"الفتح" 11/ 319.
حاليّة (فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ) رضي الله عنه (يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هذه كنية ابن مسعود رضي الله عنه، قال في "الفتح": وظن ابن الْمُنَيِّر أن المخاطب بذلك ابن عمر؛ لأنها كنيته المشهورة، وأكَّد ذلك عنده أنه وقع في نسخته من "شرح ابن بطال" عقب الترجمة:"فيه ابنُ عمر لقيه عثمان بمنى"، وقصّ الحديث، فكتب ابن الْمُنَيِّر في "حاشيته": هذا يدل على أن ابن عمر شدَّد على نفسه في زمن الشباب؛ لأنه كان في زمن عثمان شابًّا، كذا قال، ولا مدخل لابن عمر في هذه القصة أصلًا، بل القصة والحديث لابن مسعود، مع أن دعوى أن ابن عمر كان شابًّا إذ ذاك فيه نظر؛ فإنه كان إذ ذاك جاوز الثلاثين. انتهى
(1)
.
(أَلَا) أداة عرض وتحضيض (نُزَوِّجُكَ جَارِيَةً) قال القرطبيّ: الجارية هنا الْمُعْصِرُ، وما قارب ذلك. انتهى، قال الفيّوميّ رحمه الله: أعصرت الجارية: إذا حاضت، فهي مُعْصِرٌ بغير هاء، فإذا حاضت فقد بلغت، وكأنها إذا حاضت دخلت في عصر شبابها. انتهى
(2)
. (شَابَّةً، لَعَلَّهَا تُذَكِّرُكَ بَعْضَ مَا مَضَى مِنْ زَمَانِكَ) أي: زمان نشاطك، وفي الرواية التالية:"فقال له عثمان: ألا نزوّجك يا أبا عبد الرحمن جاريةً بكرًا، لعله يرجع إليك من نفسك ما كنت تَعْهَدُ"، قال في "الفتح": لعل عثمان رضي الله عنه رأى به قَشَفًا
(3)
ورَثَاثة هيئة، فحَمَلَ ذلك على فقده الزوجة التي تُرَفِّهُهُ، قال: ويؤخذ منه أن معاشرة الزوجة الشابّة تزيد في القوّة والنشاط، بخلاف عكسها فبالعكس. انتهى.
وقال القرطبيّ: وكان عبد الله قد قَلَّت رغبته في النساء، إما للاشتغال بالعبادة، وإما للسنّ، وإما لمجموعهما، فحرّكه عثمان بذلك. انتهى
(4)
.
(قَالَ) علقمة (فَقَالَ عَبْدُ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه (لَئِنْ قُلْتَ ذَاكَ) أي: ما ذكرته من تزويجك لي شابّةً تذكّرني بعض ما مضى من زماني (لَقَدْ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية زيد: "لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم شبابًا، فقال لنا"،
(1)
"الفتح" 11/ 319.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 413.
(3)
القَشَفُ محرّكةً: قَذَرُ الجلد، ورَثَاثة الهيئة، وسوء الحال، وضِيق العيش، قاله في "القاموس" 3/ 185.
(4)
"المفهم" 4/ 81.
وفي رواية عبد الرحمن بن يزيد الآتية في الباب: "دخلت أنا وعمي علقمة، والأسود، على عبد الله بن مسعود، قال: وأنا شابّ، فذكر حديثًا"، وفي رواية البخاريّ:"فقال عبد الله: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم شبابًا، لا نجد شيئًا، فقال لنا: يا معشر الشباب"، وفي رواية جرير، عن الأعمش عند مسلم:"قال عبد الرحمن: وأنا يومئذ شابّ، فحدَّث بحديث رأيت أنه حَدَّث به من أجلي"، وفي رواية وكيع، عن الأعمش:"وأنا أحدَث القوم"("يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ) المعشر: جماعة يشملهم وصفٌ مّا، والشباب: جمع شابّ، ويجمع أيضًا على شَبَبَة، وشُبَّان، بضم أوّله، والتثقيل، وذكر الأزهريّ أنه لم يجمع فاعِلٌ على فُعّال غيره، وأصله الحركة والنشاط، وهو اسم لمن بلغ إلى أن يُكْمِل ثلاثين، هكذا أَطلق الشافعية، وقال القرطبيّ في "المفهم": يقال له: حَدَثٌ إلى ستة عشر سنةً، ثم شابّ إلى اثنتين وثلاثين، ثم كَهْلٌ، وكذا ذكر الزمخشريّ في الشباب أنه من لدن البلوغ إلى اثنتين وثلاثين، وقال ابن شاس المالكيّ في "الجواهر": إلى أربعين، وقال النوويّ: الأصح المختار أن الشاب من بلغ، ولم يجاوز الثلاثين، ثم هو كهل إلى أن يجاوز الأربعين، ثم هو شيخ، وقال الروياني وطائفة: من جاوز الثلاثين سُمِّي شيخًا، زاد ابن قتيبة إلى أن يبلغ الخمسين، وقال أبو إسحاق الإسفرايينيّ عن الأصحاب: المرجع في ذلك إلى اللغة، وأما بياض الشعر، فيختلف باختلاف الأمزجة. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قد نظمت أسماء المولود في أطواره المختلفة، فقلت:
اعْلَمْ هَدَاكَ اللهُ أَنَّ الْوَلَدَا
…
دَعَوْهُ بِالْجَنِينِ حَتَّى يُولَدَا
ثُمَّ صَبِيًّا لِلْفِطَامِ يُدْعَى
…
ثُمَّ إِلَى سَبْعٍ غُلَامًا يُرْعَى
وَيَافِعٌ لِعَشْرَةٍ حَزَوَّرُ
…
لِخَمْسِ عَشْرَةَ أَتَاكَ الْخَبَرُ
وَقُمُدًا لِلْخَمْسِ وَالْعِشْرِين
…
عَنَطْنَطًا إِلَى ثَلَاثِينِ دُعِي
ثُمَّ لأَرْبَعِينَ قُلْ مُمِلُّ
…
ثُمَّ إِلَى خَمْسِينَ قَالُوا كَهْلُ
إِلَى ثَمَانِينَ بِشَيْخٍ يُعْلَى
…
ثُمَّ إِذَا زَادَ بِهَمٍّ يُجْلَى
أَوْرَدَه الْحَافِظُ فِي "الْفَتْحِ" كَذَا
…
فَاحْفَظْ وَقَاكَ اللهُ مِنْ كُلِّ أَذَى
(مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ) خَصَّ الشباب بالخطاب؛ لأن الغالب وجود قوّة
الداعي فيهم إلى النكاح، بخلاف الشيوخ، وإن كان المعنى معتبرًا إذا وُجد السبب في الكهول والشيوخ أيضًا (الْبَاءَةَ) بالهمز، وتاء تأنيث ممدود، وفيها لغة أخرى بغير همز، ولا مدّ، وقد يهمز ويمدّ بلا هاء، ويقال لها أيضًا: الباهة، كالأول، لكن بهاء بدل الهمزة، وقيل: بالمد القدرة على مؤن النكاح، وبالقصر الوطء، قال الخطابيّ: المراد بالباءة النكاح، وأصله الموضع الذي يتبوؤه، ويأوي إليه، وقال المازريّ: اشتُقَّ العقد على المرأة من أصل الباءة؛ لأن من شأن من يتزوج المرأة أن يبوِّءها منزلًا.
وقال النوويّ: اختَلَف العلماء في المراد بالباءة هنا على قولين، يرجعان إلى معنى واحد: أصحهما: أن المراد معناها اللغويّ، وهو الجماع، فتقديره: من استطاع منكم الجماع؛ لقدرته على مُؤَنه، وهي مُؤَن النكاح، فليتزوج، ومن لم يستطع الجماع؛ لعجزه عن مؤنه فعليه بالصوم؛ ليدفع شهوته، ويقطع شَرَّ مَنِيِّهِ، كما يقطعه الوِجَاء، وعلى هذا القول وقع الخطاب مع الشباب الذين هم مَظِنّة شهوة النساء، ولا ينفكّون عنها غالبًا.
والقول الثاني: أن المراد هنا بالباءة مُؤَن النكاح، سُمِّيت باسم ما يلازمها، وتقديره: من استطاع منكم مُؤَن النكاح فليتزوج، ومن لم يستطع فليصم؛ لدفع شهوته، والذي حمل القائلين بهذا على ما قالوه قوله:"ومن لم يستطع فعليه بالصوم"، قالوا: والعاجز عن الجماع لا يحتاج إلى الصوم؛ لدفع الشهوة، فوجب تأويل الباءة على المؤن، وانفصل القائلون بالأول عن ذلك بالتقدير المذكور. انتهى.
قال في "الفتح": والتعليل المذكور للمازريّ، وأجاب عنه القاضي عياض بأنه لا يبعد أن تختلف الاستطاعتان، فيكون المراد بقوله:"من استطاع الباءة" أي: بلغ الجماع، وقدر عليه فليتزوج، ويكون قوله:"ومن لم يستطع" أي من لم يقدر على التزويج.
قال الحافظ: وتهيأ له هذا لحذف المفعول في المنفيّ، فيَحْتَمِل أن يكون المراد: ومن لم يستطع الباءة، أو من لم يستطع التزويج، وقد وقع كل منهما صريحًا، فعند الترمذيّ في رواية عبد الرحمن بن يزيد، من طريق الثوريّ، عن الأعمش:"ومن لم يستطع منكم الباءة"، وعند الإسماعيليّ من هذا الوجه، من
طريق أبي عوانة، عن الأعمش:"من استطاع منكم أن يتزوج فليتزوج"، ويؤيده ما وقع في رواية للنسائيّ من طريق أبي معشر، عن إبراهيم النخعيّ:"من كان ذا طَوْل فلينكح"، ومثله لابن ماجه، من حديث عائشة رضي الله عنها، وللبزار من حديث أنس رضي الله عنه، وأما تعليل المازريّ، فيَعْكُرُ عليه قوله في الرواية الأخرى عند البخاريّ بلفظ:"كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم شبابًا، لا نجد شيئًا"، فإنه يدلّ على أن المراد بالباءة الجماع، ولا مانع من الحمل على المعنى الأعمّ، بأن يراد بالباءة القدرة على الوطء، ومُؤَنِ التزويج، والجواب عما استشكله المازريّ أنه يجوز أن يُرْشَد من لا يستطيع الجماع من الشباب لفرط حياء، أو عدم شهوة، أو عُنَّةٍ مثلًا إلى ما يُهَيِّء له استمرار تلك الحالة؛ لأن الشباب مظنة ثوران الشهوة الداعية إلى الجماع، فلا يلزم من كسرها في حالة أن يستمر كسرها، فلهذا أرشد إلى ما يستمر به الكسر المذكور، فيكون قسم الشباب إلى قسمين: قسم يَتُوُقون إليه، ولهم اقتدار عليه، فندبهم إلى التزويج؛ دفعًا للمحذور، بخلاف الآخرين، فندبهم إلى أمر تستمرّ به حالتهم؛ لأن ذلك أرفق بهم؛ للعلة التي ذُكِرت في رواية عبد الرحمن بن يزيد، وهي أنهم كانوا لا يجدون شيئًا، ويستفاد منه أن الذي لا يجد أهبة النكاح، وهو تائق إليه يندب له التزويج دفعًا للمحذور. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم.
(فَلْيَتَزَوَّجْ) أمرٌ بالتزوّج، وظاهره الوجوب، وبه قال بعض أهل العلم، وحمله الجمهور على الندب، والأول هو الحقّ على تفصيل سيأتي تحقيقه، إن شاء الله تعالى قريبًا.
(فَإِنَّهُ أَغَضُّ) الفاء للتعليل؛ أي: لأنه أشدّ غضًّا (لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ) أي: أشدّ إحصانًا له، ومنعًا من الوقوع في الفاحشة.
قال الحافظ رحمه الله: وما ألطف ما وقع لمسلم حيث ذكر عقب حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا بيسير حديث جابر رضي الله عنه رفعه: "إذا أحدكم أعجبته المرأة، فوقعت في قلبه، فليعمد إلى امرأته فليواقعها، فإن ذلك يردّ ما في نفسه"، فإن فيه إشارةً إلى المراد من حديث الباب.
(1)
"الفتح" 11/ 321 - 322.
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: يَحْتَمِل أن تكون أفعل على بابها، فإن التقوى سبب لغضّ البصر، وتحصين الفرج، وفي معارضتها الشهوية الداعية، وبعد حصول التزويج يضعف هذا العارض، فيكون أغضّ وأحصن مما لم يكن؛ لأن وقوع الفعل مع ضعف الداعي أندر من وقوعه مع وجود الداعي.
ويَحْتَمِل أن يكون أفعل فيه لغير المبالغة، بل إخبار عن الواقع فقط. انتهى.
(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) أي: الباءةَ (فَعَلَيْهِ) في رواية مغيرة، عن إبراهيم، عند الطبرانيّ:"ومن لم يَقْدِر على ذلك، فعليه بالصوم".
قال المازريّ: فيه إغراء بالغائب، ومن أصول النحويين أن لا يُغْرَى بالغائب، وقد جاء شاذًا قول بعضهم: عليه رجلًا ليسني، على جهة الإغراء.
وتعقبه عياض بأن هذا الكلام موجود لابن قتيبة، والزجاجيّ، ولكن فيه غلط من أوجه:
أما أوَّلًا: فمن التعبير بقوله: فيه إغراء بالغائب، والصواب فيه إغراء الغائب، فأما الإغراء بالغائب فجائزٌ، ونَصَّ سيبويه أنه لا يجوز دونه زيدًا، ولا يجوز عليه زيدًا عند إرادة غير المخاطب، وإنما جاز للحاضر؛ لما فيه من دلالة الحال، بخلاف الغائب، فلا يجوز؛ لعدم حضوره، ومعرفته بالحالة الدالة على المراد.
وأما ثانيًا: فإن المثال ما فيه حقيقة الإغراء، وإن كانت صورته، فلم يُرِد القائل تبليغ الغائب، وإنما أراد الإخبار عن نفسه، بأنه قليل المبالاة بالغائب، ومثله قولهم: إليك عني؛ أي: اجعل شغلك بنفسك، ولم يُرِد أن يُغْرِيه به، وإنما مراده: دَعْنِي، وكُنْ كمن شُغِل عني.
وأما ثالثًا: فليس في الحديث إغراء الغائب، بل الخطاب للحاضرين الذين خاطبهم أوّلًا بقوله:"من استطاع منكم"، فالهاء في قوله:"فعليه" ليست لغائب، وإنما هي للحاضر المبهم؛ إذ لا يصح خطابه بالكاف، ونظير هذا قوله:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} إلى أن قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178]، ومثله لو قلت لاثنين: من قام منكما فله درهم، فالهاء للمبهم من المخاطبين، لا للغائب. انتهى مُلَخّصًا.
وقد استحسنه القرطبيّ، قال الحافظ: وهو حسنٌ بالغٌ، وقد تفطن له الطيبيّ، فقال: قال أبو عبيد: قوله: "فعليه بالصوم" إغراء غائب، ولا تكاد العرب تُغْرِي إلا الشاهد، تقول: عليك زيدًا، ولا تقول: عليه زيدًا، إلا في هذا الحديث، قال: وجوابه أنه لما كان الضمير الغائب راجعًا إلى لفظة "مَنْ"، وهي عبارة عن المخاطبين في قوله:"يا معشر الشباب"، وبيان لقوله:"منكم" جاز قوله: "عليه"؛ لأنه بمنزلة الخطاب.
وقد أجاب بعضهم بان إيراد هذا اللفظ في مثال إغراء الغائب هو باعتبار اللفظ، وجواب عياض باعتبار المعنى، وأكثر كلام العرب اعتبار اللفظ، كذا قال، والحقّ مع عياض، فإن الألفاظ توابعُ للمعاني، ولا معنى لاعتبار اللفظ مجردًا هنا. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ حسنٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(بِالصَّوْمِ) أي: لتنكسر شهوته، فلا يقعَ في الحرام، قال في "الفتح": عَدَلَ عن قوله: فعليه بالجوع، وقلّة ما يُثير الشهوة، ويستدعي طغيان الماء، من الطعام والشراب، إلى ذكر الصوم؛ إذ ما جاء لتحصيل عبادة هي برأسها مطلوبة، وفيه إشارة إلى أن المطلوب من الصوم في الأصل كسر الشهوة. انتهى.
(فَإِنَّهُ) أي: الصومَ (لَهُ وِجَاءٌ") - بكسر الواو، والمدّ - أصله الْغَمْزُ، ومنه وجأه في عنقه: إذا غمزه دافعًا له، ووجأه بالسيف: إذا طعنه به، ووجأ أُنثييه: غمزهما حتى رضّهما، ووقع في رواية ابن حبّان المذكورة:"فإنه له وجاء، وهو الإخصاء"، وهي زيادة مدرجة في الخبر، لم تقع إلا في طريق زيد بن أبي أُنيسة هذه، وتفسير الوجاء بالإخصاء فيه نظر، فإن الوجاء رضّ الأنثيين، والإخصاء استئصالهما، وإطلاق الوجاء على الصيام من مجاز المشابهة، وقال أبو عبيدة: قال بعضهم: وجا بفتح الواو، مقصورًا، والأول أكثر، وقال أبو زيد: لا يقال: وِجاءٌ إلا فيما لم يبرأ، وكان قريب العهد بذلك، قاله في "الفتح"
(2)
.
(1)
"الفتح" 11/ 323 - 324.
(2)
"الفتح" 11/ 324.
وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: وقال بعضهم: الوجأ: أن توجأ العروق، والخصيتان باقيتان بحالهما، والخصاء شقّ الخصيتين، واستئصالهما، والْجَبّ أن تُحمَى الشّفرة، ثم يستأصل بها الخصيتان، وقد قاله بعضهم:"وَجَا" - بفتح الواو والقصر، قال: وليس بشيء؛ لأن ذلك هو الْحَفَاء في ذوات الخفّ. انتهى.
وقال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: ليس المراد هنا حقيقة الوِجَاء، بل سُمِّي الصوم وِجَاءً لأنه يفعل فعله، ويقوم مقامه، فالمراد أنه يقطع الشهوة، ويدفع شرّ الجماع، كما يفعله الوِجاء، فهو من مجاز المشابهة المعنويّة. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 3399 و 3400 و 3401 و 3402 و 3403](1400)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1905) و"النكاح"(5065 و 5066)، و (أبو داود) في "النكاح"(2046)، و (الترمذيّ) في "النكاح"(1081)، و (النسائيّ) في "الصيام"(2239 و 2240 و 2241 و 2242 و 2243) و"النكاح"(3208 و 3209 و 3210 و 3211 و 3212) و"الكبرى"(2547 و 2548 و 2549 و 2550 و 2551)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1845)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(6/ 169 و 7/ 417)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 126) و"مسنده"(1/ 156)، و (الحميديّ) في "مسنده"(115)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 378 و 447)، و (الدارميّ) في "سننه"(2165 و 2166)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 6 - 7)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 63 - 64)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4026)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 36)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(672)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 38) و"الكبير"(10/ 122)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 122)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 296) و (7/ 77) و"الصغرى"(6/ 76)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2236)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): الحثّ على النكاح، ففيه الأمر بالنكاح لمن استطاعه، وتاقت إليه نفسه.
2 -
(ومنها): استحباب عرض الصاحب على صاحبه الذي ليست له زوجة بهذه الصفة، وهو صالِحٌ للتزويج أن يتزوّج.
3 -
(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من مواساة بعضهم لبعض، وتفقدهم أحوالهم.
4 -
(ومنها): استحباب نكاح الشابّة؛ لأنها المحصّلة لمقاصد النكاح؛ فإنها ألذّ استمتاعًا، وأطيب نكهةً، وأرغب في الاستمتاع الذي هو مقصود النكاح، وأحسن عشرةً، وأفكه محادثةً، وأجمل منظرًا، وألين مَلْمَسًا، وأقرب إلى أن يُعَوِّدَها زوجها الأخلاق التي يرتضيها.
5 -
(ومنها): استحباب نكاح البكر، وتفضيلها على الثيّب.
6 -
(ومنها): أن فيه إرشاد التائق إلى النكاح العاجز عن مُؤَنه إلى الصوم، وذلك لما فيه من كسرة الشهوة، فإن شهوة النكاح تابعة لشهوة الأكل، تَقوَى بقوّتها، وتضعف بضعفها.
7 -
(ومنها): أن من لم يستطع الجماع فالمطلوب منه ترك التزويج؛ لأنه أرشده إلى ما ينافيه، ويضعف دواعيه، وأطلق بعضهم أنه يُكره في حقّه، قاله في "الفتح"
(1)
.
8 -
(ومنها): أن فيه الحثّ على غضّ البصر، وتحصين الفرج بكلّ ممكن، وعدم التكليف بغير المستطاع.
9 -
(ومنها): أنه يؤخذ منه أن حظوظ النفس والشهوات لا تتقدّم على أحكام الشرع، بل هي دائرة معها.
10 -
(ومنها): أن الخطّابيّ استدلّ به على جواز المعالجة لقطع شهوة النكاح بالأدوية، وحكاه البغويّ في "شرح السنّة"، وينبغي أن يُحمل على دواء يسكّن الشهوة، دون ما يقطعها أصالةً؛ لأنه قد يقدر بعدُ، فيندم لفوات ذلك في
(1)
"الفتح" 11/ 324.
حقّه، وقد صرّح الشافعيّة بأنه لا يُكسرها بالكافور ونحوه، والحجّة فيه أنهم اتفقوا على منع الجبّ والخصاء، فيُلحق بذلك ما في معناه من التداوي بالقطع أصلًا.
11 -
(ومنها): أن الخطّابيّ استدلّ به أيضًا على أن المقصود من النكاح الوطء، ولهذا شُرع الخيار في الْعُنَّة.
12 -
(ومنها): أن القرافيّ استنبط من قوله: "فإنه له وجاء" أن التشريك في العبادة لا يَقدَح فيها بخلاف الرياء؛ لأنه أُمِر بالصوم الذي هو قربة، وهو بهذا القصد صحيح، مثاب عليه، ومع ذلك فأرشد إليه؛ لتحصيل غضّ البصر، وكفّ الفرج عن الوقوع في المحرّم. انتهى.
قال الحافظ: فإن أراد تشريك عبادة بعبادة أخرى، فهو كذلك، وليس محلّ النزاع، وإن أراد تشريك العبادة بأمر مباح، فليس في الحديث ما يُساعده. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ردّده الحافظ رحمه الله عندي غير واضح، بل الواضح من الحديث هو ما استنبطه القرافيّ رحمه الله، فتأمله، والله تعالى أعلم.
13 -
(ومنها): أن بعض المالكيّة استدلّ به على تحريم الاستمناء؛ لأنه أرشد عند العجز عن التزويج إلى الصوم الذي يقطع الشهوة، فلو كان الاستمناء مباحًا لكان الإرشاد إليه أسهل.
وتُعُقّب دعوى كونه أسهل؛ لأن الترك أسهل من الفعل، وقد أباح الاستمناء طائفة من العلماء، وهو عند الحنابلة، وبعض الحنفيّة لأجل تسكين الشهوة، قاله في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم النكاح:
(اعلم): أنه ذهب الجمهور إلى استحباب النكاح لمن تاقت إليه نفسه، واستطاعه بقدرته على مُؤَنه، دون الإيجاب عليه، فلا يلزمه عندهم التزوّج، ولا
(1)
"الفتح" 11/ 327.
التسرّي، سواء خاف العَنَتَ، أم لا، كذا حكاه النوويّ عن العلماء كافّة، ثم قال: ولا نعلم أحدًا أوجبه إلا داود، ومن وافقه من أهل الظاهر، ورواية عن أحمد، فإنهم قالوا: يلزمه إذا خاف الْعَنَت أن يتزوّج، أو يتسرّى، قالوا: وإنما يلزمه في العمر مرّةً واحدة، ولم يشترط بعضهم خوف العنت، قال أهل الظاهر: إنما يلزمه التزوج فقط، ولا يلزمه الوطء. انتهى.
قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله بعد ذكر كلام النوويّ المذكور رحمه الله ما نصّه: وفيه نظر، فهذا الذي ذكر أنه رواية عن أحمد هو المشهور من مذهبه، وظاهر كلام أصحابه تعيّن النكاح. وعنه رواية أخرى بوجوبه مطلقًا، وإن لم يخف العَنَت، كما حكاه النوويّ عن بعضهم، وعبارة ابن تيميّة في "المحرّر": النكاح السابق سنة مقدّمة على نفل العبادة، إلا أن يخشى الزنا بتركه، فيجب، وعنه يجب عليه مطلقًا. انتهى.
والوجوب عند خوف العنت وجه في مذهب الشافعيّ، حكاه الرافعيّ عن "شرح مختصر الجوينيّ"، وقال النوويّ في "الروضة": هذا الوجه، لا يحتم النكاح، بل يُخيّر بينه وبين التسرّي، ومعناه ظاهر. انتهى.
وجزم به أبو العباس القرطبيّ، وهو من المالكيّة، بل زاد فحكى الاتفاق عليه، فإنه قال: إنا نقول بموجب هذا الحديث في حقّ الشابّ المستطيع الذي يخاف الضرر على نفسه ودينه من العزبة، بحيث لا يرتفع عنه إلا بالتزويج، وهذا لا يختلف في وجوب التزويج عليه. انتهى.
ونقله الاتفاق على ذلك مردود، لكن يُقلَّد في نقل مذهبه في ذلك، وبه يحصل الردّ على النوويّ في كلامه المتقدّم، ولم يقيّد ابن حزم ذلك بخوف الْعَنَتِ، وعبارته في "المحلّى": وفرضٌ على كلّ قادر على الوطء إن وجد ما يتزوّج به، أو يتسرّى، أن يفعل أحدهما، فإن عجز عن ذلك، فليُكثر من الصوم، ثم قال: وهو قول جماعة من السلف.
وقال الشيخ تقيّ الدين في "شرح العمدة": قسم الفقهاء النكاح إلى الأحكام الخمسة، أعني الوجوب، والندب، والتحريم، والكراهة، والإباحةَ، وجعل الوجوب فيما إذا خاف العنت، وقَدَر على النكاح، إلا أنه لا يتعيّن واجبًا، بل إما هو، وإما التسرّي، وان تعذّر التسرّي، تعيّن النكاح حينئذ
للوجوب، لا لأصل الشريعة. انتهى، وكان هذا التقسيم لبعض المالكيّة، وقد حكاه أبو العبّاس القرطبيّ عن بعض علمائهم، وقال: إنه واضحٌ، وقال القاضي أبو سعد الهرويّ من الشافعيّة: ذهب بعض أصحابنا بالعراق إلى أن النكاح فرض كفاية حتى لو امتنع منه أهل قطر، أُجبروا عليه. انتهى.
وقال في "الفتح": وقد قسم العلماء الرجل في التزويج إلى أقسام:
[الأول]: التائق إليه القادر على مؤنه، الخائف على نفسه، فهذا يُندب له النكاح عند الجميع، وزاد الحنابلة في رواية أنه يجب، وبذلك قال أبو عوانة الإسفرايينيّ من الشافعيّة، وصرّح به في "صحيحه"، ونقله المصيصيّ في "شرح مختصر الجوينيّ" وجهًا، وهو قول داود، وأتباعه، ورَدّ عليهم عياضٌ، ومن تبعه بوجهين:
[أحدهما]: أن الآية التي احتجّوا بها خيّرت بين النكاح والتسرّي - يعني قوله تعالى: {فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] قالوا: والتسرّي ليس واجبًا اتفاقًا، فيكون التزويج غير واجب؛ إذ لا يقع التخيير بين واجب ومندوب.
وهذا الردّ متعقّبٌ، فإن الذين قالوا بوجوبه قيّدوه بما إذا لم يندفع التوقان بالتسرّي، فإذا لم يندفع تعيّن التزويج، وقد صرّح بذلك ابن حزم، فقال: وفرض على كلّ قادر على الوطء إن وجد ما يتزوّج به، أو يتسرّى أن يفعل أحدهما، فإن عجز عن ذلك فليُكثر من الصوم، وهو قول جماعة من السلف.
الوجه الثاني: أن الواجب عندهم العقد لا الوطء، والعقد بمجرّده لا يدفع مشقّة التوقان، قال: فما ذهبوا إليه لم يتناوله الحديث، وما تناوله الحديث لم يذهبوا إليه، كذا قال، وقد صرّح أكثر المخالفين بوجوب الوطء، فاندفع الإيراد.
وقال ابن بطال: احتجّ من لم يوجبه بقوله صلى الله عليه وسلم: "ومن لم يستطع فعليه بالصوم"، قال: فلما كان الصوم الذي هو بدله ليس بواجب فمبدله مثله.
وتعقّب بأن الأمر بالصوم مرتّبٌ على عدم الاستطاعة، ولا استحالة أن يقول القائل أوجبت عليك كذا، فإن لم تستطع فأَندُبُك إلى كذا، والمشهور عن أحمد أنه لا يجب للقادر التائق إلا إذا خشي العَنَتَ، وعلى هذه الرواية اقتصر ابن هُبيرة.
وقال المازريّ: الذي نطق به مذهب مالك أنه مندوبٌ، وقد يجب عندنا في حقّ من لا ينكفّ عن الزنا إلا به.
وقال القرطبيّ: المستطيع الذي يخاف الضرر على نفسه، ودينه من العزوبة بحيث لا يرتفع عنه ذلك إلا بالتزويج لا يُخْتَلَف في وجوب التزويج عليه، ونبّه ابن الرفعة على صورة يجب فيها، وهي ما إذا نذره حيث كان مستحبًّا.
وقال ابن دقيق العيد: قسم بعض الفقهاء النكاح إلى الأحكام الخمسة، وجعل الوجوب فيما إذا خاف العنت، وقَدَر على النكاح، وتعذّر التسرّي، وكذا حكاه القرطبيّ عن بعض علمائهم، وهو المازريّ قال: فالوجوب في حقّ من لا ينكفّ عن الزنا إلا به، كما تقدّم. قال: والتحريم في حقّ من يُخلّ بالزوجة في الوطء والإنفاق مع عدم قدرته عليه، وتوقانه إليه، والكراهة في حقّ مثل هذا حيث لا إضرار بالزوجة، فإن انقطع بذلك عن شيء من أفعال الطاعة، من عبادة، أو اشتغال بالعلم اشتدّت الكراهة، وقيل: الكراهة فيما إذا كان ذلك في حال العزوبة أجمع منه في حال التزويج، والاستحباب فيما إذا حصل به معنى مقصود من كسر شهوة، وإعفاف نفس، وتحصين فرج، ونحو ذلك، والإباحة فيما انتفت الدواعي والموانع.
ومنهم: من استمرّ بدعوى الاستحباب فيمن هذه صفته؛ للظواهر الواردة في الترغيب فيه. قال عياضٌ: هو مندوبٌ في حقّ كلّ من يرجى منه النسل، ولو لم يكن له في الوطء شهوة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"فإني مكاثرٌ بكم"، ولظواهر الحضّ على النكاح، والأمر به، وكذا في حقّ من له رغبة في نوع من الاستمتاع بالنساء غير الوطء، فأما من لا يُنسل، ولا أرب له في النساء، ولا في الاستمتاع فهذا مباحٌ في حقّه إذا علمت المرأة بذلك، ورضيت، وقد يقال: إنه مندوب أيضًا؛ لعموم قوله: "لا رهبانية في الإسلام".
وقال الغزاليّ في "الإحياء": من اجتمعت له فوائد النكاح، وانتفت عنه آفاته، فالمستحبّ في حقّه التزويج، ومن لا فالترك له أفضل، ومن تعارض الأمر في حقّه فليجتهد، ويعمل بالراجح. انتهى.
قال الحافظ: الأحاديث الواردة في ذلك كثيرةٌ، فأما حديث: "فإني
مكاثر بكم" فصحّ من حديث أنس بلفظ: "تزوّجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم يوم القيامة"، أخرجه ابن حبّان، وذكره الشافعيّ بلاغًا عن ابن عمر بلفظ: "تناكحوا، تكاثروا، فإني أباهي بكم الأمم"، وللبيهقيّ من حديث أبي أمامة: "تزوّجوا، فإني مكاثرٌ بكم الأمم، ولا تكونوا كرهبانية النصارى".
وورد: "فإني مكاثرٌ بكم" أيضًا من حديث الصنابحيّ، وابن الأعسر، ومَعْقِل بن يسار، وسهل بن حُنيف، وحرملة بن النعمان، وعائشة، وعياض بن غنم، ومعاوية بن حَيْدَة، وغيرهم.
وأما حديث: "لا رهبانية في الإسلام" فلم أره بهذا اللفظ، لكن في حديث سعد بن أبي وقّاص عند الطبرانيّ:"إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة"، وعن ابن عباس رفعه:"لا صرورة في الإسلام"
(1)
، أخرجه أحمد، وأبو داود، وصححه الحاكم.
وفي الباب حديث النهي عن التبتّل، ويأتي في هذا الباب، وحديث عائشة، رفعته:"النكاح سنتي، فمن لم يعمل بسنتي فليس منّي، وتزوّجوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة، ومن كان ذا طَوْل فلينكح، ومن لم يجد فعليه بالصيام، فإن الصوم له وجاء"، رواه ابن ماجه، وهو صحيح بشواهده.
وحديث: "من كان موسرًا، فلم يَنكِح فليس منّا"، أخرجه الدارميّ، والبيهقيّ من حديث ابن أبي نَجِيح، وجزم بأنه مرسل، وقد أورده البغويّ في "معجم الصحابة".
وحديث طاوس: "قال عمر بن الخطاب لأبي الزوائد: إنما يمنعك من التزويج عجزٌ، أو فُجور"، أخرجه ابن أبي شيبة وغيره.
وأخرج الحاكم من حديث أنس رضي الله عنه رفعه: "من رزقه الله امرأة صالحة، فقد أعانه على شطر دينه، فليتّق الله في الشطر الثاني".
قال الحافظ: وهذه الأحاديث وإن كان في الكثير منها ضعف، فمجموعها يدلّ على أنّ لِمَا يحصل به المقصود من الترغيب في التزويج أصلًا،
(1)
أي: لا ينبغي لأحد أن يقول: لا أتزوّج؛ لأنه ليس من أخلاق المؤمنين، وهو فعل الرُّهبان. قاله في "النهاية" 3/ 22.
لكن في حقّ من يتأتّى منه النسل، كما تقدّم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله ببعض تصرّف
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى منه: قد تبيّن بما سبق من الأدلّة أن أرجح الأقوال قول من قال بوجوب النكاح لمن استطاع عليه، وتاقت إليه نفسه، وخاف الْعَنَت؛ عملًا بظاهر الأمر الذي في حديث الباب، ومن عداه فيستحبّ له؛ عملًا بأحاديث الترغيب فيه، كما مرّ ذكرها آنفًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: لم يقل أحد بوجوبه على النساء، وقد صرّح بذلك ابن حزم، فقال: وليس ذلك فرضًا على النساء؛ لقوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا} الآية [النور: 60]. قال أبو إسحاق الشيرازيّ، صاحب "التنبيه": إن النكاح للنساء مستحبّ عند الحاجة، ومكروه عند عدمها، وقال الشيخ عماد الدين الزنجانيّ في "شرح الوجيز" المسمّى بـ "الموجز": لم يتعرّض الأصحاب للنساء، والذي يغلب على الظنّ أن النكاح في حقّهنّ أولى مطلقًا؛ لأنهنّ يحتجن إلى القيام بأمورهنّ، والتستّر عن الرجال، ولم يتحقّق في حقّهنّ الضرر الناشئ من النفقة. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الزنجانيّ رحمه الله حسنٌ جدًّا، وأما قول الشيرازي بالكراهة عند عدم الحاجة فمما لا يؤيّده دليل، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3400]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَن الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: إِنِّي لَأَمْشِي مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ بِمِنًى، إِذْ لَقِيَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، فَقَالَ: هَلُمَّ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: فَاسْتَخْلَاهُ، فَلَمَّا رَأَى عَبْدُ اللهِ أَنْ لَيْسَتْ لَهُ حَاجَةٌ، قَالَ: قَالَ لِي: تَعَالَ يَا عَلْقَمَةُ، قَالَ: فَجِئْتُ، فَقَالَ لَة عُثْمَانُ:
(1)
"الفتح" 11/ 324 - 326.
ألَا نُزَوِّجُكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ جَارِيَةً بِكْرًا، لَعَلَّهُ يَرْجِعُ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ مَا كُنْتَ تَعْهَدُ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: لَئِنْ قُلْتَ ذَاكَ، فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عثمان بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الْعَبْسيّ، أبو الحسن الكوفيّ، أخو أبي بكر المذكور في السند الماضي، ثقةٌ حافظٌ شهير [10](ت 239) وله (83) سنةً (خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 35/ 246.
2 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد بن قُرط الضبيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (إِنِّي لَأَمْشِي إلخ) هذه اللام هي لام الابتداء، دخلت في خبر "إنَّ" المكسورة، للتأكيد، كما قال في "الخلاصة":
وَبَعْدَ ذَاتِ الْكَسْرِ تَصْحَبُ الْخَبَرْ
…
لَامُ ابْتِدَاءِ نَحْوُ "إِنِّي لَوَزَرْ"
وقوله: ("إِذْ لَقِيَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ)"إذ" هنا فُجائيّة؛ أي: ففاجأنا لقاء عثمان رضي الله عنه.
وقوله: (هَلُمَّ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ) تقدّم البحث في "هَلُمّ" مستوفًى في شرح قوله: "هلمّ إلى الرخاء"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
وقوله: (فَاسْتَخْلَاهُ) أي: طلب منه أن يجتمع به في خلوة، قال المجد رحمه الله: واستخلى الملكَ، فأخلاه، وبه، واستخلى به، وخلا به، وإليه، ومعه خَلْوًا، وخلاءً، وخَلْوَةً: سأله أن يَجتمع به في خَلْوة، ففعَلَ. انتهى المقصود منه
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "إن عثمان دعا ابن مسعود، واستخلاه، فقال له" هذا الكلام دليل على استحباب الإسرار بمثل هذا، فإنه مما يُسْتَحَيَى من ذكره بين الناس. انتهى
(2)
.
وقوله: (فَلَمَّا رَأَى عَبْدُ اللهِ أَنْ لَيْسَتْ لَهُ حَاجَةٌ، قَالَ لِي: تَعَالَ يَا عَلْقَمَةُ
(1)
"القاموس المحيط" 4/ 325.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 174.
إلخ) وفي رواية البخاريّ: "فلما رأى عبد الله أن ليست له حاجةٌ إلى هذا أشار إليّ، فقال يا علقمة، فانتهيت إليه، وهو يقول: أما لئن قلت ذلك، لقد قال لنا النبيّ صلى الله عليه وسلم إلخ"، قال في "الفتح": هكذا عند الأكثر أن مراجعة عثمان لابن مسعود في أمر التزويج كانت قبل استدعائه لعلقمة، ووقع في رواية جرير عند مسلم، وزيد بن أبي أنيسة، عند ابن حبان بالعكس، ولفظ جرير بعد قوله:"فاستخلاه، فلما رأى عبد الله أن ليس له حاجة قال لي: تعال يا علقمة، قال: فجئت، فقال له عثمان: ألا نزوجك؟ "، وفي رواية زيد:"فلقي عثمان، فأخذ بيده، فقاما، وتنحيت عنهما، فلما رأى عبد الله أن ليست له حاجة يُسِرُّها، قال: ادن يا علقمة، فانتهيت إليه، وهو يقول: ألا نزوجك؟ ".
قال: ويَحْتَمِل في الجمع بين الروايتين أن يكون عثمان أعاد على ابن مسعود ما كان قال له بعد أن استدعى علقمة؛ لكونه فَهِمَ منه إرادة إعلام علقمة بما كانا فيه. انتهى
(1)
.
وقوله: (أَلَا نُزَوِّجُكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ جَارِيَةً بِكْرًا) البكر الذي لم يتزوّج من الرجال والنساء، يقال: رجلٌ بكرٌ، وامرأةٌ بكرٌ بكسر الباء، والبكر أيضًا: أول الأولاد بالكسر، كما قال الشاعر:
يَا بِكْرَ بِكْرَيْنَ وَيَا خِلْبَ الْكَبِدْ
…
أَصْبَحْتَ مِنِّي كَذِرَاعٍ فِي الْعَضُدْ
وفي مقابلة البكر: الأَيِّم، وسيأتي ذكرها - إن شاء الله تعالى -
(2)
.
وقوله: (فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير جرير.
[تنبيه]: رواية جرير، عن الأعمش هذه ساقها أبو داود رحمه الله في "سننه" بسند المصنّف، فقال:
(1750)
- حدّثنا عثمان بن أبي شيبة، حدّثنا جرير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: إني لأمشي مع عبد الله بن مسعود بمنى، إذ لقيه عثمان، فاستخلاه، فلما رأى عبد الله أن ليست له حاجة، قال لي: تعال يا علقمة، فجئت، فقال له عثمان: ألا نزوجك يا أبا عبد الرحمن بجارية بكر، لعله يرجع إليك من نفسك ما كنت تعهد؟ فقال عبد الله: لئن قلت ذاك، لقد
(1)
"الفتح" 11/ 320.
(2)
"المفهم" 4/ 81.
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع منكم فعليه بالصوم، فإنه له وجاء". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3401]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَن الْأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَن اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عُمَارَةُ بْنُ عُمَيْرٍ) التيميّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4] مات بعد المائة، وقيل: قبلها بسنتين (ع) تقدم في "الصلاة" 29/ 977.
2 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ) بن قيس النخعيّ، أبو بكر الكوفيّ، ثقةٌ، من كبار [3](ت 83)(ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 295.
والباقون ذُكروا في الإسنادين الماضيين.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديثين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3402]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَن الْأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَعَمِّي عَلْقَمَةُ وَالْأَسْوَدُ عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: وَأنا شَابٌّ يَوْمَئِذٍ، فَذَكَرَ حَدِيثًا، رُئِيتُ أَنَّهُ حَدَّثَ بِهِ مِنْ أَجْلِي، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، وَزَادَ: قَالَ: فَلَمْ أَلْبَثْ حَتَّى تَزَوَّجْتُ).
رجال هذا الإسناد:
كلّهم ذُكروا في الإسنادين الماضيين.
وقوله: (دَخَلْتُ أَنَا وَعَمِّي عَلْقَمَةُ وَالْأَسْوَدُ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ، وهو الصواب، قال القاضي عياض: ووقع في بعض الروايات: "أنا وعمّاي علقمة والأسود"، وهو غلطٌ ظاهرٌ؛ لأن الأسود أخو عبد الرحمن بن يزيد، لا عمّه، وعلقمة عمهما جميعًا، وهو علقمة بن قيس. انتهى
(1)
.
وقوله: (فَذَكَرَ حَدِيثًا) الحديث هو ما بيّنه بقوله: "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ".
وقوله: (رُئِيتُ إلخ) بالبناء للمفعول؛ أي: ظننت، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في كثير من النسخ، وفي بعضها:"رأيت"، وهما صحيحان، الأول من الظنّ، والثاني من العلم. انتهى
(2)
.
والمعنى: أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لما دخل عليه عبد الرحمن بن يزيد، وأخوه الأسود بن يزيد، وعلقمة بن قيس ذكر حديثًا، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"من استطاع منكم الباءة إلخ"، فظنّ عبد الرحمن أن ابن مسعود رضي الله عنه إنما ذكر ذلك الحديث من أجله؛ لكونه شابًّا، فكأنه يشير عليه إن كان مستطيعًا للنكاح أن يتزوج، وإلا أن يصوم؛ لأن الشباب مظنّة شدّة الشهوة، فيُخشى منهم أن يقعوا في محظور، ولذا قال: فلم ألبث أن تزوّجت، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية الأعمش، عن عُمارة بن عُمير هذه ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" 4/ 64 فقال:
(3237)
-حدّثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن يوسف الصرصريّ، ثنا يوسف القاضي، ثنا أبو الربيع الزهرانيّ، قال: ثنا جرير بن عبد الحميد، عن الأعمش، عن عُمارة بن عُمير، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: دخلت أنا والأسود، وعمي علقمةُ على عبد الله، وأنا يومئذ شابٌّ فذكر حديثًا رُئيت أنه حَدَّث به من أجلي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب، من استطاع
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 175.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 175 - 176.
منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغضّ للبصر، وأحصنُ للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاءٌ". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3403]
(. . .) - (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَيْهِ، وَأَنَا أَحْدَثُ الْقَوْمِ، بِمِثْلِ حَدِيثِهِمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ: فَلَمْ أَلْبَثْ حَتَّى تَزَوَّجْتُ).
رجال هذا الإسناد:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ الْأَشَجُّ) الْكِنديّ الكوفيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 17.
2 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح بن مَلِيح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 6 أو 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: رواية وكيع، عن الأعمش هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3404]
(1401) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِع الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ؛ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ، فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، فَقَالَ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ، قَالُوا: كَذَا وَكَذَا، لَكِنِّي أُصَلِّي، وَأَنَامُ، وَأَصُومُ، وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْعَبْدِيُّ) هو: محمد بن أحمد بن نافع الْعَبْديّ البصريّ، مشهور بكنيته، صدوقٌ، من صغار [10] مات بعد (240)(م ت س) تقدم في "الإيمان" 12/ 158.
2 -
(بَهْزُ) بن أسد الْعَمّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9] مات بعد المائتين وقيل: قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.
3 -
(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، أثبت الناس في ثابت، وتغيّر حفظه بآخره، من كبار [8](ت 167)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
4 -
(ثَابِتُ) بن أسلم الْبُنَانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4] مات سنة بضع و (120) وله (86) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
5 -
(أنَسُ) بن مالك بن النضر الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (2 أو 39) وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخه، فانفرد به هو، والترمذيّ، والنسائيّ، وحماد بن سلمة علّق عنه البخاريّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، من أوله إلى آخره.
4 -
(ومنها): أن فيه حماد بن سلمة أثبت الناس في ثابت، وثابت ألزم الناس لأنس رضي الله عنه لزمه أربعين سنة.
5 -
(ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة، وقد جاوز عمرة مائة سنة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسٍ) ابن مالك رضي الله عنه (أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية البخاريّ من طريق حميد الطويل، عن أنس: "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا
كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبيّ صلى الله عليه وسلم، قد غُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر. . ." الحديث.
قال في "الفتح": ولا منافاة بين الروايتين، فالرهط من ثلاثة إلى عشرة، والنفر من ثلاثة إلى تسعة، وكلّ منهما اسم جمع، لا واحد له من لفظه، ووقع في مرسل سعيد بن المسيّب عند عبد الرزّاق أن الثلاثة المذكورين هم: عليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعثمان بن مظعون، وعند ابن مردويه من طريق الحسن الْعَدَنيّ:"كان عليّ في أناس ممن أرادوا أن يحرموا الشهوات، فنزلت آية المائدة"، ووقع في "أسباب النزول" للواحديّ بغير إسناد:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكَّرَ الناسَ، وخوّفهم، فاجتمع عشرة من الصحابة - وهم: أبو بكر، وعمر، وعليّ، وابن مسعود، وأبو ذرّ، وسالم مولى أبي حُذيفة، والمقداد، وسلمان، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومعقل بن مُقَرِّن - في بيت عثمان بن مظعون، فاتفقوا على أن يصوموا النهار، ويقوموا الليل، ولا يناموا على الفُرُش، ولا يأكلوا اللحم، ولا يقربوا النساء، ويَجُبُّوا مذاكيرهم"، فإن كان هذا محفوظًا احتَمَل أن يكون الرهط الثلاثة هم الذين باشروا السؤال، فنُسب ذلك إليهم بخصوصهم تارة، ونُسب للجميع لاشتراكهم في طلبه.
ويؤيّد أنهم كانوا أكثر من ثلاثة في الجملة ما روى مسلم من طريق زُرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام؛ أنه قدم المدينة، فأراد أن يبيع عقاره، فيجعله في سبيل الله، ويجاهد الروم حتى يموت، فلقي ناسًا بالمدينة، فنَهَوْه عن ذلك، وأخبروه أن رهطًا ستةً أرادوا ذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهاهم، فلما حدّثوه ذلك راجع امرأته، وكان قد طلّقها. يعني بسبب ذلك.
قال الحافظ رحمه الله: لكن في عَدّ عبد الله بن عمرو معهم نظرٌ؛ لأن عثمان بن مظعون رضي الله عنه مات قبل أن يهاجر عبد الله فيما أحسب. انتهى.
(عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ) أي: فيما لا يطّلع عليه إلا أزواجه رضي الله عنهن (فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ
(1)
، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ
(1)
قال صاحب "التنبيه": الظاهر أنه عثمان بن مظعون، قلته تفقّهًا، وقال شيخنا: إنه هو. انتهى.
بَعْضُهُمْ: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ)
(1)
زاد في رواية النسائيّ: "وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَصُومُ، فَلَا أُفْطِرُ"
(2)
، ولفظ البخاريّ:"قال أحدهم: أما أنا فأنا أصلّي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر، ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء، فلا أتزوّج أبدًا. . ." الحديث.
قال أبو العباس القرطبيّ رحمه الله: فهؤلاء القوم حصل عندهم أن الانقطاع عن ملاذّ الدنيا، من النساء، والطيّب من الطعام، والنوم، والتفرّغ لاستغراق الأزمان بالعبادات أولى، فلما سألوا عن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبادته لم يُدركوا من عبادته ما وقع لهم أَبْدَوْا فارقًا بينهم وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنه مغفورٌ له، ثم أخبَرَ كلُّ واحد منهم بما عزم على فعله، فلما بلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم أجابهم بأن ألغى الفارق بقوله:"إني أخشاكم لله".
وتقرير ذلك: إني وإن كنت مغفورًا لي، فخشية الله، وخوفه يَحملني على الاجتهاد، وملازمة العبادة، لكنّ طريقَ العبادة ما أنا عليه، فمن رغب عنه، وتركه، فليس على طريقتي في العبادة.
ويوضّح هذا المعنى، ويُبيّنه أن عبادة الله إنما هي امتثال أوامره الواجبة والمندوبة، واجتناب نواهيه المحظورة والمكروهة، وما من زمان من الأزمان إلا وتتوجّه على المكلّف فيه أوامر، أو نواهٍ، فمن قام بوظيفة كلِّ وقتٍ فقد أدّى العبادة، وقام بها، فإذا قام بالليل مصلّيًا، فقد قام بوظيفة ذلك الوقت، فإذا احتاج إلى النوم لدفع ألم السهر، ولتقوية النفس على العبادة، ولإزالة تشويش مدافعة النوم المشوِّشة للقراءة، أو لإعطاء الزوجة حقّها من المضاجعة كان نومه ذلك عبادةً كصلاته، وقد بيّن هذا المعنى سلمانُ الفارسي لأبي الدرداء بقوله:"لكني أقوم، وأنام، وأحتسب في نومتي ما أحتسبه في قومتي"، وكذلك القول في الصيام، وأما التزويج فيجري فيه مثل ذلك، وزيادة نيّة تحصين الفرج، والعين، وسلامة الدين، وتكثير نسل المسلمين، وبهذه القصود
(1)
قال في "التنبيه": قال شيخنا: إنه أبو هريرة.
(2)
قال في "التنبيه": هو عبد الله بن عمرو بن العاص، هكذا ظهر لي، وقال شيخنا: إنه ابن مسعود.
الصحيحة تتحقّق فيه العبادات العظيمة، ولذلك اختلف العلماء في أيّ الأمرين أفضل، التزويج، أم التفرّغ منه للعبادة؟ كما هو معروف في مسائل الخلاف.
وعلى الجملة فما من شيء من المباحات المستلذّات وغيرها إلا ويمكن لمن شرح الله صدره أن يصرفه إلى باب العبادات والطاعات بإخطار معانيها بباله، وقصد نيّة التقرّب بها، كما قد نصّ عليه المشايخ في كتبهم؛ كالحارث المحاسبيّ وغيره.
ومن فَهِمَ هذا المعنى، وحَصّله تحقّق أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد حلّ من العبادات أعلاها؛ لانشراح صدره، وحضور قصده، ولعلمه بحدود الله، وبما يُقَرّب منه.
ولمّا لم ينكشف هذا المعنى للنفر السائلين عن عبادته، استقلّوها بناءً منهم على أن العبادة إنما هي استفراغ الوسع في الصلاة، والصوم، والانقطاع عن الملاذّ، وهيهات بينهما ما بين الثريّا والثَّرَى، وسُهيل والسُّها.
وعند الوقوف على ما أوضحناه من هذا الحديث يتحقّق أن فيه ردًّا على غلاة المتزهّدين، وعلى أهل البطالة من المتصوّفين؛ إذ كلّ فريق منهم قد عَدَل عن طريقه، وحاد عن تحقيقه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحثٌ مفيدٌ جدًّا.
(فَحَمِدَ اللهَ) أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي رواية النسائيّ:"فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فحمد الله"(وَأَثْنَى عَلَيْهِ، فَقَالَ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ)"ما" استفهاميّة، والاستفهام للإنكار؛ أي: ما شأنهم، وحالهم؟ (قَالُوا: كَذَا وَكَذَا) الجملة في محلّ نصب على الحال، وفي رواية البخاريّ:"فجاء إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ ". ويُجمع بين الروايتين بأنه منع من ذلك عمومًا جهرًا، مع عدم تعيينهم، وخُصوصًا فيما بينه وبينهم رفقًا بهم، وسترًا لهم.
(لَكِنِّي) استدراكٌ من شيء محذوف، دلّ عليه السياق؛ أي: أنا وأنتم بالنسبة إلى العبوديّة سواء، لكن أنا أعمل كذا (أُصَلِّي، وَأَنَامُ، وَأَصُومُ، وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي) المراد بالسنة الطريقة، لا التي تقابل الفرض، والرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره، والمراد مَنْ ترك طريقتي،
(1)
"المفهم" 4/ 86 - 87.
وأخذ بطريقة غيري، فليس منّي، ولمّح بذلك إلى طريقة الرهبانيّة، فإنهم الذين ابتدعوا التشديد، كما وصفهم الله تعالى به، وقد عابهم بأنهم ما وفوا بما التزموه، وطريقة النبيّ صلى الله عليه وسلم الحنيفيّة السمحة، فيُفطر ليتقوّى على الصوم، وينام ليتقوّى على القيام، ويتزوّج لكسر الشهوة، وإعفاف النفس، وتكثير النسل.
وقوله: (فَلَيْسَ مِنِّي") إن كانت الرغبة بضرب من التأويل، يُعذر صاحبه فيه، فمعنى "فليس مني" أي: على طريقتي، ولا يلزم أن يخرج عن الملّة، وإن كان إعراضًا، وتنطّعًا، يُفضي أرجحية عمله، فمعنى "فليس مني": على ملّتي؛ لأن اعتقاد ذلك نوعٌ من الكفر، قاله في "الفتح"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 3404](1401)، و (البخاريّ) في "النكاح"(5063)، و (النسائيّ) في "النكاح"(3218) و"الكبرى"(5324)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 241 و 259 و 285)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(14)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 64)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 392)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 77)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(96)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان النهي عن التبتّل.
2 -
(ومنها): أن فيه دلالةً على فضل النكاح، والترغيب فيه.
3 -
(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الحرص على التأسّي بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، بحيث إنهم يبحثون عن عمله إذا خلا في بيته، حتى لا يفوتهم الاتباع به في سنته التي يعمل بها في حال خلوته عنهم.
4 -
(ومنها): أن فيه تتبّع أحوال الأكابر للتأسّي بأفعالهم، وأنه إذا تعذّرت معرفته من الرجال جاز استكشافه من النساء.
5 -
(ومنها): أن من عزم على عمل برّ، واحتاج إلى إظهاره حيث يأمن الرياء لم يكن ذلك ممنوعًا.
6 -
(ومنها): تقديم الحمد، والثناء على الله تعالى عند إلقاء مسائل العلم، وبيان الأحكام للمكلّفين، وإزالة الشبهة عن المجتهدين.
7 -
(ومنها): أن المباحات قد تنقلب بالقصد إلى الكراهة، والاستحباب.
8 -
(ومنها): ما قاله الطبريّ: إن فيه الردّ على من منع استعمال الحلال من الأطعمة والملابس، وآثر غليظ الثياب، وخشن المأكل، قال عياض: هذا مما اختَلَف فيه السلف، فمنهم من نحا إلى ما قاله الطبريّ، ومنهم من عكس، واحتجّ بقوله تعالى:{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} الآية [الأحقاف: 20]، قال: والحقّ أن هذه الآية في الكفّار، وقد أخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم بالأمرين.
قال الحافظ: لا يدلّ ذلك لأحد الفريقين، إن كان المراد المداومة على إحدى الصفتين، والحقّ أن ملازمة استعمال الطيّبات تُفضي إلى الترفّه، والبطر، ولا يأمن من الوقوع في الشبهات؛ لأن من اعتاد ذلك قد لا يجده أحيانًا، فلا يستطيع الانتقال عنه، فيقع في المحظور، كما أن منع تناول ذلك أحيانًا يفضي إلى التنطّع المنهيّ عنه، ويردّ عليه صريح قوله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ} الآية [الأعراف: 32]. كما أن الأخذ بالتشديد في العبادة يفضي إلى الملل القاطع لأصلها، وملازمة الاقتصار على الفرائض مثلًا، وترك التنفّل يفضي إلى إيثار البطالة، وعدم النشاط إلى العبادة، وخير الأمور الوسط، وفي قوله صلى الله عليه وسلم:"إني لأخشاكم لله" مع ما انضمّ إليه إشارةٌ إلى ذلك. انتهى.
9 -
(ومنها): أن فيه إشارةً إلى أن العلم بالله، ومعرفة ما يجب من حقّه أعظم قدرًا من مجرّد العبادة البدنيّة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3405]
(1402) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، وَاللَّفْظُ لَهُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ
الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَن الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: رَدَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ) الحنظليّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ جواد مجاهد، جُمعت فيه خصال الخير [8](ت 181)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 32.
2 -
(مَعْمَرُ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة اليمنيّ، بصريّ الأصل، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
3 -
(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب، أبو بكر المدنيّ الفقيه الحافظ المتقن المتّفق على جلالته وإتقانه، من رؤوس [4](ت 125)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.
4 -
(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) بن حَزْن بن أبي وهب المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، أحد العلماء الأثبات الفقهاء الكبار، من كبار [3](ت 94) وقد ناهز (80)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
5 -
(سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ) هو: سعد بن مالك بن وُهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب الزهريّ، أبو إسحاق الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (55) على الصحيح (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
والباقيان ذُكرا في الباب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيات المصنّف رحمه الله، وله فيه طريقان فرّق بينهما بالتحول.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من الزهريّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.
5 -
(ومنها): أن فيه ابن المسيِّب من الفقهاء السبعة.
6 -
(ومنها): أن صحابيه أولّ من روى بسهم في سبيل الله، وأحد العشرة المبشّرين بالجنة، وآخر من مات منهم رضي الله عنهم، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ) وفي الرواية التالية: "عن ابن شهاب أنه قال: أخبرني سعيد بن المسيِّب"، فصرّح بالإخبار (عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) رضي الله عنه، وفي الرواية التالية:"أنه سمع سعد بن أبي وقّاص"، فصرّح بالسماع (قَالَ: رَدَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية النسائيّ: "لَقَدْ رَدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم"(عَلَى عُثْمَانَ) بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حُذافة بن جُمَح الْجُمَحيّ، قال ابن إسحاق: أسلم بعد ثلاثة عشر رجلًا، وهاجر إلى الحبشة، هو وابنه السائب الهجرة الأولى في جماعة، فلما بلغهم أن قريشًا أسلمت رجعوا، فدخل عثمان في جوار الوليد بن المغيرة، ثم ذكر ردّه جواره، ورضاه بما عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذكر قصّة مع لبيد بن ربيعة حين أنشد:
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلُ
فقال عثمان بن مظعون: صدقت، فقال لبيد:
وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ
فقال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول، فقام سَفِيهٌ منهم إلى عثمان، فلطم عينيه، فاخضرّت. توفّي رضي الله عنه بعد شهوده بدرًا في السنة الثانية من الهجرة
(1)
، وهو أول من مات بالمدينة من المهاجرين رضي الله عنهم، وأول من دُفن بالبقيع منهم، وروى الترمذيّ من طريق القاسم، عن عائشة، قالت: قبّل النبيّ صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون، وهو ميتٌ، وهو يبكي، وعيناه تذرفان، ولما توفّي إبراهيم ابن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"الحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون".
وفي الرواية الثالثة: "أراد عثمان بن مظعون أن يتبتّل، فنهاه
(1)
وقال في "الفتح"(11/ 337): وكانت وفاته في ذي الحجة سنة اثنتين من الهجرة، انتهى.
رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فعُلِم من هذا أن معنى قوله: "ردّ على عثمان" أي: لم يأذن له، بل نهاه.
وأخرج الطبرانيّ من حديث عثمان بن مظعون نفسه: "أنه قال: يا رسول الله إني رجلٌ يشُقّ عليّ العزوبة، فأْذن لي في الخصاء، قال: لا، ولكن عليك بالصيام. . ." الحديث.
ومن طريق سعيد بن العاص: "أن عثمان قال: يا رسول الله ائذن لي في الاختصاء، فقال: إن الله قد أبدلنا بالرهبانيّة الحنيفيّةَ السمحة".
فَيَحْتَمِل أن يكون الذي طلبه عثمان هو الاختصاء حقيقةً، فعبّر عنه الراوي بالتبتّل؛ لأنه ينشأ عنه، فلذلك قال:"ولو أذن له لاختصينا".
ويَحْتَمِل عكسه، وهو أن المراد بقول سعد:"ولو أذن لاختصينا" لفعلنا فعل من يختصي، وهو الانقطاع عن النساء.
قال الطبريّ: التبتّل الذي أراده عثمان بن مظعون تحريم النساء، والطيب، وكلّ ما يُلتذّ به، فلهذا أُنزل في حقّه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} الآية [المائدة: 87].
(التَّبَتُّلَ) أي: الانقطاع عن النساء، وترك النكاح انقطاعًا إلى عبادة الله تعالى، و"التبتّل" في الأصل: مصدر "تَبَتَّلَ"، من البَتْل، وهو القطع، يقال: بتله بَتْلًا، من باب قتل: قطعه، وأبانه، وطلّقها طلقةً بَتَّةً بَتْلَةً، وتَبَتّل إلى العبادة: تفرّغ لها، وانقطع. والمراد هنا الانقطاع عن النكاح، وما يتبعه من الملاذّ إلى العبادة.
وأما المأمور به في قوله تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8] فقد فسّره مجاهدٌ، فقال: أخلِصْ له إخلاصًا، وهو تفسيرُ معنًى، وإلا فأصل التبتّل الانقطاع، والمعنى: انقطع إليه انقطاعًا، لكن لما كانت حقيقة الانقطاع إلى الله تعالى إنما تقع بإخلاص العبادة له فسّرها بذلك، ومنه:"صدقةٌ بَتْلَةٌ" أي: منقطعةٌ عن الملك، ومريم البتول؛ لانقطاعها عن التزويج إلى العبادة، وقيل لفاطمة رضي الله عنها: البتول؛ إما لانقطاعها عن الأزواج غير عليّ، أو لانقطاعها عن نظرائها في الحسن والشرف.
وقد ترجم الإمام البخاريّ رحمه الله بقوله: "باب ما يكره من التبتّل،
والخصاء". فقال في "الفتح": وإنما قال: "ما يكره من التبتل والخصاء" للإشارة إلى أن الذي يكره من التبتّل هو الذي يُفضي إلى التنطّع، وتحريم ما أحلّ الله، وليس التبتّل من أصله مكروهًا، وعطف "الخصاء" عليه؛ لأن بعضه يجوز في الحيوان المأكول. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: ردُّ التَبتل: عبارة عن أنَّه لم يأذن له فيه، ولم يُجِزْهُ له، كما قال:"لا رهبانية في الإسلام"؛ أي: لا تَبَتُّل. انتهى
(2)
.
(وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا) الاختصاء من خَصَيت الفحل: إذا سَلَلت خِصْيته؛ أي: أخرجتها، واختصيتُ: إذا فعلتَ ذلك بنفسك.
قال الطيبيّ: كان الظاهر أن يقول: ولو أذن له لتبتّلنا، لكنه عدل عن هذا الظاهر إلى قوله:"لاختصينا" لإرادة المبالغة؛ أي: لبالغنا في التبتّل حتى يفضي بنا الأمر إلى الاختصاء، ولم يُرد به حقيقة الاختصاء؛ لأنه حرام.
وقيل: بل على ظاهره، وكان ذلك قبل النهي عن الاختصاء، ويؤيّده توارد استئذان جماعة من الصحابة النبيَّ صلى الله عليه وسلم في ذلك؛ كأبي هريرة، وابن مسعود، وغيرهما، وإنما كان التعبير بالخصاء أبلغ من التعبير بالتبتّل؛ لأن وجود الآلة يقتضي استمرار وجود الشهوة، ووجود الشهوة ينافي المراد من التبتّل، فيتعيّن الخصاء طريقًا إلى تحصيل المطلوب، وغايته أن فيه ألمًا عظيمًا في العاجل، يُغتفر في جنب ما يندفع به في الآجل، فهو كقطع الإصبع إذا وقعت في اليد الآكلة؛ صيانة لبقيّة اليد، وليس الهلاك بالخصاء محققًا، بل هو نادر، ويشهد له كثرة وجوده في البهائم مع بقائها، وعلى هذا فلعلّ الراوي عبّر بالخصاء عن الْجَبّ؛ لأنه هو الذي يُحصّل المقصود.
والحكمة في منعهم من الاختصاء؛ إرادة تكثير النسل؛ ليستمرّ جهاد الكفّار، وإلا فلو أذن في ذلك لأوشك تواردهم عليه، فينقطع النسل، فيقلّ المسلمون بانقطاعه، ويكثر الكفّار، فهو خلاف المقصود من البعثة المحمدية. انتهى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ولو أجاز له ذلك لاختصينا" قد بيَّنَّا: أن
(1)
"الفتح" 11/ 336 - 337.
(2)
"المفهم" 4/ 88.
الخصاء هو شَقُّ الخصيتين وانتزاعهما، وقد يقال: من أين يلزم من جواز التبتل عن النساء جواز الاختصاء؟ وهو قطع عضوين شريفين بهما قوام النسل، وفي قطعهما ألم عظيم لا يجوز لأحد أن يُدْخِلَهُ على نفسه، وضررٌ عظيم ربما يفضي بصاحبه إلى الهلاك، وهو محرمٌ بالاتفاق.
والجواب أن ذلك لازم من حيث أن مطلق التبتل يتضمنه، وكأنَّ قائل ذلك وقع له: أنَّ التبتل الحقيقي الذي تؤمن معه شهوة النساء هو الخصاء، فكأنّه أخذ بأكثر مما يدل عليه الاسم، وقولكم: هو ألم عظيم مُسَلَّم، لكنه مُغتفرٌ في جنب صيانة الدّين، فقد يُغتفر الألم العظيم في جنب ما هو أعظم منه، كقطع اليد للآكلة، وكالكيِّ، والبَطِّ، وغير ذلك. وقولكم: هو مُفْض إلى الهلاك غالبًا، غير مُسلَّم، بل نقول: وقوعُ الهلاك منه نادرٌ، فلا يُلْتَفتُ إليه، وخصاء البهائم يشهد بذلك، وما ذكرناه إنما هو تقدير ما وقع لسعدٍ، ولا يُظَنُّ: أن ذلك يجوز لأحدٍ اليوم، بل هو محرّم بالإجماع، وكلُّ ما ذكرناه مبنيٌّ على الأخذ بظاهر:"لاختصينا"، ويَحْتَمِل أن يريد به سعدٌ: لمنعنا أنفسنا من النساء، منع المختصي، والظاهر هو الأول، والله أعلم.
قال: وحديث أنس وسهلٍ يدلان على أن التزويج أفضل من التفرغ للعبادة، وهو أحد القولين المتقدمين، ويمكن أن يقال: كان ذلك في أول الإسلام، لِما كان النساء عليه من المعونة على الدِّين والدنيا، وقلّة الكلف، والتعاون على البر والتقوى، والحنوّ، والشفقة على الأزواج، وأمَّا في هذه الأزمان فنعوذ بالله من الشيطان والنسوان، فوالله الذي لا إله إلا هو لقد حلَّت العزلة والعزبة، بل وتعيّن الفِرار من فتنتهنَّ، والرحلة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله القرطبيّ رحمه الله، واستعاذ منه حسبما شاهده في بلده، وليس ذلك لازمًا لكلّ بلد، وكلّ وقت، فالأمة الإسلاميّة فيها خير كثير، وفيها نساء مؤمنات صالحات، كما أنه لا يستنكر وجود المنافقات في العهد الأول، فلا يزال الخير موجودًا، وقد قال الله سبحانه وتعالى:
(1)
"المفهم" 4/ 88 - 90.
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} الآية [الروم: 21]، فهذا امتنان من الله عز وجل يمتنّ به على عباده، فوجود الزوجة التي يسكن إليها الرجل مستمرّ، فالحقّ أن يأخذ المسلم بما أرشد إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو النكاح، وتكثير الأمة الإسلاميّة بالأولاد، وعليه أن يبحث عن النساء الصالحات، ويستخير الله تعالى، ويدعوه بالتوفيق، فليُتنبّه، فإن هذا من مزالّ الأقدام، وفيه الإحجام عن سنّة خير الأنام، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 3405 و 3406 و 3407](1402)، و (البخاريّ) في "النكاح"(5074)، و (الترمذيّ) في "النكاح"(1083)، و (النسائيّ) في "النكاح"(3213) و"الكبرى"(5223)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1848)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(6/ 168 و 7/ 150)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 175 و 176 و 183)، و (الدارميّ) في "سننه"(2167 و 2169)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 8)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 64 - 65)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(674)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4027)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(9/ 33 - 34)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 120 و 128)، و (البزّار) في "مسنده"(3/ 279 - 280)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 79)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2237)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان النهي عن التبتّل.
2 -
(ومنها): بيان سماحة الشريعة، وسهولة تكاليفها، حيث منعت عن الاختصاء الذي ضرره أكثر من نفعه، حيث يمنع من الطيبات، وينقطع به النسل، وتنقص به كرامة الرجل.
3 -
(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من شدّة الحرص على الطاعة،
وإزالة العقبات التي تعوقهم عنها، وإن كان فيها ألم وضرر في أبدانهم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3406]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو عِمْرَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَن ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدًا يَقُولُ: رُدَّ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلُ، وَلَوْ أُذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو عِمْرَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ زِيَادٍ) الْوَرَكانيّ - بفتحتين - الْخُراسانيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 228)(م د س) تقدم في "الإيمان" 38/ 255.
2 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة حجة [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: وقع في بعض النسخ في هذا السند ما نصّه: "عن ابن شهاب، عن الزهريّ" بزيادة "عن" بين ابن شهاب، وبين الزهريّ، وهو غلط، والصواب: عن ابن شهاب الزهريّ، فإن الزهريّ هو ابن شهاب نفسه، فتنبّه، والله تعالى وليّ التوفيق.
وقوله: (رُدَّ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ) ببناء الفعل للمفعول، وقد تبيّن بالرواية السابقة أن الرادّ هو النبيّ صلى الله عليه وسلم.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان المسائل المتعلّقة به في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3407]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا حُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ عُقيْلٍ، عَن ابْنِ شِهَابٍ؛ أنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ؛ أَنَّهُ سَمِعَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ: أَرَادَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ أَنْ يَتَبَتَّلَ، فَنَهَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَوْ أَجَازَ لَهُ ذَلِكَ لَاخْتَصَيْنَا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القُشيريّ مولاهم، أبو عبد الله النيسابوريّ، ثقة حافظٌ عابدٌ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
2 -
(حُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنَّى) اليماميّ، أبو عُمير سكن بغداد، وولي قضاء خُرَاسان، ثقةٌ [9](ت 205)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 81/ 437.
3 -
(لَيْثُ) بن سعد بن عبد الرحمن الفهميّ مولاهم، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمامٌ مشهورٌ [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.
4 -
(عُقَيْلُ) بن خالد الأمويّ مولاهم، أبو خالد الأيليّ، سكن المدينة، ثم الشام، ثم مصر، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 133.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(2) - (بَابُ نَدْبِ مَنْ رَأَى امْرَأةً فَوَقَعَتْ فِي نَفْسِهِ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ امْرَأَتَهُ، أَوْ جَارِيَتَهُ، فَيُوَاقِعَهَا)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3408]
(1403) - (حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى امْرَأةً فَأَتَى امْرَأَتَهُ زَيْنَبَ، وَهِيَ تَمْعَسُ مَنِيئَةً لَهَا، فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: "إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ، وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ، فَإذَا أَبْصَرَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً، فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ) بن بَحْر بن كَنِيز الْفَلّاس الصيرفيّ، أبو حفص البصريّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 249)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 38.
2 -
(عَبْدُ الْأَعْلَى) بن عبد الأعلى الساميّ البصريّ، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.
3 -
(هِشَامُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ) اسم أبيه سَنْبَر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
4 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ يُدلّس [4](126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
5 -
(جَابِرُ) بن عبد الله بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ النجّاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة بعد السبعين، وهو ابن (94) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين إلى هشام، والباقيان مكيّان، وجابر مدنيّ، وقد سكن مكة.
4 -
(ومنها): أن جابرًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى امْرَأَةً) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفها
(1)
، وقال القرطبيّ: قوله: "رأى امرأةً" أي: وقع بصره عليها فَجْأَةً، وكان صلى الله عليه وسلم لا تحتجب النساء منه، وكان إذا أعجبته امرأة، فرغب فيها حَرُم على زوجها إمساكها، هذا ذكره أبو المعالي وغيره. انتهى
(2)
.
(1)
"تنبيه المعلم" ص 233.
(2)
"المفهم" 4/ 90.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "لا تحتجب النساء منه" يحتاج إلى دليل، وكذا قوله:"حَرُم على زوجها إمساكها"، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
وقال الأبيّ رحمه الله بعد ذكر ما مرّ عن أبي المعالي وغيره -: قلت: وعلى هذا لا يحتاج إلى تأويل أن يكون رآها فجأة، وحمله بعضهم على أنها نظرة الفجأة، وأنه مع كونها فجأةً لا بدّ من التأويل؛ لأن نظر الفجأة قد توقع في النفس، وتأويله ما تقدّم.
وقال ابن العربيّ رحمه الله: الحديث غريب المعنى؛ فإن الذي جرى منه شيء لا يعلمه إلا الله تعالى، وإنما أذاعه للتعليم، وما وقع في نفسه من الإعجاب بالمرأة غير مؤاخذ به، ولا ينقص من منزلته، وهو من مقتضى الْجِبِلِّي والشهوة الآدميّة، وغلبها بالعصمة، فأتى أهله؛ ليقضي حقّ الإعجاب، والشهوة الآدميّة، والاعتصام والعفّة. انتهى
(1)
.
(فَأَتَى امْرَأَتَهُ زَيْنَبَ) بنت جحش الأسديّة أم المؤمنين، ماتت رضي الله عنها في خلافة عمر رضي الله عنه (وَهِيَ تَمْعَسُ مَنِيئَةً لَهَا) جملة حاليّة من المفعول؛ أي: تَدْبُغُ جلدًا، وهو بفتح التاء، وسكون الميم، وفتح العين المهملة، من باب مَنَعَ، يقال: مَعَسَه: إذا دَلَكه دلكًا شديدًا
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قال أهل اللغة: "الْمَعْسُ" بالعين المهملة: الدلك، و"المَنِيئَةُ" - بميم مفتوحة، ثم نون مكسورة، ثم همزة ممدودة، ثم تاء تُكْتَب هاءً - وهي على وزن صغيرة، وكبيرة، وذبيحة، قال أهل اللغة: هي الجلد أولَ ما يوضع في الدباغ، وقال الكسائيّ: يُسَمَّى مَنِيئةً ما دام في الدباغ، وقال أبو عبيدة: هو في أول الدباغ مَنِيئةٌ، ثم أَفِيقٌ بفتح الهمزة، وكسر الفاء، وجمعه أُفُق، كقفيز وقفز، ثم أَدِيم، والله أعلم
(3)
.
(فَقَضَى حَاجَتَهُ) أي: جامعها (ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: "إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ) قال الطيبيّ رحمه الله: جعل "صورة شيطان" ظرفًا لإقبالها مبالغةً على سبيل التجريد، كما تقول: رأيتُ فيك أسدًا؛ أي: لست غير
(1)
راجع: "شرح الأبيّ " 4/ 10.
(2)
"القاموس المحيط" 2/ 251.
(3)
"شرح النوويّ" 9/ 178.
الأسد؛ لأن إقبالها داع للإنسان إلى استراق النظر إليها، كالشيطان الداعي إلى الشرّ والوسواس، وعلى هذا إدبارها؛ لأن الطرف رائد القلب، فيتعلّق بها عند الإدبار، فيتخيّل للوصول إليها، قال الحماسيّ [من الطويل]:
وَكُنْتَ إِذَا أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِدًا
…
لِقَلْبِكَ يَوْمًا أَتْعَبَتْكَ الْمَنَاظِرُ
رَأَيْتَ الَّذِي لَا كُلَّهُ أَنْتَ قَادِرٌ
…
عَلَيْهِ وَلَا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابِرُ
قال أبو حامد: النظر مبدأ الزنا، فحفظه مُهمّ، وهو عسيرٌ من حيثُ إنه قد يُستهان به، ولا يَعْظُمُ الخوف منه، والآفات كلّها تنشأ منه. انتهى
(1)
.
(وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ) شبّهها بالشيطان في صفة الوسوسة، والإضلال، فإن رؤيتها من جميع الجهات داعية للفساد، قاله القاريّ رحمه الله
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: معناه الإشارة إلى الهوى، والدعاء إلى الفتنة بها؛ لِما جعله الله تعالى في نفوس الرجال من الميل إلى النساء، والالتذاذ بنظرهنّ، وما يتعلق بهنّ، فهي شبيهة بالشيطان في دعائه إلى الشر بوسوسته، وتزيينه له. انتهى
(3)
.
وقال النوويّ رحمه الله: وفي الرواية الأخرى: "إذا أحدَكُم أعجبته المرأة، فوقعت في قلبه، فَلْيَعْمِد إلى امرأته، فليواقعها، فإن ذلك يَرُدّ ما في نفسه"، هذه الرواية الثانية مبيّنة للأولى، ومعنى الحديث أنه يستحب لمن رأى امرأة، فتحركت شهوته، أن يأتي امرأته، أو جاريته، إن كانت له، فليواقعها؛ ليدفع شهوته، وتَسْكُن نفسه، ويَجْمَعَ قلبه على ما هو بصدده. انتهى
(4)
.
(فَإِذَا أَبْصَرَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً) أي: فأعجبته، ووقعت في نفسه (فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ) أي: فليجامعها (فَإِنَّ) الفاء للتعليل؛ أي: لأن (ذَلِكَ) أي: الجماع (يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ") قال القاري رحمه الله: "يردّ" بمثناة تحتية، من الردّ، وقال صاحب "النهاية""يُبْرِد" بالموحدة، من البرد، ذكره السيوطيّ، وقال ابن الملك رحمه الله: قوله: "يَرُدُّ" بياء المضارعة من الردّ، ورُوي بالباء الموحدة، على صيغة الماضي، من
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 7/ 2270.
(2)
"مرقاة المفاتيح" 6/ 255.
(3)
"شرح النوويّ" 9/ 178.
(4)
"شرح النوويّ"178.
التبريد، والمشهور هو الرواية الأولى. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إن المرأة تُقْبِل في صورة شيطان": أي: في صفته من الوسوسة، والتحريك للشهوة بما يبدو منها من المحاسن المثيرة للشهوة النفسية، والميل الطبيعي، وبذلك تدعو إلى الفتنة التي هي أعظم من فتنة الشيطان، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"ما تركت في أمتي فتنة أضر على الرجال من النساء"
(2)
، فلمّا خاف صلى الله عليه وسلم -هذه المفسدة على أمته أرشدهم إلى طريق بها تزول وتنحسم، فقال:"إذا أبصر أحدكم المرأة، فأعجبته فليأت أهله"، ثم أخبر بفائدة ذلك، وهو قوله:"فإن ذلك يردّ ما في نفسه"، وللردّ وجهان:
أحدهما: أنَّ المنَّي إذا خرج؛ انكسرت الشهوة، وانطفأت، فزال تعلُّق النَّفْس بالصّورة الْمَرئيّة.
وثانيهما: أن محل الوطء والإصابة متساوٍ من النساء كلِّهنّ، والتفاوت إنما هو من خارج ذلك، فليُكْتَف بمحلِّ الوطء، الذي هو المقصود، ويُغْفَل عمَّا سواه، وقد دلّ على هذا ما جاء في هذا الحديث في غير مسلم بعد قوله:"فليأت أهله": "فإن معها مثل الذي معها"
(3)
.
قال: ولا يُظنُّ برسول الله صلى الله عليه وسلم لَمَّا فعل ذلك - ميلُ نَفْسٍ، أو غلبة شهوة - حاشاه عن ذلك - وإنما فعل ذلك لِيَسُنَّ، وليُقتدى به، ولِيَحْسِمَ عن نفسه ما يتوقع وقوعه. انتهى
(4)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: حديث جابر رضي الله عنه هذا من رواية أبي الزبير، عنه، وهو مدلّس، وقد عنعنه، ولم أر له فيه تصريحًا بالسماع، إلا أن المصنّف صححه، ولا يسعنا إلا أن نُحسن الظنّ فيه، فتأمل، والله تعالى أعلم.
(1)
"مرقاة المفاتيح" 6/ 255.
(2)
متّفقٌ عليه.
(3)
رواه ابن حبّان في "صحيحه"(5572).
(4)
"المفهم" 4/ 90 - 91.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 3408 و 3409 و 3410](1403)، و (أبو داود) في "النكاح"(2151)، و (الترمذيّ) في "النكاح"(1158)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 351)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 330)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 322)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 15 - 16)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 65 - 66)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(3/ 34) و"الكبير"(24/ 50)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 90)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن من رأى امرأةً، فأعجبته، ووقعت في نفسه ينبغي له أن يأتي امرأته، أو جاريته، فيواقعها.
2 -
(ومنها): بيان أنه ينبغي للمرأة أن لا تخرج بين الرجال إلا لضرورة؛ لئلا تفتنهم.
3 -
(ومنها): أنه ينبغي للرجل الغضّ عن ثيابها، وعدم تأمل محاسنها، والإعراض عنها؛ لئلا يقع في فتنة.
4 -
(ومنها): إنما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم بأهله ما ذُكر بيانًا لأمته، وإرشادًا لما ينبغي لهم أن يفعلوه إذا وقع لهم مثل ذلك، فعلّمهم بفعله؛ لكونه أبلغ.
5 -
(ومنها): بيان أنه لا بأس بطلب الرجل امرأته إلى الوقاع في النهار وغيره، وإن كانت مشتغلة بما يمكن تركه؛ لأنه ربما غلبت على الرجل شهوة يتضرر بالتأخير في بدنه، أو في قلبه
(1)
.
6 -
(ومنها): أن الحديث يدلّ على أرجحيّة النكاح؛ لأن به يحصل التمكن من مدلول الحديث؛ لعدم تحصيل الصوم ذلك
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3409]
(. . .) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا حَرْبُ بْنُ أَبِي الْعَالِيَةِ، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ؛
(1)
راجع: "شرح النوويّ" 9/ 179.
(2)
راجع: "شرح الأبيّ" 4/ 11.
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى امْرَأَةً، فَذَكَرَ بِمِثْلِهِ، غَيْرَ أنَّهُ قَالَ: فَأَتَى امْرَأَتَهُ زَيْنَبَ، وَهِيَ تَمْعَسُ مَنِيئَةً، وَلَمْ يَذْكُرْ:"تُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ)، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ) بن سعيد بن ذكوان الْعَنْبريّ مولاهم التَّنُّوريّ، أبو سهل البصريّ، ثقةٌ [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.
3 -
(حَرْبُ بْنُ أَبِي الْعَالِيَةِ) أبو معاذ البصريّ، قيل: اسم أبي العالية مِهْرَان، صدوقٌ يَهِمُ [7].
رَوَى عن أبي الزبير، وابن أبي نَجيح، والحسن البصريّ.
وروى عنه عبد الصمد بن عبد الوارث، وأبو الوليد، وهشيم، وقتيبة بن سعيد، ومحمد بن سليمان لُوَين، وجماعة.
قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عنه، فقال: روى عنه هشيم، ما أدري له أحاديث، كأنه ضعّفه، وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: شيخ ضعيفٌ، قال: وقال القواريريّ: هو شيخ لنا ثقةٌ، وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العقيليّ: ضعّفه أحمد، وقال الصريفينيّ: مات سنة بضع وسبعين ومائة.
تفرّد به المصنّف، والنسائيّ، وليس له عندهما إلا هذا الحديث.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: رواية حرب بن أبي العالية، عن أبي الزبير هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" 3/ 16 فقال:
وحدثنا الصغانيّ، قال: ثنا زهير، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا حرب، قال: ثنا أبو الزبير، عن جابر؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى امرأة، فأعجبته، فأتى امرأته زينب، وهي تَمْعَسُ مَنِيئَةً لها، فقضى حاجته منها، ثم خرج، فقال: "إن المرأة تقبل في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم امرأةً،
فأعجبته، فليأت أهله، فإن ذلك يَرُدّ ما في نفسه". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3410]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْن شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، قَالَ: قَالَ جَابِرٌ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا أَحَدُكُمْ أَعْجَبَتْهُ الْمَرْأَةُ، فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ، فَلْيَعْمِدْ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَلْيُوَاقِعْهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ) الْمِسْمعيّ النيسابوريّ، نزيل مكة، ثقةٌ، من كبار [11] مات سنة بضع (240)(م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 60.
2 -
(الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ) هو: الحسن بن محمد بن أعين، نُسب لجدّه، أبو عليّ الحرّانيّ، صدوقٌ [9](210)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
3 -
(مَعْقِلُ) بن عبيد الله الْجَزَريّ، أبو عبد الله الْعَبْسيّ مولاهم، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 166)(م د س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (أَعْجَبَتْهُ) أي: استحسنها؛ لأن غاية رؤية المتعجَّب منه تعظيمه، واستحسانه، قاله الطيبيّ رحمه الله
(1)
.
والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 7/ 2270.
(3) - (بَابُ نِكَاحٍ الْمُتْعَةِ، وَبَيَانِ أَنَّهُ أُبِيحَ، ثُمَّ نُسِخَ، ثُمَّ أُبِيحَ، ثُمَّ نُسِخَ، وَاسْتَقَرَّ تَحْرِيمُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)
(اعلم): أن "الْمُتْعَةَ"- بضمّ الميم، وسكون المثناة الفوقانيّة -: هي النكاح إلى أجل معيّن، وهو من التمتّع بالشيء، وهو الانتفاع به، يقال: تمتّعتُ به أَتَمَتَّعُ تمتّعًا، والاسم الْمُتْعة، كأنه يَنتَفِع بها إلى أمد معلوم. وقد كان مباحًا في أول الإسلام، ثم حرّم، وهو الآن جائزٌ عند الشيعة. قاله ابن الأثير رحمه الله
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: نكاح المتعة: هو المؤقّت في العقد، وقال في العُبَاب: كان الرجل يُشارط المرأة شرطًا على شيء إلى أجل معلوم، ويُعطيها ذلك، فيستحلّ بذلك فرجها، ثم يُخلي سبيلها من غير تزويج، ولا طلاق. انتهى
(2)
.
وقال ابن منظور رحمه الله: والمتعة: التمتّع بالمرأة، لا تريد إدامتها لنفسك، ومتعة التزويج بمكة منه.
وأما قول الله تعالى في "سورة النساء" بعقب ما حُرّم من النساء، فقال:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24] أي: عاقدي النكاح الحلال، غير زُناة {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24]، فإن الزّجّاج ذكر أن هذه الآية غلِطَ فيها قومٌ غَلَطًا عظيمًا لجهلهم باللغة، وذلك أنهم ذهبوا إلى قوله:{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} [النساء: 24] من المتعة التي قد أَجْمَع أهل العلم أنها حرامٌ، وإنما معنى {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} [النساء: 24]، فما نكحتم منهنّ على الشريطة التي جرى في الآية أنه الإحصان أن تبتغوا بأموالكم محصنين؛ أي: عاقدين التزوبج؛ أي: فما استمتعتم به منهنّ على عقد التزويج الذي جرى ذكره، فآتوهنّ أُجورهنّ فريضةً؛ أي: مهورهنّ، فإن استمتع بالدخول بها، آتى المهر تامًّا، وإن استمتع بعقد النكاح آتى نصف المهر.
(1)
"النهاية" 2/ 470
(2)
"المصباح المنير" 2/ 562.
قال الأزهريّ: المتاع في اللغة كلُّ ما انتُفِعَ به، فهو متاعٌ، وقوله تعالى:{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] ليس بمعنى زوّدوهنّ الْمُتَعَ، إنما معناه: أعطوهنّ ما يَستمتعن به، وكذلك قوله:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241] قال: ومن زعم أن قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} التي هي الشرط في التمتّع الذي يفعله الرافضة، فقد أخطأ خطأً عظيمًا؛ لأن الآية واضحةٌ بيّنةٌ.
قال: فإن احتجّ محتجّ من الروافض بما يُرْوَى عن ابن عباس أنه كان يراها حلالًا، وأنه كان يقرؤها:"فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمًّى"، فالثابت عندنا أن ابن عبّاس كان يراها حلالًا، ثم لما وقف على نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم رجع عن إحلالها. انتهى المقصود من كلام ابن منظور رحمه الله
(1)
.
وترجم الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة أخيرًا".
قال في "الفتح": يعني تزويج المرأة إلى أجل، فإذا انقضى وقعت الفرقة، وقوله في الترجمة:"أخيرًا" يُفهم منه أنه كان مباحًا، وأن النهي عنه وقع في آخر الأمر، وليس في أحاديث الباب التي أوردها التصريح بذلك، لكن قال في آخر الباب:"أن عليًّا بيّن أنه منسوخ، وقد وردت عدّة أحاديث صحيحة صريحة بالنهي عنها بعد الإذن فيها، وأقرب ما فيها عهدًا بالوفاة النبويّة ما أخرجه أبو داود من طريق الزهريّ، قال: "كنّا عند عمر بن عبد العزيز، فتذاكرنا متعة النساء، فقال رجلٌ يقال له ربيع بن سبرة: أشهد على أبي أنه حدّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عنها في حجة الوداع". انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3411]
(1404) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ الْهَمْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، وَوَكِيعٌ، وَابْنُ بِشْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ يَقُولُ:
(1)
"لسان العرب" 8/ 329 - 330.
(2)
"الفتح" 11/ 417.
كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ، فَقُلْنَا: أَلَا نَسْتَخْصِي؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ رَخَّصَ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ إِلَى أَجَلٍ، ئُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللهِ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)} [المائدة: 87]).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ الْهَمْدَانِيُّ) أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
2 -
(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
3 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قبل باب.
4 -
(ابْنُ بِشْرٍ) هو: محمد بن بشر بن الْعَبديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.
5 -
(إِسْمَاعِيلَ) بن أبي خالد البجليّ الأحمسيّ مولاهم، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 299.
6 -
(قَيْسُ) بن أبي حازم البجليّ، أبو عبد الله الكوفيّ، مخضرمٌ ثقةٌ [2] مات بعد التسعين، أو قبلها، وقد جاوز المائة، وتغيّر (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 475.
7 -
(عَبْدُ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه، تقدّم قبل باب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين من أوله إلى آخره.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ مخضرم.
5 -
(ومنها): أن قيسًا هذا اجتمع له الرواية عن العشرة المبشّرين بالجنة كلِّهم على الصحيح، ولا يوجد في التابعين له نظير، فتنبّه.
6 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، وقد مضى الكلام فيه قريبًا.
شرح الحديث:
(عَنْ قَيْسِ) بن أبي حازم، مخضرمٌ، قَدِمَ المدينة بعدما قُبِض النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ يَقُولُ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ، فَقُلْنَا: أَلَا نَسْتَخْصِي) أي: نَخْصِي أنفسنا، ونستغني عن النساء، والاسم الْخِصَاء ممدودًا، وهو سَلُّ الأنثيين، وإخراجهما، وقال الكسائيّ: الْخِصْيتان البيضتان، والْخِصْيان الجلدتان عليهما، قاله في "المشارق"
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "ألا نستخصي"؛ أي: ألا نستدعي من يَفعل بنا الْخِصاء، أو نعالج ذلك بأنفسنا. انتهى
(2)
.
(فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ) أي: عن الاستخصاء، فدلّ على أنه حرام في الآدميّ صغيرًا كان أو كبيرًا؛ لأن فيه تغيير خلق الله تعالى، ولما فيه من قطع النسل، وتعذيب الحيوان، قال البغويّ: وكذا كل حيوان لا يؤكل، وأما المأكول فيجوز في صغره، ويحرُم في كبره. انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح": قوله: "فنهانا عن ذلك": هو نهي تحريم بلا خلاف في بني آدم؛ لما فيه من المفاسد، من تعذيب النفس، والتشويه، مع إدخال الضرر الذي قد يُفضي إلى الهلاك، وفيه إبطال معنى الرجولية، وتغيير خلق الله، وكفر النعمة؛ لأن خلق الشخص رجلًا من النعم العظيمة، فإذا أزال ذلك فقد تشبّه بالمرأة، واختار النقص على الكمال.
قال القرطبيّ رحمه الله: الخصاء في غير بني آدم ممنوع في الحيوان إلا لمنفعة حاصلة في ذلك، كتطييب اللحم، أو قطع ضرر عنه.
وقال النوويّ: يَحْرُم خصاء الحيوان غير المأكول مطلقًا، وأما المأكول فيجوز في صغيره دون كبيره، وما أظنه يدفع ما ذكره القرطبيّ من إباحة ذلك
(1)
"مشارق الأنوار" 1/ 243.
(2)
"الفتح" 11/ 338.
(3)
راجع: "عمدة القاري" 20/ 71.
في الحيوان الكبير عند إزالة الضرر. انتهى
(1)
.
(ثُمَّ رَخَّصَ لَنَا) وفي رواية للبخاريّ في "التفسير": "ثم رخّص لنا بعد ذلك"(أَنْ نَنْكِحَ) بكسر الكاف، من باب ضرب (الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ) أي: بالثوب، وغيره مما نتراضى به، وفي حديث جابر رضي الله عنه الآتي:"كنّا نستمتع بالقُبْضة من التمر، والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. . ."(إِلَى أَجَلٍ) أي: إلى وقت محدّد (ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه مستدلّا على تحريم الخصاء ({يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)}) قال في "الفتح": وظاهر استشهاد ابن مسعود رضي الله عنه بهذه الآية هنا يُشْعِر بأنه كان يرى بجواز المتعة، فقال القرطبيّ: لعله لم يكن حينئذ بَلَغَه الناسخ، ثم بلغه، فرجع بعدُ.
قال الحافظ: يؤيده ما ذكره الإسماعيليّ أنه وقع في رواية أبي معاوية، عن إسماعيل بن أبي خالد:"ففعله، ثم ترك ذلك"، قال: وفي رواية لابن عيينة، عن إسماعيل: ثم جاء تحريمها بعدُ، وفي رواية معمر، عن إسماعيل:"ثم نُسِخَ". انتهى
(2)
.
وقال الإمام ابن القيّم رحمه الله: وقراءة عبد الله هذه الآية عقيب هذا الحديث يَحْتَمِل أمرين:
أحدهما: الردّ على من يُحَرِّمها، وأنها لو لم تكن من الطيبات لما أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أن يكون أراد آخر هذه الآية، وهو الردّ على من أباحها مطلقًا، وأنه مُعْتَدٍ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما رَخَّصَ فيها للضرورة، وعند الحاجة في الغزو، وعند عدم النساء، وشدّة الحاجة إلى المرأة، فمن رَخَّص فيها في الحضر مع كثرة النساء، وإمكان النكاح المعتاد، فقد اعتدى، والله لا يحب المعتدين
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الأول أقرب؛ لما تقدّم في التحقيق
(1)
"الفتح" 11/ 338 - 339.
(2)
"الفتح" 11/ 339.
(3)
"زاد المعاد" 3/ 462.
الذي قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 3411 و 3412 و 3413](1404)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4615) و"النكاح"(5071 و 5075)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 336)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 292) و"مسنده"(1/ 143)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 385 و 420 و 432 و 450)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4141)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 24)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 10 و 33)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 66 - 67)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 260)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 79 و 200 و 201)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان إباحة نكاح المتعة، إلا أنه نُسخ بعدُ.
2 -
(منها): بيان جواز النسخ في الشريعة الإسلاميّة، ووقوعه، وهو مجمع عليه بين المسلمين.
3 -
(ومنها): بيان أن بعض كبار الصحابة رضي الله عنهم يخفى عليهم ما نُسخ من الأحكام؛ فإن ابن مسعود رضي الله عنه مع جلاله لم يبلغه نسخ نكاح المتعة، ولذا استدلّ بالآية على جوازه.
4 -
(ومنها): ما قاله ابن حبّان رحمه الله: الدليلُ على أن المتعة كانت محظورة قبل أن أبيح لهم الاستمتاع قولهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم: ألا نستخصي عند عدم النساء؟ ولو لم تكن محظورة لم يكن لسؤالهم عن هذا معنى. انتهى
(1)
.
5 -
(ومنها): قال القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث، وأكثر أحاديث هذا
(1)
"صحيح ابن حبان" 9/ 448.
الباب تدلّ على أن نكاح المتعة، إنما أُبيح في السفر لحال الضرورة، في مدة قصيرة، كما قال ابن أبي عمرة: إنها كانت رخصة في أول الإسلام، لمن اضطر إليها؛ كالميتة، والدّم، ولحم الخنزير
(1)
، وسيأتي بيان اختلاف الروايات في ذلك في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في بيان اختلاف الروايات في نكاح المتعة، وأقوال أهل العلم فيها:
قال النوويّ رحمه الله: (اعلم): أن القاضي عياضًا رحمه الله بسط شرح هذا الباب بسطًا بليغًا، وأتى فيه بأشياء نفيسة، وأشياء يُخالَف فيها، فالوجه أن ننقل ما ذكره مختصرًا، ثم نذكر ما يُنكَر عليه، ويُخالَف فيه، وننبه على المختار، قال المازريّ: ثبت أن نكاح المتعة كان جائزًا في أول الإسلام، ثم ثبت بالأحاديث الصحيحة المذكورة هنا أنه نُسِخ، وانعقد الإجماع على تحريمه، ولم يخالف فيه إلا طائفة من المبتدعة، وتعلقوا بالأحاديث الواردة في ذلك، وقد ذكرنا أنها منسوخة، فلا دلالة لهم فيها، وتعلقوا بقوله تعالى:{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ، وفي قراءة ابن مسعود:"فما استمتعتم به منهن إلى أجل"، وقراءة ابن مسعود هذه شاذّةٌ، لا يحتج بها قرآنًا، ولا خبرًا، ولا يلزم العمل بها، قال: وقال زفر: من نكح نكاح متعة تأبد نكاحه، وكأنه جعل ذكر التأجيل من باب الشروط الفاسدة في النكاح، فإنها تُلْغَى، ويصح النكاح.
قال المازريّ رحمه الله: واختلفت الرواية في "صحيح مسلم" في النهي عن المتعة، ففيه أنه صلى الله عليه وسلم نَهَى عنها يوم خيبر، وفيه أنه نَهَى عنها يوم فتح مكة، فإن تعلق بهذا من أجاز نكاح المتعة، وزعم أن الأحاديث تعارضت، وأن هذا الاختلاف قادح فيها، قلنا: هذا الزعم خطأ، وليس هذا تناقضًا؛ لأنه يصح أن يُنْهَى عنه في زمن، ثم ينهى عنه في زمن آخر؛ توكيدًا، أو ليشتهر النهي، ويسمعه من لم يكن سمعه أوّلًا، فسمع بعض الرواة النهي في زمن، وسمعه
(1)
"المفهم" 4/ 92.
آخرون في زمن آخر، فنَقَل كل منهم ما سمعه، وأضافه إلى زمان سماعه. انتهى كلام المازريّ رحمه الله.
قال القاضي عياض رحمه الله: رَوَى حديث إباحة المتعة جماعة من الصحابة، فذكره مسلم من رواية ابن مسعود، وابن عباس، وجابر، وسلمة بن الأكوع، وسَبْرة بن مَعْبَد الْجُهَنيّ، وليس في هذه الأحاديث كلِّها أنها كانت في الحضر، وإنما كانت في أسفارهم في الغزو عند ضرورتهم، وعدم النساء، مع أن بلادهم حارّة، وصبرهم عنهنّ قليل، وقد ذكر في حديث ابن أبي عمر أنها كانت رخصةً في أول الإسلام لمن اضطَرَّ إليها؛ كالميتة، ونحوها، وعن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه، وذكر مسلم عن سلمة بن الأكوع إباحتها يوم أوطاس، ومن رواية سَبْرة إباحتها يوم الفتح، وهما واحد، ثم حُرِّمت يومئذ، وفي حديث عليّ رضي الله عنه تحريمها يوم خيبر، وهو قبل الفتح، وذكر غير مسلم عن عليّ رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عنها في غزوة تبوك، من رواية إسحاق بن راشد، عن الزهريّ، عن عبد الله بن محمد بن عليّ، عن أبيه، عن عليّ رضي الله عنه، ولم يتابعه أحد على هذا، وهو غلط منه.
وهذا الحديث رواه مالك في "الموطأ"، وسفيان بن عيينة، والعمريّ، ويونس، وغيرهم، عن الزهريّ، وفيه: يوم خيبر، وكذا ذكره مسلم عن جماعة عن الزهريّ، وهذا هو الصحيح، وقد روى أبو داود من حديث الربيع بن سبرة، عن أبيه النهي عنها في حجة الوداع، قال أبو داود: وهذا أصح ما رُوي في ذلك.
وقد رُوي عن سبرة أيضًا إباحتها في حجة الوداع، ثم نَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم عنها حينئذ إلى يوم القيامة.
ورُوي عن الحسن البصريّ أنها ما حَلّت قط إلا في عمرة القضاء، ورُوي هذا عن سبرة الجهنيّ أيضًا، ولم يذكر مسلم في روايات حديث سبرة تعيين وقت إلا في رواية أحمد بن سعيد الدارميّ، ورواية إسحاق بن إبراهيم، ورواية يحيى بن يحيى، فإنه ذكر فيها يوم فتح مكة، قالوا: وذكر الرواية بإباحتها يوم حجة الوداع خطأ؛ لأنه لم يكن يومئذ ضرورة، ولا عزوبة، وأكثرهم حجّوا بنسائهم، والصحيح أن الذي جرى في حجة الوداع مجرد النهي، كما جاء في
غير رواية، ويكون تجديده صلى الله عليه وسلم النهي عنها يومئذ لاجتماع الناس، وليبلغ الشاهد الغائب، ولتمام الدين، وتقرُّر الشريعة، كما قَرّر غير شيء، وبَيَّنَ الحلال والحرام يومئذ، وبَتَّ تحريم المتعة حينئذ؛ لقوله:"إلى يوم القيامة".
قال القاضي: ويَحْتَمِل ما جاء من تحريم المتعة يوم خيبر، وفي عمرة القضاء، ويوم الفتح، ويوم أوطاس؛ أنه جَدَّد النهي عنها في هذه المواطن؛ لأن حديث تحريمها يوم خيبر صحيح، لا مطعن فيه، بل هو ثابت من رواية الثقات الأثبات، لكن في رواية سفيان أنه نهى عن المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، فقال بعضهم: هذا الكلام فيه انفصال، ومعناه أنه حرّم المتعة، ولم يبيّن زمن تحريمها، ثم قال: ولحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، فيكون يوم خيبر لتحريم الحمر خاصّة، ولم يبيّن وقت تحريم المتعة؛ ليُجمع بين الروايات، قال هذا القائل: وهذا هو الأشبه أن تحريم المتعة كان بمكة، وأما لحوم الحمر فبخيبر بلا شكّ، قال القاضي: وهذا أحسن لو ساعده سائر الروايات عن غير سفيان، قال: والأولى ما قلناه: إنه قَرَّر التحريم، لكن يبقى بعد هذا ما جاء من ذكر إباحته في عمرة القضاء، ويوم الفتح، ويوم أوطاس، فَتُحْتَمل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أباحها لهم للضرورة بعد التحريم، ثم حرّمها تحريمًا مؤبدًا، فيكون حرّمها يوم خيبر، وفي عمرة القضاء، ثم أباحها يوم الفتح للضرورة، ثم حرّمها يوم الفتح أيضًا تحريمًا مؤبدًا، وتسقط رواية إباحتها يوم حجة الوداع؛ لأنها مروية عن سبرة الجهنيّ، وإنما روى الثقات الأثبات عنه الإباحة يوم فتح مكة، والذي في حجة الوداع إنما هو التحريم، فيؤخذ من حديثه ما اتفق عليه جمهور الرواة، ووافقه عليه غيره من الصحابة رضي الله عنهم من النهي عنها يوم الفتح، ويكون تحريمها يوم حجة الوداع تأكيدًا وإشاعةً له، كما سبق، وأما قول الحسن: إنما كانت في عمرة القضاء، لا قبلها، ولا بعدها، فتردّه الأحاديث الثابتة في تحريمها يوم خيبر، وهي قبل عمرة القضاء، وما جاء من إباحتها يوم فتح مكة، ويوم أوطاس، مع أن الرواية بهذا إنما جاءت عن سبرة الجهنيّ، وهو راوي الروايات الأُخَر، وهي أصح، فيُترك ما خالف الصحيح.
وقد قال بعضهم: هذا مما تداوله التحريم، والإباحة، والنسخ مرتين، والله أعلم. انتهى كلام القاضي رحمه الله.
قال النوويّ رحمه الله: والصواب المختار أن التحريم والإباحة كانا مرتين، وكانت حلالًا قبل خيبر، ثم حُرِّمت يوم خيبر، ثم أبيحت يوم فتح مكة، وهو يوم أوطاس؛ لاتصالهما، ثم حُرِّمت يومئذ بعد ثلاثة أيام تحريمًا مؤبدًا إلى يوم القيامة، واستمرَّ التحريم، ولا يجوز أن يقال: إن الإباحة مختصة بما قبل خيبر، والتحريم يوم خيبر للتأبيد، وأن الذي كان يوم الفتح مجرد توكيد التحريم من غير تقدم إباحة يوم الفتح، كما اختاره المازريّ والقاضي؛ لأن الروايات التي ذكرها مسلم في الإباحة يوم الفتح صريحة في ذلك، فلا يجوز إسقاطها، ولا مانع يمنع تكرير الإباحة، والله أعلم.
قال القاضي: واتَّفَقَ العلماء على أن هذه المتعة كانت نكاحًا إلى أجل، لا ميراث فيها، وفراقها يحصل بانقضاء الأجل من غير طلاق، ووقع الإجماع بعد ذلك على تحريمها من جميع العلماء، إلا الروافض، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول بإباحتها، ورُوي عنه أنه رجع عنه، قال: وأجمعوا على أنه متى وقع نكاح المتعة الآن حُكم ببطلانه، سواء كان قبل الدخول أو بعده، إلا ما سبق عن زفر، واختَلَف أصحاب مالك، هل يُحَدّ الواطئ فيه؟ ومذهبنا أنه لا يحدّ؛ لشبهة العقد، وشبهة الخلاف، ومأخذ الخلاف اختلاف الأصوليين في أن الإجماع بعد الخلاف، هل يرفع الخلاف، ويُصَيِّر المسألة مجمعًا عليها؟ والأصح عند أصحابنا أنه لا يرفعه، بل يدوم الخلاف، ولا تصير المسألة بعد ذلك مجمعًا عليها أبدًا، وبه قال القاضي أبو بكر الباقلانيّ.
قال القاضي: وأجمعوا على أن من نكح نكاحًا مطلقًا، ونيّته أن لا يمكث معها إلا مدة نواها، فنكاحه صحيح، حلال، وليس نكاحَ متعة، وإنما نكاح المتعة ما وقع بالشرط المذكور، ولكن قال مالك: ليس هذا من أخلاق الناس، وشذَّ الأوزاعيّ، فقال: هو نكاح متعة، ولا خير فيه، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قال السهيليّ: وقد اختُلِف في وقت تحريم نكاح المتعة، فأغرب ما رُوي في ذلك رواية من قال في غزوة تبوك، ثم رواية
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 179 - 182.
الحسن أن ذلك كان في عمرة القضاء، والمشهور في تحريمها أن ذلك كان في غزوة الفتح، كما أخرجه مسلم من حديث الربيع بن سَبْرة، عن أبيه، وفي رواية عن الربيع أخرجها أبو داود أنه كان في حجة الوداع، قال: ومن قال من الرواة: كان في غزوة أوطاس فهو موافق لمن قال عام الفتح. انتهى.
فتحصَّل مما أشار إليه ستة مواطن: خيبر، ثم عمرة القضاء، ثم الفتح، ثم أوطاس، ثم تبوك، ثم حجة الوداع.
وبقي عليه حُنين؛ لأنها وقعت في روايةٍ، فأما أن يكون ذَهِلَ عنها، أو تركها عمدًا لخطأ رواتها، أو لكون غزوة أوطاس وحنين واحدةً.
فأما رواية تبوك فأخرجها إسحاق ابن راهويه، وابن حبان من طريقه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا نزل بثنيّة الوداع رأى مصابيح، وسمع نساء يبكين، فقال: ما هذا؟ فقالوا: يا رسول الله نساء كانوا تمتعوا منهنّ، فقال:"هَدَمَ المتعةَ النكاح، والطلاق، والميراث"، وأخرجه الحازميّ من حديث جابر، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك، حتى إذا كنا عند العقبة مما يلي الشام، جاءت نسوة قد كنا تمتعنا بهنّ يطفن برحالنا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرنا ذلك له، قال: فغضب، وقام خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه، ونَهَى عن المتعة، فتوادعنا يومئذ، فسُمِّيت ثنيّة الوداع.
وأما رواية الحسن، وهو البصريّ، فأخرجها عبد الرزاق، من طريقه، وزاد: ما كانتا قبلها ولا بعدها، وهذه الزيادة منكرة من راويها عمرو بن عُبيد، وهو ساقط الحديث.
وقد أخرجه سعيد بن منصور، من طريق صحيحة، عن الحسن بدون هذه الزيادة.
وأما غزوة الفتح، فثبتت في "صحيح مسلم"، كما قال، وأما أوطاس، فثبتت في مسلم أيضًا من حديث سلمة بن الأكوع، وأما حجة الوداع، فوقع عند أبي داود من حديث الربيع بن سبرة، عن أبيه.
وأما قوله: لا مخالفة بين أوطاس والفتح، ففيه نظرٌ؛ لأن الفتح كان في رمضان، ثم خرجوا إلى أوطاس في شوال، وفي سياق مسلم أنهم لم يخرجوا من مكة حتى حرّمت، ولفظه: أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتح، فأَذِن لنا في
متعة النساء، فخرجت أنا ورجل من قومي، فذكر قصة المرأة إلى أن قال: ثم استمتعت منها، فلم أخرج حتى حَرَّمها، وفي لفظ له: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمًا بين الركن والباب، وهو يقول بمثل حديث ابن نُمير، وكان تقدم في حديث ابن نمير أنه قال:"يا أيها الناس إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرَّم ذلك إلى يوم القيامة"، وفي رواية: أَمَرَنا بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكة، ثم لم نخرج حتى نهانا عنها، وفي رواية له: أمر أصحابه بالتمتع من النساء، فذكر القصة، قال: فكُنّ معنا ثلاثًا، ثم أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقهنّ، وفي لفظ: فقال: "إنها حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة".
فأما أوطاس، فلفظ مسلم: رَخَّص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثًا، ثم نَهَى عنها، وظاهر الحديثين المغايرة، لكن يَحْتَمِل أن يكون أطلق على عام الفتح عام أوطاس لتقاربهما، ولو وقع في سياقه أنهم تمتعوا من النساء في غزوة أوطاس، لَمَا حَسُنَ هذا الجمع، نعم ويبعد أن يقع الإذن في غزوة أوطاس بعد أن يقع التصريح قبلها في غزوة الفتح بأنها حُرِّمت إلى يوم القيامة.
وإذا تقرر ذلك فلا يصح من الروايات شيء بغير علّة إلا غزوة الفتح، وأما غزوة خيبر، وإن كانت طرق الحديث فيها صحيحة، ففيها من كلام أهل العلم ما تقدَّم، وأما عمرة القضاء، فلا يصح الأثر فيها؛ لكونه من مرسل الحسن، ومراسيله ضعيفة؛ لأنه كان يأخذ عن كلِّ أحدٍ، وعلى تقدير ثبوته، فلعله أراد أيام خيبر؛ لأنهما كانا في سنة واحدة، كما في الفتح وأوطاس سواءً.
وأما قصة تبوك، فليس في حديث أبي هريرة التصريح بأنهم استمتعوا منهنّ في تلك الحالة، فَيَحْتَمِل أن يكون ذلك وقع قديمًا، ثم وقع التوديع منهنّ حينئذ، والنهيُ، أو كان النهي وقع قديمًا فلم يبلغ بعضهم، فاستمرّ على الرخصة، فلذلك قَرَن النهي بالغضب؛ لتقدُّم النهي في ذلك، على أن في حديث أبي هريرة مقالًا، فإنه من رواية مؤمل بن إسماعيل، عن عكرمة بن عمار، وفي كلٍّ منهما مقال.
وأما حديث جابر فلا يصحّ، فإنه من طريق عباد بن كثير، وهو متروك.
وأما حجة الوداع، فهو اختلاف على الربيع بن سَبْرة، والرواية عنه بأنها في الفتح أصحّ وأشهر، فإن كان حَفِظَه فليس في سياق أبي داود سوى مجرد النهي، فلعله صلى الله عليه وسلم أراد إعادة النهي؛ لِيَشِيع، ويسمعه من لم يسمعه قبل ذلك، فلم يبق من المَواطِن كما قلنا صحيحًا صريحًا سوى غزوة خيبر، وغزوة الفتح، وفي غزوة خيبر من كلام أهل العلم ما تقدّم.
وزاد ابن القيِّم في "الهدي" أن الصحابة لم يكونوا يستمتعون باليهوديات، يعني فيقوى أن النهي لم يقع يوم خيبر، أو لم يقع هناك نكاح متعة.
قال الحافظ: لكن يمكن أن يجاب بأن يهود خيبر كانوا يصاهرون الأوس والخزرج قبل الإسلام، فيجوز أن يكون هناك من نسائهم من وقع التمتع بهنّ، فلا ينهض الاستدلال بما قال.
وقال الماورديّ في "الحاوي": في تعيين موضع تحريم المتعة وجهان:
أحدهما أن التحريم تكرر؛ ليكون أظهر، وأنشر حتى يعلَمه من لم يكن علِمه؛ لأنه قد يحضر في بعض المَواطن من لا يحضر في غيرها.
والثاني: أنها أبيحت مرارًا، ولهذا قال في المرة الأخيرة: إلى يوم القيامة؛ إشارةً إلى أن التحريم الماضي كان مُؤْذنًا بأن الإباحة تعقبه، بخلاف هذا، فإنه تحريم مؤبّدٌ لا تعقبه إباحة أصلًا، وهذا الثاني هو المعتمد، ويردُّ الأول التصريح بالإذن فيها في الموطن المتأخر عن الموطن الذي وقع التصريح فيه بتحريمها، كما في غزوة خيبر، ثم الفتح.
وقال النوويّ: الصواب أن تحريمها وإباحتها وقعا مرتين، فكانت مباحة قبل خيبر، ثم حرّمت فيها، ثم أُبيحت عام الفتح، وهو عام أوطاس، ثم حُرِّمت تحريمًا مؤبدًا، قال: ولا مانع من تكرير الإباحة.
ونقل غيره عن الشافعيّ أن المتعة نُسخت مرتين.
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا بيان سبب الإذن في نكاح المتعة، وإنهم كانوا إذا غزوا اشتدت عليهم العزبة، فأَذِن لهم في الاستمتاع، قال الحافظ: فلعل النهي كان يتكرر في كل موطن بعد الإذن، فلما وقع في المرة
الأخيرة أنها حُرِّمت إلى يوم القيامة لم يقع بعد ذلك إذن، والله أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من البحث الطويل أن الصحيح أن نكاح المتعة مما تكرّر نسخه، فأبيح في خيبر، ثم حُرِّمت فيها، ثم أُبيح عام الفتح، وهو عام أوطاس، ثم حُرِّمت تحريمًا مؤبدًا، وهذا جمع حسنٌ، تتفق به الروايات المختلفة في هذا الباب، ويزول اضطرابها، فتأمله حقّ التأمّل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم نكاح المتعة:
قال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله: قال أبو بكر الطرطوشيّ: ولم يرخّص في نكاح المتعة إلا عمران بن حُصين، وابن عبّاس، وبعض الصحابة، وطائفة من أهل البيت، وفي قول ابن عباس يقول الشاعر [من الطويل]:
أَقُولُ لِلرَّكْبِ إِذْ طَالَ الثَّوَاءُ
(2)
بِنَا
…
يَا صَاحِ هَلْ لَكَ فِي فُتْيَا ابْنِ عَبّاسِ
فِي بَضَّةٍ رَخْصَةِ الأَطْرَافِ نَاعِمَةٍ
…
تَكُونُ مَثْوَاكَ حَتَّى مَرْجِعِ النَّاسِ
وسائر العلماء، والفقهاء، من الصحابة والتابعين، والسلف الصالحين على أن هذه الآية منسوخةٌ
(3)
، وأن المتعة حرام. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(4)
.
وقال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله في كتابه "الاستذكار": وأما الصحابة رضي الله عنهم، فإن الأكثر منهم على النهي عنها، وتحريمها، قال: وأصحاب ابن عبّاس من أهل مكة، واليمن كلهم يرون المتعة حلالًا على مذهب ابن عبّاس، وحرّمها سائر الناس، قال معمر: قال الزهريّ: ازداد الناس لها مقتًا حين قال الشاعر:
(1)
"الفتح" 11/ 420 - 423.
(2)
"الثواء": الإقامة.
(3)
يعني قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} الآية، وقد تقدّم الخلاف، هل هي منسوخة، أم ليست بمنسوخة، ولكن معناها: ما استمتعتم به منهن بنكاح صحيح، وليست المتعة المعروفة، فلا تدلّ الآية عليها؟ وهذا هو الصحيح في معنى الآية، كما تقدّم تحقيقه، فتنبّه لذلك.
(4)
"الجامع لأحكام القرآن" 5/ 133.
يَا صَاحِ هَلْ لَكَ فِي فُتْيَا ابْنِ عَبّاسِ.
قال ابن عبد البرّ: هما بيتان:
قَالَ الْمُحَدِّثُ لَمَّا طَالَ مَجْلِسُهُ
…
يَا صَاحِ هَلْ لَكَ فِي فُتْيَا ابْنِ عَبّاسِ
فِي بَضَّةٍ رَخْصَةِ الأَطْرَافِ آنِسَةٍ
(1)
…
تَكُونُ مَثْوَاكَ حَتَّى مَرْجِعِ النَّاسِ
وروى الليث بن سعد، عن بكير بن الأشجّ، عن عمار مولى الشَّرِيد، قال: سألت ابن عبّاس عن المتعة، أسِفاح هي، أم نكاح؟ قال: لا سِفاحٌ هي، ولا نكاح، قلت: فما هي؟ قال: المتعة، كما قال الله تعالى، قلت: هل عليها عدّةٌ؟ قال: نعم حيضةٌ، قلت: يتوارثان؟ قال: لا.
قال أبو عمر: اتفق أئمّةُ علماء الأمصار، من أهل الرأي والآثار، منهم: مالك، وأصحابه من أهل المدينة، وسفيان، وأبو حنيفة من أهل الكوفة، والشافعيّ، ومن سلك سبيله من أهل الحديث والفقه والنظر، والليث بن سعد من أهل مصر، والمغرب، والأوزاعيّ في أهل الشام، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عُبيد، وداود، والطبريّ على تحريم نكاح المتعة لصحّة نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهم عنها.
واختلفوا في معنًى منها، وهو الرجل يتزوّج المرأة عشرة أيام، أو شهرًا، أو أيامًا معلومات، وأجلًا معلومًا، فقال مالكٌ، والثوريّ، وأبو حنيفة، والشافعيّ، والأوزاعيّ: هذا نكاح المتعة، وهو باطلٌ، يُفسخ قبل الدخول، وبعده، وقال زفر: إن تزوّجها عشرة أيام، أو نحوها، أو شهرًا، فالنكاح ثابت، والشرط باطلٌ، وقالوا كلهم إلا الأوزاعي: إذا نكح المرأة نكاحًا صحيحًا، ولكنه نوى في حين عقده عليها ألا يمكث معها إلا شهرًا، أو مدّة معلومة، فإنه لا بأس به، ولا تضرّه في ذلك نيّته إذا لم يكن شرَط ذلك في نكاحه.
قال ابن عبد البرّ: في حديث ابن مسعود رضي الله عنه بيانُ أن المتعة نكاح إلى أجل، وهذا يقتضي الشرط الظاهر، وإذا سَلِم العقد منه صحّ، وبالله التوفيق.
(1)
"البضّة": بالفتح: المرأة الناعمة، سمراء كانت أو بيضاء، وقيل: هي اللَّحِيمةُ البيضاء، و"الرَّخْصَةُ": بفتح، فسكون: الشيء الناعم اللين، ورَخْصةُ الأطراف: أي ليّنتها.
انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله باختصار
(1)
.
وقال الحافظ في "الفتح": وقد اختلف السلف في نكاح المتعة، قال ابن المنذر: جاء عن الأوائل الرخصة فيها، ولا أعلم اليوم أحدًا يُجيزها إلا بعض الرافضة، ولا معنى لقولٍ يُخالف كتاب الله، وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقال عياضٌ: ثم وقع الإجماع من جميع العلماء على تحريمها إلا الروافض، وأما ابن عبّاس، فروي عنه أنه أباحها، وروي عنه أنه رجع عن ذلك، قال ابن بطّال: روى أهل مكّة واليمن عن ابن عبّاس إباحة المتعة، وروي عنه الرجوع بأسانيد ضعيفة، وإجازة المتعة عنه أصحّ، وهو مذهب الشيعة، قال: وأجمعوا على أنه متى وقع الآن أُبطل سواء كان قبل الدخول، أم بعده، إلا قول زُفر أنه جعلها كالشروط الفاسدة، ويردّه قوله صلى الله عليه وسلم:"فمن كان عنده منهنّ شيء، فليُخلّ سبيلها"، وهو حديث سبرة المذكور بعدُ في هذا الباب.
وقال الخطّابيّ: تحريم المتعة كالإجماع إلا عن بعض الشيعة، ولا يصحّ على قاعدتهم في الرجوع في المختلفات إلى عليّ، وآل بيته، فقد صحّ عن عليّ أنها نسخت.
ونقل البيهقيّ عن جعفر بن محمد أنه سُئل عن المتعة، فقال:"هي الزنا بعينه"، قال الخطّابيّ: ويُحكى عن ابن جُريج جوازها. اهـ.
وقد نقل أبو عوانة في "صحيحه" عن ابن جُريج أنه رجع عنها بعد أن روى بالبصرة في إباحتها ثمانية عشر حديثًا.
وقال ابن دقيق العيد: ما حكاه بعض الحنفيّة عن مالك من الجواز خطأٌ، فقد بالغ المالكيّة في منع النكاح المؤقّت حتى أبطلوا توقيت الحلّ بسببه، فقالوا: لو علّق على وقت لا بُدّ من مجيئه وقع الطلاق الآن؛ لأنه توقيت للحلّ، فيكون في معنى نكاح المتعة.
وقال عياض: وأجمعوا على أن شرط البطلان التصريح بالشرط، فلو نوى عند العقد أن يفارقها بعد مدّة صحّ نكاحه، إلا الأوزاعيّ، فأبطله.
(1)
"الاستذكار" 16/ 300 - 302.
واختلفوا هل يُحدّ ناكح المتعة، أو يُعزّر؟ على قولين، مأخذهما أن الاتفاق بعد الخلاف، هل يرفع الخلاف المتقدّم؟
وقال القرطبيّ: الروايات كلّها متّفقةٌ على أن زمن إباحة المتعة لم يطُل، وأنه حُرِّم، ثم أجمع السلف والخلف على تحريمها إلا من لا يُلتفت إليه من الروافض، وجزم جماعة من الأئمة بتفرّد ابن عبّاس بإباحتها، فهي من المسألة المشهورة، وهي نُدرة المخالف، ولكن قال ابن عبد البرّ: أصحاب ابن عبّاس من أهل مكة واليمن على إباحتها، ثم اتّفق فقهاء الأمصار على تحريمها.
وقال ابن حزم: ثبت على إباحتها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن مسعود، ومعاوية، وأبو سعيد، وابن عبّاس، وسلمة، ومعبد ابنا أُميّة بن خلف، وجابر، وعمرو بن حريث، ورواه جابر عن جميع الصحابة مدّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر إلى قرب آخر خلافة عمر، قال: ومن التابعين طاوس، وسعيد بن جُبير، وعطاء، وسائر فقهاء مكة.
قال الحافظ: وفي جميع ما أطلقه نظر:
أما ابن مسعود: فمستنده فيه هو الحديث المذكور هنا، وقد تقدّم بيان ما نقله الإسماعيليّ، من الزيادة فيه المصرّحة عنه بالتحريم، وقد أخرجه أبو عوانة من طريق أبي معاوية، عن إسماعيل بن أبي خالد، وفي آخره:"ففعلناها، ثم تُرك ذلك".
وأما معاوية: فأخرجه عبد الرزّاق من طريق صفوان بن يعلى بن أميّة: "أخبرني يعلى أن معاوية استمتع بامرأة بالطائف"، وإسناده صحيح، لكن في رواية أبى الزبير عن جابر عند عبد الرزّاق أيضًا أن ذلك كان قديمًا، ولفظه:"استمتع معاوية مَقْدَمه الطائف بمولاة لبني الحضرميّ، يقال لها: معانة، قال جابرٌ: ثم عاشت معانة إلى خلافة معاوية، فكان يرسل إليها بجائزة كلّ عام"، وقد كان معاوية متّبعًا لعمر، مقتديًا به، فلا يُشكّ أنه عمل بقوله بعد النهي، ومن ثَمّ قال الطحاويّ: خطب عمر، فنهى عن المتعة، ونقل ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يُنكر عليه ذلك منكر، وفي هذا دليلٌ على متابعتهم له على ما نهَى عنه.
وأما أبو سعيد: فأخرج عبد الرزّاق، عن ابن جُريج أن عطاءً قال:
أخبرني من شئتُ عن أبي سعيد، قال: لقد كان أحدنا يستمتع بملء القدح سَويقًا. وهذا - مع كونه ضعيفًا؛ للجهل بأحد رواته - ليس فيه التصريح بأنه كان بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وأما ابن عبّاس: فتقدّم النقل عنه، والاختلاف هل رجع، أو لا؟
وأما سلمة، ومعبد: فقصّتهما واحدةٌ، اختُلف فيها، هل وقعت لهذا، أو لهذا؟ فروى عبد الرزّاق بسند صحيح، عن عمرو بن دينار، عن طاوسٍ، عن ابن عبّاس، قال:"لم يَرُعْ عمر إلا أمّ أراكة، قد خرجت حُبلى، فسألها عمر، فقالت: استمتع بي سلمة بن أميّة"، وأخرج من طريق أبي الزبير، عن طاوس، فسمّاه معبد بن أُميّة.
وأما جابرٌ: فمستنده قوله: "فعلناها"، وقد تقدّم بيانه، ووقع في رواية أبي نضرة، عن جابر عند مسلم:"فنهانا عمر، فلم نفعله بعدُ"، فإن كان قوله:"فعلنا" يعمّ جميع الصحابة، فقوله:"ثم لم نعُد" يعمّ جميع الصحابة، فيكون إجماعًا، وقد ظهر أن مستنده الأحاديث الصحيحة التي بيّنّاها.
وأما عمرو بن حُريث
(1)
، وكذا قوله:"رواه جابرٌ عن جميع الصحابة"، فعجيبٌ، وإنما قال جابر:"فعلناها"، وذلك لا يقتضي تعميم جميع الصحابة، بل يصدُقُ على فعل نفسه وحده.
وأما ما ذكره عن التابعين، فهو عند عبد الرزّاق، عنهم بأسانيد صحيحة. وقد ثبت عن جابر عند مسلم:"فعلناها، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نهانا عمر، فلم نَعُد لها"، فهذا يردّ عدّه جابرًا فيمن ثبت على تحليلها. وقد اعترف ابن حزم مع ذلك بتحريمها؛ لثبوت قوله صلى الله عليه وسلم:"إنها حرامٌ إلى يوم القيامة"، قال: فأَمِنّا بهذا القولِ نسخَ التحريم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: كلام الحافظ رحمه الله هذا تحريرٌ نفيسٌ جدًّا.
وخلاصة القول في مسألة نكاح المتعة أخذًا مما سبق من الأحاديث، وأقوال الأئمة من السلف، والخلف أنه نكاحٌ باطلٌ، ولا يوجد الآن من يقول
(1)
هكذا نُسخ "الفتح"، والظاهر أن فيه سقطًا، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.
(2)
"الفتح" 11/ 427 - 429.
بجوازه، ممن ينتسب إلى أهل السنّة، والجماعة، وإنما يخالف فيها بعض الرافضة، ولا عبرة بخلافهم.
والحاصل أن نكاح المرأة بشرط أن تمكث معه مدّةً معيّنة، لا يصحّ، وأما من نكح امرأة نكاحًا صحيحًا، ونوى أن لا يمكث معها إلا مدّة نواها صحّ نكاحه، على ما عليه جلّ أهل العلم، خلافًا للأوزاعيّ، كما ذكره ابن قُدامة في "المغني"
(1)
، وهو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" قال: هذا ليس بنكاح متعة، ولا يحرم، وذلك أنه قاصدٌ للنكاح، وراغب فيه، ولكن لا يريد دوام المرأة معه، وهذا ليس بشرط، فإن دوام المرأة معه ليس بواجب، بل له أن يطلّقها، فإذا قصد أن يطلّقها بعد مدّة، فقد قصد أمرًا جائزًا، بخلاف نكاح المتعة، فإنه مثل الإجارة، تنقضي فيه بانقضاء المدّة، ولا ملك له عليها بعد انقضاء الأجل، وأما هذا فملكه ثابت مطلقٌ. انتهى
(2)
.
والحاصل أن صورة المتعة المحرّمة هو نكاحٌ إلى أجلٍ، ولا ميراث فيه، ولا طلاق، بل ينقضي بانقضاء الأجل من غير طلاق، ولا عدّةَ، فهذا نكاح متعة، حرّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمعوا على تحريمه، إلا الرافضة، وأما إذا نكح امرأةً نكاحًا صحيحًا، ولكن نوى أن يفارقها لمدة معيّنة شهرًا، أو نحو ذلك، فلا يسمّى متعةً، بل هو نكاحٌ صحيح، إلا عند الأوزاعيّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3412]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، مِثْلَهُ، وَقَالَ: ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا هَذِهِ الْآيَةَ، وَلَمْ يَقُلْ: قَرَأَ عَبْدُ اللهِ).
(1)
"المغني" 7/ 573.
(2)
راجع: "مجموع الفتاوى" 32/ 147.
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل باب، و"جريرٌ" هو: ابن عبد الحميد.
[تنبيه]: قال الأبيّ رحمه الله في "شرحه": إثبات "جرير" في هذا السند صحيح، وأما في العطف الثاني، وهو قوله: وحدّثني أبو بكر، عن وكيع، عن إسماعيل، وجرير بتأخير جرير، فإنما ثبت كذلك للعذريّ، وأبي سعيد، وابن أبي جعفر، وسقط جرير عند السمرقنديّ، وإثباته خطأ، وإنما جرير في حديث عثمان، كما تقدّم، ولعله كان مخرّجًا بعد وكيع، فغلِطَ، فخرّجه بعد إسماعيل. انتهى
(1)
.
[تنبيه آخر]: رواية جرير بن عبد الحميد، عن إسماعيل بن أبي خالد هذه ساقها البخاريّ في "صحيحه"، فقال:
(5075)
- حدّثنا قتيبة بن سعيد، حدّثنا جرير، عن إسماعيل، عن قيس، قال: قال عبد الله: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لنا شيء، فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رَخَّصَ لنا أن نَنْكِحَ المرأةَ بالثوب، ثم قرأ علينا:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)} [المائدة: 87]. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3413]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، قَالَ: كُنَّا وَنَحْنُ شَبَابٌ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، ألَا نَسْتَخْصِي، وَلَمْ يَقُلْ: نَغْزُو).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة أيضًا:
وذُكروا أيضًا في الباب، وقبل باب.
[تنبيه]: رواية وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد هذه ساقها ابن أبي شيبة في "مصنّفه" 3/ 552 فقال:
(1)
"شرح الأبيّ" 4/ 14 - 15.
(17079)
- حدّثنا وكيعٌ، قال: نا إسماعيل، عن قيس، عن عبد الله، قال: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونحن شَبَابٌ، قال: فقلنا: يا رسول الله ألا نستخصي؟ قال: "لا"، ثم رَخَّص لنا أن نَنكِح المرأة بالثوب إلى الأجل، ثم قرأ عبد الله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87]. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3414]
(1405) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدٍ، يُحَدِّثُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، قَالَا: خَرَجَ عَلَيْنَا مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَمْتِعُوا، يَعْنِي مُتْعَةَ النِّسَاءِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) الْعَبديّ المعروف ببُندار، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغُندر، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ صحيح الكتاب [9](ت 3 أو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج بن الورد الْعَتَكيّ مولاهم، أبو بِسطام الواسطيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ حافظٌ متقنٌ عابدٌ، أمير المؤمنين في الحديث، وأول من فتّش عن الرجال في العراق، وذبّ عن السنّة [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.
4 -
(عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ) الأثرم الْجُمَحيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.
5 -
(الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن عليّ بن أبي طالب الهاشميّ، أبو محمد المدنيّ المعروف أبوه بابن الحنفيّة، ثقةٌ فقيهٌ، يقال: إنه أول من تكلّم في الإرجاء [3](ت 100) أو قبلها بسنة (ع) تقدم في "الحيض" 10/ 749.
6 -
(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما تقدّم في الباب الماضي.
7 -
(سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ) هو: سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلميّ، أبو مسلم، أو أبو إياس الصحابيّ الشهير، شَهِد بيعة الرضوان، ومات رضي الله عنه بالمدينة سنة (64)(ع) تقدم في "الإيمان" 44/ 288.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، وعمرو مكيّ، والباقون مدنيون.
4 -
(ومنها): أنه مسلسل بالتحديث، والسماع، إلا في موضع، ففيه عنعنة.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، عن صحابيين.
شرح الحديث:
(عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ) الأثرم الجمحيّ مولاهم؛ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدٍ) بن عليّ بن أبي طالب (يُحَدِّثُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ) في رواية رَوْح بن القاسم تقديم سلمة على جابر، وقد أدركهما الحسن بن محمد جميعًا، لكن روايته عن جابر أشهر، قاله في "الفتح"
(1)
. (قَالَا: خَرَجَ عَلَيْنَا مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال الحافظ: لا يُعرف اسمه، ويَحْتَمل أن يكون بلالًا؛ لذِكره بمنادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية البخاريّ: "قالا: كنا في جيش
(2)
، فأتانا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم"، قال الحافظ: لم أقف على تعيين ذلك الجيش، لكن عند مسلم من طريق أبي الْعُمَيس، عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه، قال: رَخَّص رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثًا، ثم نَهَى عنها.
(1)
"الفتح" 11/ 425.
(2)
قال في "الفتح"(11/ 425): ضُبِطَ "جيش" في جميع الروايات بفتح الجيم، وسكون التحتانية، بعدها معجمة، وحَكَى الكرماني أن في بعض الروايات:"حُنين" بالمهملة، ونونين، باسم مكان الوقعة المشهورة، ولم أقف عليه. انتهى.
(فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَمْتِعُوا) زاد في رواية البخاريّ: "فاستمتعوا"، وضُبِط "فاستمتعوا" بفتح المثناة، وكسرها، بلفظ الأمر، وبلفظ الفعل الماضي.
(يَعْنِي مُتْعَةَ النِّسَاءِ) ويأتي حديث جابر رضي الله عنه من طُرُق أخرى منها: عن أبي نضرة، عن جابر؛ أنه سئل عن المتعة، فقال: فعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن طريق عطاء، عن جابر: استمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، ومن طريق ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير: سمعت جابرًا نحوه، وزاد:"حتى نَهَى عنها عمر في شأن عمرو بن حريث".
قال الإمام ابن القيّم رحمه الله: فإن قيل: فكيف تصنعون بما روى مسلم في "صحيحه" من حديث جابر وسلمة بن الأكوع رضي الله عنهما قالا: خرج علينا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أَذِنَ لكم أن تستمتعوا، يعني متعة النساء؟
قيل: هذا كان زمن الفتح قبل التحريم، ثم حَرَّمها بعد ذلك، بدليل ما رواه مسلم في "صحيحه" عن سلمة بن الأكوع، قال:"رَخَّصَ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثًا، ثم نَهَى عنها"، وعام أوطاس هو عام الفتح؛ لأن غزاة أوطاس مُتَّصِلة بفتح مكة.
قال: فإن قيل: فما تصنعون بما رواه مسلم في "صحيحه" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا نستمتع بالقُبْضَة من التمر، والدقيق، الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، حتى نَهَى عنها عمر في شأن عمرو بن حريث، وفيما ثبت عن عمر؛ أنه قال: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنهى عنهما: متعة النساء، ومتعة الحج؟
قيل: الناس في هذا طائفتان: طائفة تقول: إن عمر هو الذي حَرَّمها، ونَهَى عنها، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع ما سنّه الخلفاء الراشدون، ولم تَرَ هذه الطائفة تصحيح حديث سبرة بن معبد في تحريم المتعة عام الفتح، فإنه من رواية عبد الملك بن الربيع بن سبرة
(1)
، عن أبيه، عن جدّه، وقد تكلم فيه ابن
(1)
هذا فيه نظر لا يخفى، فإنه لم ينفرد به عبد الملك، بل تابعه عليه جماعة، كما سيأتي للمصنّف في هذا الباب، فتنبّه.
معين، ولم ير البخاريّ إخراج حديثه في "صحيحه" مع شدة الحاجة إليه، وكونه أصلًا من أصول الإسلام، ولو صحّ عنده لم يصبر عن إخراجه، والاحتجاج به.
قالوا: ولو صح حديث سبرة لم يَخْفَ على ابن مسعود، حتى يروي أنهم فعلوها، ويحتج بالآية، وأيضًا لو صح لم يقل عمر: إنها كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أنهى عنها، وأعاقب عليها، بل كان يقول: إنه صلى الله عليه وسلم حرّمها، ونَهَى عنها.
قالوا: ولو صحّ لم تُفْعَل على عهد الصديق، وهو عهد خلافة النبوة حقًّا.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى ضعف ما تمسّكت به هذه الطائفة من الحُجج.
فأما قولهم: من رواية عبد الملك إلخ، ففيه أنه لم ينفرد به، فقد رواه عن الربيع جماعة نحو خمسة، كما ستراهم عند المصنّف في هذا الباب.
وأما قولهم: لو صح لأخرجه البخاريّ، فهذا من أوهى الحجج، فكم من أحاديث صحيحة عند البخاريّ لم يُخرجها في "صحيحه"، كما صحّ عنه ذلك.
وكذا بقيّة الحجج لا يخفى ضعفها على من تأملها بالإنصاف.
والحاصل أن حديث سبرة رضي الله عنه صحيح، وسيأتي تمام البحث فيه قريبًا.
قال: والطائفة الثانية: رأت صحة حديث سبرة، ولو لم يصحّ، فقد صحّ حديث عليّ رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّم متعة النساء"، فوجب حمل حديث جابر على أن الذي أخبر عنها بفعلها لم يبلغه التحريم، ولم يكن قد اشتَهَر حتى كان زمن عمر رضي الله عنه، فلما وقع فيها النزاع ظهر تحريمها، واشتَهَر، وبهذا تأتلف الأحاديث الواردة فيها، وبالله التوفيق. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"زاد المعاد" 3/ 462 - 463.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله، وسلمة بن الأكوع رضي الله عنهم هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 3414 و 3415 و 3416 و 3417 و 3418 و 3419](1405)، و (البخاريّ) في "النكاح"(5117 و 5118)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 47 و 51)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 34)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 67)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3415]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ الْعَيْشِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، يَعْنِي ابْنَ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، يَعْنِي ابْنَ الْقَاسِمِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَن الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَتَانَا، فَأَذِنَ لَنَا فِي الْمُتْعَةِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ
(1)
الْعَيْشِيُّ) - بالياء، والشين المعجمة - أبو بكر البصريّ، صدوقٌ [10](ت 231)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) العيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
3 -
(رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ) التميميّ الْعَنْبريّ، أبو غِيَاث البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [6](ت 141)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
والباقون ذُكروا قبله.
(1)
سبق بيان أمية بن بسطام، وأنه يجوز صرف بسطام، وترك صرفه، وأن الباء تكسر، وقد تفتح، قاله النوويّ رحمه الله.
[تنبيه]: ذكرُ الحسن بن محمد في هذا السند وقع في بعض النسخ، وسقط في بعضها ذكره، بل قال: عن عمرو بن دينار، عن سلمة وجابر إلخ، قال المازريّ: اختَلفت النسخ، فثبت ذكر الحسن في رواية ابن ماهان، وسقط في رواية الجلوديّ. انتهى
(1)
.
وقوله: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَتَانَا) يَحْتَمِل أن يكون المعنى: أتانا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ومناديه، كما بُيّن في الرواية الأولى، ويَحْتَمل أن يكون صلى الله عليه وسلم مرّ عليهم بعد المنادي، فقال لهم ذلك بلسانه، أفاده النوويّ رحمه الله
(2)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسألتيه في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3416]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ عَطَاءٌ: قَدِمَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ مُعْتَمِرًا، فَجِئْنَاهُ فِي مَنْزِلِهِ، فَسَأَلَهُ الْقَوْمُ عَنْ أَشْيَاءَ، ثُمَّ ذَكَرُوا الْمُتْعَةَ، فَقَالَ: نَعَمْ اسْتَمْتَعْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(الْحَسَنُ الْحُلْوَانِيُّ) هو: الحسن بن عليّ بن محمد الْهُذليّ، أبو عليّ الخلال، نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [11](ت 242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام بن نافع الْحِميريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظٌ، مصنّف شهيرٌ، عَمِيَ في آخره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211) وله (85) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم، أبو خالد، وأبو الوليد المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، لكنه يدلّس ويُرسل [6](ت 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
(1)
راجع: "شرح النوويّ" 9/ 183.
(2)
راجع: "شرح النوويّ" 9/ 183.
4 -
(عَطَاءُ) بن أبي رَبَاح أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه، لكنه كثير الإرسال [3](ت 114)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.
و"جابر بن عبد الله رضي الله عنه" تقدم في الباب الماضي.
وقوله: (قَدِمَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) أي: مكة.
وقوله: (وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ) هذا محمولٌ على أن الذي استمتع في عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لم يبلغه النسخ، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: ظاهر هذا استمرار العمل عندهم، وفي أعصارهم على نكاح المتعة، واشتهار ذلك إلى أن نَهَى عنه عمر، وهذا مخالفٌ لأكثر أحاديث هذا الباب، كما ذكرناه، والصحيح الأوّل، كما ذكرناه، وهذا محمول من جابر على إخباره عن لم يبلغه الناسخ كابن عباس، فاستمر على التمسك بالإباحة الأولى في هذه الأعصار، إلى أن أوضح عمر، وعبد الله بن الزبير أن ذلك منسوخ، وتقدما في ذلك، وتوعَّدا عليه بالرجم، فتبيّن الصبح لذي عينين، وضاءت الشمس لسليم الحاسّتَيْن. انتهى
(2)
.
والحديث من هذا الوجه من أفراد المصنّف رحمه الله، وأخرجه أحمد في "مسنده"(3/ 304 و 380)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 67)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3417]
(. . .) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: كُنَّا نَسْتَمْتِعُ بِالْقُبْضَةِ، مِنَ التَّمْرِ وَالدَّقِيقِ الْأَيَّامَ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبِي بَكْرٍ، حَتَّى نَهَى عَنْهُ عُمَرُ فِي شَأْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلهم ذُكروا في الباب، وقبل باب.
وقوله: (بِالْقَبْضَةِ) بضم القاف، وفتحها، والضم أفصح، قال الجوهريّ:
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 183.
(2)
"المفهم" 4/ 94 - 95.
القُبضة بالضم ما قبضت عليه من الشيء، يقال: أعطاه قُبْضة من سويق، أو تمر، قال: وربما فُتِح. انتهى
(1)
.
وقوله: (حَتَّى نَهَى عَنْهُ عُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله عنه، قال الأبيّ: قيل: كان نهيه عن ذلك في آخر خلافته، وقيل: في أثنائها، وقال: لا نؤتى برجل تمتّع، وهو محصنٌ إلا رجمته، ولا برجل تمتّع، وهو غير محصن إلا جلدته. انتهى
(2)
.
وقوله: (فِي شَأْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ) أي: في حال قضيّته، وقصةُ عمرو بن حُريث أخرجها عبد الرزاق، في "مصنفه" 7/ 500 قال:
(14029)
- عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير؛ أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قَدِمَ عمرو بن حريث من الكوفة، فاستمتع بمولاة، فأُتِي بها عمر، وهي حبلى، فسألها فقالت: استمتع بي عمرو بن حريث، فسأله، فأخبره بذلك أمرًا ظاهرًا، قال: فهلا غيرها، فذلك حين نَهَى عنها. انتهى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وكان شأن عمرو بن حريث: أنّه تزوج امرأةً نكاح المتعة، وأنه استمرّ عليها إلى زمان خلافة عمر؛ لأنه لم يسمع الناسخ، فحملت منه، فأُنْهِيَ أَمْرُهُ إلى عمر، فنَهَى عن ذلك. انتهى
(3)
.
والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى القول فيه قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3418]
(. . .) - (حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ عُمَرَ الْبَكْرَاوِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، يَعْنِي ابْنَ زِيَادٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، فَأَتَاهُ آتٍ، فَقَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ
(4)
اخْتَلَفَا فِي الْمُتْعَتَيْنِ، فَقَالَ جَابِرٌ: فَعَلْنَاهُمَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ نَهَانَا عَنْهُمَا عُمَرُ، فَلَمْ نَعُدْ لَهُمَا).
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 183 - 184.
(2)
"شرح الأبيّ" 4/ 15.
(3)
"المفهم" 4/ 95.
(4)
وفي نسخة: "إن ابن عبّاس، وابن الزبير".
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(حَامِدُ بْنُ عُمَرَ الْبَكْرَاوِيُّ) هو: حامد بن عمر بن حفص بن عمر بن عُبيد الله بن أبي بكرة الثقفيّ البكراويّ
(1)
أبو عبد الرحمن البصريّ، قاضي كرمان، ثقةٌ [10](ت 233)(خ م) تقدم في "الطهارة" 26/ 649.
2 -
(عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ) العبديّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [8](ت 176) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.
3 -
(عَاصِمُ) بن سليمان الأحول، أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقةٌ [4] مات بعد (140)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.
4 -
(أَبُو نَضْرَةَ) المنذر بن مالك بن قُطَعَة الْعَوَقيّ البصريّ، ثقةٌ [3](ت 8 أو 109)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.
و"جابر" رضي الله عنه ذُكر قبله.
وقوله: (كُنْتُ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، فَأَتَاهُ آتٍ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفه
(2)
.
وقوله: (اخْتَلَفَا فِي الْمُتْعَتَيْنِ) أي: متعة الحجّ، ومتعة النكاح، فأما متعة الحج، فقد سبق بيانه مستوفًى في "كتاب الحجّ"، وأما متعة النكاح، هي النكاح المؤقّت في العقد، كان الرجل يُشارط المرأة شرطًا على شيء إلى أجل معلوم، ويُعطيها ذلك، فيستحلّ بذلك فرجها، ثم يُخلّي سبيلها من غير طلاق، وقد تقدّم تمام البحث فيها في شرح حديث ابن مسعود رضي الله عنه أول الباب.
والحديث بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3419]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَيْسٍ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ
(1)
نسبة إلى أبي بكرة جدّه الأعلى، وهو الصحابيّ الشهير رضي الله عنه.
(2)
"تنبيه المعلم" ص 233.
قَالَ: رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ أَوْطَاسٍ فِي الْمُتْعَةِ ثَلَاثًا، ثُمَّ نَهَى عَنْهَا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن مسلم، أبو محمد المؤدّب البغداديّ، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [9](ت 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.
2 -
(أَبُو عُمَيْسٍ) عتبة بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود الْهُذليّ المسعوديّ الكوفيّ، ثقةٌ [7](ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 295.
3 -
(إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ) بن عمرو بن الأكوع الأسلميّ، أبو سلمة، أو أبو بكر المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 119)(ع) تقدم في "الإيمان" 44/ 288.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (عَامَ أَوْطَاسٍ) بفتح الهمزة: وادٍ بالطائف، يُصرَف، ولا يُصرف، فمن صرفه أراد الوادي، والمكان، ومن لم يصرفه أراد البقعة، كما في نظائره، وأكثر استعمالهم له غير مصروف، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقد تقدّم أن هذا لا يعارض أنه صلى الله عليه وسلم حرّمها يوم فتح مكة؛ لأن الأوطاس والفتح كانا في عام واحد، قال ابن حبّان رحمه الله: عام أوطاس وعام الفتح واحد. انتهى
(2)
.
والحاصل أن أوطاس، وإن كان بعد الفتح، إلا أنه بعده بيسير، فجاز نسبته إلى كلّ منهما.
وغزوة أوطاس هي غزوة حنين، وحنين وأوطاس بين مكة والطائف، وتُسمّى غزوة هوازن؛ لأنهم الذين تجمعوا لقتال المسلمين في ذلك المكان، والله تعالى أعلم
وقوله: (ثُمَّ نَهَى عَنْهَا) قال في "الفتح": قال البيهقيّ ضبطنا "نَهَى" بفتح النون، ورأيته في رواية معتمدة "نها" بالألف، قال:
[فإن قيل]: بل هي بضم النون، والمراد بالناهي في حديث سلمة عمر، كما في حديث جابر.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 184.
(2)
"صحيح ابن حبّان" 9/ 458.
[قلنا]: هو مُحْتَمِلٌ، لكن ثبت نَهْيُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها في حديث الربيع بن سبْرة بن معبد، عن أبيه، بعد الإذن فيه، ولم نجعد عنه الإذن فيه بعد النهي عنه، فنَهْيُ عمر موافق لنهيه صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ بعد نقل كلام البيهقيّ هذا ما نصّه: وتمامه أن يقال: لعل جابرًا ومن نُقِل عنه استمرارهم على ذلك بعده صلى الله عليه وسلم إلى أن نَهَى عنها عمر، لم يبلغهم النهي.
ومما يستفاد أيضًا أن عمر رضي الله عنه لم ينه عنها اجتهادًا، وإنما نَهَى عنها مستندًا إلى نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وقع التصريح عنه بذلك فيما أخرجه ابن ماجه من طريق أبي بكر بن حفص، عن ابن عمر قال:"لَمّا وُلِّي عمرُ خَطَبَ، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا في المتعة ثلاثًا، ثم حَرَمها".
وأخرج ابن المنذر، والبيهقيّ من طريق سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، قال: "صَعِدَ عمرُ المنبر، فحَمِد اللهَ، وأثنى عليه، ثم قال: ما بال رجال يَنكِحُون هذه المتعة، بعد نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه في "صحيح ابن حبان": "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هَدَمَ المتعةَ النكاحُ والطلاقُ والعدّة، والميراث"، وله شاهد صحيح، عن سعيد بن المسيِّب، أخرجه البيهقي. انتهى
(1)
.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 3419](1405)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 292)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 55)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4151)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 68)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 204)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"الفتح" 11/ 426.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3420]
(1406) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ الْجُهَنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ سَبْرَة؛ أَنَّهُ قَالَ: أَذِنَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمُتْعَةِ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ إِلَى امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي عَامِرٍ، كَأَنَّهَا بَكْرَةٌ عَيْطَاءُ، فَعَرَضْنَا عَلَيْهَا أَنْفُسَنَا، فَقَالَتْ: مَا تُعْطِي؟ فَقُلْتُ: رِدَائِي، وَقَالَ صَاحِبِي: رِدَائِي، وَكَانَ رِدَاءُ صَاحِبِي أَجْوَدَ مِنْ رِدَائِي، وَكُنْتُ أَشَبَّ مِنْهُ، فَإِذَا نَظَرَتْ إِلَى رِدَاءِ صَاحِبِي أَعْجَبَهَا، وَإِذَا نَظَرَتْ إِلَيَّ أَعْجَبْتُهَا، ثُمَّ قَالَتْ: أَنْتَ وَرِدَاؤُكَ يَكْفِينِي، فَمَكَثْتُ مَعَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ النِّسَاءِ الَّتِي يَتَمَتَّعُ
(1)
، فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهَا").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ البغلانيّ، ثقة ثبت [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
2 -
(لَيْثُ) بن سعد، تقدّم قبل باب.
3 -
(الرَّبِيعُ بْنُ سَبْرَةَ الْجُهَنِيُّ) هو: الربيع بن سَبْرة بن مَعْبَد، ويقال: ابن عَوْسَجَة الْجُهَنيّ المدنيّ، ثقة [3].
روى عن أبيه، وعمر بن عبد العزيز، وعمرو بن مرّة الْجُهنيّ، ويحيى بن سعيد بن العاص.
وروى عنه عبد الملك، وعبد العزيز ابنا الربيع بن سَبْرَة، وعمارة بن غَزيّة، وعمر بن عبد العزيز، ومات قبله، والزهريّ، والليث، وغيرهم.
وثّقه النسائيّ، وابن حبّان، وقال العجليّ: حجازيّ تابعيّ ثقة.
روى له الجماعة، سوى البخاريّ، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وكرّره عشر مرّات.
4 -
(سَبْرَةُ) بن مَعْبَد بن عَوْسَجَة، ويقال: سبرة بن عَوْسجة الْجُهني، أبو
(1)
وفي نسخة: "يتمتّع بهنّ".
ثَريَّة، ويقال: أبو بَلْجَة، ويقال: أبو الربيع المدنيّ صحابيّ وَقَع ذكره في حديثٍ عَلَّقَه البخاريّ في "أحاديث الأنبياء"، فقال: ويُروَى عن سَبْرة بن معبد، وأبي الشَّمُوس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بإلقاء الطعام، يعني من أجل مياه ثمود، قال الحافظ: وقد ذكرتُ من وصله في حفيده عبد العزيز بن الربيع بن سبرة.
ورَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن عمرو بن مرة الْجُهَنيّ على اختلاف فيه، وروى عنه ابنه الربيع، كان ينزل ذا المروة، مات في خلافة معاوية، وقد فرّق ابن حبان بين سبرة بن معبد الجهنيّ والد الربيع، وبين سبرة بن عَوْسجة النازل في ذي الْمَرْوة، وذكره ابن سعد فيمن شهد الخندق فما بعدها.
روى له البخاري في التعاليق، والمصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وكرّره عشر مرّات.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيات المصنّف رحمه الله، وهو (223) من رباعيات الكتاب.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى الربيع، فما أخرج له البخاريّ، وسبرة، فقد عَلّق له.
3 -
(ومنها): أنهم ما بين بَغْلاني، وهو شيخه، ومصريّ، وهو الليث، ومدنِييَّنِ، وهما الباقيان.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه.
5 -
(ومنها): أن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب الستة إلا نحو خمسة أحاديث، راجع:"تحفة الأشراف"
(1)
، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ) بفتح السين المهملة، وسكون الباء الموحّدة (الْجُهَنِيِّ) بضم الجيم، وفتح الهاء: نسبة إلى جُهينة، أبي قبيلة من قُضاعة، واسمه زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قُضاعة، نزلوا الكوفة
(1)
3/ 223 - 226.
والبصرة (عَنْ أَبِيهِ) سَبْرَةَ رضي الله عنه (أَنَّهُ قَالَ: أَذِنَ) بكسر الذال المعجمة، من باب عَلِمَ (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمُتْعَةِ) أي: بالاستمتاع بالنساء إلى أجل مسمّى، بدفع مقدار من المال.
وفي الرواية الآتية من طريق عُمارة بن غزيّة، عن الربيع بن سَبْرة:"أن أباه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحَ مكّة، قال: فأقمنا بها خمس عشرة - ثلاثين بين ليلة ويوم -. . .".
(فَانْطَلَقْتُ أَنَا، وَرَجُلٌ) وفي الرواية المذكورة: "فخرجت أنا ورجلٌ من قومي، ولي عليه فضلٌ في الجمال، وهو قريبٌ من الدَّمَامة، مع كلّ واحد منّا بُرْدٌ، فبُردي خَلَقٌ، وأما بُرْد ابن عمّي، فبُرْدٌ جديدٌ غَضٌّ. . ."(إِلَى امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي عَامِرٍ) الظاهر أنه أراد عامر بن لؤيّ بن غالب بن فهر، وقد ذكر ابن الأثير رحمه الله في "اللباب" بهذا الاسم عدّة قبائل، فراجعه
(1)
، ثم وجدت أبا نعيم نصّ في "مسنده" في رواية وُهيب الآتية بأنه عامر بن صعصعة، وكذا هو في "مسند أحمد"، فزال الإشكال، والحمد لله. (كَأَنَّهَا بَكْرَةٌ عَيْطَاءُ) أما "الْبَكْرة" فهي الْفَتِيّة من الإبل؛ أي: الشابّة القويّة، وأما "الْعَيطاء" فبفتح العين المهملة، وإسكان الياء المثناة تحتُ، وبطاء مهملة، وبالمدّ، وهي الطويلة العنُق في اعتدال، وحُسْن قَوَام والَعَيط بفتح العين، والياء: طول العنق، قاله النوويّ رحمه الله
(2)
.
(فَعَرَضْنَا عَلَيْهَا أَنْفُسَنَا)؛ أي: تقدّم كلٌّ منا إليها بطلب الاستمتاع بها (فَقَالَتْ: مَا تُعْطِينِي؟)"ما" استفهاميّة: أي أيّ شيءٍ تدفع إليّ أجرة لاستمتاعك بي؟ وفي الرواية التالية: "قالت: وماذا تبذُلان؟ فنشر كلّ واحد منا بُرْده. . ."(فَقُلْتُ: رِدَائِي) منصوب بفعل محذوف مع المفعول الثاني؛ لدلالة السؤال عليه؛ أي: أُعطيك ردائي (وَقَالَ صَاحِبِي: رِدَائِي، وَكَانَ رِدَاءُ صَاحِبِي أَجْوَدَ مِنْ رِدَائِي، وَكُنْتُ أَشَبَّ مِنْهُ) وفي الرواية التالية: "ولي عليه فضلٌ في الجمال، وهو قريبٌ من الدّمامة" وهو بفتح الدال المهملة: وهي القبح في الصورة (فَإِذَا
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 92 - 93.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 184 - 185.
نَظَرَتْ إِلَى رِدَاءِ صَاحِبِي أَعْجَبَهَا) أي: لكونه جديدًا (وَإِذَا نَظَرَتْ إِلَيَّ أَعْجَبْتُهَا) أي: لكونه أجمل، وفي الرواية التالية:"فجعلت تنظر إلى الرجلين، ويراها صاحبي تنظر إلى عِطْفها، فقال: إن بُرد هذا خَلَقٌ، وبردي جديدٌ غَضٌّ. . ."، وفي رواية:"قال: إن بُرد هذا خَلَقٌ مَحٌّ"(ثُمَّ قَالَتْ: أَنْتَ، وَرِدَاؤُك، يَكْفِينِي) هكذا نُسخ "صحيح مسلم" بلفظ: "يكفيني" بالياء التحتانيّة، وكذا هو في "سنن النسائيّ"، وهو صحيح، ووجهه: أن يكون "أنت" مبتدءًا، حُذف خبره، لدلالة ما بعده عليه؛ أي: أنت تكفيني، و"رداؤك" مبتدأٌ خبره جملة "يكفيني".
وقع في بعض نسخ النسائيّ بلفظ: "تكفيني" بالتاء الفوقانيّة، فتكون الجملة خبرًا لـ "أنت"، و"رداؤك" مبتدأ خبره محذوف؛ أي:"يكفيني"، والجملة معترضة، بين المبتدإِ والخبر.
وفي الرواية التالية: "فتقول: بُرد هذا لا بأس به، ثلاث مرار، أو مرّتين"، وفي رواية عبد العزيز بن الربيع بن سبرة، عن أبيه الآتية:"فآمرت نفسها ساعةً، ثم اختارتني على صاحبي. . ."(فَمَكَثْتُ مَعَهَا ثَلَاثًا) أي: ثلاث ليال (ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ، مِنْ هَذِهِ النِّسَاءِ الَّتِي يَتَمَتَّعُ) بإفراد "التي"، قال النوويّ: هكذا هو في جميع النسخ: "التي يتمتّع"؛ أي: يتمتّع بها، فحُذف "بها" لدلالة الكلام عليه، أو أوقع "يتمتّع" موقع "يُباشر"؛ أي: يباشرها، وحُذف المفعول. انتهى. (فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهَا") أي: يتركها، ويفارقها؛ لكونها مُحرّمة، وفي رواية عبد العزيز بن عمر، حدثني الربيع بن سبرة الجهني؛ أن أباه حدثه؛ أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"يا أيها الناس، إني قد كنت أذنت لكم، في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك، إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء، فليُخَلِّ سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سَبْرَة بن مَعْبد الْجُهنيّ رضي الله عنه من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 3420 و 3421 و 3422 و 3423 و 3424 و 3425 و 3426 و 3427 و 3428 و 3429 و 3430 و 3431](1406)، و (أبو داود) في "النكاح"(2072 و 2073)، و (النسائيّ) في "النكاح"(3369) و"الكبرى"(5550)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1962)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 362)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 405)، و (الدارميّ) في "سننه"(2195 و 2196)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 24 و 30)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 68 - 69)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(7/ 107 و 110)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 175)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 202 - 203) و"الصغرى"(6/ 192) و"المعرفة"(5/ 343)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان تحريم المتعة تحريمًا مؤبّدًا بعد أن كانت مباحة.
2 -
(ومنها): أن فيه التصريح بأن المتعة أُبيحت يوم فتح مكّة، ثم نُسخت فيه.
[فإن قلت]: قد تقدّم قول جابر رضي الله عنه: "استمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر"، وفي رواية:"كنا نستمتع بالقُبْضة من التمر والدقيق الأيّام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، حتى نهى عنه عمر"، فكيف يُجمع بينه وبين رواية سبرة رضي الله عنه هذه، حيث قال صلى الله عليه وسلم يوم الفتح:"وإن الله حرّم ذلك إلى يوم القيامة"؟
[قلت]: يُجمَعُ بينهما بأن حديث جابر رضي الله عنه محمول على أن الذي استمتع في عهد أبي بكر، وعمر لم يبلغه النسخ، كما تقدّم تحقيقه، والله تعالى أعلم.
3 -
(ومنها): أن في رواية عبد العزيز المتقدّمة: "إني كنت قد أذنت لكم في الاستمتاع إلخ" التصريح بالناسخ والمنسوخ في حديث واحد، من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، كحديث:"كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها"، كما تقدّم في "كتاب الجنائز".
4 -
(ومنها): أن المهر الذي كان أعطاها يستقرّ لها، ولا يحلّ أخذ شيء
منه، وإن فارقها قبل الأجل المسمّى، كما أنه يستقرّ في النكاح المعروف المهر المسمّى بالوطء، ولا يسقط منه شيء بالفرقة بعده. قاله النوويّ رحمه الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3421]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ، يَعْني ابْنَ مُفَضَّلٍ، حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ، عَن الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ، أَنَّ أَبَاهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَتْحَ مَكَّةَ، قَالَ: فَأَقَمْنَا بِهَا خَمْسَ عَشْرَةَ ثَلَاِثِينَ بَيْنَ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ، فَأَذِنَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ، فَخَرَجْتُ أَنا وَرَجُلٌ مِنْ قَوْمِي، وَلِي عَلَيْهِ فَضْلٌ فِي الْجَمَالِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الدَّمَامَةِ، مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا بُرْدٌ، فَبُرْدِي خَلَقٌ، وَأَمَّا بُرْدُ ابْنِ عَمِّي فَبُرْدٌ جَدِيدٌ غَضٌّ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِأَسْفَلِ مَكَّةَ، أَوْ بِأَعْلَاهَا، فَتَلَقَّتْنَا فَتَاةٌ، مِثْلُ الْبَكْرَةِ الْعَنَطْنَطَةِ، فَقُلْنَا: هَلْ لَكِ أَنْ يَسْتَمْتِعَ مِنْكِ أَحَدُنَا؟ قَالَتْ: وَمَاذَا تَبْذُلَانِ؟ فَنَشَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا بُرْدَهُ، فَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ، وَيَرَاهَا صَاحِبِي تَنْظُرُ إِلَى عِطْفِهَا، فَقَالَ: إِنَّ بُرْدَ هَذَا خَلَقٌ، وَبُرْدِي جَدِيدٌ غَضٌّ، فَتَقُولُ: بُرْدُ هَذَا لَا بَأْسَ بِهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ، أَوْ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ اسْتَمْتَعْتُ مِنْهَا، فَلَمْ أَخْرُجْ حَتَّى حَرَّمَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ) البصريّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 237)(خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
2 -
(بِشْرُ بْنُ مُفَضَّلِ) بن لاحق الرّقَاشيّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [8](6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.
3 -
(عُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ) بن الحارث الأنصاريّ المازنيّ المدنيّ، ثقةٌ [6](ت 140)(خت م 4) تقدم في "الطهارة" 12/ 585.
والباقيان ذُكرا قبله.
وتوله: (وَلِي عَلَيْهِ فَضْلٌ فِي الْجَمَالِ) أي: لي جمال زائد، والمراد أنه أجمل من صاحبه.
وقوله: (وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الدَّمَامَةِ) بفتح الدال المهملة، هي القُبح في الصورة
(1)
، وقال القرطبيّ رحمه الله: هي دِقّةٌ في الْخَلْق، وقُبْح في المنظر. انتهى
(2)
.
وقوله: (خَلَقٌ) بفتح اللام؛ أي: بالٍ، يقال: خَلُقَ الثوب، من باب كَرُم، فهو خَلَقٌ بفتحتين: إذا بَلِيَ، وأخلق الثوبُ بالألف لغةٌ، وأخلقته يكون الرباعيّ لازمًا ومتعدّيًا، أفاده الفيّوميّ رحمه الله
(3)
.
وقال شيخنا المناسيّ رحمه الله:
وَغَلَقٌ كَجَبَلٍ ثَوْبٌ بَلِي
…
وَكَوْنُهُ كَكَتِفٍ لَمْ يُنْقَلِ
وقوله: (فَبُرْدٌ جَدِيدٌ غَضٌّ) بفتح الغين المعجمة: هو الذي عليه نضارة الجدّة، وغضارتها، والغضّ من التفّاح: الطريّ المتناهي طيبًا
(4)
.
وقوله: (أَوْ بِأَعْلَاهَا) الظاهر أن "أو" للشكّ من الراوي.
وقوله: (فتَلَقَّتْنَا فَتَاةٌ) أي: شابّة.
وقوله: (مِثْلُ الْبَكْرَةِ) بفتح، فسكون: الفتيّة من الإبل، شبّهها بها؛ لقوّتها، وعَبَالتها.
وقوله: (الْعَنَطْنَطَةِ) بعين مهملة مفتوحة، وبنونين الأولى مفتوحة، وبطاءين مهملتين، وهي كالعيطاء، وقد سبق بيانها، وقيل: هي الطويلة، فقط، والمشهور الأول، قاله النوويّ رحمه الله
(5)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: العَنَطْنَطَة: الطويلة الْعُنُق باعتدال وحُسْنٍ، وهي العَيْطاء أيضًا، كما جاء في الرواية الأخرى، والْعَنقاء، والْعَطْبُول
(6)
نحوه. انتهى.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 185.
(2)
"المفهم" 4/ 96.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 180.
(4)
"المفهم" 4/ 97.
(5)
"شرح النوويّ" 9/ 185.
(6)
قال في "القاموس"(4/ 18): الْعُطْبُلُ، والْعُطْبُولُ، والْعُطْبُولَةُ بضمّتين، والْعَيْطَبُولُ، كحَيْزَبُونٍ: المرأة الفتيّة الجميلة الممتلئة الطويلة العنُق، جمعه عَطَابل، وعطابيل، أو الْعَيْطَبول: الطويلة القدّ. انتهى.
وقولها: (وَمَاذَا تَبْذُلَانِ؟) أي: أيّ شيء تدفعان مقابل الاستمتاع؟
وقوله: (إِلَى عِطْفِهَا) بكسر العين، وسكون الطاء المهملة؛ أي: جانبها، وقيل: من رأسها إلى وركها، وكأنها تتبختر، وتُزْهَى بنفسها
(1)
.
وقوله: (فَقَالَ: إِنَّ بُرْدَ هَذَا خَلَقٌ، وَبُرْدِي جَدِيدٌ غَضٌّ) أراد به أن يرغّبها في أن تقدّمه على صاحبه بسبب كون بُرده جديدًا إلا أنها ما أعجبها ذلك، بل أعجبها جماله، فقدّمته عليه.
وقوله: (فَتَقُولُ: بُرْدُ هَذَا لَا بَأْسَ بِهِ) أي: قالت: برد هذا الجميل في نفسه لا بأس به؛ لكونه جُبر نقصه بجماله.
وقوله: (ثُمَّ اسْتَمْتَعْتُ مِنْهَا) في هذا الحديث أن نكاح المتعة كان لا يحتاج إلى وليّ فيه، ولا شُهود
(2)
.
وقوله: (فَلَمْ أَخْرُجْ حَتَّى حَرَّمَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) فبه أن تحريم المتعة كان بمكة عام الفتح، وقد تقدّم أنه مما تكرّر نسخه، فأول تحريمه كان في خيبر، ثم أبيح بمكة، ثم حُرّم إلى يوم القيامة، وأما ما روي من أنه حرّم في حجة الوداع، فقد سبق أنه بمعنى تأكيد التحريم السابق، لا إنشاء تحريم جديد، فتنبّه.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3422]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ صَخْرٍ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ، حَدَّثَنِي الرَّبِيعُ بْنُ سَبْرَةَ الْجُهَنِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ، فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ بِشْرٍ، وَزَادَ: قَالَتْ: وَهَلْ يَصْلُحُ ذَاكَ؟ وَفِيهِ قَالَ: إِنَّ بُرْدَ هَذَا خَلَقٌ مَحٌّ)
(3)
.
(1)
"المفهم" 4/ 97، و"شرح النوويّ" 9/ 185.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 185 - 186.
(3)
وفي نسخة: "خَلَقٌ مَحٌّ: يعني بَالٍ".
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ صَخْرٍ الدَّارِمِيُّ) أبو جعفر السرخسيّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 253)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 93.
2 -
(أَبُو النُّعْمَانِ) محمد بن الفضل السَّدُوسيّ، الملقّب بعارم البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ تغيّر بآخره، من صغار [9](ت 3 أو 224)(ع) تقدم في "الحج" 28/ 3013.
3 -
(وُهَيْبُ) بن خالد بن عجلان الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ تغيّر بآخره قليلًا [7](ت 165) أو بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ بِشْرٍ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير وُهيب.
وقوله: (خَلَقٌ مَحٌّ) بميم مفتوحة، وحاء مهملة مشدّدة، وهو البالي، ومنه مَحّ الكتابُ: إذا بَلِي، ودَرَسَ، قاله النوويّ
(1)
.
وقال ابن منظور رحمه الله: "الْمَحُّ": الثوب الْخَلَق البالي، ومَحَّ يَمِحُّ، وَيمُحّ، وَيمِحُّ مُحُوحًا، ومَحَحًا، وأمحّ يُمِحّ: إذا أخلق، وكذلك الدار إذا عَفَتْ، قال الشاعر:
أَلَا يَا قَتْلَ قَدْ خَلُقَ الْجَدِيدُ
…
وَحُبُّكِ مَا يُمِحُّ وَمَا يَبِدُ
(2)
[تنبيه]: رواية وُهيب، عن عمارة بن غزيّة هذه ساقها أبو عوانة في "مسنده" 3/ 22 فقال:
(4055)
- حدّثنا حمدان بن الجنيد الدقّاق، ثنا عارم، ثنا وُهيب، ثنا عُمارة بن غَزيّة، قال: حدّثني الربيع بن سَبْرة الجهنيّ، عن أبيه، قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح إلى مكة، فأقمنا ثلاثين من بين ليلة ويوم، فأَذِن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المتعة، فانطلقت أنا وابن عم لي قِبَل أعلى مكة، أو أسفل مكة، فتلقتنا امرأة من بني عامر بن صعصعة، كأنها بَكْرَةٌ عَنَطْنَطَةٌ، وعليّ بُرْد لي، وعلى ابن عمي برد، وهو قريب من الدمامة، قال: فقلت: هل لك أن يستمتع منك أحدنا، ويعطيك برده؟ قالت: وهل يصلح ذاك؟ قلنا: نعم،
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 186.
(2)
"لسان العرب" 2/ 589.
فجعلت تنظر إليّ، فإذا رآها ابن عمي عطف، وقال: إن برد هذا خَلَقٌ مَحٌّ، وبردي بُرْد جديد غَضّ، قالت: وبرد ابن عمك لا بأس به، فاستمتعت منها، فلم نخرج من مكة حتى حرّمها رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3423]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنِى الرَّبِيعُ بْنُ سَبْرَةَ الْجُهَنِيُّ؛ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ؛ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنَ النِّسَاءِ، وَإِنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهُ، وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ) بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأمويّ، أبو محمد المدنيّ، نزيل مكة، صدوقٌ يُخطئ [7].
رَوَى عن أبيه، ويحيى بن إسماعيل بن جرير، وصالح بن كيسان، ونافع مولى ابن عمر، والربيع بن سبرة، وعبد الله بن موهب، ومجاهد، ومكحول، وغيرهم.
وروى عنه إبراهيم بن أبي عَبْلة، وإبراهيم بن أبي ميسرة الطائفيّ، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وهم أكبر منه، وشعبة، وعبد الله بن نمير، وغيرهم.
قال ابن معين: ثقةٌ، وقال ابن عياض مرّةً: ليس به بأس، وكذا قال النسائيّ، وقال أبو داود: ثقةٌ، وقال ابن معين أيضًا: ثبت، روى عن أبيه يسيرًا، وقال ابن عمار: ثقة ليس بين الناس اختلاف، وقال يعقوب بن سفيان: ثنا أبو نعيم، ثنا عبد العزيز، وهو ثقةٌ، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، وقال ميمون بن الأصبغ، عن أبي مسهر: ضعيف الحديث، وقال أبو بكر بن عياش: حج بالناس سنتين سنة (7) و (128)، وقال
أبو نعيم: قَدِم علينا سنة (44)، وفي نسخة: سنة سبع وأربعين ومائة، قال الزبير بن بكار: ولاه إِمْرتهما يزيد بن الوليد، وأقرّه مروان بن محمد، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطئ، يُعْتَبر حديثه إذا كان دونه ثقات، وحَكَى الخطابيّ عن أحمد بن حنبل، قال: ليس هو من أهل الحفظ والإتقان.
مات بعد سنة سبع وأربعين ومائة.
أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهُ) أي: لتركها، وذكّر الضمير باعتبار لفظ "شيء"، وتقدّم بلفظ:"فليخلّ سبيلها"، وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا ردّ على زُفر؛ إذ صحّح العقد، وأبطل الشرط، وهو حجة للجمهور على قولهم: إنه يُفسخ على كلّ حال. انتهى
(1)
.
وقوله: (وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا) يعني لأنهنّ قد استحققن ذلك بالدخول عليهنّ، قاله القرطبيّ رحمه الله.
وقال النوويّ رحمه الله: وفي هذا الحديث التصريح بالمنسوخ والناسخ في حديث واحد، من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كحديث:"كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها"، وفيه التصريح بتحريم نكاح المتعة إلى يوم القيامة، وأنه يتعين تأويل قوله في الحديث السابق: إنهم كانوا يتمتعون إلى عهد أبي بكر وعمر، على أنه لم يبلغهم الناسخ كما سبق، وفيه أن المهر الذي كان أعطاها يستقرّ لها، ولا يحل أخذ شيء منه، وإن فارقها قبل الأجل المسمَّى، كما أنه يستقرّ في النكاح المعروف المهر المسمّى بالوطء، ولا يسقط منه شيء بالفُرقة بعده. انتهى
(2)
.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد سبق تمام البحث فيه قبل حديثين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"المفهم" 4/ 98.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 186 - 187.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3424]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ، وَهُوَ يَقُولُ، بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الكلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [8](ت 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 339.
والباقيان ذُكرا في الباب.
وقوله: (بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ) قال القرطبيّ رحمه الله: يعني الحجر الأسود، وهذا كان يوم الفتح كما قاله في الرواية الأخرى، ويمكن أن يقال: لا تناقض بين هذا وبين ما رُوي من تحريم نكاح المتعة يوم حنين، وفي حجّة الوداع، ويوم الفتح، وفي غزوة تبوك؛ لأن ذلك محمولٌ على أنّه كرَّر تحريمها في هذه المواطن كلها توكيدًا لها، وزيادة في الإبلاغ. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: رواية عبدة بن سليمان، عن عبد العزيز بن عمر هذه ساقها ابن ماجه في "سننه"، فقال:
(1952)
- حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا عبدة بن سليمان، عن عبد العزيز بن عمر، عن الربيع بن سبرة، عن أبيه، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فقالوا: يا رسول الله إن الْعُزْبة قد اشتدّت علينا، قال:"فاستمتعوا من هذه النساء"، فأتيناهنّ فأبين أن يَنكحننا إلا أن نجعل بيننا وبينهنّ أجلًا، فذكروا ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"اجعلوا بينكم وبينهنّ أجلًا"، فخرجت أنا، وابن عم لي، معه بُرْدٌ، ومعي بردٌ، وبُرده أجود من بُردي، وأنا أشبّ منه، فأتينا على امرأة، فقالت: بردٌ كبرد، فتزوجتها، فمكثت عندها تلك الليلة، ثم غدوت ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم بين الركن والباب، وهو
(1)
"المفهم" 4/ 98.
يقول: "أيها الناس إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع، ألا وإن الله قد حرّمها إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهنّ شيء، فليخلّ سبيلها، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3425]
(. . .) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ الْجُهَنيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمُتْعَةِ عَامَ الْفَتْحِ، حِينَ دَخَلْنَا مَكَّةَ، ثُمَّ لَمْ نَخْرُجْ مِنْهَا
(1)
حَتَّى نَهَانَا عَنْهَا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه الْحَنْظليّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمام [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
2 -
(يَحْيَى بْنُ آدَمَ) بن سليمان الأمويّ مولاهم، أبو زكرياء الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ فاضل، من كبار [9](ت 203)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
3 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن سعد، تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ الْجُهَنِيُّ) وثقه العجليّ [7].
رَوَى عن أبيه، وعنه ابنا أخيه: سبرة وحرملة ابنا عبد العزيز، وإبراهيم بن سعد، وزيد بن الحباب، ويعقوب بن إبراهيم.
وثقه العجليّ، قال أبو خيثمة: سئل يحيى بن معين عن أحاديث عبد الملك بن الربيع، عن أبيه، عن جدّه، فقال: ضعاف، وحَكَى ابن الجوزي عن ابن معين أنه قال: عبد الملك ضعيف، وقال أبو الحسن بن القطان: لم تثبت عدالته، وإن كان مسلم أخرج له، فغير محتج به. انتهى.
(1)
سقط من بعض النسخ لفظ: "منها".
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، متابعةً.
والباقيان ذُكرا قبله.
والحديث من أفراد المصنّف، كما سبق البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3426]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي رَبِيعَ بْنَ سَبْرَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ؛ أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّمَتُّعِ مِنَ النِّسَاءِ، قَالَ: فَخَرَجْتُ أَنَا وَصَاحِبٌ لِي، مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، حَتَّى وَجَدْنَا جَارِيَةً مِنْ بَنِي عَامِرٍ، كَأَنَّهَا بَكْرَةٌ عَيْطَاءُ، فَخَطَبْنَاهَا إِلَى نَفْسِهَا، وَعَرَضْنَا عَلَيْهَا بُرْدَيْنَا، فَجَعَلَتْ تَنْظُرُ، فَتَرَانِي أَجْمَلَ مِنْ صَاحِبِي، وَتَرَى بُرْدَ صَاحِبِي أَحْسَنَ مِنْ بُرْدِي، فَآمَرَتْ نَفْسَهَا سَاعَةً، ثُمَّ اخْتَارَتْنِي عَلَى صَاحِبِي، فَكُنَّ مَعَنَا ثَلَاثًا، ثُمَّ أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِفِرَاقِهِنَّ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم قبل بابين.
2 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ) صدوقٌ ربما غَلِط [7].
رَوَى عن أبيه، وعنه ابناه: سبرة وحرملة، وابن وهب، ويحيى بن حسان، ويحيى بن صالح، ويحيى النيسابوريّ، وغيرهم.
ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يُخطئ، ووقع ذكره عند البخاريّ في حديث علقمة لسبرة بن معبد في مياه ثمود، ووصله الطبرانيّ من طريق الحميديّ، عن حرملة بن عبد العزيز بن الربيع بن سبرة، عن أبيه، عن جدّه، ومن طريق سبرة بن عبد العزيز، عن أبيه، به.
تفرّد به المصنّف، وأبو داود، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (بَكْرَةٌ عَيْطَاءٌ)؛ أي: كالإبل الفتيّة الطويلة العنُق.
وقوله: (فَآمَرَتْ نَفْسَهَا سَاعَةً) بهمزة ممدودة؛ أي: شاورت نفسها، وفكّرت في ذلك، ومنه قوله تعالى:{إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ} [القصص: 20].
والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3427]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَن الزُّهْرِيِّ، عَن الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) ابن محمد بن بُكير البغداديّ، نزيل الرقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.
2 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) بن أبي عمران الهلاليّ، أبو محمد الكوفيّ، نزيل مكة الإمام الثقة الثبت الحجة الشهير، من كبار [8](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.
3 -
(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم، تقدّم في الباب الماضي.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى البحث فيه قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3428]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَن الزُّهْرِيِّ، عَن الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى يَوْمَ الْفَتْحِ عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(ابْنُ عُلَيَّةَ) هو: إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسديّ مولاهم، أبو بِشْر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ [8](ت 193) تقدم في "المقدمة"(ع) 2/ 3.
2 -
(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم قبل باب.
والباقون ذُكروا في الباب.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3429]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَن الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ الْجُهَنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَن الْمُتْعَةِ زَمَانَ الْفَتْحِ، مُتْعَةِ النِّسَاءِ، وَأَنَّ أَبَاهُ كَانَ تَمَتَّعَ بِبُرْدَيْنِ أَحْمَرَيْنِ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدِ) بن نصر الْكِسّيّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
2 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
3 -
(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، تقدّم قبل باب.
4 -
(صَالِحُ) بن كيسان الغفاريّ مولاهم، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [4] مات بعد (130) أو (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (مُتْعَةِ النِّسَاءِ) بالجرّ على البدليّة عن "المتعة".
وقوله: (وَأَنَّ أَبَاهُ كَانَ تَمَتَّعَ بِبُرْدَيْنِ أَحْمَرَيْنِ) تقدّم في الروايات السابقة ما يدلّ على أنه تمتّع ببرد واحد، ولعله زادها بعد ذلك بُرْدًا آخر، والله تعالى أعلم.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدم البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3430]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ؛ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَامَ بِمَكَّةَ، فَقَالَ: إِنَّ نَاسًا أَعْمَى اللهُ قُلُوبَهُمْ، كَمَا أَعْمَى أَبْصَارَهُمْ، يُفْتُونَ بِالْمُتْعَةِ، يُعَرِّضُ بِرَجُلٍ، فَنَادَاهُ، فَقَالَ: إِنَّكَ لَجِلْفٌ جَافٍ، فَلَعَمْرِي لَقَدْ كَانَت الْمُتْعَةُ تُفْعَلُ عَلَى عَهْدِ
(1)
إِمَامِ الْمُتَّقِينَ، يُرِيدُ
(2)
رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: فَجَرِّبْ بِنَفْسِكَ، فَوَاللهِ لَئِنْ فَعَلْتَهَا لَأَرْجُمَنَّكَ بِأَحْجَارِكَ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي خَالِدُ بْنُ الْمُهَاجِرِ بْنِ سَيْفِ اللهِ؛ أَنَّهُ بَيْنَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ رَجُلٍ، جَاءَهُ رَجُلٌ فَاسْتَفْتَاهُ فِي الْمُتْعَةِ، فَأَمَرَهُ بِهَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ أَبِي عَمْرَةَ الْأَنْصَارِيُّ: مَهْلًا، قَالَ: مَا هِيَ؟ وَاللهِ لَقَدْ فُعِلَتْ فِي عَهْدِ
(3)
إِمَامِ الْمُتَّقِينَ. قَالَ ابْنُ أَبِي عَمْرَةَ: إِنَّهَا كَانَتْ رُخْصَةً فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، لِمَن اضْطُرَّ إِلَيْهَا كَالْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، ثُمَّ أَحْكَمَ اللهُ الدِّينَ، وَنَهَى عَنْهَا. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي رَبِيعُ بْنُ سَبْرَةَ الْجُهَنِيُّ؛ أَنَّ أَبَاهُ قَالَ: قَدْ
(4)
كُنْتُ اسْتَمْتَعْتُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةً مِنْ بَنِي عَامِرٍ بِبُرْدَيْنِ أَحْمَرَيْنِ، ثُمَّ نَهَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَن الْمُتْعَةِ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَسَمِعْتُ رَبِيعَ بْنَ سَبْرَةَ يُحَدِّثُ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَنَا جَالِسٌ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
(1)
وفي نسخة: "في عهد".
(2)
وفي نسخة: "يريد به".
(3)
وفي نسخة: "على عهد".
(4)
وفي بعض النسخ بإسقاط "قد".
3 -
(يُونُسُ) بن يزيد بن أبي النِّجَاد الأيليّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
والباقون ذُكروا قبله.
شرح الحديث:
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزهريّ؛ أنه قال: (أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ؛ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ) رضي الله عنهما (قَامَ بِمَكَّةَ) أي: قام خطيبًا، وذلك في خلافته (فَقَالَ: إِنَّ نَاسًا أَعْمَى اللهُ قُلُوبَهُمْ، كَمَا أَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) إنما قال ذلك لأن ابن عبّاس قد ذهب بصره في أواخر عمره، وإنما وصفه ابن الزبير بعمى قلبه؛ لكونه أفتى بما يُخالف الشرع، فقد صحّ لديه أنه صلى الله عليه وسلم حرّم المتعة إلى يوم القيامة، فلا يفتي بجوازها بعد علمه بهذا التحريم إلا من عَمِي قلبه، لكن يُعتذر عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنه لم يصحّ لديه هذا التحريم، ولذا اعتمد على الإباحة في أول الأمر، والله تعالى أعلم.
(يُفْتُونَ بِالْمُتْعَةِ) أي: بجواز نكاح المتعة (يُعَرِّضُ بِرَجُلٍ) أي: يريد عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما بقوله: "إن ناسًا. . . إلخ" عبدَ الله بن عبّاس رضي الله عنهما؛ لأنه هو الذي اشتهر بهذه الفتيا.
والتعريض: خلاف التصريح، قال الفيّوميّ رحمه الله: الْمِعْرَاض: التوريةُ، وأصله الستر، يقال: عرفته في معراض كلامه، وفي لحن كلامه، وفحوى كلامه، بمعنًى، قال في "البارع": وعَرَّضتُ له، وعَرَّضتُ به تعريضًا: إذا قلت قولًا، وأنت تعنيه، فالتعريض: خلاف التصريح من القول، كما إذا سألتَ رجلًا، هل رأيتَ فلانًا؟ وقد رآه، ويَكْرَه أن يَكْذِب، فيقول: إن فلانًا لَيُرَى، فيجعل كلامه مِعْرَاضًا؛ فِرارًا من الكذب، وهذا معنى المعاريض في الكلام، ومنه قولهم:"إن في المعاريض لمندوحةً عن الكذب"
(1)
. انتهى
(2)
.
(1)
أثر صحيح أخرجه البخاريّ في "الأدب المفرد" عن عمران بن حُصين رضي الله عنهما، موقوفًا عليه، وأما كونه حديثًا مرفوعًا، فضعيف، راجع:"السلسلة الضعيفة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله 3/ 213.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 403.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "يُعَرِّضُ بِرَجُلٍ" يعني به ابن عباس رضي الله عنهما، وكان إذ ذاك قد عَمِي، وكان هذا من عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما زمن إمارته، وإنما قَذَعَه ابنُ الزبير بهذا القول؛ لظهور الناسخ لنكاح المتعة، وشهرة الأحاديث في ذلك، فكأنَّه نسبه إلى التفريط، وكان عبد الله بن عبَّاس رضي الله عنهما في آخر عمره قَلَّ ما يُصغي لمن يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما تقدّم في أوائل كتاب مسلم من قوله:"فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف"، وكان قد عَرَفَ الإباحة، فاقتصر عليها، ولم يُصْغِ إلى غيرها، كما قال:"لقد كانت تُفعل على عهد إمام المتقين صلى الله عليه وسلم".
وقال القرطبيّ أيضًا: كِنَايَتُهم عن ابن عباس في هذه المسألة بـ "رجل" سترٌ منهم له؛ لأجل هذه الفتيا التي صدرت عنه ما كانت تليق بعلمه، ولا بمنصبه في الفضل والدين، وإنكار عليّ، وابن الزبير، وغيرهما رضي الله عنهم، وإغلاظهم عليه، ولا مُنْكِرَ عليهم، يدلُّ على أن تحريم ذلك كان عندهم معلومًا. انتهى
(1)
.
(فَنَادَاهُ)؛ أي: نادى ذلك الرجل المعرَّض به، وهو ابن عبّاس رضي الله عنهما عبدَ الله بن الزبير (فَقَالَ: إِنَّكَ لَجِلْفٌ جَافٍ) قال النوويّ رحمه الله: الْجِلْف بكسر الجيم، قال ابن السِّكِّيت وغيره: الجلف: هو الجافي، وعلى هذا قيل: إنما جمع بينهما توكيدًا؛ لاختلاف اللفظ، والجافي: هو الغليظ الطبع، القليل الفهم، والعلم، والأدب؛ لبُعده عن أهل ذلك. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: و"الجِلْفُ"، و"الجافي" هما بمعنى واحد، قاله ابن السكيت وغيره، وكرَّرَهما لفظًا؛ لاختلافهما على عادة العرب في ذلك، وعليه حَمَلوا قوله تعالى:{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] وقوله تعالى: {حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} [يوسف: 85]، وأصل الْجِلْف: الشاة المسلوخة بغير رأس، ولا قوائم، قاله القُتبيّ والهرويّ. انتهى
(3)
.
(فَلَعَمْرِي) اللام لام القسم، و"عَمْري" بفتح العين المهملة، وسكون الميم
(1)
"المفهم" 4/ 98 - 99.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 188.
(3)
"المفهم" 4/ 99.
لغة في ضم العين، قال الفيّوميّ رحمه الله: عَمِرَ الرجل يَعْمَرُ، من باب تَعِبَ عُمْرًا بفتح العين، وضمّها: طال عمره، فهو عامرٌ، وبه سُمِّي تفاؤلًا، وبالمضارع، ومنه يحيى بن يَعْمَر، ويتعدى بالحركة، والتضعيف، فيقال: عَمَرَهُ الله يَعْمُرُهُ، من باب قَتَلَ، وعَمَّره تعميرًا؛ أي: أطال عمره، وتدخل لام القسم على المصدر المفتوح، فتقول: لَعَمْرُك لأفعلنّ، والمعنى: وحياتِكَ وبقائِكَ. انتهى
(1)
.
[فإن قلت]: كيف ساغ لابن عبّاس رضي الله عنهما أن يحلف بحياته، وقد ورد النهي عن الحلف بغير الله تعالى؟
[أجيب]: بأنه لم يُرد به القسم، بل هو مما يجري كثيرًا في كلامهم، كقولهم: ما له قاتله الله، وتربت يمينه، وعقرى حلقى، ونحو ذلك، مما يكثر دورانه على اللسان، ولا يُريدون حقيقته، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(لَقَدْ كَانَت الْمُتْعَةُ تُفْعَلُ عَلَى عَهْدِ إِمَامِ الْمُتَّقِينَ، يُرِيدُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) يتبيّن من هذا أن ابن عبّاس رضي الله عنهما قد علم بالإباحة، ثم لم يبلغه النسخ، فلذلك عارض بهذا على ابن الزبير رضي الله عنهما، والحقّ معه؛ لأنه علم النسخ، فلذلك هدّده بالحدّ المشروع في الزنا.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قول ابن عبّاس رضي الله عنهما: "لقد فُعلت. . . إلخ" فيه تنبيه منه على أنه لو كانت المتعة مِمّا يُتَّقَى لكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أولى بتُقَاةِ ذلك، فإنه أتقى لله، وأخوف من كل مُتَّقٍ. انتهى
(2)
.
(فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ) رضي الله عنهما (فَجَرِّبْ بنَفْسِكَ) هذا تهديد؛ أي: افعل هذه المتعة بنفسك مجرّبًا، فستلقى عقابها (فَوَاللهِ لَئِنْ فَعَلْتَهَا لَأَرْجُمَنَّكَ بِأَحْجَارِكَ) قال النوويّ رحمه الله: هذا محمول على أنه أبلغه الناسخ لها، وأنه لم يبق شكّ في تحريمها، فقال: إن فعلتها بعد ذلك، ووطئت فيها كنت زانيًا، ورجمتك بالأحجار التي يرجم بها الزاني. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "لئن فعلتها لأرجمنَّك بأحجارك" حُجَّةٌ لأحد
(1)
"المصباح المنير" 2/ 429.
(2)
"المفهم" 4/ 100.
(3)
"شرح النوويّ" 9/ 188.
القولين المتقدمين في أن مَن نَكَح نكاح المتعة أقيم عليه الحدّ، ويَحْتَمِل أن يُحمَل على الإرهاب والتغليظ. انتهى
(1)
.
(قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي خَالِدُ بْنُ الْمُهَاجِرِ بْنِ سَيْفِ اللهِ) خالد بن الوليد بن المغيرة المخزوميّ، صالح الحديث [3].
رَوَى عن عمر، ولم يدركه، وعن ابن عمر، وابن عباس، وعبد الرحمن بن أبي عمرة.
وروى عنه الزهريّ، ومحمد بن أبي يحيى الأسلميّ، وإسماعيل بن رافع المدنيّ.
قال الزبير: كان مع ابن الزبير، وكان اتَّهَم ابن أثال طبيب معاوية، أنه سَمَّ عمه عبد الرحمن بن خالد، فاعتَرَض لابن أُثَال، فقتله، ثم لم يزل مخالفًا لبني أمية، قال الزبير: وقد انقرض ولد خالد بن الوليد، فلم يبق منهم أحد، وورثهم أيوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة دارَهم بالمدينة، وذكر الواقديّ أن معاوية ضرب خالدًا، وأغرمه، وحُبِس حتى مات معاوية، وقيل: إن الذي قتل ابن أثال خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وذكره ابن حبان في "الثقات".
تفرّد به المصنّف بهذا الحديث متابعةً.
[تنبيه]: سيف الله هو خالد بن الوليد الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، سمّاه بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ينكأ في أعداء الله، ذكره النوويّ رحمه الله
(2)
.
(أَنَّهُ بَيْنَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ رَجُلٍ) هو ابن عبّاس رضي الله عنهما، ففي رواية أبي عوانة: قال ابن شهاب: وأخبرني خالد بن المهاجر بن سيف الله أنه بينما هو جالس عند ابن عباس، جاءه رجل، فاستفتاه في المتعة، فأمره ابن عباس بها. . . . (جَاءَهُ رَجُلٌ) لا يُعرف اسمه (فَاسْتَفْتَاهُ)؛ أي: طلب منه الفتوى، وهو بيان الحكم (فِي الْمُتْعَةِ)؛ أي في نكاح المتعة (فَأَمَرَهُ بِهَا)؛ أي: أمر السائل أن يستمتع بها (فَقَالَ لَهُ ابْنُ أَبِي عَمْرَةَ الْأَنْصَارِيُّ) هو: محمد بن عبد الرحمن بن
(1)
"المفهم" 4/ 99.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 188.
حارثة الأنصاريّ، أبو الرجال
(1)
، أو أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ [5] تقدّم في "صلاة المسافرين وقصرها" 46/ 1890.
وقوله: (مَهْلًا) وفي رواية أبي عوانة: "فقال له ابن أبي عمرة الأنصاريّ: مهلًا يا ابن عباس".
و"مَهْلًا": منصوب على المصدريّة لعامل محذوف؛ أي: أَمْهِل في فتواك هذا، ولا تعجل فيه، قال المجد رحمه الله: الْمَهْلُ بالفتح، ويُحرَّك، والْمُهْلة بالضمّ: السكينة، والرفق، وأمهله: رَفَقَ به، ومَهَّله تمهيلًا: أجّله، وتَمَهَّل: اتَّأَدَ، ويقال: مَهْلًا يا رجلُ، وكذا للأنثى، والجمعِ، بمعنى أَمْهِلْ، وتقول: مُجيبًا لمن قال لك: مَهَلًا: لَا مَهْلَ والله، ولا تقول: لا مهلًا والله، وتقول: ما مَهْلٌ والله بمغنيةٍ عنك. انتهى
(2)
.
(قَالَ)؛ أي: الرجل المفتي، وهو ابن عبّاس رضي الله عنهما، كما أسلفته آنفًا (مَا هِيَ)"ما" استفهاميّة، و"هي" ضمير القصّة، أي: أيّ شيء القصّة التي تمنعني عن هذا الفتوى، والاستفهام للإنكار، بدليل قوله:(وَاللهِ لَقَدْ فُعِلَتْ) بالبناء للمفعول، والضمير للمتعة (فِي عَهْدِ إِمَامِ الْمُتَّقِينَ) هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية أبي عوانة: "قال ابن عباس: أَمَّا هي، والله لقد فُعِلَت في عهد إمام المتقين".
وغرض ابن عبّاس رضي الله عنهما بهذا الإنكار على ابن أبي عمرة في إنكاره عليه فتواه المذكورة؛ أي: كيف تنكر عليّ، وقد فعلها الناس في عهده صلى الله عليه وسلم بأمره؟ وقد صدق ابن عبّاس رضي الله عنهما في ذلك، ولكن الحقّ مع ابن أبي عمرة؛ لأنه متمسّك بالنسخ الثابت عنه صلى الله عليه وسلم، كما بيّن ذلك بقوله:(قَالَ ابْنُ أَبِي عَمْرَةَ: إِنَّهَا كَانَتْ رُخْصَةً) وفي رواية أبي عوانة: قال ابن أبي عمرة: "يا أبا عباس إنها كانت رخصة. . ."(فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، لِمَن اضْطُرَّ إِلَيْهَا)؛ أي: لمن احتاج
(1)
"أبو الرجال" بكسر الراء، وتخفيف الجيم مشهور بهذه الكنية، وهي لقب بصورة الكنية؛ لأن له عشرة من الأولاد الذكور، و"عمرة" أمه، وهي عمرة بنت عبد الرحمن الأنصاريّة.
(2)
"القاموس المحيط" 4/ 52 - 53.
إليها، قال الفيّومىّ رحمه الله: ضَرّه إلى كذا، واضطرّه، بمعنى ألجأه إليه، وليس له منه بُدٌّ. انتهى
(1)
.
وقال المجد رحمه الله: الاضطرار: الاحتياج إلى الشيء، واضطَرَّه إليه: أحوجه، وألجأه، فاضْطُرَّ بضمّ الطاء. انتهى
(2)
.
(كَالْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، ثُمَّ أَحْكَمَ اللهُ الدِّينَ)؛ أي: أثبته، ومنع من تغييره، يقال: أحكمه: إذا أتقنه، فاستَحكم، ومنعه عن الفساد، كَحَكَمَهُ حَكْمًا، وعن الأمر: رجعه، فحَكَمَ، ومنعه مما يريد، كَحَكَمه، وحَكَمَه، قاله في "القاموس"
(3)
.
(وَنَهَى عَنْهَا) ببناء الفعل للفاعل (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي رَبِيعُ بْنُ سَبْرَةَ الْجُهَنِيُّ؛ أَنَّ أَبَاهُ قَالَ: قَدْ كُنْتُ اسْتَمْتَعْتُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةً مِنْ بَنِي عَامِرٍ بِبُرْدَيْنِ أَحْمَرَيْنِ) تقدّم وجه الجمع بينه وبين ما تقدّم من أنه استمتع بها ببرد واحد (ثُمَّ نَهَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَن الْمُتْعَةِ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَسَمِعْتُ رَبِيعَ بْنَ سَبْرَةَ يُحَدِّثُ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ) بن مروان بن الحكم الأمويّ الخليفة الراشد، والد عبد العزيز المذكور قبل ستة أحاديث، توفّى في رجب سنة (101) وقد تقدّمت ترجمته في "المقدّمة" 6/ 46. (وَأَنَا جَالِسٌ) جملة حاليّة من "سمعتُ".
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم تخريجه قبل تسعة أحاديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3431]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ، عَن ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سَبْرَةَ الْجُهَنِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَن الْمُتْعَةِ، وَقَالَ: "ألَا إِنَّهَا
(1)
"المصباح المنير" 2/ 360.
(2)
"القاموس المحيط" 2/ 75.
(3)
"القاموس المحيط" 4/ 98.
حَرَامٌ مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كَانَ أَعْطَى شَيْئًا، فَلَا يَأْخُذْهُ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ) هو: إبراهيم بن أبي عَبْلة - بسكون الموحّدة - واسمه شَمِر - بكسر الشين المعجمة - ابن يقظان بن عبد الله الْمُرْتَحل، أبو إسماعيل، ويقال: أبو سعيد الرمليّ، وقيل: الدمشقيّ، ثقةٌ [5].
أرسل عن عتبة بن غزوان، ورَوَى عن أنس بن مالك، وأم الدرداء الصغرى، وبلال بن أبي الدرداء، وعقبة بن وَسّاج، وغيرهم.
وروى عنه مالك، والليث، وابن المبارك، وابن إسحاق، وضمرة بن ربيعة، وغيرهم.
قال ابن معين، ودُحَيم، ويعقوب بن سفيان، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن المدينيّ: كان أحد الثقات، وقال أبو حاتم: صدوقٌ، وقال الذُّهليّ: يا لك من رجل، وقال الدارقطنيّ: الطرق إليه ليست تصفو، وهو ثقة لا يخالف الثقات، إذا روى عنه ثقةٌ، وقال ضمرة بن ربيعة: ما رأيت أفصح منه، مات سنة إحدى أو اثنين وخمسين ومائة، كذا قال محمد بن أبي أسامة، وأبو مسلم المستملي عن ضمرة، وقال غير واحد عن ضمرة: مات سنة (152) من غير شك، وكذا قال ابن يونس، وقال حيوة بن شُريح، عن ضمرة: مات سنة اثنتين، أو ثلاث وخمسين.
وفي كتاب ابن أبي حاتم، عن أبيه: رأى ابن عمر، وروى عن واثلة بن الأسقع، وهو صدوقٌ ثقةٌ، وقال البخاريّ في "التاريخ": سمع ابن عمر، وأخرج الطبراني في "مسند الشاميين" من طريق إبراهيم، قال: رأيت ابن عمر يحتبي يوم الجمعة. انتهى.
وقال الذهبيّ في "مختصر المستدرك": أرسل عن ابن عمر، وتبعه العلائيّ في "المراسيل"، فقال: لم يدرك ابن عمر، قال الحافظ: وهو متعقب بما أسلفناه، وقال النسائيّ في "التمييز": ليس به بأسٌ، وقال الخطيب: ثقةٌ من تابعي أهل الشام، يُجْمَع حديثه، وقال ابن عبد البر في "التمهيد": كان ثقةً فاضلًا، له أدب ومعرفةٌ، وكان يقول الشعر الحسن. انتهى.
وأغرب يحيى بن يحيى الليثيّ، فقال في "الموطأ": عن إبراهيم بن عبد الله بن أبي عَبْلة، و"عبد الله" زيادة لا حاجة إليها، قاله في "التهذيب"
(1)
.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
والباقون ذُكروا في الباب، وفي الذي قبله، و"الحسن بن أعين" هو: الحسن بن محمد بن أعين الحرّانيّ، و"معقل" هو: ابن عُبيد الله الجزريّ، و"عمر بن عبد العزيز" هو: الخليفة الراشد رحمه الله المذكور في الحديث الماضي.
[تنبيه]: هذا الإسناد مما انتقده أبو الفضل بن عمّار الشهيد رحمه الله في رسالته المتقدّمة في مقدّمة شرح هذا الكتاب، فقال: ووجدت فيه عن سلمة بن شبيب، عن ابن أعين، عن مَعْقِل، عن ابن أبي عَبْلة، عن عمر بن عبد العزيز، قال: حدّثني الربيع بن سَبْرة، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة، فقال:"إنها حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة، ومن كان أعطى شيئًا، فلا يأخذه".
قال أبو الفضل: وهذا رواه حسين بن عيّاش، وهو شيخٌ بدون ابن أعين
(2)
، عن معقل، عن ابن أبي عَبْلة، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، عن الربيع بن سَبْرة، وهو الصحيح عندنا؛ لأن هذا اللفظ إنما هو لعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، رواه عنه الناس. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الرواية التي أشار إليها أبو الفضل أخرجها أبو عوانة في "مسنده"، (3/ 32) فقال:
(4091)
- حدّثنا هلال بن العلاء، قال: ثنا حسين بن عياش، قال: ثنا معقل بن عبيد الله، قال: حدّثني إبراهيم بن أبي عَبْلة، عن عبد العزيز بن عمر،
(1)
"تهذيب التهذيب" 1/ 75 - 76.
(2)
هكذا النسخة، والظاهر أنه سقط منه لفظة "ليس"، والأصل:"شيخ ليس بدون ابن أعين" فليُحرّر، والله تعالى أعلم.
(3)
راجع: "قرّة عين المحتاج في شرح مقدّمة صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" 1/ 149.
عن الربيع بن سَبْرة، عن أبيه سبرة، قال: قَدِمت حاجًّا، فخرجت أمشي أنا وصاحب لي، وعليّ سَحْقٌ، وعلى صاحبي بُرْدٌ أجود من بردي، وأنا أشبّ منه، فلقينا امرأةً، فأعجبني حسنها، أو جمالها، فقلنا لها: هل لك أن تزوجي أحدنا بأحد هذين البردين، قالت: والله ما أبالي، قال: فأيَّنا؟ قالت: برد كبرد، وأنت أعجب إليّ، فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم في تلك العشيَّة، أو من الغد، فأسند ظهره إلى الكعبة، ثم ذكر من شأن المتعة ما ذكر، ثم قال:"ألا إنها حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة، ومن كان أعطى شيئًا فلا يأخذه". انتهى.
وأشار أبو الفضل بقوله: "رواه عنه الناس" إلى ما أخرجه مسلم قبل هذا من رواية عبد الله بن نُمير، وعبدة بن سليمان، كلاهما عن عبد العزيز بن عمر.
والحاصل أن ما قاله أبو الفضل رحمه الله هو الظاهر، فيكون الحديث محفوظًا من رواية عبد العزيز بن عمر، لا من حديث والده عمر بن عبد العزيز؛ لأن الحسن بن أعين خالف فيه حسين بن عيّاش، ولابن عيّاش متابعان فيه، وهما عبد الله بن نمير، وعبدة بن سلمان، فترجّح روايته، فتأمل، والله تعالى أعلم.
وقوله: (مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا) يريد يوم الفتح؛ لما تقدّم من قوله: "نَهَى يوم الفتح عن متعة النساء".
والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3432]
(1407) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَن ابْنِ شِهَابِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ وَالْحَسَنِ ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِمَا، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، أبو عبد الله الإمام الحجة المتّفق على جلالته، وإتقانه [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 378.
3 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ) بن أبي طالب الهاشميّ، أبو هاشم ابن الحنفيّة، ثقةٌ قرنه الزهريّ بأخيه الحسن [4].
رَوَى عن أبيه، محمد ابن الحنفية، وعن صهر له من الأنصار صحابيّ.
ورَوى عنه ابنه عيسى، والزهريّ، وعمرو بن دينار، وسالم بن أبي الجعد، وغيرهم.
قال الزبير: كان أبو هاشم صاحبَ الشيعة، فأوصى إلى محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس، وصرف الشيعة إليه، ودفع إليه كتبه، ومات عنده، وقال ابن سعد: كان صاحب علم، ورواية، وكان ثقةً، قليل الحديث، وكانت الشيعة يَلقونه، وينتحلونه، وكان بالشام مع بني هاشم، فحضرته الوفاة، فأوصى إلى محمد بن عليّ، وقال: أنت صاحب هذا الأمر، وهو في ولدك، ومات في خلافة سليمان بن عبد الملك، وقال ابن عيينة، عن الزهريّ: ثنا عبد الله والحسن ابنا محمد بن عليّ، وكان الحسن أرضاهما، وفي رواية: وكان الحسن أوثقهما، وكان عبد الله يَتَّبِع، وفي رواية: يَجمع أحاديث السبائية، وقال العجليّ: عبد الله والحسن ثقتان، وقال أبو أسامة: أحدهما مرجئ، والآخر شيعيّ، وقال النسائيّ: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن عبد البرّ: كان أبو هاشم عالِمًا بكثير من المذاهب، والمقالات، وكان عالِمًا بالحدثان، وفنون العلم.
قال أبو حسان الزياديّ وغيره: مات سنة ثماني وتسعين، وأرّخه الهيثم: سنة تسع وتسعين، وكذا أرّخه خليفة.
أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وكرّره خمس مرّات.
4 -
(أَبُوهُمَا) هو: محمد بن عليّ بن أبي طالب الهاشميّ، أبو القاسم ابن الحنفيّة المدنيّ، ثقة فقيهٌ [2] مات بعد الثمانين (ع) تقدم في "الحيض" 4/ 701.
5 -
(عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبِ) بن عبد المطّلب بن هاشم الهاشميّ، أبو الحسن الخليفة الراشد، استُشهد سنة (40) وله (63) سنةً على الأرجح (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
وابن شهاب، والحسن بن محمد ذُكرا في الباب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية الابنين عن أبيهما، وفيه أيضًا أربعة من التابعين.
5 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه أحد الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشّرين بالجنة، ومات حين مات، وهو أفضل أهل الأرض من بني آدم بالإجماع.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ وَالْحَسَنِ ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ) وفي رواية البخاريّ من طريق ابن عيينة، أنه سمع الزهريّ يقول: أخبرني الحسن بن محمد بن عليّ، وأخوه عبد الله. . . وذكر البخاريّ في "التاريخ" عن ابن عيينة، عن الزهريّ: أخبرنا الحسن، وعبد الله ابنا محمد بن عليّ، وكان الحسن أوثقهما، ولأحمد عن سفيان: وكان الحسن أرضاهما إلى أنفسنا، وكان عبد الله يَتّبِع السَّبَئِيّة. انتهى.
والسَّبَئِيَّة - بمهملة، ثم موحدة - ينسبون إلى عبد الله بن سبأ، وهو من رؤساء الروافض، وكان المختار بن أبي عبيد على رأيه، ولِما غلب على الكوفة، وتتبع قتلة الحسين، فقتلهم أحبته الشيعة، ثم فارقه أكثرهم لِما ظهر منه من الأكاذيب، وكان من رأي السبئية موالاة محمد بن عليّ بن أبي طالب، وكانوا يزعمون أنه المهديّ، وأنه لا يموت حتى يخرج في آخر الزمان، ومنهم
من أقرّ بموته، وزعم أن الأمر بعده صار إلى ابنه أبي هاشم هذا، ومات أبو هاشم في آخر ولاية سليمان بن عبد الملك سنة ثمان، أو تسع وتسعين، قاله في "الفتح"
(1)
.
(عَنْ أَبِيهِمَا) محمد بن عليّ، وفي رواية الدارقطنيّ في "الموطآت" من طريق يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن مالك، عن الزهريّ: أن عبد الله والحسن ابني محمد أخبراه؛ أن أباهما محمد بن علي بن أبي طالب أخبرهما (عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ) وفي رواية أحمد، عن سفيان:"نَهَى عن نكاح المتعة".
وسبب قول عليّ رضي الله عنه هذا أنه سمع ابن عبّاس رضي الله عنهما يرخّص في المتعة، ففي رواية عبيد الله الآتية:"أنه سمع ابن عباس يُلين في متعة النساء، فقال: مهلًا يا ابن عبّاس، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها"، وفي رواية جويرية، عن مالك:"أنه سمع عليّ بن أبي طالب يقول لفلان: إنك رجل تائه"، والمراد بفلان هو ابن عبّاس، وفي رواية للبخاريّ:"أن عليًّا قيل له: إن ابن عباس لا يرى بمتعة النساء بأسًا"، وللدارقطنيّ:"أن عليًّا سمع ابن عباس، وهو يفتي في متعة النساء، فقال: أما علمت. . .".
وقوله (يَوْمَ خَيْبَرَ) هكذا لجميع الرواة عن الزهريّ: "خيبر" بالمعجمة أوّله، والراء آخره، إلا ما رواه عبد الوهّاب الثقفيّ، عن يحيى بن سعيد، عن مالك في هذا الحديث، فإنه قال:"حُنَين" - بمهملة أوّله، ونونين - أخرجه النسائيّ، والدارقطنيّ، ونبّها على أنه وهمٌ، تفرّد به عبد الوهّاب، وأخرجه الدارقطنيّ من طريق آخر، عن يحيى بن سعيد، فقال:"خيبر" على الصواب، وأغرب من ذلك رواية إسحاق بن راشد، عن الزهريّ، عنه بلفظ:"نهى في غزوة تبوك عن نكاح المتعة"، وهو خطأ أيضًا، قاله في "الفتح"
(2)
.
(وَ) نهَى أيضًا (عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ) - بكسر الهمزة، فسكون النون -: نسبة إلى الإنس، وهم بنو آدم، أو - بضمّ، فسكون -: نسبة إلى
(1)
"الفتح" 11/ 418.
(2)
"الفتح" 11/ 418.
الأُنس، ضدّ الوحشة، أو - بفتحتين: نسبة إلى الأَنَسَة بمعنى الأُنْس أيضًا، والمراد هي التي تَأْلَفُ البيوت.
قال ابن الأثير: "الحمر الإنسيّة": هي التي تألف البيوت، والمشهور فيها كسر الهمزة، منسوبة إلى الإنمس، وهم بنو آدم، الواحد إنسيٌّ، وفي كتاب أبي موسى ما يدلّ على أن الهمزة مضمومة، فإنه قال: هي التي تألف البيوت، والأُنسُ ضدّ الوحشة، والمشهور في ضدّ الوحشة الأُنسُ بالضمّ، وقد جاء فيه الكسر قليلًا، قال: ورواه بعضهم بفتح الهمزة والنون، وليس بشيء، قال ابن الأثير: إن أراد أن الفتح غير معروف في الرواية، فيجوز، وإن أراد أنه ليس بمعروف في اللغة فلا، فإنه مصدرُ أَنِستُ به آنَسُ أَنَسًا، وأَنَسَةً. انتهى كلام ابن الأثير رحمه الله
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "الأنسية" ضبطوه بوجهين: أحدهما: كسر الهمزة، وإسكان النون، والثاني: فتحهما جميعًا، وصرح القاضي بترجيح الفتح، وأنه رواية الأكثرين، وفي هذا تحريم لحوم الحمر الإنسية، وهو مذهبنا، ومذهب العلماء كافّةً، إلا طائفة يسيرةً من السلف، فقد رُوي عن ابن عباس، وعائشة، وبعض السلف إباحته، وروي عنهم تحريمه، ورُوي عن مالك كراهته، وتحريمه. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: قال في "الفتح": والحكمة في جمع عليّ رضي الله عنه بين النهي عن الحمر الأهليّة والمتعة في هذا الحديث أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يرخّص في الأمرين معًا، فردّ عليه عليّ رضي الله عنه في الأمرين معًا، وأن ذلك يوم خيبر، فإما أن يكون على ظاهره، وأن النهي عنهما وقع في زمن واحد، وإما أن يكون الإذن الذي وقع عام الفتح لم يبلغ عليًّا؛ لقصر مدّة الإذن، وهو ثلاثة أيام، كما تقدّم. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"النهاية" 1/ 74 - 75.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 189.
(3)
"الفتح" 9/ 423.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عليّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 3432 و 3433 و 3434 و 3435 و 3436](1407) وسيأتي في "الذبائح" أيضًا، و (البخاريّ) في "المغازي"(4216) و"النكاح"(5115) و"الذبائح والصيد"(5523) و"كتاب الحيل"(6961)، و (الترمذيّ) في "الأطعمة"(1794)، و (النسائيّ) في "النكاح"(3366 و 3367 و 3368) و"الصيد والذبائح"(4335 و 4336) وفي "الكبرى"(5538 و 5539 و 5540)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1961)، و (مالك) في "الموطإ"(1151)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 162 و 381)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 551 و 5/ 121)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 22)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 79 و 142)، و (الدارميّ) في "سننه"(1990 و 2197)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 26 و 28 و 29 و 5/ 17 و 28 و 29)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 72)، و (ابن الجارود)، في "المنتقى"(1/ 175)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(1/ 251 - 252)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1/ 434)، و (البزّار) في "مسنده"(2/ 241)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 202 و 9/ 329) و"الصغرى"(6/ 191) و"المعرفة"(5/ 340 و 7/ 265)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان تحريم المتعة.
2 -
(ومنها): بيان تحريم الحمر الأهليّة.
3 -
(ومنها): بيان جواز النسخ في الشريعة الإسلامية، وهو مجمع عليه بين المسلمين، كما قال في "الكوكب الساطع":
النَّسْخُ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَاقِعُ
…
وَقَائِلُ التَّخْصِيصِ لَا يُنَازِعُ
4 -
(ومنها): بيان جواز تكرار النسخ، حسب المصالح.
5 -
(ومنها): بيان أن أفاضل الصحابة رضي الله عنهم كانوا يخفى عليهم بعض النصوص الواضحة، فقد خفي على ابن عبّاس رضي الله عنهما نسخ المتعة، فكان يُفتي بجوازها حتى بيّن له عليّ رضي الله عنه ذلك، فمن هنا ينبغي أن يتنبّه المقلّدون
للمذاهب أن الأئمة قد يخفى عليهم بعض النصوص، فيُفتون بخلافه، فيكون ذلك مذهبًا لهم، وهم في ذلك معذورون، فإذا تبيّن الحقّ لمقلّديهم فعليهم أن يتّبعوا النصوص، ويعتذروا عن أئمتهم، ولا يتجمّدوا، فيقولوا: إمامنا أعلم منا، فلعله كان عنده دليلٌ أقوى من هذا، فإن هذا قولٌ بالظنون الكاذبة، فليُتنبّه، فإنه من مزالّ الأقدام، والله تعالى المستعان.
6 -
(ومنها): بيان أن العالم إذا أخطأ النصّ، لا يُضَلَّلُ، ولا يُهْجَر، وإنما يُبيَّن له الحقّ؛ لأنه ما يخالف النصّ إلا باجتهاد، والخطأ في الاجتهاد مغفور، بل صاحبه مأجور، لِما أخرجه الشيخان، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يقول:"إذا حكم الحاكم، فاجتهد، ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد، ثم أخطأ فله أجر"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): قال في "الفتح": قوله: "يوم خيبر" الظاهر أنه ظرفٌ للأمرين: للنهي عن المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية، وحكى البيهقيّ عن الحميديّ أن سفيان بن عيينة كان يقول: قوله: "يوم خيبر" يتعلّق بالحمر الأهليّة، لا بالمتعة، قال البيهقيّ: وما قاله مُحْتَمِلٌ - يعني في روايته هذه - وأما غيره فصرّح أن الظرف يتعلّق بالمتعة، وفي رواية للبخاريّ من طريق مالك بلفظ:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن متعة النساء، وعن لحوم الحمر الأهلية"، وهكذا أخرجه مسلم من رواية ابن عيينة أيضًا، وفي رواية عبيد الله بن عمر، عن الزهريّ عند البخاريّ في "ترك الحيل":"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها يوم خيبر"، وكذا أخرجه مسلم، وزاد من طريقه:"فقال: مَهْلًا يا ابن عباس"، ولأحمد من طريق معمر بسنده أنه "بلغه أن ابن عباس رخّص في متعة النساء، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الأهليّة"، وأخرجه مسلم من رواية يونس بن يزيد، عن الزهريّ، مثل رواية مالك، والدارقطنيّ من طريق ابن وهب، عن مالك، ويونس، وأسامة بن زيد ثلاثتهم، عن الزهريّ كذلك.
وذكر السهيليّ أنّ ابن عيينة رواه عن الزهريّ بلفظ: "نهى عن أكل الحمر الأهليّة عام خيبر، وعن المتعة بعد ذلك، أو في غير ذلك اليوم".
قال الحافظ: وهذا اللفظ الذي ذكره لم أره من رواية ابن عيينة، فقد أخرجه أحمد، وابن أبي عمر، والحميديّ، وإسحاق في مسانيدهم عن ابن عيينة باللفظ الذي أخرجه البخاريّ من طريقه، لكن منهم من زاد لفظ "نكاح"، كما بيّنته، وكذا أخرجه الإسماعيليّ من طريق عثمان بن أبي شيبة، وإبراهيم بن موسى، والعباس بن الوليد، وأخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله بن نُمير، وزُهير بن حرب جميعًا عن ابن عيينة بمثل لفظ مالك، وكذا أخرجه سعيد بن منصور، عن ابن عيينة، لكن قال:"زمن" بدل "يوم"، قال السهيليّ: ويتّصل بهذا الحديث تنبيه على إشكال؛ لأن فيه النهي عن نكاح المتعة يوم خيبر، وهذا شيء لا يعرفه أحدٌ من أهل السير، ورواةِ الأثر، قال: فالذي يظهر أنه وقع تقديم وتأخير في لفظ الزهريّ.
وهذا الذي قاله سبقه إليه غيره في النقل عن ابن عيينة، فذكر ابن عبد البرّ من طريق قاسم بن أصبغ أن الحميديّ ذكر عن ابن عيينة أن النهي زمن خيبر عن لحوم الحمر الأهليّة، وأما المتعة فكان في غير يوم خيبر، قال: ثم راجعت "مسند الحميديّ" من طريق قاسم بن أصبغ، عن أبي إسماعيل السلمي عنه، فقال بعد سياق الحديث:"قال ابن عُيينة: يعني أنه نهى عن لحوم الحمر الأهليّة زمن خيبر، ولا يعني نكاح المتعة"، قال ابن عبد البرّ: وعلى هذا أكثر الناس، وقال البيهقيّ: يُشبه أن يكون كما قال لصحّة الحديث في أنه صلى الله عليه وسلم رخّص فيها بعد ذلك، ثمّ نهى عنها، فلا يتمّ احتجاج عليّ إلا إذا وقع النهي أخيرًا؛ لتقوم الحجة به على ابن عبّاس رضي الله عنهما.
وقال أبو عوانة في "صحيحه": سمعت أهل العلم يقولون: معنى حديث عليّ رضي الله عنه أنه نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر، وأما المتعة، فسكت عنها، وإنما نهى عنها يوم الفتح. انتهى.
والحامل لهؤلاء على هذا ما ثبت من الرخصة فيها بعد زمن خيبر، كما أشار إليه البيهقيّ، لكن يمكن الانفصال عن ذلك بأن عليًّا رضي الله عنه لم تبلغه الرخصة فيها يوم الفتح؛ لوقوع النهي عنها عن قربٍ، كما تقدّم بيانه، ويؤيّد ظاهرَ حديث عليّ رضي الله عنه ما أخرجه أبو عوانة، وصححه من طريق سالم بن عبد الله: "أن رجلًا سأل ابن عمر عن المتعة؟ فقال: حرام، فقال: إن فلانًا
يقول فيها، فقال: والله لقد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّمها يوم خيبر، وما كنّا مسافحين". انتهى ما في "الفتح"
(1)
، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3433]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضُّبَعِيُّ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ مَالِكٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ لِفُلَانٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ تَائِهٌ، نَهَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضُّبَعِيُّ) أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقةٌ جليلٌ [10](ت 231)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 47/ 297.
2 -
(جُوَيْرِيَةُ) بن أسماء بن عُبيد البصريّ، عمّ عبد الله الراوي عنه، صدوقٌ [7](ت 173)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 73/ 390.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (يَقُولُ لِفُلَانٍ) هو ابن عبّاس رضي الله عنهما، كما بيّنته الرواية الآتية.
وقوله: (إِنَّكَ رَجُلٌ تَائِهٌ) في رواية الدارقطنيّ: "إنك امرؤ تائه". و"التائه": هو الحائر الذاهب عن الطريق المستقيم، قال الفيّوميّ رحمه الله: تَاهَ الإنسانُ في الْمَفَازة يَتِيهُ تَيْهًا: ضَلَّ عَن الطريق، وتاه يتُوهُ تَوْهًا لغةٌ، وقد تَيَّهْتُهُ، وتَوَّهْتُهُ، ومنه يُستعار لمن رام أمرًا، فلم يُصادف الصواب، فيقال: إنه تائه. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: رواية جويرية، عن مالك هذه ساقها أبو نعيم في "مستخرجه" (4/ 71) فقال:
(3263)
- حدّثنا أبو بكر بن خلاد غير مرة، ثنا محمد بن غالب (ح) وحدّثنا فاروق الخطابيّ، ثنا إبراهيم بن عبد الله، قالا: ثنا القعنبيّ (ح) وحدّثنا
(1)
"الفتح" 11/ 419 - 420.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 79.
أبو إسحاق بن حمزة، ثنا إبراهيم بن شريك، ثنا أحمد بن يونس (ح) وحدّثنا أبو أحمد، ثنا أبو خليفة، ثنا عبد الله بن محمد بن أسماء، ثنا جُويرية، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عبد الله والحسن ابني محمد بن عليّ، عن أبيهما، عن عليّ:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3434]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، جَمِيعًا عَن ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَن الزُّهْرِيِّ، عَن الْحَسَنِ وَعَبْدِ اللهِ ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِمَا، عَنْ عَلِيٍّ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
وكلهم ذُكروا في الباب، وفي الذي قبله، و"ابن نُمير" هو: محمد بن عبد الله بن نُمير.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3435]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَن الْحَسَنِ وَعَبْدِ اللهِ ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِمَا، عَنْ عَلِيٍّ؛ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يُلَيِّنُ فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ، فَقَالَ: مَهْلًا يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب العمريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه [5] مات سنة بضع و (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (يُلَيِّنُ فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ) من التليين، أي: يخفف في شأنها، ويرى إباحتها.
وقوله: (فَقَالَ: مَهْلًا يَا ابْنَ عَبَّاسٍ) فاعل "قال" ضمير عليّ رضي الله عنه، و"مهلًا" تقدم البحث فيها قريبًا.
وقوله: (الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ)؛ أي: الحمر التي تألف الناس، دون الوحشيّة، فإنها مباحة.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3436]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَن الْحَسَنِ وَعَبْدِ اللهِ ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ أَبِيهِمَا؛ أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن السرح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
والباقون ذُكروا في الباب.
والحديث متّفق عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(4) - (بَابُ بَيَانِ تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، أَوْ خَالَتِهَا فِي النِّكَاحِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3437]
(1408) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَن الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ) أبو عبد الرحمن الحارثيّ البصريّ، مدنيّ الأصل، وقد سكنها مدّةً، ثقةٌ ثبتٌ عابد، من صغار [9](ت 221)(خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 17/ 617.
2 -
(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان القرشيّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقة فقيه [5](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.
4 -
(الأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هرمز، أبو داود المدنيّ، مولى ربيعة بن الحارث، ثقة ثبت فقيه [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.
5 -
(أَبُو هُرَيرَةَ) رضي الله عنه، مات سنة (7 أو 8 أو 59)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له ابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، من أوله إلى آخره.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أكثر الصحابة حديثًا، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، كذا في رواية الأعرج، عن أبي هريرة، وكذا رواية قبيصة بن ذُؤيب، واختُلف في رواية الشعبيّ، ففي رواية عنه، عن أبي هريرة، وفي رواية عنه، عن جابر، والحديث صحيح من الطريقين.
وقد أخرج البخاريّ روايته عن جابر، ثم قال: وقال داود، وابن عون، عن الشعبيّ، عن أبي هريرة. قال في "الفتح": أما رواية داود - وهو ابن أبي هند - فوصلها أبو داود، والترمذيّ، والدارميّ من طريقه، قال:"حدثنا عامر - هو الشعبيّ - أنبأنا أبو هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تُنكح المرأة على عمّتها، أو المرأة على خالتها، أو العمّة على بنت أخيها، أو الخالة على بنت أختها، لا الصغرى على الكبرى، ولا الكبرى على الصغرى". لفظ الدارميّ، والترمذيّ نحوه، ولفظ أبي داود:"لا تُنكَح المرأة على عمّتها، ولا على خالتها"، وأخرجه مسلم من وجه آخر، عن داود بن أبي هند، فقال:"عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة"، فكان لداود فيه شيخان، وهو محفوظٌ لابن سيرين عن أبي هريرة من غير هذا الوجه.
وأما رواية ابن عون - وهو عبد الله - فوصلها النسائيّ في "الكبرى" 3/ 294 رقم (5431) من طريق خالد بن الحارث، عنه، بلفظ:"لا تزوّج المرأة على عمّتها، ولا على خالتها"، قال: ووقع لنا في "فوائد أبي محمد بن أبي شريح" من وجه آخر، عن ابن عون، بلفظ:"نهى أن تُنكح المرأة على ابنة أخيها، أو ابنة أختها".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي عزاه إلى "فوائد أبي محمد" موجود عند النسائيّ بالسند السابق، ولعله لم يقع في نسخة الحافظ، ولفظه بعد ما تقدّم:"قال: ولا تزوّج المرأة على ابنة أخيها، ولا ابنة أختها"، فتنبّه.
قال الحافظ: والذي يظهر أن الطريقين محفوظان، وقد رواه حمّاد بن سلمة، عن عاصم، عن الشعبيّ، عن جابر، أو أبي هريرة، لكن نقل البيهقيّ
عن الشافعيّ أن هذا الحديث لم يروه من وجه يثبته أهل الحديث إلا عن أبي هريرة، وروي من وجوه لا يُثبتها أهل العلم بالحديث، قال البيهقيّ: هو كما قال، قد جاء من حديث عليّ، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عبّاس، وعبد الله بن عمرو، وأنس، وأبي سعيد، وعائشة، وليس فيها شيء على شرط الصحيح، وإنما اتفقا على إثبات حديث أبي هريرة.
وأخرج البخاريّ رواية عاصم، عن الشعبيّ، عن جابر، وبيّن الاختلاف على الشعبيّ فيه، قال: والحفّاظ يرون رواية عاصم خطأ، والصواب رواية ابن عون، وداود بن أبي هند. انتهى.
قال الحافظ: وهذا الاختلاف لم يقدح عند البخاريّ؛ لأن الشعبيّ أشهر بجابر منه بأبي هريرة. وللحديث طرق أخرى عن جابر بشرط الصحيح، أخرجها النسائيّ من طريق ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، والحديث محفوظ أيضًا من أوجه عن جابر، والحديث محفوظ أيضًا من أوجه عن أبي هريرة، فلكلٍّ من الطريقين ما يعضده، وقول من نقل البيهقيّ عنهم تضعيف حديث جابر معارَضٌ بتصحيح الترمذيّ، وابن حبّان، وغيرهما له، وكفى بتخريج البخاريّ له موصولًا قوّةً.
قال ابن عبد البرّ: بعض أهل الحديث يزعم أنه لم يَرْوِ هذا الحديث غير أبي هريرة - يعني من وجه يصحّ - وكأنه لم يُصحّح حديث الشعبيّ، عن جابر، وصحّحه عن أبي هريرة، والحديثان جميعًا صحيحان، وأما من نقل البيهقيّ أنهم رووه من الصحابة غير هذين، فقد ذكر مثل ذلك الترمذيّ بقوله:"وفي الباب"، لكن لم يذكر ابن مسعود، ولا ابن عبّاس، ولا أنسًا، وزاد بدلهم: أبا موسى، وأبا أُمامة، وسمرة.
قال الحافظ: ووقع لي أيضًا من حديث أبي الدرداء، ومن حديث عتّاب بن أَسِيد، ومن حديث سعد بن أبي وقّاص، ومن حديث زينب امرأة ابن مسعود، فصار عدّة من رواه غير الأولين ثلاثة عشر نفسًا، وأحاديثهم موجودةٌ عند ابن أبي شيبة، وأحمد، وأبي داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وأبي يعلى، والبزّار، والطبرانيّ، وابن حبّان، وغيرهم، ولولا خشية التطويل لأوردتها مفصّلةً، لكن في لفظ ابن عبّاس عند أبي داود: "أنه كره أن يُجمع بين العمة
والخالة، وبين العمّتين، والخالتين"، وفي روايته عند ابن حبّان: "نهى أن تُزوّج المرأة على العمّة والخالة، وقال: إنكنّ إذا فعلتنّ ذلك، قطعتنّ أرحامكنّ". انتهى
(1)
.
(قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يُجْمَعُ) قال القرطبيّ رحمه الله: برفع العين هي الرواية على الخبر عن المشروعية، فيتضمّن النهي عن ذلك. انتهى
(2)
.
وقال السنديّ: قوله: "لا يجمع" على بناء المفعول: نهيٌ، أو نفيٌ بمعناه، ويَحْتَمِل بناء الفاعل على الوجهين، على أن الضمير لـ "أحد"، أو "ناكح"، والمراد أنه لا يجمع في النكاح بعقد، أو عقدين، أو في الجماع بملك اليمين. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حاصل ما أشار إليه السنديّ أن "لا" هنا يَحْتَمِل أن تكون ناهية، فيكون الفعل مجزومًا، ويَحْتَمِل أن تكون نافيةً، فيكون الفعل مرفوعًا، والمراد به النهي.
قلت: لكن إن صحّت الرواية على الرفع فقط، كما صرّح به القرطبيّ، فإنها متعيّنة، ويكون الكلام نفيًا، بمعنى النهي، ولا يجوز الجزم؛ لأن الرواية مقدّمة، وكذلك كونه بالبناء للفاعل، ويكون الفاعل ضميرًا يعود على "أحد"، أو "ناكح"، يَعْتَمِد على صحّة الرواية، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا") سواء كان بنكاح، أو وطء بملك يمين، وسواء تزوّج إحداهما على الأخرى، أو عقد عليهما معًا، فإن جمع بينهما بعقد بطَلا، أو مرتّبًا بطَل الثاني، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 3437 و 3438 و 3439 و 3440 و 3441
(1)
"الفتح" 11/ 406 - 408.
(2)
"المفهم" 4/ 101.
و 3442 و 3443 و 3444 و 3445 و 3446] (1408)، و (البخاريّ) في "النكاح"(5109 و 5111)، و (أبو داود) في "النكاح"(2065 و 2066)، و (النسائيّ) في "النكاح"(3289 و 3290 و 3291 و 3292 و 3293 و 3294 و 3295 و 3296 و 3297) وفي "الكبرى"(5419 و 5420 و 5422 و 5423 و 5424 و 5425 و 5426)، و (الترمذيّ) في "النكاح"(1126)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1929)، و (مالك) في "الموطإ"(1129)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 462 و 465 و 516 و 529 و 532)، و (الدارميّ) في "سننه"(2178 و 2179)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4113)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(654)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 36 - 37)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 73)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 165) و"المعرفة"(5/ 293)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2277)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في أقوال أهل العلم في الجمع بين من ذُكر في هذا الحديث، ونحوه:
قال الإمام الشافعيّ رحمه الله: تحريم الجمع بين من ذُكر هو قول من لقيته من المفتين، لا اختلاف بينهم في ذلك.
وقال الترمذيّ رحمه الله بعد تخريجه الحديث: العمل على هذا عند عامّة أهل العلم، لا نعلم بينهم اختلافًا أنه لا يحلّ للرجل أن يجمع بين المرأة وعمّتها، أو خالتها، ولا أن تُنكح المرأة على عمّتها، أو خالتها.
وقال ابن المنذر: لست أعلم في منع ذلك اختلافًا اليوم، وإنما قال بالجواز فرقة من الخوارج، وإذا ثبت الحكم بالسنّة، واتفق أهل العلم على القول به، لم يضرّه خلاف من خالفه، وكذا نقل الإجماع ابن عبد البرّ، وابن حزم، والقرطبيّ، والنوويّ، لكن استثنى ابن حزم عثمان الْبَتِّيّ، وهو أحد الفقهاء القدماء من أهل البصرة - وهو بفتح الموحّدة، وتشديد المثنّاة - واستثنى النوويّ طائفةً من الخوارج والشيعة، واستثنى القرطبيّ الخوارج، ولفظه: وهذا الحديث مجمع على العمل به في تحريم الجمع بين من ذُكر فيه بالنكاح، وكذلك أجمع المسلمون على تحريم الجمع بين الأختين بالنكاح؛ لقوله تعالى:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] وأما بملك اليمين، فروي عن
بعض السلف جوازه، وهو خلافٌ شاذّ استقرّ الإجماع بعدُ على خلافه.
وأجاز الخوارج الجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمتها وخالتها، ولا يُعتدّ بخلافهم؛ لأنهم مرقوا من الدين، وخرجوا منه، ولأنهم مخالفون للسنة الثابتة. انتهى.
وتعقّبه في "الفتح"، فقال: وفي نقله عنهم جواز الجمع بين الأختين غلط بيّنٌ، فإن عمدتهم التمسّك بأدلّة القرآن، لا يُخالفونها البتّةَ، وإنما يردّون الأحاديثَ؛ لاعتقادهم عدم الثقة بنقلتها، وتحريم الجمع بين الأختين بنصوص القرآن.
ونقل ابن دقيق العيد تحريم الجمع بين المرأة وعمتها عن جمهور العلماء، ولم يُعيّن المخالف. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحاصل أن جمهور أهل السنّة على العمل بما في حديث الباب، ونحوه، من تحريم الجمع بين المرأة وعمّتها، وبين المرأة وخالتها، وهو الحقّ الذي لا شكّ فيه؛ لثبوت النصوص الصحيحة الصريحة بذلك، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): زاد في الرواية عن ابن شهاب رحمه الله ما نصّه: "فنرى خالة أبيها، وعمّة أبيها بتلك المنزلة".
قال القرطبيّ رحمه الله: إنما صار ابن شهاب إلى ذلك؛ لأنه حمل الخالة، والعمّة على العموم، وتمّ له ذلك؛ لأن العمّة اسم لكلّ امرأة شاركت أباك في أصليه، أو في أحدهما، والخالة اسم لكلّ أنثى شاركت أمك في أصليها، أو في أحدهما.
وقد عقد علماؤنا - يعني المالكيّة - فيمن يحرم الجمع بينهما عقدًا حسنًا، فقالوا: كلّ امرأتين بينهما نسبٌ، بحيث لو كانت إحداهما ذكرًا لحرمت عليه الأخرى، فلا يُجمع بينهما، وإن شئت أسقطت "بينهما نسبٌ" وقلت بعد ذلك: كانت إحداهما ذكرًا، لحرمت عليه الأخرى من الطرفين، وفائدة هذا الاحتراز
(1)
"الفتح" 11/ 408.
مسألة نكاح المرأة وربيبتها
(1)
، فإن الجمع بينهما جائز، ولو قدّرت امرأة الأب رجلًا، لحلّت له الأخرى، وهذا التحرّي
(2)
هو على مذهب الجمهور المجيزين للجمع بين المرأة وربيبتها، وقد منعه الحسن، وابن أبي ليلى، وعكرمة.
وعلّل الجمهور منع الجمع بين من ذكرناه؛ لما يُفضي إليه الجمع من قطع الأرحام القريبة بما يقع بين الضرائر، من الشنآن والشرور بسبب الغيرة، وقد شهد لصحّة هذا التعليل ما ذكره أبو محمد الأصيليّ في "فوائده"، وأبو عمر ابن عبد البرّ عن ابن عباس، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوّج الرجل المرأة على العمة، أو على الخالة، وقال:"إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم"، ومن مراسيل أبي داود عن حسين، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُنكح المرأة على قرابتها، مخافة القطيعة.
وقد طرد بعض السلف هذه العلّة، فمنع الجمع بين بنتي العمّتين، والخالتين، وبنتي الخالين، والعمّين، وجمهور السلف، وأئمة الفتوى على خلافه، وقصر التحريم على ما ينطلق عليه لفظ العمّات، والخالات.
وقد روى الترمذيّ حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا، وقال فيه:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى أن تنكح المرأة على عمّتها، أو العمّة على ابنة أخيها، والمرأة على خالتها، أو الخالة على ابنة أختها، ولا تُنكح الصغرى على الكبرى، ولا الكبرى على الصغرى"، وقال: حديث حسنٌ صحيح
(3)
.
وهو مساقٌ حسنٌ بيّنٌ، غير أن فيه واوًا اقتضت إشكالًا، وهي التي في قوله:"ولا"، وذلك أنه قد ذكر العمّة، وهي الكبرى، وابنة أخيها، وهي الصغرى، والخالة، وهي الكبرى، وابنة أختها، وهي الصغرى، ثم أتى بالنهي عن إدخال إحداهما على الأخرى، طردًا وعكسًا.
(1)
هكذا نسخة: "المفهم"، والظاهر أنه سقطت منه لفظة "عن"، والأصل:"عن مسألة نكاح المرأة. . . إلخ"، فقوله:"فائدة هذا" مبتدأ، خبره "الاحتراز"، و"عن مسألة. . . إلخ" متعلّق بـ "الاحتراز"، والله تعالى أعلم.
(2)
هكذا في النسخة، ولعل الصواب: وهذا التحرّز، فليُحرّر.
(3)
"جامع الترمذيّ" رقم (1126) وهو حديث صحيح، كما قال.
ويرتفع الإشكال بأن تقدّر الواو زائدة، ويكون الكلام الذي بعدها مؤكّدًا لما قبلها، ومؤيّدًا له.
وفي كتاب أبي داود من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، مرفوعًا:"نَهَى أن يُجمع بين العمّة والخالة، وبين العمتين، والخالتين"، قال ابن النّحّاس: الواجب على لفظ هذا الحديث ألا يُجمعَ بين امرأتين، إحداهما عمة الأخرى، والأخرى خالة الأخرى، وهذا يخرّج على وجه صحيح، وهو أن يكون رجلٌ، وابنه تزوّجا امرأة وابنتها، تزوّج الأب البنت، والابن الأمّ، فولدت كلّ واحدة منهما بنتًا، فابنة الأب عمّة ابنة الابن، وابنة الابن خالة ابنة الأب.
وأما الخالتان: فأن يتزوّج رجلٌ ابنة رجل، ويتزوّج الثاني ابنة الأول، فيولد لكلّ منهما ابنةٌ، فابنة كلّ واحد منهما خالة الأخرى.
وأما العمتان: فأن يتزوّج رجلٌ أمّ رجل، ويتزوّج الآخر أمّ الآخر، ثم يولد لكلّ واحد منهما ابنةٌ، فبنت كلّ واحد منهما عمّة الأخرى. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث مفيدٌ.
وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله تعالى: قد اختلف العلماء في المعنى المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تُنكح المرأة على عمّتها، ولا على خالتها":
فقالت طائفة: معناه كراهية القطيعة، فلا يجوز لأحد أن يجمع بين امرأتين بينهما قرابة رحمٍ محرّمة، أو غير محرّمة، فلم يجيزوا الجمع بين ابنتي عمّ، أو عمّة، ولا بين ابنتي خال، أو خالة. روي ذلك عن إسحاق بن طلحة بن عبيد الله، والحسن بن أبي الحسن، وجابر بن زيد، وعكرمة، وقتادة، وعطاء، على اختلاف عنه. وروى ابن عيينة عن ابن أبي نَجيح، عن عطاء أنه كره أن يُجمع بين ابنتي العمّ. وعن ابن عيينة، وابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن الحسن بن محمد بن عليّ أنه أخبره أن حسن بن حسن بن عليّ نكح ابنة محمد بن عليّ، وابنة عمر بن عليّ، جمع بين ابنتي عمّ، فأصبح نساؤهم لا يدرين إلى أيّتهما يذهبن، قال ابن جريج: فقلت لعطاء: الجمع بين المرأة وابنة عمّها؟ قال: لا بأس بذلك.
(1)
"المفهم" 4/ 102 - 104.
قال أبو عمر: ابن جريج أثبت الناس في عطاء، لا يُقاس به فيه ابن أبي نَجيح، ولا غيره. وروى معمر، عن قتادة، قال: لا بأس أن يجمع الرجل بين ابنتي العمّ.
قال أبو عمر: على هذا القول جمهور العلماء، وجماعة الفقهاء، أئمة الفتوى: مالك، والشافعيّ، وأبو حنيفة، والثوريّ، وأحمد، وإسحاق، والأوزاعيّ، وغيرهم.
وقال جماعة منهم: إنما يُكره الجمع بين امرأتين، لو كانت إحداهما رجلًا لم يجز له نكاح الأخرى؛ اعتبارًا بالأختين، وليس ابنة العمّ من هذا المعنى، وروى معتمر بن سليمان، عن فُضيل بن ميسرة، عن أبي حَرِيز، عن الشعبيّ، قال: كلّ امرأتين إذا جَعَلتَ موضع إحداهما ذكرًا لم يجز له أن يتزوّج الأخرى، فالجمع بينهما حرامٌ، قلت له: عمن هذا؟ فقال: عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وروى الثوريّ، عن ابن أبي ليلى، عن الشعبيّ، قال: لا ينبغي لرجل أن يجمع بين امرأتين، لو كانت إحداهما رجلًا لم يحلّ له نكاحها، قال سفيان: تفسير هذا عندنا أن يكون من النسب، ولا تكون بمنزلة امرأة رجل، وابنة زوجها، فإنه يَجمَع بينهما إن شاء.
قال أبو عمر: قد اختلف العلماء في جمع الرجل في النكاح بين امرأة رجلٍ وابنته من غيرها، فالجمهور على أن ذلك جائزٌ، وعليه جماعة الفقهاء بالمدينة، ومكة، والعراق، ومصر، والشام، إلا ابن أبي ليلى، من أهل الكوفة، وقد تقدّمه إلى ذلك الحسن، وعليّ، وعكرمة، وخالفهم أكثر الفقهاء؛ لأنه لا نسب بينهما.
وروي أن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، جمع بين امرأة عليّ، وابنته من غيرها، وعبد الله بن صفوان بن أمية، تزوّج امرأة رجل وابنته من غيرها.
وقالت طائفة منهم الحسن، وعكرمة: لا يجوز لأحد أن يجمع بين امرأة رجل وابنته من غيرها، واعتلّوا بالعلّة التي ذكرنا بأن إحداهما لو كان رجلًا لم يحلّ له نكاح الأخرى. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله ببعض تصرّف
(1)
.
(1)
"الاستذكار" 16/ 172 - 176.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر من الأدلة أن ما ذهب إليه الجمهور من جواز نكاح زوجة الرجل، وابنته من غيرها هو الحقّ؛ لظهور حجته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[3438]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُنَّ: الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَالْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ) التجيبيّ المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.
2 -
(اللَّيْثُ) بن سعد الإمام المصريّ، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ) اسمه سُويد، أبو رجاء المصريّ، ثقةٌ فقيه، يُرسل [5](ت 128)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.
4 -
(عِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ) الغِفَاريّ الكنانيّ المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [3] مات بعد المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.
و"أبو هريرة رضي الله عنه" ذُكر قبله.
وقوله: (عَنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ)؛ أي: عن الجمع بين اثنتين منهنّ على الوجه الذي ذُكِر في الحديث.
وقوله: (أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُنَّ) بالبناء للمفعول، والمصدر المؤوّل بدل عن "أربع نسوة".
وقوله: (الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَالْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا) بالجرّ بدل من "هُنّ"؛ أي: بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3439]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ ابْنُ مَسْلَمَةَ: مَدَنِيٌّ مِنَ الْأَنْصَارِ، مِنْ وَلَدِ أَبِي
أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا تُنْكَحُ الْعَمَّةُ عَلَى بِنْتَ الْأَخِ، وَلَا ابْنَةُ الْأُخْتِ عَلَى الْخَالَةِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) بن عبد الله بن عثمان بن حُنيف الأنصاريّ الأوسيّ، أبو محمد المدنيّ، ويقال له: الأُماميّ بالضمّ، يقال: إنه من ولد أبي أُمامة بن سهل بن حُنيف الأنصاريّ، وهو الذي ذكره المصنّف هنا عن شيخه القعنبيّ، صدوقٌ يخطئ [8].
رَوَى عن الزهريّ، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم.
وروى عنه فُليح بن سليمان، وهو من أقرانه، وخالد بن مَخْلد، وسعيد بن أبي مريم، والقعنبيّ، والواقديّ، وغيرهم.
قال يعقوب بن شيبة: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: شيخ مضطرب الحديث، وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، وكان عالِمًا بالسيرة وغيرها، وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: شيخ مجهول، وقال الأزديّ: ليس بالقويّ عندهم، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة اثنتين وستين ومائة، وهو ابن بضع وسبعين سنةً، وكان قد ذهب بصره.
تفرّد به المصنّف، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
2 -
(قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبِ) بن حَلْحَةَ الْخُزاعيّ، أبو سعيد، أو أبو إسحاق المدنيّ، نزيل دمشق، من أولاد الصحابة، وله رؤية، مات سنة بضع و (80)(ع) تقدم في "الجنائز" 4/ 2130.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (قَالَ ابْنُ مَسْلَمَةَ) هو شيخه عبد الله بن مسلمة بن قَعْنب.
وقوله: (مَدَنِيٌّ) خبر لمحذوف، أي: هو مدنيّ.
وقوله: (مِنْ وَلَدِ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ) اسم أبي أُمامة أسعد، معروف بكنيته، معدود في الصحابة، له رؤية، لكنه لم يسمع، ومات سنة مائة، وله (92)(ع) تقدم في "الحيض" 18/ 779.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3440]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَن ابْنِ شِهَابِ، أَخْبَرَنِي قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبِ الْكَعْبِيُّ؛ أَنَّهُ سَمِعَ أَبا هُرَيْرَةَ يَقُولُ:"نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَجْمَعَ الرَّجُلُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا".
(قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَنُرَى خَالَةَ أَبِيهَا، وَعَمَّةَ أَبِيهَا بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
وكلّهم تقدّموا قبله، وقبل ثلاثة أحاديث.
وقوله: (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَنُرَى إلخ) بضم النون؛ أي: نظنّ، وبفتحها؛ أي: نعتقد.
وقوله: (خَالَةَ أَبِيهَا، وَعَمَّةَ أَبِيهَا بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ) أي: من التحريم.
أراد ابن شهاب رحمه الله أن الخالة والعمة لا يُقتصر فيهما على خالة الشخصر وعمته، بل يعمّ خالة أبيه، وعمته، فلا يجوز الجمع بين المرأة وخالة أبيها، ولا عمة أبيها، قال القرطبيّ رحمه الله: إنما صار ابن شهاب إلى ذلك؛ لأنه حَمَل الخالة والعمة على العموم، وتمّ له ذلك؛ لأن العمة اسم لكل امرأة شاركت أباك في أصليه، أو في أحدهما، والخالة اسم لكل أنثى شاركت أمك في أصليها، أو في أحدهما. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: زاد في رواية البخاريّ من تمام قول ابن شهاب قوله: "لأن عروة حدّثني عن عائشة قالت: حرِّموا من الرضاعة، ما يَحْرُم من النسب". انتهى.
قال في "الفتح": قوله: "لأن عروة حدثني إلخ" في أخذ هذا الحكم من هذا الحديث نظرٌ، وكأنه أراد إلحاق ما يَحْرُم بالصهر بما يحرم بالنسب، كما
(1)
"المفهم" 4/ 102.
يحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب، ولمّا كانت خالة الأب من الرضاع لا يَحِلّ نكاحها فكذلك خالة الأب لا يُجمع بينها وبين بنت ابن أخيها.
قال النوويّ رحمه الله: احتَجَّ الجمهور بهذه الأحاديث، وخَصُّوا بها عموم القرآن في قوله تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]، وقد ذهب الجمهور إلى جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مبيّنٌ للناس ما أُنزل إليهم من كتاب الله تعالى، وانفصل صاحب "الهداية" من الحنفية عن ذلك بأن هذا من الأحاديث المشهورة التي تجوز الزيادة على الكتاب بمثلها، والله أعلم. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3441]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو مَعْنٍ الرَّقَاشِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى؛ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَيْهِ
(2)
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلَا عَلَى خَالَتِهَا").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو مَعْنٍ الرَّقَاشِيُّ) زيد بن يزيد الثقفيّ البصريّ، ثقةٌ [11](م) تقدم في "الإيمان" 57/ 328.
2 -
(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) الْهُجيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.
3 -
(هِشَامُ) بن أبي عبد الله سنبر الدستوائيّ، تقدّم قبل باب.
4 -
(يَحْيَى) بن أبي كثير صالح بن المتوكّل، أبو نصر البصريّ، ثم اليماميّ، ثقةٌ ثبتٌ، لكنه يدلّس ويرسل [5](132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.
(1)
"الفتح" 11/ 408 - 409.
(2)
وفي نسخة: "كتب إليه يحيى، عن أبي سلمة".
5 -
(أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ مكثر فقيهٌ [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.
و"أبو هريرة" رضي الله عنه ذُكر قبله.
وقوله: (عَنْ يَحْيَى، أَنَّهُ كَتَبَ إِلَيْهِ إلخ) ضمير "أنه" ليحيى، وضمير "إليه" لهشام، يعني أن يحيى بن أبي كثير كتب بهذا الحديث إلى هشام الدستوائيّ، ففيه العمل بالمكاتبة، وهو قول الجمهور، وهو الصحيح؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يكتب إلى الملوك، والقبائل، وكذلك الخلفاء الراشدون.
ووقع في بعض النسخ: "كتب إليه يحيى، عن أبي سلمة"، والمعنى واحد.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3442]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ شَيْبَانَ، عَنْ يَحْيَى، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ؛ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الكوسج التميميّ، أبو يعقوب المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
2 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى) بن أبي المختار باذام الْعَبْسيّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ كان يتشيّع [9](ت 213)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
3 -
(شَيْبَانُ) بن عبد الرحمن التميميّ مولاهم النحويّ، أبو معاوية البصريّ، ثم الكوفيّ، ثقةٌ صاحب كتاب [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الامام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3443]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَلَا يَسُومُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ، وَلَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلَا عَلَى خَالَتِهَا، وَلَا تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا؛ لِتَكْتَفِئَ صَحْفَتَهَا، وَلْتَنْكِحْ، فَإِنَّمَا لَهَا مَا كَتَبَ اللهُ لَهَا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201) وهو ابن (80) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
3 -
(هِشَامُ) بن حسّان الأزديّ الْقُردوسيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ، من أثبت الناس في ابن سيرين [6](ت 7 أو 148)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ) الأنصاريّ مولاهم، أبو بكر بن أبي عمرة البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ فقيه [3](ت 110)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 308.
و"أبو هريرة" رضي الله عنه ذُكر قبله.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "لَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ) بالرفع على أن "لا" نافية، وبالجزم على أنها ناهية، والأول أبلغ في المنع (عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ) من الخِطْبة - بكسر الخاء - بمعنى التماس النكاح، من باب نصر، الظاهر من تقييده بالأخ يُخرج الكافر والفاسق، فلا يمنع أن يخطب على خطبتهما، وذهب الجمهور إلى المنع من الخِطبة على خطبة الكافر والفاسق، قالوا: والتعبير بالأخ خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له، وذهب الأوزاعيّ، وجماعة من الشافعيّة إلى أنها تجوز الخِطبة على خطبة الكافر، وهو الراجح، وسيأتي تحقيقه مستوفًى بعد باب.
(وَلَا يَسُومُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ: "ولا يسوم" بالواو، وهكذا "يخطبُ" مرفوعٌ، وكلاهما لفظه لفظ الخبر، والمراد به النهي، وهو أبلغ في النهي؛ لأن خبر الشارع لا يُتصور وقوع خلافة، والنهي قد تقع مخالفته، فكأن المعنى: عاملوا هذا النهي معاملة الخبر المتحتِّم. انتهى
(1)
.
و"السّوْمُ": مصدر سام يسوم، من باب قال، يقال: سام البائع السِّلْعَة سَوْمًا: إذا عَرَضَها للبيع، وسامها المشتري، واستامها: إذا طلب بيعها، ومنه:"لا يسوم أحدكم على سوم أخيه": أي لا يشتري، ويجوز حمله على البائع أيضًا، وصورته أن يَعْرِضَ رجل على المشتري سلعته بثمن، فيقول آخر: عندي مثلها بأقل من هذا الثمن، فيكون النهي عامًّا في البائع والمشتري، وقد تزاد الباء في المفعول، فيقال: سُمْتُ به، والتساوم بين اثنين: أن يَعْرِض البائع السلعة بثمن، ويطلبها صاحبه بثمن دون الأول، وساومته سِوَامًا، وتساومنا، واستام عليَّ السِّلعةَ؛ أي: استام على سَوْمِي، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(2)
.
(وَلَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ) ببناء الفعل للمفعول (عَلَى عَمَّتِهَا، وَلَا عَلَى خَالَتِهَا) تقدّم شرح هذه الجملة في الأحاديث الماضية (وَلَا تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا) بالجزم، والرفع، على التوجيه السابق، وقال في "الطرح": قال النوويّ: يجوز في "تسأل" الرفع، والكسر، الأول على الخبر الذي يراد به النهي، وهو المناسب لقوله صلى الله عليه وسلم قبله:"ولا يخطبُ، ولا يسوم"، والثاني على النهي الحقيقي. انتهى.
قال وليّ الدين: ولا يخفى أن الكسر في اللام عارض لالتقاء الساكنين، والفعل مجزوم، وذكر العراقيّ في "شرح الترمذيّ" أنه روي بالوجهين، وهو قدر زائد على تجويز النوويّ الوجهين. انتهى
(3)
.
قيل: هو نهي للمخطوبة عن أن تسأل الخاطب طلاق المرأة التي في نكاحه، وللمرأة من أن تسأل طلاق الضرّة أيضًا، والمراد بالأخت الأخت في
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 192.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 297.
(3)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 35.
الدين، وفي التعبير باسم الأخت تشنيعٌ لفعلها، وتأكيدٌ للنهي عنه، وتحريضٌ لها على تركه، ومثله التعبير باسم الأخ فيما سبق.
وقال وليّ: قال النوويّ: المراد بأختها غيرها، سواء كانت أختها من النسب، أو أختها في الإسلام، أو كافرة. انتهى.
قال: فأما أختها من النسب فكيف يصح إرادتها في الحديث، مع قوله في بقيته:"ولْتَنكِحْ"؛ لأن نكاحها زوجها متعذر مع بقائها في عصمته، وقد ذكر ذلك الخطابيّ، فقال: يريد ضرتها المسلمة، فهي أختها من الدين، ولم يُرد الأخت من قِبَل النسب؛ لأنه لو أراد أن يجمع بينهما في النكاح لم يجز له ذلك. انتهى.
وقد يراد: لتنكح من يحل له نكاحها، ولا تسعى في طلاق أختها لمنفعة زائدة تتوقعها من زوجها، فلتنكح غيره، فانها لا ينالها إلا ما قدِّر لها، وحينئذ يستقيم ما ذكره النوويّ، وأما الكافرة، فقال العراقيّ في "شرح الترمذي": ينبغي أن يجري فيها الخلاف في البيع على بيع أخيه، فإن الأوزاعي يخصه بالمسلم، وقال به من الشافعية أبو عبيد ابن حربويه، ويختاره الخطابيّ، ويدل له قوله في رواية ابن حبان في "صحيحه" في بقية الحديث:"فإن المسلمة أخت المسلمة"، ولكن الجمهور هناك على تعميم الحكم، وأنه لا فرق بينهما. انتهى
(1)
.
وفي رواية للبخاريّ: "لا يحلّ لامرأة تسأل طلاق أختها؛ لتستفرغ صحفتها، فإنما لها ما قدّر لها".
قال وليّ الدين رحمه الله: قوله: "لتستفرغ صحفتها"؛ أي: لا تفعل ذلك لتستفرغ صحفتها، قال الخطابيّ: وهو يريد بذلك الإيثار عليها، فتكون كمن أفرغ صحفة غيره، وكفأ ما في إنائه، فيقلبه في إناء نفسه، وقال ابن عبد البرّ: هو كلام عربيّ مجازيّ، ومعناه لتنفرد بزوجها. انتهى.
قال: واستفراغ صحفتها استعارة لنيل الحظ الذي كان يَحصل لها من الزوج، من نفقة، ومعروف، ومعاشرة، ونحوها، ولا يتقيد ذلك بشيء
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 37.
مخصوص، وعلى ذلك مشى النوويّ في شرح مسلم، وكذا قال أبو العباس القرطبيّ: هذا مثلٌ لإمالة الضرة حقّ صاحبتها من زوجها إلى نفسها، ثم قال: وقيل: هو كناية عن الجماع، والرغبة في كثرة الولد، قال: والأول أولى
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "لا يحلّ لامرأة إلخ" ظاهرٌ في تحريم ذلك، وهو محمولٌ على ما إذا لم يكن هناك سببٌ يجوّز ذلك، كريبةٍ في المرأة، لا ينبغي معها أن تستمرّ في عصمة الزوج، ويكون ذلك على سبيل النصيحة المحضة، أو لضرر يحصُل لها من الزوج، أو للزوج منها، أو يكون سؤالها ذلك بعوض، وللزوج رغبةٌ في ذلك، فيكون كالخلع مع الأجنبيّ، إلى غير ذلك من المقاصد المختلفة.
وقال ابن حبيب: حمل العلماء هذا النهي على الندب، فلو فعل ذلك لم يُفسخ النكاح. وتعقّبه ابن بطّال بأن نفي الحلّ صريح في التحريم، ولكن لا يلزم منه فسخ النكاح، وإنما فيه التغليظ على المرأة أن تسأل طلاق الأخرى، ولْتَرْضَ بما قسم الله لها. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "ولكن لا يلزم إلخ" فيه نظرٌ لا يخفى، فقد تقرّر أن الحقّ كون النهي للفساد، إلا لدليل، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(لِتَكْتَفِئَ) قال في "النهاية": هو تَفْتَعِلُ، من كَفَأت القِدرَ: إذا كَبَبْتَها؛ لتُفْرِغَ ما فيها، يقال: كَفَأْتُ الإناء، وأكفأته: إذا كبَبتَه، وإذا أَمَلْتَهُ، وهذا تمثيلٌ لإمالة الضرّة حقّ صاحبتها من زوجها إلى نفسها، إذا سألت طلاقها
(2)
.
وقال في "الفتح": "تكتفئ" بالهمز افتعال، من كفأت الإناء إذا قلبته، وأفرغت ما فيه، وكذا يَكفأ، وهو بفتح أوله، وسكون الكاف، وبالهمز، وجاء أكفأت الإناء: إذا أملته، وهو في رواية ابن المسيّب:"لتُكفئ" بضمّ أوله، من أكفأت، وهو بمعنى أملته، ويقال: بمعنى كببته أيضًا. انتهى.
(صَحْفَتَهَا) قال صاحب "النهاية": الصحفة إناءٌ كالقصعة المبسوطة، قال:
(1)
"المفهم" 4/ 104، و"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 37.
(2)
"النهاية" 4/ 182.
وهذا مثَلٌ، يريد: الاستئثار عليها بحظّها، فيكون كمن قَلَب إناء غيره في إنائه.
وقال الطيبيّ: هذه استعارة مستملحةٌ تمثيليّةٌ، شُبّه النصيبُ والبَخْتُ
(1)
بالصحفة، وحظوظها، وتمتّعاتها بما يوضع في الصحفة، من الأطعمة اللذيذة، وشبّه الافتراق المسبب عن الطلاق باستفراغ الصحفة عن تلك الأطعمة، ثم أدخل المشبّه في جنس المشبّه به، واستعمل في المشبّه ما كان مستعملًا في المشبّه به. انتهى.
وقال النوويّ رحمه الله: معنى هذا الحديث: نهي المرأة الأجنبيّة أن تسأل الزوج طلاق زوجته، وأن ينكحها، ويُصَيِّر لها من نفقته، ومعروفه، ومعاشرته، ونحوها ما كان للمطلّقة، فعبّر عن ذلك باكتفاء ما في الصحفة مجازًا، والمراد بأختها غيرها، سواء كانت أختها من النسب، أو الرضاع، أو الدِّين، ويُلحق بذلك الكافرة في الحكم، وإن لم تكن أختًا في الدين، إما لأن المراد الغالب، أو أنها أختها في الجنس الآدميّ.
وحَمَل ابن عبد البرّ الأخت هنا على الضرّة، فقال: فيه من الفقه أنه لا ينبغي أن تسأل المرأة زوجها أن يُطلّق ضرّتها لتنفرد به، وهذا ممكن في الرواية التي وقعت بلفظ:"لا تسأل المرأة طلاق أختها"، وأما الرواية التي فيها لفظ الشرط، فظاهرها أنها في الأجنبيّة، ويؤيّده قوله فيها:"ولتنكح"؛ أي: ولتتزوّج الزوج المذكور من غير أن تشترط أن يُطلّق التي قبلها. وعلى هذا فالمراد هنا بالأخت: الأخت في الدين، ويؤيّده زيادة ابن حبّان في آخره من طريق أبي كثير السُّحَيميّ
(2)
، عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:"لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها، فإن المسلمة أخت المسلمة"
(3)
، وقد تقدّم نقل الخلاف عن الأوزاعيّ، وبعض الشافعيّة أن ذلك مخصوص بالمسلمة، وبه جزم أبو الشيخ
(1)
"البَخْتُ" بفتح الموحّدة، وسكون الخاء المعجمة: هو الجَدّ والحظُّ.
(2)
أبو كثير السُّحَيميّ مصغّرًا اليماميّ الأعمى، قيل: هو يزيد بن عبد الرحمن، وقيل: يزيد بن عبد الله بن أُذينة، أو ابن غُفيلة، ثقة من الثالثة، قاله في "التقريب".
(3)
حديث صحيح، أخرجه أحمد في "مسنده" 2/ 311، وابن حبّان في "صحيحه" 9/ 378 رقم (4070).
في "كتاب النكاح"، وياتي مثله هنا، ويجيء على رأي ابن القاسم أن يُستثنى ما إذا كان المسؤول طلاقها فاسقةً، وعند الجمهور لا فرق، قاله في "الفتح".
(وَلْتَنْكِحْ) - بكسر اللام، وبإسكانها، والجزم على الأمر، ويَحْتَمِل النصب عطفًا على قوله:"لتكتفئ"، فيكون تعليلًا لسؤال طلاقها، ويتعيّن على هذا كسر اللام، ثم يَحْتَمِل أن يكون المراد:"ولتنكح" ذلك الرجل من غير أن تتعرّض لإخراج الضرّة من عصمته، بل تَكِلُ الأمر في ذلك إلى ما يُقدّره الله، ولهذا ختم بقوله:"فَإِنَّمَا لَهَا مَا كَتَبَ اللهُ لَهَا" إشارةً إلى أنها، وإن سألت ذلك، وألحّت فيه، واشترطته، فإنه لا يقع من ذلك إلا ما قدّره الله، فينبغي أن لا تتعرّض هي لهذا المحذور الذي لا يقع منه شيء بمجرّد إرادتها، وهذا مما يؤيّد أن الأخت من النسب، أو الرضاع لا تدخل في هذا.
ويَحْتَمِل أن يكون المراد: "ولتنكح" غيره، وتُعرِضْ عن هذا الرجل، أو المراد ما يَشمل الأمرين.
والمعنى: "ولتنكح" من تيسّر لها، فإن كانت التي قبلها أجنبيّةً، فلتنكح الرجل المذكور، وإن كانت أختها، فلتنكح غيره، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال في "الطرح": قوله: "ولْتَنكِحْ" أمر بذلك، وهو على سبيل الإباحة، أو الإرشاد، والاستحباب، وذكر العراقيّ في "شرح الترمذيّ" أنه روي بوجهين: أحدهما: هذا، والثاني بكسر اللام، ونصب الفعل عطفًا على قوله:"لتكتفئ"، ويتعيّن مع هذه الرواية الثانية أن يكون الكلام في الأجنبية، تسأل طلاق الزوجة. انتهى
(2)
.
(فَإِنَّمَا لَهَا مَا كَتَبَ اللهُ لَهَا") يعني أنه لا ينالها من الرزق سوى ما قَدّر الله لها، ولو طَلَّق الزوج من تظن أنها تزاحمها في رزقها، قال الله تعالى:{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51]، قال ابن عبد البرّ: وهذا الحديث من أحسن أحاديث القدر عند أهل العلم والسنة، وفيه أن المرء لا يناله إلا ما قُدِّر له، قال الله عز وجل:{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} ، والأمر في
(1)
"الفتح" 11/ 500 - 503.
(2)
"طرح التثريب" 7/ 39.
هذا واضح لمن هداه الله، والحمد لله. انتهى
(1)
.
وقال ابن العربيّ: هذا الحديث من أصول الدين في السلوك على مجاري القدر، وذلك لا يناقض العمل في الطاعات، ولا يمنع من التحري في الاكتساب، وخَزْن الأقوات، والنظر لغد، وإن كان لا يتحقق أنه يبلغه، لكن بحيث لا يخرج عن سبيل السنّة، ولا يدخل في المكروه والبدعة، ولا يركن إلى أحد على مظنة مضرة، ولا يربط عليها نية. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 3443 و 3444](1408)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2140 و 2150) و"النكاح"(5144 و 5152) و"القدر"(6601)، و (أبو داود) في "الطلاق"(2176 و 3437) و"البيوع"(3438 و 3443)، و (الترمذيّ) في "النكاح"(1134) و"الطلاق"(1190) و"البيوع"(1222 و 1304)، و (النسائيّ) في "النكاح"(3240 و 3241 و 3242 و 3243) و"البيوع"(4503 و 4507 و 4508) وفي "الكبرى"(5356 و 5357 و 5358 و 5359) و"البيوع"(6082 و 6093 و 6096 و 6098)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1867) و"التجارات"(2172 و 2174 و 2175)، و (مالك) في "الموطّإ"(1111 و 1391 و 1666)، و (الشافعيّ) في "الرسالة"(ص 307)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1026 - 1027)، و (أحمد) في "مسنده"(7207 و 7270 و 7406 و 7641 و 7670 و 8039 و 8505 و 8876 و 8969 و 9055 و 9585 و 9875 و 9906 و 9943 و 9973 و 9993 و 10138 و 10271 و 10417 و 10463)، و (الدارميّ) في "سننه"(2175)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4046)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 39 و 272)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 75)،
(1)
"التمهيد" 18/ 165 - 166.
و (ابن الجارود) في "المنتقى"(678)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 4)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 344 و 346 و 7/ 179)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان تحريم خِطبة الرجل على خطبة أخيه.
2 -
(ومنها): بيان تحريم سوم الرجل على سوم أخيه، ويشمل البيع والشراء.
3 -
(ومنها): بيان تحريم سؤال المرأة طلاق الأخرى حتى يتزوّجها، أو تنفرد به دون الأخرى.
4 -
(ومنها): بيان حرص الشريعة على قطع أسباب الشحناء والبغضاء، والحقد، والحسد، ولذا حرّمت هذه الأشياء المذكورة في هذا الحديث، وما أشبهها، مما يؤدّي إلى وقوع التنافر، والتشاكس، والتخاذل بين المجتمع الإسلاميّ، بل تطالب المسلمين أن يكونوا يدًا واحدةً، وعونًا فيما بينهم، وحربًا لأعدائهم، كما قال الله عز وجل:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)} [التوبة: 71]، وقال:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)} [آل عمران: 105] وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)} [الأنفال: 46]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
5 -
(ومنها): ما قال وليّ الدين رحمه الله: دلّ قوله في رواية البخاري المتقدم ذكرها: "لا يحل لامرأة. . ." على أن النهي في ذلك على سبيل التحريم، وكذا في مسند أحمد، من حديث ابن عمر:"لا تنكح امرأة بطلاق أخرى"، وينبغي حمل التحريم على ما إذا جرى ذلك شرطًا في صلب النكاح، فلو لم يقع إلا مجرد سؤال لم يحرُم؛ لأنه سؤال في مباح، ويدل لذلك تبويب البخاري على تلك الرواية:"باب الشروط التي لا تحل في النكاح"، قال: وقال ابن مسعود: لا تشترط المرأة طلاق أختها، ويوافقه رواية البيهقيّ: "لا
ينبغي لامرأة أن تشترط طلاق أختها"، ولفظ رواية أبي حازم عن أبي هريرة عند البخاريّ: "وأن تشترط المرأة طلاق أختها"، وجرى على ذلك المحبّ الطبريّ في "أحكامه"، فأورد الحديث في ذكر ما نُهي فيه من الشروط، بلفظ: "نُهِي أن تشترط المرأة طلاق أختها"، لكنه عزاه لـ "الصحيحين"، وليس هو عند مسلم بهذا اللفظ.
وقال ابن عبد البر في "التمهيد": فقه هذا الحديث أنه لا يجوز لامرأة، ولا لوليها أن تشترط في عقد نكاحها طلاق غيرها، ولهذا الحديث وشبهه استدَلَّ جماعة من العلماء بأن شرط المرأة على الرجل عند عقد نكاحها أنها إنما تنكحه على أن كل من يتزوجها عليها من النساء فهي طالق، شرط باطلٌ، وعقد نكاحهما على ذلك فاسدٌ، يُفسخ قبل الدخول؛ لأنه شرط فاسد دخل في الصداق المستحلّ به الفرج، ففسد؛ لأنه طابق النهي، ومن أهل العلم من يرى الشرط باطلًا، والنكاح صحيحًا، وهو المختار، وعليه أكثر علماء الحجاز، وهم مع ذلك يكرهون عقد النكاح عليها، وحجتهم هذا الحديث، وما كان مثله، وقصة بريرة رضي الله عنها تقتضي جواز العقد، وبطلان الشرط، وهو أولى ما اعتُمِد عليه في هذا الباب، ومن أراد أن يصح له هذا الشرط المكروه عند أصحابنا عقده بيمين، فيلزمه الحنث في تلك اليمين بالطلاق، أو بما حلف عليه، وليس من أفعال الأبرار، ولا من مناكح السلف استباحة النكاح بالأيمان المكروهة، ثم روي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: شرطُ الله قبل شرطها، قال: ومنهم من يرى أن الشرط صحيح؛ لحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه مرفوعًا: "إن أحق الشروط أن توفوا ما استحللتم به الفروج"، وهذا حديث، وإن كان صحيحًا فان معناه - والله أعلم - أحق الشروط أن يوفى به من الشروط الجائزة. انتهى.
وكلام ابن حزم أيضًا يوافق ما ذكرته، من حمل الحديث على الشرط، فإنه بعد أن قرَّر بطلان النكاح بالشرط، استدَلّ برواية البخاريّ التي لفظها:"لا يحل"، ثم قال: فمن اشترط ما نَهَى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو شرط باطل، وإن عُقد عليه نكاح فالنكاح باطلٌ. انتهى
(1)
.
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 35 - 37.
6 -
(ومنها): أنه يَحْتَمِل أن يكون المراد: أن المرأة الأجنبية تسأل الزوج طلاق زوجته، وأن يَنكحها هي بدلًا عنها، ويَحْتَمِل أن يكون المراد: الزوجة التي هي في العصمة تسأل طلاق ضَرّتها؛ لتنفرد هي بالزوج، وَيحْتَمِل أن المراد أعمّ من ذلك، وإلى الأول ذهب النوويّ، وإلى الثاني ذهب ابن عبد البرّ، قال وليّ الدين: والأول أظهر؛ لقوله: "ولتنكح"، فإنه يدلّ على أن المراد التي ليست الآن ناكحها، وإليه ذهب العراقيّ في "شرح الترمذيّ"، وردّ كلام ابن عبد البر بما ذكرته والثالث مُحْتَمِلٌ، ويُحْمَلُ قوله:"ولتنكح" على أحد القسمين، وهو الأول. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: حمله على الأعمّ أولى عندي، ولا ينافيه قوله:"ولتنكح" لإمكان حمله على أحد القسمين، وهو الأول، كما قال وليّ رحمه الله، والله تعالى أعلم.
7 -
(ومنها): أنه فصّل القاضي أبو بكر ابن العربيّ رحمه الله في المسألة، فقال: من شأن النساء بما رُكِّبن عليه من الغَيرة طلب الانفراد بالزوج، دون الضرّة، فإن كان ذلك رغبةً في الاستبداد بالصحبة، والانفراد بالمعاشرة، فذلك مأذون فيه، وإن كان لأجل المضايقة في الكسوة والنفقة، فذلك ممنوع منه، وفيه ورد هذا الحديث، فمنعَها إذا خُطِبت أن تقول: لا أتزوج إلا بشرط أن يفارق التي عنده؛ رغبةً في حظها من المعيشة؛ لتزداد بها في معيشتها، فإن الرزق قد فُرِغ منه، فلا تطلب منه ما عند غيرها، ويجوز للمرأة الداخلة أن تمنع الخارجة من الدخول، وتقول للزوج: لا تنكحها، فإنها تضايقنا في معيشتنا، وتمنعه منها بهذه النية؛ لأنها لم تطلب من حظ تلك شيئًا، وإنما كَرِهت أن تشاركها في حظها، وذلك لا يناقض القدر، ويجوز لها أن تشترط عليه الاستبداد به في المتعة، ألا ترى إلى أم حبيبة بنت أبي سفيان حين عَرَضَت على رسول الله صلى الله عليه وسلم نكاح أختها، وقالت:"لستُ لك بِمُخْلية، وأحبّ من شَرِكني في خير أختي"، فتمنّت الإخلاء به دون كل زوجة، لو اتفق ذلك لها، ولا يجوز أن تشترط أن كل من يدخل عليها طالقٌ؛ لأن بدخولها عليها قد
(1)
"طرح التثريب" 7/ 37.
صارت أختًا لها، فلا تسأل طلاقها، وإنما لها أن تشترط أن يتأخر عن ذلك، وإذا شرطه لها لزم الوفاء به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"إن أحقّ الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج". انتهى.
قال وليّ الدين رحمه الله بعد ذكر كلام ابن العربيّ المذكور، ما نصّه: ولا دليل على ما ذكره من التفرقة بين طلب الانفراد بالمعاشرة، وطلب الانفراد بالنفقة والكسوة، ولا بين الداخلة والخارجة، والحديث الذي أورده لا يدلّ على شيء مما ذكره، فإن أم حبيبة رضي الله عنها لم تشترط ذلك، ولا طلبته، وإنما فُهِم منها تمنّيه، ولا يلزم من إباحة تمني الشيء إباحة طلبه، واشتراطه، والله أعلم. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: لقد أجاد وليّ الدين رحمه الله في تعقّبه على ما قاله ابن العربيّ المذكور وأفاد بما لا يحتاج إلى زيادة تعليق عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الامام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3444]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحْرِزُ بْنُ عَوْنِ بْنِ أَبِي عَوْنٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَن ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، أَوْ خَالَتِهَا، أَوْ أَنْ تَسْأَلَ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا؛ لِتَكْتَفِئَ مَا فِي صَحْفَتِهَا، فَإِنَّ اللهَ رَازِقُهَا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحْرِزُ بْنُ عَوْنِ بْنِ أَبِي عَوْنٍ) الهلاليّ، أبو الفضل البغداديّ، صدوقٌ [10](ت 231) وله (87)(م) تقدم في "الصلاة" 40/ 1071، من أفراد المصنّف، وله عنده هذا الحديث، والحديث المشار إليه بالرقم المذكور.
2 -
(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ، قاضي الموصل، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
3 -
(دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ) القشيريّ مولاهم، أبو بكر، أو أبو محمد البصريّ، ثقةٌ متقنٌ [5](ت 140) أو قبلها (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.
والباقيان ذُكرا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3445]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى، وَابْنِ نَافِعٍ، قَالُوا: أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى العنَزيّ المعروف بالزَّمِن البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
2 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ) هو: محمد بن أحمد بن نافع، تقدّم قبل بابين.
3 -
(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ [9](ت 194) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.
والباقون ذُكروا في الباب والذي قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق الكلام فيه فيما قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3446]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون البغداديّ المعروف بالسمين، صدوق فاضلٌ ربما وَهِم [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.
2 -
(شَبَابَةُ) بن سوّار المدائنيّ، خراسانيّ الأصل، يقال: اسمه مروان
الفزاريّ مولاهم، ثقةٌ حافظٌ، رُمي بالإرجاء [9](ت 4 أو 5 أو 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.
3 -
(وَرْقَاءُ) بن عُمر اليشكريّ، أبو بشر الكوفيّ، نزيل المدائن، ثقةٌ في غير منصور بن المعتمر، ففيه لين [7](ع) تقدم في "الصلاة" 31/ 999.
و"عمرو بن دينار" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية ورقاء بن عمر، عن عمرو بن دينار هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(5) - (بَابُ بَيَان النَّهْيِ عَنْ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ وَخِطْبَتِهِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3447]
(1409) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ نُبَيْهِ بْنِ وَهْبٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَ طَلْحَةَ بْنَ عُمَرَ بِنْتَ شَيْبَةَ بْنِ جُبَيْرٍ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ يَحْضُرُ ذَلِكَ، وَهُوَ أَمِيرُ الْحَجِّ، فَقَالَ أَبَانُ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكِحُ، وَلَا يَخْطُبُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم أيضًا قبل باب.
3 -
(نَافِعٌ) مولى ابن عمر، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
4 -
(نُبَيْهُ بْنُ وَهْبِ) بن عثمان العبدريّ المدنيّ، ثقةٌ، من صغار [3](ت 126)(م 4) تقدم في "الحج" 12/ 2887.
5 -
(أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ) بن عفّان الأمويّ، أبو سعيد، أو أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 105)(بخ م 4) تقدم في "الحج" 12/ 2887.
6 -
(عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ) بن أبي العاص بن أميّة بن عبد شمس الأمويّ، الخليفة الراشد، استُشهد في ذي الحجة سنة (35)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين روى بعضهم عن بعض: نافع، عن نُبَيه، عن أبان.
5 -
(ومنها): أنَّ صحابيّه أحد الخلفاء الأربعة، وأحد السابقين إلى الإسلام، وأحد العشرة المبشّرين بالجنّة الملقّب بذي النورين، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ نُبَيْهِ) بالتصغير (ابْنِ وَهْبٍ) العبدريّ (أَنَّ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ) بن معمر الأمير، أبو حفص التيميّ، من أشرافَ قريش، كان جوادًا، مُمدّحًا، شجاعًا، كبير الشأن، له فتوحات، مشهودة، وَلِي البصرة لابن الزبير، وحَدَّث عن ابن عمر، وجابر، وعنه عطاء بن أبي رباح، وابن عون، ووَلِي إمرة فارس، ثم وَفَد على عبد الملك، وتُوفي بدمشق، وكان مراهقًا عند مقتل عثمان، وكان يقال له: أحمر قريش، يُضرب بشجاعته المثل، وقد بعث مرة بألف دينار إلى ابن عمر فقبلها، وقال: وَصَلته رحم، وقيل: إنه اشترى مرة جارية بمائة ألف، فتوجّعت لفراق سيدها، فقال له: خذها وثمنها، قال المدائنيّ: تُوُفّي سنة اثنتين وثمانين
(1)
.
(أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَ طَلْحَةَ بْنَ عُمَرَ) هو ابنه، ولم أجد له ترجمة، و"طلحة" هو المفعول الأول لـ "يُزوّج"، والثاني قوله:(بِنْتَ شَيْبَةَ بْنِ جُبَيْرٍ) سيأتي في
(1)
"سير أعلام النبلاء" 4/ 172 - 173.
الرواية التالية بلفظ: "بنت شيبة بن عثمان"، وهو أيضًا صحيح، فقد نُسب أبوها إلى جدّه، وسيأتي تمام البحث فيه هناك - إن شاء الله تعالى -.
[تنبيه]: ذكر الزبير بن بكار رحمه الله أن هذه البنت تُسَمَّى أمة الحميد، قال: وإخوتها: صفيّة، ومُسافع، وعبد الرحمن بنو شيبة. انتهى
(1)
.
(فَأَرْسَلَ إِلَى أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ)، وقوله:(يَحْضُرُ ذَلِكَ) بتقدير حرف مصدريّ، أي أن يحضر، والمصدر المؤوّل مجرور باللام المقدّرة، أي لحضور ذلك النكاح (وَهُوَ أَمِيرُ الْحَجِّ) من جهة عبد الملك بن مروان، والجملة في محلّ نصب على الحال (فَقَالَ أَبَانُ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ) بفتح حرف المضارعة، و"لا" نافية، والفعل مرفوع، والمراد النهي، ويَحْتَمِل أن تكون "لا" ناهية، والفعل مجزوم، مكسور لالتقاء الساكنين، أي لا يعقد النكاح لنفسه.
(وَلَا يُنْكِحُ) - بضم أوله - من الإنكاح، أي لا يعقد لغيره، قال النوويّ: معناه: لا يزوّج امرأة بولاية، ولا وكالة، قال العلماء: سببه أنه لَمّا امتنع في مدة الإحرام من العقد لنفسه، صار كالمرأة، فلا يعقد لنفسه، ولا لغيره، وظاهر هذا العموم أنه لا فرق بين أن يزوّج بولاية خاصّة، كالأب، والأخ، والعمّ، ونحوهم، أو بولاية عامّة، وهو السلطان، والقاضي، ونائبه، وهذا هو الصحيح عندنا، وبه قال جمهور أصحابنا، وقال بعض أصحابنا: يجوز أن يزوِّج المحرم بالولاية العامة؛ لأنها يستفاد بها ما لا يستفاد بالخاصّة، ولهذا يجوز للمسلم تزويج الذمية بالولاية العامة، دون الخاصة.
(واعلم): أن النهي عن النكاح، والإنكاح في حال الإحرام نهي تحريم، فلو عقد لم ينعقد، سواء كان المحرم هو الزوج والزوجة، أو العاقد لهما بولاية، أو وكالة، فالنكاح باطل في كلّ ذلك، حتى لو كان الزوجان، والوليّ مُحِلِّين، ووكَّل الوليّ، أو الزوج مُحْرِمًا في العقد لم ينعقد. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله النوويّ هنا، من أن النهي
(1)
"تقييد المهمل" للجيّانيّ 3/ 852.
(2)
"شرح النووي" 9/ 194 - 195.
للتحريم، وأن النكاح لا ينعقد هو الحقّ الذي لا محيد عنه، ولكن سيأتي له أنه قال في الخِطْبة أنه نهي تنزيه، وهذا تفريق فيه نظر؛ إذ لا دليل يفرّق بينهما، فمصدرهما واحد، فيجب التسوية بينهما، فتأمل.
وهذا الذي تقدم من تحريم نكاح المحرم، هو الذي عليه جماهير أهل العلم، كما سبق، فإنهم رجحوا حديث ميمونة على حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ لِمَا ورد عن ميمونة رضي الله عنها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تزوجها، وهو حلال، فيقدَّم حديثها؛ لكونها صاحبة الواقعة، فهي أعلم من غيرها، ووافقها على ذلك أبو رافع، وقال: وكنت السفير بينهما، ولكون حديثها أوفق لحديث عثمان رضي الله عنه القوليّ المذكور في الباب، قالوا: ولو سلِّم أن حديث ابن عباس يعارض حديث ميمونة رضي الله عنهم يسقط الحديثان للتعارض، ويبقى حديث عثمان القوليّ سالمًا عن المعارضة.
(وَلَا يَخْطُبُ) بفتح أوله، من باب قتل، يقال: خَطَب المرأة إلى القوم: إذا طلب أن يتزوّج منهم، واختطبها، والاسم الخِطْبة - بالكسر -، فهو خاطب، وخَطّاب مبالغة. وأما الخُطبة بالضمّ، فهي الموعظة، يقال: خَطَب القومَ، وعليهم، من باب قَتَل أيضًا، خُطبة بالضم، وهي فُعلة بمعنى مفعولة، نحو نُسخة بمعنى منسوخة، وغُرفة من ماء بمعنى مغروفة، وجمعها خُطَب، مثل غُرْفة وغُرَف، فهو خطيب، والجمع خُطباء، وهو خطيب القوم: إذا كان هو المتكلم عنهم، قاله الفيوميّ
(1)
.
وقال النووي: النهي هنا نهي تنزيه، ليس بحرام.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله النووي غريب؛ لأنه تقدّم له أن النهي في النكاح نهي تحريم، فيبطل به النكاح، فلماذا فرَّق بين النكاح والخِطْبة؟، وقد وردا في نصّ واحد، وما هو الدليل الذي يدلّ على التفريق بينهما؟.
قال: وكذلك يكره للمُحرم أن يكون شاهدًا في نكاح عقده المُحِلُّون، وقال بعض أصحابنا: لا ينعقد بشهادته؛ لأن الشاهد ركن في عقد النكاح، كالوليّ، والصحيح الذي عليه الجمهور انعقاده. انتهى، والله تعالى أعلم
(1)
"المصباح المنير" 1/ 173.
بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عثمان رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: قال الدارقطنيّ رحمه الله في "التتبّع": وأخرج مسلم حديثي نُبيه، وهما صحيحان، ولا عُذر للبخاريّ في تركهما، أما حديث نكاح المُحرِم، فرواه عن نبيه جماعات ثقات، يقال: منهم نافع، وبُكير بن الأشجّ، وأيوب بن موسى، وسعيد بن أبي هلال، وعبد الأعلى، وعبد الجبّار ابنا نُبيه، وغيرهم. رواه عن نافع: أيوب، وعبيد الله، ومالك، ويحيى بن أبي كثير، وشعيب، وسعيد بن عبد العزيز، وفُليح، وغيرهم، وميمون بن يحيى، عن مخرمة، عن أبيه، وابن عيينة، والليث، وعبد الوارث، عن أيوب بن موسى، عن نُبيه. انتهى.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 3447 و 3448 و 3449 و 3450 و 3451](1409)، و (أبو داود) في "المناسك"(1841)، و (الترمذيّ) في "الحج"(840) و"النكاح"(1966)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(2843 و 2844 و 2845) و"النكاح"(3275 و 3276) وفي "الكبرى"(3825 و 3826 و 3827 و 5413 و 5414)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1966)، (ومالك) في "الموطإ"(780)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 180)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(74)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 57 و 64 و 65 و 68 و 69 و 73)، و (الدارميّ) في "سننه"(1823 و 2198)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2649)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4123)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 266 - 267)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 76 - 77)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(444)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 268)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(7/ 240)، و (البزّار) في "مسنده"(2/ 25)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 45)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(3/ 260 - 261)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 65) و"الصغرى"(4/ 69) و"المعرفة"(4/ 35 و 5/ 349 و 350 و 352)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1980)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان النهي عن نكاح المُحْرِم، وقد مرّ آنفًا أن النهي للتحريم، فلا ينعقد نكاحه أصلًا.
2 -
(ومنها): تحريم الخِطبة على المُحْرِم أيضًا.
3 -
(ومنها): أنه لا يجوز أن يعقد المُحْرِم النكاح لغيره أيضًا، لا بالولاية، ولا بالوكالة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم تزويج المُحْرِم:
قال النوويّ رحمه الله: اختَلَف العلماء في نكاح المحرم، فقال مالك، والشافعي، وأحمد، وجمهور العلماء، من الصحابة، فمن بعدهم: لا يصحّ نكاح المحرم، واعتمدوا في ذلك على حديث عثمان رضي الله عنه.
وقال أبو حنيفة، والكوفيون: يصحّ نكاح المحرم؛ لحديث ابن عبّاس في قصة ميمونة رضي الله عنهم.
وأجاب الجمهور عن حديث ميمونة بأجوبة، أصحّها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما تزوجها حلالًا، هكذا رواه أكثر الصحابة، قال القاضي عياض وغيره: ولم يَرْوِ أنه تزوجها محرمًا إلا ابن عباس وحده، وروت ميمونة، وأبو رافع، وغيرهما أنه تزوجها حلالًا، وهم أعرف بالقضية؛ لتعلقهم به، بخلاف ابن عباس؛ ولأنهم أضبط من ابن عباس، وأكثر.
الجواب الثاني: تأويل حديث ابن عباس على أنه تزوجها في الحَرَم، وهو حلال، ويقال لمن هو في الحرم: مُحرِم، وإن كان حلالًا، وهي لغة شائعة، معروفة، ومنه البيت المشهور:
قَتَلُوا ابْنَ عَفَّانَ الْخَلِيفَةَ مُحْرِمًا
أي في حرم المدينة.
والثالث: أنه تعارض القول والفعل، والصحيح حينئذ عند الأصوليين ترجيح القول؛ لأنه يتعدى إلى الغير، والفعل قد يكون مقصورًا عليه.
والرابع: جواب جماعة من الشافعية أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان له أن يتزوج في حال الإحرام، وهو مما خُصّ به دون الأمة، وهذا أصح الوجهين عند الشافعية، والوجه الثاني: أنه حرام في حقه كغيره، وليس من الخصائص.
انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال الحافظ أبو عمر رحمه الله: اختلف الفقهاء في نكاح المحرم: فقال مالكٌ، والشافعيّ، وأصحابهما، والليث، والأوزاعيّ: لا يَنكح المحرم، ولا يُنكِح، فإن فعل فالنكاح باطلٌ. وهو قول عمر بن الخطّاب، وعليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وسعيد بن المسيّب، وسالم بن عبد الله، وسُليمان بن يسار، وبه قال أحمد بن حنبل، قال أحمد: أذهب فيه إلى حديث عثمان، وقال: رُوي عن عمر، وعليّ، وزيد بن ثابت أنهم فرّقوا بينهما.
وقال أبو حنيفة، وأصحابه، وسفيان الثوريّ: لا بأس بأن يَنْكِح المحرم، وأن يُنكِح، وهو قول القاسم بن محمد، وإبراهيم النخعيّ، ذكر عبد الرزّاق، قال: أخبرنا محمد بن مسلم الطائفيّ، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه أنه لم ير بنكاح المحرم بأسًا، قال: وأخبرني الثوريّ، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: يتزوّج المحرم إن شاء، لا بأس به، قال عبد الرزاق: وقال الثوريّ: لا يُلتفت إلى أهل المدينة، حجة الكوفيين في جواز نكاح المحرم حديث ابن عبّاس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة، وهو محرم، رواه جماعة من أصحابه، منهم عطاء بن أبي رباح، ومجاهد بن جبر، وجابر بن زيد، أبو الشعثاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير. وروى ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، قال: حديث ابن شهاب، عن جابر بن زيد، عن ابن عبّاس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة، وهو محرم، فقال ابن شهاب: حدثني يزيد بن الأصمّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوّج ميمونة. . .، قال عمرو: فقلت لابن شهاب: أتجعل حفظ ابن عباس كحفظ أعرابيّ يبول على فخذيه؟
(2)
.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 194 - 195.
(2)
قال الإمام البيهقيّ رحمه الله في "معرفة السنن والآثار" 4/ 36: هذا الذي ذكره عمرو بن دينار لا يوجب طعنًا في روايته، ولو كان مطعونًا في الرواية لَمَا احتجّ به ابن شهاب الزهريّ، وإنما قصد عمرو بن دينار بما قال ترجيح رواية ابن عبّاس على رواية يزيد بن الأصمّ، والترجيح يقع بما قال عمرو، ولو كان يزيد يقوله مرسلًا، =
قال أبو عمر: قد ذكرنا حجة الحجازيين القائلين بأن نكاح المحرم لا يجوز؛ لحديث عثمان رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه نَهَى عن نكاح المحرم، وأن عمر بن الخطّاب فرّق بين من نكح وبين امرأته، والفُرقة لا تكون في هذا إلا عن بصيرة مستحكمة، وذكرنا جماعة الأئمة القائلين من أهل المدينة، وليس مع العراقيين في هذا حجة إلا حديث ابن عباس في قصّة، قد خالفه فيها غيره بما تقدّم ذكره
(1)
.
قال: واختَلَف أهل السير في تزويج رسول الله، فذكر موسى بن عقبة، عن ابن شهاب أنه تزوّجها حلالًا، وقال أبو عبيدة معمر بن المثنّى: تزوّجها، وهو محرمٌ، والأول أصحّ - إن شاء الله - والحجة في ذلك حديث عثمان رضي الله عنه، والحمد لله. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله ببعض اختصار
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي رجحه الحافظ أبو عمر رحمه الله من كون النبيّ صلى الله عليه وسلم تزوّج ميمونة رضي الله عنها، وهو حلالٌ هو الحقّ؛ لقوة دليله، كما سيأتي في الباب.
فقد تَبَيَّن مما سبق أنّ الراجح هو ما ذهب إليه الجمهور، وهو أن المحرم لا يَنكِح، ولا يُنكِح؛ لحديث عثمان رضي الله عنه، ولأن الأرجح في قصّة ميمونة أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها، وهما حلالان؛ لأنها صاحبة القصة أخبرت بذلك، وتابعها على ذلك أبو رافع، وغيره، ويشهد لها حديث عثمان رضي الله عنه.
والحاصل أن الأرجح القول بتحريم نكاح المحرم، وكذا إنكاحه، وخِطْبته، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
= كما كان ابن عبّاس يقوله مرسلًا؛ إذ لم يشهد عمرو القصّة، كما لم يشهدها يزيد بن الأصمّ، إلا أن يزيد إنما رواه عن ميمونة، وهي صاحبة الأمر، وهي أعلم بأمرها من غيرها. انتهى.
قال الجامع: قوله: "إذ لم يشهد عمرو القصّة" هكذا نسخة: "المعرفة"، ولعله:"إذ لم يشهد القصّة"، ويكون الضمير لابن عبّاس، فتأمل، والله تعالى أعلم.
(1)
وسيأتي للمصنّف في الباب.
(2)
"الاستذكار" 11/ 262 - 265.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3448]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، حَدَّثَنِي نُبَيْهُ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: بَعَثَنِي عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مَعْمَرٍ، وَكَانَ يَخْطُبُ بِنْتَ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ عَلَى ابْنِهِ، فَأَرْسَلَنِي إِلَى أَبانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَهُوَ عَلَى الْمَوْسِمِ، فَقَالَ: أَلَا أُرَاهُ أَعْرَابِيًّا، إِن الْمُحْرِمَ لَا يَنْكِحُ، وَلَا يُنْكِحُ، أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ عُثْمَانُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ) هو: محمد بن أبي بكر بن عليّ بن عطاء بن مُقَدَّم الثقفيّ مولاهم، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ [10](234)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.
2 -
(حَمَّادُ بْنُ زَيْدِ) بن درهم الأزديّ الْجَهْضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [8](ت 179) وله (81) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
3 -
(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السختيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ حجةٌ [5](ت 131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: وقع في هذا السند أربعة من التابعين روى بعضهم عن بعض، وهم: أيوب السختيانيّ، ونافع، ونُبيهٌ، وأبان بن عثمان
(1)
.
وقوله: (بِنْتَ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ) تقدّم أن اسمها أمة الحميد.
وقوله: (عَلَى ابْنِهِ) هو طلحة بن عمر المذكور في الحديث الماضي.
وقوله: (وَهُوَ عَلَى الْمَوْسِمِ) أي والحال أن أبان أمير على موسم الحجّ، قال في "القاموس": موسم الحجّ: مُجْتَمَعُهُ. انتهى
(2)
.
وقال في "المصباح": والسِّمَةُ: العلامةُ، ومنه الْمَوْسم؛ لأنه مَعْلَمٌ يُجْتَمَعُ إليه. انتهى
(3)
.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 196.
(2)
"القاموس" 4/ 186.
(3)
"المصباح" 2/ 660.
وقوله: (فَقَالَ: ألَا أُرَاهُ)"ألا" أداة استفتاح وتنبيه، و"أُراه" بضمّ أوله: بمعنى أظنّه، ويَحْتَمِل أن يكون بالفتح، بمعنى أعتقده.
وقوله: (أَعْرَابِيًّا) بالفتح: واحد الأعراب بالفتح أيضًا، وهم سُكّان البادية.
[تنبيه]: قوله: (بِنْتَ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ) انتقد الدارقطنيّ رحمه الله هذا، وصوّب ما تقدّم في رواية مالك أنها بنت شيبة بن جبير، فقال: الصواب ما قاله مالك، وهي ابنة شيبة بن جُبير بن شيبة بن عثمان الْحَجَبيّ، كذا نسبها إسماعيل بن أميّة، عن أيوب بن موسى، عن نُبيه بن وهب، وكذا قال يحيى بن أبي كثير، عن نافع، عن نُبيه، وكذا قال إسماعيل بن عليّة، عن أيوب، عن نافع، عن نُبيه:"ابنة شيبة بن جُبير"، كما قال مالك، وكذا قال عبد المجيد، عن ابن جريج، عن أيوب، عن نافع، كقول مالك، وكذا قال شعيب بن أبي حمزة، عن نافع، عن نُبيه، وكذلك قال سعيد بن أبي هلال، عن نُبيه بن وهب، فقد أصاب مالك في قوله:"بنت شيبة بن جبير"، وتابعه هؤلاء الذين ذكرناهم، ووَهِمَ من خالفهم، والله أعلم.
وقال الحافظ أبو عليّ الجيّانيّ: ذكر أبو داود هذا الحديث، وزعم أن مالكًا وَهِمَ فيه، والقول عندهم قول مالك، قال أبو داود: روى مالك، عن نافع، عن نُبيه بن وهب أن عمر بن عبيد الله أرسل إلى أبان بن عثمان: إني أردت أن أُنكح طلحة بن عمر بنت شيبة بن جُبير، قال: ورواه حماد بن زيد، عن أيوب، فقال:"ابنة شيبة بن عثمان"، وكذلك قال محمد بن راشد، عن عثمان بن عمر القرشيّ، كما قال أيوب. انتهى كلام أبي داود.
قال أبو عليّ: حدّثنا حكم بن محمد، قال: نا أبو بكر بن إسماعيل، قال: نا أبو القاسم البغويّ بمكة إملاءً، قال: نا شيبان - يعني ابن فرّوخ - قال: نا محمد بن راشد، قال: نا عثمان بن عمر القرشيّ أن عمّه عمر بن عبيد الله أراد أن يُنكح ابنه طلحة بن عمر ابنة شيبة بن عثمان، وهو محرم، فأرسل إلى أبان بن عثمان ليحضر، فقال: ألا أراه أعرابيًّا جافيًا، سمعت عثمان رحمه الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَنكح المحرم، ولا يُنكِحُ، ولا يخطُب". انتهى
(1)
.
(1)
"تقييد المهمل" 3/ 850 - 852.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن دعوى أبي داود وَهَم مالك غير صحيحة؛ لأن أكثر الرواة قد تابعوه، وأما تصويب الدارقطنيّ لرواية مالك، وتوهيم رواية أيوب، ففيه نظر؛ لأن أيوب لم ينفرد أيضًا، بل تابعه محمد بن راشد، كما قال أبو داود.
ولذا صوّب القاضي عياض رحمه الله الروايتين، فقال: لعلّ من قال: "شيبة بن عثمان" نسبه إلى جدّه، فلا يكون خطأً، بل الروايتان صحيحتان، إحداهما حقيقة، والأخرى مجازًا. انتهى
(1)
.
والحاصل أن تصحيح الروايتين هو الأولى لأن من قال: "ابنة شيبة بن جبير" نسبه إلى أبيه حقيقةً، ومن قال:"ابنة شيبة بن عثمان" نسبه إلى جدّه الأعلى
(2)
، فاتفقت الروايتان، فتأمله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3449]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى (ح) وحَدَّثَنِي أَبُو الْخَطَّابِ زَيادُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَوَاءٍ، قَالَا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ مَطَرٍ، وَيَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ نُبَيْهِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكِحُ، وَلَا يَخْطُبُ").
رجال هذا الإسناد: أحد عشر:
1 -
(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ) مالك بن عبد الواحد الْمِسْمعيّ البصريّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م د) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.
2 -
(عَبْدُ الْأَعْلَى) بن عبد الأعلى، تقدّم قبل بابين.
3 -
(أَبُو الْخَطَّابِ زِيَادُ بْنُ يَحْيَى) بن حسّان الحسّانيّ النُّكْريّ البصريّ، ثقةٌ [10](ت 254)(ع) تقدم في "الزكاة" 44/ 2432.
(1)
"إكمال المعلم" 4/ 553.
(2)
أي لأنه شيبة بن جبير بن شيبة بن عثمان.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ سَوَاءٍ) السَّدوسيّ الْعَنبريّ، أبو الخطّاب البصريّ المكفوف، جده عنبر يُكْنَى أبا كَرْدَم، صدوقٌ، رُمي بالقدر [9].
رَوَى عن سعيد بن أبي عروبة، وجلّ روايته عنه، وعن رَوْح بن القاسم، وشعبة، وحسين المعلم، وأبي هلال الراسبيّ، وغيرهم.
وروى عنه ابنه سواء، وابن أخيه محمد بن ثعلبة بن سواء، ووهب بن جرير بن حازم، وزيد بن الحباب، وخليفة بن خياط، وزياد بن يحيى الحسانيّ، وغيرهم.
قال الآجريّ، عن أبي داود: كان يطلب الحديث مع أبي عُبيدة الحداد، وقال ابن شاهين في "الثقات": كان يزيد بن زريع يقول: عليكم به، وقال الأزديّ في "الضعفاء": كان يغلو في القدر، وهو صدوق، وقال ابن المدينيّ: هو من الطبقة السابعة من أصحاب شعبة، وقد سئل ابن معين عنه في ابن أبي عروبة: فقال: هو كخالد بن القاسم، وكان في الذكاء يُشَبَّه بقتادة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال هو وعمرو بن عليّ: مات سنة سبع وثمانين ومائة، وقال عمرو بن عيسى: مات سنة تسع وثمانين ومائة.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود في "الناسخ والمنسوخ"، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
5 -
(سَعِيدُ) بن أبي عروبة مِهْرَان اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقة حافظٌ له تصانيف، لكنه كثير التدليس، واختلط [6](ت 6 أو 157)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.
6 -
(مَطَرُ) بن طهمان الورّاق، أبو رجاء السلميّ مولاهم الخراسانيّ، سكن البصرة، صدوقٌ كثير الخطإ [6](ت 125)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 1/ 103.
7 -
(يَعْلَى بْنُ حَكِيمٍ) الثقفيّ مولاهم المكيّ، نزيل البصرة، وكان صديقًا لأيوب، ثقةٌ [6].
رَوَى عن سعيد بن جبير، وعكرمة، وسليمان بن يسار، ونافع مولى ابن عمر، وغيرهم.
وروى عنه يحيى بن أبي كثير، وسعيد بن أبي عروبة، وأيوب السختياني، وجرير بن حازم، ومحمد بن ذكوان، وابن جريج، وحماد بن زيد، وآخرون.
قال أحمد، وابن معين، وأبو زرعة، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: لا بأس به، وقال يعقوب بن سفيان: مستقيم الحديث، وقال ابن خِراش: كان صدوقًا، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد: جاء نعي يعلى بن حكيم من الشام إلى أمه، فكان أيوب يأتيها، ويُسَلِّيها.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط برقم (1409)، و (1473) وأعاده بعده، و (1548)، و (1998).
والباقون ذُكروا قبله.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3450]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، جَمِيعًا عَن ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ نُبَيْهِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ عُثْمَانَ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْمُحْرِمُ لَا يَنْكِحُ، وَلَا يَخْطُبُ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى) بن عمرو بن سعيد بن العاص، أبو موسى المكيّ الأعور، ثقةٌ [6](ت 132)(ع) تقدم في "الحيض" 11/ 750.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.
والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3451]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ نُبَيْهِ بْنِ وَهْبٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مَعْمَرٍ، أَرَادَ أَنْ يُنْكِحَ ابْنَهُ طَلْحَةَ بِنْتَ شَيْبَةَ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي
الْحَجِّ، وَأَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرُ الْحَاجِّ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبَانٍ: إِنِّي قَدْ أَرَدْتُ أَنْ أُنْكِحَ طَلْحَةَ بْنَ عُمَرَ، فَأُحِبُّ أَنْ تَحْضُرَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ أَبَانُ: أَلَا أُرَاكَ عِرَاقِيًّا جَافِيًا، إِنِّي سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ) المصريّ، ثقةٌ [11](ت 248) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.
2 -
(شُعَيْبُ بْنُ اللَّيْثِ) بن سعد الفهميّ مولاهم، أبو عبد الملك المصريّ، ثقةٌ نبيلٌ فقيهٌ، من كبار [10](ت 199)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.
3 -
(خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ) الْجُمحيّ، أو السكسكيّ، أبو عبد الرحيم المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ [6](ت 139)(ع) تقدم في "الإيمان" 87/ 462.
4 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ) الليثيّ مولاهم، أبو العلاء المصريّ، صدوق [6] مات بعد (130) أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 87/ 462.
والباقون ذُكروا في الباب وفيما قبله.
وقوله: (أَنْ يُنْكِحَ ابْنَهُ طَلْحَةَ بِنْتَ شَيْبَةَ بْنِ جُبَيْرٍ)"ابنه" منصوب على أنه مفعولٌ أول لـ "يُنكح"، و"طلحة" منصوب على البدليّة منه، و"بنت شيبة" بالنصب هو المفعول الثاني.
وقوله: (أَلَا أُرَاكَ عِرَاقِيًّا جَافِيًا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع نسخ بلادنا: "عِراقيًّا"، وذكر القاضي أنه وقع في بعض الروايات:"عراقيًا"، وفي بعضها "أعرابيًّا"، قال: وهو الصواب: أي جاهلًا بالسنة، والأعرابيّ: هو ساكن البادية، قال: و"عراقيًا" هنا خطأٌ، إلا أن يكون قد عَرَفَ من مذهب أهل الكوفة حينئذ جواز نكاح المحرم، فيصحّ "عراقيًّا"، أي آخذًا بمذهبهم في هذا جاهلًا بالسنة، والله أعلم. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم أن مذهب الحنفيّة، وسفيان الثوري جواز نكاح المحرم، وإنكاحه، وهم كوفيون، والظاهر أنهم أخذوه ممن سبقهم
من أهل العراق، فيصحّ قوله:"عراقيًّا"، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3452]
(1410) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَإِسْحَاقُ الْحَنْظَلِيُّ، جَمِيعًا عَن ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ. زَادَ ابْنُ نُمَيْرٍ: فَحَدَّثْتُ بِهِ الزُّهْرِيَّ، فَقَالَ: أَخْبَرَنِي يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ، أَنَّهُ: نَكَحَهَا، وَهُوَ حَلَالٌ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو الشَّعْثَاءِ) جابر بن زيد الأزديّ، ثم الْجَوْفيّ البصريّ، ثقةٌ فقيهٌ [3] (ت 93) وقيل:(110)(ع) تقدم في "الحيض" 9/ 739.
والباقون ذُكروا في الباب، والبابين قبله، و"إِسْحَاقُ الْحَنْظَلِيُّ" هو: ابن راهويه.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم، ثم فصّل؛ لما مرّ غير مرّة.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخيه: أبي بكر، وإسحاق، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، والثاني ما أخرج له ابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه ابن عباس رضي الله عنهما من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا.
(عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ) جابر بن زيد (أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (أَخْبَرَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ) بنت الحارث الهلاليّة رضي الله عنها، تُوفيت سنة (51) تقدّمت ترجمتها في "الحيض" 1/ 687.
زاد في رواية النسائيّ من طريق عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما: "جَعَلت
أمرها إلى العباس، فأنكحها إياه"، ولابن حبان، والطبرانيّ من طريق إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق بلفظ: "تزوج ميمونة بنت الحارث في سفره ذلك - يعني عمرة القضاء - وهو حرام، وكان الذي زوّجه إياها العباس"، وفي مغازي أبي الأسود، عن عروة: بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب إلى ميمونة ليخطبها له، فجعلت أمرها إلى العباس، وكانت أختها أم الفضل تحته، فزوّجه إياها، فبنى بها بسَرِف، وقدَّر الله أنها ماتت بعد ذلك بسرف، وكانت قبله صلى الله عليه وسلم تحت أبي رُهْم بن عبد العزى، وقيل: تحت أخيه حُوَيطب، وقيل: سَخْبرة بن أبي رهم، وأمها هند بنت عوف الهلالية.
(وَهُوَ مُحْرِمٌ) وزاد البخاريّ من طريق عكرمة، عن ابن عباس:"وبَنَى بها، وهو حلال، وماتت بسرف".
قال الأثرم: قلت لأحمد: إن أبا ثور يقول: بأيّ شيء يُدفع حديث ابن عباس؟ - أي مع صحته - قال: فقال: الله المستعان، ابنُ المسيِّب يقول: وَهِمَ ابن عباس، وميمونة تقول: تزوجني، وهو حلال. انتهى.
وقد عارض حديث ابن عباس هذا حديث عثمان رضي الله عنهم الذي قبله.
ويُجمع بينهما بحمل حديث ابن عباس على أنه من خصائص النبيّ صلى الله عليه وسلم. قاله في "الفتح".
(زَادَ ابْنُ نُمَيْرٍ) هو محمد بن عبد الله بن نُمير شيخه الثاني في السند (فَحَدَّثْتُ بِهِ الزُّهْرِيَّ) فاعل حدّث ضمير سفيان بن عيينة (فَقَالَ: أَخْبَرَنِي يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ) واسمه عمرو بن عُبيد بن معاوية الْبَكَّائيّ - بفتح الموحّدة، وتشديد الكاف - أبو عوف الكوفيّ، نزيل الرقّة، وهو ابن أخت ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها، يقال: له رؤية، ولا يثبتُ، وهو ثقةٌ من الثالثة، مات سنة (103) تقدّم في "الإيمان" 63/ 357. (أَنَّهُ) صلى الله عليه وسلم (نَكَحَهَا، وَهُوَ حَلَالٌ) وفي الرواية الثالثة قال: حدّثتني ميمونة بنت الحارث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوّجها، وهو حلالٌ، قال: وكانت خالتي، وخالة ابن عبّاس".
وهذه الرواية هي الراجحة؛ لكونها من صاحبة القضيّة، فهي أحفظ لها، وقد رواه مثلها أبو رافع رضي الله عنه، وكان هو السفير بينهما، فهما أخبرُ بالقصّة من ابن عبّاس، وأيضًا فإن المسيِّب رحمه الله قال: وَهِمَ ابنُ عباس، وسيأتي تمام
البحث قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 3452 و 3453](1410)، و (البخاريّ) في "الحج"(1837) و"المغازي"(4259) و"النكاح"(5114)، و (أبو داود) في "المناسك"(1844)، و (الترمذيّ) في "الحج"(842 و 843 و 844)، و (النسائيّ) في "مناسك الحجّ"(2838 و 2839 و 2840 و 2841 و 2842) و"النكاح"(3272 و 3273 و 3274 و 3275) وفي "الكبرى"(3820 و 3821 و 3822 و 3823 و 3824 و 5407 و 5409 و 5410 و 5411 و 5412)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1965)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 346)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 221 و 228 و 245 و 270 و 275 و 283 و 285 و 286 و 324 و 336 و 337 و 346 و 351 و 354 و 359 و 360 و 362)، و (الدارميّ) في "سننه"(1822)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 78)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(3/ 125) و"الكبير"(11/ 52 و 142 و 154 و 318 و 347)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(3/ 263)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 212) و"الصغرى"(6/ 199)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في أقوال أهل العلم في حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا، حيث خالف أحاديث النهي عن نكاح المُحْرِم:
قال الحافظ أبو عمر رحمه الله في "كتاب الاستذكار" ما حاصله: اختلفت الآثار المسندة في تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة رضي الله عنها، واختَلَف في ذلك أهل السيَر، والعلم بالأخبار، فقد أتت الآثار بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوّجها حلالًا متواترةً من طرق شتّى، عن أبي رافع، مولى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن سليمان بن يسار، وهو مولاها، وعن يزيد بن الأصمّ، وهو ابن أختها، وهو قول سعيد بن المسيّب، وسليمان بن يسار، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وابن شهاب،
وجمهور علماء المدينة، يقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَنكح ميمونة إلا وهو حلالٌ، وما أعلم أحدًا من الصحابة رُوي عنه أنه صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة، وهو محرم إلا ابن عباس
(1)
، وحديثه بذلك صحيحٌ ثابتٌ من نكاح ميمونة، إلا أن يكون متعارضًا مع رواية غيره، فيسقط الاحتجاج بكلام الطائفتين، وتُطلب الحجة من غير قصّة ميمونة، وإذا كان كذلك، فإن عثمان بن عفّان قد روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن نكاح المحرم، وقال:"لا يَنكح المحرم، ولا يُنكح"، ولا معارض له؛ لأن حديث ابن عبّاس في نكاح ميمونة قد عارضه في ذلك غيره.
ثم أخرج أبو عمر بسنده عن يزيد بن الأصمّ، قال: حدّثتني ميمونة ابنة الحارث: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوّجها، وهو حلالٌ"، قال يزيد: كانت خالتي، وخالة ابن عبّاس.
وروى حمّاد بن سلمة، عن حبيب بن الشهيد، عن ميمون بن مِهران، عن يزيد بن الأصمّ، عن ميمونة، قالت: تزوّجني رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرِف، وهما حلالان بعدما رجعا من مكّة. وذكر عبد الرزّاق، قال: أخبرني معمر، عن الزهريّ، قال: أخبرني يزيد بن الأصمّ: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تزوّج ميمونة حلالًا.
قال أبو عمر: قد نقل قومٌ حديث يزيد بن الأصمّ مرسلًا؛ لظاهر رواية الزهريّ، وليس كما ظهر، إلا رواية الزهريّ، فحُملت للتأويل، وجاز لمن أخبرته ميمونة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تزوّجها حلالًا أن يُخبر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوّج ميمونة حلالًا، يُحدّث به هكذا وحده، يقول: حدّثتني ميمونة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوّجها حلالًا.
على أنهم يلزمهم مثله في حديث ابن عبّاس: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوّج ميمونة، وهو محرم"؛ لأنه ليس فيه أن ميمونة أخبرته، وموضع ابن عبّاس من ميمونة بموضع يزيد بن الأصمّ سواء. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله
(2)
.
وقال في "الفتح": قال الأثرم: قلت لأحمد: إن أبا ثور يقول: بأيّ شيء
(1)
سيأتي في التنبيه الآتي أنه جاء مثله عن عائشة، وأبي هريرة رضي الله عنهما، ولعل الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله لم يعتدّ بهما؛ لأن فيهما مقالًا سيأتي بيانه، فتنبّه.
(2)
"الاستذكار" 11/ 259 - 262.
يُدفَع حديث ابن عبّاس؟ - أي مع صحّته - قال: فقال: الله المستعان، ابن المسيّب يقول: وَهِمَ ابن عبّاس، وميمونة تقول: تزوّجني وهو حلال. انتهى.
وقد عارض حديث ابن عباس حديث عثمان: "لا ينكح المحرم، ولا يُنكح". أخرجه مسلم.
ويُجمع بينه وبين حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما بحمل حديث ابن عبّاس على أنه من خصائص النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عبد البرّ: اختلفت الآثار في هذا الحكم، لكن الرواية أنه تزوّجها، وهو حلالٌ، جاءت من طرق شتّى، وحديث ابن عبّاس صحيح الإسناد، لكن الوهم إلى الواحد أقرب منه إلى الجماعة، فأقلّ أحوال الخبرين أن يتعارضا، فتطلب الحجة من غيرهما، وحديث عثمان صحيح في منع نكاح المحرم، فهو المعتمد. انتهى.
ومنهم من حمل حديث عثمان على الوطء.
وتُعُقّب بأنه ثبت فيه: "لا يَنكِح" بفتح أوله، و"لا يُنكِح" بضمّ أوله، "ولا يخطب". ووقع في "صحيح ابن حبّان" زيادة:"ولا يُخطب عليه".
ويترجّح حديث عثمان بأنه تقعيد قاعدة، وحديث ابن عبّاس واقعة عين، تَحْتَمِل أنواعًا من الاحتمالات:
[فمنها]: أن ابن عبّاس كان يرى أن من قلّد الهدي يصير محرمًا، كما تقدّم تقرير ذلك في "الحجّ"، والنبيّ صلى الله عليه وسلم كان قلّد الهدي في عمرته تلك التي تزوّج فيها ميمونة، فيكون إطلاقه أنه صلى الله عليه وسلم تزوّجها، وهو محرمٌ، أي عقد عليها بعد أن قلّد الهدي، وإن لم يكن تلبّس بالإحرام، وذلك أنه كان أرسل إليها أبا رافع يخطبها، فجعلت أمرها إلى العبّاس، فزوّجها من النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقد أخرج الترمذيّ، وابن خزيمة، وابن حبّان في "صحيحيهما" من طريق مطر الورّاق، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سليمان بن يسار، عن أبي رافع:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تزوّج ميمونة، وهو حلالٌ، وبنى بها، وهو حلالٌ، وكنت أنا الرسول بينهما"، قال الترمذيّ: لا نعلم أحدًا أسنده غير حمّاد بن زيد، عن مطر، ورواه مالك، عن ربيعة، عن سليمان، مرسلًا.
[ومنها]: أن قول ابن عبّاس: تزوّج ميمونة، وهو محرم، أي داخل الحرام، أو في الشهر الحرام، قال الأعشى [من الرمل]:
قَتَلُوا كِسْرَى بِلَيْلٍ مُحْرِمًا
…
غَادَرُوهُ لَمْ يُمَتَّعْ بِكَفَنْ
أي في الشهر الحرام، وقال آخر [من الكامل]:
قَتَلُوا ابْنَ عَفَّانَ الْخَلِيفَةَ مُحْرِمًا
…
وَدَعَا فَلَمْ أَرَ مِثْلَهُ مَقْتُولَا
أي في البلد الحرام، وإلى هذا التأويل جنح ابن حبّان، فجزم به في "صحيحه".
وعارض حديثَ ابن عباس أيضًا حديثُ يزيد بن الأصمّ: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تزوّج ميمونة، وهو حلالٌ"، أخرجه مسلم من طريق الزهريّ، قال:"وكانت خالته، كما كانت خالة ابن عباس"، وأخرج مسلم من وجه آخر عن يزيد بن الأصمّ، قال:"حدّثتني ميمونة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوّجها، وهو حلالٌ، قال: وكانت خالتي، وخالة ابن عبّاس".
وأما أثر ابن المسيّب الذي أشار إليه أحمد، فأخرجه أبو داود
(1)
، وأخرج البيهقيّ من طريق الأوزاعيّ، عن عطاء، عن ابن عبّاس. . . الحديث، قال: وقال سعيد بن المسيّب: ذَهِلَ ابنُ عباس، وإن كانت خالته، ما تزوّجها إلا بعدما أحلّ.
قال الطبريّ: الصواب من القول عندنا أن نكاح المحرم فاسدٌ؛ لصحّة حديث عثمان رضي الله عنه، وأما قصّة ميمونة، فتعارضت الأخبار فيها، ثم ساق من طريق أيوب، قال: أُنبئت أن الاختلاف في زواج ميمونة إنما وقع لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان بعث إلى العبّاس ليُنكحها إياه، فأنكحه، فقال بعضهم: أنكحها قبل أن يُحرم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: بعدما أحرم، وقد ثبت أن عمر، وعليًّا، وغيرهما من الصحابة فرّقوا بين محرم نكح، وبين امرأته، ولا يكون هذا إلا عن ثبت. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تلخّص مما تقدّم أن حديث كونه صلى الله عليه وسلم تزوّج ميمونة رضي الله عنها، وهما حلالان أرجح من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم
(1)
في سند أبي داود مجهول، لكن يقويّه ما أخرجه البيهقيّ بعده، فتنبّه.
تزوّجها، وهما محرمان؛ لموافقته لحديث عثمان رضي الله عنه مرفوعًا:"لا يَنكح المحرم، ولا يُنكح"، وأما حديث ابن عبّاس، فقابل للتأويلات المذكورة، فلا يُعارض الأول، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله: حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما قد جاء مثله صحيحًا عن عائشة، وأبي هريرة رضي الله عنهما، فأما حديث عائشة، فأخرجه النسائيّ من طريق أبي سلمة عنها، وأخرجه الطحاويّ، والبزّار، من طريق مسروق عنها، وصححه ابن حبّان، وأكثر ما أُعلّ بالإرسال، وليس ذلك بقادح فيه، وقال النسائيّ:"أخبرنا عمرو بن عليّ، أنبأنا أبو عاصم، عن عثمان بن الأسود، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة مثله"، قال عمرو بن عليّ: قلت لأبي عاصم: أنت أمليت علينا من الرقعة ليس فيه عائشة، فقال: دع عائشة، حتى أنظر فيه. وهذا إسناد صحيح، لولا هذه القصّة، لكن هو شاهد قويّ أيضًا.
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فأخرجه الدارقطنيّ، وفي إسناده كاملٌ أبو العلاء، وفيه ضعف، لكنه يَعتضد بحديثي ابن عباس وعائشة.
قال: وفيه ردّ على قول ابن عبد البرّ: إن ابن عبّاس تفرّد من بين الصحابة بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم تزوّج، وهو محرم.
قال: وجاء عن الشعبيّ، ومجاهد مرسلًا مثله، أخرجهما ابن أبي شيبة.
وأخرج الطحاويّ من طريق عبد الله بن محمد بن أبي بكر، قال: سألت أنسًا عن نكاح المحرم؟ فقال: لا بأس به، وهل هو إلا كالبيع، وإسناده قويّ، لكنه في مقابلة النصّ، فلا عبرة به، وكأن أنسًا لم يبلغه حديث عثمان رضي الله عنه. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في ردّ الحافظ على ابن عبد البرّ نظر لا يخفى؛ إذ الظاهر أن مراده ما صحّ في ذلك، وحديث عائشة، وأبي هريرة ضعيفان، كما يظهر مما ذُكر آنفًا، فكيف يُردّ عليه بالضعيف؟.
ثم بعد كتابتي ما تقدّم رأيت الشيخ الشنقيطيّ رحمه الله قد أجاد البحث في هذه المسألة في "تفسيره"، أحببت إيراده بطوله، وإن كان قد تقدّم الغرض منه، إلا أن عنده تحقيقات زائدة، ودونك عبارته:
قال رحمه الله: (واعلم): أوّلًا أن المقرر في الأصول أنه إذا اختلف نصان وجب الجمع بينهما، إن أمكن وإن لم يمكن وجب الترجيح.
وإذا عرفت هذه المقدمة، فاعلم أن من أجوبتهم عن حديث ابن عباس المذكور أنه يمكن الجمع بينه وبين حديث ميمونة، وأبي رافع، أنه تزوجها وهو حلال، ووجه الجمع في ذلك هو أن يُفَسَّر قول ابن عباس: إنه تزوجها وهو محرم، بأن المراد بكونه محرمًا كونه في الشهر الحرام، وقد تزوجها صلى الله عليه وسلم في الشهر الحرام، وهو ذو القعدة، عام سبع في عمرة القضاء، كما ذكره البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" في "كتاب المغازي" في "باب عمرة القضاء"، قال - بعد أن ساق حديث ابن عباس المذكور -: وزاد ابن إسحاق: حدّثني ابن أبي نَجِيح، وأبان بن صالح، عن عطاء، ومجاهد، عن ابن عباس قال: تزوج النبيّ صلى الله عليه وسلم ميمونة في عمرة القضاء. انتهى.
ومعلوم أن عمرة القضاء كانت في الشهر الحرام، وهو ذو القعدة، من سنة سبع، ولا خلاف بين أهل اللسان العربيّ في إطلاق الإحرام على الدخول في حرمة لا تُهْتَك، كالدخول في الشهر الحرام، أو في الحرم، أو غير ذلك.
وقال ابن منظور في "اللسان": وأحرم الرجل: إذا دخل في حرمة لا تُهْتَك، ومن إطلاق الإحرام على الدخول في الشهر الحرام، وقد أنشد في "اللسان" شاهدًا لذلك قول زهير [من الطويل]:
جَعَلْنَ الْقَنَانَ
(1)
عَنْ يَمِينٍ وَحَزْنَهِ
…
وَكَمْ بِالْقَنَانِ مِنْ مُحِلٍّ وَمُحْرِمِ
وقول الآخر [من الطويل]:
وَإذْ فَتَكَ النُّعْمَانُ بِالنَّاسِ مُحْرِمًا
…
فَمُلِّئ مِنْ عَوْفِ بْنِ كَعْبٍ سَلَاسِلُهْ
وقول الراعي [من الكامل]:
قَتَلُوا ابْنَ عَفَّانَ الْخَلِيفَةَ مُحْرِمًا
…
وَدَعَا فَلَمْ أَرَ مِثْلَهُ مَقْتُولَا
فَتَفَرَّقَتْ مِنْ بَعْدِ ذَاكَ عَصَاهُمُ
…
شَقَفًا وَأَصْبَحَ سَيْفُهُمْ مَسْلُولَا
ويروى: "فَلْمْ أَرَ مِثْلَهُ مَخْذُولًا". فقوله: "قتلوا ابن عفان الخليفة
(1)
"القنان": اسم جبل بعينه لبني أسد، وقيل: هو جبل، ولم يخصص. اهـ. "لسان العرب" 13/ 350.
محرمًا": أي في الشهر الحرام، وهو ذو الحجة، وقيل: المعنى أنهم قتلوه في حرم المدينة؛ لأن المُحْرِم يُطلق لغة على كل داخل في حرمة لا تُهتك، سواء كانت زمانية، أو مكانية، أو غير ذلك.
وقال بعض أهل اللغة، منهم الأصمعيّ: إن معنى قول الراعي: "محرمًا" في بيته المذكور كونه في حرمة الإسلام، وذمته التي يجب حفظها، ويحرم انتهاكها، وأنه لم يُخِلَّ من نفسه شيئًا يستوجب به القتل، ومن إطلاق المحرم على هذا المعنى الأخير، قول عديّ بن زيد:
قَتَلُوا كِسْرَى بِلَيْلٍ مُحْرِمًا
…
غَادَرُوهُ لَمْ يُمَتَّعْ بِكَفَنْ
يريد قتل شيرويه أباه أبرويز بن هرمز، مع أن له حرمة العهد الذي عاهدوه به حين مَلَّكوه عليهم، وحرمة الأبوة، ولم يفعل لهم شيئًا يستوجب به منهم القتل، وذلك هو مراده بقوله:"مُحْرِمًا"، وعلى تفسير قول ابن عباس:"وهو محرم" بما ذُكر فلا تعارض بين حديث ابن عباس وبين حديث ميمونة، وأبي رافع.
ولو فرضنا أن تفسير حديث ابن عباس رضي الله عنهما بما ذُكر ليس بمتعين، وليس بظاهر كلَّ الظهور، وأن التعارض بين الحديثين باقٍ، فالمصير إلى الترجيح إذًا واجب، وحديث ميمونة وأبي رافع أرجح من حديث ابن عباس؛ لأن ميمونة هي صاحب القصة، ولا شك أن صاحب القصة أدرى بما جرى له في نفسه من غيره، وقد تقرر في الأصول أن خبر صاحب الواقعة المروية مقدَّم على خبر غيره؛ لأنه أعرف بالحال من غيره، والأصوليون يمثّلون له بحديث ميمونة المذكور، مع حديث ابن عباس.
ومما يرجَّح به حديث أبي رافع على حديث ابن عباس أن أبا رافع هو رسوله إليها يخطبها عليه، فهو مباشر للواقعة، وابن عباس ليس كذلك، وقد تقرر في الأصول ترجيح خبر الراوي المباشر لما روى على خبر غيره؛ لأن المباشر لِما روى أعرف بحاله من غيره، والأصوليون يمثّلون له بخبر أبي رافع المذكور:"أنه صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال، قال: وكنت الرسول فيما بينهما"، مع حديث ابن عباس المذكور:"أنه تزوجها وهو محرم".
ومما يرجَّح به حديث ميمونة، وحديث أبي رافع معًا على حديث ابن
عباس أن ميمونة وأبا رافع كانا بالغين وقت تحمّل الحديث المذكور، وابن عباس ليس ببالغ وقت التحمل، وقد تقرر في الأصول ترجيح خبر الراوي المتحمل بعد البلوغ على المتحمل قبله؛ لأن البالغ أضبط من الصبي لِمَا تحمّل، وللاختلاف في قبول خبر المتحمل قبل البلوغ من الاتفاق على قبول خبر المتحمل بعد البلوغ، وإن كان الراجح قبول خبر المتحمل قبل البلوغ إذا كان الأداء بعد البلوغ؛ لأن المتفق عليه أرجح من المختلف فيه.
فإن قيل: يرجح حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه اتَّفَق عليه الشيخان في "صحيحيهما"، ومعلوم أن ما اتفق عليه مسلم والبخاري أرجح مما انفرد به مسلم، وهو حديث ميمونة، وأرجح مما أخرجه الترمذيّ، وأحمد، وهو حديث أبي رافع.
فالجواب أن غاية ما يفيده اتفاق الشيخين صحة الحديث إلى ابن عباس، ونحن لو جزمنا بأنه قاله قطعًا لم يمنع ذلك من ترجيح حديث ميمونة وأبي رافع عليه؛ لأنهما أعلم بحال الواقعة منه؛ لأن ميمونة صاحبة الواقعة، وأبو رافع هو الرسول المباشر لذلك، فلنفرض أن ابن عباس قال ذلك، وأن أبا رافع وميمونة خالفاه، وهما أعلم بالحال منه؛ لأن لكل منهما تعلقًا خاصًا بنفس الواقعة، ليس لابن عباس مثله.
ومن المرجِّحات التي رجّح بها بعض العلماء حديث تزوُّجه صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال على حديث تزوجه إياها وهو محرم، أن الأول رواه أبو رافع وميمونة، والثاني رواه ابن عباس وحده، وما رواه الاثنان أرجح مما رواه الواحد، كما هو مقرر في الأصول.
ولكن هذا الترجيح المذكور يردّه ما ذكره ابن حجر في فتح الباري، ولفظه: فالمشهور عن ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تزوجها، وهو محرم، وصح نحوه عن عائشة، وأبي هريرة. انتهى.
وعلى تقدير صحة ما ذكره ابن حجر، فمن روى أن تزويجها في حالة الإحرام أكثر.
فإن قيل: يرجح حديثهم إذًا بالكثرة.
فالجواب أنهم وإن كثروا، فميمونة وأبو رافع أعلم منهم بالواقعة، كما
تقدم، والمرجحات يرجح بعضها على بعض، وضابط ذلك عند الأصوليين، هو قوة الظنّ، ومعلوم أن ما أخبرت به ميمونة رضي الله عنها عن نفسها، وأخبر به الرسول بينها وبين زوجها صلى الله عليه وسلم الذي هو أبو رافع أقوى في ظن الصدق مما أخبر به غيرهما.
ومن أقوى الأدلة الدالة على أن حديث ابن عباس لا تنهض به الحجة على جواز عقد النكاح في حال الإحرام: هو أنا لو سلّمنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم، لم تكن في ذلك حجة على جواز ذلك بالنسبة إلى أمته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ثبت عنه في "صحيح مسلم" وغيره من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه ما يدل على منع النكاح في حال الإحرام، وهو عامّ لجميع الأمة، والأظهر دخوله هو صلى الله عليه وسلم في ذلك العموم، فإذا فعل فعلًا يخالف ذلك العموم المنصوص عليه بالقول، دل على أن ذلك الفعل خاص به صلى الله عليه وسلم لتحتّم تخصيص ذلك العموم القولي بذلك الفعل، فيكون خاصًا به صلى الله عليه وسلم.
وقد تقرر في الأصول أن النص القولي العام الذي يشمل النبي صلى الله عليه وسلم بظاهر عمومه لا بنص صريح إذا فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم فعلًا يخالفه، كان ذلك الفعل مخصِّصًا لذلك العموم القوليّ، فيكون ذلك الفعل خاصًا به صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: لا حجة في حديث عثمان المذكور في "صحيح مسلم" على منع عقد النكاح في حال الإحرام؛ لأن المراد بالنكاح فيه وطء الزوجة، وهو حرام في حال الإحرام إجماعًا، وليس المراد به العقد.
فالجواب من أوجه:
الأول: أن في نفس الحديث قرينتين دالتين على أن المراد به عقد النكاح، لا الوطء، الأولى: أنه صلى الله عليه وسلم قال في الحديث المذكور: "لا يَنْكِحُ المحرم، ولا يُنْكَحُ"، فقوله:"ولا يُنْكَحُ" بضم الياء دليل على أن المراد لا يُزَوَّج، ولا يمكن أن يكون المراد بذلك الوطء؛ لأن الولي إذا زوّج قبل الإحرام، وطلب الزوج وطء زوجته في حال إحرام وليّها فعليه أن يمكّنه من ذلك إجماعًا، فدل ذلك على أن المراد بقوله:"ولا يُنكَحُ" ليس الوطء، بل التزويج، كما هو ظاهر.
القرينة الثانية: أنه صلى الله عليه وسلم قال أيضًا: "ولا يخطب"، والمراد خطبة المرأة
التي هي طلب تزويجها، وذلك دليل على أن المراد العقد؛ لأنه هو الذي يطلب بالخطبة، وليس من شأن وطء الزوجة أن يطلب بخطبة، كما هو معلوم.
الوجه الثاني: أن أبان بن عثمان راوي الحديث، وهو من أعلم الناس بمعناه، فسَّره بأدن المراد بقوله:"ولا يُنكح": أي لا يزوَّج؛ لأن السبب الذي أورد فيه الحديث هو أنه أَرسل له عمر بن عبيد الله حين أراد أن يزوج ابنه طلحة بن عمر ابنة شيبة بن جبير، فأنكر عليه ذلك أشدّ الإنكار، وبيَّن له أن حديث عثمان، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم دليل على منع عقد النكاح في حال الإحرام، ولم يُعْلَم أنه أنكر عليه أحد تفسيره الحديث بأن المراد بالنكاح فيه العقد، لا الوطء.
الوجه الثالث: هو ما قدمنا من الأحاديث، والآثار الدالة على منع التزويج في حال الإحرام، كحديث ابن عمر عند أحمد: أنه سئل عن امرأة أراد أن يتزوجها رجل، وهو خارج من مكة، فأراد أن يعتمر، أو يحج؟ فقال: لا تتزوجها وأنت محرم، نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه. انتهى.
فتراه صرّح بأن النكاح المنهي عنه في الإحرام التزويج.
وقال الشوكانيّ في "نيل الأوطار" في حديث ابن عمر هذا: في إسناده أيوب بن عتبة، وهو ضعيف، وقد وُثِّق.
وكالأثر الذي رواه مالك، والبيهقيّ، والدارقطنيّ، عن أبي غَطَفان بن طَرِيف أن أباه طريفًا تزوج امرأة، وهو محرم، فردّ عمر بن الخطاب نكاحه. انتهى.
وذلك دليل على أن عمر يفسر النكاح الممنوع في الإحرام بالتزويج، ولا يخصه بالوطء، وقد روى البيهقي في "السنن الكبرى" بإسناده عن الحسن، عن عليّ قال: من تزوج، وهو محرم نزعنا منه امرأته.
وروى بإسناده أيضًا عن جعفر بن محمد، عن أبيه، أن عليًا رضي الله عنه قال: لا ينكح المحرم، فإن نكح رُدّ نكاحه.
وروى بإسناده أيضًا عن شَوْذَب مولى زيد بن ثابت، أنه تزوج وهو محرم، ففرّق بينهما زيد بن ثابت.
قال: وروينا في ذلك عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وروى
بإسناده أيضًا عن قُدامة بن موسى، قال: تزوجت، وأنا محرم، فسألت سعيد بن المسيِّب، فقال: يفرَّق بينهما.
وروى بإسناده أيضًا عن سعيد بن المسيِّب أن رجلًا تزوج وهو محرم، فأجمع أهل المدينة على أن يفرَّق بينهما. انتهى.
ثم قال الشيخ الشنقيطيّ رحمه الله: الذي يظهر لي رجحانه بدليل هو أن إحرام أحد الزوجين، أو الولي مانع من عقد النكاح؛ لحديث عثمان الثابت في "صحيح مسلم"، ولِمَا قدَّمنا من الآثار الدالة على ذلك، ولم يثبت في كتاب الله، ولا سنة نبيّه صلى الله عليه وسلم شيء يعارض ذلك الحديث، وحديث ابن عباس معارَضٌ بحديث ميمونة، وأبي رافع، وقد قدمنا لك أوجه ترجيحهما عليه، ولو فرضنا أن حديث ابن عباس لم يعارضه معارض، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم، فهذا فعلٌ خاصٌ، لا يعارض عمومًا قوليًا؛ لوجوب تخصيص العموم القولي المذكور بذلك الفعل، كما تقدم إيضاحه. انتهى المقصود من كلام الشيخ الشنقيطيّ رحمه الله، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3453]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: تَزَوَّجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَيْمُونَةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(دَاوُدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) العطّار، أبو سليمان المكيّ، ثقةٌ [8](ت 4 أو 175)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 413.
والباقون ذُكروا في الباب.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3454]
(1411) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو فَزَارَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، حَدَّثَتْنِي مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَهَا، وَهُوَ حَلَالٌ، قَالَ: وَكَانَتْ خَالَتِي، وَخَالَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ آدَمَ) بن سليمان، تقدّم قبل باب.
2 -
(جَرِيرُ بْنُ حَازِمِ) بن زيد الأزديّ، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ، في حديثه عن قتادة ضعفٌ [6](ت 170)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 81.
3 -
(أَبُو فَزَارَةَ) راشد بن كيسان الْعَبسيّ الكوفيّ، ثقةٌ [5].
رَوَى عن أنس، ويزيد بن الأصم، وأبي زيد مولى عمرو بن حُريث، وسعيد بن جبير، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وميمون بن مِهْران، وغيرهم.
وروى عنه ليث بن أبي سليم، والثوريّ، وجرير بن حازم، وشريك، وحماد بن زيد، والجراح بن مَلِيح، وغيرهم.
قال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صالح، وقال الدارقطنيّ: ثقةٌ كَيِّسٌ، ولم أر له في كتب أهل النقل ذكرًا بسوء، وقال ابن حبان: مستقيم الحديث إذا كان فوقه ودونه ثقة، فأما مثل أبي زيد مولى عمرو بن حُريث الذي لا يعرفه أهل العلم فلا، وفَرَّق أسلم بن سهل في "تاريخ واسط" بين الذي يروي عن أنس، وبين الكوفي الراوي عن يزيد بن الأصم وغيره، وفي "عِلَل الخلال": قال أحمد: أبو فزارة في حديث عبد الله مجهول، وتعقبه ابن عبد الهادي، فقال: هذا النقل عن أحمد غلط من بعض الرواة عنه، وكأنه اشتبه عليه أبو زيد بأبي فزارة. انتهى.
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
والباقون ذُكروا قبل حديث، وشرح الحديث واضح.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ميمونة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 3454](1411)، و (أبو داود) في "النكاح"(1843)، و (الترمذيّ) في "النكاح"(845)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5404)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1964)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 152)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 332 و 333 و 335)، و (الدارميّ) في "سننه"(1831)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 267)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 78)، و (الحاكم) في "مستدركه"(4/ 34)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(24/ 21)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 66 و 7/ 58 و 210 و 211) و"الصغرى"(4/ 71 و 6/ 199 و 200) و"المعرفة"(4/ 36)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(7/ 253)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(6) - (بَابُ تَحْرِيمِ الْخِطْبَةِ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَأْذَنَ أَوْ يَتْرُكَ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3455]
(1412) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلَا يَخْطُبْ بَعْضُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ بَعْضٍ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(ابْنُ رُمْحٍ) هو: محمد بن رُمح بن المهاجر، تقدّم قبل باب.
3 -
(اللَّيْثُ) بن سعد الإمام المشهور، تقدّم أيضًا قبل باب.
4 -
(نَافِعٌ) مولى ابن عمر، تقدّم في الباب الماضي.
5 -
(ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد الله بن عمر بن الخطاب العدويّ، أبو عبد الرحمن الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (3 أو 74)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيات المصنّف رحمه الله، وهو أعلى الأسانيد له، وهو (224) من رباعيات الكتاب.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى ابن رُمح، فانفرد به هو، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنهم ما بين مدنيين، ومصريين، وبغلاني.
4 -
(ومنها): أن فيه ابن عمر رضي الله عنه من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، وأشدّ الناس اتّباعًا للأثر، روى (2630) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "لَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ) بجزم "يبع" في هذه الرواية، على أن "لا" ناهية، وفي الرواية التالية:"لا يبيعُ" بالرفع، على أنها نافية، وهو أبلغ في المنع (وَلَا يَخْطُبْ بَعْضُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ بَعْضٍ") يَحْتَمل أن تكون "لا" هنا نافيةً، و"يخطب" مرفوعًا، ويَحْتَمل أن تكون ناهية، و"يخطب" مجزومًا، كما مرّ البحث فيه، وفي الرواية التالية:"لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، إلا أن يأذن له".
وفي رواية البخاريّ من طريق ابن جريج، عن نافع:"حتى يترك الخاطب قبله، أو يأذن له الخاطب"، أي حتى يترك الأول خِطبته، أو يأذن للثاني في خطبتها، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاريّ:"ولا يخطب الرجل على خِطبة أخيه حتى يَنكِحَ، أو يترك"، قال في "الفتح": قوله: "حتى ينكح" أي حتى يتزوّج الخاطب الأول، فيحصلَ اليأس المحض، وقوله:"أو يترك" أي الخاطب الأول التزويج، فيجوز حينئذ للثاني الخِطبة، فالغايتان مختلفتان، الأولى ترجع إلى اليأس، والثانية ترجع إلى الرجاء، ونظير الأولى قوله تعالى:{حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"الفتح" 11/ 471.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنه هذا هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 3455 و 3456 و 3457 و 3458](1412)، و (البخاريّ) في "النكاح"(5142) و"البيوع"(1412)، و (أبو داود) في "البيوع"(3436)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1292)، و (النسائيّ) في "النكاح"(3239 و 3244) وفي "البيوع"(4504 و 4505) وفي "الكبرى"(5354 و 5360 و 6094 و 6095)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1868)، و (مالك) في "الموطّإ"(1112)، و (الشافعيّ) في "الرسالة"(ص 307)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1930)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 403)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 445 - 446)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 21 و 122 و 124 و 126 و 130 و 142 و 153)، و (الدارميّ) في "سننه"(2176)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 3)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4047 و 4051)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 38 و 41 و 272)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 81)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 163)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(3/ 74)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 344 و 7/ 180)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2287)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان النهي عن أن يخطُب الرجل على خِطبة أخيه، والنهي للتحريم على الصحيح، كما يأتي تحقيقه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.
2 -
(ومنها): أن النهي إذا لم يترك الأول، أو لم يأذن له، وإلا فلا نهي.
3 -
(ومنها): أن فيه فضيلة الإسلام، وأنه تشريع ربانيّ جاء لإصلاح الفرد والمجتمع، فهو دائمًا يحثّ على الأُلفة والمودّة، ويُبعد كل ما من شأنه إحداث التباغض، والتعادي بين المسلمين، فلذلك نهى عن خِطبة المسلم على خطبة أخيه؛ لئلا يحصل بينهما شقاق، وتنافر، فواجب المسلم نحو أخيه التودّد إليه بكلّ ما يستطيع، والقيام بنصرته، قال الله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}
الآية [الحجرات: 10]. وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا" متّفق عليه، وقال صلى الله عليه وسلم:"مثل المؤمنين في توادّهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى"، متّفق عليه، وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذُله، ولا يحقره، التقوى ها هنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الْخِطْبَة على الخِطبة:
ذهب الجمهور إلى أن النهي في هذا الحديث للتحريم، وقال الخطّابيّ: هو نهي تأديب، وليس بنهي تحريم، يُبطل العقد عند أكثر الفقهاء. كذا قال. قال في "الفتح": ولا ملازمة بين كونه للتحريم، وبين البطلان عند الجمهور، بل هو عندهم للتحريم، ولا يبطل به العقد، بل حكى النوويّ أن النهي فيه للتحريم بالإجماع، ولكن اختلفوا في شروطه، فقال الشافعيّة، والحنابلة: محلّ التحريم ما إذا صرّحت المخطوبة، أو وليّها الذي أذنت له، حيث يكون إذنها معتبرًا بالإجابة، فلو وقع التصريح بالردّ فلا تحريم، ولو لم يعلم الثاني بالحال فيجوز الهجوم على الخِطبة؛ لأن الأصل الإباحة، وعند الحنابلة في ذلك روايتان. وإن وقعت الإجابة بالتعريض، كقولها: لا رغبة عنك، فقولان عند الشافعيّة، الأصحّ - وهو قول المالكيّة، والحنفية - لا يحرم أيضًا، وإذا لم تردّ، ولم تقبل فيجوز، والحجة فيه قول فاطمة بنت قيس رضي الله عنها: خطبني معاوية، وأبو الجهم، فلم ينكر النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك عليهما، بل خطبها هو لأسامة بن زيد رضي الله عنهما.
وأشار النوويّ وغيره إلى أنه لا حجة فيه؛ لاحتمال أن يكونا خطبا معًا، أو لم يعلم الثاني بخِطبة الأول، والنبيّ صلى الله عليه وسلم أشار بأسامة، ولم يخطب، وعلى تقدير أن يكون خطب، فكأنه لما ذكر لها ما في معاوية، وأبي جهم ظهر منها الرغبة عنهما، فخطبها لأسامة.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله النوويّ من أنه لا حجة فيه، فيه نظرٌ لا يخفى، بل حديث فاطمة حجة ظاهرة في ذلك، فإذا توقفت المرأة، فلم تقبل، ولم تردّ فلا مانع للثاني من خطبتها، كما نقله الترمذيّ عن الشافعيّ، فقد حَكَى عن الشافعيّ أن معنى حديث الباب: إذا خطب الرجل المرأة، فرضيت به، ورَكِنت إليه، فليس لأحد أن يخطب على خطبته، فإذا لم يعلم برضاها، ولا ركونها، فلا بأس أن يخطبها، والحجة فيه قصّة فاطمة بنت قيس، فإنها لم تُخبره برضاها بواحد منهما، ولو أخبرته بذلك لم يُشر عليها بغير من اختارت. فلو لم توجد منها إجابة، ولا ردّ، فقطع بعض الشافعيّة بالجواز، ومنهم من أجرى القولين. ونصّ الشافعيّ في البكر على أن سكوتها رضًا بالخاطب، وعن بعض المالكيّة: لا تمنع الخطبة إلا على خطبة من وقع بينهما التراضي على الصداق.
وإذا وُجد شروط التحريم، ووقع العقد للثاني، فقال الجمهور: يصحّ مع ارتكاب التحريم. وقال داود: يُفسخ النكاح قبل الدخول وبعده، وعند المالكيّة خلافٌ كالقولين، وقال بعضهم: يُفسخ قبله، لا بعده.
وحجة الجمهور أن المنهيّ عنه الخِطبة، والخطبة ليست شرطًا في صحّة النكاح، فلا يُفسخ النكاح بوقوعها غير صحيحة.
وحكى الطبريّ أن بعض العلماء قال: إن هذا النهي منسوخٌ بقصّة فاطمة بنت قيس. ثم ردّه، وغلّطه بأنها جاءت مستشيرةً، فأُشير عليها بما هو الأَولى، ولم يكن هناك خِطبة على خطبة، كما تقدّم. ثم إن دعوى النسخ في مثل هذا غلطٌ؛ لأن الشارع أشار إلى علّة النهي في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه بالأخوة، وهي صفة لازمة، وعلّة مطلوبةٌ للدوام، فلا يصحّ أن يلحقها نسخٌ، والله تعالى أعلم
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أرجح الأقوال عندي قول من قال ببطلان النكاح الذي عُقِد بالْخِطبة على الْخِطبة؛ لصريح النهي الوارد في الحديث، والنهي للتحريم، وهو أيضًا يقتضي الفساد، وليس هناك دليلٌ يدلّ على صرف
(1)
"الفتح" 11/ 468 - 469.
النهي عن التحريم، والفساد إلى خلافهما، فوجب القول بالبطلان.
وهذا القول هو الذي مال إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، حيث قال: إذا خطب الرجل امرأةً، ورَكِن إليه من إليه نكاحها، كالأب، فإنه لا يحلّ لغيره أن يخطبها، قال: ولكن العقد الثاني هل يقع صحيحًا، أو باطلًا؟ فيه قولان للعلماء:
[أحدهما]: وهو أحد القولين في مذهب مالك، وأحمد أن عقد الثاني باطلٌ، فتنزع منه، وتردّ إلى الأوّل.
[الثاني]: أن النكاح صحيح، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعيّ، فيعاقب من فعل المحرّم، ويردّ إلى الأول جميع ما أُخذ منه، والقول الأول أشبه بما في الكتاب والسنّة. انتهى كلام شيخ الإسلام بالاختصار
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): أنه استُدلّ بحديث الباب على أن الخاطب الأول إذا أذن للخاطب الثاني في التزويج ارتفع التحريم، ولكن هل يختصّ ذلك بالمأذون له، أو يتعدّى لغيره؟ لأن مجرّد الإذن الصادر من الخاطب الأول دالّ على إعراضه عن تزويج تلك المرأة، وبإعراضه يجوز لغيره أن يخطبها، الظاهر الثاني، فيكون الجواز للمأذون له بالتنصيص، ولغير المأذون له بالإلحاق، ويؤيّده قوله:"أو يترك"، وصرّح الرويانيّ من الشافعيّة بأن محلّ التحريم إذا كانت الخِطبة من الأول جائزة، فإن كانت ممنوعة كخطبة المعتدّة لم يضرّ الثاني بعد انقضاء العدّة أن يخطُبها، وهو واضح؛ لأن الأول لم يثبت له بذلك حقّ، قاله في "الفتح"
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): أنه استُدلّ بقوله: "على خطبة أخيه" أن محلّ التحريم إذا كان الخاطب مسلمًا، فلو خطب الذميّ ذميّة، فأراد المسلم أن يخطبها جاز له ذلك مطلقًا، وهو قول الأوزاعيّ، ووافقه من الشافعيّة ابن المنذر، وابن جويرية، والخطّابيّ، ويؤيّده قوله في أول حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه عند مسلم: "المؤمن أخو المؤمن، فلا يحلّ للمؤمن أن يبتاع على
(1)
راجع: "مجموع الفتاوى" 10/ 32.
(2)
"الفتح" 11/ 469 - 470.
بيع أخيه، ولا يخطب على خِطبته حتى يَذَر"، وقال الخطّابيّ
(1)
: قطع الله الأُخَوَّة بين الكافر والمسلم، فيختصّ النهي بالمسلم، وقال ابن المنذر: الأصل في هذا الإباحة حتى يرِدَ المنع، وقد ورد المنع مقيّدًا بالمسلم، فبقي ما عدا ذلك على أصل الإباحة.
وذهب الجمهور إلى إلحاق الذميّ بالمسلم في ذلك، وأن التعبير بأخيه خرج على الغالب، فلا مفهوم له، وهو كقوله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ} الآية [الأنعام: 151]، وكقوله:{وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} الآية [النساء: 23]، ونحو ذلك.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما قاله الأوزاعيّ، ومن معه من أنّ هذا النهي خاصّ بالمسلم، دون الذميّ؛ عملًا بتقييده بالأخوّة، وبالإسلام هو الراجح؛ لظهور حجته، فتأمل، والله تعالى أعلم.
وبناه بعضهم على أن هذا المنهيّ عنه، هل هو من حقوق العقد، واحترامه، أو من حقوق المتعاقدين؟ فعلى الأول فالراجح ما قال الخطّابيّ، وعلى الثاني فالراجح ما قال غيره.
وقريبٌ من هذا البناء اختلافهم في ثبوت الشفعة للكافر، فمن جعلها من حقوق الملك أثبتها له، ومن جعلها من حقوق المالك منع.
وقريبٌ من هذا البحث ما نُقل عن ابن القاسم، صاحب مالك أن الخاطب الأول إذا كان فاسقًا جاز للعفيف أن يخطُب على خِطبته، ورجحه ابن العربيّ منهم، وهو متّجه فيما إذا كانت المخطوبة عفيفةً، فيكون الفاسق غير كفء لها، فتكون خطبته كَلَا خِطْبة، ولم يعتبر الجمهور ذلك إذا صدرت منها علامة القبول، وقد أطلق بعضهم الإجماع على خلاف هذا القول.
ويلتحق بهذا ما حكاه بعضهم من الجواز إذا لم يكن الخاطب الأول أهلًا في العادة لخِطبة تلك المرأة، كما لو خطب سُوقيّ بنت ملِك، وهذا يرجع إلى التكافؤ، قاله في "الفتح"
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن الفاسق، والذي ليس كفؤًا عادة يعمّهما النهي المذكور؛ فلا يجوز أن يخطب على خطبتهما؛ لأنهما مسلمان؛
(1)
"معالم السنن" 3/ 167.
(2)
"الفتح" 11/ 470.
إذ مجرّد الفسق لا يخرج الشخص من الإسلام عند أهل السنّة، فلا يخرج بذلك عن كونه خطب على خطبة أخيه المسلم، وبنحو هذا صرّح الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): أنه استُدلّ به على تحريم خِطبة المرأة على خِطبة امرأة أخرى؛ إلحاقًا لحكم النساء بحكم الرجال، وصورته أن تَرْغَب امرأة في رجل، وتدعوه إلى تزويجها، فيجيبها، فتجيء امرأة أخرى، فتدعوه، وترَغّبه في نفسها، وتزهّده في التي قبلها، وقد صرّحوا باستحباب خِطبة أهل الفضل من الرجال، ولا يخفى أن محلّ هذا إذا كان المخطوب عزم أن لا يتزوّج إلا بواحدة، فأما إذا جمع بينهما فلا تحريم، قاله في "الفتح" أيضًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3456]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، جَمِيعًا عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَن ابْنِ عُمَرَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَبِعِ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل باب.
3 -
(يَحْيَى) بن سعيد القطّان التميميّ، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ متقنٌ حافظٌ إمام قدوة، من كبار [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.
4 -
(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر العمريّ، تقدّم قبل بابين.
والباقيان ذُكرا قبله.
(1)
راجع: "طرح التثريب" 7/ 93.
وقوله: (لَا يَبِعِ الرَّجُلُ)"لا" ناهية، والفعل مجزوم، وكُسرت العين؛ لالتقاء الساكنين.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3457]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل حديثين.
2 -
(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) تقدّم قبل باب.
و"عبيد الله" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية عليّ بن مسهر، عن عبيد الله هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3458]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فضيل بن حسين، تقدّم قبل بابين.
والباقون ذُكروا في الباب قبله، و"حمّاد" هو: ابن زيد، و"أيوب" هو السختيانيّ.
[تنبيه]: رواية أيوب، عن نافع هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" 2/ 153 فقال:
(6411)
- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا عارم، ثنا حماد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبيع الرجل على بيع أخيه،
ولا يخطب على خِطبة أخيه، إلا بإذنه، وربما قال: بإذن له". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3459]
(1413) - (وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَ زُهيْرٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنُ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، أَوْ يَتَنَاجَشُوا، أَوْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، أَوْ يَبِيعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا؛ لِتَكْتَفِئَ مَا فِي إِنَائِهَا، أَوْ مَا فِي صَحْفَتِهَا". زَادَ عَمْرٌو فِي رِوَايَتِهِ: "وَلَا يَسُمِ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، نزيل مكة، صدوقٌ صنّف "المسند"، ولازم ابن عيينة [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
2 -
(سَعِيدُ) بن المسيِّب، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب، والبابين قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيوخه، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه، والثاني ما أخرج له الترمذيّ، والثالث ما أخرج له البخاريّ، وأبو داود.
3 -
(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ عن تابعيّ، وفيه سعيد من الفقهاء السبعة، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه من المكثرين السبعة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه ("أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ) معناه: أنه
لا يجوز للمقيم ببلدة أن يبيع السِّلَع التي أَتَى بها بدويّ؛ نفعًا له، بأن يكون دلّالًا؛ لأن ذلك يُلحق الضرر بالحاضرين، فإنه لو ترك البدويّ لباعه لهم بثمن رخيص، وسيأتي تمام البحث فيه في "كتاب البيوع" - إن شاء الله تعالى -.
(أَوْ يَتَنَاجَشُوا) منصوب بحذف نون الرفع عطفًا على "يبيع"، وهو من "النّجْش" - بفتحتين، أو بفتح، فسكون - وهو أن يمدح السلعة ليُروّجها، أو يزيد في الثمن، ولا يريد شراءها؛ ليغترّ بذلك غيره، والأصل فيه تنفير الوحش من مكان إلى مكان، وإنما عبّر بالتفاعل؛ لأن التجّار يتعاوضون، فيفعل هذا بصاحبه على أن يُكافئه بمثل ما فعل، فنُهوا عن أن يفعلوا ذلك، معاوضةً، فضلًا عن أن يفعلوه بدءًا، وسيأتي تمام البحث فيه في موضعه من "كتاب البيوع" - إن شاء الله تعالى -.
(أَوْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ) من الخِطْبة - بكسر الخاء - بمعنى التماس النكاح، من باب نصر، وهو منصوب أيضًا عطفًا على "يَبيعَ"، وقد تقدّم تمام البحث فيه في شرح حديث ابن عمر رضي الله عنهما الذي قبله.
(أَوْ يَبِيعَ) بالنصب أيضًا عطفًا على "يبيع"(عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ) قيل: المراد السوم، والنهي للمشتري دون البائع؛ لأن البائع لا يكاد يَدخل على البائع، وإنما المشهور زيادة المشتري على المشتري، وقيل: يَحْتَمِل الحمل على ظاهره، فيمنع البائع أن يبيع على بيع أخيه، وهو أن يَعْرِض سلعته على المشتري الراكن إلى شراء سلعة غيره، وهي أرخص، أو أجود؛ ليزهّده في شراء سلعة الغير، قال عياض: وهو الأولى، وسيأتي تمام البحث في "كتاب البيوع" - إن شاء الله تعالى -.
(وَلَا تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا) بالجزم على أن "لا" ناهية، وكُسِرت اللام؛ لالتقاء الساكنين، ويجوز الرفع، على أنها نافية، قال النوويّ: بالرفع على الخبر، والمراد به النهي، وهو أبلغ في النهي؛ لأن خبر الشارع لا يُتصوّر وقوع خلافه، والنهي قد يقع مخالفته، فكأنّ المعنى: عاملوا هذا النهي معاملة الخبر المتحتّم. انتهى.
قيل: هو نهي للمخطوبة عن أن تسأل الخاطب طلاق المرأة التي في نكاحه، وللمرأة من أن تسأل طلاق الضرّة أيضًا، والمراد بالأخت: الأخت في
الدين، وفي التعبير باسم الأخت تشنيعٌ لفعلها، وتأكيدٌ للنهي عنه، وتحريضٌ لها على تركه، ومثله التعبير باسم الأخ فيما سبق.
وفي رواية للبخاريّ: "لا يحلّ لامرأة تسأل طلاق أختها؛ لتستفرغ صحفتها، فإنما لها ما قدّر لها".
وهو ظاهرٌ في تحريم ذلك، وهو محمولٌ على ما إذا لم يكن هناك سببٌ يجوّز ذلك، كريبةٍ في المرأة، لا ينبغي معها أن تستمرّ في عصمة الزوج، ويكون ذلك على سبيل النصيحة المحضة، أو لضرر يحصُل لها من الزوج، أو للزوج منها، أو يكون سؤالها ذلك بعوض، وللزوج رغبةٌ في ذلك، فيكون كالخلع مع الأجنبيّ، إلى غير ذلك من المقاصد المختلفة، وقد تقدّم تمام البحث فيه.
(لِتَكْتَفِئَ مَا فِي إِنَائِهَا) من كَفَأت القِدْرَ: إذا كَبَبْتَها؛ لتُفْرِغ ما فيها، يقال: كَفَأْتُ الإناء، وأكفأته: إذا كبَبتَه، وإذا أَمَلْتَهُ، وهذا تمثيلٌ لإمالة الضرّة حقّ صاحبتها من زوجها إلى نفسها، إذا سألت طلاقها، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى.
وقوله: (أَوْ مَا فِي صَحْفَتِهَا")"أو" للشكّ من الراوي، والصحفة إناءٌ كالقصعة المبسوطة، وهذا مثَلٌ، يريد به: الاستئثار عليها بحظّها، فتكون كمن قلب إناء غيره في إنائه، وقد تقدّم تمام البحث فيه.
وقوله: (زَادَ عَمْرٌو) هو عمرو الناقد شيخه الأول في السند (فِي رِوَايَتِهِ: ("وَلَا يَسُمِ)"لا" ناهية، ولذا جُزم الفعل بعدها، وكُسرت الميم؛ لالتقاء الساكنين، و"يسُم" بضمّ السين المهملة، مضارع سام، من باب قال (الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ") معناه: أن يتّفق مالك السلعة، والراغب فيها على البيع، ولم يعقداه، فيقول الآخر للبائع: أنا أشتريه، وهذا حرام بعد استقرار الثمن، وأما السوم في السلعة التي تباع فيمن يزيد، فليس بحرام، وسيأتي تمام البحث في هذا في محلّه - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 3459 و 3460 و 3461 و 3462 و 3463](1413) ويأتي في "البيوع"[4/ 3811](1515)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2140 و 2150) و"النكاح"(5144 و 5152) و"القدر"(6601)، و (أبو داود) في "الطلاق"(2176 و 3437) و"البيوع"(3438 و 3443)، و (الترمذيّ) في "النكاح"(1134) و"الطلاق"(1190) و"البيوع"(1222 و 1304)، و (النسائيّ) في "المجتبى" في "النكاح"(3240 و 3241 و 3242 و 3243) و"البيوع"(4503 و 4507 و 4508) وفي "الكبرى"(5356 و 5357 و 35358 و 5359) و"البيوع"(6082 و 6093 و 6096 و 6098)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1867) و"التجارات"(2172 و 2174 و 2175)، و (مالك) في "الموطإ"(1111 و 1391 و 1666)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 451)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 445 - 446)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 238 و 274 و 487)، و (الدارميّ) في "سننه"(2175)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 146 و 170)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 292 و 11/ 230)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(7/ 117)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 420)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 38 و 272)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 79)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 343 و 344) و"المعرفة"(4/ 386)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان تحريم خِطبة الرجل على خطبة أخيه.
2 -
(ومنها): بيان تحريم النجش، وهو - بفتحتين، أو بفتح، فسكون -: أن يزيد في ثمن السلعة، لا لرغبة فيها، بل ليَخْدَع غيره، ويغرّه ليزيد، ويشتريها.
3 -
(ومنها): تحريم بيع الحاضر للبادي؛ لئلا يتضرّر أهل الحضر بذلك.
4 -
(ومنها): تحريم بيع الرجل على بيع أخيه، ويشمل البيع والشراء، إذ البيع يُسْتعمل لهما من الأضداد.
5 -
(ومنها): تحريم سؤال المرأة طلاق الأخرى حتى يتزوّجها، أو تنفرد به دون الأخرى.
6 -
(ومنها): حرص الشريعة على قطع أسباب الشحناء والبغضاء، والحقد، والحسد، ولذا حرّمت هذه الأشياء المذكورة في هذا الحديث، وما أشبهها، مما يؤدّي إلى وقوع التنافر، والتشاكس، والتخاذل بين المسلمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3460]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَنَاجَشُوا، وَلَا يَبِع الْمَرْءُ
(1)
عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلَا يَخْطُب الْمَرْءُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَلَا تَسْأَل الْمَرْأَةُ طَلَاقَ الْأُخْرَى
(2)
؛ لِتَكْتَفِئَ مَا فِي إِنَائِهَا").
رجال هذا الإسناد: ستة:
وكلّهم تقدّموا في الباب، وقبل باب.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3461]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، جَمِيعًا عَنْ مَعْمَرٍ، عَن الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ مَعْمَرٍ:"وَلَا يَزِدِ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ").
(1)
وفي نسخة: "ولا يبع الرجل".
(2)
وفي نسخة: "طلاق أختها".
رجال هذا الإسناد: ستة:
وكلهم تقدّموا في الباب، والأبواب الثلاثة قبله، و"عبد الأعلى" هو: ابن عبد الأعلى، و"معمر" هو: ابن راشد.
وقوله: (جَمِيعًا عَنْ مَعْمَرٍ) يعني أن كلًّا من عبد الأعلى، وعبد الرزّاق روى هذا الحديث عن معمر.
[تنبيه]: رواية معمر، عن الزهريّ بلفظ:"ولا يزد الرجل على بيع أخيه" لم أجد من ساقها، وقد ساق الحديث أبو عوانة في "مسنده" بلفظ:"ولا يبيع الرجل على بيع أخيه"، فقال 3/ 38:
(4121)
- حدثنا محمد بن يحيى، ومحمد بن إسحاق بن الصباح، قالا: ثنا عبد الرزاق، أنبأ معمر، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبيع حاضر لباد، ولا تناجشوا، ولا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبته، ولا تسأل المرأة طلاق أختها؛ لتكفئ ما في إنائها". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3462]
(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، جَمِيعًا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ ابْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، أَخْبَرَنِي الْعَلَاءُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَسُم الْمُسْلِمُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ
(1)
، وَلَا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَتِهِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ، أبو زكريّاء البغداديّ، ثقة عابدٌ [10](234)(عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
2 -
(ابْنُ حُجْرٍ) هو عليّ السعديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
(1)
وفي نسخة: "على سوم المسلم".
3 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرقيّ، أبو إسحاق المدنيّ القارئ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
4 -
(الْعَلَاءُ) بن عبد الرحمن بن يعقوب الْحُرَقيّ، أبو شِبْل المدنيّ، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [5] مات سنة بضع و (130)(ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
5 -
(أَبُوهُ) عبد الرحمن بن يعقوب الجهنيّ المدنيّ، مولى الْحُرَقة، ثقةٌ [3](ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
والباقيان ذُكرا في الباب.
وقوله: (عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ) وفي نسخة: "على سوم المسلم".
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3463]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْعَلَاءِ، وَسُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِمَا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (ح) وَحَدَّثَنَاه مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَن الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إِلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا:"عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ، وَخِطْبَةِ أَخِيهِ").
رجال هذا الإسناد: أحد عشر:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ) البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10](246)(م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 67.
2 -
(عَبْدُ الصَّمَدِ) بن عبد الوارث، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم قبل باب.
4 -
(سُهَيْلُ) بن أبي صالح، أبو يزيد المدنيّ، ثقةٌ تغيّر بآخره [6](ت 138)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 161.
5 -
(أَبُوه) أبو صالح ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
6 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (عَنْ أَبِيهِمَا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا صورته في جميع النسخ، وأبو العلاء غير أبي سهيل، فلا يجوز أن يقال:"عن أبيهما"، قالوا: وصوابه "أبويهما"، قال القاضي وغيره: ويصح أن يقال: "عن أَبَيْهِمَا" بفتح الباء على لغة من قال في تثنية الأب: أبان، كما قال في تثنية اليد: يدان، فتكون الرواية صحيحة، لكن الباء مفتوحة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذه اللغة تسمّى لغة النقص، ففي الأسماء الستة ثلاث لغات، المشهور إعرابها بالحروف، بالواو رفعًا، كهذا أبوه، وبالألف نصبًا، كرأيت أباه، وبالياء جرًّا، كمررت بأبيه، والثانية القصر، فتكون بالألف في الأحوال الثلاثة، كهذا أباه، ورأيت أباه، ومررت بأباه، والثالثة النقص، كيَدٍ، كهذا أبٌ، ورأيت أبًا، ومررت بأب، وإلى هذا أشار في "الخلاصة" بقوله:
وَارْفَعْ بِوَاوٍ وَانْصِبَنَّ بِالأَلِفْ
…
وَاجْرُرْ بِيَاءٍ مَا مِنَ الأَسْمَا أَصِفْ
مِنْ ذَاكَ "ذُو" إِنْ صُحْبَةً أَبَانَا
…
وَ"الْفَمُ" حَيْثُ الْمِيمُ مِنْهُ بَانَا
"أَبٌ""أَخٌ""حَمٌ" كَذَاكَ و"هَنُ"
…
وَالنَّقْصُ فِي هَذَا الأَخِيرِ أَحْسَنُ
وَفِي "أَبٍ" وَتَالِيَيْهِ يَنْدُرُ
…
وَقَصْرُهَا مِنْ نَقْصِهِنَّ أَشْهَرُ
وقوله: (إِلَّا أَنَّهُمْ إلخ) الظاهر أن ضمير الجماعة في "أنّهم" للعلاء، وسهيل، والأعمش.
وقوله: (قَالُوا: عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ، وَخِطْبَةِ أَخِيهِ) هذا يدلّ على أن الرواية السابقة بلفظ: "على سوم المسلم"، كما هو في بعض النسخ، فتأمل.
والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 199.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3464]
(1414) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، عَن اللَّيْثِ وَغَيْرِهِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِمَاسَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ، عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ، فَلَا يَحِلُّ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَبْتَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَذَرَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن السرح المصريّ، تقدّم قبل بابين.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) تقدّم أيضًا قبل بابين.
3 -
الليث بن سعد الإمام المصريّ الشهير، تقدّم في الباب الماضي.
[تنبيه]: قوله: (وَغَيْرِهِ) هو ابن لهيعة، كما صرّح به أبو نعيم في "مستخرجه"، وإنما أبهمه؛ لضعفه، وهكذا عادة البخاريّ، والنسائيّ أيضًا يذكران مقرونًا، ويُبهمانه؛ لما ذُكر، فتنبّه.
4 -
(يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ) واسمه سُويد المصريّ، تقدّم قبل باب.
5 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شِمَاسَةَ) - بكسر الشين المعجمة، وتخفيف الميم، بعدها مهملة - الْمَهْريّ
(1)
المصريّ، ثقةٌ [3](ت 101) أو بعدها (م 4) تقدم في "الإيمان" 57/ 328.
6 -
(عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ) الْجُهنيّ الصحابيّ الشهير، أبو حمّاد، وقيل: غيره، وَلِي إمرة مصر لمعاوية رضي الله عنهما ثلاث سنين، وكان فقيهًا فاضلًا، مات في قرب (60)(ع) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فلم يُخرج له البخاريّ، والترمذي، وابنِ شِماسة، فلم يُخرج له البخاريّ.
(1)
بفتح الميم، وسكون الهاء.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمصريين من أوله إلى آخره.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِمَاسَةَ) بكسر الشين (أَنَّهُ سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ) رضي الله عنه (عَلَى الْمِنْبَرِ) متعلّق بحال مقدّر، أي حال كونه كائنًا على المنبر يخطب الناس (يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ) أي في الدين، وهو بمعنى قول الله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وإذا كان أخاه، فينبغي أن يعاشره معاشرة الإخوة في التحابّ، والتصافي، وتجنب التجافي، قال الزين العراقيّ رحمه الله: وهذه الأُخوّة دون الأُخوّة التي آخاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه حين قدم المدينة، ولهذه الأُخُوّة مزية على أُخُوّة الإسلام
(1)
.
(فَلَا يَحِلُّ) الفاء فصيحيّة، أي إذا كان أخًا للمؤمن، فلا يحلّ (لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَبْتَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ) قال الحافظ العراقيّ رحمه الله: هذا ظاهرٌ في اختصاص ذلك بخطبة المسلم، وقال الجمهور: تَحْرُم الْخِطبة على خِطبة الكافر أيضًا، قال النوويّ: ولهم أن يجيبوا عن الحديث بأن التقييد بـ "أخيه" خرج على الغالب، فلا يكون له مفهوم يُعمَل به، كما في قوله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} ، وقوله تعالى:{وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} ، ونظائره. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم لك أن ما دلّ عليه ظاهر الحديث من التقييد بالمسلم هو الأرجح، فتفطّن، والله تعالى أعلم.
وقوله: (حَتَّى يَذَرَ") أي يترك، وهو مضارع وَذِرْتُهُ أَذَرُهُ، كَوَسِعَهُ يَسَعُهُ، وَذْرًا، قالوا: وأماتت العرب ماضيه، ومصدره، فإذا أريد الماضي قيل: ترك، ورُبّما استُعمل الماضي على قلّة، ولا يُستعمل منه اسم فاعل
(3)
.
قال وليّ الدين رحمه الله: وقوله: "حتى يَذَرَ" يعود للجملتين معًا، كما هو مقتضى قاعدة الشافعيّ رحمه الله، وقد ورد التصريح به في "سنن البيهقيّ"، قال
(1)
وقوله في: "فيض القدير" 6/ 256.
(2)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 6/ 82.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 654 بزيادة من "القاموس".
فيه: "حتى يَذَرَ" بعد كلّ من الجملتين. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 3464](1414)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 147)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 41)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 81)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 147)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(17/ 316)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 344 و 346 و 7/ 180) و"المعرفة"(4/ 386)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(7) - (بَابُ تَحْرِيمِ نِكَاحِ الشِّغَارِ وَبُطْلَانِهِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3465]
(1415) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَن الشِّغَارِ". وَالشِّغَارُ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ، عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
وكلهم تقدّموا في البابين الماضيين.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (225) من رباعيّات الكتاب.
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 6/ 82.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ.
4 -
(ومنها): أن هذا الإسناد أصحّ الأسانيد على الإطلاق: مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، وقد تقدّم غير مرّة.
5 -
(ومنها): أن فيه ابن عمر رضي الله عنهما من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنِ الشِّغَارِ) قال النووي: قال العلماء: الشغار - بكسر الشين المعجمة، وبِالغين المعجمة - أصله في اللغة الرفع، يقال: شَغَرَ الكلبُ إذا رفع رجله ليبول، كأنه قال: لا ترفع رجل بنتي حتى أرفع رجل بنتك. انتهى. وقال صاحب "النهاية": قيل له: شغار؛ لارتفاع المهر بينهما، من شغر الكلب: إذا رفع إحدى رجليه ليبول. انتهى.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: شَغَرَ البلدُ شُغُورًا، من باب قَعَد: إذا خلا عن حافظٍ يمنعه، وشَغَرَ الكلبُ شَغْرًا، من باب نَفَعَ: رفع إحدى رجليه ليبول، وشَغَرَت المرأة: رفعت رجلَها للنكاح، وشَغَرتُها: فعلتُ بها ذلك، يتعدّى، ولا يتعدّى، وقد يتعدّى بالهمز، فيقال: أشغرتها، وشاغَرَ الرجلُ الرجلَ شِغَارًا، من باب قاتل: زوّج كلُّ واحد صاحبه حَرِيمتَهُ على أن بُضْعَ كلِّ واحدة صداقُ الأخرى، ولا مهر سوى ذلك، وكان سائغًا في الجاهليّة، قيل: مأخوذٌ من شَغَرَ البلدُ، وقيل: من شَغَر برجله: إذا رفعها، والشَّغَار، وزانُ سَلَامٍ: الفارغ. انتهى
(1)
.
وقال الخطّابيّ: قال بعضهم: أصل الشغر في اللغة: الرفع، يقال: شَغَر الكلب برجله: إذا رفعها عند البول، قال: فإنما سمي هذا النكاح شغارًا لأنهما رفعا المهر بينهما، قال: وهذا القائل لا ينفصل ممن قال: بل سُمّي شغارًا لأنه رُفِع العقدُ من أصله، فارتفع النكاح، والمهر معًا. ويبيّن لك أن النهي قد
(1)
"المصباح المنير"316.
انطوى على الأمرين معًا: أن البدل هنا ليس شيئًا غير العقد، ولا العقد شيئًا غير البدل، فهو إذا فسد مهرًا فسد عقدًا، وإذا أبطلته الشريعة، فإنما أفسدته على الجهة التي كانوا يوقعونه، وكانوا يوقعونه مهرًا وعقدًا، فوجب أن يفسدا معًا. انتهى
(1)
.
وقال الحافظ وليّ الدين: فهذه ثلاثة أقوال على تفسير الشغار بالرفع، قال الرافعيّ: وفي بعض الشروح أن الكلب إذا كان يبول حيث يصل من غير مبالاة، قيل: شغر الكلب برجله، فسُمي شغارًا؛ لعدم المبالاة فيه بالمهر، وقال ابن عبد البرّ: للشغار في اللغة معنى لا مدخل لذكره هنا، وذلك أنه مأخوذ عندهم من شغر الكلب: إذا رفع رجله ليبول، وذلك زعموا ألا يكون منه إلا بعد مفارقة حال الصغر على حال يمكن فيها طلب الوثوب على الأنثى للنسل، وهو عندهم للكلب إذا فعله علامة بلوغه إلى حال الاحتلام من الرجال، ولا يرفع رجله للبول إلا وهو قل بلغ ذلك المبلغ، يقال منه: شغر الكلب إذا رفع رجله، فبال، أم لم يبُل، ويقال: شَغَرتُ المرأةَ أشغرها شَغْرًا: إذا رفعت رجلها للنكاح. انتهى.
ثم قال النوويّ، وقيل: هو من شَغَر البلد، إذا خلا؛ لخلوّه عن الصداق. انتهى. قال الرافعيّ: ويقال: لخلوّه عن بعض الشروط، وقال صاحب "النهاية" بعد كلامه المتقدّم: وقيل: الشغر البعد، وقيل: الاتساع. انتهى.
فهذه ثلاثة أقوال غير ما تقدّم، وهي الخلوّ، والبعد، والاتساع، وعبّر القاضمي عياض في "المشارق" بقوله: وقيل: من رَفْع الصداق فيه، وبُعْده منه. انتهى، وهذا يقتضي رجوع البعد إلى المعنى المشهور، وهو الرفع، والله أعلم. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله
(2)
.
(وَالشِّغَارُ) هذا التفسير مدرج من قول نافع، كما سيأتي تحقيقه قريبًا، إن شاء الله تعالى، وهو مبتدأ، خبره قوله:(أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ) ليس ذكر البنت قيدًا في هذا، بل غيرها من الأخوات، والعمات،
(1)
"معالم السنن" 3/ 20 - 21.
(2)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 28 - 29.
ونحوها كذلك، كما هو في حديث أبي هريرة الآتي بعد هذا، قال النوويّ رحمه الله: أجمعوا على أن غير البنات من الأخوات، وبنات الأخ، والعمّات، وبنات الأعمام، والإماء كالبنات في هذا، وصورته الواضحة: زوّجتك بنتي على أن تزوّجني بنتك، وبُضْعُ كلّ واحدة صداقٌ للأخرى، فيقول: قَبِلتُ. انتهى
(1)
.
(وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ) أي بل صداق كلّ واحدة منهما هو بُضْعُ الأخرى.
وهذا النهي محمول على عدم المشروعيّة بالاتفاق، ثم إن الجمهور قالوا: لا ينعقد أصلًا، وقال الحنفيّة: ينعقد، ويلزم فيه مهر المثل، وبه يخرج عن كونه شغارًا، والحقّ ما ذهب إليه الجمهور، وسيأتي مزيد تحقيق لذلك في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسأل الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 3465 و 3466 و 3467 و 3468](1415)، و (البخاريّ) في "النكاح"(5112) و"ترك الْحِيَل"(6960)، و (أبو داود) في "النكاح"(2074)، و (الترمذيّ) في "النكاح"(1124)، و (النسائيّ) في "النكاح"(3335 و 3338) وفي "الكبرى"(5493 و 5497)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1883)، و (مالك) في "الموطإ"(1134)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 253 و 374)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 33)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 7 و 19 و 62)، و (الدارميّ) في "سننه"(2180)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4152)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 20)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 81 - 82)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 180)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 190)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 199 - 200)
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 201.
و"الصغرى"(6/ 189) و"المعرفة"(5/ 338)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: ظاهر الحديث أن تفسير الشغار من تَتِمّة المرفوع، وقد أخرجه الشيخان، وغيرهما من طريق عبيد الله بن عمر، وفيه:"قلت لنافع: ما الشغار؟ قال: يَنكِح ابنة الرجل، ويُنكِحه ابنته بغير صداق، وينكح أخت الرجل، ويُنكحه أخته بغير صداق".
فيكون مدرجًا في رواية مالك، وقال الشافعيّ رحمه الله: لا أدري تفسير الشغار في الحديث من النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو من ابن عمر، أو من نافع، أو من مالك؟، حكاه عنه البيهقيّ في "المعرفة"، وقال الرافعيّ: قال الأئمة: وهذا التفسير يجوز أن يكون مرفوعًا، ويجوز أن يكون من عند ابن عمر. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قال ابن عبد البرّ: ذَكَرَ تفسير الشغار جميعُ رواة مالك عنه. انتهى، قال الحافظ: ولا يَرِدُ على إطلاقه أن أبا داود، أخرجه عن القعنبيّ، فلم يذكر التفسير، وكذا أخرجه الترمذيّ من طريق مَعْن بن عيسى؛ لأنهما اختصرا ذلك في تصنيفهما، وإلا فقد أخرجه النسائيّ من طريق معن بالتفسير، وكذا أخرجه الخطيب في "المدرج" من طريق القعنبيّ.
نعم، اختَلَفَ الرواة عن مالك فيمن يُنسب إليه تفسير الشغار، فالأكثر لم ينسبوه لأحد، ولهذا قال الشافعيّ فيما حكاه في "المعرفة": لا أدري التفسير عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو عن ابن عمر، أو عن نافع، أو عن مالك، ونسبه مُحْرِز بن عون، وغيره لمالك، قال الخطيب: تفسير الشغار ليس من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما هو قول مالك وُصل بالمتن المرفوع، وقد بيّن ذلك ابن مهديّ، والقعنبيّ، ومُحْرِز بن عون، ثم ساقه كذلك عنهم، ورواية مُحرز بن عون عند الإسماعيليّ، والدارقطنيّ في "الموطّآت"، وأخرجه الدارقطنيّ أيضًا من طريق خالد بن مخلد، عن مالك، قال: سمعت أن الشغار أن يتزوّج الرجل إلخ، وهذا دالّ على أن التفسير من منقوله لا من مقوله، ووقع عند البخاريّ في "ترك الحيل" من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع في هذا الحديث تفسير الشغار من قول نافع، ولفظه:"قال عبيد الله بن عمر: قلت لنافع: ما الشغار؟ فذكره"، فلعلّ مالكًا أيضًا نقله عن نافع.
(1)
"طرح التثريب" 7/ 21 - 22.
وقال أبو الوليد الباجيّ: الظاهر أنه من جملة الحديث، وعليه يُحْمَل حتى يتبيّن أنه من قول الراوي، وهو نافع.
قال الحافظ: قد تبيّن ذلك، ولكن لا يلزم من كونه لم يرفعه أن لا يكون في نفس الأمر مرفوعًا، فقد ثبت ذلك من غير روايته، فعند مسلم من رواية أبي أسامة، وابن نُمير عن عبيد الله بن عمر أيضًا عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه مثله سواء، قال: وزاد ابن نُمير: "والشغار أن يقول الرجل للرجل: زوّجني ابنتك، وأُزوّجك ابنتي، وزوّجني أختك، وأزوّجك أختي"، وهذا يَحْتَمِل أن يكون من كلام عبيد الله بن عمر، فيرجع إلى نافع، ويَحْتَمِل أن يكون تلقّاه عن أبي الزناد، ويؤيّد الاحتمال الثاني وروده في حديث أنس، وجابر، وغيرهما أيضًا، فأخرج عبد الرزاق، عن معمر، عن ثابت، وأبان، عن أنس مرفوعًا:"لا شغار في الإسلام، والشغار أن يزوّج الرجل الرجل أخته بأخته". وروى البيهقيّ من طريق نافع بن يزيد، عن ابن جُريج، عن أبي الزبير، عن جابر، مرفوعًا:"نُهي عن الشغار، والشغار أن يَنكح هذه بهذه بغير صداق، بُضْعُ هذه صداق هذه، وبُضع هذه صداق هذه"، وأخرج أبو الشيخ في "كتاب النكاح" من حديث أبي ريحانة:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن المشاغرة، والمشاغرة أن يقول: زوّج هذا من هذه، وهذه من هذا بلا مهر".
قال القرطبيّ: تفسير الشغار صحيح موافق لما ذكره أهل اللغة، فإن كان هذا مرفوعًا فهو المقصود، وإن كان من قول الصحابيّ، فمقبولٌ أيضًا؛ لأنه أعلم بالمقال، وأقعد بالحال. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى حسنٌ جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم، هل يُشتَرط في الشغار ما اقتضاه ظاهر الحديث من مراعاة الوصفين المذكورين، أم لا؟:
(اعلم): أنهم اختلفوا هل يُعتبر في الشغار الممنوع ظاهر الحديث في تفسيره؟ فإن فيه وصفين: أحدهما: تزويج كلّ من الوليين وليّته للآخر بشرط أن
(1)
"الفتح" 11/ 409 - 410.
يُزوّجه وليّته، والثاني: خلوّ بُضع كل منهما من الصداق، فمنهم من اعتبرهما معًا، حتى لا يمنع مثلًا إذا زوّج كلّ منهما الآخر بغير شرط، وإن لم يذكر الصداق، أو زوّج كل منهما الآخر بالشرط، وذكر الصداق.
وذهب أكثر الشافعيّة إلى أن علّة النهي الاشتراك في البضع؛ لأن بضع كلّ منهما يصير مورد العقد، وجعلُ البضع صداقًا مخالفٌ لإيراد عقد النكاح، وليس المقتضي للبطلان ترك ذكر الصداق؛ لأن النكاح يصحّ بدون تسمية الصداق.
واختلفوا فيما إذا لم يصرّحا بذكر البضع، فالأصحّ عندهم الصحّة، ولكن وُجد نصّ الشافعيّ على خلافه، ولفظه: إذا زوّج الرجل ابنته، أو المرأة يلي أمرها من كانت، لآخر على أن صداق كلّ واحدة بضع الأخرى، أو على أن يُنكحه الأخرى، ولم يُسمّ أحدٌ منهما لواحدة منهما صداقًا، فهذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو منسوخٌ. هكذا ساقه البيهقيّ بإسناده الصحيح عن الشافعيّ، قال: وهو الموافق للتفسير المنقول في الحديث.
واختَلَف نصّ الشافعيّ فيما إذا سمّى مع ذلك مهرًا، فنصّ في "الإملاء" على البطلان، وظاهر نصّه في "المختصر" الصّحّة، وعلى ذلك اقتصر في النقل عن الشافعيّ من ينقل الخلاف من أهل المذاهب.
وقال القفّال: العلّة في البطلان التعليق، والتوقيف، فكأنه يقول: لا ينعقد نكاح بنتي حتى ينعقد لي نكاح بنتك.
وقال الخطّابيّ: كان ابن أبي هريرة يشبّهه برجل تزوّج امرأة، واستثنى عضوًا من أعضائها، وهو مما لا خلاف في فساده، وتقرير ذلك أنه يزوّج وليّته، ويستثني بُضعها حيث يجعله صداقًا للأخرى.
وقال الغزاليّ في "الوسيط": صورته الكاملة أن يقول: زوّجتك ابنتي على أن تزوّجني ابنتك، على أن يكون بُضع كلّ واحدة منهما صداقًا للأخرى، ومهما انعقد نكاح ابنتي انعقد نكاح ابنتك.
قال الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ": ينبغي أن يُزاد: ولا يكون مع البضع شيء آخر، ليكون متّفقًا على تحريمه في المذهب.
ونقل الخِرَقيّ أن أحمد نصّ على أن علّة البطلان ترك ذكر المهر، ورجّح ابن تيميّة في "المحرّر" أن العلّة التشريك في البضع.
وقال ابن دقيق العيد: ما نصّ عليه أحمد هو ظاهر التفسير المذكور في الحديث لقوله فيه: ولا صداق بينهما، فإنه يشعر بأن جهة الفساد ذلك، وإن كان يَحْتَمِل أن يكون ذلك ذُكر لملازمته لجهة الفساد، ثم قال: وعلى الجملة ففيه شعور بأن عدم الصداق له مدخل في النهي، ويؤيّده حديث أبي ريحانة الذي ذكره. انتهى
(1)
.
وقال العلامة ابن القيّم رحمه الله: قال الإمام أحمد: الشغار الباطل أن يزوّجه وليّته على أن يزوّجه الآخر وليّته، ولا مهر بينهما على حديث ابن عمر، فإن سمّوا مع ذلك مهرًا صحّ العقد بالمسمّى عنده، وقال الخرقيّ: لا يصحّ، ولو سمّوا مهرًا على حديث معاوية، وقال أبو البركات ابن تيميّة، وغيره من أصحاب أحمد: إن سمّوا مهرًا، وقالوا مع ذلك: بُضع كلّ واحدة مهر الأخرى لم يصحّ، وإن لم يقولوا ذلك صحّ.
واختُلف في علّة النهي، فقيل: هي جعل كلّ واحد من العقدين شرطًا في الآخر، وقيل: العلّة التشريك في البضع، وجعلُ بُضع كلّ واحدة مهرًا للأخرى، وهي لا تنتفع به، فلم يرجع إليها المهر، بل عاد المهر إلى الوليّ، وهو ملكه لبضع زوجته بتمليكه لبضع موليّته، وهذا ظلم لكل واحدة من المرأتين، وإخلاء لنكاحهما عن مهر تنتفع به، وهذا هو الموافق للغة العرب، فإنهم يقولون: بلدٌ شاغر من أمير، ودارٌ شاغرةٌ من أهلها: إذا خلت، وشغَرَ الكلب: إذا رفع رجله، وأخلى مكانها، فإذا سمّوا مهرًا مع ذلك زال المحذور، ولم يبق إلا اشتراط كلّ واحد على الآخر شرطًا لا يؤثّر في فساد العقد، فهذا منصوص أحمد.
وأما من فرّق، فقال: إن قالوا مع التسمية: إن بُضع كلّ واحدة مهرٌ للأخرى فسد؛ لأنها لم يرجع إليها مهرها، وصار بضعها لغير المستحقّ، وإن لم يقولوا ذلك صحّ، والذي يجيء على أصله أنهم متى عقدوا على ذلك، وإن
(1)
"الفتح" 11/ 410 - 411.
لم يقولوه بألسنتهم أنه لا يصحّ؛ لأن القصود في العقود معتبرةٌ، والمشروط عرفًا كالمشروط لفظًا، فيبطل العقد بشرط ذلك، والتواطئ عليه ونيّته، فإن سُمّي لكلّ واحدة مهرُ مثلها صحّ، وبهذا تظهر حكمة النهي، واتفاق الأحاديث في هذا الباب. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله أرجح؛ لأنه أقرب إلى ظاهر الحديث؛ لأن تفسير الشغار المذكور، إن كان مرفوعًا فواضحٌ، وإلا فتفسير الصحابيّ، أو الراوي أقرب؛ لأنه من أهل اللغة، وأفهم بمقاصد الشريعة.
والحاصل أن الشغار لا يكون شغارًا محرّمًا إلا إذا خلا عن ذكر المهر، فإن ذُكر المهر، جاز، اللَّهمّ إلا أن يترتّب عليه محظورٌ، وذلك بأن يشترط على أنه إذا حصل شقاقُ إحدى المرأتين مع زوجها، ففارقها انتُزعت الأخرى قهرًا بسبب ذلك، كما يُفعل في بعض البلدان، فلا يجوز؛ لإلحاق الضرر بالثانية؛ وقد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا ضرر، ولا ضرار"، رواه أحمد
(2)
.
[فإن قلت]: أخرج أبو داود في "سننه" بإسناد صحيح، من طريق ابن إسحاق، حدّثني عبد الرحمن بن هُرْمُز الأعرج، أن العبّاس بن عبد الله بن العباس أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته، وأنكحه عبد الرحمن ابنته، وكانا جعلا صداقًا، فكتب معاوية إلى مروان يأمره بالتفريق بينهما، وقال في كتابه: هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقد أوضح معاوية رضي الله عنه فيه أن الشغار يَشْمَل أيضًا ما سُمّي فيه المهر، قال ابن حزم رحمه الله: فهذا معاوية بحضرة الصحابة، لا يُعرف له منهم مخالف، يَفسَخ هذا النكاح، وإن ذكرا فيه الصداق. انتهى
(3)
.
[قلت]: هذا فهمُ معاوية رضي الله عنه في حمل الشغار على ما يشمل الصورة المذكورة في هذا الحديث، وقد تقدّم أن غيره خالفه في ذلك، ففسّروا الشغار
(1)
"زاد المعاد في هدي خير العباد" 5/ 108 - 109.
(2)
حديث صحيح، رواه الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" برقم (2862).
(3)
"المحلّى" 9/ 516.
بما اشتمل على وصفين: اشتراط كل منهما على الآخر أن يزوّجه موليّته، والخلوّ من ذكر الصداق، فهذا الحمل إن كان مرفوعًا، فواضح، وإن كان موقوفًا، فالقائلون به أكثر، وأما قول ابن حزم: فهذا معاوية بحضرة الصحابة، لا يعرف له منهم مخالف إلخ، ففيه نظر لا يخفى، فمن أين له أنه قال ذلك بحضرة الصحابة؟، ومن أين عرف عدم مخالفتهم له؟، وقد تقدّم أن تفسير الشغار بما تقدّم وقع في حديث ابن عمر، وأبي هريرة، وأنس، وجابر، وأبي ريحانة رضي الله عنهم، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم نكاح الشِّغَار:
أجمعوا على أن نكاح الشغار لا يجوز، ولكن اختلفوا في صحّته، فالجمهور على البطلان. وفي رواية عن مالك: يُفسخ قبل الدخول، لا بعده، وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعيّ. وذهب الحنفيّة إلى صحّته، ووجوب مهر المثل، وهو قول الزهريّ، ومكحول، والثوريّ، والليث، ورواية عن أحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وهو قول على مذهب الشافعيّ؛ لاختلاف الجهة.
لكن قال الشافعيّ: إن النساء محرّمات إلا ما أحلّ الله، أو ملك يمين، فإذا ورد النهي عن نكاح تأكّد التحريم، قاله في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه الجمهور من بطلان نكاح الشغار هو الحقّ؛ لما ذكره الشافعيّ رحمه الله آنفًا، من أن الأصل في النساء التحريم، فلا يحلّ منهنّ إلا ما أحلّه الشارع، فإذا ورد نهي في نوع من النكاح، كالشغار المذكور ازداد التحريم تأكُّدًا، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3466]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَعُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ، عَن
(1)
"الفتح" 11/ 411 - 412.
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ عُبَيْدِ اللهِ قَالَ: قُلْتُ لِنَافِعٍ: مَا الشِّغَارُ؟).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ) أبو قدامة السرخسي، تقدم قريبًا.
2 -
(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر الْعُمريّ، تقدّم قبل باب.
والباقون ذُكروا في الباب، وفيما قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3467]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّرَّاجِ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَن الشِّغَارِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) تقدّم قبل باب.
2 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ السَّرَّاجُ) هو: عبد الرحمن بن عبد الله السرّاج
(1)
البصريّ، ثقةٌ [8].
رَوَى عن نافع، والزهريّ، وسعيد المقبريّ، وعطاء بن أبي رَبَاح.
ورَوى عنه أيوب السختيانيّ، وهو من أقرانه، وأيوب بن خُوط، وجرير بن حازم، وجويرية ابن أسماء، وحماد بن زيد، وسعيد بن أبي عَروبة، ومعمر، وغيرهم.
قال أحمد، وابن معين، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال معمر: ثنا عبد الرحمن السرّاج، وكان قد وَعَى علمًا، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكره ابن المدينيّ في الطبقة السابعة من أصحاب نافع.
تفرّد به المصنّف، والنسائيّ.
والباقون ذُكروا في الباب.
(1)
"السّرّاج" بتشديد الراء: نسبة إلى عَمَل السُّروج. قاله في "اللباب" 1/ 434.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3468]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَامِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
وكلهم تقدّموا في الباب، وقبله، و"معمرٌ" هو: ابن راشد، و"أيوب" هو: السختيانيّ.
وقوله: ("لَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَامِ")"لا" هي النافية للجنس، فتدلّ على أن النهي السابق في قوله:"نَهَى عن الشغار" محمول على عدم المشروعيّة أصلًا، قال السنديّ رحمه الله: وعليه اتفاق الفقهاء. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لا شِغار في الإسلام" أي لا صحّة لعقد الشِّغار في الإسلام، وهو حجة لمن قال بفساده على كلّ حال، وهو ظاهر هذه الصيغة، كقوله:"لا صيام لمن لم يُبيِّت الصيام"
(2)
، و"لا عمل إلا بالنيّة"
(3)
، ولا رجل في الدار، فإن الظاهر من هذه الصيغ نفي الصحّة، ونفي الكمال مُحْتَمِلٌ، فلا يصار إليه إلا بدليل. انتهى
(4)
.
والحديث بهذا اللفظ من أفراد المصنّف رحمه الله، وأخرجه (أحمد) في "مسنده"(2/ 35 و 91)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 20)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 82)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3469]
(1416) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَن الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَهَى
(1)
"شرح السنديّ على النسائيّ" 6/ 111.
(2)
صحيح. أخرجه النسائيّ 4/ 197.
(3)
رواه البيهقيّ 1/ 41.
(4)
"المفهم" 4/ 111.
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الشِّغَارِ، زَادَ ابْنُ نُمَيْرٍ: وَالشِّغَارُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ، وَأُزَوِّجُكَ ابْنَتِي، أَوْ زَوِّجْنِي أُخْتَكَ، وَأُزَوِّجُكَ أُخْتِي).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، والذي قبله، وقبل ثلاثة أبواب، و"ابْنُ نُمَيْرٍ" هو: عبد الله بن نُمير، و"أَبُو أُسَامَةَ" هو: حمّاد بن أُسامة، و"أَبُو الزِّنَادِ" هو: عبد الله بن ذكوان، و"الْأَعْرَجُ" هو: عبد الرحمن بن هُرْمُز.
وشرح الحديث واضحٌ، يُعلم مما سبق في شرح حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد (المصنّف) رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 3469 و 3470](1416)، و (النسائيّ) في "النكاح"(6/ 112)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1884)، و (أحمد) في "مسنده"(276 و 439 و 496)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 82). وبقيّة المسائل تقدّمت في شرح حديث ابن عمر رضي الله عنهما، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3470]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، وَهُوَ ابْنُ عُمَرَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يَذْكُرْ زِيَادَةَ ابْنِ نُمَيْرٍ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدَةُ) بن سليمان الكلابيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
و"عُبَيْدُ اللهِ" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية عبدة بن سليمان، عن عبيد الله بن عمر هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3471]
(1417) - (وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ (ح) وَحَدَّثَنَاه إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَن الشِّغَارِ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) الحمّال، أبو موسى البغداديّ البزّاز، ثقةٌ [10](ت 243)(م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.
2 -
(حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ) الأعور الْمصِّيصيّ، أبو محمد الترمذيّ الأصل، نزيل بغداد، ثم المِصِّيصة، ثقةٌ ثبتٌ، اختلط في آخره [9](ت 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 94.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم قريبًا.
4 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل بابين.
5 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس، تقدّم قريبًا.
6 -
(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حرام رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقيان ذُكرا في الباب، وشرح الحديث، وفوائده تقدّمت مستوفاة في حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 3471](1417)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(6/ 183)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 33)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 321 و 339)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 21)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 83)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 200)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(8) - (بَابُ بَيَانِ وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ)
[3472]
(1418) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، وَهُوَ الْقَطَّانُ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْيَزَنِيِّ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَحَقَّ الشَّرْطِ أَنْ يُوفَى بِهِ، مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ". هَذَا لَفْظُ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ، وَابْنِ الْمُثَنَّى، غَيْرَ أَنَّ ابْنَ الْمُثَنَّى قَالَ:"الشُّرُوطِ").
رجال هذا الإسناد: اثنا عشر:
1 -
(هُشَيْمُ) بن بشير الواسطي، تقدم قريبًا.
2 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، تقدّم قبل بابين.
3 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قريبًا.
4 -
(أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ) سليمان بن حيّان الأزديّ الكوفيّ، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 190) أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.
5 -
(عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرِ) بن عبد الله بن الحكم بن رافع الأنصاريّ المدنيّ، صدوقٌ رُمي بالقدر، وربّما وَهِمَ [6](ت 153)(خت م 4) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 4/ 1195.
6 -
(مَرْثَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْيَزَنِيُّ)
(1)
أبو الخير المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ [3](ت 90)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي، وقبله.
شرح الحديث:
(عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ) رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَحَقَّ الشَّرْطِ) بالإفراد، وفي رواية محمد بن المثنّى:"إن أحقّ الشرُوط" بالجمع (أَنْ يُوَفَى بِهِ)
(1)
بفتح التحتانيّة، والزاي، بعدها نون.
بالبناء للمفعول، وتخفيف الفاء، من الإيفاء، أو تشديدها، من التوفية، ولفظ النسائيّ:"أن تُوفوا به"، وفي رواية البخاريّ:"أحقُّ الشروط أن توفوا بها ما استحللتم به الفروج"، وفي لفظ له:"أحقّ ما أوفيتم من الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج".
فقوله: "أن يوفى به" في تأويل المصدر مجرور بحرف جرّ محذوف قياسًا؛ لكونه مع "أَنْ"، متعلّق بـ "أحقّ"، كما قال في "الخلاصة":
وَعَدِّ لَازِمًا بِحَرْفِ جَرِّ
…
وَإِنْ حُذِفْ فَالنَّصْبُ لِلْمُنْجَرِّ
نَقْلًا وَفِي "أَنَّ" و"أَنْ" يَطَّرِدُ
…
مَعْ أَمْنِ لَبْسٍ كَـ "عَجِبْتُ أَنْ يَدُوا"
وقوله: (مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ")"ما" موصولة خبر "إنّ"، أي إنّ أليق الشروط بالوفاء الشرط الذي وقع به عقد النكاح؛ لأن أمره أحوط، وبابه أضيق.
قال النوويّ رحمه الله: قال الشافعيّ، وأكثر العلماء: إن هذا محمول على شروط لا تنافي مقتضي النكاح، بل تكون من مقتضياته، ومقاصده، كاشتراط العشرة بالمعروف، والإنفاق عليها، وكسوتها، وسُكناها بالمعروف، وأنه لا يُقَصِّر في شيء من حقوقها، ويَقْسِم لها كغيرها، وأنها لا تخرج من بيته إلا بإذنه، ولا تَنْشُز عليه، ولا تصوم تطوعًا بغير إذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه، ولا تتصرف في متاعه إلا برضاه، ونحو ذلك، وأما شَرْطٌ يخالف مقتضاه، كشرط أن لا يَقسِم لها، ولا يتسرى عليها، ولا ينفق عليها، ولا يسافر بها، ونحو ذلك، فلا يجب الوفاء به، بل يلغو الشرط، ويصح النكاح بمهر المثل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"كلُّ شرط ليس في كتاب الله، فهو باطل"، وقال أحمد، وجماعة: يجب الوفاء بالشرط مطلقًا؛ لحديث: "إن أحقّ الشروط إلخ". انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما ذهب إليه الإمام الشافعيّ، وأكثر العلماء هو الأرجح؛ وسيأتي بيان اختلاف العلماء، وترجيح الراجح بدليله في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى -.
وقوله: (هَذَا) إشارة إلى المتن الذي ساقه (لَفْظُ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ) ابن أبي
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 202.
شيبة، شيخه الثالث (وَ) محمد (بْنِ الْمُثَنَّى) شيخه الرابع (غَيْرَ أَنَّ ابْنَ الْمُثَنَّى) بنصب "غيرَ" على الاستثناء؛ لوقوعها بعد تمام الكلام الموجب، كما أشار إليه في "الخلاصة":
وَاسْتَثْنِ نَاصِبًا بِـ "غَيْرُ" مُعْرَبَا
…
بِمَا لِمُسْتَثْنًى بِـ "إِلَّا" نُسِبَا
وقوله: (قَالَ: "الشُرُوطِ") يعني أن ابن المثنّى قال في روايته: "إن أحقّ الشروط" بلفظ الجمع، بدل قول أبي بكر:"إن أحقّ الشرط" بالإفراد، ولا أختلاف بينهما في المعنى؛ لأن المفرد المحلّى بـ "أل" يعمّ، فيكون بمعنى الجمع، كالسارق، والزاني، والعبد، والحرّ، ونحو ذلك، ولذا وُصف بصيغة العموم في قوله تعالى:{أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31]، وقد أشرت إلى هذا في "التحفة المرضيّة" بقولي:
وَمُفْرَدٌ بِلَامِ غَيْرِ الْعَهْدِ قَدْ
…
حُلِّيَ فَالْعُمُومُ فِيهِ يُعْتَمَدْ
وإن أردت تحقيق المسألة، فراجع "شرحه"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 3472](1418)، و (البخاريّ) في "الشروط"(2721) و"النكاح"(5151)، و (أبو داود) في "النكاح"(2139)، و (الترمذيّ) في "النكاح"(1127)، و (النسائيّ) في "النكاح"(3282 و 3283) وفي "الكبرى"(5531 و 5533)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1954)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(10613)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 499)، و (أحمد) في "مسنده"(16851 و 16911 و 16925)، و (الدارميّ) في "سننه"(2203)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4092)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 69)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 83)، و (أبو يعلى) في "مسنده"
(1)
"المنحة الرضيّة شرح التحفة المرضيّة" 3/ 223 - 224.
(1754)
، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(1/ 210)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(17/ 753 و 758)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 248) و"الصغرى"(6/ 246) و"المعرفة"(5/ 392 و 393)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2270)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في المراد بالشرط المذكور في هذا الحديث:
قال الخطّابيّ رحمه الله
(1)
: الشروط في النكاح مختلفةٌ:
(فمنها): ما يجب الوفاء به اتفاقًا، وهو ما أمر الله به، من إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، وعليه حَمَل بعضهم هذا الحديث.
(ومنها): ما لا يوفَى به اتفاقًا، كسؤال طلاق أختها.
(ومنها): ما اختُلف فيه، كاشتراط أن لا يتزوّج عليها، أو لا يتسرّى، أو لا ينقلها من منزلها إلى منزله.
وعند الشافعيّة الشروط في النكاح على ضربين: منها: ما يرجع إلى الصداق، فيجب الوفاء به، وما يكون خارجًا عنه، فمختلف الحكم فيه، فمنه ما يتعلّق بحقّ الزوج، وسيأتي بيانه. ومنه ما يَشترطه العاقد لنفسه خارجًا عن الصداق، وبعضهم يسمّيه: الحلوان، فقيل: هو للمرأة مطلقًا، وهو قول عطاء، وجماعة من التابعين، وبه قال الثوريّ، وأبو عُبيد. وقيل: هو لمن شرَطه، قاله مسروقٌ، وعليّ بن الحسين، وقيل: يختصّ ذلك بالأب، دون غيره من الأولياء، وقال الشافعيّ: إن وقع في نفس العقد وجب للمرأة مهر مثلها، وإن وقع خارجًا عنه لم يجب، وقال مالك: إن وقع في حال العقد فهو من جملة المهر، أو خارجًا عنه، فهو لمن وُهب له.
وجاء ذلك في حديث مرفوع، أخرجه النسائيّ
(2)
من طريق ابن جُريج، عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: أيّما امرأة نُكحت على صداق، أو حِبَاء، أو عِدَةٍ قبل عصمة النكاح، فهو
(1)
راجع: "الأعلام" 3/ 1979 - 1980.
(2)
أي في "الكبرى" 3/ 322 - 333 رقم (5532).
لها، فما كان بعد عصمة النكاح، فهو لمن أُعطيه، وأحقّ ما أُكرم عليه الرجل ابنته، أو أخته"
(1)
.
وأخرجه البيهقيّ من طريق حجّاج بن أرطاة، عن عمرو بن شعيب، عن عروة، عن عائشة، نحوه.
وقال الترمذيّ بعد تخريجه: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من الصحابة، منهم عمر، قال: إذا تزوّج الرجل المرأةَ، وشرطَ أن لا يُخرجها لزم. وبه يقول الشافعيّ، وأحمد، وإسحاق.
قال في "الفتح": كذا قال. والنقل في هذا عن الشافعيّ غريبٌ، بل الحديث عندهم محمولٌ على الشروط التي لا تنافي مقتضى النكاح، بل تكون من مقتضياته، ومقاصده، كاشتراط العشرة بالمعروف، والإنفاق، والكسوة، والسكنى، وأن لا يقصّر في شيء من حقّها، من قسمة، ونحوها، وكشرطه عليها أن لا تَخرُج إلا بإذنه، ولا تمنعه نفسها، ولا تتصرّف في متاعه إلا برضاه، ونحو ذلك. وأما شرطٌ ينافي مقتضى النكاح، كأن لا يَقسم لها، أو لا يتسرّى عليها، أو لا يُنفق، أو نحو ذلك، فلا يجب الوفاء به، بل إن وقع في صلب العقد كفَى، وصحّ النكاح بمهر المثل، وفي وجه: يجب المسمّى، ولا أثر للشرط، وفي قول للشافعيّ: يبطل النكاح.
وقال أحمد، وجماعة: يجب الوفاء بالشرط مطلقًا.
وقد استشكل ابن دقيق العيد حملَ الحديث على الشروط التي هي من مقتضيات النكاح، قال: تلك الأمور لا تؤثّر الشروط في إيجابها، فلا تشتدّ الحاجة إلى تعليق الحكم بالاشتراط فيها، ومقتضى الحديث أن لفظ:"أحقّ الشروط" يقتضي أن يكون بعض الشروط يقتضي الوفاء، وبعضها أشدّ اقتضاءً له، والشروط التي هي مقتضى العقود مستويةٌ في وجوب الوفاء، ويترجّح على ما عدا النكاح الشروط المتعلّقة بالنكاح من جهة حرمة الأبضاع، وتأكيد استحلالها. والله أعلم. انتهى
(2)
.
(1)
ضعّفه الشيخ الألبانيّ رحمه الله، راجع:"السلسلة الضعيفة" 3/ 58.
(2)
"إحكام الأحكام" 3/ 189 - 190.
وقال الترمذيّ: وقال عليّ: سبق شرطُ الله شرطَها، قال: وهو قول الثوريّ، وبعض أهل الكوفة، والمراد في الحديث: الشروط الجائزة، لا المنهيّ عنها. انتهى.
وقد اختُلف عن عمر، فروى ابن وهب بإسناد جيّد عن عبيد بن السبّاق:"أن رجلًا تزوّج امرأة، فشرَط لها أن لا يخرجها من دارها، فارتفعوا إلى عمر فوضع الشرط، وقال: المرأة مع زوجها"، قال أبو عبيد: تضادّت الروايات عن عمر في هذا، وقد قال بالقول الأول عمرو بن العاص، ومن التابعين طاوس، وأبو الشعثاء، وهو قول الأوزاعيّ، وقول الليث، والثوريّ، والجمهور بقول عليّ، حتى لو كان صداق مثلها مائة مثلًا، فرضيت بخمسين على أن لا يخرجها، فله إخراجها، ولا يلزمه إلا المسمّى.
وقالت الحنفيّة: لها أن ترجع عليه بما نقصته له من الصداق.
وقال الشافعيّ: يصحّ النكاح، ويلغو الشرط، ويلزمه مهر المثل. وعنه: يصحّ، وتستحقّ الكل.
وقال أبو عبيد: والذي ناخذ به أنا نأمره بالوفاء بشرطه من غير أن يحكم عليه بذلك. قال: وقد أجمعوا على أنها لو اشترطت عليه أن لا يطأها لم يجب الوفاء بذلك الشرط، فكذلك هذا.
ومما يقوّي حمل حديث عقبة على الندب ما سيأتي في حديث عائشة في قصّة بريرة: "كلّ شرط ليس في كتاب الله، فهو باطل"، والوطء، والإسكان، وغيرهما من حقوق الزوج إذا شرط عليه إسقاط شيء منها كان شرطًا، ليس في كتاب الله، فيبطل.
وأخرج إسحاق في "مسنده" من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو، عن أبيه، عن جدّه، مرفوعًا بلفظه:"المسلمون عند شروطهم، إلا شرطًا حرّم حلالًا، أو أحلّ حرامًا"، وكثير بن عبد الله ضعيف عند الأكثرين، لكن البخاريّ، ومن تبعه كالترمذيّ، وابن خزيمة يُقوّون أمره، وقد علّق البخارىّ الجزء الأول منه في "صحيحه" بصيغة الجزم.
وأخرج الطبرانيّ في "الصغير" بإسناد حسن عن جابر: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خطب أمّ مبشّر بنت البراء بن معرور، فقالت: إني شرطت لزوجي أن لا أتزوّج
بعده، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن هذا لا يصلح"، أفاده في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يترجّح عندي أن الشرط الذي يلزم الوفاء به هو الشرط الذي يذكره الزوج ترغيبًا للزوجة في النكاح، مما لا يؤدّي إلى تحريم حلالٍ، أو تحليل حرام، وأما ما أدّى إلى ذلك فليس مراد حديث الباب؛ إذ الباطل لا يجوز الوفاء به؛ لحديث:"كلّ شرط ليس في كتاب الله فهو باطل"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(9) - (بَابُ اسْتِئْمَارِ الثَّيِّبِ فِي النِّكَاحِ بِالنُّطْقِ، وَاسْتِئْذَانِ الْبِكْرِ بِالسُّكُوتِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3473]
(1419) - (حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَيْسَرَةَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تُنْكَحِ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحِ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَالَ: "أَنْ تَسْكُتَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَيْسَرَةَ الْقَوَارِيرِيُّ) أبو سعيد البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 235) عن (85) سنةً (خ م د س) تقدم في "المقدمة" 6/ 75.
2 -
(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) الْهُجَيميّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(هِشَامُ) بن أبي عبد الله سَنْبَر الدستوائيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) صالح بن المتوكل، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف، تقدّم أيضًا قريبًا.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه ذُكر قبل باب.
(1)
"الفتح" 11/ 498 - 500.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، كما أسلفته آنفًا.
3 -
(ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالبصريين، والثاني بالمدنيين، ويحيى وإن كان بصريًّا، ثم يماميًّا، إلا أنه سكن المدينة مدة طويلة يطلب العلم، فقد ذكر في "تهذيب الكمال" أنه أقام بالمدينة عشر سنين في طلب العلم. انتهى
(1)
.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.
شرح الحديث:
(عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كثِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف، قال:(حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تُنْكَحِ) يَحْتَمِلُ أن تكون "لا" ناهية، والفعل مجزوم، وكسرت الحاء لالتقاء الساكنين، ويَحْتَمِل أن تكون نافيةً، والفعل مرفوع، وهو خبر بمعنى النهي، وهو أبلغ في المنع، كما تقدّم تحقيقه. (الْأَيِّمُ) - بفتح الهمزة، وتشديد التحتانيّة -: هو في الأصل من لا زوج لها، بكرًا كانت، أو ثيّبًا، والمراد به هنا: الثيّب، كما فسّرته الرواية الأخرى، ولمقابلته بالبكر، ولأنه الأكثر استعمالًا.
قال أبو العباس القرطبيّ رحمه الله: اتفق أهل اللغة على أن الأيّم في الأصل هي المرأة التي لا زوج لها، بكرًا كانت أو ثيّبًا، ومنه قوله تعالى:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] تقول العرب: تأيّمت المرأة: إذا أقامت لا تتزوّج، ويقال: أيّمٌ بيّنة الأيْمَة، وقد آمت هي، وإِمْتُ أنا، قال الشاعر [من الطويل]:
لَقَدْ إِمْتُ حَتَّى لَامَنِي كُلُّ صَاحِبٍ
…
رَجَاءً بِسَلْمَى أَنْ تَئِيمَ كَمَا إِمْتُ
قال أبو عبيد: يقال: رجلٌ أَيّمٌ، وامرأةٌ أيّمٌ، وأكثر ما يكون في النساء، وهو كالمستعار في الرجال. انتهى
(2)
.
(1)
راجع: "تهذيب الكمال" 31/ 510.
(2)
"المفهم" 4/ 114.
وقال في "الفتح": ظاهر هذا الحديث أن الأَيِّم هي الثيب التي فارقت زوجها بموت، أو طلاق؛ لمقابلتها بالبكر، وهذا هو الأصل في الأَيِّم، ومنه قولهم:"الْغَزْوُ مَأْيَمَةٌ"، أي يَقْتُل الرجال، فتصير النساء أَيَامَى، وقد تطلق على من لا زوج لها أصلًا، ونقله عياض عن إبراهيم الحربيّ، وإسماعيل القاضي، وغيرهما أنه يُطلق على كل من لا زوج لها، صغيرةً كانت، أو كبيرةً، بكرًا كانت، أو ثَيِّبًا، وحَكَى الماورديّ القولين لأهل اللغة، وقد وقع في رواية الأوزاعيّ، عن يحيى، في هذا الحديث عند ابن المنذر، والدارميّ، والدارقطنيّ:"لا تنكح الثيب"، ووقع عند ابن المنذر، في رواية عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، في هذا الحديث:"الثيب تُشَاوَرُ". انتهى
(1)
.
وقال القاضي عياضٌ رحمه الله: اختلف العلماء في المراد بالأيّم هنا، مع اتفاق أهل اللغة على أنها تُطلق على امرأة لا زوج لها، صغيرةً كانت، أو كبيرةً، بكرًا كانت، أو ثيّبًا، قاله إبراهيم الحربيّ، وإسماعيل القاضي، وغيرهما، والأيْمَةُ العُزُوبة، ورجلٌ أيّمٌ، وامرأة أيّمٌ، وحكى أبو عبيد: أيّمةٌ أيضًا.
قال القاضي: ثم اختلف العلماء في المراد به هنا، فقال علماء الحجاز، والفقهاء كافّةً: المراد الثيّب، واستدلّوا بأنه جاء مفسّرًا في الرواية الأخرى بالثيّب، وبأنها جعلت في مقابلة البكر، وبأن أكثر استعمالها في اللغة للثيّب، وقال الكوفيون، وزفر: الأيّم هنا كلّ امرأة لا زوج لها، بكرًا كانت أو ثيّبًا، كما هو مقتضاه في اللغة قالوا: فكلّ امرأة بلغت فهي أحقّ بنفسها من وليّها، وعقدُها على نفسها النكاح صحيح. وبه قال الشعبيّ، والزهريّ، قالوا: وليس الوليّ من أركان صحّة النكاح، بل من تمامه. وقال الأوزاعيّ، وأبو يوسف، ومحمد: تتوقّف صحّة النكاح على إجازة الوليّ.
قال القاضي: واختلفوا أيضًا في قوله صلى الله عليه وسلم: "أحقّ من وليّها"، هل هي أحقّ بالإذن فقط، أو بالإذن والعقد على نفسها؟ فعند الجمهور بالإذن فقط، وعند هؤلاء بهما جميعًا. انتهى
(2)
.
(1)
"الفتح" 11/ 457.
(2)
راجع: "إكمال المعلم" 4/ 564 - 565.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحقّ ما قاله الجمهور من أن الوليّ شرط في صحّة النكاح، وليس للمرأة إلا مجرّد الإذن، إما صريحًا، وهو للثيّب، أو سكوتًا، وهو للبكر للحديث الصحيح:"أيما امرأة نكحت بغير إذن وليّها فنكاحها باطل"، والله تعالى أعلم.
(حَتَّى تُسْتَأْمَرَ) بالبناء للمفعول، أصل الاستئمار طلب الأمر، فالمعنى لا يُعقَد عليها حتى يُطلب الأمر منها، ويؤخذ من قوله:"تُستأمر" أنه لا يَعقِد عليها وليّها إلا بعد أن تأمر بذلك، وليس فيه دلالة على عدم اشتراط الوليّ في حقّها، كما زعم بعض أهل العلم، بل فيه إشعارٌ باشتراطه، أفاده في "الفتح"
(1)
.
(وَلَا تُنْكَحِ الْبِكْرُ) بالجزم والرفع على التوجيه السابق (حَتَّى تُسْتَأْذَنَ") بالبناء للمفعول، قال في "الفتح": كذا وقع في هذه الرواية التفرقة بين الثيّب والبكر، فعبّر للثيّب بالاستئمار، وللبكر بالاستئذان، فيؤخذ منه فرق بينهما من جهة أن الاستئمار يدلّ على تأكيد المشاورة، وجعل الأمر إلى المستأمرة، ولهذا يحتاج الوليّ إلى صريح إذنها في العقد، فإذا صرّحت بمنعه امتنع اتفاقًا، والبكر بخلاف ذلك، والإذن دائرة بين القول والسكوت بخلاف الأمر، فإنه صريحٌ في القول، وإنما جعل السكوت إذنًا في حقّ البكر لأنها قد تستحيي أن تُفصح. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أخرج النسائيّ هذا الحديث من طريق أبي إسماعيل القنّاد، عن يحيى بلفظ الاستئذان في الثيّب، والاستئمار في البكر، فعندي أن هذا من تصرّفات الرواة، والظاهر أنه لا فرق بين العبارتين، كما يدلّ عليه تصرّف النسائيّ رحمه الله في تراجمه، حيث عبّر في بعضها باستئذان البكر، وفي بعضها باستئمار الأب البكر، حسب اختلاف الروايات، فالذي يظهر أن الروايات بعضها باللفظ، وبعضها بالمعنى، فلا تعارض بينها، فتأمّل، والله تعالى أعلم.
(1)
راجع: "الفتح" 11/ 457.
(قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ) وفي رواية عمر بن أبي سلمة، عن أبيه:"قلنا"، وحديث عائشة رضي الله عنها صريح في أنها هي السائلة عن ذلك.
(وَكَيْفَ إِذْنُهَا؟) في حديث عائشة: قلت: إن البكر تستحي (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَنْ تَسْكُتَ")"أن" بالفتح هي المصدريّة، والمصدر المؤوّل خبر لمحذوف، أي إذنها سكوتها.
قال ابن المنذر رحمه الله: يُستحبّ إعلام البكر أن سكوتها إذنٌ، لكن لو قالت بعد العقد: ما علمت أن صمتي إذنٌ لم يبطل العقد بذلك عند الجمهور، وأبطله بعض المالكيّة، وقال ابن شعبان منهم: يقال لها ذلك ثلاثًا: إن رضيتِ فاسكتي، وإن كرهتِ فانطلقي، وقال بعضهم: يُطالُ المقام عندها؛ لئلا تَخْجَل، فيمنعها ذلك من المسارعة، واختلفوا فيما إذا لم تتكلّم، بل ظهرت منها قرينة السخط، أو الرضا بالتبسّم مثلًا، أو البكاء، فعند المالكيّة إن نفرت، أو بكت، أو قامت، أو ظهر منها ما يدلّ على الكراهة لم تُزوَّج، وعند الشافعيّة: لا أثر لشيء من ذلك في المنع إلا إن قَرَنت مع البكاء الصياح ونحوه، وفرّق بعضهم بين الدمع، فإن كان حارًّا دلّ على المنع، وإن كان باردًا دلّ على الرضا، قاله في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 3473 و 3474](1419)، و (البخاريّ) في "النكاح"(5136) و"الحيل"(6968 و 6970)، و (أبو داود) في "النكاح"(2092)، و (الترمذيّ) في "النكاح"(1107)، و (النسائيّ) في "النكاح"(6/ 85 و 86) و"الكبرى"(3/ 281)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1871)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 460)، و (أحمد) في "مسنده" (2/ 229 و 250 و 279
(1)
"الفتح" 11/ 458 - 459.
و 434)، و (الدارميّ) في "سننه"(2186)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 177)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 73 - 74)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 84)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 407)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(3/ 238)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(1/ 181 - 182)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 119 و 122) و"المعرفة"(5/ 247)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان وجوب استئمار الأيِّم في النكاح، وأنها أحقّ به من الوليّ، بمعنى أنه لا بدّ من إذنها الصريح، أو ردّها، لا بمعنى أنها تزوّج نفسها، كما يقول به داود الظاهريّ.
2 -
(ومنها): بيان وجوب استئذان البكر، وأنه لا يجب عليها التصريح بالقول، بل يكفي سكوتها.
3 -
(ومنها): أنه يدلّ على أنَّ السكوت على الشيء بعد العلم به يكون رضًا به، لكن بشرط أن لا يكون السكوت عن خوف ونحوه.
4 -
(ومنها): أن فيه إشارةً إلى أن البكر التي أُمِر باستئذانها هي البالغة؛ إذ لا معنى لاستئذان من لا تدري ما الإذن، ومن يستوي سكوتها وسخطها.
5 -
(ومنها): أنه يدلّ على أن البكر إذا أعلنت بالمنع لم يجز النكاح عليها، وإن أعلنت بالرضا جاز بطريق أولى، وشذّ بعض أهل الظاهر، فقال: لا يجوز أيضًا، وقوفًا عند ظاهر قوله:"وإذنها أن تسكت"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: نقل ابن عبد البرّ عن مالك أن سكوت البكر اليتيمة قبل إذنها، وتفويضها لا يكون رضًا منها، بخلاف ما إذا كان بعد تفويضها إلى وليّها، وخصّ بعض الشافعيّة الاكتفاء بسكوت البكر البالغ بالنسبة إلى الأب والجدّ، دون غيرهما؛ لأنها تستحيي منهما أكثر من غيرهما، والصحيح الذي عليه الجمهور استعمال الحديث في جميع الأبكار بالنسبة لجميع الأولياء، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم تزويج الأب البكر البالغة بغير إذنها:
ذهب الأوزاعيّ، والثوريّ، والحنفيّة، ووافقهم أبو ثور: إلى اشتراط استئذانها، فلو عقد عليها بغير استئذان لم يصحّ.
وذهب آخرون إلى أنه يجوز للأب أن يزوّجها، ولو كانت بالغة بغير استئذان، وهو قول ابن أبي ليلى، ومالك، والليث، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق.
ومن حجّتهم مفهوم حديث الباب؛ لأنه جعل الثيّب أحقّ بنفسها من وليّها، فدلّ على أن وليّ البكر أحقّ بها منها.
واحتجّ بعضهم بحديث يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى، مرفوعًا:"تُستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها"، قال: فقيّد ذلك باليتيمة، فيُحْمَل المطلق عليه.
وفيه نظر - كما قال الحافظ - لحديث ابن عباس الآتي بلفظ: "والبكر يستأمرها أبوها" فنصّ على ذكر الأب.
وأجاب الشافعيّ بأن المؤامرة قد تكون عن استطابة النفس، ويؤيّده حديث ابن عمر رضي الله عنهما، رفعه:"آمروا النساء في بناتهنّ"، أخرجه أبو داود، قال الشافعيّ: لا خلاف أنه ليس للأمّ أمرٌ، لكنه على معنى استطابة النفس.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لكن الحديث ضعيفٌ
(1)
؛ لجهالة الراوي عن ابن عمر رضي الله عنهما، فلا يصلح للاستدلال به، والله تعالى أعلم.
وقال البيهقيّ: زيادة ذكر الأب في حديث ابن عباس غير محفوظة، قال الشافعيّ: زادها ابن عُيينة في حديثه، وكان ابن عمر، والقاسم، وسالم يزوّجون الأبكار لا يستأمرونهنّ. قال البيهقيّ: والمحفوظ في حديث ابن عباس: "البكر تُستأمر"، ورواه صالح بن كيسان بلفظ:"واليتيمة تُستأمر"،
(1)
إنما الصحيح ما رواه الطبرانيّ، والبيهقيّ عن العرس بن عميرة بلفظ:"آمروا النساء في أنفسهن، فإن الثيب تُعرب عن نفسها، وإذن البكر صمتها"، راجع:"صحيح الجامع" للشيخ الألبانيّ رحمه الله 1/ 66.
وكذلك رواه أبو بردة، عن أبي موسى، ومحمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، فدلّ على أن المراد بالبكر اليتيمة.
قال الحافظ: وهذا لا يدفع زيادة الثقة الحافظ بلفظ الأب، ولو قال قائلٌ: بل المراد باليتيمة البكر لم يُدفع، و"تُستأمر" بضمّ أوله يدخل فيه الأب وغيره، فلا تعارض بين الروايات.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: كلام الحافظ رحمه الله هذا حسنٌ جدًّا.
وحاصله أن رواية "يستأذنها أبوها" صحيحة؛ لأنها زيادة ثقة حافظ، وهو سفيان بن عيينة، وأيضًا إن رواية "تُستأذن" لا تنافيها، إذ الاستئذان يعمّ الأب، وغيره، وأما رواية "اليتيمة" فتردّ إلى معنى "البكر" جمعًا بين الروايات.
والحاصل أن ما ذهب إليه الأولون - وهو عدم جواز تزويج البكر البالغة بغير إذنها - هو الأرجح، لظهور أدلّته، والله تعالى أعلم.
وأما قول الحافظ: ويبقى النظر في أن الاستئمار، هل هو شرط في صحّة العقد، أو مستحبّ على معنى استطابة النفس، كما قال الشافعيّ؟ كلٌّ من الأمرين مُحْتَمِل. انتهى.
ففيه نظرٌ لا يخفى؛ إذ الاحتمال الثاني - وهو الاستحباب - ضعيف؛ لمخالفته لظواهر الأحاديث المذكورة؛ وأما حديث أبو داود المذكور، فلا يصلح للاحتجاج به؛ لأنه ضعيفٌ، كما مرّ آنفًا، فالاحتمال الأول - وهو كون الاستئمار شرطًا في صحّة العقد - أقوى، لظواهر الأحاديث.
وقد حقّق المسألة العلامة ابن القيّم رحمه الله، فقال في "الهدي" - بعد ذكر حديث الاستئذان - ما نصّه: ومُوجَب هذا الحكم أنه لا تُجبر البكر البالغ على النكاح، ولا تُزوّج إلا برضاها، وهذا قول جمهور السلف، ومذهب أبي حنيفة، وأحمد في إحدى الروايات عنه، وهو القول الذي ندين الله به، ولا نعتقد سواه، وهو الموافق لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره، ونهيه، وقواعد شريعته، ومصالح أمّته.
أما موافقته لحكمه، فإنه حكم بتخيير البكر الكارهة، وليس رواية هذا الحديث مرسلةً بعلّة فيه، فإنه قد روي مسندًا، ومرسلًا، فإن قلنا بقول الفقهاء: إن الاتصال زيادة، ومن وصله مقدّمٌ على من أرسله، فظاهر، وهذا تصرّفهم في
غالب الأحاديث، فما بال هذا، خرج عن حكم أمثاله؟ وإن حكمنا بالإرسال، كقول كثير من المحدّثين، فهذا مرسلٌ قويّ، قد عضدته الآثار الصحيحة الصريحة، والقياس، وقواعد الشرع - كما سنذكره - فيتعيّن القول به.
وأما موافقة هذا القول لأمره، فإنه قال:"والبكر تُستأذن"، وهذا أمرٌ مؤكّد؛ لأنه بصيغة الخبر الدّالّ على تحقّق المخبر به، وثبوته، ولزومه، والأصل في أوامره صلى الله عليه وسلم أن تكون للوجوب، ما لم يقم إجماع على خلافه.
وأما موافقته لنهيه، فلقوله:"لا تُنكح البكر حتى تُستأذن"، فأمر، ونهى، وحكم بالتخيير، وهذا إثباتٌ للحكم بأبلغ الطرق.
وأما موافقته لقواعد شرعه، فإن البكر البالغة العاقلة الرشيدة لا يتصرّف أبوها في أقلّ شيء من مالها إلا برضاها
(1)
، ولا يُجبرها على إخراج اليسير منه بدون رضاها، فكيف يجوز أن يُرقّها، ويُخرج بُضعها منها بغير رضاها إلى من يريده هو، وهي من أكره الناس فيه، وهو من أبغض شيء إليها؟ ومع هذا فيُنكحها إياه قهرًا بغير رضاها إلى من يريده، ويجعلها أسيرةً عنده، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اتقوا الله في النساء، فإنّهنّ عوان عندكم"
(2)
، أي أسرى، ومعلومٌ أن إخراج مالها كلّه بغير رضاها أسهل عليها من تزويجها بمن لا تختاره بغير رضاها، ولقد أبطل من قال: إنها إذا عيّنت كفؤًا تحبّه، وعيّن أبوها كفؤًا، فالعبرة بتعيينه، ولو كان بغيضًا إليها، قَبِيح الخِلْقة.
وأما موافقته لمصالح الأمّة، فلا يخفى مصلحة البنت في تزويجها بمن تختاره وترضاه، وحصول مقاصد النكاح لها به، وحصول ضدّ ذلك بمن تبغضه، وتنفر عنه، فلو لم تأت السنّة الصريحة بهذا القول، لكان القياس الصحيح، وقواعد الشريعة لا تقتضي غيره، وبالله التوفيق.
(1)
قال الجامع: في هذا الإطلاق نظر لا يخفى؛ لأن الأب يجوز أن يأكل من مال ولده إذا احتاج إليه بغير رضاه؛ للحديث الصحيح الذي أخرجه أحمد، وأصحاب السنن عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا:"إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه"، والبنت يشملها لفظ الولد، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(2)
أخرجه الترمذيّ برقم (1163) وقال: حسنٌ صحيحٌ.
[فإن قيل]: فقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفرق بين البكر والثيّب، وقال:"لا تُنكح الأيّم حتى تستأمر، ولا تُنكح البكر حتى تُستأذن"، وقال:"الأيّم أحقّ بنفسها من وليّها، والبكر يَستأذنها أبوها"، فجعل الأيّم أحقّ بنفسها من وليّها، فعُلم أن وليّ البكر أحقّ بها من نفسها، وإلا لم يكن لتخصيص الأيّم بذلك معنىً.
وأيضًا فإنه فرّق بينهما في صفة الإذن، فجعل إذن الثيّب النطق، وإذن البكر الصَّمت، وهذا كلّه يدلّ على عدم اعتبار رضاها، وأنها لا حقّ لها مع أبيها.
[فالجواب]: أنه ليس في ذلك ما يدلّ على جواز تزويجها بغير رضاها مع بلوغها، وعقلها، ورُشدها، وأن يزوّجها بأبغض الخلق إليها إذا كان كفؤًا، والأحاديث التي احتججتم بها صريحةٌ في إبطال هذا القول، وليس معكم أقوى من قوله:"الأيّم أحقّ بنفسها من وليّها". هذا إنما يدلّ بطريق المفهوم، ومنازعوكم يُنازعونكم في كونه حجّةً، ولو سُلّم أنه حجّةٌ، فلا يجوز تقديمه على المنطوق الصريح، وهذا أيضًا إنما يدلّ إذا قلت: إن للمفهوم عمومًا، والصواب أنه لا عموم له؛ إذ دلالته ترجع إلى أن التخصيص بالمذكور لا بدّ له من فائدةٍ، وهي نفي الحكم عما عداه، ومعلومٌ أن انقسام ما عداه إلى ثابت الحكم ومنفيّه فائدة، وأن إثبات حكم آخر للمسكوت فائدة، وإن لم يكن ضدّ حكم المنطوق، وأن تفصيله فائدة، كيف، وهذا مفهومٌ مخالفٌ للقياس الصريح، بل قياس الأولى، كما تقدّم، ويخالف النصوص المذكورة.
وتأمّل قوله صلى الله عليه وسلم: "والبكر يستأذنها أبوها"، عقب قوله:"الأيّم أحقّ بنفسها من وليّها"، قطعًا لتوهّم هذا القول، وأن البكر تُزوّج بغير رضاها، ولا إذنها، فلا حقّ لها في نفسها البتّة، فوصل إحدى الجملتين بالأخرى، دفعًا لهذا التوهّم، ومن المعلوم أنه لا يلزم من كون الثيّب أحقّ بنفسها من وليّها أن لا يكون للبكر حقّ في نفسها البتّة.
وقد اختلف الفقهاء في مناط الإجبار على ستّة أقوال:
(أحدها): أنه يُجبر بالبكارة، وهو قول الشافعيّ، ومالك، وأحمد في رواية.
(الثاني): أن يُجبر بالصغر، وهو قول أبي حنيفة، وأحمد في الرواية الثانية.
(الثالث): أنه يُجبر بهما معًا، وهو الرواية الثالثة عن أحمد.
(الرابع): أنه يجبر بأيهما وُجد، وهو الرواية الرابعة عنه.
(الخامس): أنه يجبر بالإيلاد، فتُجبر الثيّب البالغ، حكاه القاضي إسماعيل عن الحسن البصريّ، قال: وهو خلاف الإجماع، قال: وله وجهٌ حسنٌ من الفقه.
قال ابن القيّم: فيا ليت شعري ما هذا الوجه الأسود المظلم؟.
(السادس): أنه يجبر من يكون في عياله، ولا يخفى عليك الراجح من هذه المذاهب. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لا يخفى أن الأرجح القول بأن الإجبار بهما معًا؛ فلا تُجبر البكر البالغة، ولا الثيّب الصغيرة؛ عملًا بمقتضى الحديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): قال في "الفتح" ما حاصله: استُدلّ بحديث الباب على أن الصغيرة الثيّب لا إجبار عليها؛ لعموم كونها أحقّ بنفسها من وليّها، وعلى أن من زالت بكارتها بوطء، ولو كان زنًا لا إجبار عليها، لأب ولا غيره؛ لعموم قوله:"الثيّب أحقّ بنفسها".
وقال أبو حنيفة: هي كالبكر، وخالفه صاحباه، واحتُجّ له بأن علّة الاكتفاء بسكوت البكر هو الحياء، وهو باق في هذه؛ لأن المسألة مفروضة فيمن زالت بكارتها بوطء، لا فيمن اتخذت الزنا ديدنًا وعادة.
وأجيب بأن الحديث نصّ على أن الحياء يتعلّق بالبكر، وقابلها بالثيّب، فدلّ على أن حكمهما مختلفٌ، وهذه ثيّبٌ لغةً وشرعًا، بدليل أنه لو أوصى بعتق كلّ ثيّب في ملكه دخلت إجماعًا، وأما بقاء حيائها كالبكر فممنوعٌ؛ لأنها تستحيي من ذكر وقوع الفجور منها، وأما ثبوت الحياء من أصل النكاح فليست فيه كالبكر التي لم تُجرّبه قط.
(1)
"زاد المعاد في هدي خير العباد" 5/ 95 - 99.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه الأولون هو الأرجح؛ لعموم الحديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): أن بعضهم استدلّ بقوله: "أحقّ بنفسها" على أن للثيّب أن تتزوّج بغير وليّ، ولكنها لا تزوّج نفسها، بل تجعل أمرها إلى رجل، فيزوّجها، حكاه ابن حزم عن داود، وتعقّبه بحديث عائشة رضي الله عنها، مرفوعًا:"أيما امرأة نكحت بغير إذن وليّها فنكاحها باطل"، وهو حديث صحيح، وهو يبيّن أن معنى قوله:"أحقّ بنفسها من وليّها" أنه لا ينفذ عليها أمره بغير إذنها، ولا يُجبرها، فإذا أرادت أن تتزوّج لم يجز لها إلا بإذن وليّها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3474]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ (ح) وَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا عِيسَى، يَعْنِي ابْنَ يُونُسَ، عَن الْأَوْزَاعِيِّ (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ (ح) وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، كلُّهُمْ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، بِمِثْلِ مَعْنَى حَدِيثِ هِشَامٍ، وَإِسْنَادِهِ. وَاتَّفَقَ لَفْظُ حَدِيثِ هِشَامٍ، وَشَيْبَانَ، وَمُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَّامٍ، فِي هَذَا الْحَدِيثِ).
رجال هذا الإسناد: ستة عشر:
1 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن عُليّة، تقدّم قريبًا.
2 -
(الْحَجَّاجُ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ) ميسرة، أو سالم الصوّاف الكِنْديّ مولاهم، أبو الصَّلْت البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [6](ت 143)(ع) تقدم في "الإيمان" 52/ 318.
3 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى) بن يزيد التميميّ، أبو إسحاق الفرّاء الرازيّ، يُلقّب بالصغير، ثقةٌ حافظٌ [10] مات بعد (120)(ع) تقدم في "الحيض" 7/ 721.
4 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ الكوفيّ، نزل الشام مُرابطًا، ثقةٌ مأمونٌ [8](ت 187)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
5 -
(الْأَوْزَاعِيُّ) عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو، أبو عمرو الفقيه، ثقةٌ جليلٌ [7](ت 157)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
6 -
(حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن بَهْرَام التميميّ، أبو أحمد، أو أبو عليّ الْمَرُّوذيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [9](ت 213) أو بعدها (ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 56/ 1543.
7 -
(شَيْبَانُ) بن عبد الرحمن التميميّ مولاهم، أبو معاوية النحويّ
(1)
البصريّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ صاحب كتاب [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
8 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) أبو محمد السَّمَرْقنديّ، ثقةٌ حافظ فاضلٌ متقنٌ [11](ت 255) وله (74) سنةً (م د ت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.
9 -
(يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ) البصريّ، نزيل تِنِّيس، ثقةٌ [9](ت 208)(خ م د ت س) تقدم في "الحيض" 7/ 723.
10 -
(مُعَاوِيةُ بْنُ سَلَّامِ) بن أبي سلّام، أبو سلّام الدمشقيّ، كان يسكن حمص، ثقةٌ [7] مات في حدود (170)(ع) تقدم في "الإيمان" 49/ 309.
والباقون ذُكروا في الباب، والبابين الماضيين.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ) يعني أن هؤلاء الخمسة، وهم: الحجاج بن أبي عثمان، والأوزاعيّ، وشيبان النحويّ، ومعمرٌ، ومعاوية بن سلّام رووا هذا الحديث عن يحيى بن أبي كثير.
[تنبيه]: رواية الحجّاج بن أبي عثمان، عن يحيى بن أبي كثير هذه، ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" 3/ 73 فقال:
(4239)
- حدّثنا أبو عمران التستريّ موسى بن زكريا بالبصرة، قثنا
(2)
مُؤمَّل بن هشام، قثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن الحجاج بن أبي عثمان، عن
(1)
يقال: إنه نسبة إلى نحوة بطن من الأزد، لا إلى علم النحو، فتنبّه.
(2)
هي في الموضعين مختصرة من "قال: حدّثنا"، فتنبّه.
يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تُنكح الثيِّب حتى تُستأمر، ولا تُنكح البكر حتى تُستأذن". انتهى.
وأما رواية الأوزاعيّ، عن يحيى، فساقها الترمذيّ، فقال:
(1025)
- حدّثنا إسحاق بن منصور، أخبرنا محمد بن يوسف، حدّثنا الأوزاعيّ، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُنكح الثيب حتى تستأمر، ولا تُنكح البكر حتى تُستأذن، وإذنها الصُّمُوت". انتهى.
وأما رواية شيبان النحويّ عن يحيى، فساقها البخاريّ، فقال:
(6569)
- حدّثنا أبو نُعَيْمٍ، حدثنا شَيْبَانُ، عن يحيى، عن أبي سَلَمَةَ، عن أبي هُرَيْرَةَ قال: قال رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُنْكَحُ الْأيِّمُ حتى تُسْتَأْمَرَ، ولا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حتى تُسْتَأْذَنَ"، قالوا: كَيْفَ إِذْنُهَا؟ قال: "أَنْ تَسْكُتَ". انتهى.
وأما رواية معمر، عن يحيى، فلم أجد من ساقها، وكذا رواية معاوية عنه، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3475]
(1420) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَن ابْنِ جُرَيْجٍ (ح) وَحَدَّثَنَا اِسْحَاقُ بْنُ اِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، جَمِيعًا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ يَقُولُ: قَالَ ذَكْوَانُ مَوْلَى عَائِشَةَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَن الجَارِيَةِ يُنْكِحُهَا أهْلُهَا، أَتُسْتَأْمَرُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"نَعَمْ، تُسْتَأْمَرُ"، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ لَهُ: فَإِنَّهَا تَسْتَحْيِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"فَذَلِكِ إِذْنُهَا، إِذَا هِيَ سَكَتَتْ").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ) بن يزيد بن عبد الرحمن الأوديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [8](ت 192) وله بضع و (70) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
2 -
(ابْنُ أَبِى مُلَيْكَةَ) عبد الله بن عُبيد الله بن أبي مُليكة زُهير بن عبد الله التيميّ المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 22.
3 -
(ذَكْوَانُ مَوْلَى عَائِشَةَ) أبو عمرو المدنيّ، ثقةٌ [3](خ م د س) تقدم في "الحج" 17/ 2931.
4 -
(عَائِشَةُ) بنت الصدّيق رضي الله عنهما، ماتت سنة (57)(ع) تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.
والباقون ذُكروا في الباب، والبابين قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان بالتحويل.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيوخه، وذكوان.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
عَن ذَكْوَانَ مَوْلَى عَائِشَة، أنه قال:(سَمعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها (تقُولُ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَن الْجَارِيَةِ يُنْكِحُهَا) بضمّ أوله، من الإنكاح (أَهْلُهَا) بالرفع على الفاعليّة (أَتُسْتَأْمَرُ) بالبناء للمجهول (أَمْ لَا؟) أي: أم لا يُحتاج إلى استئمارها؟ (فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ، تُسْتَأْمَرُ") بالبناء للمفعول: أي يُطلب أمرها (فَقَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها (فَقُلْتُ لَهُ: فَإِنَّهَا تَسْتَحْيِي) بياءين، وفيه لغة أخرى، بياء واحدة، فيقال: استَحْيَيْتُ منه، واستَحَيْتُ منه، قال الفيّوميّ رحمه الله: حَيِيَ فلانٌ حيَاءً بالفتح والمدّ، فهو حَيِيٌّ، على فعلي، واستحيا منه، وهو الانقباض، والانزواء، قال الأخفش: يتعدَّى بنفسه، وبالحرف، فيقال: استحييتُ منه، واستحييته، وفيه لغتان: إحداهما لغة الحجاز، وبها جاء القرآن بياءين، والثانية لتميم، بياء واحدة. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَذَلِكِ) بكسر الكاف خطابًا للمؤنّث، والإشارة إلى السكوت المفهوم من المقام، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الماضي:"أن تسكت"، وفي رواية البخاريّ:"رضاها صَمْتها"، وفي حديث ابن عبّاس
(1)
"المصباح المنير" 1/ 160.
الآتي: "وإذنها صُماتها"، واسم الإشارة مبتدأ، خبره قوله:(إِذْنُهَا، إِذَا هِيَ سَكَتَتْ") جواب "إذا" دلّ عليه السابق: فقد أذِنت، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 3475](1420)، و (البخاريّ) في "النكاح"(5137) و"الإكراه"(5946) و"الحيل"(6971)، و (أبو داود) في "النكاح"(2093)، و (النسائيّ) في "النكاح"(3267) وفي "الكبرى"(5376)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(6/ 143)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 136)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 45 و 165 و 203)، و (الطحاويّ) في (مشكل الآثار" (14/ 436)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(708)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4082)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 75)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 85)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 119 و 122 و 123)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2255)، والله تعالى أعلم.
وأما بقية المسائل المتعلّقة بالحديث، فقد تقدّمت في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3476]
(1421) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مَالِكٌ (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَ: قُلْتُ لِمَالِكٍ: حَدَّثَكَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا"؟، قَالَ: نَعَمْ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ) أبو عثمان الْخُرَاسانيّ، نزيل مكة، ثقةٌ مصنّف [10](ت 227) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 338.
2 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل بابين.
3 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم قبل باب.
4 -
(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم أيضًا قبل باب.
5 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ الْفَضْلِ) بن العبّاس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطّلب الهاشميّ المدنيّ، ثقةٌ [4](ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 437.
6 -
(نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ) بن مُطْعِم النوفليّ، أبو محمد، أو أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [3](ت 99)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 482.
7 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُمَاسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى يحيى، فما أخرج أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من مالك.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عباس رضي الله عنهما من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
عَن يَحْيَى بْن يَحْيَى التميميّ، وقوله:(وَاللَّفْظُ لَهُ) أي لفظ الحديث المسوق هنا ليحيى، وأما سعيد، وقتيبة، فروياه بالمعنى (قَالَ) يحيى (قُلْتُ لِمَالِكِ) بن أنس (حَدَّثَكَ) بتقدير أداة الاستفهام، أي: أحدّثك (عَبْدُ اللهِ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "الْأَيِّمُ) تقدّم ضبط الأَيِّم، وتفسيرها في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه الماضي (أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا) أي تنطق بنفسها، ولا ينطق الوليّ عنها، وفي الرواية التالية:"الثيّب أحقّ بنفسها من وليّها".
وقال النوويّ: يَحْتَمِل من حيث المعنى أن المراد: أحقّ من وليّها في كلّ شيء، من عقد، وغيره، كما قاله أبو حنيفة، وداود.
ويَحْتَمِل أنها أحقّ بالرضا، أي لا تُزوّج حتى تنطق بالإذن، بخلاف
البكر، ولكن لَمّا صحّ قوله صلى الله عليه وسلم:"لا نكاح إلا بوليّ" مع غيره من الأحاديث الدّالّة على اشتراط الوليّ تعيّن الاحتمال الثاني.
[واعلم]: أن لفظة "أحقّ" هنا للمشاركة، معناه: أن لها في نفسها في النكاح حقًّا، ولوليّها حقًّا، وحقّها أوكد من حقّه، فإنه لو أراد تزويجها كفؤًا، وامتنعت لم تُجبر، ولو أرادت أن تتزوّج كفؤًا، فامتنع الوليّ أُجبر، فإن أصرّ زوّجها القاضي، فدلّ على تأكيد حقّها، ورجحانه. انتهى.
(وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا) ببناء الفعل للمفعول: أي يُطْلَب إذنها في تزويجها، وفي الرواية التالية:"والبكر تُستأمر".
قال القرطبيّ رحمه الله: هكذا وقع في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "والبكر تُستأمر"، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"الأيّم تُستأمر، والبكر تُستأذن"، وهو أتقن مساقًا من حديث ابن عباس لأن "تُستأمر" معناه: يُستدعَى أمرها، وهذا يظهر منه أن يصدر منها بالقول ما يُسمّى أمرًا، وهذا ممكن من الثيّب؛ لأنها لا يَلحقها من الخجل، والانقباض ما يَلحق البكر، فلا يُكتفى منها إلا بنطق يدلّ على مرادها صريحًا، وأما "تُستأذن" فإنه يقتضي أن يظهر منها ما يدلّ على رضاها، وإذنها بأيّ وجه كان، من سكوت، أو غيره، ولا تُكلّف النطقَ، ولذلك لما قال في حديث ابن عباس:"لا تُنكح البكر حتى تُستأذن" أشكل عليهم إذنها، فسألوا، فأجيبوا بقوله (وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا") بضم الصاد المهملة، ويقال فيه: الصّمت - بالفتح - والصّموت - بالضمّ -: ومعناها السكوت، وإلى هذا أشرت بقولي:
الصَّمْتُ وَالصُّمَاتُ والصُّمُوتُ
…
مَصَادِرٌ يُعْنَى بِهَا السُّكُوتُ
كَالْقَتْلِ وَالصُّرَاخِ وَالسُّكُوتِ
…
فَاحْفَظْ فَمَا حُفِظَ ذُو ثُبُوتِ
قال الفيّوميّ رحمه الله: والأصل: وصُماتها كإذنها، فشُبِّهَ الصُّماتُ بالإذن شرعًا، ثم جُعِل إذنًا مجازًا، ثم قُدّم مبالغةً، والمعنى: هو كاف في الإذن، وهذا مثل قوله:"ذكاة الجنين ذكاة أمّه"، والأصل: ذكاة أمّ الجنين ذكاته، وإنما قلنا: الأصل: صماتها كإذنها؛ لأنه لا يُخبرُ عن شيءٍ إلا بما يصحّ أن يكون وصفًا له حقيقةً، أو مجازًا، فيصحّ أن يقال: الفرس يطير، ولا يصحّ أن يقال: الحجر يطير؛ لأنه لا يوصف بذلك، فصُماتها كإذنها صحيح، ولا يصحّ
أن يكون "إذنها" مبتدءًا؛ لأن الإذن لا يصحّ أن يوصف بالسكوت؛ لأنه يكون نفيًا له، فيبقى المعنى: إذنها مثل سكوتها، وقبل الشرع كان سكوتها غير كاف، فكذلك إذنها، فينعكس المعنى. انتهى
(1)
.
وقوله: (قَالَ: نَعَمْ)، أي قال مالك بعد أن عرض عليه يحيى بن يحيى الحديث، حيث قال: حدّثك عبد الله بن إلخ فقال: نعم حدّثني به.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: قال الدارقطنيّ رحمه الله في "التتبّع"(176): وأخرج مسلم حديث عبد الله بن الفضل في الأَيِّم، من طريق مالك، وزياد بن سعد، ولا علّة له، ولا عُذر للبخاريّ في تركه. انتهى.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 3476 و 3477 و 3478](1421)، و (أبو داود) في "النكاح"(2098 و 2100)، و (الترمذيّ) في "النكاح"(1108)، و (النسائيّ) في "النكاح"(3261 و 3262 و 3263 و 3264 و 3265) وفي "الكبرى"(5371 و 5372 و 5372 و 5373 و 5374)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1870)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 524 - 535)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 12)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(10283)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 136)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 219 و 241 و 242 و 274 و 345 و 355 و 362)، و (الدارميّ) في "سننه"(2188 و 2189 و 2190)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4084)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(10/ 10742)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(709)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(556)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 76)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 86)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(3/ 239 - 240)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 118 و 122) و"الصغرى"(6/ 115) و"المعرفة"(5/ 240 و 448)، و (البغويّ) في "شرح
(1)
"المصباح المنير" 1/ 347.
السنّة" (2254)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3477]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ زِيادِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْفَضْلِ، سَمِعَ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ، يُخْبِرُ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ، وَإِذْنُهَا سُكُوتُهَا").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم قبل بابين.
2 -
(زِيادُ بْنُ سَعْدِ) بن عبد الرحمن الْخُرَاسانيّ، نزيل مكة، ثم اليمن، ثقةٌ ثبتٌ [6](ع) تقدم في "الطهارة" 26/ 653.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى البحث فيه قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3478]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: "الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا"، وَرُبَّمَا قَالَ: "وَصَمْتُهَا إِقْرَارُهَا").
رجال هذا الإسناد: اثنان:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، تقدّم قبل بابين.
و"سفيان" هو: ابن عيينة، ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية ابن أبي عمر، عن سفيان هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى" 7/ 115 فقال:
(13441)
- أخبرنا أبو عليّ الروذباريّ، أنبأ محمد بن بكر، ثنا أبو داود، ثنا أحمد بن حنبل، ثنا سفيان (ح) وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا
محمد بن الحسن بن منصور، ثنا هارون بن يوسف، ثنا ابن أبي عمر، ثنا سفيان، عن زياد بن سعد، عن عبد الله بن الفضل، عن نافع بن جُبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الثيب أحقّ بنفسها من وليها، والبكر يَستأذنها أبوها في نفسها، وإذنها صماتها"، وربما قال:"وصُماتها إقرارها"، لفظ حديث ابن أبي عمر، وفي رواية أحمد:"الثيب أحقّ بنفسها من وليها، والبكر يستأمرها أبوها". انتهى.
[تنبيه آخر]: تقدّم أن بعضهم ادّعى أن رواية: "يستأذنها أبوها" ليست بمحفوظة، والصحيح أنها محفوظة؛ لأن من زادها إمام حافظ معتمد، وهو سفيان بن عيينة، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(10) - (بَابُ تَزْوِيجِ الْأَبِ الْبِكْرَ الصَّغِيرَةَ)
قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب إنكاح الرجل وُلْدَه الصغار؛ لقوله تعالى: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4]، فجعل عدّتها ثلاثة أشهر قبل البلوغ، ثم أورد حديث عائشة المذكور في الباب.
قال في "الفتح": قوله: لقول الله تعالى: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} إلخ، أي فدلّ على أن نكاحها قبل البلوغ جائزٌ، وهو استنباط حسنٌ، لكن ليس في الآية تخصيص ذلك بالولد، ولا بالبكر، ويمكن أن يقال: الأصل في الأبضاع التحريم إلا ما دلّ عليه الدليل، وقد ورد حديث عائشة في تزويج أبي بكر لها، وهي دون البلوغ، فبقي ما عداه على الأصل، ولهذا السرّ أورد حديث عائشة رضي الله عنها، قال المهلّب: أجمعوا على أنه يجوز للأب تزويج ابنته الصغيرة البكر، ولو كانت لا يوطأ مثلها، إلا أن الطحاويّ حكى عن ابن شُبْرُمة منعه فيمن لا توطأ، وحكى ابن حزم عن ابن شُبرمة مطلقًا أن الأب لا يُزوّج ابنته البكر الصغيرة حتى تبلغ، وتأذن، وزعم أن تزويج النبيّ صلى الله عليه وسلم عائشة، وهي بنت ستّ سنين كان من خصائصه، ومقابله تجويز الحسن، والنخعيّ للأب إجبار
بنته كبيرة كانت، أو صغيرةً، بكرًا كانت، أو ثيّبًا. انتهى
(1)
.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3479]
(1422) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ: وَجَدْتُ فِي كِتَابِي عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: تَزَوَّجَني رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِسِتِّ سِنِينَ، وَبَنَى بِي وَأَنَا بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ. قَالَتْ: فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَوُعِكْتُ شَهْرًا، فَوَفَى شَعْرِي جُمَيْمَةً، فَأَتَتْنِي أُمُّ رَومَانَ، وَأَنَا عَلَى أُرْجُوحَةٍ، وَمَعِي صَوَاحِبِي، فَصَرَخَتْ بِي، فَأَتَيْتُهَا، وَمَا أَدْرِي مَا تُرِيدُ بِي، فَأَخَذَتْ بِيَدِي، فَأَوْقَفَتْنِي عَلَى الْبَابِ، فَقُلْتُ: هَهْ هَهْ، حَتَّى ذَهَبَ نَفَسِي، فَأَدْخَلَتْنِي بَيْتًا، فَإِذَا نِسْوَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقُلْنَ: عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، وَعَلَى خَيْرِ طَائِرٍ، فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِنَّ، فَغَسَلْنَ رَأْسِي، وَأَصْلَحْنَنِي، فَلَمْ يَرُعْنِي إِلَّا وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضُحًى، فَأَسْلَمْنَنِي إِلَيْهِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(هِشَامُ) بن عروة بن الزبير الأسديّ، أبو المنذر المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ ربما دَلَّس [5](ت 5 أو 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.
2 -
(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العوّام الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهور [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.
والباقون ذُكروا في الأبواب الثلاثة الماضية.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان، فرّق بينهما بالتحويل.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ.
(1)
"الفتح" 11/ 453 - 454.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخيه، وأبي أسامة، فكوفيون.
4 -
(ومنها): أن قول أبي بكر بن أبي شيبة: "وجدت في كتابي عن أبي أسامة" فيه أن هذا وجادة، وليس سماعًا، لكن يُجاب عنه بأنه قد وُصل من رواية أبي كريب التي قبله، فإنه قال:"حدّثنا أبو أسامة"، فليس فيه انقطاع، على أن هذه الوجادة في كتاب نفسه، لا في كتاب غيره، فتنبّه.
قال النوويّ رحمه الله في "شرحه": قوله: "وجدت في كتابي إلخ" معناه: أنه وجد في كتابه، ولم يذكر أنه سمعه، ومثل هذا تجوز روايته على الصحيح، وقول الجمهور، ومع هذا فلم يقتصر مسلم عليه، بل ذكره متابعة لغيره. انتهى
(1)
.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) من الحديث، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي) أي عقد عليّ النكاح، وكان ذلك بمكة قبل الهجرة (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِسِتِّ سِنِينَ) أي في السنة السادسة من مولدي، وسيأتي أنه صلى الله عليه وسلم تزوّجها، وهي بنت سبع سنين، قال النوويّ: أما قولها في رواية: "تزوجني وأنا بنت سبع"، وفي أكثر الروايات: بنت ست، فالجمع بينهما أنه كان لها ستّ وكسر، ففي رواية اقتصرت على السنين، وفي رواية عَدَّت السنة التي دخلت فيها، والله أعلم. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقول عائشة رضي الله عنها: "تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم لستِّ سنين"، وفي الرواية الأخرى:"وهي بنت سبع سنين" ظاهر هاتين الروايتين الاختلاف، فيمكن أن يقال: إن ذلك تقديرٌ لا تحقيقٌ، ويمكن أن يقال: إن ذلك كان في أوائل السنة السابعة، فيكون معنى قولها:"لست سنين": انقضت، وقولها:"وهي بنت سبع سنين" أي: هي فيها، والله أعلم. انتهى
(3)
.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 207.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 207.
(3)
"المفهم" 4/ 120.
(وَبَنَى بِي) بالبناء للفاعل، أي دخل بي، وكان ذلك بالمدينة في شوّال من السنة الأولى من الهجرة، وقيل: من السنة الثانية.
[فائدة]: قال الفيّوميّ رحمه الله: وبنى على أهله: دخل بها، وأصله أن الرجل كان إذا تزوّج بنَى للعِرْسِ خِبَاءً جديدًا، وعَمَّرَه بما يَحتاج إليه، أو بُنِيَ له؛ تكريمًا، ثم كثُر، حتى كُنِي به عن الجماع، وقال ابن دُريد: بَنَى عليها، وبَنَى بها، والأول أفصح، هكذا نقله جماعةٌ. ولفظ "التهذيب": والعامّة تقول: بَنَى بأهله، وليس من كلام العرب، قال ابن السّكّيت: بَنَى على أهله: إذا زُفّت إليه. انتهى
(1)
.
وعبارة ابن منظور: والباني: العَرُوس الذي يبني على أهله، قال الشاعر [شطر بيت من الوافر]:
يَلُوحُ كَأَنَّهُ مِصْبَاحُ بَانِي
وبَنَى فلان على أهله بِناءً، ولا يُقال بأهله، هذا قول أهل اللغة، وحكى ابن جنّي: بنى بأهله، وابتنى بها، عدّاهما جميعًا بالباء، ثم ذكر نحو ما تقدّم عن "تهذيب الأزهريّ"، قال: وقد ورد: بنى بأهله في شعر جِرْدَانِ الْعَوْدِ، قال [من الطويل]:
بَنَيْتُ بِهَا قَبْلَ الْمِحَاقِ بِلَيْلَةٍ
…
فَكَانَ مِحَاقًا كُلُّهُ ذَلِكَ الشَّهْرُ
قال ابن الأثير: وقد جاء: بَنَى بأهله في غير موضع من الحديث، وغير الحديث. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح" - بعد ما ذكر قول من قال: لا يقال: بنى بأهله - ما نصّه: ولا معنى لهذا التغليط؛ لكثرة استعمال الفصحاء له، وحسبك بقول عائشة:"بنى بي"، وبقول عروة في آخر الحديث:"وبنى بها". انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن "بنى بها" لغة عربيّة، فصيحة؛ لورودها في الشعر العربيّ، وفي كلام الفصحاء، كعائشة، وعروة،
(1)
"المصباح المنير" 1/ 63.
(2)
"لسان العرب" في مادة بنى.
(3)
"الفتح" 7/ 628 "كتاب مناقب الأنصار".
وغيرهم، وأثبتها من اللغويين ابن دُريد، وابن جنّي، فلا يصحّ دعوى أنها لغة عاميّة، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
(وَأَنَا بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ) وفي رواية البخاريّ من طريق أبي أسامة، عن هشام، عن أبيه، قال:"تُوفّيت خديجة قبل مخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بثلاث سنين، فلبث سنتين، أو قريبًا من ذلك، ونكح عائشة، وهي بنت ستّ سنين، ثم بنى بها، وهي بنت تسع سنين".
فقال في "الفتح": فيه إشكال؛ لأن ظاهره يقتضي أنه لم يبن بها إلا بعد قدومه المدينة بسنتين، ونحو ذلك؛ لأن قوله:"فلبث سنتين، أو نحو ذلك"، أي بعد موت خديجة، وقوله:"ونكح عائشة"، أي عقد عليها لقوله بعد ذلك:"وبنى بها، وهي بنت تسع"، فيخرج من ذلك أنه بنى بعد قدومه بسنتين، وليس كذلك؛ لأنه وقع عند البخاريّ في "النكاح" من رواية الثوريّ، عن هشام بن عروة في هذا الحديث:"ومكثت عنده تسعًا"، وسيأتي ما قيل: من إدراج النكاح في هذه الطريق، وهو في الجملة صحيح، فإن عند مسلم من حديث الزهريّ، عن عروة، عن عائشة في هذا الحديث:"وزُفّت إليه، وهي بنت تسع، ولُعْبَتها معها، ومات عنها، وهي بنت ثمان عشرة"، وله من طريق الأسود، عن عائشة نحوه، ومن طريق عبد الله بن عروة، عن أبيه، عن عائشة:"تزوّجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوّال، وبنى بي في شوّال"، فعلى هذا فقوله:"فلبث سنتين، أو قريبًا من ذلك"، أي لم يدخل على أحد من النساء، ثم دخل على سودة بنت زمعة قبل أن يُهاجر، ثم بنى بعائشة بعد أن هاجر، فكأنّ ذكر سودة سقط على بعض رواته.
وقد روى أحمد، والطبرانيّ بإسناد حسن، عن عائشة، قالت: "لما تُوفّيت خديجة قالت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون: يا رسول الله ألا تَزَوّج؟ قال: نعم، فما عندكِ؟ قالت: بكر وثيّب، البكر بنت أحبّ خلق الله إليك عائشة، والثيّب سودة بنت زمعة، قال: فاذهبي، فاذكريهما عليّ، فدخلت على أبي بكر، فقال: إنما هي بنت أخيه، قال: قولي له: أنت أخي في الإسلام، وابنتك تصلح لي، فجاءه، فأنكحه، ثم دخلت على سودة، فقالت
لها: أخبري أبي، فذكرت له، فزوّجه"
(1)
، وذكر ابن إسحاق وغيره أنه دخل على سودة بمكّة.
(1)
هذا الحديث ساقه الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" 6/ 210 مطوّلًا، ولفظه:
(25241)
- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا محمد بن بشر، قال: حدّثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو سلمة ويحيى، قالا: لَمّا هَلَكت خديجة جاءت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون، قالت: يا رسول الله ألا تزوج؟ قال: "من؟ " قالت: إن شئت بكرًا، وإن شئت ثيبًا، قال:"فمن البكر؟ " قالت: ابنة أحب خلق الله إليك، عائشة بنت أبي بكر، قال:"ومن الثيب؟ " قالت: سودة ابنة زمعة، قد آمنت بك، واتبعتك على ما تقول، قال:"فاذهبي، فاذكريهما عليّ"، فدخلت بيت أبي بكر، فقالت: يا أم رُومان ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟ قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة، قالت: انتظري أبا بكر حتى يأتي، فجاء أبو بكر، فقالت: يا أبا بكر ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟ قال: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة، قال: وهل تصلح له، إنما هي ابنة أخيه، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت له ذلك، قال:"ارجعي إليه، فقولي له: أنا أخوك، وأنت أخي في الإسلام، وابنتك تصلح لي"، فرجعت، فذكرت ذلك له، قال: انتظري، وخرج، قالت أم رُومان: إن مطعم بن عديّ قد كان ذكرها على ابنه، فوالله ما وعد وعدًا قط، فأخلفه - لأبي بكر - فدخل أبو بكر على مطعم بن عديّ، وعنده امرأته أم الفتى، فقالت: يا ابن أبي قحافة لعلك مُصْبٍ صاحبنا مدخله في دينك الذي أنت عليه أن تزوج إليك، قال أبو بكر للمطعم بن عديّ: أقول هذه تقول، إنها تقول ذلك، فخرج من عنده، وقد أذهب الله ما كان في نفسه من عِدَته التي وعده، فرجع فقال لخولة: ادعي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعته، فزوّجها إياه، وعائشة يومئذ بنت ست سنين.
ثم خرجت، فدخلت على سودة بنت زمعة، فقالت: ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة؟ قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطبك عليه، قالت: وَدِدت، ادخلي إلى أبي، فاذكري ذاك له، وكان شيخًا كبيرًا قد أدركه السنّ، قد تخلف عن الحجّ، فدخلت عليه، فحيّته بتحية الجاهلية، فقال: من هذه؟ فقالت: خولة بنت حكيم، قال: فما شأنك؟ قالت: أرسلني محمد بن عبد الله أخطب عليه سودة، قال: كفء كريم، ماذا تقول صاحبتك؟ قالت: تحب ذاك، قال: ادعها لي، فدعيتها، قال: أي بُنيةُ إن هذه تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قد أرسل يخطبك، وهو كفء كريم، أتحبين أن أزوجك به؟ قالت: نعم، قال: ادعيه =
وأخرج الطبرانيّ من وجه آخر عن عائشة قالت: "لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر خَلَّفَنا بمكة، فلما استقرّ بالمدينة، بعث زيد بن حارثة، وأبا رافع، وبعث أبو بكر عبد الله بن أُرَيقط، وكتب إلى عبد الله بن أبي بكر أن يَحْمِل معه أُمَّ رُومان، وأم أبي بكر، وأنا وأختي أسماء، فخرج بنا، وخرج زيد، وأبو رافع بفاطمة، وأمّ كلثوم، وسودة بنت زمعة، وأخذ زيد امرأته أم أيمن، وولديها أيمن، وأسامة، واصطحبنا، حتى قدمنا المدينة، فنزلت في عيال أبي بكر، ونزل آل النبيّ صلى الله عليه وسلم عنده، وهو يومئذ يبني المسجد وبيوته، فأدخل سودة بنت زمعة أحد تلك البيوت، وكان يكون عندها، فقال له أبو بكر: ما يمنعك أن تبني بأهلك؟ فبنى بي. . ." الحديث.
قال الماورديّ: الفقهاء يقولون: تزوّج عائشة قبل سودة، والمحدّثون يقولون: تزوّج سودة قبل عائشة، وقد يُجمع بينهما بأنه عقد على عائشة، ولم يدخل بها، ودخل بسودة.
= لي، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، فزوّجها إياه، فجاءها أخوها عبد بن زمعة من الحج، فجعل يحثي في رأسه التراب، فقال بعد أن أسلم: لعمرك إني لسفيه يوم أحثي في رأسي التراب أن تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة.
قالت عائشة: فقدمنا المدينة، فنزلنا في بني الحرث بن الخزرج في السُّنْح، قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل بيتنا، واجتمع إليه رجال من الأنصار، ونساء، فجاءتني أمي، وإني لفي أرجوحة بين عذقين، ترجح بي، فأنزلتني من الأرجوحة، ولي جُميمة، ففرقتها، ومسحت وجهي بشيء من ماء، ثم أقبلت تقودني، حتى وقفت بي عند الباب، وإني لأنهج، حتى سكن من نَفَسي، ثم دخلت بي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على سرير في بيتنا، وعنده رجال ونساء من الأنصار، فأجلستني في حجره، ثم قالت: هؤلاء أهلك، فبارك الله لك فيهم، وبارك لهم فيك، فوثب الرجال والنساء، فخرجوا، وبنى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا، ما نُحرت عليّ جزور، ولا ذُبحت عليّ شاة، حتى أرسل إلينا سعد بن عبادة بِجَفْنة، كان يرسل بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دار إلى نسائه، وأنا يومئذ بنت تسع سنين. انتهى "المسند" 6/ 210 - 211.
وهذا مرسلٌ صحيح.
قال الحافظ: والرواية التي ذكرتها عن الطبرانيّ ترفع الإشكال، وتوجّه الجمع المذكور، والله أعلم.
وقد أخرج الإسماعيليّ من طريق عبد الله بن محمد بن يحيى، عن هشام، عن أبيه "أنه كتب إلى الوليد: إنك سألتني متى توفّيت خديجة؟ وإنها توفّيت قبل مخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكّة بثلاث سنين، أو قريب من ذلك، نكح النبيّ صلى الله عليه وسلم عائشة بعد مُتَوَفَّى خديجة، وعائشةُ بنت ستّ سنين، ثم إن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنى بها بعد ما قدم المدينة، وهي بنت تسع سنين"، وهذا السياق لا إشكال فيه، ويرتفع به ما تقدّم من الإشكال أيضًا، والله أعلم.
وإذا ثبت أنه بنى بها في شوّال من السنة الأولى من الهجرة قوِيَ قولُ من قال: إنه دخل بها بعد الهجرة بسبعة أشهر، وقد وهّاه النوويّ في "تهذيبه"، وليس بواهٍ إذا عددناه من ربيع الأول، وجزمه بأن دخوله بها كان في السنة الثانية يُخالف ما ثبت أنه دخل بها بعد خديجة بثلاث سنين.
وقال الدمياطيّ في "السيرة" له: ماتت خديجة في رمضان، وعقد على سودة في شوّال، ثم على عائشة، ودخل بسودة قبل عائشة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تحرر بما سبق أنه صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة قبل سودة، ودخل بسودة قبل عائشة رضي الله عنها، وهذا هو الجمع السديد، والله تعالى أعلم بالصواب.
(قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (فَقَدِمْنَا) بكسر الدال (الْمَدِينَةَ، فَوُعِكْتُ شَهْرًا) ببناء الفعل للمفعول، أي أصابني الْوَعْك، وهو أَلَمُ الْحُمَّى، قال المجد رحمه الله: الْوَعْكُ: سكون الريح، وشِدّة الحرّ، كالْوَعْكة، وأذى الْحُمى، ووَجَعها، ومَغْثُهَا في البدن، وأَلَمٌ من شِدّة التعب، ورجلٌ وَعْكٌ - بفتح، فسكون - ووَعِكٌ - بفتح، فكسر - ومَوعُوكٌ. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قولها: "فوُعكت شهرًا": أي مرضت بالحمَّى، وكان هذا في أوّل قدومهم المدينة في الوقت الذي وُعِك فيه أبو بكر رضي الله عنه، وقبل أن
(1)
"الفتح" 7/ 629 - 630 "كتاب مناقب الأنصار".
(2)
"القاموس المحيط" 3/ 323.
يَدْعُو النبِيُّ صلى الله عليه وسلم للمدينة بأن يصحِّحها، وينقل حُمَّاها إلى الْجُحْفَة، فلمّا دعا؛ فعل الله ذلك. انتهى
(1)
.
(فَوَفَى شَعْرِي) أي كَمُل (جُمَيْمَةً) تصغير جُمّةٍ، وهي الشعر النازل إلى الأذنين، ونحوهما، أي صار إلى هذا الحدّ بعد أن كان قد ذهب بسبب المرض.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قولها: "فوفى شعري جُمَيْمَةً" أي بلغ إلى أن صار جُمَّةً صغيرة، وقد تقدم أنَّ "الجمَّة" إلى شحمة الأذن و"اللمَّة" للمنكب، وفي كلامها حذف، وتقديره: فوُعِكْتُ؛ فسقط شعري، ثم بَرِئْتُ فوفى جُميمةً. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": قولها: "فَوَفَى": أي كَثُر، وفي الكلام حذف تقديره: ثم فصلت من الوعك، فتَرَبَّى شعري، فكثر. وقولها:"جُميمة" بالجيم مصغرُ الجمةِ بالضم، وهي مُجْتَمَع شعر الناصية، ويقال للشعر إذا سقط عن المنكبين: جمةٌ، وإذا كان إلى شحمة الأذنين: وَفْرَةٌ. انتهى
(3)
.
(فَأَتَتْنِي أُمُّ رُومَانَ) قال النوويّ رحمه الله: هي أم عائشة رضي الله عنهما، وهي بضم الراء، وإسكان الواو، وهذا هو المشهور، ولم يذكر الجمهور غيره، وحَكَى ابن عبد البرّ في "الاستيعاب" ضم الراء وفتحها، ورجّح الفتح، وليس هو براجح. انتهى
(4)
.
وقال في "العمدة": أم رَومان بفتح الراء، وضمها، زينب بنت عامر، وهي أم عبد الرحمن أخي عائشة أيضًا، ماتت سنة ست في قول الواقديّ والزبير، وهو الأصح. انتهى
(5)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قولها: "فأتتني أُمَّ رُومان" أم رُومان - بضم الراء المهملة، ويقال بفتحها، والأول أشهر -، واسمها: زينب بنت عامر الكنانية، وهي زوج أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأم ولديه: عبد الرحمن، وعائشة، أسلمت
(1)
"المفهم" 4/ 121.
(2)
"المفهم" 4/ 121.
(3)
"الفتح" 8/ 662 "كتاب مناقب الأنصار" رقم (3894).
(4)
"شرح النوويّ" 9/ 207.
(5)
"عمدة القاري" 1/ 38.
وهاجرت، وتوفيت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبرها، واستغفر لها
(1)
.
وقولها: (وَأَنَا عَلَى أُرْجُوحَةٍ) جملة حاليّة من "فأتتني"، و"الأرجوحة" بضم الهمزة، هي خشبة يَلعَب عليها الصبيان، والجواري الصغار، يكون وسطها على مكان مرتفع، ويجلسون على طرفيها، ويحركونها، فيرتفع جانب منها، وينزل جانب
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "الأُرجوحة" خشبة يَرْكَبُ على طرفيها صغيران، فيترجح أحدهما على الآخر تارة، والآخر أخرى، وبقال: الأرجوحة: حبل يُعَلَّق، فيركبه الصبيان، يلعبون عليه، قاله شيخنا المنذريّ الشافعيّ. انتهى.
وقولها: (وَمَعِي صَوَاحِبِي) جملة حاليّة أيضًا، و"الصواحب" جمع صاحبة (فَصَرَخَتْ بِي) أي صاحت صياحًا مُزعِجًا، ونادتني (فَأَتَيْتُهَا، وَمَا أَدْرِي مَا تُرِيدُ بِي)"ما" الأولى نافيةٌ، والثانية موصولة، أي: لم أعرف الذي تريد مني بندائها (فَأَخَذَتْ بِيَدِي، فَأَوْقَفَتْنِى) بقطع الهمزة، أي جعلتني واقفًا (عَلَى الْبَابِ) أي على باب البيت الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بيت أبي بكر رضي الله عنه، كما بيّنته رواية أحمد الآتية، وقولها:(فَقُلْتُ: هَهْ هَهْ) بالتكرار، وهي كلمة يقولها المبهور
(3)
حتى يتراجع إلى حال سكونه، وهي بفتح الهاء الأولى، وإسكان الهاء الثانية، وهي هاء السكت.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قولها: "هه، هه" هي حكاية عن صوت المنْبَهِر؛ الذي ضاق نَفَسه، وذلك أنَّها كانت تتأرجح، ثم إنها صِيح بها صياحًا مزعجًا، فأتت مسرعة، فضاق نفسها لذلك، وانبهرت، ولذلك قالت:(حَتَّى ذَهَبَ نَفَسِي) وهو بفتح الفاء، وقد أخطأ من سكَّنها (فَأَدْخَلَتْنِي بَيْتًا، فَإِذَا) هي الفُجائيّة، أي ففاجأني (نِسْوَةٌ) بكسر النون أفصح من ضمّها، وهي والنساء اسمان لجماعة إناث الأَناسيّ، الواحدة امرأة من غير لفظ الجمع، قاله الفيّوميّ
(4)
. (مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقُلْنَ: عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ) قال القرطبيّ رحمه الله:
(1)
"المفهم" 4/ 121.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 207.
(3)
أي المغلوب، أي الذي غلبه نفسه.
(4)
"المصباح المنير" 2/ 604.
هو نحو مِمَّا روي من حديث معاذ: أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لرجل من الأنصار شهد إملاكه، فقال:"على الأُلفة والخير والطائر الميمون"
(1)
، وقد قال صلى الله عليه وسلم لابن عوف:"بارك الله لك"
(2)
، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"بارك الله لكم وعليكم"
(3)
، قال: وهذه أدعية، والدُّعاء كلُّه حسن، غير أن الدُّعاء بما دعا به النبيّ صلى الله عليه وسلم أولى، ولذلك كره بعضهم قول العرب: بالرفاء والبنين. انتهى
(4)
.
(وَعَلَى خَيْرِ طَائِرٍ) الطائر: الحظُّ، يُطلَق على الحظّ من الخير والشر، والمراد هنا: على أفضل حظّ وبركة
(5)
.
وقال في "المشارق": قوله: "على الخير والبركة، وعلى خير طائر": دعاءٌ بالسعادة، وأصل استعمالها من تفاؤل العرب بالطير، وقد يكون المراد بالطائر هنا: القَسْم والنصيب أيضًا. انتهى
(6)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقولهن: "على خير طائر"، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"وعلى الطائر الميمون"؛ على جهة التفاؤل الحسن، والكلام الطيب، وليس هذا من قبيل الطِّيَرة المنهي عنها؛ التي قال فيها صلى الله عليه وسلم:"لا طِيَرة، وخيرها الفأل"، وقد ذكرنا أصل هذه اللفظة، وحكمها في كتاب الإيمان. انتهى.
(فَأَسْلَمَتْنِي) أي دفعتني أمي (إِلَيْهِنَّ) أي إلى نسوة الأنصار (فَغَسَلْنَ رَأْسِي، وَأَصْلَحْنَنِي) أي جهّزنني للدخول على النبيّ صلى الله عليه وسلم بصفة العروس؛ لأن ذلك يُحبّبها إليه، ولأنه يتضمن إعلان النكاح، ولأنهن يؤانسنها، ويؤدبنها، ويُعلِّمنها آدابها حال الزفاف، وحال لقائها الزوج.
(فَلَمْ يَرُعْنِي) بضمّ الراء، وسكون العين: أي لم يفاجأني، ويأتيني بغتةً، وقال القرطبيّ: أي لم يُفْزِعني، والرَّوع: الفَزَع، وهو مستعملٌ في كلِّ أمر يطرأ على الإنسان فَجْأَةً، من خير أو شرٍّ، فيرتاع لفَجْأته. انتهى
(7)
.
(1)
رواه البيهقيّ في "الكبرى" 7/ 288، وراجع:"مجمع الزوائد" 4/ 290.
(2)
متّفقٌ عليه.
(3)
رواه أبو داود (2130)، والترمذيّ (1091).
(4)
"المفهم" 4/ 122.
(5)
"شرح النوويّ" 9/ 207.
(6)
"مشارق الأنوار" 1/ 324.
(7)
"المفهم" 4/ 123.
وقال في "الفتح": قولها: "فلم يَرُعني" بضم الراء، وسكون العين: أي لم يُفزعني شيءٌ إلا دخوله عليّ، وكَنَتْ بذلك عن المفاجأة بالدخول على غير عالم بذلك، فإنه يُفْزِع غالبًا.
ورَوَى أحمد من وجه آخر هذه القصة مُطوَّلة: "قالت عائشة: قدِمنا المدينة، فنزلنا في بني الحارث، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل بيتنا، فجاءت بي أمي، وأنا في أُرجوحة، ولي جُميمة، ففرقتها، ومسحت وجهي بشيء من ماء، ثم أقبلت بي تقودني حتى وقفت بي عند الباب، حتى سكن نَفَسي. . . الحديث
(1)
، وفيه:"فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على سريره، وعنده رجال ونساء من الأنصار، فأجلستني في حجره، ثم قالت: هؤلاء أهلك يا رسول الله، بارك الله لك فيهم، فوثب الرجال والنساء، وبنى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا، وأنا يومئذ بنت تسع سنين".
(إِلَّا وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضُحًى) أي في وقت الضحى (فَأَسْلَمْنَنِي إِلَيْهِ) فيه جواز الزفاف، والدخول بالعروس نهارًا، وهو جائز ليلًا ونهارًا، واحتجّ به البخاريّ في الدخول نهارًا، وترجم عليه بابًا، فقال:"باب البناء بالنهار"، وأورد حديث الباب مختصرًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 3479 و 3480 و 3481 و 3482](1422)، و (البخاريّ) في "مناقب الأنصار"(3896) و"النكاح"(5133 و 5134 و 5158)، و (أبو داود) في "النكاح"(2121) و"الأدب"(4933 و 435) والنسائيّ) في "النكاح"(3256 و 3257 و 3258 و 3259 و 3378 و 3379 و 3380) وفي "الكبرى" (5365 و 5366 و 5367 و 5368 و 5369 و 5569
(1)
تقدّم ذكر حديث أحمد في الهامش بتمامه في هذا الباب، فتنبّه.
و 5570 و 5571 و 5572)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1876)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1454)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 118 و 280)، و (الدارميّ) في "سننه"(2261)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7097)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4600)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 78)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 87)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(23/ 44)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 148 - 149 و 10/ 220)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان جواز إنكاح الأب بنته الصغيرة، وهو مجمع عليه، إلا ما حكي عن ابن شُبرمة، كما تقدّم.
2 -
(ومنها): جواز نكاح المرأة، وإن لم تكن صالحة للوطء.
3 -
(ومنها): أن الوليّ الخاصّ يقدّم على الوليّ العامّ، حيث زوّج أبو بكر بنته عائشة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد اختُلف فيه عند المالكيّة، كما أشار إليه في "الفتح".
4 -
(ومنها): أن النهي عن إنكاح البكر حتى تُستأذن مخصوص بالبالغة حتى يُتصوّر منها الإذن، وأما الصغيرة فلا حاجة إلى استئذانها؛ إذ لا معنى لذلك، حيث إنها لا تدري ما هو النكاح، قال النوويّ رحمه الله: هذا صريحٌ في جواز تزويج الأب الصغيرةَ بغير إذنها؛ لأنه لا إذن لها، والجدّ كالأب عندنا. انتهى.
5 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: ذهبت طائفة إلى أن بلوغ المرأة تسعَ سنين يوجب إجبارها على الدخول إذا طلبه الزوج، وبه قال أحمد، وأبو عبيد، وقال مالك، وأبو حنيفة: حدُّ ذلك أن تطيق الرّجُل، فإن لم تطق؛ لم يُمَكَّن الزوج منها، وإن بلغت التسع، وقال الشافعيّ: حدُّ ذلك أن تطيق الرّجُل، وتقارب البلوغ.
وحكم إلزام الزوج النفقة حكم الجبر، فمتى أجبرناها على الدخول ألزمناه لها النفقة. انتهى
(1)
.
(1)
"المفهم" 4/ 121.
6 -
(ومنها): استحباب الدعاء بالخير والبركة لكل واحد من الزوجين، ومثله في حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه:"بارك الله لك"
(1)
.
7 -
(ومنها): استحباب تنظيف العَرُوس، وتزيينها لزوجها.
8 -
(ومنها): استحباب اجتماع النساء لتجهيز العروس لزوجها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في أقوال أهل العلم في إجبار الأب ابنته على النكاح:
قال القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث مستند الإجماع
(2)
على أن الأب يُجبر البكر الصغيرة على النكاح، وإذا جاز ذلك في الأنثى التي لا تملك حلَّ العقد عن نفسها، فلأن يجوز في الصغير الذي يملك حلَّ العقد عن نفسه عند بلوغه أحرى وأولى، وما ذكرناه جارٍ على مذهب مالك، والشافعي، وفقهاء أهل الحجاز.
وأمَّا أهل العراق فقالوا: لها الخيار إذا بلغت، إلا أبا يوسف، فإنه قال: لا خيار لها. ثم اختلفوا في غير الأب، من وليٍّ أو وصيٍّ، هل له أن يجبر أم لا؟ فمنع الجمهور ذلك؛ غير أن الشافعي جعل الجدَّ بمنزلة الأب، وغير ما روي عن مالك في الوصي على الإنكاح: أنه يجبر - في أحد قوليه - وهو الذي حكاه الخطَّابي عن مالك، وعن حمَّاد بن أبي سلمة
(3)
، وقاله شريح، وعروة بن الزبير، والمشهور عن مالك المنع من ذلك.
وقال أبو حنيفة وأصحابه، والأوزاعي، وجماعة من السلف بجواز ذلك، وليس بصحيح؛ لما يختصّ به الأب من فرط الشَّفقة، والاجتهاد في ابتغاء المصلحة، فإنه يختصُّ من ذلك بما لا يوجد في غيره غالبًا، ويكفي هذا فارقًا مانعًا من الإلحاق. انتهى.
وقال النوويّ رحمه الله: وأجمع المسلمون
(4)
على جواز تزويجه بنته الصغيرة؛ لهذا الحديث.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 207.
(2)
دعوى الإجماع فيها نظر، فقد خالف ابن شُبرمة، فتنبّه.
(3)
هكذا النسخة، والظاهر أنه حماد بن أبي سليمان، فليُحرّر.
(4)
دعوى الإجماع فيها نظر، كما مرّ آنفًا.
قال: وإذا بلغت فلا خيار لها في فسخه عند مالك، والشافعيّ، وسائر فقهاء الحجاز.
وقال أهل العراق: لها الخيار إذا بلغت، أما غير الأب، والجدّ من الأولياء، فلا يجوز أن يزوّجها عند الشافعيّ، والثوريّ، ومالك، وابن أبي ليلى، وأحمد، وأبي ثور، وأبي عُبيد، والجمهور، قالوا: فإن زوّجها لم يصحّ، وقال الأوزاعيّ، وأبو حنيفة، وآخرون من السلف: يجوز لجميع الأولياء، ويصحّ، ولها الخيار إذا بلغت، إلا أبا يوسف، فقال: لا خيار لها.
واتفق الجمهور على أن الوصيّ الأجنبيّ لا يزوّجها. وجوّز شُريحٌ، وعروة، وحمّادٌ له تزويجها قبل البلوغ. وحكاه الخطّابيّ عن مالك أيضًا.
قال: (واعلم): أن الشافعيّ، وأصحابه قالوا: يُستحبّ أن لا يزوّج الأب والجدّ حتى تبلغ، ويستأذنها؛ لئلا يوقعها في أسر الزوج، وهي كارهةٌ، وهذا الذي قالوه لا يخالف حديث عائشة رضي الله عنها؛ لأن مرادهم أنه لا يزوّجها قبل البلوغ إذا لم تكن مصلحةٌ ظاهرةٌ يخاف فوتها بالتأخير، كحديث عائشة رضي الله عنها، فيستحبّ تحصيل ذلك الزوج؛ لأن الأب مأمور بمصلحة ولده، فلا يفوّتها.
قال: وأما وقت زفاف الصغيرة المزوّجة، والدخول بها، فإن اتّفق الزوج والوليّ على شيء لا ضرر فيه على الصغيرة عُمل به، وإن اختلفا، فقال أحمد، وأبو عُبيد: تُجبر على ذلك بنت تسع سنين دون غيرها.
وقال مالك، والشافعيّ، وأبو حنيفة: حدّ ذلك أن تُطيق الجماع، ويختلف ذلك باختلافهنّ، ولا يُضبط بسنّ، وهذا هو الصحيح، وليس حديث عائشة تحديدًا، ولا المنع من ذلك فيمن أطاقته قبل تسع، ولا الإذن فيه لمن لم تُطقه، وقد بلغت تسعًا.
قال الداوديّ: وكانت عائشة قد شبّت شَبابًا حسنًا رضي الله عنها. انتهى كلام النووي رحمه الله
(1)
، وهو تحقيق نفيس جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 206 - 208.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3480]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَا بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، وَبَنَى بِي وَأَنَا بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم قريبًا.
3 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، تقدّم قبل باب.
4 -
(عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الكلابيّ، تقدّم قبل بابين.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3481]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَهَا، وَهِيَ بِنْتُ سَبْعِ سِنِينَ، وَزُفَّتْ إِلَيْهِ، وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ، وَلُعَبُهَا مَعَهَا، وَمَاتَ عَنْهَا، وَهِيَ بِنْتُ ثَمَانَ عَشْرَةَ)
(1)
.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكِسّيّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب، والبابين قبله.
(1)
وفي نسخة: "ثماني عشرة".
وقولها: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَهَا) فيه التفات؛ إذ الأصل أن تقول: تزوجني إلخ، فتنبّه.
وقوله: (وَهِيَ بِنْتُ سَبْعِ سِنِينَ) تقدّم أنه لا تنافي بينه وبين قولها: "تزوجني، وأنا ابن ستّ سنين"؛ لإمكان الجمع بأن ذلك كان في أوائل السنة السابعة، فيكون معنى قولها:"ست سنين" التي انقضت، ومعنى "سبع سنين" التي هي فيها، والله تعالى أعلم.
وقوله: (وَزُفَّتْ إِلَيْهِ) بالبناء للمفعول، يقال: زَفَّت النساء العَرُوس إلى زوجها زَفًّا، من باب نصر، والاسم الزِّفَاف بالكسر، ككتاب، وهو إهداؤها إليه، وأزفّتها بالألف لغة، وزَفّ الرجلُ يَزِفّ، من باب ضرب: أسرع، والاسم الزَّفِيف
(1)
.
وقوله: (وَلُعَبُهَا مَعَهَا)"اللُّعَب" بضمّ، ففتح: جمع لُعْبَة، بضمّ، فسكون، وزانُ غُرْفَة، وغُرَفٍ، وهي كلُّ ما يُلْعَب به مثلُ الشِّطْرنج، والنَّرْد
(2)
، قال النوويّ رحمه الله: المراد هنا هذه اللُّعَب المسماة بالبنات التي تَلْعَب بها الجواري الصغار، ومعناه التنبيه على صِغَر سنها، قال القاضي عياض رحمه الله: وفيه جواز اتخاذ اللُّعَبِ، وإباحة لَعِب الجواري بهنّ، وقد جاء في الحديث الآخر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى ذلك، فلم ينكره، قالوا: وسببه تدريبهنّ لتربية الأولاد، وإصلاح شأنهنّ وبيوتهنّ. انتهى كلام القاضي.
قال النوويّ: ويَحْتَمِل أن يكون مخصوصًا من أحاديث النهي عن اتخاذ الصور؛ لما ذكره من المصلحة، ويَحْتَمِل أن يكون هذا منهيًّا عنه، وكانت قصّة عائشة رضي الله عنها هذه، ولُعَبها في أول الهجرة قبل تحريم الصور، والله أعلم. انتهى.
وقولها: (وَهِيَ بِنْتُ ثَمَانَ عَشْرَةَ) وفي نسخة: "ثماني عشرة".
والحديث متّفق عليه، ومضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 254.
(2)
راجع: "المصباح" 2/ 554.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3482]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ يَحْيَى وَإِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَن الْأَعْمَشِ، عَن إِبْرَاهِيمَ، عَن الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ بِنْتُ سِتٍّ، وَبَنَى بِهَا، وَهِيَ بِنْتُ تِسْعٍ، وَمَاتَ عَنْهَا، وَهِيَ بِنْتُ ثَمَانَ عَشْرَةَ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان مِهْران، تقدّم قريبًا.
2 -
(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد النخعيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(الْأَسْوَدُ) بن يزيد بن قيس النخعيّ، أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن الكوفيّ، مخضرمٌ ثقةٌ فقيهٌ [2](ت 4 أو 75)(ع) تقدم في "الطهارة" 32/ 674.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(11) - (بابُ اسْتِحْبَابِ التَّزَوُّجِ وَالتَّزْوِيجِ فِي شَوَّالٍ، وَاسْتِحْبَابِ الدُّخُولِ فِيهِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3483]
(1423) - (حَدَّثَنَا أبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَت: تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي شَوَّالٍ، وَبَنَى بِي فِي شَوَّالٍ، فَأَيُّ نِسَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَحْظَى عِنْدَهُ مِنِّي؟ قَالَ: وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَسْتَحِبُّ أَنْ تُدْخِلَ نِسَاءَهَا فِي شَوَّالٍ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ الإمام الثبت الحجة الفقيه العابد، ومن كبار [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
2 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ) بن عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية الأمويّ، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 144) أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
3 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُرْوَةَ) بن الزبير بن العوّام الأسديّ، أبو بكر المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [3] بقي إلى أواخر دولة بني أمية، وكان مولده سنة (45)(خ م ت س ق) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 17/ 1711.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي، والبابين قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فما أخرج لهما الترمذيّ، وعبد الله بن عروة، فما أخرج له أبو داود.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية الأخ، عن أخيه، عن خالته، وتابعيّ عن تابعيّ، وهو من رواية الأقران.
4 -
(ومنها): أن فيه أحد الفقهاء السبعة، عروة.
5 -
(ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) من الأحاديث، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها، أنها (قَالَتْ:"تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي شَوَّالٍ، وَبَنَى بِي) بالبناء للفاعل: أي دخل بي (فِي شَوَّالٍ) - بفتح الشين المعجمة، وتشديد الواو - قال الفيّوميّ رحمه الله: و"شوّالٌ" شهر عيد الفطر، وجمعه شوّالات، وشواويلُ، وقد تدخله الألف واللام، قال ابن فارس: وزعم ناسٌ أن الشّوّال سُمي بذلك لأنه وافق وقتًا تَشُول فيه الإبلُ. انتهى
(1)
.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 328.
وقال ابن منظور- رحمه الله: وشَوّالٌ من أسماء الشهور، معروفٌ، اسم الشهر الذي يلي شهر رمضان، وهو أول أشهر الحجّ، قيل: سُمّي بتشويل لبن الإبل، وهو تَولّيهِ، وإدباره، وكذلك حال الإبل في اشتداد الحرّ، وانقطاع الرُّطْب، وقال الفرّاء: سُمّي بذلك لِشَوَلَان الناقة فيه بذنَبِها، والجمع شَوَاويل على القياس، وشَوَاوِل على طرح الزائد، وشوَالات. وكانت العرب تَطَيَّرُ من عقد النكاح فيه، وتقول: إن المنكوحة تمتنع من ناكحها كما تمتنع طَرُوقة الجَمَل إذا لَقِحَت، وشالت بذَنَبِها، فأبطل النبيّ صلى الله عليه وسلم طِيَرَتَهُم. انتهى
(1)
.
(فَأَيُّ نِسَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)"أيُّ" اسم استفهام إنكاريّ، مبتدأ، خبره قولها:(كَانَ أَحْظَى) أفعل تفضيل من الحظوة، يقال: حَظِيَ عند الناس يَحْظَى، من باب تَعِبَ حِظَةً، وزان عِدَةٍ، وحظوةً بضمّ الحاء، وكسرها: إذا أحبّوه، ورفعوا منزلته، فهو حَظِيٌّ، على فَعِيلٍ، والمرأة حَظِيّةٌ، إذا كانت عند زوجها كذلك. قاله الفيّوميّ.
(عِنْدَهُ) صلى الله عليه وسلم (مِنِّي) الظرف، والجارّ والمجرور متعلّقان بـ "أحظى".
والمعنى: لا أحد أكثر حظوة عند النبيّ صلى الله عليه وسلم منّي، مع أنه صلى الله عليه وسلم تزوّجني في شوّال، وبنى بي فيه، فبطل بذلك ما كان يزعمه الجاهليّة من التشاؤم بهذا الشهر.
وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: إنما قالت عائشة رضي الله عنها ذلك لتردّ به قول من كان يَكره عقدَ النكاح في شهر شوّال، ويتشاءم به من جهة أنّ شوّالًا من الشَّوْل، وهو الرفع، ومنه شالت الناقة بذنبها، وقد جعلوه كنايةً عن الهلاك؛ إذ قالوا: شالت نعامتهم: أي هلكوا، فشوّالٌ معناه كثير الشَّوْل، فإنه للمبالغة، فكأنهم كانوا يتوهّمون أن كلّ من تزوّج في شوّال منهنّ شال الشنآن بينها وبين الزوج، أو شالت نفرته، فلم تحصل لها حظوةٌ عنده، ولذلك قالت عائشة رادّةً لذلك الوهم:"فأيّ نسائه كان أحظى عنده منّي". أي: لم يضرّني ذلك، ولا نقص من حظوتي.
قال القرطبيّ: ومن هذا النوع كراهة الجهّال عندنا اليومَ عقد النكاح في
(1)
"لسان العرب" في مادة شول.
شهر المحرّم، بل ينبغي أن يُتيمّن بالعقد والدخول فيه؛ تمسّكًا بما عظّم الله عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وسلم من حرمته، ورَدْعًا للجهّال عن جهالاتهم. انتهى
(1)
.
(قَالَ) عروة (وَكَانَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها (تَسْتَحِبُّ أَنْ تُدْخِلَ نِسَاءَهَا) أي نساء قومها على أزواجهنّ (فِي شَوَّالٍ) تبرّكًا بما حصل لها فيه من الخير برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الحظوة عنه، ولمخالفة ما يقوله الجهّال من ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 3483 و 3484](1423)، و (الترمذيّ) في "النكاح"(1093)، و (النسائيّ) في "النكاح"(6/ 70 و 130) و"الكبرى"(3/ 333)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1990)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(10459)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 54 و 206)، و (الدارميّ) في "سننه"(2211)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 215)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4058)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 80)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 88)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(7/ 94) و"الكبير"(23/ 68 و 69 و 70)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(8/ 59 - 60)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 290)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2259)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب التزويج في شهر شوّال، قال النوويّ رحمه الله: فيه استحباب التزويج، والتزوّج، والدخول في شوّال، وقد نصّ أصحابنا على استحبابه، واستدلّوا بهذا الحديث. انتهى.
2 -
(ومنها): حرص النبيّ صلى الله عليه وسلم على محو آثار الشرك، والاعتقادات
(1)
"المفهم" 4/ 123 - 124.
الجاهليّة، حيث تزوّج عائشة في شوّال، وبنى بها فيه؛ لذلك، وكذلك كانت هي تحرص على إدخال نسائها فيه.
3 -
(ومنها): أنه ينبغي لأهل العلم، ودعاة الخير الاجتهاد في إزالة ما كان عليه عادة الناس، من التشاؤم في بعض الشهور، أو الأيام، أو الأشخاص، فإن ذلك من آثار الشرك، وما أكثره اليوم في شتّى بقاع الأرض، بشتّى أنواع الخرافات، فلا حول ولا قوّة إلا بالله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3484]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يَدْكُرْ فِعْلَ عَائِشَةَ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(ابْنُ نُمَير) هو: محمد المذكور قبل ثلاثة أحاديث.
2 -
(أبُوهُ) عبد الله بن نُمير، تقدّم قريبًا.
3 -
(سفيان) هو الثوريّ المذكور في السند الماضي.
[تنبيه]: رواية عبد الله بن نُمير، عن سفيان الثوريّ هذه لم أر من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(12) - (بَابُ الأَمْرِ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَخْطُوبَةِ)
(1)
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3485]
(1424) - (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ
(1)
ترجم النوويّ رحمه الله بقوله: "باب ندب من أراد نكاح امرأة إلى أن ينظر إلى وجهها، وكفيها قبل خِطبتها"، وليس في الحديث تقييد ما ينظر إليه بالوجه والكفين، وإنما أخذه من مذهبه، وهذا لا ينبغي لشارح كتاب من كتب الحديث أن يقيّد الحديث بالمذهب، إلا إذ وجد نصًّا يقيّده بذلك، وهذه المسألة الخلاف فيها مشهور، كما سيأتي في المسائل، ولذا عدلت عن ترجمته إلى ترجمة تناسب الحديث، فتفطّن، والله تعالى وليّ التوفيق.
يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
(1)
، فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أنَظَرْتَ إِلَيْهَا؟ " قَالَ: لَا، قَالَ:"فَاذْهَبْ، فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَإِنَّ فِي أَعْيُنِ الْأَنْصَارِ شَيْئًا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وستأتي تراجمهم في الحديث التالي مع شرح الحديث، سوى "ابن أبي عمر"، وهو محمد بن يحيى بن أبي عمر، و"سفيان"، وهو ابن عيينة، فقد تقدّما قبل بابين، وإنما أخّرت شرح الحديث؛ لكون الثاني أتمّ وأطول، فتنبّه.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3486]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"هَلْ نَظَرْتَ إِلَيْهَا؟ فَإِنَّ فِي عُيُونِ الْأَنْصَارِ شَيْئًا"، قَالَ: قَدْ نَظَرْتُ إِلَيْهَا، قَالَ:"عَلَى كَمْ تَزَوَّجْتَهَا؟ "، قَالَ: عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ
(2)
، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ؟، كَأَنَّمَا تَنْحِتُونَ الْفِضَّةَ مِنْ عُرْضِ هَذَا الْجَبَلِ، مَا عِنْدَنَا مَا نُعْطِيكَ، وَلَكِنْ عَسَى أَنْ نَبْعَثَكَ فِي بَعْثٍ، تُصِيبُ مِنْهُ"، قَالَ: فَبَعَثَ بَعْثًا إِلَى بَنِي عَبْسٍ، بَعَثَ ذَلِكَ الرَّجُلَ فِيهِمْ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ مَعِينِ) بن عون الْغَطَفانيّ مولاهم، أبو زكرياء البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ مشهور، إمام الجرح والتعديل [10](ت 233) بالمدينة النبويّة، وله بضع و (70) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 94.
2 -
(مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ) أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل مكة، ثم دمشق، ثقةٌ حافظٌ، كان يدلس أسماء الشيوخ [8](ت 193)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 138.
(1)
وفي نسخة: "كنت جالسًا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم".
(2)
وفي نسخة: "على أربع أواقيّ".
3 -
(يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ) اليشكريّ، أبو إسماعيل، أو أبو مُنَين الكوفيّ، صدوق يخطئ [6](بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.
4 -
(أَبُو حَازِمٍ) سلمان الأشجعيّ الكوفيّ الثقة [3](ت 100)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى يزيد بن كيسان، كما مرّ آنفًا.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، غير شيخه، فبغداديّ، وغير الصحابيّ، فمدنيّ.
4 -
(ومنها): أنّ فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ) قال في "الفتح": هذا الرجل يَحْتَمِل أن يكون المغيرة رضي الله عنه، فقد أخرج الترمذيّ، والنسائيّ، من حديثه أنه خطب امرأةً، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"انظر إليها، فإنه أحرى أن يدوم بينكما"، وصححه ابن حبان، وأخرج أبو داود، والحاكم، من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعًا:"إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل"، وسنده حسنٌ، وله شاهد من حديث محمد بن مسلمة، وصححه ابن حبان، والحاكم، وأخرجه أحمد، وابن ماجه، ومن حديث أبي حميد، أخرجه أحمد، والبزار. انتهى
(1)
.
(إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنِّي تَزَوَّجْتُ) أي أردت أن أتزوّج، كما بُيّن في الروايات الأخرى، فقد أخرجه النسائيّ بلفظ: "خطب رجل امرأةً من الأنصار،
(1)
"الفتح" 11/ 440.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل نظرت إليها؟ " (امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرف الرجل، ولا المرأة
(1)
. (فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ نَظَرْتَ إِلَيْهَا؟) وفي الرواية السابقة: "أنظرت إليها؟ قال: لا، قال: فاذهب، فانظر إليها"، وفي رواية للنسائيّ:"فأمره أن ينظر إليها"، ثم بيّن صلى الله عليه وسلم سبب أمره بالنظر إليها بقوله:(فَإِنَّ فِي عُيُونِ الْأَنْصَارِ) جمع عين، كفلس وفُلُوس، وفي الرواية السابقة:"فإن في أعين الأنصار"، وقوله:(شَيْئًا") قال النوويّ رحمه الله: هكذا الرواية المشهورة: "شيئًا" بالهمز، وهو واحد الأشياء، قيل: المراد صغرٌ، وقيل: زُرْقةٌ. انتهى
(2)
.
وقال الغزاليّ في "الإحياء": اختُلِف في المراد بقوله: "شيئًا"، فقيل: عَمَشٌ، وقيل: صغرٌ، قال الحافظ: الثاني وقع في رواية أبي عوانة في "مستخرجه"، فهو المعتمد. انتهى
(3)
.
قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: هذا الأمر - يعني أمره صلى الله عليه وسلم الرجل بالنظر إلى المرأة المخطوبة - على جهة الإرشاد إلى المصلحة، فإنه إذا نظر إليها، فلعلّه يرى منها ما يُرغّبه في نكاحها، وقد نبّه النبيّ صلى الله عليه وسلم على هذا بقوله فيما ذكره أبو داود من حديث جابر رضي الله عنه، إذ قال:"إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل"
(4)
، ولا يقال مثلُ هذا
(1)
"تنبيه المعلم" ص 235 - 233.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 210.
(3)
"الفتح" 11/ 439 - 440.
(4)
رواه الشافعيّ، وأحمد، وعبد الرزّاق، والبزّار، والحاكم، وصححه، ووافقه الذهبيّ، وقال الحافظ: ورجاله ثقات، وفي إسناده محمد بن إسحاق - يعني أنه مدلِّسٌ، لكنه صرّح بالتحديث في إحدى روايتي أحمد، وأعلّه ابن القطّان بواقد بن عبد الرحمن، وقال: المعروف واقد بن عمرو، قال الحافظ: ورواية الحاكم فيها واقد بن عمرو، وكذا رواية الشافعيّ، وعبد الرزّاق. انتهى. "التلخيص الحبير" 3/ 306.
قال الإمام أحمد رحمه الله: حدّثنا يعقوب، حدّثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدّثني داود بن الْحُصين مولى عمرو بن عثمان، عن واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا خطب أحدكم المرأة، فقدر أن يرى منها بعض ما يدعوه إليها، فليفعل". انتهى. "المسند" رقم (14340). =
في الواجب، وقاعدة النكاح - وإن كان معاوضةً - مفارقةٌ لقاعدة البيوع، من حيث إنها مبنيّةٌ على المكارمة، والمواصلة، وإظهار الرغبات، والعمل على مكارم الأخلاق، بحيث يجوز فيها النكاح من غير ذكر صداق، وتجوز فيها ضروبٌ من الجهالات والأحكامِ، لا يجوز شيء منها في البيوع، والمعاملات المبنيّة على المشاحّة، والمغابنة، ومن هنا جاز عقد النكاح على امرأة لا يُعرف حالها من جمال، وشباب، وحسن خُلُقٍ، وتمام خَلْقٍ، وهذه وإن كانت مجهولةً حالة العقد، لم يضرّ الجهل بها؛ إذ لم يلتفت الشرع إليه في هذا الباب، فالأمر بالنظر إلى المخطوبة أحرى بأن لا يكون واجبًا، فلم يبقَ إلا أن يحمل ذلك الأمر على ما تقدّم، وبهذا قال جمهور الفقهاء: مالكٌ، والشافعيّ، والكوفيّون، وغيرهم، وأهل الظاهر، وقد كره ذلك قومٌ، لا مبالاة بقولهم؛ للأحاديث الصحيحة في هذا الباب. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
(قَالَ: قَدْ نَظَرْتُ إِلَيْهَا) الظاهر أن هذا النظر بعد أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم له بالنظر بقوله: "اذهب، فانظر إليها"، فذهب، فجاء، فأخبره بأنه نظر إليها (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("عَلَى كَمْ تَزَوَّجْتَهَا؟! قَالَ: عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ) بفتح الهمزة، وفي نسخة:"أواقيّ" بياء مشدّدة، وهي: جمع أوقيّة، قال الفيّوميّ رحمه الله: و"الأوقيةُ" بضم الهمزة، وبالتشديد، وهي عند العرب: أربعون درهمًا
(2)
، وهي في تقدير أُفْعُولةٍ، كالأُعجوبة، والأُحدوثة، والجمع: الأواقي، بالتشديد، وبالتخفيف؛ للتخفيف، وقال ثعلب في باب المضموم أوله: وهي الأُوقِيّة، والْوُقيّةُ لغة، وهي بضم الواو، هكذا هي مضبوطة في كتاب ابن السِّكِّيت، وقال الأزهريّ: قال الليث: الْوُقِيَّة: سبعة مثاقيل، وهي مضبوطة بالضم أيضًا، قال الْمُطَرِّزِيّ: وهكذا هي
= قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد رجاله ثقات، والأكثرون على أن واقدًا هو ابن عمرو، وهو ثقةٌ من رجال مسلم، وأما واقد بن عبد الرحمن فمجهول، فالحديث عندي صحيح، والله تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 4/ 125 - 126.
(2)
وقدّر بالمعيار المعاصر بـ (147) غرامًا، راجع ما كتبه الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسّام رحمه الله في كتابه:"توضيح المرام" 4/ 471.
مضبوطة في "شرح السنة" في عِدَّة مواضع، وجرى على ألسنة الناس بالفتح، وهي لغة، حكاها بعضهم، وجمعها: وَقَايَا، مثلُ عَطِيّة وعَطَايَا. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) مستكثرًا كون المهر أربع أواقٍ، ومنكرًا له:("عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ؟) أي أتزوّجتها على أربع أواقٍ؟ (كَأَنَّمَا تَنْحِتُونَ) - بكسر الحاء المهملة -: أي تقطعون (الْفِضَّةَ مِنْ عُرْضِ هَذَا الْجَبَلِ) الْعُرْض - بضم العين المهملة، فسكون الراء -: هو الجانب والناحية.
ومعنى هذا الكلام: كراهية إكثار المهر بالنسبة إلى حال الزوج.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وهذا الإنكار منه صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل المتزوّج على أربعة أواق ليس إنكارًا لأجل المغالاة، والإكثار في المهر، فإنه صلى الله عليه وسلم قد أصدق نساءه خمسمائة درهم، وأربعةُ أواق مائة وستّون درهمًا، وإنما أنكر بالنسبة إلى حال الرجل، فإنه كان فقيرًا في تلك الحال، فأدخل نفسه في مشقّة تَعَرَّضَ للسؤال بسببها، ولذلك قال له:"ما عندنا ما نعطيك"، ثم إن النبيّ صلى الله عليه وسلم بكريم أخلاقه، ورأفته، ورحمته جبر منكسر قلبه بقوله:"ولكن عسى أن نبعثك في بعث، فتُصيب منه". يعني سريّةً في الغزو، فبعثه، فأصاب حاجته ببركة النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى.
(مَا) نافية، أي ليس (عِنْدَنَا مَا) موصولة، أي الذي (نُعْطِيكَ) يعني أنه ليس عنده مال يُساعده به على المهر المذكور (وَلَكِنْ عَسَى أَنْ نَبْعَثَكَ فِي بَعْثٍ) بفتح، فسكون: أي جيش، تسميةً بالمصدر؛ إذ البعث مصدر بعث، من باب نفع، والجمع: بُعوثٌ (تُصِيبُ مِنْهُ") أي تنال من ذلك البعث ما تدفعه مهرًا لامرأتك (قَالَ) أبو هريرة رضي الله عنه (فَبَعَثَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بَعْثًا إِلَى بَنِي عَبْسٍ) بفتح العين المهملة، وسكون الموحّدة قبيلة مشهورة، والظاهر أنه أراد: عبس بن بَغِيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مُضر بن نِزار بن مَعَدّ بن عدنان، قاله في "اللباب"
(2)
.
(بَعَثَ ذَلِكَ الرَّجُلَ فِيهِمْ) أي في أولئك الجيش،
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 669 - 670.
(2)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 98.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 3485 و 3486](1424)، و (النسائيّ) في "النكاح"(3235 و 3247 و 3248) وفي "الكبرى"(5345 و 5347 و 5348)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 21)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 286 و 299)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 18)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 89)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 84 و 235)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان إباحة نظر الخاطب إلى مخطوبته قبل أن يتزوّجها؛ وذلك ليكون داعيًا لنكاحها، أو دافعًا لتركها، كما بيّنه صلى الله عليه وسلم في حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه بقوله:"فإنه أجدر أن يُؤْدَم بينكما".
2 -
(ومنها): أن هذا مما يُستثنى من تحريم النظر إلى وجه الأجنبيّة، للضرورة.
3 -
(ومنها): أن فيه فضلَ الشريعة السمحة، وإحكام توجيهاتها، حيث تُراعِي مصالح العباد التي ينتظم بها معاشهم، ومعادهم، من غير حصول نَدَم، وتحسّر على الفائت، فإن الذي يتسارع إلى نكاح امرأة من غير نظر إليها، وتروٍّ في شأنها كثيرًا ما يقع في عكس مراده، إذا لم تعجبه المرأة، ولم تنبسط نفسه إليها، فيؤدّي ذلك إلى فراقها، وإلحاق الضرر بها بقطع أطماعها، فتلافيًا لمثل هذه الأخطار شرع الشارع الحكيم النظر إلى المخطوبة قبل النكاح، وإن كانت أجنبيّة دفعًا لأشدّ المفسدتين بأخفّهما، فما أجمل هذا التشريع، وما أحكمه؟، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في أقوال أهل العلم في حكم النظر إلى المرأة قبل النكاح:
قال النوويّ رحمه الله: ذهب مالك، وأبو حنيفة، وسائر الكوفيين،
والشافعيّ، وأحمد، وجماهير العلماء، إلى استحباب النظر إلى من يريد تزويجها، وحكى القاضي عياض عن قوم كراهته، وهذا خطأ، مخالفٌ لصريح هذا الحديث، ومخالفٌ لإجماع الأمة على جواز النظر للحاجة عند البيع، والشراء، والشهادة، ونحوها.
قال: ثمّ إنه إنما يباح له النظر إلى وجهها، وكفّيها فقط؛ لأنهما ليسا بعورة، ولأنه يُستدلّ بالوجه على الجمال، أو ضدّه، وبالكفّين على خُصوبة البدن، أو عدمها، قال: هذا مذهبنا، ومذهب الأكثرين، وقال الأوزاعيّ: ينظر إلى مواضع اللحم، وقال داود: ينظر إلى جميع بدنها، وهذا خطأٌ ظاهرٌ، منابذ لأصول السنّة، والإجماع.
قال: ثم مذهبنا، ومذهب مالك، وأحمد، والجمهور أنه لا يُشترط في جواز النظر رضاها، بل له ذلك في غفلتها، ومن غير تقدّم إعلام، لكن قال مالك: أكره نظره في غفلتها، مخافة وقوع نظره على عورة، وعن مالك رواية ضعيفة أنه لا ينظر إليها إلا بإذنها، وهذا ضعيفٌ؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أذن في ذلك مطلقًا، ولم يشترط استئذانها؛ ولأنها تستحيي غالبًا من الإذن، ولأن في ذلك تغريرًا، فربما رآها، فلم تُعجبه، فيتركها، فتنكسر، وتتأذّى، ولهذا قال أصحابنا: يستحبّ أن يكون نظره إليها قبل الخِطْبة، حتى إن كرهها تركها من غير إيذاء، بخلاف ما إذا تركها بعد الخِطبة. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحقّ أن النظر جائز، مطلقًا، فتقييد النظر بالوجه والكفّين مخالفٌ لظاهر الحديث، وبهذا يقول داود، وابن حزم، وهو رواية عن أحمد أيضًا، قال العلامة ابن القيّم رحمه الله في "تهذيب السنن": وقال: داود: ينظر إلى سائر جسدها، وعن أحمد ثلاث روايات:
إحداهنّ: ينظر إلى وجهها ويديها.
والثانية: ينظر ما يظهر غالبًا، كالرقبة، والساقين، ونحوهما.
والثالثة: ينظر إليها كلها: عورة، وغيرها، فإنه نصّ عن أحمد على أنه يجوز أن ينظر إليها متجرّدة. انتهى
(2)
.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 210 - 211.
(2)
"تهذيب السنن" 3/ 25 - 26.
وقال ابن قُدامة رحمه الله في "المغني": قال أحمد في رواية حنبل: لا بأس أن ينظر إليها، وإلى ما يدعوه إلى نكاحها، من يد، وجسمٍ، ونحو ذلك، قال أبو بكر - يعني المروزيّ -: لا بأس أن ينظر إليها عند الخِطْبة حاسرةً.
قال: ووجه جواز النظر إلى ما يظهر غالبًا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا أذن في النظر إليها من غير علمها، عُلم أنه أذن في النظر إلى جميع ما يظهر عادةً؛ إذ لا يمكن إفراد الوجه بالنظر مع مشاركة غيره له في الظهور؛ ولأنه يظهر غالبًا، فأُبيح النظر إليه كالوجه؛ ولأنها امرأة أُبيح النظر إليها بأمر الشارع، فأبيح النظر منها إلى ذلك كذوات المحارم. انتهى
(1)
.
وقال أبو محمد بن حزم رحمه الله في "المحلَّى": ومن أراد أن يتزوّج امرأةً حرّةً، أو أمة فله أن ينظر منها متغفّلًا لها، وغير متغفّلٍ إلى ما بطن منها، وظهر، قال: وقد اختلف الناس في ذلك، فصحّ عن ابن عمر إباحة النظر إلى ساقها، وبطنها، وظهرها، ويضع يده على عجزها، وصدرها، ونحو ذلك عن عليّ، ولم يصحّ عنه، وصحّ عن أبي موسى الأشعريّ إباحة النظر إلى ما فوق السرّة، ودون الركبة. انتهى
(2)
.
والحاصل أن الصواب إطلاق الجواز؛ فقد أخرج الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" ما هو صريح في إطلاق الجواز، وإن كانت غافلة، فقال رحمه الله:
حدّثنا أبو كامل، حدّثنا زهير، حدّثنا عبد الله بن عيسى، حدّثني موسى بن عبد الله بن يزيد، عن أبي حُميد، أو أبي حميدة - قال: وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خطب أحدكم امرأة، فلا جناح عليه أن ينظر إليها، إذا كان إنما ينظر إليها لخطبته، وإن كانت لا تَعلَم".
وهذا إسناد صحيح، والشكّ في الصحابيّ لا يضرّ، فقد صرّح بجواز رؤيتها، وإن كانت غافلة.
وأيضًا فالنبيّ صلى الله عليه وسلم حينما قال للصحابي: "انظر إليها" ما حدّد له موضعًا للنظر، بل أطلق، وقد تأيد هذا بعمل راويه الصحابيّ رضي الله عنه، فقد صحّ أن جابرًا رضي الله عنه تخبّأ لمخطوبته حتى ينظر إليها غافلة، فنظر إليها، فأعجبته، فنكحها.
(1)
"المغني" 9/ 490 - 491.
(2)
"المحلَّى" 10/ 30 - 31.
ويُروى أيضًا عن محمد بن مسلمة الأنصاريّ رضي الله عنه، وفي سنده حجاج بن أرطاة، وهو ضعيف، ورواه ابن حبّان في "صحيحه"، وفيه ضعف أيضًا، غير أن للحديث طرقًا يتقوّى بمجموعها
(1)
.
وقد صحّ فعله عن عمر رضي الله عنه، فقد أخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن أبي عمر، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن عليّ ابن الحنفيّة، "أن عمر رضي الله عنه خطب إلى عليّ ابنته أمّ كلثوم، فذَكَر له صغرها، فقيل له: إنه ردّك، فعاوده، فقال له عليّ: أبعثُ بها إليك، فإن رضيتَ، فهي امرأتك، فأرسل بها إليه، فكشف عن ساقها، فقالت: مَهْ، لولا أنك أمير المؤمنين لصككتُ عينيك"
(2)
.
فقد كشف عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن ساق مخطوبته، ولذا قال الحافظ في "التلخيص": وهذا يُشكل على من قال: إنه لا ينظر غير الوجه والكفّين.
وقال بعض المحقّقين: وتأيّد ذلك بعمل الصحابة رضي الله عنهم، ومنهم محمد بن مسلمة، وجابر بن عبد الله، فإن كلًّا منهما قد تخبّأ لخطيبته ليرى منها ما يدعوه إلى نكاحها، أفيظنّ بهما عاقلٌ أنهما تخبّآ للنظر إلى الوجه والكفّين فقط، ومثل عمر بن الخطّاب الذي كشف عن ساقي أم كلثوم بنت عليّ رضي الله عنه.
فهؤلاء ثلاثة من كبار الصحابة، أحدهم الخليفة الراشد أجازوا النظر إلى أكثر من الوجه والكفّين، ولا مخالف لهم من الصحابة فيما أعلم. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تلخّص مما ذُكر من الأقوال في هذه المسألة، وأدلّتها أن إطلاق جواز النظر إلى المخطوبة، سواء كان إلى كفيها، ووجهها، أو غيرهما من بدنها، وسواء كان بإذنها، أو لا، هو الحقّ الموافق لظواهر أحاديث الباب، وعمل هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم، فقد فعله عمر، وجابر، ومحمد بن مسلمة، وصحّ القول به عن ابن عمر، وأبي موسى الأشعريّ، كما تقدّم في كلام ابن حزم، فتأمّل بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
راجع: "السلسلة الصحيحة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله 1/ 152 - 159 رقم (97 و 98 و 99).
(2)
راجع: "الإصابة" 13/ 280.
[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: قال أصحابنا: وإذا لم يمكنه النظر إليها استُحبّ له أن يبعث امرأةً يَثِق بها تنظر إليها، وتخبره، ويكون ذلك قبل الخطبة؛ لما ذكرناه. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: يؤيّد ما قالوه: ما أخرجه أحمد، والطبرانيّ، والحاكم، والبيهقيّ من حديث أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم بعث أمّ سُليم إلى امرأة، فقال:"انظري إلى عرقوبها، وشُمّي عوارضها"، ولفظ الطبرانيّ:"وشُمِّي معاطفها"، واستنكره أحمد، والمشهور فيه طريق عُمارة، عن ثابت، عنه. ورواه أبو داود في "المراسيل" عن موسى بن إسماعيل، عن حماد، عن ثابت، ووصله الحاكم من هذا الوجه بذكر أنس فيه، وتعقّبه البيهقيّ بأن ذكر أنس فيه وَهَم، قال: ورواه أبو النعمان، عن حماد مرسلًا، قال: ورواه محمد بن كثير الصنعانيّ، عن حماد موصولًا، قاله الحافظ في "التلخيص"
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما ذُكر أن الأرجح في الحديث الإرسال، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(فائدة): روى عبد الرزّاق في "الأمالي" بسند صحيح، عن ابن طاوس، قال: أردت أن أتزوّج امرأةً، فقال لي أبي: اذهب، فانظر إليها، فذهبت، فغلست رأسي، وترجّلت، ولبست من صالح ثيابي، فلما رآني في تلك الهيئة قال: لا تذهب. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر أن منع طاوس لابنه أن يذهب متزيّنًا خشية أن تغترّ المرأة بذلك، فتقع في الندم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[فائدة أخرى]: كتب الشيخ الألبانيّ رحمه الله كلامًا نفيسًا مهمًّا، قال في "السلسلة الصحيحة" - 1/ 158 - بعد تخريجه أحاديث الباب ما نصّه:
هذا: ومع صحة الأحاديث في هذه المسألة، وقول جماهير العلماء بها - على الخلاف السابق - فقد أعرض كثير من المسلمين في العصور المتأخّرة عن العمل بها، فإنهم لا يسمحون للخاطب بالنظر إلى فتاتهم - ولو في حدود
(1)
"شرح مسلم" 9/ 214.
(2)
"التلخيص الحبير" 3/ 307.
القول الضيّق - تورّعًا منهم - زعموا -، ومن عجائب الورع البارد أن بعضهم يأذن لابنته بالخروج إلى الشارع سافرةً بغير حجاب شرعيّ، ثم يأبى أن يراها الخاطب في دارها، وبين أهلها بثياب الشرع.
وفي مقابل هؤلاء بعض الآباء المستهترين الذين لا يَغارون على بناتهم، تقليدًا منهم لأسيادهم الأوربيين، فيسمحون للمصوّر أن يصوّرهنّ، وهنّ سافرات سُفورًا غير مشروع، والمصوّر رجل أجنبيّ عنهنّ، وقد يكون كافرًا، ثم يقدّمون صورهنّ إلى بعض الشبّان بزعم أنهم يريدون خطبتهنّ، ثم ينتهي الأمر على غير خِطبة، وتظلّ صور بناتهم معهم، ليتغزّلوا بها، ولِيُطفئوا حرارة الشباب بالنظر إليها، ألا فتعسًا للآباء الذين لا يَغارون، وإنا لله، وإنا إليه راجعون. انتهى كلام الشيخ الألبانيّ رحمه الله، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(13) - (بَابُ وُجُوبِ الصَّدَاقِ، وَجَوَازِ كَوْنِهِ مَنَافِعَ مِنْ تَعْلِيم الْقُرْآنِ، أَوْ غَيْرِهِ)
(1)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3487]
(1425) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيَّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ (ح) وَحَدَّثَنَاه قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: جَاءَت امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ جِئْتُ أَهَبُ لَكَ
(2)
نَفْسِي، فَنَظَرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَعَّدَ النَّظَرَ فِيهَا، وَصَوَّبَهُ، ثُمَّ طَأْطَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَأَت الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا جَلَسَتْ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ، فَزَوِّجْنِيهَا، فَقَالَ: "فَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ
(1)
ترجم القرطبيّ رحمه الله بنحو هذه الترجمة، فتبعته؛ لجودتها، فتنبّه.
(2)
وفي نسخة: "جئت لأهب لك".
شَيْءٍ؟ "
(1)
، فَقَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ:"اذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ، فَانْظُرْ هَلْ تَجِدُ شَيْئًا؟ "، فَذَهَبَ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لَا وَاللهِ، مَا وَجَدْتُ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"انْظُرْ، وَلَوْ خَاتِمًا مِنْ حَدِيدٍ"، فَذَهَبَ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَا خَاتِمًا مِنْ حَدِيدٍ، وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي - قَالَ سَهْلٌ: مَا لَهُ رِدَاءٌ - فَلَهَا نِصْفُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ؟ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ"، فَجَلَسَ الرَّجُلُ، حَتَّى إِذَا طَالَ مَجْلِسُهُ قَامَ، فَرَآهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُوَلِّيًا، فَأَمَرَ بِهِ، فَدُعِيَ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ:"مَاذَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ؟ "، قَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا، عَدَّدَهَا، فَقَالَ:"تَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ؟ "، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "اذْهَبْ، فَقَدْ مُلِّكْتَهَا
(2)
بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ". هَذَا حَدِيثُ ابْنِ أَبِي حَازِمٍ، وَحَدِيثُ يَعْقُوبَ يُقَارِبُهُ
(3)
فِي اللَّفْظِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّقَفِيُّ) أبو رجاء الْبَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240) عن (90) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
2 -
(يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ) المدنيّ، نزيل الإسكندريّة، ثقةٌ [8](ت 181)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 35/ 245.
3 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ) سلمة بن دينار المدنيّ، صدوقٌ فقيهٌ [8](ت 184)(ع) تقدم في "الإيمان" 45/ 290.
4 -
(أَبُو حَازِمٍ) سلمة بن دينار الأعرج التمّار المدنيّ القاصّ، مولى الأسود بن سفيان، ثقةٌ عابدٌ [5](ت 140) أو قبلها، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.
5 -
(سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ) هو: سهل بن سعد بن مالك بن خالد الأنصاريّ الخزرجيّ الساعديّ، أبو العبّاس الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (88) وقيل: بعدها، وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.
(1)
وفي نسخة: "فهل معك من شيء؟ ".
(2)
وفي نسخة: "فقد مَلَّكتُكها".
(3)
وفي نسخة: "مقاربه".
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (226) من رباعيات الكتاب.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير يعقوب، فما أخرج له ابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير قتيبة، فبغلانيّ.
4 -
(ومنها): أن صحابيّه ابن صحابيّ، ومن المعمّرين، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي حَازِمٍ) سلمة بن دينار التمّار الأعرج المدنيّ القاصّ رحمه الله.
[تنبيه]: قال في "الفتح": هذا الحديث مداره على أبي حازم، وهو من صغار التابعين، حدّث به كبار الأئمّة عنه، مثل مالك، وروايته عند البخاريّ، وأبي داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وحمّادُ بنُ زيد، وروايته عند الشيخين، وفضيلُ بن سليمان، ومحمدُ بن مُطَرّف أبو غسّان، وروايتهما عند البخاريّ، ويعقوب بن عبد الرحمن الإسكندرانيّ، وعبد العزيز بن أبي حازم، وروايتهما عند البخاريّ أيضًا، ورواية عبد العزيز أخرجها مسلم أيضًا، وعبدُ العزيز بن محمد الدراورديّ، وزائدةُ بن قُدامة، وروايتهما عند مسلم، ومعمر، وروايته عند الطبرانيّ، وعبد الملك بن جريج، وروايته عند أبي الشيخ في "كتاب النكاح"، وقد رَوَى طرفًا منه سعيدُ بن المسيّب، عن سهل بن سعد، أخرجه الطبرانيّ.
وجاءت القصّة أيضًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عنه عند أبي داود باختصار، والنسائيّ مطوّلةً، وابن مسعود رضي الله عنه عند الدارقطنيّ، ومن حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أبي عمر ابن حيويه في "فوائده"، وضُميرة جدّ حسين بن عبد الله عند الطبرانيّ.
وجاءت مختصرة من حديث أنس رضي الله عنه، وهي عند البخاريّ، والنسائيّ،
وابن ماجه، ومن حديث أبي أمامة رضي الله عنه عند تمّام في "فوائده"، ومن حديث جابر، وابن عباس رضي الله عنهم عند أبي الشيخ في "كتاب النكاح".
قال الحافظ رحمه الله: وسأذكر ما في هذه الروايات من فائدة زائدة، إن شاء الله تعالى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: سأقتدي أنا بالحافظ رحمه الله في ذكر تلك الفوائد في هذا الشرح، إن شاء الله تعالى.
(عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ) رضي الله عنهما، وفي رواية ابن جريج:"حدثني أبو حازم، أن سهل بن سعد أخبره. . ."(قَالَ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ) قال الحافظ رحمه الله: هذه المرأة لم أقف على اسمها، ووقع في "الأحكام لابن القطاع" أنها خولة بنت حكيم، أو أم شريك، وهذا نقل من اسم الواهبة الوارد في قوله تعالى:{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50]. انتهى.
(إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية البخاريّ من رواية سفيان بن عيينة: "إني لفي القوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قامت امرأة"، قال في "الفتح": وفي رواية فضيل بن سليمان: "كنا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم جلوسًا، فجاءته امرأةٌ"، وفي رواية هشام بن سعد:"بينما نحن عند النبيّ صلى الله عليه وسلم أتت إليه امرأة".
قال الحافظ: وكذا في معظم الروايات "أن امرأة جاءت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم"، ويمكن ردّ رواية سفيان إليها بان يكون معنى قوله:"قامت" وقفت، والمراد أنها جاءت إلى أن وقفت عندهم، لا أنها كانت جالسةً في المجلس، فقامت، وفي رواية سفيان الثوريّ عند الإسماعيليّ:"جاءت امرأة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو في المسجد"، فأفاد تعيين المكان الذي وقعت فيه القصّة. انتهى
(2)
.
(فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ جِئْتُ أَهَبُ لَكَ نَفْسِي) جملة "أهب" حاليّة، أي حال كوني واهبة نفسي لك، ووقع في بعض النسخ بلفظ:"جئت لأهب لك نفسي"، وفي رواية البخاريّ:"فقالت: يا رسول الله إنها قد وهبت نفسها لك"، على طريق الالتفات، وفي رواية حماد بن زيد:"إنها قد وهبت نفسها لله ولرسوله"، وفي رواية يعقوب، والثوريّ: "يا رسول الله جئت أهب نفسي
(1)
"الفتح" 11/ 478 - 479.
(2)
"الفتح" 11/ 479.
لك"، وفي رواية فضيل بن سليمان: "فجاءته امرأة تَعْرِضُ نفسها عليه"، وفي كلّ هذه الروايات حذف مضاف، تقديره: أمرَ نفسي، أو نحوه، وإلا فالحقيقة غير مرادة؛ لأن رقبة الحرّ لا تملك، فكأنها قالت: أتزوّجك من غير عوض.
زاد في رواية البخاريّ والنسائيّ: "فَرَ فيها رَأْيَك"، قال في "الفتح": كذا للأكثر براء واحدة، مفتوحة، بعدَ فاءِ التعقيب، وهي فعل أمر من الرأي، ولبعضهم بهمزة ساكنة، بعد الراء، وكلّ صواب، ووقع بإثبات الهمزة في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أيضًا. انتهى.
(فَنَظَرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية البخاريّ: "فقالت: يا رسول الله، إنها قد وهبت نفسها له، فَرَ فيها رأيك، فلم يجبها شيئًا، ثم قامت، فقالت: يا رسول الله، إنها قد وهبت نفسها لك، فَرَ فيها رأيك، فلم يجبها شيئًا، ثم قامت الثالثة، فقالت: إنها قد وهبت نفسها لك، فَرَ فيها رأيك. . .".
(فَصَعَّدَ النَّظَرَ فِيهَا، وَصَوَّبَهُ) هو بتشديد العين من صعّد، والواو من صوّب، والمراد أنه نظر أعلاها وأسفلها، والتشديد للمبالغة في التأمّل، وإما للتكرير، وبالثاني جزم القرطبيّ في "المفهم"، قال: أي نظر أعلاها وأسفلها مرارًا، ووقع في رواية فضيل بن سليمان:"فخفّض فيها البصر، ورفّعه"، وهما بالتشديد أيضًا.
(ثُمَّ) بعد أن صعّد نظره، وصوّبه، فلم تُعجبه (طَأْطَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ) أي خفضه؛ لعدم ما يدعو للنظر إليها (فَلَمَّا رَأَت الْمَرْأَةُ) أي بعد أن تكرّر طلبها، كما تقدّم من رواية البخاريّ حيث قامت وجلست ثلاث مرّات، وفي رواية معمر، والثوريّ معًا عند الطبرانيّ:"فصمت، ثم عرضت نفسها عليه، فصمت، فلقد رأيتها قائمة مليًّا، تَعْرِض نفسها عليه، وهو صامت"، وفي رواية مالك:"فقامت طويلًا"، ومثله للثوريّ عنه، وفي رواية مبشّر:"فقامت حتى رثينا لها من طول القيام"، ووقع في رواية حماد بن زيد:"أنها وهبت نفسها لله ولرسوله، فقال: ما لي في النساء حاجة".
ويُجمع بينها وبين ما تقدّم أنه قال ذلك في آخر الحال، فكأنه صمت أولًا لتفهم أنه لم يُرِدْها، فلما أعادت الطلب أفصح لها بالواقع.
ووقع في حديث أبي هريرة عند النسائيّ: "جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فعرضت نفسها عليه، فقال لها: اجلسي، فجلست ساعة، ثم قامت، فقال: اجلسي بارك الله فيك، أما نحن فلا حاجة لنا فيك".
فيؤخذ منه وفور أدب المرأة مع شدّة رغبتها؛ لأنها لم تبالغ في الإلحاح في الطلب، وفهمت من السكوت عدم الرغبة، لكنها لمّا لم تيأس من الردّ جلست تنتظر الفرج، وسكوته صلى الله عليه وسلم إما حياءً من مواجهتها بالردّ، وكان شديد الحياء جدًّا، فقد ثبت في صفته صلى الله عليه وسلم أنه كان أشدّ حياء من العذراء في خدرها، وإما انتظارًا للوحي، وإما تفكّرًا في جواب يناسب المقام
(1)
.
(أَنَّهُ) صلى الله عليه وسلم (لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا) يعني أنها لم تُعجبه، وليست له فيها رغبة (جَلَسَتْ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ) قال الحافظ: لم أقف على اسمه، لكن وقع في رواية معمر، والثوريّ، عند الطبرانيّ:"فقام رجلٌ أحسبه من الأنصار"، وفي رواية زائدة عنده:"فقال رجلٌ من الأنصار"، ووقع في حديث ابن مسعود:"فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يَنكِح هذه؟ فقام رجل".
(فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا) قال في "الفتح": ولا يعارض هذا قوله في حديث حماد بن زيد: "لا حاجة لي"؛ لجواز أن تتجدّد الرغبة فيها بعد أن لم تكن. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ويَحْتَمِل أن يكون ذلك الرجل لم يسمع قوله صلى الله عليه وسلم: "لا حاجة لي"، والله تعالى أعلم.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ؟ ") وفي نسخة: "فهل معك من شيء؟ "، وفي رواية:"هل عندك شيء تُصدقها؟ "، وفي رواية ابن مسعود:"ألك مالٌ؟ ".
(فَقَالَ) الرجل (لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ) وفي رواية: "قال: ما أجد شيئًا"، زاد في رواية هشام بن سعد:"قال: فلا بدّ لها من شيء"، وفي رواية الثوريّ عند الإسماعيليّ:"عندك شيء؟، قال: لا، قال: إنه لا يصلح".
ووقع في حديث أبي هريرة عند النسائيّ بعد قوله: "لا حاجة لي":
(1)
"الفتح" 11/ 480.
"ولكن تُمَلِّكيني أمرك، قالت: نعم، فنظر في وجوه القوم، فدعا رجلًا، فقال: إني أريد أن أزوّجكِ هذا، إن رضيتِ، قالت: ما رضيتَ لي، فقد رضيتُ"، وهذا إن كانت القصّة متّحدةً يَحْتَمِل أن يكون وقع نظره في وجوه القوم بعد أن سأله الرجل أن يزوّجها له، فاسترضاها أوّلًا، ثم تكلّم معه في الصداق، وإن كانت القصّة متعدّدة، فلا إشكال.
ووقع في حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما في "فوائد أبي عمر ابن حيويه" أن رجلًا قال: إن هذه امرأةٌ رضيت بي، فزوّجها مني، قال: فما مهرها؟، قال: ما عندي شيء، قال: أمهرها ما قلّ أو كثر، قال: والذي بعثك بالحقّ ما أملك شيئًا"، وهذه الأظهرُ فيها التعدّد، قاله في "الفتح"
(1)
.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم للرجل ("اذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ، فَانْظُرْ هَلْ تَجِدُ شَيْئًا؟ ") يكون صداقًا لها (فَذَهَبَ) الرجل (ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لَا وَاللهِ) أي لم أجد شيئًا، فيكون قوله:(مَا وَجَدْتُ شَيْئًا) مؤكّدًا لما قبله (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "انْظُرْ) أي ارجع إلى بيتك، فانظر فيه (وَلَوْ خَاتِمًا مِنْ حَدِيدٍ")"خاتمًا" منصوب بـ "كان" المحذوفة مع اسمها، أي ولو كان المنظور خاتمًا، وحذف "كان" مع اسمها بعد "لو"، و"إن" الشرطيّة كثيرٌ، كما قال في "الخلاصة":
وَيَحْذِفُونَهَا وَيُبْقُونَ الْخَبَرْ
…
وَبَعْدَ "إِنْ" وَ"لَوْ" كَثِيرًا ذَا اشْتَهَرْ
ووقع في نسخة شرح النوويّ بلفظ: "ولو خاتمٌ من حديد" برفع "خاتم"، قال النوويّ: هكذا هو في النسخ: "خاتمٌ من حديد"، وفي بعض النسخ:"خاتمًا"، وهذا واضح، والأول صحيح أيضًا، أي ولو حضر خاتم من حديد. انتهى
(2)
.
و"لو" هنا تقليليّة، قال عياض: ووَهِمَ من زعم خلاف ذلك، وقد أشار إلى ذلك السيوطيّ رحمه الله في "الكوكب الساطع نظم جمع الجوامع"، حيث قال عند ذكر معاني "لو":
وَقِلَّةٍ كَخَبَرِ الْمُصدَّقِ
…
تَصَدَّقُوا وَلَوْ بِظِلْفٍ مُحْرَقِ
ووقع في حديث أبي هريرة رضي الله عنه "قال: قم إلى النساء، فقام إليهنّ، فلم
(1)
"الفتح" 11/ 481.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 213.
يجد عندهنّ شيئًا"، والمراد بالنساء أهل الرجل، كما دلّت عليه رواية المصنّف بلفظ: "اذهب إلى أهلك".
(فَذَهَبَ) الرجل إلى أهله مرّة ثالثة (ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لَا وَاللهِ) فيه جواز الحلف من غير استحلاف، ولا ضرورة، قال النوويّ رحمه الله: لكن قال أصحابنا: يكره من غير حاجة، وهذا كان محتاجًا، ليؤكّد قوله. انتهى
(1)
. (يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَا خَاتِمًا مِنْ حَدِيدٍ، وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي)"الإزار" يذكّر ويؤنّث، وقد جاء هنا مذكّرًا (قَالَ سَهْلُ) بن سعد رضي الله عنه الراوي (مَا) نافية (لَهُ رِدَاءٌ) أي ليس له مع إزاره رداء، حتى يبقى عليه لبس يلبسه بعد دفع إزاره لها (فَلَهَا نِصْفُهُ) أي صداقًا لها قال في "الفتح": ووقع للقرطبيّ في هذه الرواية وَهَمٌ، فإنه ظنّ أن قوله:"فلها نصفه" من كلام سهل بن سعد، فشرحه بما نصّه:"وقول سهل: ما له رداء، فلها نصفه" ظاهره لو كان له رداء لشركها النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه، وهذا بعيد إذ ليس في كلام النبيّ، ولا الرجل ما يدلّ على شيء من ذلك، قال: ويمكن أن يقال: إن مراد سهل أنه لو كان عليه رداء مضاف إلى الإزار لكان للمرأة نصف ما عليه الذي هو إما الرداء، وإما الإزار لتعليله المنع بقوله:"إن لبسته لم يكن عليك منه شيء"، فكأنه قال: لو كان عليك ثوب تنفرد أنت بلبسه، وثوب آخر تأخذه هي تنفرد بلبسه لكان لها أخذه، فأما إذا لم يكن ذلك فلا. انتهى.
وقد أخذ كلامه هذا بعض المتأخّرين، فذكره ملخّصًا، وهو كلام صحيحٌ، لكنه مبنيّ على الفهم الذي دخله الوهم، والذي قال:"فلها نصفه" هو الرجل صاحب القصّة، وكلام سهل إنما هو قوله:"ما له رداء فقط"، وهي جملة معترضة، وتقدير الكلام: ولكن هذا إزاري، فلها نصفه، وقد جاء ذلك صريحًا في رواية أبي غسّان محمد بن مطرّف، ولفظه:"ولكن هذا إزاري، ولها نصفه، قال سهلٌ: وما له رداء".
ووقع في رواية الثوريّ عند الإسماعيليّ: "فقام رجلٌ، عليه إزار، وليس عليه رداء".
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا) استفهاميّة على سبيل الإنكار، أي أيَّ شيء
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 213 - 214.
(تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ؟) هل تعطيها، وتجلس بلا إزار، وهذا لا يجوز، أو تمنعها منه، فلم يحصل الغرض؟، وإلى هذا أشار إليه بقوله:(إِنْ لَبِسْتَهُ) أنت (لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ لَبِسَتْهُ) هي (لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ") قال في "الفتح": ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "إن لبسته إلخ" أي إن لبسته كاملًا، وإلا فمن المعلوم من ضيق حالهم، وقلّة الثياب عندهم أنها لو لبسته بعد أن تشقّه لم يسترها، ويَحْتَمِل أن يكون المراد بالنفي نفي الكمال؛ لأن العرب قد تنفي جملة الشيء إذا انتفى كماله، والمعنى: لو شققته بينكما نصفين لم يحصل كمال سترك بالنصف إذا لبسته، ولا هي.
وفي رواية معمر عند الطبرانيّ: "ما وجدت والله شيئًا غير ثوبي هذا أشققه بيني وبينها، قال: ما في ثوبك فضلٌ عنك"، وفي رواية فضيل بن سليمان:"ولكني أشقّ بردتي هذه، فأعطيها النصف، وآخذ النصف"، وفي رواية الدراورديّ:"قال: ما أملك إلا إزاري هذا، قال: أرأيت إن لبسته، فأيّ شيء تلبس؟ "، وفي رواية مبشّر:"هذه الشملة التي عليّ ليس عندي غيرها"، وفي رواية هشام بن سعد:"ما عليه إلا ثوبٌ واحدٌ عاقدٌ طرفيه على عنقه"، وفي حديث ابن عبّاس وجابر:"والله ما لي ثوبٌ إلا هذا الذي عليّ"، وكلّ هذا مما يرجّح الاحتمال الأول، والله أعلم. انتهى
(1)
.
ووقع في رواية حماد بن زيد: "فقال: أعطها ثوبًا، قال: لا أجد، قال: أعطها ولو خاتمًا من حديد، فاعتلّ له". ومعنى قوله: "فاعتلّ له" أي اعتذر بعدم وجدانه كما دلّت عليه رواية غيره.
(فَجَلَسَ الرَّجُلُ، حَتَّى إِذَا طَالَ مَجْلِسُهُ قَامَ، فَرَآهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُوَلِّيًا، فَأَمَرَ بِهِ) بالبناء للفاعل، أي أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن يُدعَى له (فَدُعِيَ) بالبناء للمفعول، أي طُلب الرجل أن يحضر عنده صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية الثوريّ عند الإسماعيليّ: "فقام طويلًا، ثمّ ولّى، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: عليّ الرجل".
(فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: "مَاذَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ؟ ") هذا يَحْتَمِل أن يكون بعد قوله -
(1)
"الفتح" 11/ 482 - 483.
كما في رواية مالك: "هل معك من القرآن شيء"، فاستفهمه حينئذ عن كمّيته، ووقع الأمران في رواية معمر، قال:"فهل تقرأ من القرآن شيئًا؟، قال: نعم، قال: ماذا؟، قال: سورة كذا"، وعُرف بهذا المراد بالمعيّة، وأنّ معناها الحفظ عن ظهر قلبه، ووقع في رواية الثوريّ عند الإسماعيليّ:"قال: معي سورة كذا، ومعي سورة كذا، قال: عن ظهر قلبك؟، قال: نعم". قاله في "الفتح".
(قَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا، عَدَّدَهَا) وفي رواية مالك: "قال: نعم سورة كذا، وسورة كذا، لسور سمّاها"، وفي رواية سعيد بن المسيّب، عن سهل:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم زوّج رجلًا امرأةً على سورتين من القرآن، يعلّمها إيّاهما".
ووقع في حديث أبي هريرة: "قال: ما تحفظ من القرآن؟، قال: سورة البقرة، أو التي تليها". قال الحافظ: كذا في كتابي أبي داود، والنسائيّ بلفظ:"أو"، وزعم بعض من لقيناه أنه عند أبي داود بالواو، وعند النسائيّ بلفظ "أو".
ووقع في حديث ابن مسعود: "قال: نعم سورة البقرة، وسور المفصّل".
وفي حديث ضُميرة: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم زوّج رجلًا على سورة البقرة، لم يكن عنده شيء".
وفي حديث أبي أمامة رضي الله عنه زوّج النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلًا من أصحابه امرأة على سورة من المفصّل، جعلها مهرها، وأدخلها عليه، وقال: علّمها".
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور: "فعَلِّمْهَا عشرين آية، وهي امرأتك".
وفي حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما: "أزوّجها منك على أن تُعلّمها أربع - أو خمس - سور من كتاب الله".
وفي مرسل أبي النعمان الأزديّ عند سعيد بن منصور: "زوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة على سورة من القرآن".
وفي حديث ابن عباس، وجابر رضي الله عنهم:"هل تقرأ من القرآن شيئًا؟، قال: نعم، {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)}، قال: أصدقها إياها".
قال الحافظ رحمه الله: ويُجمع بين هذه الألفاظ بأن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ بعضهم، أو أن القصص متعدّدة، كذا في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن الحمل على التعدد هو الأولى في الجمع؛ إذ الاحتمال الأخير فيه تكلّف وتعسّف، كما لا يخفى، والله تعالى أعلم.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم للرجل ("تَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ؟ ") إنما سأله النبيّ صلى الله عليه وسلم عن قراءته عن ظهر القلب؛ ليتمكّن من تعليمها بذلك؛ لأنه إذا لم يَحفظها عن ظهر القلب ربما لا يكتب، ولا يجد مصحفًا يُعلّمها منه، فيضيع حقّها، والله تعالى أعلم.
(قَالَ) الرجل (نَعَمْ) أقرؤهنّ عن ظهر قلبي (قَالَ: "اذْهَبْ) أي اذهب بها إلى بيتك (فَقَدْ مُلِّكْتَهَا)
(2)
بالبناء للمفعول، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في معظم النسخ، وكذا نقله القاضي عن رواية الأكثرين:"مُلِّكْتَهَا"، بضم الميم، وكسر اللام المشددة، على ما لم يُسَمَّ فاعلُهُ، وفي بعض النسخ:"مَلَّكْتُكَهَا"، بكافين، وكذا رواه البخاريّ، وفي الرواية الأخرى:"زوجتكها"، قال القاضي: قال الدارقطنيّ: رواية مَن رَوَى "مُلِّكتها" وَهَمٌ، قال: والصواب رواية مَن رَوَى: "زوجتكها"، قال: وهم أكثر، وأحفظ
(3)
.
قال النوويّ: ويَحْتَمِل صحة اللفظين، ويكون جرى لفظ التزويج أوّلًا، فَمَلَكَها، ثم قال له: اذهب، فقد مَلَكْتها بالتزويج السابق، والله أعلم. انتهى
(4)
.
(بِمَا مَعَكَ) متعلّق بـ "مُلِّكتها"، وقوله:(مِنَ الْقُرْآنِ) بيان لـ "ما"، أي بتعليم ما معك من السور من القرآن، وفي رواية زائدة التالية:"انطلق، فقد زوّجتكها، فعلّمها من القرآن"، وفي رواية ابن عيينة عند البخاريّ:"اذهب، فقد أنكحتكها بما معك من القرآن"، وفي رواية مالك عند النسائيّ: "قد
(1)
"الفتح" 11/ 483 - 484.
(2)
وفي نسخة: "فقد مَلَّكتُكها".
(3)
"إكمال المعلم" 4/ 583.
(4)
"شرح النوويّ" 9/ 214.
زوّجتكها على ما معك من القرآن"، وفي رواية الثوريّ، ومعمر عند الطبرانيّ: "قد ملّكتكها بما معك من القرآن"، وفي رواية معمر عند أحمد: "قد أملكتكها"، والباقي مثله، وقال في أخرى: "فرأيته يَمْضِي، وهي تتبعه"، وفي رواية أبي غسّان: "أمكنّاكها"، والباقي مثله، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه: "قد أنكحتكها على أن تقرئها، وتعلّمها، وإذا رزقك الله عوّضتها، فتزوّجها الرجل على ذلك
(1)
". أفاده في "الفتح"
(2)
.
وهذا الحديث صريح في جواز كون الصداق تعليم القرآن، وسيأتي اختلاف العلماء فيه، وترجيح الراجح بدليله في المسألة العاشرة - إن شاء الله تعالى -.
وقوله: (هَذَا حَدِيثُ ابْنِ أَبِي حَازِمٍ) يعني أن السياق المتقدّم هو لفظ عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه (وَحَدِيثُ يَعْقُوبَ) بن عبد الرحمن القاريّ، عن أبي حازم (يُقَارِبُهُ) أي يقارب حديث عبد العزيز، وفي بعض النسخ:"مقاربه"(فِي اللَّفْظِ). ورواية يعقوب ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، رواها عن شيخ المصنّف، فقال:
(5030)
- حدّثنا قتيبة بن سعيد، حدّثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، أن امرأة جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله جئت لأهب لك نفسي، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصَعَّد النظر إليها، وصوَّبه، ثم طأطأ رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئًا جلست، فقام رجل من أصحابه، فقال: يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة فزوّجنيها، فقال:"هل عندك من شيء؟ "، فقال: لا والله يا رسول الله، قال:"اذهب إلى أهلك، فانظر هل تجد شيئًا؟ "، فذهب، ثم رجع، فقال: لا والله يا رسول الله، ما وجدت شيئًا، قال: "انظر ولو خاتمًا من حديد، فذهب، ثم رجع، فقال: لا والله يا رسول الله، ولا خاتمًا من حديد، ولكن هذا إزاري - قال سهل: ما له رداء - فلها نصفه،
(1)
هذا الحديث لا يصحّ كما سيأتي، فتنبّه.
(2)
"الفتح" 11/ 484.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تصنع بإزارك؟ إن لبسته لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسته لم يكن عليك شيء"، فجلس الرجل حتى طال مجلسه، ثم قام، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مُوَلِّيًا، فأمر به، فدُعِي، فلما جاء قال:"ماذا معك من القرآن؟ "، قال: معي سورة كذا، وسورة كذا، وسورة كذا، عدّها، قال:"أتقرؤهنّ عن ظهر قلبك؟ "، قال: نعم، قال:"اذهب، فقد مَلَّكْتُكَها بما معك من القرآن". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سهل بن سعد رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 3487 و 3488](1425)، و (البخاريّ) في "الوكالة"(2311) و"فضائل القرآن"(5029 و 5030) و"النكاح"(5087 و 5121 و 5126 و 5132 و 5141 و 5149) و"اللباس"(5871) و"التوحيد"(7417)، و (أبو داود) في "النكاح"(2111)، و (الترمذيّ) في "النكاح"(1114)، و (النسائيّ) في "النكاح"(6/ 54 و 91 و 113 و 123) و"الكبرى"(3/ 312 و 320 و 5/ 23)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1889)، و (مالك) في "الموطّإ"(1118)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 247)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(7592)، و (الحميديّ) في "مسنده"(928)، و (أحمد) في "مسنده"(22292 و 22320 و 22343)، و (الدارميّ) في "النكاح"(2201)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4093)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 16 - 17)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(716)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 532)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(6/ 5750 و 5781 و 5907 و 5915 و 5927 و 5934 و 5938)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 89)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(3/ 421)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 144 و 236 و 242) و"الصغرى"(6/ 133) و"المعرفة"(5/ 266 و 372)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2302)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أن النكاح لا بدّ فيه من الصداق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "هل عندك من شيء تُصْدِقها؟ "، وقد أجمعوا على أنه لا يجوز لأحد أن يطأ فرجًا وُهِب له، دون الرقبة بغير صداق.
2 -
(ومنها): أن الأولى أن يُذْكَر الصداق في العقد؛ لأنه أقطع للنزاع، وأنفع للمرأة، فلو عُقد بغير ذكر صداق صحّ، ووجب لها مهر المثل بالدخول على الصحيح، وقيل: بالعقد، ووجه كونه أنفع لها أنه يثبت لها نصف المسمّى أن لو طُلّقت قبل الدخول.
3 -
(ومنها): استحباب تعجيل تسليم المهر.
4 -
(ومنها): أنه استُدِلّ به على جواز اتخاذ الخاتم من الحديد.
5 -
(ومنها): ما قيل: إنه يدلّ على وجوب تعجيل الصداق قبل الدخول؛ إذ لو ساغ تأخيره لسأله هل يقدر على تحصيل ما يُمهرها بعد أن يدخل عليها، ويتقرّر ذلك في ذمّته. ويمكن الانفصال عن ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم أشار بالأَولى، والحامل على هذا التأويل ثبوت جواز نكاح المفوّضة، وثبوت جواز النكاح على مسمّى في الذّمّة، والله تعالى أعلم.
6 -
(ومنها): أن إصداق ما يُتموّل يُخرجه عن يد مالكه، حتى إن من أصدق جارية مثلًا حَرُم عليه وطؤها، وكذا استخدامها بغير إذن من أصدقها، وأن صحّة المبيع تتوقّف على صحّة تسليمه، فلا يصحّ ما تعذّر إما حسًّا، كالطير في الهواء، وإما شرعًا كالمرهون، وكذا الذي لو زال إزاره لانكشفت عورته، كذا قال عياض، قال الحافظ: وفيه نظر.
7 -
(منها): بيان ما أكرم الله عز وجل نبيّه صلى الله عليه وسلم حيث أباح له أن يتزوّج ما شاء من النساء، ومن ذلك أن تهب له المرأة نفسها، فيقبلها، كما قال الله تعالى:{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} الآية [الأحزاب: 50]، وعلى هذا بوّب النسائيّ، وأورد الحديث فيه.
8 -
(ومنها): أن الهبة في النكاح خاصّه بالنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لقول الرجل: "زوّجنيها"، ولم يقل: هبها لي، ولقولها هي:"وهبت نفسي لك"، وسكت النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، فدلّ على جوازه له خاصّةً، مع قوله تعالى:{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50].
9 -
(ومنها): جواز انعقاد نكاحه صلى الله عليه وسلم بلفظ الهبة، دون غيره من الأمّة، وهو أحد الوجهين للشافعيّة، والآخر: لا بدّ من لفظ النكاح، أو التزويج، وسيأتي البحث فيه مستوفًى في المسألة الثالثة عشرة - إن شاء الله تعالى -.
10 -
(ومنها): أن الهبة لا تتمّ إلا بالقبول؛ لأنها لما قالت: "وهبت نفسي لك"، ولم يقل: قبِلتُ لم يتمّ مقصودها، ولو قبلها لصارت زوجًا له، ولذلك لم يُنكر على القائل:"زوّجنيها".
11 -
(ومنها): جواز الحلف بغير استحلاف للتأكيد، لكنه يُكره لغير ضرورة.
12 -
(ومنها): أن من رَغِب في تزويج من هو أعلى منه قدرًا لا لوم عليه؛ لأنه بصدد أن يجاب، إلا إن كان مما تقطع العادة بردّه، كالسوقيّ يخطب من السلطان بنته، أو أخته، وأن من رغبت في تزويج من هو أعلى منها لا عار عليها أصلًا، ولا سيّما إن كان هناك غرض صحيحٌ، أو قصد صالح، إما لفضل دينيّ في المخطوب، أو لِهَوًى فيه يخشى من السكوت عنه الوقوع في محذور.
13 -
(ومنها): أنه استدلّ به على صحة قول من جعل عتق الأمة عوضًا عن بضعها، كذا ذكره الخطابيّ، ولفظه: أن من أعتق أمة، كان له أن يتزوّجها، ويجعل عتقها عوضًا عن بضعها، قال الحافظ: وفي أخذه من هذا الحديث بُعد.
14 -
(ومنها): أن سكوت من عُقد عليها، وهي ساكتة لازم إذا لم يَمنع من كلامها خوفٌ، أو حياء، أو غيرها.
15 -
(ومنها): أنه لا يشترط في صحة العقد تقدّم الْخُطبة، إذ لم يقع
في شيء من طرق هذا الحديث وقوع حمد، ولا تشهّد، ولا غيرهما من أركان الخطبة، وخالف في ذلك الظاهريّة، فجعلوها واجبةً، ووافقهم من الشافعيّة أبو عوانة، فترجم في "صحيحه":"باب وجوب الخطبة عند العقد".
16 -
(ومنها): أن الكفاءة في الحرّيّة، وفي الدِّين، وفي النسب، لا في المال؛ لأن الرجل لا شيء له، وقد رضيت به، كذا قال ابن بطّال. قال الحافظ: وما أدري من أين له أن المرأة كانت ذات مال. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الصحيح أنه لا يشترط اعتبار النسب في الكفاءة، وإنما المعتبر هو الدِّين، وقد استوفيت تحقيقه في غير هذا المحلّ.
17 -
(ومنها): أن طالب الحاجة لا ينبغي له أن يُلحّ في طلبها، بل يطلبها برفق، وتأنّ، ويدخل في ذلك طالب الدنيا والدين، من مستفتٍ، وسائلٍ، وباحثٍ عن علم.
18 -
(ومنها): أن الفقير يجوز له أن يتزوّج مَن علمت بحاله، ورضيت به، إذا كان واجدًا للمهر، وكان عاجزًا عن غيره من الحقوق؛ لأن المراجعة وقعت في وجدان المهر وفقده، لا في قدر زائد. قاله الباجيّ.
وتُعُقّب باحتمال أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم اطَّلَع من حال الرجل على أنه يقدر على اكتساب قوته، وقوت امرأته، ولا سيما مع ما كان عليه أهل ذلك العصر من قلّة الشيء، والقناعة باليسير، هكذا ذكر في "الفتح".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما قاله الباجيّ هو ظاهر الحديث، فلا وجه للتعقّب، والله تعالى أعلم.
19 -
(ومنها): ما قيل: إنه يدلّ على صحّة النكاح بغير شهود.
ورُدّ بأن ذلك وقع بحضرة جماعة من الصحابة، كما تقدم في أول الحديث، وقال ابن حبيب: هو منسوخ بحديث: "لا نكاح إلا بوليّ، وشاهدي عدل"، وتُعُقّب.
20 -
(ومنها): ما قيل: إنه يدلّ على صحة النكاح بلا وليّ.
وتُعقّب باحتمال أنه لم يكن لها وليّ خاصّ، والإمام وليّ من لا وليّ له.
21 -
(ومنها): نظر الإمام في مصالح رعيته، وإرشادهم إلى ما يُصلحهم.
22 -
(ومنها): جواز انتفاع الرجل بما أمهرها به، وبما يشتريه بصداقها؛ لقوله:"إن لبستَهُ" مع أن النصف لها، ولم يمنعه مع ذلك من الاستمتاع بنصفه الذي وجب لها، بل جوّز له لبسه كله، وإنما وقع المنع؛ لكونه لم يكن له ثوب آخر. قاله أبو محمد بن أبي زيد.
وتعقّبه عياضٌ وغيره بأن السياق يرشد إلى أن المراد تعذّر الاكتفاء بنصف الإزار، لا في إباحة لبسه كلّه، وما المانع أن يكون المراد أن كلًّا منهما يلبسه مهايأةً؛ لثبوت حقّه فيه، لكن لمّا لم يكن للرجل ما يستتر به إذا جاءت نوبتها في لبسه قال له:"إن لبسَتْهُ جلستَ، ولا إزار لك".
23 -
(ومنها): مشروعية خِطبة المرء لنفسه.
24 -
(ومنها): أنه لا يجب إعفاف المسلم بالنكاح، كوجوب إطعامه الطعامَ، والشراب.
25 -
(ومنها): جواز نكاح المرأة دون أن تُسأل هل لها وليّ خاصّ، أو لا؟ ودون أن تُسأل هل هي في عصمة رجل، أو في عدّته؟ قال الخطابيّ: ذهب إلى ذلك جماعة؛ حملًا على ظاهر الحال، ولكن الحكّام يحتاطون في ذلك، ويسألونها.
قال الحافظ: وفي أخذ هذا من هذه القصّة نظر؛ لاحتمال أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم اطَّلَع على جليّة أمرها، أو أخبره بذلك من حضر مجلسه ممن يعرفها، ومع هذا الاحتمال لا ينتهض الاستدلال به، وقد نصّ الشافعيّ على أنه ليس للحاكم أن يزوّج امرأةً حتى يَشهد عدلان أنها ليس لها وليّ خاصّ، ولا أنها في عصمة رجل، ولا في عدّته، لكن اختلف أصحابه: هل هذا على سبيل الاشتراط، أو الاحتياط؟ والثاني المصحَّح عندهم، قاله في "الفتح"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): أن للإمام أن يزوّج من ليس لها وليّ خاصّ لمن يراه كفؤًا لها، ولكن لا بدّ من رضاها بذلك.
وقال الداوديّ: ليس في الخبر أنه استأذنها، ولا أنها وكّلته، وإنما هو من قوله تعالى:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} الآية [الأحزاب: 6]. يعني فيكون خاصًّا به صلى الله عليه وسلم أنه يزوّج من شاء من النساء بغير استئذانها لمن شاء، وبنحوه قال ابن أبي زيد.
وأجاب ابن بطّال بأنها لما قالت له: "وهبت نفسي لك" كان كالإذن منها في تزويجها لمن أراد؛ لأنها لا تُملَك حقيقة، فيصير المعنى: جعلت لكَ أن تتصرّف في تزويجي. انتهى.
قال الحافظ: ولو راجعا حديث أبي هريرة لما احتاجا إلى هذا التكلّف، فإن فيه كما قدّمته:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال للمرأة: إني أريد أن أزوّجك هذا إن رضيتِ، فقالت: ما رضيتَ لي، فقد رضيت". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): أن الحديث يدلّ على جواز تأمّل محاسن المرأة لإرادة تزويجها، وإن لم تتقدّم الرغبة في تزويجها، ولا وقعت خِطْبتها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم صَعَّدَ فيها النظر، وصوَّبه، وفي الصيغة ما يدلّ على المبالغة في ذلك، ولم يتقدّم منه رغبةٌ فيها، ولا خِطْبَةٌ، ثم قال:"لا حاجة لي في النساء"، ولو لم يقصد أنه إذا رأى منها ما يُعجبه أنه يَقبَلُها ما كان للمبالغة في تأمّلها فائدة.
ويمكن الانفصال عن ذلك بدعوى الخصوصيّة له؛ لمحلّ العصمة.
قال الحافظ: والذي تحرّر عندنا أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يحرم عليه النظر إلى المؤمنات الأجنبيّات بخلاف غيره.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الحافظ محلّ نظر، فليُتأمّل، والله تعالى أعلم.
قال: وسلك ابن العربيّ في الجواب مسلكًا آخر، فقال: يَحْتَمِل أن ذلك قبل الحجاب، أو بعده، لكنها كانت متلفّفة، وسياق الحديث يُبعد ما قال، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): أنه تجوز الخِطْبة على خطبة مَنْ خَطَبَ إذا لم يقع بينهما ركون، ولا سيّما إذا لاحت مخايل الردّ. قاله أبو الوليد الباجيّ.
وتعقّبه عياض وغيره بأنه لم يتقدّم عليها خِطْبةٌ لأحد، ولا ميلٌ، بل هي أرادت أن يتزوّجها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فعرضت نفسها مجّانًا، مبالغةً منها في تحصيل مقصودها، فلم يَقبَل، ولما قال:"ليس لي حاجة في النساء" عرف الرجل أنه لم يقبلها، فقال:"زوّجنيها"، ثم بالغ في الاحتراز، فقال:"إن لم يكن لك بها حاجة"، وإنما قال ذلك بعد تصريحه بنفس الحاجة؛ لاحتمال أن يبدو له بعد ذلك ما يدعوه إلى إجابتها، فكان ذلك دالًّا على وُفُور فطنة الصحابيّ المذكور، وحسن أدبه.
قال الحافظ: ويَحْتَمِل أن يكون الباجيّ أشار إلى أن الحكم الذي ذكره يُستنبط من هذه القصّة؛ لأن الصحابيّ لو فهم أن للنبيّ صلى الله عليه وسلم فيها رغبةً لم يطلبها، فكذلك من فُهِمَ أنَّ له رغبةً في تزويج امرأة، لا يصلح لغيره أن يُزاحمه فيها حتى يُظهِر عدم رغبته فيها، إما بالتصريح، أو ما في حكمه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): أنه يستفاد منه أنه لا حدّ لأقلّ المهر، قال ابن المنذر: فيه ردّ على من زعم أن أقلّ المهر عشرة دراهم، وكذا من قال: ربع دينار، قال: لأن خاتمًا من حديد لا يُساوي ذلك، وقال المازريّ: تعلّق به من أجاز النكاح بأقلّ من ربع دينار؛ لأنه خرج مخرج التعليل، ولكن مالكٌ قاسه على القطع في السرقة، قال عياض: تفرّد بهذا مالك عن الحجازيين، لكن مستنده الالتفات إلى قوله تعالى:{أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} الآية [النساء: 24]، وبقوله:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} الآية [النساء: 25]، فإنه يدلّ على أن المراد ما له بال من المال، وأقلّه ما استُبيح به قطع
العضو المحترم، قال: وأجازه الكافّة بما تراضى عليه الزوجان، أو من العقد إليه بما فيه منفعة، كالسوط، والنعل، وإن كانت قيمته أقلّ من درهم.
وبه قال يحيى بن سعيد الأنصاريّ، وأبو الزناد، وربيعة، وابن أبي ذئب، وغيرهم من أهل المدينة، غيرَ مالك، ومن تبعه، وابن جريج، ومسلم بن خالد، وغيرهما من أهل مكة، والأوزاعيّ في أهل الشام، والليث في أهل مصر، والثوريّ، وابن أبي ليلى، وغيرهما من العراقيين، غير أبي حنيفة، ومن تبعه، والشافعيّ، وداود، وفقهاء أصحاب الحديث، وابن وهب من المالكيّة.
وقال أبو حنيفة: أقلّه عشرة، وابن شبرمة: خمسة، ومالك: أقلّه ثلاثة، أو ربع دينار؛ بناءً على اختلافهم في مقدار ما يجب به القطع، وقد قال الدراورديّ لمالك لمّا سمعه يذكر هذه المسألة: تعرّقت يا أبا عبد الله، أي سلكت سبيل أهل العراق في قياسهم مقدار الصداق على مقدار نصاب السرقة.
وقال القرطبيّ: استدلّ من قاسه بنصاب السرقة بأنه عضو آدميّ محترم، فلا يُستباح بأقلّ من كذا قياسًا على يد السارق.
وتعقّبه الجمهور بأنه قياسٌ في مقابلة النصّ، فلا يصحّ، وبأن اليد تُقطع، وتَبِين، ولا كذلك الفرج، وبأن القدر المسروق يجب على السارق ردّه مع القطع، ولا كذلك الصداق.
وقد ضعّف جماعةٌ من المالكيّة أيضًا هذا القياس، فقال أبو الحسن اللخميّ: قياس الصداق بنصاب السرقة ليس بالبيّن؛ لأن اليد إنما قُطعت في ربع دينار نكالًا للمعصية، والنكاح مستباحٌ بوجه جائز. ونحوه لأبي عبد الله بن الفخار منهم.
نعم، قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} [النساء: 25] يدلّ على أن صداق الحرّة لا بدّ، وأن يكون ما ينطلق عليه اسم مال له قدرٌ؛ ليحصل الفرق بينه وبين مهر الأمة، وأما قوله تعالى:{أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24]، فإنه يدلّ على اشتراط ما يُسمّى مالًا في الجملة قلّ أو كثر، وقد حدّه بعض
المالكيّة بما تجب فيه الزكاة، وهو أقوى من قياسه على نصاب السرقة، وأقوى من ذلك ردّه إلى المتعارف.
وقال ابن العربيّ: وزن الخاتم من الحديد لا يساوي ربع دينار، وهو مما لا جواب عنه، ولا عُذر فيه، لكن المحقّقين من أصحابنا - يعني المالكيّة - نظروا إلى قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} [النساء: 25]، فمنع الله القادر على الطول من نكاح الأمة، فلو كان الطول درهمًا ما تعذّر على أحد.
ثم إنه تعقّبه بأن ثلاثة دراهم كذلك. يعني فلا حاجة فيه للتحديد، ولا سيّما مع الاختلاف في المراد بالطول. ذكره في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبين بما سبق أن أرجح الأقوال في المسألة هو ما دل عليه حديث الباب، وحاصله أنه لا حد لأقل المهر، فيجوز أن يكون مهرًا كلُّ ما تراضيا به قلّ أو كثر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثامنة): أن في قوله: "أعندك شيء؟، فقال: لا" دليلًا على تخصيص العموم بالقرينة؛ لأن لفظ "شيء" يشمل الخطير والتافه، وهو كان لا يعدم شيئًا تافهًا، كالنواة ونحوها، لكنه فَهِم أن المراد ما له قيمةٌ في الجملة، فلذلك نفى أن يكون عنده، ونقل عياضٌ الإجماع على أن مثل الشيء الذي لا يتموّل، ولا قيمة له لا يكون صداقًا، ولا يحلّ به النكاح. فإن ثبت نقله، فقد خرق هذا الإجماع أبو محمد بن حزم، فقال: يجوز بكلّ ما يُسمّى شيئًا، ولو كان حبّة من شعير، ويؤيّد ما ذهب إليه الكافّة قوله صلى الله عليه وسلم:"التمس ولو خاتمًا من حديد"؛ لأنه أورده مورد التقليل بالنسبة لما فوقه، ولا شكّ أن الخاتم من الحديد له قيمة، وهو أعلى خطرًا من النواة، وحبّة الشعير، ومساق الخبر يدلّ على أنه لا شيء دونه يُستحلّ به البضع.
وقد وردت أحاديث في أقلّ الصداق، لا يثبت منها شيء:
(1)
"الفتح" 11/ 485 - 486.
[منها]: عند ابن أبي شيبة من طريق أبي لبيبة، رفعه:"من استحلّ بدرهم في النكاح، فقد استحلّ".
[ومنها]: عند أبي داود عن جابر، رفعه:"من أعطى في صداق امرأة سويقًا، أو تمرًا، فقد استحلّ"، وعند الترمذيّ من حديث عامر بن ربيعة:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أجاز نكاح امرأة على نعلين"، وأقوى شيء ورد في ذلك حديث جابر عند مسلم:"كنّا نستمتع بالقُبْضة من التمر والدقيق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نَهَى عنه عمر"، قال البيهقيّ: إنما نهى عمر عن النكاح إلى أجل، لا عن قدر الصداق. وهو كما قال، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة التاسعة): أن فيه دليلًا للجمهور على جواز النكاح بخاتم الحديد، وما هو نظير قيمته. قال ابن العربيّ من المالكيّة كما تقدّم: لا شكّ أن خاتم الحديد لا يساوي ربع دينار، وهذا لا جواب عنه لأحد، ولا عذر فيه. وانفصل بعض المالكيّة عن هذا الإيراد مع قوّته بأجوبة:
[منها]: أن قوله: "ولو خاتمًا من حديد" خرج مخرج المبالغة في طلب التيسير عليه، ولم يُرد عين الخاتم الحديد، ولا قدر قيمته حقيقةً؛ لأنه لما قال: لا أجد شيئًا عُرف أنه فَهم أن المراد بالشيء ما له قيمةٌ، فقيل له: ولو أقلّ ما له قيمةٌ كخاتم الحديد، ومثله:"تصدّقوا، ولو بظلف مُحْرَق، ولو بِفِرْسن شاة"، مع أن الظلف والفرسن لا يُنتفع بهما، ولا يُتصدّق بهما.
[ومنها]: احتمال أنه طلب منه ما يعجل نقده قبل الدخول، لا أن ذلك جميع الصداق. وهذا جواب ابن القصّار، وهذا يلزم منه الردّ عليهم حيث استحبّوا تقديم ربع دينار، أو قيمته قبل الدخول، لا أقلّ.
[ومنها]: دعوى اختصاص الرجل المذكور بهذا القدر، دون غيره، وهذا جواب الأبهريّ. وتُعُقّب بأن الخصوصية تحتاج إلى دليلٍ خاصّ.
[ومنها]: احتمال أن تكون قيمته إذ ذاك ثلاثة دراهم، أو ربع دينار، وقد وقع عند الحاكم، والطبرانيّ من طريق الثوريّ، عن أبي حازم، عن سهل بن
سعد: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم زوّج رجلًا بخاتم من حديد، فصّه فضّة". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة العاشرة): أنه استدلّ به على جواز جعل المنفعة صداقًا، ولو كان تعليم القرآن. قال المازريّ: هذا ينبني على أن الباء للتعويض، كقولك: بعتك ثوبي بدينار، وهذا هو الظاهر، وإلا فلو كانت بمعنى اللام على معنى تكريمه؛ لكونه حاملًا للقرآن لصارت المرأة بمعنى الموهوبة، والموهوبة خاصّة بالنبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وانفصل الأبهريّ، وقبله الطحاويّ، ومن تبعهما، كأبي محمد بن أبي زيد عن ذلك بأن هذا خاصّ بذلك الرجل؛ لكون النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يجوز له نكاح الواهبة، فكذلك يجوز له أن يُنكحها لمن شاء بغير صداق، ونحوه للداوديّ، وقال: إنكاحها إياه بغير صداق لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وقوّاه بعضهم بأنه لما قال له:"ملّكتكها" لم يشاورها، ولا استأذنه.
وهذا ضعيف لأنها هي أوّلًا فوّضت أمرها إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم كما تقدّم في رواية البخاريّ: "فَرَ رأيك"، وغير ذلك من ألفاظ الخبر التي ذكرنا، فلذلك لم يحتج إلى مراجعتها في تقدير المهر، وصارت كمن قالت لوليّها: زوّجني بما ترى من قليل الصداق وكثيره.
واحتُجّ لهذا القول بما أخرجه سعيد بن منصور من مرسل أبي النعمان الأزديّ، قال:"زوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة على سورة من القرآن، وقال: لا تكون لأحد بعدك مهرًا"، وهذا مع إرساله فيه من لا يُعرف.
وأخرج أبو داود من طريق مكحول قال: ليس لأحد بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأخرج أبو عوانة من طريق الليث بن سعد نحوه.
وقال عياض: يَحْتَمِل قوله: "بما معك من القرآن" وجهين: أظهرهما أن يُعلّمها ما معه من القرآن، أو مقدارًا معيّنًا منه، ويكون ذلك صداقها، وقد جاء هذا التفسير عن مالك، ويؤيّده قوله في بعض طرقه الصحيحة:"فَعَلِّمها من القرآن"، كما تقدّم، وعُيِّنَ في حديث أبي هريرة مقدار ما يعلّمها، وهو عشرون آية.
ويحتمل أن تكون الباء بمعنى اللام، أي لأجل ما معك من القرآن، فأكرمه بأن زوّجه المرأة بلا مهر؛ لأجل كونه حافظًا للقرآن، أو لبعضه.
ونظيره قصّة أبي طلحة مع أمّ سُليم، وذلك فيما أخرجه النسائيّ، وصححه من طريق جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه، قال: خطب أبو طلحة أمّ سُليم، فقالت: والله ما مثلك يُردّ، ولكنّك كافر، وأنا مسلمة، ولا يحلّ لي أن أتزوّجك، فإن تُسلم فذاك مهري، ولا أسألك غيره، فأسلم، فكان ذلك مهرها".
وأخرج النسائيّ من طريق عبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس، قال:"تزوّج أبو طلحة أم سُليم، فكان صداق ما بينهما الإسلام. . ." فذكر القصّة، وقال في آخره:"فكان ذلك صداق ما بينهما"، ترجم عليه النسائيّ - 63/ 3341 - :"التزويج على الإسلام"، ثم ترجم على حديث سهل - 62/ 3340 - :"التزويج على سورة من القرآن"، فكأنه مال إلى ترجيج الاحتمال الثاني. ويؤيّد أن الباء للتعويض، لا للسببية ما أخرجه ابن أبي شيبة، والترمذيّ من حديث أنس:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سأل رجلًا من أصحابه: يا فلان هل تزوّجت؟ قال: لا، وليس عندي ما أتزوّج به، قال: أليس معك {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. . ." الحديث
(1)
.
واستدلّ الطحاويّ للقول الثاني من طريق النظر بأن النكاح إذا وقع
(1)
ونصّ الترمذيّ في "جامعه" 5/ 166:
(2895)
- حدّثنا عقبة بن مُكْرَم العَمّيّ البصريّ، حدّثني ابن أبي فُديك، أخبرنا سلمة بن وَرْدان، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من أصحابه:"هل تزوجت يا فلان؟ " قال: لا والله يا رسول الله، ولا عندي ما أتزوج به، قال:"أليس معك {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}؟ "، قال: بلى، قال:"ثلث القرآن"، قال:"أليس معك {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)}؟ "، قال: بلى، قال:"ربع القرآن"، قال:"أليس معك {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)}؟ "، قال: بلى، قال:"ربع القرآن"، قال:"أليس معك {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ}؟ " قال: بلى، قال:"ربع القرآن"، قال:"تَزَوَّجْ، تَزَوَّجْ"، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. انتهى.
على مجهول كان كما لم يُسمّ، فيحتاج إلى الرجوع إلى المعلوم، قال: والأصل المجمع عليه لو أن رجلًا استأجر رجلًا على أن يُعلّمه سورة من القرآن بدرهم لم يصحّ؛ لأن الإجارة لا تصحّ إلا على عمل معيّن، كغسل الثوب، أو وقت معيّن، والتعليم قد لا يُعلم مقدار وقته، فقد يتعلّم في زمان يسير، وقد يحتاج إلى زمان طويل، ولهذا لو باعه داره على أن يُعلّمه سورة من القرآن لم يصحّ، قال: فإذا كان التعليم لا تملك به الأعيان، لا تملك به المنافع.
والجواب عما ذكره أن المشروط تعليمه معيّنٌ كما تقدّم في بعض طرقه، وأما الاحتجاج بالجهل بمدّة التعليم، فيَحْتَمِل أن يقال: اغتُفر ذلك في باب الزوجين لأن الأصل استمرار عشرتهما، ولأن مقدار تعليم عشرين آيةً لا تختلف فيه أفهام النساء غالبًا، خصوصًا مع كونها عربيّةً، من أهل لسان الذي يتزوّجها كما تقدّم.
وانفصل بعضهم بأنه زوّجها إياه لأجل ما معه من القرآن الذي حفظه، وسكت عن المهر، فيكون ثابتًا لها في ذمّته إذا أيسر كنكاح التفويض، وإن ثبت حديث ابن عباس المتقدّم حيث قال فيه:"فإذا رزقك الله فعوّضها" كان فيه تقوية لهذا القول، لكنه غير ثابت.
وقال بعضهم: يَحْتَمِل أن يكون زوّجه لأجل ما حفظه من القرآن، وأصدق عنه كما كفّر عن الذي وقع على امرأته في رمضان، ويكون ذكر القرآن، وتعليمه على سبيل التحريض على تعلّم القرآن، وتعليمه، وتنويهًا بفضل أهله. قالوا: ومما يدلّ على أنه لم يجعل التعليم صداقًا أنه لم يقع معرفة الزوج بفهم المرأة، وهل فيها قابليّة التعليم بسرعة، أو ببطء، ونحو ذلك مما تتفاوت فيه الأغراض.
والجواب عن ذلك قد تقدّم في بحث الطحاويّ.
ويؤيّد قول الجمهور قولُهُ صلى الله عليه وسلم أوّلًا: "هل معك شيء تُصدقها؟ "، ولو قصد استكشاف فضله لسأله عن نسبه، وطريقته، ونحو ذلك.
[فإن قيل]: كيف يصحّ جعل تعليمها القرآن مهرًا، وقد لا تتعلّم؟.
[أجيب] كما يصحّ جعل تعليمها الكتابة مهرًا، وقد لا تتعلّم، وإنما وقع الاختلاف عند من أجاز جعل المنفعة مهرًا، هل يُشترط أن يعلم حذق المتعلّم، أو لا؟ والله تعالى أعلم.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر من الأدلة أن ما ذهب إليه الجمهور من جعل تعليم القرآن مهرًا هو الحقّ؛ لظاهر حديث الباب، وما ذكره المانعون من التأويلات المتقدمة للحديث، فكلها واهية، فلا يُلتفت إليها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الحادية عشرة): أنه يجوز كون الأجرة صداقًا، ولو كانت المصدوقة المستأجِرة، فتقوم المنفعة من الإجارة مقام الصداق، وهو قول الشافعيّ، وإسحاق، والحسن بن صالح. وعند المالكيّة فيه خلاف، ومنعه الحنفيّة في الحرّ، وأجازوه في العبد إلا في الإجارة في تعليم القرآن، فمنعوه مطلقًا، بناءً على أصلهم في أن أخذ الأجرة على تعليم القرآن لا يجوز.
وقد نقل عياضٌ جواز الاستئجار لتعليم القرآن عن العلماء كافّةً إلا الحنفيّة. وقال ابن العربيّ: من العلماء من قال: زوّجه على أن يعلّمها من القرآن، فكانت إجارةً، وهذا كرهه مالكٌ، ومنعه أبو حنيفة، وقال ابن القاسم: يُفسخ قبل الدخول، ويُثبَتُ بعده، قال: والصحيح جوازه بالتعليم، وقد روى يحيى بن مضر عن مالك في هذه القصّة أن ذلك أجرة على تعليمها، وبذلك جاز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وبالوجهين قال الشافعيّ، وإسحاق، وإذا جاز أن يؤخذ عنه العوض جاز أن يكون عوضًا، وقد أجازه مالك من إحدى الجهتين، فيلزم أن يُجيزه من الجهة الأخرى.
وقال القرطبيّ: قوله: "عَلِّمْها" نصّ في الأمر بالتعليم، والسياق يشهد بأن ذلك لأجل النكاح، فلا يُلتفتُ لقول من قال: إن ذلك كان إكرامًا للرجل، فإن الحديث يصرّح بخلافه، وقولهم: إن الباء بمعنى اللام ليس بصحيح لغةً، ولا مساقًا. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما ذُكِرّ أنَّ ما ذهب إليه الشافعيّ ومن تبعه من جواز كون الأجرة صداقًا، هو الأرجح، لظهور دليله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية عشرة): أنه استُدِلَّ به على أن من قال: زوّجني فلانة، فقال: زوجتكها بكذا كفى، ولا يحتاج إلى قول الزوج: قبلت، قاله أبو بكر الرازيّ من الحنفيّة، وذكره الرافعيّ من الشافعيّة.
وقد استُشكل من جهة طول الفصل بين الاستيجاب والإيجاب، وفراق الرجل المجلس لالتماس ما يُصدقها إياه.
وأجاب المهلّب بأن بساط القصّة أغنى عن ذلك، وكذا كلّ راغب في التزويج إذا استوجب، فأُجيب بشيء معيّن، وسكت كفى، إذا ظهر قرينة القبول، وإلا فيُشترط معرفة رضاه بالقدر المذكور، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة عشرة): أنه استُدلّ بالحديث على جواز ثبوت العقد بدون لفظ النكاح والتزويج. وخالف ذلك الشافعيّ، ومن المالكيّة: ابن دينار وغيره، والمشهور عن المالكيّة جوازه بكلّ لفظ دلّ على معناه، إذا قُرن بذكر الصداق، أو قصد النكاح، كالتمليك، والهبة، والصدقة، والبيع، ولا يصحّ عندهم بلفظ الإجارة، ولا العارية، ولا الوصيّة، واختُلف عندهم في الإحلال، والإباحة، وأجازه الحنفيّة بكلّ لفظ يقتضي التأبيد مع القصد، وموضع الدليل من هذا الحديث ورود قوله صلى الله عليه وسلم:"ملّكتكها"، لكن ورد أيضًا بلفظ:"زوّجتكها".
قال ابن دقيق العيد: هذه لفظة واحدة في قصّة واحدة، واختلف فيها مع اتحاد مخرج الحديث، فالظاهر أن الواقع من النبيّ صلى الله عليه وسلم أحد الألفاظ المذكورة، فالصواب في مثل هذا النظر إلى الترجيح، وقد نقل عن الدارقطنيّ أن الصواب رواية من روى:"زوّجتكها"، وأنهم أكثر وأحفظ، قال: وقال بعض المتأخّرين: يَحْتَمِل صحّة اللفظين، ويكون قال لفظ التزويج أوّلًا، ثم قال: اذهب فقد ملّكتكها بالتزويج السابق، قال ابن دقيق العيد: وهذا بعيد؛ لأن سياق الحديث يقتضي تعيين لفظة قِيلَتْ، لا تعدّدها، وأنها هي التي انعقد بها النكاح، وما ذكره يقتضي وقوع أمر آخر انعقد به النكاح، والذي قاله بعيد
جدًّا، وأيضًا فلخصمه أن يعكس، ويدّعي أن العقد وقع بلفظ التمليك، ثم قال: زوّجتكها بالتمليك السابق، قال: ثم إنه لم يتعرّض لرواية: "أمكنّاكها" مع ثبوتها، وكلّ هذا يقتضي تعيّن المصير إلى الترجيح. انتهى.
وأشار ببعض المتأخّرين إلى النوويّ، فإنه كذلك قال في "شرح مسلم". وقد قال ابن التين: لا يجوز أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم عقد بلفظ التمليك والتزويج معًا في وقت واحد، فليس أحد اللفظين بأولى من الآخر، فسقط الاحتجاج به، هذا على تقدير تساوي الروايتين، فكيف مع الترجيح؟، قال: ومن زعم أن معمرًا وَهِمَ فيه وَرَدَ عليه أن البخاريّ أخرجه في غير موضع من رواية غير معمر، مثل معمر. انتهى.
وزعم ابن الجوزيّ في "التحقيق" أن رواية أبي غسّان: "أنكحتكها" ورواية الباقين: "زوّجتكها"، إلا ثلاثة أنفس، وهم معمرٌ، ويعقوب، وابن أبي حازم، قال: ومعمرٌ كثير الغلط، والآخران لم يكونا حافظين. انتهى.
قال الحافظ: وقد غلط في رواية أبي غسّان، فإنها بلفظ:"أمكنّاكها" في جميع نُسخ البخاريّ. نعم، وقعت بلفظ:"زوّجتكها" عند الإسماعيليّ من طريق حسين بن محمد، عن أبي غسّان، والبخاريّ أخرجه عن سعيد بن أبي مريم، عن أبي غسّان بلفظ:"أمكناكها". وقد أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق يحيى بن عثمان بن صالح، عن سعيد شيخ البخاريّ فيه بلفظ:"أنكحتكها"، فهذه ثلاثة ألفاظ عن أبي غسّان، ورواية:"أنكحتكها" في البخاريّ لابن عُيينة كما حرّرته.
وما ذكره من الطعن في الثلاثة مردود، ولا سيما عبد العزيز، فإن روايته تترجّح بكون الحديث عن أبيه، وآل المرء أعرف بحديثه من غيرهم. نعم، الذي تحرّر مما قدّمته أن الذين رووه بلفظ التزويج أكثر عددًا ممن رواه بغير لفظ التزويج، ولا سيّما، وفيهم من الحفّاظ مثل مالك، ورواية سفيان بن عيينة:"أنكحتكها" مساويةٌ لروايتهم، ومثلها روايةُ زائدة. وعدّ ابن الجوزيّ فيمن رواه بلفظ التزويج: حمّاد بن زيد، وروايته بهذا اللفظ في "فضائل القرآن"، وأما في "النكاح" فبلفظ:"ملّكتكها".
وقد تبع الحافظُ صلاح الدين العلائيّ ابن الجوزيّ، فقال في ترجيح رواية التزويج: ولا سيّما وفيهم مالك، وحمّاد بن زيد. انتهى.
وقد تحرّر أنه اختُلف على حماد فيها، كما اختُلف على الثوريّ، فظهر أن رواية التمليك وقعت في إحدى الروايتين عن الثوريّ، وفي رواية عبد العزيز بن أبي حازم، ويعقوب بن عبد الرحمن، وحمّاد بن زيد، وفي رواية معمر:"ملكتكها"، وهي بمعناها، وانفرد أبو غسّان برواية:"أمكناكها"، وأَخْلِقْ بها أن تكون تصحيفًا من:"ملّكناكها"، فرواية التزويج، أو الإنكاح أرجح، وعلى تقدير تساوي الروايات يقف الاستدلال بها لكلّ من الفريقين.
وقد قال البغويّ في "شرح السنّة": لا حجّة في هذا الحديث لمن أجاز انعقاد النكاح بلفظ التمليك؛ لأن العقد كان واحدًا، فلم يكن اللفظ إلا واحدًا، واختلف الرواةُ في اللفظ الواقع، والذي يظهر أنه كان بلفظ التزويج على وفق قول الخاطب:"زوّجنيها"، إذ هو الغالب في أمر العقود، إذ قلّما يَختلف فيه لفظ المتعاقدين، ومن روى بلفظ غير لفظ التزويج لم يقصد مراعاة اللفظ الذي انعقد به العقد، وإنما أراد الخبر عن جريان العقد على تعليم القرآن، وقيل: إن بعضهم رواه بلفظ الإمكان، وقد اتفقوا على أن هذا العقد بهذا اللفظ لا يصحّ، كذا قال. وما ذُكر كافٍ في دفع احتجاج المخالف بانعقاد النكاح بالتمليك ونحوه.
وقال العلائيّ: من المعلوم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقل هذه الألفاظ كلّها
(1)
تلك الساعة، فلم يبق إلا أن يكون قال لفظة منها، وعبّر عنه بقيّة الرواة بالمعنى، فمن قال بأن النكاح ينعقد بلفظ التمليك، ثم احتجّ بمجيئه في هذا الحديث إذا عورض ببقية الألفاظ لم ينتهض احتجاجه، فإن جزم بأنه هو الذي تلفّظ به النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن قال غيره ذكره بالمعنى، قَلَبه عليه مخالفه، وادّعى ضدّ دعواه، فلم يبق إلا الترجيح بأمر خارجيّ، ولكن القلب إلى ترجيح رواية التزويج
(1)
نازع في ذلك ابن حزم رحمه الله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا، فيُحمل الحديث على هذا، والله تعالى أعلم.
أمْيل؛ لكونها رواية الأكثرين؛ ولقرينة قول الرجل الخاطب: "زوّجنيها يا رسول الله".
وقد تقدّم النقل عن الدارقطنيّ أنه رجّح رواية من قال: "زوّجتكها"، وبالغ ابن التين، فقال: أجمع أهل الحديث على أن الصحيح رواية: "زوّجتكها"، وأن رواية:"ملّكتكها" وَهَمٌ.
وتعلّق بعض المتأخّرين بأن الذين اختلفوا في هذه اللفظة أئمّة، فلولا أن هذه الألفاظ عندهم مترادفة ما عبّروا بها، فدلّ على أن كلّ لفظ منها يقوم مقام الآخر عند ذلك الإمام، وهذا لا يكفي في الاحتجاج بجواز انعقاد النكاح بكلّ لفظة منها، إلا أن ذلك لا يدفع مطالبتهم بدليل الحصر في اللفظين مع الاتفاق على إيقاع الطلاق بالكنايات بشرطها، ولا حصر في الصريح. وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن النكاح ينعقد بكلّ لفظ يدلّ عليه، وهو قول الحنفيّة، والمالكيّة، وإحدى الروايتين عن أحمد، واختلف الترجيح في مذهبه، فأكثر نصوصه تدلّ على موافقة الجمهور، واختار ابن حامد، وأتباعه الرواية الأخرى الموافقة للشافعيّة. واستدلّ ابن عقيل منهم لصحّة الرواية الأولى بحديث:"أعتَقَ صفيّة، وجعل عتقها صداقها"، فإن أحمد نصّ على أن من قال: أعتقتُ أمَتي، وجعلتُ عتقها صداقها أنه ينعقد نكاحها بذلك، واشترط من ذهب إلى الرواية الأخرى بأنه لا بدّ أن يقول في مثل هذه الصورة: تزوّجتها، وهي زيادة على ما في الخبر، وعلى نصّ أحمد، وأصولُهُ تشهد بأن العقود تنعقد بما يدلّ على مقصودها، من قول، أو فعل. كذا في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه الجمهور من أن النكاح يجوز بكلّ لفظ يدلّ عليه هو الصواب، كما هو مذهب الحنفيّة، والمالكيّة، ورواية عن أحمد، رحمهم الله تعالى.
(1)
"الفتح" 11/ 491 - 493.
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" -: عمدة من قال: لا يصحّ النكاح إلا بلفظ "الإنكاح"، و"التزويج" - وهم أصحاب الشافعيّ، وابن حامد، ومن وافقهم من أصحابنا، كأبي الخطّاب، والقاضي، وأصحابه، ومن بعده - إلا في لفظ "أعتقتك، وجعلت عتقك صداقك" أنهم قالوا: ما سوى هذين اللفظين كناية، والكناية لا تقتضي الحكم إلا بالنيّة، والنيّة في القلب لا تُعلم، فلا يصحّ عقد النكاح بالكناية؛ لأن صحّته مفتقرة إلى الشهادة عليه، والنيّة لا يُشهَد عليها، بخلاف ما يصحّ بالكناية، من طلاق، وعتق، وبيع، فإن الشهادة لا تُشترط في صحّة ذلك.
ومنهم: من يجعل ذلك تعبّدًا؛ لما فيه من ثبوت العبادات، وهذا قول من لا يصحّحه إلا بالعربيّة، من أصحابنا وغيرهم، وهذا ضعيف لوجوه:
[أحدها]: لا نسلّم أن ما سوى هذين كناية، بل ثَمَّ ألفاظ هي حقائق عرفيّة في العقد أبلغ من لفظ:"أنكحت"، فإن هذا اللفظ مشترك بين الوطء والعقد، ولفظ الإملاك خاصّ بالعقد، لا يُفهم إذا قال القائل: أملك فلانٌ على فلانة إلا العقد، كما في "الصحيحين":"أملكتكها على ما معك من القرآن"، سواء كانت الرواية باللفظ، أو المعنى.
[الثاني]: أنا لا نسلّم أن الكناية تفتقر إلى النيّة مطلقًا، بل إذا قُرن بها لفظ من ألفاظ الصريح، أو حكم من أحكام العقد كانت صريحةً، كما قالوا في الوقف: إنه ينعقد بالكناية، كتصدّقت، وحرَّمت، وأبّدت، إذا قُرن بها لفظ، أو حكم، فإذا قال: أملكتكها، فقال: قبلت هذا التزويج، أو أعطيتكها زوجةً، فقال: قبلت، أو أملكتكها على ما أمر الله به من إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، ونحو ذلك، فقد قُرِن بها من الألفاظ، والأحكام ما يجعله صريحًا.
[الثالث]: أن إضافة ذلك إلى الحرّة يبيّن المعنى، فإنه إذا قال في ابنته: ملّكتكها، أو أعطيتكها، أو زوّجتكها، ونحو ذلك، فالمحلّ يَنفي الإجمال، والاشتراك.
[الرابع]: أن هذا منقوضٌ عليهم بالشهادة في الرجعة، فإنها مشروعةٌ، إما واجبة، وإما مستحبّةٌ، وهي شرط في صحّة الرجعة على قولٍ، وبالشهادة على البيع، وسائر العقود، فإن ذلك مشروعٌ مطلقًا، سواء كان العقد بصريح، أو كناية مفسّرة.
[الخامس]: أن الشهادة تصحّ على العقد، ويثبت بها عند الحاكم على أيّ صورة انعقدت، فعُلم أن اعتبار الشهادة فيه، لا يمنع ذلك.
[السادس]: أن العاقدين يمكنهما تفسير مرادهما، ويشهد الشهود على ما فسّروه.
[السابع]: أن الكناية عندنا إذا اقترن بها دلالة الحال كانت صريحة في الظاهر بلا نزاع، ومعلوم أن اجتماع الناس، وتقديم الخطبة، وذكر المهر، والمفاوضة فيه، والتحدّث بأمر النكاح قاطع في إرادة النكاح، وأما التعبّد فيحتاج إلى دليل شرعيّ، ثم العقد جنسٌ لا يشرع فيه التعبّد بالألفاظ؛ لأنها لا يُشترط فيها الإيمان، بل تصحّ من الكافر، وما يصحّ من الكافر لا تعبّد فيه، والله أعلم. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله شيخ الإسلام رحمه الله هو الصواب عندي.
وحاصله أن النكاح ينعقد بكل ما تعارفه الناس من الألفاظ، ولو بغير العربية لمن يحسنها؛ لأنه الموافق لمقاصد الشريعة، فإن الشرع لم يُضَيِّق في النكاح على الناس باتباع صيغة معينة، أو كونه بالعربية، بل هو كسائر العقود الجارية بينهم التي تجوز مطلقًا كالطلاق، والرجعة، والعَتَاق، والبيع، والشراء، والإجارة، وغيرها، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"مجموع الفتاوى" 32/ 15 - 17.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3488]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ (ح) وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَن الدَّرَاوَرْدِيِّ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، بِهَذَا الْحَدِيثِ، يَزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ زَائِدَةَ: قَالَ: "انْطَلِقْ، فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا، فَعَلِّمْهَا مِنَ الْقُرْآنِ").
رجال هذا الإسناد: أحد عشر:
1 -
(خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ) البزّار المقرئ البغداديّ، ثقةٌ، له اختيارات في القراءات [10](ت 229)(م د) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
2 -
(حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) تقدّم قريبًا.
3 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.
4 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
5 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل بابين.
6 -
(الدَّرَاوَرْدِيُّ) عبد العزيز بن محمد بن عُبيد الْجُهنيّ مولاهم، أبو محمد المدنيّ، صدوقٌ، كان يُحدّث من كتب غيره، فيُخطئ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
7 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.
8 -
(حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ) بن الوليد الْجُعفيّ الكوفيّ المقرئ، ثقةٌ عابدٌ [9](ت 3 أو 204) وله (4 أو 85) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 154.
9 -
(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثقفيّ، أبو الصَّلْت الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سُنيّ [7](ت 160) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي حَازِمٍ) يعني أن كلّ هؤلاء الأربعة، وهم: حمّاد بن زيد، وسفيان بن عيينة، والدراورديّ، وزائدة رووا هذا الحديث عن أبي حازم، عن سهل بن سعد رضي الله عنهما.
وقوله: (فعَلِّمْها من القرآن) يعني به السُّوَر التي عدَّدها له، وأخبره أنه يحفظها، وهو بمعنى قوله في الرواية الأخرى:"بما معك من القرآن"، والله أعلم
(1)
.
[تنبيه]: رواية حمّاد بن زيد، عن أبي حازم، ساقها البخاريّ رحمه الله، فقال:
(5029)
- حدّثنا عمرو بن عون، حدّثنا حمّاد، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال:
أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم امرأة، فقالت: إنها قد وهبت نفسها لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما لي في النساء من حاجة"، فقال رجل: زوّجنيها، قال:"أعطها ثوبًا"، قال: لا أجد، قال:"أعطها، ولو خاتمًا من حديد"، فاعتلّ له، فقال:"ما معك من القرآن؟ "، قال: كذا، وكذا، قال:"فقد زوجتكها بما معك من القرآن". انتهى.
ورواية سفيان بن عيينة، عن أبي حازم ساقها البخاريّ رحمه الله أيضًا، فقال:
(5149)
- حدّثنا عليّ بن عبد الله، حدّثنا سفيان، سمعت أبا حازم يقول: سمعت سهل بن سعد الساعديّ يقول: إني لفي القوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قامت امرأة، فقالت: يا رسول الله إنها قد وهبت نفسها لك، فَرَ فيها رَأْيَكَ، فلم يُجبها شيئًا، ثم قامت، فقالت: يا رسول الله إنها قد وهبت نفسها لك، فَرَ فيها رَأْيَكَ، فلم يجبها شيئًا، ثم قامت الثالثة، فقالت: إنها قد وهبت نفسها لك، فَرَ فيها رَأْيَكَ، فقام رجل: فقال: يا رسول الله أنكحنيها، قال:"هل عندك من شيء؟ "، قال: لا، قال:
(1)
"المفهم" 4/ 133.
"اذهب، فاطلب ولو خاتمًا من حديد"، فذهب، فطلب، ثم جاء، فقال: ما وجدت شيئًا، ولا خاتمًا من حديد، فقال:"هل معك من القرآن شيء؟ "، قال: معي سورة كذا، وسورة كذا، قال:"اذهب، فقد أنكحتكها بما معك من القرآن". انتهى.
ورواية زائدة، عن أبي حازم ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مسنده" 1/ 89 فقال:
(102)
- نا ابن أبي شيبة، نا حسين بن عليّ، عن زائدة، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: جاءت امرأة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، قد وهَبْتُ نفسي لك، فاصْنَعْ فيَّ ما شئت، قال: فقال له شابّ: يا رسول الله، إن لم يكُن لك فيها حاجة فزوِّجْنيها، قال: أَوَ عندك شيءٌ تعطيها إياه؟ "، قال: ما أعلمه، قال: "فانطلق، فاطلُب، فلعلّك تجد شيئًا، ولو خاتم حديد"، فأتاه، فقال: ما وجدتُ شيئًا إلا إزاري هذا، قال: "إن إزارك هذا، إن أعطيتها إياه لم يبق عليك شيء"، قال: "تقرأ من القرآن شيئًا؟ "، قال: نعم، قال: "انطلق، فقد زوجْتُكها، فعلِّمها من القرآن". انتهى.
وأما رواية الدراورديّ، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(14) - (بَابُ كَمْ أَصْدَقَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لأَزْوَاجِهِ؟ وَجَوَازِ الأَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ وَالأَقلِّ، والأَمْرِ بِالْوَلِيمَةِ)
(1)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3489]
(1426) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
(1)
هكذا ترجم القرطبيّ رحمه الله هنا، فتبعته؛ لكونه مناسبًا، فتنبّه.
مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: كَمْ كَانَ صَدَاقُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟، قَالَتْ: كَانَ صَدَاقُهُ لِأَزْوَاجِهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أوقيَّةً وَنَشًّا، قَالَتْ: أَتَدْرِي مَا النَّشُّ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَتْ: نِصْفُ أُوقِيَّةٍ، فَتِلْكَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَهَذَا صَدَاقُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِأَزْوَاجِهِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِ) الليثيّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ مكثرٌ [5](ت 139)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، نزيل مكة، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن الحارث بن خالد التيميّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ [4](ت 120) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.
4 -
(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف، تقدّم قريبًا.
5 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت أيضًا قريبًا.
والباقيان ذُكرا في الباب الماضي، فـ "عبد العزيز بن محمد" هو الدراورديّ.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له ابن ماجه، والثاني ما أخرج له البخاريّ، وأبو داود.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخيه: فالأول مروزيّ، ثم نيسابوريّ، والثاني عَدَنيّ، ثم مكيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم، عن بعض: يزيد، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة.
5 -
(ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) من الأحاديث.
6 -
(ومنها): أن فيه أبا سلمة بن عبد الرحمن أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، على بعض الأقوال، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف (أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) رضي الله عنها (كَمْ كَانَ صَدَاقُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟) الصِداق بالفتح، والكسر، جمعه أَصْدِقَةٌ، كقَذَال وأقذِلَة، وبِنَاء، وأَبْنِيَةٍ، وهو مهر المرأة، قال في "اللسان": الصّدَقَةُ - أي بفتحتين - والصّدُقة - بفتح، فضمّ - والصُّدُقة - بضمّتين - والصُّدْقَة - بضمّ، فسكون - والصَّدْقَة - بفتح، فسكون - والصَّداق - بالفتح - والصِّدَاق - بالكسر -: مهر المرأة، وجمعها في أدنى العدد - يعني جمع القلّة -: أَصْدِقَةٌ، والكثير: صُدُقٌ، وهذان البناءان إنما هما على الغالب، وقد أصدق المرأة حين تزوّجها: أي جعل لها صداقًا، وقيل: أصدقها: سَمَّى لها صَدَاقًا. انتهى بتوضيح
(1)
.
وقال في: "القاموس": الصَّدُقَةُ - بضمّ الدال -، وكغُرْفة، وصَدْمَة، وبضمّتين، وبفتحتين، وككِتاب، وسَحَاب: مهر المرأة، جمع الصَّدُقَة، كَنَدُسَة: صَدُقاتٌ، وجمعُ الصُّدْقَة - بالضمّ -: صُدْقَاتٌ، وصُدَقَاتٌ، وصُدُقَاتٌ - بضمّتين - وهي أقبحها. انتهى
(2)
.
وقد نظمت لغات الصِداق بقولي:
قَدْ ضُبِطَ الصَّدَاقُ كَالسَّحَابِ
…
وَغُرْفَةٍ وَصَدْمَةٍ كِتَابِ
وَضَمَّتَيْنِ زِدْ وَفَتْحَتَيْنِ
…
لِمَهْرِ نِسْوَةٍ بِغَيْرِ مَيْنِ
(1)
"لسان العرب" 10/ 197.
(2)
"القاموس المحيط" ص 1162.
وَجَمْعُهُ كَكُتُبٍ وَأَرْغِفَهْ
…
هذَا هُوَ الْغَالِبُ يَا ذَا الْمَعْرِفَهْ
(قَالَتْ: كَانَ صَدَاقُهُ لِأَزْوَاجِهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً) - بضمّ الهمزة، وسكون الواو، وكسر القاف، وتشديد الياء التحتانية - قال النوويّ رحمه الله: الأوقيّة بضمّ الهمزة، وتشديد الياء، والمراد أُوقيّة الحجاز، وهي أربعون درهمًا
(1)
. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم البحث في ضبط الأوقيّة مستوفًى في الباب الماضي.
(وَنَشًّا) - بفتح النون، وتشديد الشين المعجمة -: فسّرته عائشة رضي الله عنها، وقال كُراع: هو نصف الشيء، وقال الخطّابيّ: هو اسم موضوع لهذا القدر، وقال القرطبيّ: هو مُعَرَّبٌ، منوّنٌ. انتهى
(3)
، وقال الفيّوميّ: النّشّ بالفتح: نصف الأوقيّة وغيرها، وكانت الأوقيّة عندهم أربعين درهمًا، وكان النشّ عشرين درهمًا، قال ابن الأعرابيّ: ونشُّ الدرهم، والرَّغِيف: نصفه. انتهى.
(قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (أَتَدْرِي مَا النَّشُّ؟ قَالَ) أبو سلمة (قُلْتُ: لَا، قَالَتْ: نِصْفُ أُوقِيَّةٍ، فَتِلْكَ) أي مجموع الاثنتي عشرة أوقيّةً ونشًّا (خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ
(4)
، فَهَذَا صَدَاقُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِأَزْوَاجِهِ) قال النوويّ رحمه الله: استدلّ بهذا الحديث أصحابنا على أنه يستحبّ كون الصداق خمسمائة درهم، والمراد: في حقّ من يحتمل ذلك.
[فإن قيل]: فصداق أمّ حبيبة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، كان أربعة آلاف درهم، وأربعمائة دينار. [فالجواب]: أن هذا القدر تبرّع به النجاشيّ من ماله، إكرامًا
(1)
وقدّر بالمعيار المعاصر بـ (147) غرامًا، راجع ما كتبه الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسّام رحمه الله في كتابه:"توضيح المرام" 4/ 471.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 215.
(3)
"المفهم" 4/ 133 - 134.
(4)
هو بالريال السعوديّ مائة وأربعون ريالًا، قاله الشيخ البسام رحمه الله، "توضيح الأحكام" 4/ 472.
للنبيّ صلى الله عليه وسلم، لا أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أدّاه، أو عقد به. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله ما ملخّصه: هذا القول من عائشة رضي الله عنها إنما هو إخبار عن غالب أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن صفيّة رضي الله عنها من جملة أزواجه، وأصدقها نفسها، على ما تقدّم من الخلاف، وزينب بنت جحش رضي الله عنها، لم يُذكر لها صداق، وأمّ حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها أصدقها النجاشيّ أربعة آلاف درهم، فقد خرج هؤلاء من عموم قول عائشة رضي الله عنها. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 3489](1426)، و (النسائيّ) في "النكاح"(3348) وفي "الكبرى"(5513)، و (أبو داود) في "النكاح"(2105)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1886)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(6/ 177)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 93)، و (الدارميّ) في "سننه"(2199)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 233) و"الصغرى"(6/ 221)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أن الصداق للمرأة عند النكاح لا بدّ منه.
2 -
(ومنها): كون الصداق خمسمائة درهم، وهذا ليس على سبيل الوجوب، وإنما هو لمن يتيسّر له ذلك، وإلا فيجوز بأقلّ منه، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال:"التمس، ولو خاتمًا من حديد"، وأنه صلى الله عليه وسلم تزوّج بأكثر من ذلك، كما في قصّة أم حبيبة رضي الله عنها، غير أنّ المغالاة فيه مكروهةٌ؛ لأنها من باب السرف، والتعسير، والمباهاة، قاله القرطبيّ.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 215.
(2)
"المفهم" 4/ 134.
وقد تقدّم اختلاف أهل العلم في أقلّ المهر في المسألة السابعة من شرح حديث الواهبة نفسها، وهو الحديث الأول في الباب الماضي، مستوفىً، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3490]
(1427) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَأَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْعَتَكِيُّ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا حَمَادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَثَرَ صُفْرَةٍ، فَقَالَ: "مَا هَذَا؟ "، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: "فَبَارَكَ اللهُ لَكَ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْعَتَكِيُّ) البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.
3 -
(ثَابِتُ) بن أسلم الْبُنَانيّ، ثقةٌ عابدٌ [4] مات سنة بضع و (120)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
4 -
(أَنَسُ بْنُ مَالِكِ) بن النضر الأنصاريّ الْخَزرجي الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (2 أو 93) وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
والباقيان ذُكرا في الباب.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (227) من رباعيّات الكتاب، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتحاد كيفية أخذه عنهم، ثم فصّل؛ لاختلافهم فيها.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه: يحيى، وأبي الربيع، فالأول ما أخرج له أبو داود، وابن ماجه، والثاني ما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، غير يحيى، فنيسابوريّ، وقتيبة، فبغلانيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفِ) بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زُهرة القرشيّ الزهريّ، أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، أسلم قديمًا، ومناقبه شهيرة، ومات رضي الله عنه سنة (32) وقيل غير ذلك، تقدّمت ترجمته في "الصلاة" 23/ 957. (أَثَرَ صُفْرَةٍ) - بضمّ الصاد المهملة، وسكون الفاء -: لونٌ دون الحمرة، ويطلق على الأسود أيضًا، والمراد به هنا صفرة الْخَلُوق، و"الْخَلُوق" - بفتح الخاء المعجمة، وضمّ اللام، آخره قاف، وِزان رَسُولٍ -: ما يُتخلّقُ به من الطيب، قال بعض الفقهاء: وهو مائعٌ فيه صُفْرةٌ، والْخِلاقُ، مثلُ كتاب بمعناه. قاله الفيّوميّ. وقال في "الفتح": طيبٌ يُصنَع من زعفران وغيره.
وفي رواية: "فلقيه النبيّ صلى الله عليه وسلم في سِكّة من سِكَك المدينة، وعليه وَضَر من صفرة"، وفي رواية:"وعليه وضرٌ من خَلُوق"، وفي رواية:"وعليه رَدْعُ زعفران". و"الوضر" بفتح الواو، والضاد المعجمة، وآخره راءٌ: هو في الأصل الأثر، و"الرَّدْعُ" بمهملات مفتوح الأول، ساكن الثاني -: هو أثر الزعفران، والمراد بالصفرة: صفرةُ الْخَلُوق، والْخَلُوق: طيب من زعفران وغيره. قاله في "الفتح".
وقال النوويّ رحمه الله: وقوله: "أثر صُفْرة"، وفي رواية في غير كتاب مسلم:"رأى عليه صفرةً"، وفي رواية:"رَدْع من زعفران"، والردع براء ودال وعين مهملات، هو أثر الطيب، والصحيح في معنى هذا الحديث أنه
تَعَلَّق به أثر من الزعفران وغيره، من طيب العَرُوس، ولم يقصده، ولا تعمد التزعفر، فقد ثبت في "الصحيح" النهي عن التزعفر للرجال، وكذا نُهِي الرجالُ عن الْخَلُوق؛ لأنه شعار النساء، وقد نُهِي الرجال عن التشبه بالنساء، فهذا هو الصحيح في معنى الحديث، وهو الذي اختاره القاضي، والمحققون، قال القاضي: وقيل: إنه يُرَخَّص في ذلك للرجل العروس، وقد جاء ذلك في أثر ذكره أبو عبيد، أنهم كانوا يُرَخِّصون في ذلك للشاب أيام عُرْسه، قال: وقيل: لعله كان يسيرًا، فلم يُنكَر، قال: وقيل: كان في أول الإسلام من تزوج لَبِس ثوبًا مصبوغًا علامةً لسروره وزواجه، قال: وهذا غير معروف، وقيل: يَحْتَمِل أنه كان في ثيابه دون بدنه، ومذهب مالك وأصحابه جواز لبس الثياب المزعفرة، وحكاه مالك عن علماء المدينة، وهذا مذهب ابن عمر وغيره، وقال الشافعيّ، وأبو حنيفة: لا يجوز ذلك للرجل. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: في الحديث قصّة، ساقها البخاريّ رحمه الله، ولفظه:
(1907)
- حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدّثنا إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن جدّه، قال: قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: لَمّا قَدِمنا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع، فقال سعد بن الربيع: إني أكثر الأنصار مالًا، فأَقسم لك نصف مالي، وانظر أيَّ زوجتي هَوِيتَ نزلت لك عنها، فإذا حَلَّت تزوجتها، قال: فقال له عبد الرحمن: لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة؟ قال: سوق قَينقاع، قال: فغدا إليه عبد الرحمن، فأتى بأَقِطٍ وسَمْنٍ، قال: ثم تابع الْغُدُوّ، فما لَبِث أن جاء عبد الرحمن عليه أثر صُفْرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تزوجت؟ "، قال: نعم، قال:"ومَنْ؟ "، قال: امرأةً من الأنصار، قال:"كم سُقْت؟ "، قال: زِنَةَ نَوَاة، من ذهب، أو نَوَاةً من ذهب، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أَوْلِمْ، ولو بشاة".
وفي رواية: قال: لَمّا قَدِموا المدينة، نزل المهاجرون على الأنصار،
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 216.
فنزل عبد الرحمن بن عوف، على سعد بن الربيع، فقال: أقاسمك مالي، وأَنزِل لك عن إحدى امرأتيّ، قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، فخرج إلى السوق، فباع، واشترى، فأصاب شيئًا من أقط، وسمن، فتزوج، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أولم، ولو بشاة". انتهى.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَا هَذَا؟ ") وفي رواية للبخاريّ: "فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَهْيم"
(1)
: أي ما شأنك، أو ما هذا؟ (قَالَ) عبد الرحمن (يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً) قال في "الفتح": وهذه المرأة جزم الزبير بن بكار في "كتاب النسب" أنها بنت أبي الحيسر، أنس بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل، وفي ترجمة عبد الرحمن بن عوف من "طبقات ابن سعد" أنها بنت أبي الحشاش، وساق نسبه، قال الحافظ: وأظنهما ثنتين، فإن في رواية الزبير قال: ولدت لعبد الرحمن القاسمَ، وعبدَ الله، وفي رواية ابن سعد: ولدت له إسماعيلَ، وعبدَ الله، وذكر ابن القدّاح في نسب الأوس: أنها أم إياس بنت أبي الحيسر - بفتح المهملتين، بينهما تحتانية ساكنة، وآخره راء - واسمه أنس بن رافع الأوسيّ. انتهى
(2)
.
(1)
قوله: "مهيم" - بفتح الميم، وسكون الهاء، وفتح التحتانيّة، وسكون الميم -: أي ما شأنك؟، أو ما هذا؟، وهي كلمة استفهام، مبنيّةٌ على السكون، وهل هي بسيطةٌ، أم مركّبةٌ؟ قولان لأهل اللغة، وقال ابن مالك: هي اسم فعل بمعنى أخبر، ووقع في رواية للطبرانيّ في "الأوسط":"فقال له: مهيم، وكانت كلمته إذا أراد أن يسأل عن الشيء"، ووقع في رواية ابن السكن:(مَهْيَنْ) بنون آخره، بدل الميم، والأول هو المعروف قاله في "الفتح".
ثم يَحْتَمِل أن يكون الاستفهام استفهام إنكار، ويَحْتَمِل أن يكون سؤالًا، أي ما السبب في الذي أراه عليك؟.
وقال في "اللسان": "مهيم" كلمة يمانية، معناها: ما أمرك؟، وما هذا الذي أرى بك؟، ونحو هذا من الكلام، قال الأزهريّ: ولا أعلم على وزن مَهْيَم كلمة غير مَرْيَم. وقال الجوهريّ: كلمة يُستفهم بها، معناها: ما حالك؟، وما شأنك؟. انتهى.
(2)
"الفتح" 11/ 524 - 525.
(عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ) زاد في الرواية الآتية: "كم أصدقتها؟، قال: فقلت: نواةً".
[تنبيه]: "النّوَى" - بفتح النون، والواو، مقصورًا -: اختُلف في المراد به على أقوال: فقيل: المراد واحدة نوى التمر، كما يوزن بنوى الْخَرُّوب، وأن القيمة عنها يومئذ كانت خمسة دراهم. وقيل: كان قدرها يومئذ ربع دينار، ورُدّ بأن نوى التمر يَختلف في الوزن، فكيف يُجعل معيارًا لما يوزن به؟، وقيل: لفظ النواة من ذهب عبارة عما قيمته خمسة دراهم من الورِق، وجزم به الخطّابيّ، واختاره الأزهريّ، ونقله عياضٌ عن أكثر العلماء، ويؤيّده أن في رواية للبيهقيّ من طريق سعيد بن بشر، عن قتادة:"وزن نواة من ذهب، قُوّمت خمسةَ دراهمَ"، وقيل: وزنها من الذهب خمسة دراهم، حكاه ابن قتيبة، وجزم به ابن فارس، وجعله البيضاويّ الظاهر. واستُبعِدَ لأنه يستلزم أن يكون ثلاثة مثاقيل ونصفًا، ووقع في رواية حجّاج بن أرطاة، عن قتادة، عند البيهقيّ:"قُوّمت ثلاثة دراهم وثلثًا"، وإسناده ضعيف، ولكن جزم به أحمد، وقيل: ثلاثة ونصفٌ، وقيل: ثلاثة وربع، وعن بعض المالكيّة النواة عند أهل المدينة ربع دينار، ويؤيّد هذا ما وقع عند الطبرانيّ في "الأوسط" في آخر الحديث قال أنس:"جاء وزنها ربع دينار"، وقد قال الشافعيّ: النواة ربع النّشّ نصف أوقيّة، والأوقيّة أربعون درهمًا، فيكون خمسة دراهم، وكذا قال أبو عبيد: إن عبد الرحمن بن عوف دفع خمسة دراهم، وهي تسمى نواة كما تسمّى الأربعون أوقيّة، وبه جزم أبو عوانة، وآخرون، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال في "النهاية": النواةُ اسم لخمسة دراهم، كما قيل للأربعين: أوقيّة، وللعشرين: نَشّ، وقيل: أراد قدر نواة من ذهب كان قيمتها خمسة دراهم، ولم يكن ثَمَّ ذهبٌ، وأنكره أبو عبيد، قال الأزهريّ: لفظ الحديث، يدلّ على أنه تزوّج المرأة على ذهب قيمته خمسة دراهم، ألا تراه قال: نواة من ذهب، ولست أدري لِمَ أنكره أبو عُبيد، والنواة في الأصل عَجَمَةُ التمرة. انتهى
(2)
.
(مِنْ ذَهَبٍ) قال في "الفتح": كذا وقع الجزم في رواية ابن عيينة،
(1)
"الفتح" 11/ 526.
(2)
"النهاية" 5/ 131 - 132.
والثوريّ، وكذا في رواية حماد بن سلمة، عن ثابت، وحميد، وفي رواية زهير، وابن عليّة:"نواة من ذهب، أو وزن نواة من ذهب"، وكذا في رواية عبد الرحمن نفسه بالشكّ، وفي رواية شعبة عن عبد العزيز بن صُهيب:"على وزن نواة"، وعن قتادة:"على وزن نواة من ذهب"، ومثل الأخير في رواية حماد بن زيد، عن ثابت، وكذا أخرجه مسلم من طريق أبي عوانة، عن قتادة، ولمسلم من رواية شعبة، عن أبي حمزة، عن أنس:"على وزن نواة، فقال رجلٌ من ولد عبد الرحمن: من ذهب"، ورجّح الداوديّ رواية من قال:"على نواة من ذهب"، واستنكر رواية من روى:"وزن نواة"، قال الحافظ: واستنكاره هو المنكر؛ لأن الذين جزموا بذلك أئمّةٌ حُفّاظ، قال عياضٌ: لا وَهَمَ في الرواية؛ لأنها إن كانت نواة تمر، أو غيره، أو كان للنواة قدرٌ معلوم، صلح أن يقال في كلّ ذلك: وزن نواة. انتهى
(1)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَبَارَكَ اللهُ لَكَ) قال النوويّ رحمه الله: فيه استحباب الدعاء للمتزوّج، وأن يقال: بارك الله لك، أو نحوه، وسبق في الباب الماضي إيضاحه. انتهى
(2)
.
(أَوْلِمْ) فعل أمر من أولَمَ: إذا صَنَعَ وَلِيمَة، أي اصنع وليمة، و"الوليمة": اسم لكلّ طعام يُتّخذ لجمع، وقال ابن فارس: هي طعام الْعُرْس، والجمع وَلائم، قاله الفيّوميّ، وقال ابن منظور: الوليمة طعام العُرْس، والإملاك، وقيل: هي كلّ طعام صُنِع لِعُرس وغيره، وقد أولم، قال أبو عبيد: سمعت أبا زيد يقول: يُسمَّى الطعام الذي يُصنع عند الْعُرْس الوليمةَ، والذي عند الإمْلَاكِ النَّقِيعَةَ. انتهى
(3)
، وسيأتي تمام البحث في ذلك بعد بابين - إن شاء الله تعالى -.
(وَلَوْ بِشَاةٍ")"لو" هنا للتقليل، كما في حديث:"رُدُّوا السائل ولو بظلف مُحْرَق"
(4)
، قال السيوطيّ في "الكوكب الساطع" عند تعداد معاني "لو":
وَقِلَّةٍ كَخَبَرِ الْمُصَدَّقِ
…
تَصَدَّقُوا وَلَوْ بِظِلْفٍ مُحْرَقِ
(1)
"الفتح" 11/ 525 - 526.
(2)
"شرح مسلم" 9/ 216.
(3)
راجع: "لسان العرب" 12/ 643.
(4)
حديث صحيح، أخرجه النسائيّ.
وقال في "الفتح": ليست "لو" هذه الامتناعيّة
(1)
، وإنما هي للتقليل، وزاد في رواية حماد بن زيد:"فقال: بارك الله لك" قبل قوله: "أولم"، وكذا في رواية حماد بن سلمة، عن ثابت، وحميد.
وزاد في آخر الحديث: "قال عبد الرحمن: فلقد رأيتني، ولو رفعت حجرًا لرجوت أن أُصيب ذهبًا أو فضّة"، فكأنه قال ذلك إشارةً إلى إجابة الدعوة النبويّة بأن يبارك الله له.
ووقع في رواية أبي هريرة رضي الله عنه بعد قوله: "أَعْرَستَ؟ "، قال: نعم، قال:"أولمت؟ " قال: لا، فرمى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنواة من ذهب، فقال:"أولم، ولو بشاة"، وهذا لو صحّ كان فيه أن الشاة من إعانة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان يعكُرُ على من استدلّ به على أن الشاة أقلّ ما يشرع للموسر، ولكن الإسناد ضعيف.
وفي رواية معمر، عن ثابت:"قال أنس: فلقد رأيته قُسِم لكلّ امرأة من نسائه بعد موته مائة ألف"، قال الحافظ: قلت: مات عن أربع نسوة، فيكون جميع تَرِكَتِه ثلاثة آلاف ألف ومائتي ألف، وهذا بالنسبة لِتَرِكَة الزبير بن العوّام رضي الله عنه قليلٌ جدًّا، فَيَحْتَمِل أن تكون هذه دنانير، وتلك دراهم؛ لأن كثرة مال عبد الرحمن مشهورٌ جدًّا. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 3490 و 3491 و 3492 و 3493 و 3494 و 3495 و 3496](1427)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2049) و"الحوالة"(2293) و"المناقب"(3781) و"النكاح"(5072 و 5148 و 5153 و 5155 و 5167) و"الأدب"(6082) و"الدعوات"(6386)، و (أبو داود) في "النكاح"
(1)
أي وهي الشرطيّة، فقد اختَلَف النحاة، هل تفيد الامتناع أم لا؟، ولو عبّر بالشرطيّة لكان أولى، فتنبّه.
(2)
"الفتح" 11/ 527.
(2109)
، و (الترمذيّ) في "البرّ والصلة"(1933)، و (النسائيّ) في "النكاح"(3352 و 3373 و 3374 و 3375 و 3389) وفي "الكبرى"(5507 و 5508 و 5558 و 5559 و 5560)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1907)، و (مالك) في "الموطّإ"(1157)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 246)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(10411)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1978)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1218)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 165)، و (الدارميّ) في "سننه"(2064 و 2204)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4060)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(4/ 145)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(726)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 46 و 47 و 48)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 91)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3781)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(1/ 728) و"الأوسط"(6/ 55)، و (البزّار) في "مسنده"(3/ 217)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 395 و 403 و 407)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 236 - 237) و"المعرفة"(5/ 370 و 371)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2308 و 2310)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده
(1)
:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة النكاح على نواة من ذهب، وهي خمسة دراهم، على ما تقدّم من الخلاف في تفسير النواة.
2 -
(ومنها): أنه يدلّ على أن النكاح لا بدّ فيه من صداق؛ لاستفهامه عن الكمّية، ولم يقل: هل أصدقتها، أم لا؟ وُيشعر ظاهره بأنه يحتاج إلى تقديرٍ؛ لإطلاق لفظة "كم" الموضوعة للتقدير، كذا قال بعض المالكيّة، قال الحافظ: وفيه نظر؛ لاحتمال أن يكون المراد: الاستخبار عن الكثرة، أو القلّة، فيخبره بعد ذلك بما يليق بحال مثله، فلما قال له القدر، لم يُنكر عليه، بل أقرّه.
3 -
(ومنها): أنه استُدلّ به على استحباب تقليل الصداق؛ لأن
(1)
المراد: فوائد حديث قصّة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه الواردة في الباب، سواء التي ساقها المصنّف، أو أوردتها في الشرح، لا خصوص ما ساقه المصنّف، فتنبّه.
عبد الرحمن بن عوف كان من مياسير الصحابة رضي الله عنهم، وقد أقرّه النبيّ صلى الله عليه وسلم على إصداقه وزن نواة من ذهب.
وتُعُقّب بأن ذلك كان في أول الأمر حين قدم المدينة، وإنما حصل له اليسار بعد ذلك من ملازمة التجارة حتى ظهر منه من الإعانة في بعض الغزوات ما اشتهر، وذلك ببركة دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم له.
4 -
(ومنها): جواز خروج العروس، وعليه أثر العُرْس، من خَلُوق ونحوه.
5 -
(ومنها): جواز التزعفر للرجال عند العُرْس، فيُخصّص به النهي الوارد في ذلك، على ما هو رأي النسائيّ رحمه الله، لكن الأرجح أنه أصابه من امرأته، ولم يستعمله قصدًا، جمعًا بينه، وبين حديث النهي عن التزعفر للرجال، وسيأتي تمام البحث فيه قريبًا - إن شاء الله تعالى -.
6 -
(ومنها): استحباب الدعاء بالبركة للمتزوّج، وقد ترجم الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:"بابٌ كيف يُدعى للمتزوّج".
قال في "الفتح": قال ابن بطّال: إنما أراد بهذا - والله أعلم - ردّ قول العامّة عند العروس: بالرفاء والبنين، فكأنه أشار إلى تضعيفه، ونحوِ ذلك، كحديث معاذ بن جبل أنه شَهِدَ إملاك رجلٍ من الأنصار، فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنكح الأنصاريّ، وقال:"على الإلفة والخير، والبركة، والطير الميمون، والسعة في الرزق. . ." الحديث، أخرجه الطبرانيّ في "الكبير" بسند ضعيف، وأخرجه في "الأوسط" بسند أضعف منه، وأخرجه أبو عمرو البَرْقانيّ في "كتاب معاشرة الأهلين" من حديث أنس، وزاد فيه:"والرفاء والبنين"، وفي سنده أبانُ العبديّ، وهو ضعيف.
وأقوى من ذلك ما أخرجه أصحاب السنن، وصححه الترمذيّ، وابن حبّان، والحاكم، من طريق سُهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفّأ إنسانًا، قال: بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير".
وقوله: "رَفَّأَ"" بفتح الراء، وتشديد الفاء، مهموز: معناه دعا له في موضع قولهم: بالرفاء والبنين، وكانت كلمة تقولها أهل الجاهليّة، فورد النهي عنها،
كما روى بقيّ بن مَخْلَد، من طريق غالب، عن الحسن، عن رجل من بني تميم، قال: كنّا نقول في الجاهليّة: بالرفاء والبنين، فلما جاء الإسلام علّمنا نبيّنا صلى الله عليه وسلم، قال: قولوا: "بارك الله لكم، وبارك فيكم، وبارك عليكم".
قال: ودلّ حديث أبي هريرة رضي الله عنه على أن اللفظ كان مشهورًا عندهم غالبًا حتى سُمّي كلّ دعاء للمتزوّج ترفئة.
قال: ودلّ صنيع البخاريّ على أن الدعاء للمتزوّج بالبركة هو المشروع، ولا شكّ أنها لفظةٌ جامعةٌ، يدخل فيها كلّ مقصود من ولد وغيره، ويؤيّد ذلك ما تقدّم من حديث جابر رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا قال له:"تزوّجت بكرًا، أو ثَيِّبًا؟ ": قال: "بارك الله لك"، والأحاديث في ذلك معروفة. انتهى ما في "الفتح" باختصار
(1)
.
[تنبيه]: اختُلِف في علة النهي عن قولهم: "بالرفاء والبنين"، فقيل: لأنه لا حمد فيه، ولا ثناء، ولا ذكر لله، وقيل: لِمَا فيه من الإشارة إلى بُغْض البنات؛ لتخصيص البنين بالذكر، وأما الرِّفَاء فمعناه الالتئام، من رَفَأْتُ الثوب، ورَفَوْته رَفْوًا، ورَفَاءً، وهو دعاء للزوج بالالتئام والائتلاف، فلا كراهة فيه، وقال ابن الْمُنَيِّر: الذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم كَرِه اللفظ؛ لِمَا فيه من موافقة الجاهلية؛ لأنهم كانوا يقولونه تفاؤلًا، لا دعاءً، فيظهر أنه لو قيل للمتزوج بصورة الدعاء لم يُكره، كان يقول: اللهم ألِّف بينهما، وارزقهما بنين صالحين مثلًا، أو ألَّف الله بينكما، ورزقكما ولدًا ذكرًا، ونحو ذلك.
وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة، من طريق عمر بن قيس: قال: شهدت شُريحًا، وأتاه رجل من أهل الشام، فقال: إني تزوجت امرأةً، فقال: بالرفاء والبنين. . . الحديث، وأخرجه عبد الرزاق، من طريق عديّ بن أرطاة، قال: حَدَّثت شريحًا أني تزوجت امرأةً، فقال: بالرفاء والبنين، فهو محمول على أن شريحًا لم يبلغه النهي عن ذلك، قاله في "الفتح"
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب.
(1)
"الفتح" 11/ 505 - 506.
(2)
"الفتح" 11/ 505 - 506.
7 -
(ومنها): سؤال الإمام، وكبير القوم أصحابه، وأتباعه عن أحوالهم، ولا سيّما إذا رأى منهم ما لم يَعهَدْ.
8 -
(ومنها): تأكّد أمر الوليمة، وسيأتي اختلاف العلماء في حكمها بعد بابين في "باب إجابة الداعي" - إن شاء الله تعالى -.
9 -
(ومنها): أن الوليمة تكون بعد الدخول، قال في "الفتح": ولا دلالة فيه، وإنما فيه أنها تُستدرك إذا فاتت بعد الدخول، هكذا قال في "الفتح"، وفيه نظر لا يخفى، وسيأتي تمام البحث فيه قريبًا - إن شاء الله تعالى -.
10 -
(ومنها): أن أقلّ ما يجزئ الموسر في الوليمة شاة، قال في "الفتح": ولولا ثبوت أنه صلى الله عليه وسلم أولم على بعض نسائه بأقلّ من الشاة لكان يمكن أن يستدلّ به على أن الشاة أقلّ ما تُجزئ في الوليمة، ومع ذلك فلا بدّ من تقييده بالقادر عليها، وأيضًا فيعكُر على الاستدلال أنه خطاب واحد، وفيه اختلافٌ، هل يستلزم العموم أو لا؟، وقد أشار إلى ذلك الشافعيّ فيما نقله البيهقيّ عنه، قال: لا أعلمه أمر بذلك غير عبد الرحمن، ولا أعلمه أنه صلى الله عليه وسلم ترك الوليمة، فجعل ذلك مستندًا في كون الوليمة ليست بحتم. انتهى.
11 -
(ومنها): أنه يُستفاد من السياق طلب تكثير الوليمة لمن يَقدر، قال عياضٌ: وأجمعوا على أن لا حدّ لأكثرها، وأما أقلّها فكذلك، ومهما تيسّر أجزأ، والمستحبّ أنها على قدر حال الزوج، وقد تيسّر على الموسر الشاة، فما فوقها.
12 -
(ومنها): أنه استُدل بقصّة عبد الرحمن مع سعد بن الربيع على جواز المواعدة لمن يريد أن يتزوّج بها، إذا طلّقها زوجها، وأوفت العدّةَ؛ لقول سعد بن الربيع:"انظر أيّ زوجتيّ أعجب إليك حتى أطلّقها، فإذا انقضت عدّتا تزوّجتها"، ووقع تقرير ذلك، ويعكُر على هذا أنه لم يُنقل أن المرأة علمت بذلك، ولا سيّما ولم يقع تعيينها، لكن الاطلاع على أحوالهم إذ ذاك يقتضي أنهما علمتا معًا؛ لأن ذلك كان قبل نزول آية الحجاب، فكانوا يجتمعون، ولولا وثوق سعد بن الربيع من كل منهما بالرضا ما جزم بذلك.
وقال ابن المنيّر: لا يستلزم المواعدة بين الرجلين وقوع المواعدة بين الأجنبيّ والمرأة؛ لأنها إذا مُنع، وهي في العدّة من خطبتها تصريحًا، ففي هذا
يكون بطريق الأولى؛ لأنها إذا طلّقت دخلت العدّة قطعًا، قال: ولكنها وإن اطّلعت على ذلك، فهي بعد انقضاء عدّتها بالخيار، والنهي إنما وقع عن المواعدة بين الأجنبيّ والمرأة، أو وليّها، لا مع أجنبيّ آخر. انتهى.
13 -
(ومنها): جواز نظر الرجل إلى المرأة قبل أن يتزوّج بها.
14 -
(ومنها): أن فيه منقبةً لسعد بن الربيع رضي الله عنه في إيثاره على نفسه بما ذَكَرَ، ولعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في تنزهه عن شيء يستلزم الحياءُ والمروءةُ اجتنابه، ولو كان محتاجًا إليه.
15 -
(ومنها): أن فيه استحبابَ المؤاخاة، وحسن الإيثار من الغنيّ للفقير، حتى بإحدى زوجتيه، واستحباب رَدّ مثل ذلك على من آثر به؛ لما يغلب في العادة من تكلف مثل ذلك، فلو تحقق أنه لم يتكلف جاز، وفيه أن من ترك ذلك بقصد صحيح عَوَّضه الله تعالى خيرًا منه.
16 -
(ومنها): استحباب التكسب، وأن لا نقص على من يتعاطى من ذلك ما يليق بمروءة مثله.
17 -
(ومنها): كراهة قبول ما يتوقع منه الذلّ، من هبة وغيرها، وأن العيش من عمل المرء بتجارة، أو حرفة أولى؛ لنزاهة الأخلاق من العيش بالهبة، ونحوها
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): قال في "الفتح": واستدلّ بحديث الباب على جواز التزعفر للعروس، وخُصّ به عموم النهي عن التزعفر للرجال، كما سيأتي بيانه في "كتاب اللباس".
وتُعقّب باحتمال أن تكون تلك الصفرة، كانت في ثيابه، دون جسده، وهذا الجواب للمالكيّة على طريقتهم في جوازه في الثوب، دون البدن، وقد نَقَلَ ذلك مالكٌ عن علماء المدينة، وفيه حديث أبي موسى:"لا يقبل الله صلاة رجل في جسده شيء من خَلُوق"، أخرجه أبو داود، فإن مفهومه أن ما عدا الجسد لا يتناوله الوعيد.
ومنع من ذلك أبو حنيفة، والشافعيّ، ومن تبعهما في الثوب أيضًا،
(1)
راجع: "الفتح" 11/ 527 - 529.
وتمسّكوا بالأحاديث في ذلك، وهي صحيحة، وفيها ما هو صريحٌ في المدّعَى، كما سيأتي بيانه، وعلى هذا فأجيب عن قصّة عبد الرحمن بأجوبة:
[أحدها]: أن ذلك كان قبل النهي، وهذا يحتاج إلى تاريخ، ويؤيّده أن سياق قصّة عبد الرحمن يُشعر بأنها كانت في أوائل الهجرة، وأكثر من روى النهي ممن تأخّرت هجرته.
[ثانيها]: أن أثر الصفرة التي كانت على عبد الرحمن تعلّقت به من جهة زوجته، فكان ذلك غير مقصود له، ورجّحه النوويّ، وعزاه للمحقّقين، وجعله البيضاويّ أصلًا، ردّ إليه أحد الاحتمالين أبداهما في قوله:"مهيم"، فقال: معناه: ما السبب في الذي أراه عليك؟ فلذلك أجاب بأنه تزوّج، قال: ويحتمل أن يكون استفهام إنكار؛ لما تقدّم من النهي عن التضمّخ بالخلوق، فأجاب بقوله:"تزوّجت"، أي فتعلّق بي منها، ولم أقصد إليه.
[ثالثها]: أنه كان قد احتاج إلى التطيّب للدخول على أهله، فلم يجد من طيب الرجال حينئذ شيئًا، فتطيّب من طيب المرأة، وصادف أنه كان فيه صُفْرة، فاستباح القليل منه عند عدم غيره؛ جمعًا بين الدليلين، وقد ورد الأمر في التطيّب للجمعة، ولو من طيب المرأة، فبقي أثر ذلك عليه.
[رابعها]: أنه كان يسيرًا، ولم يبق إلا أثره، فلذلك لم يُنكره.
[خامسها]: - وبه جزم الباجيّ - أن الذي يُكره من ذلك ما كان من زعفران وغيره من أنواع الطيب، وأما ما كان ليس بطيب، فهو جائز.
[سادسها]: أن النهي عن التزعفر للرجال ليس على التحريم بدلالة تقريره لعبد الرحمن بن عوف في هذا الحديث.
[سابعها]: أن الْعَرُوس يُستثنى من ذلك، ولا سيّما إذا كان شابًّا، ذكر ذلك أبو عُبيد قال: وكانوا يُرخّصون للشابّ في ذلك أيام عُرْسه، قال: وقيل: كان في أوّل الإسلام من تزوّج لبس ثوبًا مصبوغًا علامةً لزواجه ليُعان على وليمة عرسه، قال: وهذا غير معروف.
قال الحافظ: وفي استفهام النبيّ صلى الله عليه وسلم له عن ذلك دلالة على أنه لا يختصّ بالتزويج، لكن وقع في بعض طرقه عند أبي عوانة من طريق شعبة، عن حميد بلفظ: "فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فرأى عليّ بَشَاشة العُرْس، فقال: أتزوّجتَ؟ قلت:
تزوّجت امرأة من الأنصار"، فقد يتمسّك بهذا السياق للمدّعي، ولكن القصّة واحدة، وفي أكثر الروايات أنه قال له: "مهيم؟، أو ما هذا؟ "، فهو المعتمد.
وبَشَاشة العُرْس أثره، وحسُنه، أو فرحه وسروره، يقال: بَشَّ فلان بفلان، أي أقبل عليه فرحًا به ملطفًا به. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن الجواب الثاني هو الصحيح، وحاصله أن أثر الصفرة تعلّقت بعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه من جهة زوجته، دون قصد، فلذلك لم يُنكر النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه ذلك، فلا تعارض بينه، وبين حديث النهي عن التزعفر للرجال، وهذا هو الأرجح، كما تقدّم ترجيح النوويّ له، وعزاه للمحققين، والله تعالى أعلم بالصواب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3491]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، تَزَوَّجَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ) البصريّ، ثقةٌ [10](ت 238)(م د س) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
2 -
(أَبُو عَوَانَةَ) الوضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ البزّاز، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: هذا الإسناد كسابقه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (228) من رباعيّات الكتاب.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3492]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، وَحُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَن عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ تَزَوَّجَ امْرَأةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قبل بابين.
2 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم قريبًا.
3 -
(حُمَيْدُ) بن أبي حُميد الطويل، أبو عبيدة البصريّ، ثقةٌ [5](ت 2 أو 143)(ع) تقدم في "الطهارة" 23/ 639.
والباقون ذُكروا في الباب.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3493]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ الله قَالَا: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ خِرَاشٍ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ وَهْبٍ: قَالَ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو دَاوُدَ) سليمان بن داود بن الجارود الطيالسيّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 204)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) الحمّال البغداديّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ) بن حازم بن زيد الأزديّ، أبو العباس البصريّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 315.
6 -
(أَحْمَدُ بْنُ خِرَاشٍ) هو: أحمد بن الحسن بن خِرَاش، أبو جعفر البغداديّ، صدوقٌ [11](ت 242 (م ت) تقدم في "الإيمان" 42/ 280.
7 -
(شَبَابَةُ) بن سوّار المدائنيّ، تقدّم قريبًا.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: رواية أبي داود الطيالسيّ، عن شعبة، ساقها أبو داود رحمه الله نفسه في "مسنده" 1/ 284:
(2128)
- حدّثنا أبو داود، قال: حدّثنا شعبة، قال: أخبرني حميد، سمع أنسًا قال: تزوج عبد الرحمن بن عوف، على نواة من ذهب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أَوْلِم ولو بشاة". انتهى.
ورواية وهب، عن شعبة، ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" 4/ 91 فقال:
(3324)
- أنبأ عبد الله بن جعفر، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود، ثنا شعبة، أخبرني حميد، أنه سمع أنسًا (ح) وثنا أبو محمد بن حيان، ثنا هارون بن عبد الله، ثنا وهب بن جرير، ثنا شعبة، عن حميد الطويل، سمعت أنسًا، قال: قال عبد الرحمن بن عوف: تزوجت امرأة من الأنصار على وزن نواة من ذهب، أو وزن نواة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى عليّ ثياب العُرْس، فقال:"تزوجتَ؟ "، قلت: نعم من الأنصار، قال:"أولم بشاة".
لفظُ وهب بن جرير. انتهى.
وأما رواية شباية بن سوّار، عن شعبة، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3494]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، قَالَا: أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: رَآنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَيَّ بَشَاشَةُ الْعُرْسِ، فَقُلْتُ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: "كَمْ أَصْدَقْتَهَا؟ "، فَقُلْتُ: نَوَاةً، وَفِي حَدِيثِ إِسْحَاقَ: مِنْ ذَهَبٍ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ) بن إسماعيل السلميّ البخاريّ، نزيل مرو، ثقة
(1)
[11] من أفراد المصنّف تقدّم في "الصيام" 39/ 2754.
2 -
(النَّضْرُ بْن شُمَيْلٍ) المازنيّ، أبو الحسن البصريّ النحويّ، نزيل مرو، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 204) وله (82) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.
3 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ) الْبُنانيّ البصريّ، ثقةٌ [4](ت 130)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (رَآنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَيَّ بَشَاشَةُ الْعُرْسِ) هي الفرح الذي حصل منه، وبشاشة اللقاء: الفرح بالمرء، والانبساط إليه، والأُنس به، قال في "العمدة": ويُروَى: "فرأى النبيّ صلى الله عليه وسلم شيئًا يُشبه العُرْس"، قال ابن قرقول: كذا في كتاب الأصيليّ، والقابسيّ، والنسفيّ، وبعض رواة البخاريّ، وهو تصحيف، وصوابه:"بشاشة العُرْس" كما لأبي ذرّ، وابن السكن، ويُروَى:"العروس". انتهى
(2)
.
وقوله: (فَقُلْتُ: تَزَوَّجْتُ إلخ) معطوف على محذوف، تقديره:"فسألني، فقلت إلخ"، ولفظ البخاريّ:"فرأى النبيّ صلى الله عليه وسلم بشاشة الْعُرس، فسأله، فقال: إني تزوجت امرأة إلخ".
وقوله: (وَفِي حَدِيثِ إِسْحَاقَ: مِنْ ذَهَبٍ) بيّن به أن شيخه إسحاق بن راهويه زاد لفظة "من ذهب" بعد قوله: "نواةً".
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3495]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْن الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، قَالَ شُعْبَةُ: وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ تَزَوَّجَ امْرَأةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ).
(1)
قال في "التقريب": مقبول، والحقّ أنه ثقةٌ، فقد روى عنه جماعة، وأخرج له مسلم، ووثقه الذهبيّ في "الميزان" 4/ 15، فتنبّه.
(2)
"عمدة القاري" 20/ 138.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو حَمْزَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ) ويقال: ابن عبد الله، ويقال: أبو حمزة بن أبي عبد الله كيسان، وقيل: خِدَاش، المازنيّ البصريّ، جار شعبة، مقبول [4].
رَوَى عن أنس، وحميد بن هلال، وصفوان بن مُحْرِز، وسليمان بن يسار، وغيرهم.
ورَوَى عنه شعبة، ويونس الإسكاف، ذكره ابن حبان في "الثقات"، قال الحافظ: جزم مسلم أن عبد الرحمن بن كيسان الذي رَوَى عن شعبة
(1)
من رواية وكيع عنه وهو أبو حمزة هذا.
تفرّد به المصنّف، والنسائيّ في "عمل اليوم والليلة"، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
والباقون ذُكروا قبله، و"أبو داود" هو: سليمان بن داود الطيالسيّ.
والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3496]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا وَهْبٌ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: مِنْ ذَهَبٍ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
وكلّهم ذُكروا قبل حديثين، و"وهب": هو ابن جرير بن حازم.
وقوله: (فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) قال صاحب "التنبيه": أولاد عبد الرحمن بن عوف: سالم الأكبر، مات قبل الإسلام، ومحمد، وإبراهيم، وحُميد، وإسماعيل، ومَعْنٌ، وعُمر، وزيد، وعروة الأكبر، وسالم الأصغر، وأبو بكر، وعبد الله، وأبو سلمة، وعبد الرحمن، وسُهيل، وعثمان، وعروة، ويحيى، وبلالٌ. قاله ابن الجوزيّ. انتهى
(2)
.
(1)
هكذا نسخة: "التهذيب"، ولعله:"روى عنه شعبة"، فليُحرّر.
(2)
"تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم"(ص 237).
قال الجامع عفا الله عنه: لم أجد مَنْ بيَّن القائل من هؤلاء، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(15) - (بَابُ فَضِيلَةِ إِعْتَاقِهِ أَمَتَهُ، ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[3497]
(1365)
(1)
- (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - يَعْنِي: ابْنَ عُلَيَّةَ - عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَزَا خَيْبَرَ، قَالَ: فَصَلَّيْنَا عِنْدَهَا صَلَاةَ الْغَدَاةِ، بِغَلَسٍ، فَرَكِبَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَكِبَ أَبُو طَلْحَةَ، وَأَنَا رَدِيفُ أَبِي طَلْحَةَ، فَأَجْرَى نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي زُقَاقِ خَيْبَرَ، وَإِن رُكْبَتِي لَتَمَسُّ فَخِذَ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَانْحَسَرَ الإِزَارُ عَنْ فَخِذِ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنِّي لأَرَى بَيَاضَ فَخِذِ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا دَخَلَ الْقَرْيَةَ قَالَ:"اللهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ، فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْدَرِينَ"، قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ: وَقَدْ خَرَجَ الْقَوْمُ إِلَى أَعْمَالِهِمْ، فَقَالُوا: مُحَمَّدٌ وَاللهِ، قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ: وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ، قَالَ: وَأَصَبْنَاهَا عَنْوَةً، وَجُمِعَ السَّبْيُ، فَجَاءَهُ دِحْيَةُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَعْطِنِي جَارِيَةً مِنَ السَّبْيِ، فَقَالَ:"اذْهَبْ، فَخُذْ جَارِيةً"، فَأَخَذَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ، فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ أَعْطَيْتَ دِحْيَةَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ، سَيِّدِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، مَا تَصْلُحُ إِلَّا لَكَ، قَالَ:"ادْعُوهُ بِهَا"، قَالَ: فَجَاءَ بِهَا، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"خُذْ جَارِيَةً مِنَ السَّبْيِ غَيْرَهَا"، قَالَ: وَأَعْتَقَهَا، وَتَزَوَّجَهَا. فَقَالَ لَهُ ثَابِتٌ: يَا أَبَا حَمْزَةَ مَا أَصْدَقَهَا؟ قَالَ: نَفْسَهَا، أَعْتَقَهَا، وَتَزَوَّجَهَا، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالطَّرِيقِ جَهَّزَتْهَا لَهُ أُمُّ سُلَيْمٍ، فَأَهْدَتْهَا لَهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَأَصْبَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَرُوسًا، فَقَالَ:"مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فلْيَجِئْ بِهِ"، قَالَ: وَبَسَطَ نِطَعًا، قَالَ: فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالأَقِطِ، وَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالتَّمْرِ،
(1)
مكرّر.
وَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالسَّمْنِ، فَحَاسُوا حَيْسًا، فَكَانَتْ وَلِيِمَةَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) تقدّم قريبًا.
3 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ) بن صُهيب البنانيّ، تقدّم قبل حديث.
4 -
(أَنَسُ) بن مالك رضي الله عنه، ذُكر في الحديث الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (229) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فبغداديّ، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أنَسٍ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَزَا خَيْبَرَ) بوزن جعفر: مدينة كبيرة ذات حصون، ومزارع على ثمانية بُرُد من المدينة إلى جهة الشام، وكانت غزوتها في المحرّم سنة سبع من الهجرة، قاله في "الفتح"
(1)
، وقال في "العمدة": خيبر بلغة اليهود حصن، وقيل: أول ما سكن فيها رجل من بني إسرائيل، يسمى خيبر، فسُمّيت به، وهي بلد عترة في جهة الشمال، والشرق من المدينة النبويّة، على ستة مراحل، وكان بها نخيل كثير، وكانت في صدر الإسلام دارًا لبني قريظة والنضير، وكانت غزوة خيبر في جمادى الأولى سنة سبع من الهجرة، قاله ابن سعد، وقال ابن إسحاق: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من الحديبية ذا الحجة، وبعض المحرم، وخرج في بقيته غازيًا إلى خيبر، ولم يبق من السنة السادسة إلا شهر وأيام، وهو غير منصرف للعلمية والتأنيث. انتهى
(2)
.
وسيأتي تمام البحث في هذا في "كتاب الجهاد" - إن شاء الله تعالى - (قَالَ) أنس (فَصَلَّيْنَا عِنْدَهَا)؛ أي: خارجًا منها (صَلَاةَ الْغَدَاةِ) قال النوويّ: فيه
(1)
"الفتح" 9/ 295.
(2)
"عمدة القاري" 4/ 84.
دليل على أنه لا كراهة في تسمية الصبح الغداة، وقال بعض أصحابنا: يكره، والصواب الأول. انتهى
(1)
.
(بِغَلَسٍ) بفتحتين: ظلمة آخر الليل، وفي رواية للبخاريّ من طريق حميد الطويل، عن أنس رضي الله عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى خيبر ليلًا، وكان إذا أتى قومًا بليل، لم يقربهم حتى يُصبح. . ." الحديث. وفي رواية بلفظ: "إذا غزا لم يغزُ بنا حتى يُصبح، وينظر، فإن سمع أذانًا كفّ عنهم، وإلا أغار، قال: فخرجنا إلى خيبر، فانتهينا إليهم ليلًا، فلما أصبح، ولم يسمع أذانًا ركب. . .". وحكى الواقديّ أن أهل خيبر سمعوا بقصده لهم، فكانوا يخرجون في كلّ يوم متسلّحين، مستعدّين، فلا يرون أحدًا، حتى إذا كانت الليلة التي قدِمَ فيها المسلمون ناموا، فلم تتحرّك لهم دابّةٌ، ولم يَصِحْ لهم ديك، وخرجوا بالمساحي، طالبين مزارعهم، فوجدوا المسلمين. قاله في "الفتح".
وذكر ابن إسحاق أنه نزل بوادٍ يقال له: الرجيع، بينهم وبين غَطَفَان؛ لئلا يُمِدُّوهم، وكانوا حُلفاءهم، قال: فبلغني أن غطفان تجهّزوا، وقصدوا خيبر، فسمعوا حسًّا خلفهم، فظنّوا أن المسلمين خلفوهم في ذراريّهم، فرجعوا، فأقاموا، وخذلوا أهل خيبر.
(فَرَكِبَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَكِبَ أَبُو طَلْحَةَ) زيد بن سهل الأنصاريّ، شَهِد العقبة، والمشاهد كلّها، وهو أحد النقباء، رُوي له اثنان وتسعون حديثًا، رَوى له البخاري منها ثلاثة، مات سنة اثنتين، أو أربع وثلاثين بالمدينة، أو بالشام، أو في البحر، وكان أنس ربيبه.
(وَ) الحال (أَنَا رَدِيفُ) بفتح الراء، وكسر الدال؛ أي: راكب خلف (أَبِي طَلْحَةَ) فيه جواز الإرداف، وقد كثرت الأحاديث الصحيحة بمثله، ومحله ما إذا كانت الدابة مطيقة (فَأَجْرَى) من الإجراء (نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: مركوبه، وعن أنس رضي الله عنه قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قريظة والنضير على حمار، ويوم خيبر عل حمار مخطوم برَسَن لِيف، وتحته إكاف من ليف"، رواه البيهقيّ، والترمذيّ، وقال: وهو ضعيف، وقال ابن كثير: والذي ثبت في "الصحيح"
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 218، 219.
عند البخاريّ عن أنس: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجرى في زقاق خيبر حتى انحسر الإزار عن فخذه"، فالظاهر أنه كان يومئذ على فرس، لا على حمار، ولعل هذا الحديث إن كان صحيحًا فهو محمول على أنه ركبه في بعض الأيام، وهو محاصرها. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ: فيه دليل لجواز إجراء الخيل، وأنه لا يُسقط المروءة، ولا يُخِلّ بمراتب أهل الفضل، لا سيما عند الحاجة للقتال، أو رياضة الدابة، أو تدريب النفس، ومعاناة أسباب الشجاعة. انتهى
(2)
.
(فِي زُقَاقِ خَيْبَرَ) بضم الزاي، وبالقافين، وهو السّكّة، يُذَكَّر، ويؤنث، والجمع أزقة، وزُقّان، بضم الزاي، وتشديد القاف، وبالنون، وفي "الصحاح": قال الأخفش: أهل الحجاز يؤنثون الطريق، والصراط، والسبيل، والسوق، والزقاق، وبنو تميم يذكّرون هذا كلَّه، والجمع الزّقّان والأَزِقّة، مثل حُوار وحُوران، وأَحورة. انتهى.
وقوله: (وَإِنَّ رُكْبَتي لَتَمَسُّ) بفتح الميم، وضمّها، يقال: مَسِسته، من باب تَعِبَ، وفي لغة مَسَسْتُهُ مَسًّا، من باب قَتَلَ: إذا أفضيت إليه من غير حائل. أفاده في "المصباح".
(فَخِذَ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم) جملة حاليّة، و"الفخد" فيه أربع لغات: فتح الفاء، وكسر الخاء، وتسكينها مع الفتح، والكسر، الرابعة كسر الفاء إتباعًا للخاء، وقد تقدّم هذا غير مرّة (وَانْحَسَرَ)؛ أي: انكشف (الإِزَارُ عَنْ فَخِذِ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم) هكذا وقع في رواية مسلم بلفظ: "انحسر"، وكذا هو أحمد، والطبراني، وقع في رواية البخاري بلفظ:"ثم إنه حسر"، قال الحافظ: والصواب أنه عنده بفتح المهملتين، ويدل على ذلك تعليقه الماضي في أوائل الباب، حيث قال:"وقال أنس: حسر النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وضبطه بعضهم بضم أوله، وكسر ثانيه، على البناء للمفعول بدليل رواية مسلم: فانحسر، وليس ذلك بمستقيم؛ إذ لا يلزم من وقوعه كذلك في رواية مسلم أن لا يقع عند البخاري على خلافه، ويكفي في
(1)
"عمدة القاري" 4/ 84.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 219.
كونه عند البخاريّ بفتحتين ما تقدم من التعليق. انتهى
(1)
.
(فَإِنِّي لأَرَى بَيَاضَ فَخِذِ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم) فيه أن الفخذ ليس بعورة؛ إذ لو كان عورة لما كشفه النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال القرطبيّ: حديث أنس، وما معه إنما ورد في قضايا معينة، في أوقات مخصوصة يتطرق إليها من احتمال الخصوصية، أو البقاء على أصل الإباحة ما لا يتطرق إلى حديث جرهد
(2)
، وما معه؛ لأنه يتضمن إعطاء حكم كليّ، دماظهار شرع عام، فكان العمل به أولى. انتهى.
وقال النوويّ: ذهب أكثر العلماء إلى أن الفخذ عورة، وعن أحمد، ومالك في رواية: العورة: القبل والدبر فقط، وبه قال أهل الظاهر، وابن جرير، والإصطخريّ، قال الحافظ: في ثبوت ذلك عن ابن جرير نظر، فقد ذكر المسألة في "تهذيبه"، وردّ على من زعم أن الفخذ ليست بعورة.
ومما احتجوا به قول أنس في هذا الحديث: "وإن ركبتي لتمس فخذ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم"؛ إذ ظاهره أن المس كان بدون الحائل، ومس العورة بدون حائل لا يجوز، وعلى رواية مسلم، ومن تابعه في أن الإزار لم ينكشف بقصد منه صلى الله عليه وسلم يمكن الاستدلال على أن الفخذ ليست بعورة من جهة استمراره على ذلك؛ لأنه وإن جاز وقوعه من غير قصد، لكن لو كانت عورةً لم يُقَرّ على ذلك؛ لمكان عصمته صلى الله عليه وسلم، ولو فُرض أن ذلك وقع لبيان التشريع لغير المختار، لكان ممكنًا، لكن فيه نظر من جهة أنه كان يتعين حينئذ البيان عقبه، كما في قضية السهو في الصلاة، وسياقه عند أبي عوانة، والجوزقيّ من طريق عبد الوارث، عن عبد العزيز ظاهر في استمرار ذلك، ولفظه:"فأجرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في زُقاق خيبر، وإن ركبتي لتمسّ فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم، وإني لأرى بياض فخذيه". انتهى
(3)
.
(1)
"الفتح" 2/ 86.
(2)
أراد به ما أخرجه أحمد، والترمذيّ، وحسّنه، وصححه ابن حبّان عن زرعة بن مسلم بن جرهد، عن جدّه جرهد، قال: مرّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا في المسجد، وعليّ بردة، وقد انكشفت فخذي، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"غطّ فخذك، يا جرهد، فإن الفخذ عورة".
(3)
"الفتح" 2/ 86، 87.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن الأرجح في هذه المسألة كون الفخذ عورةً؛ لحديث جرهد، فإنه نصّ صريح في ذلك، وأما حديث أنس رضي الله عنه، وإن كان أقوى صحّة، كما قال البخاريّ:"حديث أنس أسند، وحديث جرهد أحوط"، إلا أن الأولى هو الأخذ بحديث جرهد. والله تعالى أعلم.
(فَلَمَّا دَخَلَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (الْقَرْيَةَ)؛ يعني: خيبر، وهذا مشعر بأن ذلك الزقاق كان خارج القرية (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("اللهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ) في رواية للبخاريّ: فرفع يديه، وقال:"الله أكبر خربت خيبر"، قال السهيليّ: يؤخذ من هذا الحديث التفاؤل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما رأى آلات الهدم - مع أن لفظ الْمِسْحاة من سَحَوتُ: إذا قشرتَ - أخذ منه أن مدينتهم ستخرب. انتهى.
ويَحْتَمِل أن يكون قال: "خربت خيبر" بطريق الوحي، ويؤيّده قوله بعد ذلك:"إنا إذا نزلنا. . . إلخ". قاله في "الفتح".
وقال العينيّ: قوله: "خربت خيبر": أي: صارت خرابًا، وهل ذلك على سبيل الخبرية، فيكون ذلك من باب الإخبار بالغيب، أو يكون ذلك على جهة الدعاء عليهم، أو على جهة التفاؤل لَمّا رآهم خرجوا بمساحيهم، ومكاتلهم، وذلك من آلات الحراث، والهدم؟ ويجوز أن يكون أخذًا من اسمها، وقيل: إن الله تعالى أعلمه بذلك. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ: فيه دليل لاستحباب الذكر، والتكبير عند الحرب، وهو موافق لقول الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} الآية [الأنفال: 45]، ولهذا قالها ثلاث مرات، ويؤخذ منه أن الثلاث كثير.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "خربت خيبر" فذكروا فيه وجهين: أحدهما: أنه دعاء، تقديره: أسأل الله خرابها، والثاني: أنه إخبار بخرابها على الكفار، وفتحها للمسلمين. انتهى
(2)
.
(إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ) قال الجوهريّ: ساحة الدار: ناحيتها، والجمع ساحات، وسُوحٌ، وساحٌ أيضًا، مثل بَدَنة وبُدْن، وخَشَبة وخشب، قال
(1)
"عمدة القاري" 4/ 85.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 219.
العينيّ رحمه الله: على هذا أصل ساحة سَوَحة، قُلبت الواو ألفًا؛ لتحركها، وانفتاح ما قبلها، وأصل الساحة: الفضاء بين المنازل، ويُطلق على الناحية، والجهة، والبناء. انتهى
(1)
.
وقال الفيّوميّ: ساحة الدار: الموضع المتّسع أمامها، والجمع ساحات، وسَاحٌ، مثلُ ساعة وساعات، وساعٍ. انتهى.
(فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ")؛ أي: بئس صباح الذين أُنذروا بالعذاب، والمخصوص بالذمّ محذوف؛ أي: صباحهم، وخصّ الصباح بالذِّكر؛ لأن العذاب كان يأتيهم فيه
(2)
. (قَالَهَا)؛ أي: قال صلى الله عليه وسلم -هذه الجملة (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) تأكيدًا للوقوع (قَالَ) أنس (وَقَدْ خَرَجَ الْقَوْمُ إِلَى أَعْمَالِهِمْ) قال الكرمانيّ: أي: مواضع أعمالهم، وقال العينيّ: بل معناه: خرج القوم لأعمالهم التي كانوا يعملونها، وكلمة "إلى" تأتي بمعنى اللام
(3)
.
(فَقَالُوا)؛ أي: القوم الذين خرجوا إلى أعمالهم لمّا رأوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه (مُحَمَّدٌ وَاللهِ)؛ أي: جاء محمد، فارتفاعه على أنه فاعل لفعل محذوف، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذا محمد (قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ) بن صُهيب الراوي عن أنس رضي الله عنه، وقوله:(وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا) هذا يدلّ على أنه لم يسمع من أنس هذه اللفظة، بل سمع منه:"فقالوا: محمد"، وسمع من بعض أصحابه عنه:"والخميس"، ووقع في رواية أبي عوانة، والجوزقيّ:"فقالوا: محمد والخميس" من غير تفصيل، فدلت هذه الرواية على أن في رواية عبد الوارث إدراجًا، وكذا وقع لحماد بن زيد عن عبد العزيز، وثابت، عند البخاريّ في آخر "صلاة الخوف".
قال الحافظ: وبعض أصحاب عبد العزيز يَحْتَمِل أن يكون محمد بن سيرين، فقد أخرجه البخاريّ من طريقه، أو ثابتًا البنانيّ، فقد أخرجه مسلم من طريقه. انتهى
(4)
.
(1)
"عمدة القاري" 4/ 85.
(2)
"فتح القدير" للشوكانيّ رحمه الله 6/ 224.
(3)
"عمدة القاري" 4/ 85.
(4)
"الفتح" 2/ 87.
وقال في "العمدة": هذه رواية عن المجهول؛ إذ لم يُعَيّن هذا البعض من هو؟ ثم ما ذكره الحافظ من الاحتمالات، ثم تعقّبه بقوله: قلت: يَحتمل أن يكون غيرهما، فعلى كل حال لا يخرج عن الجهالة، والحاصل أن عبد العزيز قال: سمعت من أنس: "قالوا: جاء محمد" فقط، وقال بعض أصحابه:"قالوا: محمد، والخميس".
(مُحَمَّدٌ)؛ أي: جاء محمد، أو هذا محمد (وَالْخَمِيسُ) بالرفع عطفًا على محمد، ويَحْتَمل النصب - إن صحّت به الرواية - على أنه مفعول معه، كما قال في "الخلاصة":
يُنْصَبُ تَالِي الْوَاوِ مَفْعُولًا مَعَهْ
…
فِي نَحْوِ "سِيرِي وَالطَّرِيقَ مُسْرِعَهْ"
بِمَا مِنَ الْفِعْلِ وَشِبْهِهِ سَبَقْ
…
ذَا النَّصْبُ لَا بِالْوَاوِ فِي الْقَوْلِ الأَحَقّ
زاد في رواية البخاريّ: "يعني الجيش"، قال في "الفتح": قوله: "يعني الجيش" تفسير من عبد العزيز، أو ممن دونه، وأدرجها عبد الوارث في روايته أيضًا، وسُمّي خميسًا؛ لأنه خمسة أقسام: مقدمة، وساقة، وقلب، وجناحان، وقيل: من تخميس الغنيمة، وتعقبه الأزهريّ بأن التخميس إنما ثبت بالشرع، وقد كان أهل الجاهلية يسمون الجيش خميسًا، فبان أن القول الأول أولى. انتهى.
وقال في "العمدة": قوله: "والخميس" بفتح الخاء، وسمّي الجيش خميسًا؛ لأنه خمسة أقسام: مقدمة، وساقة، وقلب، وجناحان، ويقال: ميمنة، وميسرة، وقلب، وجناحان، وقال ابن سيده: لأنه يُخَمّس ما وجده، وقال الأزهريّ: الخُمس إنما ثبت بالشرع، وكانت الجاهلية يسمّونه بذلك، ولم يكونوا يعرفون الخمس، ثم ارتفاع الخميس بكونه عطفًا على محمد، ويجوز أن تكون الواو فيه بمعنى "مع"، على معنى: جاء محمد مع الجيش. انتهى
(1)
.
وقال في "اللسان": و"الخميس": الجيش. وقيل: الجيش الْجَرّار. وقيل: الجيشُ الْخَشِنُ. وقال في "المحكم": الجيش يَخْمِسُ ما وجَدَه، وسمّي بذلك؛ لأنهم خمسُ فِرَق: المقدّمة، والقلب، والميمنة، والميسرة، والساقة، ألا ترى إلى قول الشاعر:
(1)
"عمدة القاري" 4/ 85.
قَدْ يَضْرِبُ الْجَيْشَ الْخَمِيسَ الأَزْوَرَا
فجعله صفة. انتهى
(1)
.
(قَالَ) أنس (وَأَصَبْنَاهَا)؛ أي: فتحنا خيبر (عَنْوَةً) بفتح العين، وهو القهر، يقال: أخذته عنوةً؛ أي: قهرًا، وقيل: أخذته عنوة؛ أي: عن غير طاعة، وقال ثعلب: أخذت الشيء عنوة؛ أي: قهرًا في عنف، وأخذته عنوة؛ أي: صلحًا في رفق.
وقال ابن الأثير: هو من عنا يعنو: إذا ذلّ وخَضَعَ، والْعَنْوَةُ: المرّة الواحدة منه، كان المأخوذ بها يَخْضَعُ ويَذِلُّ. وأُخِذت البلاد عَنْوَةً بالقهر والإذلال
(2)
.
وقال ابن الأعرابيّ: عنا يَعنُو: إذا أخذ الشيء قهرًا، وعنا يَعنُو عَنْوةً فيهما: إذا أخذ الشيء صُلحًا بإكرام ورِفْقٍ. والْعَنْوةُ أيضًا المودّةُ. وقال الأزهريّ: قولهم: أخذتُ الشيءَ عَنْوةً يكون غلبةً، ويكون عن تسليم وطاعةٍ ممن يُؤخذ منه الشيءُ، وأنشد الفرّاء لِكُثَيِّر [من الطويل]:
فَمَا أَخَذُوهَا عَنْوَةً عَنْ مَوَدَّةٍ
…
وَلَكِنَّ ضَرْبَ الْمَشْرَفِىِّ اسْتَقَالَهَا
فَهذا على معنى التسليم والطاعة بلا قتال. ذكره ابن منظور
(3)
.
وقال ابن التين: ويجوز أن يكون عن تسليم من أهلها، وطاعة بلا قتال، ونقله عن القزاز في "جامعه"، فحينئذ يكون هذا اللفظ من الأضداد، وقال أبو عمر: الصحيح في أرض خيبر كلها عنوة. انتهى
(4)
.
وقال في "الفتح": وقد اختُلف في فتح خيبر، هل كان عنوةً، أو صلحًا، وفي حديث عبد العزيز بن صُهيب، عن أنس رضي الله عنه التصريح بأنه كان عَنوةً، وبه جزم ابن عبد البرّ، وردّ على من قال: فُتحت صلحًا، قال: وإنما دخلت الشبهة على من قال: فُتحت صُلحًا بالحصنين اللذين أسلمهما أهلهما لحَقْن دمائهم، وهو ضربٌ من الصلح، لكن لم يقع ذلك إلا بحصار، وقتال. انتهى.
قال الحافظ: والذي يظهر أن الشبهة في ذلك قول ابن عمر رضي الله عنهما: "إن
(1)
"لسان العرب" 6/ 70.
(2)
"النهاية" 3/ 315.
(3)
"لسان العرب" 15/ 101.
(4)
"عمدة القاري" 4/ 85.
النبيّ صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر، فغلب على النخل، وألجأهم إلى القصر، فصالحوه على أن يُجلوا منها، وله الصفراء، والبيضاء، والحلقة، ولهم ما حملت ركابهم، على أن لا يكتموا، ولا يُغيّبوا. . ." الحديث، وفي آخره: "فسبَى نساءهم، وذراريّهم، وقسَّم أموالهم؛ للنكث الذي نكثوا، وأراد أن يُجليهم، فقالوا: دَعْنَا في هذه الأرض نُصلحها. . ." الحديث. أخرجه أبو داود، والبيهقيّ، وغيرهما. وكذلك أخرجه أبو الأسود في "المغازي" عن عروة. فعلى هذا كان قد وقع الصلح، ثم حدث النقض منهم، فزال أثر الصلح، ثمّ منّ عليهم بترك القتل، وإبقائهم عُمّالًا بالأرض، ليس لهم فيها ملكٌ، ولذلك أجلاهم عمر رضي الله عنه، فلو كانوا صُولحوا على أرضهم لم يُجْلَوا منها. والله أعلم.
قال: وقد احتجّ الطحاويّ على أن بعضها فُتح صلحًا بما أخرجه هو وأبو داود من طريق بُشَير بن يسار: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا قسم خيبر، عزل نصفها لنوائبه، وقسم نصفها بين المسلمين"، وهو حديث اختُلف في وصله وإرساله، وهو ظاهر في أن بعضها فُتح صُلحًا. والله أعلم. انتهى ما في "الفتح" بتصرّف يسير
(1)
.
وقال ابن المنذر: اختلفوا في فتح خيبر، كانت عنوة، أو صلحًا، أو جلاء أهلها عنها بغير قتال، أو بعضها صلحًا، وبعضها عنوةً، وبعضها جلاء أهلها عنها. قال: وهذا هو الصحيح، وبهذا أيضًا يندفع التضادّ بين الآثار. ذكره العينيّ
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله ابن المنذر: من أن بعضها فتح قهرًا، وبعضها فتح صلحًا، وبعضها أجلي أهلها عنها هو الحقّ؛ جمعًا بين الأحاديث، وأما ردّ ابن عبد البرّ بأن أنسًا صرّح بأن خيبر فُتحت عنوةً، فلا وجه له؛ لأن "العنوة" - كما تقدّم في كلام أهل اللغة - تُطلق على القهر والغلبة، وعلى الصلح، من الأضداد، فلا دلالة لها على ما قاله، بل الحقّ أن
(1)
"الفتح" 8/ 255، 256، كتاب "المغازي".
(2)
"عمدة القاري" 3/ 326.
الآثار المختلفة في هذا الباب تدلّ دلالةً واضحة فيما صححه ابن المنذر رحمه الله تعالى. والله تعالى أعلم.
(وَجُمِعَ السَّبْيُ) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: جمع الجيش ما سَبَوْهُ من أهل خيبر، حتى يُقسم بينهم.
و"السَّبْيُ" - بفتح، فسكون -: هو في الأصل مصدر، وُصف به؛ أي: القوم الْمَسْبِيِّين. قال الفيّوميّ: سَبَيتُ العدوّ سَبْيًا، من باب رمى، والاسم السِّبَاء، وزان كتاب، والقصر لغةٌ، وأسبيتهُ مثله، فالغلام سَبِيٌّ، ومَسْبيٌّ، والجارية سَبِيّةٌ، ومَسْبيّةٌ، وجمعها سَبَايا، مثلُ عطيّة وعطايا، وقَومٌ سَبْيٌ، وَصْفٌ بالمصدر. قال الأصمعيّ: لا يقال للقوم إلا كذلك. انتهى
(1)
.
(فَجَاءَهُ دِحْيَةُ) - بفتح الدال، وكسرها - ابن خليفة بن فَرْوة الكلبيّ الصحابيّ، وكان أجمل الناس وجهًا، وكان جبريل؛ يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورته، قال ابن سعد: أسلم قديمًا، ولم يشهد بدرًا، وشَهِد المشاهد، وبقي إلى خلافة معاوية، وكان رسول النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى قيصر، قال الواقديّ: لقيه بحمص في المحرّم سنة سبع. وقال بعضهم: سكن دمشق، وكان منزله بقرية الْمِزَّة. ومات في خلافة معاوية رضي الله عنه.
(فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَعْطِنِي جَارِيةً مِنَ السَّبْيِ، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("اذْهَبْ، فَخُدْ جَارِيَةً") قال في "الفتح": يَحْتَمِل أن يكون إذنه صلى الله عليه وسلم له في أخذ الجارية على سبيل التنفيل له، إما من أصل الغنيمة، أو من خمس الخمس، بعد أن مُيِّز، أو قبلُ على أن تُحسب منه إذا مُيِّز، أو أذن له في أخذها؛ لتقوّم عليه بعد ذلك، وتُحسب من سهمه. انتهى
(2)
.
وقال الكرمانيّ: فإن قلت: كيف جاز للرسول صلى الله عليه وسلم إعطاؤها لدحية قبل القسمة؟.
قلت: صفي المغنم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فله أن يعطيه لمن شاء.
وتعقّبه العينيّ، فقال: هذا غير مقنع؛ لأنه قال له ذلك قبل أن يُعَيِّن الصفيّ، وههنا أجوبة جيدة.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 265.
(2)
"الفتح" 2/ 87.
الأول: يجوز أن يكون أذن له في أخذ الجارية على سبيل التنفيل له، إما من أصل الغنيمة، أو من خمس الخمس، سواء كان قبل التمييز أو بعده.
الثاني: يجوز أن يكون أذن له على أنه يحسب من الخمس إذا ميز.
الثالث: يجوز أن يكون أذن له ليقوّم عليه بعد ذلك ويحسب من سهمه. انتهى
(1)
.
(فَأَخَذَ صَفِيَّةَ) بفتح الصاد المهملة (بِنْتَ حُيَيٍّ) بضم الحاء المهملة، وكسرها، وفتح الياء الأولى المخففة، وتشديد الثانية - ابن أخطب بن سَعْية - بفتح السين المهملة، وسكون العين المهملة، وفتح الياء - ابن سفلة بن ثعلبة وهي من بنات هارون؛ وأمها برة بنت سموأل، قال الواقديّ: ماتت في خلافة معاوية سنة خمسين، وقال غيره: ماتت في خلافة عليّ رضي الله عنه سنة ست وثلاثين، ودُفنت بالبقيع، وكانت تحت كنانة بن أبي الْحُقيق - بضم الحاء المهملة، وفتح القاف الأولى - قُتل يوم خيبر.
وقال النوويّ رحمه الله: وأما صفية فالصحيح أن هذا كان اسمها قبل السبي، وقيل: كان اسمها زينب، فسُمّيت بعد السبي والاصطفاء صفية. انتهى
(2)
.
(فَجَاءَ رَجُلٌ) قال الحافظ: لم أقف على اسمه (إِلَى نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا نَبِيِّ اللهِ أَعْطَيْتَ دِحْيَةَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ، سَيِّدِ قُرَيْظَةَ) بجرّ "سيّد" بدلًا، أو عطف بيان لـ "حُييّ"، و"قُريظة" بضم القاف، وفتح الراء، وسكون الياء، وبالظاء المعجمة (وَالنَّضِيرِ) بفتح النون، وكسر الضاد المعجمة، وهما قبيلتان عظيمتان، من يهود خيبر، وقد دخلوا في العرب على نسبهم إلى هارون؛ (مَا تَصْلُحُ) بضمّ اللام، وفتحها، من باب قعد، وكَرُم، وفتح (إِلَّا لَكَ) لشرفها، وجمالها (قَالَ) صلى الله عليه وسلم للصحابة الحاضرين ("ادْعُوهُ بِهَا")؛ أي: اطلبوه حتى يأتي بتلك الجارية (قَالَ) أنس (فَجَاءَ بِهَا، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا)؛ أي: الجارية (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ) لدحية ("خُذْ جَارِيَةً مِنَ السَّبْيِ غَيْرَهَا")؛ أي: فإنها لي، ذكر الشافعيّ في "الأم" عن سِيَر الواقديّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أعطاه أخت كنانة بن الربيع بن أبي الْحُقيق. انتهى، وكان كنانة زوج صفية، فكأنه صلى الله عليه وسلم طيّب خاطره لمّا استرجع
(1)
"عمدة القاري" 4/ 85.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 219.
منه صفية بأن أعطاه أخت زوجها، واسترجاع النبيّ صلى الله عليه وسلم صفية منه محمول على أنه إنما أذن له في أخذ جارية من حشو السبي، لا في أخذ أفضلهنّ، فجاز استرجاعها منه؛ لئلا يتميز بها على باقي الجيش، مع أن فيهم من هو أفضل منه.
ووقع في رواية لمسلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم اشترى صفية منه بسبعة أرؤس، وإطلاق الشراء على ذلك على سبيل المجاز، وليس في قوله:"سبعة أرؤس" ما ينافي قوله هنا: "خذ جارية"؛ إذ ليس هنا دلالة على نفي الزيادة، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال في "العمدة": فإن قلت: وقع في رواية مسلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم اشترى صفية منه بسبعة أرؤس.
قلت: إطلاق الشراء على ذلك على سبيل المجاز؛ لأنه لما أخذها منه على الوجه الذي نذكره الآن، وعوّضه عنها بسبعة أرؤس على سبيل التكرم والفضل، أطلق الراوي الشراء عليه؛ لوجود معنى المبادلة فيه.
وأما وجه الأخذ فهو أنه لما قيل له: إنها لا تصلح له من حيث إنها من بيت النبوة، فإنها من ولد هارون أخي موسى - عليهما الصلاة والسلام - ومن بيت الرياسة، فانها من بيت سيد قريظة والنضير، مع ما كانت عليه من الجمال الباعث على كثرة النكاح المؤدية إلى كثرة النسل، وإلى جمال الولد، لا للشهوة النفسانية، فإنه معصوم منها.
وعن المازريّ: يُحمل ما جرى مع دحية على وجهين:
أحدهما: أن يكون ردّ الجارية برضاه، وأذن له في غيرها.
الثاني: أنه إنما أذن له في جارية من حشو السبي، لا في أخذ أفضلهنّ، ولما رأى أنه أخذ أنفَسهنّ، وأجودهنّ نسبًا، وشرفًا، وجمالًا استرجعها؛ لئلا يتميز دحية بها على باقي الجيش، مع أن فيهم من هو أفضل منه، فقطع هذه المفاسد، وعوّضه عنها.
وقال القاضي: الأولى عندي أن صفية كانت فيئًا؛ لأنها كانت زوجة
(1)
"الفتح" 2/ 87.
كنانة بن الربيع، وهو وأهله من بني الْحُقيق كانوا صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشرط عليهم أن لا يكتموا كنزًا، فإن كتموه فلا ذمّة لهم، وسألهم عن كنز حُيَيِّ بن أخطب، فكتموه، فقالوا: أذهبته النفقات، ثم عَثَر عليه عندهم، فانتقض عهدهم، فسباهم، وصفية من سبيهم، فهي فيء، لا يخمَّس، بل يفعل فيه الإمام ما رأى.
وتعقّبه العينيّ بأن هذا تفريع على مذهبه أن الفيء لا يخمس، ومذهب غيره أنه يخمس. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي قاله القاضي عياض: من أنها كانت فيئًا، فكان أمرها إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أقرب، وأرجح؛ إذ به يزول ما تقدّم من الإشكال، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقال أبو العباس القرطبيّ - بعد ذكر نحو ما تقدّم -: وحَذَارِ من أن يَظُنّ جاهل برسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي حمله على ذلك غلبة الشهوة النفسانيّة، وإيثار اللذّة الجسمانيّة، فإن ذلك اعتقادٌ يجرّه جهل بحال النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبأنه معصوم من مثل ذلك، إذ قد أعانه الله تعالى على شيطانه، فأسلم، فلا يأمره إلا بخير، وقد نزع الله من قلبه حظّ الشيطان، حيث شقّ قلبه، فأخرجه منه، وطهّره، وملأه حكمة وإيمانًا، وإنما الباعث له على اختيار ما اختاره من أزواجه ما ذكرتُ لك، وما في معناه. انتهى
(1)
.
(قَالَ) أنس (وَأَعْتَقَهَا)؛ أي: أعتق صلى الله عليه وسلم صفيّة (وَتَزَوَّجَهَا) قال عبد العزيز (فَقَالَ لَهُ)؛ أي: لأنس (ثَابِتٌ) البنانيّ (يَا أَبَا حَمْزَةَ) كنية أنس رضي الله عنه (مَا أَصْدَقَهَا؟)"ما" استفهاميّة؛ أي: أيَّ شيء جعل لها صداقًا لما تزوّجها؟ (قَالَ) أنس (نَفْسَهَا)؛ أي: جعل مهرها نفسها، ثم فسّره بقوله:(أَعْتَقَهَا، وَتَزَوَّجَهَا، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالطَّرِيقِ) وفي رواية في "الصحيح": "فخرج بها حتى إذا بلغ سدّ الرَّوْحاء"، و"السدّ" بفتح السين وضمّها، وهو جبل الرَّوحاء، وهي قرية جامعة من عمل الْفُرْع لمزينة، على نحو أربعين ميلًا من المدينة، أو نحوها. و"الرَّوحاء" بفتح الراء، والحاء المهملة ممدود. وفي رواية: "أقام عليها بطريق
(1)
"المفهم" 4/ 140.
خيبر ثلاثة أيام حين أعرس بها، وكانت فيمن ضرب عليها الحجاب". وفي رواية:"أقام بين خيبر والمدينة ثلاثة أيام، فبنى بصفيّة"(جَهَّزَتْهَا لَهُ)؛ أي: هيّئتها، وأصلحتها لأجل النبيّ صلى الله عليه وسلم (أُمُّ سُلَيْمٍ) بضم السين المهملة، وهي أم أنس (فَأَهْدَتْهَا)؛ أي: زفّتها (لَهُ) صلى الله عليه وسلم (مِنَ اللَّيْلِ)؛ أي: في الليل، فـ "من" بمعنى "في"، أو هي للتبعيض؛ أي: في بعض الليل. وفي رواية: "فهدتها له"، قيل: هو الصواب.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: بل الصواب جواز الوجهين، فقد قال الفيّوميّ رحمه الله: وهَدَيتُ الْعَرُوس إلى بَعْلها هِدَاءً بالكسر والمدّ، فهي هَدِيٌّ، وهَدِيّةٌ، ويُبْنَى للمفعول، فيقال: هُدِيَتْ فهي مَهْديّةٌ، وأهديتها بالألف لغة قيس عَيْلَانَ فهي مُهْدَاةٌ. انتهى
(1)
.
(فَأَصْبَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَرُوسًا) العروس بالفتح: وصفٌ يستوي فيه الذكر، والأنثى ما داما في إعراسهما، وجمع الرجل: عُرُس بضمّتين، مثل رسول ورُسُل، وجمع المرأة: عرائس، قاله الفيّوميّ
(2)
.
وقال في "العمدة": قوله: "عروسًا" على وزن فَعُول يستوي فيه الرجل والمرأة، ما داما في إعراسهما، يقال: رجل عَروس، وامرأة عَروس، وجمع الرجل عُرُس، وجمع المرأة عرائس، وفي المثل: كاد العروس أن يكون ملكًا، والعروس اسم حصن باليمن، وقول العامة: العروس للمرأة، والعريس للرجل ليس له أصل. انتهى
(3)
.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم للصحابة رضي الله عنهم ("مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ) من الطعام (فَلْيَجِئْ بِهِ") وفي بعض النسخ: "فليجئني به" بالنون، وفيه دليل لوليمة العرس، وأنها بعد الدخول، وقد سبق أنها تجوز قبله وبعده، وفيه إدلال الكبير على أصحابه، وطلب طعامهم في نحو هذا، وفيه أنه يُستحب لأصحاب الزوج وجيرانه مساعدته في وليمته بطعام من عندهم
(4)
.
(قَالَ) أنس (وَبَسَطَ نِطَعًا)؛ أي: أمر به أن يُبسط، والنطع فيه أربع لغات
(1)
"المصباح" 2/ 636.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 401.
(3)
"عمدة القاري" 4/ 87.
(4)
"شرح النوويّ" 9/ 222.
مشهورات: فتح النون، وكسرها، مع فتح الطاء، وإسكانها، وأفصحهنّ كسر النون، مع فتح الطاء، وجمعه نُطوع، وأنطاع
(1)
.
(قَالَ) أنس (فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالأَقِطِ) قال الفيّوميّ رحمه الله: الأَقِطُ: قال الأزهريّ: يُتَّخَذُ من اللبن المخيض، يُطْبَخُ، ثم يُترك، حتى يَمْصُلَ
(2)
، وهو بفتح الهمزة، وكسر القاف، وقد تسكّن القاف للتخفيف، مع فتح الهمزة، وكسرها، مثل تخفيف كَبِدٍ، نقله الصَّغَاني عن الفَرَّاء. انتهى
(3)
.
(وَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالتَّمْرِ، وَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالسَّمْنِ، فَحَاسُوا حَيْسًا) الحيس هو الأقط، والتمر، والسمن، يُخلط، ويُعجن، ومعناه: جعلوا ذلك حيسًا، ثم أكلوه، قاله النوويّ
(4)
.
وقال في "الفتح": قوله: "فحاسوا" بمهملتين؛ أي: خلطوا، والحيس بفتح أوله: خليط السمن، والتمر، والأقط، قال الشاعر:
التَّمْرُ وَالسَّمْنُ جَمِيعًا وَالأَقِطْ
…
الْحَيْسُ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِطْ
وقد يَختلط مع هذه الثلاثة غيرها، كالسويق. انتهى
(5)
.
وقال ابن سيده: الْحَيْسُ هو الأَقِطُ يُخلَط بالسمن والتمر، وحاسه حَيْسًا وحَيْسَةً: خَلَطَه، قال الشاعر [من الكامل]:
وَإِذَا تَكُونُ كَرِيهَةٌ أُدْعَى لَهَا
…
وَإِذَا يُحَاسُ الْحَيْسُ يُدْعَى جُنْدَبُ
(فَكَانَتْ) تلك الأشياء التي جُمعت على النطع (وَلِيمَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بنصب "وليمةَ" على الخبريّة لـ "كان"، ويَحْتَمِل أن تكون "كان" تامّة - إن ثبت روايةً - و"وليمة" مرفوع على الفاعليّة؛ أي: فحصلت، ووقعت وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك الأشياء المجموعة، والله تعالى أعلم.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 222.
(2)
المَصْلُ مثال فَلْس: عُصارة الأقط، وهو ماؤه الذي يُعصر منه حين يطبخ، قاله ابن السكيت. "المصباح المنير" 2/ 574.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 17.
(4)
"شرح النوويّ" 9/ 222.
(5)
"الفتح" 2/ 88.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 3497 و 3498](1365)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(371)، و"الأذان"(610)، و"صلاة الخوف"(947)، و"الجهاد"(2944 و 2991)، و"المناقب"(3647 و 4198)، و"المغازي"(4200)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(1/ 271 - 272)، وفي "النكاح"(6/ 131 - 132)، و"الكبرى"(5576 و 5577)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 468)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 206 و 263)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2127)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(2/ 108)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(12/ 367 - 368 و 14/ 461)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4745 و 4746)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3804)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 79)، و (البغويّ) في "مسنده"(2702)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان جواز كون العتق صداقًا في النكاح، وفيه خلاف، سيأتي تحقيقه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى - والصحيح جوازه.
2 -
(ومنها): أنه يجوز للسيّد تزويج أمته إذا أعتقها من نفسه، ولا يحتاج إلى وليّ، ولا حاكم، وقد اختَلَف السلف، هل يزوّج الوليّ موليّته من نفسه، أم يحتاج إلى وليّ آخر؟، فقال الأوزاعيّ، وربيعة، والثوريّ، ومالك، وأبو حنيفة، وأكثر أصحابه، والليث: يُزوّج الوليّ نفسه، ووافقهم أبو ثور. وعن مالك: لو قالت الثيّب لوليّها: زوّجني بمن رأيتَ، فزوّجها من نفسه، أو ممن اختار لزمها ذلك، ولو لم تعلم عين الزوج. وقال الشافعيّ: يزوّجهما السلطان، أو وليّ آخر مثله، أو أبعد منه، ووافقه زفرُ، وداود. وحجّتهم أن الولاية شرطٌ في العقد، فلا يكون الناكح مُنكحًا، كما لا يبيع من نفسه.
قال الجامع عفا الله عنه: القول بجواز تزويج المولى أمته التي أعتقها من نفسه هو الأرجح عندي؛ لظاهر الحديث، فليُتأمّل.
3 -
(ومنها): مشروعيّة البناء في السفر.
4 -
(ومنها): جواز إطلاق صلاة الغداة على صلاة الصبح؛ خلافًا لمن كره ذلك.
5 -
(ومنها): جواز الإرداف، إذا كانت الدّابّة مُطيقةً، وقد ورد فيه غير حديث.
6 -
(ومنها): استحباب التكبير والذكر عند الحرب، وهو موافقٌ لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} الآية [الأنفال: 45].
7 -
(ومنها): استحباب التثليث في التكبير؛ لقوله: "قالها ثلاثًا".
8 -
(ومنها): أن فيه دلالةً على أن الفخذ ليس بعورة، وقد تقدّمت مباحثه في "كتاب الصلاة".
9 -
(ومنها): مشروعيّة إجراء الخيل، وأنه لا يُخلّ بمراتب الكبار، لا سيّما عند الحاجة، أو لرياضة الدّابة، أو لتدريب النفس على القتال.
10 -
(ومنها): استحباب عتق الأمة، وتزوّجها، وفيه خلاف بين العلماء، سيأتي تحقيقه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.
11 -
(ومنها): مشروعيّة زفاف العَروس ليلًا.
12 -
(ومنها): أن فيه مطلوبيّة وليمة العُرس، وكونها بعد الدخول، وتقدَّم البحث عنه في محلّه.
13 -
(ومنها): أن فيه إدلال الكبير على أصحابه، وطلب الطعام منهم في نحو هذا.
14 -
(ومنها): أنه يستحبّ لأصحاب الزوج، وجيرانه مساعدته في الوليمة بما يتيسّر لهم من الطعام وغيره.
15 -
(ومنها): أن الوليمة تكون بما تيسّر، ولا يُشترط كونها شاة، بل ذلك لمن تيسّر له. والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في جعل عتق الأمة صداقها:
ذهبت طائفة إلى أن الرجل إذا أعتق أمته على أن يجعل عتقها صداقها، صحّ العقد، والعتق، والمهر على ظاهر الحديث، وبه أخذ من المتقدّمين عليّ، وأنسٌ، وابن مسعود، وسعيد بن المسيّب، وإبراهيم النخعيّ، ومن لقيه
إبراهيم، من شيوخه، والشعبيّ، وعطاء بن أبي رباح، وطاوس، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وقتادة، والزهريّ، وغيرهم، ومن فقهاء الأمصار: سفيان الثوريّ، والأوزاعيّ، والحسن بن حيّ، وأبو يوسف القاضي، قال ابن حزم: خالف في ذلك أصحابه، وَوُفِّقَ، والشافعيّ وأحمد، وإسحاق.
وقال ابن حزم في "المحلّى": ومن أعتق أمته على أن يتزوّجها، وجعل عتقها صداقها، لا صداق لها غيره، فهو صداق صحيح، ونكاحٌ صحيح، وسنّةٌ فاضلة، فإن طلّقها قبل الدخول، فهي حرّةٌ، ولا يرجع عليها بشيء، فلو أبت أن تتزوّجه بطل عتقها، وهي مملوكة كما كانت.
قال: وفي ذلك خلاف متأخّر، قال أبو حنيفة، ومحمد بن الحسن، وزُفر بن الْهُذيل، ومالك، وابن شُبْرُمة، والليث: لا يجوز أن يكون عتق الأمة صداقها، قال أبو حنيفة، وزفر، ومحمد، ومالك: إن فعل فلها عليه مهر مثلها، وهي حرّة، ثم اختلفوا إن أبت أن تتزوّجه، فقال أبو حنيفة، ومحمد: تسعى له في قيمتها، وقال مالك، وزفر: لا شيء عليها. ثم ذكر ابن حزم أدلّة الفريقين، وأطال في ذلك، فأجاد، وأفاد.
قال في "الفتح" بعد أن ذكر ما تمسّك به الأولون ما حاصله: وأجاب الباقون عن ظاهر الحديث بأجوبة:
أقربها إلى لفظ الحديث أنه أعتقها بشرط أن يتزوّجها، فوجبت له عليها قيمتها، وكانت معلومة، فتزوّجها بها.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قال الحافظ: إنه أقرب إلى لفظ الحديث، فيه نظر، بل هو بعيد، ولا يخفى بُعده على من تأمّله.
قال: ويؤيّده قوله في رواية عبد العزيز بن صُهيب: "سمعت أنسًا قال: سبى النبيّ صلى الله عليه وسلم صفيّةَ، فأعتقها، وتزوّجها، فقال ثابت لأنس: ما أصدقها؟ قال: نفسها، فأعتقها". هكذا أخرجه البخاريّ في "المغازي". وفي رواية حمّاد، عن ثابت، وعبد العزيز، عن أنس في حديث:"قال: وصارت صفيّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تزوّجها، وجعل عتقها صداقها، فقال عبد العزيز لثابت: يا أبا محمد، أنت سألت أنسًا ما أمهرها؟ قال: أمهرها نفسها، فتبسّم"، فهو ظاهر جدًّا في أن المجعول مهرًا هو نفس العتق، فالتأويل الأول لا بأس به،
فإنه لا منافاة بينه وبين القواعد حتى لو كانت القيمة مجهولة، فإن في صحّة العقد بالشرط المذكور وجهًا عند الشافعيّة.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا ظاهر في تأييد ما قاله المجيزون، لا ما قاله المانعون، فتأمّله بإنصاف.
قال: وقال آخرون: قوله: "أعتقها، وتزوّجها" معناه: أعتقها، ثم تزوّجها، فلما لم يَعلم أنه ساق لها صداقًا، قال: أصدقها نفسها؛ أي: لم يُصدقها شيئًا فيما أَعلَمُ، ولم يَنف أصل الصداق، ومن ثمّ قال أبو الطيّب الطبريّ من الشافعيّة، وابن المرابط من المالكيّة، ومن تبعهما: إنه قول أنس، قاله ظنًّا من قِبَل نفسه، ولم يرفعه.
قال الجامع عفا الله عنه: وهذا سوء أدب من قائله؛ فإن أنسًا رضي الله عنه من أهل اللسان يعرف مقاصد الشريعة أكثر مما يعرفه هذا القائل، ففهمه يُقدّم على فهمه، فتأمل بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى وليّ التوفيق.
قال: وربّما تأيّد ذلك عندهم بما أخرجه البيهقيّ من حديث أُميمة - ويقال: أمة الله - بنت رزينة، عن أمها:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أعتق صفيّة، وخطبها، وتزوّجها، وأمهرها رزينة، وكان أُتي بها مَسبيّة من قريظة، والنضير".
وهذا لا يقوم به حجةٌ؛ لضعف إسناده. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا من أغرب ما يتّفق لمثل الحافظ، كيف يقول: وربما تأيّد إلخ، مع أنه اعترف بأنه لا تقوم به حجة، إن هذا لهو العُجاب، والله تعالى المستعان.
قال: ويعارضه ما أخرجه الطبرانيّ، وأبو الشيخ من حديث صفيّة نفسها، قالت:"أعتقني النبيّ صلى الله عليه وسلم، وجعل عتقي صداقي".
وهذا موافقٌ لحديث أنس. وفيه ردٌّ على من قال: إن أنسًا قال ذلك بناءً على ما ظنّه. وقد خالف هذا الحديث أيضًا ما عليه كافّة أهل السير أن صفيّة من سبي خيبر.
ويَحْتَمِل أن يكون أعتقها بشرط أن ينكحها بغير مهر، فلزمها الوفاء بذلك، وهذا خاصّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، دون غيره.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: فيه أن هذا التأويل يردّه قولها: "وجعل
عتقي صداقي"، فإنه صريحٌ في تسمية المهر لها، وهو عتقها، فكيف يقال: نكحها بغير مهر؟.
وقيل: يَحْتَمِل أنه أعتقها بغير عوض، وتزوّجها بغير مهر في الحال، ولا في المآل. قال ابن الصلاح: معناه أن العتق يحِلّ محلّ الصداق، وإن لم يكن صداقًا، قال: وهذا كقولهم: الجوع زاد من لا زاد له، قال: وهذا الوجه أصحّ الأوجه، وأقربها إلى لفظ الحديث، وتبعه النوويّ في "الروضة".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وبُعد هذا التأويل عن لفظ الحديث أظهر من أن يُظهَر، فتبصّر، ولا تتحيّر.
وقال في "الفتح" أيضًا: ومن المستغربات قول الترمذيّ بعد أن أخرج الحديث: وهو قول الشافعيّ، وأحمد، وإسحاق. قال: وكرِهَ بعض أهل العلم أن يجعل صداقها حتى يجعل لها مهرًا، سوى العتق، والقول الأول أصحّ. وكذا نقل ابن حزم عن الشافعيّ. والمعروف عند الشافعيّة أن ذلك لا يصحّ.
قال: وممن قال بقول أحمد: ابن حبّان، صرّح بذلك في "صحيحه" - 9/ 401 رقم 4091 - .
قال ابن دقيق العيد: الظاهر مع أحمد، ومن وافقه، والقياس مع الآخرين.
فيتردد الحال بين ظنّ نشأ عن قياس، وبين ظنّ نشأ عن ظاهر الخبر، مع ما تحتمله الواقعة من الخصوصيّة، وهي وإن كانت على خلاف الأصل، لكن يتقوّى ذلك بكثرة خصائص النبيّ صلى الله عليه وسلم في النكاح. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القياس في مقابلة ظاهر النصّ، مما لا يُلتفت إليه، وما أحسن ما قال بعضهم:
إِذَا جَالَتْ خُيُولُ النَّصِّ يَوْمًا
…
تُجَارِي فِي مَيَادِينِ الْكِفَاحِ
غَدَتْ شُبَهُ الْقِيَاسِيِّينَ صَرْعَى
…
تَطِيرُ رُؤُوسُهُنَّ مَعَ الرِّيَاحِ
ودعوى الخصوصيّة لا تصحّ إلا بدليل صحيح صريح.
والحاصل أن مذهب القائلين بجواز كون العتق صداقًا في النكاح هو الأرجح؛ لقوّة دليله، وإن أردت التحقيق في ذلك، فارجع إلى ما كتبه أبو
محمد بن حزم رحمه الله تعالى في كتابه "المحلّى"
(1)
، فقد أجاد هناك، وأفاد، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[3498]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ - يَعْنِي: ابْنَ زَيْدٍ - عَنْ ثَابِتٍ، وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ (ح) وَحَدَّثَنَاهُ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ - يَعْنِي: ابْنَ زَيْدٍ - عَنْ ثَابِتٍ، وَشُعَيْبِ بْنِ حَبْحَابٍ، عَنْ أَنَسٍ (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، وَعَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَنَسٍ (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ الْحَبْحَابِ، عَنْ أَنَسٍ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، وَعُمَرُ بْنُ سَعْدٍ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، جَمِيعًا عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ الْحَبْحَابِ، عَنْ أَنَسٍ، كُلُّهُمْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَعْتَقَ صَفِيَّةَ، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا، وَفِي حَدِيثِ مُعَاذٍ، عَنْ أَبِيهِ: تَزَوَّجَ صَفِيَّةَ، وَأَصْدَقَهَا عِتْقَهَا).
رجال هذا الإسناد: عشرون:
1 -
(شُعَيْبِ بْنِ الْحَبْحَابِ) الأزديّ مولاهم، أبو صالح البصريّ، ثقةٌ [4](ت 131) أو قبلها (خ م د ت س) تقدم في "الجنائز" 18/ 2198.
2 -
(أَبُو عُثْمَانَ) عبد الرحمن بن مُلّ - بلام ثقيلة، والميم مثلثة - النَّهْديّ - بفتح النون، وسكون الهاء - مشهور بكنيته، مخضرمٌ ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ، من كبار [2] مات سنة خمس وتسعين، وقيل: بعدها، وعاش مائة وثلاثين سنة، وقيل: أكثر (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
3 -
(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) بن أبي عبد الله الدستوائيّ البصريّ، وقد سكن اليمن، صدوقٌ، رُبّما وَهِمَ [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
4 -
(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر بوزن جعفر، أبو بكر البصريّ
(1)
"المحلّى" 9/ 501 - 507.
الدستوائيّ، ثقةٌ ثبتٌ، وقد رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154) وله ثمان وسبعون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
5 -
(يَحْيَى بْنُ آدَمَ) بن سليمان الكوفيّ، أبو زكريا، مولى بني أمية، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ، من كبار [9](ت 203)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
6 -
(عُمَرُ بْنُ سَعْدِ) بن عُبيد، أبو داود الْحَفَريّ - بفتح المهملة، والفاء - نسبة إلى موضع بالكوفة، ثقةٌ عابدٌ [9].
رَوَى عن الثوريّ، ومِسْعر، ومالك بن مِغْوَل، وحفص بن غياث، وبدر بن عثمان، ويحيى بن أبي زائدة، وشريك، وغيرهم.
وروى عنه أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعليّ ابن المدينيّ وأبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة، والقاسم بن زكريا بن دينار، وغيرهم.
قال عثمان الدارميّ عن ابن معين: ثقةٌ، وقال الدُّوريّ: سمعت ابن معين قَدَّم أبا داود على قَبِيصة، وأبي أحمد، ومحمد بن يوسف، في حديث سفيان، وقال وكيع: إن كان يُدْفَع بأحد في زماننا فبأبي داود، وقال ابن المدينيّ: لا أعلم أني رأيت بالكوفة أعبد منه، وقال أبو حاتم: صدوق، كان رجلًا صالِحًا، وقال الآجريّ عن أبي داود: كان جليلًا جدًّا، وقال ابن سعد: كان ناسكًا زاهدًا، له فضل، وتواضع، وقال ابن حبان في "الثقات": كان من العباد الْخُشُن، قال عثمان بن أبي شيبة: كنا عنده في غرفته، وهو يملي، فلما فرغ قلت له: أُتَرِّب الكتاب؟ قال: لا الغرفة بالكراء، وقال العجليّ: كان رجلًا صالِحًا متعبدًا حافظًا لحديثه، ثبتًا، وكان فقيرًا متعففًا، والذي ظهر له من الحديث ثلاثة آلاف، أو نحوها، وكان أبو نعيم يأتيه، ويعظمه، وكان لا يُتم الكلام من شدّة توقيه، ولم يكن بالكوفة بعد حسين الجعفيّ أفضل منه، وقال ابن وضاح: كان أبو داود ثقةً أزهد أهل الكوفة، قال: وسمعت محمد بن مسعود يقول: هو أحب إليّ من حسين الجعفيّ، وكلاهما ثقة.
قال أحمد، وابن معين: مات سنة ثلاث ومائتين، وفيها أرّخه جماعة، زاد ابن سعد: في جمادى الأولى بالكوفة، وقال خليفة: سنة 6، وهو خطأ.
أخرج له المصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث.
7 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.
8 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
9 -
(يُونُسَ بْنِ عُبَيْدِ) بن دينار الْعَبْديّ، أبو عُبيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ وَرِعٌ [5](ت 139)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.
والباقون ذُكروا في الباب، والبابين قبله، و"أبو الربيع الزهرانيّ" هو: سليمان بن داود الْعَتَكيّ، و"أبو عوانة" هو: الوضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أشار به إلى أن كلّ هؤلاء الأربعة: حماد بن زيد، وأبو عوانة، وهشام الدستوائيّ، ويونس بن عُبيد اتّفقوا على أن الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنه مروي متّصل، وليس موقوفًا، ولا فيه انقطاع، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: أما رواية حماد بن زيد عن ثابت، وعبد العزيز بن صهيب، كلاهما عن أنس رضي الله عنه ساقها البخاريّ في "صحيحه"، فقال:
(905)
حدّثنا مسدّد، قال: حدّثنا حماد، عن عبد العزيز بن صهيب، وثابت الْبُنَانيّ عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الصبح بغَلَس، ثم ركب، فقال:"الله أكبر خَرِبت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم: فَساء صباح المنذرين"، فخرجوا يسعون في السِّكَك، ويقولون: محمد والخميس، قال: والخميس: الجيش، فظهر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقَتَل المقاتلة، وسبى الذراريّ، فصارت صفية لدِحية الْكَلْبيّ، وصارت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تزوجها، وجعل صداقها عتقها، فقال عبد العزيز لثابت: يا أبا محمد أنت سألت أنسًا ما أمهرها؟ قال: أمهرها نفسها، فتبسم. انتهى
(1)
.
وأما رواية حماد بن زيد عن ثابت، وشُعيب بن الحبحاب، فقد ساقها أيضًا البخاريّ في "صحيحه"، فقال:
(4798)
- حدّثنا قتيبة بن سعيد، حدّثنا حماد، عن ثابت، وشعيب بن الحبحاب، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها. انتهى
(2)
.
(1)
"صحيح البخاريّ" 1/ 321، 322.
(2)
"صحيح البخاريّ" 5/ 1956.
وأما رواية أبي عوانة عن قتادة وعبد العزيز بن صُهيب، فقد ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه" بسند المصنّف، فقال:
(1115)
- حدّثنا قتيبة، حدّثنا أبو عوانة، عن قتادة، وعبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها. انتهى
(1)
.
وأما رواية أبي عوانة عن أبي عثمان النهديّ فقد ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(4219)
- حدّثنا محمد بن إدريس أبو بكر وراق الحميديّ، وأبو بكر أخو خطاب قالا: ثنا محمد بن عبيد بن حساب، قثنا
(2)
أبو عوانة، عن أبي عثمان، عن أنس:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها". انتهى
(3)
.
وأما رواية يونس بن عُبيد، عن شعيب بن الحبحاب، فقد ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(5500)
- أخبرنا محمد بن رافع، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدّثنا سفيان، وأنبأنا عمرو بن منصور، قال: حدّثنا أبو نعيم، قال: حدّثنا سفيان، عن يونس، عن ابن الحبحاب، عن أنس:"أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية، وجعل عتقها مهرها"، واللفظ لمحمد. انتهى
(4)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[3499]
(154)
(5)
- (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الَّذِي يُعْتِقُ جَارِيتَهُ، ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا: "لَهُ أَجْرَانِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم في الباب الماضي.
(1)
"جامع الترمذيّ" 3/ 423.
(2)
منحوت من "قال: حدّثنا"، فتنبّه.
(3)
"مسند أبي عوانة" 3/ 66.
(4)
"السنن الكبرى" للنسائيّ 3/ 311.
(5)
مكرّر.
2 -
(خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عبد الرحمن بن يزيد الطحّان الواسطيّ الْمُزَنيّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182) وكان مولده سنة عشر ومائة (ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 407.
3 -
(مُطَرِّفُ) - بضمّ أوله، وفتح ثانيه، وتشديد الراء المكسورة - ابن طَرِيف الكوفيّ، أبو بكر، أو أبو عبد الرحمن، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [6](ت 141) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 472.
4 -
(عَامِرُ) بن شَرَاحيل الشعبيّ، أبو عمرو الكوفيّ، ثقةٌ مشهورٌ فقيةٌ فاضلٌ [3] قال مكحول: ما رأيت أفقه منه، مات بعد المائة، وله نحو من ثمانين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
5 -
(أَبُو بُرْدَةَ) بن أبي موسى الأشعريّ الكوفيّ، قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث، ثقةٌ [3](104) وقيل غير ذلك، وقد جاز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
6 -
(أَبُو مُوسَى) عبد الله بن قيس بن سُليم بن حَضّار الأشعريّ الصحابيّ المشهور، أمّره عمر، ثم عثمان، وهو أحد الْحَكَمين بصِفِّين، مات سنة خمسين، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
قال الجامع عفا الله عنه: حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه، وقد تقدّم للمصنّف في "كتاب الإيمان"[76/ 394](154) وقد استوفيت هناك شرحه، وبيان مسائله، فراجعه تستفد علْمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[3500]
(1365)
(1)
- (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ أَبِي طَلْحَةَ، يَوْمَ خَيْبَرَ، وَقَدَمِي تَمَسُّ قَدَمَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فأَتَيْنَاهُمْ حِينَ بَزَغَتِ الشَّمْسُ، وَقَدْ أَخْرَجُوا مَوَاشِيَهُمَ، وَخَرَجُوا بِفُؤُوسِهِمْ، وَمَكَاتِلِهِمْ، وَمُرُورِهِمْ، فَقَالُوا: مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ، قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ، فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ"،
(1)
مكرّر.
قَالَ: وَهَزَمَهُمُ اللهُ سبحانه وتعالى، وَوَقَعَتْ فِي سَهْمِ دَحْيَةَ جَارِيَةٌ جَمِيلَةٌ، فَاشْتَرَاهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِسَبْعَةِ أَرْؤُسٍ، ثُمَّ دَفَعَهَا إِلَى أُمِّ سُلَيْمٍ، تُصَنِّعُهَا لَهُ، وَتُهَيِّئُهَا، قَالَ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَتَعْتَدُّ فِي بَيْتِهَا، وَهِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ، قَالَ: وَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلِيمَتَهَا التَّمْرَ، وَالأَقِطَ، وَالسَّمْنَ، فُحِصَتِ الأَرْضُ أَفَاحِيصَ، وَجِيءَ بِالأَنْطَاعِ، فَوُضِعَتْ فِيهَا، وَجِيءَ بالأَقِطِ، وَالسَّمْنِ، فَشَبِعَ النَّاسُ، قَالَ: وَقَالَ النَّاسُ: لَا نَدْرِي أَتَزَوَّجَهَا، أَمِ اتَّخَذَهَا أُمَّ وَلَدٍ؟ قَالُوا: إِنْ حَجَبَهَا فَهْيَ امْرَأَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا فَهْيَ أُمُّ وَلَدٍ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَبَ حَجَبَهَا، فَقَعَدَتْ عَلَى عَجُزِ الْبَعِيرِ، فَعَرَفُوا أَنَّهُ قَدْ تَزَوَّجَهَا، فَلَمَّا دَنَوْا مِنَ الْمَدِينَةِ، دَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَدَفَعْنَا، قَالَ: فَعَثَرَتِ النَّاقَةُ الْعَضْبَاءُ، وَنَدَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَدَرَتْ، فَقَامَ، فَسَتَرَهَا، وَقَدْ أَشْرَفَتِ النِّسَاءُ، فَقُلْنَ: أَبْعَدَ اللهُ الْيَهُودِيَّةَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا حَمْزَةَ أَوَقَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: إِي وَاللهِ لَقَدْ وَقَعَ. قَالَ أَنَسٌ: وَشَهِدْتُ وَلِيمَةَ زَيْنَبَ، فَأَشْبَعَ النَّاسَ خُبْزًا وَلَحْمًا، وَكَانَ يَبْعَثُنِي فَأَدْعُو النَّاسَ، فَلَمَّا فَرَغَ قَامَ، وَتَبِعْتُهُ، فَتَخَلَّفَ رَجُلَانِ، اسْتَأْنَسَ بِهِمَا الْحَدِيثُ، لَمْ يَخْرُجَا، فَجَعَلَ يَمُرُّ عَلَى نِسَائِهِ، فَيُسَلِّمُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ:"سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، كَيْفَ أَنْتُمْ يَا أَهْلَ الْبَيْتِ؟ "، فَيَقُولُونَ: بِخَيْرٍ يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ وَجَدْتَ أَهْلَكَ؟ فَيَقُولُ:"بِخَيْرٍ"، فَلَمَّا فَرَغَ رَجَعَ، وَرَجَعْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ الْبَابَ، إِذَا هُوَ بالرَّجُلَيْنِ قَدِ اسْتَأْنَسَ بِهِمَا الْحَدِيثُ، فَلَمَّا رَأَيَاهُ قَدْ رَجَعَ قَامَا، فَخَرَجَا، فَوَاللهِ مَا أَدْرِي أَنَا أَخْبَرْتُهُ، أَمْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ بِأَنَّهُمَا قَدْ خَرَجَا؟ فَرَجَعَ، وَرَجَعْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي أُسْكُفَّةِ الْبَابِ، أَرْخَى الْحِجَابَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ:{لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} الآيَةَ [الأحزاب: 53]).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَفَّانُ) بن مسلم بن عبد الله الباهليّ، أبو عثمان الصفّار البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، قال ابن المدينيّ: كان إذا شك في حرف من الحديث تركه، ورُبّما وَهِم، من كبار [10](ت 220)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 44.
2 -
(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار البصريّ، أبو سلمة، ثقةٌ عابدٌ أثبت الناس في ثابت، وتغير حفظه بأخرة، من كبار [8](167)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
والباقون ذُكروا في الباب والباب الماضي.
وقوله: (حِينَ بَزَغَتِ الشَّمْسُ)؛ أي: طلعت، يقال: بزغت الشمس تبزُغ، من باب قعد: طلعت.
وقوله: (وَقَدْ أَخْرَجُوا مَوَاشِيَهُمَ) جمع ماشية، وهي الإبل، والبقر، والغنم.
وقوله: (وَخَرَجُوا بِفُؤُوسِهِمْ، وَمَكَاتِلِهِمْ، وَمُرُورِهِمْ) أما الفؤوس - فبهمزة ممدودة -، على وزن فُعُول: جمع فأس بالهمز، وهي معروفة، و"المكاتل": جمع مِكْتَل، وهو: القُفّة، والزِّنبيل، و"المرور": جمع مَرّ، - بفتح الميم -، وهو معروف، نحو الْمِجْرفة، وأكبر منها، يقال لها: المساحي، هذا هو الصحيح في معناه، وحَكَى القاضي عياض قولين: أحدهما هذا، والثاني: المراد بالمرور هنا: الحبال، كانوا يصعدون بها إلى النخيل، قال: واحدها مَرّ، - بفتح الميم، وكسرها -؛ لأنه يُمَرّ حين يُفتَلُ، قاله النوويّ
(1)
.
وقوله: (وَهَزَمَهُمُ اللهُ سبحانه وتعالى) من باب ضرب؛ أي: كسر الله شوكتهم، فولّوا مدبرين.
وقوله: (فَاشْتَرَاهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعَةِ أَرْؤُسٍ) قال في "الفتح": إطلاق الشراء على هذا على سبيل المجاز، وليس في قوله:"سبعة أرؤس" ما ينافي قوله في الرواية الماضية: "خذ جارية"؛ إذ ليس هنا دلالة على نفي الزيادة. انتهى.
وقال أيضًا: قال السهيليّ: لا معارضة بين هذه الأخبار، فإنه صلى الله عليه وسلم أخذها من دحية قبل القسم، والذي عوّضه عنها ليس على سبيل البيع، بل على سبيل النفل، وتعقّبه الحافظ، فقال: قلت: وقع في رواية حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، عند مسلم أن صفية وقعت في سهم دحية، وعنده أيضًا فيه، فاشتراها من دحية بسبعة أرؤس، فالأولى في طريق الجمع أن المراد بسهمه هنا نصيبه الذي اختاره لنفسه، وذلك أنه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يعطيه جارية، فأَذِن له أن يأخذ جارية، فأخذ صفية، فلما قيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إنها بنت ملك من ملوكهم، ظهر له أنها ليست ممن توهب لدحية؛ لكثرة من كان في الصحابة مثل دحية،
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 223، 224.
وفوقه، وقلة من كان في السبي مثل صفية في نفاستها، فلو خصّه بها لأمكن تغير خاطر بعضهم، فكان من المصلحة العامة ارتجاعها منه، واختصاص النبيّ صلى الله عليه وسلم بها، فإن في ذلك رضا الجميع، وليس ذلك من الرجوع في الهبة من شيء، وأما إطلاق الشراء على العوض، فعلى سبيل المجاز، ولعله عوّضه عنها بنت عمها، أو بنت عم زوجها، فلم تطب نفسه، فأعطاه من جملة السبي زيادة على ذلك.
وعند ابن سعد من طريق سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس، وأصله في مسلم:"صارت صفية لدحية، فجعلوا يمدحونها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطى بها دحية ما رضي". انتهى
(1)
.
وقوله: (تُصَنِّعُهَا لَهُ، وَتُهَيِّئُهَا)؛ أي: تزيّنها وتجمّلها على عادة العروس بما ليس بمنهي عنه من وشم، ووصل، وغير ذلك من المنهيّ عنه.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "حتى إذا كانت بالطريق جهّزَتْها له أُمُّ سُلَيمٍ، وأهدتها له من الليل"؛ يعني: طريقَ رجوعه من خيبر إلى المدينة، كما جاء في الرواية الأخرى مفَسَّرًا. وكان بين سبائها، وبين دخول النبيّ صلى الله عليه وسلم بها زمان أسلمت فيه، واستُبرأت، وأُصلح حالها فيه، ثم دخل بها بَعْدُ، ولذلك قال أنس في الرواية الأخرى:"ثم دفعها لأُمِّي تُصَنِّعُها، وتُهَيِّئُهَا، وتعتَدُّ في بيتها"؛ يعني: في بيت أم أَنس. انتهى
(2)
.
وقوله: (قَالَ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ) الظاهر أن فاعل "قال" الأول ضمير ثابت، والثاني ضمير أنس، والله تعالى أعلم.
وقوله: (وَتَعْتَدُّ فِي بَيْتِهَا) معناه: تستبرئ بحيضة في بيت أم سُليم.
وقوله: (فُحِصَتِ الأَرْضُ أفَاحِيصَ) - بضم الفاء، وكسر الحاء المهملة المخففة -؛ أي: كُشف التراب من أعلاها، وحُفرت شيئًا يسيرًا؛ ليُجعل الأنطاع في المحفور، ويصبّ فيها السمن، فيثبت، ولا يخرج من جوانبها، وأصل الفحص الكشف، وفَحَص عن الأمر، من باب نفع، وفَحَص الطائر لبيضه، والأفاحيص جمع أُفْحوص، قاله النوويّ
(3)
.
(1)
"الفتح" 7/ 470.
(2)
"المفهم" 4/ 141، 142.
(3)
"شرح النوويّ" 9/ 224.
وقال القرطبيّ: قوله: "فُحِصَتِ الأرض أفاحيص"؛ أي: كُشفت عما يمنع القعود عليها من حجارةٍ، وعُشب، وغير ذلك، وسوِّيت حتى خَلَص إلى التراب، ومنه: مَفْحَص القطاة، وهو: الموضع الذي تتخذه لبيضها، وواحد الأفاحيص: أُفْحوص. انتهى
(1)
.
وقوله: (قَالَ) أنس (وَقَالَ النَّاسُ: لَا نَدْرِي أَتَزَوَّجَهَا. . . إلخ) فيه الفرق بين الحرّة والأمة في لزوم الحجاب، فإنه واجب على الحرّة دون الأمة.
وقال القرطبيّ: وقولهم: "إن حَجَبَها فهي امرأته، وإن لم يحجبها فهي أم ولد" هذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم ما كان أبان لهم أمرها، ولا أشهدهم على تزويجها، فيكون فيه دليل على جواز عقد النكاح من غير إشهاد، وبه قال الزهريّ، ومالك، وأهل المدينة، وأبو ثور، وجماعة من السَّلف. وذهب آخرون: إلى أنه لا يجوز إلا بشاهدي عدل. وهو قول جماعة من الصَّحابة، والثوريّ، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وأحمد. وقال أبو حنيفة مثله، إلا أنه لا يشترط العدد. واتفق الجميع على أنه شرطٌ في الدُّخول.
وعلى هذا فيكون دخوله صلى الله عليه وسلم بصفيّة من غير إشهادٍ من خصائصه.
ولم يختلف أحدٌ من العلماء في أن كل نكاح استُسِرَّ به، وليس فيه شاهدان أنَّه نكاح السرّ المنهيّ عنه، ويُفسخ أبدًا.
واختلفوا فيما إذا استسرَّ مع الشاهد، فذهب الجمهور إلى أنه ليس بنكاح سرٍّ، ولا يُفسخ، وهو عند مالك نكاح سرٍّ، ويُفسخ. انتهى
(2)
.
وقوله: (دَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَدَفَعْنَا)؛ أي: أجرينا، ورفعنا السير إلى غايته.
وقوله: (فَعَثَرَتِ) - بفتح العين المهملة -، من باب نصر، وضرب، وعلم، وكرُم؛ أي: كبا، وسقط.
وقوله: (الْعَضْبَاءُ) يقال: عَضِبَتِ الشاة، والناقة عَضَبًا، من باب تَعِبَ: إذا شُقّ أذنها، فالذكر أَعْضَبُ، والأنثى عَضْبَاءُ، مثل أحمر وحمراء، ويعدّى
(1)
"المفهم" 4/ 143.
(2)
"المفهم" 4/ 144، 145.
بالألف، فيقال: أَعْضَبْتُهَا، وكانت ناقة النبيّ صلى الله عليه وسلم تُلَقّب العضباءَ؛ لنجابتها، لا لشقّ أذنها، قاله الفيّوميّ
(1)
.
وقوله: (وَنَدَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بالنون، من باب قعد؛ أي: سقط، وأصل الندور الخروج، والانفراد، ومنه: كلمة نادرة؛ أي: فردة عن النظائر، قاله النوويّ
(2)
.
وقال القرطبيّ: قوله: "ونَدَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . إلخ"؛ أي: صُرع، وصُرعتْ؛ كما جاء في الرواية مفسَّرًا، وأصل النُّدور: الخروج. ومنه: نوادر الكلام، والنَّادر من النَّاس: الخارج عنهم بما فيه من الزيادة عليهم، وكون النَّاس امتنعوا من النظر إليهما إنما كان ذلك احترامًا وإجلالًا أن يقع بصرٌ على عورة منهما، فإنه قد كان انكشف منهما ما يستر، ألا ترى قوله:"فسترها".
وقوله: (وَقَدْ أَشْرَفَتِ النِّسَاءُ)؛ أي: اطّلعن.
وقوله: (فقُلن: أَبْعَدَ اللهُ الْيَهُودِيَّةَ) إنما حملهنّ على هذا القول شدّة الغيرة؛ لأنها كانت جميلة، فخفن أن ينحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، والله تعالى أعلم.
وقوله: (أَوَقَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟)؛ أي: سقط من الناقة.
وقوله: (قَالَ أَنَسٌ) هذا موصول بالسند السابق، وليس معلّقًا، وإنما أتى به بيانًا لمشروعيّة الوليمة على نكاح الحرّة، كما بيّن مشروعيّته عند نكاح الأمة المعتقة بحديث صفيّة رضي الله عنها.
[تنبيه]: ذكرُ أنس رضي الله عنه قصّة وليمة زينب رضي الله عنها هذا سيأتي مستوفى الشرح في الباب التالي - إن شاء الله تعالى -.
وقوله: (اسْتَأْنَسَ بِهِمَا الْحَدِيثُ)؛ أي: استلذّ، وطاب بالرجلين التحدّث بينهما.
وقوله: (يَمُرُّ عَلَى نِسَائِهِ)؛ أي: على حُجَرهنّ.
وقوله: (فَيُسَلِّمُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ: "سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. . . إلخ) قال النوويّ رحمه الله: في هذه القطعة فوائد:
(1)
"المصباح المنير" 2/ 414.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 225.
منها: أنه يُستحب للإنسان إذا أتى منزله أن يسلّم على امرأته، وأهله، وهذا مما يتكبر عنه كثير من الجاهلين المترفعين.
ومنها: أنه إذا سلّم على واحد قال: سلام عليكم، أو السلام عليكم، بصيغة الجمع، قالوا: ليتناوله ومَلَكيه.
ومنها: سؤال الرجل أهله عن حالهم، فربما كانت في نفس المرأة حاجة، فتستحي أن تبتدئ بها، فإذا سألها انبسطت لذكر حاجتها.
ومنها: أنه يستحب أن يقال للرجل عقب دخوله: كيف حالك؟ ونحو هذا. انتهى
(1)
.
وقوله: (كَيْفَ أَنْتُمْ يَا أَهْلَ الْبَيْتِ؟ ")؛ أي: كيف حالكم؛ لأن "كيف" يسأل بها عن الحال.
وقوله: (بِخَيْرٍ يَا رَسُولَ اللهِ)؛ أي: نحن على خير، فالباء بمعنى "على".
وقوله: (إِذَا هُوَ بِالرَّجُلَيْنِ. . . إلخ) اللذين تقدّم ذكرهما؛ لأن النكرة إذا أعيدت معرفة، فهي عين الأول، و"إذا" هي: الفجائيّة.
وقوله: (فِي أُسْكُفَّةِ الْبَابِ) بهمزة قطع مضمومة، وبإسكان السين؛ أي: خشبة الباب التي يوطأ عليها، وهي العَتَبة، والساكف أعلاه الذي يدور فيه الصائر، قاله المجد.
وقوله: (أَرْخَى الْحِجَابَ)؛ أي: سدله، وأطلقه.
وقوله: (وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ) وقوله: ({لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ}) بدل، أو عطف بيان لـ "هذه الآية".
ثم إن كون هذه الآية هي المرادة هنا هو الذي اتّفق عليه الرواة، وخالفهم عمرو بن عليّ الفلّاس، عن معتمر، فقال: فأُنزلت: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} الآية [النور: 27]، أخرجه الإسماعيليّ، وأشار إلى شذوذه، فقال: جاء بآية غير الآية التي ذكرها الجماعة
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 225.
(2)
"الكوكب الوهّاج" 15/ 340.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[3501]
(1365)
(1)
- (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، عَنْ ثَابِثٍ، عَنْ أَنَسٍ (ح) وَحَدَّثَنِي بِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ هَاشِمِ بْنِ حَيَّانَ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ، قَالَ: صَارَتْ صَفِيَّةُ لِدَحْيَةَ فِي مَقْسَمِهِ، وَجَعَلُوا يَمْدَحُونَهَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَيَقُولُونَ: مَا رَأَيْنَا فِي السَّبْيِ مِثْلَهَا، قَالَ: فَبَعَثَ إِلَى دِحْيَةَ، فَاَعْطَاهُ بِهَا مَا أَرَادَ، ثُمَّ دَفَعَهَا إِلَى أُمِّي، فَقَالَ:"أَصْلِحِيهَا"، قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ خَيْبَرَ، حَتَّى إِذَا جَعَلَهَا فِي ظَهْرِهِ، نَزَلَ، ثُمَّ ضَرَبَ عَلَيْهَا الْقُبَّةَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ زَادٍ، فَلْيَأْتِنَا بِهِ"، قَالَ: فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجيءُ بِفَضْلِ التَّمْرِ، وَفَضْلِ السَّوِيقِ، حَتَّى جَعَلُوا مِنْ ذَلِكَ سَوَادًا حَيْسًا، فَجَعَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ ذَلِكَ الْحَيْسِ، وَيَشْرَبُونَ مِنْ حِيَاضٍ إِلَى جَنْبِهِمْ، مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ، قَالَ: فَقَالَ أَنَسٌ: فَكَانَتْ تِلْكَ وَليمَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهَا، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا، حَتَّى إِذَا رَأَيْنَا جُدُرَ الْمَدِينَةِ، هَشِشْنَا إِلَيْهَا، فَرَفَعْنَا مَطِيَّنَا، وَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَطِيَّتَهُ، قَالَ: وَصَفِيَّةُ خَلْفَهُ، قَدْ أَرْدَفَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فَعَثَرَتْ مَطِيَّةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَصُرِعَ، وَصُرِعَتْ، قَالَ: فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَلَا إِلَيْهَا، حَتَّى قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَتَرَهَا، قَالَ: فَأَتَيْنَاهُ، فَقَالَ:"لَمْ نُضَرَّ"، قَالَ: فَدَخَلْنَا الْمَدِينَةَ، فَخَرَجَ جَوَارِي نِسَائِهِ يَتَرَاءَيْنَهَا، وَيَشْمَتْنَ بِصَرْعَتِهَا).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(شَبَابَةُ) بن سَوّار المدائنيّ، أصله من خُراسان، يقال: كان اسمه مروان مولى بني فَزارة، ثقةٌ حافظٌ، رُمي بالإرجاء [9](ت 4 أو 5 أو 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.
2 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ) القَيسيّ مولاهم البصريّ، أبو سعيد، ثقةٌ ثقةٌ، قاله يحيى بن معين [7](ت 165)(ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 111.
(1)
مكرّر.
3 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ هَاشِمِ بْنِ حَيَّانَ) بتحتانية - الْعَبديّ، أبو عبد الرحمن الطُّوسيّ، سكن نيسابور، ثقةٌ صاحب حديث، من صغار [10] مات سنة بضع (250)(م) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.
4 -
(بَهْزُ) بن أسد الْعَميّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9] مات بعد المائتين، وقيل: قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (صَارَتْ صَفِيَّةُ لِدَحْيَةَ فِي مَقْسَمِهِ)؛ أي: في نصيبه الذي أخذه من الغنيمة بإذن النبيّ صلى الله عليه وسلم بأخذها.
وقوله: (حَتَّى إِذَا جَعَلَهَا فِي ظَهْرِهِ)؛ أي: ترك خيبر وراء ظهره، متوجهًا على المدينة.
وقوله: (ثُمَّ ضَرَبَ عَلَيْهَا الْقُبَّةَ) - بضمّ القاف، وتشديد الموحّدة - من البنيان معروف، وتُطلق على البيت المدوّر، وهو معروف عن التركمان، والأكراد، وجمعه قِباب، مثلُ بُرمة وبِرام، أفاده الفيّوميّ
(1)
.
وقوله: (سَوَادًا حَيْسًا) قال النوويّ رحمه الله: السواد - بفتح السين -، وأصل السواد الشخص، ومنه في حديث الإسراء:"رأى آدم عن يمينه أسودة، وعن يساره أسودة"؛ أي: أشخاصًا، والمراد هنا: حتى جعلوا من ذلك كُومًا شاخصًا مرتفعًا، فخلطوه، وجعلوا حَيْسًا. انتهى
(2)
.
فقوله: "حَيْسًا" بدل من "سوادًا".
وقوله: (مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ)؛ أي: ماء المطر.
وقوله: (هَشِشْنَا إِلَيْهَا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في النسخ: "هَشّنا" - بفتح الهاء، وتشديد الشين المعجمة، ثم نون -، وفي بعضها "هَشِشنا" - بشينين الأولى مكسورة، مخففة -، ومعناهما نَشِطنا، وخَفَفْنا، وانبعثت نفوسنا إليها، يقال منه: هَشِشت - بكسر الشين في الماضي، وفتحها في المضارع -، وذكر القاضي الروايتين السابقتين، قال: والرواية الأولى على الإدغام؛ لالتقاء المثلين، وهي لغة من قال: هَزّتُ سيفي، وهي لغة بكر بن وائل، قال: ورواه بعضهم "هِشْنا" -
(1)
راجع: "المصباح" 2/ 487.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 226.
بكسر الهاء، وإسكان الشين -، وهو من هاش يهيش، بمعنى هَشّ. انتهى
(1)
.
وقوله: ("فَرَفَعْنَا مَطِيَّنَا. . . إلخ)؛ أي: أجرينا، ورفعنا السير إلى غايته.
و"المطيّ" فَعيل بمعنى مفعول، قال الفيّوميّ رحمه الله: المَطَا وزانُ العصا: الظهرُ، ومنه قيل للبعير: مَطِيَّةٌ فعيلة بمعنى مفعولة؛ لأنه يُركب مَطَاهُ، ذكرًا كان أو أنثى، ويُجمع على مَطِيٍّ، ومَطَايَا، ويثنى مَطَوَيْنِ. انتهى
(2)
.
وقوله: (فَصُرِعَ، وَصُرِعَتْ) بالبناء للمفعول؛ أي: سقطت صلى الله عليه وسلم، وسقطت صفيّة رضي الله عنها.
وقوله: (فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَلَا إِلَيْهَا) هذا أدب من الصحابة رضي الله عنهم تجاه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما امتنعوا من النظر إليهما؛ احترامًا، وإجلالًا أن يقع بصر أحدهم على عورة منهما، فإنه قد انكشف منهما ما يُستر، كما قال:"حَتَّى قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَتَرَهَا".
وقوله: ("لَمْ نُضَرَّ")؛ أي: لم يصبنا ضرر، قاله إزالة لما غشيهم من التخوّف عليهما، وتسكينًا لنفرتهم، وتطييبًا لقلوبهم
(3)
.
وقوله: (يَتَرَاءَيْنَهَا)؛ أي: ينظرن، ويتشوّفن إليها.
وقوله: (وَيَشْمَتْنَ بِصَرْعَتِهَا) قال القرطبيّ: كأنهنّ سُررن بذلك، وهذا فعلٌ يتضمّنه طباع الضرائر، ومن يتعصّب لهنّ
(4)
، والله تعالى أعلم.
(16) - (بَابُ زِوَاجِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رضي الله عنها، وَنُزُولِ الْحِجَابِ، وَإِثْبَاتِ وَلِيمَةِ الْعُرْسِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[3502]
(1428) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، قَالَا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 226.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 575.
(3)
"المفهم" 4/ 144.
(4)
"المفهم" 4/ 144.
سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، وَهَذَا حَدِيثُ بَهْزٍ، قَالَ: لَمَّا انْقَضَتْ عِدَّةُ زَيْنَبَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِزَيْدٍ:"فَاذْكُرْهَا عَلَيَّ"، قَالَ: فَانْطَلَقَ زَيْدٌ حَتَّى أَتَاهَا، وَهْيَ تُخَمِّرُ عَجِينَهَا، قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهَا عَظُمَتْ فِي صَدْرِي، حَتَّى مَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْظُرَ إِلَيْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَهَا، فَوَلَّيْتُهَا ظَهْرِي، وَنَكَصْتُ عَلَى عَقِبِي، فَقُلْتُ: يَا زَيْنَبُ أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُكِ، قَالَتْ: مَا أَنَا بِصَانِعَةٍ شَيْئًا، حَتَّى أُوَامِرَ رَبِّي، فَقَامَتْ إِلَى مَسْجِدِهَا، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ، وَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَخَلَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ. قَالَ: فَقَالَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَطْعَمَنَا الْخُبْزَ، وَاللَّحْمَ، حِينَ امْتَدَّ النَّهَارُ، فَخَرَجَ النَّاسُ، وَبَقِيَ رِجَالٌ، يَتَحَدَّثُونَ فِي الْبَيْتِ بَعْدَ الطَّعَامِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَاتَّبَعْتُهُ، فَجَعَلَ يَتَتَبَّعُ حُجَرَ نِسَائِهِ، يُسَلِّمُ عَلَيْهِنَّ، وَيَقُلْنَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ وَجَدْتَ أَهْلَكَ؟ قَالَ: فَمَا أَدْرِي أَنَا أَخْبَرْتُهُ أَنَّ الْقَوْمَ خَرَجُوا، أَوْ أَخْبَرَنِي؟ قَالَ: فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ، فَذَهَبْتُ أَدْخُلُ مَعَهُ، فَأَلْقَى السِّتْرَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَنَزَلَ الْحِجَابُ، قَالَ: وَوُعِظَ الْقَوْمُ بِمَا وُعِظُوا بِهِ. زَادَ ابْنُ رَافِعٍ فِي حَدِيثِهِ: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب: 53]).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ بْنِ مَيْمُونٍ) البغداديّ السَّمِين، صدوقٌ ربما وَهِم، وكان فاضلًا [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.
2 -
(أَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ) بن مسلم الليثيّ مولاهم البغداديّ، مشهور بكنيته، ولقبه قيصر، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 207) وله ثلاث وسبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَس) بن مالك رضي الله عنه، وقوله:(وَهَذَا حَدِيثُ بَهْزٍ)؛ أي: الآتي لفظ حديث بهز بن أسد، وأما حديث أبي النضر، فهو بمعناه، لا بلفظه (قَالَ) أنس رضي الله عنه (لَمَّا انْقَضَتْ)؛ أي: انتهت (عِدَّةُ زَيْنَبَ) بنت جحش رضي الله عنها من طلاق
زيد بن حارثة رضي الله عنه، وهي زينب بنت جحش بن رئاب بن يَعْمَر بن صَبْرة بن مرّة بن كَبير بن غَنْم بن دُودان بن أسد بن خُزيمة الأسديّة، أم المؤمنين. وأمّها أُميمة بنت عبد المطّلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
. زوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة رضي الله عنه، وأصدقها عشرة دنانير وستين درهمًا، وخمارًا، وملحفةً، ودرعًا، وخمسين مُدًّا من طعام، وعشرة أمداد من تمر. قاله مقاتل بن حيّان، فمكثت عنده قريبًا من سنة، أو فوقها، ثم وقع بينهما، فجاء زيد يشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له:{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37]
(2)
.
[فائدة]: ذكر المفسّرون أقوالًا في المراد بقوله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} الآية، والأصحّ أنه إخبار الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم أنها ستصير زوجته.
أخرج ابن أبي حاتم، من طريق السدّيّ، قال:"بلغنا أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش، وكانت أمها أُميمة بنت عبد المطّلب، عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يزوّجها زيد بن حارثة مولاه، فكرهت ذلك، ثم إنها رضيت بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزوّجها إياه، ثم أعلم الله نبيّه صلى الله عليه وسلم بعدُ أنها من أزواجه، فكان يستحيي أن يأمر بطلاقها، وكان لا يزال يكون بين زيد وزينب ما يكون بين الناس، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُمسك عليه زوجه، وأن يتّقي الله، وكان يَخشى الناس أن يَعيبوا عليه، ويقولوا: تزوّج امرأة ابنه، وكان قد تبنّى زيدًا".
وعنده من طريق عليّ بن زيد بن جُدعان، عن عليّ بن الحسين بن عليّ، قال: أعلم الله نبيّه صلى الله عليه وسلم أن زينب ستكون من أزواجه قبل أن يتزوّجها، فلما أتاه زيد يشكوها إليه، وقال له:"اتق الله، وأمسك عليك زوجك"، قال الله: قد أخبرتك أني مزوّجكها، وتُخفي في نفسك ما الله مبديه.
قال الحافظ رحمه الله: وقد أطنب الترمذيّ الحكيم في تحسين هذه الرواية،
(1)
"تهذيب الكمال" 35/ 184.
(2)
راجع: "تفسير ابن كثير" 3/ 499، "تفسير سورة الأحزاب".
وقال: إنها من جواهر العلم المكنون. وكأنه لم يقف على تفسير السدّيّ الذي أوردته، وهو أوضح سياقًا، وأصحّ إسنادًا إليه؛ لضعف عليّ بن زيد بن جُدعان.
وروى عبد الرزّاق، عن معمر، عن قتادة، قال: جاء زيد بن حارثة، فقال: يا رسول الله إن زينب اشتدّ عليّ لسانها، وأنا أريد أن أُطلّقها، فقال له:"اتق الله، وأمسك عليك زوجك"، قال: والنبيّ صلى الله عليه وسلم يحبّ أن يُطلّقها، ويَخشى قالةَ الناس.
ووردت آثار أخرى أخرجها ابن أبي حاتم، والطبريّ، ونقلها كثير من المفسّرين، لا ينبغي التشاغل بها
(1)
، والذي أوردته منها هو المعتمد.
والحاصل أن الذي كان يُخفيه النبيّ صلى الله عليه وسلم هو إخبار الله إياه أنها ستصير زوجته، والذي كان يحمله على إخفاء ذلك خشية قول الناس تزوّج امرأة ابنه، وأراد الله إبطال ما كان أهل الجاهليّة عليه من أحكام التبنّي بأمر لا أبلغ في الإبطال منه، وهو تزوّج امرأة الذي يُدعَى ابنًا، ووقوع ذلك من إمام المسلمين ليكون أدعى لقبولهم، وإنما وقع الخبط في تأويل متعلّق الخشية. والله تعالى أعلم.
وأخرج الترمذيّ، من طريق داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتمًا شيئًا من الوحي، لكتم هذه الآية:{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} يعني: بالإسلام {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} يعني: بالعتق، فأعتقته {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} إلى قوله {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب: 37] وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها، قالوا: تزوج حليلة ابنه، فأنزل الله تعالى:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تبناه، وهو صغير، فلبث حتى صار رجلًا، يقال له: زيد بن
(1)
وقال الحافظ ابن كثير في "تفسيره": ذكر ابن أبي حاتم، وابن جرير هنا آثارًا عن بعض السلف رضي الله عنهم أحببنا أن نضرب عنها صفحًا؛ لعدم صحّتها، فلا نوردها. انتهى.
محمد، فأنزل الله:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5]، فلان مولى فلان، وفلان أخو فلان، {هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5] يعني: أعدل.
قال أبو عيسى: هذا حديث غريب
(1)
، قد روي عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة، قالت: لو كان النبيّ صلى الله عليه وسلم كاتمًا شيئًا من الوحي، لكتم هذه الآية:{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37]. هذا الحرف، لم يروَ بطوله.
وقال ابن العربيّ: إنما قال صلى الله عليه وسلم لزيد: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} اختبارًا لما عنده من الرغبة فيها، أو عنها، فلما أطلعه زيد على ما عنده منها من النفرة التي نشأت من تعاظمها عليه، وبذاءة لسانها أذن له في طلاقها، وليس في مخالفة متعلّق الأمر لمتعلّق العلم ما يمنع من الأمر به. والله أعلم
(2)
.
(قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِزَيْدٍ) هو: ابن حارثة بن شَراحِيل الكلبيّ، أبو أسامة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابيّ الجليل المشهور من أول الناس إسلامًا، استُشهد يوم مؤتة في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم سنة ثمان، وهو ابن خمس وخمسين سنةً، له ذكر في "صحيح مسلم"، بلا رواية.
("فَاذْكُرْهَا عَلَيَّ") يقال: ذكر المرأة: إذا خطبها. وقيل: تعرّض لخِطبتها؛ أي: اخطبها لأجلي من نفسها، والتمس نكاحها لي. وإنما أرسل النبيّ صلى الله عليه وسلم زيدًا؛ لئلا يظنّ أحدٌ أن ذلك وقع قهرًا بغير رضاه، وفيه أيضًا اختبار ما كان عنده منها، هل بقي منه شيء، أو لا؟. والله تعالى أعلم
(3)
.
(قَالَ) أنس (فَانْطَلَقَ زَيْدٌ) رضي الله عنه، وفي رواية النسائيّ:"قال زيد: فانطلقت"(حَتَّى أَتَاهَا)؛ أي: أتى زينب رضي الله عنها، وقوله:(وَهْيَ تُخَمِّرُ عَجِينَهَا) جملة حالية؛ أي: والحال أنها تخمّر عجينها، وتخمير العجين أن يُصبّ فيه المَاء، وَيُتْرَكَ حتى يَجُودَ؛ أَي: يَطِيب، والفِعْلُ كضَرَبَ، ونَصَرَ، يقال: خَمَر العَجِينَ يَخْمُره
(1)
هو حديث ضعيف؛ لأن في سنده داود بن الزبرقان متروك، بل كذّبه بعضهم، كما في "التقريب".
(2)
راجع: "الفتح" 9/ 479، 480.
(3)
راجع: "الفتح" 9/ 480.
- بالضمّ -، ويَخْمِره - بالكسر -، خَمْرًا، وخَمَّرَه تَخْمِيرًا، وهو خَمِيرٌ، ومُخَمَّر، وقيل: خَمَّرَ العَجِينَ: جَعَلَ فيه الخَمِيرَ، قاله في "التاج"
(1)
، وقال في "اللسان": وخمّره: ترك استعماله حتى يَجُود، وقيل: جعل فيه الخمير. انتهى
(2)
.
(قَالَ) زيد (فَلَمَّا رَأَيْتُهَا عَظُمَتْ) - بضمّ الظاء - (فِي صَدْرِي، حَتَّى مَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْظُرَ إِلَيْهَا) من شدّة عظمتها في صدره، وقوله:(أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَهَا) بيان لسبب عظمتها في صدره، و"أنّ" يحْتَمل أن تكون بفتح الهمزة بتقدير حرف التعليل؛ أي: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . إلخ، وأن تكون بكسرها على أنها جملة مستأنفة تعليليّة (فَوَلَّيْتُهَا ظَهْرِي)؛ أي: أدبرت عنها (وَنَكَصْتُ)؛ أي: رجعت (عَلَى عَقِبِي) وكان جاء إليها ليخطبها، وهو ينظر إليها، على ما كان من عادتهم، وهذا قبل نزول الحجاب، فلما غلب عليه الإجلال تأخّر، وخطبها، وظهره إليها؛ لئلا يسبقه النظر إليها، قاله النوويّ
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: معنى هذا الكلام أنه لما خطبها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعَلِمَ زيد أنها صالحة لأن تكون من أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن أمهات المؤمنين، حصل لها في نفسه صورة أخرى، وإجلالٌ زائدٌ على ما كان لها عنده في حال كونها زوجته، وتوليته إياها ظهره مبالغةٌ في التحرّز من رؤيتها، وصيانة لقلبه من التعلّق بها، على أن الحجاب إذ ذاك لم يكن مشروعًا بعدُ، على ما يدلّ عليه بقيّة الخبر. انتهى
(4)
.
(فَقُلْتُ: يَا زَيْنَبُ أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية النسائيّ: "فَقُلْتُ: يَا زَيْنَبُ، أَبْشِرِي"(يَذْكُرُكِ)؛ أي: يخطبك (قَالَتْ) زينب رضي الله عنها (مَا) نا فية (أَنَا بِصَانِعَةٍ شَيْئًا، حَتَّى أُوَامِرَ رَبِّي) ولفظ النسائيّ: "حَتَّى أَسْتَأْمِرَ رَبِّي"؛ أي: أَستخيره، وأنظر أمره على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وَكَلَت أمرها إلى الله تعالى، وصحّ تفويضها إليه، تولّى الله تعالى إنكاحها منه صلى الله عليه وسلم، ولم يُحوجها إلى من يتولّى عقد نكاحها، ولذلك قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا
(1)
"تاج العروس" ص 2784.
(2)
"لسان العرب" 4/ 256.
(3)
"شرح النوويّ" 9/ 228.
(4)
"المفهم" 4/ 146.
زَوَّجْنَاكَهَا} الآية [الأحزاب: 37]، ولما أعلمه الله تعالى بذلك دخل عليها بغير وليّ، وتجديد عقد، ولا تقرير صداق، ولا شيء مما يكون شرطًا في حقنا، ومشروعًا لنا، وهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم اللاتي لا يشاركه فيها أحد بإجماع المسلمين. قاله القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
(فَقَامَتْ إِلَى مَسْجِدِهَا) - بفتح الجيم، وكسرها -؛ أي: موضع صلاتها من بيتها لتصلّي صلاة الاستخارة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان علّمها ذلك، كما في "صحيح البخاريّ" من حديث جابر رضي الله عنه:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلّمنا السورة من القرآن. . ." الحديث. قال النوويّ: ولعلّ استخارتها؛ لخوفها من التقصير في حقّه صلى الله عليه وسلم.
(وَنَزَلَ الْقُرْآنُ) يعني: قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} الآية [الأحزاب: 37](وَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَخَلَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ)؛ أي: بغير إذن منها؛ لأن الله تعالى زوّجه إياها بهذه الآية الكريمة (قَالَ: فَقَالَ) أنس (وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا)؛ أي: معاشر الصحابة رضي الله عنهم (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَطْعَمَنَا الْخُبْزَ، وَاللَّحْمَ، حِينَ امْتَدَّ النَّهَارُ)؛ أي: ارتفعت شمسه (فَخَرَجَ النَّاسُ) المجتمعون للأكل بعد انتهاء الأكل (وَبَقِيَ رِجَالٌ) وفي رواية: "وبقي ثلاثة رهط"، وفي رواية:"فلما رجع إلى بيته رأى رجلين"، قال الحافظ: ويُجمع بين الروايتين بأنهم أول ما قام، وخرج من البيت كانوا ثلاثة، وفي آخر ما رجع توجه واحد منهم في أثناء ذلك، فصاروا اثنين، وهذا أولى من جزم ابن التين بأن إحدى الروايتين وهم، وجوَّز الكرمانيّ أن يكون التحديث وقع من اثنين منهم فقط، والثالث كان ساكتًا، فمن ذكر الثلاثة لحظ الأشخاص، ومن ذكر الاثنين لحظ سبب القعود، قال: ولم أقف على تسمية أحد منهم. انتهى
(2)
.
وقوله: (يَتَحَدَّثُونَ فِي الْبَيْتِ بَعْدَ الطَّعَامِ) جملة في محلّ رفع صفة لـ "رجال"(فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) من البيت؛ لكي يخرجوا إذا رأوا خروجه، وإنما لم يأمرهم بالخروج؛ لشدّة حيائه، ففي رواية للبخاريّ:"وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم شديد الحياء، فخرج منطلقًا نحو حجرة عائشة"، وفي رواية: "رأى رجلين
(1)
"المفهم" 4/ 147.
(2)
"الفتح" 10/ 511.
جرى بهما الحديث، فلما رآهما رجع عن بيته، فلما رأى الرجلان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم رجع عن بيته وثبا مسرعين".
قال الحافظ: ومحصل القصة أن الذين حضروا الوليمة جلسوا يتحدثون، واستحيى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بالخروج، فتهيأ للقيام؛ ليفطنوا لمراده، فيقوموا بقيامه، فلما ألهاهم الحديث عن ذلك قام، وخرج، فخرجوا بخروجه، إلا الثلاثة الذين لم يفطنوا لذلك؛ لشدة شغل بالهم بما كانوا فيه من الحديث، وفي غضون ذلك كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يريد أن يقوموا من غير مواجهتهم بالأمر بالخروج؛ لشدة حيائه، فيطيل الغيبة عنهم بالتشاغل بالسلام على نسائه، وهم في شغل بالهم، وكأن أحدهم في أثناء ذلك أفاق من غفلته، فخرج، وبقي الاثنان، فلما طال ذلك، ووصل النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى منزله، فرآهما، فرجع، فرأياه لما رجع، فحينئذ فَطِنا، فخرجا، فدخل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنزلت الآية، فأرخى الستر بينه وبين أنس خادمه أيضًا، ولم يكن له عهد بذلك. انتهى
(1)
.
قال أنس (وَاتَّبَعْتُهُ، فَجَعَلَ)؛ أي: أخذ، وشرع (يَتَتَبَّعُ حُجَرَ) - بضمّ، ففتح - جمع حُجرة؛ أي: بيوت (نِسَائِهِ) صلى الله عليه وسلم، والحال أنه (يُسَلِّمُ عَلَيْهِنَّ، وَيَقُلْنَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ وَجَدْتَ أَهْلَكَ؟) وفي رواية: "فخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم، فانطلق إلى حجرة عائشة، فقال: السلام عليكم"، في رواية:"ثم خرج إلى أمهات المؤمنين، كما كان يصنع صبيحة بنائه، فيسلم عليهنّ، ويسلّمن عليه، ويدعو لهنّ، ويدعون له"، وفي رواية:"إنهن قلن له: كيف وجدت أهلك، بارك الله لك".
(قَالَ) أنس (فَمَا أَدْرِي أَنَا أَخْبَرْتُهُ أَنَّ الْقَوْمَ خَرَجُوا، أَوْ أَخْبَرَنِي؟) ووقع في رواية: "فانطلقت، فجئت، فأخبرت النبيّ صلى الله عليه وسلم أنهم انطلقوا"، قال في "الفتح": هكذا وقع الجزم في هذه الرواية بأنه الذي أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بخروجهم، وكذا في رواية الجعد، واتفقت رواية عبد العزيز، وحميد على أن أنسًا كان يشكّ في ذلك، ولفظ حميد:"فلا أدري أنا أخبرته بخروجهما، أم أُخبِر"، وفي رواية عبد العزيز، عن أنس:"فما أدري أخبرته، أو أُخبر"، وهو مبني للمجهول؛ أي: أُخبر بالوحي، وهذا الشك قريب من شك أنس في تسمية الرجل الذي سأل الدعاء
(1)
"الفتح" 10/ 512.
بالاستسقاء، فإن بعض أصحاب أنس جزم عنه بأنه الرجل الأول، وبعضهم ذكر أنه سأله عن ذلك، فقال: لا أدري، كما تقدم في مكانه، وهو محمول على أنه كان يذكره، ثم عرض له الشكّ، فكان يشكّ فيه، ثم تذكّر، فجزم. انتهى
(1)
.
(قَالَ: فَانْطَلَقَ) صلى الله عليه وسلم (حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ)؛ أي: البيت الذي فيه زينب رضي الله عنها (فَذَهَبْتُ أَدْخُلُ مَعَهُ)؛ أي: على عادته قبل نزول الحجاب (فَأَلْقَى السِّتْرَ) - بكسر السين -؛ أي: الحجاب الساتر عن أعين الناس (بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَنَزَلَ الْحِجَابُ)؛ أي: آية الحجاب، وفي رواية:"حتى إذا وضع رجله في أُسكفّة الباب داخلة، والأخرى خارجة أرخى الستر بيني وبينه، وأُنزلت آية الحجاب"، وعند الترمذيّ عن أنس:"فلما أرخى الستر دوني ذكرت ذلك لأبي طلحة، فقال: إن كان كما تقول لينزلن فيه قرآن، فنزلت آية الحجاب".
(قَالَ) أنس (وَوُعِظَ الْقَوْمُ) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: وعظهم الله تعالى (بِمَا وُعِظُوا بِهِ) بالبناء للمفعول أيضًا؛ أي: بالكلام الذي وعظهم به، وهو قوله تعالى:{إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} إلى قوله: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53].
وقوله: (زَادَ ابْنُ رَافِعٍ)؛ يعني: شيخه الثاني، وغرضه بيان اختلاف شيخيه: محمد بن حاتم، ومحمد بن رافع، فالأول اقتصر على قوله:"ونزل الحجاب"، والثاني زاد (فِي حَدِيثِهِ) ذكر الآية، وهي قوله:({لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ}) قال أبو عبيدة: "إناه"؛ أي: إدراكه، وبلوغه، ويقال: أَنَى يأني أَنْيًا؛ أي: بلغ، وأدرك، قال الشاعر [من الوافر]:
تَمَحَّضَتِ الْمَنُونُ لَهُ بِنَوْمٍ
…
أَنَى وَلِكُلِّ حَامِلَةٍ تَمَامُ
وقوله: "أَنْيًا" - بفتح الهمزة، وسكون النون - مصدر أيضًا، وقرأ الأعمش وحده:"آناه" بمد أوله بصيغة الجمع، مثل آناء الليل، ولكن بغير همز في آخره
(2)
.
إِلَى قَوْلِهِ: ({وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ}) فيه إثبات صفة الحياء لله تعالى على ما يليق بجلاله، فنحن نثبتها، ولا نعطّل، ولا نشبّه، ولا نحرّف، ولا
(1)
"الفتح" 10/ 512.
(2)
"الفتح" 10/ 509.
نؤول، بل كما أثبته تعالى لنفسه، على مراده سبحانه وتعالى، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [16/ 3502 و 3503 و 3504 و 3505 و 3506 و 3507 و 3508](1428)، و (البخاريّ) في "النكاح"(5170)، و"التفسير"(4791)، و"الاستئذان"(6239 و 6271)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3219)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 433 و 434 و 435)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 98 و 105 و 200 و 262 - 263)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4062 و 5578 و 5579)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3332)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(8/ 105)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(22/ 37 - 38)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2313)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان قصّة نكاح النبيّ صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها.
2 -
(ومنها): بيان سبب نزول الآية الكريمة.
3 -
(ومنها): بيان مشروعية الحجاب لأمهات المؤمنين، قال عياض
(1)
: فرضُ الحجاب مما اختصصن به، فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهنّ كشف ذلك في شهادة، ولا غيرها، ولا إظهار شخوصهنّ، وإن كن مستترات، إلا ما دعت إليه ضرورة من بُراز، ثم استَدَلّ بما في "الموطأ" أن حفصة لما تُوفي عمر سترها النساء عن أن يُرى شخصها، وأن زينب بنت جحش جُعلت لها القبة فوق نعشها ليستر شخصها. انتهى.
وتعقّبه الحافظ، فقال: وليس فيما ذكره دليل على ما ادّعاه من فرض ذلك عليهنّ، وقد كنّ بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم يحججن، ويطفن، وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهنّ الحديث، وهن مستترات الأبدان، لا الأشخاص، وقد تقدّم في "الحج" قول ابن جريج لعطاء لما ذكر له طواف عائشة: أقَبل الحجاب
(1)
"إكمال المعلم" 7/ 57.
أو بعده؟ قال: قد أدركت ذلك بعد الحجاب. انتهى
(1)
.
4 -
(ومنها): بيان مشروعيّة صلاة المرأة إذا خُطبت، مستخيرةً ربّها، ودعاؤها عند الخِطبة قبل الإجابة.
5 -
(ومنها): استحباب صلاة الاستخارة لمن همّ بأمر، سواء كان ذلك الأمر ظاهر الخير، أم لا؛ كما أفادته هذه القصّة، ولِمَا أخرجه البخاريّ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة في الأمور، كما يعلّمنا السورة من القرآن، يقول:"إذا هَمّ أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللَّهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر، ولا أقدر، وتعلم، ولا أعلم، وأنت علّام الغيوب، اللَّهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري - أو قال -: عاجل أمري، وآجله، فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرّ لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري - أو قال -: في عاجل أمري، وآجله، فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به"، قال: ويسمّي حاجته. انتهى
(2)
.
6 -
(ومنها): أن من وكل أمره إلى الله تعالى يسّر الله له ما هو الأحظّ له، والأنفع دنيا وأخرى.
7 -
(ومنها): أنه لا بأس أن يبعث الرجل لخطبة المرأة له من كان زوجها سابقًا، إذا علم أنه لا يَكره ذلك، كما كان حال زيد رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
8 -
(ومنها): فضل زينب رضي الله عنها حيث زوّجها الله سبحانه وتعالى من رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك كانت تفتخر على بقية أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج البخاريّ عن أنس رضي الله عنه، قال:"إن زينب بنت جحش رضي الله عنها كانت تفتخر على أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، فتقول: زوّجكنّ أهاليكنّ، وزوّجني الله تعالى من فوق سبع سموات". وأخرج ابن جرير في "تفسيره" من طريق المغيرة، عن الشعبيّ، قال: كانت زينب رضي الله عنها، تقول للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إني لأُدلي عليك بثلاث، ما من نسائك امرأة تُدلي بهنّ: إن جدّي وجدّك واحد، وإني أَنكحنيك الله من السماء، وإن السفير جبريل.
(1)
"الفتح" 10/ 513.
(2)
"صحيح البخاريّ" 1/ 391.
انتهى. وهذا مرسل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3503]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيع الزَّهْرَانِيُّ، وَأَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، وَهُوَ ابْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثابِتٍ، عن أَنَسٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي كَامِلٍ: سَمِعْتُ أَنَسًا، قَالَ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَوْلَمَ عَلَى امْرَأَةٍ، وَقَالَ أَبُو كَامِلٍ: عَلَى شَيْءٍ مِنْ نِسَائِهِ، مَا أَوْلَمَ عَلَى زَيْنَبَ، فَإِنَّهُ ذَبَحَ شَاةً).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ) الْجَحْدريّ البصريّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 247)(خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
والباقون ذُكروا في الباب، وفيما قبله، و"أبو الربيع الزهرانيّ" هو: سليمان بن داود.
[تنبيه]: هذا الإسناد من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (230) من رباعيّات الكتاب.
وقوله: (مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَوْلَمَ عَلَى امْرَأَةٍ. . . إلخ) أشار ابن بطال رحمه الله إلى أن ذلك لم يقع قصدًا لتفضيل بعض النساء على بعض، بل باعتبار ما اتَّفَقَ، وأنه لو وجد الشاة في كل منهنّ لَأَوْلم بها؛ لأنه كان أجود الناس، ولكن كان لا يبالغ فيما يتعلق بأمور الدنيا في التأنُّق.
وجَوَّز غيره أن يكون فعل ذلك لبيان الجواز.
وقال الكرمانيّ رحمه الله: لعل السبب في تفضيل زينب في الوليمة على غيرها كان للشكر لله تعالى على ما أنعم به عليه من تزويجه إياها بالوحي.
وقال الحافظ رحمه الله: ونفي أنس أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يولم على غير زينب بأكثر مما أولم عليها محمول على ما انتهى إليه علمه، أو لِمَا وقع من البركة في وليمتها، حيث أشبع المسلمين خبزًا ولحمًا من الشاة الواحدة، وإلا فالذي يظهر أنه لمّا أولم على ميمونة بنت الحارث لمّا تزوجها في عمرة القضية بمكة، وطلب من أهل مكة أن يحضروا وليمتها فامتنعوا، أن يكون ما أولم به
عليها أكثر من شاة؛ لوجود التوسعة عليه في تلك الحالة؛ لأن ذلك كان بعد فتح خيبر، وقد وسّع الله على المسلمين منذ فتحها عليهم.
وقال ابن الْمُنَيِّر: يؤخذ من تفضيل بعض النساء على بعض في الوليمة جواز تخصيص بعضهن دون بعض بالإتحاف، والألطاف، والهدايا. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم بيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3504]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَبَلَةَ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: مَا أَوْلَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ، أَكْثَرَ، أَوْ أَفْضَلَ مِمَّا أَوْلَمَ عَلَى زينَبَ، فَقَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ: بِمَ أَوْلَمَ؟
(2)
قَالَ: أَطْعَمَهُمْ خُبْزًا وَلَحْمًا، حَتَّى تَرَكُوهُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَبَلَةَ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ) الْعَتَكيّ، أبو جعفر البصريّ، صدوقٌ [11](ت 234)(م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 348.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) بُندار، أبو بكر العبديّ البصريّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غُندر، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ صحيح الكتاب [9](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
والباقون ذُكروا في الباب، وفي البابين قبله.
وقوله: (أَوْ أَفْضَلَ)"أو" هنا للشكّ من الراوي.
وقوله: (بِمَ أَوْلَمَ؟) هكذا نُسخ شرح الأبيّ "بم" بحذف الألف، وهو الموافق للقاعدة؛ لأن "ما" الاستفهاميّة إذا جُرّت حُذفت ألفها، كما قال في "الخلاصة":
(1)
"الفتح" 11/ 531 - 532.
(2)
وفي بعض النسخ: "بما أولم".
وَ"مَا" فِي الاسْتِفْهَامِ إِنْ جُرَّتْ حُذِفْ
…
أَلِفُهَا وَأَوْلِهَا الْهَا إِنْ تَقِفْ
وَلَيْسَ حَتْمًا فِي سِوَى مَا انْخَفَضَا
…
بِاسْمٍ كَقَوْلِكَ "اقْتِضَاءَ مَا اقْتَضَى"
ووقع في كثير من النسخ: "بما أولم" بإثبات الألف، وهو قليل، حكاه الأخفش لغة، وقرئ شُذوذًا:(عمّا يتساءلون). وقال حسّان [من الوافر]:
عَلَى مَا قَامَ يَشْتِمُنِي لَئِيمٌ
…
كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي التُّرَابِ
(1)
وقوله: (حَتَّى تَرَكُوهُ) يعني حتى شَبِعوا، وتركوا أكله؛ لشِبَعهم.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3505]
(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ، وَعَاصِمُ بْنُ النَّضْرِ التَّيْمِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، كُلُّهُمْ عَنْ مُعْتَمِرٍ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو مِجْلَزٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَمَّا تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، دَعَا الْقَوْمَ، فَطَعِمُوا، ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ، قَالَ: فَأَخَذَ كَأَنَّهُ يَتَهَيَّأُ لِلْقِيَامِ، فَلَمْ يَقُومُوا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَامَ، فَلَمَّا قَامَ، قَامَ مَنْ قَامَ مِنَ الْقَوْمِ، زَادَ عَاصِمٌ، وَابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى فِي حَدِيثِهِمَا: قَالَ: فَقَعَدَ ثَلَاثَةٌ، وَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَاءَ لِيَدْخُلَ، فَإِذَا الْقَوْمُ جُلُوسٌ، ثُمَّ إِنَّهُمْ قَامُوا، فَانْطَلَقُوا، قَالَ: فَجِئْتُ، فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ قَدْ انْطَلَقُوا، قَالَ: فَجَاءَ، حَتَّى دَخَلَ، فَذَهَبْتُ أَدْخُلُ، فَأَلْقَى الْحِجَابَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، قَالَ: وَأَنْزَلَ اللهُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} إلى قوله: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا}).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ) البصريّ، ثقةٌ [10](ت 248) أو بعدها (م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.
(1)
راجع: "حاشية الخضريّ على شرح ابن عقيل على الخلاصة" 2/ 276.
2 -
(عَاصِمُ بْنُ النَّضْرِ التَّيْمِيُّ) الأحول، أبو عمر البصريّ، صدوق [10](م د س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 26/ 1350.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى) الصنعانيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ [10](ت 245)(م قد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 92/ 503.
4 -
(مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ) بن طَرْخان التيميّ، أبو محمد البصريّ، الملقّب بالطُّفَيل، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187) وقد جاوز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.
5 -
(أَبُوهُ) سليمان بن طَرْخان التيميّ، نزل في بني تيم، فنُسب إليهم، أبو المعتمر البصريّ، ثقةٌ عابد [4](ت 143) وهو ابن (97) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
6 -
(أَبُو مِجْلَزٍ) - بكسر الميم، وسكون الجيم، وفتح اللام، بعده زاي - وحُكي بفتح الميم، والمشهور الأول، لاحِقُ بن حُميد بن سعيد
(1)
البصريّ، ثقةٌ، من كبار [3] (ت 6 أو 109) وقيل: قبل ذلك (ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 56/ 1547.
و"أنس رضي الله عنه" ذُكر قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3506]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: إِنَّ أَنَسٍ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْحِجَابِ، لَقَدْ كَانَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ يَسْأَلُنِي عَنْهُ، قَالَ أَنَسٌ: أَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَرُوسًا بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، قَالَ: وَكَانَ تَزَوَّجَهَا بِالْمَدِينَةِ، فَدَعَا النَّاسَ لِلطَّعَامِ بَعْدَ ارْتفَاعِ النَّهَارِ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَجَلَسَ مَعَهُ رِجَالٌ بَعْدَمَا قَامَ الْقَوْمُ، حَتَّى قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَشَى فَمَشَيْتُ مَعَهُ، حَتَّى بَلَغَ بَابَ حُجْرَةِ
(1)
قال النوويّ رحمه الله: قيل: وليس في "الصحيحين" من أول اسمه لام ألف غيره. انتهى.
عَائِشَةَ، ثُمَّ ظَنَّ أَنَّهُمْ قَدْ خَرَجُوا، فَرَجَعَ، وَرَجَعْتُ مَعَهُ، فَإِذَا هُمْ جُلُوسٌ مَكَانَهُمْ، فَرَجَعَ فَرَجَعْتُ الثَّانِيَةَ، حَتَّى بَلَغَ حُجْرَةَ عَائِشَةَ، فَرَجَعَ فَرَجَعَتُ، فَإِذَا هُمْ قَدْ قَامُوا، فَضَرَبَ بَيْني وَبَيْنَهُ بِالسِّتْرِ، وَأنزَلَ اللهُ آيَةَ الْحِجَابِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، تقدّم قريبًا.
2 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
3 -
(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجة [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
4 -
(صَالِحُ) بن كيسان الغفاريّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو الحارث المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيةٌ [4] مات بعد سنة (130) أو (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
5 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ الإمام، تقدّم قريبًا.
و"أنس رضي الله عنه" ذُكر قبله.
وقوله: (عَرُوسًا بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ) العروس نعت يستوي فيه الرجل والمرأة، والْعُرْس مُدّة بناء الرجل بالمرأة، وأصله اللزوم، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الْعَرُوُس": وصفٌ يستوي فيه الذكر والأنثي، ما داما في إِعراسهما، وجمع الرجل: عُرُسٌ - بضمتين - مثل رسول ورُسُل، وجمع المرأة: عرائس، وعَرَّسَ بالشيء أيضًا: لَزِمَه، ويقال:"العَرُوس" من هذين، وأعرس بامرأته بالألف: دخل بها، وأعرس: عَمِلَ عُرْسًا، وأما عَرَّسَ بامرأته بالتثقيل، على معنى الدخول، فقالوا: هو خطأ، وإنما يقال: عَرَّسَ: إذا نزل المسافر؛ ليستريح نَزْلَةً، ثم يرتحل، قال أبو زيد: وقالوا: عَرَّسَ القوم في المنزل تعريسًا: إذا نَزَلُوا أَيَّ وقت كان، من ليل، أو نهار، فالإعراس: دخول الرجل بامرأته، والتعريس: نزول المسافر ليستريح، وعِرْسُ الرجل بالكسر: امرأته،
(1)
"الفتح" 12/ 396 "كتاب الأطعمة" رقم (5466).
والجمع أعراس، مثلُ حِمْلٍ وأَحْمال، وقد يقال للرجل: عِرْسٌ أيضًا، والْعُرْس بالضم: الزفاف، ويُذَكّر، ويُؤنَّث، فيقال: هو الْعُرْس، والجمع: أَعراس، مثلُ قُفْلٍ وأَقْفال، وهي الْعُرْسُ، والجمع: عُرْسَاتٌ، ومنهم من يقتصر على إيراد التأنيث، والْعُرْس أيضًا: طعام الزِّفَاف، وهو مذكر؛ لأنه اسم للطعام. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3507]
(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ، يَعْنِي ابْنَ سُلَيْمَانَ، عَنْ الْجَعْدِ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: تَزَوَّجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَخَلَ بِأَهْلِهِ، قَالَ: فَصَنَعَتْ أُمِّي أُمُّ سُلَيْمٍ حَيْسًا، فَجَعَلَتْهُ فِي تَوْرٍ، فَقَالَتْ: يَا أَنَسُ اذْهَبْ بِهَذَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْ: بَعَثَتْ بِهَذَا إِلَيْكَ أُمِّي، وَهِيَ تُقْرِئُكَ السَّلَامَ، وَتَقُولُ: إِنَّ هَذَا لَكَ مِنَّا قَلِيلٌ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَذَهَبْتُ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: إِنَّ أُمِّي تُقْرِئُكَ السَّلَامَ، وَتَقُولُ: إِنَّ هَذَا لَكَ مِنَّا قَلِيلٌ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ:"ضَعْهُ"، ثُمَّ قَالَ:"اذْهَبْ، فَادْعُ لِي فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا، وَمَنْ لَقِيتَ"، وَسَمَّى رِجَالًا، قَالَ: فَدَعَوْتُ مَنْ سَمَّي، وَمَنْ لَقِيتُ، قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسٍ: عَدَدَ كَمْ كَانُوا؟ قَالَ: زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةٍ، وَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"يَا أَنَسُ هَاتِ التَّوْرَ"، قَالَ: فَدَخَلُوا، حَتَّى امْتَلَأَت الصُّفَّةُ، وَالْحُجْرَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لِيَتَحَلَّقْ عَشَرَةٌ عَشَرَةٌ، وَلْيَأْكُلْ كُلُّ إِنْسَانٍ مِمَّا يَلِيهِ"، قَالَ: فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، قَالَ: فَخَرَجَتْ طَائِفَةٌ، وَدَخَلَتْ طَائِفَةٌ، حَتَّى أَكَلُوا كُلُّهُمْ، فَقَالَ لِي:"يَا أَنَسُ ارْفَعْ"، قَالَ: فَرَفَعْتُ، فَمَا أَدْرِي حِينَ وَضَعْتُ كَانَ أَكْثَرَ، أَمْ حِينَ رَفَعْتُ؟ قَالَ: وَجَلَسَ طَوَائِفُ مِنْهُمْ يَتَحَدَّثُونَ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ، وَزَوْجَتُهُ مُوَلِّيَةٌ وَجْهَهَا إِلَى الْحَائِطِ، فَثَقُلُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَلَّمَ عَلَى نِسَائِهِ، ثُمَّ رَجَعَ، فَلَمَّا رَأَوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَدْ رَجَعَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ
(1)
"المصباح المنير" 2/ 401 - 402.
ثَقُلُوا عَلَيْهِ، قَالَ: فَابْتَدَرُوا الْبَابَ، فَخَرَجُوا كُلُّهُمْ، وَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَرْخَى السِّتْرَ، وَدَخَلَ وَأَنَا جَالِسٌ فِي الْحُجْرَةِ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا، حَتَّى خَرَجَ عَلَيَّ، وَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَرَأَهُنَّ عَلَى النَّاسِ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. قَالَ الْجَعْدُ: قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: أَنَا أَحْدَثُ النَّاسِ عَهْدًا بِهَذِهِ الْآيَاتِ، وَحُجِبْنَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الضُّبَعيّ، أبو سليمان البصريّ، صدوقٌ زاهدٌ، لكنه يتشيّع [8](ت 178)(بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 55/ 322.
2 -
(الْجَعْدُ أَبو عُثْمَانَ) هو: الجعد بن دينار، تقدّم في الباب الماضي. والباقيان ذُكرا في الباب.
[تنبيه]: هذا الإسناد من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (231) من رباعيّات الكتاب.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: تَزَوَّجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي زينب بنت جحش رضي الله عنها، وفي رواية معمر:"لما تزوّج النبيّ صلى الله عليه وسلم زينب أهدت له أم سليم حيسًا. . ." الحديث، وكان زواجها سنة ثلاث، وقيل: سنة خمس، وكانت قبله عند زيد بن حارثة، وكانت أول من مات من نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَدَخَلَ بِأَهْلِهِ، قَالَ: فَصَنَعَتْ أُمِّي أُمُّ سُلَيْمٍ) بنت مِلْحان رضي الله عنها، يقال: اسمها سهلة، وقيل غير ذلك، تقدّمت ترجمتها في "الحيض" 7/ 716. (حَيْسًا) - بفتح الحاء المهملة، وسكون التحتانيّة -: تمرُّ يُنزع نواه، ويدقّ مع أقط، ويُعجنان بالسمن، ثم يُدلك باليد حتى يبقى كالثريد، وربّما جُعل معه سَوِيقٌ، وهو مصدرٌ في الأصل، يقال؛ حاس الرجل حَيْسًا، من باب باع: إذا اتّخذ ذلك، قاله الفيّوميّ، وقد تقدّم البحث عنه بأتمّ من هذا في شرح حديث أنس رضي الله عنه في قصّة زواجه صلى الله عليه وسلم من صفيّة بنت حُييّ رضي الله عنها.
[تنبيه]: قد استشكل القاضي عياض ما وقع في هذا الحديث من أن الوليمة بزينب بنت جحش كانت من الحيس الذي أهدته أم سُليم، بأن المشهور أنه صلى الله عليه وسلم أولم عليها بالخبز واللحم، ولم يقع في القصّة تكثير ذلك الطعام، وإنما فيه:"أشبع المسلمين خبزًا ولحمًا"، وذكر في حديث الباب أن أنسًا قال:"فقال لي: ادع رجالًا، سمّاهم، وادع من لقيت، وأنه أدخلهم، ووضع صلى الله عليه وسلم يده على تلك الحيسة، وتكلّم بما شاء الله، ثم جعل يدعو عشرة عشرة، حتى تصدّعوا كلهم عنها"، يعني تفرّقوا.
قال عياضٌ: هذا وَهَمٌ من راويه، وتركيب قصّة على أخرى.
وتعقّبه القرطبيّ بأنه لا مانع من الجمع بين الروايتين، والأَوْلى أن يقال: لا وهَمَ في ذلك، فلعلّ الذين دُعوا إلى الخبز واللحم، فأكلوا حتى شبعوا، وذهبوا، ولم يرجعوا، ولمّا بقي النفر الذين يتحدّثون جاء أنس بالحيسة، فأُمر بأن يدعو ناسًا آخرين، ومن لقي، فدخلوا، فأكلوا أيضًا حتى شبعوا، واستمرّ أولئك النفر يتحدّثون.
قال الحافظ: وهو جمعٌ لا بأس به، وأولى منه أن يقال: إن حضور الحيسة صادف حضور الخبز واللحم، فأكلوا كلهم من كلّ ذلك.
وعجبتُ من إنكار عياض وقوع تكثير الطعام في قصّه الخبز واللحم، مع أن أنسًا يقول: إنه أولم عليها بشاة، ويقول: إنه أشبع المسلمين خبزًا ولحمًا، وما الذي يكون قدرُ الشاة حتى يُشبع المسلمين جميعًا، وهم يومئذ نحو الألف، لولا البركة التي حصلت من جملة آياته صلى الله عليه وسلم في تكثير الطعام؟. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو توجيهٌ حسنٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(فَجَعَلَتْهُ فِي تَوْرٍ) - بفتح التاء، وسكون الواو، آخره راء -: إناءٌ يُشرَبُ فيه، مذكّر، جمعه أتوار، كثوب وأثواب
(1)
، وقال النوويّ رحمه الله: "التَّوْرُ: بتاء مثناة فوقُ مفتوحة، ثم واو ساكنة: إناءٌ، مثلُ الْقَدَح، سبق بيانه في باب الوضوء. انتهى
(2)
.
(1)
راجع: "القاموس" 1/ 381، و"المصباح" 1/ 78.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 231.
وفي "النهاية": هو إناء من صُفْر، أو حجارة، كالإِجّانة، وقد يُتوضّأ منه. انتهى
(1)
.
وفي رواية معمر التالية: "في تور من حجارة".
(فَقَالَتْ: يَا أنَسُ اذْهَبْ بِهَذَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْ: بَعَثَتْ بِهَذَا إِلَيْكَ أُمِّي) قال النوويّ رحمه الله: فيه أنه يستحب لأصدقاء المتزوج أن يبعثوا إليه بطعام، يساعدونه به على وليمته، وقد سبق هذا في الباب قبله (وَهِيَ تُقْرِئُكَ السَّلَامَ) - بضمّ المثنّاة الفوقانيّة - من الإقراء رباعيًّا، قال الفيّوميّ رحمه الله: وقرأتُ على زيد السلامَ أقرؤه عليه قِرَاءةً، وإذا أمرتَ منه قلتَ: اقْرَأْ عليه السلام، قال الأصمعيّ: وتعديته بنفسه خطأٌ، فلا يقال: اقْرَأْه السلامَ؛ لأنه بمعنى اتلُ عليه، وحَكَى ابنُ القطّاع أنه يتعدّى بنفسه رباعيًّا، فيقال: فلانٌ يُقْرِئك السلامَ. انتهى
(2)
.
وفي "القاموس": وقَرَأ عليه السلام: أبلغه، كأقرأه، أو لا يُقال: أَقْرَأَهُ إلا إذا كان مكتوبًا. انتهى
(3)
.
قال النوويّ رحمه الله: وفيه استحبابُ بعث السلام إلى الصاحب، وإن كان أفضل من الباعث، لكن هذا يَحْسُن إذا كان بعيدًا من موضعه، أو له عذر في عدم الحضور بنفسه للسلام. انتهى
(4)
.
(وَتَقُولُ: إِنَّ هَذَا لَكَ مِنَّا قَلِيلٌ يَا رَسُولَ اللهِ) إنما قالت أم سُليم رضي الله عنها هذا اعتذارًا إليه صلى الله عليه وسلم؛ نظرًا إلى ما يستحقّه من الإكرام، وفيه الاعتذار إلى المبعوث إليه، وقول الإنسان نحو قولها هذا. (قَالَ: فَذَهَبْتُ بِهَا) هكذا النُّسخ بتأنيث الضمير؛ لتأويله بالهديّة، أي ذهبت بالهدية التي بعثتني أمي إليه صلى الله عليه وسلم، وفي رواية النسائيّ:"فذهبتُ به" بالتذكير، أي بالحيس الذي بعثته به (إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: إِنَّ أُمِّي تُقْرِئُكَ السَّلَامَ، وَتَقُولُ: إِنَّ هَذَا لَكَ مِنَّا قَلِيلٌ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: "ضَعْهُ") أَمْرٌ بوضعه على الأرض، أي ضع الحيس الذي حملته على الأرض، والأصل: أوْضَعْهُ، من وَضَعَ الشيءَ يَضَعُهُ، من باب نَفَعَ:
(1)
"النهاية" 1/ 199.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 502.
(3)
"القاموس المحيط" 1/ 24.
(4)
"شرح النوويّ" 9/ 231.
إذا تركه، حُذفت واوه حملًا على المضارع، وحُذفت أيضًا همزة الوصل؛ لعدم الحاجة إليها، حيث تحرّك ما بعدها، كما هو مشهور في كتب الصرف (ثُمَّ قَالَ:"اذْهَبْ، فَادْعُ لِي فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا، وَمَنْ لَقِيتَ") بفتح اللام، وكسر القاف، أي: وَادْعُ أيضًا من لقيت من الصحابة رضي الله عنهم، وفي رواية معمر:"اذهب فادع لي من لقيتَ من المسلمين"(وَسَمَّى رِجَالًا) أي سمّى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالًا معيّنين بأسمائهم، فأجملهم أنس، إما اختصارًا، أو نسيانًا (قَالَ) أنس رضي الله عنه (فَدَعَوْتُ مَنْ سَمَّى، وَمَنْ لَقِيتُ، قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسٍ - القائل هو الجعد أبو عثمان - عَدَدَ كَمْ كَانُوا؟) بنصب "عَدَد" على الخبريّة لـ "كان" مقدّمًا وجوبًا؛ لإضافته إلى الاستفهام، وقيل: لفظ "عدد" مقحم (قَالَ) أنس رضي الله عنه (زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةٍ) قال النوويّ: "الزُّهَاءُ" بضمّ الزاي، وفتع الهاء، وبالمدّ: أي قدر ثلاثمائة، وقال الفيّومي: زُهاءٌ في العدد، وزانُ غُرَاب، يقال: هم زُهاء ألف: أي قدر ألف، وزُهاءُ مائة: أي قدرها، قال الشاعر [من الرجز]:
كَأَنَّمَا زُهاؤُهُمْ لِمَنْ جَهَرْ
ويقال: كم زُهاؤهم: أي كم قدرهم، قاله الأزهريّ، والجوهريّ، وابنُ وَلَّاد، وجماعةٌ، وقال الفارابيّ أيضًا: هم زُهاء مائة بالضمّ والكسر، فقول الناس: هو زُهاءٌ على مائة ليس بعربيّ. انتهى
(1)
.
(وَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا أَنَسُ هَاتِ التَّوْرَ") بكسر التاء من "هاتِ"، كُسرت للأمر، كما تُكسر الطاء من أعط، قاله النوويّ، وهو: أمر من هَاتَى، كأعطى وزنًا ومعنىً، يقال: هاتِ يا رجلُ: أي أعط، والمهاتاةُ: مفاعلة منه، وما أُهاتيك: أي ما أنا بمعطيك، أفاده في "القاموس"
(2)
. (قَالَ) أنس (فَدَخَلُوا، حَتَّى امْتَلَأَت الصُّفَّةُ) بضمّ الصاد، وتشديد الفاء: جمعه صُفَفٌ، مثلُ غُرْفة وغُرَفٍ، قال في "اللسان":"الصُّفّة" من البنيان: شِبْهُ الْبَهْوِ
(3)
الواسع الطويل السَّمْك، قال: وأهل الصُّفَّة هم فقراء المهاجرين، ومن لم يكن له منهم
(1)
"المصباح المنير" 1/ 258.
(2)
"القاموس المحيط" 4/ 402.
(3)
في "القاموس" 4/ 306: الْبَهْوُ: البيت المقدَّم أمام البيوت، وكِنَاسٌ واسعٌ للثور، جمعه: أبهاءٌ، وبُهُوٌّ، وبُهِيٌّ. انتهى.
منزل يسكنه، فكانوا يأوون إلى موضع مُظَلَّل في مسجد المدينة يسكنونه. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ: "الصُّفَةُ": السقيفة. انتهى
(2)
.
(وَالْحُجْرَةُ) - بضمّ الحاء المهملة، وسكون الجيم -: البيت، جمعه حُجَرٌ، وحُجُرات، مثل غُرْفة وغُرَف، وغرفات في وجوهها
(3)
، وفي "القاموس": الْحُجْرة: الْغُرْفة، جمعها حُجَرٌ، كصُرَد
(4)
.
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لِيَتَحَلَّقْ عَشَرَةٌ عَشَرَةٌ) أي لِيَصِرْ كلّ عشرة منكم حلقة (وَلْيَأْكُلْ كُلُّ إِنْسَانٍ مِمَّا يَلِيهِ") وهذا من آداب الأكل (قَالَ) أنس (فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، قَالَ: فَخَرَجَتْ طَائِفَةٌ، وَدَخَلَتْ طَائِفَةٌ) أي لِتَحُلّ مكان الطائفة التي خرجت (حَتَّى أَكَلُوا كُلُّهُمْ) وفي رواية معمر التالية: "فجعلوا يدخلون عليه، فيأكلون، ويخرجون، ووضع النبيّ صلى الله عليه وسلم يده على الطعام، فدعا فيه، وقال فيه ما شاء الله أن يقول، ولم أَدَعْ أحدًا لقيته إلا دعوته، فأكلوا حتى شبعوا، وخرجوا. . ."(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (لِي: "يَا أَنَسُ ارْفَعْ") أي ارفع التور الذي فيه الطعام؛ لانتهاء الحاجة إليه، بفراغ جميع من حضر من الأكل منه (قَالَ) أنس (فَرَفَعْتُ، فَمَا أَدْرِي حِينَ وَضَعْتُ كَانَ أَكْثَرَ، أَمْ حِينَ رَفَعْتُ؟) فيه معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتكثير الطعام (قَالَ: وَجَلَسَ طَوَائِفُ مِنْهُمْ) أي من الناس الذين دُعُوا، فأكلوا من ذلك الطعام.
قال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "وجلس طوائف منهم يتحدَّثون. . ." إلى آخر ما ذكر في الرواية التي قبل هذه، هذا يدلُّ على أن القصَّة في الروايتين واحدة، غير أنَّه ذكر في الأولى: أنَّه أولم بشاة، وأنَّه أطعمهم خبزًا ولحمًا حتى شبعوا، ولم يذكر فيها آيته في تكثير الطعام، وذكر في هذه الرِّواية: أنه أشبعهم من الْحَيْس الذي بعثت به أم سُلَيْم في التور، وفيه كانت الآية.
فقال القاضي عياض: هو وَهْمٌ من بعض الرُّواة، وتركيب قصة على أخرى.
(1)
راجع: "لسان العرب" 9/ 195.
(2)
"المفهم" 4/ 150.
(3)
"المصباح" 1/ 122.
(4)
راجع: "القاموس" 2/ 5.
قال القرطبيّ: أولى من هذا أن يقال: إن القصَّة واحدة، ليس فيها وَهْم؛ فإنَّه يمكن أن يقال: اجتمع في تلك الوليمة الأمران، فأكل قوم الخبز واللحم حتى شبعوا وانصرفوا، ثم إنَّه لما جاء الْحَيْس استَدْعَى الناس وجرى ما ذكر، وهذا كلُّه، والمتحدِّثون في بيته جلوسٌ لم يبرحوا إلى أن خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم ودار على بيوت أزواجه على ما تقدَّم، وليس في تقدير هذا بُعْدٌ، ولا تناقض، وإذا أمكن هذا حملناه عليه، وكان أولى من تطريق الوهم للثقات والأثبات، من غير ضرورة تدعو إليه، ولا أمر بيِّنٍ يدلُّ عليه
(1)
، والله أعلم. انتهى
(2)
.
(يَتَحَدَّثُونَ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ، وَزَوْجَتُهُ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ، و"زوجته" بالتاء، وهي لغة قليلة، تكرّرت في الحديث، والشعر، والمشهور حذفها. انتهى
(3)
. (مُوَلِّيَةٌ) أي موجِّهة (وَجْهَهَا إِلَى الْحَائِطِ، فَثَقُلُوا) بضمّ الفاء المخفّفة (عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَلَّمَ عَلَى نِسَائِهِ) وفي رواية معمر: "فأطالوا عليه الحديث، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحيي منهم أن يقول لهم شيئًا، فخرج، وتركهم في البيت"(ثُمَّ رَجَعَ، فَلَمَّا رَأَوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَدْ رَجَعَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ ثَقُلُوا عَلَيْهِ، قَالَ: فَابْتَدَرُوا الْبَابَ) أي تسابقوا إليه للخروج منه (فَخَرَجُوا كُلُّهُمْ، وَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَرْخَى السِّتْرَ، وَدَخَلَ وَأنَا جَالِسٌ فِي الْحُجْرَةِ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا) أي وقتًا قليلًا (حَتَّى خَرَجَ عَلَيَّ، وَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ) ببناء الفعل للمفعول، والإشارة للآية المذكورة بعده (فخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَرَأَهُنَّ عَلَى النَّاسِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ}) أي منتظرين ({إِنَاهُ}) أي إدراكه، ونضجه {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} )، وقوله:({وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ}) معطوف على {نَاظِرِينَ} ({إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} إِلَى آخِرِ الْآيةِ، قَالَ الْجَعْدُ: قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: أَنَا أَحْدَثُ النَّاسِ عَهْدًا) أي أقرب الناس زمنًا (بِهَذِهِ الْآيَاتِ) أي بنزولها (وَحُجِبْنَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) ببناء الفعل للمفعول، أي مُنِعن من الظهور والتبرّج أمام الرجال الأجانب.
(1)
قد تقدّم للحافظ رحمه الله توجيه آخر في الجمع بين الروايتين، فلا تغفل.
(2)
"المفهم" 4/ 151 - 152.
(3)
"شرح النوويّ" 9/ 232.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى، بيان مسائله في شرح الحديث المذكور أول الباب.
[تنبيه]: مما يُستفاد من الحديث، وإن كان بعضه تقدّم إلا أن تلخيصه في موضع واحد أنفع للاستحضار:
1 -
(منها): بيان استحباب الإهداء لمن تزوّج، إدخالًا للسرور في قلبه، وقيامًا عنه ببعض الكُلَف؛ لكونه مشغولًا بأمر الزواج، وهو نحو ما يُستحبّ من الإهداء لأهل الميت.
2 -
(ومنها): الاعتذار عن الهديّة إذا كانت قليلة، وقول الإنسان نحو قول أم سُليم رضي الله عنها:"هذا لك قليل".
3 -
(ومنها): كون الوليمة بعد البناء، وهو الغالب، وقد تقدم بيانه.
4 -
(ومنها): تعيين مرسل الهديّة باسمه، وليس ذلك من الرياء.
5 -
(ومنها): استحباب بعث السلام، وإن كان المبعوث إليه أفضل من الباعث.
6 -
(ومنها): استحباب حمل السلام، وإبلاغه إلى من كان غائبًا.
7 -
(ومنها): استحباب الدعوة العامّة، من غير تعيين، كأن يقول: ادْعُ من لقيت، قال القرطبيّ: وقد قال بعض علمائنا: إنه إذا لم يتعيّن المدعوّ لم تجب عليه الإجابة. انتهى.
8 -
(ومنها): ما ظهر فيه من دلائل النبوّة، حيث دَعَا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطعام القليل بالبركة، فكفى هذا العدد الكثير من الصحابة رضي الله عنهم.
9 -
(ومنها): أن من آداب الآكلين إذا كثر عددهم أن يَجتمعوا على القصعة الواحدة عشرة.
10 -
(ومنها): أنه ينبغي أن يكون أكل الإنسان مما يليه، وهذا إذا كان الطعام نوعًا واحدًا، أما إذا كان أنواعًا، فله أن يأكل ما تشتهيه نفس الآكل، من غير حرج، وقد ثبت في "الصحيحين" عن أنس رضي الله عنه:"أنه رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم يتتبّع الدباء من حوالي القصعة"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3508]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَيْنَبَ، أَهْدَتْ لَهُ أُمُّ سُلَيْمٍ حَيْسًا فِي تَوْرٍ، مِنْ حِجَارَةٍ، فَقَالَ أَنَسٌ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اذْهَبْ، فَادْعُ لِي مَنْ لَقِيتَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ"، فَدَعَوْتُ لَهُ مَنْ لَقِيتُ، فَجَعَلُوا يَدْخُلُونَ عَلَيْهِ، فَيَأْكُلُونَ، وَيَخْرُجُونَ، وَوَضَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَلَى الطَّعَامِ، فَدَعَا فِيهِ، وَقَالَ فِيهِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ، وَلَمْ أَدْعْ أَحَدًا لَقِيتُهُ إِلَّا دَعَوْتُهُ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، وَخَرَجُوا، وَبَقِيَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، فَأَطَالُوا عَلَيْهِ الْحَدِيثَ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَحْيِي مِنْهُمْ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ شَيْئًا، فَخَرَجَ، وَتَرَكَهُمْ فِي الْبَيْتِ، فَأَنْزَلَ اللهُ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} ، قَالَ قَتَادَةُ: غَيْرَ مُتَحَيِّنِينَ طَعَامًا، {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا}
(1)
حتى بلغ: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، والباب الماضي، وأبو عثمان رضي الله عنه هو: الجعد بن دينار المذكور قبله.
وقوله: (غَيْرَ مُتَحَيِّنِينَ طَعَامًا) أي غير جاعلين للطعام حينًا تنتظرونه، قال في "القاموس": وحَيّنه: جعل له حِينًا، والناقةَ: جَعَل لها في كلّ يوم وليلة وقتًا يَحْلُبها فيه، كتحيّنَها. انتهى
(2)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(17) - (بَابُ الْأَمْرِ بِإِجَابَةِ الدَّاعِي إِلَى دَعْوَةٍ)
قال النوويّ رحمه الله: دَعْوة الطعام - بفتح الدال - ودِعْوة النسب - بكسرها - هذا قول جمهور العرب، وعكسه تيم الرِّبَاب - بكسر الراء - فقالوا: الطعام بالكسر، والنسب بالفتح، وأما قول قُطْرُب في المثلَّث: إن دعوة الطعام بالضم، فغلّطوه فيه. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3509]
(1429) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْوَلِيمَةِ فَلْيَأْتِهَا").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، تقدَّم قريبًا.
3 -
(نَافِعٌ) مولى ابن عمر، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد الله رضي الله عنهما، تقدَّم أيضًا قريبًا.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات الكتاب، وهو (232) من رباعيّات الكتاب.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن أصح الأسانيد: مالكٌ، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، على ما نُقل عن البخاريّ رحمه الله، وقد تقدّم غير مرّة.
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، وقد دخلها.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 233.
5 -
(ومنها): أن ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، وقد تقدّم غير مرّة، وإنما أعدته تذكيرًا؛ لطول العهد به، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْوَلِيمَةِ فَلْيَأْتِهَا") أي فليأت مكانها، والتقدير: إذا دُعِي إلى مكان وليمة فليأتها، ولا يضرّ إعادة الضمير مؤنَّثًا، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: فيه الأمر بحضور الوليمة، ولا خلاف في أنه مأمور به، ولكن هل هو أمر إيجاب، أو ندب؟ فيه خلاف، الأصح في مذهبنا أنه فرض عين على كل من دُعِي، لكن يسقط بأعذار، سنذكرها - إن شاء الله تعالى - والثاني: أنه فرض كفاية، والثالث: مندوب، هذا مذهبنا في وليمة العرس، وأما غيرها، ففيها وجهان لأصحابنا: أحدهما: أنها كوليمة العرس، والثاني أن الإجابة إليها ندب، وإن كانت في العرس واجبة، ونَقَل القاضي عياض اتّفاق العلماء
(2)
على وجوب الإجابة في وليمة العرس، قال: واختلفوا فيما سواها، فقال مالك، والجمهور: لا تجب الإجابة إليها، وقال أهل الظاهر: تجب الإجابة إلى كل دعوة من عرس وغيره، وبه قال بعض السلف.
قال: وأما الأعذار التي يَسقُط بها وجوب إجابة الدعوة، أو ندبها، فمنها: أن يكون في الطعام شبهة، أو يخص بها الأغنياء، أو يكون هناك من يتأذى بحضوره معه، أو لا تليق به مجالسته، أو يدعوه لخوف شَرّه، أو لطمع في جاهه، أو ليعاونه على باطل، وأن لا يكون هناك منكر، من خمر، أو لهو، أو فَرْش حرير، أو صُوَر حيوان غير مفروشة، أو آنية ذهب، أو فضة، فكل هذه أعذار في ترك الإجابة.
ومن الأعذار أن يعتذر إلى الداعي فيتركه، ولو دعاه ذميّ لَمْ تجب إجابته على الأصح. ولو كانت الدعوة ثلاثة أيام، فالأول تجب الإجابة فيه، والثاني
(1)
"الفتح" 11/ 541.
(2)
سيأتي تعقّب دعوى الاتّفاق، فتنبّه.
تستحب، والثالث تكره. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
، وسيأتي تمام البحث في المسائل - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 3509 و 3510 و 3511 و 3512 و 3513 و 3514 و 3515 و 3516 و 3517](1429)، و (البخاريّ) في "النكاح"(5173)، و (أبو داود) في "الأطعمة"(3736 و 3737)، و (الترمذيّ) في "النكاح"(1098)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 140)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 546)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 37)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 192)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5294)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار" 8/ 27)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 107)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 261) و"الصغرى"(6/ 256) و"المعرفة"(5/ 402)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(9/ 138)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في معنى "الوليمة":
قال ابن قُدامة رحمه الله: الوليمة اسم للطعام في العُرس خاصّةً، لا يقع هذا الاسم على غيره، كذلك حكاه ابن عبد البرّ عن ثعلب وغيره من أهل اللغة، وقال بعض الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: إن الوليمة تقع على كل طعام لسرور حادث، إلا أن استعمالها في طعام العرس أكثر، وقول أهل اللغة أقوى؛ لأنهم أهل اللسان، وهم أعرف بموضوعات اللغة، وأعلم بلسان العرب. و"الْعَذِيرة": اسم لدعوة الختان، وتُسمّى الإعذار، و"الْخُرْسُ، والْخُرْسَة"
(2)
عند الولادة. و"الوَكِيرَة": دعوة البناء، يقال: وَكّر، وخرّس، مشدّدٌ، و"النَّقِعة": عند قُدوم
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 233 - 234.
(2)
بضمّ الخاء المعجمة، وإسكان الراء، وبالسين المهملتين، ذكره في "طرح التثريب" 7/ 70.
الغائب، يقال: نَقَعَ، مخَّفٌ، و"العقيقة": الذبح لأجل الولد، قال الشاعر:
كُلّ الطَّعَامِ تَشْتَهِي رَبِيعَهْ
…
الْخُرْسَ وَالإِعْذَارَ وَالنَّقِيعَهْ
(1)
و"الحِذَاقُ": الطعام عند حِذَاق الصبيّ، و"الْمَأْدُبَةُ": اسمٌ لكلّ دعوة لسبب كانت، أو لغير سبب. و"الآدِبُ": صاحب المأدُبة، قال الشاعر [من الرمل]:
نَحْنُ فِي الْمَشْتَاةِ نَدْعُو الْجَفَلَى
…
لَا تَرَى الآدِبَ مِنَّا يَنْتَقِرْ
و"الْجَفَلَى" في الدعوة: أن يعمّ الناسَ بدعوته، و"النَّقَرَى": هو أن يَخُصّ قومًا دون قوم. انتهى كلام ابن قدامة رحمه الله
(2)
.
وقال في "الفتح": وقال صاحب "المحكم": الوليمة: طعام العرس، والإملاك، وقيل: كل طعام صُنع لعرس وغيره، وقال عياض في "المشارق": الوليمة طعام النكاح، وقيل: الإملاك. وقيل: طعام العرس خاصّة، وقال الشافعيّ، وأصحابه: تقع الوليمة على كل دعوة تُتّخذ لسرور حادثة، من نكاح، أو ختان، وغيرهما، لكن الأشهر استعمالها عند الإطلاق في النكاح، وتقييده في غيره، فيقال: وليمة الختان، ونحو ذلك، وقال الأزهريّ: الوليمة مأخوذةٌ من الْوَلْم، وهو الجمع وزنًا ومعنىً، لأن الزوجين يجتمعان، وقال ابن الأعرابيّ: أصلها من تتميم الشيء، واجتماعه، وجزم الماورديّ، ثم القرطبيّ بأنها لا تُطلق في غير طعام العرس إلا بقرينة.
وأما الدعوة، فهي أعمّ من الوليمة، وهي بفتح الدال على المشهور، وضمها قطرب في مثلّثه، وغلّطوه في ذلك، على ما قاله النوويّ. قال: ودِعوة النسب بكسر الدال، وعكس ذلك بنو تيم الرِّباب، ففتحوا دَعوة النسب، وكسروا دال دِعوة الطعام. انتهى.
قال الحافظ: وما نسبه لبني تيم الرِّباب نسبه صاحبا "الصحاح" و"المحكم" لبني عديّ الرِّباب، فالله أعلم.
(1)
وأنشد الزمخشريّ في "الأساس":
كُلّ الطَّعَامِ تَشْتَهِي عَمِيرَهْ
…
الْخُرْصَ وَالإِعْذَارَ وَالْوَكِيرَهْ
(2)
"المغني" 10/ 191.
وذكر النوويّ تبعًا لعياض أن الولائم ثمانية: "الإعذار" - بعين مهملة، وذال معجمة -: للختان. و"العقيقة": للولادة. و"الْخُرْس" - بضم المعجمة، وسكون الراء، ثم سين مهملة - السلامة المرأة من المطلق، وقيل: طعام الولادة، و"العقيقة": تختصّ باليوم السابع، و"النّقيعة": لقدوم المسافر، مشتقّةٌ من النقع، وهو الغبار، و"الوكيرة": للسكن المتجدّد، مأخوذ من الوَكَر، وهو المأوي، والمستقرّ، و"الوَضِيمة" - بفتح الواو، وكسر الضاد المعجمة -: لما يُتّخذ عند المصيبة، و"المأدبة": لما يُتخذ بلا سبب، ودالها مضمومة، ويجوز فتحها. انتهى
(1)
.
و"الإعذار" يقال فيه أيضًا: "الْعُذْرَة" - بضمّ، فسكون -. و"الْخُرس"، يقال فيه أيضًا: بالصاد المهملة بدل السين، وقد تزاد في آخره هاء، فيقال: خُرْسة، وخرصة، وقيل: إنها لسلامة المرأة من الطلق، وأما التي للولادة بمعنى الفرح، في العقيقة.
واختُلف في النقيعة، هل التي يصنعها القادم من السفر، أو تُصنع له؟، قولان، وقيل: النقيعة التي يصنعها القادم، والتي تُصنع له تُسمى التُّحْفة، وقيل: إن الوليمة خاصّ بطعام الدخول، وأما طعام الإملاك، فيُسمّى الشُّنْدَخ - بضمّ المعجمة، وسكون النون، وفتح الدال المهملة، وقد تضمّ، وآخره خاء معجمةٌ - مأخوذ من قولهم: فرسٌ شُنْدَخٌ، أي يتقدّم غيره، سمّي طعام الإملاك بذلك؛ لأنه يتقدّم الدخول.
قال الحافظ: وأغرب شيخنا في "التدريب"، فقال: الولائم سبعٌ، وهي: وليمة الإملاك، وهو التزوّج، ويقال لها: النقيعة - بنون، وقاف -، ووليمة الدخول، وهو العرس، وقَلَّ من يغاير بينهما. انتهى.
وموضع الإغراب إغرابه تسمية وليمة الإملاك نقيعة، ثم رأيته تبع في ذلك المنذريّ في "حواشيه"، وقد شذّ بذلك، وقد فاتهم ذكر الحِذاق - بكسر المهملة، وتخفيف الذال المعجمة، وآخره قاف -: الطعام الذي يتخذ عند حِذْق الصبيّ، ذكره ابن الصبّاغ في "الشامل"، وقال ابن الرفعة: هو الذي
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 217.
يُصنع عند الختم، أي ختم القرآن، كذا قيّده، ويَحْتَمِل ختم قدر مقصود منه، ويَحْتَمِل أن يطّرد ذلك في حِذقه لكلّ صناعة، وذكر المحامليّ في "الرونق" في الولائم:"العَتِيرة" - بفتح المهملة، ثم مثنّاة مكسورة - وهي شاة تذبح في أول رجب، وتُعُقّب بأنها في معنى الأضحية، فلا معنى لذكرها مع الولائم.
وأما المأدبة، ففيها تفصيلٌ؛ لأنها إن كانت لقوم مخصوصين، فهي النَّقَرَى - بفتح النون والقاف، مقصورًا - وإن كانت عامّةً، فهي الْجَفَلَى - بجيم، وفاء، بوزن الأول -، قال الشاعر [من الرمل]:
نَحْنُ فِي الْمَشْتَاةِ نَدْعُو الْجَفَلَى
…
لَا تَرَى الآدِبَ مِنَّا يَنْتَقِرْ
وَصَفَ قومه بالجود، وأنهم إذا صنعوا مأدبة دعوا إليها عمومًا، لا خصوصًا، وخصّ الشتاء؛ لأنها مظنّة قلّة الشيء، وكثرة احتياج من يُدعَى، و"الآدب": اسم الفاعل من المأدبة، وينتقر مشتقّ من النقَرَى. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد نظمت ما تقدّم من أسماء الولائم، فقلت:
إِنَّ الْوَلَائِمَ لَدَيْهِمْ عَشَرَهْ
…
مَعْ وَاحِدٍ أَرَدتُّ أَنْ أحَبِّرَه
إِعْذَارُهُمْ لِلْخَتْنِ وَالْعَقِيقَةُ
…
عِنْدَ الْوِلَادَةِ تَلِي النَّقِيعَةُ
عِنْدَ قُدُومِ مَنْ غَدَا مُسَافِرَا
…
وَالْخُرْسُ لِلطَّلْقِ إِذَا تَيَسَّرَا
لِلْمَسْكَنِ الْجَدِيدِ قُلْ وَكِيرَةُ
…
وَلِلْمُصِيبَةِ تُرَى الْوَضِيمَةُ
مَأْدُبَةٌ تُصْنَعُ لَا بِسَبَبِ
…
وَتُحْفَةٌ تُصْنَعُ لِلْمُغْتَرِبِ
وَبَعْضُهُمْ خَصَّ الْوَلِيمَةَ بِمَا
…
يُصْنَعُ فِي دُخُولِ زَوْجٍ فَاعْلَمَا
أَمَّا الَّذِي يُصْنَعُ لِلإِمْلَاكِ قَدْ
…
سَمَّوْهُ بِالشُّنْدُخِ أَيُّهَا السَّنَدْ
يُدْعَى الْحِذَاقَ عِنْدَ حِذْقِ مَنْ قَرَا
…
أَوْ مُطْلَقٌ لِحِذْقِ صَانِعٍ يُرَى
عَتِيرَةٌ فِي رَجَبٍ وَالْبَعْضُ قَدْ
…
جَعَلَهَا مِنَ الأَضَاحِي تُعْتَمَدْ
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الوليمة:
قال ابن قدامة رحمه الله ما ملخّصه: لا خلاف بين أهل العلم في أن الوليمة سنّةٌ في الْعُرس مشروعة، قال: وليست واجبةً في قول أكثر أهل العلم، وقال
(1)
"الفتح" 11/ 536 - 538.
بعض أصحاب الشافعيّ: هي واجبة. انتهى
(1)
.
وقال البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": [باب الوليمةُ حقّ]، قال ابن بطّال: قوله: "الوليمة حقّ" أي ليست بباطل، بل يُندب إليها، وهي سنّة فضيلة، وليس المراد بالحقّ الوجوب، ثم قال: ولا أعلم أحدًا أوجبها.
قال الحافظ: كذا قال، وغَفَل عن رواية في مذهبه بوجوبها، نقلها القرطبيّ، وقال: إن مشهور المذهب أنها مندوبة، وابن التين عن مذهب أحمد، لكن الذي في "المغني" أنها سنّة، بل وافق ابن بطال في نفي الخلاف بين أهل العلم في ذلك، قال: وقال بعض الشافعيّة: هي واجبة؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بها عبد الرحمن بن عوف، ولأن الإجابة إليها واجبة، فكانت واجبة.
وأجاب بأنه طعام لسرور حادثٍ، فأشبه سائر الأطعمة، والأمر محمول على الاستحباب، بدليل ما ذكرناه، ولكونه أمره بشاة، وهي غير واجبة اتفاقًا، وأما البناء فلا أصل له.
قال الحافظ: والبعض الذي أشار إليه من الشافعيّة هو وجهٌ معروفٌ عندهم، وكذلك حكى الوجوب في "البحر" عن أحد قولي الشافعيّ، وقد جزم به سُليم الرازيّ، وقال: إنه ظاهر نصّ "الأمّ"، ونقله عن النصّ أيضًا أبو إسحاق الشيرازيّ في "المهذّب"، وهو قول أهل الظاهر، كما صرّح به ابن حزم. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن من النظر في الأدلّة أن الأرجح هو مذهب من قال بوجوب الوليمة على القادر عليها؛ لأنها ثبتت عنه صلى الله عليه وسلم قولًا وفعلًا، والقول أمرٌ، وهو للوجوب إلا عند وجود صارف عنه، والقائلون بالاستحباب لم يأتوا بصارف، غير دعوى الإجماع، وقد عرفت أنها دعوى باطلة، فقد قال بالوجوب بعض أهل العلم، وهو نصّ الشافعيّ في "الأمّ"، وقول أهل الظاهر، فلا إجماع، فبقي دليل الوجوب بلا معارض، فوجب القول به، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"المغني" 10/ 192 - 193.
(2)
"الفتح" 11/ 518 - 519.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم إجابة الدعوة:
ذهب جمهور العلماء إلى وجوب الإجابة إليها، وهو المشهور عند الشافعيّة، والحنابلة، وقالوا: إنها فرض عين، ونصّ عليه مالك، وقال به أهل الظاهر، ونقل القاضي عياض الاتفاق عليه، وابن عبد البرّ الإجماع عليه، وذهب بعضهم إلى استحبابها، قاله بعض الشافعيّة، والحنابلة، وقال أبو الحسن من المالكيّة: إنه المذهب، وصرّح صاحب "الهداية" من الحنفيّة بأن الإجابة سنّةٌ، لكنه استدلّ بقوله صلى الله عليه وسلم:"من لم يُجب الدعوة، فقد عصى أبا القاسم"، وشبّهها فيما إذا كان هناك غناء ونحوه بصلاة الجنازة واجبة الإقامة، وإن حضرتها نياحة، وذلك يُفْهِمُ الوجوب.
وقال بعض الشافعيّة، والحنابلة: إجابتها فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط الحرج عن الباقين.
وحكى الشيخ تقيّ الدين في "شرح الإلمام" عن بعضهم أنه خصّ الوجهين في إجابتها فرض عين، أو كفاية بما إذا دُعي الجميع، وقال: لو خصّ كلّ واحد بالدعوة، تعيّنت الإجابة على الكلّ
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه الجمهور، وهو كون الإجابة فرض عين، هو الحقّ؛ لوضوح أدلّته؛ كحديث أبي هريرة رضي الله عنه:"ومن ترك الدعوة، فقد عصى الله ورسوله"، متّفقٌ عليه، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما:"من دُعي إلى وليمة، فلم يأتها، فقد عصى الله ورسوله"، رواه أبو عوانة في "صحيحه". فهذا نصّ صريح في عصيان من لم يجب الدعوة، ولا يُطلق العصيان إلا على ترك الواجب، كما أفاده في "الفتح"
(2)
.
والحاصل أن إجابة الدعوة فرض عين، إلا لمانع، وسيأتي بيانه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في حكم إجابة الدعوة غير العُرْس:
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 70 - 71.
(2)
"الفتح" 11/ 538.
ذهبت طائفة إلى وجوب الإجابة مطلقًا، وذهب الأكثرون إلى أنّ الوجوب يخصّ العرس فقط، وأما غيرها فتستحبّ إجابتها، وإلى المذهب الأول مال الإمام البخاريّ رحمه الله، حيث قال في "صحيحه":
[باب إجابة الداعي في العُرس وغيره]: ثم أخرج بسنده عن نافع، قال: سمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجيبوا هذه الدَّعْوة إذا دُعيتم إليها"، قال: كان عبد الله يأتي الدعوة في العُرْس وغير العرس، وهو صائم. انتهى.
قال في "الفتح": قوله: "كان عبد الله" القائل هو نافع، وقد أخرج مسلمٌ من طريق عبد الله بن نمير، عن عبيد الله بن عمر العمريّ، عن نافع بلفظ:"إذا دُعي أحدكم إلى وليمة عرس، فليجب"، وأخرجه مسلم، وأبو داود من طريق أيوب، عن نافع بلفظ:"إذا دعا أحدكم أخاه، فليجب عُرسًا كان، أو نحوه"، ولمسلم من طريق الزُّبيديّ، عن نافع، بلفظ:"من دُعي إلى عرس، أو نحوه فليُجب"، وهذا يؤيّده ما فهمه ابن عمر أن الأمر بالإجابة لا يختصّ بطعام العرس.
وقد أخذ بظاهر الحديث بعض الشافعيّة، فقال بوجوب الإجابة إلى الدعوة مطلقًا عُرسًا كان، أو غيره بشرطه، ونقله ابن عبد البرّ عن عبيد الله بن الحسن العنبريّ قاضي البصرة، وزعم ابن حزم أنه قولُ جمهور الصحابة والتابعين، ويعكُرُ عليه ما نقلناه عن عثمان بن أبي العاص
(1)
، وهو من مشاهير الصحابة أنه قال في وليمة الختان: لم يكن يُدعى لها، لكن يمكن الانفصال عنه بأنّ ذلك لا يمنع القول بالوجوب لو دَعَوا.
وعند عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عمر أنه دعا بالطعام، فقال رجلٌ من القوم: اعفني، فقال ابن عمر: إنه لا عافية لك من هذا، فقم.
(1)
قال الجامع: أثر عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه هذا لا يصحّ؛ لأن في سنده عنعنة ابن إسحاق، والحسن البصريّ، وكلاهما مشهوران بالتدليس، فلا يعكر على ما قاله ابن حزم رحمه الله، فتنبّه.
وأخرج الشافعيّ، وعبد الرزاق بسند صحيح، عن ابن عبّاس أن ابن صفوان دعاه، فقال: إني مشغول، وإن لم تُعفني جئته.
وجزم بعدم الوجوب في غير وليمة النكاح المالكيّة، والحنفيّة، والحنابلة، وجمهور الشافعية، وبالغ السرخسيّ منهم، فنقل فيه الإجماع، ولفظ الشافعيّ: إتيان دعوة الوليمة حقّ، والوليمة التي تعرف وليمة العرس، وكلّ دعوة دُعي إليها رجلٌ: وليمةٌ، فلا أُرخّص لأحد في تركها، ولو تركها لم يتبيّن لي أنه عاص في تركها كما تبيّن لي في وليمة العرس. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما تقدّم من الأدلّة أن أرجح الأقوال هو القول بوجوب إجابة الدعوة مطلقًا، لقوّة أدلّته، ولم يأت القائلون بالفرق بين العُرس وغيرها بدليل صحيح، صريح، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): في بيان ما ذكره أهل العلم من شروط وجوب إجابة الدعوة:
قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: قال أصحابنا الشافعية: إنما تجب الإجابة، أو تستحبّ بشروط:
[أحدها]: أن يعم عشيرته، وجيرانه، أو أهل حرفته، أغنياءهم وفقراءهم، دون ما إذا خصّ الأغنياء، وحُكِي عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال أبو العباس القرطبيّ: ونحوَه نحا ابنُ حبيب من أصحابنا - يعني المالكيّة - وظاهر كلام أبي هريرة رضي الله عنه وجوب الإجابة.
[ثانيها]: أن يخصه بالدعوة بنفسه، أو بإرسال شخص إليه، فأما إذا قال بنفسه أو بوكيله: ليحضر من أراد، أو قال لشخص: احضر، وأحضر معك من شئت، فقال لغيره: احضر فلا تجب الإجابة، ولا تستحبّ، وكذا اعتبر المالكية والحنابلة في وجوب الإجابة أن يدعو معينًا، قال ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام": ولا يخلو من احتمال، لو قيل بخلافه. انتهى.
وقد يقال: هذا معلوم من قولهم: دُعِي، فإن هذا لم يُدْعَ، وإنما مُكِّنَ من
(1)
"الفتح" 11/ 546 - 547.
الحضور، وذكر الروياني في "البحر" أنه لو قال: إن رأيت أن تجملني لزمته الإجابة.
[ثالثها]: أن لا يكون إحضاره لخوف منه، أو طمع في جاهه، أو لتعاونه على باطل، بل يكون للتقرّب والتودّد.
[رابعها]: أن يكون الداعي له مسلمًا، فلو دعاه ذميّ، فهل هو كالمسلم، أم لا تجب قطعًا، طريقان، أصحهما الثاني، ولا يكون الاستحباب في إجابته كالاستحباب في دعوة المسلم؛ لأنه قد يَرْغَب عن طعامه؛ لنجاسته، وتصرفه الفاسد، وكذا اعتَبَر الحنابلة في وجوب الإجابة أن يكون الداعي مسلمًا، ويدلّ لذلك قوله في رواية:"إذا دعا أحدكم أخاه".
[خامسها]: أن يُدْعَى في اليوم الأول، كذا ادَّعَى النوويّ في "الروضة" القطع به، وليس كذلك، فقد حَكَى ابن يونس في "التعجيز" وجهين في وجوب الإجابة في اليوم الثاني، وقال في "شرحه": أصحهما الوجوب، وبه قطع الجرجانيّ؛ لوصف النبيّ صلى الله عليه وسلم الثاني بأنه معروف، واعتَبَر الحنابلة أيضًا في وجوب الإجابة أن يكون في اليوم الأول، وحجتهم في ذلك حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طعام أول يوم حقٌّ، وطعام يوم الثاني سنةٌ، وطعام الثالث سُمْعةٌ، ومن سَمَّع سَمَّع الله به"، رواه الترمذيّ، وقال: لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث زياد بن عبد الله، وهو كثير الغرائب والمناكير، وسمعت محمد بن إسماعيل يذكر عن محمد بن عقبة، قال: قال وكيع: زياد بن عبد الله مع شرفه لا يكذب في الحديث، ورواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة، بلفظ:"الوليمة أول يوم حقٌّ، والثاني معروف، والثالث رياء وسمعةٌ"، وضعّفه البيهقيّ، وفيه عبد الملك بن حسين، وهو ضعيف جدًّا، ورواه بهذا اللفظ الثاني أبو داود، من رواية الحسن بن عبد الله بن عثمان الثقفيّ، عن رجل أعور من ثقيف، كان يقال له: معروف، أي يثني عليه خيرًا، إن لم يكن اسمه زهير بن عثمان، فلا أدري ما اسمه؟، ورواه الطبرانيّ من حديث زهير من غير شكّ، وقال البخاريّ: لا يصح إسناده، ولا يُعرف لزهير صحبة، وأخرجه النسائيّ من حديث الحسن مرسلًا، لم يذكر عبد الله بن عثمان، ولا زهيرًا، وأخرجه باللفظ الثاني أيضًا ابن عديّ في "الكامل"، والبيهقيّ في
"سننه" من طريقه، من حديث أنس، فقال البيهقيّ: ليس هذا بقويّ، بكر بن خُنيس تكلموا فيه. انتهى.
قال وليّ الدين رحمه الله: وقد عَرَفت بما بسطناه ضعف جميع هذه الطرق، ولذلك قال والدي في "شرح الترمذيّ": إنه لا يصح من جميع طرقه، وقال البخاريّ في "تاريخه الكبير" بعد ما تقدم عنه في حديث زهير: إنه لا يصح إسناده، ولا تُعرف له صحبة، وقال ابن عمر وغيره، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إذا دُعي أحدكم إلى الوليمة فليجب"، ولم يخصّ ثلاثة أيام ولا غيرها، قال: وهذا أصحّ، ثم ذكر حديث حفصة أن سيرين عَرَّس بالمدينة، فأولم، ودعا الناس سبعًا، وكان فيمن دعا أُبَيّ بن كعب، فجاء وهو صائم، فدعا لهم بخير، وانصرف، وأشار لذلك في "صحيحه" بقوله:"باب حقّ إجابة الوليمة والدعوة، ومن أولم سبعة أيام ونحوه، ولم يوقّت النبيّ صلى الله عليه وسلم يومًا، ولا يومين"، وروى البيهقيّ في "سننه" قصة سيرين هذه، قال القاضي عياض: واستحب أصحابنا لأهل السعة كونها أسبوعًا، ثم قال: وذلك إذا دعا في كل يوم من لم يدع قبله، ولم يكرر عليهم، ويوافق ذلك ظاهر عبارة العمرانيّ من الشافعيّة في "البيان" أنه إنما تكره الإجابة إذا كان المدعوّ في اليوم الثالث هو المدعوّ في اليوم الأول، وكذا صوّره الرويانيّ في "البحر" بما إذا كانت الوليمة ثلاثة أيام، فدعاه في الأيام الثلاثة، لكن ظاهر عبارة "التنبيه" أنه لا فرق في الكراهة بين أن يكون هو المدعوّ في اليوم الأول أم لا.
وقال الشيخ الإمام تقيّ الدين السبكيّ: لا تصريح في كلام أصحابنا بذلك، وإنما رأيت للمالكية فيه خلافًا.
قال وليّ الدين: واستبعد شيخنا الشيخ شهاب الدين ابن النقيب ما قدمته عن "البيان"، فإن الفاعل لذلك وصفه النبيّ صلى الله عليه وسلم بالرياء فلا يساعد عليه.
قال الجامع عفا الله عنه: قد عرفت فيما سبق أن الحديث ضعيف، فلا يصلح للتمسّك به، فالحقّ أن الدعوة لا تختصّ باليوم الأول، سواء كان المدعوّ هو الأول، أو غيره، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
[سادسها]: أن لا يَعْتَذِر المدعوّ إلى صاحب الدعوة، فيرضى بتخلفه، فإن وُجد ذلك زال الوجوب، وارتفعت كراهة التخلّف، قال الحافظ العراقيّ رحمه الله:
وهو قياس حقوق العباد، ما لم يكن فيه شائبة حق الله تعالى، كردّ السلام، فإنه لا يسقط وجوب الردّ برضى المسلِّم بتركه، وقد يُظْهِر الرضى، ويورث مع ذلك وحشة. انتهى، فلو غَلَب على ظنه أن الداعي لا يتألم بانقطاعه، ففيه تردّدٌ، حكاه القاضي مُجَلِّي في "الذخائر".
[سابعها]: أن لا يسبق الداعي غيره، فإن دعاه اثنان أجاب الأسبق، فإن جاءا معًا أجاب الأقرب رَحِمًا، ثم دارًا، وعكس الماورديّ، والرويانيّ، فقدّما قُرب الجوار على قرب الرحم، وذكرا بعدهما القرعة، وقال الحنابلة: يُقدَّم أدينهما، ثم أقربهما رحمًا، ثم جِوَارًا، ثم بالقرعة، وإجابة الأول هو امتثال لهذا الحديث، والامتناع من الثاني إذا تزاحما في الوقت؛ لتعذر الجمع بينه وبين الأول، والله أعلم
[ثامنها]: أن لا يكون هناك من يتأذى بحضوره، ولا تليق به مجالسته، فإن كان فهو معذور في التخلف، وكذا اعتَبَر المالكية في الوجوب أن لا يكون هناك أراذل، وأشار الغزاليّ في "الوسيط" إلى حكاية وجه بخلاف هذا، وفي "البحر" للرويانيّ: لو دعا مُحْتَشَمًا مع سفهاء القوم، هل تلزمه الإجابة؟ وجهان، ويوافقه قول الماورديّ: ليس من الشروط إلا يكون عدوًّا للمدعوّ، ولا يكون في الدعوة من هو عدوّ له، وفيما قاله نظرٌ، وأيّ تأذٍّ أشدّ من مجالسة العدوّ؟
[تاسعها]: ألا يكون هناك منكر، كشرب الخمر، والملاهي، فإن كان نَظَر إن كان الشخص المدعوّ ممن إذا حَضَر رُفِع المنكر فليحضر؛ إجابةً للدعوة، وإزالةً للمنكر، وإلا فوجهان: أحدهما الأولى أن لا يحضر، ويجوز أن يحضر، ولا يستمع، وينكر بقلبه، كما لو كان يُضْرَب المنكر في جِوَاره فلا يلزمه التحول، وإن بلغه الصوت، وعلى ذلك جرى العراقيّون، كما قال الرافعيّ، أو بعضهم، كما قال النوويّ، وحكاه البيهقي عن أصحابنا، وهو ظاهر نصّ الشافعيّ رحمه الله في "الأُمّ"، و"المختصر"، وحُكي عن أبي حنيفة: ابتليتُ بهذا مرّةً، وهذا لأن إجابة الدعوة سنة، فلا يَتركها لما اقترنت من البدعة من غيره، قال: وهذا إذا لَمْ يكن مُقْتَدًى، فإن كان، ولم يقدر على منعهم يخرج ولا يقعد؛ لأن في ذلك شين الدين، وفتح باب المعصية على المسلمين، والمحكيّ عن أبي حنيفة كان قبل أن يصير مُقتدًى، ولو كان ذلك
على المائدة لا ينبغي أن يقعد، وإن لم يكن مُقتدًى؛ لقوله تعالى:{فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68]، قال: وهذا كله بعد الحضور، ولو عَلِم قبل الحضور لا يحضر؛ لأنه لم يلزمه حقّ الدعوة، بخلاف ما إذا هُجِم عليه؛ لأنه قد لزمه. انتهى.
والوجه الثاني لأصحابنا: أنه يحرم الحضور؛ لأنه كالرضى بالمنكر، وإقراره، وبه قال المراوزة، وهو الصحيح، وإذا قلنا به: فلم يَعْلَم حتى حضر نهاهم، فإن لم ينتهوا فليخرج، والأصح تحريم القعود، إلا أن لا يمكنه الخروج، بأن كان في الليل وخاف، فيقعد كارهًا، ولا يستمع، وعلى هذا الوجه الثاني جرى الحنابلة، قالوا: فإن عَلِم بالمنكر، ولم يره، ولم يسمعه، فله الجلوس، وكذا اعتبر المالكية في وجوب الإجابة أن لا يكون هناك منكر، وقال ابن عبد البرّ: قال مالك، وابن القاسم: أما اللهو الخفيف مثل الدّفّ، فلا يرجع، وقال أصبغ: أرى أن يرجع، قال: وقد أخبرني ابن وهب عن مالك، أنه لا ينبغي لذي الهيئة أن يحضر موضعًا فيه لَعِبٌ، ثم حَكَى ابنُ عبد البر الفرق بين المقتدى به وغيره عن محمد بن الحسن، والأصل في هذا الباب امتناعه صلى الله عليه وسلم من دخوله بيته لَمَّا رأى فيه نُمْرُقة فيها تصاوير، وهو في "الصحيح" من حديث عائشة رضي الله عنها، وبَوَّب عليه البخاريّ رحمه الله:"بابٌ هل يرجع إذا رأى منكرًا في الدعوة"، قال: ورأى ابن مسعود سورة في البيت فرجع، ودعا ابنُ عمر أبا أيوب، فرأى في البيت سِتْرًا على الجدار، فقال ابن عمر: غَلَبنا عليه النساء، فقال: مَن كنتُ أخشى عليه، فلم أكن أخشى عليك، والله لا أَطْعَم لكم طعامًا فرجع.
[عاشرها]: أن لا يدعوه من أكثر ماله حرام، فمن هو كذلك تكره إجابته، فإن عَلِمَ أن غير الطعام حرام حَرُمت، وإلا فلا، قال المتولي في "التتمة": فإن لم يعلم حال الطعام، وغلب الحلال لم يتأكد الإجابة، أو الحرام، أو الشبهة كُرِهت.
[حادي عشرها]: قال إبراهيم المروزيّ من الشافعيّة: لو دعته أجنبية، وليس هناك مَحْرم له، ولا لها، ولم تَخْلُ به، بل جلست في بيت، وبعثت بالطعام إليه مع خادم إلى بيت آخر من دارها، لم يجبها؛ مخافةَ الفتنة، حكاه
النوويّ في "الروضة"، وأقرّه، وقال السبكيّ: وهو الصواب، إلا أن يكون الحال على خلاف ذلك، كما كان سفيان الثوريّ وأضرابه يزورون رابعة العدوية، ويسمعون كلامها، فإذا وُجدت امرأة مثل رابعة، ورجل مثل سفيان لم يكره لهما ذلك، قال وليّ الدين: أين مثلُ سفيان ورابعة؟ بل الضابط أن يكون الحضور إليها لأمر دينيّ مع أمن الفتنة.
قال: وقال شيخنا الإمام جمال الدين عبد الرحيم الإسنويّ: إن أراد المروزيّ تحريم الإجابة فممنوع، وإن أراد عدم الوجوب فلا حاجة لتقييده بعدم وجود محرم؛ لأن هنا مانعًا آخر من الوجوب، وهو عدم العموم.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قالوه في مسألة دعوة المرأة الأجنبيّة فيه نظر لا يخفى؛ لأن الذي ورد في الشرع النهي عنه هو الخلوة بالأجنبيّة، وأما إذا لم يكن هناك خلوة بها، فأين الدليل المانع من إجابة دعوتها؟، فليُتأمّل حقّ التأمل، والله تعالى أعلم.
[ثاني عشرها]: أن لا يكون المدعوّ قاضيًا، ذكره بعض أصحابنا، وقال مطرّف، وابن الماجشون من المالكية: لا ينبغي للقاضي أن يجيب الدعوة إلا في الوليمة وحدها؛ للحديث؛ وفي "الموازنة": أكره أن يجيب أحدًا، وهو في الدعوة خاصةً أشدّ، وقال سحنون: يجيب الدعوة العامة، ولا يجيب الخاصة، فإن تنزه عن مثل هذا، فهو أحسن، قال الشيخ تقيّ الدين في "شرح الإلمام": والعموم يقتضي ظاهره المساواة بين القاضي وغيره، قال: والذين استثنوا القاضي، فإنما استثنوه لمعارض قام عندهم، وكأنه طلب صيانته عما يقتضي ابتذاله، وسقوط حرمته عند العامة، وفي ذلك عود ضرر على مقصود القضاء من تنفيذ الأحكام؛ لأن الهيئات مُعِينة عليها، ومن لم يعتبر هذا رجع إلى الأمر، وإنّ ترك العمل بمقتضاه مفسدة محققةٌ، وما ذكر من سبب التخصيص قد لا يفضي إلى المفسدة. انتهى.
ويَحْتَمِل أن يكون المعنى في المنع ما فيه من استمالته، وأنه قد يكون في معنى قبوله الهدية، والله أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: استثناء القاضي من عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دُعِي أحدكم إلى الوليمة، فليُجِب" محلّ نظر، فتأمّل.
[ثالث عشرها]: قال الماورديّ: يُشتَرط أن يكون الداعي مكلفًا حُرًّا رشيدًا، وإن أَذِن ولي المحجور لم تجب إجابته أيضًا؛ لأنه مأمور بحفظ ماله، ولو أَذِن سيد العبد فهو حينئذ كالحرّ.
[رابع عشرها]: أن يكون المدعوّ حرًّا، فلو دعا عبدًا لزمه إن أذن سيده، وكذا المكاتب، إن لم يضرّ حضوره بكسبه، فإن ضرّ وأذن سيده فوجهان، والمحجور فيما إذا كان مدعوًّا كالرشيد.
[خامس عشرها]: أن لا يكون معذورًا بمرخص في ترك الجماعة، ذكره الماورديّ، والرويانيّ قالا: ولو اعتَذَر بحرّ، أو برد، فإن منعا غيره من التصرف منع، وإلا فلا.
قال الجامع عفا الله عنه: من الأعذار ما يقع هنا في بلاد الحرمين: مكة، والمدينة، وجدّة، وغيرها من البلدان من كون وقت الوليمة ليلًا بعد صلاة العشاء، بل بعد منتصف الليل، بل ثلثيه، بحيث إنه يفوّت على الإنسان صلاة الليل، والوتر، ولا سيما إذا كان معه نساء، فإنه ربّما تفوته صلاة الجماعة في الصبح، بل ربّما أدى إلى فوات الصبح رأسًا، وهذا من المنكر الذي غفل عنه كثير من الناس، وقد ثبت في "الصحيحين" أنه صلى الله عليه وسلم كان يكره النوم قبلها - أي العشاء - والحديث بعدها، فكيف إذا ضاع معظم الليل بما لا يعني، فلا حول ولا قوّة إلا بالله، فعلى من دُعي في مثل هذا أن لا يُجيب، فليُتفطّن، والله تعالى أعلم.
[سادس عشرها]: قال الشيخ تاج الدين عبد الوهاب ابن السبكيّ في "التوشيح": ينبغي أن يتقيد أيضًا بما إذا دعاه في وقت استحباب الوليمة، دون ما إذا دعاه في غير وقتها، قال: ولم ير في صريح كلام الأصحاب تعيّن وقتها، فاستنبط الوالد من قول البغويّ: ضربُ الدفّ في النكاح جائز في العقد، والزفاف، قبلُ وبعدُ قريبًا منه، أن وقتها موسع من حين العقد، قال: والمنقول عن فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها بعد الدخول.
وبوّب البيهقيّ في "سننه" على وقت الوليمة، وذكر فيه حديث أنس: بَنَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلني، فدعوت رجالًا. . . الحديث.
وقال النوويّ في "شرح مسلم": اختَلَف العلماء في وقت فعلها، فحَكَى
القاضي عياض أن الأصح عند مالك وغيره أنه يستحب فعلها بعد الدخول، وعن جماعة من المالكية استحبابها عند العقد، وعن ابن حبيب استحبابها عند العقد، وبعد الدخول.
قال وليّ الدين: ثم إن أريدَ أنه لا تجب الإجابة فيما إذا عُملت الوليمة قبل العقد فهو واضح، ولكن لا يحتاج إلى ذكره؛ لأنها ليست وليمة عرس، ويبقى النظر فيما لو دُعي قبل العقد؛ ليحضر العقد، ويأكل طعامًا قد هُيِّئ، هل تجب الإجابة أم لا؟ فيه احتمال؛ لكونه لم يُعقد إلى الآن، والظاهر وجوب الإجابة؛ لكون الوليمة إنما تُفعل بعد العقد، وإن كان الإعلام بها سابقًا.
وإن أريدَ أنّا إذا استحببنا أن تكون بعد الدخول، فعُملت قبله لا تجب الإجابة فهو ممنوع؛ لأنها وليمة عرس، وإن عَدَل بها صاحبها عن الأفضل، فهو كمن أولم بغير شاة، مع التمكن منها.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا كلّه عند من قال: إن الواجب إجابة دعوة وليمة العرس فقط، لكن الصحيح كما سيأتي أن إجابة الدعوة واجبة، مطلقًا، عُرسًا كان، أو غيرها، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
[سابع عشرها]: أن يكون المدعوّ مسلمًا، فلو دعا مسلم كافرًا لم تلزمه الإجابة جزمًا، كما صرح به الماورديّ، والرويانيّ، وعللاه بأنه لم يلتزم أحكامنا إلا عن تراض، فلو رضي ذميان بحكمنا أخبرناهما بإيجاب الإجابة، وهل يخبر المدعوّ أم لا؟ فيه قولان، حكاهما الماورديّ، والرويانيّ.
قال وليّ الدين: فهذا ما وقفت عليه في ذلك لأصحابنا المتقدمين والمتأخرين، واعتَبَر مالك رحمه الله في وجوب الإجابة أن لا يكون هناك زحام، ولا إغلاق باب دونه، حكاه عنه ابن الحاجب في "مختصره"، فأما الأول وهو انتفاء الزحام فقد صرح الروياني من أصحابنا بخلافه، وقال: إن الزحام ليس عذرًا، وقد يقال: إنه مختلفٌ؛ لِمَا سبق من اعتبار أن لا يكون هناك من يتأذى به، فإن الزحام مما يتأذى به.
وأما الثاني وهو إغلاق الباب دونه، فإن أريدَ استمرار إغلاقه، فلا يُفتَح له أصلًا، فهذا واضح؛ لأنه لم يتمكن من حضور الوليمة، فلا يمكن القول بوجوبه عليه، وإن أريد إغلاقه حتى يحتاج إلى الإعلام والتوسل فيفتح، فهذا
مُحْتَمِلٌ، ولا يبعد على قواعدنا القول به؛ لما في الوقوف على الأبواب من الذلّ الذي يصعب على الإنسان، ويشق عليه احتماله، والله أعلم.
واعتَبَر الحنابلة في وجوب الإجابة أن لا يكون الداعي ممن يجوز هجره، والقول به عندنا قريب؛ لأن التودد بحضور الوليمة أشدّ، وأبلغ من السلام والكلام، فإذا لَمْ يُحَيَّ فحضور الوليمة أولى، فهذه عشرون شرطًا. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ، وقد سبق مناقشة بعض ما ذكره، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب.
(المسألة الثامنة): في اختلاف أهل العلم في وقت الوليمة، هل هو عند العقد، أو عقبه، أو عند الدخول، أو عقبه، أو موسّعٌ من ابتداء العقد إلى انتهاء الدخول؟ على أقوال:
قال النوويّ رحمه الله: اختلفوا، فحكى عياضٌ أن الأصحّ عند المالكيّة استحبابه بعد الدخول، وعن جماعة منهم أنه عند العقد، وعند ابن حبيب عند العقد، وبعد الدخول، وقال في موضع آخر: يجوز قبل الدخول وبعده، وذكر ابن السبكيّ أن أباه قال: لم أر في كلام الأصحاب تعيين وقتها، وأنه استنبط من قول البغويّ: ضرب الدفّ في النكاح جائزٌ في العقد، والزفاف، قبلُ وبعدُ قريبًا منه، أن وقتها موسّعٌ من حين العقد، قال: والمنقول من فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها بعد الدخول، كأنه يشير إلى قصّة زينب بنت جحش رضي الله عنها، وقد ترجم عليه البيهقيّ في وقت الوليمة. انتهى.
قال الحافظ: وما نفاه من تصريح الأصحاب متعقّبُّ بأن الماورديّ صرّح بأنها عند الدخول، وحديث أنس رضي الله عنه في هذا الباب صريح في أنها بعد الدخول؛ لقوله فيه:"أصبح عروسًا بزينب، فدعا القوم".
واستحبّ بعض المالكيّة أن تكون عند البناء، ويقع الدخول عقبها، وعليه عمل الناس اليوم، ويؤيّد كونها للدخول، لا للإملاك أن الصحابة بعد الوليمة تردّدوا، هل هي زوجةٌ، أو سُرّيّةٌ؟ فلو كانت الوليمة عند الإملاك لعرفوا أنها
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 71 - 77.
زوجة؛ لأن السّرّيّة لا وليمة لها، فدلّ على أنها عند الدخول، أو بعده. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن كونها بعد الدخول هو الأرجح؛ لحديث أنسٌ رضي الله عنه المتقدّم في قصّة زينب رضي الله عنها المذكور في الباب الماضي، فإنه صريحٌ في ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة التاسعة): في اختلاف أهل العلم في تحديد أيام الوليمة:
قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب حقّ إجابةِ الوليمة والدعوة، ومن أولم سبعة أيام، ونحوه، ولم يوقّت النبيّ صلى الله عليه وسلم يومًا، ولا يومين".
قال في "الفتح": أي لم يجعل للوليمة وقتًا معيّنًا يختصّ به الإيجاب، أو الاستحباب، وأخذ ذلك من الإطلاق، وقد أفصح بمراده في "تاريخه"، فإنه أورد في ترجمة زُهير بن عثمان الحديث الذي أخرجه أبو داود، والنسائيّ من طريق قتادة، عن عبد الله بن عثمان الثقفيّ، عن رجل من ثقيف، كان يُثني عليه، إن لم يكن اسمه زهير بن عثمان، فلا أدري ما اسمه؟ يقوله قتادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الوليمة أول يوم حقّ، والثاني معروفٌ، والثالث رياء وسمعة"، قال البخاريّ: لا يصحّ إسناده، ولا يصحّ له صحبةٌ - يعني لزهير - قال: وقال ابن عمر وغيره، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إذا دُعي أحدكم إلى الوليمة فليُجب"، ولم يخصّ ثلاثة أيام، ولا غيرها، وهذا أصحّ، قال: وقال ابن سيرين، عن أبيه:"أنه لما بنى بأهله أولم سبعة أيام، فدعا في ذلك أُبيّ بن كعب، فأجابه". انتهى.
وقد خالف يونس بن عُبيد قتادة في إسناده، فرواه عن الحسن، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، مرسلًا، أو معضلًا، لم يذكر عبد الله بن عثمان، ولا زهيرًا، أخرجه النسائيّ، ورجّحه على الموصول، وأشار أبو حاتم إلى ترجيحه، ثم أخرج النسائيّ عقبه حديث أنس:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام على صفيّة ثلاثة أيام حتى أعرس بها"، فأشار إلى تضعيفه، أو إلى تخصيصه، وأصرح من ذلك ما
(1)
"الفتح" 10/ 308.
أخرجه أبو يعلى بسند حسن عن أنس رضي الله عنه، قال:"تزوّج النبيّ صلى الله عليه وسلم صفيّة، وجعل عتقها صداقها، وجعل الوليمة ثلاثة أيام. . ." الحديث.
قال الحافظ: وقد وجدنا لحديث زهير بن عثمان شواهد، منها: عن أبي هريرة رضي الله عنه مثله، أخرجه ابن ماجه، وفيه عبد الملك بن حسين، وهو ضعيف جدًّا، وله طريق أخرى عن أبي هريرة، وعن أنس مثله، أخرجه ابن عديّ، والبيهقيّ، وفيه بكر بن خنيس، وهو ضعيفٌ، وله طريق أخرى ذكر ابن أبي حاتم أنه سأل أباه عن حديث رواه مروان بن معاوية، عن عوف، عن الحسن، عن أنس نحوه؟ فقال: إنما هو عن الحسن، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسل، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أخرجه الترمذيّ بلفظ:"طعام أول يوم حقّ، وطعام يوم الثاني سنةٌ، وطعام يوم الثالث سمعة، ومن سمّع سمّع الله به"، وقال: لا نعرفه إلا من حديث زياد بن عبد الله البكائيّ، وهو كثير الغرائب، والمناكير، قال الحافظ: وشيخه فيه عطاء بن السائب، وسماع زياد منه بعد اختلاطه، فهذه علّته.
وعن ابن عباس رفعه: "طعام في العرس يوم سنّة، وطعام يومين فضلٌ، وطعام ثلاثة أيام رياء وسمعة"، أخرجه الطبرانيّ بسند ضعيف.
وهذه الأحاديث، وإن كان كلّ منها لا يخلو عن مقال، فمجموعها يدلّ على أن للحديث أصلًا.
وقد وقع في رواية أبي داود، والدارميّ في آخر حديث زهير بن عثمان:"قال قتادة: بلغني عن سعيد بن المسيّب أنه دُعي أول يوم وأجاب، ودعي ثاني يوم فأجاب، ودُعي ثالث يوم فلم يُجب، وقال: أهل رياء وسمعة"، فكأنه بلغه الحديث، فعمل بظاهره، إن ثبت ذلك عنه.
وقد عمل به الشافعيّة، والحنابلة، قال النوويّ: إذا أولم ثلاثًا، فالإجابة في اليوم الثالث مكروهة، وفي الثاني لا تجب قطعًا، ولا يكون استحبابها فيه كاستحبابها في اليوم الأول. وقد حكى صاحب "التعجيز" في وجوبها في اليوم الثاني وجهين، وقال في "شرحه": أصحّهما الوجوب، وبه قطع الجرجانيّ؛ لوصفه بأنه معروفٌ، أو سنةٌ، واعتبر الحنابلة الوجوب في اليوم الأول، وأما الثاني فقالوا: سنةٌ؛ تمسّكًا بظاهر لفظ حديث ابن مسعود، وفيه بحث.
وأما الكراهة في اليوم الثالث، فأطلقه بعضهم؛ لظاهر الخبر، وقال العمرانيّ: إنما تكره إذا كان المدعوّ في الثالث هو المدعوّ في الأول، وكذا صوَّره الرويانيّ، واستبعده بعض المتأخرين، وليس ببعيد؛ لأن إطلاق كونه رياء وسمعة يُشعر بأن ذلك صنع للمباهاة، وإذا كثر الناس، فدعا في كل يوم فرقةً لم يكن في ذلك مباهاةٌ غالبًا.
وإلى ما جنح إليه البخاريّ ذهب المالكيّة، قال عياضٌ: استحبّ أصحابنا لأهل السعة كونها أسبوعًا، قال: وقال بعضهم: محلّه إذا دعا في كلّ يوم من لم يدع قبله، ولم يُكرّر عليهم، وهذا شبيهٌ بما تقدّم عن الروياني، وإذا حملنا الأمر في كراهة الثالث على ما إذا كان هناك رياء وسمعةٌ، ومباهاةٌ كان الرابع، وما بعده كذلك، فيمكن حمل ما وقع من السلف من الزيادة على اليومين عند الأمن من ذلك، وإنما أطلق ذلك على الثالث لكونه الغالب، والله أعلم.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه المالكيّة، وهو الذي مال إليه البخاريّ، من جواز كون الوليمة أسبوعًا لمن تيسّر له هو الأرجح؛ إن خلا عن الرياء والسمعة؛ لإطلاق النصوص؛ وأما الأحاديث التي احتج القائلون بالكراهة فيما بعد اليوم الثاني، فقد علمت كونها كلها ضعافًا، لا ينبغي أن تُذكر لمعارضة إطلاق الأحاديث الصحاح بها، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة العاشرة): في اختلاف أهل العلم في وجوب إجابة دعوة الوليمة غير العُرْس:
قال وليّ الدين رحمه الله: استُدِلّ بالحديث على وجوب الإجابة في وليمة غير العرس؛ تمسكًا بلفظ الوليمة، ويؤيد ذلك قوله في بعض الروايات:"إذا دعا أحدكم أخاه فليجب، عُرْسًا كان أو نحوه"، وقوله في رواية أخرى:"من دُعِي إلى عُرس أو نحوه، فليجب"، وكان عبد الله بن عمر راوي الحديث يأتي الدعوة في العُرس، وغير الْعُرس، وهو صائم، وهو في "الصحيحين".
قال: وبهذا قال بعض أصحابنا الشافعية، وحكاه ابن عبد البر عن عبيد الله بن الحسن العنبريّ القاضي، وأشار إليه البخاريّ بتبويبه على رواية موسى بن عقبة:"باب إجابة الداعي في العرس وغيرها"، وإليه ذهب أهل الظاهر، وادَّعَى ابن حزم أنه قول جمهور الصحابة والتابعين، وفي ذلك نظرٌ.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال وليّ الدين معارضًا لقول ابن حزم، ولم يأت بدليل ينفي كونه قول جمهورهم، فمن أين له النظر؟، فتبصّر.
قال: وذهب المالكية، والحنابلة، والحنفية إلى الجزم بعدم الوجوب في بقية الولائم، وهو المشهور عند الشافعية، وحكى السرخسيّ وغيره إجماع المسلمين عليه.
قال الجامع عفا الله عنه: بُطلان هذا الإجماع المدّعى ظاهر مما سبق، فإن المسألة لا زال الخلاف فيها قائمًا، فتبصّر.
قال: ويدل له التقييد في بعض الروايات بقوله: "وليمة عرس"، وقد تقدم ذكرها، فيُحْمَل المطلق على المقيد.
وصرّح الحنابلة بأن إجابة وليمة غير العرس مباحة، لا تستحب، ولا تكره.
وقال الشافعيّ رحمه الله: إتيان دعوة الوليمة حقّ، والوليمة التي تُعرف وليمة العرس، وكل دعوة دُعي إليها رجل، فاسم الوليمة يقع عليها، فلا أرخّص لأحد في تركها، ولو تركها لم يَبِنْ لي أنه عاص في تركها، كما تبيّن لي في وليمة العرس، ثم ساق الكلام إلى أن قال: إني لا أعلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ترك الوليمة على عرس، ولم أعلمه أولم على غيره، رواه عنه البيهقيّ في "المعرفة".
وقال الطحاويّ: لم نجد عند أصحابنا عن أبي حنيفة وأصحابه في ذلك شيئًا إلا في إجابة دعوة وليمة العرس خاصّةً، وذكر الخطابي أن المعنى في اختصاص وليمة النكاح بالإجابة ما فيه من إعلان النكاح، والإشادة به. انتهى
كلام وليّ الدين رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: يتبيّن من أحاديث الباب وغيرها أن الحقّ قول من قال بوجوب الإجابة مطلقًا، عُرسًا كان، أو غيرها؛ فقد صرّح صلى الله عليه وسلم بقوله:"إذا دعا أحدكم أخاه، فليُجب، عرسًا كان، أو نحوه"، وفي لفظ:"من دُعي إلى عُرس، أو نحوه، فليُجِب"، فماذا بعد هذا التصريح؟ فتأمّل بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قال وليّ الدين رحمه الله: إذا عدّينا الإيجاب، أو الاستحباب إلى سائر الولائم، فقال الشيخ تقيّ الدين في "شرح الإلمام": إن الأحاديث عامّة بالنسبة إلى أهل الفضل وغيرهم، والمنقول عن مالك: أنه كره لأهل الفضل أن يجيبوا كل من دعاهم، قال القاضي عياض: وتأوله بعض أصحابنا على غير الوليمة، قال: وتأوله بعضهم على غير أسباب السرور المتقدمة مما يُصنع تفضلًا، وقال ابن حبيب: قال مطرِّف، وابن الماجشون: وكلُّ ما لزم القاضي من النزاهات في جميع الأشياء، فهو به أجمل وأولى، وإنا لنحبّ هذا لذي المروءة والهدى أن لا يجيب إلا في الوليمة، إلا أن يكون لأخ في الله، أو خاصة أهله، أو ذوي قرابته، فلا بأس بذلك.
قال الشيخ تقيّ الدين: وهذا تخصيص آخر، ومقتضاه أضعف من الأول، يعني استثناء القاضي، قال: وظاهر الحديث يقتضي الإجابة، والمروءةُ والفضلُ والهدى في اتباع ما دلّ عليه الشرع، ثم قال: نعم إذا تحققت مفسدة راجحة، فقد يُجعل ذلك مخصصًا. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: لقد أجاد الشيخ تقيّ الدين ابن دقيق العيد رحمه الله في تعقّبه على ما قاله المالكيّة من تخصيص أهل الفضل بعدم الإجابة؛ لأن ذلك معارض للنصوص الصحيحة الكثيرة التي أمرت عموم المسلمين، أهل الفضل والمروءة، وغيرهم بإجابة الدعوة، بل أهل الفضل هم أحقّ الناس باتّباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم سيّد أهل الفضل والمروءة، وقد أمر بذلك، وفعله بنفسه، فلا كلام معه صلى الله عليه وسلم؛ قال الله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 77 - 78.
عَنْهُ فَانْتَهُوا} الآية [الحشر: 7]، وقال صلى الله عليه وسلم:"لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به"
(1)
، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3510]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْوَلِيمَةِ فَلْيُجِبْ"، قَالَ خَالِدٌ: فَإِذَا عُبَيْدُ اللهِ يُنَزِّلُهُ عَلَى الْعُرْسِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل بابين.
2 -
(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) الْهُجيميّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر الْعُمريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (قَالَ خَالِدٌ) أي ابن الحارث (فَإِذَا عُبَيْدُ اللهِ يُنَزِّلُهُ عَلَى الْعُرْسِ) يعني أن عبيد الله بن عمر كان يتأول الأمر بإجابة الدعوة على دعوة وليمة العرس فقط، وهذا رأيه، وسيأتي بعدُ أنه صلى الله عليه وسلم قال:"إذا دَعَى أحدكم أخاه، فليُجب، عُرسًا كان، أو نحوه"، وقوله:"من دُعي إلى عُرس أو نحوه، فليُجب"، وما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم لا يعارض بالرأي، ولقد أحسن من قال، وأجاد في المقال [من الوافر]:
إِذَا جَالَتْ خُيُولُ النَّصِّ يَوْمًا
…
تُجَارِي فِي مَيَادِينِ الْكِفَاحِ
غَدَتْ شُبَهُ الْقِيَاسِيِّينَ صَرْعَى
…
تَطِيرُ رُؤُوسُهُنَّ مَعَ الرِّيَاحِ
[تنبيه]: "الْعُرْسُ" - بضم العين المهملة، وبإسكان الراء، وضمها، لغتان مشهورتان، وهي مؤنثة، وفيها لغة بالتذكير، قال في "المحكم": وهي مِهْنَةُ
(1)
حديث حسّنه بعضهم، وتكلّم فيه بعضهم، لكن يشهد له الحديث المتّفق عليه:"لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده، وولده، والناس أجمعين"، فتنبّه.
البناء، والإملاك، وقيل: طعامه خاصّةً. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، إلا كلام خالد، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3511]
(. . .) - (حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى وَلِيمَةِ عُرْسٍ فَلْيُجِبْ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (إِلَى وَليمَةِ عُرْسٍ) قال النوويّ رحمه الله: قد يَحتجّ به من يخص وجوب الإجابة بوليمة العُرْس، ويتعلق الآخرون بالروايات المطلقة، وبقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية التي بعد هذه:"إذا دَعَى أحدكم أخاه فليجب، عُرْسًا كان أو نحوه"، ويحملون هذا على الغالب، أو نحوه من التأويل. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا التأويل متعيّن، لا بُدّ منه، ومما يُعيّنه قوله في الحديث الآخر:"عُرْسًا كان، أو نحوه"، فتبصّر.
والحديث بهذا اللفظ من أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3512]
(. . .) - (حَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ، وَأَبُو كَامِلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ (ع) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ائْتُوا الدَّعْوَةَ إِذَا دُعِيتُمْ").
(1)
"طرح التثريب" 7/ 77.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 234.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلّهم تقدّموا في الباب، والباب الماضي، إلا "أيّوب"، وهو السَّخْتيانيّ، فتقدّم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 305، و"أبو الربيع" هو: سليمان بن داود الزهرانيّ الْعَتَكيّ، و"أبو كامل" هو: فُضيل بن حسين الْجَحْدريّ، و"حمّادٌ" هو: ابن زيد.
والحديث بهذا اللفظ من أفراد المصنّف أيضًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3513]
(. . .) - (وَحدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، فَلْيُجِبْ، عُرْسًا كَانَ أَوْ نَحْوَهُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
وكلّهم تقدّموا في الباب، والباب الماضي.
والحديث بهذا اللفظ من أفراد المصنّف أيضًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3514]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، حَدَّثَنَا الزُّبَيْدِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ دُعِيَ إِلَى عُرْسٍ
(1)
، أَوْ نَحْوِهِ فَلْيُجِبْ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورِ) بن بَهْرَام الْكَوْسج، أبو يعقوب المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
(1)
وفي نسخة: "إلى وليمة عُرس".
2 -
(عِيسَى بْنُ الْمُنْذِرِ) السّلميّ، أبو موسى الْحِمْصيّ، مقبول [10] من أفراد المصنّف، له عنده حديثان فقط، هذا برقم [3514]، وتقدّم له حديث آخر في أواخر "كتاب الحجّ" برقم [91/ 3377].
3 -
(بَقِيَّةُ) بن الوليد بن صائد بن كعب الكلاعيّ، أبو يُحْمِد الحمصيّ، صدوقٌ كثير التدليس عن الضعفاء [8](ت 197) وله (87) سنةً (خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 49.
4 -
(الزُّبَيْدِيُّ) محمد بن الوليد بن عامر، أبو الْهُذيل الْحِمصيّ القاضي، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار أصحاب الزهريّ [7](ت 6 أو 7 أو 148)(خ م د س ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 10/ 1174.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (إِلَى عُرْسٍ) وفي بعض النسخ: "إلى وليمة عُرْسٍ".
والحديث بهذا اللفظ من أفراد المصنّف أيضًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3515]
(. . .) - (حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ائْتُوا الدَّعْوَةَ إِذَا دُعِيتُمْ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَاهِلِيُّ) الساميّ البصريّ، صدوقٌ [10](ت 244)(ع) تقدم في "الجمعة" 6/ 1972.
2 -
(بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ) بن لاحق الرّقَاشيّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.
3 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ) الأمويّ، تقدّم قريبًا.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: ("ائْتُوا الدَّعْوَةَ إِذَا دُعِيتُمْ") قال وليّ الدين رحمه الله: "الدَّعْوَة" هنا
بفتح الدال، وأما دِعْوة النسب، فبكسرها، هذا قول جمهور العرب، قال النوويّ في "شرح مسلم": وعكسه تيم الرِّباب، بكسر الراء، فقالوا: الطعام بالكسر، والنسب بالفتح، وتعقّبه وليّ الدين، فقال: إنما حَكَى ذلك صاحبا "الصحاح"، و"المحكم" عن عديّ الرِّباب، لا عن تيم الرِّباب، وذكر قطرب في "مثلثه" أن دعوة الطعام بضم الدال، قال النوويّ: وغلّطوه فيه. انتهى
(1)
.
والحديث من أفراد المصنّف أيضًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3516]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَن ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَجِيبُوا هَذهِ الدَّعْوَةَ إِذَا دُعِيتُمْ لَهَا"، قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ يَأْتِي الدَّعْوَةَ فِي الْعُرْسِ، وَغَيْرِ الْعُرْسِ، وَيَأْتِيهَا وَهُوَ صَائِمٌ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) الحمّال، تقدّم قبل بابين.
2 -
(حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ) الأعور المصِّيصيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عيّاش الأسديّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ إمام في المغازي [5](ت 141) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (قال: كان عبد الله) أي ابن عمر رضي الله عنهما، والقائل هو نافع.
قال الحافظ رحمه الله: ويؤيّد ما فهمه ابن عمر رضي الله عنهما من الحديث أنه يشمل العرس وغيره: ما أخرجه مسلم من طريق عبد الله بن نُمير، عن عبيد الله بن عُمر العُمَريّ، عن نافع، بلفظ:"إذا دُعي أحدكم إلى وليمة عُرس فليجب"،
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 77.
وأخرجه مسلم، وأبو داود من طريق أيوب، عن نافع، بلفظ:"إذا دعا أحدكم أخاه فليجب، عُرْسًا كان أو نحوه"، ولمسلم من طريق الزُّبَيديّ، عن نافع، بلفظ:"من دُعي إلى عُرس، أو نحوه، فليجب".
قال: وقد أخذ بظاهر الحديث بعض الشافعية، فقال: بوجوب الإجابة إلى الدعوة مطلقًا، عُرسًا كان أو غيره بشرطه، ونقله ابن عبد البرّ عن عبيد الله بن الحسن العنبريّ، قاضي البصرة، وزعم ابن حزم أنه قول جمهور الصحابة والتابعين، ويَعْكُر عليه ما نقلناه عن عثمان بن أبي العاص، وهو من مشاهير الصحابة أنه قال في وليمة الختان:"لم يكن يدعى لها"، لكن يمكن الانفصال عنه بأن ذلك لا يمنع القول بالوجوب لو دَعَوْا. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يعكُر على قول ابن حزم ما ذكره عن عثمان بن أبي العاص؛ لأن ابن حزم لم ينف ثبوته عن الصحابة، وإنما قال: قول جمهورهم، فكيف يُعترض عليه؟ وقد سبق تمام البحث في هذا قريبًا، فتبصّر.
وقوله: (وَيَأْتِيهَا وَهُوَ صَائِمٌ) ولأبي عوانة من وجه آخر عن نافع: "وكان ابن عمر يجيب صائمًا ومُفطِرًا"، ووقع عند أبي داود، من طريق أبي أسامة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، في آخر الحديث المرفوع:"فإن كان مفطرًا، فليَطعم، وإن كان صائمًا فليَدْع"، ويأتي للمصنّف من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"فإن كان صائمًا فليصلّ"، ووقع في رواية هشام بن حسّان في آخره:"والصلاة الدعاء"، قال الحافظ رحمه الله: وهو من تفسير هشام راويه، ويؤيده الرواية الأخرى.
قال: وحمله بعض الشراح على ظاهره، فقال: إن كان صائمًا فليشتغل بالصلاة؛ ليحصل له فضلها، ويَحصُل لأهل المنزل والحاضرين بركتها.
وفيه نظر؛ لعموم قوله: "لا صلاة بحضرة طعام"، لكن يمكن تخصيصه بغير الصائم، قال: وفي حديث أُبَيّ بن كعب: "لَمّا حضر الوليمة، وهو صائم أثنى ودعا"، وعند أبي عوانة من طريق عمر بن محمد، عن نافع:"كان ابن عمر إذا دُعي أجاب، فإن كان مفطرًا أكل، وإن كان صائمًا دعا لهم، وبَرَّك، ثم انصرف".
قال: وفي الحضور فوائد أخرى، كالتبرك بالمدعوّ
(1)
، والتجمّل به، والانتفاع بإشارته، والصيانة عما لا يحصل له الصيانة لو لم يحضر، وفي الإخلال بالإجابة تفويت ذلك، ولا يخفى ما يقع للداعي من ذلك من التشويش.
قال: وعُرِف من قوله: "فليدع لهم" حصول المقصود من الإجابة بذلك، وأن المدعوّ لا يجب عليه الأكل، وهل يستحب له أن يفطر، إن كان صومه تطوعًا؟ قال أكثر الشافعية، وبعض الحنابلة: إن كان يشقّ على صاحب الدعوة صومه، فالأفضل الفطر، وإلا فالصوم، وأطلق الروياني، وابن الفراء استحباب الفطر، وهذا على رأي من يجوِّز الخروج من صوم النفل، وأما من يوجبه فلا يجوز عنده الفطر، كما في صوم الفرض، ويبعد إطلاق استحباب الفطر مع وجود الخلاف، ولا سيما إن كان وقت الإفطار قد قَرُب.
ويؤخذ من فعل ابن عمر أن الصوم ليس عذرًا في ترك الإجابة، ولا سيما مع ورود الأمر للصائم بالحضور، والدعاء، نعم لو اعتذر به المدعوّ، فقَبِل الداعي عذره؛ لكونه يشقّ عليه أن لا يأكل إذا حضر، أو لغير ذلك، كان ذلك عذرًا له في التأخر.
وفي حديث جابر رضي الله عنه الآتي: "إذا دُعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن شاء طَعِم، وإن شاء ترك"، فيؤخذ منه أن المفطر ولو حضر لا يجب عليه الأكل، وهو أصح الوجهين عند الشافعية.
وقال ابن الحاجب في "مختصره": ووجوب أكل المفطر مُحْتَمِلٌ، وصرح الحنابلة بعدم الوجوب، واختار النوويّ الوجوب، وبه قال أهل الظاهر، والحجة لهم قوله في إحدى روايات ابن عمر عند مسلم:"فإن كان مفطرًا فليَطعم"، قال النوويّ: وتُحْمَل رواية جابر على من كان صائمًا، ويؤيده رواية ابن ماجه فيه بلفظ:"من دُعي إلى طعام، وهو صائم فليجب، فإن شاء طَعِم، وإن شاء ترك"، ويتعيّن حمله على من كان صائمًا نفلًا، ويكون فيه حجة لمن استحب له أن يخرج من صيامه لذلك، ويؤيده ما
(1)
أي بدعائه، وذكره لله تعالى.
أخرجه الطيالسيّ، والطبرانيّ في "الأوسط" عن أبي سعيد، قال: دعا رجل إلى طعام، فقال رجل: إني صائم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"دعاكم أخوكم، وتكلّف لكم، أفطر، وصم يومًا مكانه، إن شئت"
(1)
، في إسناده راو ضعيف، لكنه توبع، والله أعلم.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
أخرجه البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى" 4/ 279 فقال:
(8146)
- أخبرنا أبو نصر عمر بن عبد العزيز بن قتادة الأنصاريّ، أنبأ أبو حاتم بن أبي الفضل الهرويّ، ثنا محمد بن عبد الرحمن الساميّ، أنبأ إسماعيل بن أبي أويس، ثنا أبو أويس، عن محمد بن المنكدر، عن أبي سعيد الخدريّ، أنه قال: صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعامًا، فأتاني هو وأصحابه، فلما وُضع الطعام قال رجل من القوم: إني صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"دعاكم أخوكم، وتكلّف لكم - ثم قال له -: أفطر، وصم مكانه يومًا، إن شئت"، قال البيهقيّ، وروي ذلك بإسناد آخر عن أبي سعيد الخدريّ قد أخرجناه في "الخلافيات". انتهى.
وأخرجه الطبرانيّ في "المعجم الأوسط" 3/ 306 فقال:
(3240)
- حدّثنا بكر، قال: نا عبد الله بن يوسف، قال: نا عطّاف بن خالد المخزوميّ، قال: نا حماد بن أبي حُميد، قال: حدّثني محمد بن المنكدر، عن أبي سعيد الخدريّ، أنه صنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه طعامًا، فدعاهم، فلما دخلوا وَضَع الطعامَ، فقال رجل من القوم: إني صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"دعاكم أخوكم، وتكلّف لكم، ثم تقول: إني صائم، أَفْطِر، ثم صُمْ يومًا مكانه، إن شئت"، لا يروى عن أبي سعيد إلا بهذا الإسناد، تفرد به حماد، وهو محمد بن أبي حميد، أهل المدينة يقولون: حماد بن أبي حميد.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "لا يروى إلا بهذا الإسناد، تفرّد به حمّاد"، فيه نظر لا يخفى؛ لأنه تابعه أبو أويس، كما سبق في رواية البيهقيّ، فتبصّر.
وقال الحافظ الهيثميّ رحمه الله في "مجمع الزوائد" 4/ 53: رواه الطبرانيّ في "الأوسط"، وفيه حماد بن أبي حميد، وهو ضعيف، وبقية رجاله ثقات. انتهى.
قال الجامع: قد عرفت أنه تابعه أبو أويس، فيكون الحديث حسنًا، كما أشار إليه في "الفتح"، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3517]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا دُعِيتُمْ
(1)
إِلَى كُرَاعٍ فَأَجِيبُوا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) بن عبد الله التُّجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 144)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب المدنيّ، نزيل عَسْقلان، ثقةٌ [6] توفي ما قبل (150)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 31/ 233.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (إِذَا دُعِيتُمْ) وفي نسخة: "إن دُعيتم".
وقوله: (إِلَى كُرَاعٍ فَأَجِيبُوا) قال الفيّوميّ رحمه الله: "الْكُرَاع"، وزانُ غُراب، من الغنم، والبقر بمنزلة الوَظِيف من الفرس، وهو مُسْتَدَقّ الساعد، والكُراع: أنثى، والجمع أَكْرُعٌ، مثل أَفْلُسٍ، ثم تجمع الأكرع على أكارع، قال الأزهريّ: الأكارع للدابة: قوائمها، ويقال للسَّفِلَة من الناس: أكارعٌ؛ تشبيهًا بأكارع الدوابّ؛ لأنها أسافل، وأكارع الأرض: أطرافها، والواحد أيضًا كُرَاعٌ، ومنه كُرَاع الْغَمِيم: أي طَرَفه، والكراع: الأنف السائل من الْحَرَّة، وقال ابن فارس: الكراع من الدوابّ ما دون الكعب، ومن الإنسان ما دون الركبة، وقيل لجماعة الخيل خاصّةً: كُرَاعٌ. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: المراد به عند جماهير العلماء كُراع الشاة، وغَلَّطوا مَن حَمَله على كُراع الغميم، وهو موضع بين مكة والمدينة على مراحل من
(1)
وفي نسخة: "إن دُعيتم".
(2)
"المصباح المنير" 2/ 531.
المدينة. انتهى
(1)
.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "كتاب النكاح" من "صحيحه": "باب من أجاب إلى كُراع":
(5178)
- حدّثنا عبدانُ، عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لو دُعيتُ إلى كُراع لأجبت، ولو أُهدي إليّ كُراعٌ لقَبِلتُ".
قال في "الفتح": الْكُراع: بضم الكاف، وتخفيف الراء، وآخره عين مهملة: هو مُسْتَدَقّ الساق من الرِّجْل، ومن حَدّ الرسغ من اليد، وهو من البقر والغنم بمنزلة الوظيف من الفرس والبعير، وقيل: الكراع ما دون الكعب من الدواب، وقال ابن فارس: كراع كل شيء طرفه.
قال: وتقدّم في "الهبة" من طريق شعبة، عن الأعمش، بلفظ:"ذِراع، أو كراع" بالتخيير، والذراع أفضل من الكراع، وفي المثل: أنفق العبد كُراعًا، وطَلَب ذراعًا، وقد زعم بعض الشراح، وكذا وقع للغزاليّ أن المراد بالكراع في هذا الحديث المكان المعروف بكراع الغميم - بفتح المعجمة - وهو موضع بين مكة والمدينة، وزعم أنه أَطلق ذلك على سبيل المبالغة في الإجابة، ولو بَعُد المكان، لكن المبالغة في الإجابة مع حقارة الشيء أوضح في المراد، ولهذا ذهب الجمهور إلى أن المراد بالكراع هنا كراع الشاة.
قال: وأغرب الغزالي في "الإحياء" فذكر الحديث بلفظ: "ولو دُعيت إلى كراع الغميم"، ولا أصل لهذه الزيادة.
وقد أخرج الترمذيّ من حديث أنس رضي الله عنه، وصححه مرفوعًا:"لو أُهدي إليّ كراع لقبلت، ولو دعيت لمثله لأجبت".
وأخرج الطبراني من حديث أم حكيم بنت واح، أنها قالت: يا رسول الله أتكره الهدية؟ فقال: "ما أقبح ردّ الهدية؟. . ." فذكر الحديث، ويستفاد سببه من هذه الرواية.
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 235.
وفي الحديث دليل على حسن خلقه صلى الله عليه وسلم، وتواضعه، وجبره لقلوب الناس، وعلى قبول الهدية، وإجابة من يدعو الرجلَ إلى منزله، ولو عَلِم أن الذي يدعوه إليه شيء قليل.
قال المهلَّب: لا يبعث على الدعوة إلى الطعام إلا صدق المحبة، وسرور الداعي بأكل المدعوّ من طعامه، والتحبب إليه بالمؤاكلة، وتوكيد الذمام معه بها، فلذلك حَضّ صلى الله عليه وسلم على الإجابة، ولو نَزَر المدعوّ إليه، وفيه الحض على المواصلة، والتحابّ والتآلف، وإجابة الدعوة لِمَا قَلّ، أو كثر، وقبول الهدية كذلك. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3518]
(1430) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ، فَإنْ شَاءَ طَعِمَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ"، وَلَمْ يَذْكُر ابْنُ الْمُثَنَّى إِلَى "طَعَامٍ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) بن حسّان الْعَنْبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ، عارف بالرجال والحديث [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.
2 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم قبل باب.
3 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس، تقدّم قريبًا.
4 -
(جَابِرُ) بن عبد الله الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قريبًا. والباقون ذُكروا في الباب.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرِ) بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا دُعِيَ)
(1)
"الفتح" 11/ 544 - 546 "كتاب النكاح" رقم (5178).
بالبناء للمجهول، ونائب فاعله قوله:(أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ) المراد: طعام الوليمة (فَلْيُجِبْ، فَإنْ شَاءَ طَعِمَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ") قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: استُدِلَّ بهذا الحديث على أنه لا يجب على المفطر الأكل، وهو أصح الوجهين عند الشافعية، وبه قال الحنابلة، والوجه الثاني لأصحابنا أنه يجب الأكل، واختاره النوويّ في "تصحيح التنبيه"، وصححه في "شرح مسلم"، في "الصيام"، وبه قال أهل الظاهر، ومنهم ابن حزم، وتوقف المالكية في ذلك، وعبارة ابن الحاجب في "مختصره": ووجوب أكل المفطر مُحْتَمِلٌ، وتمسك الذين أوجبوا بقوله في رواية عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر:"فإن كان مفطرًا فلْيَطْعَم"، وكذا في حديث أبي هريرة:"فإن كان صائمًا فليصلّ، وإن كان مفطرًا فليَطعم"، وهو في "صحيح مسلم"، وحَمَلوا الأمر على الوجوب، وأجابوا عن حديث جابر هذا بأجوبة:
[أحدها]: قال ابن حزم: لم يذكر فيه أبو الزبير أنه سمعه من جابر
(1)
، ولا هو من رواية الليث عنه، فإنه أعلم له على ما سمعه منه، وليس هذا الحديث مما أعلم له عليه، فبطل الاحتجاج به.
[ثانيها]: قال ابن حزم أيضًا: ثم لو صح لكان الخبر الذي فيه إيجاب الأكل زائدًا على هذا، وزيادة العدل لا يَحِلّ تركها.
وتعقّبه وليّ الدين، فقال: ليس هذا صريحًا في إيجاب الأكل، فإن صيغة الأمر تَرِد للاستحباب، وأما التخيير الذي في حديث جابر، فإنه صريح في عدم الوجوب، فالأخذ به، وتأويل الأمر متعيّن، والله أعلم.
[ثالثها]: قال النوويّ: من أوجب الأكل تأوّل تلك الرواية على من كان صائمًا.
وأشار الحافظ العراقيّ إلى تأييد هذا التأويل بأن ابن ماجه، رَوَى حديث جابر هذا في الصوم، من نسخته، من رواية ابن جريج، عن أبي الزبير عنه، بلفظ: "مَن دُعِي إلى طعام، وهو صائم فليجب، فإن شاء طَعِمَ، وإن شاء
(1)
سيأتي أنه صرّح بالسماع في رواية الطحاويّ في "مشكل الآثار"، فزال الطعن به، والحمد لله.
تَرَكَ"، والروايات يُفَسِّر بعضها بعضًا، وقد أخرج مسلم في "صحيحه" رواية ابن جريج هذه، ولم يسق لفظها، بل قال: إنها مثل الأولى، وقد عرفت زيادة هذه الفائدة فيها، قال وليّ الدين: وهذا الجواب أقوى هذه الأجوبة.
قال الجامع عفا الله عنه: رواية ابن جريج، عن أبي الزبير ظاهر قول المصنّف رحمه الله إنها مثل الأولى يدلّ على أنها ليس فيها قوله:"وهو صائم"، وقد وقع كذلك عند الطحاويّ في "مشكل الآثار"، كما سيأتي نقل نصّه قريبًا، فتأمل.
والحاصل أن تأويل الحديث بحمله على الصائم أرجح؛ جمعًا بين الروايات، والله تعالى أعلم.
قال وليّ الدين: قال أصحابنا: وإذا قلنا بوجوب الأكل، فيحصل ذلك ولو بلقمة، ولا تلزمه الزيادة؛ لأنه يسمى أكلًا، ولهذا لو حلف لا يأكل حَنِث بلقمة، ولأنه قد يتخيل صاحب الطعام أن امتناعه بشبهة يعتقدها في الطعام، فإذا أكل لقمة زال ذلك التخيل، وحَكَى المازريّ وجهًا أن الأكل فرض كفاية. انتهى
(1)
.
وقوله: (وَلَمْ يَذْكُر ابْنُ الْمُثَنَّى إِلَى "طَعَامٍ") أشار به إلى اختلاف شيخيه: محمد بن المثنّى، ومحمد بن نمير، فابن نُمير قال:"إذا دُعي أحدكم إلى طعام"، وابن المثنّى، لم يقل ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: تقدّم عن ابن حزم: أنه طعن في هذه الرواية بأن أبا الزبير لم يصرّح بالسماع عن جابر رضي الله عنه، وهو معروف بالتدليس، إلا إذا روى عنه الليث بن سعد، فإنه لم يرو عنه إلا ما سمعه عن جابر رضي الله عنه، وهذه الرواية ليست منه، ففي صحّتها نظرٌ، إلا أن المصنّف رحمه الله إمامٌ معتمد، يعلم تدليس
(1)
"طرح التثريب" 7/ 79 - 81.
أبي الزبير، فلولا أنه اطّلع على تصريحه بالسماع، لَمَا أخرجه هنا، والله تعالى أعلم.
ثم وجدت - ولله الحمد والمنّة - تصريح أبي الزبير بالسماع عن جابر رضي الله عنه عند الطحاويّ في "شرح مشكل الآثار"، كما سيأتي نقل نصّه في الحديث التالي، فزال بهذا تهمة التدليس، وصحّ الحديث، فلله الحمد أولًا وآخرًا.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 3518 و 3519](1430)، و (أبو داود) في "الأطعمة"(3740)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 140)، و (ابن ماجه) في "الصيام"(1751)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 392)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 60 - 61)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 107)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 324)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5303)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(4/ 148)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 264) و"الصغرى"(6/ 258) و"المعرفة"(5/ 404)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2316)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3519]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَن ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ بِمِثْلِهِ).
1 -
(أَبُو عَاصِمٍ) الضحّاك بن مَخْلَد النبيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 212) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: رواية ابن جُريج، عن أبي الزبير هذه ساقها الطحاويّ رحمه الله في كتابه "شرح مشكل الآثار" (8/ 28) فقال:
حدّثنا يَزِيدُ، قال: ثنا أبو عَاصِمٍ، قال: ثنا ابن جُرَيْجٍ، قال: أخبرني أبو الزُّبَيْرِ، سمع جَابِرًا يقول: سَمِعْت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "إذَا دَعَا أَحَدَكُمْ أَخُوهُ لِطَعَامٍ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ شَاءَ طَعِمَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3520]
(1431) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَن ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ، وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.
2 -
(حَفْصُ بْنُ غِيَاثِ) بن طَلْق بن معاوية النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ القاضي، ثقةٌ تغيّر حفظه في الآخر [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.
3 -
(هِشَامُ) بن حسّان الأزديّ الْقُرْدُوسيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ من أثبت الناس في ابن سيرين [6](ت 7 أو 148)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
4 -
(ابْنُ سِيرِينَ) هو: محمد الأنصاريّ، أبو بكر بن أبي عمرة البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [3](ت 110)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 308.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ) فعلٌ ونائب فاعله (فَلْيُجِبْ، فَإنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ) قال النوويّ رحمه الله: اختلفوا في معنى "فَلْيُصَلِّ" قال الجمهور: معناه: فليدعُ لأهل الطعام بالمغفرة والبركة، ونحو ذلك، وأصل الصلاة في اللغة الدعاء، ومنه قوله تعالى:{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} ، وقيل: المراد: الصلاة الشرعية بالركوع والسجود، أي يشتغل بالصلاة؛ ليحصل له فضلها، ولتبرّك أهل المكان والحاضرين. انتهى
(1)
.
وقال وليّ الدين رحمه الله: قوله: "فليصلّ" معناه: الدعاء لا الصلاة الشرعية المعهودة، والمراد: الدعاء لأهل الطعام بالمغفرة والبركة، ونحو ذلك، وأصل الصلاة في اللغة الدعاء، ومنه قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 236.
صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103]، وأبعد من قال: إن المراد هنا الصلاة الشرعية بالركوع والسجود، أي يشتغل بالصلاة؛ ليحصل له فضلها، وتحصل البركة لأهل المنزل والحاضرين، وقد يُحْمَل اللفظ على معنييه، ويقال: يأتي بالأمرين: الصلاة الشرعية، والدعاء؛ لأن الدعاء في الصلاة، وعقبها أقرب إلى الإجابة. انتهى
(1)
.
(وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ") قال النوويّ رحمه الله: اختلف العلماء في هذا الأمر، والأصح في مذهبنا أنه لا يجب الأكل في وليمة العرس، ولا في غيرها، فمن أوجبه اعتمد هذه الرواية، وتأوّل رواية جابر السابقة على من كان صائمًا، ومن لم يوجبه اعتمد التصريح بالتخيير في حديث جابر، وحمل الأمر في هذه الرواية على الندب. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم في شرح حديث جابر رضي الله عنه ترجيح القول بحمل الأمر هنا على الندب، فلا تغفل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 3520](1431)، و (أبو داود) في "الصوم"(2460 و 2461)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(780 و 781)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 243)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 64)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1012)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 279 و 507)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5306)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(4/ 148 - 149)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 107)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 424)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 263)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1815 و 1816)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"طرح التثريب" 7/ 79.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 236.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3521]
(1432) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَن الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "بِئْسَ الطَّعَامُ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ، يُدْعَى إِلَيْهِ الْأَغْنِيَاءُ
(1)
، وَيُتْرَكُ الْمَسَاكِينُ، فَمَنْ لَمْ يَأتِ الدَّعْوَةَ، فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(الْأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز المدنيّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "بِئْسَ الطعَامُ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ) وفي الرواية الآتية: "شر الطعام طعام الوليمة"، قال في "الفتح": وهذا رواية الأكثر، وكذا في بقية الطرق.
[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: ذكر هذا الحديث مسلم موقوفًا على أبي هريرة رضي الله عنه، ومرفوعًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سبق أن الحديث إذا رُوي موقوفًا، ومرفوعًا، حُكِم برفعه على المذهب الصحيح؛ لأنها زيادة ثقة. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": أول هذا الحديث موقوف ولكن آخره يقتضي رفعه، ذكر ذلك ابن بطال
(3)
قال: ومثله حديث أبي الشعثاء أن أبا هريرة أبصر رجلًا خارجًا من المسجد بعد الأذان، فقال: أما هذا فقد عصى أبا القاسم، قال: ومثل هذا لا يكون رأيًا، ولهذا أدخله الأئمة في مسانيدهم. انتهى.
وذكر ابن عبد البر أن جُلّ رُواة مالك لم يصرّحوا برفعه، وقال فيه رَوْح بن القاسم، عن مالك بسنده: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى، وكذا أخرجه
(1)
وفي نسخة: "يُدعى له الأغنياء".
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 237.
(3)
"شرح ابن بطّال" 7/ 289.
الدارقطنيّ في "غرائب مالك" من طريق إسماعيل بن مسلمة بن قعنب، عن مالك، وقد أخرجه مسلم من رواية معمر، وسفيان بن عيينة، عن الزهريّ، شيخ مالك، كما قال مالك، ومن رواية أبي الزناد، عن الأعرج كذلك.
والأعرج شيخ الزهريّ فيه هو عبد الرحمن، كما وقع في رواية سفيان، قال: سألت الزهريّ، فقال: حدّثني عبد الرحمن الأعرج، أنه سمع أبا هريرة، فذكره.
ولسفيان فيه شيخ آخر بإسناد آخر إلى أبي هريرة، صَرَّح فيه برفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أخرجه مسلم أيضًا، من طريق سفيان، سمعت زياد بن سعد يقول: سمعت ثابتًا الأعرج يُحَدِّث عن أبي هريرة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال، فذكر نحوه.
وكذا أخرجه أبو الشيخ من طريق محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، مرفوعًا صريحًا، وأخرج له شاهدًا من حديث ابن عمر كذلك. انتهى
(1)
.
(يُدْعَى إِلَيْهِ الْأَغْنِيَاءُ) وفي نسخة: "يُدْعَى له الأغنياء"، والجملة في موضع الحال من "طعام الوليمة" (وَيُتْرَكُ الْمَسَاكِينُ) ولفظ البخاريّ:"يُدْعَى لها الأغنياء، ويُترك الفقراء"، وفي رواية ثابت الأعرج الآتية:"يُمنَعُها من يأتيها، ويُدْعَى إليها من يأباها".
والمعنى: أنها إنما تكون شرّ الطعام إذا كانت بهذه الصفة، ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه:"إذا خُصّ الغنيّ، وتُرِك الفقير أمرنا أن لا نجيب".
فلو دعا الداعي عامًّا لم يكن طعامه شرّ الطعام، وفي رواية الطبرانيّ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما:"بئس الطعام طعام الوليمة، يُدْعَى إليه الشَّبْعَانُ، ويُحْبَس عنه الْجِيعان".
وقال النوويّ رحمه الله: معنى هذا الحديث الإخبار بما يقع من الناس بعده صلى الله عليه وسلم من مراعاة الأغنياء في الولائم، ونحوها، وتخصيصهم بالدعوة، وإيثارهم بطيب الطعام، ورفع مجالسهم، وتقديمهم، وغير ذلك مما هو الغالب في الولائم، والله المستعان. انتهى
(2)
.
(1)
"الفتح" 11/ 543.
(2)
"شرح النوويّ" 9/ 237.
وقال ابن بطال
(1)
: وإذا مَيَّز الداعي بين الأغنياء والفقراء، فأطعم كُلًّا على حِدَةٍ، لم يكن به بأس، وقد فعله ابن عمر.
وقال البيضاويّ: "مِنْ" مُقَدَّرةٌ، أي من شرّ الطعام، فإن من الطعام ما يكون شرًّا منه، ونظيره: شرُّ الناس مَن أكل وحده، أي من شرّهم، وإنما سماه شرًّا؛ لِمَا ذَكَر عقبه، فإنه الغالب فيها، فكأنه قال: شرُّ الطعام التي من شأنها هذا، فاللفظ وإن أُطلق، فالمراد به التقييد بما ذُكر عقبه، وكيف يريد به الإطلاق، وقد أَمَر باتّخاذ الوليمة، وإجابة الداعي إليها، ورَتّب العصيان على تركها؟، ولذلك قيل بوجوب الإجابة. انتهى.
وقال الطيبيّ: التعريف في "الوليمة" للعهد الخارجيّ، وكان من عادتهم مراعاة الأغنياء فيها، وتخصيصهم بالدعوة، وتطييب الطعام لهم، ورفع مجالسهم، وتقديمهم، وغير ذلك، مما هو الغالب في الولائم.
قال: وقوله: (يُدْعَى إلخ) استئنافُ بيانٍ لكونها شرّ الطعام، وعلى هذا لا يحتاج إلى تقدير "من"؛ لأن الرياء شرك خفيّ. انتهى
(2)
.
(فَمَنْ لَمْ يَأْتِ الدَّعْوَةَ) قال في "الفتح": الذي يظهر أن اللام في "الدعوة" للعهد من "الوليمة" المذكورة أوَّلًا، وقد تقدم أن "الوليمة" إذا أُطلقت حُمِلت على طعام العرس، بخلاف سائر الولائم، فإنها تُقَيّد. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "أن اللام للعهد" فيه نظرٌ؛ لأنه قد تقدّم أن الأرجح حمل الدعوة على ما يعمّ وليمة العرس، وغيرها؛ لصريح قوله صلى الله عليه وسلم:"من دُعي إلى عرس، أو نحوه، فليجب"، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وفي رواية البخاريّ: "ومن ترك الدّعوة. . . إلخ"، قال الطيبيّ رحمه الله: وقوله: "ومن ترك إلخ" حالٌ، والعامل "يُدْعَى"، أي يُدْعَى الأغنياء، والحال أن الإجابة واجبة، فيُجيب المدعُوّ، فيكون دعاؤه سببًا لأكل المدعوّ شرَّ الطعام. انتهى
(3)
.
(1)
"شرح ابن بطّال" 7/ 289.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2317.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2317.
قال الحافظ: ويشهد له ما ذكره ابن بطال أن ابن حبيب، رَوَى عن أبي هريرة، أنه كان يقول:"أنتم العاصون في الدعوة، تَدْعُون من لا يأتي، وتَدَعُون من يأتي"، يعني بالأول الأغنياء، وبالثاني الفقراء. انتهى
(1)
.
(فَمَنْ لَمْ يَأْتِ الدَّعْوَةَ) وفي رواية ثابت الأعرج الآتية: "ومن لم يُجب الدعوة"، وفي رواية البخاريّ:"ومن ترك الدعوة"، أي ترك إجابة الدعوة (فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ") هذا دليل وجوب الإجابة؛ لأن العصيان لا يُطْلَق إلا على ترك الواجب، ووقع في رواية لابن عمر، عند أبي عوانة:"مَن دُعِي إلى وليمة، فلم يأتها، فقد عصى الله ورسوله"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية) في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 3521 و 3522 و 3523 و 3524 و 3525](1432)، و (البخاريّ) في "النكاح"(5177)، و (أبو داود) في "الأطعمة"(3742)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 141)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1913)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 546)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(19662)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 304)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1170 و 1171)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 240 و 241 و 267)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 105)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5304 و 5306)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(4/ 143)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 62 و 63 و 64)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 107 - 108)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 295 و 11/ 123)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(1/ 174)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 261 و 262) و"الصغرى"(6/ 258)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2315)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"الفتح" 11/ 544.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3522]
- (. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: قُلْتُ لِلزُّهْرِيِّ: يَا أَبَا بَكْرٍ، كَيْفَ هَذَا الْحَدِيثُ: "شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْأَغْنِيَاءِ"، فَضَحِكَ، فَقَالَ: لَيْسَ هُوَ شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْأَغْنِيَاءِ، قَالَ سُفْيَانُ: وَكَانَ أَبِي غَنِيًّا، فَأَفْزَعَنِي هَذَا الْحَدِيثُ حِينَ سَمِعْتُ بِهِ، فَسَأَلْتُ عَنْهُ الزُّهْرِيَّ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: "شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ"، ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْأَغْنِيَاءِ) معناه أن سفيان سمع هذا الحديث بهذا اللفظ الذي يقضي بكون طعام الأغنياء شرّ الطعام، فأفزعه ذلك؛ لأن أباه كان غنيًّا، فسأل عنه الزهريّ، فضحك الزهريّ؛ لكونه حفظ الحديث غلطًا، فقال له: ليس لفظ الحديث هكذا، وإنما هو:"شر الطعام طعام الوليمة، يُدعى لها الأغنياء، ويُترك الفقراء"، فأفاده صواب الرواية، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة، عن الزهريّ هذه ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" (4/ 108) فقال:
(3350)
- حدّثنا أبو عليّ محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا بشر بن موسى، ثنا الحميديّ (ح) وثنا فاروق، ثنا بشر بن موسى، ثنا الحميديّ (ح) وثنا فاروق، ثنا إبراهيم بن عبد الله، ثنا الرّمَاديّ (ح) وثنا محمد بن أحمد، ثنا أحمد بن يحيى الحلوانيّ، ثنا محمد بن الصباح (ح) وثنا أحمد بن إبراهيم، ثنا إسحاق بن أحمد الخزاعيّ، ثنا ابن أبي عمر، قالوا: ثنا سفيان، قال: سألت الزهريّ، كيف هذا الحديث:"شرُّ الطعام طعام الأغنياء"؟ فتبسَّم، وقال: ليس
هكذا، أخبرني عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، أنه سمع أبا هريرة يقول:"شر الطعام طعام الوليمة، يُدعَى إليها الأغنياء، ويُترَك المساكين، ومن لم يجب الدعوة، فقد عصى الله ورسوله"، لفظ الرّمَاديّ، ولم يذكر الحميديّ الكلام، وذكر ابن أبي عمر الكلام، وقال: كان سفيان ربما رفعه، وربما لم يذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا بآخره. انتهى.
والحديث بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3523]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَن الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ (ح) وَعَن الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:"شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ"، نَحْوَ حَدِيثِ مَالِكٍ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكِسّيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي.
[تنبيه]: رواية معمر، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيّب، والأعرج كلاهما عن أبي هريرة هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" (3/ 63) فقال:
(4204)
- حدّثنا محمد بن مهل الصنعانيّ، قثنا
(1)
عبد الرزاق، قال: أنبا معمر، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيِّب، والأعرج، عن أبي هريرة، قال:"شرّ الطعام طعام الوليمة، يُدْعَى عليها الغنيّ، ويُترك المسكين، وهي حقّ، ومن تركها فقد عصى الله ورسوله". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
مختصرة من "قال: حدّثنا"، فتنبّه.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3524]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَن الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَ ذَلِكَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان المدنيّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا قبل حديث، والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: رواية أبي الزناد، عن الأعرج هذه لم أجد من ساقها تامّة، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3525]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: سَمِعْتُ زِيَادَ بْنَ سَعْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ ثَابِتًا الْأَعْرَجَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ، يُمْنَعُهَا مَنْ يَأْتِيهَا، وَيُدْعَى إِلَيْهَا مَنْ يَأْبَاهَا، وَمَنْ لَمْ يُجِب الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(زِيادُ بْنُ سَعْدٍ) الخراسانيّ، ثم المكيّ، ثم اليمنيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(ثَابِتٌ الْأَعْرَجُ) هو: ثابت بن عياض الأحنف الأعرج العدويّ مولاهم
(1)
، ثقةٌ [3](خ م د س) تقدم في "الإيمان" 65/ 368.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (يُمْنَعُهَا مَنْ يَأْتِيهَا) يعني الفقراء؛ لأن حاجتهم إلى الأكل تدعوهم
(1)
قال النوويّ رحمه الله في "شرحه" 9/ 237: هو ثابت بن عياض الأعرج الأحنف القرشيّ العدويّ مولى عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وقيل: مولى عمر بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وقيل: اسمه ثابت بن الأحنف بن عياض، والله أعلم، انتهى.
إلى الإتيان، والغنيّ يأبى؛ لعدم حاجته إلى الأكل، وربما أتى، ولم يأكل
(1)
.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: زاد أبو عوانة في "مسنده"(3/ 64) بعد إخراج الحديث من طريق الحميديّ، عن سفيان بن عيينة ما نصّه: قال الحميديّ: ثنا سفيان، ثنا زياد، قال: قلت لثابت الأعرج: من أين سمعت من أبي هريرة؟ فقال: كان مَوَالِيَّ يبعثوني يوم الجمعة آخذُ لهم مكانًا عند المنبر، فكان أبو هريرة يجيء قبل الصلاة، فيُحَدِّث الناس، فكنت أسمع، فقال أحمد بن حنبل: ما أرى بحديثه بأسً
(2)
يعني ثابتً، وهو ابن عياض، ويحدّث عنه عبيد الله، ومالك، وزياد. انتهى.
[تنبيهٌ آخر]: قال القرطبيّ رحمه الله: أكثرُ الرواة والأئمة على رواية هذا الحديث موقوفًا على أبي هريرة، وقد انفرد برفعه زياد بن سعد، عن الأعرج
(3)
، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"شرُّ الطَّعام. . ." وذكره، وهو ثقة إمام، وأيضًا فمن وقفه ذكر فيه ما يدلُّ: على أنه مرفوع؛ وذلك أنه قال فيه: "ومن لم يجب الدَّعوة فقد عصى الله ورسوله"، وظاهر هذا: الرفعُ؛ لأنَّ الرَّاوي لا يقول مثل هذا من قِبَل نفسه، وقد بيّن في سياق الحديث أنَّ الجهة التي يكون فيها طعام الوليمة شرُّ الطعام: إنما هي ترك الأَوْلى، وذلك أن الفقير هو المحتاج للطعام؛ الذي إن دُعي سارعَ وبادرَ، ومع ذلك فلا يُدْعَى، والغنيُّ غير محتاج، ولذلك قد لا يجيب، أو تثقل عليه الإجابة، ومع ذلك فهو يدعى، فكان العكس أولى، وهو: أن يُدعى الفقير، ويُترك الغنيّ، ولا يُفهم من هذا القول - أعني: الحديث -: تحريم ذلك الفعل؛ لأنه لا يقول أحد بتحريم إجابة الدعاء للوليمة فيما علمته؛ وإنما هذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "شرُّ صفوف الرِّجال آخرها، وخيرها أولها، وشرُّ صفوف النساء أولها، وخيرها
(1)
"شرح الأبيّ" 4/ 56.
(2)
كذا هو في النسخة، وهو منصوب، لكنه كُتب بصورتي المرفوع والمجرور، وهو لغة ربيعة، ومثله قوله بعده:"يعني ثابت"، فتنبّه.
(3)
أراد ثابتًا الأعرج، لا عبد الرحمن الأعرج، كما في الروايات السابقة، فتنبّه.
آخرها"، فإنَّه لم يقل أحد: إن صلاة الرجل في آخر صف حرام، ولا صلاة النساء في أول صف حرام، وإنَّما ذلك من باب ترك الأولى، كما قد يقال عليه: مكروه، وإن لم يكن مطلوب الترك، على ما يُعْرَف في الأصول، فإذًا الشرُّ المذكور هنا: قلَّةُ الثواب والأجر، والخير: كثرة الثواب والأجر، ولذلك كره العلماء اختصاص الأغنياء بالدَّعوة.
ثم اختلفوا فيمن فعل ذلك: هل تجاب دعوته أم لا؟ فقال ابن مسعود رضي الله عنه: لا تجاب، ونحوه يحيى بنُ حبيب من أصحابنا، وظاهر كلام أبي هريرة وجوب الإجابة، ودعا ابن عمر في وليمةٍ الأغنياء والفقراء، فأجلس الفقراء على حِدَة؛ وقال: ها هنا، لا تفسدوا عليهم ثيابهم، فإنا سنطعمكم مما يأكلون.
ومقصود هذا الحديث: الحضُّ على دعوة الفقراء، والضعفاء، ولا تُقصر الدعوة على الأغنياء، كما يفعل مَنْ لا مبالاة عنده بالفقراء من أهل الدنيا، والله أعلم. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(18) - (بَابُ لَا تَحِلُّ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا لِمُطَلِّقِهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَيَطَأَهَا، ثُمَّ يُفَارِقَهَا، وَتَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3526]
(1433) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَاللَّفْظُ لِعَمْرٍو، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَن الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَت امْرَأَةُ رِفَاعَةَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ، فَطَلَّقَنِي، فَبَتَّ طَلَاقِي، فَتَزَوَّجْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزّبِيرِ، وإِنَّ مَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟، لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ،
(1)
"المفهم" 4/ 155 - 156.
وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ"، قَالَتْ، وَأَبُو بَكْرٍ عِنْدَهُ، وَخَالِدٌ بِالْبَابِ، يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ، فَنَادَى: يَا أَبَا بَكْرٍ! ألَا تَسْمَعُ هَذِهِ مَا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، تقدّم قبل باب.
2 -
(عُرْوَةُ) بن الزبير، تقدّم قريبًا.
3 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت أيضًا قريبًا.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُمَاسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحاد كيفيّة الأخذ، والأداء.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخيه، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، والثاني ما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخيه، فالأول كوفيّ، والثاني بغدادي، وسفيان، فمكيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه عروة من الفقهاء السبعة، وعائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) من الأحاديث، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: جَاءَت امْرَأَةُ رِفَاعَةَ) - بكسر الراء - وهو رفاعة بن سَمَوْأل - بفتح المهملة، والميم، وسكون الواو، بعدها همزة، ثم لام
(1)
- الْقُرَظيّ - بالقاف، والظاء المعجمة - من بني قُريظة، قال وليّ الدين: وقيل: هو ابن رفاعة، وهو أحد العشرة الذين نزل فيهم قوله تعالى:{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} الآية [القصص: 51]، كما رواه الطبرانيّ في "معجمه"، وابن مردويه في
(1)
ضبط وليّ الدين رحمه الله في "طرح التثريب"(7/ 94) اسم أبيه "السَّمْوَال" بفتح السين المهملة، وإسكان الميم، فليُحَرَّر.
"تفسيره" من حديث رفاعة بإسناد صحيح. انتهى
(1)
.
وامرأته سمّاها مالك في روايته من حديث عبد الرحمن بن الزّبِير، كما أخرجه ابن وهب، والطبرانيّ، والدارقطنيّ في "الغرائب" موصولًا، وهو في "الموطّإ" مرسلٌ: تَميمة بنت وهب، وهي بمثنّاة، واختُلف هل هي بفتحها، أو بالتصغير؟ والثاني أرجح، ووقع مجزومًا به في النكاح لسعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، وقيل: اسمها سُهيمة - بسين مصغرًا - أخرجه أبو نُعيم، وكأنه تصحيف. وعند ابن منده: أميمة بألف، أخرجه من طريق أبي صالح، عن ابن عبّاس، وسمّى أباها الحارث، وهي واحدة اختلف في التلفّظ باسمها، والراجح الأول، قاله في "الفتح"
(2)
.
وقال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: وامرأته تميمة بنت وهب، كما رواه مالك في "الموطإ" من رواية ابن وهب، عنه، عن المسور بن رفاعة، عن الزّبِير بن عبد الرحمن بن الزّبِير، عن أبيه:"أنّ رفاعة طلّق امرأته ثلاثًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتزوّجها عبد الرحمن بن الزّبير، فاعتُرض عنها، فلم يَستطع أن يمسّها، فطلّقها، ولم يمسّها، فأراد رفاعة أن ينكحها، وهو زوجها الذي كان طلّقها قبل عبد الرحمن، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهاه عن تزويجها، وقال: لا يحلّ لك حتى تذوق العسيلة".
هكذا أسنده ابن وهب، عن مالك في روايته، ومن طريقه رواه البيهقيّ في "سننه"، وابن عبد البرّ في "التمهيد"، ورواه يحيى بن يحيى، وأكثر رواة "الموطّإ" عن مالك مرسلًا، لم يقولوا:"عن أبيه"، قال ابن عبد البرّ: وابنُ وهب من أجلّ من روى عن مالك هذا الشأن، وأثبتهم فيه، قال: فالحديث مسندٌ متّصلٌ صحيح، وتابع ابن وهب على روايته عن مالك متّصلًا إبراهيم بن طهمان، رواه النسائيّ في "مسند مالك"، وعُبيد الله بن عبد المجيد الحنفيّ، قال: وذكره أيضًا سحنون، عن ابن وهب، وابن القاسم، وعليّ بن زياد، كلهم عن مالك، وفيه:"عن أبيه"
(3)
.
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 94 - 95.
(2)
"الفتح" 12/ 197.
(3)
راجع: "التمهيد" 13/ 220 - 221.
قال الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ": وكذا رواه القعنبيّ عن مالك متّصلًا، رواه الطبرانيّ في "معجمه الكبير" عن عبد العزيز، عن القعنبيّ. انتهى.
قال وليّ الدين: وهذا الذي ذكرته من أنها تميمة بنت وهب، هو الذي ذكره ابن بشكوال في "مبهماته"، وقال ابن طاهر في "مبهماته": هي أميمة بنت الحارث، كما روي عن ابن عبّاس، وقيل: تميمة بنت أبي عُبيد القرظيّة، روي عن قتادة، وفي حديث عائشة:"تميمة بنت وهب". انتهى
(1)
.
(إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ، فَطَلَّقَنِي، فَبَتَّ طَلَاقِي) أي طلّقني ثلاثًا، وفي الرواية التالية:"إنها كانت تحت رفاعة، فطلّقها آخر ثلاث تطليقات"، ومعنى:"بَتَّ": قَطَع، يقال: بتّ الرجل طلاق امرأته، وأبتّها بالألف: إذا قطعها عن الرجعة، قال الفيّوميّ رحمه الله: بَتَّهُ بَتًّا، من باب ضرب، وقتل: قطعه، وبتّ الرجل طلاق امرأته، فهي مبتوتةٌ، والأصلُ مبتوتٌ طلاقها، وطلّقها طَلْقةً بَتَّةً، وبَتَّها بَتَّةً: إذا قطعها عن الرجعة، وأبتّ طلاقها بالألف لغةٌ، قال الأزهريّ: ويُستعمل الثلاثيّ والرباعيّ لازمين، ومتعدّيين، فيقال: بتّ طلاقَهَا، وأبتّ، وطلاقٌ باتٌّ، ومُبِتٌّ، وقال ابن فارس: يقال لما لا رجعة فيه: لا أفعله بَتَّةً. انتهى
(2)
.
قال الشيخ ابن دقيق العيد رحمه الله في "شرح العمدة": تطليقه إياها بالبتات من حيث اللفظ يَحْتَمِل أن يكون بإرسال الطلقات الثلاث، ويَحْتَمِل أن يكون بإيقاع آخر طلقة، ويَحْتَمِل أن يكون بإحدى الكنايات التي تُحمَل على البينونة عند جماعة من الفقهاء، وليس في اللفظ عموم، ولا إشعار بأحد هذه المعاني، وإنما يؤخذ ذلك من أحاديث أخر، تبيّن المراد، ومن احتجّ على شيء من هذه الاحتمالات بالحديث، فلم يُصب؛ لأنه إنما دلّ على مطلق البتّ، والدّالّ على المطلق لا يدلّ على أحد قيديه بعينه
(3)
.
قال وليّ الدين رحمه الله: اعتبر الشيخ لفظ الرواية التي شرحها، وهذه الرواية
(1)
"طرح التثريب" 7/ 95.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 35.
(3)
"إحكام الأحكام" 4/ 200 - 201.
التي هنا صريحة في الاحتمال الثاني، فإن لفظها "آخر ثلاث تطليقات"، فدلّ على أنه لم يجمعها لها دفعةً واحدةً، واعتبر ابن عبد البرّ لفظ الرواية التي سقناها من "الموطّإ"، فاستدلّ به على جواز جمع الطلاقات الثلاث، ثم قال: ويَحْتَمِل أن يكون طلاقه ذلك آخر ثلاث طلقات، ولكن الظاهر لا يُخرَج عنه إلا ببيان. انتهى.
قال وليّ الدّين: وقد عرفت أن هذا الاحتمال هو صريح لفظ الرواية التي نحن في شرحها.
واعتبر القرطبيّ لفظة: "فبتّ طلاقها"، وقال: ظاهره أنه قال لها: أنت طالقٌ البتّة، فيكون حجةً لمالك على أن البتّةَ محمولةٌ على الثلاث في المدخول بها، ويَحتمل أن يريد به آخر ثلاث تطليقات، كما جاء في الرواية الأخرى:"أن رجلًا طلّق امرأته ثلاثًا"، وجاز أن يُعبّر عنها بالبتَات؛ لأن الثلاث قطعت جميع الْعُلَق، والطلاق. انتهى
(1)
.
قال وليّ الدين: وكلّ ذلك ذهول عن قوله في هذه الرواية: "فطلّقها آخر
ثلاث تطليقات". انتهى.
وقال الحافظ في "الفتح" - بعد ما ذكر نحو ما ذكره القرطبيّ عن مالك، من أن البتّة محمولة على ثلاث تطليقات - ما نصّه: وهو عَجَبٌ ممن استدلّ به، فإن البتّ بمعنى القطع، والمراد به قطع العصمة، وهو أعمّ من أن يكون بالثلاث مجموعةً، أو بوقوع الثالثة التي هي آخر ثلاث تطليقات، وقد جاء في رواية البخاريّ في "اللباس" مصرّحًا به أنه طلّقها آخر ثلاث تطليقات، فبطل الاحتجاج به. انتهى
(2)
.
(فتَزَوَّجْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ) قال النوويّ رحمه الله: بفتح الزاي، وكسر الموحّدة بلا خلاف، وهو الزَّبير بن باطاء، ويقال: باطياء، وكان عبد الرحمن صحابيًّا، والزَّبِيرُ قُتل يهوديًّا في غزوة بني قُريظة.
وهذا الذي ذكرنا من أن عبد الرحمن بن الزَّبِير بن باطاء القرظيّ هو الذي تزوّج امرأة رفاعة القُرظيّ هو الذي ذكره أبو عمر بن عبد البرّ، والمحقّقون،
(1)
"المفهم" 4/ 234.
(2)
"الفتح" 10/ 587.
وقال ابن منده، وأبو نعيم الأصفهانيّ في كتابيهما في "معرفة الصحابة": إنما هو عبد الرحمن بن الزبير بن زيد بن أُميّة بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن أوس، والصواب الأول. انتهى
(1)
.
قال وليّ الدين رحمه الله: وأما ابنه الزبير بن عبد الرحمن، فقيل: هو كجدّه بالفتح، وصححه ابن عبد البرّ، وحكاه عن رواية يحيى بن يحيى، وابن وهبٍ، وابن القاسم، والقعنبيّ، وغيرهم، وحَكَى الاختلاف فيه في رواية يحيى بن بكير، والذي يقتضيه كلام البخاريّ، والدارقطنيّ، وابن ماكولا أنه بالضمّ كالجدّ
(2)
، وصحّحه الذهبيّ. انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح": واتفقت الروايات كلّها عن هشام بن عروة أن الزوج الأول رِفَاعة، والثاني عبد الرحمن، وكذا قال عبد الوهّاب بن عطاء، عن سعيد بن أبي عروبة في "كتاب النكاح" له، عن قتادة أن تَميمة بنت أبي عُبيد القرظيّة كانت تحت رفاعة، فطلّقها، فخَلَفَ عليها عبدُ الرحمن بن الزَّبِير، وتسميته لأبيها لا تنافي رواية مالك، فلعلّ اسمه وهب، وكنيته أبو عبيد.
إلا ما وقع عند ابن إسحاق في "المغازي" من رواية سلمة بن الفضل عنه، وتفرّد به عنه، عن هشام، عن أبيه، قال: كانت امرأة من قُريظة، يقال لها: تميمة تحت عبد الرحمن بن الزَّبير، فطلّقها، فتزوّجها رفاعة، ثم فارقها، فأرادت أن ترجع إلى عبد الرحمن بن الزَّبِير، وهو مع إرساله مقلوب، والمحفوظ ما اتفق عليه الجماعة عن هشام. انتهى.
(وَإِنَّ مَا مَعَهُ) أي وإن الذي معه، تعني ذَكَرَهُ الذي يجامعها به (مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ) وفي الرواية التالية:"وإنه والله مَا مَعَهُ إِلَّا مِثْلُ الْهُدْبَةِ"، و"الْهُدْبةُ" - بضمّ الهاء، وسكون الدال المهملة، بعدها موحّدةٌ مفتوحةٌ - هو طرَفُ الثوب الذي لم يُنسَج، مأخوذ من هُدْب العين
(4)
، وهو شَعْر الْجَفْن، وأرادت أن ذَكَرَهُ يُشبه
(1)
"شرح النوويّ" 10/ 2.
(2)
هكذا نسخة: "الطرح" بلفظ "كالجدّ"، وهو غلط بلا شكّ، فإن جدّه بالفتح بلا خلاف، ولعلّ الصواب بخلاف الجدّ، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.
(3)
"طرح التثريب" 7/ 96.
(4)
جمعه أهداب، مثلُ قُفْل وأقفال.
الهُدْبة في الاسترخاء، وعدم الانتشار، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال وليّ الدين: "الْهُدْبةُ" - بضم الهاء، وإسكان الدال، بعدها باء موحّدة - هي طرف الثوب الذي لم يُنسَج، وهو ما يبقى بعد قطع الثوب من السِّداء، شُبّه بهُدْب العين، وهو شعر جَفْنها، ثم يَحْتَمِل أن يكون تشبيه الذَّكَر بالهدبة لصغره، ويَحْتَمِل أن يكون لاسترخائه، وعدم انتشاره
(2)
.
وفي رواية للبخاريّ من طريق أبي معاوية، عن هشام:"فتزوّجت زوجًا غيره، فلم يَصِلْ منها إلى شيء يريده"، وعند أبي عوانة من طريق الدراورديّ، عن هشام:"فنكحها عبد الرحمن بن الزَّبير، فاعتُرِضَ عنها"، وقوله:"فاعتُرِضَ" بضم المثناة، وآخره ضادٌ معجمةٌ، أي حصل له عارضٌ، حال بينه وبين إتيانها، إما من الجنّ، وإما من المرض.
وفي رواية للبخاريّ من طريق يحيى بن سعيد القطّان، عن هشام:"فَذَكَرتْ له أنه لا يأتيها"، وفي رواية من طريق أبي معاوية، عن هشام:"فلم يقربني إلا هَنَةً واحدةً، ولم يَصِل منّي إلى شيء"، و"الهنَة" - بفتح الهاء، وتخفيف النون -: المرّة الواحدة الحقيرة.
(فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية النسائيّ: "فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم"، قال النوويّ: قال العلماء: إن التبسّم للتعجّب من جهرها، وتصريحها بهذا الذي تستحيي منه النساء في العادة، أو لرغبتها في زوجها الأول، وكراهة الثاني، والله أعلم. انتهى
(3)
.
(فَقَالَ: "أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟) قال وليّ الدين رحمه الله: هكذا رويناه بفتح التاء، وكسر الجيم. ويجوز أن يكون بضمّ التاء، وفتح الجيم، مبنيًّا للمفعول، وسببه أنه فَهِم عنها إرادة فراق عبد الرحمن، وإرادة أن يكون فراقها سببًا للرجوع إلى رفاعة، وكأنه قيل لها: إن هذا المقصود لا يحصل على تقدير أن يكون الأمر على ما ذكرت. انتهى
(4)
.
وفي رواية للبخاريّ من طريق أيوب، عن عكرمة: أن رفاعة طلّق امرأته،
(1)
"الفتح" 12/ 198.
(2)
"طرح التثريب" 7/ 97.
(3)
"شرح النوويّ" 10/ 3 - 4.
(4)
"طرح التثريب" 7/ 97.
فتزوّجها عبد الرحمن بن الزَّبِير القرظي، قالت عائشة: فجاءت، وعليها خمار أخضر، فشكت إليها - أي إلى عائشة من زوجها، وأرتها خُضْرةً بجلدها، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنساء ينصر بعضهنّ بعضًا، قالت عائشة: ما رأيت ما يَلْقَى المؤمناتُ، لَجِلْدُها أشدُّ خضرةً من ثوبها، قال: وسمع زوجها أنها قد أتت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فجاء، ومعه ابنان له من غيرها، قالت: والله ما لي إليه من ذَنْب إلا أن ما معه، ليس بأغنى عنّي من هذه، وأخذت هدبة من ثوبها، فقال: كذبتْ والله يا رسول الله، إني لأنفضُها نَفْضَ الأديم، ولكنها ناشزةٌ، تريد رفاعة، قال:"فإن كان ذلك لم تحلّي له، أو لم تصلحي له حتى يذوق من عُسَيلتك"، قال: وأبصر معه ابنين له، فقال:"بنوك هؤلاء؟ " قال: نعم، قال:"هذا الذي تزعمين ما تزعُمين؟، فوالله لهم أشبه به من الغراب بالغراب".
قال في "الفتح": وكأن هذه المراجعة بينهما هي التي حملت خالد بن سعيد بن العاص على قوله الذي وقع في هذه الرواية.
قال صلى الله عليه وسلم: ("لَا) أي لا ترجعين إلى رفاعة (حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ) أي عسيلة عبد الرحمن بن الزَّبِير (وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ") قال النوويّ رحمه الله: هو بضمّ العين، وفتح السين، تصغير عَسَلَة، وهي كناية عن الجماع، شبّه لذّته بلذّة العسل، وحلاوته، قالوا: وأنّث العسيلة؛ لأن في العسل نعتين: التذكير والتأنيث، وقيل: أنّثها على إرادة النطفة، وهذا ضعيف؛ لأن الإنزال لا يُشترط. انتهى
(1)
.
وقال الفيّوميّ: وهذه استعارة لطيفة، فإنه شبّه لذّة الجماع بحلاوة العسل، أو سمّى الجماعَ عسَلًا؛ لأن العرب تُسمّي كلَّ ما تستحليه عَسَلًا، وأشار بالتصغير إلى تقليل القدر الذي لا بُدّ منه في حصول الاكتفاء به، قال العلماء: وهو تغييب الحَشَفَة؛ لأنه مظِنّةُ اللّذّة. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": كذا في الموضعين بالتصغير، واختُلف في توجيهه، فقيل: هي تصغير العسل؛ لأن العسل مؤنّث، جزم به القزّاز، ثم قال:
(1)
"شرح النوويّ" 10/ 2 - 3.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 409 - 410.
وأحسب التذكير لغة، وقال الأزهريّ: يُذكّر، ويؤنّث، وقيل: لأن العرب إذا حقّرت الشيءَ أدخلت فيه هاء التأنيث، ومن ذلك قولهم: دُريهمات، فجمعوا الدرهم جمعَ المؤنّث عند إرادة التحقير، وقالوا أيضًا في تصغير هند: هُنيدة، وقيل: التأنيث باعتبار الوطأة إشارة إلى أنها تكفي في المقصود من تحليلها للزوج الأول، وقيل: المراد قطعة من العسل، والتصغير للتقليل إشارة إلى أن القدر القليل كافي في تحصيل الحلّ، قال الأزهريّ: الصواب أن معنى الْعُسَيلة حلاوة الجماع الذي يحصل بتغييب الحشفة في الفرج، وأنّث تشبيهًا بقطعة من عسل، وقال الداوديّ: صُغّرت لشدّة شبهها بالعسل، وقال أبو عبيد: العسيلة لذّة الجماع، والعرب تُسمّي كل شيء تستلذّه عَسَلًا.
وقال الجوهريّ: صُغّرت العَسَلة بالهاء؛ لأن الغالب في العسل التأنيث، قال: ويقال: إنما أنّث لأنه أريد به العسلة، وهي القطعة منه، كما يقال للقطعة من الذهب: ذَهَبَة. انتهى.
وقيل: معنى الْعُسَيلة: النطفة. وهذا يوافق قول الحسن البصريّ القائل باشتراط حصول الإنزال في صحّة التحليل، وخالف بذلك جمهور العلماء، فإنهم جعلوا الشرط إدخال الحشفة في الفرج فقط، وهو الحقّ، فقد جاء تفسير العُسَيْلة بالجماع مرفوعًا، أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، ولفظه:
حدثنا مروان، قال: أخبرنا أبو عبد الملك المكي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"الْعُسَيلة هي الجماع".
ورجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير: أبي عبد الملك، وهو إسماعيل بن عبد الملك بن الصُّفير، قال ابن معين في رواية: ليس به بأس، وقال البخاريّ، وابن عديّ: يُكتب حديثه، وتكلّم فيه غيرهم، وقال في "التقريب": صدوق، كثير الوهم. انتهى.
وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى -.
و (قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (وَأَبُو بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه، تقدّمت ترجمته في "الإيمان" 8/ 133. (عِنْدَهُ) أي جالس عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، والجملة في محلّ نصب على الحال (وَخَالِدٌ) أي ابن سعيد بن العاص بن أميّة بن عبد شمس الأمويّ، أبو سعيد، أمه أم خالد بنت حُباب الثقفيّة، من السابقين الأولين، قيل: كان رابعًا، أو
خامسًا، وكان سبب إسلامه رؤيا رآها أنه على شِعْب نار، فأراد أبوه أن يَرميه فيها، فإذا النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أخذ بحُجْزته، فأصبح، فأَتَى أبا بكر، فقال: اتَّبِعْ محمدًا، فإنه رسول الله، فجاء، فأسلم، فبلغ أباه، فعاقبه، ومنعه القُوتَ، ومنع إخوته من كلامه، فتغيب، حتى خرج بعد ذلك إلى الحبشة، فكان ممن هاجر إلى أرض الحبشة، ووُلد له هناك بنته أم خالد، قيل: استُشْهِد خالد يوم مَرْج الصُّفْر، وقيل: يوم أجنادين، وقد اختَلَف أهل التاريخ أيُّهما كان قبلُ، والله أعلم، ذكره في "الإصابة"
(1)
.
وليس له في الكتب الستّة رواية، وإنما له ذكرٌ فقط.
و (بِالْبَابِ) أي ببابه صلى الله عليه وسلم (يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ) أي في الدخول، وفي الرواية التالية:"وخالد بن سعيد بن العاص جالسٌ بباب الْحُجْرة، لم يُؤذن له"(فَنَادَى يَا أَبَا بَكْرٍ: ألَا تَسْمَعُ هَذِهِ مَا تَجْهَرُ بِهِ)"ما" موصولة بدل من اسم الإشارة (عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟) وفي الرواية التالية: "فطفق خالذ يُنادي أبا بكر: ألا تزجُر هذه عما تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم"؟.
كَرِه رضي الله عنه جهرها بما هو خليق بالإخفاء، ولا سيّما من النساء أمامه صلى الله عليه وسلم.
قال في "الفتح": وفيه ما كان الصحابة رضي الله عنهم عليه من سلوك الأدب بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنكارهم على من خالف ذلك بفعله، أو قوله؛ لقول خالد بن سعيد لأبي بكر الصدّيق رضي الله عنهما، وهو جالس:"ألا تنهى هذه؟ "، وإنما قال خالد ذلك لأنه كان خارج الحجرة، فاحتَمَل عنده أن يكون هناك ما يمنعه من مباشرة نهيها بنفسه، فأمر به أبا بكر؛ لكونه جالسًا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، مشاهدًا لصورة الحال، ولذلك لما رأى أبو بكر النبيّ صلى الله عليه وسلم يتبسّم عند مقالتها لم يزجرها، وتبسّمه صلى الله عليه وسلم كان تعجّبًا منها، إما لتصريحها بما يستحيي النساء من التصريح به غالبًا، وإما لضعف عقل النساء؛ لكون الحامل لها على ذلك شدّة بغضها في الزوج الثاني، ومحبّتها في الرجوع إلى الزوج الأول، ويستفاد منه جواز وقوع ذلك. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"الإصابة في تمييز الصحابة" 2/ 236 - 237.
(2)
"الفتح" 12/ 199 - 200.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 3526 و 3527 و 3528 و 3529 و 3530 و 3531 و 3532](1433)، و (البخاريّ) في "الشهادات"(2639) و"الطلاق"(5260 و 5265 و 5317) و"اللباس"(5792 و 5825) و"الأدب"(6084)، و (أبو داود) في "الطلاق"(2309)، و (الترمذيّ) في "النكاح"(1118)، و (النسائيّ) في "النكاح"(6/ 93 و 146 و 148) و"الكبرى"(3/ 352 - 353)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1932)، و (مالك) في "الموطّأ"(1127)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 235 و 294)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(6/ 347)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 541)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 111)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 34 و 37 و 226)، و (الدارميّ) في "سننه"(2267 و 2268)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 210 و 212)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 91 و 92 و 93 و 155 و 156)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 145)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 333 و 373 و 374) و"المعرفة"(5/ 468 و 514 و 515)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما تحلّ به المطلّقة ثلاثًا من النكاح، وذلك أنه لا بدّ من جماع الزوج الثاني لها.
2 -
(ومنها): أنه يدلّ على أن وطء الزوج الثاني لا يكون محلِّلًا ارتجاع الزوج للمرأة إلا إن كان حال وطئه منتشرًا ذَكَرُه، فلو كان أشلّ، أو كان هو عِنِّينًا، أو طفلًا لم يكف على أصحّ قولي العلماء، وهو الأصحّ عند الشافعيّة أيضًا، قاله في "الفتح"
(1)
.
3 -
(ومنها): أن الجمهور استدلّوا به على أن تغييب الحشفة في قُبُلها كافٍ في ذلك، من غير إنزال المنيّ، وشذّ الحسن البصريّ، فَشَرَطَ الإنزال،
(1)
"الفتح" 12/ 198 - 199.
وجعله حقيقة العسيلة، قال الجمهور: بدخول الذَّكَر تحصل اللذّة، والعسيلة
(1)
.
4 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: إنه يستفاد من الحديث على قول الجمهور أن الحكم يتعلّق بأقلّ ما ينطلق عليه الاسم، خلافًا لمن قال: لا بدّ من حصول جميعه، وفي قوله:"حتى تذوقي عسيلته إلخ" إشعارٌ بإمكان ذلك، لكن قولها:"ليس معه إلا مثلُ هذه الهدبة" ظاهرٌ في تعذّر الجماع المشترَط.
فأجاب الكرمانيّ بأن مرادها بالهدبة التشبيه بها في الدقّة والرقّة، لا في الرخاوة، وعدم الحركة.
قال الحافظ: واستُبعِد ما قال، وسياق الخبر يُعطي بأنها شكت منه عدم الانتشار، ولا يمنع من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"حتى تذوقي"؛ لأنه علّقه على الإمكان، وهو جائز الوقوع، فكأنه قال: اصبري حتى يتأتّى منه ذلك، وإن تفارقا، فلا بدّ لها عند إرادة الرجوع إلى رفاعة من زوج آخر، يحصل لها منه ذلك.
5 -
(ومنها): أنه استُدلّ بإطلاق وجود الذوق منهما على اشتراط علم الزوجين به، حتى لو وطئها نائمةً، أو مغمًى عليها لم يكف، ولو أنزل هو، وبالغ ابن المنذر، فنقله عن جميع الفقهاء.
وتُعُقّب بأن فيه خلافًا.
وقال القرطبيّ: فيه حجةٌ لأحد القولين في أنه لو وطئها نائمةً، أو مُغمًى عليها لم تحل لمطلّقها؛ لأنها لم تذق العسيلة؛ إذ لم تُدركها، وجزم ابن القاسم بأن وطء المجنون يُحلِّل، وخالفه أشهب، قاله في "الفتح"
(2)
.
6 -
(ومنها): ما قاله ابن عبد البرّ رحمه الله: في قوله: "تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ " دليلٌ على أن إرادة المرأة الرجوع إلى زوجها لا يضرّ العاقد عليها، وأنها ليست بذلك في معنى التحليل المستحقّ صاحبه اللعن.
7 -
(ومنها): أنه استُدلّ به على جواز رجوعها لزوجها الأول إذا حصل الجماع من الثاني، لكن شَرَطَ المالكيّة، ونُقل عن عثمان، وزيد بن ثابت أن لا يكون في ذلك مخادعةٌ من الزوج الثاني، ولا إرادة تحليلها للأول، وقال
(1)
"شرح النوويّ" 10/ 3.
(2)
"الفتح" 12/ 202.
الأكثر: إن شُرط ذلك في العقد فسد، وإلا فلا
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في اشتراط وطء الزوج الثاني للمطلّقة ثلاثًا:
ذهب الجمهور من الصحابة، والتابعين، فمن بعدهم إلى أن المطلّقة ثلاثًا لا تحلّ لمطلّقها حتى تنكح زوجًا غيره، ويطأها، ثم يفارقها، وتنقضي عدّتها، فأما مجرّد عقده عليها، فلا يُبيحها للأول.
وخالف في ذلك سعيد بن المسيّب، فقال: إذا عقد الثاني عليها، ثم فارقها، حلّت للأوّل، ولا يُشترط وطء الثاني؛ لقول الله تعالى:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} الآية [البقرة: 230]، والنكاح حقيقة في العقد على الصحيح.
وأجاب الجمهور بأن هذا الحديث مخصّص لعموم الآية، ومبيّنٌ للمراد بها، قال النوويّ: قال العلماء: ولعلّ سعيدًا لم يبلغه هذا الحديث، قال القاضي عياض: لم يقل أحد بقول سعيد في هذا إلا طائفةٌ من الخوارج.
وقال في "الفتح": قال جمهور العلماء: ذوق العُسيلة كناية عن المجامعة، وهو تغييب حشفة الرجل في فرج المرأة، وزاد الحسن البصريّ: حصول الإنزال، وهذا الشرط انفرد به عن الجماعة، قاله ابن المنذر، وآخرون، وقال ابن بطّال: شذّ الحسن في هذا، وخالفه سائر الفقهاء، وقالوا: يكفي من ذلك ما يوجب الحدّ، ويحصّن الشخص، ويوجب كمال الصداق، ويُفسد الحجّ والصوم، وهو في التشديد يقابل قول سعيد بن المسيّب في الرخصة.
ويردّ قول الحسن أن الإنزال لو كان شرطًا لكان كافيًا، وليس كذلك؛ لأن كلًّا منهما إذا كان بعيد العهد بالجماع مثلًا أنزل قبل تمام الإيلاج، وإذا أنزل كلّ منهما قبل تمام الإيلاج لم يذق عسيلة صاحبه، لا إن فُسّرت العسيلة بالإمناء، ولا بلذّة الجماع.
قال ابن المنذر: أجمع العلماء على اشتراط الجماع لتحلّ للأوّل، إلا
(1)
"الفتح" 12/ 202.
سعيد بن المسيّب، ثم ساق بسنده الصحيح عنه، قال: يقول الناس: لا تحلّ للأول حتى يُجامعها الثاني، وأنا أقول: إذا تزوّجها تزويجًا صحيحًا، لا يريد بذلك إحلالها للأول، فلا بأس أن يتزوّجها الأول، وهكذا أخرجه ابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور، وفيه تعقّب على من استبعد صحته عن سعيد، قال ابن المنذر: وهذا القول لا نعلم أحدًا وافقه عليه إلا طائفة من الخوارج، ولعلّه لم يبلغه الحديث، فأخذ بظاهر القرآن.
قال الحافظ: سياق كلامه يُشعر بذلك.
وفيه دلالة على ضعف الخبر الوارد في ذلك، وهو ما أخرجه النسائيّ (3415) من رواية شعبة، عن علقمة بن مرثد، عن سالم بن رزين، عن سالم بن عبد الله، عن سعيد بن المسيّب، عن ابن عمر، رفعه في الرجل تكون له المرأة، فيُطلّقها، ثم يتزوّجها آخر، فيُطلّقها قبل أن يدخل بها، فترجع إلى الأول، فقال:"لا، حتى تذوق العسيلة"، وقد أخرجه النسائيّ أيضًا (3416) من رواية سفيان الثوريّ، عن علقمة بن مرثد، فقال: عن رزين بن سليمان الأحمريّ، عن ابن عمر نحوه، قال النسائيّ: هذا أولى بالصواب، وإنما قال ذلك؛ لأن الثوريّ أتقن، وأحفظ من شعبة، وروايته أولى بالصواب من وجهين:
[أحدهما]: أن شيخ علقمة شيخهما هو رزين بن سليمان، كما قال الثوريّ، لا سالم بن رزين، كما قال شعبة، فقد رواه جماعة عن علقمة كذلك، منهم: غيلان بن جامع، أحد الثقات.
[ثانيهما]: أن الحديث لو كان عند سعيد بن المسيّب، عن ابن عمر، مرفوعًا ما نسبه إلى مقالة الناس الذين خالفهم.
ويؤخذ من كلام ابن المنذر أن نقل أبي جعفر النحّاس في "معاني القرآن"، وتبعه عبد الوهّاب المالكيّ في "شرح الرسالة" القول بذلك عن سعيد بن جبير وَهَمٌ، وأعجب منه أن أبا حبان
(1)
جزم به عن السعيدين: سعيد بن المسيّب، وسعيد بن جبير، ولا يُعرف له سندٌ عن سعيد بن جبير في
(1)
هكذا نسخة "الفتح": "حبان" بالباء الموحّدة، فليُحرّر.
شيء من المصنّفات، وكفى قول ابن المنذر حجةً في ذلك، وحكى ابن الجوزيّ عن داود أنه وافق سعيد بن المسيّب. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما ذُكر أن جمهور العلماء على أن المطلّقة ثلاثًا لا تحلّ لزوجها الأول إلا بعد نكاح صحيح، ويُجامعها الزوج الثاني، وإن لم يُنزل، ثم يطلّقها، فتنقضي عدّتها، وهذا هو الحقّ الموافق لظاهر حديث عائشة رضي الله عنها المذكور في الباب، فما نُقل عن سعيد بن المسيّب من الاكتفاء بالعقد المجرّد عن الجماع، وكذا عن الحسن البصريّ من اشتراط الإنزال، فمما لا يُلتفت إليه؛ لمخالفته ما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): اتفقوا على أنه إذا كان الجماع في نكاح فاسد لم يحلّل، وشذّ الْحَكَمُ، فقال: يكفي، وأن من تزوّج أمة، ثم بتّ طلاقها، ثم مَلَكها لم يحلّ له أن يطأها حتى تتزوّج غيره، وقال ابن عبّاس، وبعض أصحابه، والحسن البصريّ: تحلّ له بمِلك اليمين.
واختلفوا فيما إذا وطئها حائضًا، أو بعد أن طهرت قبل أن تطهّر، أو أحدهما صائم، أو محرم.
وقال ابن حزم: أخذ الحنفيّة بالشرط الذي في هذا الحديث عن عائشة، وهو زائد على ظاهر القرآن، ولم يأخذوا بحديثها في اشتراط خمس رضعات؛ لأنه زائد على ما في القرآن، فليزمهم الأخذ به، أو ترك حديث الباب.
وأجابوا بأن النكاح عندهم حقيقة في الوطء، فالحديث موافق لظاهر القرآن.
ونقل ابن العربيّ عن بعضهم أنه أورد على حديث الباب ما ملخصّه: أنه يلزم من القول به إما الزيادة بخبر الواحد على ما في القرآن، فيستلزم نسخ القرآن بالسنّة التي لم تتواتر، أو حمل اللفظ الواحد على معنيين مختلفين مع ما فيه من الإلباس.
والجواب عن الأول: أن الشرط إذا كان من مقتضيات اللفظ لم تكن إضافته نسخًا، ولا زيادة، وعن الثاني: أن النكاح في الآية أضيف إليها، وهي
لا تتولى العقد بمجرّدها، فتعيّن أن المراد به في حقّها الوطء، ومن شرطه اتفاقًا أن يكون وطأً مباحًا، فيحتاج إلى سبق العقد.
ويمكن أن يقال: لما كان اللفظ محتملًا للمعنيين بيّنت السنّة أنه لا بدّ من حصولهما، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): أنه استُدلّ بحديث الباب على أن المرأة لا حقّ لها في الجماع؛ لأن هذه المرأة شكت زوجها أنه لا يطؤها، وأن ذَكَره لا ينتشر، وأنه ليس معه ما يغني عنها، ولم يفسخ النبيّ صلى الله عليه وسلم نكاحها بذلك، ومن ثمّ قال إبراهيم بن إسماعيل بن عليّة، وداود بن عليّ: لا يفسخ بالْعُنّة، ولا يُضرب لِلْعِنِّين أجل.
وقال ابن المنذر: اختلفوا في المرأة تطالب الرجل بالجماع، فقال الأكثر: إن وطئها بعد أن دخل بها مرّة واحدةً لم يؤجّل أجل العنّين، وهو قول الأوزاعيّ، والثوريّ، وأبي حنيفة، ومالك، والشافعيّ، وإسحاق، وقال أبو ثور: إن ترك جماعها لعلّة أُجّل سنة، وإن كان لغير علّة فلا تأجيل.
وقال القاضي عياض: اتفق كافّة العلماء على أن للمرأة حقًّا في الجماع، فيثبت لها الخيار إذا تزوّجت المجبوب، والممسوح، جاهلةً بهما، ويُضرَب للعنّين أجلٌ سنة؛ لاحتمال زوال ما به.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي نقله عياض رحمه الله عن كافّة العلماء من أن للمرأة حقًّا في الجماع هو الحقّ؛ لأن الله تعالى أوجب على الزوج المعاشرة بالمعروف، وهو من المعروف، وقال تعالى:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]، وقد عُلِم الحقّ للرجل على امرأته أن يُجامعها، فكذلك لها ذلك، والله تعالى أعلم.
قال في "الفتح": وأما استدلال داود ومن يقول بقوله بقصّة امرأة رفاعة، فلا حجة فيها؛ لأن في بعض طرقه أن الزوج الثاني كان أيضًا طلّقها، كما وقع عند مسلم صريحًا من طريق القاسم، عن عائشة رضي الله عنها، قالت:"طلّق رجلٌ امرأته ثلاثًا، فتزوّجها رجلٌ آخر، فطلّقها قبل أن يدخل بها، فأراد زوجها الأول أن يتزوّجها، فسُئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: لا. . ." الحديث، وأصله عند البخاريّ في أوائل "الطلاق"، ووقع في حديث الزهريّ، عن عروة عند
البخاريّ في "اللباس" في آخر الحديث بعد قوله: "حتى تذوقي عُسيلته، ويذوق عُسيلتك"، قال: ففارقته بعد، زاد ابن جريج عن الزهريّ في هذا الحديث:"أنها جاءت بعد ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: إنه - يعني زوجها الثاني - مسّها، فمنعها أن ترجع إلى زوجها الأول"، وصرّح مقاتل بن حيّان في تفسيره، مرسلًا:"قالت: يا رسول الله إنه كان مسّني، فقال: كذبت بقولك الأول، فلن أُصدّقك في الآخر، وأنها أتت أبا بكر، ثم عمر، فمنعاها".
وكذا وقعت هذه الزيادة الأخيرة في رواية ابن جريج المذكورة، أخرجها عبد الرزاق، عنه.
ووقع عند مالك في "الموطّإ" عن الْمِسْوَر بن رفاعة، عن الزَّبِير بن عبد الرحمن بن الزَّبير، زاد خارج "الموطّإ" فيما رواه ابن وهب عنه، وتابعه إبراهيم بن طهمان، عن مالك عند الدارقطنيّ في "الغرائب"، عن أبيه:"أن رفاعة طلّق امرأته تميمة بنت وهب ثلاثًا، فنكحها عبد الرحمن، فاعتُرِضَ عنها، فلم يستطع أن يمسّها، ففارقها، فأراد رفاعة أن يتزوّجها. . ." الحديث.
ووقع عند مسلم من طريق هشام، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن المرأة يتزوّجها الرجل، فيُطلّقها، فتتزوّج رجلًا، فيُطلّقها قبل أن يدخل بها، أتحلّ لزوجها الأول؟ قال:"لا، حتى يذوق عسيلتها".
وأخرج الطبريّ، وابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه نحوه، والطبريّ أيضًا، والبيهقيّ من حديث أنس رضي الله عنه كذلك، وكذا وقع في رواية حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة:"أن عمرو بن حزم طلّق الْغُميصاء، فنكحها رجلٌ، فطلّقها قبل أن يمسّها، فسألت النبيّ صلى الله عليه وسلم؟، فقال: لا، حتى يذوق الآخر عسيلتها، وتذوق عسيلته"، وأخرجه الطبرانيّ، ورواته ثقات.
قال الحافظ: فإن كان حماد بن سلمة حفظه، فهو حديث آخر لعائشة في قصّة أخرى، غير قصّة امرأة رفاعة، وله شاهد من حديث عُبيد الله - بالتصغير - ابن عباس، عند النسائيّ، كما سيأتي في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): أنه قد وقع لغير امرأة رفاعة قريبٌ مما وقع لها، فقد أخرج النسائيّ (3414) من طريق سليمان بن يسار، عن عُبَيد الله بن عباس - أي ابن عبد المطّلب -:"أن الْغُميصاء، أو الرميصاء، أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم تشكو من زوجها أنه لا يَصِلُ إليها، فلم يلبث أن جاء، فقال: إنها كاذبةٌ، ولكنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول، فقال: ليس ذلك لها حتى تذوق عسيلته"، ورجاله ثقات، لكن اختُلِف فيه على سليمان بن يسار.
قال الحافظ: ووقع عند شيخنا - يعني الحافظ العراقيّ - في "شرح الترمذيّ": "عبد الله بن عباس"، مكبّرًا، وتعقّب على ابن عساكر، والْمِزّيّ أنهما لم يذكرا هذا الحديث في "الأطراف"، ولا تعقّب عليهما، فإنهما ذكراه في مسند عبيد الله - بالتصغير - وهو الصواب.
وقد اختُلف في سماعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، إلا أنه وُلد في عصره، فذُكر لذلك في الصحابة.
واسم زوج الغميصاء هذه عمرو بن حزم، أخرجه الطبرانيّ، وأبو مسلم الكجيّ، وأبو نُعيم في الصحابة من طريق حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن عمرو بن حزم طلّق الغميصاء، فتزوّجها رجلٌ قبل أن يمسّها
(1)
، فأرادت أن ترجع إلى زوجها الأول. . . الحديث. قال الحافظ: ولم أعرف اسم زوجها الثاني.
ووقعت لامرأة ثالثة قصّة أخرى أيضًا مع رفاعة رجلٍ آخر غير الأول، والزوج الثاني عبد الرحمن بن الزَّبِير أيضًا، أخرجه مقاتل بن حيّان في "تفسيره"، ومن طريقه ابن شاهين في "الصحابة"، ثم أبو موسى في قوله تعالى:{فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} قال: "نزلت في عائشة بنت عبد الرحمن بن عقيل النضريّة، كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك، وهو ابن عمها، فطلّقها بائنًا، فتزوّجت بعده عبد الرحمن بن الزَّبِير، ثم طلّقها، فأتت
(1)
كذا نسخة: "الفتح"، والظاهر أن فيه سقطًا، والأصل:"فتزوّجها رجلٌ، فطلّقها قبل أن يمسّها"، فليُحرّر.
النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: إنه طلّقني قبل أن يمسّني، أفأرجع إلى ابن عمّي، زوجي الأول؟ قال: لا" الحديث.
قال الحافظ: وهذا الحديث إن كان محفوظًا، فالواضح من سياقه أنها قصّة أخرى، وأنّ كلًّا من رفاعة القُرظيّ، ورفاعة النضريّ وقع له مع زوجة له طلاقٌ، فتزوّج كلًّا منهما عبدُ الرحمن بن الزَّبِير، فطلّقها قبل أن يمسّها، فالحكم في قصّتهما متّحدٌ مع تغاير الأشخاص.
وبهذا يتبيّن خطأ من وحّد بينهما، ظنًّا منه أن رفاعة بن سَمَوْأَل هو رفاعة بن وهب، فقال: اختُلف في امرأة رفاعة على خمسة أقوال، فذكر الاختلاف في النطق بتميمة، وضمّ إليها عائشة، والتحقيق ما تقدّم.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: جزمه في تخطئة من وحّد بينهما فيه نظر لا يخفى؛ إذ هو مُحْتَمِلٌ، كما أبداه هو بعد ورقتين، حيث قال ما نصّه: وقد قدّمتُ أنه وقع لكل من رفاعة بن سموأل، ورفاعة بن وهب أنه طلّق امرأته، وأن كلًّا منهما تزوّجها عبد الرحمن بن الزَّبير، وأن كلًّا منهما شَكَتْ أنه ليس معه إلا مثلُ الهدبة، فلعلّ إحدى المرأتين شكته قبل أن يفارقها، والأخرى بعد أن يفارقها.
ويَحْتمل أن تكون القصّة واحدةً، ووقع الوهم من بعض الرواة في التسمية، أو في النسبة، وتكون المرأة شَكَت مرّتين من قبل المفارقة، ومن بعدها، والله أعلم انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الاحتمال الأخير عندي هو الأقرب، والله تعالى أعلم.
ووقع أيضًا لأبي رُكانة قصّة أخرى، فقد أخرج أبو داود، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: طلّق عبد يزيد، أبو رُكانة أم رُكانة، ونكح امرأة من مُزينة، فجاءت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما يُغني عنّي إلا كما تُغني هذه الشعرة - لشعرة أخذتها من رأسها - ففرِّق بيني وبينه، قال: فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعبد يزيد: "طلّقها، وراجع أمّ ركانة، ففعل"، وهو حديث ضعيف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3527]
(. . .) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، وَاللَّفْظُ لِحَرْمَلَةَ، قَالَ أَبُو الطَّاهِرِ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ حَرْمَلَةُ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيَّ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، فَبَتَّ طَلَاقَهَا، فَتَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ، فَجَاءَت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
(1)
، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ رِفَاعَةَ، فَطَلَّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ، فَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ، وَإِنَّهُ وَاللهِ مَا مَعَهُ إِلَّا مِثْلُ الْهُدْبَةِ، وَأَخَذَتْ بِهُدْبَةٍ مِنْ جِلْبَابِهَا، قَالَ: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَاحِكًا، فَقَالَ:"لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟ لَا، حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ، وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ"، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ جَالِسٌ بِبَابِ الْحُجْرَةِ، لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، قَالَ: فَطَفِقَ خَالِدٌ يُنَادِي أَبَا بَكْرٍ: أَلَا تَزْجُرُ هَذِهِ عَمَّا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن السَّرْح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
2 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، أبو يزيد الأمويّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي.
وقولها: (إِنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ رِفَاعَةَ) فيه التفات من التكلّم إلى الغيبة، وقولها:"فتزوجت" رجوع إلى التكلّم.
وقولها: (مِنْ جِلْبَابِهَا) واحد الجلابيب، وهو كساء تستتر المرأة به إذا خرجت من بيتها.
(1)
وفي نسخة: "فجاءت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم".
وقولها: (فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. . . إلخ) ظاهر هذه الرواية أن هذا من قول عروة، فيكون مرسلًا، لكن الظاهر من سياق الروايات أنه أخذ عن عائشة رضي الله عنها، فيكون هو حاكيًا عنها، والله تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليلٌ على أن مثل هذا إذا صدر من مدّعية لا يُنكر عليها، ولا توبّخ بسببه، فإنه في معرض المطالبة بالحقوق، ويدلّ على صحّته أن أبا بكر رضي الله عنه لم يُنكره، وإن كان خالد قد حرّكه للإنكار، وحضّه عليه. انتهى
(1)
.
وقوله: (عَمَّا تَجْهَرُ بِهِ) أي ترفع صوتها، وفي غير كتاب مسلم:"تُهْجِر به"، من الْهُجْر، وهو الْفُحْش من القول
(2)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3528]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَن الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيَّ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزَّبِيرِ، فَجَاءَت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ، بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، والباب الماضي.
[تنبيه]: رواية معمر، عن الزهريّ هذه ساقها إسحاق بن راهويه في "مسنده" (2/ 210) فقال:
(716)
- أخبرنا عبد الرزاق، نا معمرٌ، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة، قالت: جاءت امرأة رفاعة الْقُرَظيّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن
(1)
"المفهم" 4/ 235.
(2)
"المفهم" 4/ 235.
رفاعة طلقها آخر ثلاث تطليقات، قالت: فتزوجت بعده عبدَ الرحمن بن الزَّبِير، وما معه إلا مثل هذه الْهُدْبة، وإنه طلّقني، فأبتّ طلاقي، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لها:"أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟، لا، حتى تذوقي عُسيلته، ويذوق عُسيلتك"، قالت: وأبو بكر جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخالد بن سعيد بن العاص جالس بباب الْحُجْرة، لم يؤذن له، فَفَطِنَ، فنادى أبا بكر، فقال: يا أبا بكر ألا تزجر هذه عما تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3529]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَن الْمَرْأَةِ يَتَزَوَّجُهَا الرَّجُلُ، فَيُطَلِّقُهَا، فَتَتَزَوَّجُ رَجُلًا، فَيُطَلِّقُهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، أَتَحِلُّ لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ؟ قَالَ: "لَا، حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا").
رجال هذا الإسناد:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ) أبو كُريب، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(هِشَامُ) بن عروة، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقيان ذُكرا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وهو مختصر من قصّة امرأة رفاعة القرظيّ الماضي، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديثين، ويَحْتَمل أن تكون قصّة أخرى، كما أشار إليه في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
راجع: "الفتح" 12/ 40.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3530]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، جَمِيعًا عَنْ هِشَامٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(ابْنُ فُضَيْلٍ) هو: محمد بن فُضيل بن غَزْوان الضبّيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ رُمي بالتشيّع [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.
2 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: رواية محمد بن فُضيل، عن هشام هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى" (7/ 374) فقال:
(14970)
- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو الوليد الفقيه، أنا الحسن بن سفيان، نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا ابن فُضيل، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن الرجل يتزوج المرأة، فيطلّقها ثلاثًا، فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحل للأول حتى يذوق الآخر عُسيلتها، وتذوق عُسيلته". انتهى.
وأما رواية أبي معاوية، عن هشام، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(5265)
- حدّثنا محمد
(1)
، حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: طَلَّق رجلٌ أمرأته، فتزوجت زوجًا غيره، فطَلّقها، وكانت معه مثل الْهُدْبة، فلم تَصِل منه إلى شيء تريده، فلم يلبث أن طلّقها، فاتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن زوجي طلقني، وإني تزوجت زوجًا غيره، فدخل بي، ولم يكن معه إلا مثل الهدبة، فلم يَقْرَبني إلا هَنَةً واحدةً
(2)
،
(1)
هو محمد بن سلام، كما قاله في "عمدة القاري" 20/ 241.
(2)
أي لم يطأني إلا مرّةً واحدةً.
لم يصل مني إلى شيء، فَأَحِلُّ لزوجي الأول؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تحلِّين لزوجك الأول، حتى يذوق الآخر عُسيلتك، وتذوقي عسيلته". انتهى.
وأما رواية محمد بن فُضيل، عن هشام، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3531]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَأَرَادَ زَوْجُهَا الْأَوَّلُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَسُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: "لَا، حَتَّى يَذُوقَ الْآخِرُ مِنْ عُسَيْلَتِهَا مَا ذَاقَ الْأَوَّلُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ، قاضي الموصِلِ، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
2 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) الْعُمريّ المدنيّ، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن أبي بكر الصدّيق التيميّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ فاضلٌ، من كبار [3](ت 106)(ع) تقدم في "الحيض" 3/ 695.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ) هو رفاعة القرظيّ، ويَحْتَمِل أن تكون هذه قصّة أخرى، كما أشار إليه في "الفتح"
(1)
.
وقوله: (ثَلَاثًا) أي آخر تطليقات ثلاث، كما تقدّم بيانه.
وقوله: (فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ) هو عبد الرحمن بن الزَّبِير، ويَحْتَمِل أن يكون غيره، كما أشرت إليه آنفًا.
والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"الفتح" 12/ 40.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3532]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَاه مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، يَعْنِي ابْنَ سَعِيدٍ، جَمِيعًا عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ، وَفِي حَدِيثِ يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، عَنْ عَائِشَةَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب، وفي الباب الماضي.
[تنبيه]: رواية يحيى بن سعيد القطّان، عن عبيد الله، ساقها البخاريّ في "صحيحه"، فقال:
(5261)
- حدّثني محمد بن بشار، حدّثنا يحيى، عن عبيد الله، قال: حدّثني القاسم بن محمد، عن عائشة، أن رجلًا طلق امرأته ثلاثًا، فتزوجت، فطَلَّق، فسئل النبيّ صلى الله عليه وسلم أَتَحِلُّ للأول؟ قال:"لا، حتى يذوق عسيلتها، كما ذاق الأول". انتهى.
وأما رواية عبد الله بن نُمير، عن عبيد الله، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(19) - (بَابُ مَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَهُ عِنْدَ الْجِمَاعِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3533]
(1434) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى، قَالَا: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ
(1)
إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ، قَالَ:
(1)
وفي نسخة: "لو أنّ أحدكم".
بِاسْمِ اللهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّب الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قريبًا.
3 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبّيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
4 -
(مَنْصُورُ) بن المعتمر السَّلَميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 296.
5 -
(سَالِمُ) بن أبي الجعد، واسمه رافع الغَطَفاني الأشجعيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ يرسل كثيرًا [3](ت 7 أو 98) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الحيض" 8/ 728.
6 -
(كُرَيْبُ) بن أبي مسلم الهاشميّ مولى ابن عبّاس، أبو رِشْدين المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 98) تقدم في "الحيض" 2/ 688.
7 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما، تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان، قرن بينهما؛ لاتحاد كيفيّة الأخذ والأداء منه ومنهما.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له أبو داود، وابن ماجه، والثاني ما أخرج له ابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: سالم، عن كريب، وهو من رواية الأقران؛ لأنهما من الطبقة الثالثة، وقال في "الفتح": وفي الإسناد ثلاثة من التابعين في نسق واحد، أولهم منصور. انتهى، وقد تقدّم أنه لم يثبت له لقاء أحد من الصحابة، وإن كان في عصرهم، فليس تابعيًّا على الراجح، ولذا جعلته من الطبقة السادسة، فتنبّه.
4 -
(ومنها): أن فيه ابن عبّاس رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والمشهورين بالفتوى.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ) وفي بعض النسخ: "لو أن أحدكم"(إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِىَ أَهْلَهُ) أي إن أراد أن يجامعها، فالإتيان كناية عن الجماع، قيل: وهذه الرواية مفسّرة للرواية الأخرى بلفظ: "لو أن أحدهم إذا أتى أهله"، وفي رواية للبخاري:"أما لو أن أحدهم يقول حين يأتي أهله"، وعند الإسماعيليّ:"أما إن أحدكم لو يقول حين يجامع أهله"، قال في "الفتح": وهو ظاهر في أن القول يكون مع الفعل، لكن يمكن حمله على المجاز، وعنده في رواية رَوْح بن القاسم، عن منصور:"لو أن أحدهم إذا جامع امرأته ذكر الله".
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: لكن يمكن حمله على المجاز: أراد به تأويل قوله: "حين يُجامع أهله" بأن المراد إرادة مجامعة أهله، بدليل رواية المصنّف هذه بلفظ:"إذا أرد أن يأتي أهله"، لكن الذي يظهر أنه لا داعي لهذا الحمل، فما المانع من أن يقوله قبل الشروع، وبعد الشروع؟، فتأمل، والله تعالى أعلم.
وقوله: (أَهْلَهُ) المراد زوجته، وفي "العباب": الأهل أهل الرجل، وأهل الدار، وكذلك الأهلة، والجمع الأَهْلات، وأَهَلاتٌ
(1)
، وأهلون، وكذلك الأهالي، زادوا فيه الياء، على غير قياس، كما جمعوا ليلًا على ليالي، وقد جاء في الشعر آهَالٍ، مثالُ فَرْخ وأَفْراخ، وزَنْد وأَزْناد. انتهى
(2)
.
(قَالَ: بِاسْمِ اللهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا) من جَنَّب الشيءَ يُجَنِّب تجنيبًا: إذا أبعده منه، ومنه الجنب؛ لأنه بعيد عن ذكر الله تعالى، وأجنب تباعد، وأجنبته الشيءَ مثل جَنّبته، وقرأ في الشواذّ:(وَأَجْنِبْني وبَنِيَّ) بقطع الهمزة، وقال الزمخشريّ: فيه ثلاث لغات: جَنَبْتُه الشرّ - أي ثلاثيًّا، من باب قَعَد - وجَنَّبه - أي بالتشديد - وأجنبه، وقال في "اللسان": يقال: جَنَبْتُهُ الشّرّ، وأجنبته، وجَنّبته، بمعنى واحد
(3)
، قاله الفرّاء، والزجّاج. انتهى
(4)
.
(1)
أي بفتح الهمزة، والهاء، كما في "القاموس".
(2)
"عمدة القاري" 2/ 267.
(3)
أي نحّيته عنه، وأبعدته.
(4)
"لسان العرب" 1/ 278.
وفي رواية للبخاريّ: "اللهمّ جنّبني" بالإفراد (الشَّيْطَانَ) وزنه فَيْعالٌ، إذا كان من شَطَنَ، وفَعْلانُ، إذا كان من شاط، وقال الزمخشريّ: وقد جعل سيبويه نون الشيطان في موضع من كتابه أصلية، وفي آخر زائدة، والدليل على أصالتها قولهم: تشيطن، واشتقاقه من شَطَن: إذا بَعُد؛ لبعده من الصلاح والخير، أو من شاط: إذا بطل، إذا جُعِلت نونه زائدة
(1)
.
(وَجَنِّب الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا) أي من الولد، وفي حديث أبي أمامة عند الطبرانيّ:"جنّبني، وجنّب ما رزقتني من الشيطان الرجيم"(فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ) وفي رواية للبخاريّ: "ثم قُدِّر بينهما ولدٌ، أو قُضِي ولد"، قال في "الفتح": كذا بالشكّ، وفي رواية سفيان بن عيينة، عن منصور:"فإن قَضَى الله بينهما ولدًا"، ومثله في رواية إسرائيل، وفي رواية شعبة:"فإن كان بينهما ولدٌ"، وفي رواية همام:"فَرُزقا ولدًا". انتهى
(2)
.
وقوله: (فِي ذَلِكَ) أي ذلك الإتيان، يعني أن امرأته حَمَلت من ذلك الجماع الذي قال فيه هذا الذكر (لَمْ يَضُرَّهُ) قال في "العمدة": يجوز ضم الراء، وفتحها، ويقال: الضم أفصح، قال: يجوز في مثل هذه المادة ثلاثة أوجه: الضم؛ لأجل ضمّه ما قبلها، والفتح؛ لأنه أخف الحركات، وفكّ الإدغام، كما عُلِم في موضعه، فافهم. انتهى
(3)
.
(شَيْطَانٌ أَبَدًا") قال في "العمدة": أي لم يضر الشيطان الولد، يعني لا يكون له عليه سلطان ببركة اسمه، بل يكون من جملة العباد المحفوظين المذكورين في قوله تعالى:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الإسراء: 65]، ويقال: يَحْتَمِل أن يؤخذ قوله: "لم يضره" عامًّا، فيدخل تحته الضرر الدينيّ، ويَحْتَمِل أن يؤخذ خاصًّا بالنسبة إلى الضرر البدنيّ، بمعنى أن الشيطان لا يتخبطه، ولا يداخله بما يضر عقله وبدنه، وهو الأقرب، وإن كان التخصيص خلاف الأصل؛ لأنا إذا حملناه على العموم اقتضى أن يكون الولد معصومًا عن المعاصي، وقد لا يتفق ذلك، ولا بُدّ من وقوع ما أخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم، أما إذا
(1)
راجع: "عمدة القاري" 2/ 267.
(2)
"الفتح" 11/ 516.
(3)
"عمدة القاري" 2/ 267.
حَمَلناه على الضرر في العقل والبدن، فلا يمتنع، وقال القاضي عياض: قيل: المراد أنه لا يصرعه الشيطان، وقيل: لا يطعن فيه عند ولادته، بخلاف غيره، قال: ولم نَحْمِله على العموم في جميع الضرر؛ لوجود الوسوسة، والإغراء، يعني الحمل على فعل المعاصي، وقال الداوديّ:"لم يضره" بأن يفتنه بالكفر. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "لم يضرّه شيطان" كذا بالتنكير، وفي رواية شعبة عند مسلم وأحمد:"لم يُسَلَّط عليه الشيطان، أو لم يضره الشيطان"، وكذا هو عند البخاريّ في "بدء الخلق" بلفظ:"الشيطان"، واللام للعهد المذكور في لفظ الدعاء، ولأحمد عن عبد العزيز العَمِّيّ، عن منصور:"لم يضرّ ذلك الولد الشيطان أبدًا"، وفي مرسل الحسن، عن عبد الرزاق:"إذا أتى الرجل أهله، فليقل: بسم الله، اللهم بارك لنا فيما رزقتنا، ولا تجعل للشيطان نصيبًا فيما رزقتنا، فكان يُرْجَى إن حملت أن يكون ولدًا صالِحًا".
واختُلِف في الضرر المنفيّ بعد الاتفاق على ما نَقَلَ عياض على عدم الحمل على العموم في أنواع الضرر، وإن كان ظاهرًا في الحمل على عموم الأحوال، من صيغة النفي، مع التأبيد، وكان سبب ذلك ما أخرجه البخاريّ في "بدء الخلق":"أن كل بني آدم يطعُن الشيطان في بطنه حين يولد إلا من استثني"
(2)
، فإن في هذا الطعن نوع ضرر في الجملة، مع أن ذلك سبب صراخه.
ثم اختلفوا، فقيل: المعنى لم يُسَلَّط عليه، من أجل بركة التسمية، بل يكون من جملة العباد الذين قيل فيهم:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} ،
(1)
"عمدة القاري" 2/ 269.
(2)
هو ما أخرجه البخاريّ في "بدء الخلق" من "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "كلُّ بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعه، حين يولد، غير عيسى ابن مريم، ذهب يطعن، فطعن في الحجاب".
وأخرجه مسلم في "الفضائل" بلفظ: "ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان، فيستهلّ صارخًا من نخسة الشيطان، إلا ابن مريم، وأمّه".
ويؤيده مرسل الحسن المذكور، وقيل: المراد لم يطعُن في بطنه، وهو بعيدٌ، لمنابذته ظاهر الحديث المتقدم، وليس تخصيصه بأولى من تخصيص هذا، وقيل: المراد لم يَصْرَعه، وقيل: لم يضرّه في بدنه.
وقال ابن دقيق العيد: يَحْتَمِل أن لا يضرّه في دينه أيضًا، ولكن يُبعده انتفاء العصمة.
وتُعُقِّب بأن اختصاص مَن خُصّ بالعصمة بطريق الوجوب، لا بطريق الجواز، فلا مانع أن يوجد من لا يصدر منه معصية عمدًا، وإن لم يكن ذلك واجبًا له.
وقال الداوديّ: معنى "لم يضرّه" أي لم يَفْتنه عن دينه إلى الكفر، وليس المراد عصمته منه عن المعصية، وقيل: لم يضرّه بمشاركة أبيه في جماع أمه، كما جاء عن مجاهد أن الذي يجامع، ولا يسمي يَلْتَفّ الشيطان على إحليله، فيجامع معه.
ولعل هذا أقرب الأجوبة، ويتأيد الحمل على الأول بأن الكثير ممن يَعرف هذا الفضل العظيم يَذْهَل عنه عند إرادة المواقعة، والقليل الذي قد يستحضره ويفعله، لا يقع معه الحمل، فإذا كان ذلك نادرًا لم يبعد.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن أَوْلى الأجوبة هو الأول، وهو أنه لا يسلّط عليه الشيطان، بل يكون من جملة عباد الله المحفوظين الذين قال تعالى في حقّهم:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 3533 و 3534](1434)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(141)، و "بدء الخلق"(3271 و 3283)، و"النكاح"(5165 و 6388 و 7396)، و (أبو داود) في (2161)، و (الترمذيّ) في (1092)، و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة"(266 و 269)، و (ابن ماجه) في (1619)،
و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(6/ 194)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 239)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 216 و 220 و 243 و 283 و 286)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 82 - 83)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 109)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(7/ 294)، و"الكبير"(8/ 208 و 11/ 422)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 230)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 130)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 149)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب التسمية والدعاء المذكور، والمحافظة على ذلك حتى في حالة الملاذّ، كالوقاع، وقد ترجم عليه الإمام البخاريّ رحمه الله في "كتاب الطهارة".
2 -
(ومنها): أن فيه الاعتصام بذكر الله تعالى، ودعائه من الشيطان، والتبرك باسمه، والاستعاذة به من جميع الأسواء.
3 -
(ومنها): أن فيه الاستشعارَ بأنه تعالى هو الميسِّر لذلك العمل الذي يستعيذ عليه، والمعين عليه.
4 -
(ومنها): أن فيه الحثّ على المحافظة على تسميته تعالى، ودعائه في كل حال لم يَنْهَ الشرع عنه، حتى في حال ملاذّ الإنسان.
وقال ابن بطال رحمه الله: فيه الحثّ على ذكر الله في كل وقت، على طهارة وغيرها، ورَدُّ قول من قال: لا يذكر الله تعالى إلا وهو طاهر، ومَن كَرِه ذِكْرَ الله تعالى على حالتين: على الخلاء، وعلى الوقاع، رُوي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان لا يذكر الله إلا وهو طاهر، ورُوي مثله عن أبي العالية، والحسن، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كَرِه أن يذكر الله تعالى على حالين: على الخلاء، والرجل يواقع أهله، وهو قول عطاء، ومجاهد، وقال مجاهد: يجتنب المَلَك الإنسان عند جماعه، وعند غائطه، قال ابن بطال: وهذا الحديث خلاف قولهم. انتهى
(1)
.
5 -
(ومنها): أنّ فيه إشارةً إلى ملازمة الشيطان لابن آدم من حين خروجه
(1)
راجع: "عمدة القاري" 2/ 269.
من ظهر أبيه إلى رحم أمه، إلى حين موته - أعاذنا الله منه - فهو يجري من ابن آدم مجرى الدم، وعلى خيشومه إذا نام، وعلى قلبه إذا استيقظ، فإذا غَفَل وسوس، وإذا ذَكَر الله خَنَسَ، ويضرب على قافية رأسه إذا نام ثلاث عُقَد:"عليك ليل طويل"، وتَنْحَلُّ بالذِّكر، والوضوء، والصلاة، فينبغي للعبد أن يكون دائم المراقبة له، ومحاربته بذكر الله تعالى، كما قال الله تعالى:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} الآية [فاطر: 6]، وقال {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)} [الإسراء: 62 - 65]، فهو عدوّ لدود، يستطيع إغواء العبد في أيّ وقت أراد، إلا أن الله أقوى وأقدر منه، قد وعد عباده المتوكّلين عليه، والمعتصمين بذكره أن يكفيهم شرّه، فليس له عليهم سلطان، فينبغي للعبد أن يكون دائم التوجّه إلى الله عز وجل، وملازم ذكره، والله تعالى أعلم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3534]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ ابْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، جَمِيعًا عَن الثَّوْرِيِّ، كِلَاهُمَا عَنْ مَنْصُورٍ، بِمَعْنَى حَدِيثِ جَرِيرٍ، غَيْرَ أَنَّ شُعْبَةَ لَيسَ فِي حَدِيثِهِ ذِكرُ "بِاسْمِ اللهِ"، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَن الثَّوْرِيِّ:"بِاسْمِ اللهِ"، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ: قَالَ مَنْصُورٌ: أُرَاهُ قَالَ: "بِاسْمِ اللهِ").
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد المعروف ببُندار، تقدّم قبل بابين.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغُندر، تقدّم قبل بابين.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام المشهور، تقدّم قبل بابين.
4 -
(الثَّوْرِيُّ) سفيان بن سعيد، تقدّم قبل باب.
والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي.
وقوله: (جَمِيعًا عَن الثَّوْرِيِّ) يعني أن كلًّا من عبد الله بن نُمير، وعبد الرزّاق روى عن سفيان الثوريّ.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ مَنْصُورٍ) الضمير لشعبة، والثوريّ، يعني أن كلًّا من شعبة، والثوريّ روى هذا الحديث عن منصور بن المعتمر.
[تنبيه]: رواية شعبة، عن منصور هذه ساقها البخاريّ، فقال:
حدّثنا آدمُ، حدّثنا شُعْبَةُ، حدّثنا مَنْصُورٌ، عن سَالِمِ بن أبي الْجَعْدِ، عن كُرَيْبٍ، عن ابن عَبَّاسٍ قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لو أَنَّ أَحَدَكُمْ إذا أتى أَهْلَهُ قال: جَنِّبْنِي الشَّيْطَانَ، وَجَنِّب الشَّيْطَانَ ما رَزَقْتَنِي، فَإِنْ كان بَيْنَهُمَا وَلَدٌ لم يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ، ولم يُسَلَّطْ عليه". انتهى.
ورواية سفيان الثوريّ، عن منصور ساقها أبو عوانة في "مسنده" (3/ 82) فقال:
(4281)
- أخبرني أبو سلمة الفقيه، قثنا
(1)
عبد الملك الذماريّ عن سفيان (ح) وحثنا
(2)
الغزيّ، قثنا الفِرْيابيّ، قثنا سفيان، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن أحدهم قال حين يأتي أهله - قال سفيان: قال منصور: أراه قال: - بسم الله، اللهم جنّبني الشيطان، وجنّب الشيطان ما رزقتنا، فيولد بينهما وَلَد لم يضرّه الشيطان أبدًا". انتهى.
ورواية عبد الرزّاق، عن الثوريّ، ساقها عبد بن حميد رحمه الله في "مسنده" (1/ 230) فقال:
(689)
- أخبرنا عبد الرزاق، أنا الثوريّ، عن منصور
(3)
عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله، اللهم جنّبني الشيطان، وجنّب
(1)
هو مختصر من "قال: حدّثنا"، فتنبّه.
(2)
مختصر من "حدّثنا".
(3)
وقع في النسخة: "منظور" بالظاء، وهو غلط بلا شكّ، فتنبّه.
الشيطان ما رزقتنا، فقُضي بينهما ولد، لم يضرّه الشيطان أبدًا". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(20) - (بَابُ بَيَانِ جَوَازِ جِمَاعِهِ امْرَأَتَهُ فِي قُبُلِهَا مِنْ قُدَّامِهَا وَمِنْ وَرَائِهَا، مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلدُّبُرِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3535]
(1435) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَاللَّفْظُ لِأَبِي بَكْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَن ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ: كَانَت الْيَهُودُ تَقُولُ إِذَا أَتَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا، كَانَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ، فَنَزَلَتْ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(ابْنُ الْمُنْكَدِرِ) هو: محمد بن المنكدر بن عبد الله بن الْهُدَير التيميّ المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [3](130) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.
والباقون تقدّموا قبل باب، و"سفيان" هو: ابن عيينة، و"جابر" هو: ابن عبد الله رضي الله عنهما.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (233) من رباعيّات الكتاب، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتّحاد كيفيّة الأخذ والأداء منه ومنهم.
2 -
(ومنها): أن فيه جابرًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ الْمُنْكَدِرِ) هو محمد، أنه (سَمِعَ جَابِرًا) هو ابن عبد الله بن
عمرو بن حرام الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما (يَقُولُ: كَانَت الْيَهُودُ) القبيلة المشهورة (تَقُولُ إِذَا أَتَى) أي جامع (الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا) أي من جهة دبرها (فِي قُبُلِهَا) أي فرجها، وفي الرواية التالية:"إذا أتيت المرأة من دبرها، فَحَمَلت"، وفي رواية الإسماعيليّ، من طريق يحيى بن أبي زائدة، عن سفيان الثوريّ، بلفظ:"باركةً، مُدبِرةً في فرجها، من ورائها"، وقوله:"فحَمَلت" يدلّ على أن مراده أن الإتيان في الفرج، لا في الدبر (كَانَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ) وفي الرواية التالية:"أن يهود كانت تقول: إذا أُتيت المرأة من دبرها في قبلها، ثم حَمَلت، كان ولدها أحول"، و"الأحول" صفة مشبّهة من حَوِل، قال المجد رحمه الله: الْحَوَلُ مُحَرَّكَةً: ظهور البياض في موخَّر العين، ويكون السواد من قِبَل الماق، أو إقبال الْحَدَقَة على الأنف، أو ذهاب حَدَقَتها قِبَل مُؤَخَّرها، أو أن تكون العين كأنما تنظر إلى الْحِجَاجِ، أو أن تميل الْحَدَقة إلى اللِّحَاظ، وقد حَوِلَت، وحالت تَحَالُ، واحْوَلَّتْ احْوِلَالًا، ورجلٌ أحَوْلُ، وحَوِلٌ، كَكَتِفٍ، وأحال عينَهُ، وحَوَّلها: صيّرها حَوْلَاء. انتهى
(1)
.
(فَنَزَلَتْ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ}) أي محلّ زرعكم الولد، وقال أبو السعود في "تفسيره": أي مواضع حرث لكم، شبّههُنّ بها لما بين ما يُلقَى في أرحامهنّ من النطف، وبين البذور من المشابهة، من حيث إن كلًّا منهما مادّةُ ما يحصل منه، وقال الخازن: حرث لكم: أي مزرع لكم، ومنبت للولد، وهذا على سبيل التشبيه، فجعل فرج المرأة كالأرض، والنطفة كالبذر، والولد كالزرع. انتهى
(2)
.
وقال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله بعد إيراده أحاديث النهي عن إتيان المرأة في دبرها - ما نصّه: هذه الأحاديث نصّ في إباحة الحال، والهيئات، كلّها، إذا كان الوطء في موضع الحرث، أي كيف شئتم، من خلف، ومن قدام، وباركةً، ومستلقية، ومضطجعةً، فأما الإتيان في غير المأتيّ فما كان مباحًا، ولا يباح، وذِكْرُ الحرث يدلّ على أن الإتيان في غير المأتيّ محرَّمٌ،
(1)
"القاموس المحيط" 3/ 346.
(2)
راجع: "حاشية الجمل على تفسير الجلالين" 1/ 180.
و {حَرْثٌ} تشبيهٌ؛ لأنهن مُزْدَرَعُ الذريّة، فلفظ الحرث يُعطِي أن الإباحة لم تقع إلا في الفرج خاصّة؛ إذ هو المزدرع، وأنشد ثعلب:
إِنَّمَا الأَرْحَامُ أَرْضُو
…
نَ لَنَا مُحْتَرَثَاتُ
فَعَلَيْنَا الزَّرْعُ فِيهَا
…
وَعَلَى اللهِ النَّبَاتُ
ففرج المرأة كالأرض، والنطفة كالبذر، والولد كالنبات، فالحرث بمعنى المحترَث، ووَحَّدَ الحرث؛ لأنه مصدر، كما يقال: رجلٌ صَوْمٌ، وقَوْمٌ صَوْمٌ. انتهى
(1)
.
({فَأْتُوا حَرْثَكُمْ}) أي: محلّه، وهو القُبُل ({أَنَّى شِئْتُمْ}) أي: كيف شئتم، من قيام، وقعود، واضطجاع، وإقبال، وإدبار، وقال أبو السعود: لما عبّر عنهنّ بالحرث عبّر عن مجامعتهنّ بالإتيان، وهو بيان لقوله تعالى:{فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222]. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [20/ 3535 و 3536 و 3537](1435)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4528)، و (أبو داود)(2163)، والترمذيّ (2978)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 313)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 532)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 110)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 194)، و"الصغرى"(6/ 182)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان سبب نزول الآية الكريمة، قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: حديث جابر رضي الله عنه هذا نصٌّ على أن هذه الآية نزلت بسبب قول اليهود المذكور فيه، وفي كتاب أبي داود عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنها
(1)
"الجامع لأحكام القرآن" 3/ 93.
نزلت بسبب أن رجلًا من المهاجرين تزوّج أنصاريّةً، فأراد أن يطأها شَرْحًا
(1)
، على عادتهم في وطء نسائهم، فأبت إلا على جنب على عادتهنّ، فاختصما إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]؛ أي: مقبلات، ومُدبراتٍ، ومستلقياتٍ، يعني بذلك موضع الولد.
قال القرطبيّ: هذان سببان مختلفان، لا بُعد في نزول الآية جوابًا للفريقين في وقت واحد، أو تكرّر نزول الآية في وقتين مختلفين، كما قد رُوي عن غير واحد من النّقَلة في الفاتحة أنها تكرّر نزولها بمكة والمدينة. انتهى
(2)
.
2 -
(ومنها): بيان جواز جماع المرأة من أيّ جهة شاء، مقبلة، أو مدبرةً، أو مستلقية، أو مضطجعة، أو قائمة، أو قاعدة، بشرط كونه في فرجها.
3 -
(ومنها): أن فيه تحريم وطء المرأة في دُبُرها؛ لأنه تعالى قال: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} ، والحرث محل الزرع، والدبر ليس محل الزرع، فدلّ على الإتيان لا يكون منه، وعلى هذا جمهور أهل العلم، وقد روي عن بعضهم جوازه، وسيأتي مناقشته في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فيما قال العلماء في معنى هذه الآية الكريمة:
قال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: قوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} : أي موضع الزرع من المرأة، وهو قُبُلها الذي يُزْرَع فيه المنيّ؛ لابتغاء الولد، ففيه إباحة وطئها في قُبُلها إن شاء من بين يديها، وإن شاء من ورائها، وإن شاء مكبوبة، وأما الدبر فليس هو بحرث، ولا موضع زرع، ومعنى قوله:{أَنَّى شِئْتُمْ} أي: كيف شئتم، واتفق العلماء الذين يُعْتَدّ بهم على تحريم وطء المرأة في دبرها، حائضًا كانت، أو طاهرًا؛ لأحاديثَ كثيرة مشهورة، كحديث:
(1)
يقال: شَرَح فلانٌ زوجته: إذا وطئها مستلقية على قفاها.
(2)
"المفهم" 4/ 156 - 157.
"ملعونٌ مَن أتى امرأة في دبرها"، قال أصحابنا: لا يحل الوطء في الدبر في شيء من الآدميين، ولا غيرهم من الحيوان، في حال من الأحوال، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": قوله تعالى: {أَنَّى شِئْتُمْ} : معناه عند الجمهور من الصحابة، والتابعين، وأئمة الفتوى: من أيّ وجه شئتم، مقبلةً، ومدبرةً، كما ذكرنا أنفًا، و"أَنَّى" تجيء سؤالًا، وإخبارًا عن أمر له جهات، فهي أعم في اللغة من "كيف"، ومن "أين"، ومن "متى"، هذا هو الاستعمال العربيّ في "أَنَّى"، وقد فسّر الناس "أَنَّى" في هذه الآية بهذه الألفاظ، وفسّرها سيبويه بـ "كيف"، و"من أين" باجتماعهما.
وذهبت فرقة ممن فسرها بـ "أين" إلى أن الوطء في الدبر مباحٌ، وممن نُسب إليه هذا القول سعيد بن المسيِّب، ونافع، وابن عمر، ومحمد بن كعب القُرَظيّ، وعبد الملك بن الماجشون، وحُكِي ذلك عن مالك في كتاب له يُسَمَّى "كتاب السرّ"، وحُذّاق أصحاب مالك ومشايخهم ينكرون ذلك الكتاب، ومالك أجلّ من أن يكون له كتاب سرّ، ووقع هذا القول في "الْعُتبية"، وذكر ابن العربي أن ابن شعبان أسند جواز هذا القول إلى زُمْرة كبيرة من الصحابة، والتابعين، وإلى مالك من روايات كثيرة، في كتاب "جماع النسوان، وأحكام القرآن".
وقال إِلْكِيا الطبريّ: ورُوي عن محمد بن كعب القرظيّ أنه كان لا يرى بذلك بأسًا، ويتأول فيه قول الله:{أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الشعراء: 165، 166]، وقال: فتقديره: تتركون مثل ذلك من أزواجكم، ولو لم يُبَحْ مثل ذلك من الأزواج لَمَا صحّ ذلك، وليس المباح من الموضع الآخر مِثْلًا له حتى يقال: تفعلون ذلك، وتتركون مثله من المباح، قال إلكيا: وهذا فيه نظر؛ إذ معناه: وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم مما فيه تسكين شهوتكم، ولذة الوقاع حاصلة بهما جميعًا، فيجوز التوبيخ على
(1)
"شرح النوويّ" 10/ 6.
هذا المعنى، وفي قوله تعالى:{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} ، مع قوله:{فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} ما يدلّ على أن في المأتيّ اختصاصًا، وأنه مقصور على موضع الولد.
قال القرطبيّ: هذا هو الحقّ في المسألة، وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر أن العلماء لم يختلفوا في الرَّتْقَاء التي لا يوصل إلى وطئها أنه عيبٌ تُرَدّ به، إلا شيئًا جاء عن عمر بن عبد العزيز، من وجه ليس بالقويّ أنه لا تُرَدّ الرَّتْقَاء، ولا غيرها، والفقهاء كلهم على خلاف ذلك؛ لأن المسيس هو المبتغَى بالنكاح، وفي إجماعهم على هذا دليل على أن الدبر ليس بموضع وطء، ولو كان موضعًا للوطء ما رُدّت مَن لا يوصل إلى وطئها في الفرج، وفي إجماعهم أيضًا على أن العقيم التي لا تَلِد لا تُرَدّ، والصحيح في هذه المسألة ما بيّناه، وما نُسِب إلى مالك وأصحابه من هذا باطلٌ، وهم مبرءون من ذلك؛ لأن إباحة الإتيان مختصة بموضع الحرث؛ لقوله تعالى:{فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} ؛ ولأن الحكمة في خلق الأزواج بَثُّ النسل، فغير موضع النسل لا يناله مُلْكُ النكاح، وهذا هو الحقّ.
وقد قال أصحاب أبي حنيفة: إنه عندنا ولائطُ الذَّكَر سواء في الحكم، ولأن القذر والأذى في موضع النجو أكثر من دم الحيض، فكان أشنع، وأما صمام البول، فغير صمام الرحم.
وقال ابن العربيّ في "قبسه": قال لنا الشيخ الإمام فخر الإسلام أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسين فقيه الوقت، وإمامه: الْفَرْجُ أشبه شيء بخمسة وثلاثين، وأخرج يده عاقدًا بها، وقال: مسلك البول ما تحت الثلاثين، ومسلك الذكر والفرج ما اشتملت عليه الخمسة، وقد حرّم الله تعالى الفرج حال الحيض؛ لأجل النجاسة العارضة، فأولى أن يحرّم الدبر؛ لأجل النجاسة اللازمة، وقال مالك لابن وهب، وعليّ بن زياد لَمّا أخبراه أن ناسًا بمصر يتحدثون عنه أنه يجيز ذلك، فنفر من ذلك، وبادر إلى تكذيب الناقل، فقال: كَذَبُوا عليّ، كَذَبُوا عليّ، كَذَبوا عليّ، ثم قال: ألستم قومًا عَرَبًا؟ ألم يقل الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} ، وهل يكون الحرث إلا في موضع المنبت؟
وما استَدَلَّ به المخالف من أن قوله: {أَنَّى شِئْتُمْ} شامل للمسالك بحكم عمومها، فلا حجة فيها؛ إذ هي مخصصة بما ذكرناه، وبأحاديث صحيحة
حسان وشهيرة، رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر صحابيًّا، بمُتون مختلفة، كلها متواردة على تحريم إتيان النساء في الإدبار، ذكرها أحمد بن حنبل في "مسنده"، وأبو داود، والنسائيّ، والترمذيّ، وغيرهم، وقد جمعها أبو الفرج ابن الجوزيّ بطرقها في جزء سماه "تحريم المحل المكروه"، ولشيخنا أبي العباس
(1)
أيضًا في ذلك جزء سمّاه "إظهار إدبار من أجاز الوطء في الأدبار".
قال القرطبيّ: وهذا هو الحقّ الْمُتَّبَع، والصحيح في المسألة، ولا ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يُعَرِّج في هذه النازلة على زَلَّة عالم، بعد أن تصح عنه، وقد حُذِّرنا من زلة العالم، وقد رُوي عن ابن عمر خلاف هذا، وتكفير من فعله، وهذا هو اللائق به رضي الله عنه، وكذلك كَذَّب نافع من أخبر عنه بذلك، كما ذكر النسائيّ، وقد تقدم، وأنكر ذلك مالك، واستعظمه، وكَذَّب من نسب ذلك إليه، ورَوَى الدارميّ أبو محمد في "مسنده" عن سعيد بن يسار أبي الْحُبَاب، قال: قلت لابن عمر: ما تقول في الجواري حين أُحَمِّض بهنّ؟ قال: وما التحميض؟ فذكرت له الدبر، فقال: هل يفعل ذلك أحد من المسلمين؟.
وأسند عن خزيمة بن ثابت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"أيها الناس إن الله لا يستحي من الحقّ، لا تأتوا النساء في أعجازهنّ"
(2)
، ومثله عن عليّ بن طلق، وأسند عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من أتى امرأة في دبرها، لم ينظر الله تعالى إليه يوم القيامة"
(3)
، ورَوَى أبو داود الطيالسيّ في "مسنده"، عن قتادة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"تلك اللُّوطيّة الصغرى"، يعني إتيان المرأة في دبرها، ورُوي عن طاوس أنه قال: كان بدء عمل قوم لوط إتيان النساء في أدبارهنّ.
قال ابن المنذر: وإذا ثبت الشيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم استُغْنِي به عما سواه. انتهى كلام أبي عبد الله القرطبيّ رحمه الله
(4)
، وبحثٌ نفيسٌ جدًّا، خلاصته أن جمهور أهل العلم على تحريم وطء النساء في أدبارهنّ، وهو الحقّ؛ لقوّة حجته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
يعني القرطبيّ صاحب "المفهم".
(2)
صححه ابن حبّان.
(3)
صححه ابن حبّان أيضًا.
(4)
"الجامع لأحكام القرآن" 3/ 93 - 96.
(المسألة الخامسة): قال الإمام البخاري رحمه الله في "صحيحه": بَابُ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} .
(4526)
- حَدّثنا إسحاق، أخبرنا النضر بن شُميل، أخبرنا ابن عون، عن نافع، قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه، فأخذت عليه يومًا، فقرأ "سورة البقرة" حتى انتهى إلى مكان، قال: تدري فيم أنزلت؟ قلت: لا، قال: أنزلت في كذا وكذا، ثم مضى.
وعن عبد الصمد
(1)
: حدّثني أبي، حدّثني أيوب، عن نافع، عن ابن عمر:{فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} قال: يأتيها في. . .، رواه محمد بن يحيى بن سعيد، عن أبيه، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر. انتهى.
قال في "الفتح": قوله: "فأخذت عليه يومًا" أي أمسكت المصحف، وهو يقرأ عن ظهر قلب، وجاء ذلك صريحًا في رواية عبيد الله بن عمر، عن نافع، قال: قال لي ابن عمر: أمسك عليّ المصحف يا نافع، فقرأ، أخرجه الدارقطنيّ في "غرائب مالك".
وقوله: "حتى انتهى إلى مكان، قال: تدري فيم أنزلت؟ قلت: لا، قال: أنزلت في كذا وكذا، ثم مضى"، هكذا أورده مُبْهَمًا لمكان الآية، والتفسير، وسأذكر ما فيه بعدُ.
وقوله: "يأتيها في. . ." هكذا وقع في جميع النسخ لم يذكر ما بعد الظرف، وهو المجرور، ووقع في "الجمع بين الصحيحين" للحميديّ:"يأتيها في الفرج"، وهو من عنده بحسب ما فهمه، قال الحافظ: ثم وقفت على سلفه فيه، وهو الْبَرْقانيّ، فرأيت في نسخة الصغانيّ: زاد الْبَرْقانيّ: يعني الفرج، وليس مطابقًا لما في نفس الرواية، عن ابن عمر؛ لما سأذكره، وقد قال أبو بكر ابن العربيّ في "سراج المريدين": أورد البخاريّ هذا الحديث في "التفسير"، فقال:"يأتيها في. . ."، وترك بياضًا، والمسألة مشهورةٌ، صَنَّفَ فيها محمد بن سحنون جزءًا، وصَنَّف فيها محمد بن شعبان كتابًا، وبَيَّنَ أن حديث ابن عمر في إتيان المرأة في دبرها.
(1)
قوله: "وعن عبد الصمد" معطوف على قوله: "أخبرنا النضر بن شميل".
وقوله: "رواه محمد بن يحيى بن سعيد" أي القطان، عن أبيه، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، هكذا أعاد الضمير على الذي قبله، والذي قبله قد اختصره، كما ترى، فأما الرواية الأولى، وهي رواية ابن عون، فقد أخرجها إسحاق ابن راهويه في "مسنده"، وفي "تفسيره" بالإسناد المذكور، وقال بدل قوله:"حتى انتهى إلى مكان": "حتى انتهى إلى قوله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}، فقال: أتدرون فيما أنزلت هذه الآية؟ قلت: لا، قال: نزلت في إتيان النساء في أدبارهنّ".
وهكذا أورده ابن جرير، من طريق إسماعيل ابن علية، عن ابن عون مثله، ومن طريق إسماعيل بن إبراهيم الكرابيسيّ، عن ابن عون نحوه، وأخرجه أبو عبيدة في "فضائل القرآن" عن معاذ، عن ابن عون، فأبهمه، فقال:"في كذا وكذا".
وأما رواية عبد الصمد، فأخرجها ابن جرير في "التفسير" عن أبي قلابة الرقاشيّ، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، حدّثني أبي، فذكره، بلفظ:"يأتيها في الدبر"، وهو يؤيد قول ابن العربيّ، ويردّ قول الحميديّ.
وهذا الذي استعمله البخاريّ نوع من أنواع البديع، يُسَمَّى الاكتفاء، ولا بُدّ له من نكتة يُحَسَّن بسببها استعماله.
وأما رواية محمد بن يحيى بن سعيد القطان، فوصلها الطبرانيّ في "الأوسط" من طريق أبي بكر الأعين، عن محمد بن يحيى المذكور، بالسند المذكور، إلى ابن عمر، قال:"إنما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ}، رخصةً في إتيان الدبر"، قال الطبرانيّ: لم يروه عن عبد الله بن عمر إلا يحيى بن سعيد، تفرد به ابنه محمد، كذا قال، ولم يتفرد به يحيى بن سعيد، فقد رواه عبد العزيز الدراورديّ، عن عبيد الله بن عمر أيضًا، كما سأذكره بعدُ.
وقد رَوَى هذا الحديثَ عن نافع أيضًا جماعة غير من ذكرنا، ورواياتهم بذلك ثابتة، عند ابن مردويه في "تفسيره"، وفي "فوائد الأصبهانيين" لأبي الشيخ، و"تاريخ نيسابور" للحاكم، و"غرائب مالك" للدارقطنيّ، وغيرها.
وقد عاب الإسماعيليّ صنيع البخاريّ، فقال: جميع ما أَخْرَج عن ابن عمر مبهم، لا فائدة فيه، وقد رويناه عن عبد العزيز، يعني الدراورديّ، عن
مالك، وعبيد الله بن عمر، وابن أبي ذئب، ثلاثتهم عن نافع، بالتفسير، وعن مالك من عِدّة أوجه. انتهى كلامه.
ورواية الدراورديّ المذكورة قد أخرجها الدارقطنيّ في "غرائب مالك" من طريقه عن الثلاثة، عن نافع، نحو رواية ابن عون عنه، ولفظه:"نزلت في رجل من الأنصار أصاب امرأته في دبرها، فأعظم الناس ذلك، فنزلت، قال: فقلت له: من دبرها في قبلها؟ فقال: لا إلا في دبرها"، وتابع نافعًا على ذلك زيد بن أسلم، عن ابن عمر، وروايته عند النسائيّ بإسناد صحيح، وتكلم الأزديّ في بعض رُواته، ورَدَّ عليه ابن عبد البر، فأصاب، قال: ورواية ابن عمر لهذا المعنى صحيحة مشهورة، من رواية نافع عنه، بغير نكير أن يرويها عنه زيد بن أسلم.
قال الحافظ: وقد رواه عن عبد الله بن عمر أيضًا ابنه عبد الله، أخرجه النسائي أيضًا، وسعيد بن يسار، وسالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، مثل ما قال نافع، وروايتهما عنه عند النسائيّ، وابن جرير، ولفظه: عن عبد الرحمن بن القاسم، قلت لمالك رضي الله عنه: إن ناسًا يروون عن سالم كَذَبَ العبد على أبي، فقال مالك: أشهد على زيد بن رُومان أنه أخبرني، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، مثل ما قال نافع، فقلت له: إن الحارث بن يعقوب يروي عن سعيد بن يسار، عن ابن عمر، أنه قال: أُفٍّ، أوَ يقول ذلك مسلم؟ فقال مالك: أشهد على ربيعة، لَأخبرني عن سعيد بن يسار، عن ابن عمر مثل ما قال نافع.
وأخرجه الدارقطنيّ من طريق عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك، وقال: هذا محفوظ عن مالك، صحيح. انتهى.
ورَوَى الخطيب في الرواة عن مالك، من طريق إسرائيل بن روح
(1)
قال: سألت مالكًا عن ذلك، فقال: ما أنتم قوم عرب، هل يكون الحرث إلا موضع الزرع؟.
(1)
قال في "الميزان" 1/ 208: لا يُدرى من ذا؟. انتهى.
وعلى هذه القصة
(1)
اعتمد المتأخرون من المالكية، فلعل مالكًا رجع عن قوله الأول، أو كان يرى أن العمل على خلاف حديث ابن عمر، فلم يعمل به، وإن كانت الرواية فيه صحيحة على قاعدته.
ولم ينفرد ابن عمر بسبب هذا النزول، فقد أخرج أبو يعلى، وابن مردويه، وابن جرير، والطحاوي من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدريّ، أن رجلًا أصاب امرأته في دبرها، فأنكر الناس ذلك عليه، وقالوا: نُعَيِّرُها، فأنزل الله هذه الآية، وعلّقه النسائيّ عن هشام بن سعيد، عن زيد، وهذا السبب في نزول هذه الآية مشهورٌ، وكأن حديث أبي سعيد لم يبلغ ابن عباس، وبلغه حديث ابن عمر، فَوَهَّمه فيه، فروى أبو داود، من طريق مجاهد، عن ابن عباس، قال: إن ابن عمر، وَهِمَ واللهُ يغفر له، إنما كان هذا الحيّ من الأنصار، وهم أهل وثن مع هذا الحيّ من يهود، وهم أهل كتاب، فكانوا يأخذون بكثير من فعلهم، وكان أهل الكتاب لا يأتون النساء إلا على حرف، وذلك أستر ما تكون المرأة، فأخذ ذلك الأنصار عنهم، وكان هذا الحىّ من قريش، يتلذذون بنسائهم، مقبلاتٍ، ومدبراتٍ، ومستلقياتٍ، فتزوج رجل من المهاجرين امرأة من الأنصار، فذهب يفعل فيها ذلك، فامتنعت فَسَرَى أمرهما حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ، مقبلاتٍ، ومدبراتٍ، ومستلقياتٍ في الفرج، أخرجه أحمد، والترمذيّ، من وجه آخر صحيح، عن ابن عباس، قال: جاء عمر، فقال: يا رسول الله، هلكتُ، حوَّلتُ رحلي البارحة، فأنزلت هذه الآية:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ، أَقْبِلْ، وأَدْبِرْ، واتَّقِ الدبر، والحيضة. وهذا الذي حَمَل عليه الآية موافق لحديث جابر المذكور في الباب، في سبب نزول الآية.
ورَوَى الربيع في "الأم" عن الشافعي قال: احْتَمَلَت الآية معنيين: أحدهما أن تؤتى المرأة حيث شاء زوجها؛ لأن "أَنَّى" بمعنى "أين شئتم"، واحْتَمَلت أن يراد بالحرث موضع النبات، والموضع الذي يراد به الولد، هو الفرج، دون ما سواه، قال: فاختلف أصحابنا في ذلك، وأحسب أن كلًّا من
(1)
لكن عرفت أنها ضعيفة؛ لأن إسرائيل الراوي عن مالك مجهول، كما قال الذهبيّ.
الفريقين تأوّل ما وصفت، من احتمال الآية، قال: فطلبنا الدلالة، فوجدنا حديثين أحدهما: ثابتٌ، وهو حديث خزيمة بن ثابت في التحريم، فقَوِي عنده التحريم.
ورَوَى الحاكم في "مناقب الشافعي" من طريق ابن عبد الحكم أنه حَكَى عن الشافعيّ مناظرةً جرت بينه وبين محمد الحسن في ذلك، وأن ابن الحسن احتَجَّ عليه بأن الحرث إنما يكون في الفرج، فقال له: فيكون ما سوى الفرج محرمًا، فالتزمه، فقال: أرأيت لو وطئها بين ساقيها، أو في أعكانها، أفي ذلك حرث؟ قال: لا، قال: أفيحرم؟ قال: لا، قال: فكيف تحتجّ بما لا تقول به؟ قال الحاكم: لعل الشافعي كان يقول ذلك في القديم، وأما في الجديد فصرح بالتحريم. انتهى.
ويَحْتَمِل أن يكون ألزم محمدًا بطريق المناظرة، وإن كان لا يقول بذلك، وإنما انتصر لأصحابه المدنيين، والحجة عنده في التحريم غير المسلك الذي سلكه محمد، كما يشير إليه كلامه في "الأم".
وقال المازريّ: اختَلَفَ الناس في هذه المسألة، وتعلَّق مَن قال بالحل بهذه الآية، وانفصل عنها من قال: يحرم بأنها نزلت بالسبب الوارد في حديث جابر في الردّ على اليهود، يعني كما في حديث الباب، قال: والعموم إذا خرج على سبب قُصِر عليه عند بعض الأصوليين، وعند الأكثر العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، وهذا يقتضي أن تكون الآية حجة في الجواز، لكن وردت أحاديث كثيرة بالمنع، فتكون مخصصة لعموم الآية، وفي تخصيص عموم القرآن ببعض خبر الآحاد خلاف. انتهى.
وذهب جماعة من أئمة الحديث، كالبخاريّ، والذهليّ، والبزار، والنسائيّ، وأبي عليّ النيسابوريّ إلى أنه لا يثبت فيه شيءٌ.
قال الحافظ: لكن طرقها كثيرة، فمجموعها صالح للاحتجاج به، ويؤيد القول بالتحريم أنّا لو قَدَّمنا أحاديث الإباحة للزم أنه أبيح بعد أن حُرِّم، والأصل عدمه.
فمن الأحاديث الصالحة الإسناد حديث خزيمة بن ثابت، أخرجه أحمد، والنسائيّ، وابن ماجه، وصححه ابن حبان.
وحديث أبي هريرة، أخرجه أحمد، والترمذيّ، وصححه ابن حبان أيضًا.
وحديث ابن عباس، وقد تقدمت الإشارة إليه، وأخرجه الترمذيّ، من وجه آخر، بلفظ:"لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلًا، أو امرأة في الدبر"، وصححه ابن حبان أيضًا، وإذا كان ذلك صلح أن يخصص عموم الآية، ويُحْمَل على الإتيان في غير هذا المحل؛ بناءً على أن معنى "أَنّى":"حيث"، وهو المتبادر إلى السياق، ويغني ذلك عن حملها على معنى آخر غير المتبادر، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو بحثٌ نفيسٌ.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن إتيان المرأة في دبرها قد صحّ عن ابن عمر، وكذا عن أبي سعيد الخدريّ، وعن بعض طائفة من التابعين، إلا أن ما ذهب إليه الجمهور من التحريم هو الحقّ؛ لكثرة الأحاديث الواردة بذلك، وهي وإن كان في معظمها كلام، إلا أن مجموعها يفيد أن لها أصلًا، كما قال الحافظ.
والحاصل أنّ تحريم وطء النساء في الدبر، كما قال الجمهور هو الأولى والأحوط في الدين، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3536]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَن ابْنِ الْهَادِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ يَهُودَ كَانَتْ تَقُولُ: إِذَا أُتِيَت الْمَرْأَةُ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا، ثُمَّ حَمَلَتْ كَانَ وَلَدُهَا أَحْوَلَ، قَالَ: فَأُنْزِلَتْ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ) بن المهاجر التجيبيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.
2 -
(اللَّيْثُ) بن سعد بن عبد الرحمن الفهميّ مولاهم، أبو الحارث
المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمام مشهور [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.
3 -
(ابْنُ الْهَادِ) هو: يزيد بن عبد الله بن أُسامة بن الهاد الليثيّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ مكثرٌ [5](ت 139)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.
4 -
(أَبُو حَازِمٍ) سلمة بن دينار الأعرج التمّار القاصّ المدنيّ، ثقةٌ عابدٌ [5](ت 140) أو قبلها، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (أَنَّ يَهُودَ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في النسخ "يَهُود" غير مصروف؛ لأن المراد قبيلة اليهود، فامتنع صرفه للتأنيث والعلميّة. انتهى
(1)
.
وقوله: (إِذَا أُتِيَت الْمَرْأَةُ) فعلٌ ونائب فاعله؛ أي: جُومعت (مِنْ دُبُرِهَا) أي: من جهة دُبرها (فِي قُبُلِهَا) أي: في فرجها، يعني أن الجماع، وإن كان من جهة الدبر إلا أنه في فرجها، لا في دبرها.
وقوله: (ثُمَّ حَمَلَتْ. . . إلخ) هذا يدلّ على أن الإتيان وقع في فرجها، لا في دبرها؛ لأن الحمل لا يكون إلا من الجماع في الفرج، فدلّ على أنه لا يجامعها في دبرها.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3537]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْن عَبْدِ الصَّمَدِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنْ أيُّوبَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ (ح) وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَأَبُو مَعْنٍ الرَّقَاشِيُّ، قَالُوا: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا
(1)
"شرح النوويّ" 10/ 6.
أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ رَاشِدٍ، يُحَدِّثُ عَن الزُّهْرِيِّ (ح) وَحَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ مَعْبَدٍ، حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَهُوَ ابْنُ الْمُخْتَارِ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ، بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ، عَن الزُّهْرِيِّ:"إِنْ شَاءَ مُجَبِّيَةً، وَإِنْ شَاءَ غَيْرَ مُجَبِّيَةٍ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِك فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ").
رجال هذا الإسناد: ثلاثة وعشرون:
1 -
(أَبُو عَوَانَةَ) وضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
2 -
(عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ) بن عبد الوارث، أبو عبيدة البصريّ، صدوقٌ [11](تم ت س ق) تقدم في "الإيمان" 49/ 311.
3 -
(أَبُوهُ) عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد الْعَنْبريّ مولاهم التّنّوريّ، أبو سهل البصريّ، ثقة [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.
4 -
(جَدُّهُ) عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان العَنبريّ مولاهم، أبو عُبيدة التَّنُّوريّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.
5 -
(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة السَّخْتيانيّ، تقدّم قبل بابين.
6 -
(وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ) بن حازم، تقدّم قريبًا.
7 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن مهديّ، تقدّم قبل بابين.
9 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ) اليشكريّ، أبو قُدامة السرخسيّ، نزيل نيسابور، ثقةٌ مأمونٌ سنّيّ [10](ت 241)(خ م س) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.
10 -
(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) الحمّال، تقدّم قبل بابين.
11 -
(أبُو مَعْنٍ الرَّقَاشِيُّ) زيد بن يزيد الثقفىّ البصريّ، ثقةٌ [11](م) من أفراد المصنّف تقدم في "الإيمان" 57/ 328.
12 -
(جَريرُ) بن حازم بن زيد بن عبد الله الأزديّ، أبو النضر البصريّ، والد وهب، ثقةٌ، إلا في قتادة [6](170)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 81.
13 -
(النُّعْمَانُ بْنُ رَاشِدٍ) الْجَزَرجىّ، أبو إسحاق الرّقّيّ، الأمويّ
مولاهم، يقال: إنه أخو إسحاق بن راشد، وقال أبو حاتم: لم يصحّ عندي ذلك، صدوقٌ سيّئ الحفظ [6].
رَوَى عن الزهريّ، وأخيه عبد الله بن مسلم بن شهاب، وعبد الملك بن أبي محذورة، وميمون بن مِهران.
ورَوَى عنه ابن جريج، وهو من أقرانه، ووهيب بن خالد، وعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، وجرير بن حازم، وحماد بن زيد.
قال عليّ ابن المدينيّ: ذكره يحيى القطان فضعّفه جدًّا، وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عنه، فقال: مضطرب الحديث، روى أحاديث مناكير، وقال ابن معين: ضعيفٌ، وقال مرةً: ليس بشيء، وقال البخاريّ، وأبو حاتم: في حديثه وَهَمٌ كثير، وهو في الأصل صدوق، وقال ابن أبي حاتم: أدخله البخاري في "الضعفاء"، فسمعت أبي يقول: يُحَوَّل منه، وقال أبو داود: ضعيفٌ، وقال النسائيّ: ضعيفٌ كثير الغلط، وقال في موضع آخر: أحاديثه مقلوبةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال النسائيّ: صدوقٌ، فيه ضعفٌ، قال: وقال ابن معين مرة: ضعيفٌ، مضطرب الحديث، وقال مرةً: ثقةٌ، وقال العقيليّ: ليس بالقويّ، يُعرف فيه الضعف، وقال ابن عديّ: احتمله الناس.
أخرج له البخاريّ في التعاليق، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1435)، وحديث (2449):"أما بعد، فإني أنكحت أبا العاص بن الربيع. . ." الحديث.
14 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ مَعْبَدِ) بن كوسجان المروزيّ، أبو داود السِّنجيّ، ثقةٌ صاحب حديث، رحّالٌ أديبٌ [11](ت 257)(م ت س) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 14/ 1674.
15 -
(مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ) الْعَمّيّ، أبو الهيثم البصريّ، أخو بهز، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [10](ت 218)(خ م قد ت س ق) تقدم في "الطهارة" 34/ 684.
16 -
(عَبْدُ الْعَزِيزُ بْنُ الْمُخْتَارِ) الدبّاغ البصريّ، مولى حفصة بنت سيرين، ثقةٌ [7](ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 14/ 1674.
17 -
(سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان السمّان، أبو يزيد المدنيّ، ثقةٌ تغيّر بآخره [6](ت 138)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 161.
والباقون ذُكروا في الباب، البابين قبله.
وقوله: (قَالُوا: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ) فاعل "قالوا" يعود للثلاثة: عبيد الله بن سعيد، وهارون بن عبد الله، وأبي معن الرّقَاشيّ، يعني أن هؤلاء الثلاثة رووا عن وهب بن جرير.
وقوله: (كُلّ هَؤُلَاءِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ) الإشارة إلى الستة، وهم: أبو عوانة، وأيوب السختيانيّ، وشعبة، وسفيان الثوريّ، والزهريّ، وسهيل بن أبي صالح، فكلهم رووا هذا الحديث عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
وقوله: (وَزَادَ فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ، عَن الزُّهْرِيِّ إِنْ شَاءَ مُجَبِّيَةً. . . إلخ) قال في "الفتح": هذه الزيادة يُشبه أن تكون من تفسير الزهريّ؛ لخلوّها من رواية غيره، من أصحاب ابن المنكدر، مع كثرتهم. انتهى
(1)
.
وقوله: (إِنْ شَاءَ مُجَبِّيَةً) بصيغة اسم الفاعل، من جبّى بالتشديد، قال في "القاموس": وجَبَّى تَجْبيةً: وَضَع يديه على ركبتيه، أو على الأرض، أو انكَبَّ على وجهه. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: الْمُجَبِّية - بميم مضمومة، ثم جيم مفتوحة، ثم باء موحدة مشدّدة مكسورة، ثم ياء مثناة من تحتُ - أي: مكبوبة على وجهها. انتهى
(3)
.
وقوله: (وَإِنْ شَاء غَيْرَ مُجبِّيَة) هذا يشمل الاستلقاء، والاضطجاع، والتجبية، وغير ذلك.
وقوله: (غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ. . . إلخ) بنصب "غيرَ" على الاستثناء.
وقوله: (فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ) بكسر الصاد المهملة، وتخفيف الميم: هو المنفذ، قاله في "الفتح"
(4)
.
وقال النوويّ رحمه الله: "في صمام واحد" - بكسر الصاد -: أي: في ثُقْبٍ واحد، والمراد به القُبُل. انتهى
(5)
.
(1)
"الفتح" 9/ 686 "كتاب التفسير" رقم (4528).
(2)
"القاموس المحيط" 4/ 310.
(3)
"شرح النوويّ" 10/ 6.
(4)
9/ 686.
(5)
"شرح النوويّ" 10/ 6.
وقال ابن الأثير رحمه الله: "في صمام واحد": أي: مَسلك واحد، والصمام: ما تُسدّ به الْفُرجة، فسُمِّي الفرج به، ويجوز أن يكون في موضع صِمَامٍ، على حذف المضاف، ويُروى بالسين
(1)
.
وقال في باب السين المهملة: "فأتوا حرثكم أنى شئتم سمامًا واحدًا": أي: مأتًى واحدًا، وهو من سِمام الإبرة، أي: ثُقبها، وانتصب على الظرف، أي في سمام واحد، لكنّه ظرف محدود، أُجري مُجرَى المبهم. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: رواية أبي عوانة، عن محمد بن المنكدر، ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى" بسند المصنّف (6/ 302) فقال:
(11039)
- أنا قتيبة بن سعيد، نا أبو عوانة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، قال: قالت اليهود: إذا أتى الرجل امرأته من قِبَل دبرها كان الْحَوَلُ من ذلك، فأنزل الله تبارك وتعالى:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا} قال: قائمًا، وقاعدًا، وباركًا، بعد أن يكون في المأتيّ. انتهى.
ورواية شعبة، عن محمد بن المنكدر، ساقها الطبريّ رحمه الله، في "تفسيره" بسند المصنّف (2/ 397) فقال:
حدّثنا ابن المثنّى، قال: ثني وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن ابن المنكدر، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: إن اليهود كانوا يقولون: إذا أتى الرجل امرأته باركةً، جاء الولد أحول، فنزلت:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} . انتهى.
ورواية سفيان الثوريّ، عن محمد بن المنكدر، ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى" (7/ 194) فقال:
(13878)
- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب إملاءً، ثنا عليّ بن الحسن بن أبي عيسى، ثنا أبو نعيم، ثنا سفيان (ح) وأخبرنا أبو عليّ الروذباريّ، أنبأ محمد بن بكر، ثنا أبو داود، ثنا ابن بشار، ثنا عبد الرحمن، ثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر، قال: سمعت جابرًا يقول: إن اليهود يقولون: إذا جامع الرجل أهله في فرجها من ورائها، كان
(1)
"النهاية" 3/ 54.
(2)
راجع: "النهاية" 2/ 404.
ولده أحول، فأنزل الله:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ، لفظ حديث عبد الرحمن بن مهديّ، وفي حديث أبي نعيم: كانت اليهود يقولون: إذا جامع الرجل أهله من ورائها، جاء الولد أحول، فنزلت، فذكر الآية، رواه البخاريّ في "الصحيح" عن أبي نعيم، ورواه مسلم عن محمد بن المثنى، عن عبد الرحمن. انتهى.
ورواية الزهريّ، عن محمد بن المنكدر ساقها "البيهقيّ" رحمه الله في "الكبرى" (7/ 195) فقال:
(13882)
- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو النضر الفقيه، ثنا أبو بكر بن رجاء، ثنا محمد بن أبي بكر، وهارون بن عبد الله، قالا: ثنا وهب بن جرير (ح) وأخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، أنبأ أبو عبد الله محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن سلمة، ثنا عبيد الله بن سعيد أبو قدامة، ثنا وهب بن جرير، ثنا أبي، عن النعمان بن راشد، عن الزهريّ، عن ابن المنكدر، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:"قالت اليهود: إذا أتى الرجل امرأته مُجَبِّيةً، كان الولد أحول، فنزلت: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}، إن شاء مُجَبِّيةً، وإن شاء غير مُجَبِّية، غير أن ذلك في صمام واحد"، لفظ حديث أبي قدامة. انتهى.
ورواية سُهيل بن أبي صالح، عن محمد بن المنكدر، ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" (3/ 84) فقال:
(4289)
- حدّثنا يعقوب بن هاشم ببغداد في دار كعب، قثنا
(1)
مُعَلَّى بن أسد، قثنا عبد العزيز، يعني ابن المختار (ح) وحدّثنا إبراهيم بن فهد، قثنا أبو سلمة، قثنا وهيبٌ كلاهما عن سهيل بن أبي صالح، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، قال: لَمّا قَدِم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، قالت اليهود: إن الذي يأتي أهله مُجَبِّيةً يكون ولده أحول، فأنزل الله:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} الآية. انتهى.
وأما رواية أيوب السختيانيّ، عن محمد بن المنكدر، فلم أجد من ساقها
(1)
هي في المواضع الأربعة مختصرة من "قال: حدّثنا"، فتنبّه.
بمفردها، إلا أن أبا عوانة رحمه الله ساقها مع رواية الزهريّ المتقدّمة، فقال في "مسنده" (3/ 84):
(4286)
- حدّثنا إبراهيم بن فهد، قثنا أبو معمر، قثنا عبد الوارث، قثنا أيوب، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله (ح) وحدّثنا أبو الأزهر، والكزبرانيّ قالا: ثنا وهب بن جرير، قثنا أبي، عن النعمان بن راشد، عن الزهريّ، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، قال: قالت اليهود: مَن أَتَى امرأته مُجَبِّيةً، كان الولد أحول، فأنزل الله:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} . انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(21) - (بَابُ تَحْرِيمِ امْتِنَاعِ الْمَرْأَةِ مِنْ فِرَاشِ زَوْجِهَا)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3538]
(1436) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا بَاتَت الْمَرْأَةُ هَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا، لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، يدلّس، من رؤوس [4](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
2 -
(زُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى) العامريّ الْحَرَشيّ، أبو حاجب البصريّ قاضيها، ثقةٌ عابدٌ [3] مات فَجْأةً في الصلاة سنة (93)(ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 338.
3 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
والباقون ذُكروا في الباب، وفيما قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتّحاد كيفيّة الأخذ والأداء منهما.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أن شيخيه من التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد نظمتهم بقولي:
اشْتَرَكَ الأَئِمَّةُ الْهُدَاةُ
…
ذَوُو الأُصُولِ السِّتَّةِ الْوُعَاةُ
فِي تِسْعَةٍ مِنَ الشُّيوخِ الْمَهَرَهْ
…
النَّاقِدِينَ الْحَافِظينَ الْبَرَرَهْ
أُولَئِكَ الأَشَجُّ وَابْنُ مَعْمَرِ
…
نَصْرٌ وَيَعْقُوبُ وَعَمْرٌو السَّرِي
وَابْنُ الْمُثَنَّى وَابْنُ بَشَّارٍ كَذَا
…
وَابْنُ الْعَلَاءِ وَزِيَادٌ يُحْتَذَى
وقد تقدّم هذا غير مرّة، وإنما أعدته؛ تذكيرًا؛ لطول العهد به، فتنبّه.
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى الصحابيّ، فمدنيّ، ومسلسلٌ أيضًا في معظمه بالتحديث والسماع.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.
6 -
(ومنها): أن فيه أبا هريرة رأس المكثرين السبعة، من الصحابة رضي الله عنهم، وهم المجموعون في قولي:
الْمُكْثِرُونَ فِي رِوَايَةِ الْخَبَرْ
…
مِنَ الصَّحَابَةِ الأَكَارِمِ الْغُرَرْ
أَبُو هُرَيْرَةَ يَلِيهِ ابْنُ عُمَرْ
…
فَأنَسٌ فَزَوْجَةُ الْهَادِي الأَبَرْ
ثُمَّ ابْنُ عَبَّاسٍ يَلِيهِ جَابِرُ
…
وَبَعْدَهُ الْخُدْرِيُّ فَهْوَ الآخِرُ
وقد تقدّم هذا أيضًا غيرة، وإنما أعدته؛ تذكيرًا؛ لطول العهد به، فتنبّه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا بَاتَت الْمَرْأَةُ) وفي رواية أبي حازم، عن أبي هريرة عند البخاريّ:"إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فأبت أن تجيء. . ."، قال ابن أبي جمرة: الظاهر أن الفراش كناية عن الجماع، ويقوّيه قوله:"الولد للفراش"، أي: لمن يطأ في الفراش، والكناية عن الأشياء التي يُسْتَحَى منها كثيرة في القرآن والسنة، قال: وظاهر الحديث
اختصاص اللعن بما إذا وقع منها ذلك ليلًا؛ لقوله: "حتى تصبح"، وكأن السرّ تأكُّد ذلك الشأن في الليل، وقوّة الباعث عليه، ولا يلزم من ذلك أنه يجوز لها الامتناع في النهار، وإنما خص الليل بالذِّكر؛ لأنه المظنة لذلك. انتهى
(1)
.
وقد وقع في رواية يزيد بن كيسان، عن أبي حازم الآتية عند مسلم، بلفظ:"والذي نفسي بيده، ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها، فتأبى عليه، إلا كان الذي في السماء ساخطًا عليها، حتى يرضى عنها".
ولابن خزيمة، وابن حبان، من حديث جابر رضي الله عنه رفعه:"ثلاثة لا تُقبل لهم صلاة، ولا يصعد لهم إلى السماء حسنة: العبد الآبق، حتى يرجع، والسكران حتى يصحو، والمرأة الساخط عليها زوجها، حتى يرضى"، فهذه الإطلاقات تتناول الليل والنهار.
وقوله: "فأبت أن تجيء" زاد أبو عوانة، عن الأعمش:"فبات غضبان عليها"، وبهذه الزيادة يتجه وقوع اللعن؛ لأنها حينئذ يتحقق ثبوت معصيتها، بخلاف ما إذا لم يغضب من ذلك، فإنه يكون إما لأنه عَذَرَها، وإما لأنه تَرَك حقه من ذلك.
(هَاجِرَةً) منصوب على الحال، وهو اسم فاعل من هَجَره، من باب نصر، هَجْرًا، وهِجْرَانًا بالكسر: إذا صَرَمه، والشيءَ: تركه، كأهجره
(2)
.
وفي رواية البخاريّ بلفظ: "مهاجرةً"، قال في "العمدة": هو من باب المفاعلة في الأصل، ولكن هنا بمعنى هاجرةً؛ لأن فاعلَ قد يأتي بمعنى فَعَلَ، نحو قوله تعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} الآية [آل عمران: 133]؛ أي: أسرعوا، قال: وتُوَضِّحه رواية مسلم: "إذا باتت المرأة هاجرةً"، وهو اسم فاعل من هَجَرَ، ومُهاجِرة: اسم فاعل من هاجر، وإذا كان الهجر منه، فلا يترتب عليها شيء من ذلك. انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح": قوله: "مهاجرةً" فليس هو على ظاهره في لفظ المفاعلة، بل المراد أنها هي التي هَجَرت، وقد تأتي لفظ المفاعلة، ويراد بها
(1)
"بهجة النفوس" 3/ 229.
(2)
راجع: "القاموس المحيط" 2/ 157.
(3)
"عمدة القاري" 20/ 185.
نفس الفعل، ولا يتجه عليها اللوم إلا إذا بدأت هي بالْهَجْر، فغضب هو لذلك، أو هجرها، وهي ظالمة، فلم تتنصل من ذنبها، وهِجْرتِهِ، أما لو بدأ هو بهجرها ظالِمًا لها، فلا.
(فِرَاشَ زَوْجِهَا) منصوب على المفعوليّة لـ "هاجرةً"(لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ) قال ابن أبي جمرة: هل الملائكة التي تلعنها هم الحفظة، أو غيرهم؟ يَحْتَمِل الأمرين.
وقال الحافظ: يَحْتَمِل أن يكون بعض الملائكة موكلًا بذلك، قال: ويرشد إلى التعميم قوله في رواية مسلم يعني الآتية: "الذي في السماء"، إن كان المراد به سُكانها.
(حَتَّى تُصْبِحَ") قال النوويّ رحمه الله: معنى الحديث أن اللعنة تستمر عليها، حتى تزول المعصية بطلوع الفجر، والاستغناء عنها، أو بتوبتها، ورجوعها إلى الفراش. انتهى
(1)
.
وفي رواية خالد بن الحارث عن شعبة بلفظ: "حتى ترجع"، وهي أكثر فائدةً، والأُولى محمولة على الغالب، كما تقدم، وللطبرانيّ من حديث ابن عمر رفعه:"اثنان لا تجاوز صلاتهما رءوسهما: عبدٌ آبقٌ، وامرأة غَضِب زوجها، حتى ترجع"، وصححه الحاكم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا دليلٌ على تحريم امتناع المرأة على زوجها إذا أرادها، ولا خلاف فيه، وإليه الإشارة بقوله تعالى:{وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228]، والمرأة في ذلك بخلاف الرجل، فلو دعت المرأة زوجها إلى ذلك لم يجب عليه إجابتها، إلا أن يقصد بالامتناع مضارّتها، فيَحرُم عليه ذلك، والفرق بينهما أن الرجل هو الذي ابتغى بماله، فهو المالك للبُضع، والدرجة التي له عليها هي السلطة التي له بسبب مُلْكه، وأيضًا فقد لا ينشط الرجل في وقت تدعوه، فلا ينتشر، ولا يتهيّأ له ذلك، بخلاف المرأة. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"شرح النوويّ" 10/ 8.
(2)
"المفهم" 4/ 160 - 161.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [21/ 3538 و 3539 و 3540 و 3541](1436)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3237)، و"النكاح"(5191 و 5194)، و (أبو داود) في "النكاح"(2141)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 313)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2458)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 558)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 255 و 348 و 346 و 439 و 468 و 480 و 519 و 538)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 149 - 150)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4172 و 4173 و 4174)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 86)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 112)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 58 و 76)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 242)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 292) و"الصغرى"(6/ 174)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2328)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان تحريم امتناع المرأة من فراش زوجها، قال النوويّ رحمه الله: هذا دليل على تحريم امتناعها من فراشه لغير عذر شرعيّ، وليس الحيض بعذر في الامتناع؛ لأن له حقًّا في الاستمتاع بها فوق الإزار. انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): ما قال المهلّب رحمه الله: هذا الحديث يوجب أن منع الحقوق في الأبدان كانت، أو في الأموال مما يوجب سخط الله، إلا أن يتغمدها بعفوه.
3 -
(ومنها): ما قال المهلّب أيضًا: فيه جواز لعن العاصي المسلم، إذا كان على وجه الإرهاب عليه؛ لئلا يواقع الفعل، فإذا واقعه، فإنما يدعى له بالتوبة والهداية.
وتعقّبه الحافظ، فقال: ليس هذا التقييد مستفادًا من هذا الحديث، بل من أدلة أخرى.
(1)
"شرح النوويّ" 10/ 7 - 8.
قال: وقد ارتضى بعض مشايخنا ما ذكره المهلَّب من الاستدلال بهذا الحديث على جواز لعن العاصي المعيَّن، وفيه نظرٌ، والحقّ أن من منع اللعن أراد به معناه اللغويّ، وهو الإبعاد من الرحمة، وهذا لا يليق أن يُدْعَى به على المسلم، بل يطلب له الهداية والتوبة والرجوع عن المعصية، والذي أجازه أراد به معناه العرفيّ، وهو مطلق السبّ، ولا يخفى أن محله إذا كان بحيث يرتدع العاصي به، وينزجر، وأما حديث الباب فليس فيه إلا أن الملائكة تفعل ذلك، ولا يلزم منه جوازه على الإطلاق. انتهى.
4 -
(ومنها): بيان أن الملائكة تدعو على أهل المعصية، ما داموا فيها، وذلك يدلّ على أنهم يدعون لأهل الطاعة ما داموا فيها، قال الحافظ: كذا قال المهلَّب، وفيه نظر أيضًا.
5 -
(ومنها): أن فيه دليلًا على قبول دعاء الملائكة من خير أو شرّ؛ لكونه صلى الله عليه وسلم خَوَّف بذلك.
6 -
(ومنها): أن فيه الإرشادَ إلى مساعدة الزوج، وطلب مرضاته.
7 -
(ومنها): بيان أن صبر الرجل على ترك الجماع أضعف من صبر المرأة، وفيه أن أقوى التشويشات على الرجل داعية النكاح، ولذلك حَضّ الشارعُ النساءَ على مساعدة الرجال في ذلك، قاله ابن أبي جمرة رحمه الله
(1)
.
قال الحافظ: أو السبب فيه الحضّ على التناسل، ويرشد إليه الأحاديث الواردة في الترغيب في ذلك، كما تقدم في أوائل "النكاح".
8 -
(ومنها): أن فيه إشارةً إلى ملازمة طاعة الله، والصبر على عبادته؛ جزاءً على مراعاته لعبده، حيث لم يترك شيئًا من حقوقه إلا جعل له من يقوم به، حتى جعل ملائكته تلعن من أَغضَبَ عبده بمنع شهوة من شهواته، فعلى العبد أن يوفي حقوق ربه التي طلبها منه، وإلا فما أقبح الجفاء من الفقير المحتاج إلى الغني الكثير الإحسان، قاله ابن أبي جمرة رحمه الله أيضًا
(2)
.
9 -
(ومنها): أن إغضاب المرأة لزوجها حتى يبيت ساخطًا عليها من الكبائر، وهذا إذا غضب بحقّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"بهجة النفوس" 3/ 229 - 230.
(2)
"بهجة النفوس" 3/ 229 - 230.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3539]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: "حَتَّى تَرْجِعَ").
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ) بن عربىّ البصريّ، ثقةٌ [10](ت 248) أو بعدها (م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.
2 -
(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) بن عُبيد بن سُليم الْهُجيمىّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.
و"شعبة" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية خالد بن الحارث، عن شعبة هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى" (5/ 313) فقال:
(8970)
- أخبرنا محمد بن عبد الأعلى، عن خالد، قال: نا شعبة، عن قتادة، عن زُرارة، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا باتت المرأة هاجرة لفراش زوجها، لعنتها الملائكة حتى ترجع". انتهى.
والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3540]
(. . .) - (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ، عَنْ يَزِيدَ، يَعْنى ابْنَ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهَا، فَتَأْبَى عَلَيْهِ، إِلَّا كانَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا، حَتَّى يَرْضَى عَنْهَا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنىّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(مَرْوَانُ) بن معاوية بن الحارث بن أسماء الفزاريّ، أبو عبد الله
الكوفيّ، نزيل مكة، ثم دمشق، ثقةٌ حافظ، كان يدلّس أسماء الشيوخ [8](ت 193)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 138.
3 -
(يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ) اليشكريّ، أبو إسماعيل، أو أبو مُنين الكوفيّ، صدوقٌ يخطئ [6](بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.
4 -
(أَبُو حَازِمٍ) سلمان الأشجعيّ، مولى عزّة الأشجعيّة الكوفيّ، ثقةٌ [3] مات على رأس المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.
و"أبو هريرة" رضي الله عنه ذُكر قبله.
وقوله: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) هو قَسَمٌ بالله تعالى، أي والذي هو مالك، أو قادر عليها، ففيه دليلٌ أن الحلف بالألفاظ المبهمة المراد بها اسم الله تعالى يمينٌ جائزة، حكمها حكم الأسماء الصريحة على ما يأتي، قاله القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: وفيه أيضًا إثبات صفة اليد لله تعالى على ما يليق بجلاله سبحانه، والله تعالى أعلم.
وقوله: (إِلَّا كَانَ الّذِي فِي السَّمَاءِ) يعني الملائكة، كما فسّرت الرواية السابقة، واللاحقة، قال القرطبيّ: ظاهره أن المراد به الله تعالى، ويكون معناه بمعنى قوله تعالى:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]، ويَحْتَمِل أن يراد به هنا الملائكة، كما جاء في الرواية الأخرى:"لعنتها الملائكة حتى تصبح". انتهى
(2)
.
وقال ابن العربيّ: قوله: "الذي في السماء" يعني في العلوّ والجلال؛ لأن الله تعالى لا يحويه مكان، فكيف يكون محاطًا به فيه؟ وهذا كرضاه بجواب الجارية السوداء حين سألها أين الله؟، فأشارت إلى السماء، تعني به الجلال والرفعة. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله ابن العربيّ من تأويل قوله: "الذي في السماء" من أن المراد به العلو والرفعة، يريد به نفي إثبات صفة علوّه
(1)
"المفهم" 4/ 160.
(2)
"المفهم" 4/ 161.
(3)
"شرح الأبيّ" 4/ 62.
تعالى على السماء، وكذا استواءه على العرش، وقد تقدّم تفنيد هذا المذهب غير مرّة، وأن الحقّ أن الله تعالى استوى على العرش، كما أخبر به عن نفسه، وأنه على السماء، كما في هذا الحديث، وحديث الجارية، وأنه ينزل كلّ ليلة إلى سماء الدنيا، كما في حديث النزول، وله صفة المجيء يوم القيامة، كما قال:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} [الفجر]، ونحو ذلك، فيجب علينا إثبات ذلك على ظاهر ما جاء به، وتنزيهه عن مشابهة خلقه، إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل، كما قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
والحديث متّفقٌ عليه، إلا أنه بهذا اللفظ من أفراد المصنّف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3541]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، كُلُّهُمْ عَن الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ، فَلَمْ تَأْتِهِ، فَبَاتَ غَضْبَانَ عَلَيْهَا، لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ").
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ) عبد الله بن سعيد بن حصين الْكِنْديّ الكوفيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 17.
2 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قريبًا.
3 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ) بن شدّاد، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
والباقون ذُكروا في الباب، والأبواب الثلاثة الماضية، و"أبو كُريب" هو: محمد بن العلاء، و"أبو معاوية" هو: محمد بن خازم الضرير، و"جرير" هو: ابن عبد الحميد.
وقوله: (فَبَاتَ غَضْبَانَ) وفي بعض النسخ: "غضبانًا" بالصرف، والظاهر أن الأولى هي الصحيحة؛ لأن غضبان مما لا يجوز صرفه؛ لأن مؤنّثه غَضْبى، لا غضبانة، وما كان كذلك يجب منع صرفه، كما قال في "الخلاصة":
وَزَائِدَا فَعْلَانَ فِي وَصْفٍ سَلِمْ
…
مِنْ أَنْ يُرَى بِتَاءِ تَأْنِيثٍ خُتِمْ
ثم وجدت المجد رحمه الله نصّ على أنه يقال: غضبانة بالتاء على قلّة، ونصّه: وهي غَضْبَى، وغَضُوبٌ، وغَضْبَانَةٌ قليلةٌ. انتهى
(1)
، وذكر الشارح المرتضى أنها لغة بني أسد، ونصّه: ولغة بني أسد امرأة غَضْبانةٌ، ومَلآنةٌ، وأشباههما، وهي لغة قليلةٌ، صرّح به ابن مالك، وابن هشام، وأبو حيّان. انتهى
(2)
، وعلى هذا فتصحّ النسخة الثانية - والحمد لله - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(22) - (بَابُ تَحْرِيمِ إِفْشَاءِ سِرِّ الْمَرْأَةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3542]
(1437) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَمْزَةَ الْعُمَرِيِّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ، وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عُمَرُ بْنُ حَمْزَةَ الْعُمَرِيُّ) هو: عمر بن حمزة بن عبد الله بن عُمر بن الخطّاب الْعَدَويّ الْعُمريّ المدنيّ، ضعيف [6].
رَوَى عن عمه سالم بن عبد الله، وحُصين بن مصعب، والعباس بن
(1)
"القاموس المحيط" 1/ 111.
(2)
"تاج العروس من جواهر القاموس" 1/ 413.
عبد الرحمن بن ميناء، وأبي غَطَفان بن طَرِيف الْمُرّيّ، ومحمد بن كعب الْقُرَظيّ، وغيرهم.
ورَوَى عنه مروان بن معاوية الفَزَاريّ، وأحمد بن بشير الكوفىّ، وأبو عَقِيل عبد الله بن عَقيل الثقفىّ، وأبو أسامة، وأبو عَقِيل يحيى بن المتوكل.
قال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: أحاديثه مناكير، وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: عمر بن حمزة أضعف من عمر بن محمد بن زيد، وقال النسائيّ: ضعيفٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان ممن يخطئ، وقال ابن عديّ: هو ممن يُكتب حديثه، وأخرج الحاكم حديثه في "المستدرك"، وقال: أحاديثه كلها مستقيمة.
أخرج له البخاريّ في التعاليق، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث، برقم (1437) وأعاده بعده و (1574) و (2026) و (2426) و (2788) و (2921).
2 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعْدٍ) مولى الأسود بن سفيان، ويقال: مولى آل أبي سفيان المدنيّ، ثقةٌ [3].
وثقه النسائيّ، والعجليّ، وابن حبان. روى عن أبيه، وابن عمر، وأبى هريرة، وأبي سعيد الخدري، وغيرهم.
وروى عنه عبد الرحمن بن مهران، وهشام بن عروة، وأبو الأسود، وغيرهم.
3 -
(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان بن عُبيد الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما مات سنة (3 أو 4 أو 65 أو 74)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.
والباقيان تقدّما في الباب الماضي.
شرح الحديث:
عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدٍ، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ) قال القاضي عياض رحمه الله: هكذا وقعت الرواية "أَشَرّ" بالألف، وأهل النحو يأبون أن يقال: فلانٌ أشرّ، أو أخير من فلان، وإنما يقال: هو خير منه، وشرّ منه، وهو مشهور كلام العرب عندهم، قال الله تعالى:{مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا} [مريم: 75]، وقال:{خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا} الآية [مريم: 76]، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة باللفظين
على وجهها، وهي حجة في استعمال الوجهين. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي عزاه القاضي إلى النحاة هو الذي ذكره ابن مالك رحمه الله في "الكافية الشافية" بقوله:
وَغَالِبًا أَغْنَاهُمُ خَيْرٌ وَشَرْ
…
عَنْ قَوْلِهِمْ أَخْيَرُ مِنْهُ وَأَشَرْ
لكن ذكر الفيّوميّ أن استعماله بأفعل لغة لبني عامر، ونصّه في مادّة شَرّ: وهذا شرٌّ من ذاك، والأصل أشرّ بالألف، على أفعل، واستعمال الأصل لغةٌ لبني عامر، وقُرئ في الشّاذّ:"من الكذّاب الأشرّ" على هذه اللغة. انتهى
(2)
.
وقال المجد: وهو شَرٌّ منك، وأشرّ قليلةٌ، أو رديئة. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: شرٌّ وخيرٌ للمفاضلة، وغيرها، وشرّ هنا للمفاضلة، بمعنى أشرّ، وهو أصلها، و"من" هنا زائدة على "شرّ". انتهى
(4)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "من" زائدة غير صحيح؛ لأنه يؤدي إلى أن هذا الشخص أشر الناس مطلقًا، مع أنه هناك من هو أشرّ منه، وهو الكافر، كما قال تعالى:{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55)} [الأنفال: 55]، بل هي هنا للتبعيض، أي هو منهم، أي بعضهم، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(عِنْدَ اللهِ) متعلّق بـ "أشرّ"، وقوله:(مَنْزِلَةً) منصوب على التمييز (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ظرف لـ "أشرّ" أيضًا.
وقوله: (الرَّجُلَ) بالنصب على أنه اسم "إنّ" مؤخّرًا (يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ) أي يصل إليها، وهو كناية عن الجماع، كما في قوله تعالى:{وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21](وَتُفْضِي إِلَيْهِ) أي تصل إليه (ثُمَّ يَنْشُرُ) بضم الشين، من باب نصر (سِرَّهَا) المراد بالسّرّ وصف ما يجري بين الزوجين من أمور الاستمتاع، وما يجري من المرأة من قول، أو فعل حالة الجماع
(5)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "سرّها": أي نكاحها، كما قال:
وَلَا تَنْظُرَنَّ جَارَةً إِنَّ سِرَّهَا
…
عَلَيْكَ حَرَامٌ فَانْكِحَنْ أَوْ تَأَبَّدَا
(1)
"إكمال المعلم" 4/ 614.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 309.
(3)
"القاموس المحيط" 2/ 57.
(4)
"المفهم" 4/ 161.
(5)
"شرح الأبيّ" 4/ 62.
وكنى به عن النكاح؛ لأنه يُفعل في السرّ.
قال: ومقصود هذا الحديث هو أن الرجل له مع أهله خلوةٌ، وحالةٌ يقبُح ذكرها، والتحدّث بها، وتَحْمِل الغَيرة على سَتْرها، ويلزم من كشفها عارٌ عند أهل المروءة والحياء، فإن تكلّم بشيء من ذلك، وأبداه، كان قد كشف عورة نفسه وزوجته؛ إذ لا فرق بين كشفها للعيان، وكشفها للأسماع والآذان؛ إذ كلّ واحد منهما يحصل به الاطّلاع على العورة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"لا تعمد المرأة، فتصف المرأة لزوجها، حتى كأنه ينظر إليها"
(1)
، فإن دعت حاجةٌ إلى ذكر شيء من ذلك، فليذكره مبهمًا، غير معيّن، بحسب الحاجة والضرورة، كما قال صلى الله عليه وسلم:"فعلته أنا وهذه"
(2)
، وكقوله:"هل أعرستم الليلة؟ "
(3)
، وقول أم المؤمنين له صلى الله عليه وسلم:"كيف وجدت أهلك؟ "
(4)
، والتصريح بذلك، وتفصيله ليس من مكارم الأخلاق، ولا من خصال أهل الدين. انتهى
(5)
.
وقال النوويّ رحمه الله: في هذا الحديث تحريم إفشاء الرجل ما يجري بينه وبين امرأته، من أمور الاستمتاع، ووصف تفاصيل ذلك، وما يجري من المرأة فيه، من قول، أو فعل، ونحوه، فأما مجرد ذكر الجماع، فإن لم تكن فيه فائدة، ولا إليه حاجة فمكروه؛ لأنه خلاف المروءة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا، أو ليصمت"، وإن كان إليه حاجة، أو ترتب عليه فائدة، بأن يُنكَر عليه إعراضه عنها، أو تَدَّعِي عليه العجز عن الجماع، أو نحو ذلك، فلا كراهة في ذكره، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إني لأفعله أنا وهذه"، وقال صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة رضي الله عنه:"أعرستم الليلةَ؟ "، وقال لجابر رضي الله عنه:"الكَيْسَ الكَيْسَ"، والله أعلم. انتهى
(6)
.
وقال وليّ الله الدهلويّ رحمه الله: لَمّا كان الستر واجبًا، وإظهار ما أُسبل عليه الستر قلبًا لموضوعه، ومناقضًا لغرضه، كان من مقتضاه أن يُنْهَى عنه،
(1)
رواه أحمد في "مسنده" 1/ 380 و 460.
(2)
رواه البخاريّ تعليقًا (9/ 344)، ومسلم (350).
(3)
متّفقٌ عليه.
(4)
متّفقٌ عليه.
(5)
"المفهم" 4/ 161 - 162.
(6)
"شرح النوويّ" 10/ 8 - 9.
وأيضًا فإظهار مثل هذه مَجَانةٌ، ووَقَاحةٌ، واتّباعُ مثل هذه الدواعي يُعِدّ النفسَ لتسبح الألوان الظلمانية فيها. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: من الغريب إخراج المصنّف رحمه الله حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا في هذا الباب، مع أنه تفرّد به عمر بن حمزة، وهو ضعيف، كما سبق في ترجمته، ولم أجد حلًّا لهذه المشكلة، فليُتأمّل.
وقد ورد في الباب ما أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"(6/ 456) عن أسماء بنت يزيد أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرجال والنساء قُعُود عنده، فقال:"لعل رجلًا يقول ما يفعل بأهله، ولعل امرأة تُخبر بما فعلت مع زوجها؟ " فأَرَمَّ القوم، فقلت: إي والله يا رسول الله، إنهم ليفعلون، وإنهن ليفعلن، قال:"فلا تفعلوا، فإنما مَثَلُ ذلك مَثَلُ شيطان لقي شيطانة، فغشيها، والناس ينظرون".
وفي إسناده شهر بن حوشب، تكلّم فيه بعضهم، والصحيح أنه حسن الحديث
(2)
.
وعن سعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ألا يخشى أحدكم أن يخلو بأهله، يُغلق بابًا، ثم يُرخي سترًا، ثم يقضي حاجته، ثم إذا خرج حدّث أصحابه بذلك؟ ألا تخشى إحداكنّ، أن تُغلق بابها، وترخي سترها، فإذا قضت حاجتها، حَدّثت صواحبها؟ "، فقالت امرأةٌ سفعاء الخدين: والله يا رسول الله
(1)
"حجة الله البالغة" 1/ 707.
(2)
قال الهيثميّ في "مجمع الزوائد" 4/ 294: وفيه شهر بن حوشب، وحديثه حسنٌ، وفيه ضعف، وحسّن هذا الحديث الشيخ الألبانيّ رحمه الله.
قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم في "شرح المقدّمة" أن الصحيح أن شهرًا حسن الحديث، وأن من ضعّفه ليس لديه حجة مقنعة، فراجعه هناك.
إنهن ليفعلن، وإنهم ليفعلون، قال:"فلا تفعلوا، فإنما مَثَل ذلك مَثَل شيطان لقي شيطانةً على قارعة الطريق، فقضى حاجته منها، ثم انصرف، وتركها"، رواه البزار عن رَوح بن حاتم، وهو ضعيف، وبقية رجاله ثقات.
وعن أبي سعيد الخدريّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"الشباع حرام"، قال ابن لهيعة: يعني به الذي يفتخر بالجماع، رواه أبو يعلى، وفيه دَرّاج وثقه ابن معين، وضعّفه جماعة، قال ابن الأثير: السباع بالسين المهملة، وقيل: بالمعجمة
(1)
، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [22/ 3542 و 3543](1437)، و (أبو داود)(4870)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 39)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 69)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 86 و 87)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 112)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 193)، و"المعرفة"(5/ 332)، والله تعالى أعلم.
[3543]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَمْزَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْأَمَانَةِ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ، وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا"، وَقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: "إِنَّ أَعْظَمَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حماد بن أسامة، تقدّم قريبًا.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) تقدّم قبل بابين.
والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي.
وقوله: (إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْأَمَانَةِ) أي أوكدها، وأكبرها في مقصود الشرع، قال القرطبيّ: والأمانة للجنس، أي الأمانات، وقد تقدّم أن الأمانة ما يُوكل
(1)
"مجمع الزوائد" 4/ 295.
إلى حفظ الإنسان، وقيامه به، وقد سقطت "من" في إحدى الروايتين، والصواب إثباتها، فإنها تفيد أن هذه الأمانة من جنس الأمانات العظيمة، وهو صحيح، وإسقاطها يُشعر بأن هذه الأمانة أعظم الأمانات كلّها، وليس بصحيح، فإن الأمانة على صحيح الإيمان أعظم، وكذلك على الطهارة، وغيرها، مما يُؤتمن عليه الإنسان من خفيّ الأعمال. انتهى
(1)
.
وقوله: (وَقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: إِنَّ أَعْظَمَ) أشار به إلى بيان اختلاف شيخيه، فأبو كريب قال:"إن من أعظم" بـ "من"، ومحمد بن نُمير قال:"إن أعظم" بإسقاطها، وقد سبق آنفًا في كلام القرطبيّ أن إثباتها هو الصواب، فتكون رواية ابن نمير بتقديرها، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(23) - (بَابُ حُكْمِ الْعَزْلِ)
(اعلم): أن "العزل" - بفتح العين المهملة، وسكون الزاي -: مصدر عزل، من باب ضرب، يقال: عزَلتُ الشيءَ عن غيره عَزْلًا: إذا نحّيته عنه، ومنه عزَلتُ النائب، كالوكيل: إذا أخرجته عما كان له من الحُكم، وعزَلَ المجامِعُ: إذا قارب الإنزال، فنزع، وأمنى خارج الفرج.
[فائدة]: المجامِع إذا أمنى في الفرج الذي ابتدأ الجماع فيه، قيل: أَمَاهَ: أي ألقَى ماءه، وإن لم يُنزل، فإن كان لإعياء وفُتُور، قيل: أَكْسَلَ، وأقحَطَ، وفَهَّرَ تفهيرًا، وإن نزع، وأمنى خارج الفرج، قيل: عزل، وإن أولج في فرجٍ آخر، وأمنى فيه، قيل: فَهَرَ فَهْرًا، من باب نفع، ونُهي عن ذلك، وإن أمنى قبل أن يُجامع، فهو الزُّمَّلِقُ - بضمّ الزاي، وفتح الميم، مشدّدةً، وكسر اللام - ذكره الفيّوميّ
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب.
(1)
"المفهم" 4/ 162 - 163.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 407 - 408.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3544]
(1438) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَة بْنُ سَعِيدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي رَبِيعَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَن ابْنِ مُحَيْرِيزٍ، أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا، وَأَبُو صِرْمَةَ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، فَسَأَلَهُ أَبُو صِرْمَةَ، فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ الْعَزْلَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةَ بَلْمُصْطَلِقِ، فَسَبَيْنَا كَرَائِمَ الْعَرَبِ، فَطَالَتْ عَلَيْنَا الْعُزْبَةُ، وَرَغِبْنَا فِي الْفِدَاءِ، فَأَرَدْنَا أَنْ نَسْتَمْتِعَ، وَنَعْزِلَ، فَقُلْنَا: نَفْعَلُ
(1)
، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَظْهُرِنَا، لَا نَسْأَلُهُ؟ فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا، مَا كتَبَ اللهُ خَلْقَ نَسَمَةٍ، هِيَ كَائِنَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، إِلَّا سَتَكُونُ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ، أبو زكريّاء البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 234) وله (77) سنةً (عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
2 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
3 -
(عَلِيُّ بْن حُجْرٍ) السعديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظ، من صغار [10](ت 244)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
4 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
5 -
(رَبِيعَةُ) بن أبي عبد الرحمن التيميّ مولاهم، أبو عثمان المدنيّ المعروف بربيعة الرأي، واسم أبيه فَرُّوخ، ثقةٌ فقيهٌ مشهورٌ، كانوا يتّقونه لموضع الرأي [5](ت 136) على الصحيح (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 11/ 1652.
6 -
(مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ) - بفتح الحاء - ابن مُنقذ الأنصاريّ
(1)
وفي نسخة: "أنفعل؟ ".
المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [4](ت 1121) وله (74) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 150.
7 -
(ابْنُ مُحَيْرِيزٍ) هو: عبد الله بن مُحيريز بن جُنادة بن وهب الْجُمَحيّ المكيّ، كان يتيمًا في حِجْر أبي محذورة بمكة، ثم نزل بيت المقدس، ثقةٌ عابدٌ [3](ت 99) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 150.
8 -
(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك ذُكر في السند الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ، قرن بينهم؛ لِمَا مرّ قريبًا.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه: يحيى، وابن حُجر، كما أسلفته آنفًا.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيوخه، وابن مُحَيريز، كما أسلفته آنفًا أيضًا.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: ربيعة، عن محمد بن يحيى، عن ابن محيريز.
5 -
(ومنها): أن أبا سعيد رضي الله عنه، من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ مُحَيْرِيزٍ) قال في "الفتح": - بحاء مهملة، ثم راء، ثم زاي، مصغرًا - اسمه عبد الله، ووقع كذلك في رواية يونس، عن الزهريّ:"أخبرني عبد الله بن مُحيريز الْجُمَحيّ"، وهو مدنيّ سكن الشام، ومحيريز أبوه هو ابن جُنَادة بن وهب، وهو من رهط أبي مَحذورة المؤذن رضي الله عنه، وكان يتيمًا في حِجْره
(1)
. (أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا، وَأَبُو صِرْمَةَ) - بكسر الصاد المهملة، وسكون الراء - المازنيّ الأنصاريّ الصحابيّ، اسمه: مالك بن قيس، وقيل: ابن أبي قيس، وقيل: ابن أسعد، وقيل: قيس بن مالك بن أبي أنس، من بني مازن بن
(1)
"الفتح" 11/ 645 - 646.
النَّجّار، وقيل: من بني عديّ بن النجار، شهد بدرًا، وما بعدها، وكان شاعرًا، قال ابن عبد البرّ: لم يُختلف في شهوده بدرًا.
روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أبي أيوب، وروى عنه محمد بن كعب القُرَظيّ، ومحمد بن قيس المدنيّ، وعبد الله بن مُحيريز، وزياد بن نعيم الحضرميّ، ولؤلؤة مولاة الأنصار، وصحح الحافظ أبو أحمد الدمياطيّ أن اسمه قيس بن صِرْمة بن أبي صِرْمة بن مالك بن عديّ بن النّجّار، وكذا نسبه ابن الْبَرْقيّ، وابن قانع، وذكره محمد بن الربيع الْجِيزيّ فيمن قَدِم مصر من الصحابة، وأما ابن إسحاق، وموسى بن عقبة، والواقديّ، وأبو معشر، فلم يذكروه في البدريين، قال الحافظ: فيُحَرَّر قول ابن عبد البرّ. انتهى
(1)
.
تفرّد به البخاري في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب حديث واحد، سيأتي في "كتاب التوبة" برقم (2748):"لولا أنكم تُذنبون لخلق الله خلقًا يُذنبون، فيغفر لهم"، وأعاده بعده بلفظ:"لو أنكم لم تكن لكم ذنوبٌ، يغفرها الله لكم، لجاء الله بقوم لهم ذنوب يغفرها لهم".
(عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه (فَسَأَلَهُ أَبُو صِرْمَةَ) وفي رواية للبخاريّ في "المغازي" عن محمد بن يحيى بن حبان، عن ابن مُحيريز، أنه قال:"دخلت المسجد، فرأيت أبا سعيد الخدريّ، فجلست إليه، فسألته عن العزل"، وقد وقع في رواية للنسائيّ من طريق الضحاك بن عثمان، عن محمد بن يحيى، عن ابن مُحيريز، عن أبي سعيد، وأبي صِرْمة قالا: أصبنا سبايا. . .، والمحفوظ الأول
(2)
.
وقوله: (فَقَالَ) تفسير وبيان للسؤال (يَا أَبَا سَعِيدٍ، هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ الْعَزْلَ؟) أي نَزْعَ الذَّكَر من الفرج بعد الإيلاج؛ ليُنزل خارجه، والمراد بيان حكمه (فَقَالَ) أبو سعيد رضي الله عنه (نَعَمْ) أي سمعته صلى الله عليه وسلم يذكره، ثم بيّن كيفيّة سماعه، فقال:(غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةَ بَلْمُصْطَلِقِ) منحوت من بني الْمُصْطَلِق، كما يقال: بلعنبر، أي بني العنبر، وهي غزوة الْمُريسيع، قال القاضي عياض: قال أهل الحديث: هذا أولى من رواية موسى بن عقبة أنه كان
(1)
"تهذيب التهذيب" 4/ 540.
(2)
"الفتح" 11/ 646.
في غزوة أوطاس. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قال أبو عمر: بنو المصطلق قوم من خُزاعة، كانت الوقعة بهم في موضع يقال له: الْمُرَيسيع، من نحو قُديد، في سنة ستّ من الهجرة، وتُعرف هذه الغزوة بغزوة بني الْمُصْطَلِق، وبغزوة الْمُرَيسيع، قال: وقد روى هذا الحديث موسى بن عقبة، عن ابن مُحيريز، عن أبي سعيد، قال: أصبنا سَبْيًا من سبي أوطاس، قال: وهو سبيُ هَوَازن، وكان ذلك يوم حنين في سنة ثمان من الهجرة، قال: فوهِمَ ابن عقبة في ذلك، والله تعالى أعلم، قال: وقد رواه أبو إسحاق السَّبِيعيّ، عن أبي الْوَدّاك، عن أبي سعيد، قال: لَمّا أصبنا سبي حُنين، سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل، فقال:"ليس من كلّ الماء يكون الولد. . ." الحديث.
وتعقّبه القرطبيّ، فقال: الذي في مسلم في كتابه عن عليّ بن أبي طلحة، عن أبي الودّاك، عن أبي سعيد في هذا الحديث: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل، فقال:"ليس من كلّ الماء يكون الولد"، ولم يذكر فيه سبي حنين، ولا غيره، وكذلك ما ذكره أبو عمر من رواية ابن عقبة، عن ابن مُحيريز، ذكره مسلم أيضًا، ولم يذكر فيه: من سبي أوطاس، ولا غيره، وإنما ذكر مسلم يوم أوطاس في حديث أبي علقمة الهاشمىّ، عن أبي سعيد في قضيّة تحرّج أصحابه من وطء المسبيّات من أجل أزواجهنّ، على ما يأتي، وهي قصّة أخرى، في زمان آخر غير زمان بني المصطلِق، والصحيح في الحديث الأول رواية من رواه: بني المصطلِق، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
، وهو تحقيق مفيد.
(فَسَبَيْنَا) أي أَسَرْنا، قال المجد رحمه الله: سَبَى العدُوّ سَبْيًا، وسِبَاءً: أسره، كاستباه، فهو سبيّ، وهي سَبِيٌّ أيضًا، والجمع سَبَايَا. انتهى
(3)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: سَبيتُ العدُوَّ سَبيًا، من باب رَمَى، والاسم السِّبَاءُ، وزانُ كتاب، والقصر لغةٌ، وأسبيته بالألف مثله، فالغلام سَبِيٌّ، ومَسْبيّ،
(1)
"إكمال المعلم" 4/ 615.
(2)
"المفهم" 4/ 164.
(3)
"القاموس المحيط" 4/ 340.
والجارية سَبيّةٌ، ومسبيّةٌ، وجمعها سَبَايَا، مثلُ عطيّة وعَطَايَا، وقوم سَبْيٌ، وصفٌ بالمصدر، قال الأصمعيّ: لا يقال للقوم إلا كذلك. انتهى
(1)
.
(كَرَائِمَ الْعَرَبِ) جميع كريمة، أي النفيسات منهم، وقال القرطبيّ: أي كبراءهم، وخيارهم، قال: وبنو المصطلق وثنيّون بلا شكّ. انتهى
(2)
. (فَطَالَتْ عَلَيْنَا الْعُزْبَةُ) أي لتعذّر النكاح عليهم بتعذّر أسبابه، لا لطول إقامتهم في تلك الغزوة، فإن غيبتهم فيها عن المدينة لم تكن طويلة، قاله القرطبيّ رحمه الله
(3)
.
و"الْعُزْبَة": بضمّ، فسكون: أي البعد عن الأهل، يقال: عَزَبَ الرجل يَعْزُبُ، من باب قتل عُزْبةً، وزانُ غُرْفة، وعُزُوبةً: إن لم يكن له أهل، فهو عَزَبٌ بفتحتين، وامرأةٌ عَزَبٌ أيضًا كذلك، قال الشاعر [من الرجز]:
يَا مَنْ يَدُلُّ عَزَبًا عَلَى عَزَبْ
…
عَلَى ابْنَةِ الْحُمَارِسِ
(4)
الشَّيخِ الأَزِبْ
(5)
وجمع الرجل عُزّابٌ، باعتبار بنائه الأصليّ، وهو عازبٌ، مثلُ كافر وكُفّار، قال أبو حاتم: ولا يقال: رجلٌ أعزب، قال الأزهريّ: وأجازه غيره، وقياس قول الأزهريّ أن يقال: امرأة عَزْباءُ، مثلُ أحمر وحمراء. انتهى
(6)
.
(وَرَغِبْنَا فِي الْفِدَاءِ) أي في أخذ المال عوضًا عنهنّ، يقال: فدى أسيره: إذا دفع فيه مالًا، وأخذه، وفاداه: إذا دفع فيه رجلًا، على ما حكاه أبو عمر
(7)
.
قال النوويّ رحمه الله: معناه: احتجنا إلى الوطء، وخِفْنا من الْحَبَل، فتصير أمَّ ولد، يمتنع علينا بيعُها، وأخذُ الفداء فيها، فيُستنبط منه منع بيع أم الولد، وأن هذا كان مشهورًا عندهم. انتهى.
(فَاَرَدْنَا أَنْ نَسْتَمْتِعَ) أي نُجامع المسبيّات (وَنَعْزِلَ) أي نُنزل المنيّ خارج فرجها؛ لئلا تَحمل، وقال القرطبيّ رحمه الله:"الْعَزل": هو أن يُنحّي الرجل ماءه
(1)
"المصباح المنير" 1/ 265.
(2)
"المفهم" 4/ 164.
(3)
"المفهم" 4/ 164.
(4)
"الْحُمَارسُ بالضمّ: الشديد، والأسدُ، والجريء الْمِقْدام.
(5)
"الأزبُ": الكريه الذي لا يُدْنَى من حُرْمَته.
(6)
"المصباح المنير" 2/ 407.
(7)
"المفهم" 4/ 164.
عند الجماع عن الرحم، فيُلقيه خارجه. انتهى
(1)
. (فَقُلْنَا: نَفْعَلُ) وفي بعض النسخ: "أنفعل؟ "(وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل (بَيْنَ أَظْهُرِنَا) أي بيننا، فـ "أظْهُر" مُقْحَمٌ، قال الفيّوميّ رحمه الله:"هو نازلٌ بين ظَهْرانيهم" بفتح النون، قال ابن فارس: ولا تُكسر، وقال جماعة: الألف والنون زائدتان للتأكيد، و"بين ظَهْريهم"، و"بين أظهرهم" كلّها بمعنى "بينهم"، وفائدة إدخاله في الكلام أن إقامته بينهم على سبيل الاستظهار بهم، والاستناد إليهم، وكأَنَّ المعنى أن ظهرًا منهم قُدّامه، وظهرًا وراءه، فكأنه مكنوفٌ من جانبيه، هذا أصله، ثم كثُر، حتى استُعمل في الإقامة بين القوم، وإن كان غير مكنوف بينهم. انتهى
(2)
.
وقوله: (لَا نَسْأَلُهُ؟) جملة حاليّة، إما متداخلة، أو مترادفة، قال القرطبيّ رحمه الله: والذي حرّكهم للسؤال عنه أنهم خافوا أنه يكون محرّمًا؛ لأنه قطعٌ للنسل، ولذلك أُطلق عليه:"الوأد الخفيّ". انتهى
(3)
.
(فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية للبخاريّ: "إنا نُصيب سبيًا، ونحب المال، فكيف ترى في العزل؟ "، وفي رواية عبد الرحمن بن بشر عن أبي سعيد الآتية للمصنّف قال: ذُكر العزلُ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"وما ذاكم؟ "، قالوا: الرجل تكون له المرأة، تُرضع له، فيصيب منها، ويكره أن تَحمِل منه، والرجل تكون له الأمة، فيصيب منها، ويكره أن تَحمل منه.
قال في "الفتح": ففي هذه الرواية إشارة إلى أن سبب العزل شيئان:
[أحدهما]: كراهة مجيء الولد من الأمة، وهو إما أَنَفَةٌ من ذلك، وإما لئلا يتعذر بيع الأمة إذا صارت أم ولد، وإما لغير ذلك، كما سيأتي بعدُ.
[والثاني]: كراهة أن تَحْمِل الموطوءة، وهي تُرضع، فيَضُرّ ذلك بالولد الْمُرْضَع. انتهى
(4)
.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا) أي ليس عليكم ضرر في الترك، ففيه إشارةٌ أن ترك العزل أحسن من فعله.
(1)
"المفهم" 4/ 166.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 387.
(3)
"المفهم" 4/ 166.
(4)
"الفتح" 11/ 646.
أو المعنى على النهي: أي لا تفعلوا العزل، وفي رواية مالك، عن الزهريّ الآتية:"قال لنا: وإنكم لتفعلون؟، وإنكم لتفعلون؟ وإنكم لتفعلون؟ "، وفي رواية البخاريّ:"أوَ إنكم لتفعلون" بدون تكرار.
(مَا) نافية (كَتَبَ اللهُ خَلْقَ نَسَمَةٍ) بنصب "خَلْقَ" على المفعوليّة (هِيَ كَائِنَةٌ) أي مخلوقة، وقوله:(إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) متعلّق بـ "كتب"، أو بـ "خَلْق"، أو بـ "كائنة"(إِلَّا سَتَكُونُ) أي ستوجد، فـ "تكون" هنا تامّة.
قال النوويّ رحمه الله: قوله: "لا عليكم أن لا تفعلوا. . . إلخ": معناه: ما عليكم ضرر في ترك العزل؛ لأن كلَّ نفس قَدَّرَ الله تعالى خلقها لا بد أن يخلقها، سواءٌ عَزَلتم أم لا، وما لم يُقَدِّر خلقها لا يقع، سواء عزلتم أم لا، فلا فائدة في عزلكم، فإنه إن كان الله تعالى قَدَّرَ خلقها سبقكم الماء، فلا ينفع حرصكم في منع الخلق. انتهى.
وفي الرواية الآتية: "لا عليكم أن لا تفعلوا، فَإِنَّمَا هُوَ الْقَدَرُ": أي إنما المؤثّر في وجود الولد وعدمه القدرُ، لا العزل، فأيّ حاجة إليه.
وقال الحافظ أبو عمر رحمه الله: اختُلف في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "ما عليكم ألا تفعلوا إلخ": فقيل: ما عليكم في العزل، ولا في امتناعكم منه شيء، فاعزلوا، أو لا تعزلوا، فقد فُرِغ من الخلق، وإعدادهم، وما قضي، وسَبَقَ في علم الله، فلا بدّ أن يكون لا محالة، قال الله عز وجل:{وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29)} [النبأ: 29]، وقال عز وجل:{وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)} [القمر: 52 - 53].
وقيل: بل معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "أن لا تفعلوا": أي لا تفعلوا العزل، كأنه نهَى عنه. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله
(1)
.
وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: اختُلف في قوله: "لا عليكم ألا تفعلوا"، ففهمتْ طائفةٌ منه النهي والزجر عن العزل، كما حُكي عن الحسن، ومحمد بن المثنّى
(2)
، وكأن هؤلاء فَهِمُوا من "لا" النهي عما سُئل عنه، وحُذف
(1)
"الاستذكار" 18/ 204 - 205.
(2)
هكذا نسخة: "المفهم""ابن المثنّى"، والظاهر أنه تصحيف من "ابن سيرين"، كما المنصوص عند مسلم، فليُحرّر.
بعد قوله: "لا"، فكأنه قال: لا تعزلوا، وعليكم ألّا تفعلوا، تأكيدًا لذلك النهي.
وفَهِمَت طائفةٌ أخرى منها الإباحة، وكأنها جعلت جواب السؤال قوله:"لا عليكم ألا تفعلوا": أي ليس عليكم جناحٌ في أن لا تفعلوا.
وهذا التأويل أولى بدليل قوله: "ما من نسمة كائنة إلا ستكون"، وبقوله:"لا عليكم ألا تفعلوا، فإنما هو القدر"، وبقوله:"إذا أراد الله خلقَ الشيء لم يمنعه شيء"، وهذه الألفاظ كلّها مصرّحةٌ بأن العزل لا يردّ القدر، ولا يضرّه، فكأنه قال: لا بأس به.
وبهذا تمسّك من رأى إباحة العزل مطلقًا عن الزوجة والسُّرِّيّة، وبه قال كثيرٌ من الصحابة، والتابعين، والفقهاء.
وقد كرهه آخرون من الصحابة، وغيرهم، متمسّكين بالطريقة المتقدّمة، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"ذلك الوأد الخفيّ".
ووقع في رواية مسلم لهذا الحديث من طريق أيوب، عن ابن سيرين ما نصّه:"قال محمد: وقوله: "لا عليكم" أقرب إلى النهي"، ومن طريق معاذ بن معاذ، عن ابن عون، عن ابن سيرين ما نصّه: قال ابن عون: فحدّثتُ به الحسنَ، فقال: والله لكأنّ هذا زجر.
قال في "الفتح": قال القرطبيّ: كأن هؤلاء فهموا من "لا" النهي عما سألوه عنه، فكأن عندهم بعد "لا" حذفًا، تقديره: لا تعزلوا، وعليكم أن لا تفعلوا، ويكون قوله:"وعليكم إلخ" تأكيدًا للنهي.
وتُعُقّب بأن الأصل عدم هذا التقدير، وإنما معناه: ليس عليكم أن تتركوا، وهو يساوي أن لا تفعلوا، وقال غيره: قوله: "لا عليكم أن لا تفعلوا" أي لا حرج عليكم أن لا تفعلوا، ففيه نفي الحرج عن عدم الفعل، فأفهم ثبوت الحرج في فعل العزل، ولو كان المراد نفي الحرج عن الفعل لقال: لا عليكم أن تفعلوا، إلا أن يُدّعَى أنّ "لا" زائدةٌ، فيقال: الأصل عدم ذلك.
ووقع في رواية مسلم الآتية من طريق مجاهد، عن قَزَعَةَ، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: ذُكر العزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"ولِمَ يَفعَلُ ذلك أحدكم؟ "، ولم يقل: لا يفعلْ ذلك، فأشار إلى أنه لم يصرّح لهم بالنهي،
وإنما أشار أن الأَولى ترك ذلك؛ لأن العزل إنما كان خشية حصول الولد، فلا فائدة في ذلك؛ لأن الله إن كان قدّر خلق الولد لم يمنع العزل ذلك، فقد يسبق الماء، ولا يشعر العازل، فيحصل العلوق، ويلحقه الولد، ولا رادّ لما قضى الله، والفرار من حصول الولد يكون لأسباب:
(منها): خشية علوق الزوجة الأمةِ؛ لئلّا يصير الولد رقيقًا، أو خشية دخول الضرر على الولد المرضَع إذا كانت الموطوءة تُرضعه، أو فرارًا من كثرة العيال، إذا كان الرجل مُقِلًّا، فيرغب عن قلّة الولد؛ لئلّا يتضرّر بتحصيل الكسب، وكلُّ ذلك لا يُغني شيئًا.
وقد أخرج أحمد، والبزّار، وصحّحه ابن حبّان من حديث أنس رضي الله عنه: أن رجلًا سأل عن العزل؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لو أن الماء الذي يكون منه الولد أهرقته على صخرة لأخرج الله منها ولدًا"، وله شاهدان في "الكبير" للطبرانيّ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، وفي "الأوسط" له عن ابن مسعود رضي الله عنه.
قال الحافظ: وليس في جميع الصور التي يقع العزل بسببها ما يكون العزل فيه راجحًا، سوى الصورة الآتية عند مسلم من طريق عبد الرحمن بن بشر، عن أبي سعيد - يعني حديث الباب - وهي خشية أن يضرّ الحمل بالولد المرضَع؛ لأنه مما جُرّب، فضرّ غالبًا، لكن وقع في بقيّة الحديث عند مسلم أن العزل بسبب ذلك لا يفيد؛ لاحتمال أن يقع الحمل بغير الاختيار.
ووقع عند مسلم في حديث أُسامة بن زيد الآتي: جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أعزل عن امرأتي شفقةً على ولدها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا، إن كان كذلك، فلا، ما ضارّ ذلك فارس ولا الروم".
وفي العزل أيضًا إدخال ضرر على المرأة؛ لما فيه من تفويت لذّتها. انتهى
(1)
، وسيأتي تحقيق الخلاف في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"الفتح" 11/ 647 - 648.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [23/ 3544 و 3545 و 3546 و 3547 و 3548 و 3549 و 3550 و 3551 و 3552 و 3553 و 3554 و 3555](1438)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2229) و"العتق"(2542) و"المغازي"(4138) و"النكاح"(5210) و"القدر"(6603) و"التوحيد"(7409)، و (أبو داود) في "النكاح"(2170 و 2172)، و (الترمذيّ) في "النكاح"(1138)، و (النسائيّ) في "النكاح"(3328)، وفي "الكبرى"(5486)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1926)، و (مالك) في "الموطإ"(1262)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2177)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 222)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 11 و 23 و 53 و 63 و 68 و 72 و 78 و 88)، و (الدارميّ) في "سننه"(2223 و 2224)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(2217 و 2218 و 2219)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 33)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4191 و 4193)، و (أبو عوانة) في "مسنده) (3/ 95 و 96 و 97 و 98)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه" (4/ 114)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط" (7/ 324) و"الصغير" (2/ 139)، و (أبو يعلى) في "مسنده" (2/ 429 و 444)، و (ابن الجعد) في "مسنده" (1/ 178)، و (البيهقيّ) في "الكبرى" (7/ 229) و"المعرفة" (5/ 368)، و (البغويّ) في "شرح السنّة" (2295)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان حكم العزل، وهو مختلف فيه، سيأتي بيانه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.
2 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: في هذا الحديث دلالة لمذهب جماهير العلماء، أن العرب يَجرِي عليهم الرقّ، كما يجري على العجم، وأنهم إذا كانوا مشركين، وسُبُوا جاز استرقاقهم؛ لأن بني المصطلِق عرب صلبية، من خُزاعة، وقد استرقّوهم، ووَطِئوا سباياهم، واستباحوا بيعهنّ، وأخذ فدائهنّ، وبهذا قال مالك، والشافعيّ في قوله الصحيح الجديد، وجمهور العلماء، وقال
أبو حنيفة، والشافعيّ في قوله القديم: لا يَجري عليهم الرقّ؛ لشرفهم، والله أعلم. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): جواز كراهة الإنسان حمل زوجته؛ لسبب من الأسباب.
4 -
(ومنها): أن قوله صلى الله عليه وسلم: "أوَ إنكم لتفعلون" يُشعر بأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يطّلع على فعلهم ذلك، ففيه تعقّبٌ على من قال: إن قول الصحابيّ: كنّا نفعل كذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعٌ؛ معتلًّا بأن الظاهر اطلاع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ففي هذا الخبر أنهم فعلوا العزل، ولم يعلم به حتى سألوه عنه.
ويُجاب عن هذا بأن دواعيهم كانت متوفّرةً على سؤاله صلى الله عليه وسلم عن أمور الدين، فإذا فعلوا الشيء، وعلموا أنه لم يطّلع عليه بادروا إلى سؤاله عن الحكم فيه، فيكون الظهور من هذه الحيثيّة، أفاده في "الفتح".
وأيضًا على تقدير أنه صلى الله عليه وسلم لا يطّلع عليه أن الوحي لا يسكت عنه، كما أفصح بذلك جابر رضي الله عنه، حيث قال:"كنّا نَعزل، والقرآن يَنزل" رواه مسلم، فقد استدلّ الصحابيّ رضي الله عنه على جواز العزل بعدم نزول القرآن بتحريمه، وهو استدلالٌ واضح.
وأخرج الدارقطنيّ، وغيره عن أبي ثعلبة الْخُشَنيّ، مرفوعًا:"إن الله تعالى فرض فرائض، فلا تضيّعوها، وحدّ حُدُودًا، فلا تعتدوها، وحرّم أشياء، فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً لكم، غير نسيان، فلا تبحثوا عنها"
(2)
.
5 -
(ومنها): ما قاله الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: في هذا الحديث إثبات قِدَم العِلْم، وأن الخلق يُجزَون في علم قد سبق، وجفّ به القلم في كتاب مسطور، على هذا أهل السنّة، وهم أهل الحديث، والفقه.
وجملة القول في الْقَدَر أنه علم الله، وسرّه، لا يُدرك بجَدَل، ولا تُشْفِي منه خُصُومةٌ، ولا احتجاج، وحسبُ المؤمن بالقدر أنه لا يقوم بشيء، دون إرادة الله، وأن الخلق كلهم خلقُهُ، ومُلكه، ولا يكون في ملكه إلا ما شاء،
(1)
"شرح النوويّ" 10/ 11 - 13.
(2)
حسّنه النوويّ في "أربعينيّه"، وأعلّه ابن رجب بالانقطاع بين مكحول، وأبي ثعلبة رضي الله عنه.
وما نشاء إلا أن يشاء الله، {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل: 9]، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وله الخلق، والأمرُ، له ما في السموات، وما في الأرض، وما بينهما، وما تحت الثرى، ولا يكون في شيء من ذلك إلا ما يشاء، يغفر لمن يشاء، ويُعذّب من يشاء، ومن عذّبه فبذنبه، ويعفو عمن يشاء من عباده، ومن لم يوفّقه، فليس بظالم له، لا يظلم مثقال ذرّة، وإن تك حسنةً يُضاعفها، وما ربّك بظلّام للعبيد. انتهى
(1)
.
6 -
(ومنها): ما قال في "الفتح": استُدِلّ بقوله: "وأصبنا كرائم العرب"، لمن أجاز استرقاق العرب، وبقوله:"أردنا أن نستمتع" لمن أجاز وطء المشركات بمِلك اليمين، وإن لم يكنّ من أهل الكتاب؛ لأن بني المصطلِق كانوا أهل أوثان، وقد انفصل عنه من منع باحتمال أن يكونوا ممن دان بدين أهل الكتاب، وهو باطل، وباحتمال أن يكون ذلك في أول الأمر، ثم نُسخ، وفيه نظر؛ إذ النسخ لا يثبت بالاحتمال، وباحتمال أن تكون المسبيات أسلمن قبل الوطء، وهذا لا يتم مع قوله في الحديث:"وأحببنا الفداء"، فإن المسلمة لا تعاد للمشرك، نعم يمكن حمل الفداء على مَعْنًى أخصّ، وهو أنهن يَفْدِين أنفسهنّ، فيُعْتَقْن من الرقّ، ولا يلزم منه إعادتهنّ للمشركين، وحمَله بعضهم على إرادة الثمن؛ لأن الفداء المتخوَّف من فوته هو الثمن، ويؤيد هذا الحمل قوله في الرواية الأخرى:"فقالوا: يا رسول الله إنا أصبنا سبيًا، ونحبّ الأثمان، فكيف ترى في العزل؟ "، وهذا أقوى مِن جميع ما تقدم، والله أعلم. انتهى
(2)
ما في "الفتح"، وهو بحث نفيسٌ.
وحاصله ترجيح تفسير الفداء في قوله: "ورغبنا في الفداء" بالثمن، أي أنهم يرغبون في بيعها، فإذا حَمَلت منهم امتنع عليهم بيعها، ففقدوا ثمنها، وهذا التأويل كما قال في "الفتح": أقوى من غيره؛ لقوله في الرواية المذكورة: "ونُحبّ الأثمان"، والرواية يفسّر بعضها بعضًا، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حُكم العزل:
(1)
"الاستذكار" 18/ 209 - 210.
(2)
"الفتح" 11/ 651.
(اعلم): أنه اختلف السلف في حكم العزل، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: لا خلاف بين العلماء أنه لا يعزل عن الزوجة الحرّة إلا بإذنها؛ لأن الجماع من حقّها، ولها المطالبة به، وليس الجماع المعروف إلا ما لا يلحقه عزل، ووافقه في نقل الإجماع ابن هُبيرة.
قال في "الفتح": وتُعُقّب بأن المعروف عند الشافعيّة أن المرأة لا حقّ لها في الجماع أصلًا
(1)
، ثم في خصوص هذه المسألة عند الشافعيّة خلافٌ مشهور في جواز العزل عن الحرّة بغير إذنها، قال الغزاليّ وغيره: يجوز، وهو المصحّح عند المتأخّرين.
واحتجّ الجمهور لذلك بحديث عن عمر رضي الله عنه، أخرجه أحمد، وابن ماجه بلفظ:"نُهي عن العزل عن الحرّة إلا بإذنها"، وفي إسناده ابن لهيعة، والوجه الآخر للشافعيّة الجزم بالمنع إذا امتنعت، وفيما إذا رضيت وجهان، أصحّهما الجواز، وهذا كلّه في الحرّة، وأما الأمة، فإن كانت زوجة، فهي مُرَتّبة على الحرّة، إن جاز فيها ففي الأمة أولى، وإن امتنع فوجهان، أصحّهما الجواز؛ تحرّزًا من إرقاق الولد، وإن كانت سُرّيّةً جاز بلا خلاف عندهم إلا في وجه حكاه الرويانيّ في المنع مطلقًا، كمذهب ابن حزم، وإن كانت السرّيّة مستولدةً، فالراجح الجواز فيه مطلقًا؛ لأنها راسخةٌ في الفراش، وقيل: حكمها حكم الأمة المزوّجة.
هذا: واتفقت المذاهب الثلاثة على أن الحرّة لا يعزل عنها إلا بإذنها، وأن الأمة يعزل عنها بغير إذنها، واختلفوا في المزوّجة، فعند المالكيّة يحتاج إلى إذن سيّدها، وهو قول أبي حنيفة، والراجح عن محمد، وقال أبو يوسف، وأحمد: الإذن لها، وهي رواية عن أحمد، وعنه: بإذنها، وعنه: يباح العزل مطلقًا، وعنه: المنع مطلقًا.
والذي احتجّ به من جنح إلى التفصيل لا يصحّ إلا عند عبد الرزّاق عنه بسند صحيح، عن ابن عبّاس، قال: "تُستأمر الحرّة في العزل، ولا تُستأمر
(1)
قال الجامع: قد تقدّم لنا البحث في هذا، وأن الحقّ وجوب الجماع للزوجة إذا احتاجت إليه، فلا تغفل.
الأمة السرّيّة، فإن كانت أمة تحت حرّ، فعليه أن يستأمرها"، وهذا نصّ في المسألة، فلو كان مرفوعًا لم يجُز العدول عنه.
وقد استنكر ابن العربيّ القول بمنع العزل عمن يقول بأن المرأة لا حقّ لها في الوطء، ونقل عن مالك أن لها حقّ المطالبة به إذا قصد بتركه إضرارها
(1)
، وعن الشافعيّ، وأبي حنيفة: لا حقّ لها فيه إلا في وطأة واحدة يستقرّ بها المهر، قال: فإذا كان الأمر كذلك، فكيف يكون لها حقّ في العزل؟ فإن خصّوه بالوطئة الأولى، فيمكن، وإلا فلا يسوغ فيما بعد ذلك إلا على مذهب مالك بالشرط المذكور. انتهى.
وما نقله عن الشافعيّ غريبٌ، والمعروف عند أصحابه أنه لا حقّ لها أصلًا، نعم جزم ابن حزم بوجوب الوطء، وبتحريم العزل، واستند إلى حديث جُدامة بنت وهبٍ:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سُئل عن العزل، فقال: "ذلك الوأد الخفيّ"، أخرجه مسلم.
وهذا معارض بحديثين: أحدهما أخرجه الترمذيّ، والنسائيّ، وصححه من طريق معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر، قال:"كانت لنا جواري، وكنّا نعزل، فقالت اليهود: إن تلك الموءودة الصغرى، فسُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: كذبت اليهود، لو أراد الله خلقه لم تستطع ردّه".
وأخرجه النسائيّ من طريق هشام، وعليّ بن المبارك، وغيرهما عن يحيى، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبي مُطيع ابن رفاعة، عن أبي سعيد نحوه.
(1)
قال الجامع: هذا هو الصواب الذي عليه النصوص، فقد أوجب الله تعالى لهنّ مثل ما عليهنّ في قوله تعالى:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} الآية، فكما أن عليها التمكين من جماعها إذا أراد، فكذلك عليه أن يُجامعها إذا طلبت منه ذلك، وليس هناك مانع، من مرض، أو نحوه، لظاهر الآية المذكورة.
والحاصل أن ما نقل عن مالك رحمه الله هو الأرجح في المسألة، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
ومن طريق أبي عامر، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
ومن طريق سليمان الأحول أنه سمع عمرو بن دينار يسأل أبا سلمة بن عبد الرحمن عن العزل؟ فقال: زعم أبو سعيد، فذكر نحوه، قال: فسألت أبا سلمة، أسمعته من أبي سعيد؟ قال: لا، ولكن أخبرني رجلٌ عنه.
والحديث الثاني: في النسائيّ من وجه آخر عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وهذه طرُقٌ يتقوّى بعضها ببعضٍ.
وجُمِعَ بينها وبين حديث جُدامة بحمل حديث جدامة على التنزيه، وهذه طريقة البيهقيّ.
ومنهم من ضعّف حديث جُدامة بأنه معارضٌ بما هو أكثر طرُقًا منه، وكيف يصرّح بتكذيب اليهود في ذلك، ثم يُثبته؟، وهذا دفعٌ للأحاديث الصحيحة بالتوهّم، والحديث صحيحٌ لا ريب فيه، والجمع ممكنٌ.
ومنهم من ادّعى أنه منسوخٌ، ورُدّ بعدم معرفة التاريخ، وقال الطحاويّ: يَحْتَمِل أن يكون حديث جُدامة على وفق ما كان عليه الأمر أوّلًا من موافقة أهل الكتاب، وكان صلى الله عليه وسلم يُحبّ موافقة أهل الكتاب فيما لم يُنْزَل عليه، ثم أعلمه الله بالحكم، فكذّب اليهود فيما كانوا يقولونه.
وتعقّبه ابن رُشد، ثم ابن العربيّ بأنه لا يَجزِم بشيء تبعًا لليهود، ثم يُصرّح بتكذيبهم فيه.
ومنهم: من رجّح حديث جدامة بثبوته في الصحيح، وضعّف مقابله بأنه حديث واحد، اختُلف في إسناده، فاضطَرَبَ.
وردّ بأن الاختلاف إنما يَقْدَح حيث لا يقوَى بعض الوجوه، فمتى قويَ بعضها عُمل به، وهو هنا كذلك، والجمع ممكن.
ورجّح ابن حزم العمل بحديث جدامة بان أحاديث غيرها توافق أصل الإباحة، وحديثها يدلّ على المنع، قال: فمن ادّعى أنه أُبيح بعد أن مُنع، فعليه البيان.
وتُعُقّب بأن حديثها ليس صريحًا في المنع، إذ لا يلزم من تسميته وأدًا خفيًّا على طريقة التشبيه أن يكون حرامًا.
وخصّه بعضهم بالعزل عن الحامل؛ لزوال المعنى الذي كان يحذره الذي يَعزل من حصول الحمل. لكن فيه تضييعُ الحمل؛ لأن المنيّ يغذوه، فقد يؤدّي العزل إلى موته، أو إلى ضعفه المفضي إلى موته، فيكون وَأْدًا خفيًّا.
وجمعوا أيضًا بين تكذيب اليهود في قولهم: الموؤودة الصغرى، وبين إثبات كونه وأدًا خفيًّا في حديث جدامة بأن قولهم: الموؤودة الصغرى يقتضي أنه وأدٌ ظاهر، لكنه صغير بالنسبة إلى دفن المولود بعد وضعه حيًّا، فلا يعارض قوله: إن العزل وأدٌ خفيّ، فإنه يدلّ على أنه ليس في حكم الظاهر، فلا يترتّب عليه حكم، وإنما جعله وأدًا من جهة اشتراكهما في قطع الولادة.
وقال بعضهم: قوله: "الوأد الخفيّ" وَرَدَ على طريقة التشبيه؛ لأنه قطع طريق الولادة قبل مجيئه، فأشبه قتل الولد بعد مجيئه.
قال ابن القيّم: الذي كُذِّبَت فيه اليهودُ زعمهم أن العزل لا يُتصوّر معه الحمل أصلًا، وجعلوه بمنزلة قطع النسل بالوأد، فأكذبهم، وأخبر أنه لا يمنع الحمل إذا شاء الله خلقه، وإذا لم يرد خلقه لم يكن وأدًا حقيقةً، وإنما سمّاه وأدًا خفيًّا في حديث جدامة؛ لأن الرجل إنما يعزل هربًا من الحمل، فأجرى قصده لذلك مجرى الوأد، لكن الفرق بينهما أن الوأد ظاهر بالمباشرة، اجتمع فيه القصد والفعل، والعزل يتعلّق بالقصد صِرْفًا، فلذلك وصفه بكونه خفيًّا.
قال الحافظ: فهذه عدّة أجوبة يقف معها الاستدلال بحديث جدامة على المنع.
قال: وقد جنح إلى المنع من الشافعيّة ابن حبّان
(1)
، فقال في "صحيحه":
(1)
قال الجامع: في جعله ابن حبّان من مقلّدي الشافعيّ نظر لا يخفى؛ لأن من تتبّع مذهبه في "صحيحه" يعلم يقينًا أنه لا يقلّد الشافعيّ ولا غيره، بل هو كسائر أهل الحديث مجتهد، يتبع الدليل، ولا ينظر إلى قول أحد بلا دليل، وهذا هو مذهب الشيخين، وأصحاب السنن، وقد قدّمت هذا البحث مستوفًى في "شرح المقدّمة"(1/ 12 - 14) عند ذكر مذهب الإمام مسلم رحمه الله، فراجعه، وكذا حقّقت البحث في التقليد في "التحفة المرضيّة" و"شرحها"(3/ 535) بما فيه الكفاية، فراجعه تستفد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
[ذكرُ الخبر الدّالّ على أن هذا الفعل مزجورٌ عنه، لا يُباح استعماله]، ثم ساق حديث أبي ذرّ رفعه:"ضعه في حلاله، وجنّبه حرامه، وأقرره، فإن شاء الله أحياه، وإن شاء أماته، ولك أجر". انتهى.
ولا دلالة فيما ساقه على ما ادّعاه من التحريم، بل هو أمر إرشاد لما دلّت عليه بقيّة الأخبار، والله أعلم.
وعند عبد الرزّاق وجة آخر عن ابن عبّاس أنه أنكر أن يكون العزل وأدًا، وقال:"المنيّ يكون نطفةً، ثم علقة، ثم مضغةً، ثم عظمًا، ثم يُكسى لحمًا، قال: والعزل قبل ذلك كله".
وأخرج الطحاويّ من طريق عبد الله بن عديّ بن الخيار عن عليّ نحوه في قصّة حرب عند عمر، وسنده جيّد. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما ذُكر أن الأرجح قول من قال بجواز العزل للحاجة، وأن الأولى عدم فعله، وبهذا تجتمع الأدلة في هذا الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: اختلف القائلون بالنهي عن العزل في علّة النهي، فقيل: لتفويت حقّ المرأة، وقيل: لمعاندة القَدَر، وهذا الثاني هو الذي تقتضيه معظم الأخبار الواردة في ذلك، والأول مبنيّ على صحّة الخبر المفرّق بين الحرّة والأمة، وقال إمام الحرمين: موضع المنع أنه ينزع بقصد الإنزال خارج الفرج خشية العلوق، ومتى فُقِد ذلك لم يُمنع، وكأنه راعى سبب المنع، فإذا فُقد بقي أصل الإباحة، فله أن ينزع متى شماء حتى لو نزع، فأنزل خارج الفرج اتفاقًا، لم يتعلّق به النهي. قاله في "الفتح"
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في حكم معالجة إسقاط النطفة، واستعمال الأدوية لذلك، أو لمنع الحمل، وحكم تحديد النسل:
قال في "الفتح" بعد ذكر ما تقدّم في المسألة الماضية ما نصّه: ويُنتزع من حكم العزل حكم معالجة المرأة إسقاط النطفة قبل نفخ الروح، فمن قال بالمنع
(1)
"الفتح" 11/ 648 - 651.
(2)
"الفتح" 11/ 651.
هناك، ففي هذه أولى، ومن قال بالجواز يمكن أن يلتحق به هذا، ويمكن أن يُفرّق بأنه أشدّ؛ لأن العزل لم يقع فيه تعاطي السبب، ومعالجة السقط تقع بعد تعاطي السبب.
ويلتحق بهذه المسألة تعاطي المرأة ما يقطع الْحَبَل من أصله، وقد أفتى بعض متأخّري الشافعيّة بالمنع، وهو مشكلٌ على قولهم بإباحة العزل مطلقًا. انتهى
(1)
.
وقد صدرت قرارات من هيئة كبار العلماء في هذا الموضوع، أحببت إيرادها هنا تتميمًا للفائدة، وهذا نصّها:
وهذا قرار رقم 42 بتاريخ 13/ 4/ 1396 هـ.
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، وعلى آله وصحبه، وبعد:
ففي الدورة الثامنة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في النصف الأول من شهر ربيع الآخر عام 1396 هـ بَحَثَ المجلسُ موضوع منع الحمل، وتحديد النسل، وتنظيمه، بناءً على ما تقرّر في الدورة السابعة للمجلس المنعقدة في النصف الأول من شهر شعبان 1395 هـ من إدراج موضوعها في جداول أعمال الدورة الثامنة، وقد اطّلع المجلس على البحث المعدّ في ذلك، من قِبَل اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء، وبعد تداول الرأي، والمناقشة بين الأعضاء، والاستماع إلى وجهات النظر، قرّر المجلس ما يلي:
نظرًا إلى أن الشريعة الإسلاميّة تَرغب في انتشار النسل، وتكثيره، وتعتبر النسل نعمةً كبرى، ومنّةً عظيمةً، مَنَّ اللهُ بها على عباده، فقد تضافرت بذلك النصوص الشرعيّة، من كتاب الله، وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، مما أوردته اللجنة الدائمة للبحوث العلميّة، والإفتاء في بحثها المعدّ للهيئة، والمقدّم لها، ونظرًا إلى أن القول بتحديد النسل، أو منع الحمل مصادم للفطرة الإنسانيّة التي فطر الله الخلق عليها، وللشريعة الإسلاميّة التي ارتضاها الربّ لعباده، ونظرًا إلى أن دعاة القول بتحديد النسل، أو منع الحمل فئة تهدف بدعوتها إلى الكيد
(1)
"الفتح" 11/ 651.
للمسلمين بصفة عامة، وللأمة العربيّة المسلمة بصفة خاصّة، حتى تكون لديهم القدرة على استعمار البلاد، واستعمار أهلها، وحيث إن في الأخذ بذلك ضربًا من أعمال الجاهليّة، وسوء ظنّ بالله تعالى، وإضعافًا للكيان الإسلاميّ المتكوّن من كثرة اللبنات البشريّة، وترابطها؛ لذلك كلّه، فإن المجلس يقرّر بأنه لا يجوز تحديد النسل مطلقًا، ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد منه خشية الإملاق؛ لأن الله تعالى هو الرزّاق ذو القوّة المتين {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، وأما إذا كان منع الحمل لضرورة محقّقة، ككون المرأة لا تلد ولادة عاديّةً، وتضطرّ معها إلى إجراء عمليّة جراحيّة لإخراج الولد، أو كان تأخيره لفترة ما؛ لمصلحة يراها الزوجان، فإنه لا مانع حينئذ من منع الحمل، أو تأخيره، عملًا بما جاء في الأحاديث الصحيحة، وما روي عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم من جواز العزل، وتمشّيًا مع ما صرّح به بعض الفقهاء من جواز شرب الدواء لإلقاء النطفة قبل الأربعين، بل قد يتعيّن منع الحمل في حالة ثبوت الضرورة المحقّقة، وقد توقّف فضيلة الشيخ عبد الله بن غديان في حكم الاستثناء، وصلى الله على محمد.
"هيئة كبار العلماء".
وهذا نصّ قرار مجمع الفقه الإسلاميّ رقم (1) د 5/ 09/ 88 بشأن تنظيم النسل:
إن مجلس مجمع الفقه الإسلاميّ المنعقد في دورة المؤتمر الخامس بالكويت من (1) إلى (6) جمادى الأولى 1409 هـ - 10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988 م - بعد اطلاعه على البحوث المقدّمة من الأعضاء، والخبراء في موضوع تنظيم النسل، واستماعه للمناقشات التي دارت حوله، وبناءً على أن من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلاميّة الإنجاب، والحفاظ على النوع الإنسانيّ، وأنه لا يجوز إهدار هذا المقصد؛ لأن إهداره يتنافى مع نصوص الشريعة، وتوجيهاتها الداعية إلى تكثير النسل، والحفاظ عليه، والعناية به باعتبار حفظ النسل أحد الكليّات الخمس التي جاءت الشرائع برعايتها، قرّر ما يلي:
1 -
لا يجوز إصدار قانون عامّ يحد من حرّية الزوجين في الإنجاب.
2 -
يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل، أو المرأة، وهو ما يُعرف بـ "الإعقام"، أو "التعقيم" ما لم تدع إلى ذلك الضرورة بمعاييرها الشرعيّة.
3 -
يجوز التحكّم المؤقّت في الإنجاب بقصد المباعدة بين فترات الحمل، أو إيقافه لمدّة معيّنة من الزمان، إذا دعت حاجة معتبرةٌ شرعًا بحسب تقدير الزوجين عن تشاور بينهما، وتراضٍ، بشرط أن لا يترتّب على ذلك ضررٌ، وأن تكون الوسيلة مشروعةً، وأن لا يكون فيها عدوانٌ على حمل قائم، والله أعلم.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قرّره هيئة كبار العلماء، ومجمع الفقه الإسلامي بالكويت، ونحوهما ما قرره مجلس المجمع الفقه الإسلاميّ بمكة المكرمة، تقرير حسنٌ جدًّا، ينبغي التمسّك به، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: ومما له صلةٌ بالمسألة ما قرّره مجلس المجمع الفقه الإسلاميّ لرابطة العالم الإسلاميّ بشأن تحويل الذكر إلى الأنثى، وبالعكس، فقد قرّر في دورته الحادية عشرة المنعقدة بمكة المكرّمة في الفترة من يوم الأحد 13 رجب 1409 هـ الموافق 19 فبراير 1989 م إلى يوم الأحد 20 رجب 1409 هـ الموافق 26 فبراير 1989 م، قد نظر في موضوع تحويل الذكر إلى الأنثى، وبالعكس، وبعد البحث والمناقشة بين أعضائه قرّر ما يلي:
1 -
الذكر الذي كملت أعضاء ذكورته، والأنثى التي كملت أعضاء أنوثتها، لا يحلّ تحويل أحدهما إلى النوع الآخر، ومحاولة التحويل جريمة يستحقّ فاعلها العقوبة؛ لأنه تغيير لخلق الله، وقد حرّم الله سبحانه وتعالى هذا التغيير بقوله تعالى، مخبرًا عن قول الشيطان:{وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119]، فقد جاء في "صحيح مسلم"
(1)
عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والنامصات، والمتنمّصات، والمتفلّجات للحسن، المغيّرات
(1)
هكذا عزوه إلى "صحيح مسلم" فقط، والصواب أنه متّفقٌ عليه، فقد أخرجه البخاريّ في "التفسير"، و"اللباس"، من "صحيحه"، فليُتنبّه.
خلق الله سبحانه وتعالى"، ثم قال: ألا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله سبحانه وتعالى؟ - يعني قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
2 -
أما من اجتمع في أعضائه علامات النساء والرجال، فينظر فيه إلى الغالب من حاله، فإن غلبت عليه الذكورة، جاز علاجه طبيًّا بما يُزيل الاشتباه في أنوثته، سواء كان العلاج بالجراحة، أو بالهرمونات؛ لأن هذا المرض والعلاج يُقصد به الشفاء منه، وليس تغييرًا لخلق الله سبحانه وتعالى.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله ربّ العالمين
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3545]
(. . .) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْفَرَجِ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ الزِّبْرِقَانِ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، فِي مَعْنَى حَدِيثِ رَبِيعَةَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "فَإِنَّ اللهَ كَتَبَ مَنْ هُوَ خَالِقٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْفَرَجِ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ) هو: محمد بن الفَرَج بن عبد الوارث، أبو جعفر، ويقال: أبو عبد الله البغداديّ القرشيّ، مولى بني هاشم، كان جار أحمد بن حنبل، صدوقٌ [10].
رَوَى عن خاله أبي همام محمد بن الزِّبْرِقان، وهشيم، وابن عيينة، وزيد بن الْحُبَاب، وعبد الوهاب بن عطاء، وحجاج بن محمد، وأسود بن عامر شاذان، وغيرهم.
وروى عنه مسلم، وأبو داود، وإبراهيم الحربيّ، وعبد الله بن أحمد، وأبو زرعة الرازيّ، وموسى بن هارون، والحسن بن علي المعمري، وغيرهم.
(1)
راجع: "توضيح الأحكام" للشيخ عبد الله البسّام رحمه الله 4/ 459 - 463.
قال عبد الله بن أحمد: سألت ابن معين عنه، فقال: ليس به بأسٌ، وقال أبو زرعة: صدوقٌ، وقال محمد بن عبد الله الحضرميّ: ثنا محمد بن الفرج البغداديّ في شارع الدقيق، وكان من الثقات، وقال السراج: بغداديّ ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات".
قال أبو القاسم البغويّ: مات سنة ست وثلاثين ومائتين.
تفرّد به المصنّف، وأبو داود، وله في هذا الكتاب حديثان فقط
(1)
، هذا برقم (1438) وحديث (2457):"أُريت الجنة، فرأيت امرأة أبي طلحة، ثم سمعتُ خَشْخَشَةً أمامي، فإذا بلالٌ".
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ) أبو هَمّام الأهوازيّ، صدوقٌ
(2)
[8].
رَوَى عن سليمان التيميّ، وعبيد الله بن عمر، وموسى بن عقبة، وموسى بن عُبيدة، وعبد الله بن عون، ويونس بن عبيد، وأبي حيان التيميّ، وغيرهم.
ورَوى عنه عليّ ابن المدينيّ، وعبد الله بن محمد المسنديّ، وأبو خيثمة، وصدقة بن الفضل، وبندار، وابن أخته محمد بن الفرج البغداديّ، وغيرهم.
قال ابن المدينيّ: ثقةٌ، وقال أبو زرعة: صالحٌ وسطٌ، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، صدوقٌ، وقال البخاريّ: معروف الحديث، وقال النسائيّ: ليس به بأسٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ربما أخطأ، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال ابن معين: لم يكن صاحب حديث، ولكن لا بأس به، وقال الْبَرْقانيّ، عن الدارقطنيّ: ثقةٌ.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
(1)
ونقل في "تهذيب التهذيب" عن "الزهرة" أن مسلمًا روى عنه أربعة أحاديث، وهذا يخالف ما قلته، والذي قلته هو الذي ذُكر في برنامج الحديث للكتب التسعة، والظاهر أنه أقرب للصواب، فليُتأمل.
(2)
في "التقريب": صدوقٌ ربّما وَهِمَ"، قوله: "ربما وَهِم" أخذه من "ثقات" ابن حبّان، لكن يُقدّم قول الأئمة الآخرين، فالأولى حذفها، فتنبّه.
3 -
(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) تقدّم قريبًا.
و"محمد بن يحيى" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية موسى بن عُقبة عن محمد بن يحيى بن حبّان هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"(3/ 72) فقال:
(11706)
- حدّثنا عفّان، ثنا وُهيب، ثنا موسى بن عقبة، قال: حدّثني محمد بن يحيى بن حَبّان، عن ابن مُحَيريز، عن أبي سعيد الخدريّ، في غزوة بني المصطلِق: إنهم أصابوا سبايا، فأرادوا أن يستمتعوا بهنّ، ولا يَحْمِلنَ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"ما عليكم أن لا تفعلوا، فان الله قد كَتَب من هو خالق إلى يوم القيامة". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3546]
(. . .) - (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضُّبَعِيُّ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَة، عَنْ مَالِكٍ، عَن الزُّهْرِيِّ، عَن ابْنِ مُحَيْرِيزٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، قَالَ: أَصَبْنَا سَبَايَا، فَكُنَّا نَعْزِلُ، ثُمَّ سَأَلْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَنَا: "وَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ؟، وَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ؟، وَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ؟ مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، إِلَّا هِيَ كَائِنَةٌ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ الله بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضُّبَعِيُّ) أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقةٌ جليلٌ [10](ت 231)(خم د س) تقدم في "الإيمان" 47/ 297.
2 -
(جُوَيْرِيَةُ) بن أسماء بن عُبيد الضُّبَعيّ البصريّ، صدوقٌ [7](ت 173)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 73/ 390.
3 -
(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، تقدّم قريبًا.
4 -
(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم، تقدّم قبل بابين.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ) رضي الله عنه قال في "الفتح": هو ابن أسماء الضُّبَعيّ،
يشارك مالكًا في الرواية عن نافع، وتفرد عنه بهذا الحديث، وبغيره، وهو من الثقات الأثبات، قال الدارقطنيّ بعد أن أخرجه من طريقه: صحيحٌ، غريبٌ، تفرّد به جُويرية، عن مالك، قال الحافظ: ولم أره إلا من رواية ابن أخيه عبد الله بن محمد بن أسماء، عنه. انتهى
(1)
.
وقوله: (عَنْ مَالِكٍ، عَن الزُّهْرِيِّ، عَن ابْنِ مُحَيْرِيزٍ. . . إلخ) قال في "الفتح": وافق مالكًا على هذا السند شعيب، عند البخاريّ في "البيوع"، ويونس عنده أيضًا في "القدر"، وعُقيل، والزُّبَيديّ، كلاهما عند النسائيّ، وخالفهم معمر، فقال: عن الزهريّ، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد، أخرجه النسائيّ، وخالف الجميع إبراهيم بن سعد، فقال: عن الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي سعيد، أخرجه النسائيّ أيضًا، قال النسائيّ: رواية مالك، ومن وافقه أولى بالصواب. انتهى
(2)
.
وقوله: (فَكُنَّا نَعْزِلُ) وتقدّم بلفظ: "فأردنا أن نستمتع، ونعزل"، قال القرطبيّ رحمه الله: يعني أن منهم من وقج سؤاله قبل أن يعزل، ومنهم من وقع سؤاله بعد أن عَزَلَ، وَيحْتَمِل أن يكون معنى قوله:"كنا نعزل" أي عزمنا على ذلك، فيرجع معناه إلى الأول. انتهى
(3)
.
وقوله: ("وَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ؟، وَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ؟، وَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ؟) قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهره الإنكار والزجر، غير أنه يضعّفه قوله:"ما من نسمة كائنة إلا وهي كائنة" على ما قرّرناه آنفًا، فإذًا معناه: الاستبعاد لفعلهم له، بدليل ما جاء في الرواية الأخرى:"ولمَ يَفْعَلُ ذلك أحدكم؟ "، قال الراوي: ولم يقل: فلا يفعل ذلك أحدكم، ففُهم أنه ليس بنهي، وهو أعلم بالمقال، وأقعد بالحال، انتهى
(4)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"الفتح" 11/ 645.
(2)
"الفتح" 11/ 645 - 646.
(3)
"المفهم" 4/ 166.
(4)
"المفهم" 4/ 167 - 168.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3547]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: سَمِعْتَهُ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا، فَإِنَّمَا هُوَ الْقَدَرُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ) البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 250) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.
2 -
(بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ) تقدّم قريبًا.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم قبل باب.
4 -
(أنَسُ بْنُ سِيرِينَ) الأنصاريّ، أبو موسى، أو أبو حمزة، أو أبو عبد الله البصريّ، أخو محمد بن سيرين، ثقةٌ [3] (118) وقيل:(120)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 47/ 1494.
5 -
(مَعْبَدُ بْنُ سِيرِينَ) الأنصاريّ البصريّ، مولى أنس، أكبر إخوته، ثقةٌ [3].
رَوَى عن عمر بن الخطاب، وأبي سعيد الخدريّ.
ورَوى عنه أخوه أنس، ومحمد، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان أقدم بني سيرين موتًا، وقال العجليّ: بصريّ تابعيّ، ثقةٌ، وذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل البصرة، وقال: كان ثقةً، وقد رَوَى أحاديث، وذكر ابن أبي خيثمة أنه رَوَى أيضًا عن أنس، وقال يحيى بن معين: يُعْرَفُ ويُنكِر
(1)
.
مات على رأس المائة.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا
(1)
كلام ابن معين هذا يحتاج إلى تأكّد صحته عنه، فإن معبدًا وثّقه في "التقريب" بالإطلاق، فليُنظر.
الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1438) وأعاده بعده، وحديث (2201):"ما كان يدريه أنها رقية، اقسموا، واضربوا لي بسهم معكم".
والصحابيّ رضي الله عنه ذُكر قبله.
[فائدة]: ذكر ابن الجعد رحمه الله في "مسنده"(1/ 179) فقال: حدّثنا محمد بن إسحاق، قال سمعت عليّ ابن المدينيّ، يقول: محمدٌ، ومعبدٌ، وأنسٌ، ويحيى بن سيرين، ولم يرو عن يحيى أحدٌ إلا أخوه محمد، ولم يرو عن معبد إلا أخوه أنس، وحفصة بنت سيرين أختهم، وفي غير حديث ابن المدينيّ: وكريمة بنت سيرين أختهم.
قال: وكان أنس بن سيرين يكنى أبا موسى، حدّثنا بذلك صالح بن أحمد، عن أبيه، وقد قيل: إنه يكنى بأبي حمزة، وإنه سُمِّي حين وُلد باسم أنس بن مالك، وكُني بكنيته.
قال: ورَوَى حماد بن زيد، عن أنس بن سيرين، قال: وُلدت لسنة بقيت من خلافة عثمان، بلغني ذلك عن حماد بن زيد.
قال: حدّثنا عباس بن محمد، نا أبو بكر بن أبي الأسود، عن سعيد بن عامر، قال: كان سيرين أبو محمد بن سيرين قَيْنًا حَدّادًا.
قال: حدّثنا محمد بن عليّ الجوزجانيّ، قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: مات أنس بن سيرين سنة عشرين. انتهى.
وقوله: (قَالَ: قُلْتُ لَهُ: سَمِعْتَهُ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ) القائل شعبة، ففي الرواية التالية:"قال شعبة: قلت له: سمعته من أبي سعيد؟ قال: نعم"، والظاهر أن الضمير في "له" لمعبد بن سيرين، ومعناه أن شعبة لقيه بعد أن سمع الحديث بواسطة أخيه أنس، فسأله للتأكّد، فقال: أسمعته من أبي سعيد الخدريّ مباشرة؟ فقال له: نعم.
ويَحْتَمل أن يكون الضمير لأنس بن سيرين شيخ شعبة، فيكون مما سمعه عن أخيه، عن أبي سعيد، ثم سمعه من أبي سعيد نفسه، ويقوّي هذا الاحتمال ما تقدّم عن ابن المدينيّ أنه لم يرو عن معبد إلا أخوه أنس، والله تعالى أعلم.
لكن أخرج الحديث أبو عوانة في "مسنده"(3/ 95) فقال:
(4334)
- حدثنا عباس الدُّوريّ، قثنا
(1)
شبابة، قثنا شعبة، عن أنس بن سيرين، عن أخيه معبد بن سيرين، عن أبي سعيد الخدريّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في العزل قال:"لا عليكم ألا تفعلوا، فإنما هو قدر".
قال شعبة: قلت لأنس بن سيرين: أسمعه معبد من أبي سعيد؟ قال: نعم. انتهى.
وهذه الرواية واضحة لا إشكال فيها، ولعلّ نُسخ "صحيح مسلم" دخلها التصحيف، والأصل في الأول:"قال: قلت له: سمعه من أبي سعيد. . . إلخ"، أي قال شعبة: قلت لأنس بن سيرين: أسمع معبد هذا الحديث من أبي سعيد الخدري؟، قال: نعم، وفي الثاني: قال شعبة: قلت له: سمعه من أبي سعيد؟، أي قلت لأنس: أسمعه معبد من أبي سعيد؟، فليُتأمل، والله تعالى أعلم.
وقوله: (لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا ذَاكُمْ) أي ما عليكم ضررٌ في الترك، فأشار به إلى أن ترك العزل أحسن.
وقوله: (فَإِنَّمَا هُوَ الْقَدَرُ) أي المؤثّر في وجود الولد وعدمه هو قدر الله، لا العزل، فأيّ حاجة إليه؟، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3548]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، وَبَهْزٌ، قَالُوا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِهِمْ: عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الْعَزْلِ: "لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا ذَاكُمْ، فَإِنَّمَا هُوَ الْقَدَرُ"، وَفِي رِوَايَةِ بَهْزٍ: قَالَ شُعْبَةُ: قُلْتُ لَهُ: سَمِعْتَهُ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ).
(1)
منحوت الموضعين من قوله: "قال: حدّثنا"، فتنبّه.
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) تقدّم قبل بابين.
3 -
(بَهْزُ) بن أسد الْعَمّيّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.
وقوله: (قَالُوا جَمِيعًا) الضمير يرجع على الأربعة: محمد بن جعفر غُندر، وخالد بن الحارث الْهُجَيميّ، وعبد الرحمن بن مهديّ، وبهز بن أسد.
[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر عن شعبة ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"(3/ 22) فقال:
(11188)
- حدّثنا محمد بن جَعْفَرٍ، ثنا شُعْبَةُ، عن أَنَسِ بن سِيرِينَ، عن مَعْبَدٍ، عن أبي سَعِيدٍ الخدريّ، عَنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْعَزْلِ، أو قال في الْعَزْلِ:"لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا ذَلِكُمْ، فَإِنَّمَا هو الْقَدَرُ".
ورواية عبد الرحمن بن مهديّ، عن شعبة ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده" (2/ 384) فقال:
(1154)
- حدّثنا أبو خيثمة، حدّثنا عبد الرحمن بن مهديّ، حدّثنا شعبة، عن أنس بن سيرين، عن أخيه معبد بن سيرين، عن أبي سعيد الخدريّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا عليكم ألا تفعلوا، فإنما هو القدر".
ورواية بهز، عن شعبة ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" (3/ 49) فقال:
(11476)
- حدّثنا بَهْزٌ، ثنا شُعْبَةُ، قال: حدّثني أَنَسُ بن سِيرِينَ، عن أَخِيهِ مَعْبَدِ بن سِيرِينَ، عن أبي سَعِيدٍ الخدريّ، قال شُعْبَةُ: قلت له: سَمِعْتَهُ من أبي سَعِيدٍ؟ قال: نعم، عَنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم في الْعَزْلِ، قال:"لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا ذَلِكُمْ، فَإِنَّمَا هو الْقَدَرُ".
وأما رواية خالد بن الحارث عن شعبة، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3549]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، وَأَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، وَاللَّفْظُ لِأَبِي كَامِلٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، وَهُوَ ابْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بِشْرِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَدَّهُ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَن الْعَزْلِ، فَقَالَ:"لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا ذَاكُمْ، فَإِنَّمَا هُوَ الْقَدَرُ"، قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقَوْلُهُ
(1)
: "لَا عَلَيْكُمْ" أَقْرَبُ إِلَى النَّهْيِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ) سليمان بن داود العَتَكيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فُضيل بن حسين البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(أَيُّوبُ) السختيانيّ، تقدّم قبل بابين.
5 -
(مُحَمَّدُ) بن سيرين، تقدّم قريبًا.
6 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرِ بْنِ مَسْعُودٍ) الأنصاريّ، أبو بشر الأزرق المدنيّ، مقبول [3].
رَوَى عن أبي مسعود الأنصاريّ، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وخَبّاب بن الأرتّ.
وروى عنه إبراهيم النخعيّ، ومحمد بن سيرين، وموسى بن عبد الله بن يزيد الخطميّ، وجعفر بن أبي وَحْشيّة، ورجاء الأنصاريّ، وأبو الحصين.
ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد: كان قليل الحديث، وقال الدارقطنيّ: أرسل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
تفرّد به المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وأعاده بعده، وله عند النسائيّ هذا، وآخر في كيفية الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وعند أبي داود في كراهة التسرع إلى الحكم.
(1)
وفي نسخة: "قوله" بحذف العاطف.
[تنبيه]: إنما أخرج المصنّف طريق عبد الرحمن بن بشر، مع أنه مقبول؛ لأنها متابعة لما سبق من الروايات، فتنبّه.
و"أبو سعيد" رضي الله عنه ذُكر قبله.
وقوله: (سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَن الْعَزْلِ) السائل هو أبو سعيد، ومن معه من الصحابة رضي الله عنه، كما قال في الرواية السابقة:"فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وقوله: (قَالَ مُحَمَّدٌ) هو ابن سيرين.
وقوله: (لَا عَلَيْكُمْ أَقْرَبُ إِلَى النَّهْيِ) يعني أنه يُفهم من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا عليكم" النهي عن فعل العزل، قال القرطبيّ بعد ذكره أن طائفة فهمت النهي عن العزل، ومنهم الحسن البصريّ، ومحمد بن سيرين، قال: وكأن هؤلاء فَهِموا من "لا" النهي عما سُئل عنه، وحذف بعد قوله:"لا"، فكأنه قال: لا تعزلوا، وقوله:"وعليكم ألا تفعلوا" تأكيد لذلك النهي.
وفهمت الطائفة الأخرى الإباحة، وكأنها جَعَلت جواب السؤال قوله:"لا عليكم ألا تفعلوا"، أي ليس عليكم جُناح في أن لا تفعلوا، وهذا التأويل أولى، وقد تقدّم وجه أولويّته قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3550]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بِشْرٍ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: فَرَدَّ الْحَدِيثَ، حَتَّى رَدَّهُ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: ذُكِرَ الْعَزْلُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "وَمَا ذَاكُمْ؟ "، قَالُوا: الرَّجُلُ تَكُونُ لَهُ الْمَرْأَةُ تُرْضِعُ، فَيُصِيبُ مِنْهَا، وَيَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ مِنْهُ، وَالرَّجُلُ تَكُونُ لَهُ الْأَمَةُ، فَيُصِيبُ مِنْهَا، وَيَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ مِنْهُ، قَالَ: "فَلَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا ذَاكُمْ، فَإِنَّمَا هُوَ الْقَدَرُ"، قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: فَحَدَّثْتُ بِهِ الْحَسَنَ، فَقَالَ: وَاللهِ لَكَأَنَّ هَذَا زَجْرٌ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُعَاذُ بْنُ مُعَاذِ) بن نصر بن حسّان الْعَنْبريّ، أبو المثنّى البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
2 -
(ابْنُ عَوْنٍ) هو: عبد الله بن عون بن أَرطبان، أبو عون البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [5](ت 150) على الصحيح (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 303.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (عَنْ مُحَمَّدٍ) هو ابن سيرين.
وقوله: (قَالَ: فَرَدَّ الْحَدِيثَ) الظاهر أن القائل هو ابن عون، وفي رواية أبي عوانة من طريق عبد الله بن حُمران، عن ابن عون:"رفع الحديث، حتى ردّه إلى أبي سعيد الخدريّ".
وقوله: (حَتَّى رَدَّهُ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) يعني أنه نسبه إلى أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، وإنما عدل عن قوله:"سمعت أبا سعيد" أو نحو ذلك؛ لكونه نسي الصيغة، فأتى بما يشمل جميع الصيغ، والله تعالى أعلم.
وقوله: (ذُكِرَ الْعَزْلُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) ببناء الفعل للمفعول، والذاكر هو أبو سعيد، ومن معه من الصحابة، كما قال في الرواية السابقة:"فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وقوله: (الرَّجُلُ تَكُونُ لَهُ الْمَرْأَةُ تُرْضِعُ، فَيُصِيبُ مِنْهَا، وَيَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ مِنْهُ) معناه أن الرجل تكون امرأة حرّة، وهي ترضع ولده، فيجامعها، ويكره أن تحمل من ذلك الجماع، زعمًا منهم أن لبن الحامل في حال الإرضاع مضرّ بالولد المحمول، كما سيأتي بعد باب - إن شاء الله تعالى -.
وقوله: (وَالرَّجُلُ تَكُونُ لَهُ الْأَمَةُ، فَيُصِيبُ مِنْهَا، وَيَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ مِنْهُ) أي لئلا يمتنع عليه بيعها، إن حَمَلت منه؛ لكونها أم ولد له.
قال القرطبيّ رحمه الله: هذا دليلٌ على أن قوله صلى الله عليه وسلم: "فلا عليكم ألا تفعلوا" خرج جوابًا عن سؤالين: العزلِ عن الحرّة، وعن الأمة، فلا بُعْد أن يذكر الراوي في وقتٍ أحد السؤالين، ويسكت عن الآخر، ويذكرهما جميعًا في وقت آخر، كما قد جاءت في هذه الروايات، ولا يُعدّ مثل هذا اضطرابًا. انتهى
(1)
.
وقوله: (قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: فَحَدَّثْتُ بِهِ الْحَسَنَ) أي البصريّ (فَقَالَ) أي
(1)
"المفهم" 4/ 168.
الحسن (وَاللهِ لَكَأَنَّ هَذَا زَجْرٌ) يعني أنه فَهِم من هذا الحديث ما فهمه ابن سيرين، من معنى النهي عن العزل، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى.
والحديث بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3551]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَن ابْنِ عَوْنٍ، قَالَ: حَدَّثْتُ مُحَمَّدًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ بِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بِشْرٍ، يَعْنِي حَدِيثَ الْعَزْلِ، فَقَالَ: إِيَّايَ حَدَّثَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو حجّاج بن أبي يعقوب يوسف بن حجّاج الثقفيّ البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 259)(م د) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.
2 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ) الأزديّ الواشحيّ البصريّ، ثم المكيّ قاضيها، ثقةٌ إمامٌ حافظٌ [9](ت 214) وله (80) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 68.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (قَالَ: حَدَّثْتُ مُحَمَّدًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ. . . إلخ) القائل هو ابن عون، يعني أنه حدّث محمد بن سيرين بهذا الحديث عن إبراهيم النخعيّ، فقال له محمد بن سيرين: إياي حدّث هذا الحديث عبد الرحمن بن بشر الذي رواه عنه إبراهيم النخعيّ، فصار لابن عون فيه سندان، سند إبراهيم، عن عبد الرحمن، عن أبي سعيد، وسند ابن سيرين، عن عبد الرحمن، عن أبي سعيد رضي الله عنه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3552]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: قُلْنَا لِأَبِي سَعِيدٍ: هَلْ سَمِعْتَ
رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ فِي الْعَزْلِ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ عَوْنٍ إِلَى قَوْلِهِ:"الْقَدَرُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ الْأَعْلَى) بن عبد الأعلى الساميّ البصريّ، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.
2 -
(هِشَامُ) بن حسّان الأزديّ الْقُرْدوسيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقة، من أثبت الناس في ابن سيرين [6](ت 7 أو 148)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
والباقون ذُكروا في الباب، و"محمدّ" هو ابن سيرين.
وقوله: (وساق الحديث. . . إلخ) فاعل "ساق" ضمير هشام بن حسّان.
[تنبيه]: رواية هشام بن حسّان، عن محمد بن سيرين، هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى" (3/ 201) فقال:
(5047)
- أخبرنا أحمد بن سليمان، قال: ثنا يزيد، قال: أنا هشام، عن محمد، عن أخيه معبد
(1)
بن سيرين، قال: قلت لأبي سعيد الخدريّ: هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في العزل شيئًا؟ قال: نعم، سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل، فقال:"وما هو؟ " فقلنا: الرجل تكون له المرأة المرضع، فيَكْرَه أن تَحْمِل، فيَعْزِل عنها، أو تكون الجارية له، ليس له مال غيرها، فيصيب منها، فيَكْرَه أن تَحْمِل، فيَعْزِل عنها، فقال:"لا عليكم أن لا تفعلوا ذلكم، فإنما هو القدر". انتهى.
[تنبيه آخر]: تكلّم الدارقطنيّ رحمه الله في سند هذا الحديث، فقال: وأخرج مسلم عن ابن المثنّى، عن عبد الأعلى، عن هشام، عن محمد، عن أخيه معبد، أبي سعيد في "العزل"، قال: لم يُتابع هشام، وخالفه أيوب، وابن عون، عن محمد، عن عبد الرحمن بن بِشْر، عن أبي سعيد، فلعلّ ابن سيرين حفظه عنهما - والله أعلم - وأخرجهما كليهما مسلم. انتهى.
حاصل ما أشار إليه الدارقطنيّ رحمه الله أن هشام بن حسّان تفرّد بروايته عن
(1)
وقع في النسخة: "سعيد"، وهو غلط بلا شكّ، فتنبّه.
محمد بن سيرين، عن أخيه معبد بن سيرين، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، وخالف في ذلك أيوب السختيانيّ، وعبد الله بن عون، فإنهما روياه عن محمد بن سيرين، عن عبد الرحمن بن بشر، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه.
لكن هذا الخلاف لا يؤثّر في صحة الحديث، كما أشار إليه الدارقطنيّ في آخر كلامه، حيث قال: فلعلّ ابن سيرين حفظه عنهما.
والحاصل أن الحديث صحيح محفوظ من الطريقين المذكورين، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3553]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، قَالَ ابْنُ عَبْدَةَ: أَخْبَرَنَا، وقَالَ عُبَيْدُ اللهِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَن ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ قَزْعَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: ذُكِرَ الْعَزْلُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(1)
، فَقَالَ:"وَلِمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ؟ - وَلَمْ يَقُلْ: فَلَا يَفْعَلْ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ - فَإِنَّهُ لَيْسَتْ نَفْسٌ مَخْلُوقَةٌ، إِلَّا اللهُ خَالِقُهَا").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ) أبو سعيد البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 235) على الأصحّ وله (85) سنةً (خ م د س) تقدم في "المقدمة" 6/ 75.
2 -
(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ) بن موسى الضبّيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ [10](245)(م 4) تقدم في "الإيمان" 1/ 103.
3 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم قبل بابين.
4 -
(ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ) هو: عبد الله بن أبي نَجِيح يسار الثقفيّ مولاهم، أبو يسار المكيّ، ثقةٌ رُمي بالقدر، وربّما دلّس [6](ت 131) أو بعدها (ع) تقدم في "الجنائز" 6/ 2134.
5 -
(مُجَاهِدُ) بن جبر المخزوميّ مولاهم، أبو الحجّاج المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ إمام
(1)
وفي نسخة: "ذُكر العزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم".
مشهورٌ [3](ت 1 أو 2 أو 3 أو 104) وله (83) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.
6 -
(قَزْعَةُ) بن يحيى، أبو الغادية البصريّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الصلاة" 35/ 1025
و"أبو سعيد" رضي الله عنه ذُكر قبله.
وقوله: (وَلَمْ يَقُلْ: فَلَا يَفْعَلْ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ) أراد به إلى أنه لم يُصرّح بالنهي، وإنما أشار إلى أن الأولى ترك ذلك؛ لأن العزل إنما كان خشيةَ حصول الولد، فلا فائدة في ذلك؛ لأن الله تعالى إن كان قدّر خلق الولد لم يمنع العزل منه، فقد يَسبق الماء، ولا يشعر العازل، فيحصل العلوق، ويَلحقه الولد، ولا رادّ لما قضاه الله.
وقوله: (فَإِنَّهُ لَيْسَتْ نَفْسٌ مَخْلُوقَةٌ، إِلَّا اللهُ خَالِقُهَا) الضمير في "فإنه" للشأن، "ليست نفس مخلوقة"، أي قدّر الله تعالى أن تُخلق "إلا الله خالقها"، أي مبرزها من العدم إلى الوجود، و"ليس" قد تُحمَل على "ما" في الإهمال عند انتقاض النفي، كقولهم:"ليس الطيب إلا المسكُ" بالرفع، كما تُحمَل "ما" على "ليس" عند استيفاء الشروط، كقوله تعالى:{مَا هَذَا بَشَرًا} الآية [يوسف: 31]، وكقوله:{مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} الآية [المجادلة: 2]
(1)
.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم تمام البحث فيه قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3554]
(. . .) - (حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ، يَعْنِي ابْنَ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، سَمِعَهُ يَقولُ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَن الْعَزْلِ؟ فَقَالَ: "مَا مِنْ كُلِّ الْمَاءِ يَكُونُ الْوَلَدُ، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ خَلْقَ شَيْءٍ لَمْ يَمْنَعْهُ شَيْءٌ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ) نزيل مصر السعديّ مولاهم، أبو جعفر، ثقةٌ
(1)
راجع: "شرح ابن عقيل على الخلاصة"، مع "حاشية الخضريّ" 1/ 129.
فاضلٌ [10](ت 253) وله (83) سنةً (م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) تقدّم قريبًا.
3 -
(مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحِ) بن حُدير الحضرميّ، أبو عمر، أو أبو عبد الرحمن الحمصيّ، قاضي الأندلس، ثقةٌ له أفراد [7](ت 158) أو بعد السبعين (م 4) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.
4 -
(عَلِيُّ بْنُ أبِي طَلْحَةَ) واسمه سالم بن المخارق الهاشميّ، يُكْنَى أبا الحسن، وقيل: غير ذلك، أصله من الجزيرة، وانتقل إلى حمص، وأرسل عن ابن عبّاس، ولم يره، صدوق، قد يُخطئ [6]
رَوَى عن ابن عباس، ولم يسمع منه بينهما مجاهدٌ، وأبي الوَدّاك جَبْر بن نَوْف، وراشد بن سعد المقرئيّ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وغيرهم.
وروى عنه الحكم بن عتيبة، وهو أكبر منه، وداود بن أبي هند، ومعاوية بن صالح الحضرميّ، وأبو بكر بن أبي مريم، ومحمد بن الوليد الزُّبَيديّ، وسفيان الثوريّ، وغيرهم.
قال الميمونيّ عن أحمد: له أشياء منكرات، وهو من أهل حمص، وقال الآجريّ عن أبي داود: وهو إن شاء الله مستقيم الحديث، ولكن له رأي سوء، كان يرى السيف
(1)
، وقد رآه حجاج بن محمد، وقال النسائيّ: ليس به بأس،
(1)
قال الحافظ رحمه الله: وقد وقفت على السبب الذي قال فيه أبو داود: يرى السيف، وذلك في ما ذكره أبو زرعة الدمشقيّ، عن عليّ بن عيّاش الحمصيّ، قال: لقي العلاء بن عتبة الحمصيّ عليّ بن أبي طلحة تحت القبة، فقال: يا أبا محمد تؤخذ قبيلة من قبائل المسلمين، فيقتل الرجل، والمرأة، والصبيّ، لا يقول أحد: الله الله، والله لئن كانت بنو أمية أذنبت، لقد أذنب بذنبها أهل المشرق والمغرب، يشير إلى ما فعله بنو العباس، لما غلبوا على بني أمية، وأباحوا قتلهم على الصفة التي ذكرها، قال: فقال له علي بن أبي طلحة: يا عاجزُ أوَ ذنبٌ على أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم أن أخذوا قومًا بجرائرهم، وعفوا عن آخرين؟ قال: فقال له العلاء: وإنه لرأيك؟ قال: نعم، فقال له العلاء: لا كلّمتك من فمي بكلمة أبدًا، إنما أحببنا آل محمد بحبه، فإذا خالفوا سيرته، وعملوا بخلاف سنته فهم أبغض الناس إلينا. انتهى "تهذيب التهذيب" 3/ 171 - 172.
وقال دُحَيم: لم يسمع التفسير من ابن عباس، وقال صالح بن محمد: روى عنه الكوفيون، والشاميون، وغيرهم، وقال يعقوب بن سفيان: ضعيف الحديث، منكرٌ، ليس محمود المذهب، وقال في موضع آخر: شاميّ ليس هو بمتروك، ولا هو حجةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات، وقال: روى عن ابن عباس ولم يره، ووثّقه العجليّ.
وذكر الخطيب أن أحمد بن حنبل قال: إن علي بن أبي طلحة الذي رَوَى عنه الثوريّ، والحسن بن صالح، ورآه حجاج الأعور كوفيّ، غير الشاميّ، والصواب أنهما واحدٌ.
قال أبو بكر بن عيسى، صاحب "تاريخ حمص": مات سنة ثلاث وأربعين ومائة، وذكر خليفة بن خياط أنه مات سنة (120)، والأول أصح.
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وروى له الباقون حديثًا آخر في الفرائض، ونقل البخاريّ من تفسيره رواية معاوية بن صالح، عنه، عن ابن عباس شيئًا كثيرًا في التراجم وغيرها، ولكنه لا يسميه، يقول: قال ابن عباس، أو يُذْكَر عن ابن عباس، قاله في "تهذيب التهذيب"
(1)
.
5 -
(أَبُو الْوَدَّاكِ) - بفتح الواو، وتشديد الدال، آخره كاف - جَبْر بن نَوْف - بفتح النون، وسكون الواو، آخره فاء - الْهَمْدَانيّ الْبِكَاليّ - بكسر الموحّدة، وتخفيف الكاف - الكوفيّ، صدوقٌ يَهِمُ [4].
رَوَى عن أبي سعيد الخدريّ، وشُريح القاضي، وعنه مجالد، وقيس بن وهب، وأبو إسحاق، ويونس بن أبي إسحاق، وعلي بن أبي طلحة، وإسماعيل بن أبي خالد، وأبو التَّيّاح.
قال ابن معين: ثقةٌ، وقال النسائيّ: صالح، وقال البخاريّ في "تاريخه": قال يحيى القطان: هو أحبّ إلي من عطية، وقال ابن سعد: كان قليل الحديث، وقال ابن أبي خيثمة: قيل لابن معين: عطية مثل أبي الوداك؟ قال: لا، قيل: فمثل أبي هارون؟ قال: أبو الوداك ثقة، ما له ولأبي هارون؟ وقال أبو حاتم:
(1)
"تهذيب التهذيب" 3/ 172.
وأبو الوداك أحبّ إلي من شهر بن حوشب، وبشر بن حرب، وأبي هارون، وقال النسائيّ في "الجرح والتعديل": ليس بالقويّ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1438) وحديث (2938):"يخرج الدجال، فيتوجّه قِبَله رجل من المؤمنين. . ." الحديث.
6 -
(أبو سعيد الخدريّ) سعد بن مالك بن سنان الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهما مات سنة 3 أو 4 أو 65 هـ، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 485.
وقوله: (مَا مِنْ كُلِّ الْمَاءِ يَكُونُ الْوَلَدُ) قال القرطبيّ رحمه الله: يعني أنه ينعقد الولد في الرحم من جزء من الماء لا يشعر العازل بخروجه، فيظنّ أنه قد عَزَلَ كلّ الماء، وهو إنما عَزَلَ بعضه، فيخلق الله الولد من ذلك الجزء اللطيف الذي بادر بالخروج. انتهى
(1)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: فإن قلت: كيف طابق هذا جوابًا للسؤال؟.
قلت: معنى السؤال أنهم استأذنوا في العزل مخافة الولد، فأجيبوا بأنكم زعمتم بأن صبّ الماء سبب للولد، والعزل لعدمه، وليس كذلك؛ إذ لا يكون الولد من كلّ الماء، فكم من صبّ لا يحدُث منه الولد، ومِنْ عَزْلٍ مُحْدِثٍ له؟ فقدّم خبر "يكون"؛ ليدلّ على الاختصاص، وأن تكوين الولد بمشيئة الله تعالى، لا بالماء، وكذا عدمه بها، لا بالعزل، وهذا معنى قوله:(وَإِذَا أَرَادَ اللهُ خَلْقَ شَيْءٍ لَمْ يَمْنَعْهُ شَيْءٌ)، أي من العزل وغيره. انتهى
(2)
.
والحديث بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الامام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3555]
(. . .) - (حَدَّثَنِي
(3)
أَحْمَدُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ الْهَاشِمِيُّ، عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
(1)
"المفهم" 4/ 169.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 7/ 2305 - 2306 بزيادة شيء من "المرقاة".
(3)
وفي نسخة: "وحدّثني".
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْبَصْرِيُّ) أبو بكر الْقَزّاز، صدوقٌ [11] قديم الموت، مات سنة (235)(م) من أفراد المصنّف تقدم في "الصيام" 21/ 2661.
2 -
(زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ) الْعُكليّ، أبو الحسين الخرسانيّ، ثم الكوفيّ، صدوقٌ يُخطئ في حديث الثوريّ [9](ت 203)(م 4) تقدم في "الطهارة" 6/ 560.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: رواية زيد بن حباب، عن معاوية بن صالح هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الامام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3556]
(1439) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ لِي جَارِيَةً، هِيَ خَادِمُنَا، وَسَانِيَتُنَا، وَأَنَا أَطُوفُ عَلَيْهَا، وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ، فَقَالَ:"اعْزِلْ عَنْهَا إِنْ شِئْتَ، فَإِنَّهُ سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا"، فَلَبِثَ الرَّجُلُ، ثُمَّ أَتَاهُ، فَقَالَ: إِنَّ الْجَارِيَةَ قَدْ حَبِلَتْ
(1)
، فَقَالَ:"قَدْ أَخْبَرْتُكَ أَنَّهُ سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ يُونُسَ) هو: أحمد بن عبد الله بن يونس بن عبد الله بن قيس التميميّ اليربوعيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [10](ت 227) وهو ابن (94) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.
2 -
(زُهَيْرُ) بن معاوية بن حُدَيج الْجُعفيّ، أبو خيثمة الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 2 أو 3 أو 174)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.
3 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس، تقدّم قريبًا.
4 -
(جَابِرُ) بن عبد الله رضي الله عنهما، تقدّم قبل باب.
(1)
وفي نسخة: "قد حَمَلت".
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه (أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) لا يُعرف اسم الرجل، ولا الجارية
(1)
. (فَقَالَ: إِنَّ لي جَارِيَةً) أي أمة، قال صاحب "التنبيه": لا أعرف الرجل، ولا الجارية. انتهى
(2)
. (هِيَ خَادِمُنَا) هكذا "خادمنا" بلا تاء، وهو الأفصح، قال الفيّوميّ رحمه الله: خَدَمَهُ يَخْدُمَهُ خَدْمُةً، فهو خادمٌ، غلامًا كان، أو جاريةً، والخادمة بالهاء في المؤنّث قليلٌ، والجمع خَدَمٌ، وخُدّامٌ، وقولهم: فلانة خادمةٌ غدًا ليس بوصف حقيقيّ، والمعنى ستصير كذلك، كما يقال: حائضةٌ غدًا. انتهى
(3)
.
(وَسَانِيَتُنَا) أي التي تَسقي لنا، شَبّهها بالبعير في ذلك، وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وسانيتنا" هكذا مشهور الرواية عند كافّة الرواة، ويعني بالسانية: المستقية للماء، يقال: سَنَتِ الدابّة، فهي سانية: إذا استُقِي عليها، وعند ابن الحذّاء:"سايستنا"، اسم فاعل من ساس الفرس يسوسه: إذا خَدَمَهُ. انتهى
(4)
.
(وَأَنَا أَطُوفُ عَلَيْهَا) أي أجامعها (وَأَنَا أَكْرَهُ) بفتح الراء، يقال: كَرِهتُ الشيءَ أكرهه، من باب تَعِبَ كُرْهًا بضمّ الكاف، وفتحها: ضدّ أحببته (أَنْ تَحْمِلَ)، أي تحبل منّي (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("اعْزِلْ) بكسر الزاي، من باب ضرب (عَنْهَا إِنْ شِئْتَ) هذا نصّ في إباحة العزل، أي إن شئت العزل، فاعزل؛ لأنه يجوز لك، ولكن لا ينفعك العزلُ، ثم علّله بقوله:(فَإِنَّه) الضمير للشأن، وهو ما تفسّره الجملة بعده (سَيَأْتِيهَا مَا) موصولة في محلّ رفع على الفاعليّة (قُدِّرَ لَهَا") ببناء الفعل للمفعول، أي ما قدّر الله تعالى لها أي من الحمل وغيره، سواء عَزَلتَ أم لم تعزل.
قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "فإنه سيأتيها. . . إلخ" الضمير للشأن، وفيه مؤكِّداتٌ، "إنّ"، وضمير الشأن، وسين الاستقبال. انتهى
(5)
.
(1)
راجع: "تنبيه المعلم" ص 241.
(2)
"تنبيه المعلم" ص 241.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 165.
(4)
"المفهم" 4/ 169.
(5)
"الكاشف عن حقائق السنن" 7/ 2305.
(فَلَبِثَ الرَّجُلُ) بكسر الموحّدة، يقال: لَبِثَ في المكان لَبَثًا، من باب تَعِبَ، وجاء في المصدر السكون للتخفيف، واللَّبْثَةُ بالفتح للمرّة، وبالكسر للهيئة، والنوعُ والاسم: اللُّبْثُ بالضمّ، واللَّبَاثُ بالفتح، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
. (ثُمَّ أَتَاهُ) أي أتى الرجلُ النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ: إِنَّ الْجَارِيَةَ) أي التي يطوف عليها؛ لأن النكرة إذا أُعيدت معرفة تكون عين الأولى، كما قال السيوطيّ رحمه الله في "عقود الْجُمان" [من الرجز]:
ثُمَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُشْتَهِرَهْ
…
إِذَا أَتَتْ نَكِرَةٌ مُكَرَّرَهْ
تَغَايَرَا وَإِنْ يُعَرَّفْ ثَانِ
…
تَوَافَقَا كَذَا الْمُعَرَّفَانِ
شَاهِدُهَا الَّذِي رَوَيْنَا مُسْنَدَا
…
لَنْ يَغْلِبَ الْيُسْرَيْنِ عُسْرٌ أَبَدَا
وَأَبْطَلَ السُّبْكِيُّ ذِي بِأَمْثِلَهْ
…
وَقَالَ ذِي قَاعِدَةٌ مُسْتَشْكَلَهْ
قال الجامع: قلت مجيبًا عن استشكال السبكيّ:
قُلْتُ وَلَا اسْتِشْكَالَ إِذْ ذِي تُحْمَلُ
…
عَلَى الَّذِي يَغْلِبُ إِذْ تُسْتَعْمَلُ
وللأجهوري رحمه الله في هذا المعنى [من الرجز] أيضًا:
وَإِنْ يُعَدْ مُنَكَّرٌ مُنَكَّرَا
…
فَالثَّانِ غَيْرُ أَوَّلٍ بِلَا امْتِرَا
وَفِي سِوَى ذَا الثَّانِ عَيْنُ الأَوَّلِ
…
وَتَحْتَهُ ثَلَاثَةٌ وَهْوَ جَلِي
قُلْتُ وَفِي "مُغْنِي اللَّبِيبِ" حَكَمَا
…
بأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مَا سُلَّمَا
إِذْ قَوْلُهُ {فَوْقَ الْعَذَابِ} أَبْطَلَهْ
…
{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} قَدْ أَبَانَ خَلَلَهْ
وَقَوْلُهُ أَيْضًا {وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ}
…
لأَنَّ رَبِّي وَاحِدٌ بِلَا اشْتِبَاهْ
قال الجامع: قلت مجيبًا عن هذا أيضًا:
قُلْتُ يُجَابُ أَنَّ هَذِي الْقَاعِدَهْ
…
تُبْنَى عَلَى الْغَالِبِ خُذْهَا فَائِدَهْ
أَوْ قُلْ إِذَا قَرِينَةٌ لَمْ تَقْتَرِنْ
…
فَإِنْ بَدَتْ تَصْرِفُهَا فَلْتَسْتَبِنْ
(قَدْ حَبِلَتْ) بالباء الموحّدة، يقال: حَبِلَت المرأة، وكلُّ بهيمة تَلِدُ حَبَلًا، من باب تَعِبَ: إذا حَمَلت بالولد، فهي حُبْلَى، وشاةٌ حُبْلَى، وسِنَّوْرَةٌ حُبْلَى، والجمع حُبْلَيَاتٌ على لفظها، وحَبَالَى، قاله الفيّومي رحمه الله
(2)
، وفي بعض النسخ:"حَمَلَت"، وهو من باب ضرب (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("قَدْ أَخْبَرْتُكَ أَنَّهُ) الضمير
(1)
"المصباح المنير" 2/ 547 - 548.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 119.
للشأن، كما مرّ آنفًا (سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا") أي ما قدّر الله تعالى لها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: هذا الحديث فيه عنعنة أبي الزبير، وهو مدلّس، لكنه لم ينفرد به، بل تابعه عروة بن عياض في الرواية التالية، وسالم بن أبي الجعد عن ابن حبّان في "صحيحه"(9/ 506)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [23/ 3556 و 3557 و 3558](1439)، و (أبو داود) في "سننه"(2173)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(89)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(12551)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 220)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 312 و 386)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 99)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 385)، و (أبو يعلى)، في "مسنده"(1910)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(3/ 35)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 229)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان جواز العزل عن الأمة، وكذا الحرّة على خلاف تقدّم بيانه.
2 -
(ومنها): ما قال الخطابيّ رحمه الله في "المعالم": في هذا الحديث من العلم إباحة العزل عن الجواري، وقد رَخَّص فيه غير واحد من الصحابة والتابعين، وكرهه بعض الصحابة، ورُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: تُسْتَأْمَرُ الحرّة في العزل، ولا تُستَأمَر الجارية، وإليه ذهب أحمد بن حنبل، وقال مالك: لا يَعزِل عن الحرّة إلا بإِذنها، ولا يَعزل عن الجارية إذا كانت زوجة، إلا بإذن أهلها، ويَعْزِل عن أمته بغير إذن. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): أن فيه دلالةً على إلحاق النسب مع العزل؛ لأن الماء قد سبق.
(1)
راجع: "عون المعبود" 6/ 155.
4 -
(ومنها): أن فيه دلالةً على أنه إن أقرّ بوطء أمته، وادَّعَى العزل، فإن الولد لاحِقٌ به، إلا أن يَدّعِي الاستبراء، وهذا على قول من يرى الأمة فراشًا، وإليه ذهب الشافعيّ رحمه الله
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: الحديث دليلٌ على إلحاق الولد بمن اعترف بالوطء، وادَّعى العزل في الحرائر والإماء، وسببه تفلُّتُ الماء، ولا يَشْعُر به العازل، ولم يُختَلف عندنا - يعني المالكيّة - في ذلك إذا كان الوطء في الفرج، فإن كان في غير الفرج مما يقاربه، أو كان العزل البيِّن الذي لا شكّ فيه لم يلحقه، وفيه حجة على كون الأمة فراشًا إذا كان الوطء. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3557]
(. . .) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الْأَشْعَثِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ عِيَاضٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي جَارِيَةً لِي، وَأَنَا أَعْزِلُ عَنْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ ذَلِكَ لَنْ يَمْنَعَ شَيْئًا أَرَادَهُ اللهُ"، قَالَ: فَجَاءَ الرَّجُلُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ الْجَارِيَةَ الَّتِي كُنْتُ ذَكَرْتُهَا لَكَ حَمَلَتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الْأَشْعَثِيُّ) الْكِنْديّ، أبو عثمان الكوفيّ، ثقةٌ [10](230)(م س) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.
2 -
(سَعِيدُ بْنُ حَسَّانَ) المخزوميّ المكيّ، قاصّ أهل مكة، ثقةٌ
(3)
[6].
رَوَى عن سالم بن عبد الله بن عمر، وابن أبي مليكة، ومجاهد بن جبر،
(1)
راجع: "شرح النوويّ" 10/ 13.
(2)
"المفهم" 4/ 169 - 170.
(3)
قال في "التقريب": صدوقٌ له أوهامٌ، والحق ما قلناه، فقد وثقه الأئمة، ولم يتكلّم في أحد إلا ما روي عن أبي داود في رواية، انظر "تهذيب التهذيب" في ترجمته.
وعبد الحميد بن جبير بن شيبة، وعروة بن عياض، وأم صالح بنت صالح.
وروى عنه السفيانان، وابن المبارك، وأبو أحمد الزبيريّ، ووكيع، ومحمد بن يزيد بن خُنيس، وأبو نعيم.
قال ابن معين، وأبو داود، والنسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ووَثَّقه العجليّ، وابن سعد أيضًا، واختَلَف فيه قول أبي داود، فقال الآجريّ عنه: ثقة، وقال مرةً: وسألته عنه فلم يرضه.
أخرج له المصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
3 -
(عُرْوَةُ بْنُ عِيَاضِ) بن عمرو بن عبدٍ القاريّ - بالتشديد بلا همز - ويقال: عياض بن عروة، وقيل: عروة بن عياض بن عديّ بن الخيار - بكسر المعجمة، وتخفيف التحتانيّة - ابن عديّ بن نَوْفَل النوفليّ المكيّ، ثقةٌ [4].
رَوَى عن ابن عمر، وابن عمرو، وأبي سعيد، وعائشة، وجابر رضي الله عنهم.
وروى عنه ابن أخيه محمد بن عبيد الله بن عياض، وسعيد بن حسان، ومحمد بن الحارث المخزوميان، وابن أبي مُليكة، وعطاء بن أبي رَبَاح، وعمرو بن دينار.
قال أبو زرعة، والنسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والنسائيّ، وليس له عندهما إلا هذا الحديث.
والباقيان ذُكرا في الباب.
وقوله: (أَنَا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ) قال النوويّ رحمه الله: معناه هنا: أن ما أقول لكم حقّ، فاعتمدوه، واستيقنوه، فإنه يأتي مثل فَلَق الصبح. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا تنبيه منه صلى الله عليه وسلم على صدقه، وصحّة رسالته، كما قال عند تكثير الطعام:"أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله". انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"شرح النوويّ" 10/ 13.
(2)
"المفهم" 4/ 170.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3558]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ حَسَّانَ، قَاصُّ أَهْلِ مَكَّةَ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ عِيَاضِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ النَّوْفَلِيُّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَى حَدِيثِ سُفْيَانَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ) محمد بن عبد الله بن الزبير بن عُمر بن درهم الأسديّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 314.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: رواية أبي أحمد الزبيريّ، عن سعيد بن حسّان هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر.
[تنبيه آخر]: قال الحافظ أبو عليّ الغسّانيّ الجيّاني بعد أن أورد رواية مسلم هذه ما نصّه: هكذا في الإسناد: "عروة بن عياض، كذلك رواه سفيان بن عيينة، وأبو أحمد الزبيريّ كلاهما قال: "عن سعيد بن حسّان، عن عروة بن عيَاض" مُسَمَّى، وقال البخاريّ: "عروة" أخشى أن لا يكون محفوظًا؛ لأن عروة هو ابن عياض بن عمرو القاري، ورواه أبو نعيم، عن سعيد بن حسّان، عن ابن عياض، عن جابر، هكذا قال: "ابن عياض"، لم يُسمّه. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3559]
(1440) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كُنَّا نَعْزِلُ، وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ، زَادَ إِسْحَاقُ: قَالَ سُفْيَانُ: لَوْ كَانَ شَيْئًا يُنْهَى عَنْهُ، لَنَهَانَا عَنْهُ الْقُرْآنُ).
(1)
"تقييد المهمل" 3/ 853.
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(بَكْرُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) تقدّم قريبًا.
3 -
(عَمْرُو) بن دينار الأثرم الْجُمَحيّ المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.
4 -
(عَطَاءُ) بن أبي رَبَاح أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، كثير الإرسال [3](ت 114)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.
والباقيان ذُكرا في الباب.
شرح الحديث:
(عَنْ عَمْرِو) بن دينار (عَنْ عَطَاءٍ) ابن أبي رَبَاح، وفي رواية للبخاريّ، عن علي ابن المدينيّ، حدّثنا سفيان، قال: قال عمروٌ، أخبرنا عطاء، سمع جابرًا رضي الله عنه، قال في "الفتح": هذا مما نَزَل فيه عمرو بن دينار، فإنه سمع الكثير من جابر رضي الله عنه نفسِهِ، ثم أدخل في هذا بينهما واسطة، وقد تواردت الروايات من أصحاب سفيان على ذلك، إلا ما وقع في "مسند أحمد" في النسخ المتأخرة، فإنه ليس في الإسناد عطاء، لكنه أخرجه أبو نعيم من طريق "المسند"، بإثباته، وهو المعتمد. انتهى
(1)
.
(عَنْ جَابِرٍ) ابن عبد الله رضي الله عنهما، وفي رواية معقل الآتية:"عن عطاء، قال: سمعت جابرًا"(قَالَ: كُنَّا نَعْزِلُ) أي نُنزل المنيّ خارج الفرج (وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل (زَادَ إِسْحَاقُ) بن إبراهيم شيخه الثاني، وقوله:(قَالَ سُفْيَانُ) مفعول "زاد" محكيّ؛ لقصد لفظه (لَوْ كَانَ شَيْئًا يُنْهَى) بالبناء للمفعول (عَنْهُ، لَنَهَانَا عَنْهُ الْقُرْآنُ) أي لو كان حرامًا لنزل القرآن بتحريمه، قال الحافظ رحمه الله: قوله: "قال سفيان. . . إلخ" هذا ظاهر في أن سفيان قاله استنباطًا، وأوهم كلام صاحب "العمدة"، ومن تبعه أن هذه الزيادة من نفس الحديث، فأدرجها، وليس الأمر كذلك، فإني تتبعته من المسانيد،
(1)
"الفتح" 11/ 643 - 644.
فوجدت أكثر رواته عن سفيان لا يذكرون هذه الزيادة، وشرحه ابن دقيق العيد على ما وقع في "العمدة"، فقال: استدلال جابر بالتقرير من الله غريب، ويمكن أن يكون استدلّ بتقرير الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه مشروط بعلمه بذلك. انتهى.
قال الحافظ: ويكفي في علمه به قول الصحابيّ: إنه فعله في عهده صلى الله عليه وسلم، والمسألة مشهورة في الأصول، وفي علم الحديث، وهي أن الصحابيّ إذا أضافه إلى زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان له حكم الرفع عند الأكثر؛ لأن الظاهر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم اطَّلَعَ على ذلك، وأقرّه؛ لتوفر دواعيهم على سؤالهم إياه عن الأحكام، وإذا لم يضفه فله حكم الرفع عند قوم، وهذا من الأول، فإن جابرًا رضي الله عنه صَرَّح بوقوعه في عهده صلى الله عليه وسلم، وقد وردت عِدَّة طُرُق تصرّح باطّلاعه على ذلك، والذي يظهر لي أن الذي استنبط ذلك، سواء كان هو جابرًا، أو سفيان أراد بنزول القرآن ما يُقْرَأ، أعم من المتعبَّد بتلاوته، أو غيره مما يُوحَى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكأنه يقول: فعلناه في زمن التشريع، ولو كان حرامًا لم نُقَرَّ عليه، وإلى ذلك يُشير قول ابن عمر رضي الله عنهما: "كنّا نتقي الكلام، والانبساط إلى نسائنا هيبةَ أن ينزل فينا شيء على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم فلما مات النبيّ صلى الله عليه وسلم تكلمنا، وانبسطنا. أخرجه البخاريّ.
ثم ذكر حديث مسلم عن جابر، من رواية أبي الزبير، وغيره، فقال: ففي هذه الطرق ما أغنى عن الاستنباط، فإن في إحداها التصريح باطلاعه صلى الله عليه وسلم، وفي الأخرى إذنه في ذلك، وإن كان السياق يُشعر بأنه خلاف الأولى. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [23/ 3559 و 3560 و 3561](1440)،
(1)
"الفتح" 11/ 644 - 645.
و (البخاريّ) في "النكاح"(5207 و 5208)، و (الترمذيّ)(3/ 442)(1137)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 344)، و (ابن ماجه)(1/ 620)(1927)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 510 - 511)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 377)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 100)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 114)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 228)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في قول الصحابيّ: كنا نفعل كذا، ونحوه:
قال الشيخ ابن الصلاح رحمه الله: قول الصحابيّ: كنا نفعل كذا، أو كنا نقول كذا، إن لم يضفه إلى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو من قبيل الموقوف، وإن أضافه إلى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالذي قَطَع به أبو عبد الله ابن الْبَيِّع الحافظ وغيره من أهل الحديث وغيرهم، أن ذلك من قبيل المرفوع، وبلغني عن أبي بكر الْبَرقانيّ أنه سأل أبا بكر الإسماعيليّ الإمام عن ذلك؟ فأنكر كونه من المرفوع، والأول هو الذي عليه الاعتماد؛ لأن ظاهر ذلك مشعرٌ بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم اطَّلَع على ذلك، وقرّرهم عليه، وتقريره أحد وجوه السنن المرفوعة، فإنها أنواع: منها أقواله صلى الله عليه وسلم، ومنها أفعاله، ومنها تقريره وسكوته عن الإنكار بعد اطلاعه، ومن هذا القبيل قول الصحابيّ: كنا لا نرى بأسًا بكذا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا، أو كان يقال كذا وكذا على عهده، أو كانوا يفعلون كذا وكذا في حياته صلى الله عليه وسلم، فكل ذلك وشِبهه مرفوعٌ، مسندٌ مُخَرَّج في كتب المسانيد. انتهى
(1)
.
وكتب الحافظ رحمه الله في "نكته" ما نصّه: حاصل كلامه حكاية قولين:
1 -
[أحدهما]: أنه موقوف جزمًا.
2 -
[وثانيهما]: التفصيل بين أن يضيفه إلى زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيكون مرفوعًا، وبه صَرّح الجمهور، ويدل عليه احتجاج أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه على جواز العزل بفعلهم له في زمن نزول الوحي، فقال:"كنا نَعْزِل، والقرآن ينزل، لو كان شيء يُنْهَى عنه لنهى عنه القرآن".
(1)
مقدمة ابن الصلاح 1/ 47.
وهو استدلال واضحٌ لأن الزمان كان زمان التشريع، وإن لم يضفه إلى زمنه فموقوف.
وأهمل المصنّف مذاهب:
[الأول]: أنه مرفوع مطلقًا، وقد حكاه شيخنا - يعني العراقيّ - وهو الذي اعتمده الشيخان في "صحيحيهما"، وأكثر منه البخاريّ.
[والثاني]: التفصيل بين أن يكون ذلك الفعل مما لا يَخْفَى غالبًا، فيكون مرفوعًا، أو يخفى، فيكون موقوفًا، وبه قطع الشيخ أبو إسحاق الشيرازيّ، وزاد ابن السمعانيّ في "كتاب القواطع"، فقال: إذا قال الصحابيّ: كانوا يفعلون كذا، وأضافه إلى عصر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان مما لا يخفى مثله، فيُحمل على تقرير النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويكون شرعًا، وإن كان مثله يخفى، فإن تكرر منهم حُمِل أيضًا على تقريره؛ لأن الأغلب فيما يكثر أنه لا يخفى، والله أعلم.
[الثالث]: إن أورده الصحابي في معرض الحجة حُمِل على الرفع، وإلا فموقوف، حكاه القرطبيّ.
قال الحافظ: وينقدح أن يقال: إن كان قائل: "كنا نفعل" من أهل الاجتهاد احْتَمَلَ أن يكون موقوفًا، وإلا فهو مرفوعٌ، ولم أر من صرّح بنقله.
قال: ومع كونه موقوفًا، فهل هو من قبيل نقل الإجماع أو لا؟ فط خلاف مذكور في الأصول، جزم بعضهم بأنه إن كان في اللفظ ما يُشعر به، مثل: كان الناس يفعلون كذا، فمن قبيل نَقْلِ الإجماع، وإلا فلا
(1)
.
وإلى ما ذُكر أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث" حيث قال:
وَلْيُعْطَ حُكْمَ الرَّفْعِ فِي الصَّوَابِ
…
نَحْوُ "مِنَ السُّنَّةِ" مِنْ صَحَابِي
كَذَا "أُمِرْنَا" وَكَذَا "كُنَّا نَرَى"
…
فِي عَهْدِهِ أَوْ عَنْ إِضَافَةٍ عَرَى
ثَالِثُهَا إِنْ كَانَ لَا يَخْفَى وَفِي
…
تَصْرِيحِهِ بِعِلْمِهِ الْخُلْفُ نَفِي
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"النكت على ابن الصلاح" 2/ 515 - 517.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3560]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ: لَقَدْ كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ) الْمِسْمَعيّ النيسابوريّ، نزيل مكة، ثقة، من كبار [11] مات سنة بضع و (140)(م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 60.
2 -
(الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ) هو: الحسن بن محمد بن أعين، أبو عليّ الْحَرّانيّ، نُسب لجدّه، صدوقٌ [9](ت 210)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
3 -
(مَعْقِلُ) بن عُبيد الله الْعَبْسيّ مولاهم، أبو عبد الله الْجَزَريّ، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 166)(م د س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
والباقيان ذُكرا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3561]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، حَدَّثَنَا مُعَاذٌ، يَعْنِي ابْنَ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَلَغَ ذَلِكَ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَنْهَنَا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ) مالك بن عبد الواحد البصريّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م د) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.
2 -
(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدستوائيّ البصريّ، وقد سكن اليمن، صدوق ربما وَهِمَ [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
3 -
(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
والباقيان ذُكرا في الباب.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(24) - (بَابُ تَحْرِيمِ وَطْءِ الْحَامِلِ الْمَسْبِيَّةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3562]
(1441) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُمَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ جُبَيْرٍ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَتَى بِامْرَأَةٍ مُجِحٍّ، عَلَى بَابِ فُسْطَاطٍ، فَقَالَ: "لَعَلَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُلِمَّ بِهَا"؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ ألْعَنَهُ لَعْنًا يَدْخُلُ مَعَهُ قَبْرَهُ، كَيْفَ يُوَرِّثُهُ، وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ؟ كَيْفَ يَسْتَخْدِمُهُ، وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ؟ ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَزِيدُ بْنُ خُمَيْرٍ) - مصغّرًا - الرَّحْبيّ - بمهملة ساكنة، أبو عمر الْحِمْصيّ، صدوقٌ [5](بخ م 4) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 2/ 1584.
2 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرِ) بن نُفَير الْحَضْرميّ الْحِمْصيّ، ثقةٌ [4](ت 118)(بخ م 4) تقدم في "الجنائز" 25/ 2232.
3 -
(أَبُوهُ) جُبير بن نُفير - بتصغير الاسمين - ابن مالك بن عامر الحرميّ الْحِمْصيّ، مخضرم، ثقةٌ جليل، ولأبيه صحبة [2](ت 80) أو بعدها (بخ م 4) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.
4 -
(أَبُو الدَّرْدَاءِ) عُويمر بن زيد بن قيس الأنصاريّ، مختلف في اسم
أبيه، مشهور بكنيته، وقيل: اسمه عامر، وعويمر لقبه، الصحابيّ الجليل، أول مشاهده أُحُد، وكان عابدًا، مات في آخر خلافة عثمان رضي الله عنهما، وقيل: عاش بعد ذلك (ع) تقدم في "الصلاة" 44/ 1098.
والباقون تقدّم في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أنه مسلسل بالشاميين من يزيد، والباقون بصريّون.
3 -
(ومنها): أن شيخه أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد مرّ ذكرهم غير مرّة.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ، عن تابعيّ مخضرم.
شرح الحديث:
(عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُمَيْرٍ) بضمّ الخاء المعجمة، بصيغة التصغير، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ جُبَيْرٍ) مصغّرًا (يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ) جُبير بن نُفير (عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ) عويمر بن قيس رضي الله عنه، وقيل: غيره (عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَتَى بِامْرَأَةٍ) أي مرّ عليها، فالباء بمعنى "على"، وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أتى بامرأة" روايتنا فيه "أَتَى" بفتح الهمزة والتاء، على أنه فعل ماض، بمعنى جاز ومرّ. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: هذه المرأة لا يُعرف اسمها
(2)
.
(مُجِحٍّ) بضم الميم، وكسر الجيم، ثم حاء مهملة مشدّدة: وهي الحامل التي قَرُبت ولادتها (عَلَى بَابِ فُسْطَاطٍ) أي خِبَاءٍ صغير، وفيه ستّ لُغات: فُسطاطٌ، وفُستاطٌ، وفُساط، بحذف الطاء والتاء، لكن بتشديد السين، وبضم الفاء وكسرها في الثلاثة، وهو نحو بيت الشعر (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَعَلَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُلِمَّ بِهَا؟ ") بضمّ أوله، وكسر ثانيه، من الإمام، وأصل الإلمام: النزول، كما قال:
مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا
…
تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرَ مُوقِدِ
(3)
(1)
"المفهم" 4/ 171.
(2)
راجع: "تنبيه المعلم" ص 241.
(3)
"المفهم" 4/ 171.
والمعنى: لعله يريد أن يطأها، مع كونها حاملًا مَسبيةً، لا يحل جماعها حتى تضع (فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَلْعَنَهُ لَعْنًا يَدْخُلُ مَعَهُ قَبْرَهُ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا وعيد شديد على وطء الحبالى حتى يضعن، وهو دليلٌ على تحريم ذلك مطلقًا، سواءٌ كان الحمل من وطء صحيح، أو فاسد، أو زنى، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يَستفصل عن سبب الحمل، ولا ذَكر أنه يختلف حكمه، وهذا موضع لا يصحّ فيه تأخير البيان، وإلى الأخذ بظاهر هذا ذهب جماهير العلماء، غير أن القاضي عياض قال في المرأة تزني، فتحمل، ويتبيّن حملها: أن أشهب أجاز لزوجها وطأها، قال: وكرهه مالك وغيره من أصحابه، قال: فاتّفقوا على كراهته ومنعه من وطئها في ماء الزنى ما لم يتبيّن الحمل، وهذا الذي حكاه عن أشهب يردّه هذا الحديث، قال: وكراهة مالك لذلك بمعنى التحريم، والله تعالى أعلم.
قال: وإنما لم يوقع النبيّ صلى الله عليه وسلم ما هَمَّ به من اللعن؛ لأنه ما كان بعدُ تقدّم في ذلك بشيء، وأما بعدَ أن تقدّم هذا الوعيد، وما في معناه، ففاعل ذلك متعرّضٌ لِلَعن يدخل معه قبره، ويُدخله جهنّم. انتهى
(1)
.
(كَيْفَ يُوَرِّثُهُ، وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ؟ كَيْفَ يَسْتَخْدِمُهُ، وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ؟ ") قال النوويّ رحمه الله: معناه: أنه قد تتأخر ولادتها ستة أشهر، حيث يَحْتَمِل كون الولد من هذا السابي، ويُحْتَمَل أنه كان ممن قبله، فعلى تقدير كونه من السابي، يكون ولدًا له، ويتوارثان، وعلى تقدير كونه من غير السابيّ، لا يتوارثان هو ولا السابي؛ لعدم القرابة، بل له استخدامه؛ لأنه مملوكه.
فتقدير الحديث: أنه قد يستلحقه، ويجعله ابنًا له، ويُوَرِّثه، مع أنه لا يحل له توريثه؛ لكونه ليس منه، ولا يحل توارثه، ومزاحمته لباقي الورثة، وقد يستخدمه استخدام العبيد، ويجعله عبدًا يتملكه مع أنه لا يحل له ذلك؛ لكونه منه إذا وضعته لمدة مُحْتَمِلةٍ كونَهُ من كل واحد منهما، فيجب عليه الامتناع من وطئها؛ خوفًا من هذا المحظور، فهذا هو الظاهر في معنى الحديث.
وقال القاضي عياض: معناه الإشارة إلى أنه قد يَنمي هذا الجنين بنطفة
(1)
"المفهم" 4/ 171 - 172.
هذا السابي، فيصير مشاركًا فيه، فيمتنع الاستخدام، قال: وهو نظير الحديث الآخر: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يَسْقِ ماءه ولد غيره". انتهى كلام القاضي.
قال النوويّ بعد ذكر كلام القاضي هذا ما نصّه: وهذا الذي قاله ضعيفٌ، أو باطلٌ، وكيف ينتظم التوريث مع هذا التأويل؟ بل الصواب ما قدمناه، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "كيف يورّثه، وهو لا يحلّ له؟ كيف يستخدمه، وهو لا يحلّ له؟ ": هذا تنبيه منه صلى الله عليه وسلم على أن واطئ الحامل له مشاركة في الولد، وبيانه أن ماء الوطء يُنَمِّي الولد، ويزيد في أجزائه، ويُنعّمه، فتحصل مشاركة هذا الواطئ للأب، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يسق ماءه زرع غيره"
(2)
، فإذا وطئ الأمة الحامل لم يصحّ أن يُحكم لولدها بأنه ابن لهذا الواطئ؛ لأنه من ماء غيره نشأ، وعلى هذا فلا يحلّ له أن يورّثه، ولا يصحّ أيضًا أن يُحكم لذلك الولد بأنه عبد للواطئ؛ لِمَا حَصَلَ في الولد من أجزاء مائه، فلا يحلّ له أن يستخدمه استخدام العبيد؛ إذ ليس له بعبد؛ لِمَا خالطه من أجزاء الحرّ. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي الدرداء رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [24/ 3562 و 3563](1441)، و (أبو داود) في "النكاح"(2156)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(7/ 228)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 29)، و"مسنده"(1/ 46)، و (أحمد) في "مسنده" (5/ 195
(1)
"شرح النوويّ" 10/ 14 - 15.
(2)
حديث حسنٌ، رواه أحمد في "مسنده"(4/ 108 - 109)، وأبو داود (2158 و 2159)، والدارميّ (2/ 230).
(3)
"المفهم" 4/ 172.
و 6/ 446)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 299)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 212)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 102 - 103)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 115)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 257)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 449)، و"المعرفة"(7/ 75)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان تحريم وطء الحامل المسبيّة حتى تضع حملها، وكذا لا يحلّ وطء المرأة الحامل حتى تُستبرأ بحيضة، وقد أخرج أبو داود في "سننه" من طريق أبي الْوَدّاك، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، رفعه أنه قال في سبايا أوطاس:"لا توطأ حاملٌ حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة"
(1)
.
قال ابن عبد البرّ رحمه الله: لا خلاف بين العلماء - قديمًا ولا حديثًا - أنه لا يجوز لأحد أن يطأ امرأة حاملًا من غيره بملك يمين، ولا نكاح، ولا غير حامل حتى يَعْلَم براءة رحمها من ماء غيره.
قال: واختلفوا فيمن وَطِئ حاملًا من غيره ما حكم ذلك الجنين؟ فذهب مالك، والشافعيّ، وأبو حنيفة إلى أن لا يَعْتِقَ ذلك الجنين، وقال الأوزاعيّ، والليث: يَعْتِقُ، ولكل قول من هذين القولين سلف من التابعين، والقول بأن لا يعتق أولى في النظر؛ لأن العقوبات ليست هذه طريقها، ولا أصل يوجب عتقه. انتهى
(2)
.
2 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: فيه من الفقه ما يتبيّن به استحالة اجتماع أحكام الحرّيّة والرّقّ في شخص واحد، وأن من فيه شائبة بُنوّة لا يُملَكُ، ومن فيه شائبة رقّ لا يكون حكمه حكم الحرّ، على ما يأتي - إن شاء الله تعالى - انتهى.
3 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ أيضًا: إن السِّبَاء يَهْدِم النكاح، وهو مشهور مذهب مالك، سواء سُبيا مجتمعين، أو مفترقين، على ما يأتي - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
حديث صحيح، أخرجه أبو داود في "سننه"(2/ 248).
(2)
"الاستذكار" 5/ 456.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3563]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، جَمِيعًا عَنْ شُعْبَةَ، فِي هَذَا الْإِسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) السلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقةٌ متقنٌ عابدٌ [9](ت 206) وقد قارب التسعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 45.
2 -
(أَبُو دَاوُدَ) سليمان بن داود بن الجارود الطيالسيّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 204)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.
وقوله: (جَمِيعًا عَنْ شُعْبَةَ) يعني أن كلًّا من يزيد بن هارون، وأبي داود الطيالسيّ روى هذا الحديث عن شعبة بسنده السابق.
[تنبيه]: رواية يزيد بن هارون، عن شعبة هذه ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه" (4/ 29) فقال:
(17468)
- حدّثنا يزيد بن هارون، قال: نا شعبة عن يزيد بن خُمير، عن عبد الرحمن بن جُبير بن نُفير، عن أبيه، عن أبي الدرداء، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مَرّ على امرأة مُجِحٍّ، وهي على باب خِباء، أو فُسطاط، فقال:"لمن هذه؟ " فقالوا: لفلان، قال:"أَيُلِمّ بها؟ " قالوا: نعم، قال:"لقد هممت أن ألعنه لعنةً تدخل معه قبره، فكيف يستخدمه، وهو يغذوه في بصره وسمعه؟ كيف يُورّثه، وهو لا يحلّ له؟ ". انتهى.
ورواية أبي داود الطيالسيّ، عن شعبة ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" (3/ 103) فقال:
(4364)
- حدّثنا يونس بن حبيب، قثنا
(1)
أبو داود، قثنا شعبة، قال: سمعت يزيد بن خُمير قال: سمعت عبد الرحمن بن جُبير يحدِّث، عن أبيه،
(1)
تقدّم غير مرّة أنها مختصرة من "قال: حدّثنا"، فلا تغفل.
عن أبي الدرداء، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة مُجِحًّا على باب فُسطاط، أو قال: خباء، فقال:"لعل صاحب هذا يُلِمّ بها؟ لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه قبره، كيف يُوَرِّثه، وهو لا يحلّ له؟ وكيف يستخدمه، وهو لا يحلّ له؟ "، وكانت المرأة حُبْلى أو مُجِحًّا. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(25) - (بَابُ جَوَازِ الْغِيلَةِ، وَهِيَ وَطْءُ الْمُرْضِعِ، وَكَرَاهَةِ الْعَزْلِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3564]
(1442) - (وَحَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ جُدَامَةَ بِنْتِ وَهْبٍ الْأَسَدِيَّةِ، أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَن الْغِيلَةِ، حَتَّى ذَكَرْتُ أَنَّ الرُّومَ وَفَارِسَ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ، فَلَا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ". قَالَ مُسْلِم: وَأَمَّا خَلَفٌ، فَقَالَ: عَنْ جُذَامَةَ الْأَسَدِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ يَحْيَى بِالدَّالِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ) البزّار المقرئ البغداديّ، ثقةٌ له اختيارات في القراءة [10](ت 229)(م د) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
2 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم قبل باب.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ) الأسديّ، أبو الأسود المدنيّ، يتيم عروة، ثقةٌ [6] مات سنة بضع و (130)(ع) تقدّم في "الطهارة" 9/ 573.
5 -
(عُرْوَةُ) بن الزبير، تقدّم قريبًا.
6 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت أيضًا قريبًا.
7 -
(جُدَامَةُ بِنْتُ وَهْبٍ الْأَسَدِيَّةُ) ويقال: بنت جندب، ويقال: جندل، أخت عكاشة بن مِحْصَن لأمه، صحابيّة لها سابقة، وهجرة.
روت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديث الباب، وروت عنها عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان إسلامها قديمًا، وهاجرت مع قومها إلى المدينة، وقال الواقديّ: كانت تحت أنس بن قتادة، ممن شَهِد بدرًا، وقُتل يوم أحد، وقال الدارقطنيّ: هي بالجيم والدال المهملة، ومن ذكرها بالذال المعجمة، فقد صَحَّف، وكذا قال العسكريّ، وحُكي بالذال المعجمة عن جماعة، وسيأتي ما قاله المصنّف فيها.
وقال النوويّ: وهكذا قال جمهور العلماء: إن الصحيح أنها بالمهملة، والجيم مضمومة بلا خلاف.
وقال الطبريّ: جُدامة بنت جندل، والمحدثون قالوا: ابنة وهب، والمختار أنها ابنة جندل الأسدية، أسلمت قديمًا بمكة، وبايعت، وهاجرت مع قومها إلى المدينة.
أخرج لها المصنّف، والأربعة، وليس لها عندهم إلا هذا الحديث.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رواته رواة الجماعة، سوى شيخيه، وجُدامة، كما أسلفته آنفًا.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخيه، فالأول بغداديّ، والثاني نيسابوريّ.
4 -
(ومنها): أن فيه عروة من الفقهاء السبعة، وعائشة من المكثرين السبعة.
(ومنها): أن فيه رواية صحابية عن صحابية: عائشة عن جُدَامَةَ رضي الله عنهما، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) أمّ المؤمنين رضي الله عنها (عَنْ جُدَامَةَ) بضم الجيم، والدال المهملة (بِنْتِ وَهْبٍ) بن مِحصن، رضي الله عنها (الأَسَدِيّةِ) منسوبة إلى أسد بن خزيمة بن
مُدركة بن إلياس بن مُضَر، كما صرّح به ابن الأثير في "اللباب" في نسبة أخيها عُكاشة بن مِحْصَن
(1)
.
قال الحافظ ابن عبد البرّ: كلّ الرواة رووه هكذا - يعني زيادة جدامة في السند - إلا أبا عامر العَقَديَّ، فجعله عن عائشة، لم يذكر جُدامة، وكذا رواه القعنبيّ في غير "الموطّإ"، ورواه فيه كسائر الرواة عن عائشة، عن جُدامة، وفي رواية عائشة عن جُدامة دليلٌ على حرصها على العلم، وبحثها عنه، وأن القوم لم يكونوا يُرسلون من الأحاديث في الأغلب إلا ما يستوفيه المحدّث لهم بها، أو لوجوه غير ذلك. انتهى
(2)
.
(أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَقَدْ هَمَمْتُ) أي قصدت (أَنْ أَنْهَى عَنِ الْغِيلَةِ) قال النوويّ: قال أهل اللغة: الغِيلة هنا بكسر الغين، ويقال لها: الغَيْلُ - بفتح الغين مع حذف الهاء - والغِيال - بكسر الغين - وقال جماعة من أهل اللغة: الغَيلة - بالفتح - المرّة الواحدة، وأما بالكسر فهي الاسم من الغَيل، وقيل: إن أريد بها وطء المرضع جاز الغِيلة، والغَيلة بالكسر والفتح.
واختَلَف العلماء في المراد بالغيلة في هذا الحديث، وهي الغيل، فقال مالك في "الموطّإ"، والأصمعيّ، وغيره من أهل اللغة: أن يُجامع امرأته، وهي مرضع، يقال منه: أغال الرجل، وأَغْيَلَ إذا فَعَلَ ذلك، وقال ابن السّكّيت: هو أن تُرضع المرأة، وهي حامل، يقال منه: غالت، وأغيلت.
قال العلماء: سبب همّه صلى الله عليه وسلم بالنهي عنها أنه يخاف منه ضرر الولد الرضيع، قالوا: والأطبّاء يقولون: إن ذلك اللبن داء، والعرب تكرهه، وتتّقيه. انتهى كلام النوويّ
(3)
.
وفسّره مالك في "الموطّإ"، فقال: الغِيلةُ أن يمسّ الرجل امرأته، وهي تُرضع.
قال الحافظ أبو عمر: اختلف العلماء، وأهل اللغة في معنى "الغِيلة"، فقال منهم قائلون كما قال مالك: معناها أن يطأ الرجل امرأته، وهي ترضع،
(1)
راجع: "اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 39.
(2)
"الاستذكار" 18/ 281 - 282.
(3)
"شرح النوويّ" 10/ 15 - 16.
وقال الأخفش: الغِيلة، والغِيل سواء، وهو أن تلد المرأة، فيغشاها زوجها، وهي تُرضع، فتَحْمِل، فإذا حملت فسد اللبن على الصبيّ، ويفسد به جسده، وتضعف قوته، حتى ربّما كان ذلك في عقله، قال: وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه: "إنه ليدرك الفارس، فيُدعثره عن سرجه"
(1)
، أي يضعُف، فيسقط عن السرج، قال الشاعر [من الوافر]:
فَوَارِسُ لَمْ يُغَالُوا فِي رَضَاعِ
…
فَتَنْبُوا فِي أَكُفِّهِمُ السُّيُوفُ
يقال: قد أغال الرجل ولده، وأُغيل الصبيّ، وصبيّ مُغالٌ، ومُغْيَلٌ: إذا وَطِئ أبوه أمّه في رضاعه، قال امرؤ القيس [من الطويل]:
فَمِثْلِكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ وَمُرْضِعِ
…
فَأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُغْيَلِ
وقال بعض أهل اللغة: الغِيلة أن تُرضع المرأة ولدها، وهي حاملٌ، وقال غيره: الغيل نفس الرضاع. انتهى
(2)
.
وقال أبو العبّاس القرطبيّ بعد أن ذكر المعنيين السابقين: والحاصل أن كلّ واحد منهما يقال عليه غِيلة في اللغة، وذلك أن اللفظ كيفما دار إنما يرجع إلى الضرر والهلاك، ومنه تقول العرب: غالني أمر كذا: أي أضرّ بي، وغالته الْغُول: أي أهلكته، وكلّ واحدة من الحالتين المذكورتين مُضرّةٌ بالولد، ولذلك يصحّ أن تُحمل الغيلة في الحديث على كلّ واحد منهما.
فأما ضرر المعنى الأول، فقالوا: إن الماء - يعني المنيّ - يُغيل اللبن: أي يفسده، ويُسأل عن تعليله أهل الطبّ.
وأما الثاني، فضرره بيّن محسوسٌ، فإن لبن الحامل داء، وعلّةٌ في جوف الصبيّ، يظهر أثره عليه.
(1)
هو ما أخرجه الإمام أحمد: في "مسنده" 6/ 457 من طريق معاوية بن صالح، عن المهاجر مولى أسماء بنت يزيد الأنصاريّة، قال: سمعت أسماء بنت يزيد تقول: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تقتلوا أولادكم سِرًّا، فوالذي نفسي بيده إنه ليدرك الفارس، فيدعثره"، قالت: قلت: ما يعني؟ قال: الغيلة ياتي الرجل امرأته، وهي ترضع. انتهى، وأخرجه أبو داود، وابن ماجه، والبيهقيّ، وغيرهم، وصححه ابن حبّان.
(2)
"التمهيد" 13/ 93، و"الاستذكار" 18/ 282 - 283.
ومراده صلى الله عليه وسلم بالحديث المعنى الأول، دون الثاني؛ لأنه هو الذي يحتاج إلى نظر في كونه يضرّ الولد، حتى احتاج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى أن ينظر إلى أحوال غير العرب الذين يصنعون ذلك، فلما رأى أنه لا يضرّ أولادهم لم يَنْهَ عنه، وأما الثاني، فضرره معلومٌ للعرب، وغيرهم، بحيث لا يحتاج إلى نظر، ولا فكر.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: كون المراد من الحديث المعنى الأول فقط، مع أن أهل اللغة أثبتوا المعنيين محلّ نظر، والله تعالى أعلم.
قال: وإنما همّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الغِيلة لما أكثرت العرب من اتقاء ذلك، والتحدّث بضرره، حتى قالوا: إنه ليدرك الفارس، فيُدعثره عن فرسه، قال: ثم لما حصل عند النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه لا يضرّ أولاد العجم سوّى بينهم، وبين العرب في هذا المعنى، فسوّغه، فيكون حجة لمن قال من الأصوليين: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يحكم بالرأي والاجتهاد. انتهى كلام القرطبيّ- رحمه الله باختصار
(1)
.
(حَتَّى ذَكَرْتُ أَنَّ فَارِسَ) لقب قبيلة، ليس بأب ولا أمّ، وإنما هم أخلاط من تَغْلِب اصطلحوا على هذا الاسم (وَالرُّومَ) بضمّ الراء نسبة إلى روم بن عيصو بن إسحاق (يَصْنَعُونَ ذَلِكَ) أي يفعلون المذكور من الغِيلة (فَلَا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ") وفي الرواية التالية:"فنظرت في الروم، وفارس، فإذا هم يُغيلون أولادهم، فلا يضُرّ أولادهم ذلك شيئًا".
قال الحافظ أبو عمر: هذا يردّ كلّ ما قاله الأخفش، وحكاه عن العرب، وذلك من أكاذيب العرب، وظنونهم، ولو كان ذلك حقًّا لنهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم على جهة الإرشاد والأدب، فإنه كان صلى الله عليه وسلم حريصًا على نفع المؤمنين رؤوفًا بهم، وما ترك شيئًا ينفعهم إلا دلّهم عليه، وأمره به صلى الله عليه وسلم. انتهى
(2)
.
وقوله: (قَالَ مُسْلِم) بن الحجّاج، صاحب الكتاب، ثم إنه يَحْتَمل أن يكون من كلامه، وهو الظاهر، ويَحْتَمل أن يكون ملحقًا من الراوي عنه (وَأَمَّا خَلَفٌ) يعني هشام شيخه الأول (فَقَالَ: عَنْ جُذَامَةَ الْأَسَدِيَّةِ) أي بالذال المعجمة (وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ يَحْيَى) بن يحيى شيخه الثاني، وهو أنها جُدَامة (بِالدَّالِ) المهملة، وهذا قد تقدّم في ترجمتها أنه قول جمهور العلماء.
(1)
"المفهم" 4/ 174 - 175.
(2)
"الاستذكار" 18/ 282 - 283.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "جُدامة الأسديّة" رويناه بالدال المهملة، وهكذا قاله مالك، وهو الصواب، قال أبو حاتم:"الْجُدامة": ما لم يندقّ من السُّنْبُل، وقال غيره: هو ما يبقى في الْغِرْبال من نصيّةٍ
(1)
، وقال غير مالك بالذال المنقوطة، وهو من الْجَذم الذي هو القطع، وهي جدامة بنت وهب بن مِحْصَن الأسديّ، تكنى أم قيس، وهي ابنة أخي عكاشة بن مِحصن، أسلمت عام الفتح. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "أسلمت عام الفتح" هذا فيه نظر؛ لأنها ممن أسلم قديمًا، وهاجرت إلى المدينة، كما تقدّم قريبًا، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جُدامة بنت وهب رضي الله عنها من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: قال الدارقطنيّ رحمه الله وأخرج - يعني مسلمًا - حديث جُدامة مرسلًا ومتّصلًا، ولم يُخرجه البخاريّ، قال أبو مسعود الدمشقيّ في الأجوبة (24) بعد نقل كلام الدارقطني هذا: أما حديث جُدامة بنت وهب فما أخرجه أصلًا إلا متّصلًا، ولم يُخرجه مرسلًا، أخرجه من حديث مالك، وسعيد بن أبي أيوب، ويحيى بن أيوب، عن أبي الأسود، عن عائشة، عن جُدامة. انتهى.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [25/ 3564 و 3565 و 3566](1442)، و (أبو داود) في "الطبّ"(3882)، و (الترمذيّ) في "الطبّ"(2076)، و (النسائيّ) في "النكاح"(3327) وفي "الكبرى"(5485)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(2011)، و (مالك) في "الموطّإ"(1292)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 361 و 434)، و (الدارميّ) في "سننه"(2217)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 110 - 101)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 115 - 116)، و (ابن حبّان) في
(1)
النصيّةُ: البقيّة.
(2)
"المفهم" 4/ 173.
"صحيحه"(4196)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(24/ 534 - 535)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(4/ 289 و 9/ 289 و 292)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 465)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2298)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان حكم الغِيلة، وهو الجواز، حيث إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه، وبيّن سبب ترك النهي.
2 -
(ومنها): بيان جواز الاجتهاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه يقول جمهور الأصوليين، وقيل: لا يجوز؛ لتمكّنه من الوحي، قال النوويّ رحمه الله: والصواب الأول.
3 -
(ومنها): أن فيه إباحة التحدّث عن الأمم الأخرى بما يفعلون.
4 -
(ومنها): ما قاله الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: فيه دليلٌ على أن من نهيه صلى الله عليه وسلم ما يكون أدبًا، ورفقًا، وإحسانًا إلى أمته ليس من باب الديانة، ولو نهى عن الغِيلة كان ذلك وجه نهيه عنها. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): قال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله: وقد يَستَدِل بهذا
(1)
مَن يمنع العزل؛ لأن الوأد يرفع الموجود والنسل، والعزل منع أصل النسل، فتشابها، إلا أن قتل النفس أعظم وزرًا، وأقبح فعلًا، ولذلك قال بعض علمائنا: إنه يُفْهَم من قوله صلى الله عليه وسلم في العزل: "ذلك الوأد الخفيّ" الكراهةَ، لا التحريم، وقال به جماعة من الصحابة، وغيرهم، وقال بإباحته أيضًا جماعة من الصحابة، والتابعين، والفقهاء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا عليكم ألا تفعلوا، فإنما هو القدر"، أي ليس عليكم جناح في ألا تفعلوا، وقد فَهِم منه الحسن، ومحمد بن المثنى
(2)
النهي والزجر عن العزل، والتأويل الأول أولى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا
(1)
يعني قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} الآية [الأنعام: 151].
(2)
هكذا النسخة، وقد تقدَّم مثله، والظاهر أن الصواب "ومحمد بن سيرين"؛ لأنه الذي ثبت في "صحيح مسلم"، وغيره، وأما ابن المثنى، فلم يُنقل عنه، فيما علمت، والله تعالى أعلم.
أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء"، قال مالك، والشافعيّ: لا يجوز العزل عن الحرة إلا بإذنها، وكأنهم رأوا الإنزال من تمام لذاتها، ومن حقّها في الولد، ولم يروا ذلك في الموطوءة بملك اليمين؛ إذ له أن يعزل عنها بغير إذنها؛ إذ لا حقّ لها في شيء مما ذُكِرَ. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدَّم الأرجح جواز العزل مع الكراهة.
والحاصل أن الأحاديث التي ظاهرها التعارض في هذا الباب يُجمَع بينها بأن ما ورد منها في النهي محمول على كراهة التنزيه، وما ورد في الإذن في ذلك محمول على أنه ليس بحرام، وليس معناه نفي الكراهة، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): قال الحافظ أبو عمر: قال ابن القاسم، وابن الماجشون، وحكاه ابن القاسم، عن مالك، ولم يسمعه منه: في الرجل يتزوّج المرأة، وهي تُرضع، فيُصيبها، وهي تُرضع: إن ذلك اللبن له، وللزوج قبله؛ لأن الماء يُغيّر اللبن، ويكون منه الغذاء، واحتجّ بهذا الحديث:"لقد هممتُ أن أنهى عن الغيلة. . ." الحديث، قال ابن القاسم: وبلغني عن مالك: إذا ولدت المرأة من الرجل، فاللبن منه بعد انفصاله وقبله، ولو طلّقها، فتزوّجت، وحملت من الثاني، فاللبن منهما جميعًا أبدًا حتى يتبيّن انقطاعه من الأول.
ومن الحجة لمالك أيضًا أن اللبن يغيّره وطء الزوج الثاني، ولوطئه فيه تأثير قوله صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى المرأة الحامل من السبي، فسأل:"هل يطأ هذه صاحبها؟ " قيل له: نعم، فقال:"لقد هممتُ أن ألعنه لعنةً تدخل معه في قبره، أيورّثه، وليس منه؟ أوَ يستعبده، وهو قد غذاه في سمعه وبصره؟ "، قال: وهو حديثٌ في إسناده لين
(2)
.
وقال أبو حنيفة، وأصحابه، والشافعيّ: اللبن من الأول في هذه المسألة حتى تضع، فيكون من الآخر، وهو قول ابن شهاب، وقد رُوي عن الشافعيّ
(1)
"تفسير القرطبيّ" 7/ 132.
(2)
الحديث أخرجه مسلم في "صحيحه" إلا قوله: "وهو قد غذاه. . . إلخ" في هذا الباب، وأبو داود، وأحمد، والدارميّ، وغيرهم.
أنه منهما حتى تضع، فيكون من الثاني. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3565]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَا: حَدَّثَنَا الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، حَدَّثَنِي أَبُو الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ جُدَامَةَ بِنْتِ وَهْبٍ، أُخْتِ عُكَّاشَةَ، قَالَتْ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي أُنَاسٍ، وَهُوَ يَقُولُ: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَن الْغِيلَةِ، فَنَظَرْتُ فِي الرُّومِ وَفَارِسَ، فَإذَا هُمْ يُغِيلُونَ أَوْلَادَهُمْ، فَلَا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ ذَلِكَ شَيْئًا"، ثُمَّ سَأَلُوهُ عَن الْعَزْلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ذَلِكَ الْوَأْدُ الْخَفِيُّ". زَادَ عُبَيْدُ اللهِ في حَدِيثِهِ، عَن الْمُقْرِئِ: وَهِيَ: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8)} [التكوير]).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ) أبو قُدامة السّرَخسيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، ثم المكي، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(الْمُقْرِئُ) هو: عبد الله بن يزيد، أبو عبد الرحمن المكيّ
(2)
، أصله من البصرة، أو الأهواز، ثقةٌ فاضلٌ [9](ت 213)، وقد قارب المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 15.
4 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ) مِقْلَاص الْخُزاعيّ مولاهم، أبو يحيى المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 161) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 15.
(1)
"التمهيد" 13/ 93 - 94، و"الاستذكار" 18/ 283 - 284.
(2)
هذا هو الصواب، وهو الذي نصّ عليه الحافظ المزيّ في "تحفة الأشراف"(11/ 44) وقد وقع في "برنامج الحديث للكتب التسعة" هنا غلط، حيث ترجم فيه لعبد الله بن يزيد المخزوميّ المدني المقرئ الأعور، مولى الأسود بن سفيان، شيخ مالك بن أنس، من الطبقة السادسة، مات سنة (148) وهذا غلط صريح، فتنبّه.
والباقون ذُكروا قبله، و"أبو الأسود" هو: محمد بن عبد الرحمن بن نوفل المذكور قبله.
وقوله: (أُخْتِ عُكَّاشَةَ) قال النوويّ: قال القاضي عياض: قال بعضهم: إنها أخت عكاشة على قول من قال: إنها جدامة بنت وهب بن محصن، وقال آخرون: هي أخت رجل آخر، يقال له: عكاشة بن وهب، ليس بعكاشة بن مِحصن المشهور، ثم ذكر كلام الطبريّ السابق، قال: والمختار أنها جدامة بنت وهب الأسديّة أخت عكاشة بن محصن المشهور الأسديّ، وتكون أخته من أمه.
وفي "عكاشة" لغتان سبقتا في "كتاب الإيمان": تشديد الكاف، وتخفيفها، والتشديد أفصح، وأشهر. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقوله: (فَإِذَا هُمْ يُغِيلُونَ أَوْلَادَهُمْ)"إذا" هي الْفُجائيّة، و"يُغيلون" بضم الياء؛ لأنه من أغال الرباعيّ، كما سبق بيانه.
وقوله: (ثُمَّ سَأَلُوهُ عَن الْعَزْلِ) أي عن حكمه.
وقوله: ("ذَلِكَ الْوَأْدُ الْخَفِيُّ" وَهِيَ: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8)}) قال النوويّ رحمه الله: "الموؤدة" بالهمز، والوأد دفن البنت، وهي حية، وكانت العرب تفعله خشية الإملاق، وربما فعلوه خوف العار، والموؤدة البنت المدفونة حيّة، ويقال: وأَدَتِ المرأةُ ولدها وَأْدًا، قيل: سُمِّيت موؤدةً؛ لأنها تُثْقَل بالتراب، ووجه تسمية العزل وأدًا مشابهته الوأدَ في تفويت الحياة، وقوله في هذا الحديث:{وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8)} معناه: أن العزل يشبه الوأد المذكور في هذه الآية. انتهى
(2)
.
وقال القاري: قوله: "وهي: وإذا المؤودة سُئلت" الضمير راجع إلى مقدّر، أي هذه الفعلة القبيحة مندرجة في الوعيد تحت قوله تعالى:{وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8)} . انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"شرح النوويّ" 10/ 16.
(2)
"شرح النوويّ" 10/ 17.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3566]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ الْقُرَشِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ جُدَامَةَ بِنْتِ وَهْبٍ الْأَسَدِيَّةِ، أنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ فِي الْعَزْلِ وَالْغِيلَةِ، غيْرَ أَنَّهُ قَالَ: الْغِيَالِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ) البجليّ، السَّلِيحينيّ - بمهملة ممالة، وقد تصير ألِفًا ساكنة، وفتح اللام، وكسر المهملة، ثم تحتانيّة، ثم نون - والسلحين قرية بقرب بغداد، أبو زكريا، ويقال: أبو بكر، نزيل بغداد، صدوقٌ، من كبار [10].
رَوى عن فُليح بن سليمان، ومبارك بن فَضَالة، والليث، والحمادين، وابن لَهِيعة، وشريك، وأبان العطار، وسعيد بن عبد العزيز التنوخيّ، ويحيى بن أيوب المصريّ، وغيرهم.
وروى عنه أحمد بن حنبل، وأبو بكر بن أبي شيبة، والحسن بن عليّ الخلال، وأحمد بن منيع، وعليّ ابن المدينيّ، وهارون الحمال، ومحمود بن غيلان، وغيرهم.
قال حنبل بن إسحاق، عن أحمد: شيخٌ صالحٌ ثقةٌ صدوق، وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: صدوقٌ، وقال ابن سعد: كان ثقةً حافظًا لحديثه، ومات سنة عشر ومائتين، وفيها أَرَّخَه غير واحد.
روى عنه المصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
2 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) الغافقيّ - بمعجمة، وفاء، وقاف - أبو العبّاس المصريّ، صدوقٌ ربما أخطأ [7](ت 168)(ع) تقدم في "الحيض" 26/ 820.
والباقون ذُكروا في الإسنادين الماضيين.
[تنبيه]: رواية يحيى بن أيوب، عن محمد بن عبد الرحمن هذه ساقها ابن ماجه في "سننه"، فقال:
(2011)
- حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا يحيى بن إسحاق، ثنا يحيى بن أيوب، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل القرشيّ، عن عروة، عن عائشة، عن جُدامة بنت وهب الأسدية، أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قد أردت أن أَنْهَى عن الْغَيَال، فإذا فارس والروم يُغِيلون، فلا يقتلون أولادهم"، وسمعته يقول، وسئل عن العزل، فقال:"هو الوأد الخفيّ". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3567]
(1443) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ الْمَقْبُرِيُّ، حَدَّثَنَا حَيْوَةُ، حَدَّثَنِي عَيَّاشُ بْنُ عَبَّاسٍ، أَنَّ أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَهُ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ أَخْبَرَ وَالِدَهُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنِّي أَعْزِلُ عَن امْرَأَتِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لِمَ تَفْعَلُ ذَلِكَ؟ "، فَقَالَ الرَّجُلُ: أُشْفِقُ عَلَى وَلَدِهَا، أَوْ عَلَى أَوْلَادِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَوْ كَانَ ذَلِكَ ضَارًّا ضَرَّ فَارِسَ وَالرُّومَ"، وقَالَ زُهَيْرٌ فِي رِوَايَتِهِ: "إنْ كَانَ لِذَلِكَ
(1)
فَلَا، مَا ضَارَ ذَلِكَ فَارِسَ وَلَا الرُّومَ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) تقدَّم قبل بابين.
2 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدَّم قريبًا.
3 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ الْمَقْرِئُ) هو: أبو عبد الرحمن المقرئ المكيّ
(2)
المذكور قبل حديث.
(1)
وفي نسخة: "إن كان كذلك".
(2)
هذا هو الصواب، وقد وقع في "برنامج الحديث للكتب الستة" غلط فيه، كما سبق =
[تنبيه]: قوله: "الْمُقْرئ" بصيغة اسم الفاعل، من الإقراء، هذا هو الصواب، ووقع في معظم نسخ "صحيح مسلم" بلفظ:"المقبريّ" بالباء، وهو غلط فاحشٌ، والصَّواب:"المقرئ"، من الإقراء، فليُتنبّه، والله تعالى وليّ التوفيق.
4 -
(حَيْوَةُ) بن شُريح بن صفوان التُّجِيبيّ، أبو زرعة المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ زاهدٌ [7](ت 8 أو 159)(ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 328.
5 -
(عَيَّاشُ بْنُ عَبَّاسٍ) الأول بالشين المعجمة، والثاني بالسين المهملة، الْقِتبانيّ - بكسر القاف، وسكون المثنّاة -
(1)
الْحِمْيريّ، أبو عبد الرحيم، ويقال: أبو عبد الرحمن المصريّ، ثقةٌ [5]
(2)
.
رأى عبد الله بن الحارث بن جَزْء، وروى عن جُنادة بن أبي أمية، والصحيح أن بينهما رجلًا، وشُييم بن بَيْتان، وسالم أبي النضر، وبكير بن الأشج، وأبي عبد الرحمن الْحُبُليّ، وعيسى بن هلال، وأبي الخير مَرْثَد الْيَزَنيّ، وجماعة.
وروى عنه ابناه: عمرُ وعبد الله، ويحيى بن أيوب، والمفَضَّل بن فَضَالة، وابن لَهِيعة، وحَيْوة بن شُرَيح، وسعيد بن أبي أيوب، وشعبة، والليث، وآخرون.
قال ابن معين، وأبو داود: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صالحٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال النسائيّ: ليس به بأسٌ، وقال أبو بكر البزار: مشهورٌ.
= قريبًا، فقد تُرجم فيه لعبد الله بن يزيد مولى الأسود المدنيّ، وهو غلط ظاهر، فإن الظاهر أن ابن نُمير، وزهيرًا لم يلقياه، فإنه مات سنة (148)، أما عدم لقاء زهير له، فلا شكّ فيه، لأنه وُلد سنة (160) أي بعد موته بأكثر من عشر سنين، فليُتنبّه.
(1)
نسبة إلى قتبان بطن من رُعين، قاله في "شرح النووي" 10/ 18.
(2)
جعله في "التقريب" من السادسة، والظاهر أنه من الخامسة؛ لأنه رأى عبد الله بن الحارث بن جَزْء الصحابيّ، فيكون مثل الأعمش، رأى أنسًا، فجعله من الخامسة، فتنبّه.
قال ابن يونس: يقال: تُوُفِّي سنة ثلاث وثلاثين ومائة.
أخرج له البخاريّ في "جزء القراءة خلف الإمام"، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1443)، وحديث (1886):"يُغفَرُ للشهيد كلّ ذنب إلا الدَّين"، وأعاده بعده.
6 -
(أَبُو النَّضْرِ) سالم بن أبي أُميّة، مولى عمر بن عُبيد الله التيميّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ، يرسل [5](ت 129)(ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 551.
7 -
(عَامِرُ بْنُ سَعْدِ) بن أبي وقّاص الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 104)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.
8 -
(أُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ) بن حارثة بن شَرَاحيل الكلبيّ الأمير الصحابيّ الشهير، أبو محمد، وأبو زيد، مات بالمدينة سنة (54) وهو ابن (75) سنةً (ع) تقدم في "الصلاة" 42/ 1085.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحاد كيفية الأخذ والأداء منه، ومنهما، وقد سبق البحث في هذا مستوفًى.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى زُهير، فما أخرج له الترمذيّ، وعيّاش، فما أخرج له البخاريّ في "صحيحه".
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالتحديث والإخبار من أوله إلى آخره، إلا في موضع واحد.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: عيّاش
(1)
، عن أبي النضر، عن عامر بن سعد، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ) بن أبي وقّاص (أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ) رضي الله عنهما (أَخْبَرَ وَالِدَهُ) أي والد عامر بن سعد، فقوله:(سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ) منصوب على البدليّة من "والدَه"(أَنَّ رَجُلًا) قال صاحب "التنبيه": لا أعرف الرجل، ولا المرأة.
(1)
هذا على سبق ترجيحي أنه من الخامسة، وإلا ففيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، فتنبّه.
انتهى
(1)
. (جَاء إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنِّي أَعْزِلُ عَن امْرَأَتِي) أراد أنه يعزل عنها عند مجامعته لها في مدّة إرضاعها ولده (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لِمَ تَفْعَلُ ذَلِكَ؟ ") أي العزل عنها (فَقَالَ الرَّجُلُ: أُشْفِقُ) بضمّ الهمزة، وكسر الفاء، من الإشفاق: أي أخاف (عَلَى وَلَدِهَا) أي لِمَا اشتهر عند العرب أنه يضرّ بالولد، وأن ذلك اللبن داء إذا شربه الولد ضَوِيَ، واعتلّ، فخاف عليه الْهُزال، والاعتلال.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أُشفق على ولدها" يعني أخاف إن لم أعزل أن تَحْمِل، فيضرّ ذلك ولدها، على ما تقدَّم، ويَحْتَمِل أنه خاف فساد اللبن بالوطء، على ما ذكرناه آنفًا. انتهى
(2)
.
(أَوْ) للشكّ من الراوي، أي أو قال:(عَلَى أَوْلَادِهَا) بصيغة الجمع (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لوْ كَانَ ذَلِكَ ضَارًّا ضَرَّ فَارِسَ وَالرُّومَ") يعني أنهم يفعلون ذلك، ولم يضرّهم، فأنتم مثلهم في ذلك.
وقال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليل على أن الأصل في نوع الإنسان المساواة في الْجِبِلّات والْخَلْق، وإن جاز اختلاف العادات والمناشئ، وفيه حجة على إباحة العزل، كما تقدَّم. انتهى
(3)
.
(وقَالَ زُهَيْرٌ) هو ابن حرب شيخه الثاني (فِي رِوَايَتِهِ: "إِنْ كَانَ لِذَلِكَ) أي لأجل ما ذكرته من الإشفاق على الولد، وفي نسخة:"إن كان كذلك"(فَلَا) أي فلا تفعل العزل؛ لأنه لا داعي له؛ إذ ما ذكرته من السبب ليس مقبولًا؛ لما ذُكر من أن فارس والروم ما تضرّروا بذلك، فما زعمته العرب ليس صحيحًا، وقوله:(مَا ضَارَ ذَلِكَ فَارِسَ وَلَا الرُّومَ") بتخفيف الراء، من الضير، أي ما ضرّهم، يقال: ضاره يَضيره ضَيْرًا، من باب باع، وضرّه يضُرّه، من باب نصر، ضُرًّا بالفتح والضمّ، قال الفيّوميّ رحمه الله: الضّرّ: الفاقة والفقر، بضمّ الضاد اسم، وبفتحها مصدرُ ضرّه يضُرّه، من باب قتل: إذا فعل به مكروهًا، وأضرّ به يتعدَّى بنفسه ثلاثيًّا، وبالباء رُباعيًّا، قال الأزهريّ: كلُّ ما كان سُوء حال،
(1)
"تنبيه المعلم" ص 242.
(2)
"المفهم" 4/ 175.
(3)
"المفهم" 4/ 175.
وفقر، وشدّة في بدن فهو ضُرٌّ بالضمّ، وما كان ضدَّ النفع فهو بفتحها، وفي التنزيل:{مَسَّنِيَ الضُّرُّ} : أي المرض، والاسم الضَّرَرُ. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [25/ 3567](1443)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 203)، و (البزّار) في "مسنده"(7/ 40)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 101 - 102)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 116)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
* * *
(1)
"المصباح المنير" 2/ 360.
17 - (كِتَابُ الرَّضَاعِ)
" الرِّضاع"، و "الرِّضاعة" - بفتح الراء، وكسرها فيهما -، قال الفيّوميّ رحمه الله: رَضِعَ الصبيُّ رَضَعًا، من باب تَعِب في لغة نجد، ورَضَعَ رَضْعًا، من باب ضَرَب لغةٌ لأهل تهامة، وأهل مكّة، يتكلّمون بها، وبعضهم يقول: أصل المصدر من هذه اللغة كسرُ الضاد، وإنما السكون تخفيف مثلُ الْحَلِفِ والْحَلْفِ، ورَضَعَ يَرْضَعُ بفتحتين لغةٌ ثالثةٌ رَضَاعًا، ورَضَاعَةً بفتح الراء. وأرضعته أمّه، فارتضع، فهي مُرْضِعٌ، ومُرْضِعَةٌ أيضًا، وقال الفرّاء، وجماعة، إن قُصِدَ حقيقة الوصف بالإرضاع، فمرضِعٌ بغير هاء، وإن قُصد مجاز الوصف بمعنى أنها محلّ الإرضاع فيما كان، أو سيكون فبالهاء، وعليه قوله تعالى:{تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج: 2]، ونساء مَرَاضِعُ، ومَرَاضِيعُ. انتهى
(1)
.
(1) - (بَابُ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلَادَةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3568]
(1444) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَهَا، وَإِنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أُرَاهُ فُلَانًا" لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ كَانَ فُلَانٌ حَيًّا لِعَمِّهَا مِنْ
(1)
"المصباح المنير" 1/ 229.
الرَّضَاعَةِ، دَخَلَ عَلَيَّ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"نَعَمْ، إِنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) بن بَكْر بن عبد الرحمن التميميّ، أبو زكريّاء النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 226)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(مَالِكُ) بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحيّ، أبو عبد الله المدنيّ الفقيه المجتهد، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين [7](ت 179)(ع) تقدَّم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 378.
3 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ) بن محمد بن عمرو بن حَزْم الأنصاريّ المدنيّ القاضي، ثقةٌ [5](ت 135) عن (70) سنةً (ع) تقدم في "الصلاة" 17/ 916.
4 -
(عَمْرَةُ) بنت عبد الرحمن بن سعد بن زُرارة الأنصاريّة المدنيّة، ثقةٌ [3] ماتت قبل المائة، وقيل: بعدها (ع) تقدمت في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 417.
5 -
(عَائِشَةُ) بنت الصديق رضي الله عنهما، ماتت سنة (57) تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه أيضًا، فنيسابوريّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّة.
5 -
(ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت من الحديث (2210)، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَمْرَةَ) بنت عبد الرحمن الأنصاريّة (أَنَّ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها (أَخْبَرَتْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَهَا، وَإِنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ) لم يُسمّ (يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ) بنت عمر بن الخطّاب، أم المؤمنين رضي الله عنهما (قَالَتْ
عَائِشَةُ) رضي الله عنها، قال في "الفتح": فيه التفات، وكان السياق يقتضي أن تقول: قلت. انتهى. (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أُرَاهُ) بضمّ الهمزة: أي أظنّه (فُلَانًا"، لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ) اللام هنا بمعنى "عن"، نحو قوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11]، وبه يقول ابن الحاجب، وقال ابن مالك، وغيره: هي لام التعليل، وقيل: لام التبليغ، قال ابن هشام: وحيث دخلت اللام على غير المقول له، فالتأويل على بعض ما ذكرناه، نحو:{قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا} الآية [الأعراف: 38]، وقول الشاعر [من الكامل]:
كَضَرَائِرِ الْحَسْنَاءِ قُلْنَ لِوَجْهِهَا
…
حَسَدًا وَبُغْضًا إِنَّهُ لَذَمِيمُ
(1)
(فَقَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها (يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ كَانَ فُلَانٌ حَيًّا) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسمه، ووَهِمَ من فسّره بأفلح أخي أبي القعيس؛ لأن أبا القُعيس أبو عائشة من الرضاعة، وأما أفلح فهو أخوه، وهو عمها من الرضاعة، كما سيأتي أنه عاش حتى جاء يستأذن على عائشة، فأمرها النبيّ صلى الله عليه وسلم أن تأذن له بعد أن امتنعت، وقولها:"لو كان حيًّا" يدلّ على أنه كان مات، فيَحْتَمِل أن يكون أخًا لهما آخر، ويَحْتَمِل أن تكون ظنت أنه مات لبُعد عهدها به، ثم قَدِم بعد ذلك، فاستأذن.
وقال ابن التين: سُئل الشيخ أبو الحسن عن قول عائشة رضي الله عنها: "لو كان فلانٌ حيًّا" أين هو من الحديث الآخر الذي فيه: "فأبَيْتُ أن آذن له"، فالأول ذكرت أنه ميت، والثاني ذكرت أنه حيّ؟.
فقال: هما عمان من الرضاعة: أحدهما رَضَعَ مع أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، وهو الذي قالت فيه:"لو كان حيًّا"، والآخر أخو أبيها من الرضاعة.
قال الحافظ: الثاني ظاهرٌ من الحديث، والأول حسنٌ مُحْتَمِلٌ، وقد ارتضاه عياضٌ، إلا أنه يَحتاج إلى نقل؛ لكونه جزم به، قال: وقال ابن أبي
(1)
"مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 213 - 214.
حازم: أرى أن المرأة التي أرضعت عائشة امرأة أخي الذي استأذن عليها، قال الحافظ: وهذا بيّنٌ في الحديث الثاني، لا يحتاج إلى ظنّ، ولا هو مشكلٌ، إنما المشكل كونها سألت عن الأول، ثم توقّفت في الثاني.
وقد أجاب عنه القرطبيّ، قال: هما سؤالان، وقعا مرّتين في زمنين عن رجلين، وتكرّر منها ذلك، إما لأنها نسيت القصّة الأولى، وإما لأنها جوّزت تغيّر الحكم، فأعادت السؤال. انتهى، وتمامه أن يقال: السؤال الأول كان قبل الوقوع، والثاني بعد الوقوع، فلا استبعاد في تجويز ما ذكر من نسيان، أو تجويز النسخ.
ويؤخذ من كلام عياض جواب آخر، وهو أن أحد العمّين كان أعلى، والآخر أدنى، أو أحدهما كان شقيقًا، والآخر لأب فقط، أو لأم فقط، أو أرضعتها زوجة أخيه بعد موته، والآخر في حياته.
وقال ابن المرابط: حديث عمّ حفصة قبل حديث عمّ عائشة، وهما متعارضان في الظاهر، لا في المعنى؛ لأن عمّ حفصة أرضعته المرأة مع عمر، فالرضاعة فيهما من قِبَل المرأة، وعمّ عائشة إنما هو من قِبَل الفحل، كانت امرأة أبي القعيس أرضعتها، فجاء أخوه يستأذن عليها، فأبت، فأخبرها الشارع أن لبن الفحل يُحّرم، كما يُحرّم من قبل المرأة. انتهى.
فكأنه جوّز أن يكون عمّ عائشة الذي سألت عنه في قصّة عمّ حفصة كان نظير عمّ حفصة في ذلك، فلذلك سألت ثانيًا في قصّة أبي القعيس، وهذا إن كان وجده منقولًا، فلا مَحِيد عنه، وإلا فهو محملٌ حسنٌ. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
، وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
(لِعَمِّهَا) تقدَّم البحث في معنى هذه اللام آنفًا (مِنَ الرَّضَاعَةِ، دَخَلَ عَلَيَّ؟) جواب "لو"(قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ، إِنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ") أي وتبيح ما تبيحه، وهو بالإجماع فيما يتعلّق بتحريم النكاح وتوابعه، وانتشار الحرمة بين الرضيع، وأولاد المرضعة، وتنزيلهم منزلة الأقارب في جواز
(1)
"الفتح" 11/ 373 - 374.
النظر، والخلوة، والمسافرة، ولكن لا يترتّب عليه باقي أحكام الأمومة، من التوارث، ووجوب الإنفاق، والعتق بالملك، والشهادة، والعقل، وإسقاط القصاص، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأول): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 3568 و 3569 و 3570](1444)، و (البخاريّ) في "الشهادة"(2646)، و (3105) و "النكاح"(5099)، و (النسائيّ) في "النكاح"(6/ 99 و 102)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 601)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 306)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 18)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 44 و 51 و 178)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 173)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 105)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 117)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 159 و 451)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن الرضاع يُحرّم كما يُحرّم النسب، قال النوويّ رحمه الله: هذه الأحاديث متفقة على ثبوت حرمة الرضاع، وأجمعت الأمة على ثبوتها بين الرضيع والمرضعة، وأنه يصير ابنها يَحْرُم عليه نكاحها أبدًا، ويَحِلّ له النظر إليها، والخلوة بها، والمسافرة، ولا يترتب عليه أحكام الأمومة من كل وجه، فلا يتوارثان، ولا يجب على واحد منهما نفقة الآخر، ولا يَعْتِق عليه بالمِلك، ولا تُرَدّ شهادته لها، ولا يَعْقِل عنها، ولا يسقط عنها القصاص بقتله، فهما كالأجنبيين في هذه الأحكام.
وأجمعوا أيضًا على انتشار الحرمة بين المرضعة، وأولاد الرضيع، وبين الرضيع، وأولاد المرضعة، وأنه في ذلك كولدها من النسب؛ لهذه الأحاديث. انتهى.
2 -
(ومنها): بيان أن ما حَرُم بالرضاع هو الذي يحرم بالنسب.
3 -
(ومنها): بيان مشروعيّة استئذان المَحْرَم على محرمه.
4 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: في الحديث دلالة على أن الرضاع يَنْشُر الحرمة بين الرضيع والمرضعة، وزوجها، يعني الذي وقع الإرضاع بين ولده منها، أو السيد، فإذا أرضعت المرأة صبيًّا حرمت على الصبيّ؛ لأنها تصير أمه، وأمها؛ لأنها جدّته فصاعدًا، وأختها؛ لأنها خالته، وبنتها؛ لأنها أخته، وبنت بنتها فنازلًا؛ لأنها بنت أخته، وبنت صاحب اللبن؛ لأنها أخته، وبنت بنته فنازلًا؛ لأنها بنت أخته، وأمه فصاعدًا؛ لأنها جدّته، وأخته؛ لأنها عمته، ولا يتعدى التحريم إلى أحد من قرابة الرضيع، فليست أخته من الرضاعة أختًا لأخيه، ولا بنتا لأبيه؛ إذ لا رضاع بينهم.
قال: والحكمة في ذلك أن سبب التحريم ما يَنفَصِل من أجزاء المرأة، وهو اللبن، ويتّصل بالرضيع، فيتغذّى به، فتصير أجزاؤها أجزاءه، فينتشر التحريم بينهما، واعتَبَر في حقّ صاحب اللبن أن وجود اللبن بسبب مائه وغذائه، فأما قرابات الرضيع فليس بينهم، ولا بين المرضعة، ولا زوجها نسبٌ، ولا سببٌ، فتدبّره. انتهى
(1)
.
5 -
(ومنها): ما قاله القرطبي رحمه الله أيضًا: قوله: "إن الرضاعة تُحرّم ما تُحَرِّم الولادة"، وفي رواية:"يَحْرُم من الرضاعة ما يَحْرُم من النسب"، دليلٌ على جواز نقل الرواية بالمعنى إن كانت القصّة واحدة، ويَحْتَمِل أن يكون تكرّر ذلك المعنى منه صلى الله عليه وسلم باللفظين المختلفين، وقد صرّح الرواة عن عائشة رضي الله عنها برفع هذه الألفاظ للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فهي مسندة مرفوعة، ولا يضرّها وقف من وقفها على عائشة رضي الله عنها، كما جاء في الرواية الأخرى. انتهى
(2)
.
قال الحافظ رحمه الله بعد ذكر ما قاله القرطبيّ من الاحتمالين ما نصّه: الثاني هو المعتمد، فإن الحديثين مختلفان في القصة، والسبب، والراوي، وإنما يأتي ما قال إذا اتحد ذلك، وقد وقع عند أحمد من وجه آخر: عن عائشة رضي الله عنها:
(1)
"المفهم" 4/ 177 - 178 بزيادة من "الفتح" 11/ 375.
(2)
"المفهم" 4/ 177.
"يَحْرُمُ من الرضاع ما يَحْرُم من النسب، من خالٍ، أو عمّ، أو أخ". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في ذكر ما استثناه العلماء من عموم "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب":
قال في "الفتح": قال العلماء: يستثنى من عموم قوله: "يَحْرُم من الرضاع ما يَحْرُم من النسب" أربع نسوة يَحْرُمن في النسب مطلقًا، وفي الرضاع قد لا يحرمن:
[الأولى]: أمُّ الأخ في النسب حرام؛ لأنها إما أمّ، وإما زوج أب، وفي الرضاع قد تكون أجنبية، فترضع الأخ، فلا تحرم على أخيه.
[الثانية]: أمُّ الْحَفِيد حرام في النسب؛ لأنها إما بنت، أو زوج ابن، وفي الرضاع قد تكون أجنبية، فترضع الحفيد، فلا تَحْرُم على جده.
[الثالثة]: جدّة الولد في النسب حرام؛ لأنها إما أُمٌّ، أو أم زوجة، وفي الرضاع قد تكون أجنبية، أرضعت الولد، فيجوز لوالده أن يتزوجها.
[الرابعة]: أخت الولد حرام في النسب؛ لأنها بنت، أو ربيبة، وفي الرضاع قد تكون أجنبية، فترضع الولد، فلا تحرم على الوالد.
وهذه الصور الأربع اقتصر عليها جماعة، ولم يستثن الجمهور شيئًا من ذلك، وفي التحقيق لا يُستثنى شيء من ذلك؛ لأنهنّ لم يحرمن من جهة النسب، وإنما حَرُمن من جهة المصاهرة.
واستدرك بعض المتأخرين أم العمّ، وأمّ العمة، وأم الخال، وأم الخالة، فإنهن يحرمن في النسب، لا في الرضاع، وليس ذلك على عمومه. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: نظمت هذه المستثنيات بقولي:
حَدِيثُ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا
…
يَحْرُمُ بِالنَّسَبِ نَصٌّ أُحْكِمَا
وَاسْتَثْنِ مِنْهُ أَرْبَعًا تُحَرَّمُ
…
بِنَسَبٍ دُونَ رَضَاعٍ يُعْلَمُ
مِنْ تِلْكَ أُمُّ الأَخِ أُمُّ الْحَفَدَهْ
…
وَجَدَّةُ الوَلَدِ خُذْهَا فَائِدَهْ
كَذَاكَ أُخْتُ وَلَدٍ فَالأَرْبَعُ
…
تُكُونُ فِي النَّسَبِ مِمَّنْ يُمْنَعُ
(1)
"الفتح" 11/ 374 - 375.
(2)
"الفتح" 11/ 376.
دُونَ رَضَاعٍ وَالصَّوَابُ هَهُنَا
…
عَدُمُ الاسْتِثْنَاءِ رَأْيٌ حَسُنَا
لأَنَّ ذَا التَّحْرِيمَ بِالْمُصَاهَرَهْ
…
لَا نَسَبٍ فَخُذْ بِلَا مُكَابَرَهْ
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3569]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو مَعْمَرٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْهُذَلِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمِ بْنِ الْبَرِيدِ، جَمِيعًا عَنْ هِشَامٍ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلَادَةِ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247) عن (87) سنةً (ع) من مشايخ الجماعة بلا واسطة تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
2 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة بن زيد القرشيُّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201) وهو ابن (80) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
3 -
(أَبُو مَعْمَرٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْهُذَلِيُّ) هو: إسماعيل بن إبراهيم بن مَعْمَر بن الحسن الْهُذَليّ، أبو مَعْمَر الْقَطِيعيّ الْهَرَويّ، نزيل بغداد، ثقة [10].
رَوَى عن إبراهيم بن سعد، وابن علية، وهشيم، وابن عيينة، وعبد الله بن معاذ الصنعانيّ، والدَّرَاورديّ، وشريك، وابن المبارك، وغيرهم.
وروى عنه البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، وروي له النسائي بواسطة أبي بكر المروزيّ، وزكريا السِّجْزيّ، وروى عنه أيضًا صاعقة، وبَقِيّ بن مَخْلَد، والذُّهْليّ، وعبد الله بن أحمد، وإبراهيم الحربيّ، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهم.
قال ابن سعد: صاحب سنة وفضل وخير، وهو ثقةٌ ثبتٌ، وقال عُبيد بن شريك: كان أبو معمر القَطِيعيّ من شدة إدلاله بالسنة يقول: لو تكلمت بغلتي لقالت: إنها سنيةٌ، قال: فأُخذ في المحنة، فأجاب، فلما خرج قال: كَفَرنا، وخرجنا، وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبا معمر يقول: من زعم أن الله لا
يتكلم، ولا يسمع، ولا يبصر، وذكر أشياء من الصفات، فهو كافر بالله، وقال أبو زرعة: كان أحمد لا يرى الكتابة عن أبي نصر التّمّار، ولا عن أبي معمر، ولا عن يحيى بن معين، ولا أحدٍ ممن امْتُحِن فأجاب، وقال عبد الخالق بن منصور: وسئل يحيى بن معين عن أبي معمر الكرخيّ؟ فقال: مثل أبي معمر لا يسأل عنه، أنا أعرفه يكتب الحديث، وهو غلام، ثقةٌ، مأمونٌ، وقال أبو يعلى الموصليّ: يُحْكَى أن أبا معمر حدّث بالْمَوْصِل بنحو ألفي حديث حفظًا، فلما رجع إلى بغداد كَتَب إليهم بالصحيح من أحاديثَ كان أخطأ فيها، أحسبه قال: نحوٍ من ثلاثين، أو أربعين، وقال ابن قانع: ثقةٌ ثبتٌ، وقال عباس الدُّوريّ: سئل يحيى عن أبي معمر، وهارون بن معروف، فقال: أبو معمر أكيس، وذكره ابن حبان في "الثقات".
ورَوَى الخطيب من طريق الحسين بن فَهْم قال: قال لي جعفر الطيالسيّ: قال يحيى بن معين، وذكر أبا معمر: لا صلى الله عليه، ذهب إلى الرَّقّة، فحدَّث بخمسة آلاف حديث، أخطأ في ثلاثة آلاف، قال: ولم يحدث أبو معمر حتى مات يحيى بن معين.
وقال الخطيب: في هذا القول نظر، ويبعد صحته عند من اعتبر.
قال الحافظ: الحسين بن فهم قد قال فيه الدارقطنيّ: ليس بالقويّ، وقال الذهبيّ فيما قرأت بخطه: هذه حكاية منكرة.
وقال عُبيد بن محمد بن خلف: مات يوم الاثنين النصف من جمادى الأولى سنة (236).
روى عنه البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، وروى النسائيّ عنه بواسطة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا برقم (1444)، وحديث (2350):"كم كان النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة؟. . ." الحديث، و (2449):"إنما فاطمة بضعة مني. . ." الحديث.
4 -
(عَلِيُّ بْنُ هَاشِمِ بْنِ الْبَرِيدِ) - بفتح الموحّدة، وبعد الراء تحتانيّة ساكنة - الْبَرِيديّ العائذيّ مولاهم، أبو الحسن الكوفيّ الخزّاز، صدوق يتشيّع، من صغار [8].
رَوَى عن هشام بن عروة، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى،
والأعمش، وطلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله، ويزيد بن كيسان، وغيرهم.
وروى عنه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأبو معاوية، وإسماعيل بن إبراهيم القَطِيعيّ، وأحمد بن منيع، وسعيد بن سليمان الواسطيّ، وأبو بكر بن أبي شيبة، وغيرهم.
قال حنبل، عن أحمد: ليس به بأسٌ، وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: ما أرى به بأسًا، وقال ابن أبي خيثمة، وغير واحد عن ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو الحسن بن البراء، عن ابن المدينيّ: كان صدوقًا، زاد الباغنديّ، عن ابن المدينيّ: وكان يتشيع، وقال غيره، عن عليّ: ثقةٌ، وكذا قال يعقوب بن شيبة، وقال الْجُوزَجانيّ: كان هو وأبوه غاليين في مذهبهما، وقال أبو زرعة: صدوقٌ، وقال أبو حاتم: كان يتشيع، ويُكْتَب حديثه، وقال الآجريّ، عن أبي داود: سئل عنه عيسى بن يونس، فقال: أهل بيت تشيع، وليس ثَمَّ كَذِبٌ، وقال النسائيّ: ليس به بأسٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان غاليًا في التشيع، ورَوَى المناكير عن المشاهير، وقال ابن سعد: كان صالح الحديث، صدوقًا، وقد ذكره ابن حبان في "الضعفاء" بعدما ذكره في "الثقات"، وقال: فيه ما هو منقول في الأصل، وقال اللالكائيّ: له في مسلم حديثان، وقال ابن عديّ: حَدَّث عنه جماعة من الأئمة، ويَروِي في فضائل عليّ أشياء لا يرويها غيره، وهو - إن شاء الله - صدوقٌ، لا بأس به، ووَثَّقه العجليّ، وضعّفه الدارقطنيّ.
قال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: سمعت منه سنة تسع وسبعين ومائة أول سنة طلبت الحديث مجلسًا، ثم عُدت إليه المجلس الآخر، وقد مات، وقال ابن المثنى: مات سنة (180).
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1444)، وحديث (2154) في "كتاب الأدب":"الاستئذان ثلاث، فإن أُذن، وإلا فارجع".
5 -
(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) بن الزبير بن العوّام الأسديّ، أبو المنذر، أو أبو
عبد الله المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ، ربَّما دلّس [5](ت 5 أو 146) وله (87) سنةً، تقدَّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3570]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، مِثْلَ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورِ) بن بَهْرَام الْكَوْسَج التميميّ، أبو يعقوب المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام بن نافع الْحِمْيَريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظٌ مصنّف شهيرٌ، عَمِيَ في آخر عمره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211) وله (85) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم، أبو خالد، وأبو الوليد المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، يدلّس ويُرسل [6](ت 150) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
و"عبد الله بن أبي بكر" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية ابن جُريج، عن عبد الله بن أبي بكر هذه ساقها عبد الرزاق رحمه الله في "مصنّفه" (7/ 476) فقال:
(13952)
- عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن جريج، وإبراهيم، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يَحْرُم من الرضاعة ما يَحْرُم من الولادة". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(2) - (بَابُ مَا جَاءَ فِي لَبَنِ الْفَحْلِ)
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: "الْفَحْلُ" بفتح الفاء، وسكون المهملة: الذَّكَر من الحيوان، جمعه فُحُول، وفُحُولةٌ - بالضمّ فيهما - وفِحالٌ - بالكسر -، والمراد به هنا الرجل الذي نزل بسببه لبن المرأة، فنسبة اللبن إليه مجازيّةٌ؛ لكونه السبب فيه.
قال العلّامة ابن قُدامة رحمه الله عند قوله: "ولبن الفحل محرِّمٌ": معناه أن المرأة إذا أرضعت طفلًا بلبنٍ ثَابَ من وطء رجل، حُرِّمَ الطفلُ على الرجل، وأقاربه، كما يُحرَّم ولده من النسب؛ لأن اللبن من الرجل، كما هو من المرأة، فيصير الطفل ولدًا للرجل، والرجل أباه، وأولاد الرجل إخوته، سواء كانوا من تلك المرأة، أو من غيرها، وإخوة الرجل، وأخواته أعمام الطفل وعمّاته، وآباؤه، وأمهاته أجداده، وجدّاته.
قال أحمد: لبن الفحل أن يكون للرجل امرأتان، فترضع هذه صبيّة، وهذه صبيًّا، لا يزوّج هذا من هذا، وسُئل ابن عبَّاس رضي الله عنهما عن رجل له جاريتان، أرضعت إحداهما جارية، والأخرى غُلامًا، فقال: لا، اللقاح واحدٌ، قال الترمذيّ: هذا تفسير لبن الفحل. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قال القاضي عبد الوهّاب: يُتصوّر تجريد لبن الفحل برجل له امرأتان ترضع إحداهما صبيًّا، والأخرى صبيّةً، فالجمهور قالوا: يَحرُم على الصبيّ تزويج الصبيّة، وقال من خالفهم: يجوز. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الجمهور هو الحقّ، وسيأتي تحقيقه قريبًا - إن شاء الله تعالى -.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3571]
(1445) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا أَخْبَرتْهُ أَنَّ أفلَحَ أَخَا أَبِي
(1)
"المغني" 9/ 520 - 521.
الْقعَيْسِ، جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا، وَهُوَ عَمُّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ، بَعْدَ أَنْ أُنْزِلَ الْحِجَابُ، قَالَتْ: فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أخْبَرْتُهُ بِالَّذِي صَنَعْتُ، فَأَمَرَنِي أَنْ آذَنَ لَهُ عَلَيَّ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زُهرة بن كلاب القرشيّ، أبو بكر الفقيه المدنيّ، ثقةٌ حافظٌ متّفقٌ على جلالته وإتقانه، من رؤوس [4](ت 125) أو قبلها بسنة أو سنتين (ع) تقدَّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.
2 -
(عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) بن الْعَوّام بن خُويلد الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهورٌ [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، والترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه أيضًا، فنيسابوريّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، ورواية الراوي، عن خالته.
5 -
(ومنها): أن فيه عروة أحد الفقهاء السبعة المجموعين في قول بعضهم:
إِذَا قِيلَ مَنْ فِي الْعِلْمِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ
…
مَقَالَتُهُمْ لَيْسَتْ عَنِ الْحَقِّ خَارِجَهْ
فَقُلْ هُمْ عُبَيْدُ اللهِ عُرْوَةُ قَاسِمٌ
…
سَعِيدٌ أَبُو بَكْرٍ سُلَيْمَانُ خَارِجَهْ
وقد تقدَّم هذا غير مرّة، وإنما أعدته؛ تذكيرًا؛ لطول العهد به، فتنبّه.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ شِهَابٍ) لمالك فيه شيخ آخر عند البخاريّ، وهو هشام بن
عروة، وسياقه للحديث عن عروة أتم، قاله في "الفتح"
(1)
. (عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ) أي أخبرت عروةَ (أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ) - بقاف، وعين، وسين مهملتين، مصغرًا - وفي الرواية الآتية آخر الباب من طريق الحكم، عن عراك بن مالك، عن عروة بلفظ:"استأذن عليّ أفلح بن قعيس"، قال في "الفتح": والمحفوظ عند أصحاب الزهريّ: أفلح أخو أبي القعيس، ويَحْتَمِل أن يكون اسم أبيه قُعيسًا، أو اسم جدّه فنُسب إليه، فتكون كنيةُ أبي القعيس وافقت اسم أبيه، أو اسم جده، ويؤيده ما وقع عند البخاريّ في "الأدب" من طريق عُقيل، عن الزهريّ بلفظ:"فإن أخا بني القعيس"، وكذا وقع عند النسائيّ من طريق وهب بن كيسان، عن عروة.
ووقع عند مسلم من رواية ابن عيينة، عن الزهريّ:"أفلح بن أبي القعيس"، وكذا لأبي داود من طريق الثوريّ، عن هشام بن عروة، عن أبيه.
ولمسلم من طريق ابن جريج، عن عطاء:"أخبرني عروة، أن عائشة قالت: استأذن عليّ عمي من الرضاعة أبو الجعد"، قال: فقال لي هشام: إنما هو أبو القعيس، وكذا وقع عند مسلم من طريق أبي معاوية، عن هشام:"استأذن عليها أبو القعيس"، وسائر الرواة عن هشام قالوا:"أفلح أخو أبي القعيس"، كما هو المشهور، وكذا قال سائر أصحاب عروة.
ووقع عند سعيد بن منصور، من طريق القاسم بن محمد:"أن أبا القعيس أتى عائشة، يستأذن عليها".
وأخرجه الطبرانيّ في "الأوسط" من طريق القاسم: "عن أبي قعيس"، والمحفوظ أن الذي استأذن هو أفلح، وأبو القعيس هو أخوه.
قال القرطبيّ رحمه الله: كلُّ ما جاء من الروايات وَهَمٌ إلا من قال: "أفلح أخو أبي القعيس، أو قال: أبو الجعد"؛ لأنها كنية أفلح.
قال الحافظ رحمه الله: وإذا تدبرت ما حَرَّرتُ عرفت أن كثيرًا من الروايات لا وَهَمَ فيه، ولم يخطئ عطاء في قوله:"أبو الجعد"، فإنه يَحْتَمِل أن يكون حفظ
(1)
"الفتح" 11/ 389.
كنية أفلح، وأما اسم أبي القُعيس، فلم أقف عليه إلا في كلام الدارقطنيّ، فقال: هو وائل بن أفلح الأشعريّ.
وحَكَى هذا ابنُ عبد البرّ، ثم حَكَى أيضًا أن اسمه الجعد، فعلى هذا يكون أخوه وافق اسمه اسم أبيه.
ويَحْتَمِل أن يكون أبو القعيس نُسِب لجده، ويكون اسمه وائل بن قعيس بن أفلح بن القعيس، وأخوه أفلح بن قعيس بن أفلح أبو الجعد.
قال ابن عبد البرّ في "الاستيعاب": لا أعلم لأبي القعيس ذكرًا إلا في هذا الحديث. انتهى
(1)
.
(جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا، وَهُوَ عَمُّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ) فيه التفاتٌ، وكان السياق يقتضي أن تقول: وهو عمّي، وكذا وقع عند النسائيّ من طريق مَعْن، عن مالك، وفي رواية يونس، عن الزهريّ الآتي عند مسلم:"وكان أبو القعيس أخا عائشة من الرضاعة". (بَعْدَ أَنْ أُنْزِلَ الْحِجَابُ) أي بعد أنزلت الآية التي أوجبت احتجاب النساء من الرجال، وهي قوله:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} الآية [الأحزاب: 53]، وقوله:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} الآية [الأحزاب: 59](قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (فَأَبَيْتُ) أي امتنعت (أَنْ آذَنَ لَهُ) وفي رواية يونس الآتية: "قالت عائشة: فقلت: والله لا آذن لأفلح حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أخاه أبا القعيس ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأته"، وفي رواية معمر الآتية:"وكان أبو القعيس زوجَ المرأة التي أرضعت عائشة" وفي رواية عراك عند البخاريّ: "فقال: أتحتجبين مني، وأنا عمك؟ "، (فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي صَنَعْتُ) أي من إبائها أن تأذن لأفلح، وفي رواية يونس:"إن أفلح أخا أبي القعيس جاءني يستأذن عليّ، فكرهت أن آذن له حتى أستأذنك"(فَأَمَرَنِي أَنْ آذَنَ لَهُ عَلَيَّ) أي ليدخل عليّ، في رواية معمر عن الزهريّ الآتية:"ائذني له، فإنه عمك، تربت يمينك"، وفي رواية ابن جريج، عن عطاء:"فهلا أذنت له تربت يمينك، أو يداك"، وفي رواية هشام، عن أبيه:"إنه عمك، فليلج عليك"، وفي رواية عراك، عن عائشة:
(1)
راجع: "الفتح" 11/ 389 - 390.
"فقال لها: لا تحتجبي منه، فإنه يحرم من الرضاعة ما يَحرُم من النسب"، وفي رواية الحكم عن عراك عند البخاريّ:"صدق أفلح، ائذني له"، ووقع في رواية سفيان الثوريّ، عن هشام، عند أبي داود:"دخل عليّ أفلح، فاستترت منه، فقال: أتستترين مني، وأنا عمك؟ قلت: من أين؟ قال: أرضعتك امرأة أخي، قلت: إنما أرضعتني المرأة، ولم يرضعني الرجل. . ." الحديث.
قال الحافظ: ويُجمع بأنه دخل عليها أوّلًا، فاستترت، ودار بينهما الكلام، ثم جاء يستأذن ظنًّا منه أنها قَبِلت. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 3571 و 3572 و 3573 و 3574 و 3575 و 3576 و 3577 و 3578 و 3579 و 3580](1445)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4796) و "النكاح"(5103 و 5239) و "الأدب"(6156)، و (أبو داود) في "النكاح"(2057)، و (الترمذيّ) في "الرضاع"(1148)، و (النسائيّ) في "النكاح"(6/ 103) و "الكبرى"(3/ 301 و 302 و 303)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1949)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 601 - 602)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 24)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(13938 و 13940 و 13941)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 203)، و (الحميديّ) في "مسنده"(229 و 230)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 33 و 36 و 37 و 38 و 177 و 194 و 271)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 156)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4219)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4501)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 107 و 109)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 120)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 174)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(7/ 256)، و (الدارقطنيّ) في "سننه" (4/
(1)
راجع: "الفتح" 11/ 391.
177 -
178)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 452)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2280)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما يَحرُم من الرضاعة، وهو ما يحرم من النسب.
2 -
(ومنها): أن لبن الفحل يتعلّق به التحريم، فتنتشر الحرمة لمن ارتضع بلبنه، فلا تحلّ له بنت زوج المرأة التي أرضعته من غيرها مثلًا، وفيه خلاف قديمٌ، سيأتي بيانه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.
3 -
(ومنها): أنه استُدلّ به على أن من ادّعى الرضاع، وصدّقه الرضيع يثبتُ حكم الرضاع بينهما، ولا يَحتاج إلى بيّنة؛ لأن أفلح ادّعى، وصدّقته عائشة، وأَذِنَ الشارع بمجرّد ذلك.
وتُعُقّب باحتمال أن يكون الشارع اطّلع على ذلك من غير دعوى أفلح، وتسليم عائشة. قاله في "الفتح".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: فيه أن الأول هو الظاهر، فلا يعدل عنه بالاحتمال، والله تعالى أعلم.
4 -
(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن قليل الرضاع يُحرّم كما يحرّم كثيره؛ لعدم الاستفصال فيه.
وتُعقّب بأن عدم الذكر لا يدلّ على العدم المحض، ولا سيّما وعائشة هي التي روت:"خمس رضعات يحرّمن".
5 -
(ومنها): أن من شكّ في حُكْمٍ يتوقّف عن العمل حتى يسأل العلماء عنه.
6 -
(ومنها): أن من اشتبه عليه الشيء طالب المدّعي ببيانه؛ ليرجع إليه أحدهما، وأن العالم إذا سئل يصدّق من قال الصواب فيها.
7 -
(ومنها): أن فيه وجوبَ احتجاب المرأة من الرجال الأجانب.
8 -
(ومنها): مشروعيّة استئذان المَحْرَم على محرمه.
9 -
(ومنها): أن المرأة لا تأذن في بيت الرجل إلا بإذنه.
10 -
(ومنها): جواز التسمية بـ "أفلح".
11 -
(ومنها): أن المستفتي إذا بادر بالتعليل قبل سماع الفتوى أُنكِر
عليه؛ لقوله لها: "تربت يمينك"، فإن فيه إشارةً إلى أنه كان من حقّها أن تسأل عن الحكم فقط، ولا تُعلّل.
12 -
(ومنها): أن بعضهم ألزم به من أطلق من الحنفيّة القائلين: إن الصحابيّ إذا روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديثًا، وصحّ عنه، ثمّ صحّ عنه العمل بخلافه أن العمل بما رأى، لا بما روى؛ لأن عائشة رضي الله عنها صحّ عنها أن لا اعتبار بلبن الفحل، ذكره مالك في "الموطّإ"، وسعيد بن منصور في "السنن"، وأبو عبيد في "كتاب النكاح" بإسناد حسن، وأخذ الجمهور، ومنهم الحنفيّة بخلاف ذلك، وعملوا بروايتها في قصّة أخي أبي القُعيس، وحرّموه بلبن الفحل، فكان يلزمهم على قاعدتهم أن يتّبعوا عمل عائشة رضي الله عنها، ويُعرِضوا عن روايتها، ولو كان رَوَى هذا الحكم غير عائشة لكان لهم معذرة، لكنّه لم يروه غيرها، وهو إلزام قويّ، قاله في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في لبن الفحل:
ذهب الجمهور إلى أن لبن الفحل يُحَرِّمُ، قال ابن قدامة رحمه الله: وممن قال بتحريمه: عليّ، وابن عبَّاس، وعطاء، وطاوسٌ، ومجاهد، والحسن، والشعبيّ، والقاسم، وعروة، ومالكٌ، والثوريّ، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وإسحاق، وأبو عُبيد، وأبو ثور، وابن المنذر، وأصحاب الرأي. قال ابن عبد البرّ: وإليه ذهب فقهاء الأمصار بالحجاز، والعراق، والشام، وجماعة أهل الحديث.
ورخّص في لبن الفحل سعيد بن المسيّب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، وعطاء بن يسار، والنخعيّ، وأبو قلابة، ويُروى ذلك عن ابن الزبير، وجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مُسَمَّينَ؛ لأن الرضاع من المرأة، لا من الرجل. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": وفي الحديث أن لبن الفحل يحرّم، فتنتشر الحرمة لمن ارتضع الصغير بلبنه، فلا تحلّ له بنت زوج المرأة التي أرضعته من غيرها مثلًا، وفيه خلاف قديم، حُكِي عن ابن عمر، وابن الزبير، ورافع بن خَديج، وزينب
(1)
"الفتح" 11/ 392 - 393.
(2)
"المغني" 9/ 521.
بنت أمّ سلمة، وغيرهم، ونقله ابن بطّال عن عائشة، وفيه نظر، ومن التابعين عن سعيد بن المسيّب، وأبي سلمة، والقاسم، وسالم، وسليمان بن يسار، وعطاء بن يسار، والشعبيّ، وإبراهيم النخعيّ، وأبي قِلابة، وإياس بن معاوية، أخرجها ابن أبي شيبة، وعبد الرزّاق، وسعيد بن منصور، وابن المنذر. وعن ابن سيرين:"نُبّئت أن ناسًا من أهل المدينة اختلفوا فيه"، وعن زينب بنت أبي سلمة أنها سألت، والصحابة متوافرون، وأمهات المؤمنين، فقالوا: الرضاعة من قِبَل الرجل لا تُحرّم شيئًا، وقال به من الفقهاء: ربيعة الرأي، وإبراهيم ابن عليّة، وابن بنت الشافعيّ، وداود، وأتباعه. وأغرب عياضٌ، ومن تبعه في تخصيصهم ذلك بداود، وإبراهيم، مع وجود الرواية عمن ذكرنا بذلك.
وحجتهم في ذلك قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} الآية [النساء: 23]، ولم يذكر العمّة، ولا البنت كما ذكرهما في النسب.
وأجيبوا بأن تخصيص الشيء بالذِّكر لا يدلّ على نفي الحكم عما عداه، ولا سيّما وقد جاءت به الأحاديث الصحيحة.
واحتجّ بعضهم من حيث النظر بأن اللبن لا ينفصل من الرجل، وإنما ينفصل من المرأة، فكيف تنتشر الحرمة إلى الرجل؟.
والجواب أنه قياسٌ في مقابلة النصّ، فلا يُلتفت إليه، وأيضًا فإن سبب اللبن هو ماء الرجل والمرأة معًا، فوجب أن يكون الرضاع منهما، كالجدّ لَمّا كان سبب الولد أوجب تحريم ولد الولد به؛ لتعلّقه بولده، وإلى هذا أشار ابن عبّاس بقوله في هذه المسألة:"اللقاح واحد"، أخرجه ابن أبي شيبة، وأيضًا فإن الوطء يُدرّ اللبن، فللفحل فيه نصيب.
وذهب الجمهور من الصحابة، والتابعين، وفقهاء الأمصار، كالأوزاعيّ في أهل الشام، والثوريّ، وأبي حنيفة، وصاحبيه في أهل الكوفة، وابن جريج في أهل مكة، ومالك في أهل المدينة، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وأتباعهم إلى أن لبن الفحل يُحرِّمُ. وحجتهم هذا الحديث الصحيح.
وألزم الشافعيّ المالكيّة في هذه المسألة بردّ أصلهم بتقديم عمل أهل المدينة، ولو خالف الحديث الصحيح، إذا كان من الآحاد؛ لِمَا رواه عن عبد العزيز بن محمد، عن ربيعة، من أن لبن الفحل لا يحرّم، قال عبد العزيز بن
محمد: وهذا رأي فقهائنا، إلا الزهريّ، فقال الشافعيّ: لا نعلم شيئًا من عِلْم الخاصّة أولى بأن يكون عامًّا ظاهرًا من هذا، وقد تركوه للخبر الوارد، فيلزمهم على هذا: إما أن يردّوا هذا الخبر، وهم لم يردّوه، أو يردّوا ما خالف الخبر، وعلى كلّ حال هو المطلوب. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن ما ذهب إليه الجمهور، من أن لبن الفحل يتعلّق به التحريم هو الحقّ؛ لحديث الباب، قال ابن قدامة رحمه الله بعد ذكر حديث الباب ما نصّه: وهذا نصّ قاطع في محلّ النزاع، فلا يُعوّل على ما خالفه. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3572]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَن الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَتَانِي عَمِّي مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَفْلَحُ بْنُ أَبِي قُعَيْسٍ، فَذَكَرَ بِمَعْنَى حَدِيثِ مَالِكٍ، وَزَادَ: قُلْتُ: إِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ، وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ، قَالَ: "تَرِبَتْ يَدَاكِ، أَوْ يَمِينُكِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الواسطيّ الأصل، نزيل الكوفة، ثقةٌ حافظٌ، صاحب تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
2 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) بن أبي عمران ميمون الْهلاليّ، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ فقيهٌ إمامٌ حجة من كبار [8](ت 198) وله (91) سنةً (ع) تقدَّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (أفلَحُ بْنُ أَبِي قُعَيْسٍ) تقدَّم أن الأكثرين على أنه أفلح أخو أبي
(1)
"الفتح" 11/ 391 - 392.
(2)
"المغني" 9/ 521 - 522.
القُعيس، قال النوويّ رحمه الله: قال الحفّاظ: الصواب أفلح أخو أبي القعيس، وهي الرواية التي كرّرها مسلم في أحاديث الباب، وهي المعروفة في كتب الحديث وغيرها أن عمها من الرضاعة هو أفلح أخو أبي الْقُعيس، وكنية أفلح أبو الْجَعْد، والْقُعَيس بضمّ القاف، وفتح العين، وبالسين المهملة. انتهى
(1)
.
وقوله: (فَذَكَرَ بِمَعْنَى حَدِيثِ مَالِكٍ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير سفيان بن عيينة.
وقوله: ("تَرِبَتْ يَدَاكِ، أَوْ يَمِينُكِ")"أو" هنا للشكّ من الراوي، ومعنى "تَرَبت إلخ" أي افتقرت، ولَصِقت بالتراب، يقال: تَرِبَ الرجل يَتْرَبُ، من باب تَعِبَ: افتقر، كأنه لَصِق بالتراب، فهو تَرِبٌ، وأترب بالألف لغة، ومعنى "تربت يداك" هذه من الكلمات التي جاءت عن العرب، صورتها دعاءٌ، ولا يُراد بها الدعاء، بل المراد الحثّ والتحريض، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(2)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله: يقال: تَرِبَ الرجلُ: إذا افتقر، أي لصق بالتراب، وأترب: إذا استغنى، وهذه الكلمة جارية على ألسنة العرب، لا يريدون بها الدعاء على المخاطَب، ولا وقوع الأمر به، كما يقولون: قاتله الله، وقيل: معناها: لله دَرُّك، وقيل: أراد به الْمَثَلَ؛ ليرى المأمور بذلك الجِدّ، وأنه إن خالفه فقد أساء، وقال بعضهم: هو دعاءٌ على الحقيقة، والأول الوجه، وكثيرًا تَرِد للعرب ألفاظٌ ظاهرها الذمّ، وإنما يريدون بها المدح، كقولهم: لا أبَ لك، ولا أُمّ لك، وهَوَتْ أمه، ولا أَرْضَ لك، ونحو ذلك. انتهى
(3)
.
والحاصل أنه إنما قال صلى الله عليه وسلم: "تربت يداك"؛ إظهارًا لكراهة ذكر هذا الكلام، فإنه من المعلوم أن المرأة هي تُرضع، لا الرجل، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة، عن الزهريّ هذه ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه" بسند المصنّف 6/ 78 فقال:
(1938)
- حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة، قالت: أتاني عمي من الرضاعة، أفلح بن أبي قعيس، يستأذن عليّ بعدما ضُرب الحجاب، فأبيت أن آذن له، حتى دخل عليّ
(1)
"شرح النوويّ" 10/ 21.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 73.
(3)
"النهاية في الحديث والأثر" 1/ 184 - 185.
النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"إنه عمك، فأْذني له"، فقلت: إنما أرضعتني المرأة، ولم يرضعني الرجل، قال:"تَرِبت يداك، أو يمينك". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3573]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَن ابْن شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ، أَنَّهُ جَاءَ أَفْلَحُ، أَخُو أَبِي الْقُعَيْسِ، يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا، بَعْدَمَا نَزَلَ الْحِجَابُ، وَكَانَ أَبُو الْقُعَيْسِ أَبَا عَائِشَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: وَاللهِ لَا آذَنُ لِأَفْلَحَ، حتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ أَبَا الْقُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَتُهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أفلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ، جَاءَنِي يَسْتَأْذِنُ عَلَيَّ، فَكَرِهْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ، حَتَّى أَسْتَأْذِنَكَ، قَالَتْ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "ائْذَنِي لَهُ"، قَالَ عُرْوَةُ: فَبِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: "حَرِّمُوا مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا تُحَرِّمُونَ مِنَ النَّسَبِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) بن حرملة بن عمران التُّجِيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 144)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله بن وهب بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ حافظٌ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(يُونُسُ) بن يزيد بن أبي النِّجَاد الأمويّ مولاهم، أبو يزيد الأيليّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (قَالَ عُرْوَةُ: فَبِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: حَرِّمُوا مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا تُحَرِّمُونَ مِنَ النَّسَبِ) هذا ظاهره الوقف، لكن سيأتي للمصنّف من طريق يزيد بن أبي حبيب، عن عراك بن مالك، عن عروة، في هذه القصة:"فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: لا تحتجبي منه، فإنه يَحْرُم من الرضاعة ما يَحْرُم من النسب"، وقد تقدم في
الباب الماضي عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا صريحًا، ولفظه:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، إن الرضاعة تُحَرِّم ما تحرِّم الولادة"، وفي لفظ:"قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَحْرُم منَ الرضاعة، ما يَحْرُم منَ النسب".
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3574]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ: جَاءَ أَفْلَحُ أَخُو أَبِي الْقُعَيْسِ، يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا، بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ، وَفيهِ: "فَإنَّهُ عَمُّكِ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ"، وَكَانَ أَبُو الْقُعَيْسِ زَوْجَ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَرْضَعَتْ عَائِشَةَ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدِ) بن نصر الْكِسّيُّ، أبو محمد، قيل: اسمه عبد الحميد، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
2 -
(مَعْمَرُ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
والباقيان ذُكرا في الباب، والذي قبله.
[تنبيه]: رواية معمر، عن الزهريّ هذه ساقها عبد الرزّاق رحمه الله في "مصنّفه" 7/ 472 فقال:
(13937)
- عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة، قالت: جاء أفلح أخو أبي القعيس، يستأذن عليها، فقال: إني عمها، فأبت أن تأذن له، فلما دخل عليها النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أفلا أَذِنت لعمك؟ " قالت: يا رسول الله، إنما أرضعتني المرأة، ولم يُرضعني الرجل، قال:"فأْذني له، فإنه عمك، تربت يمينك"، قال: وكان أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3575]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَ عَمِّي مِنَ الرَّضَاعَةِ، يَسْتَأْذِنُ عَلَيَّ، فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ، حَتَّى أَسْتَأْمِرَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ: إِنَّ عَمِّي مِنَ الرَّضَاعَةِ اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ، فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَلْيَلِجْ عَلَيْكِ عَمُّكِ"، قُلْتُ: إِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ، وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ، قَالَ: "إِنَّهُ عَمُّكِ، فَلْيَلِجْ عَلَيْكِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: عبد الله بن نُمير، أبو هشام الْهَمْدانيّ، ثقةٌ صاحب حديث، من أهل السنّة، من كبار [9](ت 199) وله (84) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
والباقون ذُكروا في الباب والباب الماضي.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3576]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، يَعْنِي ابْنَ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ: أَنَّ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهَا، فَذَكَرَ نَحْوَهُ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ) سليمان بن داود الْعَتَكيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.
2 -
(حَمَّادُ بْنُ زَيْدِ) بن درهم الأزديّ الْجَهضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [8](ت 179) وله (81) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
و"هشام" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية حمّاد بن زيد، عن هشام بن عروة هذه ساقها أبو نُعيم في "مستخرجه" 4/ 118 فقال:
(3381)
- ثنا أبو العباس الصرصريّ، ثنا يوسف القاضي، ثنا مسدد (ح) وثنا أبو محمد بن حيان، ثنا أبو يعلى، ثنا أبو الربيع، قالا: ثنا حماد بن زيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أن أخا أبي قعيس جاء يستأذن على عائشة، فلم تأذن له، وذكرت ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"إنه عمك، فأدخليه"، فقالت: يا رسول الله، إنما أرضعتني المرأة، ولم يرضعني الرجل، قال:"إنه عمك، فأدخليه". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3577]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: اسْتَأْذَنَ عَلَيْهَا أَبُو الْقُعَيْسِ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة أيضًا:
1 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقة، رُمي بالإرجاء، من كبار [9](ت 195) وله (82) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
والباقيان ذُكرا في الباب.
وقوله: (اسْتَأْذَنَ عَلَيْهَا أَبُو الْقُعَيْسِ) هكذا في رواية أبي معاوية، والصواب "أخو أبي القعيس"، كما هي رواية الأكثرين، قال الحافظ في "الإصابة":"استأذن أبو القعيس" هذا وَهَمٌ من بعض رواته، وهو أبو معاوية راويه عن هشام، فقد خالفه حمّاد بن زيد عنه
(1)
، وهو أحفظ منه لحديث هشام، فقال:"إن أبا خا أبي القُعيس". انتهى
(2)
.
[تنبيه]: رواية أبي معاوية، عن هشام هذه ساقها أبو نعيم أيضًا في "مستخرجه" 4/ 119 فقال:
(1)
يعني الرواية التي قبله.
(2)
"الإصابة في تمييز الصحابة" 1/ 250 - 251.
(3382)
- ثنا أبو عليّ محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا أحمد بن يحيى الحلوانيّ، ثنا محمد بن الصباح، ثنا أبو معاوية، ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: استأذن عليها أبو قعيس، بعد ما حُجِبت، فأبت أن تأذن له، فقال:"ليلج عليك عمُّك"، قال: فكانت عائشة تُحَرِّم من الرضاع ما يُحَرَّم من الولادة. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3578]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ، قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ عَمِّي مِنَ الرِّضَاعَةِ، أَبُو الْجَعْدِ، فَرَدَدْتُهُ، قَالَ لِي هِشَامٌ: إِنَّمَا هُوَ أَبُو الْقُعَيْسِ، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ
(1)
، قَالَ:"فَهَلَّا أَذِنْتِ لَهُ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ، أَوْ يَدُكِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ) الْهُذليّ، أبو عليّ الخلّال، نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [11](ت 242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القشيريّ، أبو عبد الله النيسابوريّ، ثقةٌ حافظٌ زاهدٌ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
3 -
(عَطَاءُ) بن أبي رَباح أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ فاضلٌ، لكنه كثير الإرسال [3](ت 114)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.
والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي.
وقوله: (قَالَ لِي هِشَامٌ) فاعل "قال" ضمير ابن جُريج، كما ظاهر رواية أبي نعيم في "مستخرجه"، ولفظه:"فزعم ابن جُريج قال: قال لي هشام".
وقوله: (قَالَ لِي هِشَامٌ: إِنَّمَا هُوَ أَبُو الْقُعَيْسِ) هكذا تقدم من رواية أبي معاوية، عن هشام:"استأذن عليها أبو القُعيس"، وتقدّم أن سائر الرواة عن
(1)
وفي نسخة: "أخبرته ذلك".
هشام قالوا: أفلح أخو أبي القعيس، كما هو المشهور، وكذا قال سائر أصحاب عروة.
والحاصل أن الصواب أنه أفلح أبو الجعد، قال القرطبيّ: كل ما جاء من الروايات وَهَمٌ، إلا من قال: أفلح أخو أبي القُعيس، أو قال: أبو الجعد؛ لأنها كنية أفلح. انتهى
(1)
.
وقوله: (فَهَلَّا أَذِنْتِ لَهُ) هذا توبيخ لها على عدم إذنها له، والله تعالى أعلم بالصواب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3579]
(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عِرَاكٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ عَمَّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ، يُسَمَّى أَفْلَحَ، اسْتَأْذَنَ عَلَيْهَا، فَحَجَبَتْهُ، فَأَخْبَرَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهَا:"لَا تَحْتَجِبِي مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ) بن المهاجر التجيبيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.
3 -
(اللَّيْثُ) بن سعد بن عبد الرحمن الْفَهميّ مولاهم، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمامٌ مشهور [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.
4 -
(يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ) سُويد، أبو رجاء المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ، كان يرسل [5](ت 128) وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.
(1)
راجع: "المفهم" 4/ 178.
5 -
(عِرَاكُ) بن مالك الغفاريّ الْكِنانيّ المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [3] مات بعد المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.
والباقيان ذُكرا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3580]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَن الْحَكَمِ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ أَفْلَحُ بْنُ قُعَيْسٍ، فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ، فَأَرْسَلَ إِنِّي عَمُّكِ، أَرْضَعَتْكِ امْرَأَةُ أَخِي، فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: "لِيَدْخُلْ عَلَيْكِ، فَإِنَّهُ عَمُّكِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
2 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان الْعَنْبريّ، أبو المثنّى البصريّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج بن الوَرْد الْعَتَكيّ مولاهم، أبو بِسطام الواسطيّ، ثم البصريّ، ثقةٌ حافظ متقنٌ عابدٌ، أمير المؤمنين في الحديث [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.
4 -
(الْحَكَمُ) بن عُتيبة الْكِنْديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، ربما دلّس [5](ت 113) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (أَفْلَحُ بْنُ قُعَيْسٍ) تقدَّم أن رواية الأكثرين: "أفلح أخو أبي القُعَيس رحمه الله، وهو الصواب، لكن ذكر في "الفتح" احتمال أن يكون قُعيس اسم أبيه، أو اسم جدّه، فنُسب إليه، فتكون كنية أبي الْقُعيس وافقت اسم أبيه.
انتهى
(1)
، والذي يظهر لي أن رواية الأكثرين هي المحفوظة.
والحاصل أن اسمه أفلح، وكنيته أبو الجعد، كما سبق قريبًا، وهو أخو أبي الْقُعيس، فتأملّ
والحديث متّفق عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(3) - (بَابُ تَحْرِيمِ ابْنَةِ الْأَخِ مِنَ الرَّضَاعَةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3581]
(1446) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، وَاللَّفْظُ لِأَبِي بَكْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَن الْأَعْمَشِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَكَ تَنَوَّقُ فِي قُرَيْشٍ، وَتَدَعُنَا؟ فَقَالَ: "وَعِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ، بِنْتُ حَمْزَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي، إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهران الكاهليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ ورع، لكنه يُدلّس [5](ت 7 أو 148)(ع) تقدَّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.
3 -
(سَعْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ) السّلميّ، أبو حمزة الكوفيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.
4 -
(أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ) عبد الله بن حبيب بن رُبَيّعة - بضمّ الراء، وفتح
(1)
"الفتح" 11/ 389.
الموحّدة، وتشديد الياء مصغّرًا - السُّلَميّ الكوفيّ المقرئ، ولأبيه صحبة، ثقةٌ ثبتٌ [2].
رَوَى عن عمر، وعثمان، وعليّ، وسعد، وخالد بن الوليد، وابن مسعود، وحذيفة، وأبي موسى الأشعريّ، وأبي الدرداء، وأبي هريرة رضي الله عنهم.
وروى عنه إبراهيم النخعيّ، وعلقمة بن مَرْثد، وسعد بن عُبيدة، وأبو إسحاق السبيعيّ، وسعيد بن جبير، وعطاء بن السائب، وغيرهم.
قال أبو إسحاق السَّبيعيّ: أقرأ القرآن في المسجد أربعين سنةً، وقال العجليّ: كوفيّ تابعيّ ثقةٌ، وقال أبو داود: كان أعمى، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وقال حجاج بن محمد، عن شعبة: لم يسمع من ابن مسعود، ولا من عثمان، ولكن سمع من عليّ.
وقال ابن سعد: تُوُفّي زمن بِشر بن مروان، وقيل: مات سنة (72) وقيل: سبعين، وقال ابن قانع: مات سنة خمس وثمانين، وهو ابن (90) سنة، وقال عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن: صُمت لله ثمانين رمضان، وذكره البخاريّ في "الأوسط" في "فصل من مات بين السبعين إلى الثمانين"، وقال: رَوَى عن أبيه، وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: ليس تثبت روايته عن عليّ، فقيل له: سمع من عثمان؟ قال: رَوَى عنه، ولم يذكر سماعًا، وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: لم يسمع من عمر، وقال البخاريّ في "تاريخه الكبير": سمع عليًّا، وعثمان، وابن مسعود، وقال ابن سعد: قال محمد بن عمر: كان ثقةً كثير الحديث، وقال غيره عن الواقديّ: شَهِد مع عليّ صِفِّين، ثم صار عثمانيًّا، ومات في سلطان الوليد بن عبد الملك، وكان من أصحاب ابن مسعود، وقال ابن عبد البرّ: هو عند جميعهم ثقةٌ.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، برقم (1446)، و (1705)، و (1840) وأعاده بعده و (2494)، و (2647) وأعاده بعده، و (2804) وأعاده بعده.
5 -
(عَلِيُّ) بن أبي طالب بن عبد المطّلب بن هاشم الهاشميّ الخليفة الراشد، استُشهد في رمضان سنة (40)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخيه: أبي بكر، وزُهير، فما أخرج لهما الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: الأعمش، عن سعد، عن أبي عبد الرحمن السُّلميّ.
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه ذو مناقب جمّة، فهو ابن عمّ المصطفى صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته فاطمة رضي الله عنها، وأول من آمن من الصبيان، وأحد الخلفاء الراشدين الأربعة، وأحد العشرة المبشّرين بالجنّة، واستُشهد رضي الله عنه، وهو يومئذ أفضل مَن في الأرض بإجماع أهل السنّة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَلِيٍّ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَكَ تَنَوَّقُ) بفتح التاء الفوقيّة، ثم نون مفتوحة، ثمّ واو مشدّدة، ثمّ قاف: أي تختار، وتُبالغ في الاختيار، وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا الحرف عند أكثر الرواة بفتح النون والواو وتشديدها، وهو فعل مضارعٌ محذوف إحدى التاءين، وماضيه تَنَوَّقَ، ومصدره تَنَوُّقًا: أي بالغ في اختيار الشيء، وانتقائه، وعند العذريّ، والهوزنيّ، وابن الحذّاء: تَتُوقُ - بتاء مضمومة - من تاق يتوقُ، توقًا، وتَوَقَانًا: إذا اشتاق. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح" بعد ما ذكر نحو ما تقدَّم في ضبطه: مشتقٌّ من النّيقة - بكسر النون، وسكون التحتانيّة، بعدها قافٌ: وهو الخيار من الشيء، يقال: تنوّق تنوُّقًا: أي بالغ في اختيار الشيء، وانتقائه. انتهى
(2)
. (فِي قُرَيْشٍ) متعلّق بـ "تنوّق"، أي تختار نساء قريش غير بني هاشم فتنكحهنّ (وَتَدَعُنَا؟) أي تتركنا معاشر بني هاشم، فلا تنكح نساءهم.
وفي رواية سعيد بن منصور، من طريق سعيد بن المسيّب:"قال عليّ: يا رسول الله، ألا تتزوّج بنت عمّك حمزة، فإنها من أحسن فتاة قريش".
(1)
"المفهم" 4/ 180.
(2)
"الفتح" 11/ 375.
وكأن عليًّا لم يعلم بأن حمزة رضيع النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو جوّز الخصوصيّة، أو كان ذلك قبيل تقرير الحكم. قال القرطبيّ: وبعيد أن يقال عن عليّ: لم يعلم بتحريم ذلك. قاله في "الفتح"
(1)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَعِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ ") بتقدير أداة الاستفهام، أي هل عندكم امرأة تصلُح للنكاح؟، ولفظ النسائيّ:"وعندك أحدٌ؟ ".
[تنبيه]: إنما ذَكَّر لفظ "أحد" وإن كان المراد المرأة؛ لأنه يطلق على الذكر والأنثى، والواحد والكثير. قال الفيّوميّ: و "أَحَدٌ" أصله وَحَدٌ، فأُبدلت الواو همزةً، ويقع على الذكر والأنثى، وفي التنزيل:{يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} الآية [الأحزاب: 32]، ويكون بمعنى "شيء"، وعليه قراءة ابن مسعود:"وإن فاتكم أحد من أزواجكم"، أي شيءٌ، ويكون أحدٌ مرادفًا لواحدٍ في موضعين سماعًا:
[أحدهما]: وصف اسم الباري تعالى، فيقال: هو الواحد، وهو الأحد؛ لاختصاصه بالأحديّة، فلا يَشْرَكُهُ فيها غيره، ولهذا لا يُنعت به غير الله تعالى، فلا يقال: رجلٌ أحدٌ، ولا درهمٌ أحدٌ، ونحو ذلك.
[والموضع الثاني]: أسماء العدد؛ للغلبة، وكثرة الاستعمال، فيقال: أحدٌ وعشرون، وواحدٌ وعشرون، وفي غير هذين يقع الفرق بينهما في الاستعمال بأن "الأحد" لنفي ما يذكر معه، فلا يُستعمل إلا في الجحد؛ لما فيه من العموم، نحوُ: ما قام أحد، أو مضافًا نحو: ما قام أحدُ الثلاثة، والواحد اسمٌ لِمُفتَتَحِ العددِ، كما تقدَّم، ويُستعمل في الإثبات مضافًا، وغير مضافٍ، فيقال: جاءني واحدٌ من القوم، وأما تأنيث أحد، فلا يكون إلا بالألف، لكن لا يقال: إحدى إلا مع غيرها، نحوُ: إحدى عشرة، وإحدى وعشرون، قال ثعلب: وليس للأحد جمعٌ، وأما الآحاد، فيَحْتَمِل أن يكون جمع الواحد، مثل شاهد وأشهاد، قالوا: وإذا نُفي أحد اختَصَّ بالعاقل، وأطلقوا فيه القول، وقد تقدّم أن "الأحد" يكون بمعنى "شيء"، وهو موضوع للعموم، فيكون كذلك، فيُستعمل لغير العاقل أيضًا، نحوُ: ما بالدار من أحد، أي من شيء، عاقلًا كان
(1)
"الفتح" 10/ 177.
أو غير عاقل، ثم يُستثنى، فيقال: إلا حمارًا، ونحوهُ، فيكون الاستثناء متّصلًا، وصرّح بعضهم بإطلاق "أحد" على غير العاقل؛ لأنه بمعنى "شيء"، كما تقدَّم. انتهى كلام الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
(قُلْتُ: نَعَمْ، بِنْتُ حَمْزَةَ) مبتدأ خبره محذوفٌ، أي عندنا بنت حمزة بن عبد المطّلب رضي الله عنه، واسمها عُمارة، وقيل: فاطمة، وقيل: أمامة، وقيل: أمة الله، وقيل: سَلْمَى، والأول هو المشهور، قاله في "الفتح"
(2)
، وقال في موضع آخر: وجملة ما تحصّل لنا من الخلاف في اسمها سبعة أقوال: أُمامة، وعُمارة، وسَلْمَى، وعائشة، وفاطمة، وأمة الله، ويعلى، وحَكَى المزّيّ في أسمائها أمّ الفضل، لكن صرّح ابن بشكوال بأنها كنية. انتهى
(3)
.
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي) أي لا يحلّ لي نكاحها (إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ") جملة "إنّ" تعليليّةٌ؛ أي إنما لم تحلّ لي؛ لأنها ابنة أخي من الرضاعة، وهو حمزة بن عبد المطّلب رضي الله عنه، فقد أرضعتهما ثُويبة مولاة أبي لهب، عمّه صلى الله عليه وسلم، كما أرضعت أبا سلمة رضي الله عنه، قال مصعب الزبيريّ: كانت ثُويبة أرضعت النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ما أرضعت حمزة، ثم أرضعت أبا سلمة. انتهى.
[تنبيه]: ذكر ابن منده ثويبة في "الصحابة"، وقال: اختُلف في إسلامها، وقال أبو نُعيم: لا نعلم أحدًا ذكر إسلامها غيره، والذي في السير أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يُكرمها، وكانت تدخل عليه بعد ما تزوّج خديجة، وكان يرسل إليها الصلة من المدينة إلى أن كان بعد فتح خيبر ماتت، ومات ابنها مسروح. انتهى
(4)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عليّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 650.
(2)
"الفتح" 8/ 292 "كتاب المغازي""باب عمرة القضاء" رقم (4251).
(3)
"الفتح" 10/ 177 "كتاب النكاح" رقم (5100)
(4)
"الفتح" 10/ 181.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 3581 و 3582](1446)، و (الترمذيّ) في "النكاح"(1146)، و (النسائيّ) في "النكاح"(3305) وفي "الكبرى"(5446)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 549)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 82 و 114 و 126 و 131 و 138 و 158 و 621 و 933 و 1102 و 1173 و 1361)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1/ 230)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 110)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 120)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(3/ 139)، و (البزّار) في "مسنده"(2/ 158)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 75)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان تحريم بنت الأخ من الرضاعة.
2 -
(ومنها): أن فيه ثبوت الرضاع بالاستفاضة، فإنها كانت في الجاهليّة، وكان ذلك مستفيضًا عند من وقع له.
3 -
(ومنها): أيضًا يستفاد ثبوت النسب، فإنه إذا ثبت الرضاع، فإن من لازمه أن يثبت النسب، وقد عقد الإمام البخاريّ رحمه الله لذلك بابًا، فقال:"باب الشهادة على الأنساب، والرضاع، والمستفيض، والموت القديم".
قال في "الفتح": هذه الترجمة معقودة لشهادة الاستفاضة، وذكر منها النسب، والرضاعة، والموت القديم، فأما النسب، فيستفاد من أحاديث الرضاعة، فإنه من لازمه، وقد نُقِل فيه الإجماع، وأما الرضاعة، فيستفاد ثبوتها بالاستفاضة من أحاديث الباب، فإنها كانت في الجاهليّة، وكان ذلك مستفيضًا عند من وقع له، وأما الموت القديم، فيستفاد منه حكمه بالإلحاق، قاله ابن المنير، واحترز بالقديم عن الحادث، والمراد بالقديم ما تطاول الزمان عليه، وحدّه بعض المالكيّة بخمسين سنة، وقيل: بأربعين. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"الفتح" 5/ 581 "كتاب الشهادات".
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3582]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ جَرِيرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، كُلُّهُمْ عَن الْأَعْمَشِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) العبسيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ شهيرٌ [10](ت 239)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 35/ 246.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، الحنظليّ المروزيّ، ثقةٌ حافظ مجتهد شهير [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
3 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد بن قُرط الضبيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
4 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
5 -
(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ سنّيٌّ صاحب حديث، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
6 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ) هو: محمد بن أبي بكر بن عليّ بن عطاء بن مُقَدَّم الثقفيّ مولاهم، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.
7 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيِّ) بن حسّان الْعَنْبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ إمام ناقد [9](ت 198)(ع) تقدَّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.
8 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ فقيهٌ إمام شهير، ربّما دلّس، من رؤوس [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
و"الأعمش" ذُكر قبله.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَن الْأَعْمَشِ) أي كلّ هؤلاء الثلاثة: جرير، وعبد الله بن نُمير، وسفيان الثوريّ، رووا هذا الحديث عن الأعمش بسنده السابق.
[تنبيه]: رواية جرير بن عبد الحميد، عن الأعمش، ساقها في "جَمْهرة الأجزاء الحديثية" 1/ 276 فقال:
(6)
- أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن الحسين القرشيّ، ثنا علي بن عبد الرحمن البكائيّ، ثنا محمد بن عبد الله الحضرميّ، ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا جرير، عن الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السُّلَميّ قال: قال علي بن أبي طالب: قلت: ما لك يا رسول الله تَنَوّقُ في قريش، فتدعنا؟ قال: فقال: "هل عندك شيءٌ؟ "، قلت: نعم، ابنة حمزة، قال:"إنها لا تحل لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة". انتهى.
ورواية عبد الله بن نُمير، عن الأعمش ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" 1/ 114 فقال:
(914)
حدثنا عبد اللهِ
(1)
، حدّثني أبي، ثنا ابن نُمَيْرٍ، ثنا الأَعْمَشُ، عن سَعْد بن عُبَيْدَةَ، عن أبي عبد الرحمن، عن عليّ رضي الله عنه قال: قلت: يا رَسُولَ اللهِ، ما لي أَرَاكَ تَنَوَّقُ في قُرَيْشٍ، وَتَدَعُنَا؟، قال:"عِنْدَكَ شيء؟ "، قلت: بِنْتُ حَمْزَةَ، قال:"هي بِنْتُ أخي مِنَ الرَّضَاعَةِ". انتهى.
ورواية سفيان الثوريّ، عن الأعمش ساقها الطبرانيّ رحمه الله في "المعجم الكبير" 3/ 139 فقال:
(2921)
- حدّثنا يُوسُفُ الْقَاضِي، ثنا محمد بن أبي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، ثنا عبد الرحمن بن مَهْدِيٍّ، ثنا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عن سَعْدِ بن عُبَيْدَةَ، عن أبي عبد الرحمن السُّلَمِيِّ، عن عَلِيٍّ رضي الله عنه، قال: قلت: يا رَسُولَ اللهِ، مَا لِي أَرَاكَ تَتُوقُ
(2)
في قُرَيْشٍ، وَتَدَعُنَا؟ قال:"عِنْدَكَ شَيْءٌ؟ "، قلت: نعم، بنتُ حَمْزَةَ، قال:"إِنَّهَا بنت [ابنة] أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
هو ولد الإمام أحمد رحمهما الله تعالى راوي المسند عنه.
(2)
هكذا "تتوق" بتاءين، مِن تاق يتوق توقًا: إذا مال إلى الشيء.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3583]
(1447) - (وَحَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُرِيدَ عَلَى ابْنَةِ حَمْزَةَ، فَقَالَ: "إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي، إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الرَّحِمِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(هَدَّابُ بْنُ خَالِدِ) بن الأسود القيسيّ، أبو خالد البصريّ، ويقال له: هُدْبة، ثقةٌ عابدٌ، تفرّد النسائيّ بتليينه، من صغار [9] مات سنة بضع و (230)(خ م د) تقدم في "الإيمان" 11/ 151.
2 -
(هَمَّامُ) بن يحيى بن دينار الْعَوْذيّ، أبو عبد الله، أو أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [7](ت 4 أو 165)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
3 -
(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رأس [4](ت 7 أو 118)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 70.
4 -
(جَابِرُ بْنُ زَيْدِ) الأزديّ، ثم الْجَوْفيّ، أبو الشَّعْثاء البصريّ، ثقةٌ فقيهٌ [3](ت 93 أو 103)(ع) تقدم في "الحيض" 9/ 739.
5 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما، مات سنة (68)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124، وشرح الحديث واضحٌ يُعلم مما سبق.
وقوله: (أُرِيدَ عَلَى ابْنَةِ حَمْزَةَ) أي أرادوه لأجل أن يتزوّجها، وقد سبق أن الذي أراده على ذلك، وطلب منه ذلك، هو عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 3583 و 3584](1447)، و (البخاريّ) في "الشهادات"(2645) و "النكاح"(5100)، و (النسائيّ) في "النكاح"(6/ 100)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1938)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" (3/ 549 -
550)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 223 و 275 و 290 و 339 و 346)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 111)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 121)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 452)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3584]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، وَهُوَ الْقَطَّانُ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مِهْرَانَ الْقُطَعِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَرَ، جَمِيعًا عَنْ شُعْبَةَ (ح) وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ، بِإِسْنَادِ هَمَّامٍ سَوَاءً، غيْرَ أَنَّ حَدِيثَ شُعْبَةَ انْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ:"ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ"، وَفي حَدِيثِ سَعِيدٍ:"وَإِنَّهُ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ"، وَفِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ عُمَرَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ زَيْدٍ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(يَحْيَى) بن سعيد الْقَطَّانُ، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ متقنٌ إمام قدوة، من كبار [9](ت 198)(ع) تقدَّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مِهْرَانَ الْقُطَعِيُّ)
(1)
هو: محمد بن يحيى بن أبي حَزْم
(2)
الْقُطَعِيُّ، أبو عبد الله البصريّ، صدوقٌ [10].
روى عن عمه حَزْم بن مِهران، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى، ومحمد بن بكر الْبُرْسانيّ، وعبد الصَّمد بن عبد الوارث، وبشر بن عمران الزَّهْراني، وغيرهم.
ورَوَى عنه مسلم، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وحرب الكرمانيّ،
(1)
بضمّ القاف، وفتح الطاء المهملة: منسوب إلى قُطَيعة، قبيلة معروفة، وهو قُطيعة بن عَبْس بن بَغِيض بن ريث بن غَطَفان بن سعد بن قيس بن عَيلان - بالعين المهملة، قاله النوويّ رحمه الله.
(2)
بفتح الحاء المهملة، وسكون الزاي.
وابن أبي عاصم، وأبو حاتم، والبخاريّ في غير "الجامع"، والقاسم بن زكريا، وابن خزيمة، وغيرهم.
قال أبو حاتم: صالح الحديث، صدوقٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال مسلمة: بصريّ ثقةٌ.
قال ابن أبي عاصم: مات سنة ثلاث وخمسين ومائتين.
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط
(1)
.
3 -
(بِشْرُ بْنُ عُمَرَ) بن الحكم الزهرانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [9](7 أو 209)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 93.
4 -
(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ قاضي الموصل، ثقةٌ [8](ت 189) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
5 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ) مِهْران اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف، لكنه كثير التدليس، واختلط [6](ت 6 أو 157)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.
وقوله: (جَمِيعًا عَنْ شُعْبَةَ) يعني أن يحيى القطان، وبشر بن عمر كلاهما رويا عن شعبة.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ) يعني أن شعبة، وسعيد بن أبي عروبة رويا عن قتادة.
ووقع في نسخة "شرح النوويّ" بلفظ: "كليهما عن قتادة" بالياء، قال النوويّ رحمه الله: كذا وقع في بعض النسخ، وفي بعضها:"كلاهما"، وهو الجاري
(1)
ونقل في "تهذيب التهذيب"(9/ 449) عن "الزهرة": رَوَى عنه مسلم عشرة أحاديث، وسَمَّى جدّه مِهْران، ونسبه زَبِيديًّا من زَبِيد اليمن. انتهى، وقوله:"عشرة أحاديث" إن أراد أنه روي له في "صحيحه" هذا العدد ففيه نظر لا يخفى؛ لأنه لا يوجد له فيه إلا هذا الحديث، كما هو المسجّل في برنامج الحديث، فتأمل.
على المشهور، والأول صحيح أيضًا، وقد سبق بيان وجهه في الفصول السابقة، في مقدمة هذا الشرح. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: أشار النوويّ رحمه الله إلى ما سبق له في "شرح المقدّمة"، ونصّه هناك: تكرر في "صحيح مسلم" قوله: "حدّثنا فلان وفلان كليهما عن فلان"، هكذا يقع في مواضع كثيرة، في أكثر الأصول "كليهما" بالياء، وهو مما يُسْتَشْكَل من جهة العربية، وحقه أن يقال:"كلاهما" بالألف، ولكن استعماله بالياء صحيح، وله وجهان:
[أحدهما]: أن يكون مرفوعًا تأكيدًا للمرفوع قبله، ولكنه كتب بالياء؛ لأجل الإمالة، ويقرأ بالألف، كما كتبوا الربا، والربي، بالألف، والياء، ويُقرأ بالألف لا غير.
[والوجه الثاني]: أن يكون "كليهما" منصوبًا، ويُقرأ بالياء، ويكون تقديره: أعني كليهما. انتهى
(1)
، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
وقوله: (وَفِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ عُمَرَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ زَيْدٍ) يعني أن في رواية بشر أن قتادة قال: سمعت جابر بن زيد، وإنما بيّن المصنّف هذا؛ لأن قتادة مُدَلِّس، وقد قال في رواية يحيى القطّان: عن قتادة، عن جابر، وقد عُلِم أن المدلس لا يُحتجّ بعنعنته حتى يثبت سماعه لذلك الحديث، فأتى رحمه الله بهذا الكلام تنبيهًا على ثبوته
(2)
، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية شعبة، عن قتادة ساقها أبو عوانة في "مسنده" 3/ 110 فقال:
وحدّثنا أبو المثنى، قثنا
(3)
مسدّد، قثنا يحيى، قثنا شعبة، عن قتادة، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، قال: ذُكر للنبيّ صلى الله عليه وسلم ابنة حمزة، فقال:"إنها ابنة أخي من الرضاعة". انتهى.
(1)
"شرح النوويّ" 1/ 41 - 42.
(2)
راجع: "شرح النوويّ" 10/ 24 - 25.
(3)
تقدم أنها مختصرة من "قال: حدّثا".
ورواية سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه" 3/ 549 فقال:
(17039)
- حدّثنا عليّ بن مُسْهِر، عن سعيد، عن قتادة، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد على ابنة حمزة بن عبد المطلب، فقال:"إنها ابنة أخي من الرضاعة، وإنه يَحْرُم من الرضاعة ما يَحْرُم من النسب". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3585]
(1448) - (وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَي، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَني مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ مُسْلِمٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ مُسْلِمٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: سَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَقُولُ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَيْنَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ عَنِ ابْنَةِ حَمْزَةَ؟ أَوْ قِيلَ: أَلَا تَخْطُبُ بِنْتَ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ قَالَ: "إِنَّ حَمْزَةَ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ) السعديّ مولاهم، أبو جعفر، نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253) عن (83) سنةً (م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.
2 -
(أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى) بن حسّان التستريّ المصريّ، ثقةٌ تُكلّم في بعض سماعاته بلا حجة [10](ت 243)(خ م س ق) تقدم في "الإيمان" 8/ 134.
3 -
(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله، تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرِ) بن عبد الله بن الأشجّ، أبو الْمِسْور المدنيّ، صدوقٌ [7](ت 159)(بخ م د س) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.
5 -
(أَبُوهُ) بُكير بن عبد الله بن الأشجّ المخزوميّ مولاهم، أبو عبد الله، أو أبو يوسف المدنيّ، نزيل مصر، ثقةٌ [5](ت 120)(ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.
6 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ) بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن الحارث بن
زُهْرة الزهريّ، أبو محمد المدنيّ، أخو الزهريّ الإمام، ثقةٌ [3] مات قبل أخيه (خت م د ت س) تقدم في "الزكاة" 36/ 2396.
7 -
(مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ) الزهريّ الإمام الشهير، تقدّم في الباب الماضي.
8 -
(حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 105) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
9 -
(أُمُّ سَلَمَةَ) هند بنت أبي أُميّة حُذيفة، أو سُهيل بن المغيرة بن عبد الله بن عُمر بن المغيرة بن مخزوم المخزوميّ، أم المؤمنين، تزوّجها النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أبي سلمة سنة أربع، أو ثلاث من الهجرة، ماتت سنة (62) على الأصحّ (ع) تقدمت في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 473.
[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: هذا الإسناد فيه أربعة تابعيون، أولهم: بكير بن عبد الله بن الأشجّ، رَوَى عن جماعة من الصحابة، والثاني: عبد الله بن مسلم الزهريّ، أخو الزهريّ المشهور، وهو تابعيّ، سَمِع ابن عمر وآخرين من الصحابة، وهو أكبر من أخيه الزهريّ المشهور، والثالث: محمد بن مسلم الزهريّ المشهور، وهو أخو عبد الله الراوي عنه، كما ذكرنا، والرابع: حُميد بن عبد الرحمن بن عوف، وهو والزهريّ تابعيان مشهوران، ففي هذا الإسناد ثلاثُ لطائف من علم الإسناد: أحدها: كونه جمع أربعة تابعيين، روى بعضهم عن بعض، الثانية: أن فيه رواية الكبير عن الصغير؛ لأن عبد الله أكبر من أخيه محمد، كما سبق، الثالثة: أن فيه رواية الأخ عن أخيه. انتهى
(1)
.
وقوله: (قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) تقدّم أن القائل له ذلك هو عليّ بن أبي طالب، وتمام شرح الحديث يُعلم مما سبق.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أم سلمة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 3585](1448)، و (الشافعيّ) في "مسنده"
(1)
"شرح النوويّ" 10/ 24 - 25.
(1/ 306)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 111)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 121)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(3/ 139)، و"الأوسط"(6/ 306) و"الصغير"(2/ 188)، و (المروزيّ) في "السنّة"(1/ 84)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 453)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(4) - (بَابُ تَحْرِيمِ الرَّبِيبَةِ، وَأُخْتِ الْمَرْأَةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3586]
(1449) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أبِي سُفْيَانَ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(1)
، فَقُلْتُ لَهُ: هَلْ لَكَ فِي أُخْتِي بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ؟ فَقَالَ: "أفعَلُ مَاذَا؟ "، قُلْتُ: تَنْكِحُهَا، قَالَ:"أَوَ تُحِبِّينَ ذَلِكِ؟ " قُلْتُ: لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَرِكَنِي فِي الْخَيْرِ أُخْتِي، قَالَ:"فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي"، قُلْتُ: فَإِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّكَ تَخْطُبُ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: "بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنه؟
(2)
قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ:"لَوْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي مَا حَلَّتْ لِي، إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْنِي وَأَبَاهَا ثُوَيْبَةُ، فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ، وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة، تقدّم قبل بابين.
3 -
(هِشَامُ) بن عروة، تقدّم قبل باب.
(1)
وفي نسخة: "دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(2)
وفي نسخة: "قال: بنت أبي سلمة".
4 -
(أَبُوهُ) عروة بن الزبير، تقدّم أيضًا قبل باب.
5 -
(زَيْنَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ) هي زينب بنت أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزوميّة، ربيبة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ماتت رضي الله عنها سنة (73)، وحضر ابن عمر رضي الله عنهما جنازتها قبل أن يحجّ، ويموت بمكّة (ع) تقدمت في "الحيض" 2/ 689.
6 -
(أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ) رملة بنت أبي سفيان صَخْر بن حرب الأمويّة، أم المؤمنين، مشهورة بكنيتها، ماتت رضي الله عنها سنة اثنتين، أو أربع، وقيل: تسع وأربعين، وقيل: خمسين (ع) تقدمت في "المساجد ومواضع الصلاة" 3/ 1186.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رواته كلهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أن شيخه من التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.
4 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، من هشام، والباقيان كوفيّان.
5 -
(ومنها): أن فيه روايةَ الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ، وصحابيّة عن صحابيّة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ) هي رملة بنت صخر بن حرب رضي الله عنهما أنها (قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي بعض النسخ: "دخلتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم (فَقُلْتُ لَهُ: هَلْ لَكَ) أي هل لك رغبة (فِي أُخْتِي بنْتِ أَبِي سُفْيَانَ) وفي رواية يزيد بن أبي حبيب، عن ابن شهاب التالية: "انكح أختي عَزّة بنت أبي سفيان"، ولابن ماجه من هذا الوجه: "انكح أختي عزّة"، وفي رواية هشام بن عروة، عن أبيه في هذا الحديث عند الطبرانيّ أنها قالت: "يا رسول الله، هل لك في حَمْنَةَ بنت أبي سفيان؟، قال: أصنع ماذا؟ قالت: تنكحها". وعند أبي موسى في "الذيل": "درّة بنت أبي سفيان"، وهذا وقع في رواية الحميديّ في "مسنده" عن سفيان، عن هشام، وأخرجه أبو نُعيم، والبيهقيّ، من طريق الحميديّ، وقالا: قد أخرجه عنه، لكن حذف هذا الاسم، وكأنه عمدًا، وكذا وقع في
الرواية زينب بنت أم سلمة، وحذفه البخاريّ أيضًا منها، ثم نبّه على أن الصواب درّة، وجزم المنذريّ بأن اسمها حمنة، كما في الطبرانيّ، وقال عياض: لا نعلم لعزّة ذكرًا في بنات أبي سفيان إلا في رواية يزيد بن أبي حبيب، وقال أبو موسى: الأشهر فيها عزّة.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَفْعَلُ مَاذَا؟ ") أي أيَّ شيء أفعل بها؟ (قُلْتُ: تَنْكِحُهَا) بكسر الكاف، مضارع نَكَح، من باب ضرب (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَوَ تُحِبِّينَ ذَلِكِ؟ ") هو استفهام تعجّب من كونها تطلُب أن يتزوّج غيرها مع ما طُبع عليه النساء من الغيرة (قُلْتُ: لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ) بضمّ الميم، وكسر اللام: اسم فاعل، من أخلى يُخلي: أي لست بمنفردة بك، ولا خالية من ضَرّة، وقال بعضهم: هو بوزن فاعل الإخلاء، متعدّيًا، ولازمًا، من أخليت، بمعنى خَلَوتُ من الضرّة، أي لست بمتفرّغة، ولا خالية من ضرّة، وفي بعض الروايات بفتح اللام بلفظ المفعول، حكاها الكرمانيّ، وقال عياض: مُخلية: أي منفردة، يقال: أَخْلِ أَمْرَكَ، وأَخْلِ بِهِ: أي انفرد به، وقال صاحب "النهاية": معناه: لم أجدك خاليًا من الزوجات، وليس هو من قولهم: امرأة مُخْلِيَةٌ: إذا خلت من الأزواج. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قولها: "لست لك بمخلية" بضمّ الميم، وإسكان الخاء المعجمة: أي لست أُخلي لك بغير ضرّة. انتهى
(2)
.
(وَأَحَبُّ مَنْ شَرِكَنِي)"أحبّ" مرفوع بالابتداء، ومتَعلَّقُهُ محذوفٌ: أي إليّ، و"شَرِكَني" - بفتح الشين المعجمة، وكسر الراء، يقال: شَرِكتُهُ في الأمر أَشْرَكه، من باب تَعِبَ شَرِكًا، وشَرِكَةً، وِزانُ كَلِمٍ، وكَلِمَةٍ، بفتح الأول، وكسر الثاني: إذا صِرْتَ له شَرِيكًا، وجمع الشريك شُرَكاءُ، وأَشْراك
(3)
. (فِي الْخَيْرِ أُخْتِي) كذا بتعريف "الخير"، وفي الرواية التالية:"في خير" بالتنكير، أي في أيّ خير كان، قيل: المراد بالخير صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، المتضمّنة لسعادة الدارين، الساترة لما لعلّه يَعْرِضُ من الغيرة التي جرت بها العادة بين
(1)
"الفتح" 11/ 377.
(2)
"شرح النوويّ" 10/ 25.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 311.
الزوجات، لكن في روايةٍ عند البخاريّ:"وأحبّ من شَرِكني فيك أختي"، فعُرف أن المراد بالخير ذاته صلى الله عليه وسلم، أفاده في "الفتح"
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قولها: "وأحب من شركني إلخ": أي أحبّ من شاركني فيك، وفي صحبتك، والانتفاع منك بخيرات الدنيا والآخرة. انتهى
(2)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي"، قُلْتُ: فَإِنِّي أُخْبِرْتُ) وفي رواية للبخاريّ: "قلت: بلغني أنك تخطب"، وفي الرواية التالية عند مسلم:"فقلت: يا رسول الله، فإِنَّا نتَحَدَّثُ"، وفي رواية للبخاريّ:"فإنا نُحَدَّثُ" بضمّ أوله، وفتح الحاء على البناء للمجهول، وفي رواية للنسائيّ:"والله لقد تحدّثنا".
قال الحافظ: لم أقف على اسم من أخبر بذلك، ولعله كان من المنافقين، فإنه قد ظهر أن الخبر لا أصل له، وهذا مما يُستَدلُّ به على ضعف المراسيل.
(أَنَّكَ تَخْطُبُ دُرَّةَ) وهو بضمّ الدال المهملة، وتشديد الراء، وهذا مما لا خلاف فيه، وأما ما حكاه عياضٌ عن بعض رواة كتاب مسلم أنه ضبطه "ذَرّة" - بفتح الذال المعجمة - فتصحيف لا شكّ فيه، قاله النوويّ.
وعند أبي داود من طريق هشام، عن أبيه، عن زينب، عن أم سلمة:"درّة"، أو "ذرّة" على الشكّ، شكّ زهيرٌ راويه عن هشام، ووقع عند البيهقيّ من رواية الحميديّ، عن سفيان، عن هشام:"بلغني أنك تخطب زينب بنت أبي سلمة"، وهو خطأ، ووقع عند أبي موسى في "ذيل المعرفة": حمنة بنت أبي سلمة، وهو خطأ، قاله في "الفتح"
(3)
.
(بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ) عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عُمر بن مخزوم المخزوميّ، أخي النبيّ صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، كما صرّح به في هذا الحديث، وابن عمّته صفيّة بنت عبد المطّلب، كان من السابقين إلى الإسلام، شهد بدرًا، ومات في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، مات في جمادى الآخرة سنة أربع من
(1)
"الفتح" 11/ 377 - 378.
(2)
"شرح النوويّ" 10/ 25.
(3)
"الفتح" 11/ 378.
الهجرة، بعد أُحُد، فتزوّج النبيّ صلى الله عليه وسلم بعده زوجته أم سلمة رضي الله عنهما (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ؟ ") وفي بعض النسخ:"بنت أبي سلمة"، وهو بتقدير همزة الاستفهام، أي أبنت أمّ سلمة؟، وهو استفهام استثبات؛ لرفع الإشكال، أو استفهام إنكار، والمعنى: أنها إن كانت بنتَ أم سلمة من أمّ سلمة، فيكون تحريمها من وجهين، كما سيأتي بيانه، وإن كانت من غيرها فمن وجه واحد، وكأنّ أمّ حبيبة لم تطّلع على تحريم ذلك؛ إما لأن ذلك كان قبل نزول آية التحريم، وإما بعد ذلك، وظنّت أنه من خصائص النبيّ صلى الله عليه وسلم. كذا قال الكرمانيّ
(1)
.
قال الحافظ: والاحتمال الثاني هو المعتمد، والأول يدفعه سياق الحديث، وكأنّ أمّ حبيبة استدلّت على جواز الجمع بين الأختين بجواز الجمع بين المرأة وابنتها بطريق الأَولى؛ لأن الربيبة حَرُمت على التأبيد، والأخت حَرُمت في صورة الجمع فقط، فأجابها صلى الله عليه وسلم بأن ذلك لا يحلّ، وأن الذي بلغها من ذلك ليس بحقّ، وأنها تحرم عليه من جهتين
(2)
.
(قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَوْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي) أي بنت زوجتي، مشتقّةٌ من الربّ، وهو الإصلاح؛ لأنه يقوم بأمرها، وقيل: من التربية، وهو غلطٌ فاحشٌ، فإن من شرط الاشتقاق الاتّفاق في الحروف الأصليّة، ولام الكلمة، وهو الحرف الأخير مختلف، فإن آخر "ربّ" باء موحّدة، وفي آخر "ربي" ياء مثنّاة من تحتُ، قاله النوويّ
(3)
.
(فِي حِجْرِي) راعَى فيه لفظ الآية، وإلا فلا مفهوم له، كذا عند الجمهور، وأنه خرج مخرج الغالب، وسيأتي تمام البحث فيه قريبًا، وفي رواية عراك، عن زينب بنت أمّ سلمة، عند الطبرانيّ:"لو لم أنكح أمّ سلمة ما حلّت لي، إن أباها أخي من الرضاعة"، ووقع في رواية ابن عيينة، عن هشام:"والله لو لم تكن ربيبتي ما حلّت لي"، فذكر ابن حزم أن منهم من احتجّ به على أن لا فرق بين اشتراط كونها في الحجر أو لا، وهو ضعيف؛ لأن القصّة واحدةٌ، والذين زادوا فيها لفظ:"في حجري" حفّاظ أثبات.
(1)
راجع: "شرح البخاريّ" له 9/ 78 - 79.
(2)
"الفتح" 11/ 378.
(3)
"شرح النوويّ" 10/ 26.
(مَا حَلَّتْ لِي، إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ) قال القرطبيّ رحمه الله: فيه تعليل الحكم بعلتين، فإنه علّل تحريمها بكونها ربيبة، وبكونها بنت أخ من الرضاعة، قال في "الفتح": كذا قال، والذي يظهر أنه نَبَّهَ على أنها لو كان بها مانع واحد لكفى في التحريم، فكيف وبها مانعان، فليس من التعليل بعلّتين في شيء؛ لأن كل وصفين يجوز أن يضاف الحكم إلى كل منهما لو انفرد، فإما أن يتعاقبا، فيضاف الحكم إلى الأول منهما، كما في السببين إذا اجتمعا، ومثاله لو أحدث، ثم أحدث بغير تخلل طهارة، فالحدث الثاني، لم يعمل شيئًا، أو يضاف الحكم إلى الثاني، كما في اجتماع السبب والمباشرة، وقد يضاف إلى أشبههما، وأنسبهما، سواء كان الأول أم الثاني، فعلى كل تقدير لا يضاف إليهما جميعًا، وإن قُدِّر أنه يوجد، فالإضافة إلى المجموع، ويكون كل منهما جزء علة، لا علة مستقلة، فلا تجتمع علتان على معلول واحد، هذا الذي يظهر، والمسألة مشهورة في الأصول، وفيها خلاف، قال القرطبيّ: والصحيح جوازه؛ لهذا الحديث وغيره. انتهى
(1)
.
(أَرْضَعَتْنِي وَأَبَاهَا) بالباء الموحّدة: أي أبا درّة، وهو أبو سلمة، وهو من تقديم المفعول على الفاعل، وهو:(ثُوَيْبَةُ) - بثاء مثلّثة، مضمومة، وواو مفتوحة، ثم ياء التصغير، ثم باء موحّدة، ثم هاء - كانت مولاة لأبي لهب بن عبد المطّلب، عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ارتضع منها النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل حليمة السعديّة رضي الله عنها (فَلَا تَعْرِضْنَ) - بفتح أوله، وسكون العين المهملة، وكسر الراء، بعدها معجمة ساكنة، ثم نون - على الخطاب لجماعة النساء، وبكسر المعجمة، وتشديد النون، خطاب لأم حبيبة وحدها، والأول أوجه.
وقال ابن التين: ضبط بضمّ الضاد في بعض الأمهات، ولا أعلم له وجهًا لأنه إن كان الخطاب لجماعة النساء، وهو الأبين، فهو بسكون الضاد؛ لأنه فعل مستقبل مبنيّ على أصله، ولو أدخلت عليه التأكيد، فشدّدت النون لكان تعرضنانّ؛ لأنه يجتمع ثلاث نونات، فيفرّق بينهنّ بالألف، وإن كان الخطاب لأم حبيبة خاصّة، فتكون الضاد، مكسورة، والنون مشدّدة.
(1)
"المفهم" 4/ 182، و"الفتح" 11/ 379.
وقال القرطبيّ: جاء بلفظ الجمع، وإن كانت القصّة لاثنين، وهما أم حبيبة، وأم سلمة ردعًا، وزجرًا أن تعود واحدة منهما، أو من غيرهما إلى مثل ذلك، وهذا كما لو رأى رجلٌ امرأةً تكلّم رجلًا، فقال لها: أتكلّمين الرجال؟ فإنه مستعمل شائعٌ
(1)
.
(عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ) وكان لأم سلمة رضي الله عنها من البنات زينب راوية الخبر، ودُرّة التي قيل: إنها مخطوبة، وكان لأم حبيبة من البنات حبيبة، وقد روت عنها الحديث، ولها صحبة (وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ") وكان لأم سلمة رضي الله عنها من الأخوات قُريبة زوج زَمْعة بن الأسود، وقُريبة الصغرى زوج عمر، ثم معاوية، وعزّة بنت أبي أُميّة زوج منبّه بن الحجّاج.
وكان لأم حبيبة رضي الله عنها من الأخوات هند زوج الحارث بن نوفل، وجُويرية زوج السائب بن أبي حُبيش، وأُميمة زوج عروة بن مسعود.
وكان لغيرهما من أمهات المؤمنين من الأخوات أم كلثوم، وأم حبيبة ابنتا زمعة أختا سودة. وأسماء أخت عائشة، وزينب بنت عمر أخت حفصة، وغيرهنّ، والله تعالى أعلم
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "فلا تعرضن عليّ بناتكنّ، ولا أخواتكنّ" إشارةٌ إلى أخت أم حبيبة، وبنت أم سلمة، واسم أخت أم حبيبة هذه عَزَّة - بفتح العين المهملة - وقد سمّاها في الرواية الأخرى، وهذا محمول على أنها لم تَعْلَم حينئذ تحريم الجمع بين الأختين، وكذا لم يَعْلَم مَن عَرَضَ بنت أم سلمة تحريم الربيبة، وكذا لم يعلم مَن عَرَض بنت حمزة تحريم بنت الأخ من الرضاعة، أو لم يعلم أن حمزة أخ له من الرضاع. انتهى
(3)
.
[تنبيه]: زاد في رواية البخاريّ: "قال عروة: وثُويبة مولاةٌ لأبي لهب، وكان أبو لهب أعتقها، فأرضعت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما مات أبو لهب أُريه بعض أهله بشرّ حِيبة، قال له: ماذا لقيتَ؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم، غير أني سُقيت في هذه بعتاقتي ثُويبة". انتهى.
(1)
"المفهم" 4/ 380.
(2)
"الفتح" 11/ 380.
(3)
"شرح النوويّ" 10/ 26 - 27.
قال في "الفتح": وفي هذا الحديث دلالة على أن الكافر قد ينفعه العمل الصالح في الآخرة؛ لكنه مخالف لظاهر القرآن، قال الله تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان]، وأجيب أَوّلًا بأن الخبر مرسل، أرسله عروة، ولم يذكر من حدّث به، وعلى تقدير أن يكون موصولًا، فالذي في الخبر رؤيا منام، فلا حجة فيه، ولعلّ الذي رآها لم يكن إذ ذاك أسلم بعدُ، فلا يُحتجّ به، وثانيًا على تقدير القبول، فيَحْتَمِل أن يكون ما يتعلّق بالنبيّ صلى الله عليه وسلم مخصوصًا من ذلك، بدليل قصّة أبي طالب، كما تقدّم أنه خفّف عنه، فنُقل من الغَمَرات إلى الضَّحْضَاح.
وقال البيهقيّ: ما ورد من بطلان الخير للكفار، فمعناه أنهم لا يكون لهم التخلّص من النار، ولا دخول الجنّة، ويجوز أن يخفف عنهم من العذاب الذي يستوجبونه على ما ارتكبوه من الجرائم سوى الكفر بما عملوه من الخيرات.
وأما عياض، فقال: انعقد الإجماع على أن الكفّار لا تنفعهم أعمالهم، ولا يُثابون عليها بنعيم، ولا تخفيف عذاب، وإن كان بعضهم أشدّ عذابًا من بعض.
قال الحافظ: وهذا لا يَرُدّ الاحتمال الذي ذكره البيهقيّ، فإن جميع ما ورد من ذلك فيما يتعلّق بذنب الكفر، وأما ذنب غير الكفر، فما المانع من تخفيفه؟.
وقال القرطبيّ: هذا التخفيف خاصّ بهذا، وبمن ورد النصّ فيه.
وقال ابن المنيّر في "الحاشية": هنا قضيّتان:
إحداهما محالٌ، وهي اعتبار طاعة الكافر مع كفره؛ لأن شرط الطاعة أن تقع بقصد صحيح، وهذا مفقود من الكافر.
الثانية: إثابة الكافر على بعض الأعمال تفضّلًا من الله تعالى، وهذا لا يُحيله العقل، فإذا تقرّر ذلك لم يكن عتق أبي لهب لثويبة قربة معتبرة، ويجوز أن يتفضّل الله عليه بما شاء كما تفضّل على أبي طالب، والمتّبَع في ذلك التوقيف نفيًا وإثباتًا.
قال الحافظ: وتتمة هذا أن يقع التفضّل المذكور إكرامًا لمن وقع من الكافر البرّ له، ونحو ذلك.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن هذه القصّة منامية، والذي رآها لا يُدْرَى، هل هو مسلم، أم لا؟، فلا داعي إلى التكلّف بالتأويلات التي ذكروها، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أمّ حبيبة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 3586 و 3587 و 3588 و 3589](1449)، و (البخاريّ) في "النكاح"(5101 و 506 و 507) و"النفقات"(5372)، و (أبو داود) في "النكاح"(2056)، و (النسائيّ) في "النكاح"(3285 و 3286 و 3287 و 3288) وفي "الكبرى"(5415 و 5416 و 5417 و 5418)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1939)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(7/ 475)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 272)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 147)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 291 و 428)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 113)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 122)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(23/ 222 و 223 و 225)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4111)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(12/ 433 و 13/ 49)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(680)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 75 و 162 و 453)، و"الصغرى"(6/ 149)، و"المعرفة"(5/ 218)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2282)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان تحريم الربيبة التي في حِجر الرجل.
2 -
(ومنها): بيان تحريم الجمع بين الأمّ والبنت.
3 -
(ومنها): بيان تحريم الجمع بين الأختين.
4 -
(ومنها): بيان ثبوت الرضاع بالتحريم، وسيأتي له باب خاصّ به. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم نكاح الربيبة:
ذهب الجمهور إلى تحريم الربيبة مطلقًا، سواء كانت في حجره، أم لا؟.
وذهبت طائفة إلى أنها إذا لم تكن في حجره يجوز أن يتزوّجها.
وسبب ذلك اختلافهم في قوله تعالى: {فِي حُجُورِكُمْ} هل للغالب، أو يُعتبر فيه مفهوم المخالفة؟ فذهب إلى الأول الجمهور، وإلى الثاني بعضهم، وقد صحّ ذلك عن عمر بن الخطاب، وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما، فقد صحّ عن عمر رضي الله عنه أنه أفتى من سأله إذا تزوّج بنت رجل كانت تحته جدّتها، ولم تكن البنت في حجره، أخرجه أبو عبيد.
وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، وغيرهما من طريق إبراهيم بن عُبيد، عن مالك بن أوس، قال: كانت عندي امرأة قد ولدت لي، فماتت، فوَجَدت عليها، فلَقِيت عليّ بن أبي طالب، فقال لي: ما لك؟ فأخبرته، فقال: ألها ابنة؟ - يعني من غيرك - قلت: نعم، قال: كانت في حجرك؟ قلت: لا، هي في الطائف، قال: فانكحها، قلت: فأين قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ} ؟ قال: إنها لم تكن في حجرك.
قال الحافظ: وقد دفع بعض المتأخّرين هذا الأثر، وادّعى نفي ثبوته بأن إبراهيم بن عُبيد لا يُعرف، وهو عجيب، فإن الأثر المذكور عند ابن أبي حاتم في "تفسيره" من طريق إبراهيم بن عُبيد بن رفاعة، وإبراهيم ثقة، تابعيّ معروفٌ، وأبوه، وجدّه صحابيّان، والأثر صحيح عن عليّ رضي الله عنه.
وقال الحافظ بعد أثر عمر رضي الله عنه المتقدّم: وهذا وإن كان الجمهور على خلافه، فقد احتجّ أبو عبيد للجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم:"فلا تَعْرِضنّ عليّ بناتكنّ"، قال: نعم، ولم يقيّد بالحجر. وهذا فيه نظرٌ؛ لأن المطلق محمول على المقيّد، ولولا الإجماع الحادث في المسألة، وندرة المخالف، لكان الأخذ به أولى؛ لأن التحريم جاء مشروطًا بأمرين: أن تكون في الحجر، وأن يكون الذي يريد التزويج قد دخل بالأمّ، فلا تحرم بوجود أحد الشرطين، واحتجّوا أيضًا بقوله صلى الله عليه وسلم:"لو لَمْ تكن ربيبتي ما حلّت لي"، وهذا وقع في بعض طرق الحديث كما تقدّم، وفي أكثر طرقه:"لو لم تكن ربيبتي في حجري"، فقيّد بالحجر كما قيّد به القرآن، فقوي اعتباره، والله أعلم. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "لولا الإجماع الحادث" فيه نظر لا
يخفى، إذ دعوى الإجماع غير صحيحة، يَرُدُّها قوله:"وندرة المخالف"، فإنه صريح في أنه لا إجماع في المسألة، فتنبّه، وإلى ما ثبت عن عمر، وعليّ رضي الله عنهما ذهب ابن حزم، وانتصر له، في كتابه "المحلّى"(9/ 527 - 532) فليُراجَع.
لكن الذي أراه أن ما ذهب إليه ابن حزم، وإن كان قويًّا من حيث الدليل، إلا أن ما ذهب إليه الجمهور أولى، احتياطًا، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3587]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا الْأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، أَخْبَرَنَا زُهَيْرٌ، كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ سَوَاءً).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ) أبو محمد الْهَرويّ، ثم الْحَدَثانيّ، ويقال: الأنباريّ، صدوقٌ، إلا أنه عَمِي، فصار يتلقّن، من قدماء [10](240) وله مائة سنة (م ت) تقدم في "المقدمة" 6/ 87.
2 -
(يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ) الْهَمدانيّ، أبو سعيد الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 3 أو 184) وله (93) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 121.
3 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) بن محمد بن بُكير البغداديّ، نزيل الرَّقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.
4 -
(الْأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ) أبو عبد الرحمن الشاميّ، نزيل بغداد، لقبه شاذان، ثقةٌ [9](ت 208)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 56/ 1552.
5 -
(زُهَيْرُ) بن معاوية بن حُدَيج الْجُعفيّ، أبو خيثمة الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 2 أو 3 أو 174)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.
[تنبيه]: رواية يحيى بن زكريّا، وزهير بن معاوية كلاهما عن هشام بن عروة لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3588]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ شِهَابٍ كَتَبَ يَذْكُرُ أَنَّ عُرْوَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ حَدَّثَتْهُ، أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَتْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللهِ، انْكِحْ أُخْتِي عَزَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَتُحِبِّينَ ذَلِكِ؟ " فَقَالَتْ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَرِكَنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"فَإِنَّ ذَلِكِ لَا يَحِلُّ لِي"، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ:"بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ؟ "
(1)
قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي، مَا حَلَّتْ لِي، إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ
(2)
ثُوَيْبَةُ، فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ، وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل باب.
وقوله: (أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ شِهَابٍ كَتَبَ إلخ) هو الزهريّ، يعني أن الزهريّ كتب إلى يزيد بن أبي حبيب عن عروة بهذا الحديث.
وقوله: (دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ) قال القرطبيّ رحمه الله: الصحيح في هذا الاسم بضمّ الدال المهملة، ووقع في بعض الروايات "ذرّة" بفتح الذال المعجمة، وكأنه وهم. انتهى
(3)
.
وقوله: (إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا حجة على أن لبن الفحل يُحرِّم كما تقدّم.
وقوله: (فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ، وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ) بلفظ الجمع، وإن كانتا اثنتين؛ ردعًا وزجرًا أن يعود له أحد بمثل ذلك، ولذلك يَحْسُن من المنكِر على
(1)
وفي نسخة: "قال: بنت أم سلمة".
(2)
وفي نسخة: "وأباها أبا سلمة".
(3)
"المفهم" 4/ 181.
المرأة مثلًا المكلّمة لرجل واحد أن يقول: أتُكلّمين الرجال يا لَكْعَاء؟
(1)
.
والحديث متَّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3589]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أخْبَرَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الزُّهْرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُسْلِمٍ، كِلَاهُمَا عَن الزُّهْرِيِّ، بِإِسْنَادِ ابْنِ أَبِي حَبِيبٍ، نَحْوَ حَدِيثِهِ، وَلَمْ يُسَمِّ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي حَدِيثِهِ عَزَّةَ، غَيْرُ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ).
رجال هذا الحديث: ثمانية:
1 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ) أبو عبد الله المصريّ، ثقةٌ [11](ت 248)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.
2 -
(أَبُوهُ) شعيب بن الليث بن سعد الفهميّ مولاهم، أبو عبد الملك المصريّ، ثقةٌ نبيلٌ فقيهٌ، من كبار [10](ت 199)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.
3 -
(جَدُّهُ) الليث بن سعد بن عبد الرَّحمن الفهميّ مولاهم، أبو الحارث المصريّ الإمام الحجة المجتهد الشهير [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.
4 -
(عُقَيْلُ بْنُ خَالِدِ) الأمويّ مولاهم، أبو خالد الأيليّ، سكن المدينة، ثم الشام، ثم مصر [6](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 88/ 133.
5 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدِ) بن نصر، أبو محمد الكسّيّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
6 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الزُّهْرِيُّ) أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
(1)
"المفهم" 4/ 182.
7 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُسْلِمٍ) بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب المدنيّ ابن أخي الزهريّ الإمام، صدوقٌ له أوهامٌ [6](ت 152) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 352.
و"الزهريّ" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية محمد بن عبد الله بن مسلم، عن الزهريّ ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" 3/ 113 فقال:
وحدّثنا محمد بن يحيى، قثنا
(1)
يعقوب بن إبراهيم بن سعد، قثنا ابن أخي ابن شهاب، عن عمه، قال: أنبأني عروة بن الزبير، أن زينب بنت أبي سلمة أخبرته، أن أم حبيبة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبرتها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله انْكَحْ أختي ابنة أبي سفيان، فقال:"أوَ تحبين ذلكِ؟ " قالت: نعم يا رسول الله، لست لك بمخلية، وأَحَبُّ مَن شَرِكني في خير أختي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فإن ذلك لا يحل لي"، قالت: قلت: يا رسول الله، فإنا نُحَدَّث أنك تريد أن تنكح دُرَّة بنت أبي سلمة، قال:"بنت أبي سلمة؟ " قالت: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري، ما حلت لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأباها ثويبةُ، فلا تَعْرِضْنَ عليّ بناتكنّ، ولا أخواتكنّ". انتهى.
وأما رواية عُقيل، عن الزهريّ، فلم أر من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(5) - (بَابُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ")
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3590]
(1450) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ (ح) وَحَدَّثَنَا سُويدُ بْنُ
(1)
"قثنا" في الموضعين مختصر من "قال: حدّثنا"، فتنبّه.
سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، كِلَاهُمَا عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ سُوَيْدٌ، وَزُهَيْرٌ -: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ، وَالْمَصَّتَانِ").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.
2 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن عُليّة الأسديّ مولاهم، أبو بشر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [8](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) تقدّم قبل باب.
4 -
(سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ) الْحدثانيّ، تقدّم في الباب الماضي.
5 -
(مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ) بن طَرْخان التيميّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187) وقد جاوز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.
6 -
(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السَّخْتيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حجةٌ، من كبار الفقهاء العبّاد [5](ت 131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.
7 -
(ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ) عبد الله بن عُبيد الله بن أبي مُليكة زهير بن عبد الله التيميّ المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 22.
8 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ) بن الْعَوّام القرشيّ الأسديّ، أبو بكر، أو أبو خُبيب الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، قُتل في ذي الحجة سنة (73)(ع) تقدم في "الطهارة" 16/ 610.
9 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت قبل بابين.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة أسانيد فرق بينها بالتحويل.
2 -
(ومنها): رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه: زهير، وسُويد، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، والثاني تفرّد به هو والترمذيّ.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وصحابيّ عن صحابيّة هي خالته.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وقوله: (وَقَالَ سُوَيْدٌ، وَزُهَيْرٌ) أشار به إلى أن شيخيه سُويد، وزُهير خالفا ابن نُمير، فقالا:"إن النبيّ صلى الله عليه وسلم" بدل قوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ومثل هذا الاختلاف، وإن كان لا يضرّ؛ لعدم اختلاف الغرض منه، إلا أنه وقع فيه اختلاف بين العلماء، قال في "التقريب" وشرحه "التدريب": قال الشيخ ابن الصلاح رحمه الله: الظاهر أنه لا يجوز تغيير "قال النبيّ صلى الله عليه وسلم" إلى "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ولا عكسه، وإن جازت الرواية بالمعنى، وكان أحمد بن حنبل رحمه الله إذا كان في الكتاب "عن النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وقال المحدث:"رسول الله" ضَرَبَ، وكَتَبَ "رسول الله"، وعلَّل ابن الصلاح ذلك بقوله: لاختلافه، أي اختلاف معنى النبيّ والرسول؛ لأن الرسول من أُوحي إليه للتبليغ، والنبيّ من أوحي إليه للعمل فقط، قال النوويّ: والصواب - والله أعلم - جوازه؛ لأنه وإن اختلف معناه في الأصل، لا يختلف به هنا معنًى؛ إذ المقصود نسبة القول لقائله، وذلك حاصل بكلّ من اللفظين، قال: وهو مذهب أحمد بن حنبل، كما سأله ابنه صالح عنه، فقال: أرجو أن لا يكون به بأس، وما تقدم عنه محمول على استحباب اتباع اللفظ، دون اللزوم، ومذهب حماد بن سلمة، والخطيب.
وبعضهم استَدَلّ للمنع بحديث البراء بن عازب رضي الله عنهما في الدعاء عند النوم
(1)
، وفيه:"ونبيّك الذي أرسلت"، فأعاده على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"ورسولك الذي أرسلت"، فقال:"لا، ونبيّك الذي أرسلت".
(1)
هو ما أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إذا أتيت مضجعك، فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك؛ رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ، ولا منجا منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإن مِتَّ من ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تتكلم به"، قال: فرددتها على النبيّ صلى الله عليه وسلم"، فلما بلغت: "اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت" قلت: ورسولك، قال: "لا، ونبيّك الذي أرسلت"، انتهى.
قال العراقيّ: ولا دليل فيه؛ لأن ألفاظ الأذكار توفيقية، وربما كان في اللفظ سِرّ لا يحصل بغيره، ولعله أراد أن يجمع بين اللفظين في موضع واحد، قال: والصواب ما قاله النوويّ، وكذا قال البلقينيّ، وقال البدر بن جماعة: لو قيل: يجوز تغيير "النبيّ" إلى "الرسول"، ولا يجوز عكسه لَمَا بَعُد؛ لأن في "الرسول" معنى زائدًا على "النبيّ". انتهى
(1)
.
(قَالَ: "لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ، وَالْمَصَّتَانِ")"المصّة" بفتح الميم، وتشديد الصاد المهملة: المرّة من مَصَّ يَمَصّ، يقال: مَصِصْتُهُ بكسر الصاد، أَمَصُّهُ، من باب تَعِبَ، ومَصَصَتُهُ أَمُصُّهُ، من باب قتل: شَرِيته شُرْبًا رَفيقًا، كامتصصته، أفاده المجد رحمه الله
(2)
.
وفي رواية: "لا تُحَرِّم الإملاجة، والإملاجتان"، وفي رواية: قال: يا نبي الله، هل تُحَرِّم الرضعة الواحدة؟ " قال:"لا"، وفي رواية عائشة الآتية في الباب التالي:"قالت: كان فيما أُنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يُحَرِّمن، ثم نُسِخْن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنّ فيما يُقرأ من القرآن"، أما الإملاجة، فبكسر الهمزة، والجيم المخففة، وهي الْمَصَّة، يقال: مَلَجَ الصبيُّ أمه، وأملجته
(3)
.
وقد أخذ بهذا الحديث داود الظاهريّ رحمه الله، فقال: أقل ما يُحرِّم ثلاث رضعات، ولا تحرّم الرضعة، ولا الرضعتان، وهو تمسّك بدليل الخطاب، وذهب الشافعيّ رحمه الله إلى أن أقل ما يقع به التحريم خمس رضعات، أخذًا بحديث عائشة رضي الله عنها الآتي في الباب التالي، وذهب الجمهور إلى أن الرضعة الواحدة تُحرّم؛ تمسّكًا بظاهر قوله تعالى:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} الآية [النساء: 23]، وسيأتي تحقيق الخلاف، مع تخريج ما ذهب إليه الشافعيّ في الباب التالي - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"التقريب مع شرحه التدريب" 2/ 121 - 122.
(2)
راجع: "القاموس المحيط" 2/ 318.
(3)
"شرح النوويّ" 10/ 27 - 28.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: هذا الحديث رواه عبد الله بن الزبير، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم
(1)
، كما رواه هنا عن عائشة رضي الله عنها، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال البغويّ رحمه الله في "شرح السنّة" - بعد إخراجه من حديث عبد الله بن الزبير، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ما نصّه: هكذا روى بعضهم هذا الحديث، ورواه عبد الله بن أبي مليكة، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو الصحيح. انتهى
(2)
.
وقال ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" 10/ 41: قال أبو حاتم: لستُ أنكر أن يكون ابن الزبير سَمِع هذا الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فمرة أدى ما سمع، وأخرى روى عنها، وهذا شيء مستفيض في الصحابة، قد يسمع أحدهم الشيء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم يسمعه بعدُ عمّن هو أجلّ عنده خَطَرًا، وأعظم لديه قدرًا، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فمرةً يؤدي ما سمع، وتارة يروي عن ذلك الأجلّ، ولا تكون روايته عمن فوقه لذلك الشيء بدالٍّ على بطلان سماع ذلك الشيء، وهذا كخبر ابن عمر في سؤال جبريل في الإيمان، والإسلام، سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم سمعه من أبيه، فأدَّى مرةً ما شاهد، وأخرى عن عُمر ما سمعه منه؛ لِعِظَم قدره عنده. انتهى.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 3590](1450)، و (أبو داود) في "النكاح"(2063)، و (الترمذيّ) في "الرضاع"(1150)، و (النسائيّ) في "النكاح" (6/
(1)
ورواه ابن حبّان وغيره من طريق محمد بن دينار الطاحيّ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، عن الزبير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُحَرِّم المصة، ولا المصتان، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان".
فإدخال الزبير في السند مما تفرّد به الطاحيّ، ولم يتابعه عليه أحد، قال الترمذيّ رحمه الله وروى محمد بن دينار، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن الزبير، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو غير محفوظ، والصحيح عند أهل الحديث حديث ابن أبي مُليكة، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى.
(2)
"شرح السنة" 9/ 81.
101) و"الكبرى"(3/ 298 و 299)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1941)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 31 و 95 - 96 و 216 و 247)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 156)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4228)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 116)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 123)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 77)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 184)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(1/ 277)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 173)، و (الضياء) في "المختارة"(9/ 237)، و (الدارقطنيّ) في "سننه" 4/ 172)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 454 - 455) و"المعرفة"(6/ 87). وبقيّة مباحث الحديث تأتي في الباب التالي - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3591]
(1451) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، كُلُّهُمْ عَنْ الْمُعْتَمِرِ، وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى، أَخْبَرَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَيُّوبَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ، قَالَتْ: دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ فِي بَيْتِي، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنِّي كَانَتْ لِي امْرَأَةٌ، فَتَزَوَّجْتُ عَلَيْهَا أُخْرَى، فَزَعَمَت امْرَأَتِي الْأُولَى أَنَّهَا أَرْضَعَتْ امْرَأَتِي الْحُدْثَى رَضْعَةً، أَوْ رَضْعَتَيْنِ، فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا تُحَرِّمُ الْإِمْلَاجَةُ، وَالْإِمْلَاجَتَانِ"
(1)
. قَالَ عَمْرُو فِي رِوَايَتِهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم قبل بابين.
2 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل باب.
(1)
وفي نسخة: "ولا الإملاجتان".
4 -
(أَبُو الْخَلِيلِ) صالح بن أبي مريم الضُّبَعيّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [6].
رَوَى عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، ومجاهد، وأبي علقمة الهاشميّ، وإياس بن حرملة، وقيل: حرملة بن إياس، ومسلم بن يسار، وغيرهم، وأرسل عن أبي قتادة، وأبي موسى، وأبي سعيد، وسفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى عنه عطاء بن أبي رباح، وهو أكبر منه، ومجاهد، وهو من شيوخه، وقتادة، وعثمان الْبَتِّيّ، وأبو الزبير، ومنصور بن المعتمر، وأيوب السَّختيانيّ، وعبد الله بن شُبْرمة، وغيرهم.
قال ابن معين، وأبو داود، والنسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وأغرب ابن عبد البرّ في "التمهيد"، فقال: لا يُحتجّ به.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط برقم (1451) وكرّره خمس مرّات، و (1456) وأعاده بعده، و (1532)، و (1547)، و (2811).
5 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ الْحَارِثِ) بن نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب الهاشميّ، أبو محمد المدنيّ، أمير البصرة، له رؤية، ولأبيه وجدّه صحبة، ثقةٌ [2] (ت 99) وقيل:(84)(ع) تقدم في "الإيمان" 56/ 516.
6 -
(أُمُّ الْفَضْلِ) لبابة بنت الحارث بن حَزْن الهلاليّة، زوج العبّاس بن عبد المطّلب، وأخت ميمونة، أم المؤمنين، ماتت بعد العبّاس في خلافة عثمان رضي الله عنهم (ع) تقدم في "الصلاة" 36/ 1038.
والباقيان ذُكرا قبله، و"أيوب" هو: السختيانيّ.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتحاد كيفيّة الأخذ والأداء منه ومنهم، كما مرّ بيانه غير مرّة.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيوخه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيوخه، وأم الفضل.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض.
شرح الحديث:
(عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ) لبابة بنت الحارث رضي الله عنها، أنها (قَالَتْ: دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ) بفتح الهمزة واحد الأعراب، وهو من يسكن البادية من العرب، قال الفيّوميّ رحمه الله: وأما الأعراب بالفتح، فاهل البدو من العرب، الواحد أَعْرابيّ بالفتح أيضًا، وهو الذي يكون صاحب نُجْعَة، وارتياد للكلإ، وزاد الأزهريّ، فقال: سواءٌ كان من العرب، أو من مواليهم، فمن نزل البادية، وجاور البادين، وظَعَن بظَعْنهم، فهم أعراب، ومن نزل بلاد الرِّيف، واستوطن الْمُدُن، والقرى العربية، وغيرها ممن ينتمي إلى العرب، فهم عَرَبٌ، وإن لم يكونوا فُصَحاء، ويقال: سُمُّوا عَرَبًا؛ لأن البلاد التي سكنوها تُسَمَّى الْعَرَبات، ويقال: العرب العاربة هم الذين تكلموا بلسان يَعْرُب بن قَحْطان، وهو اللسان القديم، والعرب المستعْرِبة هم الذين تكلموا بلسان إسماعيل بن إبراهيم - عليهما الصلاة والسلام - وهي لغات الحجاز، وما والاها. انتهى
(1)
.
وقال صاحب "التنبيه" لا أعرف هذا الأعرابيّ، ولا امرأتيه، غير أن في "صحيح مسلم" بعد هذا - يعني الرواية التالية - ما يُرشد إلى أنه من بني عامر بن صعصعة. انتهى
(2)
.
(عَلَى نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم) متعلّق بـ "دَخَلَ"(وَهُوَ فِي بَيْتِي) جملة في محلّ نصب على الحال (فَقَالَ) ذلك الأعرابيّ (يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنِّي كَانَتْ لِي امْرَأَةٌ، فَتَزَوَّجْتُ عَلَيْهَا) امرأةً (أُخْرَى، فَزَعَمَت امْرَأَتِي الْأُولَى أَنَّهَا أَرْضَعَت امْرَأَتِي الْحُدْثَى) بضمّ الحاء، وسكون الدال المهملتين، مقصورًا: تأنيث الأحدث، أي: الجديدة (رَضْعَةً) المرة الواحدة من الرضاع، من رضع الصبيّ، من باب تَعِبَ، وضَرَبَ، ومَنَع، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى في أول "كتاب الرَّضَاع". (أَوْ رَضْعَتَيْنِ، فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُحَرِّمُ الْإِمْلَاجَةُ، وَالْإِمْلَاجَتَانِ") وفي نسخة: "ولا الإملاجتان"، وهو بكسر الهمزة، وهي الْمَصّة، قال ابن الأثير رحمه الله: الْمَلْج: الْمَصّ، والْمَلح - بفتح الميم، وكسرها، وبالحاء المهملة -: الرَّضْع،
(1)
"المصباح المنير" 2/ 400.
(2)
راجع: "تنبيه المعلم" ص 244 - 245.
يقال: مَلَج الصبيّ أمه يَمْلُجُها، ومَلِجَها يَمْلَجُها: إذا رضعها، والْمَلْجة: المرّة، والإملاجة: المرّة أيضًا، من أملجتْه أمه: أي أرضعته، يعني أن المصّة والمصّتين لا يُحرّمان في يُحرّمه الرضاع الكامل. انتهى كلام ابن الأثير ببعض تصرّف
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: مَلَجَ الصبيّ أمّه مَلْجًا، من باب قتل، ومَلِجَ يَمْلَجُ، من باب تَعِبَ لغةٌ: رَضَعها، ويتعدّى بالهمزة، فيقال: أملجَتْهُ أمه، والمرة من الثلاثيّ: مَلْجَةٌ، ومن الرباعيّ إملاجةٌ، مثلُ الإكرامة، والإخراجة، ونحوه. انتهى
(2)
.
وقوله: (قَالَ عَمْرٌو) يعني الناقد شيخه الثاني (فِي رِوَايَتِهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ) يعني أنه زاد ذكر اسم جدّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أم الفضل رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 3591 و 3592 و 3593 و 3594 و 3595 و 3596](1451)، و (النسائيّ) في "النكاح"(6/ 100) و"الكبرى"(3/ 299)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1940)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 339 و 340)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(5/ 49)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 157)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4229)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 116 و 117 و 118)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 124)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(4/ 180)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(12/ 498)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 455) و"الصغرى"(6/ 509) و"المعرفة"(6/ 87)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
راجع: "النهاية" 4/ 353 - 354.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 577 - 578.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3592]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، حَدَّثَنَا مُعَاذٌ (ع) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْن هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، هَلْ تُحَرِّمُ الرَّضْعَة الْوَاحِدَةُ؟ قَالَ:"لَا").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ) مالك بن عبد الواحد البصريّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م د) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.
2 -
(ابْنُ الْمُثَنَّى) هو: محمد، أبو موسى العنَزي، المعروف بالزَّمِن البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
3 -
(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد المعروف ببندار، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
4 -
(مُعَاذُ بْن هِشَامٍ) الدستوائيّ البصريّ، صدوقٌ ربّما وهِمَ [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
5 -
(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
6 -
(قَتَادَةُ) بن دِعامة، تقدّم قبل باب.
والباقون ذُكروا قبله، و"معاذ" في السند الأول، هو معاذ بن هشام في الثاني.
وقوله: (أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ) يَحْتَمِل أن يكون هو الأعرابيّ المذكور قبله، ويَحْتَمل أن يكون غيره، والله تعالى أعلم.
وقوله: (هَلْ تُحَرِّمُ الرَّضْعَة الْوَاحِدَةُ)"الرَّضْعة" تقدّم أنها المرة من الرَّضاع، والرِّضاع، والرِّضاعة بكسر الراء فيهما، وفتحها، يقال: رضع الصبيّ بفتح الضاد، وكسرها، لغتان، ورَضُعَ بضمّ الضاد: إذا كان لئيمًا، فهو راضع، وجمعه رُضَّعٌ، ومنه قول سلمة بن الأكوع رضي الله عنه:
خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الأَكْوَعِ
…
وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ
جمع راضع، كشاهد وشُهَّدٍ: أي خذ الرمية مني، واليوم يوم هلاك اللئام
(1)
.
والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى البحث فيه مستوفًى في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3593]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْن أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْن بِشْرٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْن أَبِي عَرْوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ حَدَّثَتْ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تحَرِّمُ الرَّضْعَةُ، أَوْ الرَّضْعَتَانِ، أَو الْمَصَّةُ، أَو الْمَصَّتَانِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْن أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرِ) بن الْفَرَافصة الْعبديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.
3 -
(سَعِيدُ بْن أَبِي عَرْوبَةَ) مِهْران، تقدّم قبل باب.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3594]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْن أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْن إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَنْ عَبْدَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَن ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، أَمَّا إِسْحَاقُ فَقَالَ كَرِوَايَةِ ابْنِ بِشْرٍ: "أَو الرَّضْعَتَانِ، أَو الْمَصَّتَانِ"، وَأَمَّا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، فَقَالَ: "وَالرَّضْعَتَانِ، وَالْمَصَّتَانِ").
(1)
راجع: "المفهم" 4/ 183، و"النهاية" 2/ 230.
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الكلابيّ، يقال: اسمه عبد الرحمن، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [8](ت 187) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 339.
والباقون ذكروا قبله.
[تنبيه]: رواية إسحاق، وهو ابن راهويه، عن عبدة بن سليمان، عن سعيد بن أبي عروبة، ساقها ابن راهويه في "مسنده" 5/ 48 فقال:
(2151)
- أخبرنا عبدة بن سليمان، نا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن صالح أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث، عن أم الفضل، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تُحَرِّم الرَّضْعة، أو الرضعتان، أو المصة، أو المصتان". انتهى.
ورواية أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبدة بن سليمان، عن سعيد بن أبي عروبة ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه" 3/ 547 فقال:
(17022)
- حدَّثنا عَبْدة، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث، عن أم الفضل، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُحَرِّم الرضعة، والرضعتان، والمصة، والمصتان". انتهي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3595]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْن السَّرِيِّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوفَلٍ، عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تُحَرِّمُ الْإِمْلَاجَةُ، وَالْإِمْلَاجَتَانِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، تقدَّم قريبًا.
2 -
(بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ) أبو عمرو الأفوه البصريّ، سكن مكة، ثقةٌ متقنٌ واعظٌ، طُعن فيه برأي جهم، ثم اعتذر، وتاب [9](ت 5 أو 196)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
3 -
(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقةٌ عابد، أثبت الناس في ثابت، وتغيّر بآخره، من كبار [8](ت 167)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث من أفراد المصنّف، وقد تقدم البحث فيه قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3596]
(. . .) - (حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا حَبَّانُ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ، سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَتُحَرِّمُ الْمَصَّةُ؟ فَقَالَ: "لَا").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ) أبو جعفر السَّرَخْسيّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 253)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 93.
2 -
(حَبَّانُ) - بفتح الحاء المهملة، وتشديد الموحّدة - ابن هلال، أبو حبيب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 216)(ع) تقدم في "الإيمان" 55/ 322.
3 -
(هَمَّامُ) بن يحيى الْعَوْذيّ، تقدّم قبل باب.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث من أفراد المصنّف، وقد تقدم البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(6) - (بَابُ التَّحْرِيمِ بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3597]
(1452) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنْ
الْقُرْآنِ: "عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ، يُحَرِّمْنَ"، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وقد تقدّم نفسه قريبًا أول "كتاب الرضاع"، فـ "يحيى بن يحيى" هو: التميميّ، و"مالك" هو: إمام دار الهجرة، وعبد الله بن أبي بكر، هو: ابن عمرو بن حزم الأنصاريّ، و"عمرة" هي: بنت عبد الرحمن الأنصاريّة.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها، أنها (قَالَتْ: كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ) بالبناء للمجهول، أي فيما أنزل الله من القرآن (عَشْرُ رَضَعَات) مبتدأ خبره جملة "يُحرّمن"، وقوله:(مَعْلُومَاتٍ) بالجرّ صفة و"رَضَعات"، واحترز به عما يُتوهّم، أو يُشكّ في وصوله إلى الجوف من الرضعات، وفيه أن الرضعات إذا كانت غير معلومات لم تحرّم (يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ) أي هؤلاء الكلمات (بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ) المعنى: التحريم المتعلّق بالرضاع كان شرطه أن يكون الرضيع رضع من المرأة عشر رضعات معلومات، ثم نُسخ ذلك بأنه إذا رضع منها خمس رضعات معلومات ثبت التحريم بينهما (فَتُوُفِّيَ) بالبناء للمجهول (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُنَّ فِيما يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ) ببناء الفعل للمفعول، والجملة في محلّ نصب على الحال، أي مات صلى الله عليه وسلم، والحال أن "خمس رضعات معلومات" يُحرّمن من جملة ما يُقرأ من القرآن.
قال الطيبيّ رحمه الله: قول عائشة رضي الله عنها هذا مؤوّلٌ بأنه كان يقرؤه من لم يبلغه النسخ حتى بلغه، فترك؛ لأن القرآن محفوظ من الزيادة والنقصان، وهذا من جملة ما نُسخ لفظه، ومعناه باقٍ.
وقال التوربشتيّ رحمه الله: يُحمَل هذا على أن بعض من لم يبلغه النسخ كان يقرؤه على الرسم الأول؛ لأن النسخ لا يكون إلا في زمان الوحي، كيف يكون النسخ بعد موت النبيّ صلى الله عليه وسلم؟، ولا يجوز أن يقال: إن تلاوتها قد كانت باقيةً، فتركوها، فإن الله تعالى رفع قدر هذا الكتاب المبارك عن الاختلال والنقصان، وتولَّى حفظه، وضَمِنَ بصيانته، فقال عزّ من قائل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]، فلا يجوز على كتاب الله أن تضيع منه آية، ولا أن يُخرَم حرف كان يُتلى في زمان الرسالة، إلا ما نُسخ منه. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: وقولها: "فتُوُفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنّ فيما يُقرأ" بضمّ الياء من يَقرأ، ومعناه: أن النسخ بخمس رضعات تأخّر إنزاله جدًّا حتّى إنه صلى الله عليه وسلم تُوُفّي، وبعض الناس يقرأ خمس رضعات، ويجعلها قرآنًا متلوًّا؛ لكونه لم يبلغه النسخ؛ لقرب عهده، فلما بلغهم النسخ بعد ذلك رجعوا عن ذلك، وأجمعوا على أن هذا لا يُتلى.
والنسخ ثلاثة أنواع:
[أحدها]: ما نُسخ حكمه، وتلاوته، كعشر رضعات.
[والثاني]: ما نُسخت تلاوته، دون حكمه، كخمس رضعات، وكـ "الشيخ والشيخة إذا زنيا، فارجموهما".
[والثالث]: ما نُسخ حكمه، وبقيت تلاوته، وهذا هو الأكثر، ومنه قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} الآية [البقرة: 240]، والله أعلم. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحاصل أن كُلًّا من العشر، والخمس منسوخٌ، لكن الأول نسخ تلاوةً وحكمًا، بخلاف الثاني، فإنه نسخ تلاوةً فقط، دون حكمه، فيجب العمل به، فلا يُحرّم من الرضاع أقلّ من خمس رضعات، وهذا هو الراجح. وسيأتي تحقيق الخلاف فيه في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 3597 و 3598 و 3599](1452)، و (أبو
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 7/ 2296.
داود) في "النكاح"(2062)، و (الترمذيّ) في "الرضاع"(1150)، و (النسائيّ) في "النكاح"(6/ 100) و"الكبرى"(3/ 198)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1942)، و (مالك) في "الموطّإ"(1293)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 21)، و (الدارميّ) في "سننه"(2253)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4221)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 119)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 125)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 173)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(4/ 181)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 454) و"الصغرى"(6/ 502) و"المعرفة"(6/ 85)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2283)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان القدر الذي يحرّم من الرضاعة، وهو خمس رضعات معلومات، وفيه اختلاف بين العلماء، كما سيأتي تحقيقه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.
2 -
(ومنها): أن فيه جواز النسخ، ووقوعه، وأنه ثلاثة أقسام: ما نُسخ تلاوة وحكمًا، وما نُسخ حكمًا فقط، وما نُسخ تلاوةً فقط، كما سبق بيان أمثلته آنفًا.
3 -
(ومنها): أن فيه بيان تفاوت الصحابة رضي الله عنهم في معرفة النصوص، فهؤلاء الذين كانوا يقرءون هذه الآية المنسوخة إلى ما بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم سببه عدم بلوغ النصّ الناسخ، وهكذا سائر الأئمة، يتفاوتون في بلوغ النصوص إليهم، وفي فهم المراد منها، فيخالفونها، فلا ينبغي لمن يقلّدهم أن يتجمّد على رأيهم، بعد بلوغ النصوص التي تخالف رأيهم؛ فإنه لا عذر له، وقد بلغته، بخلافهم، فإنهم معذورون بعدم بلوغها إليهم، فتبصّر، فإن هذا أخطر ما وقع فيه بعض المتأخّرين، اللهمّ اهدنا فيمن هديت، آمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في مقدار ما يُحرّم من الرضاعة:
قال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: اختلف السلف والخلف في مقدار ما يحرّم من الرضاع:
فقال مالك، وأبو حنيفة، وأصحابه، والثوريّ، والأوزاعيّ، والليث، والطبريّ: قليل الرضاع، وكثيره يُحرّم، ولو مصّةً واحدةً، إذا وصلت إلى حلقه، وجوفه.
وهو قول عليّ، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عبّاس، وسعيد بن المسيّب، والحسن، ومجاهد، وعروة، وطاوس، وعطاء، ومكحول، والزهريّ، وقتادة، والحكم، وحمّاد.
وقال الليث بن سعد: أجمع المسلمون في أن قليل الرضاع، وكثيره يُحرّم في المهد ما أفطر الصائم.
قال أبو عمر: لم يقف الليث على خلاف في ذلك.
وعند مالك في هذا الباب: عن إبراهيم بن عقبة؛ أنه سأل سعيد بن المسيّب، عن الرضاعة؟ فقال سعيد: كلّ ما كان في الحولين، وإن كانت قطرة واحدةً، فهو يحرّم، وما كان بعد الحولين، فإنما هو طعام يأكله.
قال إبراهيم بن عقبة: ثم سألت عروة بن الزبير؟ فقال مثل ما قال سعيد بن المسيّب. وعن يحيى بن سعيد أنه قال: سمعت سعيد بن المسيّب يقول: لا رضاعة إلا ما كان في المهد، إلا ما أنبت اللحم والدم.
وعن ابن شهاب أنه كان يقول: الرضاعة قليلها وكثيرها تُحرّم، والرضاعة من قِبَل الرجال تُحرّم.
قال أبو عمر: الحجّة في هذا ظاهر قول الله عز وجل: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]، ولم يخصّ قليل الرضاعة من كثيرها.
وقد روى ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر أنه قيل له: قضى ابن الزبير بألا تُحرّم المصّة، ولا المصّتان، فقال: قضاء الله خير من قضاء ابن الزبير، حرّم الأختَ من الرضاعة.
وقالت طائفة منهم: عبد الله بن الزبير، وأمّ الفضل، وعائشة على اختلاف عنها: لا تحرّم المصّة، ولا المصّتان، ولا الرضعة، ولا الرضعتان، ولا الإملاجة، ولا الإملاجتان.
وبه قال سليمان بن يسار، وسعيد بن المسيّب، وإليه ذهب أحمد،
وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عُبيد، ورووا في ذلك حديثًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا تحرّم الإملاجة، ولا الإملاجتان"، ومنهم من يرويه:"الرضعة، والرضعتان"، قالوا: فما زاد على ذلك حرَّم، وذهبوا إلى أن الثلاث رضعات، فما فوقها تُحرّم، ولا تحرّم ما دونها.
وذهب الشافعيّ إلى أنه لا يحرّم من الرضاع إلا خمس رضعات متفرّقات، واحتجّ بقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تحرّم الرضاعة، ولا الرضعتان، ولا المصّة، ولا المصّتان"، ومما رواه أبو بكر، قال: حدّثنا أبو خالد الأحمر، عن حجّاج، عن أبي الزبير، قال: سألت ابن الزبير، عن الرضاع؟ فقال: لا تُحرّم الرضعة، ولا الرضعتان، ولا الثلاث، قال أصحابه: وابن الزبير، رَوَى هذا الحديثَ، وفَهِمَ منه أنه لا تُحرّم الثلاث أيضًا، وأفتى به، وذكروا عن ابن مسعود، وأبي موسى، وسليمان بن يسار، وغيرهم أنهم قالوا: إنما يُحرّم من الرضاع ما أنبت اللحم والدم، وأنشز العظم، وفتق الأمعاء، وعن أبي هريرة رضي الله عنه:"لا يُحرّم من الرضاعة إلا ما فتَقَ الأمعاء".
واحتجّ الشافعيّ بحديث عائشة رضي الله عنها المذكور في الباب: "كان فيما أُنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يُحرّمن، ثم نُسخن. . ." الحديث.
فكان في هذا الحديث بيان ما يُحرّم من الرضعات، وكان مفسِّرًا لقوله:"لا تحرّم الرضعة، والرضعتان"، فدلّ على أن قوله:"لا تحرّم المصّة، ولا المصّتان، ولا الرضعة، ولا الرضعتان" خرج على جواب سائل سأله عن الرضعة، والرضعتين، هل تُحرّمان؟ فقال: لا، لأن من سنّته وشريعته أنه لا يُحرّم إلا خمس رضعات، وأنها نَسَخت العشر الرضعات، كما لو سأل سائلٌ: هل يُقطع السارق في درهم، أو درهمين؟، كان الجواب لا يقطع في درهم، ولا درهمين؛ لأنه قد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يقطع إلا في ربع دينار، فكذلك بيانه في الخمس الرضعات.
[فإن قيل]: لو كانت ناسخةً للعشر رضعات عند عائشة كما روت عنها عمرة، ما كانت عائشة لتأمر أختها أم كلثوم أن تُرضع سالم بن عبد الله عشر رضعات؛ ليدخل عليها، فتستعمل المنسوخ، وتدع الناسخ، وكذلك حفصة أمرت أختها فاطمة بمثل ذلك في عاصم.
[والجواب]: أن أصحاب عائشة الذين هم أعلم بها من نافع، وهم: عروة، والقاسم، وعمرة رووا عنها خمس رضعات، ولم يَرو أحدٌ منهم عشر رضعات، وقد رُوي عنها سبع رضعات، وقد روي عنها عشر رضعات، والصحيح عنها خمس رضعات، ومن روى أكثر من خمس رضعات، فقد وَهِم؛ لأنه قد صحّ عنها أن الخمس الرضعات المعلومات نَسخن العشر المعلومات، فمحالٌ أن تقول بالمنسوخ، وهذا لا يصحّ عنها عند ذي فهم. وفي حديثها المسند أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر سهلة بنت سُهيل امرأة أبي حذيفة أن تُرضع سالمًا مولى أبي حذيفة خمس رضعات، قال عروة: فأخذت بذلك عائشة، فكيف يَقبَل أحدٌ عنها أنها أفتت بعد موت النبيّ صلى الله عليه وسلم بعشر رضعات؟ هذا لا يقبله من أنصف نفسه، ووُفِّق لرشده، ولو صحَّ عنها حديث نافع، عن سالم في العشر كان غيره معارضًا له بالخمس. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله بعد ذكر الاختلافات نحو ما تقدّم -: فأما الشافعيّ وموافقوه، فأخذوا بحديث عائشة رضي الله عنها:"خمس رضعات معلومات"، وأخذ مالك بقوله تعالى:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} ، ولم يذكر عددًا، وأخذ داود بمفهوم حديث:"لا تُحَرِّم المصّة، والمصّتان"، وقال: هو مبيّن للقرآن.
واعتَرَض أصحاب الشافعيِّ على المالكية، فقالوا: إنما كانت تحصل الدلالة لكم لو كانت الآية: واللاتي أرضعنكم أمهاتكم.
واعتَرَض أصحاب مالك على الشافعية، بأن حديث عائشة رضي الله عنها هذا لا يُحْتَجّ به عندكم، وعند محققي الأصوليين؛ لأن القرآن لا يثبت بخبر الواحد، وإذا لم يثبت قرآنًا لَمْ يثبت بخبر الواحد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن خبر الواحد إذا توجه إليه قادح، يوقف عن العمل به، وهذا إذا لم يجئ إلا بآحاد، مع أن العادة مجيئه متواترًا توجب ريبة، والله أعلم.
واعتَرَضت الشافعية على المالكية بحديث المصّة والمصّتان، وأجابوا عنه بأجوبة باطلة، لا ينبغي ذكرها، لكن ننبّه عليها خوفًا من الاغترار بها.
(1)
"الاستذكار" 18/ 259 - 267.
منها: أن بعضهم ادَّعَى أنها منسوخة، وهذا باطل، لا يثبت بمجرد الدعوى.
ومنها: أن بعضهم زعم أنه موقوف على عائشة رضي الله عنها، وهذا خطأٌ فاحشٌ، بل قد ذكره مسلم وغيره من طُرُق صحاح مرفوعًا، من رواية عائشة، ومن رواية أم الفضل.
ومنها: أن بعضهم زعم أنه مضطرب، وهذا غلطٌ ظاهرٌ، وجَسَارة على رَدّ السنن بمجرد الهوى، وتوهين صحيحها؛ لنصرة المذاهب.
وقد جاء في اشتراط العدد أحاديث كثيرة مشهورة، والصواب اشتراطه.
قال القاضي عياض: وقد شَذَّ بعض الناس، فقال: لا يثبت الرضاع إلا بعشر رضعات، وهذا باطل مردود، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال العلّامة ابن القيّم رحمه الله: قال أصحاب الخمس: الحجة لنا حديث عائشة رضي الله عنها، وقد أخبرت هي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفّي، والأمر على ذلك، قالوا: ويكفي في هذا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لسهلة بنت سهيل: "أرضعي سالمًا خمس رضعات، تحرمي عليه"، قالوا: وعائشة أعلم الأمة بحكم هذه المسألة هي، ونساء النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكانت عائشة رضي الله عنها إذا أرادت أن يدخل عليها أحدٌ أمرت إحدى بنات إخوتها، أو أخواتها، فأرضعته خمس رضعات، قالوا: ونفي التحريم بالرضعة، والرضعتين صريحٌ في عدم تعليق التحريم بقليل الرضاع وكثيره، وهي ثلاثة أحاديث صحيحة صريحة، بعضها خرج جوابًا للسائل، وبعضها تأسيسُ حكمٍ مبتدأ. قالوا: وإذا علّقنا التحريم بالخمس، لم نكن قد خالفنا شيئًا من النصوص التي استدللتم بها، وإنما نكون قد قيّدنا مطلقها بالخمس، وتقييد المطلق بيان، لا نسخٌ، ولا تخصيص.
وأما من علّق التحريم بالقليل والكثير، فإنه يُخالف أحاديث نفي التحريم بالرضعة والرضعتين، وأما صاحب الثلاث، فإنه وإن لَمْ يُخالفها، فهو مخالف لأحاديث الخمس.
قال من لم يُقيّده بالخمس: حديث الخمس لم تنقله عائشة لنقل الأخبار،
(1)
"شرح النوويّ" 10/ 29 - 30.
فيحتجَّ به، وإنما نقلته نقل القرآن، والقرآن إنما يَثبُت بالتواتر، والأمة لم تنقل ذلك قرآنًا، فلا يكون قرآنًا، وإذا لم يكن قرآنًا، ولا خبرًا امتنع إثبات الحكم به.
قال أصحاب الخمس: الكلام فيما نقل من القرآن آحادًا في فصلين:
[أحدهما]: كونه من القرآن.
[والثاني]: وجوب العمل به، ولا ريب أنهما حكمان متغايران، فإن الأول يوجب انعقاد الصلاة به، وتحريم مسّه على المُحْدِث، وقراءته على الجُنب، وغير ذلك من أحكام القرآن، فإذا انتفت هذه الأحكام لعدم التواتر، لم يلزم انتفاء العمل به، فإنه يكفي فيه الظنّ، وقد احتجّ كلّ واحد من الأئمة الأربعة به في موضع، فاحتجّ به الشافعيّ، وأحمد في هذا الموضع، واحتجّ به أبو حنيفة في وجوب التتابع في صيام الكفّارة بقراءة ابن مسعود:"فصيام ثلاثة أيّام متتابعات"، واحتجّ به مالك، والصحابة قبله في فرض الواحد من ولد الأمّ أنه السدس بقراءة أُبَيّ:"وإن كان رجلٌ يُورث كلالة، أو امرأة، وله أخ، أو أخت من أمّ، فلكلّ واحد منهما السدس"، فالناس كلهم احتجّوا بهذه القراءة، ولا مستند للإجماع سواها.
قالوا: وأما قولكم: إما أن يكون نقله قرآنًا، أو خبرًا، قلنا: بل قرآنًا صريحًا. قولكم: فكان يجب نقله متواترًا، قلنا: حتى إذا نسخ لفظه، أو بقي، أما الأول، فممنوع، والثاني مسلَّم، وغاية ما في الأمر أنه قرآن نُسخ لفظه، وبقي حكمه، فيكون له حكم قوله:"الشيخ والشيخة إذا زنيا، فارجموهما" مما اكتُفِي بنقله آحادًا، وحكنمه ثابت، وهذا مما لا جواب عنه.
وفي المسألة مذهبان آخران ضعيفان:
[أحدهما]: أن التحريم لا يثبت بأقلّ من سبع، كما سئل طاوس عن قول من يقول: لا يحرم من الرضاع، دون سبع رضعات، فقال: قد كان ذلك، ثم حَدَث بعد ذلك أمر جاء بالتحريم، المرّةُ الواحدة تحرّم، وهذا المذهب لا دليل عليه.
[الثاني]: التحريم إنما يثبت بعشر رضعات، وهذا يُروى عن حفصة، وعائشة رضي الله عنهما.
وفيها مذهب آخر، وهو الفرق بين أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وغيرهنّ. قال طاوس: كان لأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم رضعات محرّمات، ولسائر الناس رضعات معلومات، ثم تُرك ذلك بعد.
وقد تبيّن الصحيح من هذه الأقوال، وبالله التوفيق. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله
(1)
.
وقال الشوكانيّ رحمه الله: أجاب القائلون بتحريم قليل الرضاع وكثيره عن الأحاديث التي استدلّ بها القائلون بخمس رضعات بأجوبة:
[منها]: أنها متضمّنة لكون الخمس الرضعات قرآنًا، والقرآن شرطه التواتر، ولم يتواتر محلّ النزاع.
وأجيب بأن كون التواتر شرطًا ممنوعٌ، والسند ما أسلفنا عن أئمّة القراءات، كالجزريّ وغيره في "باب الحجّة في الصلاة بقراءة ابن مسعود، وأُبيّ" من أبواب الصلاة، فإنه نقل هو وجماعة من أئمة القراءات الإجماع على ما يُخالف هذه الدعوى، ولم يُعارضه نقله ما يصلح لمعارضته، كما بيّنّا ذلك هناك.
وأيضًا اشتراط التواتر فيما نُسخ لفظه على رأي المشترطين ممنوعٌ.
وأيضًا انتفاء قرآنيّته لا يستلزم انتفاء حجّيّته على فرض شرطيّة التواتر؛ لأن الحجّة ثبتت بالظنّ، ويجب عنده العمل، وقد عَمِلَ الأئمة بقراءة الآحاد في مسائل كثيرة، منها: قراءة ابن مسعود: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات"، وقراءة أُبيّ:"وله أخٌ أو أختٌ من أمّ"، ووقع الإجماع على ذلك، ولا مستند له غيرها.
وأجابوا أيضًا بأن ذلك لو كان قرآنًا لحُفِظ؛ لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9].
وأجيب بأن كونه غير محفوظ ممنوعٌ، بل قد حفظه الله برواية عائشة له.
وأيضًا المعتبر حفظ الحكم، ولو سُلّم انتفاء قرآنيّته على جميع التقادير لكان سنّة؛ لكون الصحابيّ راويًا له عنه صلى الله عليه وسلم؛ لوصفه له بالقرآنيّة، وهو يستلزم
(1)
"زاد المعاد" 5/ 572 - 584.
صدوره عن لسانه، وذلك كاف في الحجيّة؛ لِمَا تقرّر في الأصول من أن المرويّ آحادًا إذا انتفى عنه وصف القرآنيّة لم ينتف وجوب العمل به، كما سلف.
واحتجّوا أيضًا بقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23]، وإطلاق الرضاع يُشعر بأنه يقع بالقليل والكثير، ومثلُ ذلك حديثُ:"يحرم من الرضاع ما يحرُم من النسب".
ويُجاب بأنه مطلقٌ مقيّد بما سلف.
واحتجّوا بما ثبت في "الصحيحين" عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه أنه تزوّج أم يحيى بنت أبي إهاب، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يستفصله عن الكيفيّة، ولا سأل عن العدد حين أمره بفراقها.
ويُجاب أيضًا بأن أحاديث الباب اشتملت على زيادة على ذلك المطلق المشعور به من ترك الاستفصال، فيتعيّن الأخذ بها، على أنه يمكن أن يكون ترك الاستفصال لسبق البيان منه صلى الله عليه وسلم للقدر الذي يثبت به التحريم.
[فإن قلت]: حديث: "لا يُحرّم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء" يدلّ على عدم اعتبار الخمس؛ لأن الفتق يحصل بدونها.
[قلت]: أجيب عن ذلك بأن الحديث منقطع؛ لأنه من رواية فاطمة بنت المنذر، عن أم سلمة، ولم تسمع منها شيئًا.
فالظاهر ما ذهب إليه القائلون باعتبار الخمس.
وأما حديث: "لا تُحرّم الرضعة والرضعتان"، ونحوه من الأحاديث، فمفهومها يقتضي أن ما زاد عليها يوجب التحريم، كما أن مفهوم أحاديث الخمس أن ما دونها لا يقتضي التحريم، فيتعارض المفهومان، ويُرجع إلى الترجيح، ولكنه قد ثبت عند ابن ماجه بلفظ:"لا يُحرّم إلا عشر رضعات، أو خمس"، وهذا مفهوم حصر، وهو أولى من مفهوم العدد.
وأيضًا قد ذهب بعض علماء البيان كالزمخشريّ إلى أن الإخبار بالجملة الفعليّة المضارعيّة يفيد الحصر، والإخبار عن الخمس الرضعات بلفظ يُحرّمن كذلك، ولو سلم استواء المفهومين، وعدم انتهاض أحدهما كان المتوجّه تساقطهما، وحمل ذلك المطلق على الخمس، لا على ما دونها، إلا أن يدلّ
عليه دليلٌ، ولا دليل يقتضي أن ما دون الخمس يحرم إلا مفهوم قوله:"لا تحرّم الرضعة والرضعتان"، والمفروض أنه قد سقط، نعم لا بدّ من تقييد الخمس الرضعات بكونها في زمن المجاعة؛ لحديث عائشة رضي الله عنها:"فإن الرضاعة من المجاعة".
وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند أبي داود، مرفوعًا:"لا رِضاع إلا ما أنشز العظم، وأنبت اللحم".
فيجاب بأن الإنبات والإنشاز إن كانا يحصلان بدون الخمس، ففي حديث الخمس زيادة يجب قبولها، والعمل بها، وإن كانا لا يحصلان إلا بزيادة عليها، فيكون حديث الخمس مقيّدًا بهذا الحديث، لولا أنه من طريق أبي موسى الهلاليّ، عن أبيه، عن ابن مسعود، وقد قال أبو حاتم: إن أبا موسى، وأباه مجهولان، وقد أخرجه البيهقيّ من حديث أبي حَصِين، عن أبي عطيّة، قال: جاء رجلٌ إلى أبي موسى، فذكره بمعناه، وهذا يدلّ على فرض أنه يفيد ارتفاع الجهالة عن أبي موسى، لا يفيد ارتفاعها عن أبيه، فلا ينتهض الحديث لتقييد أحاديث الخمس بإنشاز العظم، وإنبات اللحم. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله ببعض تصرّف
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما تقدّم من الأدلة أن ما ذهب إليه القائلون باعتبار الخمس، ومنهم الشافعيّ رحمه الله هو الأرجح؛ لوضوح أدلّته، وأنظر ما كتبه ابن حزم رحمه الله في كتابه الممتع "الْمُحلّى" منتصرًا لهذا المذهب، فقد حقّق الموضوع تحقيقًا جيّدًا مفيدًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3598]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْن مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى، وَهُوَ ابْن سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ تَقُولُ، وَهِيَ
(1)
"نيل الأوطار" 7/ 164.
تَذْكُرُ الَّذِي يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، قَالَتْ عَمْرَة: فَقَالَتْ عَائِشَةُ: نَزَلَ فِي الْقُرْآنِ: "عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ"، ثُمَّ نَزَلَ أَيْضًا:"خَمْسٌ مَعْلُومَاتٌ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ) أبو عبد الرحمن البصريّ، مدنيّ الأصل، ثقةٌ عابدٌ، من صغار [9](ت 221) بمكة (خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 17/ 617.
2 -
(سُلَيْمَانُ بْن بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو أيوب المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 177)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.
3 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) بن قيس الأنصاريّ، أبو سعيد المدنيّ القاضي، ثقةٌ ثبتٌ [51](ت 144)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.
والباقيتان ذُكرتا قبله.
والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3599]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ، قَالَ: أَخْبَرَتْنِي عَمْرَةُ، أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ تَقُولُ: بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عَبْدُ الْوَهَّابِ) بن عبد المجيد بن الصَّلْت الثقفيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: رواية عبد الوهّاب، عن يحيى بن سعيد هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(7) - (بَابُ رَضَاعَةِ الْكَبِيرِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3600]
(1453) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ، وَهُوَ حَلِيفُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَرْضِعِيهِ"، قَالَتْ: وَكَيْفَ أُرْضِعُهُ، وَهُوَ رَجُلٌ كَبِيرٌ؟ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: "قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ رَجُلٌ كَبِيرٌ"، زَادَ عَمْرٌو فِي حَدِيثِهِ: وَكَانَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ) التيميّ، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [6](ت 126) أو بعدها (ع) تقدم في "الحيض" 27/ 822.
3 -
(أَبُوهُ) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصدّيق التيميّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، من كبار [3](ت 106) على الصحيح (ع) تقدم في "الحيض" 3/ 695.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي، والذي قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه، والثاني ما أخرج له البخاريّ، وأبو داود.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، عن عمّته، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ) بن عمرو القرشيّة العامريّة، أسلمت قديمًا، وهاجرت مع زوجها أبي حُذيفة إلى الحبشة، فوَلَدت له هناك محمد بن أبي حذيفة، ذكره ابن إسحاق، وقال ابن سعد: أمها فاطمة بنت عبد العزّى بن أبي قيس، من رهط زوجها سُهيل بن عمرو، أسلمت قديمًا بمكة، وبايعت، ثم تزوّجت شَماخ بن سعيد بن قائف بن الأوقص السلميّ، فولدت له عامرًا، ثم تزوّجت عبد الله بن الأسود بن عمرو، من بني مالك بن حِسْل، فولدت له سليطًا، ثم تزوّجت عبد الرحمن بن عوف، فولدت له سالمًا، فهم إخوة ابن أبي حذيفة لأمه
(1)
. (إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وللنسائيّ: "إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"(فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ) حُذف منه المفعول: أي الكراهية.
و"أبو حُذيفة": هو ابن عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، القرشيّ العَبْشميّ، خال معاوية، اسمه مِهْشَم، وقيل: هاشم، وقيل: قيس، كان من السابقين إلى الإسلام، وهاجر الهجرتين، وصلّى إلى القبلتين، قال ابن إسحاق: أسلم بعد ثلاثة وأربعين إنسانًا، وهو ممن شهد بدرًا، وكان طُوَالًا، حسن الوجه، استُشهد يوم اليمامة، وهو ابن ستّ وخمسين سنة
(2)
.
(مِنْ) تعليليّة، أي لأجل (دُخُولِ سَالِمٍ) أي عليها، وهو: ابن معقل - بفتح الميم، وسكون العين المهملة، وكسر القاف - يكنى أبا عبد الله، كان من الفرس، وكان عبدًا لثُبيتة - بضمّ الثاء المثلّثة، وفتح الباء الموحّدة، وإسكان الياء المثنّاة، من تحتُ، بعدها تاءٌ - وقيل: بُثينة - بضمّ الباء الموحدة، وفتح الثاء المثلّثة، وإسكان الياء المثنّاة، من تحتُ، بعدها نونٌ - وقيل: عمرة، وقيل: سلمى بنت يَعار - بفتح الياء المثنّاة، من تحتُ، وقيل: بالمثنّاة من فوقُ - الأنصاريّة، فأعتقته سائبةً، فانقطع إلى أبي حُذيفة، فتبنّاه، حتى جاء الشرع بإبطال ذلك، وكانا من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم، واستُشهِدا باليمامة سنة اثنتي
(1)
راجع: "الإصابة" 12/ 319 - 320.
(2)
راجع: "الإصابة" 11/ 81.
عشرة، فوُجد رأس أحدهما عند رجلي الآخر
(1)
.
وكان أبو حذيفة أنكحه ابنة أخته فاطمة بنت الوليد بن عتبة.
وروى البخاريّ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: كان سالم مولى أبي حذيفة يؤمّ المهاجرين الأولين في مسجد قُباء، فيهم أبو بكر، وعمر.
وأخرجه الطبرانيّ، زاد: وكان أكثرهم قرآنًا، وأخرج الشيخان عن عبد الله بن عمرو، رفعه:"خذوا القرآن من أربعة: من ابن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأُبيّ بن كعب، ومُعاذ بن جبل".
وأخرج ابن المبارك في "كتاب الجهاد" من طريق حنظلة بن أبي سفيان، عن عبد الرحمن بن سابط: أن عائشة احتبست على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ما حَبَسَك؟ قالت: سمعت قارئًا يقرأ، فذَكَرَت من حسن قراءته، فأخذ رداءه، وخرج، فإذا هو سالِمٌ مولى أبي حذيفة، فقال:"الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك".
وأخرجه أحمد، وابن ماجه من طريق الوليد بن مسلم: حدثني حنظلة، عن عبد الرحمن بن سابط، عن عائشة، فذكره موصولًا، وله شاهد عند البزّار بإسناد رجاله ثقات.
وروى ابن المبارك أيضًا أن لواء المهاجرين كان مع سالم، فقيل له في ذلك، فقال: بئس حامل القرآن أنا - يعني إن فررت - فقُطعت يمينه، فأخذه بيساره، فقطعت، فاعتنقه إلى أن صُرع، فقال لأصحابه: ما فعل أبو حذيفة؟ - يعني مولاه - قيل: قُتل، قال: فانتجعوني بجنبه
(2)
، فأرسل عمر ميراثه إلى معتقته ثُبيتة، فقالت: إنما أعتقته سائبةً، فجعله في بيت المال.
وذكر ابن سعد أن عمر أعطى ميراثه لأمه، فقال: كُليه. انتهى ملخّصًا من "الإصابة"
(3)
.
وقولها: (وَهُوَ حَلِيفُهُ) جملة حاليّة، والحليف فيعلٌ بمعنى فاعل، بمعنى المعاهد، يقال منه: تحالفا: إذا تعاهدا، وتعاقدا على أن يكون أمرهما واحدًا
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 134.
(2)
أي اجعلوني بجواره في قبره.
(3)
راجع: "الإصابة" 4/ 103 - 106.
في النصرة، والحِماية، وبينهما حِلْفٌ، وحِلْفةٌ بالكسر: أي عهد
(1)
.
وحاصل المعنى: أن أبا حُذيفة تبنّى سالِمًا حين كان التبنّي جائزًا، فكان يُدعَى ابنه، وكان يسكن معهم في بيت واحد، فلما نزلت الآية:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} ، وحُرّم التبنّي، كره أبو حذيفة دخول سالم مع اتحاد المسكن، وفي تعدّده مشقّةٌ عليهم، فجاءت سهلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لحلّ هذه المشكلة.
وفي رواية أبي عوانة في "مسنده": "فقالت: إن سالِمًا كان يُدْعَى لأبي حذيفة، وإن الله أنزل في كتابه:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5]، وكان يدخل عليّ، وأنا فُضْلٌ
(2)
، ونحن في مَنْزِل ضَيِّقٍ. . ." الحديث.
(فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَرْضِعِيهِ") وفي الرواية التالية: "أرضعيه تحرمي عليه، ويذهبِ الذي في نفس أبي حُذيفة"(قَالَتْ: وَكَيْفَ أُرْضِعُهُ، وَهُوَ رَجُلٌ كَبِيرٌ؟) وفي الرواية الآتية: "فقالت: إنه ذو لحية"، أرادت أنه رجل كبير، لا يصلح للإرضاع، حيث تجاوز مدّة الرضاع (فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي تعجّبًا مما قالت (وَقَالَ:"قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ رَجُلٌ كَبِيرٌ) " أي فأرضعيه، وإن كان رجلًا كبيرًا.
وقوله: (زَادَ عَمْرٌو) يعني شيخه الأول، وهو عمرو الناقد (فِي حَدِيثِهِ: وَكَانَ) أي سالمٌ (قَدْ شَهِدَ بَدْرًا) هذا فيه إيضاح لكونه كبيرًا؛ لأنه لا يشهد بدرًا إلا من كان رجلًا بالغًا كبيرًا يصلح لمبارزة العدوّ (وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ) يعني شيخه الثاني (فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بدل قول عمرو: "فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم".
زاد في الرواية التالية: "فرجعت، فقالت: إني قد أرضعته، فذهب الذي في نفس أبي حُذيفة"، وفي الرواية الرابعة:"فقالت: والله ما عرفته في وجه أبي حُذيفة".
تعني أنها بعد ما أرضعت سالِمًا بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم لم تر في وجه زوجها ما كانت تراه قبل أن ترضعه، من الكراهية، وذلك لأنه عَلِم أنها صارت أمه
(1)
"المصباح المنير" 1/ 146.
(2)
بضمّ الفاء، وسكون الضاد المعجمة: أي وأنا متبذّلة في ثياب مِهْنتي، يقال: تفضّلت المرأة: إذا تبذّلت في ثياب مهنتها. انتهى. "طرح التثريب" 7/ 134.
رضاعًا، فلم يبق في قلبه رِيبة في دخوله عليها، والله تعالى أعلم.
قال النوويّ: قال القاضي: لعلّها حلبته، ثم شربه من غير أن يمسّ ثديها، ولا التقت بشرتاهما، وهذا الذي قاله القاضي حسنٌ، ويَحْتَمِل أنه عُفي عن مسّه للحاجة، كما خُصّ بالرضاعة مع الكبر. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الاحتمال الثاني هو القويّ؛ إلا قوله: "كما خُصّ. . . إلخ"، فسيأتي أن الأرجح عدم خصوصيّته.
وأما ما أخرجه ابن سعد، عن الواقديّ، عن محمد بن عبد الله ابن أخي الزهريّ، عن أبيه، قال: كانت تحلُبُ في مُسْعُط، أو إناء، قدر رَضْعَة، فيشربه في كلّ يوم حتى مضت خمسة أيام، فكان بعدُ يدخل عليها، وهي حاسرٌ، رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لسهلة. انتهي، ففي إسناده الواقديّ شديد الضعف، وهو أيضًا مرسلٌ
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 3600 و 3601 و 3602 و 3603 و 3604](1453)، و (أبو داود) في "النكاح"(2061)، و (النسائيّ) في "النكاح"(6/ 104 و 105) و"الكبرى"(3/ 303 و 304 و 305)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1943)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 605)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 307)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(13884)، و (الحميديّ) في "مسنده"(278)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 38 و 201 و 249)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 200 و 201)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 236)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4213)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 120 و 121 و 122)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 126 - 127)، و (الطبرانيّ) في
(1)
"شرح مسلم" 10/ 31.
(2)
راجع: "الإصابة" 12/ 320.
"الكبير"(24/ 739 و 742) و"الصغير"(894)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 459) و"المعرفة"(6/ 92)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان جواز رضاع الكبير، وقد اختلف فيه العلماء كما سيأتي بيانه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.
2 -
(ومنها): سهولة الشريعة، وسماحتها حيث سهّلت في محلّ الحاجة، فأجازت إرضاع المرأة من له صلة بها، إذا اضطرّت إلى ذلك.
3 -
(ومنها): أن من أشكل عليه حكم من الإحكام الشرعية عليه أن يسأل العلماء، سواء كان ذكرًا، أم أنثى.
4 -
(ومنها): أن التبنّي كان جائزًا، ثم نُسِخ.
5 -
(ومنها): أنه يجوز لمن لم يبلغ مبلغ الرجال من الصغار أن يدخلوا على النساء الأجنبيّات.
6 -
(ومنها): جواز الإرشاد إلى الْحِيَل المشروعة.
7 -
(ومنها): ما قاله ابن الرفعة: يؤخذ منه جواز تعاطي ما يُحصّل الحِلَّ في المستقبل، وإن كان ليس حلالًا في الحال. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي استنبطه ابن الرفعة محلّ نظر، والله تعالى أعلم.
8 -
(ومنها): ما كان عليه أبو حذيفة من الغيرة، فيما لم يأذن به الشرع، وانقياده للحقّ بعد الرضاع، وهكذا ينبغي لكلّ مسلم أن يكون غيورًا على حُرَمه، فإذا كان هناك تسهيلٌ من الشارع انقاد له، ولا يعترض عليه، بل يقول:{سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285].
9 -
(ومنها): ما قاله وليّ الدين رحمه الله: الحديث صريح في ثبوت التحريم برضاع الكبير، ومقتضى سياقه والمقصود منه ثبوت المحرمية أيضًا؛ إذ لولا ثبوت المحرمية لما حصل مقصودها من دخوله عليها حالة مهنتها، وانكشاف بعض جسدها، وبهذا قال من أثبت حكم الرضاع للكبير، إلا أن أبا العباس
(1)
راجع: "الفتح" 10/ 187.
القرطبيّ نقل عن داود أن رضاعة الكبير ترفع تحريم الحجاب، لا غير، ثم حَكَى عن ابن الْمَوَّاز أنه قال: لو أخذ بهذا في الحجابة لم أَعِبْهُ، وترْكه أحب إليّ، وما علمت من أخذ به عامًّا إلا عائشة، ثم قال: وفيما ذكره ابن الموّاز عن عائشة أنها ترى رضاعة الكبير تحريمًا عامًّا نظر، فإن نص حديث الموطإ عنها إنما كانت تأخذ بذلك في الحجاب خاصّة.
وتعقّبه وليّ الدين، فقال: لا يستقيم لعالم أن يقول بجواز الخلوة مع إباحة النكاح، وهذا تناقض لا حاجة إليه، وظاهر كلام القائلين بهذا المذهب أنهم أثبتوا برضاعة الكبير كلَّ ما ثبت برضاعة الصغير من الإحكام. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله
(1)
، وهو تعقّبٌ وجيه، والله تعالى أعلم.
10 -
(ومنها): أن الجمهور أجابوا عن هذا الحديث بأنه خاصّ بسالم، وامرأة أبي حذيفة، كما اقتضاه كلام أمهات المؤمنين، سوى عائشة رضي الله عنهن ورَوَى الشافعي رحمه الله عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت في الحديث: كان رخصة لسالم خاصة، قال الشافعيّ: فأخذنا به يقينًا لا ظنًّا، حكاه عنه البيهقيّ في "المعرفة"، وقال ما معناه: إنما قال هذا؛ لأن الذي في غير هذه الرواية أن أمهات المؤمنين قُلْنَ ذلك بالظن، ورواه عن أم سلمة بالقطع.
وقال ابن المنذر: ليست تخلو قصة سالم من أن تكون منسوخة، أو خاصة لسالم، وكذا حكى الخطابيّ عن عامة أهل العلم أنهم حملوا الأمر في ذلك على أحد وجهين: إما على الخصوص، وإما على النسخ.
وقال أبو العباس القرطبيّ: أطلق بعض الأئمة على حديث سالم أنه منسوخ، وأظنه سمى التخصيص نسخًا، وإلا فحقيقة النسخ لم تحصل هنا على ما يُعْرَف في الأصول.
قال وليّ الدين: كيف يريد بالنسخ التخصيص من يُرَدِّد بينهما؟ ولم يرد قائل هذا الكلام بالنسخ ما فهمه عنه القرطبيّ حتى يَعْترِض عليه بما ذكره، وإنما أراد به أن هذا الذي أُمِرت به امرأة أبي حذيفة كان هو الشرع العامّ لكل أحد ذلك الوقت، ثم نُسخ بعد ذلك، لكن هذا يتوقف على معرفة التاريخ،
(1)
"طرح التثريب" 7/ 138.
وأن الأدلة الدالة على اعتبار الصغر في وقت الإرضاع متأخرة عن ذلك.
وردّه ابن حزم أيضًا بأن قولها للنبيّ صلى الله عليه وسلم: كيف أرضعه، وهو رجل كبير؟ دال على تأخره عما دلّ على اعتبار الصغر، والله أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله ابن حزم رحمه الله هو الظاهر، والحقّ أنه ليس هناك نسخ، فإن كان نسخ في المسألة، فليكن النسخ للأدلة التي اعتبرت الصغر شرطًا في ثبوت التحريم بالرضاع، كما يدلّ عليه قولها:"كيف أرضعه، وهو رجل كبير؟ "، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
11 -
(ومنها): ما قيل: إنه استُشْكِل أمره صلى الله عليه وسلم إياها بإرضاعه؛ لما فيه من التقاء البشرتين، وهو مُحَرَّم قبل أن يستكمل الرضاع المعتبر، وتصير محرمًا له، قال القاضي عياض: ولعلها حلبته، ثم شَرِبه من غير أن يمس ثديها، ولا التقت بشرتاهما، قال النوويّ: وهذا الذي قاله حسنٌ، ويَحْتَمِل أنه عُفي عن مسه للحاجة كما خص بالرضاعة مع الكبر. انتهى.
وجعل أبو العباس القرطبي ذلك دليلًا على الاختصاص به؛ لأن القاعدة تحريم الاطلاع على العورة، ولا يُختَلف في أن ثدي الحرة عورة، لا يجوز الاطلاع عليه، قال: ولا يقال: يمكن أن يَرْضَع، ولا يَطَّلِع؛ لأنا نقول: نفس التقام حلمة الثدي بالفم اطلاع، فلا يجوز. انتهى.
ولم يعرج على ذِكْر ما تقدم عن القاضي من شربه بعد حلبه، ولم يستصوب ابن حزم ذلك، واقتضى كلامه جوازه مطلقًا، فإنه حَكَى عن بعضهم أنه قال: كيف يحل للكبير أن يرضع ثدي امرأة أجنبية؟ ثم نقضه بقول من قال: إن للأمة الصلاة عريانة، يرى الناس ثديها، وخاصرتها، وأن للحرة أن تتعمد أن ينكشف من شفتي فرجها قدر الدرهم الْبَغْليّ، تصلي كذلك، وأن تكشف أقلّ من ربع بطنها كذلك. انتهى.
قال وليّ الدين: والحق ما ذكرناه أوّلًا من شربه محلوبًا.
وقد قال ابن عبد البر - بعد حكايته قول رجل لعطاء: سقتني امرأة من لبنها، وأنا رجل -: هكذا رضاع الكبير، كما ذكر عطاء يُحْلَب له اللبن، ويسقاه، وأما أن تُلقمه المرأة ثديها، كما يُصنع بالطفل فلا؛ لأن ذلك لا يحل
عند جماعة العلماء، وقد أجمع فقهاء الأمصار على التحريم بما يشربه الغلام الرضيع من لبن المرأة، وإن لم يمصه من ثديها. انتهى.
واعتبر ابن حزم في التحريم الامتصاص من الثدي، وحكاه عن طائفة.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن شربه بعد حلبه في الإناء هو الأولى كما قال الأولون، لكن ليس بلازم، فيجوز أن يلتقم ثدييها، فيرضع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمرها بأن تحلب له، فيشربه، بل ظواهر الروايات تدلّ على الإطلاق، ولو كان ذلك لازمًا لما سكت عنه؛ فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
12 -
(ومنها): أنه أطلق في هذه الرواية قوله: "أرضعيه"، ولم يقيّده بعدد، وقيّده في رواية جماعة، عن الزهريّ بقوله:"خمس رضعات"، فقد أخرج الحديث أبو داود، وغيره من طريق يونس، عن الزهري، وفيه:"فقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم: أرضعيه، فأرضعته خمس رضعات، فكان بمنزلة ولدها. . ." الحديث، وبهذا قال الشافعيّ، وهو رواية عن أحمد بن حنبل، قال ابن تيمية في "المحرَّر": إنها المذهب، وبه قال ابن حزم، وقيل: لا بُدّ من سبع رضعات، وقيل: لا بُدّ من عشر، وهما مرويان عن عائشة رضي الله عنها، وذكر الشافعي أنه لا يصح عنها، وأنها كانت تُفتي بخمس، وحَكَى ابن عبد البر العشر عن حفصة، وقال القاضي عياض: إنه شاذّ، وقيل: يكتفى بثلاث رضعات، حكاه ابن عبد البر عن أبي يوسف، وأبي عبيدة، وداود، وحكاه ابن حزم عن سليمان بن يسار، وسعيد بن جبير، وإسحاق بن راهويه، وأحمد بن حنبل، وهو رواية عنه، وبها قال ابن المنذر، واستروح أبو العباس القرطبيّ، فقال: لَمْ يقل به أحد فيما علمتُ إلا داود، ذكره وليّ الدين رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: القول باشتراط كون الرضاع خمس مرّات هو الأرجح؛ لقوّة حجته، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم رضاع الكبير:
ذهبت طائفة إلى أن إرضاع الكبير يثبت به التحريم، وممن قال به عليّ بن
(1)
"طرح التثريب" 7/ 139 - 140.
أبي طالب، كما حكاه عنه ابن حزم، وأما ابن عبد البرّ، فأنكر الرواية عنه في ذلك، وقال: لا يصحّ. وعائشة، وعروة بن الزبير، وعطاء بن أبي رباح، والليث بن سعد، وابن عُليّة، وحكاه النوويّ عن داود الظاهريّ، وإليه ذهب ابن حزم، ويؤيّد ذلك الإطلاقات القرآنيّة، كقوله تعالى:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23].
وذهب الجمهور إلى أن حكم الرضاع إنما يثبت في الصغير، وأجابوا عن قصّة سالم بأجوبة:
(منها): أنه حكم منسوخٌ، وبه جزم المحبّ الطبريّ في "أحكامه"، وقرّره بعضهم بأن قصّة سالم كانت في أوائل الهجرة، والأحاديث الدّالّة على اعتبار الحولين من رواية أحداث الصحابة، دلّ على تأخّرها.
وهو مستندٌ ضعيفٌ؛ إذ لا يلزم من تأخّر إسلام الراوي، ولا صغره أن لا يكون ما رواه متقدّمًا.
وأيضًا ففي سياق قصّة سالم ما يُشعر بسبق الحكم باعتبار الحولين؛ لقول امرأة أبي حذيفة في بعض طرقه، حيث قال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أرضعيه"، قالت: وكيف أرضعه، وهو رجلٌ كبيرٌ؟، فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:"قد علمت أنه رجلٌ كبير"، وفي رواية: قالت: إنه ذو لحية، قال:"أرضعيه". وهذا يشعر بأنها كانت تعرف أن الصغر معتبرٌ في الرضاع المحرّم.
(ومنها): دعوى الخصوصيّة بسالم، وامرأةِ أبي حُذيفة، والأصل فيه قول أم سلمة، وأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما نرى هذا إلا رخصةً أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم بسهلة، فلما نزل الاحتجاب، ومُنِعوا من التبنّي شقّ ذلك على سهلة، فوقع الترخيص لها في ذلك؛ لرفع ما حصل لها من المشقّة.
وهذا فيه نظرٌ؛ لأنه يقتضي إلحاق من يساوي سهلة في المشقّة، والاحتجاج بها، فتنفَى الخصوصية
(1)
.
وفيه أيضًا أن دعوى الخصوصيّة تحتاج إلى دليل، وقد اعترف أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم بصحّة الحجة التي جاءت بها عائشة، ولا حجة في إبائهنّ لها، كما
(1)
"الفتح" 10/ 186.
أنه لا حجة في أقوالهنّ، ولهذا سكتت أمّ سلمة لما قالت لها عائشة: أما لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةٌ حسنةٌ؟، ولو كانت هذه السنّة مختصّةً بسالم لَبَيَّنَها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما بيّن اختصاص أبي بردة بالتضحية بالْجَذَع من المعز، واختصاص خزيمة بأن شهادته كشهادة رجلين
(1)
.
وذهب بعضهم إلى أن الرضاع يُعتبر فيه الصغر إلا فيما دعت إليه الحاجة، كرضاع الكبير الذي لا يستغني عن دخوله على المرأة، ويشقّ احتجابها منه، وإليه ذهب شيخ الإسلام ابن تيميّة، ورجّحه الشوكانيّ، قال: وبه يحصل الجمع بين الأحاديث، وذلك بأن تجعل قصّة سالم المذكورة مخصّصةً لعموم:"إنما الرضاع من المجاعة"، و"لا رضاع إلا في الحولين"، و"لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء، وكان قبل الفطام"، و"لا رضاع إلا ما أنشر العظم، وأنبت اللحم". وهذه طريقةٌ متوسّطةٌ بين طريقة من استدلّ بهذه الأحاديث على أنه لا حكم لرضاع الكبير مطلقًا، وبين من جعل رضاع الكبير كرضاع الصغير مطلقًا؛ لِمَا لا يخلو عنه كلّ واحدة من هاتين الطريقتين من التعسّف.
ويؤيّد هذا أن سؤال سهلة امرأة أبي حذيفة كان بعد نزول آية الحجاب، وهي مصرّحة بعدم جواز إبداء الزينة لغير من في الآية، فلا يُخصّ منها غير من استثناه الله تعالى، إلا بدليل، كقضيّة سالم، وما كان مماثلًا لها في تلك العلّة التي هي الحاجة إلى رفع الحجاب، من غير أن يقيّد ذلك بحاجة مخصوصة من الحاجات المقتضية لرفع الحجاب، ولا بشخص من الأشخاص، ولا بمقدار من عمر الرضيع معلوم، وقد ثبت في حديث سهلة أنها قالت للنبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن سالمًا ذو لحية، فقال: "أرضعيه". انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن هذا القول الثالث المفصِّل كما ذهب إليه ابن تيميّة، ورجحه الشوكانيّ - رحمهما الله تعالى - هو الأرجح؛ إذ به يحصل التوفيق بين الأدلة، وحاصله أن رضاع الكبير محرّمٌ، إذا كانت هناك حاجة مثل حاجة سهلة، وسالم، حيث إنه لا يستغني عن دخوله عليها، ويشقّ
(1)
"نيل الأوطار" 6/ 332 - 333.
(2)
"نيل الأوطار" 6/ 333 - 334.
عليها الاحتجاب عنه، فإذا رضع منها خمس رضعات، كما أمر صلى الله عليه وسلم سهلة بأن تُرْضع سالمًا خمس رضعات ثبت التحريم.
قال العلامة ابن القيّم رحمه الله: حديث سهلة ليس بمنسوخ، ولا مخصوص، ولا عامّ في حق كل أحد، وإنما هو رخصة للحاجة، لمن لا يَستغني عن دخوله على المرأة، ويَشُقّ احتجابها عنه، كحال سالم مع امرأة أبي حذيفة، فمثل هذا الكبير إذا أرضعته للحاجة أَثَّرَ رضاعه، وأما من عداه فلا يؤثر إلا رضاع الصغير، وهذا مسلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، والأحاديث النافية للرضاع في الكبير إما مطلقة، فتُقَيَّد بحديث سهلة، أو عامّة في الأحوال، فتخصيص هذه الحال من عمومها، وهذا أولى من النسخ، ودعوى التخصيص بشخص بعينه، وأقرب إلى العمل بجميع الأحاديث من الجانبين، وقواعد الشرع تشهد له. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): اختلف القائلون بعدم تحريم رضاع الكبير في السنّ الذي يختصّ التحريم بالإرضاع فيه على أقوال:
(القول الأوّل): أنه حولان على طريق التحديد من غير زيادة، فمتى وقع الرضاع بعدهما، ولو بلحظة لم يترتّب عليه حكم، وهذا مذهب الشافعيّ، وأحمد، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وإسحاق بن راهويه، وأبي عُبيد، وأبي ثور، وحكاه ابن عبد البرّ عن الحسن بن حيّ، وحكاه ابن حزم عن ابن شُبْرُمة، وسفيان الثوريّ، وداود، وأصحابهم، وحكاه ابن عبد البرّ عن داود أيضًا، وهذا يُخالف نقل النوويّ عن داود، قال ابن حزم: ورواه ابن وهب، عن مالك، ثم رجع عنه.
واحتجّ هؤلاء بقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} الآية [البقرة: 233]. وبقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الرضاعة من المجاعة
(2)
"،
(1)
"زاد المعاد" 5/ 593.
(2)
أي إن الرضاعة التي تحصل بها الحرمة ما كانت في الصغر، والرضيع طفلٌ يقوته اللبن، ويسُدّ جوعه، بخلاف ما بعد ذلك من الحال التي لا يشبعه فيها إلا الخبز واللحم، وما في معناهما، قاله في "طرح التثريب" 7/ 136.
متّفقٌ عليه، قال ابن عبد البرّ: وهو خلاف رواية أهل المدينة عن عائشة رضي الله عنها، ولكن العمل بالأمصار على هذا. انتهى.
وبما رواه الترمذيّ، والنسائيّ، عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يُحَرِّم من الرضاع إلا ما فَتَقَ الأمعاء
(1)
، من الثدي، وكان قبل الفطام"، قال الترمذيّ: حسنٌ صحيح.
وروى الدارقطنيّ من طريق الهيثم بن جَمِيل، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا رضاع إلا ما كان في الحولين"، قال الدارقطنيّ: لم يسنده، عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل، وهو ثقة حافظ. انتهى، وهذا الحديث نصّ في هذه المسألة، قاله وليّ الدين
(2)
.
(القول الثاني): أنه يُعتبر حكمه، ولو كان بعد الحولين بمدّة قريبة، وهو مستمرّ الرضاع، أو بعد يومين من فصاله، وهذا هو المشهور من مذهب مالك، وفي القريبة عندهم أقوالٌ: قيل: أيام يسيرة، وقيل: شهرٌ، وقيل: شهران، وقيل: ثلاثة، قال أبو العباس القرطبيّ: وكان مالكًا رحمه الله يشير إلى أنه لا يفطم الصبيّ دفعة واحدة في يوم واحد، بل في أيام، وعلى تدريج، فتلك الأيام التي يحاول فيها فطامه حكمها حكم الحولين؛ لقضاء العادة بمعاودته الرضاع فيها.
(القول الثالث): تقدير ذلك بسنتين ونصف، وهو قول أبي حنيفة، وجعل قوله تعالى:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] دالًّا على تقدير كلّ من الحمل، والفصال بذلك كالأجل المضروب للمدتين، وقال صاحباه، والشافعيّ: هذه المدّة للمجموع، وقد دلّ قوله تعالى:{يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} على حصّة الفصال من ذلك، فصارت بقيّة المدّة، وهي ستة أشهر للحمل، وهي أقلّه، مع أن أبا حنيفة لا يقول: أكثر الحمل سنتان ونصفٌ، وإنما يقول: إنه سنتان.
(1)
قوله: "فَتَقَ الأمعاء" بالفاء، والتاء: أي وسّعها؛ لاغتذاء الصبيّ به وقت احتياجه إليه.
(2)
"طرح التثريب" 7/ 136 - 137.
(القول الرابع): تقديره بثلاث سنين، وهذا قول زُفَر، كذا أطلق النقل عنه غير واحد، منهم صاحب "الهداية"، وقيّد ابن عبد البرّ عنه بأن يجتزئ باللبن، ولا يطعم.
(القول الخامس): أنه إن فَطَمَ قبل الحولين فما رضع بعده لا يكون رضاعًا، ولو أرضع ثلاث سنين لم يفطم كان رضاعًا، حكاه ابن عبد البرّ عن الأوزاعيّ، وحُكي أيضًا عن ابن القاسم أنه لو فطمته أمه قبل الحولين، واستغنى عن الرضاع، فأرضعته أجنبيّة قبل تمام الحولين لم يعد رضاعًا.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه الأقوال كلّها للقائلين بعدم تحريم رضاع الكبير، وقد تقدّم ذلك في المسألة السابقة أن الأرجح أنه محرّم إذا كانت هناك حاجة مثل حاجة سالم مع سهلة، وكان خمس رضعات، كما أثبته الشارع لهما لشدّة حاجتهما، وأَمَر سهلة أن تُرضعه خمس رضعات، وأما إذا لم توجد حاجة شديدة فقول من حدّده بحولين أرجح؛ لوضوح أدّلته. فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3601]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ، جَمِيعًا عَن الثَّقَفِيِّ، قَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ، عَن ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَن الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، كَانَ مَعَ أَبِي حُذَيْفَةَ وَأَهْلِهِ، فِي بَيْتِهِمْ، فَأَتَتْ - تَعْنِي ابْنَةَ سُهَيْلٍ
(1)
- النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: إِنَّ سَالِمًا قَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ، وَعَقَلَ مَا عَقَلُوا، وَإِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْنَا، وَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّ فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"أَرْضِعِيهِ، تَحْرُمِي عَلَيْهِ، وَيَذْهَبِ الَّذِي فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ"، فَرَجَعَتْ، فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُهُ، فَذَهَبَ الَّذِي فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ).
(1)
وفي نسخة: "تعني: سهلة بنت سُهيل".
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، والبابين قبله، و"إسحاق بن إبراهيم الْحَنْظليّ" هو: ابن راهويه، و"ابن أبي عمر" هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، و"عبد الوهّاب الثقفيّ" هو: ابن عبد المجيد، و"أيوب" هو: السختيانيّ، و"ابن أبي مُليكة" هو: عبد الله بن عُبيد الله بن أبي مُليكة زُهير بن عبد الله، و"القاسم" هو: ابن محمد بن أبي بكر الصدّيق.
وقوله: (تَعْنِي ابْنَةَ سُهَيْلٍ) وفي بعض النسخ: "تعني سهلة بنت سُهيل"، العناية من بعض الرواة.
وقوله: (تَحْرُمِي عَلَيْهِ) بالجزم على أنه جواب الأمر، أي تصيري حرامًا عليه بذلك الرضاع.
وقوله: (وَيَذْهَبِ الَّذِي فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ) و"يذهب" بالجزم عطفًا على "تحرمي"، وكُسرت الباء لالتقاء الساكنين، يعني يذهب بسبب إرضاعك له ما وقع في نفس أبي حذيفة من الغيرة.
والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى البحث فيه مستوفًى في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3602]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَخْبَرَهُ، أَن عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، جَاءَت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ سَالِمًا - لِسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ - مَعَنَا، فِي بَيْتِنَا، وَقَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ، وَعَلِمَ مَا يَعْلَمُ الرِّجَالُ، قَالَ:"أَرْضِعِيهِ، تَحْرُمِي عَلَيْهِ". قَالَ: فَمَكَثْتُ سَنَةً، أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا، لَا أُحَدِّثُ بِهِ، وَهِبْتُهُ
(1)
، ثُمَّ لَقِيتُ الْقَاسِمَ، فَقُلْتُ لَهُ: لَقَدْ حَدَّثْتَنِي حَدِيثًا مَا حَدَّثْتُهُ بَعْدُ، قَالَ: فَمَا هُوَ؟ فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: فَحَدِّثْهُ عَنِّي، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْنِيهِ).
(1)
وفي نسخة: "رَهِبْتُهُ".
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم أيضًا قريبًا. والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (قَالَ: فَمَكَثْتُ سَنَةً) من باب قتل: أي أقمت، وتَلَبَّثتُ، والقائل هو ابن أبي مليكة.
وقوله: (لَا أُحَدِّثُ بِهِ) أي بهذا الحديث، والظاهر أن سبب عدم تحديث ابن أبي مليكة به، ومكثه سنةً، أو قريبًا منه، خوفه أن لا يُقبَل منه؛ لكون أكثر أهل العلم على خلافه، حيث إنهم لا يرون تحريم رضاع الكبير، ثم لما لقي القاسم حثّه على التحديث به، وعدم الخوف منه؛ لثبوته عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنه إذا ثبت الحديث عنه، وجب نشره، والعمل به، دون أن يُلتَفَتَ إلى عدم عمل الأكثرين به؛ لأن السنة إذا ثبتت فإنها حاكمة، وليست محكومًا عليها، والله تعالى أعلم.
وقوله: (وَهِبْتُهُ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في بعض النسخ: "وَهِبْته" من الهيبة، وهي الإجلال، وفي بعضها:"رَهِبته" بالراء، من الرهبة، وهي الخوف، وهي بكسر الهاء، وإسكان الباء، وضم التاء، وضبطه القاضي، وبعضهم:"رَهْبَتَهُ" بإسكان الهاء، وفتح الباء، ونصب التاء، قال القاضي: هو منصوب بإسقاط حرف الجر، والضبط الأول أحسن، وهو الموافق للنُّسخ الأُخر:"وَهِبْتُهُ" بالواو. انتهى
(1)
.
والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3603]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ
(1)
"شرح النوويّ" 10/ 32.
لِعَائِشَةَ: إِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْكِ الْغُلَامُ الْأَيْفَعُ الَّذِي مَا أُحِبُّ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيَّ، قَالَ: فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَمَا لَكِ فِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُسْوَةٌ؟، قَالَتْ: إِنَّ امْرَأَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ سَالِمًا يَدْخُلُ عَلَيَّ، وَهُوَ رَجُلٌ، وَفِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْهُ شَيْءٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَرْضِعِيهِ، حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْكِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغندر، تقدم قريبًا.
2 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(حُمَيْدُ بْنُ نَافِعٍ) الأنصاريّ، أبو أفلح المدنيّ، مولى صفوان بن أوس، ويقال: ابن خالد الأنصاريّ، ويقال: مولى أبي أيوب، قال البخاريّ: يقال له: حميد صُفَيرا
(1)
، ثقة [3].
رَوَى عن أبي أيوب، وعبد الله بن عمرو، وزينب بنت أبي سلمة، وغيرهم.
وروى عنه ابنه أفلح، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وبكير بن الأشجّ، وأيوب بن موسى القرشيّ، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم، وشعبة، وغيرهم.
وقال النسائيّ: حميد بن نافع ثقةٌ، ووثَّقه أبو حاتم، وذكره ابن حبّان في "الثقات".
وفرّق ابن المديني بين حميد بن نافع الذي يروي عن زينب بنت أم سلمة، وبين الذي يروي عن أبي أيوب، وعبد الله بن عمرو، وجعلهما أبو حاتم واحدًا، ورجح البخاري قول ابن المدينيّ، وذكر أن الأول قول شعبة، وكذا أشار مسلم إلى ترجيح ذلك في "الطبقات"، وتبعهما ابن حبان في "الثقات" في التابعين.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم (1453) وأعاده بعده و (1486) وكرّره ثلاث مرّات، و (1487)، و (1488)، و (1489).
(1)
الصواب بالفاء، لا بِالغين المعجمة.
4 -
(زَيْنَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ) رضي الله عنها، تقدّمت قبل بابين.
والباقيان ذُكرا في الباب، وقبله.
وقولها: (الْغُلَامُ الْأَيْفَعُ) بالياء المثناة من تحتُ، وبالفاء، وهو الذي قارب البلوغ، ولم يبلغ، وجمعه أيفاع، وقد أيفع الغلام، ويَفَعَ، وهو يافع، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: الْيَفَاعُ، مثلُ سَلَامٍ: ما ارتفع من الأرض، وأيفع الغلامُ: شَبّ، وَيفَعَ يَيْفَعُ بفتحتين يُفُوعًا، فهو يافع، ولم يُستَعمل اسم الفاعل من الرباعيّ، وغُلامٌ يَفَعَةٌ، وزانُ قصَبَة، مثل يافع، ويُطلق على الجمع، وربّما جُمِع على أيفاع. انتهى
(2)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله: أَيْفَعَ الغلامُ، فهو يافع: إذا شارف الاحتلامَ، ولَمّا يحتلم، وهو من نوادر الأبنية، وغلام يافع، ويَفَعَةٌ، فمن قال: يافع ثَنَّى، وجَمَعَ، ومن قال: يَفَعَةٌ لم يُثَنِّ، ولم يَجْمَع
(3)
.
والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3604]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَهَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، وَاللَّفْظُ لِهَارُونَ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَني مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ حُمَيْدَ بْنَ نَافِعٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ تَقُولُ: سَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَقُولُ لِعَائِشَةَ: وَاللهِ مَا تَطِيبُ نَفْسِي أَنْ يَرَانِي الْغُلَامُ، قَدْ اسْتَغْنَى عَن الرَّضَاعَةِ، فَقَالَتْ: لِمَ؟ قَدْ جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي لَأَرَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَرْضِعِيهِ"، فَقَالَتْ: إِنَّهُ ذُو لِحْيَةٍ، فَقَالَ: "أَرْضِعِيهِ، يَذْهَبْ مَا فِي
(1)
"شرح النوويّ" 10/ 33.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 681.
(3)
"النهاية في غريب الأثر" 5/ 298.
وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ"، فَقَالَتْ: وَاللهِ مَا عَرَفْتُهُ فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السّرْح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
2 -
(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ) تقدّم قريبًا.
3 -
(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ) تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(أَبُوهُ) بُكير بن عبد الله بن الأشجّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (يَذْهَبْ مَا فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ) بجزم "يَذْهَبْ" على أنه جواب الأمر، يعني أنه إذا عَلِم أبو حُذيفة أنه قد حُكِم له بحكم ذوي المحارم، وقد رُفع عنه ما كان يخافه من الحرج والمأثم لم يبق له كراهية، ولا نفَرة تغيّر وجهه، وكذلك كان.
والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى تمام البحث فيه قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3605]
(1454) - (حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَمْعَةَ، أَنَّ أُمَّهُ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ أُمَّهَا أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ تَقُولُ: أَبَى سَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُدْخِلْنَ عَلَيْهِنَ أَحَدًا بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ، وَقُلْنَ لِعَائِشَةَ: وَاللهِ مَا نَرَى هَذَا إِلَّا رُخْصَةً أَرْخَصَهَا
(1)
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِسَالِمٍ خَاصَّةً، فَمَا هُوَ بِدَاخِلٍ عَلَيْنَا أَحَدٌ بِهَذِهِ الرَّضَاعَةِ، وَلَا رَائِينَا).
(1)
وفي نسخة: "رَخَّصَهَا".
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَمْعَةَ) بن الأسود بن المطّلب بن أسد بن عبد العُزَّى بن قصيّ القرشيّ الأسديّ، صدوقٌ
(1)
[3].
رَوَى عن أبيه، وأمه زينب بنت أبي سلمة، وجدّته أم سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأم قيس بنت مِحْصن، وحمزة بن عبد الله بن عمر.
وروى عنه ابنه رُكَيح، وموسى بن يعقوب بن عبد الله بن وهب بن زمعة، والأعرج بن عبد الله بن زياد، والزهريّ، ومحمد بن إسحاق.
قال أبو زرعة: لا أعرف أحدًا سماه.
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
والباقون تقدّموا، فمن عبد الملك إلى ابن شهاب تقدّموا قبل بابين، والباقون ذُكروا في الباب.
شرح الحديث:
عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ (أَنَّ أُمَّهَا أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ تَقُولُ: أَبَى) قال الفيّوميّ رحمه الله: أَبَى الرجل يَأْبَى إِبَاءً - بالكسر، والمدّ - وإباءةً: امتنع، فهو آبٍ، وأَبِيّ على فاعل وفَعِيلٍ، وتأبّى مثلُهُ، وبناؤه شاذّ؛ لأن فَعَلَ يَفْعَلُ - بفتحتين - يكون حلقيّ العين، أو اللام، ولم يأت من حَلقيّ الفاء إلا أبَى يأبَى، وعَضَّ يَعَضّ في لغة، وأَثَّ الشعرُ يَأَثَّ: إذا كثُر، والْتَفَّ، وربّما جاء في غير ذلك، قالوا: وَدَّ يَوَدُّ في لغة، وأما لغة طيّئ في باب نَسِيَ يَنْسَى: إذا قَلَبُوا، وقالوا: نَسَى ينسَى، فهو تخفيف. انتهى
(2)
.
وذكر بعضهم أن ابنَ سِيدَهْ حَكَى عن قوم: أَبِيَ يَأْبَى - أي من باب عَلِمَ - كنَسِيَ يَنْسَى. وحكى ابن جنّي، وصاحب "القاموس": أَبَى يَأْبِي، كضرب يَضرب، فعلى هذا يجوز أن يكون أَبَى يَأْبَى - بالفتح فيهما - من باب تداخل
(1)
قال في "التقريب": مقبول، وما هنا أولى؛ لأنه روى عنه جماعة، وأخرج له مسلم هنا، ولم يجرحه أحدٌ، فهو صدوقٌ، والله تعالى أعلم.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 3.
اللغتين، أي أن المتكلّم بالفتح فيهما أخذ الماضي من لغة، والمضارع من لغة. انتهى
(1)
.
والمعنى هنا: امتنع (سَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أي باقي أزواجه صلى الله عليه وسلم رضي الله تعالى عنهنّ، غير عائشة رضي الله عنها، فإنها كانت تعَمِّمُ الحكم كل من رضع كبيرًا، ولا تخصّه بسالم (أَنْ يُدْخِلْنَ) بضمّ أوله، من الإدخال (عَلَيْهِنَّ أَحَدًا بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ) زاد في رواية أبي داود:"حتى يَرْضَعَ في المهد"(وَقُلْنَ لِعَائِشَةَ: وَاللهِ مَا نَرَى) بضم النون: أي نَظُنُّ، أو بفتحها: أي نعتقد (هَذَا) أي إرضاع سهلة لسالم، مع كبره (إِلَّا رُخْصَةً) أي تيسيرًا (أَرْخَصَهَا) وفي نسخة:"رَخّصها"(رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِسَالِمٍ خَاصَّةً، فَمَا هُوَ)"ما" نافية عاملة عمل "ليس"، و"هو" ضمير الشأن اسمها (بِدَاخِلٍ) الباء زائدة في خبر "ما"، كما قال في "الخلاصة":
وَبَعْدَ "مَا" و"لَيْسَ" جَرَّ الْبَا الْخَبَرْ
…
وَبَعْدَ "لَا" وَنَفِيِ "كَانَ" قَدْ يُجَرْ
(عَلَيْنَا) متعلّق بـ "داخل"، قوله:(أَحَدٌ) مرفوع على الفاعليّة لـ "داخل"(بِهَذِهِ الرَّضَاعَةِ) أي التي حصلت في الكبر (وَلَا رَائِينَا) معطوف على "داخل"، أي ولا نُجيز أن يرانا.
قال الزرقانيّ: أي لأنها قضيّة عين، لم تأت في غيره، واحتفّت بها قرينة التبنّي، وصفات لا توجد في غيره، فلا يُقاس عليه، قال المازريّ: ولها أن تُجيب بأنه ورد متأخّرًا، فهو ناسخ لما عداه، مع ما لأمهات المؤمنين من شدّة الحكم في الحجاب، والتغليظ فيه، قال الزرقاني: كذا قال، وفيه نظرٌ لا يخفى
(2)
.
وقال السنديّ رحمه الله في "شرح النسائيّ": ولو كان الأمر إلينا لقلنا بثبوت ذلك الحكم في الكبير، عند الضرورة، كما في الْمَوْرِدِ، وأما القول بالثبوت مطلقًا كما تقول عائشة رضي الله عنها فبعيدٌ، ودعوى الخصوصيّة لا بدّ من إثباتها. انتهى
(3)
.
(1)
من هامش "المصباح" 1/ 3.
(2)
"شرح الزرقانيّ على الموطّأ" 3/ 245 - 246.
(3)
"شرح السنديّ على النسائيّ" 6/ 107.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله السنديّ: حسنٌ جدًّا، وقد تقدّم تحقيقه.
والحاصل أن الأرجح أن هذا الحكم لا يخُصّ سالمًا، بل هو رخصة لكلّ من كان على مثل حال سالم من الضرورة، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أم سلمة رضي الله عنها هذا موقوفٌ، وهو من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 3605](1454)، و (النسائيّ) في "النكاح"(6/ 106) و"الكبرى"(3/ 304)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1947)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 312)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 122 - 123)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 127)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 460) و"المعرفة"(6/ 94)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(8) - (بَابُ إِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3606]
(1455) - (حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَعِنْدِي رَجُلٌ قَاعِدٌ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، قَالَتْ: فَقَالَ: "انْظُرْنَ إِخْوَتَكُنَّ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ) بن مصعب التميميّ، أبو السَّريّ الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 243) وله (91) سنةً (عخ م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.
2 -
(أَبُو الْأَحْوَصِ) سلّام بن سُليم الْحَنفيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ صاحب حديث [7](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.
3 -
(أَشْعَثُ بْنُ أَبِي الشَّعْثَاءِ) المحاربيّ الكوفيّ، ثقةٌ [6](ت 125)(ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 153.
4 -
(أَبُوهُ) سُليم بن الأسود بن حنظلة، أبو الشعثاء المحاربيّ الكوفيّ، ثقةٌ، من كبار [3](ت 83)(ع) تقدم في "الطهارة" 19/ 622.
5 -
(مَسْرُوقُ) بن الأجدع بن مالك الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو عائشة الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ مخضرم [2](ت 2 أو 63)(ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 217.
و"عَائِشَةُ" رضي الله عنها ذُكرت قبل حديث.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، كما أسلفته آنفًا.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير الصحابيّة، فمدنيّة.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ مخضرم، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ مَسْرُوقِ) بن الأجدع رحمه الله، أنه (قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها (دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَعِنْدِي رَجُلٌ قَاعِدٌ) قال الحافظ: لم أقف على اسمه، وأظنّه ابنًا لأبي القُعيس، وغلِط من قال: هو عبد الله بن يزيد، رضيع عائشة؛ لأن عبد الله هذا تابعيّ باتفاق الأئمّة، وكأن أمّه التي أرضعت عائشة عاشت بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فولدته، فلهذا قيل له: رضيع عائشة. انتهى
(1)
. (فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ،
(1)
"الفتح" 11/ 385.
وَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ) وفي رواية البخاريّ من طريق شعبة، عن الأشعث:"فكأنه تغيّر وجهه، كأنه كره ذلك"، وفي رواية له من طريق سفيان الثوريّ، عن الأشعث:"فقال: "عائشة من هذا؟، قلت: هذا أخي من الرضاعة" (فَقُلْتُ: إِنَّهُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("انْظُرْنَ إِخْوَانَكُنَّ مِنَ الرَّضَاعَةِ) وفي رواية البخاريّ: "انظرن ما إخوانكنّ؟ "، و"ما" استفهاميّة، والمعنى: تأمّلن ما وقع من ذلك، هل هو رضاعٌ صحيح بشرطه، من وقوعه في زمن الرضاعة، ومقدار الارتضاع، فإن الحكم الذي ينشأ من الرضاع إنما يكون إذا وقع الرضاع المشترط.
وفي رواية للبخاريّ: "انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ؟ " بـ "مَنْ" بدل "ما"، وهي أوجه، وهي استفهاميّة أيضًا.
وقال المهلّب رحمه الله: معناه: انظرن ما سبب هذه الأُخوّة، فإن حرمة الرضاع إنما هي في الصغر حتى تسدّ الرضاعة المجاعة.
وقال أبو عُبيد: معناه أن الذي جاع كان طعامه الذي يُشبعه اللبن من الرضاع، لا حيث يكون الغذاء بغير الرضاع.
(فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ) وفي رواية النسائي: "فإنَّ الرضاعةَ"(مِنَ الْمَجَاعَةِ") فيه تعليل الباعث على إمعان النظر والفكر؛ لأن الرضاعة تُثبتُ النسبَ، وتجعل الرضيع مَحْرَمًا.
والمعنى: أن الرضاعة التي تثبت بها الحرمة، وتحِلُّ بها الخلوة، هي حيث يكون الرضيع طفلًا، يسدّ اللبن جوعته؛ لأن معدته ضعيفة، يكفيها اللبن، وينبتُ بذلك لحمه، فيصير كجزء من المرضعة، فيشترك في الحرمة مع أولادها، فكأنه قال: لا رضاعة معتبرةٌ إلا المُغْنِية عن المجاعة، أو المطعمة من المجاعة، كقوله تعالى:{أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} [قريش: 4]، ومن شواهده حديث ابن مسعود رضي الله عنه:"لا رضاع إلا ما شدّ العظم، وأنبت اللحم"، أخرجه أبو داود، مرفوعًا، وموقوفًا، وحديث أم سلمة رضي الله عنها:"لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء". أخرجه الترمذيّ، وصححه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنه متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 3606 و 3607](1455)، و (البخاريّ) في "الشهادات"(2647) و"النكاح"(5102)، و (أبو داود) في "النكاح"(2058)، و (النسائيّ) في "النكاح"(6/ 102) و"الكبرى"(3/ 301)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(194)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 200)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 547)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 94 و 138 و 174 و 214)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(3/ 823)، و (الدارميّ) في "سننه"(2256)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 174)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(1/ 276)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 123)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 456 و 460) و"الصغرى"(6/ 513) و"المعرفة"(6/ 96)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مقدار الرضاعة التي يثبت بها التحريم، وذلك خمس رضعات، ووجه الاستدلال بهذا الحديث على ذلك، أنه يدلّ على أن الرضعة الواحدة، لا تحرّم؛ لأنها لا تُغني من الجوع، فإذًا لا بدّ من تقدير ما يُحرّم منها، فيكون أولى ما يؤخذ به ما قدّرته الشريعة، وهو خمس رضعات.
2 -
(ومنها): جواز دخول من اعترفت المرأة بالرضاعة معه عليها، وأنه يصير أخًا لها، وقبول قولها فيمن اعترفت به.
3 -
(ومنها): سؤال الرجل زوجته عن سبب إدخال الرجال بيته، والاحتياط في ذلك، والنظر فيه.
4 -
(ومنها): أنه استدلّ به على أن التغذية بلبن المرضعة يُحَرِّم، سواء كان بشرب أم أكل بايّ صفة كان، حتى الوُجور، والسُّعوط، والثَّرْد، والطَّبْخ، وغير ذلك، إذا وقع ذلك بالشرط المذكور من العدد؛ لأن ذلك يَطْرُد الجوع، وهو موجود في جميع ما ذُكر، فيوافق الخبر والمعنى، وبهذا قال الجمهور، لكن استثنى الحنفيّة الحُقْنة.
وخالف في ذلك الليث، وأهل الظاهر، فقالوا: إن الرضاعة المحرمة إنما تكون بالْتِقَام الثدي، ومصّ اللبن منه.
5 -
(ومنها): أنه استُدلّ به على أن الرضاعة إنما تُعتبر في حال الصغر؛ لأنها الحال الذي يمكن طرد الجوع فيها باللبن بخلاف حال الكبر، وضابط ذلك تمام الحولين، وعليه يدلّ حديث ابن عباس رضي الله عنهما، رفعه:"لا رضاع إلا ما كان في الحولين"، أخرجه الدارقطنيّ، وقال: لم يُسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل، وهو ثقة حافظ، وأخرجه ابن عديّ، وقال: غير الهيثم يوقفه على ابن عباس، وهو المحفوظ، وحديث أمّ سلمة رضي الله عنها:"لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء، وكان قبل الفطام"، صححه الترمذيّ، وابن حبّان.
وقال القرطبيّ: في قوله: "فإنما الرضاعة من المجاعة" تثبيت قاعدة كلّيّة صريحة في اعتبار الرضاع في الزمن الذي يستغني به الرضيع عن الطعام باللبن، ويعتضد بقوله تعالى:{لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} ، فإنه يدلّ على أن هذه المدّة أقصى مدّة الرضاع المحتاج إليه عادةً المعتبر شرعًا، فما زاد عليه لا يُحتاج إليه عادةً، فلا يُعتبر شرعًا، إذ لا حكم للنادر، وفي اعتبار إرضاع الكبير انتهاك حرمة المرأة بارتضاع الأجنبيّ منها؛ لاطلاعه على عورتها، ولو بالتقامه ثديها.
يعني على الغالب، وأيضًا على مذهب من يشترط التقام الثدي، والله تعالى أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "انتهاك حرمة المرأة" هذا غير مقبول، بل هو باطلٌ؛ لمصادمته النصّ الصحيح:"أرضعيه تحرمي عليه"، بعد أن قالت له: إنه رجل كبير، ذو لحية، فكيف يقال بعد أمر الشارع: إنه انتهاك لحرمة المرأة؟ هذا رأي مرفوض، بل الحقّ كما أسلفنا تحقيقه أن رضاع الكبير عند الحاجة الماسّة جائز، ويقع به التحريم، كما هو النصّ الصحيح الصريح، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
[تنبيه]: مذهب عائشة رضي الله عنها كما سبق - أنها لا تفرّق في حكم الرضاع بين حال الصغر والكبر، وقد استُشكل ذلك مع كون هذا الحديث من روايتها، واحتجّت هي بقصّة سالم مولى أبي حُذيفة، فلعلّها فهمت من قوله:"إنما الرضاعة من المجاعة" اعتبار مقدار ما يسدّ الجوعة من لبن المرضعة لمن
يرتضع منها، وذلك أعمّ من أن يكون المرتضع صغيرًا أو كبيرًا، فلا يكون الحديث نصًّا في منع اعتبار رضاع الكبير، وحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما المتقدّم مع تقدير ثبوته ليس نصًّا في ذلك، ولا حديث أم سلمة رضي الله عنها المذكور أيضًا؛ لجواز أن يكون المراد أن الرضاع بعد الفطام ممنوع، ثم لو وقع رُتِّب عليه حكم التحريم، فما ثبت في الأحاديث المذكورة ما يدفع هذا الاحتمال، فلهذا عملت عائشة رضي الله عنها بذلك، أفاده في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3607]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، جَمِيعًا عَنْ سُفْيَانَ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْجُعْفِيُّ، عَنْ زَائِدَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ، بإسْنَادِ أَبِي الْأَحْوَصِ، كمَعْنَى حَدِيثِهِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا:"مِنَ الْمَجَاعَةِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة عشر:
1 -
(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد المعروف ببندار، تقدّم قبل بابين.
2 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) العنبريّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
3 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر العنبريّ، أبو المثنّى البصريّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
4 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل بابين.
5 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح بن مَلِيح الرُّؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 6 أو 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
(1)
"الفتح" 11/ 387.
6 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل بابين.
7 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) تقدّم قريبًا.
8 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
9 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) تقدّم أيضًا قريبًا.
10 -
(حُسَيْنٌ الْجُعْفِيُّ) ابن عليّ بن الوليد المقرئ الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ [9](ت 3 أو 204) وله 4 أو 85) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 154.
11 -
(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثقفيّ، أبو الصَّلْت الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنّيّ [7](ت 160) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.
والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي.
[تنبيه]: رواية شعبة، عن أشعث بن أبي الشعثاء، ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" (ج 6/ ص 174) فقال:
(25457)
- ثنا محمد بن جَعْفَرٍ، وَبَهْزٌ، قَالَا: ثنا شُعْبَةُ، قال بَهْزٌ: ثنا أَشْعَثُ بن سُلَيْمٍ، أَنَّهُ سمع أَبَاهُ يحدِّث، وقال محمد بن جَعْفَرٍ: عَنِ الأَشْعَثِ بن سُلَيْمٍ، عن أبيه، عن مَسْرُوقٍ، عن عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دخل عليها، وَعِنْدَهَا رَجُلٌ، فَكَأَنَّهُ غَضِبَ، فقالت: إنه أخي، قال:"انْظُرْنَ ما إِخْوَانُكُنَّ؟، فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ". انتهى.
ورواية سفيان الثوريّ، عن أشعث، ساقها الإمام أحمد رحمه الله أيضًا في "مسنده" 6/ 214، فقال:
(25832)
- وَكِيعٌ، عن سُفْيَانَ، وَعَبْدُ الرحمن، عن سُفْيَانَ، عن أَشْعَثَ، عن أبيه، عن مَسْرُوقٍ، عن عَائِشَةَ، أَنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل على عَائِشَةَ، وَعِنْدَهَا رَجُلٌ، قال: فقال: "من هذا؟ " قالت: أخي مِنَ الرَّضَاعَةِ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"انْظُرُوا من تُرضِعُونَ؟ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ"، قال عبد الرحمن:"انْظُرْنَ ما إِخْوَانُكُنَّ؟ إنما الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ". انتهى.
وأما رواية زائدة، عن أشعث، فلم أر من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(9) - (بَابُ جَوَازِ وَطْءِ الْمَسْبِيَّةِ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3608]
(1456) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَيْسَرَةَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ صَالِح أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ أَبِي عَلْقَمَةَ الْهَاشِمِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ بَعَثَ جَيْشًا إِلَى أَوْطَاسَ، فَلَقُوا عَدُوًّا، فَقَاتَلُوهُمْ، فَظَهَرُوا عَلَيْهِمْ، وَأَصَابُوا لَهُمْ سَبَايَا، فَكَأَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَحَرَّجُوا مِنْ غِشْيَانِهِنَّ، مِنْ أَجْلِ أَزْوَاجِهِنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِي ذَلِكَ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، أَيْ فَهُنَّ لَكُمْ حَلَالٌ، إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْن عُمَرَ بْنِ مَيْسَرَةَ الْقَوَارِيرِيُّ) أبو سعيد البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 235) على الأصحّ وله (85) سنةً (خ م د س) تقدم في "المقدمة" 6/ 75.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) الْعَيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
3 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ) مِهْرَان تقدّم قريبًا.
4 -
(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدُوسيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(صَالِحٌ أَبُو الْخَلِيلِ) ابن أبي مريم الضّبَعيّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
6 -
(أَبُو عَلْقَمَةَ الْهَاشِمِيُّ) مولاهم، ويقال: حليف الأنصار، الفارسيّ المصريّ، وكان قاضي إفريقية، ثقةٌ، من كبار [3](ز م 4) تقدم في "الصلاة" 21/ 939.
7 -
(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه، وأبي علقمة، فما أخرج له البخاريّ في "الصحيح".
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، سوى شيخه، وأبي علقمة، وأبي سعيد، كما أسلفته آنفًا.
4 -
(ومنها): أن رواية قتادة، عن أبي الخليل من رواية الأكابر عن الأصاغر؛ لأن قتادة من الطبقة الرابعة، وأبا الخليل من السادسة.
(ومنها): أن فيه أبا سعيد رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي عَلْقَمَةَ الْهَاشِمِيِّ) هكذا هو في هذا الطريق، وفي الطريق التالي بذكر أبي علقمة بين أبي الخليل، وبين أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، وفي الطريق الثالث: عن صالح أبي الخليل، عن أبي سعيد الخدريّ رحمه الله، من غير ذكر أبي علقمة، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع نُسَخ بلادنا، وكذا ذكره أبو علي الغسانيّ عن رواية الْجُلُوديّ، وابن ماهان، قال: وكذلك ذكره أبو مسعود الدمشقيّ، قال: ووقع في نسخة ابن الحذّاء بإثبات أبي علقمة بين أبي الخليل، وأبي سعيد، قال الغسانيّ: ولا أدري ما صوابه؟.
وقال القاضي عياض: قال غير الغسانيّ: إثبات أبي علقمة هو الصواب.
قال النوويّ: ويَحْتَمِل أن إثباته وحذفه كلاهما صواب، ويكون أبو الخليل سمع بالوجهين، فرواه تارة كذا، وتارة كذا، وقد سبق في أول الكتاب بيان أمثال هذا. انتهى كلام النوويّ
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الاحتمال الذي ذكره النووي من جواز الإثبات وعدمه غير صحيح، وإنما الصحيح الإثبات فقط؛ لأن في عدمه
(1)
"شرح النوويّ" 10/ 34 - 35.
انقطاعًا؛ لأن أبا الخليل لم يسمع من أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، فقد نصّ في "تهذيب التهذيب" أنه أرسل عن أبي قتادة، وأبي موسى، وأبي سعيد، وسفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
، وقد نصّ الحافظ المزّيّ: في "تهذيب الكمال"
(2)
على أن روايته عن هؤلاء مرسلة، ولذا جعله في "التقريب" من الطبقة السادسة، أي التي لم تلق صحابيًّا أصلًا، فالصواب إثبات أبي علقمة بين أبي الخليل، وأبي سعيد، كما سبق في كلام القاضي عياض، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ) متعلّقٌ بـ (بَعَثَ جَيْشًا) أي جُندًا، أو هم السائرون لحرب، أو غيرها، قاله المجد
(3)
، جمعه جُيُوشٌ (إِلَى أَوْطَاسٍ) قال النوويّ رحمه الله:"أوطاس": موضع عند الطائف، يُصرَف، ولا يُصرف. انتهى، وقال الفيّوميّ رحمه الله:"أوطاس" من النوادر التي جاءت بلفظ الجمع للواحد، وهو وَادٍ في ديار هَوَازن، جَنُوبيّ مكة، بنحو ثلاث مَراحل، وكانت وقعتها بعد فتح مكة بنحو شهر. انتهى
(4)
.
(فَلَقُوا) بضم القاف، وأصله لَقِيُوا بكسرها، من باب تَعِبَ، فلما استُثقلت الضمة على الياء نُقلت إلى القاف بعد سلب كسرتها، ثم حُذفت الياء لالتقاء الساكنين، فصار لَقُوا بفتح اللام، وضمّ القاف (عَدُوًّا) وهم هوازن، (فَقَاتَلُوهُمْ، فَظَهَرُوا عَلَيْهِمْ) أي غلبوهم، وانتصروا عليهم (وَأَصَابُوا لَهُمْ سَبَايَا) بفتح السين المهملة، جمع سَبيّة، مثل عطيّة وعَطَايا، وهي فَعِيلة بمعنى مفعولة، أي مسبيّة، زاد في رواية النسائيّ:"لَهُنَّ أَزْوَاج فِي الْمُشْرِكِينَ" أي الذين قاتلوهم، وانتصروا عليهم (فَكَأَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَحَرَّجُوا) أي تجنّبوا الحرَج، وهو الإثم، قال الفيّوميّ رحمه الله: حَرِج صدرُهُ حَرَجًا، من باب تَعِبَ: ضاق، وحَرِجَ الرجلُ: أثِمَ، وصدرٌ حَرِجٌ ضَيِّقٌ، ورجلٌ حَرِجٌ آثمٌ، وتحرّج الإنسان تحرُّجًا، هذا مما ورد لفظه مُخالفًا لمعناه، والمراد: فعل فعلًا جانب به الْحَرَجَ، كما يقال: تحنّث إذا فعل ما يخرُج به عن الحنث، قال ابن الأعرابيّ: للعرب أفعالٌ تخالف معانيها ألفاظَها، قالوا: تحرّج، وتحنّث،
(1)
"تهذيب التهذيب" 2/ 200.
(2)
"تهذيب الكمال" 13/ 90.
(3)
"القاموس" 2/ 266.
(4)
"المصباح المنير" 2/ 663.
وتأثّم، وتهجّد: إذا ترك الْهُجُود، ومن هذا الباب ما وردَ بلفظ الدعاء، ولا يُراد به الدعاء، بل الحثّ، والتحريض، كقوله:"تَرِبت يداك"، و"عَقْرَى حَلْقَى"، وما أشبه ذلك. انتهى
(1)
.
(منْ غِشْيَانِهِنَّ) متعلّقٌ بـ "تحرّجوا" يعني أنهم خافوا الوقوع في الحرج، وهو الإثم بسبب غشيانهنّ، أي وطئهنّ (مِنْ أَجْلِ أَزْوَاجِهِنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي من أجل أنهنّ ذوات أزواج، والمزوّجة لا تحلّ لغير زوجها، قال القرطبيّ: أي ظنّوا أن نكاح أزواجهنّ لم تنقطع عصمته. انتهى
(2)
.
(فَأَنْزَلَ اللهُ في ذَلِكَ) أي في شأن بيان جواز وطء من تحرّجوا فيهنّ، وقوله:({وَالْمُحْصَنَاتُ}) هو في الأصل مرفوع عطفًا على المحرمات السابقة في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} الآية [النساء: 23]، وأما هنا فهو في محلّ نصب على أنه مفعول به لـ "أنزَل" محكيّ؛ لقصد لفظه.
والمعنى: حرّمت عليكم نكاح المحصنات، والمراد بالمحصنات هنا المزوّجات، ومعناه: والمزوّجات حرام على غير أزواجهنّ، إلا ما ملكتم بالسبي، فإنه ينفسخ نكاح أزواجهنّ الكفّار، وتحلّ لكم، إذا انقضى استبراؤها.
وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله في "المفهم": الْمُحْصَنة: اسم مفعول من أُحصنت، وأصل الإحصان المنع، ومنه الحِصْن الذي يُمتنع فيه، والفرس حِصَانٌ؛ لأنه يُتحصّن عليه، وتطلق الْمُحصَنة على ذات الزوج؛ لأن الزوج منعها من غيره، وعلى العفيفة؛ لأنها منعت نفسها من الفواحش، وعلى الحرّة؛ لأنها تمنعها مما يتعاطاه العبيد، أي هنّ ممن حرّم عليكم، ثم استثنى بقوله:{إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]. انتهى
(3)
.
وقال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": والتحصّن التمنّع، ومنه الحِصن؛ لأنه يُمتنع فيه، ومنه قوله تعالى:{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80]، أي لتمنعكم، ومنه الحِصان للفرس - بكسر الحاء - لأنه يَمنع صاحبه من الهلاك، والْحَصَان - بفتح الحاء - المرأة العفيفة
(1)
"المصباح المنير" 1/ 127 - 128.
(2)
"المفهم" 4/ 193.
(3)
"المفهم" 4/ 191.
لمنعها نفسها من الهلاك، وحَصُنت المرأةُ تَحصُنُ، فهي حَصَانٌ، مثلُ جبُنت فهي جَبَان، وقال حسّان في عائشة رضي الله عنهما[من الطويل]:
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِريبةٍ
…
وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ
والمصدر الْحَصَانة - بفتح الحاء - والحِصن كالعلم. انتهى
(1)
.
وقال السمين الحلبيّ رحمه الله في "تفسيره": قرأ الجمهور هذه اللفظة، سواء كانت معرّفةً بـ "أل"، أم نكرةً بفتح الصاد، والكسائيّ بكسرها في جميع القرآن، إلا قوله:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24] فإنه وافق الجمهور، فأما الفتح، ففيه وجهان:
أشهرهما: أنه أُسند الإحصان إلى غيرهنّ، وهو إما الأزواج، أو الأولياء، فإن الزوج يُحْصِن امرأته، أي يُعفّها، والوليّ يُحصنها بالتزويج، والله يُحصنها بذلك.
والثاني: أن هذا المفتوح الصاد بمنزلة المكسور، يعني أنه اسم فاعل، وإنما شذّ فتح عين اسم الفاعل في ثلاثة ألفاظ: أحصَنَ، فهو مُحصَن، وألفج، فهو مُلْفَج
(2)
، وأسهَبَ
(3)
، فهو مُسْهَب.
وأما الكسر، فإنه أسند الإحصان إليهنّ؛ لأنهنّ يُحصِنّ أنفسهنّ بعفافهنّ، أو يُحصِنّ فروجهنّ بالحفظ، أو يُحصِنّ أزواجهنّ.
وقد ورد الإحصان في القرآن لأربعة معان: الأول: التزوج، كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى:{مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24]. الثاني: الحرّيّة، كما في قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} الآية [النساء: 25]. الثالث: الإسلام، كما في قوله تعالى:{فَإِذَا أُحْصِنَّ} قيل في تفسيره: أسلمن. الرابع: العفّة، كما في قوله تعالى:{مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} [النساء: 25]. انتهى
(4)
.
({مِنَ النِّسَاءِ}) في محلّ نصب على الحال ({إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ})
(1)
"الجامع لأحكام القرآن" 5/ 120.
(2)
يقال: ألفج، فهو مُلْفَجٌ بفتح اللام: إذا أفلس. اهـ. "القاموس".
(3)
أي أكثر الكلام.
(4)
"الدرّ المصون في علم كتاب الله المكنون" 2/ 344 بزيادة من "حاشية الجمل" 1/ 371.
قال السمين الحلبيّ رحمه الله: إن أريد بالإحصان هنا التزوّج كان المعنى: وحُرّمت عليكم المحصنات، أي المزوّجات، إلا النوع الذي ملكته أيمانكم، إما بالسبي، أو بملكٍ، من شراء، وهبة، وإرث، وهو قول بعض أهل العلم، ويدلّ على الأول قول الفرزدق [من الطويل]:
وَذَاتِ حَلِيلٍ أَنْكَحَتْهَا رِمَاحُنَا
…
حَلَالٌ لِمَنْ يَبْنِي بِهَا لَمْ تُطَلَّقِ
يعني أن مجرّد سبائها أحلّها بعد الاستبراء.
وإن أريد به الإسلام، أو العفّةُ فالمعنى: أن المسلمات، أو العفيفات حرامٌ كلّهنّ، يعني فلا يُزنَى بهنّ، إلا ما مُلك منهنّ بتزويج، أو ملك يمين، فيكون المراد بـ "ما ملكت أيمانكم" التسلّط عليهنّ، وهو قدر مشترك، وعلى هذه الأوجه الثلاثة يكون الاستثناء متّصلًا.
وإن أريد به الحرائر، فالمراد إلا ما مُلِكَتْ بملك يمين، وعلى هذا فالاستثناء منقطع. انتهى
(1)
.
(أَيْ فَهُنَّ) أي المستثنيات (لَكُمْ حَلَالٌ) أي أحلّ لكم وطؤهنّ (إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ) يعني بعدتهنّ استبراءهنّ من ماء الزوج الكافر، وهو بوضع الحمل إذا كانت حاملًا، وبحيضة، إذا كانت حائلًا، كما جاءت به الأحاديث الصحيحة، أفاده النوويّ رحمه الله
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [9/ 3608 و 3609 و 3610 و 3611 و 3612](1456)، و (أبو داود) في "النكاح"(2155)، و (الترمذيّ) في "النكاح"
(1)
"الدرّ المصون في علم كتاب الله المكنون" 2/ 344 - 345.
(2)
"شرح النوويّ" 10/ 35.
(1132)
و"التفسير"(3016 و 3017)، و (النسائيّ) في "النكاح"(3334) وفي "الكبرى"(5491 و 5492) و"التفسير"(11096 و 11097)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 84)، و (الدارميّ) في "سننه"(2295)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 104)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 129)، و (البيهقيّ في "الكبرى" (7/ 167 و 9/ 124) و"الصغرى"(6/ 160) و"المعرفة"(5/ 295)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(ومنها): بيان جواز وطء المسبيّات، إذا اسْتُبْرِئْنَ.
2 -
(ومنها): أن نكاح المشركين ينفسخ إذا سُبيت زوجاتهم؛ لدخولها في ملك سابيها.
3 -
(منها): بيان سبب نزول هذه الآية، وبيان المعنى المراد منها، قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: اختَلَف الناس في سبب نزول هذه الآية، وحديث أبي سعيد رضي الله عنه هذا أصحّ ما نُقل في ذلك، وبه يرتفع الخلاف، فإنه نصّ فيه على أنها نزلت بسبب تحرّج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إتيان المسبيّات ذوات الأزواج، فأنزل الله تعالى في جوابهم:{إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]، فالمسبيّات ذوات الأزواج داخلات في عموم {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، فالسبي فسخ لنكاحهنّ بلا شكّ، وهل هو فسخ بطلاق، أو بغير طلاق؟ ذهب للأول الحسن البصريّ، وخالفه الجمهور
(1)
، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الخامسة - إن شاء الله تعالى -.
4 -
(ومنها): أن فيه دلالةً على وجوب توقّف الإنسان، وبحثه، وسؤاله عما لا يتحقّق وجهه، ولا حكمه، وهو دأب من يخاف الله عز وجل، ولا يُختَلَف في أن ما لا يتبيّن حكمه لا يجوز الإقدام عليه، قاله القرطبيّ.
5 -
(ومنها): أن فيه دلالة للمذهب المختار، وهو مذهب جماهير العلماء أن العرب يجري عليهم الرقّ كما يجري على العجم، وأنهم إذا كانوا مشركين، وسُبُوا، جاز استرقاقهم؛ لأن الصحابة سبوا هوازن، وهم عبدة الأوثان، وقد
(1)
"المفهم" 4/ 192 - 192.
استرقّوهم، ووطئوا سباياهم، وبهذا قال مالك، والشافعيّ في قوله الصحيح الجديد، وجمهور العلماء، وقال أبو حنيفة، والشافعيّ في قوله القديم: لا يَجري عليهم الرّقّ؛ لشرفهم.
6 -
(ومنها): أن فيه دلالةً أيضًا لمذهب من أجاز وطء المشركة بملك اليمين، وإن لم تكنْ من أهل الكتاب، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.
7 -
(ومنها): أن المراد بعدّة المسبيّات تحقّق براءة رحمهنّ، وذلك بوضع حملها، إن كانت حاملًا، وبحيضة إن كانت غير حامل.
8 -
(ومنها): أنه لا يجوز وطء حامل مسبيّة حتى تضع، فقد تقدّم للمصنّف حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه أَتَى بامرأة مُجِحٍّ على باب فُسطاط، فقال:"لعله يُريد أن يُلِمَّ بها؟ "، فقالوا: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لقد هممت أن ألعنه، لعنًا يدخل معه قبره، كيف يُوَرِّثُهُ، وهو لا يحل له؟، كيف يستخدمه، وهو لا يحل له؟ "، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم وطء المسبيّة المشركة بملك اليمين:
قال النوويّ رحمه الله: واعلم أن مذهب الشافعيّ، ومن قال بقوله من العلماء أن المسبيّة من عَبَدة الأوثان، وغيرهم من الكفّار الذين لا كتاب لهم، لا يحلّ وطؤها بملك اليمين، حتى تُسلم، فما دامت على دينها، فهي محرّمة، وهؤلاء المسبيّات كُنّ من مشركي العرب عبدة الأوثان، فيؤوّل هذا الحديث، وشبهه على أنهنّ أسلمن، وهذا التأويل لا بدّ منه، والله أعلم انتهى
(1)
.
وقال الشوكانيّ رحمه الله ما حاصله: ظاهر الحديث أنه لا يشترط في جواز وطء المسبيّة الإسلام، ولو كان شرطًا لبيّنه صلى الله عليه وسلم، ولم يُبيّنه، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وذلك وقتها، ولا سيّما وفي المسلمين في يوم حنين وغيره من هو حديث عهد بالإسلام، يخفى عليهم مثل هذا الحكم، وتجويز
(1)
"شرح النوويّ" 10/ 35 - 36.
حصول الإسلام من جميع السبايا، وهي في غاية الكثرة بعيدٌ جدًّا، فإن إسلام مثل عدد المسبيّات في أوطاس دفعةً واحدةً، من غير إكراه لا يقول بأنه يصحّ تجويزه عاقلٌ، ومن أعظم المؤيّدات لبقاء المسبيّات على دينهنّ ما ثبت من ردّه صلى الله عليه وسلم لهنّ بعد أن جاء إليه جماعة من هوازن، وسألوه أن يردّ إليهم ما أخذ عليهم من الغنيمة، فردّ إليهم السبي فقط.
وقد ذهب إلى جواز وطء المسبيّات الكافرات بعد الاستبراء المشروع جماعة: منهم طاوس، وهو الظاهر؛ لما سلف. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذكره الشوكانيّ أن الأرجح قول من قال بجواز وطء المسبيات الكافرات غير الكتابيات بعد الاستبراء؛ لقوة دليله، وأن التأويل الذي ذكره النوويّ فيه بُعدٌ، وتكلّف، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلماء في الأَمَةِ إذا بيعت، وهي مزوّجةٌ مسلمًا:
(اعلم): أنهم اختَلَفوا فيها، هل ينفسخ النكاح، وتحلّ لمشتريها، أم لا؟، فقال ابن عبّاس رضي الله عنهما: ينفسخ لعموم قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24].
وقال سائر العلماء: لا ينفسخ، وخصّوا الآية بالمملوكة بالسبي، أفاده النوويّ رحمه الله.
وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: اختلفوا هل السبي فسخ بطلاق، أو بغير طلاق؟ فذهب للأول الحسن البصريّ، ثمّ هل يُقصر التحريم عليهنّ - أعني المسبيّات - لأنهنّ السبب، أو يُحمل اللفظ على عمومه؟ قولان لأهل العلم، وعن هذا نشأ الخلاف في بيع الأمة ذات الزوج، وهبتها، وميراثها، وعتقها، فقال الحسن: إن ذلك كله طلاق لها من زوجها، وروي عن عمر في قوله تعالى:{إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} بملك نكاح، أو يمين، أو غَلَبة.
وذهب مالك، وجمهور العلماء إلى أنه ليس شيء من ذلك فسخًا، ولا طلاقًا، بدليل حديث بَرِيرة رضي الله عنها لَمّا أُعتقت خُيِّرت، فلو كان عتقها طلاقًا لما صحّ خيارها، فإنه كان يقع بنفس العتق، وهو يدلّ على أن الآية مقصورة على سببها.
فإذا تقرّر أن السبي فسخٌ، فالمشهور من مذهبنا أنه لا فرق بين أن يُسبى الزوجان مجتمعين، أو مفترقين.
وروى ابن بُكير عن مالك أنهما إن سُبيا جميعًا، واستبقي الرجل أُقرّا على نكاحهما، فرأى في هذه الرواية أن استبقاءه إبقاء لما يملكه؛ لأنه قد صار له عهد، وزوجته من جملة ما يملكه، فلا يُحال بينها وبينه، والصحيح الأول؛ للتمسّك بظاهر الآية، كما تقدّم، ولأنها قد مُلكت رقبتها بالسباء، فيُملك جميع منافعها، ولا يُنتقض هذا بالبيع، ولا بغيره من الوجوه التي تنقل الملك المذكور على ما تقدّم؛ لأنها خروج من مالكٍ ملكًا محقّقًا، والكافر لا يملك ملكًا محضًا، فافترقا. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقال المازريّ: هذا الخلاف مبنيّ على أن العموم إذا خرج على سبب، هل يقصر على سببه، أم لا؟، فمن قال: يُقصَرُ على سببه لم يكن فيه حجة للمملوكة بالشراء؛ لأن التقدير: إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي، ومن قال: لا يقصر، بل يُحمل على عمومه قال: ينفسخ نكاح المملوكة بالشراء، لكن ثبت في حديث شراء عائشة بريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خيّر بريرة في زوجها، فدلّ على أنه لا ينفسخ بالشراء، لكن هذا تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، وفي جوازه خلاف، ذكره النوويّ.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحقّ جواز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد، وهو الأصحّ عند الأصوليين، وهو قول الجمهور، وعليه الأئمة الأربعة، فيما حكاه ابن الحاجب. قال السيوطيّ في "الكوكب الساطع":
وَجَازَ أَنْ يُخَصَّ فِي الصَّوَابِ
…
سُنَّتُهُ بِهَا وَبِالْكِتَابِ
وَهْوَ بِهِ وَخَبَرِ التَّوَاتُرِ
…
وَخَبَرِ الْوَاحِدِ عِنْدَ الأَكْثَرِ
(2)
وقلت في "التحفة المرضيّة":
وَجَازَ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابْ
…
وَسُنَّةٍ أَيْ مُطْلَقَا فَلَا عِتَابْ
(1)
"المفهم" 4/ 191 - 192.
(2)
راجع: "الجليس النافع الصالح بتوضيح معاني الكوكب الساطع" شرحي للنظم المذكور (ص 194 - 196).
وَسُنَّةٍ بِهَا كَذَاكَ مُطْلَقَا
…
وَبِكِتَابِ اللهِ كُلٌّ يُنْتَقَى
(1)
والحاصل أن عموم قوله تعالى: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} مخصوص بالمملوكة بالسبي، أما المملوكة بالشراء، ونحوه، فلا تحل لمالكها؛ لعدم انفساخ النكاح بالشراء، كما هو رأي الجمهور، ودليله حديث بريرة رضي الله عنها المتّفق عليه، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا اشترتها عائشة، وأعتقتها خيّرها في زوجها، فلو كان الشراء ينفسخ به النكاح لما كان للتخيير معنى، فتبصّر.
ثم رأيت العلامة ابن العربيّ رحمه الله قد حقّق هذا الموضوع في "أحكام القرآن"، فقال ما ملخّصه: وأما من قال: إن قوله تعالى: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} في الإماء كلهنّ، وإنَّ مِلك الأمة المتجدِّد على النكاح يبطله، فموضع إشكال عظيم، ولأجله تردد فيه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. بَيْدَ أن الظاهر أن ملكًا متجددًا لا يبطل نكاحًا متأكِّدًا، ولو أنه مَلَّكَ منفعةَ رقبتها لرجل بالإجارة، ثم باعها ما أبطل الملكُ ملكَ منفعة الرقبة، فملك منفعة الْبُضْع أولى أن يبقى، فإن أحقّ الشروط أن يُوفَى به ما استُحِلّت به الفروج، فعقدُ الفرج نفسه أحقّ بالوفاء به من عقد منفعة الرقبة.
قال: والذي يقطع العذر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خَيَّر بريرة، ولم يجعل ما طرأ من العتق عليها، ولا ما ملكت من نفسها مبطلًا لنكاح زوجها، وعليه يُحْمَل كل مُلك متجدد، وقد بيّناه في مسائل الخلاف، وفيما أشرنا إليه ها هنا من الأثر والمعنى كفاية لمن سَدَّد النظر، فوضح أن المراد بالمحصنات الجميع، وأن المراد بملك اليمين السبي الذي نزلت الآية في بيانه. انتهى كلام ابن العربيّ رحمه الله
(2)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا.
وخلاصة القول أن ما ذهب إليه الجمهور من أن الآية المذكورة محمولة على الإماء المسبيّات، كما هو سبب النزول، هو الحقّ، فلا تدخل من مُلكت بالشراء، أو نحوه، فلا يحلّ وطؤها لمالكها إذا كان لها زوج، بدليل قصّة بريرة رضي الله عنها، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
راجع: "المنحة الرضيّة" شرح "التحفة" المذكورة 3/ 355 - 357.
(2)
"أحكام القرآن" لابن العربيّ رحمه الله 1/ 404.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3609]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ، أَنَّ أَبَا عَلْقَمَةَ الْهَاشِمِيَّ حَدَّثَ، أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ حَدَّثَهُمْ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ يَوْمَ حُنَيْنٍ سَرِيَّةً، بِمَعْنَى حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيعٍ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْهُنَّ، فَحَلَالٌ لَكُمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ: إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(عَبْدُ الْأَعْلَى) بن عبد الأعلى الساميّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.
والباقون ذُكروا في الإسنادين السابقين.
وقوله: (أَنَّ أَبَا عَلْقَمَةَ الْهَاشِمِيَّ حَدَّثَ) ولفظ أبي نعيم في "مستخرجه"(4/ 129): "أن أبا علقمة الهاشميّ حدّثه"، هذه الرواية صرّح فيها أبو الخليل بالتحديث من أبي علقمة، فبها يبطل دعوى بعضهم أن أبا الخليل لم يسمع من أبي علقمة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن سعيد بن أبي عروبة هذه ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه" 3/ 536 فقال:
(16888)
- حدّثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي الخليل، أن أبا علقمة الهاشميّ، حدّثنا، أن أبا سعيد الخدريّ حدّثهم، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ يوم حنين سَرِيَّة، فأصابوا حيًّا من العرب، يوم أوطاس، فهَزَموهم، وقَتَلُوهم، وأصابوا لهم نساء، لهنّ أزواج، فكان أناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم تحرَّجوا من غَشَيانهنّ، من أجل أزواجهنّ، فأنزل الله:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} منهنّ، فتحلّ لكم. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3610]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ) البصريّ، ثقةٌ [10](ت 248) أو بعدها (م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.
2 -
(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) بن عُبيد الْهُجيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.
والباقيان ذُكرا في الباب، وقبله.
[تنبيه]: قوله: "عن قتادة بهذا الإسناد" ظاهر في أن رواية شعبة عن قتادة هذه فيها ذكر أبي علقمة بين أبي الخليل، وأبي سعيد الخدريّ، وهذه الرواية لم أجد من ساقها، وقد تابع شعبة في هذا يزيد بن زُريع، وعبد الأعلى، كما في الروايتين السابقتين، وروايةُ شعبة التالية، صريحة في إسقاط أبي علقمة، وتابعه في هذا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في الرواية الثالثة، فبهذا يتبيّن أن شعبة كان يرويه بالوجهين، بإثبات أبي علقمة، وإسقاطه، وقد تقدّم أن الصواب إثباته؛ لأنه رواية الأكثرين، ولأن إسقاطه يجعل الإسناد منقطعًا؛ فإن أبا الخليل لم يلق أبا سعيد الخدريّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3611]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْخَلِيل، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: أَصَابُوا سَبْيًا يَوْمَ أَوْطَاسَ، لَهُنَّ أَزْوَاجٌ، فَتَخَوَّفُوا
(1)
، فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ).
(1)
وفي نسخة: "فتحرّجوا".
رجال هذا الإسناد: ستة:
وكلّهم ذُكروا قبله.
قال الجامع عفا الله عنه: غرض المصنّف رحمه الله بهذه الرواية، والرواية التالية بيان ما وقع في السند من الاختلاف في ذكر أبي علقمة، وإسقاطه، كما بيّنّاه في الحديث الماضي، وذِكْره هو الصواب.
قال الحافظ أبو الحجّاج المزّيّ رحمه الله في "تحفته" في ترجمة صالح بن أبي مريم أبي الخليل، عن أبي سعيد الخدريّ بعد أن أورد رواية المصنّف هذه: هكذا وقع في "صحيح مسلم"، والمحفوظ حديث أبي سعيد، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن أبي علقمة، عن أبي سعيد. انتهى
(1)
.
فتبيّن بهذا أن الصواب ذِكْر أبي علقمة بين أبي الخليل، وأبي سعيد، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3612]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
وكلّهم ذُكروا في الباب.
وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بالإسناد الذي قبله، وهو الذي قال فيه قتادة: عن أبي الخليل، عن أبي سعيد، فأسقط أبا علقمة الهاشميّ، وقد تقدّم أن ذِكْرَه هو الصواب؛ لأن في إسقاطة يكون منقطعًا، فتنبّه.
[تنبيه]: رواية سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة هذه لم أجد ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"تحفة الأشراف" 3/ 343 - 344.
(10) - (بَابٌ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَتَوَقِّي الشُّبُهَاتِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3613]
(1457) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ في غُلَامٍ، فَقَالَ سَعْدٌ: هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ ابْنُ أَخِي، عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ، انْظُرْ إِلَى شَبَهِهِ، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: هَذَا أَخِي يَا رَسُولَ اللهِ، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي مِنْ وَلِيدَتِهِ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى شَبَهِهِ، فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ، فَقَالَ:"هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ بِنْتَ زَمْعَةَ"، قَالَتْ: فَلَمْ يَرَ سَوْدَةَ قَطُّ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ قَوْلَهُ:"يَا عَبْدُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قريبًا.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ) تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(اللَّيْثُ) بن سعد، تقدّم قبل بابين.
4 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، تقدّم أيضًا قبل بابين.
5 -
(عُرْوَةُ) بنً الزبير، تقدّم قريبًا.
6 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت قبل باب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى ابن رُمح، فانفرد به هو وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير قتيبة، فبغلانيّ، وابن رُمْح، والليث، فمصريان.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه عروة من الفقهاء السبعة، وعائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عُرْوَةَ) وفي رواية شعيب، عن الزهريّ عند البخاريّ في "العتق":"حدّثني عروة"، وكذا وقع في رواية عبد الله بن مسلمة، عن مالك، في "المغازي"، لكن أخرجه في "الوصايا" بلفظ:"عن عروة"، قاله في "الفتح"
(1)
. (عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها، أنها (قَالَتْ: اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ) مالك بن وُهيب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب الزهريّ، أبو إسحاق، أحد العشرة، وأوّل من رمى بسهم في سبيل الله، مناقبه كثيرة، مات رضي الله عنه بالعقيق، سنة (55 هـ) على المشهور، وهو آخر من مات من العشرة المبشّرين بالجنّة رضي الله عنهم، تقدّمت ترجمته في "المقدمة" 6/ 71. (وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ) بغير إضافة "عبد"، ووقع في "مختصر ابن الحاجب": "عبد الله"، وهو غلطٌ، نعم عبد الله بن زمعة آخر، وفي بعض الطرق من غير رواية عائشة عند الطحاويّ في هذا الحديث: عبد الله بن زمعة، ونبّه على أنه غلطٌ، وأن عبد الله بن زمعة هو ابن الأسود بن عبد المطّلب بن أسد بن عبد العزّى.
و"زمعة": - بفتح الزاي، وسكون الميم، وقد تُحرّك - قال النوويّ: التسكين أشهر، وقال أبو الوليد الوقشيّ: التحريك هو الصواب، قال الحافظ: والجاري على ألسنة المحدّثين التسكين في الاسم، والتحريك في النسبة، وهو ابن قيس بن عبد شمس القرشيّ العامريّ، والد سودة، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها.
وعبد بن زمعة قال ابن عبد البرّ: كان من سادات الصحابة، وأخوه لأمه قَرَظَة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف، أمهما عاتكة بنت الأخيف - بخاء معجمة، بعدها مثنّاة تحتانيّة - من بني هُصيص بن عامر بن لؤيّ.
وأخرج ابن أبي عاصم بسند حسن إلى يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة، فجاء أخوها
(1)
"الفتح" 15/ 464 "كتاب الفرائض" رقم (6749).
عبد بن زمعة من الحجّ، فجعل يحثو من التراب على رأسه، فقال بعد أن أسلم: إنّي لسفيهٌ يوم أحثو التراب على رأسي أن تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة. قاله في "الإصابة"
(1)
.
(فِي غُلَامٍ) هو الابن الصغير، وجمع القلّة منه غِلْمة بالكسر، وجمع الكثرة غِلمانٌ، ويُطلق الغلام على الرجل، مجازًا باسم ما كان عليه، كما يقال للصغير شيخٌ، مجازًا باسم ما يؤول إليه، وجاء في الشعر: غلامةٌ، بالهاء، للجارية، قال أوس بن غلفاء الْهُجَيميّ، يصف فرسًا [من الكامل]:
وَمُرْكِضَةٌ صَرِيحِيٌّ أَبُوهَا
…
يُهَانُ لَهَا الْغُلَامَةُ وَالْغُلَامُ
قال الأزهريّ: وسمعت العرب تقول للمولود حين يولد ذكرًا: غُلامٌ، وسمعتهم يقولون للكهل: غُلام، وهو فاشٍ في كلامهم
(2)
.
واسم الغلام المذكور: عبد الرحمن، وذكره ابن عبد البرّ في الصحابة وغيره، وقد أعقب بالمدينة، قاله في "الفتح"
(3)
.
وقال في "الإصابة": وقال ابن عبد البرّ: لم يختلف النسّابون أن اسم ابن الوليدة، صاحب القصّة: عبد الرحمن، قال الحافظ: خبط ابن منده، وتبعه أبو نُعيم في نسبه، فجعله من بني أسد بن عبد العزّى، وليس كذلك، ووهم ابن قانع، فجعله هو الذي خاصم سعدَ بنَ أبي وقّاص، وكأنه انقلب عليه، فإنه المخاصَمُ فيه، لا المخاصِمُ، والمخاصِمُ عبدٌ بغير إضافة، بلا نزاع. انتهى
(4)
.
وقال في "الفتح": وقد وقع لابن منده خبطٌ في ترجمة عبد الرحمن بن زمعة، فإنه زعم أن عبد الرحمن، وعبد الله، وعبدًا إخوة ثلاثة، أولاد زمعة بن الأسود، وليس كذلك، بل عبدٌ بغير إضافة، وعبد الرحمن أخوان، عامريّان، من قريش، وعبد الله بن زمعة قرشيّ أسديّ، من قريش أيضًا. انتهى
(5)
.
(فَقَالَ سَعْدٌ) ابن أبي وقّاص رضي الله عنه (هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ، ابْنُ أَخِي، عُتْبَةَ بْنِ
(1)
"الإصابة في تمييز الصحابة" 6/ 341 - 342.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 452.
(3)
"الفتح" 15/ 465.
(4)
"الإصابة" 7/ 215.
(5)
"الفتح" 15/ 465، و"الإصابة" 5/ 35 - 36.
أَبِي وَقَّاصٍ) "عتبة" بدلٌ من "أخي"، وهو أخو سعد المذكور، مختلفٌ في صحبته، فذكره في الصحابة العسكريّ، وذكر ما نقله الزبير بن بكّار في النسب أنه كان أصاب دمًا بمكّة في قريش، فانتقل إلى المدينة، ولَمّا مات أوصى إلى سعد، وذكره ابن منده في الصحابة، ولم يذكر مستندًا إلا قول سعد:"عهد إليّ أخي أنه ولده"، واستنكر أبو نعيم ذلك، وذكر أنه الذي شجّ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأُحد، قال: وما علمت له إسلامًا، بل قد روى عبد الرزّاق من طريق عثمان الجزريّ، عن مقسم:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا بأن لا يحول على عتبة الحول حتى يموت كافرًا، فمات قبل الحول". وهذا مرسل، وأخرجه من وجه آخر عن سعيد بن المسيّب بنحوه.
وأخرج الحاكم في "المستدرك" من طريق صفوان بن سُليم، عن أنس أنه سمع حاطب بن أبي بلتعة، يقول:"إن عتبة لَمّا فعل بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ما فعل، تبعته، فقتلته"، كذا قال، وجزم ابن التين، والدمياطيّ بأنه مات كافرًا.
وأم عتبة: هند بنت وهب بن الحارث بن زُهرة، وأم أخيه سعد: حمنة بنت سفيان بن أميّة، قاله في "الفتح"
(1)
.
(عَهِدَ إِلَيَّ) أي أوصى إليّ. يقال: عَهِدَ إليه يَعْهَدُ، من باب تَعِبَ: إذا أوصاه، قاله الفيّوميّ. (أَنَّهُ ابْنُهُ، انْظُرْ إِلَى شَبَهِهِ) أي إلى مماثلته لعتبة، قال في "القاموس": الشِّبْهُ بالكسر، والتحريك، وكأمير: المِثل، جمعه أشباه. انتهى.
وفي رواية البخاريّ في "الفرائض": "فلما كان عام الفتح أخذه سعد، فقال: ابن أخي". وفي رواية له في "المغازي": "فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكّة في الفتح"، وفي رواية لأحمد، وهي لمسلم، ولم يسق لفظها:"فلما كان يوم الفتح رأى سعدٌ الغلامَ، فعرفه بالشبه، فاحتضنه، وقال: ابن أخي، وربّ الكعبة"(وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: هَذَا أخِي، وُلِدَ) بالبناء للمفعول (عَلَى فِرَاشِ أَبِي) زاد في رواية: "من جاريته"(مِنْ وَليدَتِهِ) الوليدة في الأصل المولودة، وتُطلق على الأمة، قال الحافظ: وهذه الوليدة لم أقف على اسمها، لكن ذكر مصعب الزبيريّ، وابن أخيه الزبير في "نسب قريش" أنها كانت أمة يمانية.
(1)
"الفتح" 15/ 465 - 466.
والوليدة فَعِيلة من الولادة، بمعنى مفعولة، قال الجوهريّ: هي الصبيّة، والأمة، والجمع ولائد. وقيل: إنها اسم لغير أم الولد.
(فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى شَبَهِهِ، فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ) وفي رواية: "فإذا هو أشبه الناس بعتبة بن أبي وقّاص".
قال الخطّابيّ، وتبعه عياضٌ، والقرطبيّ، وغيرهما: كان أهل الجاهليّة يقتنون الولائد، ويقرّرون عليهنّ الضرائب، فيكتسبن بالفجور، وكانوا يُلحقون النسب بالزناة، إذا ادّعوا الولد، كما في النكاح، وكانت لزمعة أمةٌ، وكان يُلمّ بها، فظهر بها حملٌ، زعم عتبة بن أبي وقّاص أنه منه، وعهد إلى أخيه سعد أن يستلحقه، فخاصم فيه عبد بن زمعة، فقال له سعد: هو ابن أخي، على ما كان عليه الأمر في الجاهليّة، وقال عبد الرحمن: هو أخي، على ما استقرّ عليه الأمر في الإسلام، فأبطل النبيّ صلى الله عليه وسلم حكم الجاهليّة، وألحقه بزمعة. وأبدل عياضٌ قوله: إذا ادّعوا الولد بقوله: إذا اعترفت به الأمّ، وبنى عليهما القرطبيّ، فقال: ولم يكن حصل إلحاقه بعتبة في الجاهليّة، إما لعدم الدعوى، وإما لكون الأمّ لم تعترف به لعتبة.
قال الحافظ: وقد مضى في "النكاح"
(1)
من حديث عائشة ما يؤيّد أنهم
(1)
هو ما أخرجه البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" 16/ 86 فقال:
(5127)
- قال يحيى بن سليمان: حدّثنا ابن وهب، عن يونس (ح) وحدّثنا أحمد بن صالح، حدّثنا عنبسة، حدثنا يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبرته أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاحٌ منها: نكاح الناس اليوم، يَخْطُب الرجل إلى الرجل وليته، أو ابنته، فيُصْدِقها، ثم ينكحها، ونكاح آخر: كان الرجل يقول لامرأته إذا طَهُرتْ من طَمْثها: أرسلي إلى فلان، فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها، ولا يمسها أبدًا حتى يتبيّن حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبيّن حملها أصابها زوجها إذا أحبّ، وإنما يفعل ذلك رغبة في نَجَابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع، ونكاح آخر: يَجتمع الرهط ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، فإذا حَمَلت، ووضعت، ومرَّ عليها لَيَالٍ بعد أن تضع حملها، أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان =
كانوا يعتبرون استلحاق الأمّ في صورة، وإلحاق القائف في صورة، ولفظها:"إن النكاح في الجاهليّة كان على أربعة أنحاء. . ." الحديث، وفيه:"يجتمع الرهط ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يُصيبها، فإذا حملت، ووضعت، ومضت ليالٍ، أرسلت إليهم، فاجتمعوا عندها، فقالت: قد ولدت فهو ابنك يا فلان، فيُلحق به ولدها، ولا يستطيع أن يمتنع. . ."، إلى أن قالت:"ونكاح البغايا، كنّ يَنصبن على أبوابهنّ رايات، فمن أرادهنّ، دخل عليهنّ، فإذا حملت إحداهنّ، فوضعت، جُمِعوا لها، ودعوا القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرى القائف، لا يمتنع من ذلك". انتهى.
واللائق بقصّة أمة زمعة الأخير، فلعلّ جمع القافة لهذا الولد تعذّر بوجه من الوجوه، أو أنها لم تكن بصفة البغايا، بل أصابها عتبة سرًّا من زنا، وهما كافران، فحملت، وولدت ولدًا يُشبهه، فغلب على ظنّه أنه منه، فبغته الموت قبل استلحاقه، فأوصى أخاه أن يستلحقه، فعمد سعد بعد ذلك، تمسّكًا بالبراءة الأصليّة.
قال القرطبيّ: وكان عبد بن زمعة سمع أن الشرع ورد بأن الولد للفراش، وإلا فلم يكن عادتهم الإلحاق به، كذا قال، قال الحافظ: ولا أدري من أين له هذا الجزم بالنفي، وكأنه بناه على ما قاله الخطّابيّ: من أن أمة زمعة كانت من البغايا اللاتي عليهن من الضرائب، فكان الإلحاق مختصًّا باستلحاقها على ما ذكر، أو بإلحاق القائف على ما في حديث عائشة، لكن لم يذكر الخطّابيّ مستندًا لذلك.
قال الحافظ: والذي يظهر من سياق القصّة ما قدّمته أنها كانت أمةً،
= من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان، تُسَمِّي من أحبت باسمه، فيلحق به ولدها، لا يستطيع أن يمتنع به الرجل، ونكاحُ الرابعِ: يَجتمع الناس الكثير، فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها، وهنّ البغايا، كُنّ ينصبن على أبوابهن رايات، تكون عَلَمًا، فمن أرادهنّ دخل عليهنّ، فإذا حملت إحداهنّ، ووضعت حملها جُمعوا لها، ودَعَوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاط به، ودُعِي ابنه، لا يمتنع من ذلك، فلما بُعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحقّ هُدِم نكاح الجاهلية كله، إلا نكاح الناس اليوم. انتهى.
مستفرشةً لزمعة، فاتّفق أن عتبة زنى بها، كما تقدّم، وكانت طريقة الجاهليّة في مثل ذلك أن السيّد إن استلحقه لحقه، وإن نفاه انتفى عنه، وإذا ادّعاه غيره كان مردّ ذلك إلى السيّد، أو القافة. وقد وقع في حديث ابن الزبير الذي أسوقه بعد هذا ما يؤيّد ما قلته.
وأما قوله: إن عبد بن زمعة سمع أن الشرع. . . إلخ، ففيه نظر؛ لأنه يبعد أن يسمع ذلك عبد بن زمعة، وهو بمكة لم يُسلم بعدُ، ولا يسمعه سعد بن أبي وقّاص، وهو من السابقين الأوّلين الملازمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم من حين إسلامه إلى حين فتح مكة نحو العشرين سنة، حتى ولو قلنا: إن الشرع لم يرد بذلك، إلا في زمن الفتح، فبلوغه لعبد قبل سعد بعيدٌ أيضًا.
والذي يظهر لي أن شرعيّة ذلك إنما عُرفت من قوله صلى الله عليه وسلم في هذه القصّة: "الولد للفراش"، وإلا فما كان سعد لو سبق علمه بذلك ليَدَعَه، بل الذي يظهر أن كُلًّا من سعد، وعتبة بنى على البراءة الأصليّة، وأن مثل هذا الولد يقبل النزاع.
وقد أخرج أبو داود تلو حديث الباب بسند حسن إلى عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدّه، قال: قام رجلٌ، فقال: يا رسول الله، إن فلانًا عاهرت بأمه في الجاهليّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا دعوة في الإسلام، ذهب أمر الجاهليّة، الولد للفراش، وللعاهر الحجر".
وقد وقع في بعض طرقه أن ذلك وقع زمن الفتح، وهو يؤيّد ما قلته. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
وهو بحث نفيسٌ.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("هُوَ لَكَ، يَا عَبْدُ) وفي لفظ للبخاريّ: "هو لك يا عبد بن زمعة" يجوز في "عبد" الضمّ، على أنه منادى مفرد علم، والفتح؛ اتباعًا لِمَا بعده، وأما "ابن" فهو واجب النصب على الحالين؛ لكونه مضافًا، وقد أشار ابن مالك رحمه الله إلى هذا في "خلاصته"، حيث قال:
وَنَحْوَ زيدٍ ضُمَّ وَافْتَحَنَّ مِنْ
…
نَحْوِ أَزَيْدُ ابْنَ سَعِيدٍ لَا تَهِنْ
وَالضَّمُّ إِنْ لَمْ يَلِ الابْنُ عَلَمَا
…
أَوْ يَلِ الابْنَ عَلَمٌ قَدْ حُتِمَا
(1)
"الفتح" 15/ 467 - 468.
قال في "الفتح": ووقع في رواية للنسائيّ: "وهو لك عبد بن زمعة" بحذف حرف النداء، وقرأه بعض المخالفين بالتنوين، وهو مردود، فقد وقع في رواية يونس المعلّقة في "المغازي":"هو لك، هو أخوك يا عبد"، ووقع لمسدّد، عن ابن عيينة، عند أبي داود:"هو أخوك يا عبد".
(الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ) أي لصاحب الفراش، وهو الزوج، أو السيّد (وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ) أي للزاني الخيبة، والحرمان، والعهر - بفتحتين -: الزنا، وقيل: يختصّ بالليل، ومعنى الخيبة هنا حرمان الولد الذي يدّعيه، وجرت عادة العرب أن تقول لمن خاب: له الحجر، وبفيه الحجر والتراب، ونحو ذلك، وقيل: المراد بالحجر هنا أنه يُرجم، قال النوويّ: وهو ضعيف؛ لأن الرجم مختصّ بالمحصن، ولأنه لا يلزم من رجمه نفي الولد، والخبر إنما سيق لنفي الولد. وقال السبكيّ: والأول أشبه بمساق الحديث؛ لتعمّ الخيبة كلّ زان، ودليل الرجم مأخوذ من موضع آخر، فلا حاجة للتخصيص من غير دليل.
قال الحافظ: ويؤيّد الأول أيضًا ما أخرجه أبو أحمد الحاكم من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه، رفعه:"الولد للفراش، وفي فم العاهر الحجر".
وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند ابن حبّان: "الولد للفراش، وبفي العاهر الأثلب" - بفتح الهمزة، وكسرها، وإسكان المثلّثة، بعدها باءٌ موحّدة، بينهما لام، ويُفتح أوله، وثالثه، ويُكسران - قيل: هو الحجر، وقيل: دقاقه، وقيل: التراب.
(وَاحْتَجِبِي مِنْهُ، يَا سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ") زاد في حديث ابن الزبير عند النسائيّ: "فليس لك بأخٍ"(قَالَتْ: فَلَمْ يَرَ سَوْدَةَ قَطُّ) وفي لفظ: "فلم تره سودة قط"، يعني في المدّة التي بين هذا القول، وبين موت أحدهما، وفي رواية معمر: قالت عائشة: "فوالله ما رآها حتى ماتت"، وللبخاريّ في رواية الكشميهني:"فلم تره سودة بعدُ"، قال الحافظ رحمه الله: وهذه إذا ضُمّت إلى رواية مالك ومعمر استُفيد منها أنها امتثلت الأمر، وبالغت في الاحتجاب منه، حتى إنها لم تره فضلًا عن أن يراها؛ لأنه ليس في الأمر المذكور دلالة على منعها من رؤيته.
وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ قَوْلَهُ: يَا عَبْدُ) أشار به إلى اختلاف
واقع بين شيخيه: قتيبة، وابن رُمح، فإن الأول قال في روايته:"هو لك يا عبد"، وقال الثاني:"هو لك"، ولم يذكر قوله:"يا عبد"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 3613 و 3614](1457)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2053 و 2218) و"الخصومات"(2421) و"العتق"(2533) و"الوصايا"(2745) و"المغازي"(4303) و"الفرائض"(6749) و"الحدود"(6817) و"الأحكام"(7182)، و (أبو داود) في "الطلاق"(2273)، و (النسائيّ) في "الطلاق"(3511 و 3514) وفي "الكبرى"(6578 و 5681)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(2004)، و (مالك) في "الموطّإ"(1449)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 30)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1444)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(3/ 321 - 322)، و (الحميديّ) في "مسنده"(238)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 51 و 6/ 8)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 37 و 129 و 200 و 226 و 237 و 246)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 217 - 218)، و (الدارميّ) في "سننه"(2236 و 2237)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(9/ 413 - 414)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 126 - 128)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 129 - 130)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(4/ 241 - 242)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(7/ 392)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(2/ 107)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 412) و"الصغرى"(5/ 316) و"المعرفة"(4/ 479 و 5/ 560 - 561)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2378)، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قال في "الفتح": حديث: "الولد للفراش" قال ابن عبد البرّ هو من أصحّ ما يروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، جاء عن بضعة وعشرين نفسًا من الصحابة، فذكره البخاريّ في هذا الباب عن أبي هريرة، وعائشة، وأخرجه النسائيّ من
حديث أبي هريرة، وعائشة، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن مسعود، وقال الترمذيّ - عقب حديث أبي هريرة -: وفي الباب عن عمر، وعثمان، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو، وأبي أُمامة، وعمرو بن خارجة، والبراء، وزيد بن أرقم.
وزاد الحافظ العراقيّ عليه: معاوية، وابن عمر، وزاد أبو القاسم بن منده في "تذكرته": معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأنس بن مالك، وعليّ بن أبي طالب، والحسين بن عليّ، وعبد الله بن حُذافة، وسعد بن أبي وقّاص، وسودة بنت زمعة.
قال الحافظ: ووقع لي من حديث ابن عباس، وأبي مسعود البدريّ، وواثلة بن الأسقع، وزينب بنت جحش، وقد رقّمت عليها علامات من أخرجها من الأئمّة، فـ "طب" علامة الطبرانيّ في "الكبير"، و"طس" علامته في "الأوسط"، و"بز" علامة البزّار، و"ص" علامة أبي يعلى الموصليّ، و"تم" علامة تمام في "فوائده".
وجميع هؤلاء وقع عندهم: "الولد للفراش، وللعاهر الحجر"، ومنهم من اقتصر على الجملة الأولى، وفي حديث عثمان قصّة، وكذا عليّ، وفي حديث معاوية قصّة أخرى له مع نصر بن حجّاج، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فقال له نصر: فأين قضاؤك في زياد؟، فقال: قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من قضاء معاوية، وفي حديث أبي أمامة، وابن مسعود، وعبادة أحكام أخرى، وفي حديث عبد الله بن حُذافة قصّة له في سؤاله عن اسم أبيه، وفي حديث ابن الزبير قصّة نحو قصّة عائشة باختصار، وقد أشرت إليه، وفي حديث سودة نحوه، ولم تُسَمَّ في رواية أحمد، بل قال:"عن بنت زمعة"، وفي حديث زينب قصّة، ولم يُسَمَّ أبوها، بل فيه:"عن زينب الأسديّة".
وجاء من مرسل عُبيد بن عمير، وهو أحد كبار التابعين، أخرجه ابن عبد البرّ بسند صحيح إليه. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"الفتح" 15/ 475 - 476 "كتاب الفرائض" رقم (6749).
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أن الولد يُلحَق بالفراش، إذا لم ينفه صاحب الفراش.
2 -
(ومنها): أن الوصيّ يجوز له أن يستلحق ولد موصيه، إذا أوصى إليه بأن يستلحقه، ويكون كالوكيل عنه في ذلك.
3 -
(ومنها): أن الأمة تصير فراشًا بالوطء، إذا اعترف السيّد بذلك، أو ثبت ذلك بأيّ طريق كان.
4 -
(ومنها): أنه استُدلّ به على أن القائف إنما يُعتمَد في الشبه إذا لم يُعارضه ما هو أقوى منه؛ لأن الشارع لم يلتفت هنا إلى الشبه، والتفت إليه في قصّة زيد بن حارثة رضي الله عنهما، وكذا لم يحكم بالشبه في قصّة الملاعنة؛ لأنه عارضه حكم أقوى منه، وهو مشروعيّة اللعان.
5 -
(ومنها): أن عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش" مخصوص بمشروعية اللعان، وخالف فيه الشعبيّ، وبعض المالكيّة، وهو شاذٌّ، ونقل عن الشافعيّ أنه قال: لقوله: "الولد للفراش" معنيان: أحدهما: هو له ما لم ينفه، فإذا نفاه بما شُرع له، كاللعان انتفى عنه. والثاني: إذا تنازع ربّ الفراش، والعاهر، فالولد لربّ الفراش، قال الحافظ: والثاني منطبقٌ على خصوص الواقعة، والأول أعمّ. انتهى.
6 -
(ومنها): أنه يدلّ على أن حكم الحاكم لا يُحِلّ الأمر في الباطن، كما لو حكم بشهادة، فظهر أنها زورٌ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم حكم بأنه أخو عبد، وأمر سودة بالاحتجاب عنه بسبب الشبه بعتبة، فلو كان الحكم يُحلّ الأمر في الباطن، لَمَا أمرها بالاحتجاب.
7 -
(ومنها): أنه يدلّ على صحّة ملك الكافر الوثنيّ الأمة الكافرة، وأن حكمها بعد أن تلد من سيّدها حكم القنّ؛ لأن عَبْدًا، وسعدًا أطلقا عليها أمةً، ووليدةً، ولم يُنكر ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وأجيب بأن عتق أم الولد بموت السيّد ثبت بأدلّة أخرى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في استلحاق غير الأب:
ذهب الشافعيّ رحمه الله وجماعة إلى أن الاستلحاق لا يختصّ بالأب، بل
للأخ أن يستلحق، لكن بشرط أن يكون حائزًا للإرث، أو يوافقه باقي الورثة، وإمكان كونه من المذكور، وأن يوافق على ذلك، إن كان بالغًا عاقلًا، وأن لا يكون معروف الأب.
وتُعُقّب بأن زمعة كان له ورثة غير عبد.
وأجيب بأنه لم يخلُف وارثًا غيره، إلا سودة، فإن كان زمعة مات كافرًا، فلم يرثه إلا عبدٌ وحده، وعلى تقدير أن يكون أسلم، وورثته سودة، فيَحْتَمِل أن تكون وكّلت أخاها في ذلك، أو ادّعت أيضًا.
وذهب مالك رحمه الله، وطائفة إلى أنّ الاستلحاق خاصّ بالأب، وأجابوا عن هذا الحديث بان الإلحاق لم ينحصر في استلحاق عبد؛ لاحتمال أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم اطّلع على ذلك بوجه من الوجوه، كاعتراف زمعة بالوطء، ولأنه إنما حكم بالفراش؛ لأنه قال - بعد قوله:"هو لك" -: "الولد للفراش"؛ لأنه لمّا أبطل الشرع إلحاق هذا الولد بالزاني لم يبق صاحبَ الفراش.
وجرى المُزَنيّ على القول بأن الإلحاق يختصّ بالأب، فقال: أجمعوا على أنه لا يُقبل إقرار أحد على غيره، والذي عندي في قصّة عبد بن زمعة أنه صلى الله عليه وسلم أجاب عن المسألة، فأعلمهم أن الحكم كذا بشرط أن يدّعي صاحب الفراش، لا أنه قَبِلَ دعوى سعد عن أخيه عتبة، ولا دعوى عبد بن زمعة عن زمعة، بل عرّفهم أن الحكم في مثلها يكون كذلك، قال: ولذلك قال: "احتجبي منه يا سودة".
وتُعُقّب بأن قوله لعبد بن زمعة: "هو أخوك" يدفع هذا التأويل
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن ما ذهب إليه الشافعيّة وجماعة، من أن الاستلحاق يجوز للأخ هو الراجح؛ عملًا بظاهر حديث الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): استُدلّ بهذا الحديث على أن الأمة تصير فراشًا بالوطء، فإذا اعترف السيّد بوطء أمته، أو ثبت ذلك بأيّ طريق كان، ثم أتت بولد لمدّة الإمكان بعد الوطء لحقه من غير استلحاق، كما في الزوجة، لكن
(1)
"الفتح" 15/ 468.
الزوجة تصير فراشًا بمجرّد العقد، فلا يُشترط في الاستلحاق إلا الإمكان؛ لأنها تراد للوطء، فجعل العقد عليها كالوطء، بخلاف الأمة، فإنها تراد لمنافع أخرى، فاشتُرط في حقّها الوطء، ومن ثَمّ يجوز الجمع بين الأختين بالمُلك، دون الوطء، وهذا قول الجمهور.
وعن الحنفيّة لا تصير الأمة فراشًا إلا إذا ولدت من السيّد ولدًا، ولحق به، فمهما ولدت بعد ذلك لحقه إلا أن ينفيه.
وعن الحنابلة: من اعترف بالوطء، فأتت منه لمدّة الإمكان لحقه، وإن ولدت منه أوّلًا، فاستلحقه لم يلحقه ما بعده إلا بإقرار مستأنف على الراجح عندهم.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ترجيح المذهب الأول - كما قال الحافظ - ظاهرٌ؛ لأنه لم يُنقل أنه كان لزمعة من هذه الأمة ولد آخر، والكلّ متّفقون على أنها لا تصير فراشًا إلا بالوطء، قال النوويّ: وطء زمعة أمته المذكورة عُلم، إما ببيّنة، وإما باطلاع النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وحديث ابن الزبير رضي الله عنهما عند النسائيّ، بلفظ:"كانت لزمعة جارية يطؤها" يشعر بأن ذلك كان مشهورًا عندهم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): استُدلّ بالحديث على أن السبب لا يُخْرَج، ولو قلنا: إن العبرة بعموم اللفظ، ونقل الغزاليّ تبعًا لشيخه، والآمديّ، ومن تبعه عن الشافعيّ قولًا بخصوص السبب؛ تمسّكًا بما نُقل عن الشافعيّ أنه ناظر بعض الحنفيّة، لما قال: إن أبا حنيفة خصّ الفراش بالزوجة، وأخرج الأمة من عموم:"الولد للفراش"، فردّ عليه الشافعيّ بأن هذا ورد على سبب خاصّ.
وردّ الفخر الرازيّ على من قال بأن مراد الشافعيّ أن خصوص السبب لا يُخْرَج، والخبر إنما ورد في حقّ الأمة، فلا يجوز إخراجه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): اتفق أهل العلم على أن قوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش" يعمّ الزوجة أيضًا؛ أخذًا بعموم اللفظ، كما تقدّم، لكن بشرط الإمكان، فلو نكح مشرقيّ مغربيّةً، ولم يُفارق واحد منهما وطنه، ثم أتت بولد لستة أشهر،
أو أكثر، لم يلحقه؛ لعدم إمكان كونه منه، وكذا لو اجتمعا، لكن أتت به لأقلّ من ستة أشهر من حين إمكان اجتماعهما لم يلحقه أيضًا، هذا مذهب مالك، والشافعيّ، وأحمد، والعلماء كافّة، إلا أبا حنيفة، فلم يشترط الإمكان، بل اكتفى بمجرّد العقد، حتى لو طلّق عقب العقد من غير إمكان وطء، فولدت لستة أشهر من العقد لحقه الولد.
قال النوويّ: وهذا ضعيفٌ، ظاهر الفساد، ولا حجة له في إطلاق الحديث؛ لأنه خرج على الغالب، وهو حصول الإمكان عند العقد
(1)
.
وقال أبو العبّاس القرطبيّ: الفراش هنا كناية عن الموطوءة؛ لأن الواطئ يستفرشها، أي يُصيّرها كالفراش، ويعني به أن الولد لاحقٌ بالواطئ، قال الإمام: وأصحاب أبي حنيفة يحملونه على أن المراد به صاحب الفراش، ولذلك لم يشترطوا إمكان الوطء في الحرّة، واحتجّوا بقول جرير [من الكامل]:
بَاتَتْ تُعَانِقُهُ وَبَاتَ فِرَاشُهَا
…
خَلَقَ الْعَبَاءَةِ فِي الدِّمَاءِ قَتِيلَا
يعني زوجها، والأول أولى؛ لما ذكرناه من الاشتقاق، ولأن ما قدّره من حذف المضاف ليس في الكلام ما يدلّ عليه، ولا ما يُحوج إليه. انتهى
(2)
.
قال الحافظ: وفهم بعض الشرّاح - يريد به ولي الدين العراقيّ - عن القرطبيّ خلاف مراده، فقال: كلامه يقتضي حصول مقصود الجمهور بمجرّد كون الفراش هو الموطوءة، وليس هو المراد، فعُلم أنه لا بدّ من تقدير محذوف؛ لأنه قال: إن الفراش هو الموطوءة، والمراد به أن الولد لا يلحق بالواطئ، قال المعترض: وهذا لا يستقيم إلا مع تقدير المحذوف. قلت: وقد بيّنت وجه استقامته بحمد الله، ويؤيد ذلك أيضًا أن ابن الأعرابيّ اللغويّ نقل أن الفراش عند العرب يعبّر به عن الزوج، وعن المرأة، والأكثر إطلاقه على المرأة، ومما ورد في التعبير عن الرجل قول جرير، فيمن تزوّجت بعد قتل زوجها، أو سيّدها [من الكامل]:
بَاتَتْ تُعَانِقُهُ وَبَاتَ فِرَاشُهَا
…
خَلَقَ الْعَبَاءَةِ بِالْبَلَاءِ ثَقِيلَا
وقد يُعبّر به عن حالة الافتراش، ويمكن حمل الخبر عليها، فلا يتعيّن الحذف.
(1)
"شرح النوويّ" 10/ 37.
(2)
"المفهم" 4/ 196.
نعم لا يمكن حمل الخبر على كلّ واطئ، بل المراد من له الاختصاص بالوطء، كالزوج، والسيّد، ومن ثمّ قال ابن دقيق العيد: معنى "الولد للفراش": تابع للفراش، أو محكوم به للفراش، أو ما يقارب هذا.
وقد شنّع بعضهم على الحنفيّة بأن من لازم مذهبهم إخراج السبب مع المبالغة في العمل بالعموم في الأحوال.
وأجاب بعضهم بأنه خصّص الظاهر القويّ بالقياس، وقد عُرف من قاعدته تقديم القياس في مواضع على خبر الواحد، وهذا منها. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه الجمهور من أنه لا بدّ لثبوت النسب من الإمكان زمانًا ومكانًا هو الصواب عندي؛ لوضوح متمسّكه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثامنة): قال المازريّ رحمه الله: يتعلّق بهذا الحديث استلحاق الأخ لأخيه، وهو صحيح عند الشافعيّ، إذا لم يكن له وارث سواه، وقد تعلّق أصحابه بهذا الحديث لأنه لم يرد أن زمعة ادّعاه ولدًا، ولا اعترف بوطء أمه، فكان المعوّل في هذه القصّة على استلحاق عبد بن زمعة، قال: وعندنا - يعني المالكيّة - لا يصحّ استلحاق الأخ، ولا حجة في هذا الحديث؛ لأنه يمكن أن يكون ثبت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم أن زمعة كان يطأ أمته، فألحق الولد به؛ لأن من ثبت وطؤه لا يحتاج إلى الاعتراف بالوطء، وإنما يصعب هذا على العراقيين، ويعسر عليهم الانفصال عما قاله الشافعيّ؛ لما قرّرناه أنه لم يكن لزمعة ولدٌ من الأمة المذكورة سابقٌ، ومجرّد الوطء لا عبرة به عندهم، فيلزمهم تسليم ما قال الشافعيّ، قال: ولَمّا ضاق عليهم الأمر، قالوا: الرواية في هذا الحديث: "هو لك عبد بن زمعة"، وحُذف حرف النداء بين عبد وابن زمعة، والأصل: يا ابن زمعة، قالوا: والمراد أن الولد لا يلحق بزمعة، بل هو عبد لولده؛ لأنه وارثه، وأمر سودة بالاحتجاب منه؛ لأنها لم ترث زمعة؛ لأنه مات كافرًا، وهي مسلمةٌ، قال: وهذه الرواية التي ذكروها غير صحيحة، ولو وردت لرددناها إلى الرواية المشهورة، وقلنا: بل المحذوف حرف النداء بين "لك"، و"عبد"، كقوله
(1)
"الفتح" 15/ 470.
تعالى، حكاية عن صاحب يوسف عليه السلام، حيث قال:{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} الآية [يوسف: 29]. انتهى.
وسلك الطحاويّ فيه مسلكًا آخر، فقال: معنى قوله: "هو لك" أي يدك عليه، لا أنك تملكه، ولكن تمنع غيرك منه إلى أن يتبيّن أمره، كما قال لصاحب اللُّقطة:"هي لك"، وقال له:"إذا جاء صاحبها فأدّها إليه"، قال: ولما كانت سودة شريكة لعبد في ذلك، لكن لم يعلم منها تصديق ذلك، ولا الدعوى به، ألزم عبدًا بما أقرّ به على نفسه، ولم يجعل ذلك عليها، فأمَرَها بالاحتجاب.
وكلامه هذا كلّه متعقّبٌ بالرواية الثانية المصرّح فيها بقوله صلى الله عليه وسلم: "أخوك"، فإنها رفعت الإشكال، وكأنه لم يقف عليها، ولا على حديث ابن الزبير وسودة الدّالّ على أن سودة وافقت أخاها عبدًا في الدعوى بذلك، قاله في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة التاسعة): أنه قد استدلّت الحنفيّة بهذا الحديث على أنه صلى الله عليه وسلم لم يلحقه بزمعة؛ لأنه لو ألحقه به لكان أخا سودة، والأخ لا يؤمر بالاحتجاب منه.
وأجاب الجمهور بأن الأمر بذلك كان للاحتياط؛ لأنه وإن حكم بأنه أخوها؛ لقوله في الطرق الصحيحة: "هو أخوك يا عبد"، وإذا ثبت أنه أخو عبد لأبيه، فهو أخو سودة لأبيها، لكن لما رأى الشبه بيّنًا بعتبة أمرها بالاحتجاب منه احتياطًا، وأشار الخطّابيّ إلى أن في ذلك مزيّة لأمهات المؤمنين؛ لأن لهنّ في ذلك ما ليس لغيرهنّ، قال: والشبه يُعتبر في بعض المواطن، لكن لا يُقضى به، إذا وُجد ما هو أقوى منه، وهو كما يُحكم في الحادثة بالقياس، ثم يوجد فيها نصّ، فيُترك القياس، قال: وقد جاء في بعض طرق هذا الحديث، وليس بثابت:"احتجبي منه، يا سودة، فإنه ليس لك بأخ"، وتبعه النوويّ، فقال: هذه الزيادة باطلة مردودة.
وتُعُقّب بأنها وقعت في حديث عبد الله بن الزبير، عند النسائيّ، بسند
(1)
"الفتح" 15/ 471.
حسن، ولفظه:"كانت لزمعة جارية يطؤها. . ." الحديث، ورجال سنده رجال الصحيح، إلا شيخ مجاهد، وهو يوسف مولى آل الزبير.
وقد طعن البيهقيّ في سنده، فقال: فيه جرير، وقد نُسب في آخر عمره إلى سوء الحفظ، وفيه يوسف، وهو غير معروف، وعلى تقدير ثبوته، فلا يعارض حديث عائشة المتّفق على صحّته.
وتُعُقّب بأن جريرًا هذا لم يُنسب إلى سوء حفظ، وكأنه اشتبه عليه بجرير بن حازم، وبأن يوسف معروف في موالي آل الزبير، وبان الجمع بينهما ممكن، فلا ترجيح، وعلى هذا فيتعيّن تأويله، وإذا ثبتت هذه الزيادة تعيّن تأويل نفي الأخوة عن سودة على نحو ما تقدّم من أمرها بالاحتجاب منه.
ونقل ابن العربيّ في "القوانين" عن الشافعيّ نحو ما تقدّم، وزاد: ولو كان أخاها بنسب محقّق لَمَا منعها، كما أمر عائشة أن لا تحتجب من عمها من الرضاعة.
وقال البيهقيّ: معنى قوله: "ليس لك بأخ" بالنسبة للميراث من زمعة؛ لأن زمعة مات كافرًا، وخلف عبد بن زمعة، والولد المذكور، وسودة، فلا حقّ لسودة في إرثه، بل حازه عبد قبل الاستلحاق، فإذا استلحق الابن المذكور شاركه في الإرث، دون سودة، فلهذا قال لعبد:"هو أخوك"، وقال لسودة:"ليس لك بأخ".
وقال القرطبيّ - بعد أن قرّر أنّ أمر سودة بالاحتجاب للاحتياط، وتوقّي الشبهات -: ويَحْتَمِل أن يكون ذلك لتغليظ أمر الحجاب في حقّ أمهات المؤمنين، كما قال:"أفعَمْيَاوان أنتما"، فنهاهما عن رؤية الأعمى، مع قوله لفاطمة بنت قيس:"اعتدّي عند ابن أم مكتوم، فإنه أعمى"، فغلّظ الحجاب في حقّهنّ، دون غيرهنّ.
وقد قال بعض أهل العلم: إنه كان يحرم عليهنّ بعد الحجاب إبراز أشخاصهنّ، ولو كنّ مستترات، إلا لضرورة، بخلاف غيرهنّ، فلا يُشترط.
وأيضًا فإن للزوج أن يمنع زوجته من الاجتماع بمحارمها، فلعلّ المراد بالاحتجاب عدم الاجتماع في الخلوة.
وقال ابن حزم: لا يجب على المرأة أن يراها أخوها، بل الواجب عليها
صلة رحمها، ورَدّ على من زعم أن معنى قوله:"هو لك" أي عبدٌ بأنه لو قضى بأنه عبدٌ لما أمر سودة بالاحتجاب منه؛ إما لأن لها فيه حصّةً، وإما لأن من في الرقّ لا يُحتجب منه على القول بذلك، أفاده في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الراجح أن نهيه صلى الله عليه وسلم سودة رضي الله عنها، وقوله:"فإنه ليس لك بأخ" إن صح محمول على الاحتياط، فإنه وإن ثبت نسبه لأجل الفراش، إلا أن شَبَهه بعتبة يورث الشبهة، فيُحتاط من أجله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة العاشرة): استدلّ بالحديث بعض المالكيّة على مشروعيّة الحكم بين حُكْمين، وهو أن يأخذ الفرع شبهًا من أكثر من أصل، فيُعطَى أحكامًا بعدد ذلك، وذلك أن الفراش يقتضي إلحاقه بزمعة في النسب، والشبه يقتضي إلحاقه بعتبة، فأعطي الفرع حكمًا بين حكمين، فروعي الفراش في النسب، والشبه البيّن في الاحتجاب، قال: وإلحاقه بهما، ولو كان من وجه أولى من إلغاء أحدهما من كلّ وجه.
قال ابن دقيق العيد: ويُعتَرض على هذا بأن صورة المسألة ما إذا دار الفرع بين أصلين شرعيين، وهنا الإلحاق شرعيّ للتصريح بقوله:"الولد للفراش"، فبقي الأمر بالاحتجاب مشكلًا؛ لأنه يناقض الإلحاق، فتعيّن أنه للاحتياط، لا لوجوب حكم شرعيّ، وليس فيه إلا ترك مباح، مع ثبوت المحرميّة. انتهى، وهو اعتراض وجيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الحادية عشرة): أنه استُدلّ بهذا الحديث على أن لوطء الزنا حكم وطء الحلال في حرمة المصاهرة، وهو قول الجمهور، ووجه الدّلالة أمر سودة بالاحتجاب بعد الحكم بأنه أخوها لأجل الشبه بالزاني.
وقال مالك في المشهور عنه، والشافعيّ: لا أثر لوطء الزنا، بل للزاني أن يتزوّج أم التي زنى بها، وبنتها، وزاد الشافعيّ، ووافقه ابن الماجشون: والبنت التي تلدها المزنيّ بها، ولو عرفت أنها منه.
(1)
"الفتح" 472 - 474.
قال النوويّ: وهذا احتجاج باطلٌ؛ لأنه على تقدير أن يكون من الزنا، فهو أجنبيّ من سودة لا يحلّ لها أن تظهر له سواء ألحق بالزاني، أم لا، فلا تعلّق له بمسألة البنت المخلوقة من الزنا.
قال الحافظ: كذا قال، وهو ردّ للفرع بردّ الأصل، وإلا فالبناء الذي بَنَوْه صحيحٌ.
وقد أجاب الشافعيّة عنه بما تقدّم أن الأمر بالاحتجاب للاحتياط، ويُحْمَل الأمر في ذلك إما على الندب، وإما على تخصيص أمهات المؤمنين بذلك، فعلى تقدير الندب، فالشافعيّ قائل به في المخلوقة من ماء الزنا، فيُجيز عند فقد الشبه، ويمنع عند وجوده، قاله في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه مالك والشافعي من أنه لا أثر لوطء الزنا هو الراجح عندي، وقد صح عن عليّ، وابن عباس، وغيرهما أنهم قالوا: إن الحرام لا يُحَرِّمُ الحلال، وأما أمره صلى الله عليه وسلم سودة رضي الله عنها بالاحتجاب فمن باب الاحتياط، ولأن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن لسن كغيرهنّ من النساء، فيشدد عليهنّ ما لا يشدد على غيرهنّ، كما قال الله تعالى:{يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} الآية [الأحزاب: 32]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3614]
(. . .) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، كِلَاهُمَا عَن الزُّهْرِيِّ، بِهَذا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ، غَيْرَ أَنَّ مَعْمَرًا، وَابْنَ عُيَيْنَةَ فِي حَدِيثِهِمَا:"الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ"، وَلَمْ يَذْكُرَا:"وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ").
(1)
"الفتح" 15/ 474.
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ) أبو عثمان الْخُراسانيّ، نزيل مكة، ثقةٌ مصنّفٌ [10](ت 227) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 338.
2 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: ابن محمد بن بُكير، تقدّم قبل بابين.
4 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم أيضًا قبل بابين.
5 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) تقدّم قبل باب.
6 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم قبل بابين.
7 -
(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم قريبًا.
و"الزهريّ" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية ابن عيينة، عن الزهريّ ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(2289)
- حدّثنا عبد اللهِ بن مُحَمَّدٍ، حدّثنا سُفْيَانُ، عن الزُّهْرِيِّ، عن عُرْوَةَ، عن عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ عَبْدَ بن زَمْعَةَ، وَسَعْدَ بن أبي وَقَّاصٍ، اخْتَصَمَا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في ابن أَمَةِ زَمْعَةَ، فقال سَعْدٌ: يا رَسُولَ اللهِ أَوْصَانِي أخِي، إذا قَدِمْتُ أَنْ أَنْظُرَ ابن أَمَةِ زَمْعَةَ، فَأَقْبِضَهُ، فإنه ابْنِي، وقال عبد بن زَمْعَةَ: أَخِي وابن أَمَةِ أبي، وُلِدَ على فِرَاشِ أبي، فَرَأَى النبيّ صلى الله عليه وسلم شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ، فقال:"هو لك يا عبد بن زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَاحْتَجِبِي منه يا سَوْدَةُ". انتهى.
ورواية معمر، عن الزهريّ ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" 3/ 126 فقال:
(4448)
- حدّثنا محمد بن يحيى، ومحمد بن إسحاق بن الصباح، والدَّبَرِيّ، قالوا: ثنا عبد الرزاق، قال: أنبا معمرٌ، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة، أن عتبة بن أبي وقاص قال لأخيه سعد: أتعلم أن ابن جارية زمعة ابني؟ قالت عائشة: فلما كان يومُ الفتح رأى سعد الغلام، فعرفه بالشبه، فاحتضنه إليه، وقال: ابن أخي ورب الكعبة، فجاء عبد بن زمعة، فقال: بل هو أخي، وُلد على فراش أبي من جاريته، فانطلقا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال سعد: يا رسول الله، هو ابن أخي، انظر إلى شبهه بعتبة، قالت: فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
شَبَهًا لم ير الناس شبها أبين منه بعتبة، فقال عبد بن زمعة: يا رسول الله، بل هو أخي، وُلد على فراش أبي من جاريته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الولد للفراش، واحتجبي منه يا سودة"، قالت عائشة: فوالله ما رآها حتى ماتت. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3615]
(1458) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَن الزُّهْرِيِّ، عَن ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(ابْنُ الْمُسَيِّبِ) هو: سعيد المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ من كبار [3](ت 94)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
3 -
(أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه [3](94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.
4 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
والباقون ذُكروا قبله، وشرح الحديث سبق في الذي قبله.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 3615 و 3616](1458)، و (البخاريّ) في "الفرائض"(6750) و"الحدود"(6818)، و (الترمذيّ) في "النكاح"(1157)، و (النسائيّ) في "الطلاق"(6/ 180) و"الكبرى"(3/ 378)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(2006)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(7/ 443)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 51)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 465)، و (أحمد) في
"مسنده"(2/ 239 و 280 و 386 و 409 و 466 و 475 و 492)، و (الدارميّ) 2/ 203)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 128)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 131)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 174)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 412) و"المعرفة"(6/ 19)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3616]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَن الزُّهْرِيِّ، أَمَّا ابْنُ مَنْصُورٍ فَقَالَ: عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَمَّا عَبْدُ الْأَعْلَى فَقَالَ: عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَالَ زُهَيْرٌ: عَنْ سَعِيدٍ، أَوْ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَحَدُهُمَا، أَوْ كِلَاهُمَا عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، وَقَالَ عَمْرٌو: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ مَرَّةً عَن الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ، وَمَرَّةً عَنْ سَعِيدٍ، أَوْ أَبِي سَلَمَةَ، وَمَرَّةً عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ مَعْمَرٍ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.
2 -
(عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادِ) بن نصر الباهليّ مولاهم، أبو يحيى البصريّ، المعروف بالنَّرْسيّ، ثقةٌ، من كبار [10](ت 6 أو 237)(خ م د) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.
والباقون ذُكروا في الإسنادين الماضيين.
[تنبيه]: رواية سعيد بن منصور، عن سفيان، فساقها هو في "سننه" 21/ 107 فقال:
(2131)
- أخبرنا سعيد
(1)
، نا سفيان، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش، وللعاهر الحجر". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
قائل "أخبرنا" هو الراوي عن سعيد.
(11) - (بَابُ الْعَمَلِ بِإِلْحَاقِ الْقَائِفِ الْوَلَدَ)
(اعلم): أن القائف: هو الذي يتتبّعُ الآثار، ويعرفها، ويَعرف شَبَهَ الرجلِ بأخيه، وأبيه، ويقال: فلانٌ يقُوفُ الأثر، ويَقْتَافه قِيَافَةً، مثلُ قفا الأثرَ، واقتفاه، قال ابن سِيدَهْ: قاف الأثر قِيَافَةً، واقْتَافه اقتيافًا، وقافه يقُوفه قَوْفًا، وتقَوَّفَه: تَتَبَّعه، أنشد ثعلب [من الطويل]:
مُحَلًّى بِأَطْوَاقٍ عِتَاقٍ يَبِينُهَا عَلَى
…
الضَّزْنِ أَغْبَى الضَّأْنِ لَوْ يَتَقَوَّفُ
و"الضَّزْنُ" هنا: سوء الحال من الجهل، يقول: كرمه وجُودهُ يَبِين لمن لا يفهم الخبرَ، فكيف من يفهم؟، ومنه قيل للذي ينظر إلى شبه الوالد بأبيه: قائفٌ، والقِيَافة المصدر، أفاده في "لسان العرب"
(1)
.
وقال في "الفتح": القائف: هو الذي يَعرِف الشبه، ويُميّز الأثر، سمّي بذلك؛ لأنه يقفو الأشياء، أي يتبعها، فكأنه مقلوب من القافي، قال الأصمعيّ: هو الذي يقفو الأثر، ويقتافه قَفْوًا، وقِيَافةً، والجمع القافةُ، كذا وقع في "الغريبين"، و"النهاية". انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3617]
(1459) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ قَالَا: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيَّ مَسْرُورًا، تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ، فَقَالَ:"أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا نَظَرَ آنِفًا إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَقَالَ: إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَقْدَامِ لَمِنْ بَعْضٍ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلّهم تقدّموا في الباب الماضي، إلا يحيى، فتقدّم قريبًا.
(1)
"لسان العرب" 9/ 293.
(2)
"الفتح" 15/ 505 "كتاب الفرائض" رقم (6770).
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها، أنها (قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، دَخَلَ عَلَيَّ، مَسْرُورًا) وفي الرواية التالية:"دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم مسرورًا"(تَبْرُقُ) - بفتح التاء المثنّاة، وضم الراء، من باب قتل -: أي تُضيء، وتستنير من السرور والفرح (أَسَارِيرُ وَجْهِهِ) هي الخطوط التي تجتمع في الجبهة، وتتكسّر، واحدها سِرٌّ - بالكسر - أو سَرَرٌ - بفتحتين -، وجمعها أَسْرارٌ، وأَسِرَّةٌ، وجمع الجمع أَسَارير. أفاده ابن الأثير رحمه الله
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: أسارير وجهه: هي الطرائق الدقيقة، والتكسّر اليسير الذي يكون في الجبهة، والوجهِ، والغضون أكثر من ذلك، وواحد الأسارير: أسرار، وواحدها سِرٌّ، وسَرَرٌ، فأسارير جمع الجمع، ويُجمع في القلّة أيضًا: أَسِرَّة، وهو عبارة عن انطلاق وجهه، وظهور السرور عليه، ويُعبّر عن خلاف ذلك بالمقَطِّب، أي المجمِّع، فكأن الحزن والغضب جمعه وقبضه. انتهى
(2)
.
(فَقَالَ: "أَلَمْ تَرَيْ) فعل مضارع مسند لضمير المؤنّثة المخاطبة، مجزوم بحذف النون؛ لأنه من الأمثلة الخمسة التي ترفع بثبوت النون، وتجزم، وتنصب بحذفها.
قال في "الفتح": والمراد من الرؤية هنا الإخبار، أو العلم، وفي "صحيح البخاريّ" في مناقب زيد رضي الله عنه من طريق ابن عيينة، عن الزهريّ بلفظ:"ألم تسمعي ما قال المدلجيّ"(أَنَّ مُجَزِّزًا) - بضمّ الميم، وكسر الزاي المشدّدة، وحكي فتحها، وبعدها زاي أخرى - قال النوويّ: هذا هو الصحيح المشهور، وحَكَى القاضي عياض عن الدارقطنيّ، وعبد الغنيّ: أنهما حكيا عن ابن جريج أنه بفتح الزاي الأولى، وعن ابن عبد البر، وأبي عليّ الغسانيّ أن ابن جريج قال: إنه مُحْرِز بإسكان الحاء المهملة، وبعدها راء، وآخره زايٌ، والصواب الأول. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ: مجزّز - بفتح الجيم، وكسر الزاي الأولى - هو المعروف
(1)
"النهاية" 2/ 359.
(2)
"المفهم" 4/ 198 - 199.
(3)
"شرح النوويّ" 10/ 41.
عند الحفّاظ، وكان ابن جريج يقول: مُجزَّز - بفتح الزاي - وقيل عنه أيضًا: مُحْرِز - بحاء مهملة ساكنة، وراء مكسورة - والصواب الأول، فإنه روي أنه إنما سُمّي مجزّزًا؛ لأنه كان إذا أخذ أسيرًا جزّ ناصيته، وقيل: لحيته، قاله الزبيريّ. انتهى
(1)
.
وهو مجزّز بن الأعور بن جعدة بن معاذ بن عُتْوَارة بن عمرو بن مُدْلِج الكنانيّ المدلجيّ، نسبة إلى مُدلج بن مرّة بن عبد مناف بن كنانة، وكانت القيافة فيهم، وفي بني أسد، والعرب تعترف لهم بذلك، وليس ذلك خاصًّا بهم على الصحيح. وقد أخرج يزيد بن هارون في "الفرائض" بسند صحيح إلى سعيد بن المسيّب أن عمر رضي الله عنه كان قائفًا، أورده في قصّته، وعمر قرشيّ، ليس مُدْلجيًّا، ولا أسديًّا، لا أسد قريش، ولا أسد خزيمة.
ومُجزّز المذكور هو والد علقمة بن مجزّز.
وذكر مصعب الزبيريّ، والواقديّ أنه سمّي مُجزّزًا؛ لأنه كان إذا أخذ أَسيرًا في الجاهليّة جَزَّ ناصيته، وأطلقه.
قال الحافظ: وهذا يدفع فتح الزاي الأُولى من اسمه، وعلى هذا فكان له اسمٌ غير مجزّز، لكنّي لم أر من ذكره، وكان مجزّزٌ عارفًا بالقيافة، وذكره ابن يونس فيمن شهد فتح مصر، وقال: وذكروه في كتبهم، يعني كتب من شهد فتح مصر، قال: ولا أعلم له رواية.
قال الحافظ في "الإصابة": وأغفل ذكره جمهورُ من صنّف في الصحابة، لكن ذكره أبو عمر في "الاستيعاب". قال: ولولا ذكر ابن يونس أنه شهد الفتوح بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم لما كان مع من ذكره في الصحابة حجة صريحةٌ على إسلامه، واحتمال أن يكون قال ما قال في حقّ زيد وأسامة قبل أن يُسلم، واعتُبر قوله لعدم معرفته بالقيافة
(2)
، لكن قرينة رضا النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقربه يدلّ على
(1)
"المفهم" 4/ 199.
(2)
هكذا نسخة: "الإصابة" وفيه ركاكة، ولعل الصواب إسقاط لفظة "عدم"، وليُحرّر، والله تعالى أعلم.
أنه اعتَمَد خبره، ولو كان كافرًا لما اعتمده في حكم شرعيّ. انتهى
(1)
.
(نَظَرَ آنِفًا) بمدّ الهمزة على المشهور، ويجوز قصرها، وبهما قرئ في السبع: ومعناه: قريبًا، أو أقرب وقت (إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأُسَامَةَ) رضي الله عنهم، وفي الرواية التالية:"فقال: يا عائشة ألم تري أن مجزّزًا الْمُدْلجيّ دخل عليّ، فرأى أسامة بن زيد، وزيدًا، وعليهما قطيفة، قد غطّيا رؤوسهما، وبدت أقدامهما".
وفي رواية للبخاريّ: "وأسامة وزيدٌ مضطجعان"، قال الحافظ: وفي هذه الزيادة دفع توهّم من يقول: لعلّه حاباهما بذلك لِمَا عُرف من كونهم كانوا يطعنون في أسامة. انتهى.
(فَقَالَ: إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَقدَامِ لَمِنْ بَعْضٍ") قال أبو داود: نقل أحمد بن صالح عن أهل النسب أنهم كانوا في الجاهليّة يقدحون في نسب أسامة؛ لأنه كان أسود شديد السواد، وكان أبوه زيدٌ أبيض من القطن، فلما قال القائف ما قال، مع اختلاف اللون، سُرَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لكونه كافًّا لهم عن الطعن فيه؛ لاعتقادهم ذلك.
وقد أخرجه عبد الرزّاق من طريق ابن سيرين أن أمّ أيمن مولاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، كانت سوداء، فلهذا جاء أسامة أسود.
وقد وقع في "الصحيح" عن ابن شهاب: أن أمّ أيمن كانت حبشيّةً وَصِيفة لعبد الله والد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويقال: كانت من سبي الحبشة الذين قدِموا زمن الفيل، فصارت لعبد المطّلب، فوهبها لعبد الله، وتزوّجت قبل زيد عُبيدًا الحبشيّ، فولدت له أيمن، فكُنيت به، واشتهرت بذلك، وكان يقال لها: أمّ الظباء، قاله في "الفتح"
(2)
.
وقال أبو العبّاس القرطبيّ: قال القاضي: وقال غير أحمد - يعني ابن صالح -: كان زيد أزهر اللون، وكان أسامة شديد الأُدْمة، وزيد بن حارثة عربيّ صريحٌ، من كلب، أصابه سباءٌ، فاشتراه حكيم بن حِزَام لعمّته خديجة بنت خُوَيلد رضي الله عنها، فوهبته للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فتبنّاه، فكان يُدعى زيدَ بن محمد، حتى
(1)
"الفتح" 15/ 506 و"الإصابة" 9/ 93 - 94.
(2)
"الفتح" 15/ 506.
نزل قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] فقيل: زيد بن حارثة. وابن زيد: أسامة، وأمه أم أيمن بركة، وكانت تُدعى أمّ الظِّبَاء، مولاة عبد الله بن عبد المطّلب، ودَايةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
، ولم أر لأحد أنها كانت سوداء إلا ما رُوي عن ابن سيرين في "تاريخ أحمد بن سعيد"، فإن كان هذا، فلهذا خرج أسامة أسود، لكن لو كان هذا صحيحًا لم ينكر الناس لونه؛ إذ لا يُنكر أن يلد الإنسان أسود من سوداء
(2)
، وقد نسبها الناس، فقالوا: أم أيمن بركة بنت محصن بن ثعلبة بن عمرو بن حصين بن مالك بن سلمة بن عمرو بن النعمان.
وقد ذكر مسلم في "الجهاد" عن ابن شهاب: أن أم أيمن كانت من الحبش، وَصِيفة لعبد الله بن عبد المطّلب، أبي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد ذكره الواقديّ، وكانت للنبيّ صلى الله عليه وسلم بركة أخرى حبشيّة، كانت تخدم أم حبيبة، فلعلّه اختلط اسمها على ابن شهاب، على أن أبا عمر قد قال في هذه: أظنّها أم أيمن، أو لعلّ ابن شهاب نسبها إلى الحبشة؛ لأنها من مهاجرة الحبشة، والله تعالى أعلم.
قال القرطبيّ: هذا أظهر. وتزوّجها عُبيد بن زيد، من بني الحارث، فولدت له أيمن، وتزوّجها بعده زيد بن حارثة بعد النبوّة، فولدت له أسامة، شهدت أُحدًا، وكانت تُداوي الجرحى، وشهدت خيبر، وتوفّيت في أول خلافة عثمان رضي الله عنها بعشرين يومًا، رَوَى عنها ابنها أنس، وأنس بن مالك، وطارق بن شهاب.
قالت أم أيمن: بات رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت، فقام من الليل، فبال في فَخّارة، فقمت، وأنا عطشى، لم أشعر ما في الفخّارة، فشربت ما فيها، فلما أصبحنا، قال:"يا أم أيمن أهريقي ما في الفخارة"، قلت: والذي بعثك بالحقّ لقد شربت ما فيها، فضحك حتى بدت نواجذه، قال: "إنه لا تتجعنّ
(3)
بطنك
(1)
الداية: الحاضنة.
(2)
وأجاب الحافظ عن هذا، فقال: يَحْتَمل أنها كانت صافية، فجاء أسامة شديد السواد، فوقع الإنكار لذلك. انتهى. "فتح" 15/ 506 - 507.
(3)
الذي في "الإصابة": "إنك لا تشتكين بطنك بعد هذا أبدًا"، وعزاه إلى ابن السكن.
بعدها أبدًا". انتهى كلام القرطبيّ
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 3617 و 3618 و 3619 و 3620](1459)، وأخرجه (البخاريّ) في "المناقب"(3555) و"الفرائض"(6770 و 6771)، (وأبو داود) في "الطلاق"(2267)، و (الترمذيّ) في "الولاء والهبة"(2129)، و (النسائيّ) في "الطلاق"(6/ 184) و"الكبرى"(3/ 381)، و (ابن ماجه) في "الأحكام"(2349)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(7/ 447)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 38 و 82 و 226)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 131 - 132)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 131 - 132)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(4/ 240)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 262 و 265) و"الصغرى"(9/ 253)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة العمل بالقافة، وفيه اختلافٌ بين العلماء، سيأتي تحقيقه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.
2 -
(ومنها): جواز اضطجاع الرجل مع ولده في شعار واحد.
3 -
(ومنها): جواز الشهادة على المنتقبة، والاكتفاء بمعرفتها، من غير رؤية الوجه.
4 -
(ومنها): قبول شهادة مَن يَشْهَد قبل أن يُستَشهَد عند عدم التهمة.
5 -
(ومنها): سرور الحاكم لظهور الحقّ لأحد الخصمين، عند السلامة من الهوى.
6 -
(ومنها): أن البخاريّ رحمه الله أدخل هذا الحديث في "كتاب الفرائض"
(1)
"المفهم" 4/ 199 - 200.
إشارةً إلى الردّ على من زعم أن القائف لا يُعتبر قوله، فإن من اعتبر قوله، فعَمِل به، لزم منه حصول التوارث بين المُلْحَق والمُلْحَق به، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم العمل بالقائف:
قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: قد استَدَلّ جمهور العلماء على الرجوع إلى قول القافة عند التنازع في الولد بسرور النبيّ صلى الله عليه وسلم بقول هذا القائف، وما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم بالذي يُسرّ بالباطل، ولا يُعجبه، ولم يأخذ بذلك أبو حنيفة، والثوريّ، وإسحاق، وأصحابهم؛ متمسّكين بإلغاء النبيّ صلى الله عليه وسلم الشبه في حديث اللعان على ما سبق، وفي حديث سودة، كما تقدّم، وقد انفَصَل من أخذ به عن هذا بأن إلغاء الشبه في تلك المواضع التي ذكروها إنما كان لمعارض أقوى منه، وهو معدوم هنا، فانفصلا.
ثم اختلف الآخذون بأقوال القافة، هل يؤخذ بذلك في أولاد الحرائر والإماء، أو يختصّ بأولاد الإماء؟ على قولين:
فالأول قول الشافعيّ، ومالك في رواية ابن وهب عنه، ومشهور مذهبه قَصْرُه على ولد الأمة، وفرّق بينهما بأن الواطئ في الاستبراء يستند وطؤه لعقد صحيح، فله شبهة المُلك، فيصحّ إلحاق الولد به، إذا أتت به لأكثر من ستّة أشهر من وطئه، وليس كذلك الوطء في العدّة؛ إذ لا عقد، إذ لا يصحّ، وعلى هذا فيلزم من نكح في العدّة أن يُحدّ، ولا يُلحق به الولد؛ إذ لا شبهة له، وليس مشهور مذهبه، وعلى هذا فالأولى ما رواه ابن وهب عنه، وقاله الشافعيّ.
ثم العجب أن هذا الحديث الذي هو الأصل في هذا الباب إنما وقع في الحرائر؛ فإن أسامة وأباه ابنا حرّتين، فكيف يُلْغَى السبب الذي خرج عليه دليل الحكم، وهو الباعث عليه؟ هذا ما لا يجوز عند الأصوليين.
وكذلك اختَلَف هؤلاء، هل يُكتَفَى بقول واحد؛ لأنه خبر من القافة، أو لا بدّ من اثنين؛ لأنها شهادةٌ؟ وبالأول قال ابن القاسم، وهو ظاهر الخبر، بل نصّه، وبالثاني قال مالكٌ، والشافعيّ، ويلزم عليه أن يُراعَى فيها شروط الشهادة، من العدالة، وغيرها.
واختلفوا أيضًا فيما إذا ألحقته القافة بمدّعيين، هل يكون ابنًا لهما؟، وهو قول سحنون، وأبي ثور، وقيل: يُترك حتى يَكْبَر، فيوالي من شاء منهما، وهو قول عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، وقاله مالكٌ، والشافعيّ، وقال عبد الملك، ومحمد بن مسلمة: يُلحق بأكثرهما شَبَهًا.
واختَلَفَ نُفاة القول بالقافة في حكم ما أشكل، وتنوزع فيه: فقال أبو حنيفة: يُلحق الولد بهما، وكذلك بامرأتين، وقال محمد بن الحسن: يُلحق بالآباء، وإن كثروا، ولا يُلحق إلا بأم واحدة، ونحوه قال أبو يوسف، وقال إسحاق: يقرع بينهم، وقاله الشافعيّ في القديم، ويُستدلّ له بحديث عليّ رضي الله عنه
(1)
. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله باختصار
(2)
.
وقال الإمام ابن القيّم رحمه الله بعد ذكر أدلة القائلين بالعمل بالقافة -: قالت الحنفيّة: قد أجلبتم علينا في القافة بالخيل والرَّجِلِ، والحكم بالقيافة تعويلٌ على مجرّد الشبه، والظنّ، والتخمين، ومعلومٌ أن الشبه قد يوجد من الأجانب، وينتفي عن الأقارب، وذكرتم قصّة أسامة وزيد، ونسيتم قصّة الذي ولدت امرأته غلامًا أسود، يخالف لونهما، فلم يمكّنه النبيّ صلى الله عليه وسلم من نفيه، ولا جعل للشبه، ولا لعدمه أثَرًا، ولو كان للشبه أثرٌ لاكتفى به في ولد الملاعنة، ولم يحتج إلى اللعان، ولكان ينتظر ولادته، ثم يلحق بصاحب الشبه، ويستغني بذلك عن اللعان، بل كان لا يصحّ نفيه مع وجود الشبه بالزوج، وقد دلّت السنّة الصحيحة الصريحة على نفيه عن الملاعن، ولو كان الشبه له، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"أبصروها، فإن جاءت به كذا وكذا، فهو لهلال بن أميّة"،
(1)
أراد بحديث عليّ رضي الله عنه ما أخرجه النسائيّ بسند صحيح، عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: أُتِي عليّ بثلاثة، وهو باليمن، وقعوا على امرأة في طهر واحد، فسأل اثنين: أتُقرّان لهذا بالولد؟ قالا: لا، ثم سأل اثنين: أتُقِرّان لهذا بالولد؟ قالا: لا، فأقرع بينهم، فقَضَى بالولد للذي صارت عليه القرعة، وجعل عليه ثلثي الدية، فذُكر ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فضَحِك، حتى بدت نواجذه. رواه أبو داود في "سننه" رقم (2269)، والنسائيّ في "الكبرى"(3/ 496)، و"المجتبى"(6/ 182).
(2)
"المفهم" 4/ 200 - 202.
وهذا قاله بعد اللعان، ونفي النسب عنه، فعُلم أنه لو جاء على الشبه المذكور، لم يثبت نسبه منه، وإنما كان مجيئه على شبهه دليلًا على كذبه، لا على لحوق الولد به.
قالوا: وأما قصّة أسامة وزيد، فالمنافقون كانوا يطعنون في نسبه من زيد؛ لمخالفة لونه لون أبيه، ولم يكونوا يكتفون بالفراش، وحُكْمِ الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم في أنه ابنه، فلما شَهِد به القائف، وافقت شهادته حكم الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، فسُرّ به النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لموافقتها حكمه، ولتكذيبها قول المنافقين، لا أنه أثبت نسبه بها، فأين في هذا إثبات النسب بقول القائف؟.
قالوا: وهذا معنى الأحاديث التي ذُكر فيها اعتبار الشبه، فإنها إنما اعْتَبَرَت فيه الشبه بنسب ثابت بغير القافة، ونحن لا ننكر ذلك.
قالوا: وأما حكم عمر، وعليّ، فقد اختُلف على عمر، فروي عنه ما ذكرتم، وروي عنه أن القائف لما قال له: قد اشتركا فيه، قال: والِ أيّهما شئت، فلم يعتبر قول القائف.
قالوا: وكيف تقولون بالشبه، ولو أقرّ أحد الورثة بأخ، وأنكره الباقون، والشبه موجود، لم تثبتوا النسب به، وقلتم: إن لم تتّفق الورثة على الإقرار به لم يثبت النسب؟.
قال أهل الحديث: من العجب أن يُنكر علينا القول بالقافة، ويجعلها من باب الحدس والتخمين من يُلحِق ولد المشرقيّ بمن في أقصى الغرب، مع القطع بأنهما لم يتلاقيا طرفة عين، ويُلحق الولد باثنين مع القطع بأنه ليس ابنًا لأحدهما، ونحن إنما ألحقنا الولد بالقائف المستند إلى الشبه المعتبر شرعًا وقدرًا، فهو استناد إلى ظنّ غالب، ورأي راجح، وأمارة ظاهرة بقول من هو من أهل الخبرة، فهو أولى بالقبول من قول المقوّمين، وهل ينكر مجيء كثير من الأحكام مستندًا إلى الأمارات الظاهرة، والظنون الغالبة؟.
وأما وجود الشبه بين الأجانب، وانتفاؤه بين الأقارب، وإن كان واقعًا، فهو من أندر شيء وأقلّه، والأحكام إنما هي للغالب الكثير، والنادر في حكم المعدوم.
وأما قصّة من ولدت امرأته غلامًا أسود، فهو حجة عليكم؛ لأنها دليلٌ
على أن العادة التي فطر الله عليها الناس اعتبار الشبه، وأن خلافه يوجب ريبة، وأن في طباع الخلق إنكار ذلك، ولكن لما عارض ذلك دليلٌ أقوى منه، وهو الفراش، كان الحكم للدليل القويّ، وكذلك نقول نحن وسائر الناس: إن الفراش الصحيح إذا كان قائمًا، فلا يعارض بقافة، ولا شبه، فمخالفة ظاهر الشبه لدليل أقوى منه - وهو الفراش - غير مستنكر، وإنما المستنكر مخالفة هذا الدليل الظاهر بغير شيء.
وأما تقديم اللعان على الشبه، وإلغاء الشبه مع وجوده، فكذلك أيضًا هو من تقديم أقوى الدليلين على أضعفهما، وذلك لا يمنع العمل بالشبه مع عدم ما يعارضه، كالبيّنة تُقدّم على اليد، والبراءة الأصليّة، ويُعمل بهما عند عدمها.
وأما ثبوت نسب أسامة من زيد بدون القيافة، فنحن لم نُثبت نسبه بالقيافة، والقيافةُ دليل آخر موافقٌ لدليل الفراش، فسرور النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفرحه بها، واستبشاره لتعاضد أدلّة النسب، وتضافرها، لا لإثبات النسب بقول القائف وحدَه، بل هو من باب الفرح بظهور أعلام الحقّ، وأدلّته، وتكاثرها، ولو لم تصلح القيافة دليلًا لم يَفرَح بها، ولم يُسَرّ، وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يفرح ويُسرّ، إذا تعاضدت عنده أدلّة الحقّ، ويُخبر بها الصحابة، ويُحبّ أن يسمعوها من المخبِر بها؛ لأن النفوس تزداد تصديقًا بالحقّ، إذا تعاضدت أدلّته، وتُسرّ به، وتفرح، وعلى هذا فطر الله تعالى عباده، فهذا حكم اتفقت عليه الفطرة والشِّرْعَة، وبالله تعالى التوفيق. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله باختصار، وإن أردت الزيادة من احتجاجاته الكثيرة المفيدة، فارجع إلى كتابه "زاد المعاد"
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما تقدّم من الأدلّة أن المذهب الصحيح في مسألة العمل بالقائف، هو مذهب الجمهور المثبتين له؛ لوضوح حجته، وقوّتها، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3618]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَاللَّفْظُ لِعَمْرٍو، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَن الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ
(1)
"زاد المعاد في هدي خير العباد" 5/ 418 - 423.
عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ مَسْرُورًا، فَقَالَ:"يَا عَائِشَةُ، أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيَّ دَخَلَ عَلَيَّ، فَرَأَى أُسَامَةَ وَزَيْدًا، وَعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ، قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا، وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا، فَقَالَ: "إِنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، والذي قبله.
وقوله: (ذَاتَ يَوْمٍ) أي يومًا من الأيام، فـ "ذاتَ" مقحمة.
وقوله: (وَعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ) بفتح، فكسر: دِثارٌ له خَمْلٌ، والجمع قطائفُ، وقُطُفٌ - بضمّتين - قاله الفيّوميّ
(1)
، وقال القرطبيّ:"القطيفة": كساء غليظ
(2)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3619]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَخَلَ قَائِفٌ
(3)
، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَاهِدٌ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَزَيدُ بْنُ حَارِثَةَ مُضْطَجِعَانِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، فَسُرَّ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَأَعْجَبَهُ، وَأَخْبَرَ بِهِ عَائِشَةَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ) بشير التُّرْكيّ، أبو نصر البغداديّ الكاتب، ثقةٌ [10](ت 235) وهو ابن (80) سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 38/ 255.
2 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجة [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
والباقون ذُكروا قبله.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 509.
(2)
"المفهم" 4/ 200.
(3)
وفي نسخة: "دخل عليّ قائف".
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3620]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، كُلُّهُمْ عَن الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، بِمَعْنَى حَدِيثِهِمْ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ يُونُسَ: وَكَانَ مُجَزِّزٌ قَائِفًا).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجيبيّ المصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله المصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَن الزُّهْرِيِّ) يعني الثلاثة: يونس، ومعمرًا، وابنَ جُريج، فإنهم رووا هذا الحديث عن الزهريّ.
[تنبيه]: رواية يونس، عن الزهريّ ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى" 10/ 262 فقال:
(21046)
- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو عمر، وهو ابن حمدان، أنبأ الحسن بن سفيان، ثنا حرملة بن يحيى، أنبأ ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرورًا فَرِحًا مما قال مُجَزِّز الْمُدْلِجِيّ، ونظر إلى أسامة بن زيد مضطجعًا مع أبيه، فقال: هذه أقدامٌ بعضها من بعض، وكان مُجَزِّز قائفًا. انتهى.
ورواية معمر، عن الزهريّ ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" 6/ 226 فقال:
(25937)
- حدّثنا عبد الله
(1)
، حدّثني أبي، ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن الزهريّ، عن عروة، قال: دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم على عائشة مسرورًا، فقال:"ألم تسمعي ما قال المدلجيّ؟، - ورأى أسامة وزيدًا نائمين في ثوب، أو في قَطِيفة، وقد خرجت أقدامهما - فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض". انتهى.
ورواية ابن جُريج، عن الزهريّ ساقها عبد الرزّاق رحمه الله في "مصنّفه" 7/ 447 فقال:
(13833)
- أخبرنا
(2)
عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جُريج، قال: أخبرني ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل عليها مسرورًا، تَبْرُق أسارير وجهه، فقال:"ألم تسمعي ما قال مُجَزِّز المدلجيّ لزيد وأسامة؟ - ورأى أقدامهما - فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(12) - (بَابُ قَدْرِ مَا تَسْتَحِقُّهُ الْبِكْرُ وَالثَّيِّبُ مِنْ إِقَامَةِ الزَّوْجِ عِنْدَهَا عَقِبَ الزِّفَافِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3621]
(1460) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَاللَّفْظُ لِأَبِي بَكْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا تَزَوَّجَ أُمَّ سَلَمَةَ، أقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا، وَقَالَ: "إِنَّهُ لَيْسَ بِكِ عَلَى أَهْلِكِ هَوَانٌ، إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ، وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكِ سبَّعْتُ لِنِسَائِي").
(1)
هو ابن الإمام أحمد، رواي "المسند" عنه.
(2)
قائل "أخبرنا" هو الراوي عنه.
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون السَّمين البغداديّ، مروزيّ الأصل، صدوقٌ فاضلٌ، ربّما وَهِمَ [10](5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.
3 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن كثير بن أفلح الْعَبديّ مولاهم، أبو يوسف البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 252) وله (96) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.
4 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، أبو سعيد البصريّ، تقدّم قريبًا.
5 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
6 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرِ) بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاريّ النجّاريّ الْحَزْميّ، أبو عبد الملك المدنيّ القاضي، ثقةٌ [6].
رَوَى عن أبيه، وخالة أبيه عمرة بنت عبد الرحمن، وعباد بن تميم الأنصاريّ.
وروى عنه عبد الملك بن زيد بن سعيد بن زيد بن عمرو، وأبو بكر بن نافع مولى زيد بن الخطاب، وعبد العزيز بن عبد الملك، ووهيب، وأبو أويس، والسفيانان، وغيرهم.
قال أبو حاتم: صالح ثقةٌ، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
قال الواقديّ: مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وهو ابن (72) سنةً، وكان ثقةً، وله أحاديث، وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: ليس به بأس.
أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
7 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ) المخزوميّ المدنيّ، ثقةٌ [5] مات في أول خلافة هشام (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 210.
8 -
(أَبُوهُ) أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزوميّ المدنيّ، قيل: اسمه محمد، وقيل: المغيرة، وقيل: أبو بكر اسمه، وكنيته أبو عبد الرحمن، وقيل: اسمه كنيته، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [3](ت 94) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 210.
9 -
(أُمُّ سَلَمَةَ) هند بنت أبي أُميّة المخزوميّة أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت قريبًا.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتحاد كيفيّة الأخذ والأداء منه ومنهم.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه: أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ، ومحمد بن حاتم، فانفرد به هو وأبو داود.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من محمد بن أبي بكر، وفيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ.
4 -
(ومنها): أن شيخه يعقوب أحد التسعة الذين اتّفق الجماعة بالرواية عنهم بلا واسطة.
5 -
(ومنها): أن أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث أحد الفقهاء السبعة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ) أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) هند بنت أبي أميّة حذيفة، أو سُهيل بن المغيرة المخزوميّة أم المؤمنين رضي الله عنها (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا تَزَوَّجَ أُمَّ سَلَمَةَ) أي بعد أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزوميّ رضي الله عنهما، تزوّجها سنة أربع، وقيل: ثلاث من الهجرة، وعاشت بعد ذلك ستين سنةً، وماتت سنة (62) وقيل: سنة إحدى، وقيل: قبل ذلك، والأول هو أصحّ.
[تنبيه]: في زواجه صلى الله عليه وسلم أم سلمة قصّة ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" 9/ 372 فقال:
(4065)
- أخبرنا أحمد بن عليّ بن المثنى، حدّثنا أبو خيثمة، حدّثنا رَوْح بن عُبادة، حدّثنا ابن جريج، أخبرني حبيب بن أبي ثابت، أن عبد الحميد بن عبد الله بن أبي عمر، والقاسم بن محمد بن عبد الرحمن بن هشام أخبراه، أنهما سمعا أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام يخبر،
أن أم سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبرته أنها لَمّا قَدِمت المدينة أخبرتهم، أنها بنت أبي أمية بن المغيرة، فكذَّبوها، وجعلوا يقولون: ما أكذب الغرائب، ثم أنشأ ناس منهم الحجّ، فقالوا: تكتبين إلى أهلك، فكتبت معهم، فرجعوا إلى المدينة، فصدّقوها، فازدادت عليهم كرامةً، فقالت: لَمّا وضعت زينب، جاءني النبيّ صلى الله عليه وسلم يخطبني، فقلت: مثلي لا يُنْكَح، أما أنا فلا وَلَدَ فيّ، وأنا غَيُور، ذات عيال، قال صلى الله عليه وسلم:"أنا أكبر منكِ، وأما الغيرة فيُذهبها الله، وأما العيال فإلى الله وإلى رسوله"، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:"إني آتيكم الليلةَ"، قالت: فأخرجت حبات من شعير كانت في جَرّتي، وأخرجت شَحْمًا، فعَصَدت له، قال
(1)
: فبات، ثم أصبح، فقال حين أصبح:"إن بك على أهلك كرامةً، إن شئت سبّعت لك، وإن أُسبِّع لك أسبّع لنسائي". انتهى
(2)
.
(أقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا) أي ثلاث ليالٍ (وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم لَمّا طلبت منه أن لا يخرج، ففي رواية عبد الرحمن بن حميد، عن عبد الملك الآتية:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تزوّج أم سلمة، فدخل عليها، فأراد أن يخرج أخذت بثوبه"("إِنَّهُ) الضمير للشأن، أي إن الأمر والشأن، وضمير الشأن هو الضمير الذي تفسّره الجملة بعده، قال ابن مالك رحمه الله في "الكافية الشافية":
وَمُضْمَرُ الشَّأْنِ ضَمِيرٌ فُسِّرَا
…
بِجُمْلَةٍ كَـ "إِنَّهُ زَيْدٌ سَرَى"
للابْتِدَا أَوْ نَاسِخَاتِهِ انْتَسَبْ
…
إِذَا أَتَى مُرْتَفِعًا أَوِ انْتَصَبْ
وَإِنْ يَكُنْ مَرْفُوعَ فِعْلٍ اسْتَتَرْ
…
حَتْمًا وَإِلَّا فَتَرَاهُ قَدْ ظَهَرْ
فِي بَابِ "إِنَّ" اسْمًا كَثِيرًا يُحْذَفُ
…
كَـ "إِنَّ مَنْ يَجْهَلْ يَسَلْ مَنْ يَعْرِفُ"
وَجَائِزٌ تَأْنِيثُهُ مَتْلُوَّ مَا
…
أُنِّثَ أَوْ شَبِيهَ أُنْثَى فَاعْلَمَا
وَقَبْلَ مَا أُنِّثَ عُمْدَةً فَشَا
…
تَأْنِيثُهُ كَـ "إِنَّهَا هِنْدٌ رَشَا"
(3)
(لَيْسَ بِكِ) أي لا يتعلّق بك، ويقع بك (عَلَى أَهْلِكِ هَوَانٌ) - بفتح الهاء والواو -: أي احتقار، قيل: المراد بالأهل قبيلتها، والباء للسببية، أي لا يلحق
(1)
كذا النسخة، ولعله "قالت"، فليُحرّر.
(2)
إسناده حسنٌ، كما قال محقق "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 9/ 373.
(3)
"الكافية الشافية" 1/ 233 - 234 بنسخة الشرح.
أهلَك بسببك هوان، وقيل: أراد بالأهل نفسه صلى الله عليه وسلم، وكلٌّ من الزوجين أهل، والباء متعلقة بـ "هَوَان"، أي ليس اقتصاري على الثلاثة؛ لهوانك عليّ، ولا لعدم رغبتي فيك، ولكن لأنه الحكم الشرعيّ.
قال القاضي عياض رحمه الله: معناه: لا يلحقك هوان، ولا يتعلّق بك، بل تستوفي حقّك من الْمُقام عندك، والتأنس به صلى الله عليه وسلم، وذلك لَمّا أخذت بثوبه حين أراد الخروج، ففهم منها استقلال مُقامه عندها، والاستكثار منه، فبيّن لها ما لها، وما عليها من ذلك، وأنه إن زادها على حقّها وجب أن يزيد لنسائه، فيطول عليها مغيبه، فآثرت القُنوع بحقّها من الثلاث، ثم يُعطي نساءه من بعدها أيامهنّ المعلومة، ثم يرجع إليها، فيقرب رجوعه إليها، ونوبتها منه.
قال: والمراد بأهلِك هنا نفسه صلى الله عليه وسلم، أي: لا أفعل فعلًا به هوانك عليَّ. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وإنما قال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك حين أخذت بثيابه تستزيده من الْمُقام عندها، فاستلطفها بهذا القول الحسن، ثم بعد ذلك بَيَّن لها وجه الحكم بقوله:"للبكر سبع، وللثيّب ثلاثٌ"، وهذا تقعيد للقاعدة، وبيان لحكمها، وهو حجة للجمهور على أبي حنيفة حيث يقول: لا يختصّ بذلك واحدة منهنّ، بل يقضي لسائر نسائه بمثل ذلك؛ تمسّكًا منه بمطلق الأمر بالعدل بينهنّ
(2)
، وسيأتي تمام البحث في ذلك - إن شاء الله تعالى -.
وقال النوويّ رحمه الله: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس بك على أهلك هوان": لا يلحقك هَوَانٌ، ولا يَضِيع من حقك شيءٌ، بل تأخذينه كاملًا، ثم بَيَّن صلى الله عليه وسلم -حقَّها، وأنها مُخَيَّرة بين ثلاث بلا قضاء، وبين سبع، ويقضي لباقي نسائه؛ لأن في الثلاث مزيّةً بعدم القضاء، وفي السبع مزيةٌ لها بتواليها، وكمال الأنس فيها، فاختارت الثلاث؛ لكونها لا تُقْضَى، وليَقْرُب عَوْده إليها، فإنه يطوف عليهنّ ليلةً ليلةً، ثم يأتيها، ولو أخذت سبعًا طاف بعد ذلك عليهنّ سبعًا سبعًا، فطالت غيبته عنها. انتهى
(3)
.
(1)
"إكمال المعلم" 4/ 659.
(2)
"المفهم" 4/ 202 - 203.
(3)
"شرح النوويّ" 10/ 43 - 44.
(إِنْ شِئْتِ) الزيادة على الثلاث (سَبَّعْتُ لَكِ) أي أقمت عندك سبع ليال، قال في "النهاية": اشتقُّوا فَعَّلَ من الواحد إلى العشرة، فمعنى سَبَّع: أقام عندها سبعًا، وثلَّث: أقام عندها ثلاثًا، وسبّع الإناء: إذا غسله سبع مرّات، وكذلك من الواحد إلى العشرة في كلّ قول أو فعل. انتهى
(1)
.
(وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكِ سَبَّعْتُ لِنِسَائِي") وفي رواية عبد الرحمن بن حميد الآتية: "إن شئت زدتك، وحاسبتك به، للبكر سبعٌ، وللثيّب ثلاث"، وفي رواية عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الملك التالية:"إن شئت سبّعتُ عندك، وإن شئت ثَلَّثتُ، ثُمّ دُرْتُ، قالت: ثَلِّث"، وفي رواية الدارقطنيّ:"إن شئتِ أقمت عندك ثلاثًا خالصةً لك، وإن شئت سبّعتُ لك، وإن سبّعت لك سبّعتُ لنسائي"، قالت: تقيم معي ثلاثًا خالصةً.
وفي الحديث دليل على أن الزوج إذا تعدَّى السبع للبكر، والثلاث للثيب بطل الإيثار، ووجب قضاء سائر الزوجات مثل تلك المدة بالنصّ في الثيب، والقياس في البكر، ولكن إذا وقع من الزوج تعدي تلك المدّة بإذن الزوجة فلا قضاء.
قال في "الفتح": وحَكَى الشيخ أبو إسحاق في "المهذَّب" وجهين في أنه يقضي السبع، أو الأربع المزيدة، والذي قطع به الأكثر أنها إن اختارت السبع قضاها كلها، وإن أقامها بغير اختيارها قضى الأربع المزيدة. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أم سلمة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: أخرج المصنّف رحمه الله حديث الباب موصولًا، ومرسلًا، فأخرجه من رواية سفيان الثوريّ، عن محمد بن أبي بكر، عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن أبيه، عن أم سلمة رضي الله عنها، متّصلًا، ثم أخرجه من رواية مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الملك بن أبي بكر،
(1)
"النهاية" 2/ 336.
(2)
"الفتح" 11/ 660.
عن أبي بكر بن عبد الرحمن: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حين تزوج أم سلمة مرسلًا، وكذا رواه من رواية سليمان بن بلال، مرسلًا، ورواه بعد هذا من رواية حفص بن غياث، متّصلًا، كرواية سفيان.
قال الدارقطنيّ: قد أرسله عبد الله بن أبي بكر، وعبد الرحمن بن حميد، كما ذكره مسلم، قال النوويّ: وهذا الذي ذكره الدارقطنيّ من استدراكه هذا على مسلم فاسدٌ؛ لأن مسلمًا رحمه الله قد بَيَّن اختلاف الرواة في وصله وإرساله، ومذهبه، ومذهب الفقهاء والأصوليين، ومحققي المحدثين أن الحديث إذا رُوِي متصلًا ومرسلًا، حُكِم بالاتصال، ووجب العمل به؛ لأنها زيادة ثقة، وهي مقبولة عند الجماهير، فلا يصح استدراك الدارقطنيّ. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد سبق غير مرّة تعقّب قول النوويّ: إن مذهب المحققين ترجيح الوصل على الإرسال، بأن هذا ليس مذهب المحقّقين من أهل الحديث، بل مذهبهم العمل بما تقتضيه القرينة، فإن اقتضت ترجيح الوصل، رجّحوه، أو ترجيح الإرسال رجّحوه، وهذا هو الصواب في المسألة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
والحاصل أن الحديث متّصل صحيح، كما هو رأي المصنّف، وذلك لاتفاق سفيان الثوريّ، وحفص بن غياث عليه، فرُجِّح الوصل به، فتبصّر.
قال أبو مسعود الدمشقيّ رحمه الله في "الأجوبة" بعد نقل كلام الدارقطنيّ المذكور: هذا حديث أخرجه مسلم من حديث يحيى القطّان، عن الثوريّ، عن محمد بن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أم سلمة.
وأخرجه أيضًا من حديث حفص بن غياث مسندًا، لا مرسلًا، عن عبد الواحد بن أيمن، عن أبي بكر، عن أم سلمة مُجوّدًا، وقد جوّده عبد الله بن داود، عن عبد الرحمن بن أيمن.
وأما الحديث المرسل، فلم يخرجه من حديث حفص، وإنما أخرجه من حديث أبي بكر بن عبد الرحمن: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، مرسلٌ.
وعن القعنبيّ، عن سليمان بن بلال، وعن يحيى بن يحيى، عن أبي
(1)
"شرح مسلم" 10/ 43.
ضمرة أنس بن عياض كليهما عن عبد الرحمن بن حُميد، عن عبد الملك بن أبي بكر، عن أبي بكر: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، مرسلٌ أيضًا.
قال: وإذا جوّده ثقات، وقصّر فيه ثقات أيضًا، وبيّنه، فلا يلزمه عيب في ذلك. انتهى.
وقال الرشيد العطّار رحمه الله بعد ذكر نحو ما تقدّم: وإنما أراد مسلم رحمه الله بذلك - يعني إيراده متّصلًا ومرسلًا - والله أعلم؛ ليبيِّن الاختلاف الواقع بين رواته في إسناده، ويَخرُج من عُهدته. انتهى.
وقال القاضي عياض رحمه الله: هذا مما تتبعه الدارقطنيّ على مسلم، ولا تتبّع فيه؛ إذ قد بيّن علّته، وهذا يدلّ على ما ذكرناه أوّل الكتاب أن ما وعد به من ذكر علل الحديث قد وفى به، وذكره في الأبواب، خلاف من ذهب إلى أنه مات قبل تمام الكتاب، على ما ذهب إليه أبو عبد الله الحاكم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من كلام الأئمة أن الحديث صحيح متّصلٌ، ولا يضرّه إرسال من أرسله؛ لكون الواصلين ثقتين حافظين معتمدين، وهما سفيان الثوريّ، وحفص بن غياث.
فيكون إخراج المصنّف الحديث متّصلًا ومرسلًا؛ للوفاء بما وعد به في "مقدّمة كتابه" أنه سيبيّن علل الحديث في "كتابه" في المواضع التي يليق بها البيان، فلله درّه محدّثًا حافظًا وناقدًا بصيرًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 3621 و 3622 و 3623 و 3624 و 3625](1460)، و (أبو داود) في "النكاح"(2122)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 293)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1917)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 529)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 26 - 27)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(10645 و 10646)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 542)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 292 و 307)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 144)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"
(1)
"إكمال المعلم" 4/ 663.
(23/ 586)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4065)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 29)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(3/ 284)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 87)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 133 - 134)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(12/ 429 و 438)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(8/ 91)، و (البيهقيّ) في "معرفة السنن والآثار"(5/ 428)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2327)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان قدر ما تستحقّه البكر، والثيّب من إقامة الزوج عندها عقب الزفاف، وهو أن للبكر سبع ليال، وللثيّب ثلاث ليال.
2 -
(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، من حسن العشرة والملاطفة مع أهله، حيث قال لها:"ليس بك على أهلك هوان".
3 -
(ومنها): بيان استحباب ملاطفة الأهل والعيال، وغيرهم، وتقريب الحقّ من فهم المخاطب؛ ليرجع إليه.
4 -
(ومنها): بيان أنه ينبغي اللطف والرفق بمن يُخْشَى منه كراهية الحقّ، حتى يتبيّن له وجه ترجيحه، فيرجع إليه
(1)
.
5 -
(ومنها): بيان العدل بين الزوجات.
6 -
(ومنها): بيان أن حقّ الزِّفَاف ثابت للمزفوفة، وتُقَدَّم به على غيرها، فإن كانت بكرًا كان لها سبع ليال بأيامها بلا قضاء، وإن كانت ثَيِّبًا كان لها الخيار، إن شاءت سبعًا، ويَقضي السبعَ لباقي النساء، وإن شاءت ثلاثًا، ولا يقضي، وهذا مذهب الجمهور، وهو الصحيح؛ لأنه الذي ثبتت فيه هذه الأحاديث الصحيحة، وسيأتي بيان الاختلاف في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.
[تنبيه]: قال في "الفتح": وتجب الموالاة في السبع، وفي الثلاث، فلو فَرّق لم يُحْسَب على الراجح؛ لأن الْحِشْمة
(2)
لا تزول به، ثم لا فرق في ذلك
(1)
"إكمال المعلم" 4/ 659.
(2)
"الحِشْمة" بكسر، فسكون: الحياء والخَجَل.
بين الحرة والأمة، وقيل: هي على النصف من الحرة، ويجبر الكسر. انتهى
(1)
.
7 -
(ومنها): ما قاله الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: هذا الحديث: "إن سبّعت لك، سبّعت لنسائي"، فإنه لا يقول به مالك، ولا أصحابه، وهذا مما تركوه من رواية أهل المدينة؛ لحديث بصريّ
(2)
.
وقال أيضًا: من قال بحديث هذا الباب يقول: إن أقام عند البكر، أو الثيب سبعًا، أقام عند سائر نسائه سبعًا سبعًا، وإن أقام عندها ثلاثًا، أقام عند كل واحدة ثلاثًا ثلاثًا، فتأولوا في قوله صلى الله عليه وسلم:"وإن شئت ثلَّثتُ، ودُرْت"، أي درت ثلاثًا ثلاثًا، وهو قول الكوفيين، وفي هذا الباب عجب؛ لأنه صار فيه أهل الكوفة إلى ما رواه أهل المدينة، وصار أهل المدينة إلى ما رواه أهل البصرة. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم فيما تستحقّه كلّ من البكر والثيّب من إقامة الزوج عندها عقب الزفاف:
قال العلّامة ابن قُدامة رحمه الله: متى تزوج صاحب النسوة امرأة جديدةً قَطَع الدَّوْر وأقام عندها سبعًا، إن كانت بكرًا، ولا يقضيها للباقيات، وإن كانت ثيبًا أقام عندها ثلاثًا، ولا يقضيها، إلا أن تشاء هي أن يقيم عندها سبعًا، فإنه يقيمها عندها، ويقضي الجميع للباقيات.
رُوي ذلك عن أنس، وبه قال الشعبيّ، والنخعيّ، ومالكٌ والشافعيّ، وإسحاق، وأبو عبيد، وابن المنذر.
(1)
"الفتح" 11/ 660 - 661.
(2)
بيّن معنى ذلك، حيث قال: قال أبو عمر: أما قوله في هذا الحديث: "إن سبعت لك سبعت لنسائي"، فإنه لا يقول به مالك، ولا أصحابه، وهذا مما تركوه من رواية أهل المدينة لحديث بصريّ، رواه مالك، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: للبكر سبعٌ، وللثيب ثلاث"، قال مالك: وذلك الأمر عندنا، ولا يحسب على التي تزوج ما أقام عندها. انتهى. "التمهيد" 17/ 245.
(3)
"الاستذكار" 5/ 438 - 441.
ورُوِي عن سعيد بن المسيِّب، والحسن، وخِلاس بن عمرو، ونافع مولى ابن عمر: للبكر ثلاث، وللثيب ليلتان، ونحوه قال الأوزاعيّ.
وقال الحكم، وحماد، وأصحاب الرأي: لا فضل للجديدة في القَسْم، فإن أقام عندها شيئًا قضاه للباقيات؛ لأنه فضّلها بمدة، فوجب قضاؤها، كما لو أقام عند الثيب سبعًا. انتهى
(1)
.
وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: وأما اختلاف الفقهاء، وذِكر أقوالهم في هذا الباب، فقال مالك، والشافعيّ، وأصحابهما، والطبريّ: يقيم عند البكر سبعًا، وعند الثيب ثلاثًا، فإن كانت له امرأة أخرى غير الذي تزوج، فإنه يَقْسِم بينهما بعد أن تمضي أيام التي تزوج، ولا يقيم عندها ثلاثًا.
وقال ابن القاسم، عن مالك: مقامه عند البكر سبعًا، وعند الثيب ثلاثًا، إذا كان له امرأة أخرى واجبٌ، وقال ابن عبد الحكم، عن مالك: ذلك مستحبٌّ، وليس بواجب.
وقال الأوزاعيّ: مضت السنة أن يجلس في بيت البكر سبعًا، وعند الثيب ثلاثًا، وإن تزوج بكرًا، وله امرأة أخرى فإن للبكر ثلاثًا، ثم يُقْسِم، وإن تزوج الثيب، وله امرأة كان لها ليلتان.
وقال سفيان الثوريّ: إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها ليلتين، ثم قسم بينهما، قال: وقد سمعنا حديثًا آخر، قال: يقيم مع البكر سبعًا، ومع الثيب ثلاثًا.
وقال أبو حنيفة، وأصحابه: الْقَسْم بينهما، سواءٌ البكر والثيب، ولا يقيم عند الواحدة إلا كما يقيم عند الأخرى.
وقال محمد بن الحسن: إن الحرمة لهما سواءٌ، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤثر واحدة عن الأخرى، واحتجَّ بحديث هذا الباب:"إن سبّعت لك سبّعت لنسائي، وإن شئتِ ثَلَّثت، ودُرْت"، يعني بمثل ذلك.
واحتجوا أيضًا بقوله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له زوجتان، ومال إلى إحداهما جاء يوم القيامة، وشقه مائل".
(1)
"المغني" 7/ 240.
قال أبو عمر: عن التابعين في هذا الباب من الاختلاف كالذي بين أئمة الفتوى فقهاء الأمصار، وما ذهب إليه مالك، والشافعيّ، فهو الذي وردت به الآثار المرفوعة، وهو الصواب - إن شاء الله -.
قال أبو عمر: لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للبكر سبع، وللثيب ثلاث" دَلّ على أن ذلك حقّ من حقوقها، فمحال أن يحاسبا بذلك، وعند أكثر العلماء ذلك واجب لهما، كان عند الرجل زوجة أم لا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا تزوج البكر أقام عندها سبعًا، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثًا"، ولم يخصّ من له زوجة ممن لا زوجة له.
وقد اختلفوا في المقام المذكور، هل هو من حقوق الزوجة على الزوج، أو من حقوق الزوج على سائر نسائه؟
فقالت طائفة: هو حقّ للمرأة، إن شاءت طالبت به، وإن شاءت تركته.
وقال آخرون: هو من حقّ الزوج، إن شاء أقام عندها، وإن شاء لم يُقِم، فإن أقام عندها، ففيه من الاختلاف ما ذكرنا، وإن لم يقم عندها إلا ليلةً دار، وكذلك إن أقام ثلاثًا دار على ما ذكرنا من اختلاف الفقهاء.
فالقول عندي أولى باختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ذلك حقّ؛ لقوله: "للبكر سبع، وللثيب ثلاثٌ"، وقوله: "من تزوج بكرًا أقام عندها سبعًا، وعند الثيب ثلاثًا، وبالله تعالى التوفيق. انتهى
(1)
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي اختاره الإمام ابن عبد البرّ رحمه الله من العمل بما دلّت عليه أحاديث الباب، وهو أن من تزوّج بكرًا، أقام عندها سبعًا، ومن تزوّج ثيّبًا أقام عندها ثلاثًا، إلا أن تشاء التسبيع، فيسبّع لها، ثم يحاسبها بالتسبيع لزوجاته، هو الصواب الذي لا شكّ فيه؛ لأنه نصّ الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا كلام ونقاش معه صلى الله عليه وسلم، فتبصّر بالإنصاف، ولا تسلك مسلك التقليد والانحراف، وراجع ما كتبه أبو محمد بن حزم رحمه الله في المسألة في كتابه "المحلّى"
(2)
، فقد ناقش المخالفين بأشدّ أسلوب، وأفحمه للخصوم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"الاستذكار" 5/ 438 - 441.
(2)
"المحلّى" 10/ 63 - 67.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم هل هذا الحقّ المذكور من التسبيع والتثليث حقّ للزوج، أم للزوجة الجديدة؟
قال النوويّ رحمه الله: اختلفوا في ذلك، ومذهبنا، ومذهب الجمهور، أنه حقّ لها، وقال بعض المالكية: حقّ له على بقية نسائه، واختلفوا في اختصاصه بمن له زوجات غير الجديدة، قال ابن عبد البر: جمهور العلماء على أن ذلك حقّ للمرأة بسبب الزفاف، سواء كان عنده زوجة، أم لا؟؛ لعموم الحديث:"إذا تزوج البكر أقام عندها سبعًا، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثًا"، فلم يخص من لم يكن له زوجة.
وقالت طائفة: الحديثُ فيمن له زوجة، أو زوجات، غير هذه؛ لأن من لا زوجة له، فهو مقيم مع هذه كل دهره، مؤنس لها، متمتع بها، مستمتعة به بلا قاطع، بخلاف من له زوجات، فإنه جُعلت هذه الأيام للجديدة؛ تأنيسًا لها متصلًا؛ لتستقرّ عشرتها له، وتذهب حِشمتها ووحشتها منه، ويقضي كل واحد منهما لذّته من صاحبه، ولا ينقطع بالدوران على غيرها.
ورجح القاضي عياض هذا القول، وبه جزم البغويّ من أصحاب الشافعيّ في "فتاويه"، فقال: إنما يثبت هذا الحق للجديدة، إذا كان عنده أخرى يبيت عندها، فإن لم تكن أخرى، أو كان لا يبيت عندها لم يثبت للجديدة حقّ الزفاف، كما لا يلزمه أن يبيت عند زوجاته ابتداء.
قال النوويّ: والأول أقوى، وهو المختار؛ لعموم الحديث. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن ما رجحه القاضي عياض، من تقييده بمن له زوجة أخرى هو الأقرب؛ لما سيأتي من حديث أنس رضي الله عنه:"إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعًا. . ." الحديث، فقيّده بمن تزوج على زوجته، ومفهومه أن من لم يتزوج على زوجته ليس عليه التسبيع، ولا التثليث، وأما الروايات التي فيها الإطلاق فَتُحمل على هذه الرواية المقيّدة، فافهم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"شرح النوويّ" 10/ 44 - 45.
[تنبيه]: قال في "الفتح": يُكرَه أن يتأخر في السبع أو الثلاث عن الصلاة، وسائر أعمال البرّ التي كان يفعلها. نصّ عليه الشافعيّ، وقال الرافعيّ: هذا في النهار، وأما في الليل فلا؛ لأن المندوب لا يترك له الواجب، وقد قال الأصحاب: يسوّي بين الزوجات في الخروج إلى الجماعة، وفي سائر أعمال البرّ، فيخرج في ليالي الكلّ، أو لا يخرج أصلًا، فإن خصّص حرُم عليه، وعدُّوا هذا من الأعذار في ترك الجماعة.
وقال ابن دقيق العيد: أفرط بعض الفقهاء، فجعل مُقامه عندها عذرًا في إسقاط الجمعة، وبالغ في التشنيع.
وأجيب بأنه قياس قول من يقول: بوجوب المقام عندها، وهو قول الشافعية، ورواه ابن قاسم عن مالك، وعنه يستحبّ، وهو وجه للشافعية، فعلى الأصح يتعارض عنده الواجبان، فيقدَّم حقّ الآدميّ، فليس بشنيع، وإن كان مرجوحًا. انتهى
(1)
.
قال الشوكانيّ رحمه الله: ولا يخفى أن مثل هذا لا يُرَدّ به على تشنيع ابن دقيق العيد؛ لأنه شنَّع على القائل كائنًا من كان، وهو قولٌ شنيعٌ، كما ذكر، فكيف يجاب عنه بأن هذا قد قال به فلان وفلان؟ اللهم إلا أن يكون ابن دقيق العيد موافقًا في وجوب المقام بلا استثناء. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما أحقّ التشنيع والتقبيح على هذا القول المهين، فما ذكره الرافعيّ عجيب، فإنه مخالف للنصوص الصحيحة الكثير في إيجاب صلاة الجمعة، والجماعة، على الإطلاق، فلا يوجد نصّ يُخرج المتزوج عن ذلك، وأيضًا فإن الرافعيّ شافعيّ، وقائم في نصرة مذهبه، وهذا مخالف لنصّ الشافعيّ، كما سبق آنفًا، إن هذا لشيء عجيب.
قال الإمام ابن حزم رحمه الله في معرض الردّ على هذا القول: وأما التخلف عن صلاة الجماعة، فقد ذكرناه في "كتاب الصلاة" من ديواننا هذا - يعني "الْمُحَلّى" - وغيره: إيجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وتوعّده بحرق بيوت المتخلفين عنها لغير عذر، وقد تزوج صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فما منهم من أحد تخلف في
(1)
"الفتح" 11/ 660 - 661.
(2)
"نيل الأوطار" 6/ 370.
التسبيع، والتثليث عن صلاة الجماعة والجمعة، وإنما هي ضلالة أحدثها الشيطان. انتهى كلام ابن حزم رحمه الله
(1)
، وهو كلام نفيس جدًّا.
والحاصل أن التخلّف عن صلاة الجمعة، والجماعة لمن تزوّج متعلّلًا بهذا التسبيع والتثليث، لَمِنْ تسويل الشيطان، ومما يدعو إليه حزبه؛ ليكونوا من أصحاب الضلال، فليحذر المسلم كل الحذر عن الاعتماد على مثل هذه الفتاوى الماجنة، فإنها عين الضلالة والمهانة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3622]
(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَكْرِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ تَزَوَّجَ أُمَّ سَلَمَةَ، وَأَصْبَحَتْ عِنْدَهُ، قَالَ لَهَا: "لَيْسَ بِكِ عَلَى أَهْلِكِ هَوَانٌ، إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ عِنْدَكِ، وَإِنْ شِئْتِ ثَلَّثْتُ، ثُمَّ دُرْتُ"، قَالَتْ: ثَلِّثْ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، تقدّم قريبًا.
3 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ أبِي بَكْرِ) بن محمد بن عمرو بن حَزْم الأنصاريّ المدنيّ القاضي، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ عِنْدَكِ) أي مع تسبيعه لنسائه، كما بَيّنته الروايات الأخرى، ففي هذه الرواية اختصار، يعني أنها إن شاءت أقام عندها سبعًا، لكنه يحاسبها على ذلك، فيسبّع لسائر نسائه.
وقوله: (وَإِنْ شِئْتِ ثَلَّثْتُ، ثُمَّ دُرْتُ) أي أقيم عندك ثلاثًا، ثم أدور على
(1)
"المحلى" 10/ 67.
نسائي، وأعود إليك، ولا أحاسبك بالثلاث، أي كما أنه يحاسبها لو سبّع عندها، فيسبّع لنسائه.
وقوله: (قَالَتْ: ثَلِّثْ) معناه: أنها اختارت الثلاث؛ لكونه لا تُقضَى لسائر أزواجه صلى الله عليه وسلم، فيقرب عوده صلى الله عليه وسلم إليها.
والحديث مرسلٌ، وهو من أفراد المصنف رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: وقع في النسخ التي بين يديّ إلا النسخة الهنديّة غلط في هذا الإسناد، ونصّه:"عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فأسقط ذكر "عن أبي بكر بن عبد الرحمن"، ولا بدّ منه، فالحديث مرسل بحذف ذكر أم سلمة، وليس بمعضل بحذفها، وحذف الراوي عنها، وهو أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، والد عبد الملك الراوي عنه، وقد وقع على الصواب في النسخة الهنديّة، وكذا وقع على الصواب في "تحفة الأشراف" 12/ 130 ونصّه:"عن يحيى بن يحيى، عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تزوج أم سلمة. . ." فذكر نحوه، ولم يقل:"عن أم سلمة". انتهى.
وقد أوضح ذلك ابن عبد البرّ رحمه الله في "التمهيد"، ودونك نصّه بطوله:
حديثٌ عاشرٌ لعبد الله بن أبي بكر: مالكٌ عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزوميّ، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تزوج أم سلمة، وأصبحت عنده، قال لها:"ليس بك على أهلك هَوَانٌ، إن شئت سبّعت عندك، وسبّعت عندهنّ، وإن شئت ثلّثتُ عندك، ودُرْتُ"، فقالت: ثَلِّثْ.
هذا حديث ظاهره الانقطاع، وهو متصلٌ مسندٌ صحيحٌ، قد سمعه أبو بكر من أم سلمة.
ثم أخرجه بسنده عن أحمد بن حنبل، قال: أخبرنا عبد الرزاق، ويحيى بن سعيد الأمويّ، ورَوْح بن عُبادة، قالوا: حدثنا ابن جريج، أخبرنا حبيب بن أبي ثابت، أن عبد الحميد بن عبد الله بن أبي عمر، والقاسم بن
محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أخبراه، أنهما سمعا أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أن أم سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبرته في حديث طويل، ذكروه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن شئت سبّعت لك، وإن أسبّع لك أسبّع لنسائي".
قال: وقد رُوي هذا الحديث من وجه آخر متصل أيضًا، ثم ساقه بسنده إلى حماد بن سلمة، أخبرنا ثابت، حدّثني ابن عمر بن أبي سلمة بمنى، عن أبيه، عن أم سلمة، في حديث طويل ذكره في نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّ سلمة، وفيه: فلما بنى بأهله، قال لها:"إن شئت أن أسبّع لك سبّعت للنساء".
ثم ساقه بسنده إلى سفيان الثوريّ، حدّثني محمد بن أبي بكر، عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمّا تزوجها أقام عندها ثلاثة أيام، وقال:"إنه ليس بك على أهلك هوانٌ، إن شئت سبعت لك، وإن سبّعت لك سبّعت لنسائي". انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تحقّق بما سبق أن في نسخ "صحيح مسلم" غلط، وهو حذف ذكر أبي بكر بن عبد الرحمن بن هشام بعد عبد الملك بن أبي بكر، والحديث مرسلٌ بحذف ذكر أم سلمة، وليس بمعضل بحذفهما، فتأمله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3623]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، يَعْنِي ابْنَ بِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ تَزَوَّجَ أُمَّ سَلَمَةَ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا، فَأَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، أَخَذَتْ بِثَوْبِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنْ شِئْتِ زِدْتُكِ، وَحَاسَبْتُكِ بِهِ، لِلْبِكْرِ سَبْعٌ، وَلِلثَّيِّبِ ثَلَاثٌ").
(1)
"التمهيد" 17/ 243 - 245.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ) تقدّم قريبًا.
2 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) المدينيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حُمَيْدِ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ [6](ت 137)(ع) تقدم في "الحج" 78/ 3298.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (أَخَذَتْ بثَوْبِهِ) أي طلبًا لزيادة مُقامه عندها.
والحديث مرسلٌ، كسابقه، وهو من أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3624]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو ضَمْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُمَيْدٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(أَبُو ضَمْرَةَ) أنس بن عياض بن ضمرة الليثيّ المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 200) وله (96) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.
والباقيان ذُكرا في الإسنادين الماضيين.
[تنبيه]: رواية أبي ضمرة، عن عبد الرحمن بن حُميد هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3625]
(. . .) - (حَدَّثَنِي أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ، يَعْنِي ابْنَ غِيَاثٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ. ذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَهَا، وَذَكَرَ أَشْيَاءَ، هَذَا فِيهِ، قَالَ: "إِنْ شِئْتِ أَنْ أُسَبِّعَ لَكِ، وَأُسَبِّعَ لِنِسَائِي، وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكِ سَبَّعْتُ لِنِسَائِي").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) الهمدانيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(حَفْصُ بْنُ غِيَاثِ) بن طلق النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ القاضي، ثقةٌ فقيهٌ تغيّر في آخره [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.
3 -
(عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ) الْمخزوميّ مولاهم، أبو القاسم المكيّ، ثقةٌ
(1)
[5].
رأى ابن الزبير، وروى عن أبيه، وابن أبي مليكة، وعبيد بن رِفَاعة الزُّرَقيّ، وعُبيد بن عُمير الليثيّ، وسعيد بن جبير، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وغيرهم.
وروى عنه حفص بن غياث، ومروان بن معاوية، ووكيع، ومحمد بن فضيل، ومحمد بن بشر، وخلاد بن يحيى، وأبو نعيم، وآخرون.
قال ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال النسائيّ: ليس به بأسٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو بكر البزار: مشهورٌ ليس به بأس في الحديث.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (1460)، و (2445).
والباقيان ذُكرا قبله.
قوله: (ذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَهَا) فاعل "ذَكَر" ضمير أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث.
وقوله: (وَذَكَرَ أَشْيَاءَ، هَذَا فِيهِ) يعني أنه ذكر في هذا الحديث أشياء متعدّدة، مما يتعلّق بزواج أم سلمة رضي الله عنها، ومن جملة تلك الأشياء قوله صلى الله عليه وسلم لها:"إن شئت أن أسبّع لك إلخ".
(1)
في "التقريب": لا بأس به، والذي يظهر لي أنه ثقة؛ لأنه روى عنه جماعة، واحتجّ به الشيخان، ووثقه ابن معين، وغيره، ولم يتكلّم فيه أحد بجرح، فهو ثقة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قوله: (وَذَكَرَ أَشْيَاءَ، هَذَا فِيهِ) قد تقدّم في شرح حديث أول الباب ما يوضّح تلك الأشياء مما أخرجه ابن حبّان في "صحيحه" مطوّلًا.
وأخرج أيضًا، فقال 7/ 212:
(2949)
- أخبرنا أبو يعلى، قال: حدّثنا إبراهيم بن الحجاج الساميّ، وأخبرنا ابن خزيمة، قال: حدّثنا يعقوب بن إبراهيم الدَّوْرَقيّ، قال: حدّثنا يزيد بن هارون، قال يزيد: أخبرنا، وقال إبراهيم: حدّثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البنانيّ، عن ابن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أم سلمة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أصابته مصيبة، فليقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم عندك أحتسب مصيبتي، فأْجُرْني فيها، وأبدلني بها خيرًا منها"، فلما مات أبو سلمة قلتها، فجعلت كلما بلغت "أبدلني خيرًا منها"، قلت في نفسي: ومن خيرٌ من أبي سلمة؟ فلما انقضت عدتها، بعث إليها أبو بكر يخطبها، فلم تَزَوَّجه، ثم بعث إليها عمر يخطبها، فلم تَزَوَّجه، فبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب يخطبها عليه، قالت: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني امرأة غَيْرَى، وأني امرأة مُصْبِيَةٌ، وليس أحد من أوليائي شاهدًا، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال: ارجع إليها، فقل لها:"أما قولك: إني امرأة غَيْرَى، فأسأل الله أن يذهب غيرتك، وأما قولك: إني امرأة مُصْبِيَةٌ، فتُكْفَيْنَ صبيانك، وأما قولك: إنه ليس أحدٌ من أوليائك شاهدٌ، فليس من أوليائك شاهدٌ ولا غائبٌ يكره ذلك"، فقالت لابنها: يا عمر، قُمْ فزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزوّجه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيها؛ ليدخل بها، فإذا رأته أخذت ابنتها زينب، فجعلتها في حجرها، فينقلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعَلِم بذلك عمار بن ياسر، وكان أخاها من الرضاعة، فجاء إليها، فقال: أين هذه المقبوحة التي قد آذيتِ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأخذها، فذهب بها، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عليها، فجعل يضرب ببصره في جوانب البيت، وقال:"ما فعلت زينب؟ "، قالت: جاء عمار، فأخذها، فذهب بها، فبنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:"إني لا أنقصك مما أعطيتُ فلانة: رحائين، وجَرّتين، ومِرْفقة حَشْوُها لِيفٌ - وقال -: إن سبّعت لك سبّعت لنسائي". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3626]
(1461) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: إِذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ أقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ عَلَى الْبِكْرِ أقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا. قَالَ خَالِدٌ: وَلَوْ قُلْتُ: إِنَّهُ رَفَعَهُ لَصَدَقْتُ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: السُّنَّةُ كَذَلِكَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(هُشَيْمُ) بن بشير بن دينار السلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ، كثير التدليس، والإرسال الخفيّ [7](ت 183) وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(خَالِدُ) بن مِهْران الحذّاء، أبو الْمُنازل البصريّ، ثقةٌ، يرسل، وتغير بآخره [5](ت 1 أو 142)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.
3 -
(أَبُو قِلَابَةَ) عبد الله بن زيد بن عمرو، أو عامر الْجَرْميّ البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، كثير الإرسال، وفيه نصب يسير [3](ت 104) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.
4 -
(أَنَسُ بْنُ مَالِكِ) بن النضر بن ضمضم الأنصاريّ الخزرجيّ، أبو حمزة، الخادم الشهير، مات رضي الله عنه سنة (2 أو 93) وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
وشيخه ذُكر قبل حديث.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخه أيضًا، فنيسابوريّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.
5 -
(ومنها): أن فيه أنس بن مالك رضي الله عنه، الخادم الشهير، خَدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، ونال دعوته المباركة، فبارك في عمره، وأهله، وماله، وهو أحد المكثرين السبعة، وآخر من مات من الصحابة بالبصرة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: إِذَا تَزَوَّجَ) أي الرجل (الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ) أي بأن تكون عنده امرأة ثيّب، فيتزوج عليها امرأة بكرًا (أقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا) أي سبع ليالٍ (وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ عَلَى الْبِكْرِ أقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا) أي ثلاث ليالٍ (قَالَ خَالِدٌ) الْحذّاء الراوي عن أبي قلابة، هكذا في رواية المصنّف هذه، والتي تليها، أن القائل هو خالد، وكذا هو عند أبي داود، وفي رواية للبخاريّ من رواية سفيان الثوريّ، عن أيوب، وخالد، عن أبي قلابة:"قال أبو قلابة: ولو شئت لقلتُ: إن أنسًا رفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم"، قال في "الفتح": وقد وافق هذه الرواية ابن علية، عن خالد، في نسبة هذا القول إلى أبي قلابة، أخرجه الإسماعيليّ، ونسبه بشر بن المفضل، وهشيم إلى خالد، ولا منافاة بينهما؛ لاحتمال أن يكون كل منهما قال ذلك. انتهى
(1)
.
ثم قال البخاريّ: "وقال عبد الرزّاق: أخبرنا سفيان، عن أيوب وخالد، قال خالد: ولو شئتُ لقلتُ: رفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم".
قال في "الفتح": قوله: "قال خالد: ولو شئت لقلت رفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم"، كأن البخاريّ أراد أن يبيّن أن الرواية عن سفيان الثوريّ اختَلَفت في نسبة هذا القول، هل هو قول أبي قلابة، أو قول خالد؟ قال الحافظ: ويظهر لي أن هذه الزيادة في رواية خالد، عن أبي قلابة دون رواية أيوب، ويؤيده أنه أخرجه في الباب الذي قبله من وجه آخر، عن خالد، وذكر الزيادة في صدر الحديث، وقد وصل طريق عبد الرزاق المذكورة مسلم، فقال:"حدّثني محمد بن رافع، حدّثنا عبد الرزاق، ولفظه: من السنّة أن يقيم عند البكر سبعًا، قال خالد. . . إلخ"، وقد رواه أبو داود الْحَفَريّ، والقاسم بن يزيد الْجَرْميّ، عن الثوريّ، عنهما، أخرجه الإسماعيليّ، ورواه عبد الله بن الوليد الْعَدَنيّ، عن سفيان كذلك، أخرجه البيهقيّ، وشَذّ أبو قلابة الرَّقَاشيّ، فرواه عن أبي عاصم، عن سفيان، عن خالد وأيوب جميعًا، وقال فيه:"قال صلى الله عليه وسلم"، أخرجه أبو عوانة في
(1)
"الفتح" 11/ 659.
"صحيحه" عنه، وقال: حدّثناه الصغانيّ، عن أبي قلابة، وقال: هو غريب، لا أعلم من قاله غير أبي قلابة. انتهى.
وقد أخرج الإسماعيليّ من طريق أيوب، من رواية عبد الوهاب الثقفيّ عنه، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصَرَّح برفعه، وهو يؤيد ما ذكرته أن السياق في رواية سفيان لخالد، ورواية أيوب هذه إن كانت محفوظةً احتَمَلَ أن يكون أبو قلابة لَمّا حَدَّث به أيوب جزم برفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقد أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه"، وأخرجه ابن حبان أيضًا عنه، عن عبد الجبار بن العلاء، عن سفيان بن عيينة، عن أيوب، وصَرَّح برفعه.
وأخرجه الدارميّ، والدارقطنيّ من طريق محمد بن إسحاق، عن أيوب مثله، فبيّنت أن رواية خالد هي التي قال فيها:"من السنة"، وأن رواية أيوب، قال فيها:"قال النبيّ صلى الله عليه وسلم"
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من هذه الروايات أن قوله: "ولو شئت لقلت إلخ" يَحْتَمِل أن يكون كلّ من خالد الحذّاء، وشيخه أبي قلابة قاله؛ إذ لا مانع من ذلك.
وأن حديث أنس رضي الله عنه هذا ثبت مرفوعًا صريحًا، وموقوفًا لفظًا، مرفوعًا حكمًا، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(وَلَوْ قُلْتُ: إِنَّهُ رَفَعَهُ لَصَدَقْتُ) وفي الرواية التالية: "لو شئت قلت: رفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم"، قال النوويّ رحمه الله: معناه أن هذه اللفظة، وهي قوله:"من السنّة كذا" صريحةٌ في رفعه، فلو شئتُ أن أقولها بناء على الرواية بالمعنى لقلتها، ولو قلتها كنت صادقًا. انتهى.
وقال في "الفتح": كأنه يشير إلى أنه لو صرح برفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم لكان صادقًا في ذلك، ويكون رُوي بالمعنى، وهو جائز عنده، ولكنه رأى أن المحافظة على اللفظ أولى. انتهى. (وَلَكِنَّهُ) أي أبا قلابة (قَالَ: السُّنَّةُ كَذَلِكَ) أي فيكون من المرفوع حكمًا.
(1)
"الفتح" 11/ 559.
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: قول أبي قلابة
(1)
: "ولو شئت لقلت إلخ" يَحْتَمِل وجهين:
أحدهما: أن يكون ظَنّ أنه سمعه عن أنس مرفوعًا لفظًا، فتحرّز عنه تورعًا.
والثاني: أن يكون رأى أن قول أنس: "من السنة" في حكم المرفوع، فلو عَبَّر عنه بأنه مرفوع على حسب اعتقاده لصحّ؛ لأنه في حكم المرفوع، قال: والأول أقرب؛ لأن قوله: "من السنة" يقتضي أن يكون مرفوعًا بطريق اجتهاديّ مُحْتَمِلٍ، وقوله: إنه رفعه نَصّ في رفعه، وليس للراوي أن ينقل ما هو ظاهرٌ مُحْتَمِلٌ إلى ما هو نَصّ غير مُحْتَمِل. انتهى.
قال الحافظ رحمه الله: وهو بحث مُتَّجِهٌ، ولم يُصِب من رَدّه بأن الأكثر على أن قول الصحابيّ:"من السنة كذا" في حكم المرفوع؛ لاتجاه الفرق بين ما هو مرفوع، وما هو في حكم المرفوع، لكن باب الرواية بالمعنى مُتَّسِعٌ. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 3626 و 3627](1461)، و (البخاريّ) في "النكاح"(5213)، و (أبو داود) في "النكاح"(2124)، و (الترمذيّ) في "النكاح"(1139)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1916)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 89 و 90)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(1/ 237)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 301 - 32) و"الصغرى"(6/ 285) و"المعرفة"(5/ 430)، والله تعالى أعلم.
(1)
أي في رواية البخاريّ، وأما في رواية مسلم فالقائل هو خالد الحذّاء، فتنبّه.
(2)
"الفتح" 11/ 658 - 659.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن السنّة إذا تزوّج الرجل البكر على الثيّب أن يقيم عندها سبع ليالٍ، ثم يعمل بالقَسْم، وإذا تزوّج الثيّب على البكر يقيم عندها ثلاث ليال، ثمّ يَقسِم.
2 -
(ومنها): بيان أن قول الصحابيّ: "من السنّة كذا" له حكم الرفع، فهو كقوله:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا"، قال النوويّ رحمه الله: هذا مذهبنا، ومذهب المحدّثين، وجماهير السلف والخلف، وجعله بعضهم موقوفًا، وليس بشيء. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): ما قاله في "الفتح": إنه استُدِلّ به على أن هذا العدل يختص بمن له زوجة قبل الجديدة، وقال ابن عبد البرّ: جمهور العلماء على أن ذلك حقّ للمرأة بسبب الزفاف، وسواء كان عنده زوجة أم لا، وحَكَى النوويّ أنه يُستحبّ إذا لم يكن عنده غيرها، وإلا فيجب، وهذا يوافق كلام أكثر الأصحاب، واختار النوويّ أن لا فرق، وإطلاق الشافعي يَعْضِده، ولكن يشهد للأول قوله في حديث الباب:"إذا تزوج البكر على الثيب".
قال: ويمكن أن يُتَمّسك للآخر بما وقع في رواية للبخاريّ من طريق بشر، عن خالد، فإنه قال:"إذا تزوج البكر أقام عندها سبعًا. . ." الحديث، ولم يقيده بما إذا تزوجها على غيرها، لكن القاعدة أن المطلق محمول على المقيَّد، بل ثبت في رواية خالد التقييد، فعند مسلم من طريق هُشيم، عن خالد - يعني هذه الرواية -:"إذا تزوج البكر على الثيب. . ." الحديث، ويؤيِّده أيضًا قوله في رواية للبخاريّ:"ثم قَسَمَ"؛ لأن القَسْم إنما يكون لمن عنده زوجة أخرى. انتهى
(2)
. وقال القرطبيّ رحمه الله: قد اختُلف في هذا الحكم، هل هو لكل بكر وثيّب، وإن لم يكن للزوج غيرها، أو إنما يكون ذلك إذا كان له غيرها؟ على قولين عندنا، قال أبو عمر: أكثر العلماء على أن ذلك واجب لها، كان عند الرجل زوجة أم لا؛ لعموم الحديث، وقال غيره: معنى الحديث فيمن له زوجة غير هذه؛ لأن من لا زوجة له مقيم مع هذه.
(1)
"شرح النوويّ" 10/ 48 - 49.
(2)
"الفتح" 11/ 660.
قال القرطبيّ: وهذا هو الصحيح؛ لوجهين:
أحدهما: أنه هو السبب الذي خرج عليه اللفظ.
والثاني: النظر إلى المعنى، وذلك أن من له زوجات يحتاج إلى استئناف الْقَسْم بعد أن يوفي لهذه المستجدّة حقّها من تأنيسها، والانبساط إليها، وإزالة نفرتها، وتطييب عيشها، وأيضًا فيستوفي لنفسه ما يجده من التشوّق إليها، والاستلذاذ بها، فإن الجديد له استلذاذ جديد، وذلك مفقود فيمن ليس له زوجة غير التي تزوّج بها. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله القرطبيّ رحمه الله تحقيقٌ نفيس.
والحاصل أن تخصيص التسبيع والتثليث بمن له زوجة أخرى، هو الأرجح؛ لظاهر هذه الرواية حيث قال فيها:"إذا تزوّج البكر على الثيب. . ." الحديث، فقيّده بمن تزوج على أخرى، ومفهومه أن من ليس له زوجة، إذا تزوج لا يجب عليه التسبيع والتثليث، وأما الرواية التالية بلفظ:"من السنّة أن يُقيم عند البكر سبعًا"، فتُحمل على المقيّد في هذه الرواية، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
4 -
(ومنها): أن فيه حجةً على الكوفيين في قولهم: إن البكر والثيب سواءٌ في الثلاث، وعلى الأوزاعيّ في قوله: للبكر ثلاثٌ وللثيب يومان، وفيه حديث مرفوع عن عائشة رضي الله عنها، أخرجه الدارقطنيّ بسند ضعيف جدًّا.
وخُصّ من عموم حديث الباب ما لو أرادت الثيِّب أن يكمل لها السبع، فإنه إذا أجابها سقط حقّها من الثلاث، وقضى السبع لغيرها؛ لما سبق عند مسلم في الباب الماضي، من حديث أم سلمة رضي الله عنها:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لها: "إن شئت سبّعتُ لك، وإن سبّعت لك سبّعت لنسائي"، وفي رواية: "إن شئت ثلثتُ، ثم دُرْتُ"، قالت: ثَلِّثْ
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"المفهم" 4/ 204 - 205.
(2)
"الفتح" 11/ 660.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[3627]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، وَخَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: "مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَ الْبِكْرِ سَبْعًا"، قَالَ خَالِدٌ: وَلَوْ شِئْتُ قُلْتُ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة السَّختيانيّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب، و"سفيان" هو الثوريّ.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(13) - (بَابُ الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ، وَبَيَانِ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ تَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ لَيْلَةٌ مَعَ يَوْمِهَا)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[3628]
(1462) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تِسْعُ نِسْوَةٍ، فَكَانَ إِذَا قَسَمَ بَيْنَهُنَّ لَا يَنْتَهِي إِلَى الْمَرْأَةِ الْأُولَى إِلَّا فِي تِسْعٍ، فَكُنَّ يَجْتَمِعْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي بَيْتِ الَّتِي يَأْتِيهَا، فَكَانَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، فَجَاءَتْ زَيْنَبُ، فَمَدَّ يَدَهُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: هَذِهِ زَيْنَبُ، فَكَفَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ، فَتَقَاوَلَتَا، حَتَّى اسْتَخَبَتَا، وَأُقِيمَت الصَّلَاةُ، فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ عَلَى ذَلِكَ، فَسَمِعَ أَصْوَاتَهُمَا، فَقَالَ: اخْرُجْ يَا رَسُولَ اللهِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَاحْثُ فِي أفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: الْآنَ يَقْضِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلَاتَهُ، فَيَجِيءُ أَبُو بَكْرٍ، فَيَفْعَلُ بِي، وَيَفْعَلُ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلَاتَهُ أَتَاهَا أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهَا قَوْلًا شَدِيدًا، وَقَالَ: أَتَصْنَعِينَ هَذَا؟).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ) الفزاريّ مولاهم، المدائنيّ، خراسانيّ الأصل، يقال: اسمه مروان، ثقةٌ حافظٌ، رُمي بالإرجاء [9](ت 4 أو 5 أو 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.
2 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ) الْقَيسيّ مولاهم، أبو محمد البصريّ، ثقة ثبتٌ [7](ت 165)(ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 111.
3 -
(ثَابِتُ) بن أسلم البنانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4] مات سنة بضع و (120)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
والباقيان ذُكرا في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخه فكوفيّ، وشبابة فمدائنيّ، وتقدم الكلام في أنس رضي الله عنه قريبًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسِ) بن مالك رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تِسْعُ نِسْوَةٍ) بكسر النون، وضمها، لغتان: والكسر أفصح وأشهر، وبه جاء القرآن العزيز، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: النِّسْوة بكسر النون أفصح من ضمّها، والنساء بالكسر: اسمان لجماعة إناث الأُناسيّ، الواحدة: امرأة من غير لفظ الجمع. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: النسوة التسع هنّ اللاتي تُوُفّي عنهنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهنّ: عائشة، وحفصة، وسودة، وزينب، وأم سلمة، وأم حبيبة، وميمونة، وجُويرية، وصفية
(1)
"شرح النوويّ" 10/ 47.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 604.
- رضي الله عنهن، وسيأتي تمام البحث فيهنّ في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى -.
وقال الأبيّ رحمه الله: يعني بالتسع: ما اجتمعن في زمان واحد، وإلا فقد كان له صلى الله عليه وسلم غير التسع.
وقال الشافعيّ رحمه الله: خصّ الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن فرض عليه أشياء خفّفها على غيره زيادة في تقدّمه صلى الله عليه وسلم، وأباح له أشياء حرّمها على غيره زيادة في تكريمه، وترفيعه، فمن هذا النوع الزيادة على الأربع أبيحت له؛ ليزداد في نفوس العرب إجلالًا وفخامةً، فإنها كانت تتفاخر بالقدرة على النكاح.
وأيضًا فإنه كان صلى الله عليه وسلم من كمال القوّة، واعتدال المزاج بالمنزلة التي شهدت بكمالها الآثار، ومن كان كذلك كانت دواعي هذا أغلب عليه.
وأيضًا إنما مُنع غيره من الزيادة على الأربع خوفًا من عدم العدل، كما أشارت إليه آية:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} ، وهذه العلة مرتفعة في حقه صلى الله عليه وسلم، ويشهد لكون هذه علة المنع في غيره أن الله عز وجل أباح لغيره من الإماء ما يقدر عليه؛ لقوله تعالى:{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} لمّا لم يكن للإماء حقّ في الوطء، فيخافَ عدم العدل فيه.
وأيضًا لا يجوز له الاستمتاع بما لا يحلّ له، ولا التطلّع إلى ما في أيدي الرجال، وكانت الحال حينئذ لم تتسع لكسب الإماء وسّع عليه في الحرائر، واختار له أفضل النوعين، ولهذا قال بعض السلف: لا يجوز له نكاح حرائر الذميّات، بخلاف غيره من أمته، وقال غيره: ولئلا تكون الكافرة أمًّا للمؤمنين. انتهى
(1)
.
(فَكَانَ) صلى الله عليه وسلم (إِذَا قَسَمَ بَيْنَهُنَّ لَا يَنْتَهِي إِلَى الْمَرْأَةِ الْأُولَى إِلَّا فِي تِسْعٍ) أي إلا بعد انقضاء تسع ليالٍ، ووقع في بعض النسخ بحذف "إلا"، قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لا ينتهي إلى المرأة الأولى في تسع" كذا صحّت روايتنا "في تسع" من غير "إلا" الإيجابيّة، وقد وقع في بعض النسخ:"إلا في تسع"، وهو أصوب، وأوضح، فتأمّله. انتهى
(2)
.
(1)
"شرح الأبيّ" 4/ 87.
(2)
"المفهم" 4/ 206.
(فَكُنَّ يَجْتَمِعْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي بَيْتِ الَّتِي يَأْتِيهَا) أي في بيت صاحبة النوبة، قال القرطبيّ رحمه الله: فيه حجة في أن الزوج لا يأتي غير صاحبة القسم، فأما اجتماعهنّ عند صاحبة القسم في بعض الأوقات فباختيارهنّ، ومن حقّ صاحبة القسم أن تمنعهنّ إن شاءت. انتهى
(1)
.
(فَكَانَ) صلى الله عليه وسلم (فِي بَيْتِ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (فَجَاءَتْ زَيْنَبُ) بنت جحش رضي الله عنها (فَمَدَّ يَدَهُ إِلَيْهَا) أي ظنًّا منه أنها عائشة (فَقَالَتْ: هَذِهِ زَيْنَبُ) أي قالت عائشة: هذه التي مددت يدك إليها هي زينب.
قال النوويّ رحمه الله: وأما مدّ يده صلى الله عليه وسلم إلى زينب، وقول عائشة: هذه زينب، فقيل: إنه لم يكن عمدًا، بل ظنها عائشة صاحبةَ النوبة؛ لأنه كان في الليل، وليس في البيوت مصابيح، وقيل: كان مثل هذا برضاهنّ. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: كان هذا في الوقت الذي لم يكن في البيوت مصابيح، وإنما مدّه يده إليها يظنّها عائشة، وفيه ما يدلّ على صحة ما ذكرناه من أنه لا يجوز للزوج الاستمتاع بالواحدة في وقت الأخرى، فأما ما أخرجه البخاريّ، وأبو داود من حديث عائشة رضي الله عنها من أنه صلى الله عليه وسلم كان يطوف بعد العصر على نسائه، فيدنو منهنّ من غير مسيس، فقد قيل: إن ذلك كان إذ لم يكن القَسْم عليه واجبًا، ويَحْتَمِل أن يقال: كان ذلك برضا أزواجه. انتهى
(3)
.
(فَكَفَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ، فَتَقَاوَلَتَا) أي تراجعتا القول من أجل الغيرة، وقال في "المشارق":"فتقاولتا" أي تشاجرتا، وقالت كل واحدة منهما قولًا أغلظت فيه. انتهى
(4)
.
(حَتَّى اسْتَخَبَتَا) بخاء معجمة، ثم باء موحّدة مفتوحتين، ثم تاء مثناة فوقُ، من السَّخَب، وهو اختلاط الأصوات، وارتفاعها، ويقال أيضًا: صَخَبَ بالصاد، قال النوويّ: هكذا هو في معظم الأصول، وكذا نقله القاضي عن رواية الجمهور، وفي بعض النسخ:"استخبثتا" بثاء مثلثة، أي قالتا الكلام الرديء، وفي بعضها:"استحيتا"، من الاستحياء، ونقل القاضي عن رواية
(1)
"المفهم" 4/ 206.
(2)
"شرح النوويّ" 10/ 47.
(3)
"المفهم" 4/ 206.
(4)
"مشارق الأنوار" 2/ 194.
بعضهم: "استحثتا"، بمثلثة، ثم مثناة، قال: ومعناه إن لم يكن تصحيفًا: أن كل واحدة حَثَتْ في وجه الأخرى التراب. انتهى
(1)
.
وقال في "المشارق": "حتى استحثتا" كذا رواه السمرقنديّ، كأنه حَثَت كل واحدة منهما في وجه الأخرى التراب، والمعروف والصواب رواية الجماعة:"حتى استخَبَتا": افتعلتا من السَّخَب، وهو ارتفاع الأصوات، واختلاط الكلام، يقال بالسين والصاد، قال: ويصححه، قول أبي بكر رضي الله عنه للنبيّ صلى الله عليه وسلم:"احْثُ يا رسول الله في أفواههن التراب"، فإنما أنكر عليهما كثرة الكلام، والمقاولة، وارتفاع الصوت. انتهى
(2)
.
(وَأُقِيمَت الصَّلَاةُ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ على أن تلك الحالة الواقعة لهم كانت قريب الفجر، وأنهما دامتا على المقاولة إلى أن أقيمت صلاة الصبح، قال: وليس في مدّ يده صلى الله عليه وسلم إلى زينب دليلٌ على أن اللمس لا ينقض الوضوء، كما زعمه بعضهم؛ إذ لم يُنقل أنه كان منه لمسٌ على غير حائل، ولا أنه كان توضّأ قبل ذلك، فلعلّه بعد ذلك توضّأ. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم بيان الخلاف في مسألة نقض الوضوء بلمس المرأة في "كتاب الطهارة"، مع ترجيح القول بعدم النقض؛ لقوة حججه، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.
(فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه (عَلَى ذَلِكَ) أي على المذكور من تقاولهما، واستخابهما (فَسَمِعَ أَصْوَاتَهُمَا، فَقَالَ: اخْرُجْ يَا رَسُولَ اللهِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَاحْثُ) بضمّ الثاء المثلّثة، وكسرها، يقال: حثا الرجل الترابَ يَحثوه حَثْوًا، من باب غزا، وحَثَاه يَحثيه حَثْيًا، من باب رمى: إذا هاله بيده، وبعضهم يقول: قبضه بيده، ثم رماه، أفاده الفيّوميّ
(3)
. (فِي أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ) أي مبالغة في الردع والزجر لهنّ عن رفع أصواتهنّ على صوت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وترك احترامه، و"الترابَ" منصوب على المفعوليّة لـ "احثُ"(فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: الْآنَ يَقْضِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلَاتَهُ، فَيَجِيءُ أَبُو بَكْرٍ، فَيَفْعَلُ بِي، وَيَفْعَلُ) أي يفعل بي
(1)
"شرح النوويّ" 10/ 47 - 48.
(2)
"مشارق الأنوار" 1/ 180 - 181.
(3)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 121.
ما يفعله الأب بابنته من العتاب، والتوبيخ، وضرب التأديب، وكرّرته للمبالغة (فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلَاتَهُ أَتَاهَا أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهَا قَوْلًا شَدِيدًا) أي أغلظ لها التوبيخ (وَقَالَ: أَتَصْنَعِينَ هَذَا؟) استفهام إنكار وتوبيخ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 3628](1462)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 104 و 205 و 337)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 134)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 135)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة القَسْم بين الزوجات، وقال النوويّ: مذهبنا أنه لا يلزمه أن يَقْسِم لنسائه، بل له اجتنابهنّ كلهنّ، لكن يكره تعطيلهنّ مخافةً من الفتنة عليهنّ، والإضرار بهنّ.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: لا يلزمه إلخ فيه نظرٌ، كيف لا يلزمه، وقد قال الله {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ} الآية؟ فكما أوجب الله عليها أن تمكّنه من جماعها، كذلك يجب عليه أن يطأها إذا احتاجت إليه، ويُعفّها، ويصونها من الفتنة، فتبصّر.
قال: فإن أراد القسم لم يجز له أن يبتدئ بواحدة منهنّ، إلا بقرعة، ويجوز أن يقسم ليلة ليلة، وليلتين ليلتين، وثلاثًا ثلاثًا، ولا يجوز أقل من ليلة، ولا يجوز الزيادة على الثلاثة، إلا برضاهنّ، هذا هو الصحيح في مذهبنا، وفيه أوجه ضعيفة في هذه المسائل غير ما ذكرته.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "ولا يجوز أقل من ليلة، ولا يجوز الزيادة إلخ" هذا يحتاج إلى دليل، فأين الدليل الذي يمنع أقل من ليلة، وأكثر من ثلاث؟، فتنبّه.
قال: واتفقوا على أنه يجوز أن يطوف عليهنّ كلهنّ، ويطأهنّ في الساعة الواحدة برضاهنّ، ولا يجوز ذلك بغير رضاهنّ.
وإذا قسم كان لها اليوم الذي بعد ليلتها، ويقسم للمريضة، والحائض، والنفساء؛ لأنه يحصل لها الأنس به، ولأنه يستمتع بها بغير الوطئ، من قبلة، ونظر، ولمس، وغير ذلك.
قال أصحابنا: وإذا قسم لا يلزمه الوطء، ولا التسوية فيه، بل له أن يبيت عندهنّ، ولا يطأ واحدة منهنّ، وله أن يطأ بعضهنّ في نوبتها دون بعض، لكن يستحب أن لا يعطلهنّ، وأن يسوي بينهنّ في ذلك، كما قدمناه، والله أعلم. انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): بيان أن السنّة أن تكون لكلّ واحدة منهنّ ليلة مع يومها، قال النوويّ رحمه الله: وفيه أنه يستحب أن لا يزيد في القَسْم على ليلة ليلة؛ لأن فيه مخاطرةً بحقوقهنّ. انتهى.
3 -
(ومنها): أنه يستحب للزوج أن يأتي كل امرأة في بيتها، ولا يدعوهنّ إلى بيته، لكن لو دعا كل واحدة في نوبتها إلى بيته كان له ذلك، وهو خلاف الأفضل، ولو دعاها إلى بيت ضرائرها لم تلزمها الإجابة، ولا تكون بالامتناع ناشزة، بخلاف ما إذا امتنعت من الإتيان إلى بيته؛ لأن عليها ضررًا في الإتيان إلى ضرتها، وهذا الاجتماع كان برضاهنّ، قاله النوويّ رحمه الله.
4 -
(ومنها): أنه لا يأتي غير صاحبة النوبة في بيتها في الليل، بل ذلك حرام إلا لضرورة بأن حضرها الموت، أو نحوه من الضرورات، قاله النوويّ رحمه الله.
5 -
(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من حسن الخلق، وملاطفة الجميع.
6 -
(ومنها): أن فيه فضيلةً لأبي بكر رضي الله عنه وشفقته، ونظره في المصالح.
7 -
(ومنها): أن فيه إشارةَ المفضول على صاحبه الفاضل بمصلحته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"شرح النوويّ" 10/ 46.
(المسألة الرابعة): في عدد أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهن على أربعة أقسام: قسم منهن مُتْن قبله، وقسم منهن مات قبلهنّ، وقسم فارقهنّ، وقسم خطبهنّ، ولم يزوّجهنّ:
فأما القسم الأول - وهنّ اللاتي مُتْن قبله - فهنّ سبع:
(الأولى): خديجة بنت خُويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قُصيّ بن كلاب، وكانت قبله عند أبي هالة
(1)
، واسمه زُرارة بن النبّاش الأسديّ، وكانت قبله عند عَتيق بن عائذ، ولدت منه غلامًا اسمه عبد مناف، وولدت من أبي هالة هند بن أبي هالة، وعاش إلى زمن الطاعون، فمات فيه، ويقال: إن الذي عاش إلى زمن الطاعون هند بن هند، وسُمعت نادبته تقول حين مات: وا هند بن هنداه، وا ربيب رسول الله، وهي أول امرأة تزوّجها قبل النبوّة عند مرجعه من الشام، وكانت يوم تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت أربعين سنة، وتوفيت بعد أن مضى من النبوّة سبع سنين، وقيل: عشر، وكان لها حين توفّيت خمس وستّون سنة، وهي أول امرأة آمنت به، وهي أم بنيه وبناته، إلا إبراهيم، فإنه من مارية القبطيّة، كان المقوقس أهداها إليه، ولم يتزوّج على خديجة أحدًا حتى ماتت، قال حكيم بن حزام: توفيت خديجة، فخرجنا بها من منزلها حتى دفنّاها بالحجون، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرتها، ولم تكن يومئذ سنّة الجنازة في الصلاة عليها.
(الثانية): زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة الهلاليّة، كانت تسمّى في الجاهليّة أم المساكين؛ لإطعامها إياهم، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان على رأس واحد وثلاثين شهرًا من الهجرة، فمكثت عنده ثمانية أشهر، وتوفيت في حياته صلى الله عليه وسلم في آخر ربيع الأول على رأس تسعة وثلاثين شهرًا، ودُفنت بالبقيع، وكانت أخت ميمونة من أمها.
(الثالثة): سَنَا بنت أسماء بن الصلت السلمية، ماتت قبل أن تصل إليه
(2)
.
(1)
في كتب الصحابة أقوال فيمن كانت عنده قبلُ.
(2)
هذه ذكرها الماورديّ في "الحاوي"، وذكرها في "الإصابة" 12/ 317 - 318.
(والرابعة): شَرَافُ بنت خليفة، أخت دحية الكلبيّ، ماتت قبل أن تصل إليه.
(والخامسة): خولة بنت الْهُذيل بن هُبيرة، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وماتت قبل أن تصل إليه.
(والسادسة): خولة بنت حكيم السلمية، ماتت قبل دخوله بها، وقيل: إنها هي التي وهبت نفسها للنبيّ صلى الله عليه وسلم.
(والسابعة): ريحانة بنت زيد بن عمرو بن خُنافة من بني النضير، سباها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعتقها، وتزوجها سنة ستّ، وماتت مرجعه من حجة الوداع، فدفنها بالبقيع، وقال الواقديّ: ماتت سنة ست عشرة، وصلى عليها عمر، قال أبو الفرج ابن الجوزيّ: وقد سمعت من يقول: إنه كان يطؤها بملك اليمين، ولم يُعتقها، قال القرطبي: ولهذا - والله أعلم - لم يذكرها أبو القاسم السهيليّ في عداد أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم.
فهؤلاء سبعٌ مُتْنَ قبله، دخل منهنّ بثلاثة، ولم يدخل بأربع، والله تعالى أعلم.
(وأما القسم الثاني): - وهنّ اللاتي مات عنهنّ - فهنّ تسع:
(فإحداهنّ): عائشة بنت أبي بكر الصدّيق، كانت مسمّاة لجبير بن مطعم، فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: يا رسول الله دعني أَسُلّها من جُبير سلًّا رفيقًا، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أول امرأة تزوجها بعد موت خديجة، وقيل: هي بعد سودة، ولم يتزوّج بكرًا غيرها، عقد عليها بمكة قبل الهجرة بسنتين، وقيل: بثلاث سنين، وهي ابنة ستّ، ودخل بها بالمدينة، وهي ابنة تسع، ومات عنها، وهي ابنة ثماني عشرة، ماتت سنة (59) وقيل:(58) وقيل: (57) وهو الصحيح.
(والثانية): سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس العامريّة، أسلمت قديمًا، وبايعت، وكانت عند ابن عمّ لها، يقال له: السكران بن عمرو، وأسلم هو أيضًا، وهاجرا جميعًا إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية، فلما قدما مكة مات زوجها، وقيل: مات بالحبشة، فلما حلّت خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتزوّجها، ودخل بها بمكة، وهاجر بها إلى المدينة، قيل: تزوّجها بعد عائشة،
وقيل: قبلها، وكانت أم خمس صبية، فلما عَرَف أخوها عبد بن زمعة أنها تزوّجت رسول الله صلى الله عليه وسلم حثى التراب على رأسه، فلما أسلم قال: إني لَسَفِيه لَمّا حثوت التراب على رأسي، حين تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم أختي. وتوفيت بالمدينة سنة (54).
(والثالثة): حفصة بنت عمر بن الخطّاب القرشية العدوية، تزوّجها بعد سودة، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم طلقها، فأتاه جبريل، فقال:"إن الله يأمرك أن تراجع حفصة، فإنها صوّامة قوّامة"، فراجعها، وكان عثمان قد خطبها، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ألا أدلّك على من هو خير لها من عثمان، وأدلّ عثمان على من هو خير له منها؟ "، فتزوجها، وزوّج بنته أم كلثوم بعثمان، وتوفيت في شعبان سنة (45) في خلافة معاوية، وهي ابنة (60) سنة، وقيل: ماتت في خلافة عثمان بالمدينة.
(والرابعة): أم سلمة بنت أبي أميّة، واسمها هند بنت أبي أمية المخزومية، واسم أبي أمية سُهيل، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليال بقين من شوّال سنة أربع، وتوفيت سنة (59) وقيل:(62) والأول أصحّ، وصلى عليها سعيد بن زيد، وقيل: أبو هريرة، وقُبرت بالبقيع، وهي ابنة (84) سنة.
(والخامسة): أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمريّ إلى النجاشيّ؛ ليخطب عليه أم حبيبة، فزوّجه إياها، وذلك سنة سبع من الهجرة، وأصدق النجاشيّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة دينار، وبعث بها مع شُرَحبيل بن حَسَنة، وتوفيت سنة (44).
وقال الدارقطنيّ: كانت أم حبيبة تحت عبيد الله بن جحش، فمات بأرض الحبشة على النصرانيّة، فزوّجها النجاشيّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأمهرها أربعة آلاف، وبعث بها مع شُرحبيل بن حسنة. انتهى
(1)
.
وقيل: إنه نزل في تزويجها: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} الآية [الممتحنة: 7]، ولما تنازع أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حضانة ابنه إبراهيم، قال:"ادفعوه إلى أم حبيبة، فإنها أقربهن منه رحمًا"، ذكره الماورديّ في "الحاوي".
(1)
"تفسير القرطبيّ" 14/ 165.
(والسادسة): زينب بنت جحش بن رئاب الأسديّة، وكان اسمها برّة، فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب، نزل عنها زيد بن حارثة، فتزوجها، وفيها نزل قوله تعالى:{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} الآية [الأحزاب: 37]، وكانت بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمها أُميمة بنت عبد المطّلب، تزوجها النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة سنة خمس من الهجرة، وتوفّيت سنة عشرين، وهي بنت (53).
(والسابعة): ميمونة بنت الحارث الهلاليّة، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرف على عشرة أميال من مكة، وذلك سنة سبع من الهجرة في عمرة القضيّة، وهي آخر امرأة تزوّجها صلى الله عليه وسلم، وقضى الله تعالى أن ماتت بعد ذلك بسرف المكان الذي بنى بها صلى الله عليه وسلم فيه، سنة (61) وقيل: سنة (63) وقيل: سنة (68).
(والثامنة): جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار الخزاعية المصْطَلِقية، من بني الْمُصْطَلِق من خُزاعة، سباها رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة المريسيع التي هَدَم فيها مناة، وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس، فكاتبها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها، وتزوّجها في شعبان سنة ستّ، وكان اسمها برّة، فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية، وتوفيت في ربيع الأول سنة (56) وقيل: سنة (50) وهي بنت (65) سنة.
وقال الشعبيّ: وجعل عتقها صداقها، فلما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أبقى أحدٌ من المسلمين عبدًا من قومها إلا أعتقه لمكانتها، فقيل: إنها كانت أبرك امرأة على قومها.
(والتاسعة): صفيّة بنت حُييّ بن أخطب، الهارونيّة، اصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم من سبي النضير، ثم أعتقها، وتزوّجها، وجعل عتقها صداقها، وهي التي أهدت إليها زينب بنت الحارث اليهوديّة شاةً مسمومة، فأكل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي "الصحيح": إنها وقعت في سهم دحية الكلبيّ، فاشتراها منه صلى الله عليه وسلم بسبعة أرؤس، وماتت في سنة (50) وقيل:(52) ودفنت بالبقيع.
فهؤلاء تسع مات عنهنّ، وكان يَقسم لثمان منهنّ، غير سودة - رضي الله تعالى عنهنّ -.
(وأما القسم الثالث): - وهنّ اللاتي فارقهنّ في حياته - فهنّ إحدى عشرة:
(1)
- أسماء بنت النعمان الكنديّة، وهي الجونيّة، قال قتادة: لما دخل عليها، دعاها، فقالت: تعال أنت، فطلّقها. وقال غيره: هي التي استعاذت منه. وفي "صحيح البخاريّ": قال: "تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم أُميمة بنت شراحيل، فلما أُدخلت عليه بسط يده إليها، فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أُسيد أن يُجهّزها، ويكسوها ثوبين". وفي لفظ آخر: قال أبو أُسيد: أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالْجَونيّة، فلما دخل عليها قال:"هبي لي نفسك"، فقالت: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة؟ فأهوى بيده ليضعها عليها لتسكن؛ فقالت: أعوذ بالله منك، فقال:"قد عذت بمعاذ"، ثم خرج علينا، فقال: "يا أُسيد اكسها رازقيين
(1)
، وألحقها بأهلها".
(2)
- ليلى بنت الْخَطِيم أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو غافلٌ، فضربت ظهره، فقال:"من هذا؟، أكله الأسود"، فقالت: أنا ليلى، قد جئتك أَعْرِض نفسي عليك، فقال:"قد قبلتك"، ثم علمت كثرة ضرائرها، فاستقالته، فأقالها، فدخلت حائطًا بالمدينة، فأكلها الذئب
(2)
.
(3)
- عمرة بنت يزيد الكلابية، ذكرها ابن إسحاق، فقال: وتزوج عمرة بنت يزيد إحدى نساء بني بكر بن كلاب، ثم طلقها قبل أن يدخل بها
(3)
.
(4)
- العالية بنت ظبيان، دخل بها، ومكثت عنده ما شاء الله، ثم طلّقها
(4)
.
(5)
- فاطمة بنت الضحّاك الكلابيّة، لما خيّر الرسول صلى الله عليه وسلم نساءه، اختارت فراقه، ففارقها بعد دخوله بها، فكانت بعد ذلك تلتقط البعر، وتقول: أنا الشقيّة، اخترت الدنيا.
والصحيح أن هذا غير صحيح؛ لأنه ثبت في "الصحيح" عن عائشة رضي الله عنها حين اختارت النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: وتتابع أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم كلهنّ على ذلك.
(1)
الرازقيّة: ثياب من كتّان بِيض طوال.
(2)
ذكرها الماورديّ في "الحاوي"، وهذه القصّة أخرجها ابن سعد، وهي لا تصحّ؛ لأن في سندها الكلبيّ، كما ذكره في "الإصابة" 13/ 117.
(3)
راجع: "الإصابة" 13/ 54 - 55.
(4)
راجع: "الإصابة" 13/ 38.
(6)
- قُتيلة بنت قيس، أخت الأشعث بن قيس، زوّجها إياه الأشعث، ثم انصرف إلى حضرموت، فحملها إليه، فبلغه وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فردّها إلى بلاده، فارتدّ، وارتدّت معه، ثم تزوّجها عكرمة بن أبي جهل، فوجد من ذلك أبو بكر وجدًا شديدًا، فقال له عمر: إنها والله ما هي من أزواجه، ما خيّرها، ولا حجبها، ولقد برّأها الله منه بالارتداد، وكان عروة يُنكر أن يكون تزوّجها
(1)
.
(7)
- مُليكة بنت كعب الليثية، كانت مذكورة بالجمال، فدخلت إليها عائشة، فقالت: ألا تستحيين أن تتزوجي قاتل أبيك يوم الفتح؟ فاستعيذي منه، فإنه يُعيذك، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: أعوذ بالله منك، فأعرض عنها، وقال: قد أعاذك الله مني، وطلّقها
(2)
.
(8)
- أم شريك الأزديّة، واسمها غُزَيّة بنت جابر بن حكيم، وكانت قبله عند أبي بكر بن أبي سلمى، فطلّقها النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يدخل بها، وهي التي وهبت نفسها، وقيل: إن التي وهبت نفسها للنبيّ صلى الله عليه وسلم خولة بنت حكيم.
(9)
- عمرة بنت معاوية الكنديّة، تزوجها النبيّ صلى الله عليه وسلم، أخرج أبو نعيم، من طريق مجالد، عن الشعبيّ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من كندة، فجيء بها بعد ما مات النبيّ صلى الله عليه وسلم.
(10)
- ابنة جندب بن ضمرة الجندعيّة، قال بعضهم: تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنكر بعضهم وجود ذلك
(3)
.
(11)
- امرأة من غفار، تزوجها، فأمرها، فنزعت ثيابها، فرأى بكشحها بياضًا، فقال: ضمّي إليك ثيابك، والحقي بأهلك، ويقال: إنما رأى البياض بالكلابيّة.
(1)
هكذا ذكر القرطبيّ قصّتها، والذي ذكره الماورديّ في "الحاوي" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بتخييرها في مرضه، فاختارت فراقه، ففارقها قبل الدخول، انتهى، فالله تعالى أعلم.
(2)
قال الجامع: هذه القصّة من رواية الواقديّ، فلا تصحّ، راجع:"الإصابة" 13/ 136.
(3)
راجع: "تفسير القرطبيّ" 14/ 168.
فهؤلاء فارقهنّ في حياته، دخل منهنّ بثلاث
(1)
.
[وأما القسم الرابع]: وهنّ اللاتي خطبهنّ، ولم يتزوجهنّ، فهنّ ستّ:
(1)
- أم هانئ بنت أبي طالب، واسمها فاختة، خطبها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني مُصْبِيةٌ
(2)
، واعتذرت إليه، فعذرها، أخرج قصتها ابن سعد بسند صحيح، عن الشعبيّ، ذكره في "الإصابة".
(2)
- ضباعة بنت عامر، وقد ذكر قصّتها في "الإصابة"، لكن في سنده الكلبيّ، ضعيف.
(3)
- صفية بنت بَشَامة بن نضلة، خطبها صلى الله عليه وسلم، وكان أصابها سباءً، فخيّرها بينه وبين زوجها، فاختارت زوجها، فأرسلها، فلعنها بنو تميم، قاله ابن عباس، لكن في سنده الكلبيّ، وهو ضعيف
(3)
.
(4)
- جمرة بنت الحارث بن عوف المريّ، خطبها صلى الله عليه وسلم، فقال أبوها: إن بها سوءًا، ولم يكن بها، فرجع إليها، وقد بَرصت، وهي أم شبيب بن البرصاء الشاعر.
(5)
- سودة القرشيّة، خطبها صلى الله عليه وسلم، وكانت مُصْبِيةً، فقالت: أخاف أن يَضْغُوَ
(4)
صِبْيتي عند رأسك، فحمدها، ودعا لها.
(6)
- امرأة لم يُذكر اسمها، قال مجاهد: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة، فقالت: أستأمر أبي، فلقيت أباها، فأذن لها، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"قد التحفنا لحفًا غيرك"، وهذا مرسل.
فهؤلاء جميع من ذُكر من أزواجه صلى الله عليه وسلم.
وكان له من السراري سُريتان: مارية القبطية، وريحانة في قول قتادة
(5)
،
(1)
راجع: "الحاوي الكبير" للماورديّ رحمه الله 9/ 26 - 28 في "كتاب النكاح"، و"تفسير القرطبيّ" في "سورة الأحزاب" 14/ 164 - 169، و"الإصابة في تمييز الصحابة" في قسم النساء.
(2)
أي ذات صبيان وأطفال.
(3)
راجع: "الإصابة" 13/ 13.
(4)
أي يصيحوا، ويَضِجُّوا.
(5)
تقدّم الخلاف في كونها زوجة، أو سُرّيّةً.
وقال غيره: كان له أربع: مارية، وريحانة، وأخرى جميلة أصابها في السبي، وجارية وهبتها له زينب بنت جحش
(1)
.
وقد ذكرهنّ الحافظ العراقيّ رحمه الله في "ألفيّة السيرة"، فقال:
زَوْجَاتُهُ اللاتي بهنَّ قَدْ دَخَلْ
…
ثنْتَا أَوِ إحْدَى عَشْرَةٍ خُلْفٌ نُقلْ
خَدِيجَةُ الأوْلَى تَلِيهَا سَوْدَةُ
…
ثُمَّ تَلي عَائِشَةُ الصِّدِّيقَةُ
وَقيلَ قَبْلَ سَوْدَةٍ فَحَفْصَةُ
…
فَزَيْنَبٌ وَالدُهَا خُزَيْمَةُ
فَبَعْدَهَا هنْدٌ أَيِ اُمُّ سَلَمَهْ
…
فَابْنَةُ جَحْشٍ زَيْنَبُ المُكَرَّمَهْ
تَلي ابْنَةُ الحَارِثِ أيْ جُوَيْريَهْ
…
فَبَعْدَهَا رَيْحَانَةُ المَسْبِيَّهْ
وَقيْلَ بَلْ مِلْكُ يَميْن فَقَطُ
…
لَمْ يَتَزَوَّجْهَا وَذَاكَ أضْبَطُ
بنْتُ أبي سُفْيَانَ وَهْيَ رَمْلَةُ
…
أمُّ حَبيْبَةَ تَلي صَفيَّةُ
مِنْ بَعْدهَا فَبَعْدَهَا مَيْمُونَهْ
…
حِلًّا وَكَانَتْ كَاسْمهَا مَيْمُونَهْ
وَابْنُ المُثَنَّى مَعْمَرٌ قَدْ أدْخَلَا
…
في جُمْلَةِ اللَّاتِي بِهِنَّ دَخَلَا
بِنْتَ شُرَيْحٍ وَاسْمُهَا فَاطمَةُ
…
عَرَّفَهَا بَأنَّهَا الوَاهبَةُ
وَلَمْ أجدْ مَنْ جَمَعَ الصَّحَابَهْ
…
ذَكَرَهَا وَلا بِأُسْدِ الغَابَهْ
وَعَلَّهَا الَّتِي اسْتَعَاذَتْ منْهُ
…
وَهْيَ ابْنَةُ الضَّحَّاك بَانَتْ منْهُ
وَغَيْرُ مَنْ بَنَى بهَا أوْ وَهَبَتْ
…
إِلَى النَّبيِّ نَفْسَهَا أوْ خُطِبَتْ
وَلَمْ يَقَعْ تَزْويجُهَا فَالْعِدَّةُ
…
نَحْوُ الثَّلَاثِينَ بخُلْفٍ أَثْبَتُوا
اهـ. كلام العراقيّ رحمه الله
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): أخرج الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" بسنده عن سعيد بن جُبير، قال: قال لي ابن عباس: هل تزوجت؟، قلت: لا، قال: فتَزَّوجْ، فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء".
قيل: معناه: خير أمة محمد صلى الله عليه وسلم من كان أكثر نساء من غيره ممن يتساوى معه فيما عدا ذلك من الفضائل.
(1)
راجع: "تفسير القرطبيّ" 14/ 169.
(2)
"ألفيّة السيرة"(ص 255 - 256) بنسخة شرح المناويّ.
والظاهر - كما قال الحافظ - أن مراد ابن عباس رضي الله عنهما بالخير: النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبالأمة: أخصّاء أصحابه، وكأنه أشار إلى أن ترك التزويج مرجوح، إذ لو كان راجحًا ما آثر النبيّ صلى الله عليه وسلم غيره، فقد كان صلى الله عليه وسلم مع كونه أخشى لله تعالى، وأعلمهم به يُكثر التزويج لمصلحة تبليغ الأحكام التي لا يطّلع عليها الرجال، ولإظهار المعجزة البالغة في خرق العادة؛ لكونه كان لا يجد ما يَشبع به من القوت غالبًا، وإن وجد كان يُؤْثِر بأكثره، ويصوم كثيرًا، ويواصل، ومع ذلك فكان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة، ولا يُطاق ذلك إلا مع قوّة البدن، وقوّةُ البدن تابعة لما يقوم به من استعمال المقوّيات، من مأكول ومشروب، وهي عنده صلى الله عليه وسلم نادرة، أو معدومة.
وذكر في "الشفا" أن العرب تمدح بكثرة النكاح؛ لدلالته على الرجوليّة. . . إلى أن قال: ولم تشغله كثرتهنّ عن عبادة ربّه، بل زاده ذلك عبادة لتحصينهنّ، وقيامه بحقوقهنّ، واكتسابه لهنّ، وهدايته إياهنّ، وكأنه أراد بالتحصين قصر طرفهنّ عليه، فلا يتطلّعن إلى غيره، بخلاف العزبة، فإن العفيفة تتطلّع بالطبع البشريّ إلى التزويج، وذلك هو الوصف اللائق بهنّ.
والذي تحصّل من كلام أهل العلم في الحكمة في استكثاره صلى الله عليه وسلم من النساء عشرة أوجه، تقدّمت الإشارة إلى بعضها:
(أحدها): أن يكثر من يُشاهد أحواله الباطنة، فينتفي عنه ما يظنّ به المشركون من أنه ساحر، أو غير ذلك.
(ثانيها): لتتشرّف به قبائل العرب بمصاهرته فيهم.
(ثالثها): للزيادة في تألفهم لذلك.
(رابعها): للزيادة في التكليف، حيث كلّف أن لا يَشغلَه ما حُبّب إليه منهنّ عن المبالغة في التبليغ.
(خامسها): لتكثر عشيرته من جهة نسائه، فتزداد أعوانه على من يُحاربه.
(سادسها): نقل الأحكام الشرعيّة التي لا يطّلع عليها الرجال؛ لأن أكثر ما يقع مع الزوجة مما شأنه أن يُخفَى مثله.
(سابعها): الاطلاع على محاسن أخلاقه الباطنة، فقد تزوّج أم حبيبة، وأبوها إذ ذاك يُعاديه، وصفيّة بعد قتل أبيها، وعمّها، وزوجها، فلو لم يكن
أكمل الخلق في خُلُقه لنفرن منه، بل الذي وقع أنه كان أحبّ إليهنّ من جميع أهلهنّ.
(ثامنها): ما تقدّم مبسوطًا من خرق العادة له في كثرة الجماع مع التقلّل من المأكول والمشروب، وكثرة الصيام والوصال، وقد أمر من لم يقدر على مُؤَن النكاح بالصوم، وأشار إلى أن كثرته تكسر شهوته، فانخرقت هذه العادة في حقّه صلى الله عليه وسلم.
(تاسعها)، و (عاشرها): ما تقدّم نقله عن صاحب "الشفا" من تحصينهنّ، لقيام بحقوقهنّ، قاله في "الفتح".
وقد نظمت العشرة بقولي:
قَدْ ذَكَرُوا فِي حِكْمَةِ اسْتِكْثَارِ
…
نَبِيِّنَا الْكَرِيمِ حِبِّ الْبَارِي
مِنَ النِّسَاءِ عَشْرَةً أَنْ يَكْثُرَا
…
شُهُودُ مَا بَطَنَ إِذْ قَدِ افْتَرَى
عَلَيْهِ مَنْ ضَلَّ بِأنَّهُ سَحَرْ
…
أَوْ نَحْوِهِ بِهِنَّ ذَا الْكِذْبُ انْدَحَرْ
وَثَانِهَا لِتَشْرُفَ الْقَبَائِلُ
…
بِهِ إِذَا أَضْحَتْ لَهُ تُصَاهِرُ
ثَالِثُهَا زَيادَةُ التَّأْلِيفِ
…
رَابِعُهَا زَيادَةُ التَّكْلِيفِ
فَهْوَ مُكَلَّفٌ بِأَنْ لَا يُشْغَلَا
…
بِهِنَّ عَنْ تَبْلِيغِ مَا قَدْ أُرْسِلَا
خَامِسُهَا تَكْثِيرُ أَعْوَانٍ لَهُ
…
إِذَا مِنَ الْعَدُوِّ كَيْدٌ نَالَهُ
سَادِسُهَا نَقْلُ الشَّرِيعَةِ الَّتِي
…
تَخْتَصُّ بِالزَّوْجَيْنِ عِنْدَ الْخَلْوَةِ
سَابِعُهَا اطِّلَاعُهُنَّ مَا بَطَنْ
…
أَيْ مِنْ أَخْلَاقِهِ الْحِسَانِ كَيْ تُسَنْ
ثَامِنُهَا بَيَانُ خَرْقِ الْعَادَةِ
…
بِكَثْرَةِ الْجِمَاعِ وَالزِّيَادَةِ
مَعَ التَّقَلُّلِ مِنَ الطَّعَامِ
…
وَكَثْرَةِ الْوِصَالِ بِالصِّيَامِ
تَاسِعُهَا الْقِيَامُ بِالتَّحْصِينِ
…
لَهُنَّ وَالْعَاشِرُ فِي التَّبْيِينِ
هُوَ الْقِيَامُ بِحُقُوقِهِنَّهْ
…
حَمْدًا لِمَنْ أَوْلَى بِهَذِي الْمِنَّهْ
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
(14) - (بَابُ جَوَازِ هِبَةِ الْمَرْأَةِ نَوْبَتَهَا لِضَرَّتِهَا)
" النَّوْبَةُ": - بفتح النون، وسكون الواو -: اسم من المناوبة، جمعه نُوَبٌ، بضمّ، ففتح، مثلُ قَرْيةٍ وقُرًى، يقال: ناوبته مُناوبةً: بمعنى ساهمته مُساهمةً، وتناوبوا عليه: تداولوه بينهم، يفعله هذا مرّةً، وهذا مرّةً
(1)
.
و"الضَّرّة" - بفتح الضاد المعجمة، وتشديد الراء -: امرأة زوج المرأة، جمعها ضَرّات على القياس، وسُمع ضَرَائرُ، وكأنها جمع ضَرِيرة، مثلُ كريمة وكَرَائم، ولا يكاد يوجد لها نظير، ورجلٌ مُضِرٌّ: ذو ضَرَائر، وامرأة مُضِرٌّ أيضًا: لها ضَرَائرُ، وهو اسم فاعل من أَضَرّ: إذا تزوّج على ضَرَّةٍ، قاله الفيّوميّ
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[3629]
(1463) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ امْرَأَةً أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ فِي مِسْلَاخِهَا، مِنْ سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ، مِنْ امْرَأَةٍ فِيهَا حِدَّةٌ. قالَتْ: فَلَمَّا كَبِرَتْ جَعَلَتْ يَوْمَهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِعَائِشَةَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ قدْ جَعَلْتُ يَوْمِي مِنْكَ لِعَائِشَةَ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَيْنِ: يَوْمَهَا، وَيَوْمَ سَوْدَةَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قريبًا.
2 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون تقدّموا قبل بابين.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ امْرَأَةً أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أكُونَ فِي مِسْلَاخِهَا) - بكسر الميم، وبالخاء المعجمة -: هو الجِلْد، ومعناه: أن أكون أنا هي.
(1)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 629.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 360 - 361.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قولها: "في مِسْلاخها" أي في جِلدها، وحقيقة ذلك أنها تمنّت أن تكون هي؛ لأن أحدًا لا يتمنّى أن يكون في جلد غيره، وهذا اللفظ قد جرى مجرى المثَل، ومقصودها أنها أحبّت أن تكون على مثيل حالها في الأوجه التي استحسنت منها. انتهى
(1)
.
(مِنْ سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ) - بفتح الميم، وإسكانها - ابن قيس بن عبد شمس بن عبد وَدّ بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لُؤَيّ العامريّة القرشيّة، أم المؤمنين رضي الله عنها، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بمكة بعد موت خديجة رضي الله عنها، ودخل عليها بها، وكانت قبله عند السكران بن عمرو.
رَوَت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عنها ابن عباس، ويحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زُرارة.
وقال ابن أبي خيثمة: تُوُفّيت في آخر خلافة عمر، وقال ابن سعد: أسلمت بمكة قديمًا، وهاجرت هي وزوجها إلى الحبشة الهجرة الثانية، زاد الزبير بن بكار: ومات زوجها هناك، ورّجّح الواقديّ أنها تُوفيت سنة أربع وخمسين، وقال ابن حبان: من زعم أنها أخت عبد الله بن زمعة، فقد وَهِمَ، وهي أول امرأه تزوج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت خديجة، وماتت سنة خمس وستين.
أخرج لها البخاريّ، وأبو داود، والنسائيّ، ولها عند المصنّف ذكر فقط.
وسيأتي في الحديث التالي قول عائشة رضي الله عنها: وكانت أول امرأة تزوجها بعدي، ومعناه: عَقَدَ عليها بعد أن عَقَد على عائشة رضي الله عنها، وأما دخوله عليها فكان قبل دخوله على عائشة بالاتفاق، وقد نبّه على ذلك ابن الجوزيّ رحمه الله
(2)
.
(مِنْ امْرَأَةٍ فِيهَا حِدَّةٌ) قال القاضي عياض رحمه الله: "من" هنا للبيان، واستفتاح الكلام، ولم تُرِدْ عائشة عَيب سَوْدة بذلك، بل وصفتها بقُوّة النفس، وجَوْدة الْقَرِيحة، وهى الْحِدّة - بكسر الحاء -.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قولها: "من امرأة إلخ": "من" هنا للبيان، والخروج من وصف إلى ما يخالفه، ولم تُرد تنقيصها، وإنما أرادت أنها كانت شَهْمة
(1)
"المفهم" 4/ 208.
(2)
"كشف المشكل" 4/ 320.
النفس، حديدة القلب، حازمةً مع عقل رصين، وفضل متين، ولذلك جعلت يومها لعائشة رضي الله عنهما. انتهى
(1)
.
(قَالَتْ: فَلَمَّا كَبِرَتْ) - بكسر الموحّدة - يقال: كَبِرَ الصبيّ وغيره يَكْبَرُ، من باب تَعِبَ مَكْبِرًا، مثلُ مَسْجِدٍ، وكِبَرًا وزانُ عِنَبٍ، فهو كبيرٌ، وأما كبُر الشيءُ من باب قَرُب، فهو بمعنى عَظُمَ، فلا يناسب هنا (جَعَلَتْ يَوْمَهَا) أي يوم نوبتها، وهي يوم وليلةٌ (مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) متعلّق بحال من "يومها"، وقولها:(لِعَائِشَةَ) متعلّق بـ "جَعَلَتْ"، وفي رواية البخاريّ:"وهبت يومها لعائشة"، وفي رواية له:"يومها وليلتها"، وزاد في آخره:"تبتغي بذلك رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وأخرج أبو داود هذا الحديث في "سننه"، وزاد فيه ما يُبيّن سبب هبتها أوضح مما هنا، فرَوَى عن أحمد بن يونس، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة بالسند المذكور: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُفَضِّل بعضنا على بعض في الْقَسْم. . . الحديث، وفيه: ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أَسَنَّتْ، وخافت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله يومي لعائشة، فقَبِلَ ذلك منها، ففيها وأشباهها نزلت:{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا} الآية [النساء: 128]، وتابعه ابن سعد عن الواقديّ، عن ابن أبي الزناد في وصله.
ورواه سعيد بن منصور، عن ابن أبي الزناد مرسلًا، لم يذكر فيه عن عائشة.
وعند الترمذيّ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما موصولًا نحوه، وكذا قال عبد الرزاق، عن معمر بمعنى ذلك، فتواردت هذه الروايات على أنها خَشِيَت الطلاق، فوهبت.
وأخرج ابن سعد بسند رجاله ثقات، من رواية القاسم بن أبي بَزَّة مرسلًا: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم طلقها، فقَعَدت له على طريقه، فقالت: والذي بعثك بالحقّ ما لي في الرجال حاجة، ولكن أُحِب أن أُبعث مع نسائك يوم القيامة، فأنشدك بالذي أنزل عليك الكتاب، هل طلقتني لِمَوْجِدة وَجَدتها عليّ؟ قال:"لا"، قالت: فأنشدك لَمّا راجعتني، فراجعها، قالت: فإني قد جعلت يومي
(1)
"المفهم" 4/ 208.
وليلتي لعائشة حِبّة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أفاده في "الفتح"
(1)
.
(قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ جَعَلْتُ يَوْمِي مِنْكَ لِعَائِشَةَ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ) بفتح أوله، وكسر ثالثه، من ضرب (لِعَائِشَةَ يَوْمَيْنِ: يَوْمَهَا، وَيَوْمَ سَوْدَةَ) قال النوويّ رحمه الله: معناه: أنه كان يكون عند عائشة رضي الله عنها في يومها، ويكون عندها أيضًا في يوم سودة رضي الله عنها، لا أنه يوالي لها اليومين، والأصح عند أصحابنا أنه لا يجوز الموالاة للموهوب لها، إلا برضى الباقيات، وجوّزه بعض أصحابنا بغير رضاهنّ، وهو ضعيف. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أنه لا وجه لتضعيف هذا القول؛ لأنه لا دليل على منع الموالاة، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 3629 و 3630](1463)، و (البخاريّ) في "النكاح"(5212)، و (أبو داود) في "النكاح"(2/ 243)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(3/ 259 و 5/ 292)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1972)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 267)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 207)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(6/ 238)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 501)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 68 و 76)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 136)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 136)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(24/ 32 و 35)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4211)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(8/ 87)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 392)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 296) و"المعرفة"(5/ 422)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2324)، والله تعالى أعلم.
(1)
راجع: "الفتح" 11/ 656.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان جواز هبة المرأة نوبتها لضَرّتها، قال النوويّ رحمه الله: فيه جواز هبتها نوبتها لضرّتها؛ لأنه حقها، لكن يشترط رضا الزوج بذلك؛ لأن له حقًّا في الواهبة، فلا يفوته إلا برضاه، ولا يجوز أن تأخذ على هذه الهبة عوضًا، ويجوز أن تَهَب للزوج، فيجعل الزوج نوبتها لمن شاء، وقيل: يلزمه توزيعها على الباقيات، ويجعل الواهبة كالمعدومة، والأول أصحّ، وللواهبة الرجوع متى شاءت، فترجع في المستقبل دون الماضي؛ لأن الهبات يُرجَع فيما لم يُقْبَض منها دون المقبوض. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قال العلماء: إذا وهبت يومها لضرتها قَسَم الزوج لها يوم ضرتها، فإن كان تاليًا ليومها فذاك، وإلا لم يُقَدِّمه عن رتبته في الْقَسْم إلا برضا من بقي، وقالوا: إذا وهبت المرأة يومها لضرتها، فإن قَبِل الزوج لم يكن للموهوبة أن تمتنع، وإن لم يَقْبَل لم يُكْرَه على ذلك، وإذا وهبت يومها لزوجها، ولم تتعرض للضرّة، فهل له أن يخص واحدة إن كان عنده أكثر من اثنتين، أو يوزعه بين من بقي؟ وللواهبة في جميع الأحوال الرجوع عن ذلك متى أحبّت، لكن فيما يُستقبَل، لا فيما مضى، وأطلق ابن بطال أنه لم يكن لسودة الرجوع في يومها الذي وهبته لعائشة رضي الله عنها. انتهى
(2)
.
2 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: فيه دليلٌ على أن الْقَسْم حقّ للزوجة ذات الضرائر، وأنه يجوز لا بذله لغيرها بعوض، وغير عوض إذا رَضِي الزوج
(3)
، ويشهد لهذا كلّه قوله تعالى:{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} الآية [النساء: 128]، وفي هذه القصّة نزلت هذه الآية على ما قيل، لكن عند مالك لها الرجوع في مثل هذا إذا شاءت؛ لأنها حقوقٌ متجدّدة آنًا فآنًا، فلكل متجدّد حكمه، بخلاف
(1)
"شرح النوويّ" 10/ 48.
(2)
"الفتح" 11/ 655.
(3)
الظاهر أن هذا مذهب المالكيّة، وتقدّم عن النوويّ أنه لا يجوز لها أن تأخذ عوضًا، والذي يظهر لي أن الأول هو الأرجح، لأنه دليل على منع العوض، فتأمل، والله تعالى أعلم.
الحقوق الثابتة، تلك التي لا يَرجِع في شيء منها من أسقطها، مثل ما يترتّب في الذمم، أو في الأبدان، وهذا أحد قَوْلَي مالك، وقيل: يلزم ذلك دائمًا. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، من حسن الخلق، وكمال العشرة، حيث نزل عند رغبة سودة رضي الله عنها لَمّا ناشدته أن يراجعها بعد ما طلّقها، فلم يخيّب رجاءها في ذلك - كما سبق في رواية أبي داود -.
4 -
(ومنها): بيان فضيلة سودة رضي الله عنها، حيث أثنت عليها عائشة رضي الله عنها بهذا الثناء الجميل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[3630]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ خَالِدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا الْأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثنَا زُهَيْرٌ (ح) وَحَدَّثنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ: أَنَّ سَوْدَةَ لَمَّا كَبِرَتْ، بِمَعْنَى حَدِيثِ جَرِيرٍ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ شَرِيكٍ: قَالَتْ: وَكَانَتْ أَوَّلَ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا بَعْدِي).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.
2 -
(عُقْبَةُ بْنُ خَالِدِ) بن عُقبة السَّكُونيّ، أبو مسعود الكوفيّ المجدَّر، صدوقٌ، صاحب حديث [8](ت 188)(ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 3/ 1593.
3 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) تقدّم قبل بابين.
4 -
(الْأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ) الملقّب بشاذان، تقدّم قريبًا.
5 -
(زُهَيْرُ) بن مُعاوية بن حُدَيج، تقدّم أيضًا قريبًا.
6 -
(مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى) بن فَرُّوخ الْخُوَارزميّ، وهو الْخُتَّليّ - بضمّ الخاء المعجمة، وتشديد التاء المفتوحة - أبو عليّ نزيل بغداد، ثقةٌ [10].
(1)
"المفهم" 4/ 208.
رَوَى عن هُشيم، ومروان بن معاوية، وابن عيينة، وعبد الله بن إدريس، وابن علية، وابن مهديّ، والوليد بن مسلم، ويونس بن محمد، وغيرهم.
وروى عنه الجماعة، سوى البخاريّ، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والذُّهْليّ، وإبراهيم الحربيّ، وإبراهيم بن الجنيد، وموسى بن هارون، وابن أبي الدنيا، وغيرهم.
قال ابن مُحْرِز عن ابن معين: ثقةٌ لا بأس به، وقال أبو حاتم: محله الصدق، وقال صالح بن محمد: صدوقٌ، وقال موسى بن محمد: صدوقٌ، وقال النسائيّ: بغداديّ ثقةٌ، وأصله خُراسانيّ، وقال موسى بن هارون: كان مولده فيما أرى سنة ثمان وخمسين - أي ومائة - وقال البغويّ: مات في ربيع الأول سنة أربع وأربعين - أي ومائتين - وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات يوم الجمعة لتسع بقين من رمضان سنة أربع وأربعين ومائتين، وكان عسر الحفظ، وهو الذي يقال له: مجاهد بن موسى الْخُتَّليّ، كان أصله من خُتَّل خُراسان، وقال مسلمة بن قاسم: كان ثقةً.
روى عنه المصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط: هذا برقم (1463)، وحديث (2334):"إذا صلى الغداة جاء أهل المدينة بآنيتهم. . .".
7 -
(يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن مسلم المؤدّب، أبو محمد البغداديّ، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [9](ت 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.
8 -
(شَرِيكُ) بن عبد الله النخعيّ الكوفيّ القاضي، أبو عبد الله، صدوقٌ يُخطئ كثيرًا، وتغيّر حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة، وكان عادلًا فاضلًا عابدًا شديدًا على أهل البِدَع [8](ت 7 أو 178)(خت م 4) تقدم في "الصلاة" 36/ 1030.
و"هشام" ذُكر قبله.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامٍ) أي كلُّ هؤلاء الثلاثة: عقبة بن خالد، وزهير بن معاوية، وشريك النخعيّ رووا هذا الحديث عن هشام بن عروة.
وقولها: (وَكَانَتْ أَوَّلَ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا بَعْدِي) قال النوويّ رحمه الله: كذا ذكره مسلم من رواية يونس، عن شريك، أنه صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة قبل سودة، وكذا ذكره يونس أيضًا عن الزهريّ، وعن عبد الله بن محمد بن عَقِيل، ورَوَى عُقَيل بن خالد، عن الزهريّ: أنه تزوج سودة قبل عائشة، قال ابن عبد البرّ: وهذا قول
قتادة، وأبي عبيدة، قلت: وقاله أيضًا محمد بن إسحاق، ومحمد بن سعد كاتب الواقديّ، وابن قتيبة، وآخرون. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: رواية عقبة بن خالد، عن هشام بن عروة ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى" 7/ 296 فقال:
(14511)
- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو الوليد، نا الحسن بن سفيان، نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا عقبة بن خالد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت:"لما أن كَبِرت سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة رضي الله عنها، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ لها بيوم سودة". انتهى.
ورواية زُهير بن معاوية، عن هشام، ساقها
(2)
أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" 3/ 135 فقال:
(4477)
- رَوَى محمد بن يحيى، عن أحمد بن يونس، عن زهير، وأبو الوليد، عن شريك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن سودة لَمّا كَبِرت وهبت يومها لي، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يَقْسِم لي به. انتهى.
ورواية شريك بن عبد الله النخعيّ، عن هشام ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده" 8/ 87 فقال:
(4621)
- حدّثنا بشر بن الوليد، حدثنا شريك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن سودة لَمّا كَبِرت وهبت يومها لعائشة، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقْسِم لي يومي ويومها، وكانت أول امرأة تزوجت إليّ. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[3631]
(1464) (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كُنْتُ أَغَارُ عَلَى اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَقُولُ: وَتَهَبُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا،؟ فَلَمَّا أَنْزَلَ اللهُ: {تُرْجِي مَنْ
(1)
"شرح مسلم" 10/ 49.
(2)
وأضاف إليها رواية شريك، عن هشام.
تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ} [الأحزاب: 51] قَالَ: قُلْتُ: وَاللهِ مَا أَرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ لَكَ فِي هَوَاكَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) تقدّم قبل باب.
2 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
والباقون ذُكروا قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أن شيخه أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.
4 -
(ومنها): أن شيخه، وأبا أسامة كوفيّان، والباقون مدنيّون.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، عن خالته، وتابعيّ عن تابعيّ.
6 -
(ومنها): أن فيه أحد الفقهاء السبعة، وهو عروة.
7 -
(ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها، أنها (قَالَتْ: كُنْتُ أَغَارُ) - بفتح الهمزة، والغين المعجمة، من باب تَعِب - قال الطيبيّ: أي أَعيب عليهنّ؛ لأن من غار عاب، ويدلّ عليه قولها:"أوَ تهب المرأة نفسها للرجل؟ "، وهو هنا تقبيح وتنفير لئلا تهب النساء أنفسهنّ له صلى الله عليه وسلم.
و"الغَيْرَة" - بفتح، فسكون: وهي الْحَمِيّة، والأَنَفَة، يقال: رجلٌ غَيُورٌ، وامرأةٌ غَيُور بلا هاء؛ لأن فعولًا يستوي فيه الذكر والأنثى، كما قال في "الخلاصة":
وَلَا تَلِي فَارقَةً فَعُولَا
…
أَصْلَا وَلَا الْمِفْعَالَ والْمِفْعِيلَا
كَذَاكَ مِفْعَلٌ وَمَا تَلِيهِ
…
تَا الْفَرْقِ مِنْهُ فَشُذُوذٌ فِيهِ
ووقع عند الإسماعيليّ من طريق محمد بن بشر، عن هشام بن عروة، بلفظ:"كانت تُعيّر اللاتي وهبن أنفسهنّ" بعين مهملة، وتشديد.
(عَلَى اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ) هذا ظاهر في أن الواهبة أكثر من واحدة، ففي حديث سهل بن سعد عند الشيخين:"إذ قالت امرأة: إني وهبت نفسي لك".
وقد روى أحمد في "مسنده" بإسناد حسن، من طريق الحضرميّ بن لاحق، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن امرأة أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، ابنة لي كذا وكذا، ذكرت من حسنها وجمالها، فآثرتك بها، فقال:"قد قَبِلْتها"، فلم تزل تمدحها، حتى ذكرت أنها لم تُصدَع، ولم تَشتَكِ شيئًا قط، قال:"لا حاجة لي في ابنتك"، وهذه امرأة أخرى بلا شكّ.
وعند ابن أبي حاتم من حديث عائشة رضي الله عنها: "التي وهبت نفسها للنبيّ صلى الله عليه وسلم هي خولة بنت حكيم".
ومن طريق الشعبيّ قال: من الواهبات: أمّ شَريك، وأخرجه النسائيّ من طريق عروة.
وعند أبي عبيدة معمر بن المثنّى: أن من الواهبات فاطمة بنت شُريح.
وقيل: إن ليلى بنت الخَطِيم ممن وهبت نفسها له.
ومنهنّ زينب بنت خُزيمة، جاء عن الشعبيّ، وليس بثابت.
وخولة بنت حكيم، وهو في "صحيح البخاريّ".
ومن طريق قتادة، عن ابن عباس، قال: التي وهبت نفسها للنبيّ صلى الله عليه وسلم هي ميمونة بنت الحارث، وهذا منقطع، وأورده من وجه آخر مرسل، وإسناده ضعيف.
ويعارضه حديث سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس:"لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له"، أخرجه الطبريّ، وإسناده حسن، والمراد أنه لم يدخل بواحدة ممن وهبت نفسها له، وإن كان مباحًا له؛ لأنه راجع إلى إرادته؛ لقوله تعالى:{إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} [الأحزاب: 50].
(لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) متعلّق بـ "وهبن"(وَأَقُولُ: وَتَهَبَ الْحُرَّةُ نَفْسَهَا؟) بتقدير
همزة الاستفهام، وهو استفهام إنكاريّ، وفي الرواية التالية:"أما تستحيي امرأة تهب نفسها لرجل؟ "(فَلَمَّا أَنْزَلَ اللهُ: {تُرْجِي}) ترجي قرئ مهموزًا، وغير مهموز، وهما لغتان، يقال: أرجيت الأمر، وأرجأته إذا أخّرته، أي تؤخرهن بغير قَسْم، وهذا قول الجمهور، وأخرجه الطبري عن ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وأبي رزين، وغيرهم، وأخرج الطبري أيضًا عن الشعبي في قوله تعالى:{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} قال: كنّ نساء وهبن أنفسهنّ للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فدخل ببعضهنّ، وأرجأ بعضهنّ، لم ينكحهنّ. وهذا شاذّ، والمحفوظ أنه لم يدخل بأحد من الواهبات، كما تقدّم.
وقيل: المراد بقوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} أنه كان همّ بطلاق بعضهنّ، فقلن له: لا تطلّقنا، واقسم لنا ما شئت، فكان يَقسم لبعضهنّ قَسْمًا مستويًا، وهنّ اللواتي آواهنّ، ويَقسم للبواقي ما شاء، وهنّ اللواتي أرجأهنّ.
فحاصل ما نُقل في تأويل {تُرْجِي} أقوال:
[أحدها]: تطلّق، وتُمسك.
[ثانيها]: تعتزل من شئت منهنّ بغير طلاق، وتَقسم لغيرها.
[ثالثها]: تَقبَل من شئت من الواهبات، وترُدّ من شئت. وحديث الباب يؤيّد هذا، والذي قبله، واللفظ محتملٌ للأقوال الثلاثة
(1)
.
({مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ}) أي طلبت، والابتغاء في اللغة هو الطلب، ولا يكون إلا بعد الإرادة، قال الله تعالى مخبرًا عن موسى عليه السلام:{ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} [الكهف: 64] وجواب "من" قوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} وقوله: ({مِمَّنْ عَزَلْتَ}) أي أزلت، والعَزْل: الإزالة، قال العربيّ رحمه الله: والمعنى: ومن أردت أن تضمّه، وتؤويه بعد أن أزلته، فقد نِلْت ذلك عندنا، ووجدته تحقيقًا؛ لقول عائشة رضي الله عنها:"لا أرى ربك إلا وهو يسارع في هواك"، فإن شاء النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يؤخر أَخَّر، وإن شاء أن يقدِّم استقدم، وإن شاء أن يَقْلِب المؤخر مقدمًا، والمقدم مؤخرًا فَعَلَ، لا جناح عليه في شيء من
(1)
"الفتح" 10/ 506.
ذلك، ولا حرج فيه. انتهى
(1)
.
وهذا صريح في أن هذه الآية نزلت بهذا السبب، قال القرطبيّ رحمه الله: حَمَلت عائشةَ رضي الله عنها على هذا التقبيح الغَيْرَةُ التي طُبعت عليها النساء، وإلا فقد عَلِمت أن الله تعالى أباح لنبيّه صلى الله عليه وسلم ذلك، وأن جميع النساء لو مَلَّكْنَ له رقّهنّ، ورقابهنّ للنبيّ صلى الله عليه وسلم لكنّ معذورات في ذلك، ومشكورات عليه لعظيم بركته، ولشرف منزلة القرب منه، وعلى الجملة فإذا حُقّق النظر في أحوال أزواجه عُلم أنه لم يحصل أحدٌ في العالم على مثل ما حصلن عليه، ويكفيك من ذلك مخالطة اللحوم، والدماء، ومشابكة الأعضاء والأجزاء، وناهيك بها مراتب فاخرة، لا جَرَمَ هنّ أزواجه المخصوصات به في الدنيا والآخرة. انتهى كلام القرطبيّ ببعض تصرّف
(2)
.
(قَالَتْ: قُلْتُ: وَاللهِ مَا أَرَى رَبَّكَ، إِلَّا يُسَارِعُ لَكَ فِي هَوَاكَ) وفي الرواية التالية: "فقلت: إن ربّك لَيُسارع لك في هواك"، أي ما أرى الله إلا موجدًا لما تريد بلا تأخير، منزلًا لما تحبّ، وتختار، قاله في "الفتح"
(3)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قولها: "ما أرى ربك إلا يسارع في هواك": هو بفتح الهمزة من "أَرَى"، ومعناه: يُخفّف عنك، ويوسّع عليك في الأمور، ولهذا خيّرك.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا قولٌ أبرزته الغيرة والدّلال، وهو من نوع قولها:"ما أهجُرُ إلا اسمك"، متفق عليه، و"لا أحمد إلا الله"، متفق عليه، وإلا فإضافة الهوى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم مباعدٌ لتعظيمه، وتوقيره الذي أمرنا الله تعالى به، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم منزّهٌ عن الهوى بقوله تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} [النجم: 3]، وهو ممن نَهَى النفس عن الهوى، ولو جَعَلت مكان "هواك""مرضاتك" لكان أشبه، وأولى، لكن أبعد هذا في حقّها عن نوع الذنوب أن ما يَفعل المحبوب محبوب. انتهى
(4)
.
وقال السنديّ: رحمه الله: قولها: "والله ما أرى ربك. . . إلخ" كناية عن ترك
(1)
"أحكام القرآن" لابن العربي 3/ 606.
(2)
"المفهم" 4/ 211 - 212.
(3)
"الفتح" 10/ 506.
(4)
"المفهم" 4/ 211.
التنفير والتقبيح لما رأت من مسارعة الله تعالى في مرضاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، أي كنت أنفّر النساء عن ذلك، فلما رأيت الله يسارع في مرضاته صلى الله عليه وسلم تركت ذلك؛ لما فيه من الإخلال بمرضاته صلى الله عليه وسلم
قال: وقد يقال: المذموم هو الهوى الخالي عن الهدى؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} الآية [القصص: 50].
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن التأويل الأخير هو الصواب؛ لأن الهوى في أصل اللغة هو محبة الشيء، يقال: هَوِيتُ الشيءَ، من باب تعب: إذا أحببته، وعَلِقتَ به، فهذا أصل معناه لغةً، وإن كان يُطلق على ميل النفس، وانحرافها المذموم، فأرادت عائشة رضي الله عنها هنا محبته صلى الله عليه وسلم للأمر، فهذا عندي أولى مما ذكروه من التأويلات؛ مراعاة لتعظيم جانب عائشة رضي الله عنها والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 3631 و 3632](1464)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4788) و"النكاح"(5113)، و (النسائيّ) في "النكاح"(6/ 54) و"الكبرى"(3/ 259 و 5/ 294 و 301 و 6/ 434)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(2000)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 16)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 134 و 158 و 261)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6367)، و (الحاكم) في "مستدركه"(2/ 436)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(22/ 26)، و (البغويّ) في "تفسيره"(3/ 538)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 134 و 135 و 137)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 136 و 157)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 55) و"المعرفة"(5/ 214)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما أكرم الله تعالى به نبيّه صلى الله عليه وسلم، وفضّله به من حلّ النساء بدون حصر بأربع، أو نحوه.
2 -
(ومنها): بيان بعض خصائصه صلى الله عليه وسلم، وهو نكاح من وهبت نفسها له بلا مهر، قال الله تعالى:{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50].
3 -
(ومنها): بيان سبب نزول آية: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} الآية.
4 -
(ومنها): ما كان عليه الصحابيات من الحرص على أن يكنّ من أمهات المؤمنين، فيَعْرِضْن أنفسهنّ عليه صلى الله عليه وسلم.
5 -
(ومنها): أنه صلى الله عليه وسلم لا يجب عليه القَسْم بين زوجاته، وفيه خلاف بين أهل العلم، وهذا هو الراجح.
6 -
(ومنها): ما جُبلت عليه النساء من الْغَيْرة، حيث كانت عائشة رضي الله عنها تكره النساء اللاتي يَعْرِضن أنفسهنّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم.
7 -
(ومنها): استحباب عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح؛ رجاء عودة صلاحه عليها بما ينفعها في معاشها ومعادها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): أنه لم يُرجئ النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذا التخيير له، بل كان يقسم لهنّ، وإذا أراد أن يذهب إلى غير صاحبة النوبة، استأذنها، فقد أخرج الشيخان في "صحيحيهما"، من طريق عاصم الأحول، عن معاذة، عن عائشة رضي الله عنها:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يستأذن في يوم المرأة منا، بعد أن أُنزلت هذه الآية: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} الآية [الأحزاب: 51]، فقلت لها: ما كنت تقولين؟، قالت: كنت أقول له: إن كان ذاك إلي، فإني لا أريد، يا رسول الله أن أُوثِرَ عليك أحدًا".
قال الزهريّ: ما أعلم أنه أرجأ أحدًا من نسائه، أخرجه ابن أبي حاتم، وعن قتادة: أُطلق له أن يَقسِم كيف شاء، فلم يَقسِم إلا بالسويّة. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): اختلف السلف في هذه الآية، فقيل: هي ناسخة لقوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52]، مبيحة له أن يتزوّج ما شاء، وقيل: بل نُسخ قوله: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} قال زيد بن أسلم: تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية ميمونة، ومُليكة، وصفيّة، وجويرية،
وقالت عائشة رضي الله عنها: "ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلّ الله له النساء". رواه الترمذيّ، والنسائيّ.
وقيل عكس هذا، وهو أن قوله:{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} ناسخة لقوله: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} الآية [الأحزاب: 50]، ولقوله:{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} ، وقيل غير هذا مما هو ظاهر الفساد، وإن صحّ ما نقله زيد بن أسلم فالقول قوله. قاله أبو العباس القرطبيّ رحمه الله.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الراجح أن آية {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} منسوخة بآية {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ} ؛ لحديث عائشة رضي الله عنها المذكور هنا.
وقال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": واختَلَف العلماء في تأويل هذه الآية، وأصح ما قيل فيها: التوسعة على النبيّ صلى الله عليه وسلم في ترك القَسْم، فكان لا يجب عليه القسم بين زوجاته، وهذا القول هو الذي يناسب ما مضى، وهو الذي ثبت معناه في "الصحيح" عن عائشة رضي الله عنها، قالت:"كنت أغار على اللائي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقول: أَوَ تَهَبُ المرأة نفسها لرجل؟ فلما أنزل الله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ} قالت: قلت: والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك"، قال ابن العربيّ: هذا الذي ثبت في "الصحيح" هو الذي ينبغي أن يُعَوَّل عليه، والمعنى المراد: هو أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان مُخَيَّرًا في أزواجه، إن شاء أن يَقْسِم قَسَم، وإن شاء أن يترك القَسْم ترك، فخُصَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن جُعِل الأمر إليه فيه، لكنه كان يَقْسِم من قِبَل نفسه، دون فرض ذلك عليه؛ تطييبًا لنفوسهنّ، وصونًا لهنّ عن أقوال الغيرة التي تؤدي إلى ما لا ينبغي.
وقيل: كان القسم واجبًا على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم نُسِخ الوجوبُ عنه بهذه الآية، قال أبو رزين: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هَمّ بطلاق بعض نسائه، فقلن له: اقْسِم لنا ما شئت، فكان ممن آوى عائشة، وحفصة، وأم سلمة، وزينب، فكان قسمتهنّ من نفسه وماله سواء بينهنّ، وكان ممن أرجى سودة، وجويرية، وأم حبيبة، وميمونة، وصفية، فكان يَقْسِم لهنّ ما شاء.
وقيل: المراد الواهبات، رَوَى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، في قوله:{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} قالت: هذا في الواهبات أنفسهنّ، قال الشعبيّ:
هنّ الواهبات أنفسهنّ، تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم منهنّ، وترك منهنّ.
وقال الزهريّ ما علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرجأ أحدًا من أزواجه، بل آواهنّ كلهنّ.
وقال ابن عباس وغيره: المعنى في طلاق من شاء، ممن حصل في عصمته، وإمساك من شاء، وقيل غير هذا، وعلى كل معنى، فالآية معناها التوسعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإباحة، وما اخترناه أصحّ. انتهى كلام أبي عبد الله القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما سبق أن أرجح الأقوال هو ما دلّ عليه ظاهر الآية الكريمة، وحديث عائشة رضي الله عنها المذكور في الباب أنه صلى الله عليه وسلم خُصّ بعدم وجوب القسم، فلا يجب عليه، ولكنه كان يَقْسِم من قبل نفسه؛ لكرمه، وحسن عشرته، ورأفته بأزواجه، فظهر به مصداق قوله تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} ، وقوله:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} ، وقوله صلى الله عليه وسلم:"خيركم خير لأهله، وأنا خيركم لأهلي"
(2)
، فصلى الله وسلم، وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[3632]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: أَمَا تَسْتَحْيِي امْرَأَةٌ تَهَبُ نَفْسَهَا لِرَجُلٍ؟ حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ}، فَقُلْتُ: إِنَّ رَبَّكَ لَيُسَارِعُ لَكَ فِي هَوَاكَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الكلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةُ ثبتٌ، من صغار [8](ت 187) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 339.
(1)
"الجامع لأحكام القرآن" 14/ 214 - 215.
(2)
حديث صحيح، أخرجه أحمد، والترمذيّ، وابن ماجه.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[3633]
(1465) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْن حَاتِمٍ، قَالَ مُحَمَّدُ بْن حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا محَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، قَالَ: حَضَرْنَا مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ جَنَازَةَ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِسَرِفَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا رَفَعْتُمْ نَعْشَهَا، فَلَا تُزَعْزِعُوا، وَلَا تُزَلْزِلُوا، وَارْفُقُوا، فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تِسْعٌ، فَكَانَ يَقْسِمُ لِثَمَانٍ، وَلَا يَقْسِمُ لِوَاحِدَةٍ، قَالَ عَطَاءٌ: الَّتِي لَا يَقْسِمُ لَهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قريبًا.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ) بن ميمون، تقدّم قبل باب.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ) بن عثمان الْبُرْسانيّ، أبو عثمان البصريّ، صدوقٌ [9](ت 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 65/ 369.
4 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم قبل بابين.
5 -
(عَطَاءُ) بن أبي رَبَاح أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، كثير الإرسال [3](ت 114)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.
6 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله الحبر البحر رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما، ثم فصّل.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخيه، فالأول ما أخرج له ابن ماجه، والثاني تفرّد به هو وأبو داود.
3 -
(ومنها): أن فيه ابن عباس رضي الله عنهما من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَطَاءِ بن أبي رباح)، أنه (قَالَ: حَضَرْنَا مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (جِنَازَةَ مَيْمُونَةَ) - بكسر الجيم، وفتحها، والكسر أفصح -: والمراد سريرها الذي وُضِعت هي عليه لَمّا ماتت، من جَنَزتُ الشيءَ أجنِزه، من باب ضرب: إذا سترته، قال الأصمعيّ، وابن الأعرابيّ: بالكسر الميت نفسه، وبالفتح السرير، ورَوَى أبو عمر الزاهد، عن ثعلب عكس هذا، فقال: بالكسر السرير، وبالفتح الميت نفسه، قاله الفيّوميّ
(1)
.
وفي "القاموس": والْجِنَازة: الميتُ، ويُفتح، أو بالكسر: الميتُ، وبالفتح: السرير، أو عكسه، أو بالكسر: السرير مع الميت. انتهى.
وميمونة هي بنت الحارث الهلاليّة، قيل: اسمها برّة، فسمّاها النبيّ صلى الله عليه وسلم ميمونة، وتزوّجها بسرف، سنة سبع من الهجرة، وماتت بها، ودُفنت سنة (51) على الصحيح (زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) بالجرّ بدل من "ميمونة"(بِسَرِفَ) اتَّفَقَ العلماء على أنها تُوُفّيت بسَرِف - بفتح السين، وكسر الراء، وبالفاء - وهو مكان بقرب مكة، بينه وبينها ستة أميال، وقيل: سبعة، وقيل: تسعة، وقيل: اثنا عشر، قاله النوويّ رحمه الله
(2)
.
وأخرج ابن سعد بإسناد صحيح عن يزيد بن الأصمّ، قال:"دفنّا ميمونة بسرف، في الظلّة التي بنى بها فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ومن وجه آخر عن يزيد بن الأصمّ، قال:"صلّى عليها ابن عبّاس، ونزل في قبرها عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وعبيد الله الْخَوْلانيّ، ويزيد بن الأصمّ"، أما عبد الرحمن، فهي خالة أبيه، وأما عُبيد الله الخولانيّ، فكان في حِجرها، وأما يزيد بن الأصمّ، فهي خالته، كما هي خالة لابن عباس رضي الله عنهم، أفاده في "الفتح"
(3)
.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 111.
(2)
"شرح النوويّ" 10/ 50.
(3)
11/ 329.
(فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (هَذِهِ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) تقدّم أن الزوج بلا هاء يُطلق على الرجل والمرأة، وهذه هي اللغة الفصحى، وبها جاء القرآن، كقوله:{اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35]، وبعض العرب يقولون في المرأة: زوجة بالهاء (إِذَا رَفَعْتُمْ نَعْشَهَا) - بعين مهملة، وشين معجمة -: هو السرير الذي يوضع عليه الميت (فَلَا تُزَعْزِعُوا) - بزايين معجمتين، وعينين مهملتين - والزعزعة تحريك الشي الذي يُرفَع، أي لا تحرّكوا جنازتها؛ احترامًا لهًا، وتوقيرًا، وقوله:(وَلَا تُزَلْزِلُوا) الزلزلة الاضطراب، فيكون مؤكّدًا لـ "تُزَعزعُوا"، وقوله:(وَارْفُقُوا) فيه إشارة إلى أن مراده بعدم الزعزعة، والتحريك هو الرفق بها؛ توقيرًا، وتعظيمًا لها، فيكون المطلوب هو السيرَ الوسطَ المعتدلَ (فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تِسْعُ) أي تسع نِسْوَةٍ أراد به عند موته صلى الله عليه وسلم، وهنّ سودة، وعائشة، وحفصة، وأم سلمة، وزينب بنت جحش، وأم حبيبة، وجُويرية، وصفيّة، وميمونة، هذا ترتيب تزويجه صلى الله عليه وسلم إياهنّ - رضي الله تعالى عنهنّ -، ومات، وهنّ في عصمته، واختُلف في رَيحانة، هل كانت زوجة، أو سُرّيّةً، وهل ماتت قبله، أم لا؟. وسيأتي تمام البحث فيهنّ في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى - (فَكَانَ يَقْسِمُ) بفتح أوّله، من باب ضرب (لِثَمَانٍ) أي ومن جملتهنّ ميمونة رضي الله تعالى عنها، فينبغي لكم أن تعرفوا فضلها، وتراعوا حقّها (وَلَا يَقْسِمُ لِوَاحِدَةٍ) وقوله:(قَالَ عَطَاءُ) بن أبي رباح (الَّتِي لَا يَقْسِمُ لَهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ) قال النوويّ رحمه الله: قول عطاء: "التي لا يقسم لها صفية": قال العلماء: هو وَهَمٌ من ابن جُريج الراوي عن عطاء، وإنما الصواب سودة، كما سبق في الأحاديث. انتهى.
وقال في "الفتح": قال عياض: قال الطحاويّ: هذا وَهَمٌ، وصوابه سودة، كما تقدّم أنها وهبت يومها لعائشة، وإنما غلط فيه ابن جريج، راويه عن عطاء. كذا قال، قال عياض: قد ذكروا في قوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأحزاب: 51] أنه آوى عائشة، وحفصة، وزينب، وأم سلمة، فكان يستوفي لهنّ الْقَسْمَ، وأرجأ سودة، وجويرية، وأم حبيبة، وميمونة، وصفيّة، فكان يَقسم لهنّ ما شاء. قال: فيحتمل أن تكون رواية ابن جريج صحيحة، ويكون ذلك في آخر أمره، حيث آوى الجميع، فكان يَقسم لجميعهنّ إلا لصفيّة.
قال الحافظ: قد أخرج ابن سعد من ثلاثة طرق أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقسم لصفيّة، كما يَقسم لنسائه، لكن في الأسانيد الثلاثة الواقديّ، وليس بحجّة، وقد تعصّب مغلطاي للواقديّ، فنقل كلام من قوّاه، ووثّقه، وسكت عن ذكر من وهّاه، واتّهمه، وهم أكثر عددًا، وأشدّ إتقانًا، وأقوى معرفةً به من الأولين، ومن جملة ما قوّاه به أن الشافعيّ روى عنه، وقد أسند البيهقيّ عن الشافعيّ أنه كذّبه، ولا يقال: فكيف روى عنه؟؛ لأنا نقول: رواية العدل ليست بمجرّدها توثيقًا، فقد روى أبو حنيفة عن جابر الْجُعفيّ، وثبت عنه أنه قال: ما رأيت أكذب منه.
فيترجّح أن مراد ابن عبّاس بالتي لا يَقسم لها سودة، كما قاله الطحاويّ؛ لحديث عائشة رضي الله عنها:"أن سودة وهبت يومها لعائشة، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها، ويوم سودة"، كما تقدّم.
لكن يَحْتَمِل أن يقال: لا يلزم من أنه كان لا يبيت عند سودة أن لا يقسم لها، بل كان يقسم لها، لكن يبيت عند عائشة رضي الله عنها وقع من تلك الهبة.
نعم يجوز نفي القسم عنها مجازًا.
قال الحافظ: والراجح عندي ما ثبت في "الصحيح"، ولعلّ البخاريّ حذف هذه الزيادة عمدًا.
قال: وقد وقع عند مسلم أيضًا فيه زيادة أخرى من رواية عبد الرزّاق، عن ابن جريج، قال عطاء: كانت آخرهنّ موتًا، ماتت بالمدينة.
كذا قال، فأما كونها آخرهنّ موتًا، فقد وافق عليه ابن سعد وغيره، قالوا: وكانت وفاتها سنة إحدى وستين، وخالفهم آخرون، فقالوا: ماتت سنة ستّ وخمسين، ويعكر عليه أن أم سلمة عاشت إلى قتل الحسين بن عليّ، وكان قتله يوم عاشوراء سنة إحدى وستين. وقيل: بل ماتت أم سلمة سنة تسع وخمسين، والأول أرجح.
ويَحْتمِل أن تكونا ماتتا في سنة واحدة، لكن تأخّرت ميمونة.
وقد قيل أيضًا: إنها ماتت سنة ثلاث وستّين، وقيل: سنة ستّ وستّين، وعلى هذا لا ترديد في آخريّتها في ذلك.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ترجيح الحافظ هنا يخالف ترجيحه في
"تهذيب التهذيب"، و"التقريب"، حيث قال: وتوفيت سنة إحدى وخمسين، وقيل: سنة ثلاث وستّين. وقيل: سنة ستّ وستّين، قال: والقول الأول هو الصحيح، وأما الأخيران، فغلط بلا ريب، فقد صحّ من حديث يزيد بن الأصمّ، قال: دخلت على عائشة بعد وفاة ميمونة، فقالت: كانت من أتقانا، انتهى.
قال: وأما قوله: "وماتت بالمدينة"، فقد تكلّم عليه عياض، فقال: ظاهره أنه أراد ميمونة، وكيف يلتئم مع قوله في أول الحديث: إنها ماتت بسرف، وسرف من مكة بلا خلاف، فيكون قوله:"بالمدينة" وَهَمًا.
قال الحافظ: ويَحْتَمِل أن يريد بالمدينة البلد، وهي مكّة، والذي في أول الحديث أنهم حضروا جنازتها بسرف، ولا يلزم من ذلك أنها ماتت بسرف، فيَحْتَمِل أن تكون ماتت داخل مكة، وأوصت أن تُدفن بالمكان الذي دخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، فنفّذ ابن عباس وصيّتها، ويؤيّد ذلك أن ابن سعد لما ذكر حديث ابن جريج هذا قال بعده: وقال غير ابن جريج في هذا الحديث: توفّيت بمكة، فحملها ابن عبّاس حشى دفنها بسرف. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 3633 و 3634](1465)، و (البخاريّ) في "النكاح"(5067)، و (النسائيّ) في "النكاح"(6/ 53) و"الكبرى"(3/ 258 و 5/ 293)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(3/ 442)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 231 و 348 و 349)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(4/ 225)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 133)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 137)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(11/ 180)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 22)، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 11/ 329 - 331.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما خصّ الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم فيما يتعلّق بالنكاح، حيث أباح له أكثر من أربع زوجات.
2 -
(ومنها): أن مِن أغرب ما اتَّفَق من الأحداث، ما اتَّفَق لميمونة رضي الله عنها، حيث تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة سبع من الهجرة، بسَرِف، وبنى بها فيها، ثم تُوفّيت بعد ذلك سنة (51)، وقيل: بعد ذلك بسَرِف، ودُفنت في الظّلّة التي بنى بها فيها صلى الله عليه وسلم، وبين تزويجها، ووفاتها أزيد من ثلاث وأربعين سنة، والله تعالى أعلم.
3 -
(ومنها): أن فيه بيان ما لأمهات المؤمنين - رضي الله تعالى عنهنّ - من وجوب الاحترام، والتعظيم أكثر من غيرهنّ.
4 -
(ومنها): أن حرمة المؤمن بعد موته باقية، كما كانت في حياته، وفيه حديثُ:"كسر عظم الْميّت ككسره حيًّا"، أخرجه أبو داود، وابن ماجه، وصححه ابن حبّان، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[3634]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، جَمِيعًا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَزَادَ: قَالَ عَطَاءٌ: كَانَتْ آخِرَهُنَّ مَوْتًا، مَاتَتْ بِالْمَدِينَةِ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم قبل باب.
2 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسّيّ، تقدّم قبل بابين.
3 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم قبل باب.
و"ابن جُريج" ذُكر قبله.
وقوله: (وَزَادَ: قَالَ عَطَاءٌ) فاعل "زاد" ضمير عبد الرزّاق رضي الله عنه.
وقوله: (كَانَتْ آخِرَهُنَّ مَوْتًا، مَاتَتْ بِالْمَدِينَةِ) قال القاضي عياض: رحمه الله: ظاهر كلام عطاء أنه أراد بآخرهنّ موتًا ميمونة، وقد ذُكِر في الحديث أنها ماتت بسَرِف، وهي بقرب مكة، فقوله:"بالمدينة" وَهَمٌ.
وقوله: "آخرهن موتًا"، قيل: ماتت ميمونة سنة ثلاث وستين، وقيل: ست وستين، وقيل: إحدى وخمسين
(1)
قبل عائشة؛ لأن عائشة تُوُفّيت سنة سبع، وقيل: ثمان وخمسين، وأما صفية، فتُوُفّيت سنة خمسين بالمدينة. انتهى كلام القاضي رحمه الله.
قال النوويّ رحمه الله: ويَحْتَمِل أن قوله: "ماتت بالمدينة" عائد على صفية، ولفظه فيه صحيح يَحْتَمِله، أو ظاهرٌ فيه. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الاحتمال الذي ذكره النوويّ فيه نظرٌ؛ لأن صفيّة ليست هي آخرهنّ موتًا، فقد قيل: إنها ماتت سنة ستّ وثلاثين، وقيل: سنة خمسين، وهو الأصحّ، وعائشة، وأم سلمة رضي الله عنهما بعده بيقين، فإن عائشة ماتت على الأصح سنة سبع وخمسين، وأم سلمة ماتت على الأصحّ سنة اثنتين وستين، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قول عطاء: "كانت آخرهنّ موتًا، ماتت بالمدينة" قولٌ مشكلٌ، يلزم عليه وهمٌ، وذلك أنه إن أراد ميمونة فقد وَهِمَ في قوله:"إنها ماتت بالمدينة"، وقد بيّنّا أنها ماتت بسَرِف، إلا أن يريد بالمدينة هنا مكة، وفيه بُعْدٌ، وإن أراد بها صفيّة فقد وَهِمَ أيضًا؛ لأنها لم تكن آخرهنّ موتًا على ما قدّمنا، وقد وَهِمَ أيضًا في قوله: إن التي لا يَقسِم له هي صفيّة، فإن المشهور أن التي لا يَقسِم لها هي سودة، وهبت يومها لعائشة، كما تقدّم. انتهى
(3)
.
[تنبيه]: رواية عبد الرزّاق، عن ابن جريج هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله (1/ 349) فقال:
(3261)
- حدثنا عبد الله
(4)
، حدّثني أبي، ثنا عبد الرزاق، ثنا ابن جريج
(1)
هذا هو الأصحّ، وأما القولان الأولان فغلط بلا ريب، فقد صحّ من حديث يزيد بن الأصمّ، قال: دخلت على عائشة بعد وفاة ميمونة، فقالت: كانت من أتقانا. قاله في "تهذيب الهذيب" 4/ 689.
(2)
"شرح النوويّ" 10/ 51.
(3)
"المفهم" 4/ 212.
(4)
هو ابن الإمام أحمد الراوي عنه "المسند".
قال: أخبرني عطاء أن ميمونة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم خالة ابن عباس، تُوُفِّيت، قال: فذهبت معه إلى سَرِف، قال: فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أم المؤمنين، لا تُزعْزعوا بها، ولا تزلزلوا، ارفُقُوا، فإنه كان عند نبي الله صلى الله عليه وسلم تسع نسوة، فكان يَقْسِم لثمان، ولا يَقْسِم للتاسعة، يريد صفية بنت حُيَيّ. قال عطاء: كانت آخرهنّ موتًا، ماتت بالمدينة. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(15) - (بَابُ الْحَثِّ عَلَى نِكَاحِ ذَاتِ الدِّينِ، وَالأَبْكَارِ)
(1)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[3635]
(1466) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَعُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بذَاتِ الدِّينِ
(2)
، تَرِبَتْ يَدَاكَ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) الْحَرَشيّ، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ البصريّ الزمِنُ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
(1)
هكذا ترجمت تبعًا للقرطبيّ رحمه الله حيث ترجم في "المفهم" بنحو هذه الترجمة، وأما الشراح الآخرون كالنوويّ، وغيره، فقد جعلوا ترجمتين: ترجمة لنكاح ذات الدين، وترجمة لنكاح الأبكار، وما سلكته أولى؛ اختصارًا، فتنبّه.
(2)
وفي نسخة: "فاطلب ذات الدين".
3 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْن سَعِيدٍ) أبو قُدامة السَّرَخْسيّ، ثقة ثبت سنّيّ [10](ت 241)(خ م س) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.
4 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، البصريّ الإمام الحجة الثبت الناقد البصير [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.
5 -
(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر بن حفص العمريّ المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [5] مات سنة بضع و (240)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
6 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ) المقبريّ، أبو سَعْد المدنيّ، ثقة تغير قبل موته بأربع سنين [3] مات في حدود (120) أو قبلها، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.
7 -
(أَبُوهُ) كَيْسان المقبريّ، مولى أم شَرِيك، أبو سَعِيد المدني، ثقة ثبت [2](ت 100)(ع) تقدم في "الإيمان" 74/ 392.
8 -
(أبو هريرة) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتحاد كيفيّة الأخذ والأداء منه، ومنهم، كما سبق غير مرّة.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه: زهير، وعُبيد الله، كما أسلفته آنفًا، وأما شيخه ابن المثنّى، فإنه ممن اتّفق الجماعة بالرواية عنه بلا واسطة، فتنبّه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيوخه، فالأول نسائيّ، ثم بغداديّ، والثاني بصريّ، والثالث سرخسيّ، ويحيى، بصريّ.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين رَوَى بعضهم عن بعض: عبيد الله العمريّ، وسعيد المقبريّ، وأبوه، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أكثر من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ) وفي "النسائيّ": "النساء"، وهو فعلٌ ونائب فاعله. قال النوويّ رحمه الله: الصحيح في معنى الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بما يفعله الناس في العادة، فإنهم يقصدون هذه الخصال الأربع، وآخرها عندهم ذات الدِّين، لا أنه أمر بذلك. انتهى
(1)
.
وقال أبو العباس القرطبيّ رحمه الله: معنى الحديث أن هذه الخصال الأربع، هي المرغّبة في نكاح المرأة، وهي التي يَقْصِدها الرجال من النساء، فهو خبرٌ عما في الوجود من ذلك، لا أنه أمرٌ بذلك، وظاهره إباحة النكاح لقصد مجموع هذه الخصال، أو لواحدة منها، لكن قصد الدِّين أولى وأهمّ، ولذلك قال:"فاظفر بذات الدين، تربت يمينك".
قال: ولا يُظنّ من هذا الحديث أن مجموع هذه الأربع، والمساواة فيها هي الكفاءة، فإن ذلك لم يقل به أحدٌ من العلماء فيما علمتُ، وإن كانوا قد اختلفوا في الكفاءة ما هي؟. انتهى
(2)
.
(لِـ) أجل (أَرْبَعٍ) وفي رواية: "لأربعة"، ولكلٍّ وجهٌ، وذلك أن تقدير الأول: لأربع خصال، وتقدير الثاني: لأربعة أمور، وقوله:(لِمَالِهَا) إلخ بدل من "لأربع"(وَلحَسَبِهَا) بفتح المهملتين، ثم موحّدة: أي شَرَفها، والحسب في الأصل الشرف بالآباء، وبالأقارب، مأخوذ من الحساب؛ لأنهم كانوا إذا تفاخروا عدّوا مناقبهم، ومآثر آبائهم وقومهم، وحسبوها، فيُحكم لمن زاد عدده على غيره، وقيل: المراد بالحسب هنا الفَعَال الحسنة، وقيل: المال، وهو مردود لذكر المال قبله، وذكره معطوفًا عليه، وقد وقع في مُرْسَل يحيى بن جَعْدةَ، عند سعيد بن منصور:"على دينها، ومالها، وعلى حسبها، ونسبها"، وذِكْرُ النسب على هذا تأكيدٌ، ويؤخذ منه أن الشريف النسيب يُستحبّ له أن
(1)
"شرح النوويّ" 10/ 51 - 52.
(2)
"المفهم" 4/ 215.
يتزوّج نسيبةً، إلا إذا تعارض نسيبةٌ غيرُ ديّنة، وغيرُ نسيبة ديّنة، فتُقدّم ذات الدين، وهكذا في كلّ الصفات.
قال الحافظ: وأما قول بعض الشافعيّة: يُستحبّ أن لا تكون المرأة ذات قرابة قريبة، فإن كان مستندًا إلى الخبر فلا أصل له، أو إلى التجربة، وهو أن الغالب أن الولد بين القريبين يكون أحمق، فهو متّجه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه التجربة غير صحيحة، فقد وُلد الحسن، والحسين رضي الله عنهما من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي بنت عم عليّ رضي الله عنهما، فأين الْحُمْقُ؟ وَقِسْ غيرهما عليهما، والغريب نقل الحافظ له، وتقريره عليه، والله المستعان.
قال: وأما ما أخرجه أحمد، والنسائيّ، وصححه ابن حبان، والحاكم، من حديث بريدةَ رضي الله عنه رفعه:"أن أحساب أهل الدنيا الذي يذهبون إليه المال"، فيَحْتَمِل أن يكون المراد أنه حسب من لا حسب له، فيقوم النسب الشريف لصاحبه مقام المال لمن لا نسب له، ومنه حديث سمرة رضي الله عنه رفعه:"الحسب المال، والكرم التقوى"، أخرجه أحمد، والترمذيّ، وصححه هو، والحاكم.
وبهذا الحديث تمسك من اعتبر الكفاءة بالمال
(1)
، قال: أو أن من شأن أهل الدنيا رفع من كان كثير المال، ولو كان وضيعًا، ووضع من كان مُقِلًّا ولو كان رفيع النسب، كما هو موجود مشاهد، فعلى الاحتمال الأول يمكن أن يؤخذ من الحديث اعتبار الكفاءة بالمال
(2)
، لا على الثاني؛ لكونه سيق في الإنكار على مَن يفعل ذلك.
وقد أخرج مسلم الحديث
(3)
من طريق عطاء، عن جابر رضي الله عنه، وليس فيه ذكر الحسب، اقتَصَر على الدين، والمال، والجمال. انتهى
(4)
.
(1)
قال الجامع: قد تقدّم أن الحقّ أنه لا اعتبار في الكفاءة إلا بالدين، وما عدا ذلك من النسب، والمال، والحرفة، وغير ذلك، وإن قال به جلّ الفقهاء، فلا دليل يؤيّده، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(2)
قد عرفت ما فيه، فتنبّه.
(3)
يعني الحديث التالي.
(4)
"الفتح" 11/ 364.
(وَلجَمَالِهَا) قال في "الفتح": يؤخذ منه استحباب تزويج الجميلة، إلا إن تعارض الجميلة غير الديّنة، وغير الجميلة الديّنة، نعم لو تساوتا في الدين، فالجميلة أولى، ويلتحق بالحسنة الذات الحسنة الصفات، ومن ذلك أن تكون خفيفة الصداق. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أخذ استحباب تزويج الجميلة من هذا الحديث محلّ نظر؛ إذ الصحيح أن الحدث خبر عن واقع الناس الجاري بينهم فيما يتعلّق بشأن النكاح، لا أنه أمر بذلك، حتى يُستفاد منه ما ذُكر، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(وَلدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ) وفي بعض النسخ: "فاطلب ذات الدين"، أي اطلبها حتى تفوز بها، وتكون محصّلًا بها غاية المطلوب، وفي حديث جابر رضي الله عنه:"فعليك بذات الدين".
قال في "الفتح": والمعنى: أن اللائق بذي الدين والمروءة أن يكون الدين مطمح نظره في كلّ شيء، لا سيّما فيما تطول صحبته، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم بتحصيل صاحبة الدين الذي هو غاية البغية.
وقد وقع في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عند ابن ماجه، رفعه:"لا تَزَوَّجوا النساء لحسنهنّ، فعسى حسنهنّ أن يُرديهنّ - أي يهلكهن - ولا تَزَوّجوهنّ لأموالهنّ، فعسى أموالهنّ أن تُطغيهنّ، ولكن تزوّجوهنّ على الدين، ولأمة خَرماء سوداء ذات دين أفضل"
(2)
. انتهى
(3)
.
(تَرِبَتْ يَدَاكَ") من باب تَعِبَ: أي افتقرتا، كأنهما لصقتا بالتراب، وقال في "الفتح": أي لصقتا بالتراب، وهي كناية عن الفقر، وهو خبر بمعنى الدعاء، لكن لا يراد به حقيقته، وبهذا جزم صاحب "العمدة"، زاد
(1)
"الفتح" 11/ 364 - 365.
(2)
لكن الحديث في إسناده عبد الرحمن بن زياد الإفريقيّ، وقد ضعّفه الأكثرون، ووثقه أحمد بن صالح المصريّ وغيره، ويشهد لحديثه هذا حديث الباب، فالظاهر أن الحديث لا ينزل عن درجة الحسن، فتأمل، والله تعالى أعلم.
(3)
"الفتح" 11/ 365.
غيره أنّ صدور ذلك من النبيّ صلى الله عليه وسلم في حقّ مسلم لا يُستجاب؛ لشرطه ذلك على ربّه.
وحكى ابن العربيّ أن معناه: استغنت، ورُدّ بأن المعروف أترب إذا استغنى، وتَرِب إذا افتقر، ووجّه بأن الغنى الناشئ عن المال تراب؛ لأن جميع ما في الدنيا تُراب، ولا يخفى بُعْده.
وقيل: معناه ضَعُف عقلك، وقيل: افتقرت من العلم، وقيل: فيه تقدير شرط: أي وقع لك ذلك إن لم تفعل، ورجّحه ابن العربيّ، وقيل: معنى افتقرت خابت.
وصحّفه بعضهم، فقال: بالثاء المثلّثة، ووجّهه بأن معنى ثَرَبَتْ: تفرّقت، وهو مثل حديث:"نُهي عن الصلاة إذا صارت الشمس كالأثارب". وهو جمع ثُرُوب، وأَثْرُب، مثل فُلُوس، وأفلُس، وهي جمع ثَرْب - بفتح أوّله، وسكون الراء - وهو الشحم الرقيق المتفرّق الذي يَغشَى الكرش. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 3635](1466)، و (البخاريّ) في "النكاح"(509)، و (أبو داود) في "النكاح"(2047)، و (النسائيّ) في "النكاح"(6/ 68)، وفي "الكبرى"(5337)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1858)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 304)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 428)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 133 - 134)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(1/ 167)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4036)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 11)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 137)، و (الدارقطنيّ) في "سننه" (3/
(1)
"الفتح" 11/ 365.
302)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 79 - 80) و"الصغرى"(6/ 81)، و (الغويّ) في "شرح السنّة"(2240)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب نكاح ذوات الدين.
2 -
(ومنها): الحثّ على مصاحبة أهل الدين في كل شيء؛ لأن مصاحبهم يستفيد من أخلاقهم، وبركات أنفاسهم، وحسن طرائقهم، ويأمن المفسدة من جهتهم، قال الله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام:{قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)} [الكهف: 66]. وقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} الآية [الكهف: 28].
وفي "الصحيحين" من حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنما مثل الجليس الصالح، وجليس السوء، كحامل المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك، إما أن يَحْذِيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه رائحة طيّبة، ونافخ الكير إما أن يَحرِق ثوبك، وإما أن تجد منه ريحًا منتنة".
3 -
(ومنها): أن النسائيّ رحمه الله استنبط منه كراهية تزويج الزُّناة، ووجه الاستدلال به أن فيه الأمر بنكاح ذات الدين، والأمر بالشيء نَهْيٌ عن ضدّه، والزانية من أشرّ الأضداد لذات الدين، فيكون نكاحها منهيًّا عنه، فتأمّل، والله تعالى أعلم.
4 -
(ومنها): أنه لا ينبغي للإنسان أن يستدلّ بالكثرة على كون الشيء صوابًا، فيتأسّى بأكثر الناس، ففي هذا الحديث أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى أن ثلاثة أصناف من الناس مخطئون في اختيارهم لصفات الزوجيّة، وأن صنفًا واحدًا هو المصيب.
وقد نبّه الله عز وجل على ذلك بقوله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ} الآية [الأنعام: 116].
5 -
(ومنها): أنه ينبغي للإنسان أن ينظر في عواقب الأمور، ومستقبلها، لا في عاجلها، فإن الزوجة الصالحة في دينها هي التي تكون بها السعادة في المستقبل، فإنها تحفظه في نفسها، وتحفظه في بيته، وتحفظه في ماله، وتقوم بتربية أولاده، وهي القرين الصالح النافع في الدنيا والآخرة، بخلاف ذات الجمال، والمال، والحسب، فإن السعادة بها قاصرة، غير مستمرّة، بل كثيرًا ما يكون ذلك لها غرورًا، يرديها، ويُردي من تعلّق بها.
6 -
(ومنها): أنه لا يَحْرُم على الشخص أن يرغب في نكاح ذات الحسب، والجمال، والمال، وإنما يعاب عليه إهمال أهمّ الصفات، وهو الدين.
7 -
(ومنها): أن الإتيان بالكلمات التي ظاهرها الدعاء، أو مدلولها الذمّ، والتقبيح مما جاء على ألسنة العرب، أو على ألسنة الناس، لا يوقع في الإثم، إذا لم يقصد حقيقتها، وإنما استعملها على ما جرت به العادة، مثل:"تربت يداك"، و"ثكلتك أمك"، و"ويل أمه"، ونحو ذلك، والله تعالى أعلم.
8 -
(ومنها): أنّ المهلّب قال: في هذا الحديث دليل على أن للزوج الاستمتاع بمال الزوجة، فإن طابت نفسها بذلك حلّ له، وإلا فله من ذلك ما بذل لها من الصداق.
وتُعُقّب بأن هذا التفصيل ليس في الحديث، ولم ينحصر مقصود نكاح المرأة لأجل ما لها في استمتاع الزوج، بل قد يُقصد تزويج ذات الغنى لما عساه يحصل له منها ولدٌ، فيعود إليه ذلك المال بطريق الإرث، إن وقع، أو لكونها تستغني بمالها عن كثرة مطالبته بما يحتاج إليه النساء، ونحو ذلك.
قال الحافظ: وأعجب منه استدلال بعض المالكيّة به على أن للرجل أن يحجُر على امرأته في مالها، قال: لأنه إنما تزوّج لأجل المال، فليس لها
تفويته عليه، ولا يخفى وجه الرّدّ. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[3636]
(715)
(2)
- (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ، أَخْبَرَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَقِيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"يَا جَابِرُ تَزَوَّجْتَ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: "بِكْرٌ
(3)
، أَمْ ثَيِّبٌ؟ " قُلْتُ: ثَيِّبٌ، قَالَ:"فَهَلَّا بِكْرًا تُلَاعِبُهَا؟ "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لي أَخَوَاتٍ، فَخَشِيتُ أَنْ تَدْخُلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُنَّ، قَالَ:"فَذَاكَ إِذَنْ، إِنَّ الْمَرْأَةَ تُنْكَحُ عَلَى دِينِهَا، وَمَالِهَا، وَجَمَالِهَا، فَعَلَيْكَ بذَاتِ الدِّينِ، تَرِبَتْ يَدَاكَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
2 -
(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنّيّ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
3 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ) ميسرة الْعَرْزَميّ الكوفيّ، ثقةٌ [5](ت 145)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.
4 -
(عَطَاءُ) بن أبي رَبَاح، تقدّم قبل حديث.
5 -
(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حرام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بالمدينة بعد السبعين، وهو ابن (94) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
(1)
"الفتح" 11/ 365 - 366.
(2)
هذا مكرّر تقدّم بالرقم المذكور، فتنبّه.
(3)
وفي نسخة: "أبكر، أم ثيّب؟ ".
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أنهم ما بين مدنيّ، وهو جابر، ومكيّ، وهو عطاء، وكوفيين، وهم الباقون.
4 -
(ومنها): أن فيه جابرًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَطَاءِ) بن أبي رباح، أنه قال:(أَخْبَرَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً) امرأة اسمها - كما قال ابن سعد - سهلة بنت مسعود بن أوس بن مالك الأنصاريّة الأوسيّة (فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَقِيتُ) بكسر القاف، من باب فَرِح يَفْرَحُ (النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "يَا جَابِرُ تَزَوَّجْتَ؟ ") بتقدير همزة الاستفهام، أي: أتزوّجت؟ وفي رواية للنسائيّ: "يا جابر هل أصبت امرأةً بعدي. . ."، وفي رواية الشعبيّ، عن جابر الآتية: قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة، فلما أقبلنا تعجلت على بعير لي قَطُوف، فلحقني راكب خلفي، فنَخَسَ بعيري بعَنَزَة معه، فانطلق بعيري، كأجود ما أنت راء من الإبل، فالتفتّ، فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما يُعْجِلك يا جابر؟ "، قلت: يا رسول الله كنت حديث عَهْدٍ بعُرْس، فقال:"أبكرًا تزوجتها أم ثيبًا؟ "، قال: قلت: بل ثيبًا، قال:"فهلا جارية تلاعبها، وتلاعبك؟ "، قال: فلما قدمنا المدينة ذهبنا لندخل، فقال:"أَمْهِلوا حتى تدخلوا ليلًا" - أي عشاء - "كي تمتشط الشَّعِثَة، وتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبة - قال: وقال -: إذا قَدِمتَ، فالكيس الكيس".
(قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: "بِكْرٌ، أَمْ ثَيِّبٌ؟) وفي بعض النسخ: "أبكرٌ، أم ثيّبٌ؟ "، وهو خبر لمحذوف، أي أهي بكرٌ. . . إلخ.
و"البكر": خلاف الثيّب، رجلًا كان أو امرأةً، وهو الذي لم يتزوّج، وجمعه أبكار، مثلُ حِمْلٍ وأحمال.
و"الثيّب": المتزوّج، فَيعِلٌ، اسم فاعل من ثاب: إذا رجع، ومنه قيل للمكان الذي يَرجع إليه الناس: مَثَابةٌ، وقيل للإنسان إذا تزوّج: ثَيّبٌ، وإطلاقه على المرأة أكثر؛ لأنها ترجع إلى أهلها بوجه غير الأول، ويستوي في الثّيّب الذكر والأنثى، كما يقال: أَيّمٌ، وبِكْرٌ، وجمع المذكّر ثَيّبون بالواو والنون، وجمع المؤنّث ثَيّبات، والمولّدون يقولون: ثُيَّبٌ، وهو غير مسموع، وأيضًا فَفَيعِلٌ لا يُجمع على فُعَّلٍ، أفاده الفيّوميّ
(1)
.
وقال وليّ الدين العراقيّ: البكر هي الجارية الباقية على حالتها الأولى، والثيّب المرأة التي دخل بها الزوج، وكأنها ثابت إلى حال كبار النساء غالبًا. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: سؤال النبيّ صلى الله عليه وسلم لجابر عن تزوّجه لم يقع عقب الزواج، بل كان بعد مدّة؛ لأن زواجه كان بالمدينة بعد أن استُشْهِد أبوه بأُحُدٍ، والسؤال وقع في الرجوع من الغزوة، وقد رجّح في "الفتح" أن تلك الغزوة هي ذات الرِّقَاع، وكانت بعد أُحُد بسنة على الصحيح، وقيل: هي تبوك.
(قُلْتُ: ثَيِّبٌ) خبر لمحذوف، أي هي ثيّبٌ (قَالَ: "فَهَلَّا) - بفتح الهاء، وتشديد اللام - أداة تحضيض، ولا يليها إلا الفعل غالبًا، نحو هَلّا أكرمتَ زيدًا، وقد يليها اسم معمول لفعل محذوف، كقول الشاعر [من الكامل]:
هَلَّا التَّقَدُّمُ وَالْقَلُوبُ صِحَاحُ
أي هلّا وُجِد التقدّم، وكقوله هنا (بِكْرًا تُلَاعِبُهَا؟ ") أي هلّا تزوّجتَ بكرًا، وفي رواية عمرو ابن دينار الآتية:"فهلّا جاريةً"، وقوله (تُلَاعِبُهَا) وفي رواية عمرو الآتية:"تلاعبها، وَتُلَاعِبُكَ، وتضاحكها، وتضاحكك"، وهو من الملاعبة، تعليلٌ للترغيب في البكر، سواء كانت الجملة مستأنفةً، كما هو الظاهر، أو صفة لـ "بكر"، أي ليكون بينكما كمال التألّف والتأنّس؛ فإن الثيّب قد تكون متعلّقة القلب بالسابق.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 87.
(2)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 10.
وقوله: "وتضاحكها، وتضاحكك" مما يؤيّد أن "تلاعبها" من اللعب، ووقع عند الطبرانيّ من حديث كعب بن عُجرة رضي الله عنه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لرجل. . ." فذكر نحو حديث جابر رضي الله عنه، وقال فيه:"وتَعَضّها، وتعضّك"، وفي رواية:"تداعبها وتداعبك" بالدال المهملة بدل اللام، من المداعبة، وهو المزح، ووقع في رواية لأبي عُبيدة:"تُذاعبها، وتُذاعبك" - بالذال المعجمة بدل اللام.
ووقع في رواية محارب المتقدّمة بلفظ: "ما لك وللعَذَارَى ولِعَابها"، وهو بكسر اللام، بمعنى الملاعبة، وسيأتي تمام البحث فيه في الحديث التالي.
(قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي أَخَوَاتٍ) قال في "الفتح": لم يُعرَف أسماء أخوات جابر رضي الله عنه (فَخَشِيتُ) بكسر الشين المعجمة، من باب رَضِي يَرْضَى (أَنْ تَدْخُلَ) بفتح أوله، وضمّ ثالثه، من الدخول، ويَحْتَمِل أن يكون بضمّ أوله، وكسر ثالثه، من الإدخال (بَيْنِي وَبَيْنَهُنَّ) أي تثير بيني وبينهنّ العداوة والبغضاء (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَذَاكَ) مبتدأ، خبره محذوف، أي فذاك حسنٌ، أو أفضل، وقوله:(إِذَنْ) هي "إذا" الشرطيّة، وتنوينها تنوين عوض عن المضاف إليه، وجوابها محذوف، يدلّ عليه ما تقدّم، أي إذا كان الأمر ما ذكرته، فذاك حسنٌ، أي فما عملته حسنٌ.
وفي رواية وهب بن كيسان، عن جابر رضي الله عنه الآتية:"قلت: إنّ لي أخوات، فأحببتُ أن أتزوّج امرأةً تجمعهنّ، وتَمشُطُهنّ، وتقوم عليهنّ"، أي وتقوم في غير ذلك من مصالحهنّ، وهو من العامّ بعد الخاصّ، وفي رواية عمرو بن دينار:"إن عبد الله هلك، وترك تسع بنات - أو سبع - وإني كرهتُ أن آتيهنّ، أو أجيئهنّ بمثلهنّ، فأحببتُ أن أجيء بامرأة تقوم عليهنّ، وتُصلحهنّ، قال: فبارك الله لك"، أو: قال خيرًا.
وفي رواية للبخاريّ في "المغازي": "وترك تسع بنات، كنّ لي تسع أخوات، فكرهتُ أن أجمع إليهنّ جاريةً خرقاء مثلهنّ، ولكن امرأة تقوم
عليهنّ، وتمشُطهنّ، قال: أصبت"، وفي رواية: "فأردتُ أن أنكح امرأةً قد جرّبت خلا منها، قال: فذاك"
(1)
.
قال الحافظ وليّ رحمه الله: هذه الرواية التي فيها الجزم بأن أخواته كنّ تسعًا مقدّمة على رواية حماد بن زيد التي فيها التردّد بين التسع والسبع، فإن من حفظ حجة على من لم يحفظ. انتهى
(2)
.
(إِنَّ الْمَرْأةَ تُنْكَحُ عَلَى دِينِهَا، وَمَالِهَا، وَجَمَالِهَا، فَعَلَيْكَ بِذَاتِ الدِّينِ، تَرِبَتْ يَدَاكَ")، هذه الْجُمَل تقدّم شرحها في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 3636 و 3637 و 3638 و 3639 و 3640 و 3641 و 3642](715)
(3)
، و (البخاريّ) في "البيوع"(2097) و"الوكالة"(2309) و "المغازي"(4052) و"النكاح"(5079 و 5080 و 4245 و 5247) و"النفقات"(5367) و"الدعوات"(6387)، و (أبو داود) في "النكاح"(2048)، و (الترمذيّ) في "النكاح"(1100)، و (النسائيّ) في "النكاح"(3220 و 3221 و 3226) وفي "الكبرى"(5327 و 5328 و 5336)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1860)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 237)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 308 و 314)، و (الدارميّ)"في سننه"(2216)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(1/ 168)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(19/ 149)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 334)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(14/ 448)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 11)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 140)، و (أبو يعلى) في
(1)
راجع: "الفتح" 11/ 344 - 345.
(2)
"طرح التثريب" 7/ 12.
(3)
هذا مكرر حسب ترقيم محمد فؤاد.
"مسنده"(3/ 413)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 415)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 351)، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب نكاح الأبكار؛ لكونه صلى الله عليه وسلم حضّ على ذلك، وقد ورد بأصرح من ذلك عند ابن ماجه من طريق عبد الرحمن بن سالم بن عتبة بن عُوَيم بن ساعدة، عن أبيه، عن جدّه بلفظ: "عليكم بالأبكار، فإنهنّ أعذب أفواهًا، وأنتق أرحامًا
(1)
"، أي أكثر حركةً، والنتق - بنون، ومثناة -: الحركة، ويقال أيضًا للرمي، فلعلّه يريد أنها كثيرة الأولاد.
وأخرج الطبراني في "المعجم الكبير" من حديث ابن مسعود رضي الله عنه نحوه، وزاد:"وأرضى باليسير".
ولا يعارضه حديث: "عليكم بالولود" من جهة أن كونها بكرًا لا يُعرف به كونها كثيرة الولادة، فإن الجواب عن ذلك أن البكر مظنّة، فيكون المراد بالولود من هي كثيرة الولادة بالتجربة، أو بالمظنّة، وأمّا مَا جُرّبت، فظهرت عقيمًا، وكذا الآيسة، فالخبران متّفقان على مرجوحيّتهما.
2 -
(ومنها): أن فيه فضيلةً لجابر رضي الله عنه؛ لشفقته على أخواته، وإيثاره مصلحتهنّ على حظّ نفسه.
3 -
(ومنها): أنه إذا تزاحمت مصلحتان قُدّم أهمّهما؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم صوّب فعل جابر رضي الله عنه، ودعا له لأجل ذلك.
4 -
(ومنها): أنه يؤخذ منه الدعاء لمن فعل خيرًا، وإن لم يتعلّق بالداعي.
5 -
(ومنها): أن فيه سؤالَ الإمام أصحابَهُ عن أمورهم، وتفقّده أحوالهم، وإرشاده إلى مصالحهم، وتنبيههم على وجه المصلحة، ولو كان في باب النكاح، وفيما يُستحيا من ذكره.
(1)
حديث حسنٌ.
6 -
(ومنها): أن فيه مشروعيّة. خدمة المرأة زوجها، ومن كان منه بسبيل، من ولد، وأخ، وعائلة، وأنه لا حرج على الرجل في قصده ذلك من امرأته، وإن كان ذلك لا يجب عليها، لكن يؤخذ منه أن العادة جارية بذلك، فلذلك لم ينكره النبيّ صلى الله عليه وسلم، هكذا قال في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في قوله: "وإن كان ذلك لا يجب عليها" نظرٌ لا يخفى، ومن أيّ دليل استنبط هذا؟، والله سبحانه وتعالى يقول:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} الآية [البقرة: 228]، فأوجب الله على النساء مثل ما أوجب لهنّ على الرجال مما جرى العرف به، وقد جرى العرف بأن الزوجة تخدم زوجها، وتقوم على بيته، وأولاده، فالحقّ أن خدمة الزوجة لزوجها، وقيامها بمهمات بيته مما أوجبه الشرع الشريف.
وقد عقد الإمام ابن قيّم الجوزيّة رحمه الله في كتابه النافع "زاد المعاد في هدي خير العباد" فصلًا مفيدًا جدًّا، أحببت إيراده لأهميّته، ونفاسته، قال رحمه الله:
[فصل]: في حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم في خدمة المرأة لزوجها:
قال ابن حبيب في "الواضحة": حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم بين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وبين زوجته فاطمة حين اشتكيا إليه الخدمة، فحكم على فاطمة بالخدمة الباطنة، خدمةِ البيت، وحكم على عليّ بالخدمة الظاهرة، ثم قال ابن حبيب: والخدمة الباطنة: العَجْن، والطَّبْخ، والفَرْش، وكَنْسُ البيت، واستقاء الماء، وعمل البيت كلّه.
وفي "الصحيحين": أن فاطمة رضي الله عنها أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، تشكو إليه ما تلقى في يديها من الرَّحَى، وتسأله خادمًا، فلم تجده، فذكرت ذلك لعائشة رضي الله عنها، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته، قال عليّ: فجاءنا، وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبنا نقومُ، فقال:"مكانكما"، فجاء، فقعد بيننا، حتى وجدت برد قدميه على بطني، فقال: "ألا أدلّكما على ما هو خيرٌ لكما مما سألتما، إذا أخذتما مضاجعكما،
(1)
11/ 345.
فسبّحا الله ثلاثًا وثلاثين، واحمَدَا ثلاثًا وثلاثين، وكبّرا أربعًا وثلاثين، فهو خيرٌ لكما من خادم"، قال عليّ: فما تركتها بعدُ، قيل: ولا ليلة صفّين؟ قال: ولا ليلة صفّين.
وصحّ عن أسماء أنها قالت: كنت أخدُم الزبير خدمة البيت كلّه، وكان له فرَسٌ، وكنت أسوسه، وكنت أحتشّ له، وأقوم عليه
(1)
، وصحّ عنها أنها كانت تعلف فرسه، وتسقي الماء، وتخرز الدلو، وتعجِن، وتنقُل النوى على رأسها من أرض له على ثُلثي فرسخ
(2)
.
فاختلف الفقهاء في ذلك، فأوجب طائفة من السلف والخلف خدمتها له في مصالح البيت. وقال أبو ثور: عليها أن تخدُم زوجها في كلّ شيء.
ومنعت طائفة وجوب خدمته عليها في شيء، وممن ذهب إلى ذلك مالكٌ، والشافعيّ، وأبو حنيفة، وأهل الظاهر، قالوا: لأن عقد النكاح إنما اقتضى الاستمتاع، لا الاستخدام، وبذل المنافع، قالوا: والأحاديث المذكورة إنما تدلّ على التطوّع، ومكارم الأخلاق، فأين الوجوب منها؟.
واحتجّ من أوجب الخدمة بأن هذا هو المعروف عند من خاطبهم الله عز وجل بكلامه، وأما ترفيهُ المرأة، وخدمة الزوج، وكنسه، وطحنه، وعَجْنه، وغسيله، وفرشه، وقيامه بخدمة البيت، فمن المنكر، والله تعالى يقول:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]، وقال:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} الآية [النساء: 34]، وإذا لم تخدمه المرأة، بل يكون هو الخادم لها، فهي القوّامة عليه.
وأيضًا فإن المهر في مقابلة البضع، وكلٌّ من الزوجين يقضي وطره من صاحبه، فإنما أوجب الله عز وجل نفقتها، وكسوتها، ومسكنها في مقابلة استمتاعه بها وخدمتها، وما جرت به عادة الأزواج.
(1)
أخرجه أحمد في "مسنده" 6/ 352 بإسناد صحيح.
(2)
أخرجه أحمد أيضًا في "مسنده" 6/ 347 بإسناد صحيح.
وأيضًا فان العقود المطلقة إنما تُنزّل على العرف، والعرف خدمة المرأة، وقيامها بمصالح البيت الداخلة.
وقولهم: إن خدمة فاطمة وأسماء كانت تبرّعًا وإحسانًا يردّه أن فاطمة كانت تشتكي ما تلقى من الخدمة، فلم يقل لعليّ: لا خدمة عليها، وإنما هي عليك، وهو صلى الله عليه وسلم لا يُحابي في الحكم أحدًا؛ ولَمّا رأى أسماء، والعلَف على رأسها، والزبير معه، لم يقل له: لا خدمة عليها، وأن هذا ظلم لها، بل أقرّه على استخدامها، وأقرّ سائر أصحابه على استخدام أزواجهم، مع علمه بأنّ منهنّ الكارهةَ والراضيةَ، هذا أمر لا ريب فيه، ولا يصحّ التفريق بين شريفة، ودنيئة، وفقيرة، وغنيّة، فهذه أشرف نساء العالمين كانت تخدم زوجها، وجاءته صلى الله عليه وسلم تشكو إليه الخدمة، فلم يُشْكِها، وقد سمّى النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المرأة عانيةً، فقال:"اتقوا الله في النساء، فإنهنّ عَوَانٍ عندكم"، والعاني الأسير، ومرتبة الأسير خدمة من هو تحت يده، ولا ريب أن النكاح نوعٌ من الرقّ، كما قال بعض السلف: النكاح رقّ، فلينظر أحدكم عند من يُرقّ كريمته، ولا يخفى على المنصف الراجحُ من المذهبين، والأقوى من الدليلين. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي ذكره ابن القيّم رحمه الله تحقيق نفيسٌ جدًّا، فقد ظهر لنا به، وتبيّن، واتضح أن المذهب الأول، وهو وجوب خدمة المرأة زوجها هو الراجح؛ لقوة دليله؛ لأنه المعروف في ذلك الوقت الذي نزل فيه قوله تعالى:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} الآية [البقرة: 228]، فأوجب الله عليها أن تلتزم بما هو معروف عند الناس، وقد طبّق نساء العصر الأول من الصحابيات، وغيرهن على أنفسهنّ ما طُلب منهن في الآية الكريمة، كما تقدم آنفًا في قصّة فاطمة، وأسماء رضي الله عنهما، فتأمله بالإنصاف، واخلع عنك ربقة التقليد، فإنه حجة البليد، وملجأ العنيد، والله تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب.
(1)
"زاد المعاد في هدي خير العباد" 5/ 186 - 189.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[3637]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَارِبٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأةً فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ تَزَوَّجْتَ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ:، أَبِكْرًا، أَمْ ثَيِّبًا؟ " قُلْتُ: ثَيِّبًا، قَالَ: "فَأَيْنَ أَنْتَ مِنَ الْعَذَارَى، وَلِعَابِهَا؟ "، قَالَ شُعْبَةُ: فَذَكَرْتُهُ لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، فَقَالَ: قَدْ سَمِعْتَهُ مِنْ جَابِرٍ، وَإِنَّمَا قَالَ: "فَهَلَّا جَارِيةً، تُلَاعِبُهَا، وَتُلَاعِبُكَ؟ ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) العنبريّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاد الْعَنبريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجاج، الإمام الشهير، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(مُحَارِبُ) بن دِثَار السَّدُوسيّ الكوفيّ القاضي، ثقةٌ إمامٌ زاهدٌ [4](ت 116)(ع) تقدم في "الصلاة" 40/ 1069.
و"جابرٌ" رضي الله عنه ذُكر قبله.
وقوله: ("فَأَيْنَ أَنْتَ مِنَ الْعَذَارَى) بفتح الراء، وكسرها: جمع عَذْراء، وزانُ حمراء: أي ذات عُذْرة، كما قال في "الخلاصة":
وَبِالْفَعَالِي وَالْفَعَالَى جُمِعَا
…
صَحْرَاءُ وَالْعَذْرَاءُ وَالْقَيْسَ اتْبَعَا
وعُذْرة الجارية بَكارتها، والجمع عُذَرٌ، مثلُ غُرْفة وغُرَف، ويقال: عَذَرتُ الغلامَ والجاريةَ عَذْرًا، من باب ضَرَبَ: ختنته، فهو معذورٌ، وأعذرته بالألف لغة. أفاده الفيّوميّ
(1)
.
وقوله: (وَلعَابِهَا؟ ") قال النوويّ رحمه الله: هو بكسر اللام، ووقع لبعض رواة البخاريّ بضمها، قال القاضي عياض: وأما الرواية في كتاب مسلم فبالكسر لا غير، وهو من الملاعبة، مصدر لاعب ملاعبةً، كقاتل مقاتلة، قال: وقد حَمَل
(1)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 399.
جمهور المتكلمين في شرح هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "تلاعبها" على اللعب المعروف، ويؤيِّده:"تضاحكها، وتضاحكك"، وقال بعضهم: يَحْتَمِل أن يكون من اللِّعَاب، وهو الريق. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": وأما ما وقع في رواية محارب بلفظ: "ما لك وللعَذَارَى ولِعَابها"، فقد ضبطه الأكثر بكسر اللام، وهو مصدر من الملاعبة أيضًا، يقال: لاعب لِعابًا وملاعبة، مثل: قاتل قتالًا ومقاتلةً، كما قال في "الخلاصة":
لِفَاعَلَ الْفِعَالُ وَالْمُفَاعَلَهْ
ووقع عند البخاريّ في رواية المستملي بضمّ اللام، والمراد به الريق، وفيه إشارةٌ إلى مصّ لسانها، ورَشف شفتيها، وذلك يقع عند الملاعبة والتقبيل، وليس هو ببعيد، كما قال القرطبيّ
(2)
.
ويؤيّد أنه بمعنى آخر غير المعنى الأول قول شعبة: إنه عرَضَ ذلك على عمرو بن دينار، فقال اللفظ الموافق للجماعة.
وفي رواية لمسلم التلويح بإنكار عمرو رواية مُحارب بهذا اللفظ، ولفظه:"إنما قال جابرٌ: تلاعبها وتلاعبك"، فلو كانت الروايتان متّحدتين في المعنى لَمَا أنكر عمرو ذلك؛ لأنه كان ممن يُجيز الرواية بالمعنى، أفاده في "الفتح"
(3)
.
وقوله: (قَالَ شُعْبَةُ: فَذَكَرْتُهُ لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، فَقَالَ. . . إلخ) معناه أن شعبة عرَضَ ما حدّثه محارب بن دِثَار عن جابر رضي الله عنه، فانكر قوله:"فأين أنت من العذارى، ولعابها؟ "، وقال: أنا سمعت الحديث من جابر، فلم
(1)
"شرح النوويّ" 10/ 52 - 53.
(2)
أي كما ادّعى القرطبيّ كونه بعيدًا، وعبارته في "المفهم" (4/ 215): وقد رواه أبو ذرّ من طريق المستملي: "لُعابها" بالضمّ، يعني به ريقها عند التقبيل، وفيه بُعْدٌ، والصواب الأول. انتهى.
(3)
راجع: "الفتح" 11/ 344.
يقل هذا، وإنما قال:"فهلّا جاريةً تلاعبها، وتلاعبك"، والظاهر - كما سبق عن "الفتح" - أنه إنما سأله بلفظ "لُعابها" بضم اللام، وهو الريق، فأنكر ذلك؛ لأنه مخالف لما رواه معنًى؛ إذ هو من الملاعبة، وهي المداعبة، لا من اللُّعاب، بمعنى الريق، لكن يَحْتَمل تصحيحه؛ إذ ملاعبة الرجل، وتقبيله لامرأته يؤدّي إلى ذلك، ففيه إشارة إلى مصّ لسانها، ورشف شفتيها، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[3638]
(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ هَلَكَ، وَتَرَكَ تِسْعَ بَنَاتٍ، أَوْ قَالَ: سَبْعَ
(1)
، فَتَزَوَّجْتُ امْرَأةً ثَيِّبًا، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"يَا جَابِرُ تَزَوَّجْتَ؟ " قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ:"فَبِكْرٌ أَمْ ثَيِّبٌّ؟ " قَالَ: قُلْتُ: بَلْ ثَيِّبٌ، يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:"فَهَلَّا جَارِيَةً، تُلَاعِبُهَا، وَتُلَاعِبُكَ؟ - أَوْ قَالَ -: تُضَاحِكُهَا، وَتُضَاحِكُكَ؟ "، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: إِنَّ عَبْدَ اللهِ هَلَكَ، وَتَرَكَ تِسْعَ بَنَاتٍ، أَوْ سَبْعَ
(2)
، وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ آتِيَهُنَّ، أَوْ أَجِيئَهُنَّ بِمِثْلِهِنَّ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَجِيءَ بِامْرَأَةٍ، تَقُومُ عَلَيْهِنَّ، وَتُصْلِحُهُنَّ، قَالَ:"فَبَارَكَ اللهُ لَكَ"، أَوْ: قَالَ لِي خَيْرًا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الرَّبِيعِ:"تُلَاعِبُهَا، وَتُلَاعِبُكَ، وَتُضَاحِكُهَا وَتُضَاحِكُكَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم قبل باب.
(1)
وفي نسخة: "سبع بنات".
(2)
وفي نسخة: "أو سبعًا".
2 -
(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ) سليمان بن الربيع الْعَتكيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.
3 -
(حَمَّادُ بْنُ زَيْدِ) بن درهم الجهضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [8](ت 179)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
4 -
(عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ) الأثرم الْجُمَحيّ، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.
و"جابر" رضي الله عنه ذُكر قبله.
وقوله: ("فَبِكْرٌ أَمْ ثَيِّبٌ؟ ") بالرفع خبر لمحذوف، أي: أهي بكر، أم ثيبٌ؟.
وقوله: (أَوْ قَالَ -: تُضَاحِكُهَا، وَتُضَاحِكُكَ؟)"أو" هنا للشكّ من الراوي.
وقوله: (وَتَرَكَ تِسْعَ بَنَاتٍ، أَوْ سَبْعَ) هكذا في رواية حمَّاد بن زيد، عن عمرو بالشكّ، وفي رواية ابن عيينة، عن عمرو التي أحالها المصنّف بعد هذا على رواية حمّاد، وسنسوقها من رواية البخاريّ:"تسع بنات" بالجزم، قال وليّ الدين رحمه الله: هذه الرواية التي فيها الجزم بأن أخواته كُنّ تسعًا مقدّمة على رواية حمّاد بن زيد التي فيها التردد بين التسع والسبع، فإن من حَفِظَ حجة على من لم يحفظ. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "تسع بنات"، في رواية الشعبيّ:"ست بنات"، فكأن ثلاثًا منهنّ كنّ متزوجات، أو بالعكس. انتهى
(2)
.
وقوله: (أَوْ سَبْعَ) هكذا بغير تنوين، لتقدير المضاف إليه، أي سبع بنات، وفي نسخة:"أو سبعًا" بالتنوين.
وقوله: (أَوْ أَجِيئَهُنَّ)"أو" للشك من الراوي.
(1)
"طرح التثريب" 7/ 12.
(2)
"الفتح" 9/ 128.
وقوله: (تَقُومُ عَلَيْهِنَّ) أي تقوم بمصالحهنّ، فيكون عطف قوله:"وَتُصْلِحُهُنَّ" عليه من عطف التفسير، والإيضاح لمعنى قيامهنّ.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[3639]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ نَكَحْتَ يَا جَابِرُ؟ "، وَسَاقَ الْحَدِيثَ إِلَى قَوْلِهِ: امْرَأَةً تَقُومُ عَلَيْهِنَّ، وَتَمْشُطُهُنَّ، قَالَ: "أَصَبْتَ"، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قريبًا.
2 -
(سُفْيَانُ) بن عُيينة، تقدَّم أيضًا قريبًا.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: هذا الإسناد من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (235) من رباعيّات الكتاب.
وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ) الفاعل ضمير سفيان بن عيينة.
وقوله: (وَتَمْشُطُهُنَّ) أي تُسَرّح شعرهنّ، وهو بفتح التاء، وضمّ الشين المعجمة، وكسرها، من بابي نصر، وضرب، قال الفيّوميّ رحمه الله: مَشَطتُ الشّعَرَ مَشْطًا، من بابي قَتَلَ، وضَرَبَ: سَرَّحته، والتثقيل مبالغةٌ. انتهى
(1)
.
وذكر "تمشُطهنّ" بعد "تقوم عليهنّ" من عطف الخاص على العامّ؛ لأن القيام أعمّ من المشط.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 574.
[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار هذه ساقها البخاريّ رحمه الله، فقال:
(3826)
- حدّثنا قُتَيْبَةُ، حدّثنا سُفْيَانُ، أخبرنا عَمْرٌو، عن جَابِرٍ، قال: قال لي رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هل نَكَحْتَ يا جَابِرُ؟ " قلت: نعم، قال:"مَاذَا، أَبِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟ " قلت: لَا، بَلْ ثَيِّبًا، قال:"فَهَلَّا جَارِيَة تُلَاعِبُكَ؟ " قلت: يا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبِي قُتِلَ يوم أُحُدٍ، وَتَرَكَ تِسْعَ بَنَاتٍ، كُنَّ لي تِسْعَ أَخَوَاتٍ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَجْمَعَ إِلَيْهِنَّ جَارِيَةً خَرْقَاءَ، مِثْلَهُنَّ، وَلَكِنْ امْرَأَةً تَمْشُطُهُنَّ، وَتَقُومُ عَلَيْهِنَّ، قال:"أَصَبْتَ". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[3640]
(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ سَيَّارٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَاةٍ، فَلَمَّا أَقْبَلْنَا تَعَجَّلْتُ عَلَى بَعِيرٍ لِي قَطُوفٍ، فَلَحِقَنِي رَاكِبٌ خَلْفِي، فَنَخَسَ بَعِيرِي بِعَنَزَةٍ، كَانَتْ مَعَهُ، فَانْطَلَقَ بَعِيرِي، كَأَجْوَدِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنَ الْإِبِلِ، فَالْتَفَتُّ، فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "مَا يُعْجِلُكَ يَا جَابِرُ؟ " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ، فَقَالَ: "أَبِكْرًا تَزَوَّجْتَهَا، أَمْ ثَيِّبًا؟ " قَالَ: قُلْتُ: بَلْ ثَيِّبًا، قَالَ: "هَلَّا جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا، وَتُلَاعِبُكَ؟ " قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ، فَقَالَ: "أَمْهِلُوا حَتَّى نَدْخُلَ لَيْلًا - أَيْ عِشَاءً - كَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ، وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ"، قَالَ: وَقَالَ: "إِذَا قَدِمْتَ، فَالْكَيْسَ، الْكَيْسَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(هُشَيْمُ) بن بشير الواسطيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(سَيَّارُ) بن أبي سيّار، واسم أبيه وَرْدان، أو ورد، وقيل غيره، أبو الحكم الْعَنَزيّ الواسطيّ، ويقال: البصريّ، ثقةٌ [6](ت 122)(ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.
3 -
(الشَّعْبِيُّ) عامر بن شَرَاحيل، أبو عمرو الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ فاضلٌ، مشهورٌ [3] مات بعد المائة، وله نحو من ثمانين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
والباقيان ذُكرا قبله.
شرح الحديث:
(عَنْ سَيَّارٍ) - بفتح المهملة، وتشديد التحتانية - وفي رواية البخاريّ، عن أبي النعمان، عن هشيم، قال: حدّثنا سيار، وله أيضًا: حدّثنا يعقوب الدَّوْرقيّ، حدّثنا هُشيم، أنبأنا سيّار (عَن الشَّعْبِيِّ) وفي رواية أبي عوانة من طريق شُرَيح بن النعمان، عن هُشيم، حدّثنا سيّار، حدّثنا الشعبيّ، ولأحمد من وجه آخر: سمعت الشعبي (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَاةٍ) - بفتح الغين المعجمة - بوزن حَصَاة: اسم من غَزَوتُ العدُوّ، قاله المرتضى
(1)
. (فَلَمَّا أَقْبَلْنَا) هكذا الرواية هنا "أقبلنا" من الإقبال، ووقع عند القرطبيّ "أقفلنا"، بالفاء، من الإقفال، قال القرطبيّ: كذا لابن ماهان، ووجه الكلام "قفلنا" ثلاثيًّا، يقال: قَفَل الجند من مبعثهم: أي رجعوا، وأقفلهم الأمير، وقَفَلهم أيضًا، وتَحْتَمِل الرواية أن تكون بفتح اللام: أي أقفلنا النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتَحْتَمِل أن تكون اللام ساكنةً، ويكون معناه: أقفل بعضنا بعضًا، ورواه ابن سفيان:"أقبلنا" بالباء المنقوطة بواحدة، من الإقبال. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
(تَعَجَّلْتُ عَلَى بَعِيرٍ لِي قَطُوفٍ) - بفتح القاف: أي بطيء المشي، قال الفيّوميّ رحمه الله: قَطَفَ الدّابّةُ يَقْطُفُ، من باب قَتَل، وهو قَطُوفٌ، مثلُ رَسُولٍ، قاله في "البارع"، والمصدر القِطَاف، مثلُ كتابٍ، وجمع الْقَطُوفُ قُطُفٌ، مثلُ رَسُولٍ ورُسُلٍ، قال الفارابيّ: الْقَطُوف من الدوابّ وغيرها: البطيء، وقال ابن
(1)
"تاج العروس من جواهر القاموس" 10/ 265.
(2)
"المفهم" 4/ 218.
القطّاع: قَطَفَ الدّابّةُ: أعجل سيره مع تقارب الْخَطْوِ. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: الْقَطُوف: هو البعير البطيء المشي المتقارب الخطو، قاله الخليل وغيره، قال الثعالبيّ: إذا كان الفرس يمشي وَثْبًا وثبًا، فهو قَطُوفٌ، فإذا كان يرفع يديه، ويقوم على رجليه، فهو شَبُوبٌ، فإن كان يلتوي برأسه حتى يكاد يسقط عنه راكبه، فهو قَمُوصٌ، فإذا كان مانعًا ظهره، فهو شَمُوسٌ. انتهى
(2)
.
(فَلَحِقَنِي رَاكِبٌ خَلْفِي، فَنَخَسَ) أي طعنه، يقال: نخستُ الدابّة نَخْسًا، من باب قتل: طعنتُهُ بعود، أو غيره، فهاج، والفاعل نَخّاسٌ، مبالغةٌ، ومنه قيل لدلّال الدابّة ونحوها: نَخّاسٌ
(3)
. (بَعِيرِي بِعَنَزَةٍ) بفتحات: هي عصًا، نحو نصف الرُّمْح، في أسفلها زُجٌّ، قاله النوويّ
(4)
، وقال الفيّوميّ رحمه الله: الْعَنَزَة: عصًا أقصر من الرُّمْح، ولها زُجٌّ من أسفلها، والجمع: عَنَزٌ، وعَنَزَاتٌ، مثلُ قَصَبَةٍ، وقَصَبٍ، وقَصَبَاتٍ. انتهى
(5)
.
وقال في "المفهم": الْعَنَزة: عصًا مثل نصف الرمح، أو أكثر، وفيها زُجّ، قاله أبو عبيد، قال الثعالبيّ: فإن طالت شيئًا، فهي النَّيْزَك، والمِطْرَدُ، فإذا زاد طولها، وفيها سِنَانٌ عَرِيضٌ، فهي أَلّةٌ، وحَرْبةٌ. انتهى
(6)
.
(كَانَتْ مَعَهُ، فَانْطَلَقَ بَعِيرِي، كَأَجْوَدِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنَ الْإِبِلِ) أي كأسرع بعير تراه من الإبل، وهذا فيه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأثر بركته (فَالْتَفَتُّ، فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)"إذا" هنا هي الْفُجائيّة، أي ففاجأني حضور رسول الله صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَا يُعْجِلُكَ يَا جَابِرُ؟ ")"ما" استفهاميّة، أي أيُّ شيء جعلك متعجّلًا؟ (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ) بضم العين، وسكون الراء: أي بزفاف امرأتي، قال الفيّوميّ: والعُرْسُ بالضمّ: الزِّفاف، ويُذكّر، ويؤنّثُ، فيقال: هو الْعُرْس، والجمع: أعراسٌ، مثلُ قُفْلٍ وأَقْفالٍ، وهي الْعُرْسُ، والجمع: عُرْسات، ومنهم من يقتصر على إيراد التأنيث، والْعُرْسُ
(1)
"المصباح المنير" 2/ 509.
(2)
"المفهم" 4/ 218 - 219.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 596.
(4)
"شرح النوويّ" 10/ 54.
(5)
"المصباح" 2/ 432.
(6)
"المفهم" 4/ 219.
أيضًا: طعام الزِّفاف، وهو مذكّرٌ؛ لأنه اسم للطعام. انتهى
(1)
. (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَبِكْرًا تَزَوَّجْتَهَا، أَمْ ثَيِّبًا؟ ") ونصب "بكرًا"، و"ثيّبًا" على الحال من المفعول (قَالَ) جابر رضي الله عنه (قُلْتُ: بَلْ) تزوّجتها (ثَيِّبًا) حال من مفعول العامل المقدّر (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("هَلَّا جَارِيةً تُلَاعِبُهَا، وَتُلَاعِبُكَ؟ " قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ) أي قارب قدومنا إليها (ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَمْهِلُوا) أي اتّئدوا، ولا تعجلوا (حَتَّى نَدْخُلَ لَيْلًا) ثم فسّر الراوي - ولم يتبيّن لي من هو؟ - المراد بالليل بقوله:(أَيْ عِشَاءً) أي وقت العشاء، وإنما فسّره بهذا؛ لأن الليل يُطلق على أوله، ونصّه، وآخره، فربّما توهّم متوهّم إطلاقه، فقيّده بأنه يريد أوله (كَيْ تَمْتَشِطَ) أي تُسرّح شعرها (الشَّعِثَةُ) بفتح، فكسر: أي المتغيّرة الحال والهيئة (وَتَسْتَحِدَّ) أي تستعمل الحديدة في شعر العانة، وهو إزالته بالموسى، قال النوويّ: والمراد ها هنا إزالته كيف كانت (الْمُغِيبَةُ") بضم الميم، وكسر الغين المعجمة، وإسكان الياء، أي التي غاب عنها زوجها، يقال: أغابت المرأة، فهي مُغيبة بالهاء: إذا غاب زوجها، وأشهدت: إذا حضر زوجها، فهي مُشْهِدٌ بغير هاء.
وفي هذا الحديث التنبيه على رعاية المصالح الجزئيّة في الأهل، والإرشاد إلى مكارم الأخلاق، والشفقة على المسلمين، والاحتراز من تتبّع العورات، وتحسين المعاشرة، واجتلاب دوام الصحبة، وذلك أن المرأة تكون في حالة غيبة زوجها على حالةِ بَذَاذة، وقلّة مبالاة بنفسها، وشعث، فلو قَدِم الزوج عليها، وهي في تلك الحال ربّما نَفَر منها، وزَهِدَ فيها، وهانت عليه، فنبّه صلى الله عليه وسلم على ما يزيل ذلك.
ولا يعارض قوله في هذا الحديث: "حتى ندخل ليلًا" نهيه صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر عن أن يَطرُق الرجل أهله، أي يأتيهم ليلًا؛ لأن ذلك إذا لَمْ يتقدّم إليهم خبره؛ لئلا يستغفلهم، ويرى منهم ما يكرهه، وقد جاء مبيّنًا في حديث أنس رضي الله عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يطرق أهله ليلًا، وكان يأتيهم غُدْوةً أو عشيّةً"، متّفقٌ عليه، وقد جاء في حديث النهي عن الطُّروق التنبيه على علّة أخرى، وهي أنه لا يطرقهم يتخوّنهم، ويطلب عَثَراتهم، وهو معنى آخرُ غير
(1)
"المصباح" 2/ 402.
الأول، وينبغي أيضًا: أن يجتنب الطروق لأجل ذلك، قاله القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
(قَالَ) جابر (وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِذَا قَدِمْتَ) بكسر الدال (فَالْكَيْسَ، الْكَيْسَ") أي الجماع، والمراد الحثّ على ابتغاء الولد.
وقال في "الفتح": "فالكيس الكيس" بالنصب فيهما على الإغراء، وقيل: على التحذير من ترك الجماع، قال الخطابيّ:"الكيسَ" هنا بمعنى الحذر، وقد يكون "الكيس" بمعنى الرِّفق، وحسن التأني، وقال ابن الأعرابيّ: الكيس العقل، كأنه جعل طلب الولد عقلًا، وقال غيره: أراد الحذر من العجز عن الجماع، فكأنه حَثّ على الجماع، وجزم ابن حبان في "صحيحه" بعد تخريج هذا الحديث بأن الكيس الجماع، قال الحافظ: ويؤيده قوله في رواية محمد بن إسحاق: "فإذا قَدِمتَ، فاعمل عملًا كَيْسًا"، وفيه: قال جابر: "فدخلنا حين أمسينا، فقلت للمرأة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أعمل عملًا كَيْسًا، قالت: سمعًا وطاعةً، فدونك، قال: فبِتّ معها، حتى أصبحت"، أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه"، قال عياض: فَسَّر البخاريّ وغيره الكيس بطلب الولد والنسل، وهو صحيحٌ، قال صاحب "الأفعال": كاس الرجلُ في عمله حَذِقَ، وكاس وَلَدَ ولدًا كيسًا، وقال الكسائيّ: كاس الرجلُ وُلد له ولدٌ كيس. انتهى.
وأصل الكيس العقل كما ذكر الخطابيّ، لكنه بمجرده ليس المراد هنا، والشاهد لكون الكيس يراد به العقل قول الشاعر [من البسيط]:
وَإِنَّمَا الشِّعْرُ لُبُّ الْمَرْءِ يَعْرِضُهُ
…
عَلَى الرِّجَالِ فَإِنْ كَيْسًا وَإِنْ حُمْقَا
فقابله بالْحُمْق، وهو ضد العقل، ومنه حديث:"الْكَيِّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والأحمق مَن أتبع نفسه هواها"
(2)
، وأما حديث:"كلُّ شيء بقدر، حتى العجزُ والكيس"
(3)
، فالمراد به الفطنة، ذكره في "الفتح"
(4)
.
(1)
"المفهم" 4/ 219 - 220.
(2)
أخرجه الترمذيّ برقم (2459) وهو ضعيف؛ لأن في إسناده سفيان بن وكيع، وأبا بكر بن أبي مريم، وهما ضعيفان.
(3)
أخرجه مسلم في "صحيحه" برقم (2655).
(4)
"الفتح" 11/ 704 "كتاب النكاح" رقم (5246).
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تخريجه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[3641]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، يَعْني ابْنَ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيَّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَاةٍ، فَأَبْطَأَ بِي جَمَلِي، فَأَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِي: "يَا جَابِرُ" قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: "مَا شَأْنُكَ؟ " قُلْتُ: أَبْطَأَ بِي جَمَلِي، وَأَعْيَا، فَتَخَلَّفْتُ، فَنَزَلَ، فَحَجَنَهُ بِمِحْجَنِهِ، ثُمَّ قَالَ: "ارْكَبْ"، فَرَكِبْتُ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَكُفُّهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "أَتَزَوَّجْتَ؟ " فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: "أَبِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟ " فَقُلْتُ: بَلْ ثَيِّبٌ، قَالَ: "فَهَلَّا جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا، وَتُلَاعِبُكَ؟ "، قُلْتُ: إِنَّ لِي أَخَوَاتٍ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَزَوَّجَ امْرَأَةً تَجْمَعُهُنَّ، وَتَمْشُطُهُنَّ، وَتَقُومُ عَلَيْهِنَّ، قَالَ: "أَمَا إِنَّكَ قَادِمٌ، فَإِذَا قَدِمْتَ، فَالْكَيْسَ، الْكَيْسَ"، ثُمَّ قَالَ: "أَتَبِيعُ جَمَلَكَ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ، فَاشْتَرَاهُ مِنِّي بِأُوقِيَّةٍ، ثُمَّ قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدِمْتُ بِالْغَدَاةِ، فَجِئْتُ الْمَسْجِدَ، فَوَجَدْتُهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: "الْآنَ حِينَ قَدِمْتَ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: "فَدَعْ جَمَلَكَ، وَادْخُلْ، فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ"، قَالَ: فَدَخَلْتُ، فَصَلَّيْتُ، ثُمَّ رَجَعْتُ، فَأَمَرَ بِلَالًا أَنْ يَزِنَ لِي أُوقِيَّةً، فَوَزَنَ لِي بِلَالٌ، فَأَرْجَحَ فِي الْمِيزَانِ، قَالَ: فَانْطَلَقْتُ، فَلَمَّا وَلَّيْتُ، قَالَ: "ادْعُ لِي جَابِرًا"، فَدُعِيتُ، فَقُلْتُ: الْآنَ يَرُدُّ عَلَيَّ الْجَمَلَ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ) أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْهُ، فَقَالَ:"خُذْ جَمَلَكَ، وَلَكَ ثَمَنُهُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ) البصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ) القُرشيّ مولاهم، أبو نعيم المدنيّ المعلّم، ثقةٌ، من كبار [4](ت 127)(ع) تقدم في "الحيض" 23/ 797.
والباقون ذُكروا في الباب، و"عُبَيْدُ اللهِ" هو: ابن عُمر الْعُمَريّ.
وقوله: (فِي غَزَاةٍ، فَأَبْطَأَ بِي جَمَلِي) أي تأخّر مسيره، قال الفرّاء: الجمل زوج الناقة، والجمع جِمَال، وأجمال، وجِمالات، وجمائل، ويُطلق عليه
البعير؛ لأن جابرًا قال في الحديث في رواية أبي داود: "بعته" يعني بعيره من النبيّ صلى الله عليه وسلم، واشترطت حُملانه إلى أهله، وقال في آخره:"تراني إنما ماكستك لأذهب بجملك؟ خذ جملك وثمنه، فهما لك"، وقال أهل اللغة: البعير: الجمل البازل، وقيل: الْجَذَع، وقد يكون للأنثى، ويجمع على أبعرة، وأباعر، وأباعير، وبِعران وبُعران، قاله في "العمدة"
(1)
.
وقوله: (وَأَعْيَا) أي عجز عن الذهاب إلى مقصده؛ لعِيِّه، وعجزه عن المشي، يقال: عَيِيت بأمري إذا لَمْ تهتد لوجهه، وأعياني هو، ويقال: أعيى فهو مُعْيي، ولا يقال: عيا، وأعياه الله، كلاهما بالألف يستعمل لازمًا ومتعديًا
(2)
.
(فَتَخَلَّفْتُ، فَنَزَلَ) أي نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن راحلته.
(فَحَجَنَهُ بِمِحْجَنِهِ) - بالحاء المهملة، والجيم، والنون، يقال: حجنت الشيء: إذا اجتذبته بالْمِحْجَن إلى نفسك، والْمِحْجن بكسر الميم: عصًا في رأسه اعوجاجٌ، يلتقط به الراكب ما سقط منه.
وقوله: (فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَكُفُّهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي لئلا يتقدّم على راحلته.
(ثُمَّ قَالَ: "أَتَبِيعُ جَمَلَكَ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ، فَاشْتَرَاهُ مِنِّي بِأُوقِيَّةٍ) هي أربعون درهمًا، وقد اختلفت الروايات في ثمن جمل جابر هذا، وفي اشتراطه ظهره إلى المدينة، وغير ذلك، وسيأتي البحث فيه مستوفًى في "كتاب البيوع" إن شاء الله تعالى.
وقوله: (ثُمَّ قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدِمْتُ بِالْغَدَاةِ) ظاهر هذه الرواية تناقض الرواية الأخرى: "فتقدّمت الناس إلى المدينة"؛ لأن في إحداهما أنه تقدم الناس إلى المدينة، وفي الأخرى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَدِم قبله، فيَحْتَمِل في الجمع بينهما أن يقال: إنه لا يلزم من قوله: "فتقدمت الناس" أن يستمرّ سبقه لهم؛ لاحتمال أن يكونوا لَحِقُوه بعد أن تقدمهم، إما لنزوله لراحة، أو نوم، أو غير ذلك، ولعله امتثل أمره صلى الله عليه وسلم بأن لا يدخل ليلًا فبات دون المدينة، واستمرّ
(1)
"عمدة القاري" 11/ 215.
(2)
"عمدة القاري" 11/ 215.
النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى أن دخلها قبله ليلًا، ولم يدخلها جابر حتى طلع النهار، والعلم عند الله تعالى
(1)
.
وقوله: ("الْآنَ حِينَ قَدِمْتَ؟ ")"الآن" منصوب على الظرفيّة، متعلّق بخبر محذوف، أي: كائن الآن، و"حينَ قَدِمت" مبتدأ مؤخّهر مبنيّ على الفتح؛ لإضافته إلى الجملة، ويجوز رفعه بالضمة، كما أشار إليه في "الخلاصة" بقوله:
وَأَلْزَمُو إِضَافَةً إِلَى الْجُمَلْ
…
"حَيْثُ" و"إِذْ" وَإِنْ يُنَوَّنْ يُحْتَمَلْ
إِفْرَادُ "إِذْ" وَمَا كَـ "إِذْ" مَعْنًى كَـ "إِذْ"
…
أَضِفْ جَوَازًا نَحْوُ "حِينَ جَا نُبِذْ"
وَابْنِ أَوَ اعْرِبْ مَا كَـ "إِذْ" قَدْ أُجْرِيَا
…
وَاخْتَرْ بِنَا مَتْلُوِّ فِعْلٍ بُنِيَا
وَقَبْلَ فِعْلٍ مُعْرَبٍ أَوْ مُبْتَدَا
…
أَعْرِبْ وَمَنْ بَنَى فَلَنْ يُفَنَّدَا
والكلام بتقدير همزة الاستفهام، أي: أكائنٌ الآنَ وقتُ قدومك؟.
وقوله: (فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ) فيه استحباب ركعتين عند القدوم من السفر.
وقوله: (فَأَرْجَحَ فِي الْمِيزَانِ) فيه استحباب إرجاح الميزان في وفاء الثمن، وقضاء الديون، وسيأتي تمام البحث في هذا في "كتاب البيوع" - إن شاء الله تعالى -.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تخريجه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[3642]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كُنَّا فِي مَسِيرٍ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَا عَلَى نَاضِحٍ، إِنَّمَا هُوَ فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ، قَالَ: فَضَرَبَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ قَالَ: نَخَسَهُ، أُرَاهُ قَالَ: بِشَيْءٍ كَانَ مَعَهُ، قَالَ: فَجَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَقَدَّمُ النَّاسَ يُنَازِعُنِي، حَتَّى إِنِّي لِأَكُفُّهُ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَتَبِيعُنِيهِ بِكَدَا وَكَذَا، وَاللهُ يَغْفِرُ لَكَ؟ " قَالَ: قُلْتُ: هُوَ لَكَ يَا نَبِيَّ اللهِ، قَالَ:"أَتَبِيعُنِيهِ بِكَذَا وَكَذَا، وَاللهُ يَغْفِرُ لَكَ؟ " قَالَ: قُلْتُ: هُوَ لَكَ يَا نَبِيَّ اللهِ
(2)
، قَالَ: وَقَالَ لِي:
(1)
راجع: "الفتح" 6/ 600.
(2)
قوله: "يا نبيّ الله" لم يوجد في بعض النسخ في المرّة الثانية.
"أَتَزَوَّجْتَ بَعْدَ أَبِيكَ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ:"ثَيِّبًا أَمْ بِكْرًا؟ " قَالَ: قُلْتُ: ثَيِّبًا، قَالَ:"فَهَلَّا تَزَوَّجْتَ بِكْرًا تُضَاحِكُكَ، وَتُضَاحِكُهَا، وَتُلَاعِبُكَ وَتُلَاعِبُهَا؟ "، قَالَ أَبُو نَضْرَةَ: فَكَانَتْ كَلِمَةً يَقُولُهَا الْمُسْلِمُونَ: افْعَلْ كَذَا وَكَذَا، وَاللهُ يَغْفِرُ لَكَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى) الصنعانيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ [10](ت 245)(م قد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 92/ 503.
2 -
(الْمُعْتَمِرُ) بن سليمان التيميّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187) وقد جاوز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.
3 -
(أَبُوهُ) سليمان بن طَرْخان التيميّ، أبو المعتمر البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4](ت 143) وهو ابن (97) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
4 -
(أَبُو نَضْرَةَ) المنذر بن مالك بن قَطَعَة الْعَبْديّ الْعَوَقيّ البصريّ، ثقةٌ مشهور بكنيته [3](ت 8 أو 109)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.
و"جابر" رضي الله عنه ذُكر قبله.
وقوله: (وَأَنَا عَلَى نَاضِحٍ) الناضح هو البعير الذي يُستقى عليه الماء.
وقوله: (فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ) بضم الهمزة، وفتح الراء: جمع أُخرى، أي في آخر الناس.
وقوله: (وَاللهُ يَغْفِرُ لَكَ) وفي رواية النسائيّ من طريق أبي الزبير، قال:"اللهم اغفر له، اللهم ارحمه"، زاد في رواية:"وكانت كلمةً تقولها العرب افعل كذا، والله يغفر لك"، ولأحمد: قال سليمان، يعني بعض رواته: فلا أدري كم من مرة؟ يعني قال له: "والله يغفر لك"، وللنسائي من طريق أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه: "استغفر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة البعير خمسًا وعشرين مرةً
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
راجع: "الفتح" 6/ 599 "كتاب الشروط" رقم (2718).
(16) - (بَابُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ")
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[3643]
(1467) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ الْهَمْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا حَيْوَةُ، أَخْبَرَنِي شُرَحْبِيلُ بْنُ شَرِيكٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيَّ، يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ الْهَمْدَانِيُّ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ) المقرئ، أبو عبد الرحمن المكيّ، ثقةٌ فاضلٌ، أقرأ القرآن نيّفًا وسبعين سنةً [9](ت 213) وقد قارب المائة، من كبار شيوخ البخاريّ (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 15.
3 -
(حَيْوَةُ) بنُ شُريح التُّجِيبيّ، أبو زُرْعة المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ زاهدٌ [7](ت 8 أو 159)(ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 328.
4 -
(شُرَحْبِيلُ بْنُ شَرِيكٍ) الْمَعَافريّ، أبو محمد المصريّ، ويقال: شُرَحْبيل بن عمرو بن شَريك، صدوق [6](بخ م د ت س) تقدم في "الزكاة" 42/ 2426.
5 -
(أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيُّ) - بضمّتين - عبد الله بن يزيد الْمَعَافريّ المصريّ، ثقة [3](ت 100) بإفريقية (بخ م 4) تقدم في "الزكاة" 42/ 2426.
6 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو) بن العاص بن وائل بن هاشم بن سُعَيد بن سَعْد بن سَهْم السَّهْميّ، الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، المتوفّى في ذي الحجة ليالي الْحَرّة على الأصحّ، بالطائف على الراجح (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمصريين، غير شيخه، فكوفيّ، وشيخ شيخه، فمكيّ.
2 -
(ومنها): أن صحابيّه ابن صحابيّ، وأحد السابقين إلى الإسلام، ومن العبادلة الأربعة، ومن فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو) بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "الدُّنْيَا مَتَاعٌ) أي تَمَتّع قليلٌ، ونفعٌ زائلٌ عن قريب، قال تعالى:{قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء: 77]. وقال صلى الله عليه وسلم: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بَعُوضةٍ ما سقى الكافر منها شَرْبة ماء"
(1)
، قاله القاريّ.
وقال السنديّ: أي محلّ للاستمتاع، لا مطلوبة بالذات، فتؤخذ على قدر الحاجة.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "الدنيا متاعٌ" هو من التمتّع بالشيء، وهو الانتفاع به، وكلّ ما يُنتفع به من عُرُوض الدنيا قليلها وكثيرها فهو متاعٌ، قال: والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن الاستمتاعات الدنيويّة كلّها حقيرة، لا يُعبأُ بها، وكذلك أنه تعالى لَمّا ذكر أصنافها، وأنواعها، وسائر ملاذّها في قوله تعالى:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} إلى قوله: {وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران: 14]، أتبعه بقوله:{ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، ثم قال بعده:{وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَئَابِ} ، فنبّه على أنها تضادّ ما عند الله تعالى من حسن الثواب، وخَصّ منها المرأة، وقيّدها بالصالحة؛ ليؤذِن بأنها شرّ لو لم تكن على هذه الصفة، ومن ثمّ قدّمها في الآية على سائرها، وورد في حديث أسامة رضي الله عنه، مرفوعًا:"ما تركت بعدي فتنة أضرّ على الرجال من النساء"
(2)
. انتهى
(3)
.
(وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا) أي خير ما يُتمتّع به في الدنيا (الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ") أي
(1)
حديث صحيح، أخرجه الترمذيّ، والضياء المقدسيّ، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما.
(2)
حديث صحيح، أخرجه أحمد، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 7/ 2259.
لأنها مُعينة على أمور الآخرة، قال القرطبيّ رحمه الله: هي الصالحة في دينها، ونفسها، والمصلحة لحال زوجها، وهذا كما قال في الحديث الآخر:"ألا أُخبركم بخير ما يَكنُزُ المرء؟ "، قالوا: بلى، قال:"المرأة الصالحة، التي إذا نظر إليها سرّته، وإذا غاب عنها حفظته، وإذا أمرها أطاعته"
(1)
.
قال الطيبيّ رحمه الله: وقيّد بالصالحة إيذانًا بأنها شرٌّ لو لم تكن على هذه الصفة. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [16/ 3643](1467)، و (النسائيّ) في "النكاح"(6/ 69)، و"الكبرى"(3/ 271)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1855)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 449 و 497)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(8/ 281)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 133)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4031)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 143)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 141)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 80)، و"الصغرى"(6/ 82)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2241)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل المرأة الصالحة.
2 -
(ومنها): أن فيه الحثّ على البحث عن المرأة الصالحة؛ إذ هي أفضل متاع الدنيا، فينبغي للعاقل البحث، والتنقيب عنها؛ لتتكامل له الحياة المرضيّة التي تتّصل بالحياة الأبديّة، والسعادة السرمديّة.
3 -
(ومنها): أن فيه الحثَّ على الزهد في الدنيا، حيث إنها متاعٌ قليلٌ
(1)
حديث ضعيف، أخرجه أبو داود برقم (1664) ورجال إسناده ثقات، وضعّفه الشيخ الألباني رحمه الله. راجع:"ضعيف سنن أبي داود" 2/ 126.
زائلٌ عن قريب، فهي كما قال الله تعالى:{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20]، والترغيب في الآخرة، حيث إنها النعيم المقيم الذي لا يزول ولا يحول، فهي كما وصفها الله تعالى بقوله:{وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(17) - (بَابُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ"، وقَوْلِهِ: "اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا")
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[3644]
(1468) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْمَرْأَةَ كَالضِّلَعِ، اِذَا ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا، وَإِنْ تَرَكْتَهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا، وَفِيهَا عِوَجٌ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجيبيّ، تقدَّم قريبًا.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله المصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(ابْنُ الْمُسَيِّبِ) سعيد المخزوميّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، تقدَّم في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فانفرد به هو والنسائيّ، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمدنيين.
4 -
(ومنها): أنه أحد ما قيل فيه: إنه أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه، كما أشار إليه السيوطيّ في "ألفيّة الحديث" بقوله:
وَلأَبِي هُرَيْرَةَ الزُّهْرِيُّ عَنْ
…
سَعِيدٍ اوْ أَبُو الزِّنَادِ حَيْثُ عَنْ
عَنْ أَعْرَجٍ وَقِيلَ حَمّادٌ بِمَا
…
أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدِ لَهُ نَمَا
5 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه ابن المسيِّبِ أحد الفقهاء السبعة، وأبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْمَرْأَةَ كَالضِّلَعِ) - بكسر الضاد المعجمة، وفتح اللام، وتُسكّن - قال الفيّوميّ رحمه الله: الضِّلَعُ من الحيوان بكسر الضاد، وأما اللام فتُفتح في لغة الحجاز، وتسكّن في لغة تميم، وهي أنثى، وجمعها أَضْلُعٌ، وأَضْلاعٌ، وضُلُوعٌ، وهي عظام الْجَنْبَين. انتهى
(1)
. وقال المرتضى رحمه الله: الضِّلْع كعِنَبٍ، وجِذْعٍ الأولى لغةُ الحجاز، والثانيةُ لغةُ تَميمٍ، وشاهِدُ الأوّلِ في قولِ الشاعر [من الطويل]:
هيَ الضِّلَعُ العَوْجاءُ لَسْتَ تُقيمُها
…
أَلَا إنّ تَقْوِيمَ الضُّلوعِ انْكِسارُها
قال: ورواه ابنُ بَرِّيّ:
بَني الضِّلَعِ العَوْجاءِ أنتَ تُقيمُها
قال: وشاهِدُ الثاني قولهُ [من مجزوء الكامل]:
وَرَمَقْتُها فَوَجَدْتُها
…
كالضِّلْعِ لَيْسَ لَهَا اسْتِقامَهْ
(2)
وفسّر الضلع بأنها مَحْنيّة الجنب.
وقال ابن منظور رحمه الله: "الضِّلَعُ"، و"الضِّلْعُ" لغتان: مَحْنِيَّةُ الْجَنْبِ، مؤنّثةٌ، والجمع أَضلُعٌ، وأضالعُ، وضُلُوعٌ، قال الشاعر [من الطويل]:
وَأَقْبَلَ مَاءُ الْعَيْنِ مِنْ كُلِّ زَفْرَةٍ
…
إِذَا وَرَدَتْ لَمْ تَسْتَطِعْهَا الأَضَالِعُ
قال: وضُلوعُ كلِّ إنسانٍ أَرْبَعٌ وعِشْرونَ ضِلْعًا، وللصدرِ منها اثْنا عَشَرَ
(1)
"المصباح المنير" 2/ 363.
(2)
راجع: "تاج العروس من جواهر القاموس" 5/ 433.
ضِلَعًا، تَلْتَقي أَطْرَافُها في الصدرِ، وتتَّصِلُ أَطْرَافُ بَعْضِها ببعضٍ، وتُسمّى الجَوانِح، وَخَلْفها من الظهرِ الكَتِفانِ، والكتفانِ بحِذاءِ الصدرِ، واثْنا عَشَرَ ضِلَعًا أسفلَ منها في الجَنبَيْن، البَطنُ بينهما، لا تَلْتَقي أَطْرَافُها، على طرَفِ كلِّ ضِلْعٍ منها شُرْسوفٌ، وبين الصدرِ والجَنبَيْنِ غُضْروفٌ، يقال له: الرَّهَابَة، ويقال له: لسانُ الصدر، وكلُّ ضِلَعٍ من أضلاعِ الجَنبيْنِ أَقْصَرُ من التي تَليها، إلى أن تنتهي إلى آخِرِها، وهي التي في أسفلِ الجَنبِ، يقال لها الضِّلَعُ الخَلْفُ. انتهى
(1)
.
وفي الرواية التالية: "إن المرأة خُلِقت من ضِلَعٍ" قال في "الفتح"
(2)
: قوله: "خُلِقت من ضِلَعٍ" قيل: فيه إشارة إلى أن حواء خُلِقت من ضِلَع آدم الأيسر، وقيل: من ضلعه القصير، أخرجه ابن إسحاق، وزاد:"اليسرى من قَبْل أن يدخل الجنة، وجُعل مكانَهُ لحم"، ومعنى خُلِقت: أي أُخرِجت، كما تُخْرَج النخلة من النواة.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "خُلِقت من ضِلَعٍ" هذا يؤيّد ما ينقله المفسّرون أن حواء خُلقت من آخر أضلاع آدم عليهما السلام وهي الْقُصَيرى مقصورًا، ومعنى "خُلِقت": أي أخرجت كما تُخرج النخلة من النواة، ويَحْتَمِل أن يكون هذا قُصد به الْمِثْلُ، فيكون معنى "من ضِلَع": أي من مثل ضِلَع، فهي كالضلع، ويشهد له قوله في رواية الأعرج، عن أبي هريرة الآتية:"لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها استمتعت، وبها عوجٌ، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها". انتهى
(3)
.
(إِذَا ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا) قيل: هو ضَرْبُ مَثَلٍ للطلاق، أي إن أردت منها أن تترك اعوجاجها أفضى الأمر إلى فراقها، ويؤيده قوله في رواية الأعرج التالية:"وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها"، قال في "الفتح": ويستفاد من حديث الباب أن الضِّلَعَ مُذَكَّر خلافًا لمن جزم بأنه مؤنث، واحتجّ
(1)
"لسان العرب" 8/ 226.
(2)
"الفتح" 7/ 613 "كتاب أحاديث الأنبياء" رقم (3331).
(3)
"المفهم" 4/ 221 - 222.
برواية مسلم، ولا حجة فيه؛ لأن التأنيث في روايته للمرأة، وقيل: إن الضِّلَع يذكّر ويؤنث، وعلى هذا فاللفظان صحيحان. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: تأنيث الضِّلْعِ هو الذي نصّ عليه صاحب "القاموس"، و"المصباح"، و"اللسان"، لكن ذكر المرتضى في "التاج" الخلاف في ذلك، ودونك ملخّص عبارته، قال عند قول المجد:"مُؤَنَّثةٌ": قال: هو المشهور، وقيل: مُذكَّرَةٌ، وقيل: بالوجهَيْن، وهو مُختارُ ابنِ مالكٍ وغيرِه. انتهى
(1)
.
(وَإِنْ تَرَكْتَهَا) أي على ما هي عليه من اعوجاج الأخلاق (اسْتَمْتَعْتَ بِهَا، وَفِيهَا عِوَجٌ") قال النوويّ: "الْعِوَج" ضبطه بعضهم بفتح العين، وضبطه بعضهم بكسرها، ولعل الفتح أكثر، وضبطه الحافظ أبو القاسم ابن عساكر، وآخرون بالكسر، وهو الأرجح، على مقتضى ما سننقله عن أهل اللغة - إن شاء الله تعالى - قال أهل اللغة: العَوَج بالفتح في كل منتصب، كالحائط، والعُود، وشبهه، وبالكسر ما كان في بساط، أو أرض، أو مَعاش، أو دِين، ويقال: فلان في دِينه عِوَجٌ بالكسر، هذا كلام أهل اللغة، وقال صاحب "المطالع": قال أهل اللغة: العَوَج بالفتح في كل شخص، وبالكسر فيما ليس بمرئيّ، كالرأي، والكلام، قال: وانفرد عنهم أبو عمرو الشيبانيّ، فقال: كلاهما بالكسر، ومصدرهما بالفتح. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 3644 و 3645 و 3646 و 3647](1468)، و (البخاريّ) في "أحاديث الأنبياء"(3331) و"النكاح"(5184 و 5185)،
(1)
"تاج العروس من جواهر القاموس" 5/ 433.
(2)
"شرح النوويّ" 10/ 57.
و (الترمذيّ) في "الطلاق"(1188)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 364)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 492)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 449 و 497 و 530)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 148)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 208 و 287)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4179 و 4180)، و (الحاكم) في "مستدركه"(4/ 174)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 85)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 295)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2332 و 2333)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 142 - 143)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 141 - و 142)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 93 و 178)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان الحثّ على مدارات النساء؛ لاستمالة نفوسهنّ، وتأليف قلوبهنّ.
2 -
(ومنها): أن فيه سياسة النساء بأخذ العفو عنهنّ، والصبر عليهنّ، وملاطفتهنّ، والإحسان إليهنّ، والصبر على عِوَجِ أخلاقهنّ، واحتمال ضعف عقولهنّ، وكراهة طلاقهنّ بلا سبب، وأنه لا يطمع باستقامتهن.
3 -
(ومنها): بيان أن من رام تقويمهنّ، فاته الانتفاع بهنّ، مع أنه لا غنى للإنسان عن امرأة يسكن إليها، ويستعين بها على معاشه، فكأنه صلى الله عليه وسلم قال: الاستمتاع بها لا يتمّ إلا بالصبر عليها.
4 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: فيه دليل لما يقوله الفقهاء، أو بعضهم أن حواء خُلِقت من ضلع آدم، قال الله تعالى:{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} ، وبيّن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّها خُلقت من ضِلَع. انتهي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[3645]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَن ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَمِّهِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ سَوَاءً).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) تقدّم قبل باب.
3 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
4 -
(ابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ) هو: محمد بن عبد الله بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب المدنيّ، صدوقٌ، له أوهامٌ [6](ت 152) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 352.
و"عمّه" هو: الزهريّ ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية ابن أخي الزهريّ، عن عمّه هذه ساقها الترمذيّ في "جامعه" (4/ 435) فقال:
(1109)
- حدّثنا عبد الله بن أبي زياد، حدّثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، حدّثنا ابن أخي ابن شهاب، عن عمه، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المرأة كالضِّلَع، إن ذهبت تُقيمها كسرتها، وإن تركتها استمتعت بها على عِوَجٍ". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[3646]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ أَبِي عُمَرَ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَن الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، لَنْ تَسْتَقِيمَ لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ، فَإِنْ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا، وَبِهَا عِوَجٌ، وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا، وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَمْرُو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، تقدّم قبل باب.
2 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم قبل باب.
4 -
(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان القرشيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن
المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.
5 -
(الْأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمز، أبو داود المدنيّ، مولى ربيعة بن الحارث [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.
و"أبو هريرة" رضي الله عنه ذُكر قبله، وشرح الحديث يأتي في التالي، وإنما أخّرته إليه؛ لكونه أتمّ من هذا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[3647]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ مَيْسَرَةَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَإِذَا شَهِدَ أَمْرًا فَلْيَتَكَلَّمْ بِخَيْرٍ، أَوْ لِيَسْكُتْ، وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ في الضِّلَعِ أَعْلَاهُ، إِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا").
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ) الجعفيّ القارئ، تقدّم قريبًا.
3 -
(زَائِدَةُ) بن قُدامة، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(مَيْسَرَةُ) بن عَمّار، ويقال: ابن تمّام الأشجعيّ الكوفيّ، ثقةٌ [6].
رَوَى عن أبي حازم سلمان الأشجعيّ، وأبي عثمان النَّهْديّ، وسعيد بن المسيِّب، وعكرمة.
ورَوَى عنه الثوريّ، وزائدة، وزُهير بن معاوية، وأسباط بن نصر، وعيسى بن مسلم الطُّهَويّ.
قال أبو زرعة: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وابن ماجه في "التفسير"، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
5 -
(أَبُو حَازِمٍ) سلمان الأشجعيّ، الكوفيّ، ثقةٌ [3](ت 100)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.
و"أبو هريرة" رضي الله عنه ذُكر قبله.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "مَنْ) شرطيّة (كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَإِذَا شَهِدَ) بكسر الهاء، أي حضر (أَمْرًا فَلْيَتَكَلَّمْ بِخَيْرٍ، أَوْ لِيَسْكُتْ) المعنى أنه إذا شهد أمرًا ما، واقتضى الحال أن يتكلّم في ذلك الأمر، فلينظر، فإن كان في كلامه خيرٌ، فليتكلّم، وإلا فليسكت (وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ) قيل: معناه: تواصوا بهنّ، والباء للتعدية، والاستفعال بمعنى الإفعال، كالاستجابة بمعنى الإجابة.
وقال الطيبيّ رحمه الله: السين للطلب، وهو للمبالغة: أي اطلبوا الوصية من أنفسكم في حقهنّ، أو اطلبوا الوصية من غيركم بهنّ، كمن يعود مريضًا، فيستحبّ له أن يحثّه على الوصية، والوصية بالنساء آكد؛ لضعفهنّ، واحتياجهنّ إلى من يقوم بأمرهنّ.
وقيل: معناه: اقْبَلُوا وصيتي فيهنّ، واعملوا بها، وارْفُقُوا بهنّ، وأحسنوا عِشْرتهنّ.
قال الحافظ: وهذا أوجه الأوجه في نظري، وليس مخالفًا لما قال الطيبيّ. انتهى
(1)
.
(فَإِنَّ الْمَرْأَةَ) الفاء للتعليل، أي وإنما أمرتكم بالاستيصاء في النساء؛ لكونها (خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ) بكسر الضاد، وفتح اللام، وتُسكّن، كما مرّ تحقيقه قريبًا.
قال في "الفتح": وكأنّ فيه إشارةً إلى ما أخرجه ابن إسحاق في "المبتدإ" عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن حواء خُلقت من ضِلَع آدم الأقصر الأيسر، وهو نائم"، وكذا أخرجه ابن أبي حازم
(2)
وغيره، من حديث مجاهد، وأغرب النوويّ، فعزاه للفقهاء، أو بعضهم، فكأن المعنى أن النساء خُلِقن من أصلٍ
(1)
"الفتح" 7/ 613 "كتاب أحاديث الأنبياء" رقم (3331).
(2)
لعله "ابن أبي حاتم".
خُلِق من شيء مُعْوَجٍّ، وهذا لا يخالف الحديث الماضي من تشبيه المرأة بالضلع، بل يستفاد من هذا نكتة التشبيه، وإنها عوجاء مثله؛ لكون أصلها منه. انتهى
(1)
.
وقوله: (وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ) ذكره تأكيدًا لمعنى الكسر؛ لأن الإقامة أمرها أظهر في الجهة العليا، أو إشارةٌ إلى أنها خُلقت من أعوج أجزاء الضلع مبالغةً في إثبات هذه الصفة لهنّ.
ويَحْتَمِل أن يكون ضرب ذلك مثلًا لأعلى المرأة؛ لأن أعلاها رأسها، وفيه لسانها، وهو الذي يحصل منه الأذى، وفي استعمال "أَعْوَجَ" استعمال لـ "أفعل" في العيوب، وهو شاذٌّ، قاله في "الفتح".
وقال في موضع آخر: قيل: فيه إشارة إلى أن أعوج ما في المرأة لسانها، قال: وفائدة هذه المقدمة أن المرأة خُلقت من ضلع أعوج، فلا ينكر اعوجاجها، أو الإشارةُ إلى أنها لا تقبل التقويم، كما أن الضلع لا يقبله. انتهى
(2)
.
(إِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ) ذكّر الضمير العائد إلى الضلع؛ لأنه يجوز تذكيره، وتأنيثه، كما سبق تحقيقه.
والمعنى: إن أردت منها أن تترك اعوجاجها، أفضى الأمر إلى فراقها بالطلاق، كما بيّنه في الرواية الماضية بقوله:"وكسرها طلاقها".
(وَإِنْ تَرَكْتَهُ) أي إن لم تقمه (لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ) وقوله: (اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا") أي أوصيكم بهنّ خيرًا، فاقبلوا وصيتي فيهنّ، واعملوا بها، قاله البيضاويّ، والحامل على هذا التقدير أن الاستيصاء استفعال، وظاهره طلب الوصيّة، وليس هو المراد.
وقوله: (بِالنِّسَاءِ خَيْرًا) كأنّ فيه رمزًا إلى التقويم برفق، بحيث لا يبالغ فيه، فَيُكْسَر، ولا يتركه فيستمرّ على عَوَجه.
والحاصل أنه لا يتركها على الاعوجاج، إذا تعدّت ما طُبعت عليه من النقص إلى تعاطي المعصية بمباشرتها، أو ترك الواجب، وإنما المراد أن يتركها
(1)
"الفتح" 7/ 613 "كتاب أحاديث الأنبياء".
(2)
"الفتح" 9/ 253.
على اعوجاجها في الأمور المباحة. أفاده في "الفتح"
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه وقد مضى تخريجه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[3648]
(1469) - (وَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا عِيسَي، يَعْنِي ابْنَ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا، رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ"، أَوْ قَالَ: "غَيْرَهُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيُّ) التميميّ، أبو إسحاق الفرّاء، يلقّب بالصغير، ثقةٌ حافظٌ [10] مات بعد (220)(ع) تقدم في "الحيض" 7/ 721.
2 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ الكوفيّ، نزل الشام مُرابطًا، ثقةٌ مأمون [8](ت 187)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
3 -
(عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرِ) بن عبد الله بن الحكم بن رافع الأنصاريّ المدنيّ، صدوقٌ رُمي بالقدر، وربّما وَهِمَ [6](ت 153)(خت م 4) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 4/ 1195.
4 -
(عِمْرَانُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ) القرشيّ العامريّ المدنيّ، نزيل الإسكندريّة، ثقةٌ [5](ت 117) بالمدينة (بخ م د ت س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 56/ 1557.
5 -
(عُمَرُ بْنُ الْحَكَمِ) بن رافع بن سنان الأنصاريّ، أبو حفص المدنيّ، عمّ والد عبد الحميد بن جعفر، ويقال: إنه من ولد الفِطيون حلفاء الأوس، ثقةٌ [3].
قال أبو حاتم: ليس هو عمر بن الحكم بن ثوبان، وكلام ابن معين يدلّ على أنهما واحد.
(1)
"الفتح" 11/ 558.
رَوَى عن كعب بن مالك، وأبي هريرة، وأبي الْيَسَر السَّلَميّ، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأم حبيبة، وجابر بن عبد الله.
ورَوَى عنه ابن أخيه جعفر بن عبد الله بن الحكم، وابنه عبد الحميد بن جعفر، وعمران بن أبي أنس، وسعيد بن أبي هلال، ودَرّاج أبو السَّمْح.
قال أبو زرعة: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له البخاريّ في التعاليق، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم (1469) و (2673) و (2911).
و"أبو هريرة" رضي الله عنه ذُكر قبله.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً) أي: لا يُبْغضها، يقال: فَرَكَت المرأةُ زوجها، تَفْرِكُهُ، من باب سَمِعَ، فِرْكًا، بالكسر، وفَرْكًا، بالفتح، وفُرُوكًا، فهي فَرُوكٌ، كأنه حَثّ على حسن العشرة والصحبة. أفاده ابن الأثير رحمه الله
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: "يَفْرَك" بفتح الياء والراء، وإسكان الفاء بينهما، قال أهل اللغة: فَرِكَه بكسر الراء، يَفْرَكه بفتحها: إذا أبغضه، والفَرك بفتح الفاء، وإسكان الراء: البغض. انتهى
(2)
.
وقال في "اللسان": قال أبو عبيد: الْفَرْك - بالفتح -، والْفِرْكُ - بالكسر - أن تُبغض المرأة زوجها، قال: وهذا حرف مخصوص به المرأة والزوج، قال: ولم أسمع هذا الحرف في غير الزوجين، وقال ذو الرمة يصف إبلًا [من الطويل]:
إِذَا اللَّيْلُ عَنْ نَشْزٍ تَجَلَّى رَمَيْنَهُ
…
بِأَمْثَالِ أَبْصَارِ النِّسَاءِ الْفَوَارِكِ
يَصِفُ إبلًا شبَّهها بالنساء الفوارك؛ لأنهن يَطْمَحْنَ إلى الرجال، ولَسْنَ بقاصرات الطرف على الأزواج، يقول: فهذه الإبل تُصبِح، وقد سرت ليلها
(1)
"النهاية في غريب الأثر" 3/ 441 بزيادة من "القاموس".
(2)
"شرح النوويّ" 10/ 58.
كله، فكلما أشرف لهنّ نَشْزٌ رَمَينه بأبصارهنّ من النشاط، والقوّة على السير. انتهى
(1)
.
(إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا) بضمّتين: أي سَجِيّةً (رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ") أي خُلُقًا آخر غير الذي كرهه (أَوْ) للشكّ من الراوي، ولم يتبيّن لي من هو؟ (قَالَ:"غَيْرَهُ") أي قال بدل قوله: "آخر" لفظة "غيره".
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لا يَفْرَكْ. . . إلخ": أي لا يُبْغضها بُغْضًا كلّيًّا، يَحْمِله على فراقها، أي لا ينبغي له ذلك، بل يغفر سيّئتها؛ لِحَسَنها، ويتغاضى عما يكره؛ لما يُحبّ، وأصل الفَرْك إنما يقال في النساء، يقال: فَرِكت المرأةُ زوجها، تَفْرَكه، وأبغض الرجل امرأته، وقد استُعمل الْفِرك في الرجل قليلًا، وتجوّزًا، ومنه ما في هذا الحديث. انتهى
(2)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "لا يفرَك. . . إلخ" ليس على النهي، قال: هو خبرٌ، أي لا يقع منه بغضٌ تامّ لها، قال: وبغض الرجال للنساء خلاف بغضهنّ لهم، قال: ولهذا قال: "إن كَرِه منها خُلُقًا، رضي منها آخر". انتهى
(3)
.
وتعقّبه النوويّ رحمه الله، فقال: هذا الذي قاله عياض ضعيفٌ، أو غَلَطٌ، بل الصواب أنه نهيٌ، أي ينبغي أن لا يُبغضها؛ لأنه إن وجد فيها خُلُقًا يُكْرَهُ، وجد فيها خُلُقًا مَرْضِيًّا، بأن تكون شَرِسَة الْخُلُق، لكنها دَيِّنةٌ، أو جميلة، أو عفيفة، أو رفيقة به، أو نحو ذلك، وهذا الذي ذكرته من أنه نهي يتعين؛ لوجهين:
أحدهما: أن المعروف في الروايات: "لا يَفْرَكْ" بإسكان الكاف، لا برفعها، وهذا يتعين فيه النهي، ولو رُوِيَ مرفوعًا لكان نهيًا بلفظ الخبر.
والثاني: أنه قد وقع خلافه، فبعض الناس يُبغض زوجته بُغْضًا شديدًا، ولو كان خبرًا لم يقع خلافه، وهذا واقع، وما أدري ما حَمَل القاضي على هذا التفسير؟. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو تعقّب جيّدٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
لسان العرب 10/ 474 - 475.
(2)
"المفهم" 4/ 222.
(3)
"إكمال المعلم" 4/ 680 - 681.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 3648 و 3649](1469)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 329)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 141)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 142)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 303 - 304)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 295)، والله تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[3649]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل باب.
2 -
(أَبُو عَاصِمٍ) الضحّاك بن مَخْلد النبيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 212) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: رواية أبي عاصم، عن عبد الحميد بن جعفر هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" (3/ 141) فقال:
(4493)
- حدّثنا محمد بن يحيى، قثنا
(1)
أبو عاصم، عن عبد الحميد بن جعفر، عن عمران بن أبي أنس، عن عُمر بن الحكم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَفْرَكْ مؤمنٌ مؤمنةً، إن كَرِهَ منها خُلُقًا رَضِيَ منها آخر". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
مختصر من "قال: حدّثنا".
(18) - (بَابٌ لَوْلَا حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا الدَّهْرَ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[3650]
(1470) - (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ أَبَا يُونُسَ مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْلَا حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا الدَّهْرَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ) المروزيّ، أبو عليّ الْخَزّاز الضرير، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 231) وله (74) سنةً (خ م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 350.
2 -
(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيّوب المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ حافظٌ [7] مات قبل (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.
3 -
(أَبُو يُونُسَ مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ) سُليم بن جُبير الدَّوْسيّ المصريّ، ثقةٌ [3](ت 123)(بخ م د ت) تقدم في "الإيمان" 34/ 240.
والباقيان ذُكرا في الباب، وشرح الحديث يأتي في الحديث التالي، وإنما أخّرته إليه؛ لكونه أتمّ من هذا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[3651]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْلَا بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْبُثِ الطَّعَامُ، وَلَمْ يَخْنَزِ اللَّحْمُ، وَلَوْلَا حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا الدَّهْرَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(عَبْدُ الرَّزاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم أيضًا قبل بابين.
3 -
(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدَّم قريبًا.
4 -
(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهِ) بن كامل، أبو عقبة الصنعانيّ، ثقةٌ [4](ت 132)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
و"أبو هريرة" رضي الله عنه ذُكر قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، وأبي يونس، كما أسلفته آنفًا.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ باليمنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في عصره.
شرح الحديث:
(عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ) أنه (قَالَ: هَذَا) إشارة إلى ما جُمِع في "صحيفة همّام بن منبّه" من الأحاديث، فاسم الإشارة مبتدأ، خبره قوله:(مَا) اسم موصول، أي الذي (حَدَّثَنَا) فيه حذف العائد؛ ومثله كثير، كما أشار إليه ابن مالك في "الخلاصة" حيث قال:
. . . . . . . . . .
…
وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي
فِي عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ
…
بِفِعْلٍ أوْ وَصْفٍ كـ "مَنْ نَرْجُو يَهَبْ"
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ) هي الأحاديث التي سبقت من أول تلك الصحيفة إلى هذا الحديث
(1)
. (مِنْهَا) أي من تلك الأحاديث، والجارّ والمجرور خبر مقدّم وقوله:(وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) مبتدأ
(1)
هي من رقم (1) إلى (56)، فهذا الحديث هو (57) منها.
مؤخّر محكيّ لقصد لفظه ("لَوْلَا بَنُو إِسْرَائِيلَ) هم أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل - عليهم الصلاة والسلام - (لَمْ يَخْبُثِ الطَّعَامُ) مضارع خَبُثَ الشيءُ خُبْثًا، من باب قَرُبَ: خلاف طاب، والاسم الْخَبَاثة، فهو خبيثٌ، والأنثى خبيثة
(1)
. (وَلَمْ يَخْنَز اللَّحْمُ) - بفتح الياء، وإسكان الخاء المعجمة، وكسر النون، وفتحها، وآخره زاي -: أي لم يتغير، يقال: خَنَزَ - بفتح النون، وكسرها - يَخْنِز بهما أيضًا: أي يتغير، حَكَى اللغتين في الماضي والمضارع صاحب "المشارق"، والنوويّ، وحكاهما في الماضي صاحب "المحكم"، واقتصر صاحب "الصحاح"، و"النهاية" على الكسر في الماضي، والفتح في المضارع، ومثله في المعنى "خَزَنَ" أيضًا، وَ"خَمَّ"، و"صَلَّ"، و"أَخَمَّ"، و"أَصَلّ" بزيادة همزة فيهما، و"نَتُنَ" بالضمّ، و"أنتن"، قال صاحب "المحكم": يقال: خَنِزَ اللحم، والتمر، والْجَوْز: فَسَدَ. انتهى
(2)
.
وقال في "العمدة": قوله: "لم يخنز اللحم" - بالخاء المعجمة، وفتح النون، وبالزاي -: أي لم يُنتن، ويقال أيضًا: خَنِزَ - بكسر النون - يَخْنَزُ - بفتحها - من باب عَلِمَ يَعْلَم، والأول منِ باب ضرب يضرب، ويقال أيضًا: خَزِنَ يَخْزِن على القلب، مثل جَبَذَ وجَذب، وقال ابن سِيدَهْ: خَنِز اللحم، والتمر، والْجَوْز خُنُوزًا، فهو خَنِزٌ: إذا فسد.
وعن قتادة: كان الْمَنّ والسَّلْوَى يَسْقُط على بني إسرائيل من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، كسقوط الثلج، فيأخذون منه بقدر ما يغني ذلك اليوم، إلَّا يوم الجمعة، فإنهم يأخذون له وللسبت، فإن تَعَدَّوا إلى أكثر من ذلك فَسَدَ ما ادَّخَروا، فكان ادّخارهم فسادًا للأطعمة عليهم، وعلى غيرهم.
وقال بعضهم: لما نزلت المائدة عليهم أُمروا أن لا يَدَّخِروا فادخروا.
وقيل: يَحْتَمِل أن يكون من اعتدائهم في السبت، وقيل: كان سببه أنهم
(1)
"المصباح المنير" 1/ 162.
(2)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 64.
أُمروا بترك ادِّخار السَّلْوى فادخروه، حتى أنتن، فاستمر نتن اللحوم من ذلك الوقت، أو لمّا صار الماء في أفواههم دَمًا وأنتنوا بذلك سَرَى ذلك النتن إلى اللحم وغيره؛ عقوبةً لهم.
وفي "الحلية" لأبي نعيم: عن وهب بن منبه قال: وَجَدتُ في بعض الكتب عن الله تعالى: "لولا أني كتبت الفناء على الميت، لحبسه أهله في بيوتهم، ولولا أني كتبت الفساد على الطعام، لخزنته الأغنياء عن الفقراء". انتهى
(1)
.
(وَلَوْلَا حَوَّاءُ) - بفتح الحاء المهملة، وتشديد الواو، ممدودًا - أي امرأة آدم عليهما السلام قال ابن عباس رحمه الله: سُمِّيت حواء؛ لأنها أم كل حيّ، وقيل: لأنها ولدت لآدم صلى الله عليه وسلم أربعين ولدًا في عشرين بطنًا، في كل بطن ذكر وأنثى، واختلفوا متى خُلقت من ضلعه، فقيل قبل دخوله الجنة، فدخلاها، وقيل: في الجنة
(2)
. (لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا الدَّهْرَ") منصوب على الظرفيّة، أي لم تخنه أبدًا، ومعنى الحديث أنها أم بنات آدم، فأشبهنها ونَزَعَ العِرْق إليها؛ لِمَا جَرَى لها في قصة الشجرة مع إبليس، فزَيَّن لها أكل الشجرة، فأغراها، فأخبرت آدم بالشجرة، فأكلا منها، وليس المراد خيانة في فِرَاش، فإن ذلك لم يقع لامرأة نبيّ قط، حتى ولا امرأة نوح، ولا امرأة لوط الكافرتان، فإن خيانة الأولى إنما هو بإخبارها الناس أنه مجنون، وخيانة الثانية بدلالتها على الضيف، كما ذكره المفسرون. قاله وليّ الدين رحمه الله
(3)
.
وقال في "الفتح": قوله: "لَمْ تخُن أنثى زوجها" فيه إشارة إلى ما وقع من حواء في تزيينها لآدم الأكل من الشجرة، حتى وقع في ذلك، فمعنى خيانتها أنَّها قَبِلَت ما زَيَّن لها إبليس، حتى زينته لآدم، ولما كانت هي أم بنات آدم أشبهها بالولادة، ونَزَع العِرْق، فلا تكاد امرأة تَسْلَم من خيانة زوجها بالفعل، أو بالقول، وليس المراد بالخيانة هنا ارتكاب الفواحش، حاشا وكلّا، ولكن لما مالت إلى شهوة النفس، من أكل الشجرة، وحَسَّنت ذلك لآدم، عُدَّ ذلك
(1)
"عمدة القاري" 15/ 211.
(2)
"طرح التثريب" 7/ 64.
(3)
"طرح التثريب" 7/ 64.
خيانة له، وأما من جاء بعدها من النساء، فخيانة كل واحدة منهنّ بحسبها، وقريب من هذا حديث:"جَحَدَ آدم، فجَحَدت ذريته"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثالثة): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 3650 و 3651](1470)، و (البخاريّ) في "أحاديث الأنبياء"(3330 و 3399)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 304 و 315 و 3490)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 194)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 143)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 143)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما جُبلت عليه النساء من خيانة أزواجهنّ.
2 -
(ومنها): بيان ما جعل الله عز وجل في بني آدم من افتتان بعضهم ببعض، كما قال تعالى:{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} الآية [الفرقان: 20]،
(1)
أخرجه الترمذيّ رحمه الله في "جامعه" 10/ 341 فقال:
(3002)
- حدّثنا عبد بن حميد، حدَّثنا أبو نعيم، حدّثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَمّا خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وَبِيصًا من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: أي رب من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلًا منهم، فأعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: أي ربّ مَن هذا؟ فقال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك، يقال له: داود، فقال: رب كم جعلت عمره؟ قال: ستين سنةً، قال: أي رب زده من عمري أربعين سنةً، فلما قضي عمر آدم، جاءه ملك الموت، فقال: أَوَ لم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أَوَ لم تعطها ابنك داود؟ قال: فجحد آدم، فجحدت ذريته، ونسي آدم، فنسيت ذريته، وخطئ آدم، فخطئت ذريته".
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيحٌ، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى، وهو كما قال، وصححه أيضًا الحاكم، وابن حبّان.
فقد جعل الله تعالى النساء سكنًا للرجال، كما قال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} الآية [الروم: 21]، ومع ذلك فقد تفتنه في بعض الأحيان، فما له إلا الصبر، وضبط النفس، والاستعانة بالله تعالى على شرّها، والله المستعان.
3 -
(ومنها): الإشارة إلى تسلية الرجال فيما يقع لهم من نسائهم بما وقع من أمهنّ الكبرى، وأن ذلك من جِبِلَّاتهنّ، وطبائعهنّ، إلا أن منهنّ من تضبط نفسها، ومنهنّ من لا تضبط، وفي استحضار ذلك إعانة على احتمالهنّ، ودوام عشرتهنّ.
وبالجملة، فلا ينبغي لهم أن يُفْرِطوا في لوم من وقع منها شيء من غير قصد إليه، أو على سبيل الندور، وينبغي لهنّ أن لا يتمكن بهذا في الاسترسال في هذا النوع، بل يضبطن أنفسهنَّ، ويجاهدن هواهنَّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة عليّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة:
قد انتهيتُ من كتابة الجزء الخامس والعشرين من "شرح صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحرَ المحيطَ الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" والمؤذّن يؤذّن لصلاة المغرب من يوم الاثنين المبارك الثالث عشر من شهر شوال المبارك (13/ 10/ 1429 هـ) الموافق (1 أوكتوبر 2008 م).
أسأل الله العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رءوف رحيم.
وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية [الأعراف: 43].
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 182]
"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم،
إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".
"السلام على النبيّ ورحمة الله وبركاته".
ويليه - إن شاء الله تعالى - الجزء السادس والعشرون مفتتحًا بـ 18 - (كِتَابُ الطَّلَاقِ) رقم الحديث [3652](1471).
"سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".
* * *