المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم ليلة الثلاثاء الرابع عشر من شهر شوال - البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج - جـ ٢٦

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

ليلة الثلاثاء الرابع عشر من شهر شوال 14/ 10/ 1429 هـ أول الجزء السادس والعشرين من شرح "صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحر المحيط الثجّاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجَّاج" رحمه الله تعالى.

‌18 - (كِتَابُ الطَّلَاقِ)

قال الجامع عفا الله عنه: مناسبة هذا الكتاب لكتاب النكاح واضحة.

(اعلم): أن "الطَّلاقُ" مصدر طَلَقَ بتخفيف اللام، واسم مصدر لطَلَّقَ بتشديدها، ومصدره التطليق.

وهو: لغةً: حلّ القيد، وشرعًا: حلّ عقد النكاح بلفظ الطلاق، ونحوه، وعرّفه النوويّ في "تهذيبه" بأنه تصرّفٌ مملوكٌ للزوج، يُحدثه بلا سبب، فيقطع النكاح

(1)

.

وقال المجد رحمه الله: طَلَقَت المرأةُ من زوجها، كنصَرَ، وكَرُم طَلَاقًا: بانت، فهي طالقٌ، جمعها طُلَّقٌ، كرُكَّعٍ، وطالقةٌ، جمعها طوالق، وأطلقها، وطلّقها. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: طلّق الرجل امرأته تطليقًا، فهو مُطَلِّقٌ، فإن كثر تطليقه للنساء، قيل: مِطْلِيقٌ، ومِطْلَاقٌ - بكسر الميم، وسكون الطاء المهملة - وطَلَقَتْ: هي تَطْلُقُ، من باب قَتَلَ، وفي لغة من باب قَرُبَ، فهي طالقٌ بغير هاء، قال الأزهريّ: وكلّهم يقولون: طالقٌ بغير هاءٍ، قال: وأما قول الأعشى [من الطويل]:

(1)

راجع: "شرح الخطيب على مقدّمة أبي شجاع"، في فقه الشافعيّ، مع حاشيته "تحفة الحبيب" 3/ 487 - 488.

(2)

"القاموس المحيط" 3/ 258.

ص: 5

أَيَا جَارَتَا بِينِي فَإِنَّكِ طَالِقَهْ

كَذَاكِ أُمُورُ النَّاسِ غَادٍ وَطَارِقَهْ

فقال الليث: أراد طالقةٌ غدًا، وإنما اجترأ عليه لأنه يقال: طَلَقَتْ، فَحَمَلَ النعتَ على الفعل.

وقال ابن فارس أيضًا: امرأةٌ طالقٌ، طَلَّقَها زوجها، وطالقةٌ غدًا، فصرّح بالفرق؛ لأن الصفة غير واقعة.

وقال ابن الأنباريّ: إذا كان النعت منفردًا به الأنثى دون الذّكر لم تدخله الهاء، نحو "طالق"، و"طامث"، و"حائض"؛ لأنه لا يَحتاج إلى فارق؛ لاختصاص الأنثى به.

وقال الجوهريّ: يقال: طالقٌ، وطالقةٌ، وأنشد بيت الأعشى.

وأُجيب عنه بجوابين: أحدهما ما تقدّم.

والثاني: أن الهاء لضرورة التصريع، على أنه معارَضٌ بما رواه ابن الأنباريّ، عن الأصمعيّ، قال: أنشد أعرابيٌّ من شِقِّ اليمامة البيتَ: "فَإِنَّكِ طَالِقٌ"، من غير تصريعٍ، فتسقط الحجّةُ به.

قال البصريّون: إنما حُذفت العلامة لأنه أُريد النسب، والمعنى: امرأةٌ ذات طلاق، وذات حيضٍ؛ أي: هي موصوفةٌ بذلك حقيقةً، ولم يُجروه على الفعل.

ويُحكَى عن سيبويه أن هذه نعوتٌ مذكّرةٌ وُصِف بهنّ الإناثُ، كما يُوصف المذكّرُ بالصفة المؤنّثةِ، نحو عَلّامةٍ، ونَسّابةٍ، وهو سماعيّ. انتهى كلام الفيّوميّ ببعض تصرّف

(1)

.

وقال ابن منظور رحمه الله: طلاقُ المرأة: بينونتُها عن زوجها، وامرأةٌ طالقٌ من نسوةٍ طُلَّقٍ، وطالقةٌ من نسوة طَوَالِق، وطَلَّقَ الرجلُ امرأتَهُ، وطَلَقَتْ هي - بالفتح - تَطْلُقُ طَلَاقًا، وطَلُقَتْ - بالضم - والضمّ أكثر عند ثعلب، وأنكره الأخفش، طلاقًا، وأطلقها بَعْلُها، وطَلَّقَها، ورجلٌ مِطلاقٌ ومِطليقٌ وطِلِّيقٌ - بكسر أول الكلّ - وطُلَقَةٌ، كَهُمَزَةٍ: كثير التطليق للنساء. انتهى ببعض تصرّف

(2)

.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 376.

(2)

"لسان العرب" 10/ 226.

ص: 6

وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: "الطلاق" هو: حلّ العِصْمة المنعقِدة بين الأزواج بألفاظ مخصوصة، و"الفسخُ": هو إزالة ما يُتوهَّم انعقاده لموجِب يمنع العقدَ، وقد يُطلق الفسخ، ويُراد به الطلاق، على ما يأتي - إن شاء الله تعالى - انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: "الطلاق": مشتقّ من الإطلاق، وهو الإرسال، والترك، ومنه طَلَّقتُ البلاد: أي تركتها، ويقال: طَلَقَت المرأة، بفتح اللام، وضمّها، والفتح أفصح، تَطْلُق بضمّها فيهما. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": "الطّلاق" في اللغة حلّ الوثاق، مشتقّ من الإطلاق، وهو الإرسال والترك، وفلان طَلْقُ اليد؛ أي: كثير البذل.

وفي الشرع: حلُّ عُقْدة التزويج فقط، وهو موافقٌ لبعض أفراد مدلوله اللغويّ. قال إمام الحرمين: هو لفظٌ جاهليّ، ورد الشرع بتقريره.

وطلقت المرأة - بفتح الطاء، وضمّ اللام، وبفتحها أيضًا، وهو أفصح - وطُلِّقَتْ أيضًا بضمّ أوله، وكسر اللام الثقيلة، فإن خفّفت فهو خاصّ بالولادة، والمضارعُ فيهما بضمّ اللام، والمصدر في الولادة: طَلْقًا، ساكنة اللام، فهي طالقٌ فيهما. انتهى.

وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله: الطلاق مشروع، والأصل في مشروعيّته الكتاب، والسنّة، والإجماع، أما الكتاب فقول الله تعالى:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} الآية [البقرة: 229]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} الآية [الطلاق: 1].

وأما السنّة فما روى ابن عمر رضي الله عنهما أنه طلّق امرأته، وهي حائضٌ، فسأل عمرُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟. . . الحديث الآتي في الباب التالي.

قال: في آي وأخبارٍ سوى هذين كثير.

وأجمع الناس على جواز الطلاق، والعبرة دالّة على جوازه؛ فإنه ربّما فَسَدت الحال بين الزوجين، فيصير بقاء النكاح مَفسدةً مَحْضَةً، وضررًا مجرّدًا بإلزام الزوج النفقةَ والسكنى، وحبس المرأة، مع سوء العشرة، والخصومة

(1)

"المفهم" 4/ 224.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 60.

ص: 7

الدائمة من غير فائدة، فاقتضى ذلك شرع ما يُزيلُ النكاح؛ لتزول المفسدةُ الحاصلة منه. انتهى كلام ابن قدامة رحمه الله

(1)

.

[تنبيه]: قال في "الفتح": ثم الطلاق قد يكون حرامًا، أو مكروهًا، أو واجبًا، أو مندوبًا، أو جائزًا.

أما الأول: ففيما إذا كان بدعيًّا، وله صورٌ.

وأما الثاني: ففيما إذا وقع بغير سبب مع استقامة الحال.

وأما الثالث: ففي صور، منها الشقاق، إذا رأى الحكمان.

وأما الرابع: ففيما إذا كانت غير عفيفة.

وأما الخامس، فنفاه النوويّ، وصوّره غيره بما إذا كان لا يريدها، ولا تطيب نفسه أن يتحمّل مؤنتها من غير حصول الاستمتاع، فقد صرّح الإمام أن الطلاق في هذه الصورة لا يكره. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1) - (بَابٌ فِي طَلَاقِ السُّنَّةِ)

(3)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[3652]

(1471) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَن نَافِعٍ عَن ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ، فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مُرْهُ، فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيَتْرُكْهَا، حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِى أَمَرَ اللهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) أبو زكرياء النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

(1)

"المغني" 10/ 323.

(2)

"الفتح" 12/ 5 - 6.

(3)

هكذا ترجم القرطبيّ رحمه الله، وترجمته أولى وأخصر من ترجمة النووي، فتأمله.

ص: 8

2 -

(مَالِكُ بْنُ أَنَسِ) بن مالك بن أبي عامر الأصبحيّ، أبو عبد الله إمام دار الهجرة الفقيه، رأس المتقنين، وكبير المتثبِّتين [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

3 -

(نَافِعٌ) مولى ابن عمر، أبو عبد الله المدنيّ الفقيه، ثقةٌ ثبتٌ مشهور [3](ت 117) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

4 -

(ابْنُ عُمَرَ) عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما العدويّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ، مات سنة (3 أو 74)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (236) من رباعيّات الكتاب.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، كما أسلفته آنفًا.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فنيسابوري.

4 -

(ومنها): أنه أصحّ الأسانيد عند البخاريّ: مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

5 -

(ومنها): أن فيه ابن عمر رضي الله عنهما من المكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا، وأحد العبادلة الأربعة، وأشدّ الناس اتّباعًا للأثر، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَن ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ) وفي رواية الليث التالية: "أن ابن عمر طلق امرأة له"، وفي رواية عبيد الله بن عمر الثالثة:"طَلَّقتُ امرأتي"، وكذا في رواية يونس بن جُبير الآتية أيضًا.

قال في "الفتح": قال النوويّ في "تهذيبه": اسمها آمنة بنت غِفَار، قاله ابن باطيش، ونقله عن النوويّ جماعة ممن بعده، منهم الذهبيّ في "تجريد الصحابة"، لكن قال: في "مبهماته"، فكأنه أراد "مبهمات التهذيب"، وأوردها الذهبي في "آمنة" بالمدّ، وكسر الميم، ثم نون، وأبوها غِفَار ضبطه ابن يقظة

(1)

(1)

هكذا نسخة: "الفتح"، ولعله مصحّف من ابن نُقطة، فليحرّر.

ص: 9

بكسر المعجمة، وتخفيف الفاء، قال: ولكني رأيت مستند ابن باطيش في أحاديث قتيبة، جمعِ سعيد العيار بسند فيه ابن لَهِيعة: أن ابن عمر طَلَّق امرأته آمنة بنت عَمّار، كذا رأيتها في بعض الأصول، بمهملة مفتوحة، ثم ميم ثقيلة، والأول أولى، وأقوى من ذلك ما رأيته في "مسند أحمد"، قال: حدّثنا يونس، حدثنا الليث، عن نافع؛ أن عبد الله طلّق امرأته، وهي حائض، فقال عمر: يا رسول الله إن عبد الله طلق امرأته النوَارِ، فأمره أن يراجعها. . . الحديث، وهذا الإسناد على شرط الشيخين، ويونس شيخ أحمد، هو ابن محمد المؤدِّب، من رجالهما، وقد أخرجه الشيخان عن قتيبة، عن الليث، ولكن لم تُسَمَّ عندهما، ويمكن الجمع بأن يكون اسمها آمنة، ولقبها النوَارِ. انتهى

(1)

.

(وَهِيَ حَائِضٌ) جملة حاليّة من المفعول، وفي رواية قاسم بن أصبغ، من طريق عبد الحميد بن جعفر، عن نافع، عن ابن عمر:"أنه طلّق امرأته، وهي في دمها حائضٌ"، وعند البيهقيّ:"أنه طلّق امرأته في حيضها"، (فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية أبي الزبير الآتية:"على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، قال في "الفتح": وأكثر الرواة لم يذكروا ذلك؛ استغناءً بما في الخبر أن عمر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستلزم أن ذلك وقع في عهده.

وزاد الليث، عن نافع في الرواية التالية:"تطليقةً واحدةً"، وقال المصنّف في آخره:"جوّد الليث في قوله: "تطليقة واحدة"، وكذا وقع عنده من طريق محمد بن سيرين الآتية: قال: "مكثتُ عشرين سنة يُحدّثني من لا أتّهم أن ابن عمر طلّق امرأته ثلاثًا، وهي حائضٌ، فأمره أن يراجعها، فكنتُ لا أتّهمهم، ولا أعرف وجه الحديث، حتى لقيت أبا غلّاب يونس بن جُبير، وكان ذا ثبت، فحدّثني أنه سأل ابن عمر، فحدّثه أنه طلّق امرأته تطليقة، وهي حائضٌ"، وأخرجه الدارقطنيّ، والبيهقيّ من طريق الشعبيّ، قال: "طلّق ابن عمر امرأته، وهي حائضٌ واحدةً"، ومن طريق عطاء الخراسانيّ، عن الحسن، عن ابن عمر؛ أنه "طلّق امرأته تطليقةً، وهي حائضٌ". قاله في "الفتح"

(2)

.

(فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ) وفي رواية سالم الآتية:

(1)

"الفتح" 10/ 7 - 8.

(2)

"الفتح" 10/ 8.

ص: 10

"قال: طلّقت امرأتي، وهي حائض، فذَكَرَ ذلك عمر للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فتغيّظ رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك"، وفي رواية يونس بن جبير:"طلّقت امرأتي، فأتى عمر النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فذكر له ذلك".

قال في "الفتح" بعد ذكر رواية سالم، ما نصّه: ولم أر هذه الزيادة في رواية غير سالم، وهو أجلّ مَن روى الحديث عن ابن عمر، وفيه إشعارٌ بأن الطلاق في الحيض كان تقدّم النهي عنه، وإلا لم يقع التغيّظ على أمر لم يسبق النهي عنه.

ولا يعكُرُ على ذلك مبادرة عمر بالسؤال عن ذلك؛ لاحتمال أن يكون عرَفَ حكم الطلاق في الحيض، وأنه منهيّ عنه، ولم يَعرِف ماذا يَصنَع من وقع له ذلك؟

قال ابن العربيّ: سؤال عمر رضي الله عنه مُحْتَمِلٌ لأن يكون أنهم لم يروا قبلها مثلها، فسأل لِيَعْلَم. ويَحْتَمِل أن يكون لَمّا رأى في القرآن قوله تعالى:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، وقوله:{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] أراد أن يعلم أن هذا قرء، أم لا؟

ويَحْتَمِل أن يكون سمع من النبيّ صلى الله عليه وسلم النهي، فجاء ليسأل عن الحكم بعد ذلك.

وقال ابن دقيق العيد: وتغيُّظُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إِمّا لأن المعنى الذي يقتضي المنع كان ظاهرًا، فكان مقتضى الحال التثبّتَ في ذلك، أو لأنه كان مقتضى الحال مشاورة النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك إذا عزم عليه. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مُرْهُ) - بضمّ الميم، وسكون الراء -: فعل أمر من أَمَر يأمُرُ، من باب نصر ينصُرُ، وأصله اؤمر، فحذفت فاء الكلمة شذوذًا؛ لكثرة الاستعمال، وهمزة الوصل؛ استغناء عنها، فصار "مُر"، بضمّ، فسكون، وإليه أشار ابن مالك في "لاميّته" حيث قال:

وَشَذَّ بِالْحَذْفِ "مُرْ" و"خُذْ" و"كُلْ "وَفَشَا

و"امُرْ" وَمُسْتَنْدَرٌ تَتْمِيمُ "خُذْ" و"كُلَا"

(فَلْيُرَاجِعْهَا) فيه أن المراجعة واجبة؛ لأَمْره صلى الله عليه وسلم المراجعة، وهو القول

(1)

"الفتح" 10/ 9.

ص: 11

الراجح، وسيأتي تحقيق الخلاف فيه في المسألة الخامسة - إن شاء الله تعالى -.

(ثُمَّ لِيَتْرُكْهَا) بكسر اللام، ويجوز تسكينها؛ أي: يترك مسّها، وفي الرواية التالية:"ثم يُمسكها"؛ أي: يستمرّ بها في عصمته (حَتَّى تَطْهُرَ) بضمّ الهاء لا غير؛ أي: من حيضتها هذه التي وقع فيها الطلاق (ثُمَّ تَحِيضَ) حيضة أخرى (ثُمَّ تَطْهُرَ)؛ أي: من هذه الحيضة، وفي رواية عبيد الله الآتية:"ثم ليدعها حتى تطهر، ثم تحيض حيضة أخرى، فإذا طهرت، فليطلّقها"، ونحوه في رواية الليث، وأيوب، عن نافع، وكذا في رواية عبد الله بن دينار، ورواية الزهري عن سالم.

وفي رواية محمد بن عبد الرحمن، عن سالم الآتية:"مره، فليراجعها، ثم ليطلّقها طاهرًا، أو حاملًا"، قال الشافعيّ: غير نافع إنما رَوَى: "حتى تطهر من الحيضة التي طلّق فيها، ثم إن شاء أمسك، وإن شاء طلّق"، رواه يونس بن جبير، وأنس بن سيرين، وسالم.

قال الحافظ: وهو كما قال، لكن رواية الزهريّ، عن سالم موافقةٌ لرواية نافع، وقد نبّه على ذلك أبو داود، والزيادة من الثقة مقبولةٌ، ولا سيّما إذا كان حافظًا. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ)؛ أي: بعد طهارتها من هذه الحيضة (وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ) تقدّم أن فتح ميمه أفصح من ضمها؛ أي: قبل أن يجامعها، وفي رواية أيوب:"ثم يطلِّقها قبل أن يمسها"، وفي رواية عبيد الله بن عمر:"فإذا طَهُرت، فليطلقها قبل أن يجامعها، أو يُمْسكها"، ونحوه في رواية الليث، وفي رواية الزهريّ، عن سالم:"فإن بدا له أن يطلقها، فليطلقها طاهرًا قبل أن يمسها"، وفي رواية محمد بن عبد الرحمن، عن سالم:"ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملًا".

(فَتِلْكَ الْعِدَّةُ) الإشارة إلى الحالة التي هي حالة الطهر؛ أي: إن حالة الطهر هي عين العدّة (الَّتِي أَمَرَ) أي: أَذِنَ (اللهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ") وهذا بيان لمراد الآية، وهي قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ

(1)

"الفتح" 9/ 351.

ص: 12

لِعِدَّتِهِنَّ} الآية [الطلاق: 1]، وصرّح معمر في روايته، عن أيوب، عن نافع بأن الكلام عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي رواية الزبير، قال ابن عمر: وقرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الآية، واستدلّ به من ذهب إلى أن الأقراء هي الأطهار للأمر بطلاقها في الطهر، وقوله:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ؛ أي: وقت ابتداء عدّتهنّ، وقد جعل للمطلّقة تربّص ثلاثة قروء، فلما نهى عن الطلاق في الحيض، وقال: إن الطلاق في الطهر هو الطلاق المأذون فيه عُلم أن الأقراء الأطهار. قاله ابن عبد البرّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 3652 و 3653 و 3654 و 3655 و 3656 و 3657 و 3658 و 3659 و 3660 و 3661 و 3662 و 3663 و 3664 و 3665 و 3666 و 3667 و 3668 و 3669 و 3670 و 3671 و 3672](1471)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4908) و"الطلاق"(5252 و 5253 و 5258 و 5332 و 5333) و"الأحكام"(7160)، و (أبو داود) في "الطلاق"(2179 و 2182)، و (الترمذيّ) في "الطلاق"(1175 و 1176)، و (النسائيّ) في "الطلاق"(6/ 137 - 138 و 140 و 212) و"الكبرى"(3/ 338 و 339 و 341 و 343 و 344 و 345 و 402 و 403)، و (ابن ماجه) في "الطلاق"(2019 و 2022 و 2023)، و (مالك) في "الموطّإ"(1220)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 32 - 43)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(10952)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1853)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 2 - 3)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 54 و 63 و 102)، و (الدارميّ) في "سننه"(2262 و 2263)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4263)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(734)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 53)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 144 و 145 و 147 و 148 و 149 و 150 و 151)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه" (4/ 147 و 148 و 149

ص: 13

و 150 و 151 و 152)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(4/ 7)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 324)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2351)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان طلاق السنّة، وهو أن يطلّقها كما أمره صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، قال البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": وطلاق السنّة أن يطلّقها طاهرًا، من غير جماع، ويُشهد شاهدين. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): بيان المعنى المراد في قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} الآية، وهو أن يطلّقها في طهر لم يُجامعها فيه.

3 -

(ومنها): تحريم طلاق الحائض، وأنه إذا طلّق يقع الطلاق عند الجمهور، وهو الحقّ، وخالف في ذلك بعض الظاهريّة، وسيأتي تحقيق القول في ذلك قريبًا - إن شاء الله تعالى -.

4 -

(ومنها): تحريم طلاق المرأة في طهر جامعها فيه، وبه قال الجمهور، وقال المالكيّة: لا يحرم، وفي رواية كالجمهور، ورجحها الفاكهانيّ؛ لكونه شَرَط في الإذن في الطلاق عدم المسيس، والمعلّق بشرط معدوم عند عدمه، وهذا هو الحقّ.

5 -

(ومنها): أن الزوج يستقلّ بالرجعة، دون الوليّ، ورضا المرأة؛ لأنه جعل ذلك إليه، دون غيره، وهو كقوله تعالى:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228].

6 -

(ومنها): أن الأب يقوم عن ابنه البالغ الرشيد في الأمور التي تقع له مما يَحتَشِم الابن من ذِكْره، ويتلقّى عنه ما لعلّه يلحقه من العتاب على فعله شفقةً منه، وبرًّا.

7 -

(ومنها): أن طلاق الطاهرة لا يُكره؛ لأنه أنكر إيقاعه في الحيض، لا في غيره؛ ولقوله في آخر الحديث:"فإن شاء أمسك، وإن شاء طلّق".

8 -

(ومنها): أن الحامل لا تحيض؛ لقوله في طريق سالم المتقدّمة: "ثم لْيُطلّقها طاهرًا، أو حاملًا"، فحرّم الطلاق في زمن الحيض، وأباحه في زمن الحمل، فدلّ على أنهما لا يجتمعان.

(1)

"صحيح البخاري" بنسخة: "الفتح" 10/ 5.

ص: 14

وأجاب من قال: تحيض الحامل بأن حيض الحامل لمّا لم يكن له تأثير في تطويل العدّة، ولا تخفيفها؛ لأنها بوضع الحمل، أباح الشارع طلاقها حاملًا مطلقًا، وأما غير الحامل ففرق بين الحائض والطاهر؛ لأن الحيض يؤثر في العدّة، فالفرق بين الحامل وغيرها إنما هو بسبب الحمل، لا بسبب الحيض، ولا الطهر.

9 -

(ومنها): أن الأقراء في العدّة هي الأطهار.

10 -

(ومنها): أنه تمسّك بالزيادة التي في رواية سالم الآتية: "ثم ليطلقها طاهرًا، أو حاملًا" من استثنى من تحريم الطلاق في طهر جامعها فيه ما إذا ظهر الحمل، فإنه لا يحرم، والحكمة فيه أنه إذا ظهر الحمل فقد أقدم على ذلك على بصيرة، فلا يندم على الطلاق، وأيضًا فإن زمن الحمل زمن الرغبة في الوطء، فإقدامه على الطلاق فيه يدلّ على رغبته عنها.

ومحلّ ذلك أن يكون الحمل من المطلِّق، فلو كان من غيره بأن نكح حاملًا من زنا، ووطئها، ثم طلّقها، أو وُطئت منكوحته بشبهة، ثم حملت منه، فطلّقها زوجها، فإن الطلاق يكون بدعيًّا؛ لأن عدّة الطلاق تقع بعد وضع الحمل، والنقاء من النفاس، فلا تُشرع عقب الطلاق في العدّة، كما في الحامل منه. قاله في "الفتح "

(1)

.

11 -

(ومنها): أن الخطابيّ رحمه الله قال في قوله: "ثم إن شاء أمسك، وإن شاء طلّق" دليلٌ على أن من قال لزوجته، وهي حائضٌ: إذا طهرتِ، فأنت طالقٌ لا يكون مطلّقًا للسنّة؛ لأن المطلّق للسنّة هو الذي يكون مخيّرًا عند وقوع طلاقه بين إيقاع الطلاق وتركه، ومن سبق منه هذا القول في وقت الحيض زائلٌ عنه الخيار في وقت الطهر. انتهى

(2)

.

12 -

(ومنها): أنه استُدِلّ بقوله: "قبل أن يمسّ" على أن الطلاق في طهر جامعها فيه حرام، وبه صرّح الجمهور، فلو طلّق هل يُجبر على الرجعة كما يُجبر عليها إذا طلّقها، وهي حائضٌ؟ طرده بعض المالكيّة فيهما، والمشهور عنهم إجباره في الحائض، دون الطاهر، وقالوا فيما إذا طلّقها، وهي حائض:

(1)

"الفتح" 10/ 12 - 13.

(2)

"معالم السنن" 3/ 201 - 202.

ص: 15

يُجبر على الرجعة، فمان امتنع أدّبه الحاكم، فإن أصرّ ارتجع عليه، وهل يجوز له وطؤها بذلك؟ روايتان لهم، أصحّهما الجواز، وعن داود يجبر على الرجعة إذا طلّقها حائضًا، ولا يُجبر إذا طلّقها نفساء، وهو جمود، ذكره في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في وقوع الطلاق في الحيض: قال النوويّ رحمه الله: أجمعت الأمة على تحريم طلاق الحائض الحائل بغير رضاها، فلو طلّقها أَثِم، ووقع طلاقه، ويؤمر بالرجعة؛ لحديث ابن عمر المذكور في الباب، وشذّ بعض أهل الظاهر، فقال: لا يقع طلاقه؛ لأنه غير ماذون له فيه، فأشبه طلاق الأجنبيّة، والصواب الأول، وبه قال العلماء كافّةً، ودليلهم أمره بمراجعتها، ولو لم يقع لم تكن رجعة.

[فإن قيل]: المراد بالرجعة الرجعة اللغويّة، وهي الرّدّ إلى حالها الأول، لا أنه تحسب عليه طلقةٌ.

[قلنا]: هذا غلطٌ لوجهين:

[أحدهما]: أن حمل اللفظ على الحقيقة الشرعيّة يُقدّم على حمله على الحقيقة اللغويّة، كما تقرّر في أصول الفقه.

[الثاني]: أن ابن عمر صرّح في روايات مسلم وغيره بأنه حسبها عليه طلقة. انتهى.

وقال في "الفتح": قال النوويّ: شذّ بعض أهل الظاهر، فقال: إذا طلّق الحائض لم يقع الطلاق لأنه غير مأذون فيه، فأشبه طلاق الأجنبيّة، وحكاه الخطابيّ عن الخوارج والروافض، وقال ابن عبد البرّ: لا يخالف في ذلك إلا أهل البدع والضلال - يعني الآن. قال: وروي مثله عن بعض التابعين، وهو شذوذ، وحكاه ابن العربيّ وغيره عن ابن عُليّة - يعني إبراهيم بن إسماعيل بن عليّة الذي قال الشافعيّ في حقّه: إبراهيم ضالٌّ، جلس في باب الضوالّ يُضلّ الناس، وكان بمصر، وله مسائل ينفرد بها، وكان من فقهاء المعتزلة. وقد غَلِطَ من ظنّ أن المنقول عنه المسائل الشاذّة أبوه، وحاشاه، فإنه من كبار أهل

(1)

10/ 13.

ص: 16

السنّة. وكأن النوويّ أراد ببعض الظاهريّة ابنَ حزم، فإنه ممن جرّد القول بذلك، وانتصر له، وبالغ، وأجاب عن أمر ابن عمر بالمراجعة بأن ابن عمر كان اجتنبها، فأمره أن يُعيدها إليه على ما كانت عليه من المعاشرة، فحمل المراجعة على معناها اللغويّ.

وتُعُقّب بأن الحمل على الحقيقة الشرعيّة مقدّمٌ على اللغويّة اتفاقًا.

وأجاب عن قول ابن عمر: "حسبت عليّ بتطليقة" بأنه لم يُصرّح بمن حسبها عليه، ولا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم

وتُعُقّب بأن مثل قول الصحابيّ: "أمرنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا"، فإنه ينصرف إلى من له الأمر حينئذ، وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم، كذا قال بعض الشرّاح.

قال الحافظ: وعندي أنه لا ينبغي أن يجيء فيه الخلاف الذي في قول الصحابيّ: أمرنا بكذا، فإن ذلك محلّه حيث يكون اطلاع النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك ليس صريحًا، وليس كذلك في قصّة ابن عمر هذه، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الآمر بالمراجعة، وهو المرشد لابن عمر فيما يَفعل إذا أراد طلاقها بعد ذلك، وإذا أخبر ابن عمر أن الذي وقع منه حُسبت عليه تطليقة، كان احتمال أن يكون الذي حسبها غير النبيّ صلى الله عليه وسلم بعيدًا جدًّا مع احتفاف القرائن في هذه القصّة بذلك، وكيف يتخيّل أن ابن عمر يفعل في القصّة شيئًا برأيه، وهو ينقل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تغيّظ من صنيعه؟ كيف لم يشاوره فيما يفعل في القصّة المذكورة؟

وقد أخرج ابن وهب في "مسنده" عن ابن أبي ذئب أن نافعًا أخبره: أن ابن عمر طلّق امرأته، وهي حائض، فسال عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال:"مره، فليُراجعها، ثم يُمسكها حتى تطهر"، قال ابن أبي ذئب في الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"وهي واحدة". قال ابن أبي ذئب: وحدّثني حنظلة بن أبي سفيان؛ أنه سمع سالمًا يُحدّث، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك.

وأخرجه الدارقطنيّ من طريق يزيد بن هارون، عن ابن أبي ذئب، وابن إسحاق جميعًا، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"هي واحدة"، وهذا نصٌّ في موضع الخلاف، فيجب المصير إليه.

وأورده بعض العلماء على ابن حزم، فأجابه بأن قوله:"هي واحدة" لعله ليمس من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم فألزمه بأنه نقض أصله لأن الأصل لا يُدفع بالاحتمال.

ص: 17

وعند الدارقطنيّ في رواية شعبة، عن أنس بن سيرين، عن ابن عمر في القصّة:"فقال عمر: يا رسول اللهُ أفتحتسب بتلك التطليقة؟ قال: نعم"، ورجاله إلى شعبة ثقات.

وعنده من طريق سعيد بن عبد الرحمن الْجُمَحيّ، عن عُبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر:"أن رجلًا قال: إني طلّقت امرأتي البتّةَ، وهي حائضٌ، فقال: عصيت ربّك، وفارقت امرأتك، قال: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر أن يراجعها بطلاق بقي له، وأنت لم تُبق ما ترتجع به امرأتك".

وفي هذا السياق ردٌّ على من حمل الرجعة في قصّة ابن عمر على المعنى اللغويّ.

وقد وافق ابنَ حزم على ذلك من المتأخّرين ابنُ تيميّةَ، وله كلام طويلٌ في تقرير ذلك، والانتصار له، وأعظم ما احتجّوا به ما وقع في رواية أبي الزبير، عن ابن عمر عند مسلم، وأبي داود، والنسائيّ، وفيه: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليُراجعها، فردّها، وقال: إذا طهرت فليُطلّق، أو يمسك"، لفظ مسلم، وللنسائيّ، وأبي داود:"فردّها عليّ"، زاد أبو داود:"ولم يرها شيئًا"، وإسناده على شرط الصحيح، فإن مسلمًا أخرجه من رواية حجاج بن محمد، عن ابن جريج، وساقه على لفظه، ثم أخرجه من رواية أبي عاصم، عنه، وقال: نحو هذه القصّة، ثم أخرجه من رواية عبد الرزّاق، عن ابن جريج، قال: مثل حديث حجاج، وفيه بعض الزيادة، فاشار إلى هذه الزيادة، ولعلّه طَوَى ذكرها عمدًا.

وقد أخرج أحمد الحديث عن رَوح بن عُبادة، عن ابن جريج، فذكرها، فلا يتخيّل انفراد عبد الرزّاق بها.

قال أبو داود: روى هذا الحديث عن ابن عمر جماعة، وأحاديثهم كلّها على خلاف ما قال أبو الزبير.

وقال ابن عبد البرّ: قوله: "ولم يرها شيئًا" منكرٌ، لم يقله غير أبي الزبير، وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله، فكيف بمن هو أثبت منه؟ ولو صحّ فمعناه عندي - والله أعلم -: ولم يرها شيئًا مستقيمًا؛ لكونها لم تقع على السنّة.

ص: 18

وقال الخطّابيّ: قال أهل الحديث: لم يرو أبو الزبير حديثًا منكرًا من هذا، وقد يَحْتَمِل أن يكون معناه: ولم يرها شيئًا تَحْرُم معه المراجعة، أو لم يرها شيئًا جائزًا في السنّة، ماضيًا في الاختيار، وإن كان لازمًا له مع الكراهة.

ونقل البيهقيّ في "المعرفة" عن الشافعيّ أنه ذكر رواية أبي الزبير، فقال: نافعٌ أثبتُ من أبي الزبير، والأثبت من الحديثين أولى أن يؤخذ به إذا تخالفا، وقد وافق نافعًا غيره من أهل الثبت، قال: وبسط الشافعيّ القول في ذلك، وحمل قوله:"لم يرها شيئًا" على أنه لم يعدّها شيئًا صوابًا غير خطإ، بل يؤمر صاحبه أن لا يقيم عليه؛ لأنه أمره بالمراجعة، ولو كان طلّقها طاهرًا لم يؤمر بذلك، فهو كما يقال للرجل إذا أخطأ في فعله، أو أخطأ في جوابه: لم يصنع شيئًا؛ أي: لم يصنع شيئًا صوابًا.

قال ابن عبد البرّ: واحتجّ بعض من ذهب إلى أن الطلاق لا يقع بما روي عن الشعبيّ، قال: إذا طلّق الرجل امرأته، وهي حائضٌ لم يعتدّ بها في قول ابن عمر.

قال ابن عبد البرّ: وليس معناه ما ذهب إليه، وإنما معناه: لم تعتدّ المرأة بتلك الحيضة في العدّة، كما روي ذلك عنه منصوصًا أنه قال: يقع عليها الطلاق، ولا تعتدّ بتلك الحيضة. انتهى.

وقد روى عبد الوهّاب الثقفيّ، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر نحوًا مما نقله ابن عبد البرّ، عن الشعبيّ، أخرجه ابن حزم بإسناد صحيح، والجواب عنه مثله.

وروى سعيد بن منصور من طريق عبد الله بن مالك، عن عمر أنه طلّق امرأته، وهي حائض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ليس ذلك بشيء"، وهذه متابعات لأبي الزبير، إلا أنها قابلة للتأويل، وهو أولى من إلغاء الصريح في قول ابن عمر: إنها تحتسب عليه بتطليقة. وهذا الجمع الذي ذكره ابن عبد البرّ وغيره يتعيّن، وهو أولى من تغليط بعض الثقات. وأما قول ابن عمر:"إنها حُسبت عليه بتطليقة"، فإنه وإن لم يُصرّح برفع ذلك إلى النبيّ (صلى الله عليه وسلم)، فإن فيه تسليم أن ابن عمر قال: إنها حُسبت عليه، فكيف يجتمع مع هذا قوله: إنه لم يعتدّ بها، أو لم يرها شيئًا على المعنى الذي ذهب إليه المخالفون؟ لأنه إن جُعِل الضمير

ص: 19

للنبيّ صلى الله عليه وسلم لزم منه أن ابن عمر خالف ما حكم به النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذه القصّة بخصوصها؛ لأنه قال: إنها حُسبت عليه بتطليقة، فيكون من حسبها عليه خالف كونه لم يرها شيئًا، وكيف يُظنّ به ذلك، مع اهتمامه، واهتمام أبيه بسؤال النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك ليفعل ما يأمره به؟ وإن جُعل الضمير في "لم يعتدّ بها"، أو "لم يرها" لابن عمر لزم منه التناقض في القصّة الواحدة، فيفتقر إلى الترجيح، ولا شكّ أن الأخذ بما رواه الأكثر، والأحفظ أولى من مقابله عند تعذّر الجمع عند الجمهور، والله أعلم.

واحتجّ ابن القيّم لترجيح ما ذهب إليه شيخه بأقيسة، ترجع إلى مسألة أن النهي يقتضي الفساد، فقال: الطلاق ينقسم إلى حلال وحرام، فالقياس أن حرامه باطلٌ؛ كالنكاح، وسائر العقود، وأيضًا فكما أن النهي يقتضي التحريم، فكذلك يقتضي الفساد، وأيضًا فهو طلاقٌ مَنَعَ منه الشرع، فأفاد منه عدم جواز إيقاعه، فكذلك يفيد عدم نفوذه، وإلا لم يكن للمنع فائدة؛ لأن الزوج لو وكّل رجلًا أن يطلّق امرأته على وجه، فطلّقها على غير الوجه المأذون فيه لم ينفذ، فكذلك لم يأذن الشارع للمكلّف في الطلاق إلا إذا كان مباحًا، فإذا طلّق طلاقًا محرّمًا لم يصحّ، وأيضًا فكلّ ما حرّمه الله من العقود مطلوب الإعدام، فالحكم ببطلان ما حرّمه أقرب إلى تحصيل هذا المطلوب من تصحيحه، ومعلومٌ أن الحلال المأذون فيه ليس كالحرام الممنوع منه، ثم أطال من هذا الجنس بمعارضات كثيرة، لا تنهض مع التنصيص على صريح الأمر بالرجعة، فإنها فرع وقوع الطلاق على تصريح صاحب القصّة بأنها حسبت عليه تطليقة، والقياس في معارضة النصّ فاسد الاعتبار، والله أعلم.

وقد عورض بقياس أحسن من قياسه، فقال ابن عبد البرّ: ليس الطلاق من أعمال البرّ التي يُتقرّب بها، وإنما هو إزالة عصمة فيها حقّ آدميّ، فكيفما أوقعه وقع، سواء أُجر في ذلك، أم أثم، ولو لزم المطيع، ولم يلزم العاصي لكان العاصي أخفّ حالًا من المطيع.

ثم قال ابن القيّم: لم يَرِد التصريح بان ابن عمر احتسب بتلك التطليقة إلا في رواية سعيد بن جبير عنه، عند البخاريّ، وليس فيها تصريحٌ بالرفع، قال: فانفراد سعيد بن جبير بذلك كانفراد أبي الزبير بقوله: "لم يرها شيئًا"،

ص: 20

فإما أن يتساقطا، وإما أن ترجّحوا رواية أبي الزبير؛ لتصريحها بالرفع، وتُحمل رواية سعيد بن جبير على أن أباه هو الذي حسبها عليه بعد موت النبيّ صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي ألزم الناس فيه بالطلاق الثلاث، بعد أن كانوا في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يحتسب عليهم به ثلاثًا، إذا كان بلفظ واحد.

قال الحافظ: وغفل رحمه الله عما ثبت في "صحيح مسلم" من رواية أنس بن سيرين على وفاق ما روى سعيد بن جبير، وفي سياقه ما يُشعر بأنه إنما راجعها في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم ولفظه:"سألت ابن عمر عن امرأته التي طلّق، فقال: طلّقتها، وهي حائض، فذكر ذلك عمر للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: "مره فليراجعها، فإذا طهرت، فليُطلّقها لطهرها، قال: فراجعتها، ثم طلّقتها لطهرها، قلت: فاعتددت بتلك التطليقة، وهي حائض؟ فقال: ما لي لا أعتدّ بها، وإن كنت عجزت، واستحمقت".

وعند مسلم أيضًا من طريق ابن أخي ابن شهاب، عن عمه، عن سالم في حديث الباب:"وكان عبد الله بن عمر طلّقها تطليقة، فحسبت من طلاقها، فراجعها كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وله من رواية الزُّبيديّ، عن ابن شهاب:"قال ابن عمر: فراجعتها، وحسبت لها التطليقة التي طلّقتها".

وعند الشافعيّ عن مسلم بن خالد، عن ابن جريج:"أنهم أرسلوا إلى نافع يسألونه، هل حسبت تطليقة ابن عمر على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم".

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لقد أجاد الحافظ رحمه الله في هذا التحرير والتقرير الذي ساقه في هذه المسألة، من الروايات المختلفة فيها، والتوفيق بينها بما ساقه من أقوال أهل العلم، فتبيّن بذلك أن الحقّ هو ما ذهب إليه الجمهور من وقوع الطلاق في حالة الحيض، مع كونه مخالفًا للسنّة.

ولقد أجاد البحث الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله في كتابه "إرواء الغليل" حيث استوفى معظم الروايات المختلفة لحديث ابن عمر هذا، وتكلّم عليها بكلام مفصّل نفيس جدًّا، ثم قال في آخر بحثه:

فإذا نظر المتأمل في طرق هذين القسمين، وفي ألفاظهما تبيّن له بوضوح لا غُموض فيه أرجحية القسم الأول - يعني الاعتداد بتلك التطليقة - على الآخر - يعني عدم الاعتداد بها - وذلك لوجهين:

ص: 21

(الأول): كثرة الطرق، فإنها ستة: ثلاث منها مرفوعة، وثلاث أخرى موقوفة، واثنان من الثلاث الأولى صحيحةٌ، والأخرى ضعيفة، وأما القسم الآخر، فكلّ طرقه ثلاث: اثنان منها صحيحة أيضًا، والأخرى ضعيفة، فتقابلت المرفوعات في القسمين قوّةً وضعفًا، وبقي في القسم الأول الموقوفات الثلاث فضلة، يترجّح بها على القسم الآخر، لا سيّما وهي في حكم المرفوع؛ لأن معناها أن عبد الله بن عمر عمل بما في المرفوع، فلا شكّ أن ذلك مما يعطي المرفوع قوّةً على قوّة كما هو ظاهر.

(والوجه الآخر): قوّة دلالة القسم الأول على المراد دلالة صريحةً لا تقبل التأويل، بخلاف القسم الآخر، فهو ممكن التأويل بمثل قول الإمام الشافعيّ:"ولم يرها شيئًا" أي: صوابًا، وليس نصًّا في أنه لم يرها طلاقًا، بخلاف القسم الأول، فهو نصّ في أنه رآها طلاقًا، فوجب تقديمه على القسم الآخر، وقد اعترف ابن القيّم رحمه الله بهذا، ولكنه شكّ في صحّة المرفوع من هذا القسم، فقال: وأما قوله في حديث ابن وهب، عن ابن أبي ذئب في آخره:"وهي واحدة" فلعمر الله لو كانت هذه اللفظة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قدّمنا عليها شيئًا، ولصرنا إليها بأول وَهْلة، ولكن لا ندري أقالها ابن وهب من عنده، أم ابن أبي ذئب، أو نافع؟ فلا يجوز أن يضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يُتيقّن أنه من كلامه، ويشهد به عليه، ونرتّب عليه الأحكام، ويقال: هذا من عند الله بالوهم والاحتمال.

قال الشيخ الألباني: وفي هذا الكلام صواب وخطأ.

أما الصواب: هو اعترافه بكون هذه اللفظة نصًّا في المسألة يجب التسليم بها، والمصير إليها لو صحّت.

وأما الخطأ: فهو تشككه في صحتها، وردّه لها بدعوى أنه لا يدري أقالها ابن وهب من عنده. . . وهذا شيء عجيب من مثله؛ لأن من المتّفق عليه بين العلماء أن الأصل قبول رواية الثقة كما رواها، وأنه لا يجوز ردّها بالاحتمالات والتشكيك، وأن طريق المعرفة هو التصديق بخبر الثقة، ألا ترى أنه يمكن للمخالف لابن القيّم أن يردّ حديثه:"فردّها عليّ، ولم يرها شيئًا" بمثل الشكّ الذي أورده هو على حديث ابن وهب بالطعن في أبي الزبير؟ ونحو

ص: 22

ذلك من الشكوك، وقد فعل ذلك بعض المتقدّمين كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك، وكلّ ذلك مخالفٌ للنهج العلميّ المجرّد عن الانتصار لشيء سوى الحقّ.

على أن ابن وهب لم يتفرّد بإخراج الحديث، بل تابعه الطيالسيّ، كما تقدّم، فقال: حدّثنا ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر:"أنه طلّق امرأته، وهي حائضٌ، فأتى عمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فجعله واحدة".

وتابعه أيضًا يزيد بن هارون، نا ابن أبي ذئب به، أخرجه الدارقطنيّ من طريق محمد بن إشكاب، وهو ثقة من شيوخ البخاريّ، - وكذا بقية الرجال ثقات - نا يزيد بن هارون. وتابع ابنَ أبي ذئب ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: واحدة"، أخرجه الدارقطنيّ أيضًا، عن عياش بن محمد، وهو ثقة، نا أبو عاصم، عن ابن جريج، وهو إسناد صحيح، إن كان ابن جريج سمعه من نافع. وتابع نافعًا الشعبيّ بلفظ أنه صلى الله عليه وسلم وقال:"ثم يحتسب بالتطليقة التي طلّق أول مرّة"، وهو صحيح السند، كما تقدم.

وكلّ هذه الروايات مما لم يقف عليها ابن القيّم رحمه الله، وظني أنه لو وقف عليها لتبدّد الشكّ الذي أبداه في رواية ابن وهب، ولصار إلى القول بما دلّ عليه الحديث من الاعتداد بطلاق الحائض. انتهى كلام الشيخ الألبانيّ: رحمه الله باختصار، وهو تحقيقٌ مهمّ، ونفيس جدًّا.

وخلاصة القول في المسألة أن الصحيح قول الجمهور الذين قالوا: إن طلاق الحائض يقع، وإن كان حرامًا؛ لوضوح أدلّته، وقوّة حجّته، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في قوله صلى الله عليه وسلم: "مره فليُراجعها": قال الشيخ ابن دقيق العيد رحمه الله: تتعلّق به مسألة أصوليّة، وهي أن الأمر بالأمر بالشيء، هل هو أمرٌ بذلك الشيء، أم لا؟ فإنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر:"مُره"، فأمره بأن يأمره.

قال في "الفتح": هذه المسألة ذكرها ابن الحاجب، قال: الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرًا بذلك الشيء، لنا لو كان لكان مُر عبدك بكذا تعدّيًا، ولكان يُناقض قولك للعبد: لا تفعل. قالوا: فُهم ذلك من أمر الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن قول الملك لوزيره: قل لفلان: افعل. قلنا: للعلم بأنه مبلّغٌ.

ص: 23

قال الحافظ: والحاصل أن النفي إنما هو حيث تجرّد الأمر، وأما إذا وُجدت قرينة تدلّ على أن الأمر الأول أمر المأمور الأول أن يبلّغ المأمور الثاني فلا، وينبغي أن ينزّل كلام الفريقين على هذا التفصيل، فيرتفع الخلاف.

ومنهم من فرّق بين الأمرين، فقال: إن كان الآمر الأول بحيث يسوغ له الحكم على المأمور الثاني، فهو آمرٌ له، وإلا فلا، وهذا قويّ، وهو مستفاد من الدليل الذي استدلّ به ابن الحاجب على النفي؛ لأنه لا يكون متعدّيًا إلا إذا أمر من لا حكم له عليه؛ لئلا يصير متصرّفًا في ملك غيره بغير إذنه، والشارع حاكمٌ على الآمر والمأمور، فوجد فيه سلطان التكليف على الفريقين، ومنه قوله تعالى:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} الآية [طه: 132]، فإن كلّ أحد يفهم منه أمر الله لأهل بيته بالصلاة، ومثله حديث الباب، فإن عمر رضي الله عنه إنما استفتى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك ليمتثل ما يأمره به، ويُلزم ابنه به، فمن مثّل بهذا الحديث لهذه المسألة فهو غالطٌ؛ فإن القرينة واضحةٌ في أن عمر في هذه الكائنة كان مأمورًا بالتبليغ، ولهذا وقع في رواية أيوب، عن نافع:"فأمره أن يراجعها"، وفي رواية أنس بن سيرين، ويونس بن جُبير، وطاوس، عن ابن عمر، وفي رواية الزهريّ، عن سالم:"فليُراجعها"، وفي رواية لمسلم:"فراجعها عبد الله كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية أبي الزبير، عن ابن عمر:"ليراجعها"، وفي رواية الليث، عن نافع، عن ابن عمر:"فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمرني بهذا".

وقد اقتضى كلام سليم الرازيّ في"التقريب" أنه يجب على الثاني الفعل جزمًا، وإنما الخلاف في تسميته آمرًا، فرجع الخلاف عنده لفظيًّا.

وقال الفخر الرازيّ في "المحصول": الحقّ أن الله تعالى إذا قال لزيد: أوجبتُ على عمرو كذا، وقال لعمرو: كلّ ما أوجب عليك زيدٌ، فهو واجبٌ عليك، كان الأمر بالأمر أمرًا بالشيء. انتهى.

قال الحافظ: وهذا يمكن أن يؤخذ منه التفرقة بين الأمر الصادر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن غيره، فمهما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أحدًا أن يأمر به غيره وجب؛ لأن الله تعالى أوجب طاعته، وهو أوجب طاعة أميره، كما ثبت في "الصحيح":"من أطاعني، فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني"، وأما غيره ممن بعده فلا، وفيهم تظهر صورة التعدّي التي أشار إليها ابن الحاجب.

ص: 24

وقال ابن دقيق العيد: لا ينبغي أن يتردّد في اقتضاء ذلك الطلب، وإنما ينبغي أن ينظر في أن لوازم صيغة الأمر هل هي لوازم صيغة الأمر بالأمر أو لا؟ بمعنى أنهما يستويان في الدلالة على الطلب من وجه واحد أو لا، قال الحافظ: وهو حسنٌ، فإن أصل المسألة التي انبنى عليها هذا الخلاف حديث:"مروا أولادكم بالصلاة لسبع"، فإن الأولاد ليسوا بمكلّفين، فلا يتّجه عليهم الوجوب، وإنما الطلب متوجّه على أوليائهم أن يُعَلِّموهم ذلك، فهو مطلوب من الأولاد بهذه الطريق، وليس مساويًا للأمر الأول، وهذا إنما عرض من أمر خارج، وهو امتناع توجه الأمر على غير المكلّف، وهو بخلاف القصّة التي في حديث الباب.

والحاصل أن الخطاب إذا توجّه لمكلّف أن يأمر مكلّفًا آخر بفعل شيء كان المكلّف الأول مبلّغًا محضًا، والثاني مأمور من قبل الشارع، وهذا كقوله لمالك بن الحويرث، وأصحابه:"ومروهم بصلاة كذا في حين كذا"، وقوله لرسول ابنته صلى الله عليه وسلم:"مرها، فلتصبر، ولتحتسب"، ونظائره كثيرة، فإذا أمر الأول الثاني بذلك، فلم يمتثله كان عاصيًا، وإن توجّه الخطاب من الشارع لمكلّف أن يأمر غير مكلّف، أو توجه الخطاب من غير الشارع بأمر من له عليه الأمر أن يأمر من لا أمر للأول عليه لم يكن الأمر بالأمر بالشيء أمرًا بالشيء، فالصورة الأولى هي التي نشأ عنها الاختلاف، وهو أمر أولياء الصبيان أن يأمروا الصبيان، والصورة الثانية هي يتصوّر فيها أن يكون الأمر متعدّيًا بأمر للأول أن يأمر الثاني، فهذا فصل الخطاب في هذه المسألة، والله المستعان، قاله في "الفتح" وهو تحقيق حسن.

وقد نظمت هذه المسألة في "التحفة المرضيّة"، فقلت:

وَالأَمْرُ بِالأَمْرِ بِشَيْء لَا يُرَى

أَمْرًا بِهِ نَحْوُ "مُرُوا" كَمَا جَرَى

"أَوْلَادَكُمْ" لَيْسَ خِطَابًا لِلصّبِي

بَلِ الْوُجُوبَ لِلْوَلِيِّ نَجْتَبِي

وَإِنْ يَكُنْ حَصَلَ مَا دَلَّ عَلَيْهْ

كَـ "فَلْيُرَاجِعْهَا" فَيُصْرَفُ إِلَيْهْ

وإن أردت تحقيق معنى الأبيات، فراجع الشرح

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"المنحة الرّضِيّة" 3/ 181 - 182.

ص: 25

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في حكم الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم: "فليُراجعها"، هل هو للوجوب، أم للاستحباب؟

ذهب إلى القول بالاستحباب الأئمة: أبو حنيفة، والشافعيّ، وأحمد في المشهور عنه، وحكاه النوويّ عن سائر الكوفيين، وفقهاء المحدّثين.

وذهب مالك، وأصحابه إلى أنه للوجوب، يجبر على المراجعة ما بقي من العدّة شيء، وقال أشهب: ما لم تطهر من الثانية، فان أبى أجبره الحاكم، فإن أبى ارتجع الحاكم عليه، وله وطؤها بذلك على الأصحّ.

قال الحافظ وليّ الدين: وما تقدّم عن أبي حنيفة من الاستحباب هو المشهور في كتب الخلاف، وممن حكاه عنه النوويّ، لكن حكاه صاحب "الهداية" عن بعض المشايخ، ثم قال: والأصحّ أنه واجبٌ؛ عملًا بحقيقة الأمر، ورفعًا للمعصية بالقدر الممكن برفع أثره، وهو العدّة، ودفعًا لضرر تطويل العدّة. انتهى.

وقال داود الظاهريّ: يُجبر على الرجعة إذا طلّقها حائضًا، ولا يُجبر إذا طلّقها نفساء. وذكر إمام الحرمين أن المراجعة، وإن كانت مستحبّةً، فلا ينتهي الأمر فيه إلى أن نقول: ترك المراجعة مكروه.

قال النوويّ في "الروضة": وينبغي أن يقال بالكراهة؛ للحديث الصحيح الوارد فيها، ولدفع الإيذاء.

وحكى ابن عبد البرّ خلافًا في سبب الأمر بالرجعة، قيل: عقوبةٌ له، وقيل: دفع للضرر عنها بتطويل العدّة عليها، فلو ادعت المرأة أنه طلّقها في الحيض، وقال الزوج: في طهر، فقال سحنون: القول قولها، ويجبر على الرجعة، والأصحّ أن القول قوله، قاله في "طرح التثريب"

(1)

.

وقال في "الفتح": والحجة لمن قال بالوجوب ورود الأمر بها، ولأن الطلاق لما كان محرّمًا في الحيض كانت استدامة النكاح فيه واجبة، فلو تمادى الذي طلّق في الحيض حتى طهرت قال مالكٌ، وأكثر أصحابه: يُجبر على الرجعة أيضًا، وقال أشهب منهم: إذا طهرت انتهى الأمر بالمراجعة، واتفقوا

(1)

"طرح التثريب" 7/ 87.

ص: 26

على أنها إذا انقضت عدّتها أن لا رجعة، وأنه لو طلّق في طهر قد مسّها فيه لا يؤمر بمراجعتها، كذا نقله ابن بطّال وغيره، لكن الخلاف فيه ثابتٌ، قد حكاه الحناطيّ من الشافعيّة وجهًا، واتفقوا على أنه لو طلّق قبل الدخول، وهي حائضٌ يؤمر بالمراجعة، إلا ما نقل عن زفر، فطرد الباب. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي القولُ بوجوب الرجعة على من طلّق امرأته في حيضها هو الأرجح؛ لظهور حجته؛ لأن الأمر للوجوب إلا لصارف؛ وليس هنا صارف يُعتدّ به، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): ذكر العلماء في الحكمة في تأخير الطلاق إلى طهر بعد الطهر الذي يلي ذلك الحيض الذي وقع فيه الطلاق أمورًا:

[أحدها]: ما قاله الشافعيّ: يَحْتَمِل أن يكون أراد بذلك أن يستبرئها بعد الحيضة التي طلّقها فيها بطهر تامّ، ثم حيض تامّ؛ ليكون تطليقها، وهي تعلم عدّتها، إما بحمل، أو بحيض، أو ليكون تطليقها بعد علمه بالحمل، وهو غير جاهل بما صنع؛ إذ يرغب، فيُمسك للحمل، أو ليكون إن كانت سألت الطلاق غير حامل أن تكفّ عنه.

[الثاني]: أن الطهر الذي يلي الحيض الذي طلّقها كقرء واحد، فلو طلّقها فيه لكان كمن طلّق في الحيض، وهو ممتنعٌ من الطلاق في الحيض، فلزم أن يتأخّر إلى الطهر الثاني.

[الثالث]: أن لا تصير الرجعة لغرض الطلاق، فوجب أن يمسكها زمانًا يحلّ له فيه طلاقها، وإنما أمسكها؛ لتظهر فائدة الرجعة.

[الرابع]: أنه عقوبةٌ له، وتوبةٌ من معصيته باستدراك ما جناه، وعبّر عنه بعضهم بأنه معاملة بنقيض مقصوده، فإنه عجل ما حقّه أن يتأخر قبل وقته، فمُنع منه في وقته، وصار كمستعجل الإرث بقتل مورِّثه.

[الخامس]: أنه نهي عن طلاقها في الطهر، ليطول مقامه معها، فقد يجامعها، فيذهب ما في نفسه من سبب طلاقها، فيمسكها، قال أبو العبّاس

(1)

"الفتح" 10/ 11.

ص: 27

القرطبيّ: وهذا أشبهها، وأحسنها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة): اختلفوا في جواز تطليقها في الطهر الذي يلي الحيضة التي وقع فيها الطلاق والرجعة، وفيه للشافعيّة وجهان، أصحّهما المنع، وبه قطع المتولّي، وهو الذي يقتضيه ظاهر الزيادة التي في الحديث، وعبارة الغزاليّ في "الوسيط"، وتبعه مجلي: هل يجوز أن يطلّق في هذا الطهر؟ وجهان، وكلام المالكيّة يقتضي أن التأخير مستحبّ، وقال ابن تيميّة في "المحرّر": ولا يُطلّقها في الطهر المتعقّب له، فإنه بدعةٌ، وعنه - أي: عن أحمد - جواز ذلك، وفي كتب الحنفيّة عن أبي حنيفة الجواز، وعن أبي يوسف ومحمد المنع.

ووجه الجواز أن التحريم إنما كان لأجل الحيض، فإذا طهرت زال موجب التحريم، فجاز طلاقها في هذا الطهر، كما يجوز في الطهر الذي بعده، وكما يجوز طلاقها في الطهر إن لم يتقدّم طلاق في الحيض.

ومن حجج المانعين أنه لو طلّقها عقب تلك الحيضة كان قد راجعها ليطلّقها، وهذا عكس مقصود الرجعة، فإنها شُرعت لإيواء المرأة، ولهذا سماها إمساكًا، فأمره أن يمسكها في ذلك الطهر، وأن لا يطلّق فيه حتى تحيض حيضةً أخرى، ثم تطهر؛ لتكون الرجعة للإمساك، لا للطلاق، ويؤيّد ذلك أن الشارع أكّد هذا المعنى حيث أمر بأن يمسكها في الطهر الذي يلي الحيض الذي طلّقها فيه؛ لقوله في رواية عبد الحميد بن جعفر:"مره أن يراجعها، فإذا طهرت أمسكها، حتى إذا طهرت أخرى، فإن شاء طلّقها، وإن شاء أمسكها"، فإذا كان قد أمره بأن يمسكها في ذلك الطهر، فكيف يُبيح له أن يطلّقها فيه؟ وقد ثبت النهي عن الطلاق في طهر جامعها فيه، ذكره في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذكر من الأدلّة أن الأرجح قول من قال بمنع الطلاق في الطهر الذي يلي الحيضة التي وقع فيها الطلاق؛ لمخالفته الأمر بإمساكها في ذلك الطهر بنصّ قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا طهرت أمسكها حتى إذا طهرت أخرى" إلخ، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"الفتح" 10/ 12.

ص: 28

(المسألة التاسعة): اختلف الفقهاء في المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "طاهرًا" هل المراد به انقطاع الدم، أو التطهّر بالغسل؟ على قولين، وهما روايتان عن أحمد، والراجح الثاني؛ لما في رواية النسائيّ، من طريق معتمر بن سليمان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع في هذه القصّة، قال:"مُرْ عبد الله، فليراجعها، فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى، فلا يمسّها حتى يطلّقها، وإن شاء أن يمسكها، فليمسكها"، وهذا مفسّر لقوله:"فإذا طهرت"، فليحمل عليه.

قال في "الفتح": ويتفرّع من هذا أن العدّة هل تنقضي بانقطاع الدم، وترتفع الرجعة، أو لا بُدّ من الاغتسال؟ فيه خلاف أيضًا.

والحاصل أن الأحكام المرتّبة على الحيض نوعان: الأول يزول بانقطاع الدم؛ كصحّة الغسل، والصوم، وترتّب الصلاة في الذّمّة، والثاني: لا يزول إلا بالغسل؛ كصحّة الصلاة، والطواف، وجواز اللبث في المسجد، فهل يكون الطلاق من النوع الأول، أو من الثاني؟ انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن الطلاق من النوع الثاني؛ لرواية النسائيّ المذكورة في ذلك، فإنها صريحة في اشتراط الاغتسال، فلا يجوز أن يطلّقها إلا بعد اغتسالها، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة العاشرة): في قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنها العدّة التي أمر الله أن تطلّق لها النساء"، هذا إشارة إلى قوله تعالى:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} الآية [الطلاق: 1] قال الجرجانيّ: اللام بمعنى "في"، كما في قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} الآية [الحشر: 2]؛ أي: في أول الحشر، فقوله:{لِعِدَّتِهِنَّ} ؛ أي: في الزمان الذي يصلح لعدّتهنّ، وحصل الإجماع على أن الطلاق في الحيض ممنوع، وفي الطهر مأذون فيه، ففيه دليل على أن القرء هو الطهر، ذكره القرطبيّ رحمه الله

(2)

.

وقال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: استُدلّ به على أن الأقراء هي الأطهار؛

(1)

"الفتح" 10/ 13 - 14.

(2)

راجع: "الجامع لأحكام القرآن" 18/ 152 - 153.

ص: 29

لأن الله تعالى لم يأمر بطلاقهنّ في الحيض، بل حرّمه، وبهذا قال مالكٌ، والشافعيّ، وقال أبو حنيفة، وأحمد: هي الحيض، وأجاب بعضهم عن هذا الحديث بأن الإشارة في قوله:"فتلك العدّة" إلى الحيضة، وهو مردود؛ لأن الطلاق في الحيض غير مأمور به، بل هو محرّم، وإنما الإشارة إلى الحالة المذكورة، وهي حالة الطهر، أو إلى العدّة.

وقال الذاهبون إلى أنها الحيض: من قال بالأطهار جعلها قرءين وبعض الثالث، وظاهر القرآن أنها ثلاثة، ونحن نشترط ثلاث حِيَض كوامل، فهي أقرب إلى موافقة القرآن، ولهذا صار الزهريّ مع قوله: إن الأقراء هي الأطهار إلى أنه لا تنقضي العدّة إلا بثلاثة أطهار كاملة، ولا تنقضي بطهرين وبعضِ الثالث، وهذا مذهب انفرد به، وقال غيره: لو طلّقها، وقد بقي من الطهر لحظة يسيرةٌ، حُسبت قُرءًا، ويكفيها طهران. وأجابوا عن هذا الاعتراض بأن الشيئين وبعض الثالث يُطلق عليها اسم الجمع، قال الله تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، ومدّته شهران وبعض الثالث، وقال تعالى:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} [البقرة: 203] والمراد: وبعض الثاني. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بأن الأقراء هي الأطهار هو الأرجح؛ لأن الأرجح في اللام في قوله: {لِعِدَّتِهِنَّ} كونها بمعنى: "في"، فظهر به أن وقت العدّة هو الطهر؛ لأنه الوقت الذي أمر الله تطليق النساء فيه، وسيأتي تكميل هذا البحث - إن شاء الله تعالى -، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الحادية عشرة): في اختلاف أهل العلم في معنى القرء المراد في قوله عز وجل: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} الآية [البقرة: 228]:

قال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله: اختَلَف العلماء في الأقراء، فقال أهل الكوفة: هي الحيض، وهو قول عمر، وعليّ، وابن مسعود، وأبي موسى، ومجاهد، وقتادة، والضحّاك، وعكرمة، والسّدّيّ.

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 93.

ص: 30

وقال أهل الحجاز: هي الأطهار، وهو قول عائشة، وابن عمر، وزيد بن ثابت، والزهريّ، وأبان بن عثمان، والشافعيّ.

فمن جعل القرء اسمًا للحيض سماه بذلك؛ لاجتماع الدم في الرحم، ومن جعله اسمًا للطهر؛ فلاجتماعه في البدن، والذي يُحقّق لك هذا الأصل في القرء: الوقت، يقال: هبّت الريح لقرئها، وقارئها؛ أي: لوقتها، قال الشاعر [من الوافر]:

كَرِهْتُ الْعَقْرَ عَقْرَ بَنِي شَلِيلِ

إِذَا هَبَّتْ لِقَارِئِهَا الرِّيَاحُ

فقيل: للحيض وقت، وللطهر وقتٌ؛ لأنهما يرجعان لوقت معلوم، وقال الأعشى في الأطهار [من الطويل]:

أَفِي كُلِّ عَامِ أَنْتَ جَاشِمُ غَزْوَةٍ

تَشُدُّ لأقْصَاهَا عَزِيمَ عَزَائِكَا

مُوَرِّثَةٍ عِزًّا وَفِي الْحَيِّ رِفْعَةً

لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا

وقال آخر في الحيض [من الرجز]:

يَا رُبَّ ذِي ضِغْنٍ عَلَيَّ فَارِضِ

لَهُ قُرُوءٌ كَقُرُوءِ الْحَائِضِ

يعني أنه طعنه، فكان له دم كدم الحائض.

وقال قوم: هو مأخوذ من قرء الماء في الحوض، وهو جمعه، ومنه القرآن؛ لاجتماع المعاني، ويقال: لاجتماع حروفه، ويقال: ما قرأت الناقة سَلًى قطّ؛ أي: لم تجمع في جوفها؛ وقال عمرو بن كُلثوم:

ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أَدْمَاءَ بِكْرِ

هِجَانِ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينَا

فكأنّ الرحم يَجمَع الدمَ وقت الحيض، والجسم يجمعه وقت الطهر، قال أبو عمر بن عبد البرّ: قول من قال: إن القرء مأخوذ من قولهم: قريت الماء في الحوض ليس بشيء؛ لأن القرء مهموز، وهذا غير مهموز.

قال القرطبيّ: هذا صحيح بنقل أهل اللغة: الجوهريّ وغيره، واسم ذلك الماء قِرًى - بكسر القاف، مقصور -. وقيل: القرء الخروج، إما من طهر إلى حيض، أو من حيض إلى طهر، وعلى هذا قال الشافعيّ في قولٍ: القرء الانتقال من الطهر إلى الحيض، ولا يرى الخروج من الحيض إلى الطهر قرءًا، وكان يلزم بحكم الاشتقاق أن يكون قرءًا، ويكون معنى قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} ؛ أي: ثلاثة أدوار، أو ثلاثة انتقالات، والمطلّقة

ص: 31

متّصفة بحالتين فقط، فتارة تنتقل من طهر إلى حيض، وتارة من حيض إلى طهر، فيستقيم معنى الكلام، ودلالته على الطهر والحيض جميعًا، فيصير المعنى مشتركًا، ويقال: إذا ثبت أن القرء الانتقال، فخروجها من طهر إلى حيض غير مراد بالآية أصلًا، ولذلك لم يكن الطلاق في الحيض طلاقًا سُنّيًّا، مأمورًا به، وهو الطلاق للعدّة، فإن الطلاق للعدّة ما كان في الطهر، وذلك يدلّ على كون القرء مأخوذًا من الانتقال، فإذا كان الطلاق في الطهر سنيًّا، فتقدير الكلام: فعدّتهنّ ثلاثة انتقالات، فاولها الانتقال من الطهر الذي وقع فيه الطلاق، والذي هو الانتقال من حيض إلى طهر، لم يُجعل قُرءًا؛ لأن اللغة لا تدلّ عليه، ولكن عَرَفْنَا، بدليل آخر، أن الله تعالى لم يُرد الانتقال من حيض إلى طهر، فإذا خرج أحدهما عن أن يكون مرادًا بقي الآخر، وهو الانتقال من الطهر إلى الحيض مرادًا، فعلى هذا عدّتها ثلاثة انتقالات، أولها الطهر، وعلى هذا يمكن استيفاء ثلاثة أقراء كاملة إذا كان الطلاق في حالة الطهر، ولا يكون ذلك حملًا على المجاز بوجه ما.

قال إلكيا الطبريّ: وهذا نظر دقيق في غاية الاتجاه لمذهب الشافعيّ، ويُمكن أن نذكر في ذلك سرًّا فهمه من دقائق حِكَمِ الشريعة، وهو أن الانتقال من الطهر إلى الحيض إنما جُعل قرءًا لدلالته على براءة الرحم، فإن الحامل لا تحيض في الغالب، فبحيضها عُلم براءة رحمها، والانتقال من حيض إلى طهر بخلافه، فإن الحائض يجوز أن تحبل في أعقاب حيضها، وإذا تمادى أمد الحمل، وقَوِي الولد انقطع دمها، ولذلك تمتدح العرب بحمل نسائهم في حالة الطهر، وقد مدحت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول الشاعر [من الكامل]:

وَمُبَرَّإٍ مِنْ كُلِّ غُبَّرِ حَيْضَةٍ

وَفَسَادِ مُرْضِعَةٍ وَدَاءِ مُغْيَلِ

يعني أن أمه لم تحمل به في بقيّة حيضها، فهذا ما للعلماء، وأهل اللسان في تأويل القرء.

وقالوا: قرأت المرأة قرءًا: إذا حاضت، أو طهرت، وقرأت أيضًا: إذا حملت، واتفقوا على أن القرء الوقت، فإذا قلت: والمطلّقات يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة أوقات، صارت الآية مفسَّرَةً في العدد، محتمِلَةً في المعدود، فوجب طلب البيان للمعدود من غيرها، فدليلنا قول الله تعالى:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ،

ص: 32

ولا خلاف أنه يؤمر بالطلاق وقت الطهر، فيجب أن يكون هو المعتبر في العدّة، فإنه قال:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} يعني وقتًا تعتدّ به، ثم قال تعالى:{وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1] يريد ما تعتدّ به المطلّقة، وهو الطهر الذي تطلّق فيه، وقال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه:"مره، فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، فتلك العدّة التي أمر الله أن تُطلّق لها النساء"، أخرجه مسلم وغيره، وهو نصّ في أن زمن الطهر هو الذي يسمّى عدّةً، وهو الذي تُطلّق فيه النساء، ولا خلاف أن من طلّق في حال الحيض لم تعتدّ بذلك الحيض، ومن طلّق في حال الطهر، فإنها تعتدّ عند الجمهور بذلك الطهر، فكان ذلك أولى. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن أرجح الأقوال في المعنى المراد من القرء في قوله تعالى: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} قول من قال: إنه الطهر، لا الحيضُ، وإن كان اللفظ يُطلق عليهما جميعًا، كما تقدّم بيانه عن أهل اللغة، إلا أن المراد في هذه الآية هو الطهر؛ بدليل توضيح النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك في حديث ابن عمر رضي الله عنهما المذكور في الباب، فبيانه أوضح بيان، وأتمّه، حيث إن الله سبحانه وتعالى وَكَل بيان معنى كتابه إليه، بقوله عز وجل:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} الآية [النحل: 44]، ولقد أجاد العلامة ابن القيّم رحمه الله في بيان الأقوال المذكورة في معنى القرء، وأدلتها، وترجيح أنه الطهر بأدلة كثيرة في كتابه الممتع "زاد المعاد" بما لا تجده مجموعًا عند غيره، ولولا خوف التطويل لنقلته بحروفه، فإن شئت فارجع إليه (5/ 594 - 650) تزدد علما جمًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3653]

(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ رُمْحٍ، وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى، قَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا لَيْثٌ، وَقَالَ الْآخَرَانِ: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ؛ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأةً لَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ، تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" 3/ 113 - 115 "تفسير سورة البقرة".

ص: 33

أَنْ يُرَاجِعَهَا، ثُمَّ يُمْسِكَهَا، حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ عِنْدَهُ حَيْضَةً أُخْرَى، ثُمَّ يُمْهِلَهَا، حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ حَيْضَتِهَا، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا حِينَ تَطْهُرُ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُجَامِعَهَا، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ. وَزَادَ ابْنُ رُمْحٍ فِي رِوَايَتِهِ: وَكَانَ عَبْدُ اللهِ إِذَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ لِأَحَدِهِمْ: أَمَّا أنْتَ طَلَّقْتَ امْرَأَتَكَ مَرَّةً، أَوْ مَرَّتَيْنِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنِي بِهَذَا، وَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهَا

(1)

ثَلَاثًا، فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْكَ، حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ، وَعَصَيْتَ اللهَ فِيمَا أَمَرَكَ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِكَ. قَالَ مُسْلِم: جَوَّدَ اللَّيْثُ: في قَوْلِهِ: تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قُتَيْبَةُ) بن سعيد الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغْلانىّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(ابْنُ رُمْحٍ) هو: محمد بن رُمح بن المهاجر التجيبيّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

3 -

(اللَّيْثُ بْنُ سَعْدِ) بن عبد الرحمن الفَهْميّ مولاهم، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمامٌ مشهورٌ [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقه، وهو (237) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (أَمَّا أَنْتَ طَلَّقْتَ امْرَأَتَكَ) إلخ بفتح همزة "أمّا"، وهي مركّبة من "أن" المصدريّة، و"ما" الزائدة، وفيه حذف "كان"، وإبقاء اسمها وخبرها، و"ما" عِوَضٌ عن "كان"، وأصل التركيب

(2)

: أن كنت طلّقت امرأتك فإن

(1)

وفي نسخة: "وإن كنت قد طلّقتها".

(2)

هذا هو الأصل الثاني، والأصل الأول:"لأن كنت طلّقت. . . إلخ" فقدّمت العلّة على المعلول؛ للحصر، ثم حُذفت اللام؛ لاطراد حذفها مع "أن"، وزيدت الفاء في المعلول؛ تشبيهًا بجواب الشرط في ترتُّبه على ما قبله، ثم حُذفت "كان"، =

ص: 34

رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ، فحذفت "كان"، فانفصل الضمير المتّصل بها، وهو التاء، فصار "أن أنت طلّقت" ثم أُتي بـ "ما" عِوَضًا عن "كان"، فصار "أن ما أنت طلّقت"، ثم أدغمت النون في الميم، فصار "أَمَّا أنت طلّقت"، ومثله قول الشاعر [من الطويل]:

أَبَا خُرَاشَةَ أَمَّا أَنْتَ ذَا نَفَرٍ

فَإنَّ قَوْمِيَ لَمْ تَأْكُلْهُمُ الضَّبُعُ

فـ "أن" مصدريّة، و"ما" زائدة عوضًا عن "كان"، و"أنت" اسم "كان" المحذوفة، و"ذا نفر" خبرها، ولا يجوز الجمع بين "كان" و"ما"؛ لكون "ما" عوضًا عنها، ولا يُجمع بين العوض والمعوّض، وأجازه المبرّد، وإلى هذه القاعدة أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:

وَبَعْدَ "أَنْ" تَعْويضُ "مَا" عَنْهَا ارْتُكِبْ

كَمِثْلِ "أَمَّا أَنْتَ بَرًّا فَاقْتَرِبْ"

هذا الذي ذكرته هو الجاري على القاعدة المذكورة في كتب النحاة، وأما ما قاله القرطبيّ في "المفهم" من أنّ "إِمّا" بكسر الهمزة ففيه نظر لا يخفى، فتأمّل.

وقوله: (فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنِي بِهَذَا) هذا تعليل للجواب المقدّر، والأصل: أمّا أنت طلّقت امرأتك مرةً أو مرتين، فراجعها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ؛ أي: لأنه أمرني بذلك.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنِي بِهَذَا" إشارة إلى أمره له بالمراجعة، فكأنه قال للسائل: إن طلقت تطليقةً، أو تطليقتين، فأنت مأمور بالمراجعة لأجل الحيض، وإن طلّقت ثلاثًا لم تكن لك مراجعة؛ لأنها لا تحلّ لك إلا بعد زوج. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَعَصَيْتَ اللهَ) إلخ قال القرطبيّ: يعني بالطلاق ثلاثًا في كلمة واحدة، وظاهره أنه محرَّمٌ، وهو قول ابن عبّاس المشهور عنه، وعمر بن الخطاب، وعمران بن حصين، وإليه ذهب مالك، وقال الكوفيّون: إنه غير

= فانفصل الضمير؛ لأن صلة الحرف المصدريّ قد تحذف، نحو: لا أصحبك ما أن حراءً مكانه؛ أي: ما ثبت إن حراء مكانه، راجع:"حاشية الخضريّ على شرح ابن عقيل، على الخلاصة" 1/ 168.

(1)

"المفهم" 4/ 231.

ص: 35

جائز، وإنه للبدعة، وقال الشافعيّ: له أن يطلّق واحدةً، أو اثنتين، أو ثلاثًا، كلّ ذلك سنّةٌ، ومثله قال أحمد بن حنبل، إلا أنه قال: أحبّ إليّ أن يوقع واحدةً، وهو الاختيار، والأول أولى؛ لما يأتي - إن شاء الله تعالى - انتهى

(1)

.

وقوله: قَالَ مُسْلِم: (جَوَّدَ اللَّيْثُ فِي قَوْلِهِ: تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً) يعني أنه حفظ، وأتقن قدر الطلاق الذي لم يُتقنه غيره، ولم يُهمله كما أهمله غيره، ولا غلط فيه، وجعله ثلاثًا، كما غَلِط فيه غيره، وقد تظاهرت روايات مسلم بأنها طلقة واحدة، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3654]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: طَلَّقْتُ امْرَأَتِي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيَدَعْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ حَيْضَةً أُخْرَى، فَإِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْهَا قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَهَا، أَوْ يُمْسِكْهَا، فَإِنَّهَا الْعِدَّةُ الَّتي أَمَرَ اللهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ"، قَالَ عُبَيْدُ اللهِ: قُلْتُ لِنَافِعٍ: مَا صَنَعَت التَّطْلِيقَةُ؟ قَالَ: وَاحِدَةٌ اعْتَدَّ بِهَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

2 -

(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنّيّ، من كبار [9](ت 199) وله (84) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

3 -

(عُبَيْدُ اللهِ) بن عُمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب الْعُمريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [5] مات سنة بضع و (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

(1)

"المفهم" 4/ 231.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 63.

ص: 36

والباقيان ذُكرا قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3655]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ عُبَيْدِ اللهِ لِنَافِعٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى فِي رِوَايَتِهِ: "فَلْيَرْجِعْهَا"، وقَالَ أَبُو بَكْرٍ: "فَلْيُرَاجِعْهَا").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الْعَبسيّ الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظ، مصنّف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

2 -

(ابْنُ الْمُثَنَّى) محمد الْعَنَزيّ، أبو موسى البصريّ الزَّمِنُ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ) بن يزيد بن عبد الرحمن الأوديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [8](ت 192) وله بضع وسبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

و"عبيد الله" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبد الله بن إدريس، عن عبيد الله، ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه" (6/ 177) فقال:

(2009)

- حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا عبد الله بن إدريس، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: طلّقت امرأتي، وهي حائض، فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"مُرْهُ فليراجعها، حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء طلقها قبل أن يجامعها، وإن شاء أمسكها، فإنها العدة التي أمر الله". انتهى.

وأما رواية ابن المثنّى، عن عبد الله بن إدريس التي أشار إليها المصنّف، لم أر من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 37

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3656]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ؛ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ، فَسَأَلَ عُمَرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَهُ أَنْ يَرْجِعَهَا، ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً أُخْرَى، ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ يُطَلِّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ. قَالَ: فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا سُئِلَ عَن الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ، يَقُولُ: أَمَّا أَنْتَ طَلَّقْتَهَا وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يَرْجِعَهَا

(1)

، ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً أُخْرَى، ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ يُطَلِّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، وَأَمَّا أَنْتَ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا، فَقَدْ عَصَيْتَ رَبَّكَ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِكَ، وَبَانَتْ مِنْكَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ) بن إبراهيم ابن عليّة البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [8](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

3 -

(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة السَّختيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ فقيهٌ [5](ت 131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (فَأَمَرَهُ أَنْ يَرْجِعَهَا) بفتح أوله، وكسر ثالثه، من الرَّجْع ثلاثيًّا، يتعدّى بنفسه في اللغة الْفُصحى، فيقال: رجعته عن الشيء، وإليه، ورجعتُ الكلامَ وغيرَهُ؛ أي: رددته، وبها جاء القرآن، قال تعالى:{فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ} الآية [التوبة: 83]، وهُذَيلٌ تُعدّيه بالألف، قاله الفيّوميّ

(2)

.

وقوله: (إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ) إلخ فيه التفاتٌ؛ إذ الظاهر أن يقول: "أمرني" كما في الرواية السابقة: "فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بهذا".

وقوله: (ثُمَّ يُطَلِّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا) هذه الرواية، والروايات الآتية بعدها

(1)

وفي نسخة: "أن يراجعها".

(2)

"المصباح المنير" 1/ 220.

ص: 38

تخالف الروايات السابقة، حيث يدلّ ظاهرها أنه يطلّقها عقب الحيضة التي بعد المراجعة، وتلك تدل على أنه يراجعها بعد الحيضة الثانية، وهي الراجحة؛ لأنها زيادة ثقة حافظ مقبولة، فالأولى أن تؤول هذه الرواية بأن المراد: الحيضة الثانية التي بعد الأولى.

والحاصل أنها تحيض عنده بعد المراجعة حيضتين، فالحيضة الثانية هي التي يطلّق، أو يمسك بعدها، وعلى هذا فتتفق الروايات، دون تخالف، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3657]

(. . .) - (حَدَّثَنِي عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَمِّهِ، أَخْبَرَنَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ؛ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: طَلَّقْتُ امْرَأَتِي، وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَتَغَيَّظَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً أُخْرَى مُسْتَقْبَلَةً، سِوَى حَيْضَتِهَا الَّتِى طَلَّقَهَا فِيهَا، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا مِنْ حَيْضَتِهَا، قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَذَلِكَ الطَّلَاقُ لِلْعِدَّةِ، كَمَا أَمَرَ اللهُ"، وَكَانَ عَبْدُ اللهِ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً، فَحُسِبَتْ مِنْ طَلَاقِهَا، وَرَاجَعَهَا عَبْدُ اللهِ كَمَا أَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) بن نصر، أبو محمد الكِسّيّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

2 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن سعد الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

3 -

(مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ) هو: محمد بن عبد الله بن مسلم المدنيّ، صدوقٌ له أوهام [6](ت 152) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 352.

4 -

(عَمُّهُ) محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهريّ

ص: 39

الإمام الحجة الحافظ الشهير، رأس [4](ت 125) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.

5 -

(سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمر بن الخطّاب القرشيّ العدويّ، أبو عُمر، أو أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه فاضلٌ، من كبار [3](ت 106) تقدم في "الإيمان" 14/ 162.

و"عبد الله بن عمر رضي الله عنهما" ذُكر قبله.

وقوله: (فتغيّظ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) هذا يدلّ على حرمة الطلاق في حال الحيض.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3658]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنِي الزُّبَيْدِيُّ، عَن الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَرَاجَعْتُهَا، وَحَسَبْتُ لَهَا التَّطْلِيقَةَ الَّتِي طلَّقْتُهَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الْكَوْسج، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

2 -

(يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ) الزُّبيديّ - بالضمّ - أبو الفضل الحمصيّ المؤذّن، الْجُرْجُسيّ، ثقةٌ [10](ت 224)(م د س ق) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 43/ 1876.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ) الْخَولانيّ الْحِمصيّ الأبرش، ثقةٌ [9](ت 194)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 10/ 1174.

4 -

(الزُّبَيْدِيُّ) محمد بن الوليد بن عامر الزُّبيديّ، أبو الْهُذيل الْحِمصيّ القاضي، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار أصحاب الزهريّ [7](ت 6 أو 7 أو 249)(خ م د س ق) تقدم في (المساجد ومواضع الصلاة" 10/ 1174.

و"الزهريّ" ذُكر قبله.

ص: 40

[تنبيه]: رواية الزُّبيديّ، عن الزهريّ هذه ساقها النسائيّ في "الكبرى" (3/ 340) فقال:

(5584)

- أخبرني كثير بن عُبيد الحمصيّ، عن محمد بن حرب، قال: حدَّثنا الزُّبيديّ، واسمه محمد بن الوليد، قال: سُئل الزهريّ: كيف الطلاق للعدّة؟ فقال: أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر، أن عبد الله بن عمر قال: طَلَّقت امرأتي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي حائض، فذَكَر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتغيّظ رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقال:"ليراجعها، ثم يمسكها حتى تحيض حيضة، وتطهر، فإن بدا له أن يطلِّقها طاهرًا قبل أن يمسها، فذلك الطلاق للعدّة، كما أمر الله عز وجل". قال عبد الله بن عمر: فراجعتها، وحَسَبْتُ لها التطليقة التي طلَّقتها. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3659]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَاللَّفْظُ لِأَبِى بَكْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى آلِ طَلْحَةَ، عَنْ سَالِمٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا، أَوْ حَامِلًا").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(وَكِيعُ) بن الْجَرّاح بن مَلِيح الرُّؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 6 أو 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

2 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد بن حبيب الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، الإمام الحجة الثبت العابد الفقيه الشهير من رؤوس الطبقة [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى آلِ طَلْحَةَ) هو: محمد بن عبد الرحمن بن عُبيد القرشيّ التيميّ، مولى آل طلحة الكوفيّ، ثقة [6].

رَوَى عن السائب بن يزيد، وعيسى وموسى ابني طلحة، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وسالم بن عبد الله بن عمر، وكريب مولى ابن عباس، وغيرهم.

ورَوَى عنه شعبة، ومِسعر، والثوريّ، وشريك، وإسرائيل، وسفيان بن عيينة، وغيرهم.

ص: 41

قال البخاريّ: قال لنا عليّ، عن ابن عيينة: كان أعلم مَن عندنا بالعربية، وقال عباس الدُّوريّ وغيره، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو زرعة، وأبو حاتم، وأبو داود: صالح الحديث، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وقال الترمذيّ، وأبو عليّ الطوسيّ، ويعقوب بن سفيان: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط برقم (1471)، و (2140)، و (2261)، و (2726).

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا، أَوْ حَامِلًا) قال النوويّ رحمه الله: فيه دلالة لجواز طلاق الحامل التي تبيّن حملها، وهو مذهب الشافعيّ، قال ابن المنذر: وبه قال أكثر العلماء، منهم طاوس، والحسن، وابن سيرين، وربيعة، وحماد بن أبي سليمان، ومالك، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد، قال ابن المنذر: وبه أقول، وبه قال بعض المالكية، وقال بعضهم: هو حرام، وحَكَى ابن المنذر رواية أخرى عن الحسن أنه قال: طلاق الحامل مكروه، ثم مذهب الشافعيّ، ومن وافقه أن له أن يطلق الحامل ثلاثًا بلفظ واحد، وبألفاظ متصلة، وفي أوقات متفرقة، وكل ذلك جائزٌ، لا بدعةَ فيه، وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: يجعل بين الطلقتين شهرًا، وقال مالك، وزفر، ومحمد بن الحسن: لا يوقع عليها أكثر من واحدة حتى تَضَعَ. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": تمسّك بهذه الزيادة من استثنى من تحريم الطلاق في طهر جامع فيه ما إذا ظهر الحمل، فإنه لا يحرم، والحكمة فيه أنه إذا ظهر الحمل فقد أقدم على ذلك على بصيرة، فلا يندم على الطلاق، فإنه يدلّ على رغبته عنها. انتهى

(2)

.

والحديث متّفقٌ عليه في أصله، وإن كان هذا السياق من أفراد المصنّف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 65.

(2)

"الفتح" 12/ 13.

ص: 42

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3660]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ الْأَوْدِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ، وَهُوَ ابْنُ بِلَالٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ، فَسَأَلَ عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ حَيْضَةً أُخْرَى، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ يُطَلِّقُ بَعْدُ، أَوْ يُمْسِكُ").

رجال هذا الإسنادة خمسة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ الْأَوْدِيُّ) أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ [11](ت 261)(خ م س ق) تقدم في "الزكاة" 19/ 2344.

2 -

(خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ) الْقَطَوَانيّ، أبو الْهَيثم البجليّ مولاهم الكوفيّ، صدوقٌ يتشيّع، وله أفراد، من كبار [10](213) أو بعدها (خ م كد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 65/ 367.

3 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو أيوب المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 177)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ) العدويّ، مولى ابن عمر، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ [4](ت 127)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.

و"ابنُ عمر رضي الله عنهما" ذُكر قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه في شرح حديث أول الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3661]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَن أَيُّوبَ، عَن ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: مَكَثْتُ عِشْرِينَ سنَةً يُحَدِّثُنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ؛ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، وَهِيَ حَائِضٌ، فَأُمِرَ أَنْ يُرَاجِعَهَا، فَجَعَلْتُ لَا أَتَّهِمُهُمْ، وَلَا أَعْرِفُ الْحَدِيثَ حَتَّى لَقِيتُ أَبا غَلَّابٍ، يُونُسَ بْنَ جُبَيْرٍ الْبَاهِلِيَّ، وَكَانَ ذَا ثَبَتٍ، فَحَدَّثَنِي أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ، فَحَدَّثَهُ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً، وَهِيَ

ص: 43

حَائِضٌ، فَأُمِرَ أَنْ يَرْجِعَهَا

(1)

، قَالَ: قُلْتُ: أَفَحُسِبَتْ عَلَيْهِ؟ قَالَ: فَمَهْ، أَوَ إِنْ عَجَزَ، وَاسْتَحْمَقَ؟).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ) المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

2 -

(ابْنُ سِيرِينَ) محمد، أبو بكر بن أبي عمرة الأنصاريّ مولاهم، البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ كبير القدر [3](ت 110)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 308.

3 -

(يُونُسُ بْنُ جُبَيْرٍ الْبَاهِلِيُّ) أبو غلّاب البصريّ، ثقةٌ [3] مات بعد التسعين، وأوصى أن يصلي عليه أنس (ع) تقدم في "الصلاة" 16/ 909.

والباقون ذُكروا في الباب، و"إسماعيل بن إبراهيم" هو: ابن عليّة، و"أيوب" هو: السّختيانيّ.

وقوله: (مَنْ لَا أَتَّهِمُ) لم أر من سمّاه، فالله تعالى أعلم.

وقوله: (طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا) رواية أن ابن عمر طلّق امرأته ثلاثًا أخرجها الدارقطنيّ في "سننه" 4/ 7 فقال:

(14)

- نا محمد بن أحمد بن يوسف بن يزيد الكوفيّ، أبو بكر ببغداد، وأبو بكر أحمد بن أبي دارم، قالا: نا أحمد بن موسى بن إسحاق، نا أحمد بن صبيح الأسديّ، نا طريف بن ناصح، عن معاوية، عن عمار الدُّهْنيّ، عن أبي الزبير، قال: سألت ابن عمر عن رجل طلق امرأته ثلاثًا، وهي حائض، فقال: أتعرف ابن عمر؟ قلت: نعم، قال: طلقت امرأتي ثلاثًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حائضٌ، فردّها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السنّة.

ثم قال الدارقطني: هؤلاء كلهم من الشيعة، والمحفوظ أن ابن عمر طلّق امرأته واحدةً في الحيض. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: غرض الدارقطنيّ رحمه الله بهذا الكلام تضعيف

(1)

وفي نسخة: "أن يراجعها".

ص: 44

قوله: "طلقت امرأتي ثلاثًا"، من وجهين: أحدهما أن هذا السند مسلسل بالشيعة، فلا يصحّ، والثاني كون متنه منكرًا، حيث إن المحفوظ كونه طلّقها واحدةً.

والحاصل أن الحديث ضعيف، فلا يكون معارضًا لما في "الصحيحين" من كونها واحدة، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

وقوله: (فَجَعَلْتُ لَا أَتَّهِمُهُمْ) هذا من تمام قول ابن سيرين؛ أي: لا أتّهم الذين حدّثوني بهذا.

وقوله: (وَلَا أَعْرِفُ الْحَدِيثَ) يعني أنه لا يعرف وجه الحديث، وكيف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمر بالمراجعة بعد ما تغلّظ طلاقها بالثلاث، ويَحْتَمِل أن يكون معناه: لا أعرف الحديث الصحيح، والله تعالى أعلم

(1)

.

وقوله: (حَتَّى لَقِيتُ أَبَا غَلَّابٍ) قال النوويّ رحمه الله: هو بفتح الغين المعجمة، وتشديد اللام، وآخره باء موحّدة، هكذا ضبطناه، وكذا ذكره ابن ماكولا، والجمهور، وذكر القاضي عن بعض الرواة تخفيف اللام. انتهى

(2)

.

وقوله: (وَكَانَ ذَا ثَبَتٍ) هذا ثناء من ابن سيرين على يونس بن جُبير، وهو بفتح الثاء المثلّثة، والباء الموحّدة؛ أي: متثبّتًا، قاله النوويّ

(3)

.

وقال الفيّوميّ: رحمه الله: رجلٌ ثَبْتٌ ساكن الباء: متثبّتٌ في أموره، وثَبْتُ الْجَنَان؛ أي: ثابت القلب، وثَبُتَ في الحرب، فهو ثَبيتٌ، مثالُ قَرُبَ فهو قريبٌ، والاسم ثَبَتٌ بفتحتين، ومنه قيل للحجة: ثَبَتٌ، ورجلٌ ثَبَتٌ بفتحتين: إذا كان عَدْلًا ضابطًا، والجمع أثبات، مثلُ سبب وأسباب. انتهى

(4)

.

فأفاد أنه يجوز ضبط ثَبْت هنا بالفتح والسكون، فافهم، والله تعالى أعلم.

وقوله: (قَالَ: قُلْتُ: أفَحُسِبَتْ عَلَيْهِ؟) القائل: "قلتُ" هو يونس بن جبير.

وقوله: (قَالَ: فَمَهْ) قال النوويّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون للكفّ والزجر عن هذا القول؛ أي: لا تشكّ في وقوع الطلاق، واجْزِمْ بوقوعه، وقال القاضي

(1)

"تكملة فتح الملهم" 1/ 145 - 146.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 66.

(3)

"شرح النوويّ" 10/ 66.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 80.

ص: 45

عياض: المراد بـ "مهْ": "مَا"، فيكون استفهامًا؛ أي: فما يكون إن لم أَحْتَسِبْ بها؟ ومعناه: لا يكون إلا الاحتساب بها، فأُبدلت من الألف هاءٌ، كما قالوا في "مهما": إن أصلها "ما ما"؛ أي: أيّ شيء؟ انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": أصله: "فما"، وهو استفهام فيه اكتفاء؛ أي: فما يكون، إن لم تُحتَسَب؟ ويَحْتَمِل أن تكون الهاء أصليّة، وهي كلمة تُقال للزجر؛ أي: كُفّ عن هذا الكلام، فإنه لا بدّ من وقوع الطلاق بذلك، قال ابن عبد البرّ: قول ابن عمر: "فمه" معناه: فأيّ شيء يكون إذا لم يعتدّ بها، إنكارًا لقول السائل:"أيعتدّ بها؟ "، فكأنه قال: وهل من ذلك بُدٌّ؟ انتهى

(2)

.

وقوله: (أَوَ إِنْ عَجَزَ، وَاسْتَحْمَقَ؟) قال النوويّ رحمه الله: معناه: أفيرتفع عنه الطلاق، وإن عجز، واستحمق؟ وهو استفهام إنكار، وتقديرُه: نعم تُحْسَب، ولا يمتنع احتسابها لعجزه وحماقته، قال القاضي: أي إن عجز عن الرجعة، وفَعَل فعل الأحمق، والقائل لهذا الكلام هو ابن عمر، صاحب القصَّة، وأعاد الضمير بلفظ الغيبة، وقد بيّنه بعد هذه في رواية أنس بن سيرين، قال: قلت - يعني لابن عمر -: فاعتددت بتلك التطليقة التي طَلَّقت، وهي حائض؟ قال: ما لي لا أعتد بها، وإن كنتُ عَجَزتُ، واستحمقتُ، وجاء في غير مسلم أن ابن عمر قال: أرأيت إن كان ابن عمر عجز، واستحمق فما يمنعه أن يكون طلاقًا؟ انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح" قوله: "أوَ إن عجز، واستحمق"؛ أي: إن عجز عن فرضٍ، فلم يُقمه، أو استحمق، فلم يأت به، أيكون ذلك عذرًا له؟

وقال الخطّابيّ: في الكلام حذفٌ؛ أي: أرأيت إن عجز، واستحمق أَيُسقِطُ عنه الطلاقَ حُمقُهُ، أو يُبطلُهُ عجزه؟ وحذف الجواب لدلالة الكلام عليه.

وقال الكرمانيّ: يَحْتَمِل أن تكون "إن" نافية بمعنى "ما"؛ أي: لم يعجز ابن عمر، ولا استحمق؛ لأنه ليس بطفل، ولا مجنون، قال: وإن كانت الرواية

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 66 - 67.

(2)

"الفتح" 12/ 16.

(3)

"شرح النوويّ" 10/ 166.

ص: 46

بفتح ألف "أن" فمعناه أظهر، والتاء من "استحمق" مفتوحةٌ، قاله ابن الخشّاب، وقال: المعنى فَعَل فعلًا يُصَيِّرُهُ أحمق عاجزًا، فيسقط عنه حكم الطلاق عجزه، أو حمقه، والسين والتاء فيه إشارةٌ إلى أنه تكلّف الحمق بما فعله من تطليق امرأته، وهي حائض.

وقد وقع في بعض الأصول بضمّ التاء، مبنيًّا للمجهول؛ أي: أن الناس استحمقوه بما فعل، وهو موجّهٌ.

وقال المهلّب: معنى قوله: "إن عجز، واستحمق" يعني عجز في المراجعة التي أُمر بها عن إيقاع الطلاق، أو فقد عقله، فلم تمكن منه الرجعة، أتبقى المرأة معلّقةً، لا ذات بعلٍ، ولا مطلّقة؟، وقد نهى الله عن ذلك، فلا بُدّ أن تَحتَسِبَ بتلك التطليقة التي أوقعها على غير وجهها، كما أنه لو عجز عن فرضٍ آخر لله، فلم يُقمه، واستحمق، فلم يات به ما كان يُعذر بذلك، ويسقط عنه. انتهى

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه في شرح حديث أول الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3662]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو الرَّبِيعِ، وَقُتَيْبَةُ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَسَأَل عُمَرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبُو الرَّبِيعِ) سليمان بن داود الْعَتَكيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.

2 -

(قُتَيْبَةُ) بن سعيد الثقفي، أبو رجاء البغلاني، ثقة ثبت [10] تقدم "المقدمة" 6/ 50.

3 -

(حَمَّادُ) بن زيد بن درهم الأزديّ الْجَهْضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [8](ت 179)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

و"أيوبُ" هو: السختيانيّ، ذُكر قبله.

(1)

"الفتح" 12/ 16.

ص: 47

[تنبيه]: رواية حمّاد بن زيد، عن أيوب هذه ساقها الترمذيّ رحمه الله في "سننه" (4/ 410) فقال:

(1095)

- حدّثنا قتيبة، قال: حدّثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن يونس بن جُبير، قال: سألت ابن عمر عن رجل طلّق امرأته، وهي حائض، فقال: هل تعرف عبد الله بن عمر؟ فإنه طلق امرأته، وهي حائض، فسأل عمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يراجعها، ثم يستقبل عدّتها، قال: قلت: فيعتد بتلك التطليقة؟ قال: فمه، أرأيتَ إن عَجَزَ، واستَحْمَقَ؟ انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3663]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنْ أَيُّوبَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: فَسَأَلَ عُمَرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا، حَتَّى يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا، مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، وَقَالَ: "يُطَلِّقُهَا فِي قُبُلِ عِدَّتِهَا").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ) أبو عُبيدة البصريّ، صدوقٌ [11](ت 252)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 49/ 311.

2 -

(أَبُوهُ) عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد العنبريّ مولاهم التَّنُّوريّ، أبو سهل البصريّ، ثقةٌ ثبت في شعبة [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.

3 -

(جَدُّهُ) عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان الْعَنْبريّ مولاهم، أبو عبيدة التَّنُّوريّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.

و"أيوبُ" ذُكر قبله.

وقوله: ("يُطَلِّقُهَا فِي قُبُلِ عِدَّتِهَا") هو بضم القاف والباء؛ أي: في وقتٍ تَستَقْبِل فيه العدة، وتَشْرَع فيها، وهذا يدلّ على أن الأقراء هي الأطهار، وأنها إذا طُلّقت في الطهر شَرَعت في الحال في الأقراء؛ لأن الطلاق المأمور به هو في الطهر؛ لأنها إذا طُلِّقت في الحيض لا يُحسب ذلك الحيض قرءًا بالإجماع،

ص: 48

فلا تَستقبِل فيه العدةَ، وإنما تستقبلها إذا طُلِّقت في الطهر، والله أعلم. قاله النوويّ

(1)

.

[تنبيه]: رواية عبد الوارث بن سعيد، عن أيوب هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3664]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، عَن ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ، فَقَالَ: أَتَعْرِفُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ؟ فَإِنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ، فَأَتَى عُمَرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَرْجِعَهَا، ثُمَّ تَسْتَقْبِلَ عِدَّتَهَا، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ، أَتَعْتَدُّ بِتِلْكَ التَّطْلِيقَةِ؟ فَقَالَ: فَمَهْ، أَوَ إِنْ عَجَزَ، وَاسْتَحْمَقَ؟).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ) أبو يوسف البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.

2 -

(ابْنُ عُلَيَّةَ) ذُكر قبل حديثين.

3 -

(يُونُسُ) بن عُبيد بن دينار الْعَبديّ، أبو عبيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ وَرِعٌ [5](ت 139)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (أَتَعْرِفُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ؟) قال في "الفتح": إنما قال له ذلك مع أنه يَعْرِف أنه يعرفه، وهو الذي يخاطبه؛ ليقرّره على اتباع السنة، وعلى القبول من ناقلها، وأنه يلزم العامةَ الاقتداء بمشاهير العلماء، فقرَّره على ما يلزمه من ذلك، لا أنه ظَنّ أنه لا يعرفه.

وقال ابن الْمُنَيِّر: ليس فيه مواجهة ابن عمر المرأة بالطلاق، وإنما فيه

(1)

" شرح النوويّ" 10/ 67 - 68.

ص: 49

طلَّق ابن عمر امرأته، لكن الظاهر من حاله المواجهة؛ لأنه إنما طلقها عن شقاق. انتهى.

قال الحافظ: ولم يذكر مستنده في الشقاق المذكور، فقد يَحْتَمِل أن لا تكون عن شقاق، بل عن سبب آخر، وقد رَوَى أحمد، والأربعة، وصححه الترمذيّ، وابن حبان، والحاكم من طريق حمزة بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، قال: كان تحتي امرأة أحبها، وكان عمر يكرهها، فقال: طلِّقها، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"أَطِعْ أباك"، فَيَحْتَمِل أن تكون هي هذه، ولعل عمر لما أمره بطلاقها، وشاور النبيّ صلى الله عليه وسلم، فامتثل أمره اتَّفَقَ أن الطلاق وقع، وهي في الحيض، فعَلِم عمر بذلك، فكان ذلك هو السرَّ في توليه السؤال عن ذلك؛ لكونه وقع من قبله. انتهى

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه في شرح حديث أول الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3665]

(. . .) -حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ يُونُسَ بْنَ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: طَلَّقْتُ امْرَأَتي، وَهِيَ حَائِضٌ، فَأَتَى عُمَرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"لِيُرَاجِعْهَا، فَإِذَا طَهُرَتْ، فَإِنْ شَاءَ فَلْيُطَلِّقْهَا"، قَالَ: فَقُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: أفَاحْتَسَبْتَ بِهَا؟

(2)

قَالَ: مَا يَمْنَعُهُ؟ أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ، وَاسْتَحْمَقَ؟).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(ابْنُ بَشَّارٍ) محمد المعروف ببُندار، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغُندر، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ، صحيح الكتاب [9](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

(1)

"الفتح" 12/ 29 - 30.

(2)

وفي نسخة: "أفتحتسب بها؟ ".

ص: 50

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجاج بن الورد، أبو بسام الواسطيّ، نزيل البصرة الإمام الحافظ الحجة الثبت الناقد العابد [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.

4 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدُوسيّ، أبو الخطاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، مدلّسٌ، من رؤوس [4](ت 7 أو 118)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (أفَاحْتَسَبْتَ بِهَا؟) أي: أفاعتدّدت بتلك التطليقة؟ وفي نسخة: "أفتحتسب بها؟ ". وقَولُه: (مَا يَمْنَعُهُ؟) فيه التفاتٌ؛ إذ الظاهر أن يقول: "ما يمنعني؟ "، فتنبّه.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه في شرح حديث أول الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3666]

(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ أنَس بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَن امْرَأَتِهِ الَّتِي طَلَّقَ، فَقَالَ: طَلَّقْتُهَا، وَهِيَ حَائِضٌ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، فَإِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْهَا لِطُهْرِهَا"، قَالَ: فَرَاجَعْتُهَا، ثُمَّ طَلَّقْتُهَا لِطُهْرِهَا، قُلْتُ: فَاعْتَدَدْتَ بِتِلْكَ التَّطْلِيقَةِ الَّيي طَلَّقْتَ، وَهِيَ حَائِضٌ؟ قَالَ: مَا لِيَ لَا أَعْتَدُّ بِهَا؟ وَإِنْ كُنْتُ عَجَزْتُ، وَاسْتَحْمَقْتُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الله) بن عبد الرحمن بن يزيد المزنيّ مولاهم، أبو الهيثم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 407.

2 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ) بن أبي سليمان ميسرة الْعَرْزميّ الكوفيّ، ثقةٌ [5](ت 145)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.

3 -

(أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ) الأنصاريّ، أبو موسى، أو أبو حمزة، أو أبو عبد الله البصريّ، أخو محمد، ثقةٌ [3](ت 118 أو 120)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 47/ 1494.

ص: 51

والباقيان ذُكرا في الباب.

وقوله: (فَلْيُطَلِّقْهَا لِطُهْرِهَا) اللام بمعنى "في"؛ أي: في طهرها.

والحديث مضى البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3667]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ؛ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: طَلَّقْتُ امْرَأَتِي، وَهِيَ حَائِضٌ، فَأَتَى عُمَرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ:"مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ إِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْهَا"، قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: أفَاحْتَسَبْتَ

(1)

بِتِلْكَ التَّطْلِيقَةِ؟ قَالَ: فَمَهْ؟).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلهم ذُكروا في الإسنادين الماضيين، والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في شرح حديث أول الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3668]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ (ح) وَحَدَّثَنِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِهِمَا:"لِيَرْجِعْهَا"، وَفِي حَدِيثِهِمَا: قَالَ: قُلْتُ لَهُ: أَتَحْتَسِبُ بِهَا؟ قَالَ: فَمَهْ؟).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ) بن عربيّ البصريّ، ثقةٌ [10](ت 248)(م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.

2 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) بن عُبيد الْهُجيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.

(1)

وفي نسخة: "أفحسبت؟ ".

ص: 52

3 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرِ) بن الحكم الْعَبْديّ، أبو محمد النيسابوريّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 160) أو بعدها (خ م د ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 99.

4 -

(بَهْزُ) بن أسد الْعَمّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9] مات بعد المائتين، أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.

و"شعبة" ذُكر قبله.

وقوله: (فَمَهْ؟) تقدّم أنه يَحْتَمل أن يكون للكفّ والزجر عن هذا القول؛ أي: لا تشكّ في وقوع الطلاق، بل اجزم به، ويَحتَمل أن تكون "ما" الاستفهاميّة، والهاء للسكت؛ أي: فما يكون إن لم تُحتسب عليه؟ يعني أنه لا يكون إلا الاحتساب بها، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية خالد بن الحارث، وبهز بن أسد كلاهما عن شعبة لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3669]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ؛ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يُسْأَلُ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا، فَقَالَ: أَتَعْرِفُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا، فَذَهَبَ عُمَرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا، قَالَ: لَمْ أَسْمَعْهُ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، لِأَبِيهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعاني، ثقةٌ حافظ مصنّف، يتشيّع، تغيّر بآخره [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

3 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقةٌ فقيه فاضل لكنه يُدلّس ويرسل [6](ت 150) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

ص: 53

4 -

(ابْنُ طَاوُسٍ) عبد الله، أبو محمد اليمنيّ، ثقةٌ فاضلٌ عابدٌ [6](ت 132)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

5 -

(أَبُوهُ) طاوس بن كيسان الْحِمْيريّ مولاهم، أبو عبد الرحمن اليمنيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ [3](ت 106) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

و"ابن عمر رضي الله عنهما" ذُكر قبله.

وقوله: (قَالَ: لَمْ أَسْمَعْهُ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، لِأَبِيهِ) قال النوويّ رحمه الله: قوله: "لأبيه" بالباء الموحدة، ثم الياء المثناة من تحتُ، ومعناه أن ابن طاوس قال: لم أسمعه؛ أي: لم أسمع أبي طاوسًا يزيد على هذا القدر من الحديث، والقائل:"لأبيه" هو ابن جريج، وأراد تفسير الضمير في قول ابن طاوس:"لم أسمعه"، واللام زائدة، فمعناه: يعني أباه، ولو قال: يعني أباه لكان أوضح. انتهى.

والحديث متّفقٌ عليه، وأما هذا الطريق فمن أفراد المصنّف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3670]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ؛ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَيْمَنَ مَوْلَى عَزَّةَ، يَسْأَلُ ابْنَ عُمَرَ، وَأبُو الزُّبَيْرِ يَسْمَعُ ذَلِكَ: كيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا؟ فَقَالَ: طَلَّقَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لِيُرَاجِعْهَا"، فَرَدَّهَا، وَقَالَ: "إِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ، أَوْ لِيُمْسِكْ"، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَقَرَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) الحمّال، أبو موسى البزّاز البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 243)(م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.

2 -

(حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ) الأعور الْمصّيصيّ، ثقةٌ ثقةٌ اختلط في آخره [9](ت 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 94.

ص: 54

3 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، صدوقٌ يُدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (سَمْعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَيْمَنَ مَوْلَى عَزَّةَ) ويقال: مولى أيمن المخزوميّ مولاهم المكيّ، لا بأس به [3].

سمعه أبو الزبير يسأل عبدَ الله بن عمر عن رجل طلّق امرأته حائضًا - أي: حديث الباب - وذكره ابن حبان في "الثقات"، فقال: روى عن ابن عمر، وأبي سعيد، وروى عنه عمرو بن دينار، وله ذكرٌ بلا رواية، عند المصنّف في هذا الموضع، وأبي داود، والنسائي، قال الحافظ المزيّ: ذكره غير واحد في رجال مسلم، وليس له عندهم رواية، وقال الحافظ: قال البخاريّ: رأى أبا سعيد، وسمع ابن عمر، أثنى عليه ابن عيينة خيرًا. انتهى.

وقوله: (وَأَبُو الزُّبَيْرِ يَسْمَعُ ذَلِكَ) فيه التفات؛ إذ الظاهر أن يقول: وأنا أسمع.

وقوله: (فَقَالَ: طَلَّقَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ) فيه التفات أيضًا؛ إذ الظاهر أن يقول: طلّقت امرأتي.

وقوله: (إذا طهرت فليُطلّق، أو ليُمسك) ظاهر هذه الرواية أنه يطلّق إذا طهرت من الحيضة الأولى التي وقع فيها الطلاق، فتكون مخالفةً للروايات المتقدّمة، وغيرها، فالأولى أن تُحمَل على موافقة تلك الروايات، فيُحمَل الطهر على الطهر من الحيضة الثانية، لا الأولى.

وقوله: (قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَقَرَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ") قال النوويّ رحمه الله: هذه قراءة ابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم، وهي شاذّة، لا تثبت قرآنًا بالإجماع، ولا يكون لها حُكم خبر الواحد عندنا، وعند محققي الأصوليين. انتهى

(1)

.

وقال أبو العباس القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "فقرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم إلخ" هذا تصريح برفع هذه القراءة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير أنها شاذّة عن المصحف، ومنقولة

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 69.

ص: 55

آحادًا، فلا تكون قرآنًا، لكنها خبر مرفوعٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم صحيحٌ، فهي حجةٌ واضحةٌ لمن يقول بأن الأقراء هي الأطهار، كما تقدّم، وهي قراءة ابن عمر، وابن عبّاس رضي الله عنهم، وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه:"لقُبُل طهرهنّ"، قال جماعة من العلماء: وهي محمولة على التفسير، لا التلاوة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي رجحه القرطبيّ رحمه الله خلاف قول النوويّ من أن لها حكم خبر الواحد في الاحتجاج هو الذي رجحته في "التحفة المرضيّة"، حيث قلت:

وَكُلُّ مَا تَوَاتُرًا لَمْ يَنَلِ

عِنْدَ الأُصُولِيِّينَ شَاذًا يَنْجَلِي

وَاتَّفَقُوا أَنْ لَيْسَ قُرْآنًا تُلِي

وَاخْتَلَفُوا هَلْ مِثْلُهُ فِي الْعَمَلِ

وَكَوْنُهُ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي

وُجُوبِ الاحْتِجَاجِ رَاجِحًا يَفِي

وَقَوْلُهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا

مَذْهَبَ رَاوِيهِ فَيَطْعَنُونَا

فِي نَقْلِهِ رُدَّ بِأنَّهُ افْتِرَا

عَلَى الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ الْكُبَرَا

بِجَعْلِهِمْ رَأْيًا لَهُمْ قُرْآنَا

يُعْزَى إِلَى اللهِ فَيَا سُبْحَانَا

كَذَلِكَ التَّجْوِيزُ لِلْقِرَاءَهْ

أَعْنِي بِمَعْنًى بِئْسَتِ الْجَرَاءَهْ

فَهُمْ بَرِيئُونَ عَنِ الْبُهْتَانِ ذَا

تَبًّا لِمَنْ يَطْعَنُ فِيهِمْ بِالْبَذَا

وقوله: (في قُبُل عدّتهنّ): قال النوويّ رحمه الله: هو - بضم القاف، والباء - أي: في وقتٍ تَستقبل فيه العدّةَ، وتَشرع فيها. انتهى.

وقال السيوطيّ: قوله: "في قُبُل عدّتهنّ" أي: إقبالها، وأوّلها، وحين يمكن الدخول فيها، والشروع، وذلك حال الطهر، يقال: كان ذلك في قُبُل الشتاء؛ أي: إقباله. انتهى

(2)

.

وقال السنديّ رحمه الله ما حاصله: هذا الذي قاله السيوطيّ على وفق مذهبه، وأما على مذهب من يقول بأن القرء هو الحيض، فمعنى "في قُبُل عدّتهنّ" أي: إقبالها، فإنها بالطهر صارت مُقبلة للحيض، وصار الحيض مقبلًا عليها. انتهى

(3)

.

(1)

"المفهم" 4/ 233.

(2)

"شرح السيوطيّ على النسائيّ" 6/ 137 - 141.

(3)

"حاشية السنديّ على النسائيّ" 6/ 137 - 139.

ص: 56

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الأرجح ما قاله السيوطيّ رحمه الله؛ لأن أحاديث الباب ظاهرة فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3671]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَن ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَن ابْنِ عُمَرَ نَحْوَ هَذِهِ الْقِصَّةِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو عَاصِمٍ) الضحاك بن مخلد النبيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](212)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية أبي عاصم، عن ابن جريج هذه لم أر من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3672]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ؛ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَيْمَنَ مَوْلَى عُرْوَةَ، يَسْأَلُ ابْنَ عُمَرَ، وَأَبُو الزُّبَيْرِ يَسْمَعُ، بِمِثْلِ حَدِيثِ حَجَّاجٍ، وَفِيهِ بَعْضُ الزِّيَادَةِ، قَالَ مُسْلِم: أَخْطَأَ حَيْثُ قَالَ عُرْوَةَ: إِنَّمَا هُوَ مَوْلَى عَزَّةَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) أبو عبد الله النيسابوريّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [11](ت 245)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (وَفِيهِ بَعْضُ الزِّيَادَةِ) هي قوله: "ولم يرها شيئًا"، قال الحافظ: ولعل مسلمًا طوى ذكرها عمدًا؛ أي: حيث خالفت روايات الحفّاظ؛ كنافع، وسالم، وغيرهما، بأنها اعتدت تطليقة، وحُسبت عليه، وسيأتي تمام البحث بعدُ، فتنبّه.

وقوله: (قَالَ مُسْلِم: أَخْطَأَ إلخ)"مسلم" هو المصنّف رحمه الله، وفاعل "أخطأ" ضمير عبد الرزّاق، يعني أنه أخطأ في قوله:"مولى عروة"؛ لأن

ص: 57

الصواب أنه "مولى عزّة"، كما هو رواية حجاج بن محمد الأعور السابقة.

[تنبيه]: رواية عبد الرزّاق، عن ابن جريج هذه ساقها عبد الرزّاق في "مصنّفه" 6/ 309 فقال:

(10960)

- عبد الرزاق، عن ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع ابن عمر، وسأله عبد الرحمن بن أيمن مولى عروة: كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضًا؟ فقال: طَلَّق عبد الله بن عمر امرأته، وهي حائض، على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"فليراجعها"، فرَدَّها، ولم يرها شيئًا، فقال:"إذا طهرت، فليُطَلِّق، أو ليمسك"، قال ابن عمر: وقرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]. انتهى.

[تنبيه آخر]: قوله: (ولم يرهما شيئًا) هذه الزيادة في رواية أبي الزبير، عن ابن عمر مخالفة للحفاظ من أصحاب ابن عمر؛ كنافع، وسالم، وغيرهما، ولذا قال أبو داود في "سننه" بعد إخراج الحديث، ما نصّه: الأحاديث كلها على خلاف ما قال أبو الزبير. انتهى.

وقال أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: قوله في هذا الحديث: "ولم يرها شيئًا" منكر، عن ابن عمر؛ لما ذكرنا عنه أنه اعتَدَّ بها، ولم يقله أحد عنه غير أبي الزبير، وقد رواه عنه جماعة جِلّةٌ، فلم يقل ذلك واحد منهم، وأبو الزبير ليس بحجة فيما خالفه فيه مثله، فكيف بخلاف من هو أثبت منه؟ ولو صح لكان معناه عندي - والله أعلم - ولم يرها على استقامة؛ أي: ولم يرها شيئًا مستقيمًا؛ لأنه لم يكن طلاقه لها على سنة الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا أولى المعاني بهذه اللفظة إن صحت، وكل من روى هذا الخبر من الحفاظ لم يذكروا ذلك، وليس من خالف الجماعة الحفاظ بشيء فيما جاء به. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

وأخرج البيهقيّ في "الكبرى" من طريق الربيع بن سليمان، قال: قال الشافعيّ رحمه الله: وحديث أبي الزبير شبيه به - يعني بما رَوَى نافع عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الأمر بالرجعة، قال الشافعيّ: ونافع أثبت عن ابن عمر من

(1)

"التمهيد لابن عبد البرّ" 15/ 66.

ص: 58

أبي الزبير، والأثبت من الحديثين أولى أن يقال به إذا خالفه، قال: وقد وافق نافعٌ غيرَه من أهل الثبت في الحديث، فقيل له: أَحُسِبت تطليقة ابن عمر على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم تطليقةً؟ قال: فمه، وإن عجز - يعني أنها حسبت، والقرآن يدلّ على أنها تُحسب، قال الله تعالى:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] لم يخصص طلاقًا دون طلاق، ثم ساق الكلام إلى أن قال: وقد يَحْتَمِل أن يكون لم تُحْسَب شيئًا صوابًا غير خطأ، كما يقال للرجل أخطأ في فعله، وأخطأ في جوابٍ أجاب به: لم يصنع شيئًا، يعني لم يصنع شيئًا صوابًا. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر من كلام الأئمة أن هذه الزيادة التي زادها أبو الزبير؛ أعني: "ولم يرها شيئًا" زيادة منكرة؛ لمخالفتها روايات الحفّاظ المتقنين من أصحاب ابن عمر رضي الله عنهما، وعلى تقدير صحّتها، فيكون معناها: لم يرها شيئًا؛ أي: صوابًا، كما قال الشافعيّ، وغيره، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفًى في المسألة الرابعة من المسائل المذكورة في شرح الحديث المذكور أول الباب برقم [3652]، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

(2) - (بَابُ طَلَاقِ الثَّلَاثِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3673]

(1472) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ رَافِعٍ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنَ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبِي بَكْرٍ، وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً،

(1)

"سنن البيهقي الكبرى" 7/ 327.

ص: 59

فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ قَدْ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مَعْمَرُ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

2 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما تقدم في "الإيمان" 6/ 124. والباقون ذُكروا في الباب الماضي.

شرح الحديث:

(عَن ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: في وقته، فـ "على" بمعنى "في"(وَأَبِي بَكْرٍ) رضي الله عنه (وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ) رضي الله عنه، وقوله:(طَلَاقُ الثَّلَاثِ) بالرفع بدل من "الطلاقُ"، أو عطف بيان له، وقوله:(وَاحِدَةً) بالنصب على الخبرية لـ "كان"، وإنما أنّثها؛ لملاحظة معنى التطليقة (فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه (إِنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ) أراد به أمر الطلاق، والجملة بعده صفة له، واستعجالهم له: إيقاعهم الثلاث دفعةً واحدةً (قَدْ كَانَتْ لَهُمْ فِيه أنَاةٌ) بفتح الهمزة؛ أي: مُهْلةٌ، وبقيّةُ استمتاع؛ لانتظار المراجعة (فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ) أي: لكان زاجرًا لهم عن هذا الاستعجال (فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ) أي: حكم على من طلّق ثلاثًا بوقوع الثلاث، وألزمه ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 3673 و 3674 و 3675](1472)، و (أبو داود) في "النكاح"(2200)، و (النسائيّ) في "النكاح"(6/ 145)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(6/ 392)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 314)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 214)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 152)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 153 - 154)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(11/ 23)،

ص: 60

و (الدارقطنيّ) في "سننه"(4/ 46)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 337)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم الطلاق الثلاث:

قال النوويّ رحمه الله ما حاصله: اختَلَف العلماء فيمن قال لامرأته: أنت طالق ثلاثًا، فقال الشافعيّ، ومالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وجماهير العلماء من السلف والخلف: يقع الثلاث، وقال طاوس، وبعض أهل الظاهر: لا يقع بذلك إلا واحدة، وهو رواية عن الحجاج بن أرطاة، ومحمد بن إسحاق، والمشهور عن الحجاج بن أرطاة أنه لا يقع به شيءٌ، وهو قول ابن مقاتل، ورواية عن محمد بن إسحاق.

واحتجّ هؤلاء بحديث ابن عباس هذا، وبأنه وقع في بعض روايات حديث ابن عمر أنه طلق امرأته ثلاثًا في الحيض، ولم يَحتسب به، وبأنه وقع في حديث رُكانة أنه طلَّق امرأته ثلاثًا، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم برجعتها.

واحتجّ الجمهور بقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]، قالوا: معناه أن المطلِّق قد يَحْدُث له ندم، فلا يمكنه تداركه؛ لوقوع البينونة، فلو كانت الثلاث لا تقع لم يقع طلاقه هذا إلا رجعيًّا فلا يندم.

واحتجوا أيضًا بحديث رُكانة أنه طلق امرأته البتة، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ما أردت إلا واحدةً؟ "، قال: والله ما أردت إلا واحدةً، فهذا دليل على أنه لو أراد الثلاث لوقعن، وإلا فلم يكن لتحليفه معنى.

وأما الرواية التي رواها المخالفون أن ركانه طلق ثلاثًا، فجعلها واحدةً، فرواية ضعيفة عن قوم مجهولين، وإنما الصحيح منها ما قدمناه أنه طلقها البتة، ولفظ البتة مُحْتَمِلٌ للواحدة وللثلاث، ولعل صاحب هذه الرواية الضعيفة اعتقد أن لفظ البتة يقتضي الثلاث، فرواه بالمعنى الذي فهمه، وغَلِط في ذلك.

وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما، فالروايات الصحيحة التي ذكرها مسلم وغيره أنه طلقها واحدةً.

وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فاختَلَف العلماء في جوابه، وتأويله، فالأصح أن معناه أنه كان في أول الأمر إذا قال لها: أنت طالق، أنت طالق،

ص: 61

أنت طالق، ولم ينو تأكيدًا، ولا استئنافًا يُحكم بوقوع طلقة؛ لقلة إرادتهم الاستئناف بذلك، فحُمِل على الغالب الذي هو إرادة التأكيد، فلما كان في زمن عمر رضي الله عنه، وكثُر استعمال الناس بهذه الصيغة، وغلب منهم إرادة الاستئناف بها، حُمِلت عند الإطلاق على الثلاث؛ عملًا بالغالب السابق إلى الفهم منها في ذلك العصر.

وقيل: المراد أن المعتاد في الزمن الأول كان طلقةً واحدةً، وصار الناس في زمن عمر يوقعون الثلاث دفعةً، فنفذّه عمر، فعلى هذا يكون إخبارًا عن اختلاف عادة الناس، لا عن تغير حكم في مسألة واحدة.

وقد حقّق هذه المسألة الشيخ العلامة الشنقيطي رحمه الله في "أضوائه"

(1)

، وطوّل نَفَسه فيها، فأجاد، وأفاد، وقد أحببت إيراده بطوله؛ لفوائده الغزيرة، وعوائده الكثيرة.

قال رحمه الله: وقال النوويّ في "شرح مسلم" ما نصّه: واحتَجَّ الجمهور بقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]، قالوا: معناه أن المطلِّق قد يَحدُث له ندم، فلا يمكنه تداركه؛ لوقوع البينونة، فلو كانت الثلاث لا تقع لم يقع طلاقه هذا إلا رجعيًّا، فلا يندم. انتهى محل الغرض منه بلفظه.

قال الشيخ رحمه الله: ومما يؤيد هذا الاستدلال القرءاني ما أخرجه أبو داود بسند صحيح، من طريق مجاهد، قال: كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل، فقال: إنه طلَّق امرأته ثلاثًا، فسكت، حتى ظننت أنه سيردها إليه، فقال: ينطلق أحدكم، فيركب الأُحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس، إن الله قال:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، وإنك لم تتق الله، فلا أجد لك مخرجًا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك.

وأخرج له أبو داود متابعاتٍ عن ابن عباس بنحوه، وهذا تفسير من ابن عباس للآية بأنها يدخل في معناها من يتق الله، ولم يجمع الطلاق في لفظة واحدة، يجعل له مخرجًا بالرجعة، ومن لم يتقه في ذلك بأن جمع الطلقات في

(1)

راجع: "أضواء البيان" 1/ 175 - 206.

ص: 62

لفظ واحد، لم يجعل له مخرجًا؛ لوقوع البينونة بها مجتمعةً، هذا هو معنى كلامه الذي لا يَحْتَمِل غيره، وهو قويّ جدًّا في محل النزاع؛ لأنه مفسِّر به قرءانًا، وهو ترجمان القرءان، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"اللهم علِّمه التأويل"، وعلى هذا القول جلُّ الصحابة، وأكثر العلماء، منهم الأئمة الأربعة، وحَكَى غير واحد عليه الإجماع.

واحتَجّ المخالفون بأربعة أحاديث:

[الأول]: حديث ابن إسحاق عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، عند أحمد، وأبي يعلى، وصححه بعضهم، قال: طلَّق رُكانة بن عبد يزيد امرأته ثلاثًا في مجلس واحد، فحَزِن عليها حُزْنًا شديدًا، فسأله النبيّ صلى الله عليه وسلم كيف طلقتها؟ قال: ثلاثًا في مجلس واحد، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنما تلك واحدةٌ، فارتَجِعْهَا، إن شئت"، فارتَجَعَهَا.

قال الشيخ رحمه الله: الاستدلال بهذا الحديث مردود من ثلاثة أوجه:

الأول: أنه لا دليل فيه البتة على محل النزاع على فرض صحته، لا بدلالة المطابقة، ولا بدلالة التضمن، ولا بدلالة الالتزام؛ لأن لفظ المتن أن الطلقات الثلاث واقعةٌ في مجلس واحد، ولا شك أن كونها في مجلس واحد لا يلزم منه كونها بلفظ واحد، فادّعاء أنها لما كانت في مجلس واحد لا بدّ أن تكون بلفظ واحد في غاية البطلان، كما ترى؛ إذ لم يدلّ كونها في مجلس واحد على كونها بلفظ واحد بنقل، ولا عقل، ولا لغة، كما لا يخفى على أحد، بل الحديث أظهر في كونها ليست بلفظ واحد؛ إذ لو كانت بلفظ واحد لقال: بلفظ واحد، وترك ذكر المجلس؛ إذ لا داعي لترك الأخص، والتعبير بالأعم بلا موجِبٍ، كما ترى.

وبالجملة فهذا الدليل يُقْدَح فيه بالقادح المعروف عند أهل الأصول بـ "القول بالموجَب"، فيقال: سلّمنا أنها في مجلس واحد، ولكن من أين لك أنها بلفظ واحد؟ فافهم، وسترى تمام هذا المبحث - إن شاء الله - في الكلام على حديث طاوس عند مسلم.

الثاني: أن داود بن الحصين الذي هو راوي هذا الحديث عن عكرمة، ليس بثقة في عكرمة، قال ابن حجر في "التقريب": داود بن الحصين الأمويّ

ص: 63

مولاهم، أبو سليمان المدنيّ ثقة إلا في عكرمة، ورُمي برأي الخوارج. انتهى.

وإذا كان غير ثقةٌ في عكرمة كان الحديث المذكور من رواية غير ثقة، مع أنه قدمنا أنه لو كان صحيحًا لما كانت فيه حجة.

الثالث: ما ذكره ابن حجر في "فتح الباري"، فإنه قال فيه ما نصه: الثالث أن أبا داود رجّح أن رُكانة إنما طلق امرأته البتة، كما أخرجه هو من طريق آل بيت ركانة، وهو تعليل قويّ؛ لجواز أن يكون بعض رواته حمل البتة على الثلاث، فقال: طلّقها ثلاثًا، فبهذه النكتة يقف الاستدلال بحديث ابن عباس. انتهى منه بلفظه.

يعني حديث ابن إسحاق عن داود بن الحصين المذكور عن عكرمة عن ابن عباس، مع أنا قدّمنا أن الحديث لا دليل فيه أصلًا على محل النزاع، وبما ذكرنا يظهر سقوط الاستدلال بحديث ابن إسحاق المذكور.

[الحديث الثاني]: من الأحاديث الأربعة التي استَدَلّ بها من جعل الثلاث واحدةً، هو ما جاء في بعض روايات حديث ابن عمر رضي الله عنهما من أنه طلّق امرأته في الحيض ثلاثًا، فاحتُسِب بواحدة، ولا يخفى سقوط هذا الاستدلال؛ لأن الصحيح أنه إنما طلقها واحدةً، كما جاء في الروايات الصحيحة عند مسلم وغيره.

وقال النوويّ في "شرح مسلم"، ما نصه: وأما حديث ابن عمر فالروايات الصحيحة التي ذكرها مسلم وغيره أنه طلقها واحدة.

وقال القرطبيّ في "تفسيره"، ما نصه: والمحفوظ أن ابن عمر طلق امرأته واحدة في الحيض.

قال عبد الله: وكان تطليقه إياها في الحيض واحدةً، غير أنه خالف السنّة، وكذلك قال صالح بن كيسان، وموسى بن عقبة، وإسماعيل بن أمية، وليث بن سعد، وابن أبي ذئب، وابن جريج، وجابر، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن نافع، أن ابن عمر طلق تطليقة واحدة.

وكذا قال الزهريّ عن سالم، عن أبيه، ويونس بن جبير، والشعبيّ، والحسن. انتهى منه بلفظه، فسقوط الاستدلال بحديث ابن عمر في غاية الظهور.

ص: 64

[الحديث الثالث]: من أدلتهم هو ما رواه أبو داود في "سننه": حدّثنا أحمد بن صالح، حدّثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني بعض بني أبي رافع، مولى النبيّ صلى الله عليه وسلم، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: طلّق عبد يزيد، أبو ركانة وإخوتِهِ أم ركانة، ونَكَحَ امرأة من مُزينة، فجاءت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة، لشعرة أخذتها من رأسها، ففَرِّق بيني وبينه، فأخذت النبيَّ صلى الله عليه وسلم حَمِيّةٌ، فدعا بركانة وإخوته، ثم قال لجلسائه:"أترون فلانًا يشبه منه كذا وكذا - من عبد يزيد - وفلانا يشبه منه كذا وكذا؟ " قالوا: نعم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"طَلِّقها"، ففعل، فقال:"راجع امرأتك أم ركانة"، فقال: إني طلقتها ثلاثًا يا رسول الله، قال:"قد علمت راجعها"، وتلا:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1].

قال الشيخ رحمه الله: والاستدلال بهذا الحديث ظاهر السقوط؛ لأن ابن جريج قال: أخبرني بعض بني أبي رافع، وهي رواية عن مجهول، لا يدرى من هو؟ فسقوطها كما ترى، ولا شك أن حديث أبي داود المتقدم أولى بالقبول من هذا الذي لا خلاف في ضعفه.

وقد تقدم أن ذلك فيه أنه طلقها البتة وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أحلفه ما أراد إلا واحدة، وهو دليل واضح على نفوذ الطلقات المجتمعة، كما تقدم.

[الحديث الرابع]: هو ما أخرجه مسلم في "صحيحه"، ثم أورد حديث الباب:"كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر طلاقُ الثلاث واحدةً".

وفي رواية: "أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم إنما كانت الثلاث تُجعل واحدةً على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وثلاثًا من إمارة عمر؟ فقال ابن عباس: نعم".

وفي رواية: "أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هَنَاتك، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر واحدةً؟ فقال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتايع الناس في الطلاق، فأجازه عليهم"، هذا لفظ مسلم في "صحيحه".

ص: 65

وهذه الطريق الأخيرة أخرجها أبو داود، ولكن لم يسم إبراهيم بن ميسرة، وقال بدله: عن غير واحد، ولفظ المتن:"أما عَلِمتَ أن الرجل كان إذا طلّق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها، جعلوها واحدةً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرًا من إمارة عمر، قال ابن عباس: بلى، كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها، جعلوها واحدةً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرًا من إمارة عمر، فلما رأى الناس، يعني عمر قد تتايعوا فيها، قال: أجيزوهنّ عليهم".

قال: وللجمهور عن حديث ابن عباس هذا عدة أجوبة:

(الأول): أن الثلاث المذكورة فيه التي كانت تُجعل واحدةً ليس في شيء من روايات الحديث التصريح بأنها واقعة بلفظ واحد، ولفظ طلاق الثلاث لا يلزم منه لغةً ولا عقلًا ولا شرعًا أن تكون بلفظ واحد، فمن قال لزوجته: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ثلاث مرات في وقت واحد، فطلاقه هذا طلاق الثلاث؛ لأنه صَرّح بالطلاق فيه ثلاث مرات، وإذا قيل لمن جزم بأن المراد في الحديث إيقاع الثلاث بكلمة واحدة: من أين أخذت كونها بكلمة واحدة، فهل في لفظ من ألفاظ الحديث أنها بكلمة واحدة؟ وهل يمنع إطلاق الطلاق الثلاث على الطلاق بكلمات متعددة؟ فإن قال: لا يقال له: طلاق الثلاث إلا إذا كان بكلمة واحدة فلا شكّ في أن دعواه هذه غير صحيحة، وإن اعترف بالحقّ، وقال: يجوز إطلاقه على ما أُوقع بكلمة واحدة، وعلى ما أوقع بكلمات متعددة، وهو أشدّ بظاهر اللفظ، قيل له: وإذن فجزمك بكونه بكلمة واحدة لا وجه له، وإذا لم يتعين في الحديث كون الثلاث بلفظ واحد سقط الاستدلال به من أصله في محل النزاع.

ومما يدلّ على أنه لا يلزم من لفظ طلاق الثلاث في هذا الحديث كونها بكلمة واحدة، أن الإمام أبا عبد الرحمن النسائيّ مع جلالته، وعلمه، وشدة فهمه ما فهم من هذا الحديث إلا أن المراد بطلاق الثلاث فيه: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، بتفريق الطلقات؛ لأن لفظ الثلاث أظهر في إيقاع الطلاق ثلاث مرات، ولذا ترجم في "سننه" لرواية أبي داود المذكورة في هذا الحديث، فقال:"باب طلاق الثلاث المتفرقة قبل الدخول بالزوجة"، ثم قال:

ص: 66

أخبرنا أبو داود سليمان بن سيف، قال: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه؛ أن أبا الصهباء جاء إلى ابن عباس رضي الله عنهما، فقال: يا ابن عباس ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرًا من خلافة عمر تردّ إلى الواحدة؟ قال: نعم، فترى هذا الإمام الجليل صرّح بأن طلاق الثلاث في هذا الحديث ليس بلفظ واحد، بل بألفاظ متفرقة، ويدل على صحة ما فهمه النسائيّ رحمه الله من الحديث ما ذكره ابن القيّم في "زاد المعاد" في الردّ على من استدل لوقوع الثلاث دفعة بحديث عائشة رضي الله عنها:"أن رجلًا طلق امرأته ثلاثًا، فتزوجت. . ." الحديث، فإنه قال فيه، ما نصه: ولكن أين في الحديث أنه طلق الثلاث بفم واحد؟ بل الحديث حجة لنا، فإنه لا يقال: فعل ذلك ثلاثًا، وقال ثلاثًا إلا من فعل، وقال مرة بعد مرة، وهذا هو المعقول في لغات الأمم عربهم وعجمهم، كما يقال: قذفه ثلاثًا، وشتمه ثلاثًا، وسلّم عليه ثلاثًا. انتهى منه بلفظه.

وهو دليل واضح لصحة ما فهمه أبو عبد الرحمن النسائيّ رحمه الله من الحديث؛ لأن لفظ الثلاث في جميع رواياته أظهر في أنها طلقات ثلاث واقعة مرة بعد مرة، كما أوضحه ابن القيّم في حديث عائشة رضي الله عنها المذكور آنفًا.

وممن قال بأن المراد بالثلاث في حديث طاوس المذكور: الثلاث المفرقة بألفاظ، نحو أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ابنُ سريج، فإنه قال: يُشبه أن يكون ورد في تكرير اللفظ، كأن يقول: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، وكانوا أوّلًا على سلامة صدورهم يُقبل منهم أنهم أرادوا التأكيد، فلما كثر الناس في زمن عمر، وكثر فيهم الخداع ونحوه، مما يمنع قبول من ادعى التأكيد، حَمَل عمرُ اللفظ على ظاهر التكرار، فأمضاه عليهم، قاله ابن حجر في "الفتح"، وقال: إن هذا الجواب ارتضاه القرطبيّ، وقوّاه بقول عمر: إن الناس استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناةٌ.

وقال النوويّ في "شرح مسلم"، ما نصه: وأما حديث ابن عباس فاختَلَف الناس في جوابه وتأويله، فالأصح أن معناه أنه كان في أول الأمر إذا قال لها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ولم ينو تأكيدًا ولا استئنافًا يُحكَم بوقوع طلقة؛ لقلة إرادتهم الاستئناف بذلك، فحُمِل على الغالب الذي هو إرادة

ص: 67

التأكيد، فلما كان في زمن عمر رضي الله عنه، وكثر استعمال الناس لهذه الصيغة، وغلب منهم إرادة الاستئناف بها، حُمِلت عند الإطلاق على الثلاث؛ عملًا بالغالب السابق إلى الفهم في ذلك العصر.

قال الشيخ رحمه الله: وهذا الوجه لا إشكال فيه؛ لجواز تغير الحال عند تغير القصد؛ لأن الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى، وظاهر اللفظ يدل لهذا كما قدمنا.

وعلى كل حال فادعاء الجزم بأن معنى حديث طاوس المذكور أن الثلاث بلفظ واحد ادعاء خالٍ من دليل، كما رأيت، فليتق الله من تجرأ على عزو ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم مع أنه ليس في شيء من روايات حديث طاوس كون الثلاث المذكورة بلفظ واحد، ولم يتعيّن ذلك من اللغة، ولا من الشرع، ولا من العقل كما ترى.

قال: ويدل لكون الثلاث المذكورة ليست بلفظ واحد ما تقدّم في حديث ابن إسحاق عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، عند أحمد، وأبي يعلى، من قوله:"طلق امرأته ثلاثًا في مجلس واحد"، وقوله صلى الله عليه وسلم:"كيف طلقتها؟ " قال: ثلاثًا في مجلس واحد؛ لأن التعبير بلفظ المجلس يُفهم منه أنها ليست بلفظ واحد؛ إذ لو كان اللفظ واحدًا لقال: بلفظ واحد، ولم يحتج إلى ذكر المجلس؛ إذ لا داعي لذكر الوصف الأعم، وترك الأخص بلا موجِبٍ، كما هو ظاهر.

(الجواب الثاني): عن حديث ابن عباس هو أن معنى الحديث: أن الطلاق الواقع في زمن عمر ثلاثًا كان يقع قبل ذلك واحدةً؛ لأنهم كانوا لا يستعملون الثلاث أصلًا، أو يستعملونها نادرًا، وأما في عهد عمر فكثر استعمالهم لها.

ومعنى قوله: "فأمضاه عليهم" على هذا القول: أنه صنع فيه من الحكم بإيقاع الطلاق ما كان يصنع قبله، ورجّح هذا التأويل ابن العربيّ، ونسبه إلى أبي زرعة الرازيّ، وكذا أورده البيهقيّ بإسناده الصحيح إلى أبي زرعة، أنه قال: معنى هذا الحديث عندي: إنما تطلقون أنتم ثلاثًا كانوا يطلقون واحدةً.

قال النوويّ: وعلى هذا فيكون الخبر وقع عن اختلاف عادة الناس خاصةً لا عن تغيير الحكم في المسألة الواحدة، وهذا الجواب نقله القرطبيّ في تفسير

ص: 68

قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] عن المحقق القاضي أبي الوليد الباجيّ، والقاضي عبد الوهاب، وإلكيا الطبريّ.

قال الشيخ رحمه الله: ولا يخفى ما في هذا الجواب من التعسّف، وإن قال به بعض أجلّاء العلماء.

(الجواب الثالث): عن حديث ابن عباس رضي الله عنهما هو القول بأنه منسوخ، وأن بعض الصحابة لم يطّلع على النسخ إلا في عهد عمر، فقد نَقَل البيهقيّ في "السنن الكبرى" في "باب من جعل الثلاث واحدةً" عن الإمام الشافعيّ رحمه الله ما نصه: قال الشافعيّ: فإن كان معنى قول ابن عباس أن الثلاث كانت تُحسب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدةً، يعني أنه بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فالذي يشبه - والله أعلم - أن يكون ابن عباس عَلِمَ أن كان شيئًا فنُسخ.

فإن قيل: فما دل على ما وصفت؟ قيل: لا يشبه أن يكون ابن عباس يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا ثم يخالفه بشيء لم يعلمه، كان من النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه خلاف، قال الشيخ

(1)

: ورواية عكرمة، عن ابن عباس قد مضت في النسخ، وفيها تأكيد لصحة هذا التأويل، قال الشافعيّ: فإن قيل: فلعل هذا شيء رُوي عن عمر، فقال فيه ابن عباس بقول عمر رضي الله عنه، قيل: قد علمنا أن ابن عباس رضي الله عنهما يخالف عمر رضي الله عنه في نكاح المتعة، وفي بيع الدينار بالدينارين، وفي بيع أمهات الأولاد، وغيره، فكيف يوافقه في شيء يروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه خلافه؟ انتهى محل الحاجة من البيهقي بلفظه.

وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" ما نصه: الجواب الثالث دعوى النسخ، فنقل البيهقيّ عن الشافعيّ أنه قال: يشبه أن يكون ابن عباس عَلِم شيئًا نَسَخ ذلك، قال البيهقيّ: ويقويه ما أخرجه أبو داود، من طريق يزيد النحويّ، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان الرجل إذا طلق امرأته، فهو أحقّ برجعتها، وإن طلقها ثلاثًا، فنُسخ ذلك، والترجمة التي ذكر تحتها أبو داود الحديث المذكور هي قوله:"باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث".

وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} الآية [البقرة: 229]

(1)

الشيخ هنا هو البيهقيّ، فتنبّه.

ص: 69

بعد أن ساق حديث أبي داود المذكور آنفًا، ما نصه: ورواه النسائي عن زكريا بن يحيى، عن إسحاق بن إبراهيم، عن علي بن الحسين به.

وقال ابن أبي حاتم: حدّثنا هارون بن إسحاق، حدّثنا عبدة، يعني ابن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن رجلًا قال لامرأته: لا أطلقك أبدًا، ولا آويك أبدًا، قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلق حتى إذا دنا أجلك راجعتك، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكرت له ذلك، فأنزل الله عز وجل:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229]، قال: فاستقبل الناس الطلاق، مَن كان طلَّق، ومن لم يكن طلَّق.

وقد رواه أبو بكر بن مردويه، من طريق محمد بن سليمان، عن يعلى بن شبيب مولى الزبير، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، فذكره بنحو ما تقدم.

ورواه الترمذيّ عن قتيبة، عن يعلى بن شبيب به، ثم رواه عن أبي كُريب، عن ابن إدريس، عن هشام، عن أبيه مرسلًا، وقال: هذا أصحّ.

ورواه الحاكم في "مستدركه" من طريق يعقوب بن حميد بن كاسب، عن يعلى بن شبيب به، وقال: صحيح الإسناد.

ثم قال ابن مردويه: حدّثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدّثنا إسماعيل بن عبد الله، حدّثنا محمد بن حميد، حدّثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: لم يكن للطلاق وقت يطلِّق الرجل امرأته، ثم يراجعها ما لم تنقض العدة، وكان بين رجل من الأنصار وبين أهله بعض ما يكون بين الناس، فقال: والله لأتركنك، لا أَيِّمًا، ولا ذات زوج، فجعل يطلقها، حتى إذا كادت العدة أن تنقضي راجعها، ففعل ذلك مرارًا، فأنزل الله عز وجل:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ، فوقّت الطلاق ثلاثًا لا رجعة فيه بعد الثالثة، حتى تنكح زوجًا غيره، وهكذا رُوي عن قتادة مرسلًا، ذكره السُّدّيّ، وابن زيد، وابن جرير كذلك، واختار أن هذا تفسير هذه الآية. انتهى من ابن كثير بلفظه.

وفي هذه الروايات دلالة واضحة لنسخ المراجعة بعد الثلاث، وإنكار المازريّ ادعاء النسخ مردود بما رده به الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"، فإنه لما نقل عن المازريّ إنكاره للنسخ من أوجه متعددة، قال بعده،

ص: 70

ما نصّه: قلت: نقل النوويّ هذا الفصل في "شرح مسلم"، وأقرّه، وهو متعقَّبٌ في مواضع:

أحدها: أن الذي ادَّعَى نسخ الحكم لم يقل: إن عمر هو الذي نسخ حتى يلزم منه ما ذُكر، وإنما قال ما تقدم: يُشبه أن يكون عَلِم شيئًا من ذلك نَسَخَ؛ أي: اطلع على ناسخ للحكم الذي رواه مرفوعًا، ولذلك أفتى بخلافه، وقد سَلَّم المازريّ في أثناء كلامه أن إجماعهم يدل على ناسخ، وهذا هو مراد من ادَّعَى النسخ.

الثاني: إنكاره الخروج عن الظاهر عجيبٌ، فإن الذي يحاول الجمع بالتأويل، يرتكب خلاف الظاهر حتمًا.

الثالث: أن تغليطه من قال: المراد ظهور النسخ عجيبٌ أيضًا؛ لأن المراد بظهوره: انتشاره، وكلام ابن عباس أنه كان يُفعل في زمن أبي بكر محمول على أن الذي كان يفعله من لم يبلغه النسخ، فلا يلزم ما ذُكر من إجماعهم على الخطإ. انتهى محل الحاجة من "فتح الباري" بلفظه.

ولا إشكال فيه لأن كثيرًا من الصحابة اطَّلَع على كثير من الأحكام لم يكن يعلمه، وقد وقع ذلك في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، فأبو بكر لم يكن عالِمًا بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في ميراث الجدة، حتى أخبره المغيرة بن شعبة، ومحمد بن مسلمة، وعمر لم يكن عنده علم بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في دية الجنين، حتى أخبره المذكوران قبلُ، ولم يكن عنده علم من أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية من مجوس هجر، حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف، ولا من الاستئذان ثلاثًا، حتى أخبره أبو موسى الأشعريّ، وأبو سعيد الخدريّ، وعثمان لم يكن عنده علم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب السكنى للمتوفى عنها زمن العدة، حتى أخبرته فُريعة بنت مالك، والعباس بن عبد المطلب، وفاطمة الزهراء رضي الله عنهما لم يكن عندهما علم بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنا معاشر الأنبياء لا نورث. . ." الحديث، حتى طلبا ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمثال هذا كثيرة جدًّا.

وأوضح دليل يزيل الإشكال عن القول بالنسخ المذكور وقوع مثله، واعتراف المخالف به في نكاح المتعة، فإن مسلمًا روى عن جابر رضي الله عنه أن متعة النساء كانت تُفعل في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرًا من خلافة عمر،

ص: 71

قال: ثم نهانا عمر عنها فانتهينا، وهذا مثل ما وقع في طلاق الثلاث طبقًا "ما أشبه الليلة بالبارحة":

فَإِنْ لَا يَكُنْهَا أَوْ تَكُنْهُ فَإِنَّهُ

أَخُوهَا غَذَتْهُ أُمُّهُ بِلِبَانِهَا

فمن الغريب أن يُسَلِّم منصف إمكان النسخ في إحداهما، ويَدَّعِي استحالته في الأخرى، مع أن كلًّا منهما رَوَى مسلم فيها عن صحابيّ جليل؛ أن ذلك الأمر كان يُفعل في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرًا من خلافة عمر، في مسألة تتعلق بالفروج، ثم غَيَّره عمر، ومن أجاز نسخ نكاح المتعة، وأحال نسخ جعل الثلاث واحدةً، يقال له: ما لبائك تَجُرّ، وبائي لا تَجُرّ.

فإن قيل: نكاح المتعة صح النصّ بنسخه، قلنا: قد رأيت الروايات المتقدمة بنسخ المراجعة بعد الثلاث.

وممن جزم بنسخ جعل الثلاث واحدة الإمام أبو داود رحمه الله، ورأى أن جعلها واحدة إنما هو في الزمن الذي كان يرتجع فيه بعد ثلاث تطليقات وأكثر، قال في "سننه":"باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث"، ثم ساق بسنده حديث ابن عباس قال:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228]، وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثًا، فنُسخ ذلك، وقال:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} الآية [البقرة: 229].

وأخرج نحوه النسائيّ، وفي إسناده علي بن الحسين بن واقد، قال فيه ابن حجر في "التقريب": صدوقٌ يَهِمُ، وروى مالك في "الموطإ" عن هشام بن عروة، عن أبيه؛ أنه قال: كان الرجل إذا طلق امرأته، ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها، كان ذلك له، وإن طلقها ألف مرة، فعَمَد رجل إلى امرأته، فطلقها، حتى إذا أشرفت على انقضاء عدتها راجعها، ثم قال: لا آويك، ولا أطلقك، فأنزل الله:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]، فاستقبل الناس الطلاق جديدًا من يومئذ، من كان طلّق منهم، أو لم يطلق.

ويؤيد هذا أن عمر رضي الله عنه لم ينكر عليه أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إيقاع الثلاث دفعةً مع كثرتهم، وعلمهم، وورعهم، ويؤيده أن كثيرًا جدًّا من

ص: 72

الصحابة الأجلاء العلماء صح عنهم القول بذلك؛ كابن عباس، وعمر، وابن عمر، وخلق لا يحصى.

والناسخ الذي نسخ المراجعة بعد الثلاث: قال بعض العلماء: إنه قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} ، كما جاء مبيَّنًا في الروايات المتقدمة.

ولا مانع عقلًا، ولا عادةً من أن يَجهل مثلَ هذا الناسخ كثيرٌ من الناس إلى خلافة عمر رضي الله عنه، كما جهل كثير من الناس نكاح المتعة إلى خلافة عمر مع أنه صلى الله عليه وسلم صرَّح بنسخها، وتحريمها إلى يوم القيامة في غزوة الفتح، وفي حجة الوداع أيضًا، كما جاء في رواية عند مسلم.

ومع أن القرءان دلّ على تحريم غير الزوجة، والسُّرّيّة بقوله:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 5، 6]، ومعلوم أن المرأة المتمتَّع بها ليست بزوجة، ولا سُرِّيّة.

والذين قالوا بالنسخ قالوا في معنى قول عمر: "إن الناس استعجلوا في أمر، كانت لهم فيه أَنَاةٌ": إن المراد بالأناة أنهم كانوا يتأنّون في الطلاق، فلا يوقعون الثلاث في وقت واحد، ومعنى استعجالهم: أنهم صاروا يوقعونها بلفظ واحد على القول بأن ذلك هو معنى الحديث، وقد قدّمنا أنه لا يتعيّن كونه هو معناه، وإمضاؤه له عليهم إِذَنْ هو اللازم، ولا ينافيه قوله: فلو أمضيناه عليهم، يعني ألزمناهم بمقتضى ما قالوا.

ونظيره قول جابر عند مسلم في نكاح المتعة: "فنهانا عنها عمر"، فظاهر كلّ منهما أنه اجتهاد من عمر، والنسخ ثابت فيهما معًا، كما رأيت، وليست الأناة في المنسوخ، وإنما هي في عدم الاستعجال بإيقاع الثلاث دفعةً.

وعلى القول الأول: إن المراد بالثلاث التي كانت تُجعل واحدة: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، فالظاهر في إمضائه لها عليهم أنه من حيث تغيُّر قصدهم، من التأكيد إلى التأسيس، كما تقدم، ولا إشكال في ذلك.

أما كون عمر كان يَعْلَم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجعل الثلاث بلفظ واحد واحدةً، فتعمّد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعلها ثلاثًا، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فلا يخفى بُعْده، والعلم عند الله تعالى.

(الجواب الرابع): عن حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رواية طاوس، عن ابن عباس مخالفةٌ لما رواه عنه الحفاظ من أصحابه، فقد روى عنه لزوم الثلاث

ص: 73

دفعةً: سعيدُ بن جبير، وعطاءُ بن أبي رباح، ومجاهدٌ، وعكرمةُ، وعمرو بن دينار، ومالك بن الحرث، ومحمد بن إياس بن البكير، ومعاوية بن أبي عياش الأنصاريّ، كما نقله البيهقيّ في "السنن الكبرى"، والقرطبيّ وغيرهما.

وقال البيهقيّ في "السنن الكبرى": إن البخاريّ لم يُخرج هذا الحديث؛ لمخالفة هؤلاء لرواية طاوس، عن ابن عباس.

وقال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس: "كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر رضي الله عنهما طلاق الثلاث واحدةً"، بأيّ شيء تدفعه؟ قال: برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافه، وكذلك نقل عنه ابن منصور، قاله ابن القيّم.

قال الشيخ رحمه الله: فهذا إمام المحدثين، وسيد المسلمين في عصره الذي تدارك الله به الإسلام بعد ما كاد تتزلزل قواعده، وتغيَّر عقائده، أبو عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله قال للأثرم، وابن منصور: إنه رَفَضَ حديث ابن عباس قصدًا؛ لأنه يرى عدم الاحتجاج به في لزوم الثلاث بلفظ واحد؛ لرواية الحفاظ عن ابن عباس ما يخالف ذلك.

وهذا الإمام محمد بن إسماعيل البخاريّ، وهو هو ذكر عنه الحافظ البيهقيّ أنه ترك هذا الحديث عمدًا لذلك الموجِب الذي تركه من أجله الإمام أحمد، ولا شك أنهما ما تركاه إلا لموجِبٍ يقتضي ذلك.

فإن قيل: رواية طاوس في حكم المرفوع، ورواية الجماعة المذكورين موقوفة على ابن عباس، والمرفوع لا يعارض بالموقوف.

فالجواب: أن الصحابيّ إذا خالف ما رَوَى، ففيه للعلماء قولان، وهما روايتان عن أحمد رحمه الله.

الأولى: أنه لا يُحتج بالحديث؛ لأن أعلم الناس به راويه، وقد ترك العمل به، وهو عدل عارفٌ، وعلى هذه الرواية فلا إشكال.

وعلى الرواية الأخرى التي هي المشهورة عند العلماء: أن العبرة بروايته، لا بقوله، فإنه لا تقدم روايته، إلا إذا كانت صريحة المعنى، أو ظاهرةً فيه ظهورًا يضعف معه احتمال مقابله، أما إذا كانت محتملة لغير ذلك المعنى احتمالًا قويًّا، فإن مخالفة الراوي لما رَوَى تدلّ على أن ذلك المحتمل الذي

ص: 74

تُرك ليس هو معنى ما رَوَى، وقد قدمنا أن لفظ طلاق الثلاث في حديث طاوس المذكور مُحْتَمِلٌ احتمالًا قويًّا لأن تكون الطلقات مفرّقةً، كما جزم به النسائيّ، وصححه النوويّ، والقرطبيّ، وابن سُريج.

فالحاصل أن ترك ابن عباس لجعل الثلاث بفم واحد واحدةً يدلّ على أن معنى الحديث الذي رَوَى ليس كونها بلفظ واحد، كما سترى بيانه في كلام القرطبيّ في "المفهم" في الجواب الذي بعد هذا.

واعلم أن ابن عباس رضي الله عنهما لم يثبت عنه أنه أفتى في الثلاث بفم واحد أنها واحدةٌ، وما رَوَى عنه أبو داود من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة أن ابن عباس قال: إذا قال: أنت طالق ثلاثًا بفم واحد، فهي واحدةٌ، فهو معارَضٌ بما رواه أبو داود نفسه من طريق إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن عكرمة؛ أن ذلك من قول عكرمة، لا من قول ابن عباس، وترجح رواية إسماعيل بن إبراهيم على رواية حماد بموافقة الحفاظ لإسماعيل في أن ابن عباس يجعلها ثلاثًا لا واحدةً.

(الجواب الخامس): هو ادّعاء ضعفه، وممن حاول تضعيفه ابن العربي المالكيّ، وابن عبد البرّ، والقرطبيّ.

قال ابن العربي المالكيّ: زَلَّ قوم في آخر الزمان، فقالوا: إن الطلاق الثلاث في كلمة لا يلزم، وجعلوه واحدةً، ونسبوه إلى السلف الأول، فحَكَوه عن عليّ، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود، وابن عباس، وعزوه إلى الحجاج بن أرطاة الضعيف المنزلة المغموز المرتبة، ورووا في ذلك حديثًا ليس له أصل، وغَوَى قوم من أهل المسائل، فتتبعوا الأهواء المبتدعة فيه، وقالوا: إن قوله: أنت طالق ثلاثًا كَذِبٌ؛ لأنه لم يطلق ثلاثًا، كما لو قال: طلقت ثلاثًا، ولم يطلق إلا واحدةً، وكما لو قال: أحلف ثلاثًا كانت يمينًا واحدةً.

ولقد طوَّفتُ في الآفاق، ولقيت من علماء الإسلام، وأرباب المذاهب كل صادق، فما سمعت لهذه المسألة بخبر، ولا أحسست لها بأثر، إلا الشيعة الذين يرون نكاح المتعة جائزًا، ولا يرون الطلاق واقعًا، ولذلك قال فيهم ابن سكرة الهاشميّ:

ص: 75

يَا مَنْ يَرَى الْمُتْعَةَ فِي دِينِهِ

حِلًّا وَإِنْ كَانَتْ بِلَا مَهْرِ

وَلَا يَرَى تِسْعِينَ تَطْلِيقَةً

تَبِينُ مِنْهُ رَبَّةُ الْخِدْرِ

مِنْ هَا هُنَا طَابَتْ مَوَالِيدُكُمْ

فَاغْتَنِمُوهَا يَا بَنِي الْفِطْرِ

وقد اتَّفَق علماء الإسلام، وأرباب الحلّ والعقد في الأحكام، على أن الطلاق الثلاث في كلمة، وإن كان حرامًا في قول بعضهم، وبدعةً في قول الآخرين لازم، وأين هؤلاء البؤساء من عالِم الدين، وعلَم الإسلام، محمد بن إسماعيل البخاريّ، وقد قال في "صحيحه":"باب جواز الطلاق الثلاث"؛ لقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229].

وذكر حديث اللعان، فطلّقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يغير عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يقرّ على الباطل، ولأنه جَمَع ما فسح له في تفريقه، فألزمته الشريعة حكمه، وما نسبوه إلى الصحابة كَذِبٌ بَحْتٌ، لا أصل له في كتاب، ولا رواية له عن أحد.

وقد أدخل مالك في "موطئه" عن عليّ: أن الحرام ثلاثٌ لازمة في كلمة، فهذا في معناها، فكيف إذا صَرَّح بها؟

وأما حديث الحجاج بن أرطاة فغير مقبول في الملة، ولا عند أحد من الأئمة.

فإن قيل: ففي "صحيح مسلم" عن ابن عباس، وذكر حديث أبي الصهباء المذكور.

قلنا: هذا لا متعلَّق فيه من خمسة أوجه:

الأول: أنه حديث مختلف في صحته، فكيف يُقَدَّم على إجماع الأمة، ولم يُعرف لها في هذه المسألة خلاف، إلا عن قوم انحطوا عن رتبة التابعين، وقد سبق العصران الكريمان، والاتفاق على لزوم الثلاث، فإن رووا ذلك عن أحد منهم، فلا تقبلوا منهم إلا ما يقبلون منكم، نَقْلَ العدل عن العدل، ولا تجد هذه المسألة منسوبة إلى أحد من السلف أبدًا.

الثاني: أن هذا الحديث لم يُرْوَ إلا عن ابن عباس، ولم يرو عنه إلا من طريق طاوس، فكيف يقبل ما لم يروه من الصحابة إلا واحد، وما لم يروه عن ذلك الصحابي إلا واحد؟ وكيف خفي على جميع الصحابة، وسكتوا عنه إلا

ص: 76

ابن عباس؟ وكيف خَفِي على أصحاب ابن عباس إلا طاوس. انتهى محل الغرض من كلام ابن العربيّ.

وقال ابن عبد البرّ: ورواية طاوس وَهَمٌ، وغَلَطٌ، لم يعرِّج عليها أحدٌ من فقهاء الأمصار بالحجاز، والشام، والعراق، والمشرق، والمغرب، وقد قيل: إن أبا الصهباء لا يُعرف في موالي ابن عباس.

قال الشيخ الشنقيطيّ رحمه الله: إن مثل هذا لا يُثبت به تضعيف هذا الحديث؛ لأن الأئمة كمعمر، وابن جريج، وغيرهما رووه عن ابن طاوس، وهو إمام، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما، ورواه عن طاوس أيضًا إبرهيم بن ميسرة، وهو ثقةٌ حافظٌ، وانفراد الصحابيّ لا يضرّ، ولو لم يرو عنه أصلًا إلا واحدٌ، كما أشار إليه العراقي في "ألفيته" بقوله:

فَفِي الصَّحِيحِ أَخْرَجَا الْمُسَيِّبَا

وَأَخْرَجَ الْجُعْفِيّ لابْنِ تَغْلِبَا

يعني أن الشيخين أخرجا حديث المسيِّب بن حَزْن، ولم يرو عنه أحد غير ابنه سعيد، وأخرج البخاريّ حديث عمرو بن تَغْلِب النمريّ، ويقال: العبديّ، ولم يرو عنه غير الحسن البصريّ، هذا مراده.

وقد ذكر ابن أبي حاتم أن عمرو بن تَغْلِب روى عنه أيضًا الحكم بن الأعرج، قاله ابن حجر، وابن عبد البرّ، وغيرهما.

والحاصل أن حديث طاوس ثابتٌ في "صحيح مسلم" بسند صحيح، وما كان كذلك، لا يمكن تضعيفه إلا بأمر واضح.

نعم لقائل أن يقول: إن خبر الآحاد إذا كانت الدواعي متوفرةً إلى نقله، ولم ينقله إلا واحد ونحوه، أن ذلك يدل على عدم صحته.

ووجهه أن توفّر الدواعي يلزم منه النقلُ تواترًا، والاشتهارُ، فإن لم يشتهر دلّ على أنه لم يقع؛ لأن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، وهذه قاعدة مقرّرة في الأصول، أشار إليها في "مراقي السعود" بقوله، عاطفًا على ما يُحْكَم فيه بعدم صحة الخبر:

. . . . . . . . . . .

وَخَبَرُ الآحَادِ فِي السَّنِيِّ

حَيْثُ دَوَاعِي نَقْلِهِ تَوَاتُرَا

نَرَى لَهَا لَوْ قَالَهُ تَقَرَّرَا

وجزم بها غير واحد من الأصوليين، وقال صاحب "جمع الجوامع"

ص: 77

عاطفًا على ما يُجزم فيه بعدم صحة الخبر: والمنقول آحادًا فيما تتوفّر الدواعي إلى نقله، خلافًا للرافضة. انتهى منه بلفظه.

ومراده أن مما يُجزم بعدم صحته الخبرُ المنقولُ آحادًا مع توفّر الدواعي إلى نقله.

وقال ابن الحاجب في "مختصره" الأصولي: [مسألة]: إذا انفرد واحد فيما يتوفر الدواعي إلى نقله، وقد شاركه خلق كثير، كما لو انفرد واحد بقتل خطيب على المنبر في مدينة، فهو كاذب قطعًا خلافًا للشيعة. انتهى محل الغرض منه بلفظه.

وفي المسألة مناقشات، وأجوبة عنها معروفة في الأصول.

قال الشيخ رحمه الله: ولا شك أنه على القول بأن معنى حديث طاوس المذكور أن الثلاث بلفظ واحد كانت تجعل واحدةً على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرًا من خلافة عمر، ثم إن عمر غَيَّر ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسلمون في زمن أبي بكر، وعامة الصحابة، أو جلّهم يعلمون ذلك، فالدواعي إلى نقل ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسلمون من بعده متوفِّرة توَفُّرًا لا يمكن إنكاره لأن يُرَدّ بذلك التغيير الذي أحدثه عمر، فسكوت جميع الصحابة عنه، وكون ذلك لم يُنقل منه حرف عن غير ابن عباس يدلّ دلالةً واضحةً على أحد أمرين:

أحدهما: أن حديث طاوس الذي رواه عن ابن عباس ليس معناه أنها بلفظ واحد، بل بثلاثة ألفاظ في وقت واحد، كما قدمنا، وكما جزم به النسائيّ، وصححه النوويّ، والقرطبيّ، وابن سُريج، وعليه فلا إشكال؛ لأن تغيير عمر للحكم مبنيّ على تغيير قصدهم، والنبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"، فمن قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ونوى التأكيد فواحدةٌ، وإن نوى الاستئناف بكل واحدة فثلاث، واختلاف محامل اللفظ الواحد لاختلاف نيات اللافظين به لا إشكال فيه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"وإنما لكل امرئ ما نوى".

والثاني: أن يكون الحديث غير محكوم بصحته؛ لنقله آحادًا مع توفّر الدواعي إلى نقله، والأول أولى، وأخفّ من الثاني.

ص: 78

وقال القرطبيّ في "المفهم" في الكلام على حديث طاوس المذكور: وظاهر سياقه يقتضي عن جميعهم أن معظمهم كانوا يرون ذلك، والعادة في مثل هذا أن يفشو الحكم، وينتشر، فكيف ينفرد به واحد عن واحد؟ قال: فهذا الوجه يقتضي التوقف عن العمل بظاهره، إن لم يقتض القطع ببطلانه. انتهى منه بواسطة نقل ابن حجر في "فتح الباري" عنه، وهو قويّ جدًّا بحسب المقرّر في الأصول كما ترى.

(الجواب السادس): عن حديث ابن عباس رضي الله عنهما هو حمل لفظ الثلاث في الحديث على أن المراد بها البتة، كما قدمنا في حديث رُكانة، وهو من رواية ابن عباس أيضًا، قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" بعد أن ذكر هذا الجواب، ما نصه: وهو قويّ، ويؤيده إدخال البخاريّ في هذا الباب الآثار التي فيها البتة، والأحاديث التي فيها التصريح بالثلاث، كأنه يشير إلى عدم الفرق بينهما، وأن البتة إذا أُطلقت حُمِل على الثلاث، إلا إن أراد المطلِّق واحدةً، فيُقبل، فكأن بعض رواته حَمَل لفظ البتة على الثلاث؛ لاشتهار التسوية بينهما، فرواها بلفظ الثلاث، وإنما المراد لفظة البتة، وكانوا في العصر الأول يَقبلون ممن قال: أردت بالبتة واحدةً، فلما كان عهد عمر أمضى الثلاث في ظاهر الحكم. انتهى من "فتح الباري" بلفظه.

وله وجه من النظر، كما لا يخفى، وما يذكره كلٌّ ممن قال بلزوم الثلاث دفعةً، ومن قال بعدم لزومها من الأمور النظرية؛ ليصحح به كلٌّ مذهبه لم نُطِل به الكلام؛ لأن الظاهر سقوط ذلك كله، وأن هذه المسألة إن لم يمكن تحقيقها من جهة النقل، فإنه لا يمكن من جهة العقل، وقياس "أنت طالق ثلاثًا" على أيمان اللعان في أنه لو حلفها بلفظ واحد لم تُجْزِ، قياس مع وجود الفارق؛ لأن من اقتصر على واحدة من الشهادات الأربع المذكورة في آية اللعان أجمع العلماء على أن ذلك كما لو لم يأت بشيء منها أصلًا، بخلاف الطلقات الثلاث، فمن اقتصر على واحدة منها اعتُبِرت إجماعًا، وحصلت بها البينونة بانقضاء العدة إجماعًا.

(الجواب السابع): هو ما ذكره بعضهم من أن حديث طاوس المذكور ليس فيه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم عَلِم بذلك، فأقرّه، والدليل إنما هو فيما عَلِم به وأقرّه، لا فيما لم يَعْلَم فيه.

ص: 79

قال الشيخ رحمه الله: ولا يخفى ضعف هذا الجواب؛ لأن جماهير المحدثين والأصوليين على أن ما أسنده الصحابيّ إلى عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم له حكم المرفوع، وإن لم يصرح بأنه بلغه صلى الله عليه وسلم، وأقره.

(الجواب الثامن): أن حديث ابن عباس المذكور في غير المدخول بها خاصّةً؛ لأنه إن قال لها: أنت طالق بانت بمجرد اللفظ، فلو قال: ثلاثًا لم يصادف لفظ الثلاث محلًّا؛ لوقوع البينونة قبلها.

وحجة هذا القول أن بعض الروايات، كرواية أبي داود، جاء فيها التقييد بغير المدخول بها، والمقرر في الأصول هو حمل المطلق على المقيد، ولا سيما إذا اتَّحد الحكم والسبب، كما هنا. قال في "مراقي السعود":

وَحَمْلُ مُطْلَقٍ عَلَى ذَاكَ وَجَبْ

إِنْ فِيهِمَا اتَّحَدَ حُكْمٌ وَالسَّبَبْ

وما ذكره الأُبِّيّ رحمه الله من أن الإطلاق والتقييد إنما هو في حديثين، أما في حديث واحد من طريقين، فمن زيادة العدل، فمردود بأنه لا دليل عليه، وأنه مخالف لظاهر كلام عامة العلماء، ولا وجه للفرق بينهما.

وما ذكره الشوكانيّ رحمه الله في "نيل الأوطار" من أن رواية أبي داود التي فيها التقييد بعدم الدخول فرد من أفراد الروايات العامة، وذِكْرُ بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصصه، لا يظهر؛ لأن هذه المسألة من مسائل المطلق والمقيد، لا من مسائل ذكر بعض أفراد العام، فالروايات التي أخرجها مسلم مطلقة عن قيد عدم الدخول، والرواية التي أخرجها أبو داود مقيدة بعدم الدخول، كما ترى، والمقرر في الأصول حَمْل المطلق على المقيد، ولا سيما إن اتَّحد الحكم والسبب، كما هنا.

نعم لقائل أن يقول: إن كلام ابن عباس في رواية أبي داود المذكورة وارد على سؤال أبي الصهباء، وأبو الصهباء لم يسأل إلا عن غير المدخول بها، فجواب ابن عباس لا مفهوم مخالفة له؛ لأنه إنما خص غير المدخول بها لمطابقة الجواب للسؤال.

وقد تقرر في الأصول أن من موانع اعتبار دليل الخطاب، أعني مفهوم المخالفة كون الكلام واردًا جوابًا لسؤال؛ لأن تخصيص المنطوق بالذكر لمطابقة السؤال، فلا يتعين كونه لإخراج حكم المفهوم عن المنطوق، وأشار

ص: 80

إليه في "مراقي السعود" في ذكر موانع اعتبار مفهوم المخالفة بقوله:

أَوْ جُهِلَ الْحُكْمُ أَوِ النُّطْقُ انْجَلَبْ

لِلسُّؤْلِ أَوْ جَرَى عَلَى الَّذِي غَلَبْ

ومحل الشاهد منه قوله: "أو النطقُ انجلب للسؤل".

وقد قدمنا أن رواية أبي داود المذكورة، عن أيوب السختيانيّ، عن غير واحد، عن طاوس، وهو صريح في أن من روى عنهم أيوب مجهولون، ومن لم يُعرَف من هو؟ لا يصح الحكم بروايته، ولذا قال النوويّ في "شرح مسلم"، ما نصّه: وأما هذه الرواية التي لأبي داود فضعيفة، رواها أيوب عن قوم مجهولين، عن طاوس، عن ابن عباس، فلا يحتج بها، والله أعلم. انتهى منه بلفظه.

وقال المنذريّ في "مختصر سنن أبي داود" بعد أن ساق الحديث المذكور، ما نصه: الرواة عن طاوس مجاهيل. انتهى منه بلفظه.

وضُعفُ رواية أبي داود هذه ظاهر كما ترى؛ للجهل بمن روى عن طاوس فيها.

وقال ابن القيّم في "زاد المعاد" بعد أن ساق لفظ هذه الرواية، ما نصه: وهذا لفظ الحديث، وهو بأصح إسناد

(1)

. انتهى محل الغرض منه بلفظه.

فانظره مع ما تقدم. هذا ملخص كلام العلماء في هذه المسألة، مع ما فيها من النصوص الشرعية.

قال الشيخ الشنقيطيّ رحمه الله: الذي يظهر لنا صوابه في هذه المسألة هو ما ذهب إليه الإمام الشافعيّ رحمه الله، وهو أن الحق فيها دائر بين أمرين:

أحدهما: أن يكون المراد بحديث طاوس المذكور كون الثلاث المذكورة ليست بلفظ واحد.

الثاني: أنه إن كان معناه أنها بلفظ واحد، فإن ذلك منسوخ، ولم يشتهر العلم بنسخه بين الصحابة، إلا في زمان عمر، كما وقع نظيره في نكاح المتعة.

أما الشافعيّ فقد نقل عنه البيهقيّ في "السنن الكبرى"، ما نصه: فإن كان

(1)

قال الجامع: التقييد بما قبل الدخول لا يصحّ، فإنه أخرجه أبو داود، وقال في إسناده: عن أيوب، عن غير واحد، فشيوخ أيوب مجهولون، فتنبّه.

ص: 81

معنى قول ابن عباس: إن الثلاث كانت تُحسَب على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم واحدةً، يعني أنه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالذي يشبه - والله أعلم - أن يكون ابن عباس قد عَلِمَ أن كان شيء فنُسِخ.

فإن قيل: فما دل على ما وصفت؟ قيل: لا يشبه أن يكون ابن عباس يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، ثم يخالفه بشيء لم يعلمه كان من النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه خلاف.

قال الشيخ

(1)

: رواية عكرمة، عن ابن عباس قد مضت في النسخ، وفيه تأكيد لصحة هذا التأويل، قال الشافعيّ: فإن قيل: فلعل هذا شيء رُوي عن عمر، فقال فيه ابن عباس بقول عمر رضي الله عنهم، قيل: قد علمنا أن ابن عباس يخالف عمر رضي الله عنهم في نكاح المتعة، وفي بيع الدينار بالدينارين، وفي بيع أمهات الأولاد وغيره، فكيف يوافقه في شيء يُرْوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه خلاف ما قال؟ انتهى محل الغرض منه بلفظه.

ومعناه واضح في أن الحقّ دائر بين الأمرين المذكورين؛ لأن قوله: فإن كان معنى قول ابن عباس. . . الخ يدلّ على أن غير ذلك مُحْتَمِلٌ، وعلى أن المعنى أنها ثلاث بفم واحد، وقد أقر النبيّ صلى الله عليه وسلم على جعلها واحدةً، فالذي يشبه عنده أن يكون منسوخًا، ونحن نقول: إن الظاهر لنا دوران الحقّ بين الأمرين، كما قال الشافعيّ رحمه الله: إما أن يكون معنى حديث طاوس المذكور أن الثلاث ليست بلفظ واحد، بل بألفاظ متفرقة بنسق واحد، كأنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، وهذه الصورة تدخل لغةً في معنى طلاق الثلاث دخولًا لا يمكن نفيه، ولا سيما على الرواية التي أخرجها أبو داود والتي جَزم ابن القيم بأن إسنادها أصح إسناد، فإن لفظها: "أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدةً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرًا من إمارة عمر، قال ابن عباس: بلى، كان الرجل إذا طلّق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدةً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرًا من إمارة عمر، فلما رأى الناس قد

(1)

المراد بالشيخ هو البيهقيّ رحمه الله.

ص: 82

تتايعوا فيها، قال: أجيزوهنّ عليهم"، فإن هذه الرواية بلفظ طلقها ثلاثًا، وهو أظهر في كونها متفرقة بثلاثة ألفاظ، كما جزم به ابن القيم في ردّه الاستدلال بحديث عائشة رضي الله عنها الثابت في "الصحيح"، فقد قال في "زاد المعاد" ما نصّه: وأما استدلالكم بحديث عائشة أن رجلًا طلق ثلاثًا، فتزوجت، فسئل النبيّ صلى الله عليه وسلم هل تحل للأول؟ قال: "لا، حتى تذوق العسيلة"، فهذا مما لا ننازعكم فيه، نعم هو حجة على من اكتفى بمجرد عقد الثاني، ولكن أين في الحديث أنه طلق الثلاث بفم واحد؟ بل الحديث حجة لنا، فإنه لا يقال: فعل ذلك ثلاثًا، وقال ثلاثًا إلا من فعل، وقال مرة بعد مرة، وهذا هو المعقول في لغات الأمم عربهم وعجمهم، كما يقال: قذفه ثلاثًا، وشتمه ثلاثًا، وسلّم عليه ثلاثًا. انتهى منه بلفظه.

وقد عرفت أن لفظ رواية أبي داود موافق للفظ عائشة الثابت في "الصحيح" الذي جزم فيه ابن القيم بأنه لا يدل على أن الثلاث بفم واحد، بل دلالته على أنها بألفاظ متفرقة متعينة في جميع لغات الأمم.

وبؤيده أن البيهقيّ في "السنن الكبرى" قال ما نصه: وذهب أبو يحيى الساجيّ إلى أن معناه إذا قال للبكر: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، كانت واحدةً، فغلّظ عليهم عمر رضي الله عنه، فجعلها ثلاثًا.

قال الشيخ

(1)

: ورواية أيوب السختيانيّ تدل على صحة هذا التأويل. انتهى منه بلفظه.

ورواية أيوب المذكورة هي التي أخرجها أبو داود، وهي المطابق لفظها حديث عائشة الذي جزم فيه ابن القيم بأنه لا يدل إلا على أن الطلقات المذكورة ليست بفم واحد، بل واقعة مرة بعد مرة، وهي واضحة جدًّا فيما ذكرنا، ويؤيده أيضًا أن البيهقيّ نقل عن ابن عباس ما يدلّ على أنها إن كانت بألفاظ متتابعة فهي واحدة، وإن كانت بلفظ واحد فهي ثلاث، وهو صريح في محل النزاع مبيِّن أن الثلاث التي تكون واحدة هي المسرودة بألفاظ متعددة؛ لأنها تأكيد للصيغة الأولى.

(1)

هو البيهقيّ رحمه الله.

ص: 83

ففي "السنن الكبرى" للبيهقيّ، ما نصه: قال الشيخ: ويُشبه أن يكون أراد إذا طلقها ثلاثًا تترى.

روى جابر بن يزيد، عن الشعبيّ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في رجل طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها قال: عقدة كانت بيده أرسلها جميعًا، وإذا كانت تترى فليس بشيء، قال سفيان الثوريّ: تترى يعني أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، فإنها تَبِين بالأولى، والثنتان ليستا بشيء، وروي عن عكرمة، عن ابن عباس ما دلّ على ذلك. انتهى منه بلفظه.

فهذه أدلة واضحة على أن الثلاث في حديث طاوس ليست بلفظ واحد، بل مسرودة بألفاظ متفرقة، كما جزم به الإمام النسائيّ رحمه الله، وصححه النوويّ، والقرطبيّ، وابن سريج، وأبو يحيى الساجيّ، وذكره البيهقيّ، عن الشعبيّ، عن ابن عباس، وعن عكرمة، عن ابن عباس، وتؤيده رواية أيوب التي صححها ابن القيم، كما ذكره البيهقيّ، وأوضحناه آنفًا، مع أنه لا يوجد دليل يعيّن كون الثلاث المذكورة في حديث طاوس المذكور بلفظ واحد، لا من وضع اللغة، ولا من العرف، ولا من الشرع، ولا من العقل؛ لأن روايات حديث طاوس ليس في شيء منها التصريح بأن الثلاث المذكورة واقعة بلفظ واحد، ومجرد لفظ الثلاث، أو طلاق الثلاث، أو الطلاق الثلاث، لا يدل على أنها بلفظ واحد؛ لِصِدْقِ كل تلك العبارات على الثلاث الواقعة بألفاظ متفرقة، كما رأيت، ونحن لا نفرق في هذا بين البرّ والفاجر، ولا بين زمن وزمن، وإنما نفرق بين من نوى التأكيد، ومن نوى التأسيس، والفرق بينهما لا يمكن إنكاره.

ونقول: الذي يظهر أن ما فعله عمر إنما هو لمّا عَلِم من كثرة قَصْد التأسيس في زمنه، بعد أن كان في الزمن الذي قبله قَصْدُ التأكيد هو الأغلب، كما قدمنا، وتغيير معنى اللفظ لتغيُّر قصد اللافظين به لا إشكال فيه، فقوة هذا الوجه، واتجاهه، وجريانه على اللغة، مع عدم إشكال فيه كما ترى، وبالجملة بلفظ

(1)

رواية أيوب التي أخرجها أبو داود، وقال ابن القيم: إنها بأصح إسناد

(1)

هكذا النسخة، والظاهر أن صوابه:"فلفظُ رواية أيوب. . . إلخ"، فيكون "لفظُ" مبتدأ خبره قوله:"مطابق. . . إلخ"، فتأمله.

ص: 84

مطابق للفظ حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في "الصحيحين" الذي فيه التصريح من النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنها لا تحل للأول حتى يذوق عسيلتها الثاني كما ذاقها الأول.

وبه تَعرِف أن جعل الثلاث في حديث عائشة متفرقةً في أوقات متباينة، وجعلها في حديث طاوس بلفظ واحد تفريق لا وجه له، مع اتحاد لفظ المتن في رواية أبي داود، ومع أن القائلين برد الثلاث المجتمعة إلى واحدة لا يجدون فرقًا في المعنى بين رواية أيوب وغيرها من روايات حديث طاوس.

ونحن نقول للقائلين برد الثلاث إلى واحدة: إما أن يكون معنى الثلاث في حديث عائشة وحديث طاوس أنها مجتمعة، أو مفرقة، فإن كانت مجتمعة فحديث عائشة متفقٌ عليه، فهو أولى بالتقديم، وفيه التصريح بأن تلك الثلاث تحرّمها، ولا تحل إلا بعد زوج، وإن كانت متفرقة فلا حجة لكم أصلًا في حديث طاوس على محل النزاع؛ لأن النزاع في خصوص الثلاث بلفظ واحد، أما جعلكم الثلاث في حديث عائشة مفرقةً، وفي حديث طاوس مجتمعةً، فلا وجه له، ولا دليل عليه، ولا سيما أن بعض رواياته مطابق لفظه للفظ حديث عائشة، وأنتم لا ترون فرقًا بين معاني ألفاظ رواياته من جهة كون الثلاث مجتمعة، لا متفرقةً.

وأما على كون معنى حديث طاوس أن الثلاث التي كانت تُجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر هي المجموعة بلفظ واحد، فإنه على هذا يتعيّن النسخ، كما جزم به أبو داود رحمه الله، وجزم به ابن حجر في "فتح الباري"، وهو قول الشافعيّ كما قدمنا عنه، وقال به غير واحد من العلماء.

وقد رأيتَ النصوص الدالة على النسخ التي تفيد أن المراد بجعل الثلاث واحدة أنه في الزمن الذي كان لا فرق فيه بين واحدة وثلاث، ولو متفرقة؛ لجواز الرجعة، ولو بعد مائة تطليقة متفرقةً كانت، أو لا، وأن المراد بمن كان يفعله في زمن أبي بكر هو من لم يبلغه النسخ، وفي زمن عمر اشتهر النسخ بين الجميع، وادعاء أن مثل هذا لا يصح يرده بإيضاح وقوع مثله في نكاح المتعة، فإنا قد قدمنا أن مسلمًا روى عن جابر أنها كانت تُفْعَل على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وفي بعض من زمن عمر، قال: فنهانا عنها عمر، وهذه الصورة هي التي وقعت في جعل الثلاث واحدة، والنسخ ثابت في كل واحدة منهما،

ص: 85

فادعاء إمكان إحداهما واستحالة الأخرى في غاية السقوط كما ترى؛ لأن كل واحدة منهما رَوَى فيها مسلم في "صحيحه" عن صحابي جليل أن مسألة تتعلق بالفُروج كانت تفعل في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرًا من إمارة عمر، ثم غيَّر حكمها عمر، والنسخ ثابت في كل واحدة منهما، وأما غير هذين الأمرين فلا ينبغي أن يقال؛ لأن نسبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وخَلْق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أنهم تركوا ما جاء به النبيّ صلى الله عليه وسلم، وجاءوا بما يخالفه من تلقاء أنفسهم عمدًا غير لائق، ومعلوم أنه باطل بلا شك.

وقد حَكَى غير واحد من العلماء أن الصحابة أجمعوا في زمن عمر على نفوذ الطلاق الثلاث دفعةً واحدةً.

والظاهر أن مراد المدعي لهذا الإجماع هو الإجماع السكوتيّ مع أن بعض العلماء ذَكَرَ الخلاف في ذلك عن جماعة من الصحابة والتابعين، وقد قدّمنا كلام أبي بكر بن العربيّ القائل بأن نسبة ذلك إلى بعض الصحابة كذب بَحْتٌ، وأنه لم يثبت عن أحد منهم جعل الثلاث بلفظ واحد واحدةً، وما ذكره بعض أجلاء العلماء من أن عمر إنما أوقع عليهم الثلاث مجتمعة عقوبةً لهم مع أنه يعلم أن ذلك خلاف ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في زمن أبي بكر رضي الله عنه فالظاهر عدم نهوضه؛ لأن عمر لا يسوغ له أن يحرِّم فرجًا أحله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يصح منه أن يَعْلَم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيح ذلك الفرج بجواز الرجعة، ويتجرأ هو على منعه بالبينونة الكبرى، والله تعالى يقول:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الآية [الحشر: 7]، ويقول:{آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]، ويقول:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21].

والمرويّ عن عمر في عقوبة من فعل ما لا يجوز من الطلاق هو التعزير الشرعيّ المعروف كالضرب، أما تحريم المباح من الفروج فليس من أنواع التعزيرات؛ لأنه يفضي إلى حرمته على من أحله الله له، وإباحته لمن حرمه عليه؛ لأنه إن أُكره على إبانتها، وهي غير بائن في نفس الأمر، لا تحل لغيره؛ لأن زوجها لم يُبِنْها عن طيب نفس، وحكم الحاكم وفتواه لا يحل الحرام في نفس الأمر.

ص: 86

ويدل له حديث أم سلمة المتفق عليه، فإن فيه:"فمن قضيت له فلا يأخذ من حق أخيه شيئًا، فكأنما أقطع له قطعة من نار"، ويشير له قوله تعالى:{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37]؛ لأنه يُفهم منه أنه لو لم يتركها اختيارًا لقضائه وطره منها ما حلت لغيره.

وقد قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"، ما نصه: وفي الجملة فالذي وقع في هذه المسألة نظير ما وقع في مسألة المتعة سواءً، أعني قول جابر إنها كانت تُفعل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرًا من خلافة عمر، قال: ثم نهانا عمر عنها فانتهينا، فالراجح في الموضعين تحريم المتعة، وإيقاع الثلاث؛ للإجماع الذي انعقد في عهد عمر على ذلك.

ولا يُحفظ أن أحدًا في عهد عمر خالفه في واحدة منهما، وقد دل إجماعهم على وجود ناسخ، وإن كان خفي عن بعضهم قبل ذلك حتى ظهر لجميعهم في عهد عمر، فالمخالف بعد هذا الإجماع منابذ له، والجمهور على عدم اعتبار من أحدث الاختلاف بعد الاتفاق، والله أعلم. انتهى منه بلفظه.

وحاصل خلاصة هذه المسألة أن البحث فيها من ثلاث جهات:

الأولى: من جهة دلالة النصّ القوليّ، أو الفعليّ الصريح.

الثانية: من جهة صناعة علم الحديث والأصول.

الثالثة: من جهة أقوال أهل العلم فيها، أما أقوال أهل العلم فيها فلا يخفى أن الأئمة الأربعة وأتباعهم، وجلّ الصحابة، وأكثر العلماء على نفوذ الثلاث دفعة بلفظ واحد، وادَّعى غير واحد على ذلك إجماع الصحابة وغيرهم.

وأما من جهة نصّ صريح من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم أو فعله فلم يثبت من لفظ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا من فعله ما يدل على جعل الثلاث واحدةً، وقد مر لك أن أثبت ما رُوي في قصة طلاق رُكانة أنه بلفظ البتة، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم حلّفه ما أراد إلا واحدةً، ولو كان لا يلزم أكثر من واحدة بلفظ واحد لما كان لتحليفه معنى، وقد جاء في حديث ابن عمر عند الدارقطنيّ أنه قال: يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثًا أكان يحل لي أن أراجعها؟ قال: "لا، كانت تَبِين منك، وتكون معصية".

وقد قدّمنا أن في إسناده عطاء الخراسانيّ، وشعيب بن زريق الشاميّ،

ص: 87

وقد قدّمنا أن عطاء المذكور من رجال مسلم، وأن شعيبًا المذكور قال فيه ابن حجر في "التقريب": صدوق يخطئ، وأن حديث ابن عمر هذا يعتضد بما ثبت عن ابن عمر في "الصحيح" من أنه قال: وإن كنت طلقتها ثلاثًا، فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجًا غيرك، وعصيت ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك.

ولا سيما على قول الحاكم: إنه مرفوع، ويعتضد بالحديث المذكور قبله؛ لتحليفه رُكانة، وبحديث الحسن بن علي المتقدم عند البيهقيّ والطبرانيّ، وبحديث سهل بن سعد الساعديّ الثابت في "الصحيح" في لعان عويمر وزوجه، ولا سيما رواية:"فأنفذها رسول الله صلى الله عليه وسلم" يعني الثلاث المجتمعة، وببقية الأحاديث المتقدمة.

وقد قدمنا أن كثرة طرقها، واختلاف مَنازعها، يدل على أن لها أصلًا، وأن بعضها يشدّ بعضًا، فيصلح المجموع للاحتجاج، ولا سيما أن بعضها صححه بعض العلماء، وحسّنه بعضهم، كحديث رُكانة المتقدم، وقد عرفت أن حديث داود بن الحصين لا دليل فيه على تقدير ثبوته، فإذا حققت أن المرويّ باللفظ الصريح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ليس يدل إلا على وقوع الثلاث مجتمعة، فاعلم أن كتاب الله ليس فيه شيء يدل على عدم وقوع الثلاث دفعة واحدةً؛ لأنه ليس فيه آية ذكر الثلاث المجتمعة، وبالأحرى آية تصرح بعدم لزومها.

وقد قدّمنا عن النوويّ وغيره أن العلماء استدلوا على وقوع الثلاث دفعة بقوله تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] قالوا: معناه: أن المطلِّق قد يحدث له ندم، فلا يمكنه تداركه؛ لوقوع البينونة، فلو كانت الثلاث لا تقع لم يقع طلاقه إلا رجعيًّا فلا يندم.

وقد قدمنا ما ثبت عن ابن عباس من أنها تلزم مجتمعةً، وأن ذلك داخل في معنى الآية، وهو واضح جدًّا، فاتضح أنه ليس في كتاب الله، ولا في صريح قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو فعله ما يدل على عدم وقوع الثلاث.

أما من جهة صناعة علم الحديث والأصول، فما أخرجه مسلم من حديث ابن عباس المتقدم له حكم الرفع؛ لأن قول الصحابيّ: كان يفعل كذا على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم له حكم الرفع عند جمهور المحدثين والأصوليين.

ص: 88

وقد علمت أوجه الجواب عنه بإيضاح، ورأيت الروايات المصرحة بنسخ المراجعة بعد الثلاث، وقد قدمنا أن جميع روايات حديث طاوس عن ابن عباس المذكور عند مسلم ليس في شيء منها التصريح بأن الطلقات الثلاث بلفظ واحد، وقد قدمنا أيضًا أن بعض رواياته موافقة للفظ حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في "الصحيح"، وأنه لا وجه للفرق بينهما، فإن حُمل على أن الثلاث مجموعة، فحديث عائشة أصح، وفيه التصريح بأن تلك المطلقة لا تحل إلا بعد زوج، وإن حُمل على أنها بألفاظ متفرقة، فلا دليل إذن في حديث طاوس، عن ابن عباس على محل النزاع.

[فإن قيل]: أنتم تارة تقولون: إن حديث ابن عباس منسوخ، وتارة تقولون: ليس معناه أنها بلفظ واحد، بل بألفاظ متفرقة.

[فالجواب]: أن معنى كلامنا أن الطلقات في حديث طاوس لا يتعين كونها بلفظ واحد، ولو فرضنا أنها بلفظ واحد، فجعلها واحدة منسوخ، هذا هو ما ظهر لنا في هذه المسألة، والله تعالى أعلم، ونسبة العلم إليه أسلم. انتهى كلام العلامة الشنقيطيّ رحمه الله في "أضوائه"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لقد أحسن الشيخ الشنقيطيّ رحمه الله في تحقيق هذه المسألة، واستوعب البحث فيها من جميع الجوانب، فأجاد وأفاد.

وخلاصته ترجيح مذهب الجمهور في أن من قال لامرأته أنت طالق ثلاثًا تبين منه امرأته، ولا تحلّ له إلا بعد زوج آخر، وقد كنت رجّحت فيما كتبته في "شرح النسائيّ" قول من قال: إنها تقع واحدة، ثم ترجّح لديّ الآن أن مذهب الجمهور هو الصحيح؛ لقوّة حججهم، كما عرفته مما سبق، فللَّه سبحانه وتعالى الحمد والمنّة، وله الفضل والنعمة، وهو أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3674]

(. . .) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْن إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْن عُبَادَةَ، أَخْبَرَنَا ابْن جُرَيْجٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْن رَافِعٍ، وَاللَّفْظُ لهُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا

(1)

راجع: "أضواء البيان" 1/ 175 - 206.

ص: 89

ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ؛ أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ، قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَتَعْلَمُ أنَّمَا كَانَت الثَّلَاثُ تُجْعَلُ وَاحِدَةً، عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبِي بَكْرٍ، وَثَلَاثًا مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَعَمْ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ) بن العلاء بن حسّان الْقَيسيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، له تصانيف [9](ت 5 أو 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 476.

والباقون ذُكروا في الإسنادين الماضيين.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3675]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زيدٍ، عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ طَاوُسٍ؛ أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: هَاتِ مِنْ هَنَاتِكَ، أَلمْ يَكُنْ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبِي بَكْرٍ، وَاحِدَةً؟ فَقَالَ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ فِي عَهْدِ عُمَرَ، تتَايَعَ النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ، فَأَجَازَهُ عَلَيْهِمْ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ) الأزديّ الواشحيّ البصريّ، قاضي مكة، ثقةٌ إمام حافظٌ [9](ت 224) وله (80) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 68.

2 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ) الطائفيّ، نزيل مكة، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ [5](ت 132)(ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 2/ 1582.

والباقون ذُكروا في هذا الباب، والباب الماضي.

وقوله: (هَاتِ مِنْ هَنَاتِكَ) بكسر التاء من "هاتِ"، والمراد بـ "هَنَاتك": أخبارك، وأمورك المستغربة، قاله النوويّ

(1)

.

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 72.

ص: 90

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "من هناتك" هي جمع هَنَة، وأصلها أنها كناية عن نكرة، غير أن مقصوده هنا: هات فُتيا من فتاويك المستغربة، أو خبرًا من أخبارك المستكرهة، وهو إشعار باستشناع تلك المقالة عندهم. انتهى

(1)

.

وقوله: (تَتَايَعَ النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ) قال النوويّ رحمه الله: هو بياء مثناة من تحتُ بين الألف والعين، هذه رواية الجمهور، وضبطه بعضهم بالموحدة، وهما بمعنى، ومعناه: أكثروا منه، وأسرعوا إليه، لكن بالمثناة إنما يُستعمل في الشرّ، وبالموحدة يُستعمل في الخير والشرّ، فالمثناة هنا أجود. انتهى

(2)

.

وقوله: (فَأَجَازَهُ عَلَيْهِمْ) هو بمعنى قوله في الرواية الماضية: "فأمضاه عليهم"؛ أي: ألزمهم به، وقضى عليهم بوقوعه.

والحديث تقدّم البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(3) - (بَابُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ حَرَّمَ امْرَأَتَهُ عَلَيْهِ)

(3)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3676]

(1473) - (وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هِشَامٍ، يَعْنِي الدَّسْتَوَائِيَّ، قَالَ: كَتَبَ إَلَيَّ يَحْيَى بْنُ أَبِي كثِيرٍ، يُحَدِّثُ عَنْ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الْحَرَامِ: يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(هِشَامٌ الدَّسْتَوَائِيُّ) ابن أبي عبد الله سَنْبَر، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ

(1)

"المفهم" 4/ 245.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 72.

(3)

زاد في ترجمة النووي: "ولم ينو طلاقها"، والأولى حذفه من الترجمة؛ ليكون موافقًا لقول ابن عبّاس رضي الله عنهما، فتنبّه.

ص: 91

ثبتٌ، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154) وله (78) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

2 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي كثِيرٍ) الطائيّ مولاهم، أبو نصر البصريّ، ثم اليماميّ، ثقةٌ ثبتٌ، يدلّس ويرسل [5](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.

3 -

(يَعْلَى بْنُ حَكِيمٍ) الثقفيّ مولاه المكيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ [6](خ م د س ق) تقدم في "النكاح" 5/ 3449.

4 -

(سَعِيدُ بْن جُبَيْرِ) بن هشام الأسديّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 95)(ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 329.

والباقون ذُكروا في الباب الماضي، و"إسماعيل بن إبراهيم" هو: ابن عليّة.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، ويعلى، فما أخرج لهما الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخه، فنسائيّ، ثم بغداديّ، وابن جبير، فكوفيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه العمل بالكتابة، وهذا هو المذهب الصحيح؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يكتب إلى الملوك، والآفاق، فكانوا يعملون به، وهو مشهور في "الصحيحين"، وغيرهما.

قال النوويّ رحمه الله في "التقريب": الكتابة: هي أن يكتب مسموعه لغائب، أو حاضر، بخطه، أو بأمره، وهي ضربان: مجردة عن الإجازة، ومقرونة بأجزتك ما كتب لك أو إليك، ونحوه من عبارة الإجازة، وهي في الصحة والقوّة كالمناولة المقرونة، وأما المجردة فمَنَعَ الرواية بها قوم، منهم القاضي الماورديّ الشافعيّ، وأجازها كثيرون من المتقدمين والمتأخرين، منهم أيوب السختيانيّ، ومنصور، والليث، وغير واحد من الشافعيين، وأصحاب الأصول، وهو الصحيح المشهور بين أهل الحديث، ويوجد في مصنفاتهم: كتب إليّ

ص: 92

فلان قال: حدثنا فلان، والمراد به هذا وهو المعمول به عندهم معدود في الموصول لإشعاره بمعنى الإجازة، وزاد السمعانيّ، فقال: هي أقوى من الإجازة.

ثم يكفي معرفته خط الكاتب، ومنهم من شرط البينة وهو ضعيف؛ ثم الصحيح أنه يقول في الرواية بها: كتب إليّ فلان قال: حدثنا فلان أو أخبرني فلان مكاتبة أو كتابة ونحوه، ولا يجوز إطلاق حدثنا وأخبرنا، وجوّزه الليث، ومنصور، وغير واحد من علماء المحدثين وكبارهم. انتهى

(1)

.

وإلى هذا أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث":

خَامِسُهَا كِتَابَةُ الشَّيْخِ لِمَنْ

يَغِيبُ أَوْ يَحْضُرُ أَوْ يَأْذَنُ أَنْ

يُكْتَبَ عَنْهُ فَمَتَى أَجَازَا

فَهْيَ كَمْنَ نَاوَلَ حَيْثُ امْتَازَا

أَوْ لَا فَقِيلَ لَا تَصِحُّ وَالأَصَحْ

صِحَّتُهَا بَلْ وَإِجَازَةً رَجَحْ

وَيَكْتَفِي الْمَكْتُوبُ أَنْ يَعْرِفَ خَطْ

كَاتِبِهِ وَشَاهِدًا بَعْضٌ شَرَطْ

ثُمَّ لْيَقُلْ "حَدَّثَنِي أَخْبَرَنِي

كِتَابَةً" وَالْمُطْلِقِينَ وَهِّنِ

5 -

(ومنها): أن فيه ابن عبّاس رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والمشهورين بالفتوى.

شرح الحديث:

(عَن ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الْحَرَامِ) فيما إذا حرّم الرجل امرأته، ففي الرواية التالية:"إذا حرّم الرجل عليه امرأته، فهي يمين يُكفّرها"، وقوله:(يَمِينٌ) خبر لمحذوف؛ أي: هو يمين، والجملة مقول القول، وقوله:(يُكَفِّرُهَا) جملة في محلّ رفع صفة لـ "يمينٌ"، وإنما أنّث الضمير؛ لأن اليمين مؤنّة، قال الفيّوميّ رحمه الله: ويمينُ الْحَلِفِ أُنثى، وتُجمع على أَيْمُنٍ، وأيمانٍ، قاله ابن الأنباريّ، قيل: سُمّي الْحَلِف يمينًا؛ لأنهم كانوا إذا تحالفوا ضَرَب كلُّ واحد منهم يمينه على يمين صاحبه، فسُمّي الحلف يمينًا مجازًا. انتهى

(2)

.

(1)

"التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير" 1/ 11.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 682.

ص: 93

وفي رواية البخاريّ: "إذا حرّم الرجل امرأته، ليس بشيء"، وقوله:"ليس بشيء" يَحْتَمِلُ أن يريد بالنفي التطليقَ، ويَحْتَمِل أن يريد به ما هو أعمّ من ذلك، والأول أقرب، ويؤيده قوله بدلها في هذه الرواية:"فهي يمين يكفّرها"، ولفظ الإسماعيليّ:"إذا حرّم الرجل امرأته، فإنما هي يمين يكفِّرها"، فعُرف أن المراد بقوله:"ليس بشيء" أي: ليس بطلاق، وأخرج النسائيّ، وابن مردويه، من طريق سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس؛ أن رجلًا جاءه، فقال: إني جعلت امرأتي عليّ حرامًا، قال: كذبت، ما هي عليك بحرام، ثم تلا:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]، ثم قال له: عليك رقبة. انتهى. وكأنه أشار عليه بالرقبة؛ لأنه عَرَف أنه موسر، فأراد أن يكفر بالأغلظ من كفارة اليمين، لا أنه تعيّن عليه عتق الرقبة، ويدل عليه ما وقع من التصريح بكفارة اليمين، أفاده في "الفتح"

(1)

.

(وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما مستدلّا على ما ذهب إليه بقوله تعالى: ({لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]) يشير بذلك إلى قصّة التحريم الآتي في حديث عائشة رضي الله عنها بعد حديث.

وقد اختُلف هل المراد تحريم العسل الآتي في حديث عائشة رضي الله عنها، أو تحريم مارية؟ فقد أخرج النسائيّ بسند صحيح، عن أنس رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به حفصة وعائشة، حتى حرّمها، فأنزل الله تعالى هذه الآية:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الآية، قال في "الفتح": وهذا أصحّ طرق هذا السبب، وله شاهد مرسل، أخرجه الطبريّ بسند صحيح، عن زيد بن أسلم التابعيّ الشهير، قال: أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أم إبراهيم ولدِهِ في بيت بعض نسائه، فقالت: يا رسول الله في بيتي، وعلى فراشي، فجعلها عليه حرامًا، فقالت: يا رسول الله كيف تُحَرِّم عليك الحلال؟ فحلف لها بالله لا يصيبها، فنزلت:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]، قال زيد بن أسلم: فقول الرجل لامرأته: أنت عليّ حرام لغوٌ، وإنما تلزمه كفارة يمين إن حلف. انتهى.

(1)

راجع: "الفتح" 12/ 53 - 54 "كتاب الطلاق" رقم (5266).

ص: 94

وقال في "الفتح" أيضًا في "كتاب التفسير": والغرض من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قوله فيه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، فإن فيه إشارةً إلى سبب نزول أول هذه السورة، وإلى قوله فيها:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]، وقد وقع في بعض حديث ابن عباس، عن عمر في القصة المطوّلة الآتية في الباب التالي:"فعاتبه الله في ذلك، وجعل له كفارة اليمين"، واختُلِف في المراد بتحريمه، ففي حديث عائشة رضي الله عنها أن ذلك بسبب شربه صلى الله عليه وسلم العسلَ عند زينب بنت جحش، فإن في آخره:"ولن أعود له، وقد حلفتُ".

ووقع عند سعيد بن منصور بإسناد صحيح إلى مسروق قال: حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم لحفصة لا يقرب أَمَته، وقال:"هي عليّ حرام"، فنزلت الكفارة ليمينه، وأُمر أن لا يُحَرِّم ما أحل الله.

وأخرج الضياء في "المختارة" من مسند الهيثم بن كُليب، ثم من طريق جرير بن حازم، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحفصة: "لا تخبري أحدًا أن أم إبراهيم عليّ حرام"، قال: فلم يَقْرَبها حتى أخبرت عائشةَ، فأنزل الله:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} .

وأخرج الطبرانيّ في "عشرة النساء"، وابن مردويه من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمارية بيت حفصة، فجاءت، فوجدتها معه، فقالت: يا رسول الله في بيتي تفعل هذا معي، دون نسائك؟ فذكر نحوه.

وللطبراني من طريق الضحاك، عن ابن عباس قال: دخلت حفصة بيتها، فوجدته يطأ مارية، فعاتبته، فذكر نحوه، وهذه طرق يقوي بعضها بعضًا، فيَحْتَمِل أن تكون الآية نزلت في السببين معًا.

وقد روى النسائيّ من طريق حماد، عن ثابت، عن أنس هذه القصة مختصرةً أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به حفصة وعائشة، حتى حرّمها، فأنزل الله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الآية. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

راجع: "الفتح" 11/ 6 - 7 "كتاب التفسير" رقم (4911).

ص: 95

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 3676 و 3677](1473)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4911) و"الطلاق"(5266)، و (ابن ماجه) في "الطلاق"(2073)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 343)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 225)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 158)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 154)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(9/ 327)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(4/ 40)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 350) و"الصغرى"(6/ 345) و"المعرفة"(5/ 486 و 487)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم فيمن قال لامرأته: أنت عليّ حرام:

قال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": اختَلَف العلماء في الرجل يقول لزوجته: "أنت عليّ حرام" على ثمانية عشر قولًا:

(أحدها): لا شيء عليه، وبه قال الشعبيّ، ومسروق، وربيعة، وأبو سلمة، وأصبغ، وهو عندهم كتحريم الماء والطعام، قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} الآية [المائدة: 87]، والزوجة من الطيّبات، ومما أحلّ اللهُ، وقال تعالىْ {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل: 116]، وما لم يُحرّمه الله فليس لأحد أن يُحرّمه، ولا يصير بتحريمه حرامًا، ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لِمَا أحلّ الله: هو عليّ حرام، وإنما امتنع من مارية ليمين تقدّمت منه، وهو قوله:"والله لا أقربها بعد اليوم"، فقيل له:{لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ؛ أي: لم تمتنع منه بسبب اليمين؟ يعني أقدِمْ عليه، وكفّر.

(وثانيها): أنها يمين يُكفّرها، قاله أبو بكر الصّدّيق، وعمر بن الخطّاب، وعبد الله بن مسعود، وابن عبّاس، وعائشة رضي الله عنهم، والأوزاعيّ، وهو مقتضى الآية، قال سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس: إذا حرّم الرجل عليه امرأته، فإنما هي يمين يُكفّرها، وقال ابن عبّاس:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}

ص: 96

[الأحزاب: 21]، يعني أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان حرّم جاريته، فقال الله تعالى:{لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} الآية [التحريم: 1، 2]، فكفّر عن يمينه، وصيّر الحرام يمينًا، أخرجه الدارقطنيّ.

(وثالثها): أنها تجب فيها كفّارة، وليست بيمين، قاله ابن مسعود، وابن عبّاس أيضًا في إحدى روايتيه، والشافعيّ في أحد قوليه، وفي هذا القول نظر، والآية تردّه على ما يأتي.

(ورابعها): هي ظهار، ففيها كفّارة الظهار، قاله عثمان، وأحمد بن حنبل، وإسحاق.

(وخامسها): أنه إن نوى الظهار، وهو ينوي أنها محرّمة كتحريم ظهر أمه، كان ظهارًا، وإن نوى تحريم عينها عليه بغير طلاق، تحريمًا مطلقًا، وجبت كفّارة يمين، وإن لم ينو شيئًا، فعليه كفّارة يمين، قاله الشافعيّ.

(وسادسها): أنها طلقةٌ رجعيّةٌ، قاله عمر بن الخطّاب، والزهريّ، وعبد العزيز بن أبي سلمة، وابن الماجشون.

(وسابعها): أنها طلقة بائنةٌ، قاله حمّاد بن أبي سليمان، وزيد بن ثابت، ورواه خُوَيز مَنْدَاد عن مالك.

(وثامنها): أنها ثلاث تطليقات، قاله عليّ بن أبي طالب، وزيد بن ثابت أيضًا، وأبو هريرة رضي الله عنهم.

(وتاسعها): هي في المدخول بها ثلاث، ويُنَوَّى في غير المدخول بها، قاله الحسن، وعليّ بن زيد، والحكم، وهو مشهور مذهب مالك.

(وعاشرها): هي ثلاث، ولا يُنوَّى بحال، ولا في محلّ، وإن لم يدخل بها، قاله عبد الملك في المبسوط، وبه قال ابن أبي ليلى.

(وحادي عشرها): هي في التي لم يدخل بها واحدةٌ، وفي التي دخل بها ثلاثٌ، قاله أبو مصعب، ومحمد بن عبد الحكم.

(وثاني عشرها): أنه إن نوى الطلاق، أو الظهار كان ما نوى، فإن نوى الطلاق، فواحدةٌ بائنةٌ، إلا أن ينوي ثلاثًا، فإن نوى ثنتين فواحدة، فإن لم ينو شيئًا كانت يمينًا، وكان الرجل مُولِيًا من امرأته، قاله أبو حنيفة وأصحابه، وبمثله قال زُفر، إلا أنه قال: إذا نوى اثنتين ألزمناه.

ص: 97

(وثالث عشرها): أنه لا تنفعه نيّة الظهار، وإنما يكون طلاقًا، قاله ابن قاسم.

(ورابع عشرها): قال يحيى بن عمر: يكون طلاقًا، فإن ارتجعها لم يجز له وطؤها حتى يكفّر كفّارة الظهار.

(وخامس عشرها): إن نوى الطلاق فما أراد من أعداده، وإن نوى واحدةً، فهي رجعيّةٌ. وهو قول الشافعيّ رحمه الله، وروي مثله عن أبي بكر، وعمر، وغيرهم من الصحابة، والتابعين.

(وسادس عشرها): إن نوى ثلاثًا فثلاثًا، وإن نوى واحدةً فواحدةً، وإن نوى يمينًا فهي يمين، وإن لم ينو شيئًا فلا شيء عليه، وهو قول سفيان، وبمثله قال الأوزاعيّ، وأبو ثور، إلا أنهما قالا: إن لم ينو شيئًا فهي واحدةٌ.

(وسابع عشرها): له نيّته، ولا يكون أقلّ من واحدة، قاله ابن شهاب، وإن لم ينو شيئًا لم يكن شيء، قاله ابن العربيّ، ورأيت لسعيد بن جبير، وهو:

(ثامن عشرها): أن عليه عتق رقبة، وإن لم يجعلها ظهارًا، ولست أعلم لها وجهًا، ولا يبعد في المقالات عندي.

قال القرطبيّ: قال علماؤنا: سبب الاختلاف في هذا الباب أنه ليس في كتاب اللهُ ولا في سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم نصّ، ولا ظاهرٌ يُعتمد عليه في هذه المسألة، فتجاذبها العلماء لذلك.

فمن تمسّك بالبراءة الأصليّة، قال: لا حكم، فلا يلزم بها شيء، وأما من قال: إنها يمين، فقال: سمّاها الله يمينًا، وأما من قال: تجب فيها كفّارة، وليست بيمين، فبناه على أحد أمرين: أحدهما: أنه ظنّ أن الله تعالى أوجب الكفّارة فيها، وإن لم تكن يمينًا، والثاني: أن معنى اليمين عنده التحريم، فوقعت الكفّارة على المعنى، وأما من قال: إنها طلقة رجعيّةٌ، فإنه حمل اللفظ على أقلّ وجوهه، والرجعيّة محرّمة الوطء كذلك، فيُحمل اللفظ عليه. وهذا يلزم مالكًا؛ لقوله: إن الرجعيّة محرّمة الوطء، وكذلك وجه من قال: إنها ثلاث، فحمله على أكبر معناه، وهو الطلاق الثلاث، وأما من قال: إنه ظهار؛ فلأنه أقلّ درجات التحريم، فإنه تحريم، لا يرفع النكاح، وأما من قال: إنه طلقةٌ بائنةٌ، فعوّل على أن الطلاق الرجعيّ لا يُحرّم المطلّقةَ، وأن الطلاق البائن

ص: 98

يحرّمها، وأما قول يحيى بن عمر، فإنه احتاط بأن جعله طلاقًا، فلما ارتجعها احتاط بأن ألزمه الكفّارةَ.

قال ابن العربيّ: وهذا لا يصحّ؛ لأنه جمع بين المتضادّين، فإنه لا يجتمع ظهار وطلاقٌ في معنى لفظ واحد، فلا وجه للاحتياط فيما لا يصحّ اجتماعه في الدليل.

وأما من قال: إنه يُنَوَّى في التي لم يدخل بها؛ فلأن الواحدة تُبينها، وتحرّمها شرعًا إجماعًا، وكذلك قال من لم يَحْكُمْ باعتبار نيّته: إن الواحدة تكفي قبل الدخول في التحريم بالإجماع، فيكفي أخذًا بالأقلّ المتَّفَق عليه، وأما من قال: إنه ثلاث فيهما، فلأنه أخذ بالحكم الأعظم، فإنه لو صرّح بالثلاث لنفذت في التي لم يدخل بها نفوذها في التي دخل بها، ومن الواجب أن يكون المعنى مثله، وهو التحريم.

وهذا كلّه في الزوجة، وأما في الأمة فلا يلزم فيها شيء من ذلك، إلا أن ينوي به العتق عند مالك، وذهب عامّة العلماء إلى أن عليه كفّارة يمين، قال ابن العربيّ: والصحيح أنها طلقة واحدة؛ لأنه لو ذكر الطلاق لكان أقلّه، وهو الواحدة إلا أن يعدّده، كذلك إذا ذكر التحريم يكون أقلّه إلا أن يقيّده بالأكثر، مثل أن يقول: أنت عليّ حرام إلا بعد زوج، فهذا نصّ على المراد. انتهى كلام القرطبيّ

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أقرب الأقوال القول الثاني، وهو أنه يمين يكفّرها؛ لأنه مقتضى الآية، كما أشار إليه ترجمان القرآن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما، كما بيّنه حديث الباب، وفي رواية النسائيّ من طريق سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أتاه رجلٌ، فقال: إني جعلت امرأتي عليّ حرامًا، قال: كذبت، ليست عليك بحرام، ثم تلا هذه الآية:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]: عليك أغلظ الكفارة، عتق رقبة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 180 - 184 "تفسير سورة التحريم".

ص: 99

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3677]

(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بِشْرٍ الْحَرِيرِيُّ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، يَعْنِي ابْنَ سَلَّامٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ؛ أَنَّ يَعْلَى بْنَ حَكِيمٍ أَخْبَرَهُ؛ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ أَخْبَرَهُ؛ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا حَرَّمَ الرَّجُلَ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ، فَهِيَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا، وَقَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ بِشْرٍ الْحَرِيرِيُّ) - بفتح الحاء المهملة - الكوفيّ، ثقةٌ، من كبار [10](ت 227) تفرّد به المصنّف، تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 19/ 1725.

2 -

(مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ) - بتشديد اللام - ابن أبي سلّام، أبو سلّام الدمشقيّ، وكان يسكن حِمْصَ، ثقةٌ [7] مات في حدود (170)(ع) تقدم في "الإيمان" 49/ 309.

والباقون ذُكروا قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3678]

(1474) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ؛ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يُخْبِرُ؛ أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ تُخْبِرُ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، فَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلًا، قَالَتْ: فَتَوَاطَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ، أَنَّ أَيَّتَنَا مَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلْتَقُلْ: إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: "بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَلَنْ أَعُودَ لَهُ"، فَنَزَلَ: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى قوله: {إِنْ تَتُوبَا}، لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} لِقَوْلِهِ: بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون البغداديّ السمين، صدوقٌ ربما وَهِمَ، وكان فاضلًا [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.

ص: 100

2 -

(عَطَاءُ) بن أبي رَبَاح أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، كثير الإرسال [3](ت 114)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.

3 -

(عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرِ) بن قتادة الليثيّ، أبو عاصم المكيّ، ثقةٌ فاضلٌ [2](ت 68)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 473.

4 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين بنت الصدّيق رضي الله عنهما (ت 57) تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.

والباقيان تقدّما قبل باب.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى.

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح.

(ومنها): أنه مسلسل بالمكيين، غير شيخه، فبغداديّ، وحجاج، فمصّيصيّ.

(ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَطَاءِ) بن أبي رباح (أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ) الليثيّ التابعيّ الكبير (يُخْبِرُ أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها (تُخْبِرُ) وفي رواية النسائيّ: "تَزْعُمُ"؛ أي: تقول، وأهل الحجاز يُطلقون الزعمِ على مطلق القول، قاله في "الفتح"

(1)

. (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زْينَبَ بِنْتِ جَحْشٍ) الأسديّة، أم المؤمنين، وبنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أُميمة بنت عبد المطّلب، تقدّمت ترجمتها في "الزكاة" 49/ 2481. (فَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلًا، فَتَوَاطَيْتُ) بالطاء، والهمزة، من التواطئ، قال النوويّ: هكذا هو في النسخ: "فتواطيتُ"، وأصله "فتواطأت" بالهمزة، فسَهّلت، فصارت ياءً، وفي رواية النسائيّ: "فتواصيتُ" بالصاد المهملة، من التواصي (أَنَا) توكيد للضمير المتّصل؛ حتى يمكن عطف الظاهر عليه، كما قال في "الخلاصة":

(1)

"الفتح" 12/ 56.

ص: 101

وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ

عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ

أَوْ فَاصِلٍ مَّا وَبِلَا فَصْلٍ يَرِدْ

فِي النَّظْمِ فَاشِيًا وَضُعْفَهُ اعْتَقِدْ

(وَحَفْصَةُ) رضي الله عنها (أَنَّ أَيَّتَنَا مَا) - بفتح الهمزة، وتشديد الياء - هي أيٌّ دخلت عليها تاء التأنيث، وأضيفت إلى ضمير المتكلّم، و"ما" زائدة (دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلْتَقُلْ: إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟) بتقدير أداة الاستفهام؛ أي: أأكلتَ؟

قال النوويّ رحمه الله: هي بفتح الميم، وبغين معجمة، وفاء، وبعد الفاء ياء، هكذا هو في الموضع الأوّل في جميع النسخ، وأما الموضعان الأخيران فوقع فيهما في بعض النسخ بالياء، وفي بعضها بحذفها، قال القاضي عياض: الصواب إثباتها؛ لأنها عوض من الواو التي في المفرد، وإنما حُذفت في ضرورة الشعر. انتهى.

وهو: جمع مُغْفُور - بضمّ أوله - ويقال: بثاء مثلّثة بدل الفاء، حكاه أبو حنيفة الدِّينوريّ في النبات. قال ابن قُتيبة: ليس في الكلام "مُفْعُولٌ" - بضمّ أوله - إلا "مُغفُورٌ"، و"مُغزولٌ" - بِالغين المعجمة - من أسماء الكَمْأة، و"مُنْخُورٌ" - بالخاء المعجمة - من أسماء الأنف، و"مُغْلُوقٌ" - بِالغين المعجمة - واحد المَغَاليق، قال: و"المُغْفُور" صمغٌ حُلْوٌ، له رائحة كريهة.

وذَكَر البخاريّ أن المُغفور شبيهٌ بالصمغ يكون في الرِّمْث - بكسر الراء، وسكون الميم، بعدها مثلّثةٌ - وهو من الشجر التي ترعاها الإبل، وهو من الحَمْض، وفي الصمغ المذكور حلاوةٌ، يقال: أغفر الرِّمثُ: إذا ظهر ذلك فيه.

وذكر أبو زيد الأنصاريّ أن الْمُغفورَ يكون أيضًا في الْعُشَر - بضمّ المهملة، وفتح المعجمة - وفي الثُّمَام، والسَّلَم، والطَّلْح، واختُلف في ميم مغفور، فقيل: زائدة، وهو قول الفرّاء، وعند الجمهور أنها من أصل الكلمة، ويقال له أيضًا: مِغْفارٌ - بكسر أوّله - ومغفرٌ - بضمّ أوله، وبفتحه، وبكسره - عن الكسائيّ، والفاء مفتوحةٌ في الجميع.

وقال عياضٌ: زعم المهلّب أن رائحة المغافير، والْعُرْفُط حسنةٌ، وهو خلاف ما يقتضيه الحديث، وخلاف ما قاله أهل اللغة. انتهى.

قال الحافظ: ولعلّ المهلّب قال: "خبيثة" - بمعجمة، ثم موحّدة، ثم

ص: 102

تحتانيّة، ثم مثلّثة -، فتصحّفت، أو استند إلى ما نُقل عن الخليل، وقد نسبه ابن بطّال إلى "العين" أن الْعُرْفُط شجر العضاه، والعِضَاه كلّ شجر له شوكٌ، وإذا استيك به كانت له رائحة حسنة، تشبه رائحة طيب النبيذ. انتهى

(1)

.

وعلى هذا فيكون ريح عيدان العرفُط طيّبًا، وريح الصمغ الذي يسيل منه غير طيّبة، ولا منافاة في ذلك، ولا تصحيف.

وقد حكى القرطبيّ في "المفهم" أن رائحة ورق العرفط طيّبة، فإذا رعته الإبل، خَبُثَت رائحته، وهذا طريق آخر في الجمع حسنٌ جدًّا. انتهى.

و"الْعُرْفُط" - بضم العين المهملة، والفاء - يكون بالحجاز، وقيل: إن العرفط نبات له ورقة عريضة، تَفترش على الأرض، له شوكة حَجناء، وثمرة بيضاء؛ كالقطن، مثل زِرّ القميص، خبيث الرائحة

(2)

.

(فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا) قال صاحب "التنبيه": هي سودة، كما في مسلم بعد هذا. انتهى

(3)

، وأما قول الحافظ: لم أقف على تعيينها، وأظنّها حفصة، ففيه نظر، فتأمل. (فَقَالَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ) زاد في رواية البخاريّ: "لَا"، وهي نافية، ردّ لقولها؛ أي: لم آكل مغافير ("بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَلَنْ أَعُودَ لَهُ") وفي رواية هشام: "وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدًا"، وبهذه الزيادة تظهر مناسبة قوله (فَنَزَلَ) قوله تعالى:({لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}) قال عياضٌ: حُذفت هذه الزيادة من رواية حجاج بن محمد، فصار النظم مشكلًا، فزال الإشكال برواية هشام بن يوسف.

واستدلّ القرطبيّ وغيره بقوله: "حلفت" على أن الكفّارة التي أُشير إليها في قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] هي عن اليمين التي أشار إليها بقوله: "حلفتُ"، فتكون الكفّارة لأجل اليمين، لا لمجرّد التحريم، قال الحافظ: وهو استدلالٌ قويّ لمن يقول: إن التحريم لغوٌ، لا كفّارة فيه بمجرّده، وحمل بعضهم قوله:"حلفت" على التحريم، ولا يخفى بُعده، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 12/ 56 - 57.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 75.

(3)

"تنبيه المعلم" ص 248.

ص: 103

(إِلَى قَوْلهِ)({إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} أي: تلا إلى هذا الموضع، وقوله: (لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ) أي: هذا الخطاب لهما ({وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} لِقَوْلِهِ) صلى الله عليه وسلم (بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا) المراد به أن هذه الآية نزلت لأجل قوله صلى الله عليه وسلم: "بل شربتُ عسلًا"، والنكتة فيه أن هذه الآية داخلة في الآيات الماضية؛ لأنها قبل قوله:{إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} [التحريم: 4].

وقال القرطبيّ في "المفهم": قوله: "بل شربتُ عسلًا عند زينب، ولن أعود له" زاد في رواية البخاريّ هنا: "وقد حلفتُ، لا تُخبري بذلك أحدًا"، وذلك لئلا يبلغ الأخرى الخبر، وأنه فعله ابتغاء مرضاة أزواجه، فيتغيّر قلبها، وقيل: كان ذلك في قصّة مارية، واستكتامه صلى الله عليه وسلم حفصة أن لا تخبري بذلك عائشة، وقيل: أسرّ إلى حفصة أن الخليفة بعده أبو بكر، ثم عمر، والصحيح أنه في العسل، ويعني بقوله:"ولن أعود له" على جهة التحريم، وبقوله:"حلفت" أي: بالله تعالى، بدليل أن الله تعالى أنزل عليه معاتبته على ذلك، وحوالته على كفّارة اليمين بقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} يعني العسل المحرّم بقوله: "ولن أعود له"{تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} ؛ أي: تفعل ذلك؛ طلبًا لرضاهنّ {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} غفورٌ لما أوجب المعاتبة، رحيم برفع المؤاخذة {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)} [التحريم: 1 - 2] أي: قد قدّر، وبيّن، والفرض: التقدير، وتحلّة اليمين: ما يُستحلّ به الخروج عن اليمين، وهي التي قال الله تعالى فيها:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} الآية [المائدة: 89]، والأيمان: جمع يمين، واليمين التي حلف النبيّ صلى الله عليه وسلم بها هي قوله:"وقد حلفتُ لا تخبري بذلك أحدًا"، وهذا أصحّ ما قيل في هذه الآية، وأجوده.

وقد روى النسائيّ من حديث أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمةٌ يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرّمها، فأنزل الله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الآيات

(1)

، وكان ابن عبّاس أشار إلى هذا الحديث،

(1)

رواه النسائيّ في "الكبرى"(11607).

ص: 104

حيث قال: "إن الرجل إذا حرّم عليه امرأته، فهي يمين يُكفّرها"، وقال:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله أيضًا: قوله تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم: 3] هو قوله لحفصة: "بل شربت عسلًا، وقد حلفت، لا تخبري أحدًا" على ما تقدّم في حديث البخاريّ، وقيل: تحريمه مارية، على ما تقدّم في حديث النسائيّ، وقيل غير ذلك، وهذان القولان أحسن ما قيل في ذلك.

وقوله: {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم: 3] أي: حديث حفصة حين أفشت ما أمرها بإسراره النبيّ صلى الله عليه وسلم، {وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} أي: أطلع الله تعالى نبيّه على ذلك الحديث {عَرَّفَ بَعْضَهُ} مشدّدًا، وهي القراءة المشهورة؛ أي: عاتبها على ذلك، وأعرض عن بعضه، فلم يبالغ في المعاتبة؛ عملًا بمكارم الأخلاق، وحسن المصاحبة، وقرأه الكسائيّ بتخفيف الراء من {عَرَّفَ} ، ومعناه: جازى عليه بأن غضِب، يقال: عَرَفْتُ حقّك؛ أي: جازيتك عليه، ولأعرفنّ حقّك بمعناه، وقال الضحّاك: إن الذي أعرض عنه حديث الخلافة؛ لئلا ينتشر، وهذا بناه على أنه هو الحديث الذي أسرّه لحفصة، وهذا القول ليس بشيء؛ إذ لم يثبُت بذلك نقلٌ، ولم يدلّ عليه عقلٌ، بل النقل الصحيح ما ذكرناه.

وقوله: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: 3] يعني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أعلم حفصة بالخبر الذي أفشته، فقالت مستفهمةً عمن أعلمه بذلك {مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا} [التحريم: 3] وأنها خطر ببالها أن أحدًا من أزواجه، أو غيرهنّ أخبره، فأجابها بأن قال:{نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} أي: العليم بالسرائر الخبير بما تُجِنّه الضمائر، ثم قال تعالى:{إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] يخاطب عائشة وحفصة، وهذا يدلّ على أن الصحيح من الروايات رواية من روى أن هذه القصّة إنما جرت لعائشة وحفصة لأجل العسل الذي شربه عند زينب، أو لأجل مارية، وأنهما هما اللتان تظاهرتا عليه، كما جاء نصًّا من حديث ابن عبّاس عن عمر رضي الله عنهم على ما يأتي، وهو رواية

(1)

"المفهم" 4/ 247 - 248.

ص: 105

حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عُبيد بن عُمير، عن عائشة رضي الله عنها، وأما رواية أبي أسامة التي ذكر فيها أن المتظاهرات عليه عائشة، وسودة، وصفيّة، فليست بصحيحة؛ لأنها مخالفة للتلاوة، فإنها جاءت بلفظ خطاب الاثنتين، ولو كان كذلك لجاءت بخطاب جماعة المؤنّث، قال أبو محمد الأصيليّ: حديث الحجاج أصحُّ طرقِهِ، وهو أولى بظاهر الكتاب، وقال غيره: انقلبت الأسماء في حديث أبي أسامة، والله تعالى أعلم.

وقوله: {صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} أي: مالت عن الحقّ، وأراد قلب عائشة وحفصة، وعدل إلى لفظ الجمع؛ استثقالًا للجمع بين تثنيتين، وقد جمع بينهما من قال: ظهراهما مثل ظهور الترسين.

وقوله: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} أي: تعاونا عليه بما تواطأتما عليه في العسل، أو في مارية {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ} أي: وليّه، ومعينه، وكافيه، فلا يضرّه من كاده، أو من تعاون عليه، والوقف على {مَوْلَاهُ} حسنٌ، ويبتدئ {وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ} أي: بعد تولي الله له {ظَهِيرٌ} [التحريم: 4] أي: معينون له على ما يصلحه، ويحفظه، ويوافقه، و {ظَهِيرٌ} وإن كان واحدًا، فمعناه الجمع، وقيل: كل واحد ظهير، كما قال تعالى:{ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [الحج: 5]؛ أي: كلّ واحد منكم طفلًا، {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} أحسن ما قيل فيه: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ومن جرى مجراهما، ممن سبق إسلامه، وظهر غَنَاؤه، وقيل: كان حقّ {وَصَالِحُ} أن يُكتب بالواو، ولكنهم حذفوها؛ ليوافق الخطّ اللفظ، ويَحْتَمل أن يقال:{وَصَالِحُ} ومفرد، لكنه سُلك به مسلك الجنس، والله تعالى أعلم.

ثم بالغ الله تعالى في تأديب أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتهديدهنّ بقوله:{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ} أي: منقادات بالإسلام، والاستسلام {مُؤْمِنَاتٍ} أي: مصدّقات بما جاء به النبيّ صلى الله عليه وسلم ملازمات أحوال المؤمنين به من التعظيم والاحترام {قَانِتَاتٍ} أي: خاضعات لله تعالى بالعبوديّة، ولرسوله صلى الله عليه وسلم بإيثار الطواعية على الغيرة النفسيّة {عَابِدَاتٍ} أي: يَقُمْنَ لله بما له عليهنّ من العبادة، وبما لك عليهن من الحرمة والخدمة {سَائِحَاتٍ} قال ابن عباس: صائمات، وقال زيد بن أسلم: مهاجرات، من السياحة في الأرض،

ص: 106

ويمكن أن يقال: مسرعات إلى ما يُرضيك، ذاهبات فيه، فلا يشتغلن بسوى ذلك؛ لأن من ساح في الأرض، فقد ذهب فيها، وانقطع إلى غيرها {ثَيِّبَاتٍ} جمع ثيّب، قيل: يعني بذلك آسية امرأة فرعون {وَأَبْكَارًا} [التحريم: 5] جمع بكر، قيل: يعني بذلك مريم، وفيه نظرٌ، وبُعدٌ، قال: وما ذكرناه في هذه الآية إشارة إلى المختار، والأقوال فيها أكثر مما ذكرنا، فلنقتصر على هذا القدر. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [3/ 3678 و 3679 و 3680](1474)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4912) و"الطلاق"(5268)، و (أبو داود) في "الأشربة"(3714)، و (النسائيّ) في "المجتبى" في "عشرة النساء"(3409) و"الطلاق"(3449) و"الأيمان والنذور"(3823) وفي "الكبرى"(8906) و"الطلاق"(5614) و"الأيمان والنذور"(4737) و"التفسير"(11608)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 221)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(8/ 300)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 358)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 155)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 353 و 354) و"الصغرى"(6/ 348) و"المعرفة"(5/ 488)، وفوائد الحديث، ستأتي في الحديث التالي - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3679]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ، فَكَانَ إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ دَارَ عَلَى نِسَائِهِ، فَيَدْنُو مِنْهُنَّ، فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ، فَاحْتَبَسَ عِنْدَهَا أَكَثَرَ مِمَّا كَانَ يَحْتَبِسُ، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ،

(1)

"المفهم" 4/ 250 - 253.

ص: 107

فَقِيلَ لِي: أَهْدَتْ لَهَا امْرَأَةٌ مِنْ قَوْمِهَا عُكَّةً مِنْ عَسَلٍ، فَسَقَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ شَرْبَةً، فَقُلْتُ: أَمَا وَاللهِ لَنَحْتَالَنَّ لَهُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسَوْدَةَ، وَقُلْتُ: إِذَا دَخَلَ عَلَيْكِ، فَإِنَّهُ سَيَدْنُو مِنْكِ، فَقُولِي لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَكِ: لَا، فَقُولِي لَهُ: مَا هَذِهِ الرِّيحُ؟ وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَشْتَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ الرِّيحُ، فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَكِ: سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ، فَقُولِي لَهُ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ، وَسَأَقُولُ ذَلِكَ لَهُ، وَقُولِيهِ أَنْتِ يَا صَفِيَّةُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى سَوْدَةَ، قَالَتْ: تَقُولُ سَوْدَةُ: وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ

(1)

، لَقَدْ كِدْتُ أَنْ أُبادِئَهُ بِالَّذِي قُلْتِ لِي، وَإِنَّهُ لَعَلَى الْبَابِ؛ فَرَقًا مِنْكِ، فَلَمَّا دَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ قَالَ: "لَا"، قَالَتْ: فَمَا هَذِهِ الرِّيحُ؟ قَالَ: "سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ"، قَالَتْ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيَّ، قُلْتُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى صَفِيَّةَ، فَقَالَتْ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ: قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، ألَا أَسْقيكَ مِنْهُ؟ قَالَ:"لَا حَاجَةَ لِي بِهِ"، قَالَتْ: تَقُولُ سَوْدَةُ: سُبْحَانَ اللهِ، وَاللهِ لَقَدْ حَرَمْنَاهُ، قَالَتْ: قُلْتُ لَهَا: اسْكُتِي).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 247) وهو ابن (87) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

2 -

(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) الْحَمّال البغداديّ، تقدّم قبل باب.

3 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حماد بن أُسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

4 -

(هِشَامُ) بن عروة بن الزبير الأسديّ، أبو المنذر، أو أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ فقيه ربما دلّس [5](ت 5 أو 146) وله (87) سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.

(1)

وفي نسخة: "والله الذي لا إله إلا هو".

ص: 108

5 -

(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن الْعَوّام الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه مشهورٌ [3](ت 94) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.

و"عائشة رضي الله عنها" ذُكرت قبله.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ) وقع عند البخاريّ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحبّ العسل والحلوى" بتقديم العسل، قال في "الفتح": ولتقديم كل منهما على الآخر جهة من جهات التقديم، فتقديم العسل؛ لشرفه، ولأنه أصل من أصول الحلوى، ولأنه مفردٌ، والحلوى مركبة، وتقديم الحلوى؛ لشمولها، وتنوعها؛ لأنها تُتّخَذ من العسل، ومن غيره، وليس ذلك من عطف العام على الخاصّ، كما زعم بعضهم، وإنما العام الذي يدخل الجميع فيه. هو الْحُلو بضم أوله، وليس بعد الواو شيء، ووقعت "الحلواء" في أكثر الروايات عن أبي أسامة بالمدّ، وفي بعضها بالقصر، وهي رواية علي بن مسهر.

وقال في "الفتح" في موضع آخر، ما حاصله: الحلوى، والحلواء مقصورًا وممدودًا لغتان، قال ابن ولاد: هي عند الأصمعيّ بالقصر تكتب بالياء، وعند الفراء بالمد تكتب بالألف، وقال الليث: الأكثر على المدّ، وهو كل حلو يؤكل، وقال الخطابيّ: اسم الحلوى لا يقع إلا على ما دخلته الصنعة، وفي "المخصص" لابن سِيدَهْ: هي ما عولج من الطعام بحلاوة، وقد تُطلق على الفاكهة. انتهى

(1)

.

وإنما ذكرت عائشة رضي الله عنها هذا القدر في أول الحديث؛ تمهيدًا؛ لما ستذكره من قصة العسل

(2)

.

وقال ابن بطال رحمه الله: الحلوى والعسل من جملة الطيبات المذكورة في قوله تعالى: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51]، وفيه تقويةٌ لقول من قال: المراد به المستلَذّ من المباحات، ودخل في معنى هذا الحديث كل ما يشابه الحلوى والعسل، من أنواع المآكل اللذيذة.

(1)

راجع: "الفتح" 12/ 347.

(2)

"الفتح" 12/ 58.

ص: 109

وقال الخطابيّ، وتبعه ابن التين: لم يكن حبه صلى الله عليه وسلم لها على معنى كثرة التشهي لها، وشدة نزاع النفس إليها، وإنما كان ينال منها إذا أُحضرت إليه نَيْلًا صالِحًا، فيُعْلَم بذلك أنها تعجبه، ويؤخذ منه جواز اتخاذ الأطعمة من أنواع شتى، وكان بعض أهل الورع يَكْرَه ذلك، ولا يُرَخِّص أن يأكل من الحلاوة إلا ما كان حلوه بطبعه؛ كالتمر، والعسل، وهذا الحديث يرُدّ عليه، وإنما تورعّ عن ذلك من السلف من آثر تأخير تناول الطيبات إلى الآخرة، مع القدرة على ذلك في الدنيا؛ تواضعًا، لا شُحًّا.

ووقع في كتاب "فقه اللغة" للثعالبي أن حلوى النبيّ صلى الله عليه وسلم التي كان يحبها هي المَجِيْع بالجيم بوزن عَظِيم، وهو تمر يُعجَن بلبن، وأخرج أبو داود؛ "أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب الزُّبد والتمر"

(1)

.

وفيه ردّ على من زعم أن المراد بالحلوى أنه صلى الله عليه وسلم كان يشرب كل يوم قدح عسل يُمزَج بالماء، وأما الحلوى المصنوعة فما كان يعرفها، وقيل: المراد بالحلوى الفالوذج، لا المعقودة على النار، ذكره في "الفتح"

(2)

.

(فَكَانَ إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ) قال في "الفتح": كذا للأكثر، وخالفهم حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، فقال:"الفجر"، أخرجه عبد بن حميد في "تفسيره"، عن أبي النعمان، عن حماد، ويساعده رواية يزيد بن رُومان، عن ابن عباس رضي الله عنهما، ففيها:"وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح جلس في مصلاه، وجلس الناس حوله، حتى تطلع الشمس، ثم يدخل على نسائه، امرأةً امرأةً، يسلم عليهنّ، ويدعو لهنّ، فإذا كان يوم إحداهنّ كان عندها. . ." الحديث، أخرجه ابن مردويه.

ويمكن الجمع بأن الذي كان يقع في أول النهار سلامًا ودعاءً محضًا، والذي في آخره معه جلوس، واستئناس، ومحادثة، لكن المحفوظ في حديث عائشة رضي الله عنها ذكر العصر، ورواية حماد بن سلمة شاذّة. انتهى

(3)

.

(1)

حديث صحيح، أخرجه أبو داود في "سننه"(3/ 363).

(2)

"الفتح" 12/ 347 - 348 "كتاب الأطعمة" رقم (5431).

(3)

"الفتح" 12/ 59 و"عمدة القاري" 9/ 549.

ص: 110

(دَارَ عَلَى نِسَائِهِ) من الدوران، وفي رواية البخاريّ:"دخل على نسائه"، من الدخول، وفي رواية له:"أجاز على نسائه"؛ أي: مشى، ويجيء "أجاز" بمعنى قَطَع المسافة، ومنه حديث:"فأكون أنا وأمتي أول من يُجيز" أي: أول من يقطع مسافة الصراط.

(فَيَدْنُو مِنْهُنَّ) أي: فيُقبّل، ويباشر من غير جماع، كما في الرواية الأخرى، وإنما كان يفعل ذلك تأنيسًا لهنّ، وتطييبًا لقلوبهنّ حتى ينفصل عنهنّ إلى التي هو في يومها، ويتركهنّ طيّبات قلوبهن.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "دار على نسائه إلخ" يُستدلّ بهذا لأحد القولين المتقدّمين، وهو أن النبيّ لم يكن القَسْم عليه واجبًا، ويُمكن أن يُصرف عن ذلك، بأن يقال: إن ذلك إنما كان يفعله؛ لأنهنّ كنّ قد أذِنّ له في ذلك، بدليل ما جاء أنه كان يستأذنهن إذا كان في يوم المرأة منهنّ.

وقد يستدلّ من يرى القَسْم واجبًا عليه، لكنه بالليل دون النهار.

وقال الداوديّ: كأن النبيّ صلى الله عليه وسلم جعل ما بعد العصر مُلْغًى؛ أي: جعله وقتًا مشتركًا لجميعهنّ. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم أن الأرجح عدم وجوب القَسْم عليه صلى الله عليه وسلم، ولكنه كان يعمل بالقسم من عنده، دون أن يجب عليه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ) بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، تزوّجها النبيّ صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث من الهجرة، وماتت سنة (45) وتقدّمت ترجمتها في "صلاة المسافرين وقصرها" 15/ 1676. (فَاحْتَبَسَ)؛ أي: أقام (عِنْدَهَا أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَحْتَبِسُ، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ) ووقع في حديث ابن عباس رضي الله عنهما بيان ذلك، ولفظه:"فأنكرت عائشة احتباسه عند حفصة، فقالت لجويرية حبشية عندها، يقال لها: خضراء: إذا دخل على حفصة، فادخلي عليها، فانظري ما يصنع؟ "(فَقِيلَ لِي: أَهْدَتْ لَهَا امْرَأَةٌ) لم تُعرف (مِنْ قَوْمِهَا عُكَّةً مِنْ عَسَلٍ) وفي حديث ابن عبّاس: "أنها أهديت لحفصة عُكّة عسل من الطائف".

(1)

"المفهم" 4/ 253 - 254.

ص: 111

و"الْعُكّة" بضمّ العين المهملة، وتشديد الكاف: إناء السمن، أصغر من الْقِربة، جمعه عُكَكٌ، بضمّ، ففتح، وعِكاك، بالكسر، أفاده المجد

(1)

.

(فَسَقَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ شَرْبَةً، فَقُلْتُ: أَمَا) أداة استفتح وتنبيه، كـ "ألا"(وَاللهِ لنَحْتَالَنَّ لَهُ) أي لنطلبنّ له الحيلة، وهي - كما في "المصباح" - الْحِذْق في تدبير الأمور، وهو تقليب الفكر حتى يهتدي إلى المقصود، والمعنى: لنفعلنّ فعلًا، يجعله كارهًا هذا العسل.

وقال الكرمانيّ رحمه الله: كيف جاز على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم الاحتيال؟ وأجاب بأنه من مقتضيات الغيرة الطبيعيّة للنساء، وهو صغيرة معفوّ عنها، مكفَّرة. انتهى.

(فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسَوْدَةَ) بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس العامريّة القُرشيّة، أم المؤمنين رضي الله عنها، توفيت سنة (55) وقيل غير ذلك، ولها في "صحيح مسلم" ذكر، بلا رواية، وتقدّمت ترجمتها في "الرضاع" [14/ 3629]. (وَقُلْتُ: إِذَا دَخَلَ عَلَيْكِ، فَإِنَّهُ سَيَدْنُو مِنْكِ، فَقُولِي لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟) وفي رواية حماد بن سلمة:"إذا دخل على إحداكنّ، فلتأخذ بأنفها، فإذا قال: ما شأنك؟ فقولي: ريح المغافير"، وقد تقدم شرح المغافير في الحديث الماضي.

(فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَكِ: لَا) أي: لم آكل المغافير (فَقُولِي لَهُ: مَا هَذِهِ الرِّيحُ؟ وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَشْتَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ الرِّيحُ) أي: غير الطيب، وفي رواية يزيد بن رُومان، عن ابن عباس:"وكان أشدّ شيء عليه أن يوجد منه ريحٌ سَيِّئٌ"، وفي رواية حماد بن سلمة:"وكان يَكره أن يوجد منه ريح كريهةٌ؛ لأنه يأتيه المَلَك"، وفي رواية ابن أبي مليكة، عن ابن عباس:"وكان يعجبه أن يوجد منه الريح الطيب"

(2)

.

(فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَكِ: سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ) وفي رواية حماد بن سلمة: "إنما هي عُسيلة، سقتنيها حفصة"(فَقُولِي لَهُ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ) - بفتح الجيم والراء، بعدها مهملة - من بابي نصر، وضرب: والنحل مؤنّثة، ولذا لحِقت تاءُ التأنيث الفعلَ؛ أي: رَعَت نحلُ هذا العسل الذي شربته الشجرَ المعروف

(1)

"القاموس المحيط" 3/ 313.

(2)

"الفتح" 12/ 60.

ص: 112

بالعُرْفط، وأصل الجَرْس الصوت الخفيّ

(1)

، ومنه في حديث صفة الجنة:"يسمع جرس الطير"، ولا يقال: جَرَس بمعنى رَعَى إلا للنحل، وقال الخليل: جَرَسَت النحل العسلَ تَجْرِسه جَرْسًا: إذا لَحَسته، وفي رواية حماد بن سلمة:"جَرَست نحلها العرفط إذًا"، والضمير للعُسيلة، على ما وقع في روايته.

(الْعُرْفُطَ) - بضم العين المهملة والفاء، بينهما راء ساكنة، وآخره طاء مهملة - هو الشجر الذي صَمْغُهُ المغافير، قال ابن قتيبة: هو نبات مُرّ له ورقة عريضة تَفْرِش بالأرض، وله شوكة، وثمرة بيضاء، كالقطن، مثل زِرّ القميص، وهو خبيث الرائحة. وقد تقدم في حكاية عياض عن المهلَّب ما يتعلق برائحة العرفط، والبحث معه فيه في الحديث الماضي.

(وَسَأَقُولُ ذَلِكَ لَهُ، وَقُولِيهِ أَنْتِ يَا صَفِيَّةُ) بنت حُيي، أم المؤمنين رضي الله عنها، تُوفّيت في ولاية معاوية رضي الله عنه، وتقدّمت ترجمتها في "الحج" 65/ 3223. أي: قولي الكلام الذي عَلَّمته لسودة (فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى سَوْدَةَ) رضي الله عنها (قَالَتْ: تَقُولُ سَوْدَةُ: وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) وفي نسخة: "والله الذي لا إله إلا هو"(لَقَدْ كِدْتُ) بكسر الكاف، يقال: كاد يفعل كذا يكاد، من باب تَعِبَ: قارب الفعل، قال ابن الأنباريّ: قال اللغويّون: كِدتُ أفعل: معناه عند العرب: قاربت الفعل، ولم أفعل، وما كِدت أفعل: معناه: فعلتُ بعد إبطاء، قال الأزهريّ: وهو كذلك، وشاهده قوله تعالى:{وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] معناه: ذبحوها بعد إبطاءٍ؛ لتعذّر وِجدان البقرة عليهم، وقد يكون: ما كِدتُ أفعل، بمعنى ما قاربت. انتهى

(2)

. (أَنْ أُبادِئَهُ) أي: أبدأه، وأناديه (بِالَّذِي قُلْتِ لِي) أي: بالكلام الذي قلت لي (وَإِنَّهُ لَعَلَى الْبَابِ) جملة حاليّة من المفعول.

وفي رواية البخاريّ: "قالت: تقول سودة: فوالله ما هو إلا أن قام على الباب، فأردت أن أبادئه بالذي أمرتني به؛ فَرَقًا منكِ" أي: خوفًا.

(1)

في "القاموس": الْجَرْسُ: الصوت، أو خفيّه، ويُكسر، أو إذا أفرد فُتح، فقيل: ما سمعت له جَرْسًا، وإذا قالوا: ما سمعت له حِسًّا، ولا جِرْسًا كسروا، واللَّحْسُ باللسان، ويَجْرُس بالضمّ - ويَجْرِس - بالكسر - انتهى 2/ 203 - 204.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 545.

ص: 113

قال في "الفتح": ضُبِط "أبادئه" في أكثر الروايات بالموحدة، من المبادأة، وهي بالهمزة، وفي بعضها بالنون بغير همزة، من المناداة، وأما "أُبادره" في رواية أبي أسامة، فمن المبادرة، ووقع فيها عند الكشميهنيّ، والأصيليّ، وأبي الوقت كالأول بالهمزة بدل الراء، وفي رواية ابن عساكر بالنون. انتهى

(1)

.

وقوله: (فَرَقًا مِنْكِ) بفتحتين؛ أي: خوفًا من لومك، وهو مفعول له لفعل المقاربة (فَلَمَّا دَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ قَالَ: "لَا"، قَالَتْ: فَمَا هَذِهِ الرِّيحُ؟ قَالَ: "سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ" قَالَتْ: جَرَسَتْ) أي: رَعَتْ (نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيَّ، قُلْتُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى صَفِيَّةَ، فَقَالَتْ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ) أي: في اليوم الثاني (قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا أَسْقِيكَ) بفتح الهمزة، وضمّها، يقال: سقاه، وأسقاه، قال تعالى:{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21]، وقال:{لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16](مِنْهُ) أي: من ذلك العسل (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَا حَاجَةَ لِي بِهِ") كأنه اجتنبه لِمَا وقع عنده من توارد النسوة الثلاث على أنه نشأت من شربه له ريح منكرة، فتركه؛ حسْمًا للمادّة (قَالَتْ) عائشة (تَقُولُ سَوْدَةُ: سُبْحَانَ اللهِ، وَاللهِ لَقَدْ حَرَمْنَاهُ) بتخفيف الراء؛ أي: منعناه ذلك العسل، يقال: حرمته، وأحرمته، والأول أفصح، قاله النوويّ

(2)

.

وقال المجد رحمه الله: وحَرَمَهُ الشيءَ، كضَرَبه، وعَلِمه: منعه، وأحرمه لُغيّةٌ. انتهى

(3)

.

وأحرمته بالألف، والأول أفصح (قَالَتْ) عائشة (قُلْتُ لَهَا: اسْكُتِي) كأنها خَشِيت أن يفشو ذلك، فيَظْهَر ما دَبَّرته من كيدها لحفصة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"الفتح" 12/ 60.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 77.

(3)

"القاموس المحيط" 4/ 94.

ص: 114

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا مطوّلًا متّفقٌ عليه، وأما تخريجه، فقد تقدّم في الحديث الماضي.

(المسألة الثانية): في فوائده:

1 -

(منها): أن فيه دليلًا على استعمال مباحات لذائذ الأطعمة، والميل إليها؛ خلافًا لما يذهب إليه أهل التعمّق، والغلوّ في الدين، قاله القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

2 -

(ومنها): أن فيه فضيلة الحلواء والعسل؛ لمحبّة النبيّ صلى الله عليه وسلم إياهما.

3 -

(ومنها): بيان ما جُبلت عليه النساء من الغيرة، وأن الغيراء تُعذر فيما يقع منها من الاحتيال فيما يدفع عنها ترفّع ضرّتها عليها بأيّ وجه كان، وقد ترجم عليه البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" في "كتاب الحيل":"باب ما يُكرَه من احتيال المرأة من الزوج والضرائر".

4 -

(ومنها): أن فيه الأخذَ بالحزم في الأمور، وترك ما يشتبه الأمر فيه من المباح، خشية من الوقوع في المحذور.

5 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الصبر، وأنه كان غاية فيه، ونهاية في الحلم، والكرم الواسع صلى الله عليه وسلم.

6 -

(ومنها): أن فيه ما يشهد بعلوّ مرتبة عائشة رضي الله عنها عند النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى كانت ضرّتها تهابها، وتطيعها في كلّ شيء تأمرها به، حتى في مثل هذا الأمر مع الزوج الذي هو أرفع الناس قدرًا.

7 -

(ومنها): أن فيه إشارةً إلى ورع سودة رضي الله عنها؛ لِمَا ظهر منها من التندّم على ما فعلت؛ لأنها وافقت أوّلًا على دفع ترفّع حفصة عليهنّ بمزيد الجلوس عندها بسبب العسل، ورأت أن التوصّل إلى بلوغ المراد من ذلك بِحَسْم مادّة شرب العسل الذي هو سبب الإقامة، لكن أنكرت بعد ذلك أنه يترتّب عليه منع النبيّ صلى الله عليه وسلم من أمر كان يشتهيه، وهو شرب العسل، مع ما تقدّم من اعتراف عائشة الآمرة لها بذلك في صدر الحديث، فأخذت سودة تتعجّب مما وقع

(1)

"المفهم" 4/ 247.

ص: 115

منهنّ في ذلك، ولم تجسر على التصريح بالإنكار، ولا راجعت عائشة بعد ذلك لما قالت لها:"اسكتي"، بل أطاعتها، وسكتت؛ لما تقدّم من اعتذارها في أنها كانت تهابها، وإنما كانت تهابها؛ لما تعلم من مزيد حبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لها أكثر منهنّ، فخشيت إذا خالفتها أن تُغضبها، وإذا أغضبتها لا تأمن أن تغير عليها خاطر النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا تحتمل ذلك، فهذا معنى خوفها منها.

8 -

(ومنها): أن عماد القَسْم الليلُ، وأن النهار يجوز الاجتماع فيه بالجميع، لكن بشرط أن لا تقع منه المجامعة إلا مع التي هو في نوبتها.

9 -

(ومنها): أن فيه استعمال الكنايات فيما يُستحيا من ذكره، لقولها في الحديث:"فيدنو منهنّ"، والمراد فيقبّل، ونحو ذلك، ويحقّق ذلك قول عائشة لسودة:"وإذا دخل عليك، فإنه سيدنو منك، فقولي له: إني أجد كذا"، وهذا إنما يتحقّق بقرب الفم من الأنف، ولا سيّما إذا لم تكن الرائحة طافحة، بل المقام يقتضي أن الرائحة لم تكن طافحة؛ لأنها لو كانت طافحة لكانت بحيث يدركها النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولأنكر عليها عدم وجودها منه، فلما أقرّ على ذلك دلّ على ما قرّرناه أنها لو قدّر وجودها لكانت خفيّة، وإذا كانت خفيّة لم تدرك بمجرّد المجالسة، والمحادثة من غير قرب الفم من الأنف، والله تعالى أعلم. ذَكَره في "الفتح"

(1)

.

10 -

(ومنها): جواز فعل ما حَلَفَ عليه الإنسان أن لا يفعله، وتجب عليه الكفّارة فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): اختلفت الروايات في المرأة التي شرب النبيّ صلى الله عليه وسلم عندها العسل، والذي في "الصحيحين" حديث عائشة رضي الله عنها، أورداه من طريقين:"أحدهما":

طريق عُبيد بن عُمير، عنها، وفيه أن شرب العسل عند زينب بنت جحش.

و"الثاني": طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، وفيه أن شرب العسل كان عند حفصة بنت عمر.

(1)

"الفتح" 12/ 61 "كتاب الطلاق" رقم (5267).

ص: 116

وأخرج ابن مردويه من طريق ابن أبي مُليكة، عن ابن عبّاس أن شرب العسل كان عند سودة، وأن عائشة وحفصة هما اللتان تواطأتا على وفق ما في رواية عُبيد بن عمير، وإن اختلفا في صاحبة العسل.

قال الحافظ رحمه الله: وطريق الجمع بين هذا الاختلاف الحمل على التعدّد، فلا يمتنع تعدّد السبب للأمر الواحد، فإن جُنح إلى الترجيح، فرواية عبيد بن عمير أثبت؛ لموافقة ابن عبّاس لها على أن المتظاهرتين حفصة وعائشة، وجزم بذلك عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، فلو كانت حفصة صاحبة العسل لم تُقرن في التظاهر بعائشة، لكن يمكن تعدّد القصّة في شرب العسل، وتحريمه، واختصاص النزول بالقصّة التي فيها أن عائشة وحفصة هما المتظاهرتان، ويمكن أن تكون القصّة التي وقع فيها شرب العسل عند حفصة كانت سابقة، ويؤيّد هذا الحمل أنه لم يقع في طريق هشام بن عروة التي فيها أن شرب العسل كان عند حفصة تعرّضٌ للآية، ولا لذكر سبب النزول، والراجح أيضًا أن صاحبة العسل زينب، لا سودة؛ لأن طريق عبيد بن عمير أثبت من طريق ابن أبي مليكة بكثير، ولا جائز أن تتّحد بطريق هشام بن عروة؛ لأن فيها أن سودة كانت ممن وافق عائشة على قولها:"أجد منك ريح مغافير"، ويرجّحه أيضًا ما ثبت عن عائشة "أن نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم كنّ حزبين: أنا وسودة، وحفصة، وصفيّة، في حزب، وزينب بنت جحش، وأم سلمة، والباقيات في حزب"، فهذا يرجّح أن زينب هي صاحبة العسل، ولهذا غارت عائشة منها؛ لكونها من غير حزبها، والله أعلم.

وهذا أولى من جزم الداوديّ بأن تسمية التي شرب عندها العسل حفصة غلطٌ، وإنما هي صفيّة بنت حييّ، أو زينب بنت جحش.

وممن جنح إلى الترجيح عياضٌ، ومنه تلقّف القرطبيّ، وكذا نقله النوويّ عن عياض، وأقرّه، فقال عياضٌ: رواية عبيد بن عمير أولى؛ لموافقتها ظاهر كتاب الله؛ لأن فيه: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} [التحريم: 4]، فهما ثنتان، لا أكثر، ولحديث ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم، قال: فكأن الأسماء انقلبت على راوي الرواية الأخرى.

ص: 117

وتعقّب الكرمانيّ مقالة عياض، فأجاد، فقال: متى جوّزنا هذا ارتفع الوثوق بأكثر الروايات.

وقال القرطبيّ: الرواية التي فيها أن المتظاهرتين عائشة، وسودة، وصفيّة، ليست بصحيحة؛ لأنها مخالفة للتلاوة؛ لمجيئها بلفظ خطاب الاثنين، ولو كانت كذلك لجاءت بخطاب جماعة المؤنّث، ثم نقل عن الأصيليّ وغيره أن رواية عبيد بن عمير أصحّ وأولى، وما المانع أن تكون قصّة حفصة سابقة، فلما قيل له ما قيل ترك الشرب من غير تصريح بتحريم، ولم ينزل في ذلك شيء، ثم لما شرب في بيت زينب، تظاهرت عائشة، وحفصة على ذلك القول، فحرّم حينئذ العسل، فنزلت الآية، قال: وأما ذكر سودة مع الجزم بالتثنية فيمن تظاهر منهنّ، فباعتبار أنها كانت كالتابعة لعائشة، ولهذا وهبت يومها لها، فإن كان ذلك قبل الهبة، فلا اعتراض بدخوله عليها، وإن كان بعدها فلا يمتنع هبتها يومها لعائشة أن يتردّد إلى سودة.

قال الحافظ: لا حاجة إلى الاعتذار عن ذلك، فإن ذكر سودة إنما جاء في قصّة شرب العسل عند حفصة، ولا تثنية فيه، ولا نزول الآية، على ما تقدّم من الجمع الذي ذكره، وأما قصّة العسل عند زينب بنت جحش، فقد صرّح فيه بأن عائشة قالت:"توطأت أنا وحفصة"، فهو مطابق لما جزم به عمر رضي الله عنه من أن المتظاهرتين عائشة وحفصةُ، وموافقٌ لظاهر الآية، والله أعلم.

قال: ووجدت لقصّة شرب العسل عند حفصة شاهدًا في "تفسير ابن مردويه" من طريق يزيد بن رُومان، عن ابن عباس، ورواته لا بأس بهم، ووقع في "تفسير السدّيّ" أن شرب العسل كان عند أم سلمة، أخرجه الطبريّ، وغيره، وهو مرجوحٌ، لإرساله، وشذوذه. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا تحريرٌ حسنٌ جدًّا، وحاصله أن طريق الجمع بحمل الروايات على تعدد الواقعة، أولى، فإن سُلك مسلك الترجيح، فرواية عبيد بن عمير، وفيها أن شرب العسل كان عند زينب بنت جحش، وأن

(1)

"الفتح" 12/ 54 - 56 "كتاب الطلاق" رقم (5267).

ص: 118

المتظاهرتين هما عائشة وحفصة، أرجح؛ لموافقة حديث ابن عباس، عن عمر رضي الله عنه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ولَمّا علا أبو إسحاق تلميذ المصنّف بدرجة، وساواه، ذكر ذلك بقوله:

(قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ بِشْرِ بْنِ الْقَاسِم، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ بِهَذَا سَوَاءً).

فقوله: (قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ) هو: إبراهيم بن محمد بن سفيان النيسابوريّ تلميذ مسلم، راوي الكتاب عنه، المتوفى في رجب سنة (308 هـ) وقد تقدّمت ترجمته في "المقدّمة" 6/ 73.

(حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ بِشْرِ بْنِ الْقَاسِمِ) السلميّ، قاضي نيسابور، ومفتي أهل الرأي ببلده، صدوقٌ [11].

رَوَى عن ابن عيينة، وأبي معاوية، ووكيع، وغيرهم.

وروى عنه إبراهيم بن محمد بن سفيان، وأبو يحيى البزار، وغيرهما. مات سنة (244)، ذكره الذهبيّ للتمييز

(1)

.

قال الحافظ: وقد وقع في الأطراف لأبي مسعود في حديث أبي أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الحلواء والعسل؛ أن مسلمًا رواه عن أبي كريب، وهارون بن عبد الله، والحسن بن بشر، ثلاثتهم عن أبي أسامة، كذا قال، والذي في الأصول من "الصحيح": حدّثنا أبو كريب، وهارون بن عبد الله قالا: ثنا أبو أسامة، ليس فيه الحسن بن بشر، لكن قال فيه إبراهيم بن محمد بن سفيان الراوي عن مسلم، عقب هذا الحديث: حدّثنا الحسن بن بشر، ثنا أبو أسامة مثله، سواءً، فهذا من زيادات إبراهيم، وهي قليلة جدًّا، ووقع في "الوصايا" من "صحيح مسلم" أيضًا: حدّثنا سعيد بن منصور، وذكر جماعةً عن سفيان، عن سليمان الأحول، عن سعيد،

(1)

أي ليتميّز ممن أخرج له أصحاب الكتب الستّة، وهذه عادة أصحاب الرجال، إذا وقع اتفاق اسم من أخرجوا له مع اسم راوٍ لم يخرجوا له ذكروه في كتبهم؛ للبيان، فتنبّه.

ص: 119

عن ابن عباس، قال: "يوم الخميس، وما يوم الخميس؟

" الحديث، وفي آخره: قال أبو إسحاق: ثنا الحسن بن بشر، ثنا سفيان بهذا.

وفيه أيضًا في "الإمارة": حدّثنا بن نُمير، ثنا أبي، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، حديث: "كلُّكُم رَاعٍ

" الحديث، قال ابن سفيان: حدّثناه الحسن بن بشر، ثنا عبد الله بن نُمير، عن عبيد الله به. انتهى

(1)

.

قال النوويّ رحمه الله: معناه: أن إبراهيم بن سفيان، صاحب مسلم ساوى مسلمًا في إسناد هذا الحديث، فرواه عن واحد، عن أبي أسامة، كما رواه مسلم عن واحد، عن أبي أسامة، فَعَلَا برجل. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: خلاصة القول في هذا أنه إنما أتى أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان، تلميذ مسلم، وراوي هذا الكتاب عنه بهذا هنا؛ لبيان أنه وجد الحديث عاليًا بدرجة على ما رواه عن مسلم؛ فإنه رواه عنه، عن أبي كريب، وهارون بن عبد الله كلاهما عن أبي أسامة، فوصل إلى أبي أسامة بواسطتين: مسلم، وشيخيه، وهنا وصل إليه بواسطة: الحسن بن بشر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3680]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ) الْحدثانيّ، هرويّ الأصل، أبو محمد، صدوق في نفسه، إلا أنه عَمِيَ، فصار يتلقّن ما ليس من حديثه، من قُدماء [10](ت 240) وله مائة سنة (م ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 87.

2 -

(حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ، قاضي الموصل، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

و"هشام بن عروة" تقدم قريبًا.

[تنبيه]: رواية عليّ بن مسهر، ساقها البخاريّ رحمه الله في "الطلاق" فقال:

(1)

"تهذيب التهذيب" 2/ 224.

ص: 120

(5268)

- حدّثنا فَرْوَة بن أبي الْمَغْرَاء، حدّثنا عليّ بن مُسْهِر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب العسل والحلواء، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه، فيدنو من إحداهنّ، فدخل على حفصة بنت عمر، فاحتبس أكثر ما كان يحتبس، فَغِرت، فسألت عن ذلك، فقيل لي: أَهدت لها امرأة من قومها عُكَّةً من عسل، فسَقَت النبيّ صلى الله عليه وسلم منه شربةً، فقلت: أما والله لنحتالنّ له، فقلت لسودة بنت زمعة: إنه سيدنو منك، فإذا دنا منك، فقولي: أكلت مغافير؟ فإنه سيقول لك: لا، فقولي له: ما هذه الريح التي أجد منك؟ فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة عسل، فقولي له: جَرَسَتْ نحله الْعُرْفُط، وسأقول ذلك، وقولي أنت يا صفية: ذاك، قالت: تقول سودة: فوالله ما هو إلا أن قام على الباب، فأردت أن أباديه بما أمرتني به؛ فَرَقًا منك، فلما دنا منها، قالت له سودة: يا رسول الله أكلت مغافير؟ قال: "لا"، قالت: فما هذه الريح التي أجد منك؟ قال: "سقتني حفصة شربة عسل"، فقالت: جَرَسَت نَحْلُهُ الْعُرْفُط، فلما دار إليّ، قلت له نحو ذلك، فلما دار إلى صفية، قالت له مثل ذلك، فلما دار إلى حفصة، قالت: يا رسول الله، ألا أسقيك منه؟ قال:"لا حاجة لي فيه"، قالت: تقول سودة: والله لقد حرمناه، قلت لها: اسكتي. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(4) - (بَابُ بَيَانِ أَنَّ تَخْيِيرَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ لَا يَكُونُ طَلَاقًا إِلَّا بِالنِّيَّةِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3681]

(1475) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ (ح) وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ، وَاللَّفْظُ لَهُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ؛ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا أُمِرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِتَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ بَدَأَ بِي، فَقَالَ:"إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا، فَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تَعْجَلِي، حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ"، قَالَتْ: قَدْ عَلِمَ أَنَّ أَبَوَيَّ

ص: 121

لَمْ يَكُونَا لِيَأْمُرَانِي بِفِرَاقِه، قَالَتْ: ثُمَّ قَالَ: "إِن اللهَ عز وجل قَالَ

(1)

: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)} [الأحزاب: 28، 29] "، قَالَتْ: فَقُلْتُ: فِي أَيِّ هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ فَإِنِّي أُرِيدُ اللهَ، وَرَسُولَهُ، وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، قَالَتْ: ثُمَّ فَعَلَ أَزْوَاجُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ مَا فَعَلْتُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن سَرْح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

2 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ) أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوق [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

4 -

(يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ) الأيليّ، أبو يزيد الأمويّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

5 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، تقدّم قبل بابين.

6 -

(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ مكثرٌ [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.

7 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، ذُكرت في الحديث الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان فصل بينهما بالتحويل.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، كما أسلفته آنفًا.

(1)

وفي نسخة: "قال لي".

ص: 122

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) الزهريّ المدنيّ (أَنَّ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (قَالَتْ: لَمَّا أُمِرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِتَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ) ورد في سبب هذا التخيير اختلاف الروايات، وسيأتي البحث فيه في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى -.

(بَدَأَ بِي) أي: بدأ بالدخول عليها حين كَمُل الشهر، وأراد الرجوع إلى أزواجه، وفيه فضل عائشة رضي الله عنها؛ لبداءته بها، كذا قرّره النوويّ رحمه الله.

قال الحافظ رحمه الله: لكن رَوَى ابن مردويه من طريق الحسن، عن عائشة رضي الله عنها أنها طلبت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبًا، فأمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يُخيّر نساءه: أَمَا عند الله تُردن، أم الدنيا؟ فإن ثبت هذا، وكانت هي السبب في التخيير، فلعلّ البداءة بها لذلك، لكن الحسن لم يسمع من عائشة، فهو ضعيف، وحديث جابر في أن النسوة كنّ يسألنه النفقة أصحّ طريقًا منه.

وإذا تقرّر أن السبب لم يتّحد فيها، وقُدّمت في التخيير دلّ على المراد، لا سيّما مع تقديمه لها أيضًا في البداءة بها في الدخول عليها. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ: "إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا، فَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تَعْجَلِي) أي: فلا بأس عليك في التأني، وعدم العجلة، حتى تشاوري أبويك (حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ) أي: تطلبي منهما أن يُبَيِّنا لك رأيهما في ذلك، ووقع في حديث جابر رضي الله عنه:"حتى تستشيري أبويك"، زاد محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن عائشة:"إني عارض عليك أمرًا، فلا تفتاتي فيه بشيء، حتى تَعْرِضيه على أبويك: أبي بكر، وأُمّ رُومان"، أخرجه أحمد، والطبريّ، ويستفاد منه أن أم رُومان كانت يومئذ موجودة، فيُرَدّ به على من زعم أنها ماتت سنة ست من الهجرة، فإن التخيير

(1)

"الفتح" 9/ 477 "كتاب التفسير".

ص: 123

كان في سنة تسع

(1)

.

قال النوويّ رحمه الله: وقوله صلى الله عليه وسلم: "فلا عليك أن لا تعجلي" معناه: ما يضرّك أن لا تعجلي، وإنما قال لها هذا شفقةً عليها، وعلى أبويها، ونصيحةً لهم في بقائها عنده صلى الله عليه وسلم، فإنه خاف أن يَحمِلها صغر سنّها، وقلّة تجاربها على اختيار الفراق، فيجب فراقها، فتتضرّر هي وأبواها، وباقي النسوة بالاقتداء بها.

وفي هذا الحديث: منقبة ظاهرة لعائشة، ثم لسائر أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وفيه المبادرة إلى الخير، وإيثار أمور الآخرة على الدنيا، وفيه نصيحة الإنسان صاحبه، وتقديمه في ذلك ما هو أنفع في الآخرة. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": قال العلماء: إنما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم عائشة أن تستأمر أبويها؛ خشيةَ أن يحملها صغر السنّ على اختيار الشقّ الآخر؛ لاحتمال أن لا يكون عندها من المَلَكة ما يدفع ذلك العارض، فإذا استشارت أبويها، أوضحا لها ما في ذلك من المفسدة، وما في مقابله من المصلحة، ولهذا لما فطنت عائشة لذلك قالت:"قد علم أن أبويّ لم يكونا يأمراني بفراقه"، ووقع في رواية عمرة، عن عائشة في هذه القصّة:"وخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم حداثتي"، وهذا شامل للتأويل المذكور. انتهى

(3)

.

(قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (قَدْ عَلِمَ) صلى الله عليه وسلم، وقولها:(أَنَّ أَبَوَيَّ) هذا هو الموافق للقواعد؛ لأن المثنّى يُجرّ، ويُنصب، بالياء، فإذا أضيف إلى ياء المتكلّم تدغم ياؤه في ياء المتكلّم، ووقع في بعض نسخ النسائيّ بلفظ "أن أبواي" بالألف، وَيحْتَمِل أن يكون له وجه صحيح، وهو أن يُخرّج على لغة من يُلزم المثنّى الألف في الأحوال كلها.

[فائدة]: ذكر ابن مالك قاعدةَ ما يُضاف إلى ياء المتكلم في "الخلاصة"، حيث قال:

آخِرَ مَا اُضِيفَ لِلْيَا اكْسِرْ إِذَا

لَمْ يَكُ مُعْتَلًّا كَرَامٍ وَقَذَى

أَوْ يَكُ كَابْنَيْنِ وَزيدِينَ فَذِي

جَمِيعُهَا الْيَا بَعْدُ فَتْحُهَا احْتُذِي

(1)

"الفتح" 10/ 499.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 78 - 79.

(3)

"الفتح" 9/ 477.

ص: 124

وَتُدْغَمُ الْيَا فِيهِ وَالْوَاوُ وَإِنْ

مَا قَبْلَ وَاو ضُمَّ فَاكْسِرْهُ يَهُنْ

وَأَلِفًا سَلِّمْ وَفِي الْمَقْصُورِ

عَنْ هُذَيْل انْقِلَابُهَا يَاءً حَسَنْ

(لَمْ يَكُونَا لِيَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ) تعني أنه صلى الله عليه وسلم إنما أمرها بعدم الاستعجال قبل استئمار أبويها؛ لأنه يعلم أنهما لا يريدان لها إلا الخير، فيختاران الله، ورسوله، والدار الآخرة لها، فيمنعانها من أن تختار نفسها عليه، بخلافها هي، فإنه ربما يدعوها صغرها، وعدم تجربتها الأمور إلى الميل للحظ الدنيوي العاجل، فتختار نفسها - أعاذها الله تعالى من ذلك - (قَالَتْ: ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ اللهَ عز وجل قَالَ) وفي نسخة: "قال لي" ({يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28)} [الأحزاب: 28]) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في "تفسيره": هذا أمر من الله تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يُخيّر نساءه بين أن يفارقهنّ، فيذهبن إلى غيره ممن يَحصُل لهنّ عنده الحياة الدنيا، وزينتها، وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال، ولهنّ عند الله تعالى في ذلك الثواب الجزيل، فاخترن رضي الله عنهن، وأرضاهنّ - اللهَ، ورسولَهُ، والدارَ الآخرةَ، فجمع الله تعالى لهنّ بعد ذلك بين خير الدنيا، وسعادة الآخرة. انتهى

(1)

.

({فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}) أي: أعطيكنّ حقوقكنّ، وأُطَلِّقُ سراحكنّ.

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وقد اختَلَف العلماء في جواز تزوّج غيره لهنّ لو طلّقهنّ على قولين: أصحّهما نعم لو وقع؛ ليحصل المقصود من السراح، والله أعلم.

قال عكرمة: وكان تحته صلى الله عليه وسلم يومئذ تسع نسوة: خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة - رضي الله تعالى عنهنّ - وكانت تحته صلى الله عليه وسلم صفية بنت حُيي النضِيريّة، وميمونة بنت الحارث الهلاليّة، وزينب بنت جحش الأسديّة، وجويرية بنت الحارث المصطلقيّة - رضي الله تعالى عنهنّ، وأرضاهنّ -

(2)

.

(1)

"تفسير ابن كثير" 3/ 489 "تفسير سورة الأحزاب".

(2)

"تفسير ابن كثير" 3/ 490، "تفسير سورة الأحزاب".

ص: 125

({وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)} [الأحزاب: 29]"، قَالَتْ: فَقُلْتُ: فِي أَيِّ هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟) في رواية محمد بن عمرو: "فقلت: فإني أريد الله، ورسوله، والدار الآخرة، ولا أؤامر أبويّ: أبا بكر، وأمّ رُومان، فضَحِك"، وفي رواية عمر بن أبي سلمة، عن أبيه عند الطبريّ: "فَفَرِحَ" (فَإِنِّي أُرِيدُ الله، وَرَسُولَهُ، وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، قَالَتْ: ثُمَّ فَعَلَ أَزْوَاجُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ مَا فَعَلْتُ) في رواية عُقيل: "ثم خَيَّر نساءه، فقلن مثل ما قالت عائشة"، زاد ابن وهب، عن يونس في روايته: "فلم يكن ذلك طلاقًا، حين قاله لهنّ، فاخترنه"، أخرجه الطبريّ.

وفي رواية محمد بن عمرو المذكورة: "ثم استَقْرَى الْحُجَر، يعني حُجَر أزواجه، فقال: إن عائشة قالت كذا، فقلن: ونحن نقول مثل ما قالت".

وقوله: "استَقْرَى الحجر" أي: تتبع، والْحُجَر - بضمّ المهملة، وفتح الجيم - جمع حُجْرة - بضمّ، ثم سكون - والمراد مساكن أزواجه صلى الله عليه وسلم.

وفي حديث جابر الآتي: أن عائشة لَمّا قالت: بل أختار الله، ورسوله، والدار الآخرة، قالت: يا رسول الله، وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلتُ، فقال: لا تسألني امرأة منهنّ إلا أخبرتها، إن الله لم يبعثني مُتَعنتًا، وإنما بعثني مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا".

وفي رواية معمر الآتية: قال معمر: فأخبرني أيوب، أن عائشة قالت: لا تخبر نساءك أني اخترتك، فقال:"إن الله أرسلني مُبَلِّغًا، ولم يرسلني مُتَعَنِّتًا". وهذا منقطع بين أيوب، وعائشة، ويشهد لصحته حديث جابر.

[تنبيه]: وقع في "النهاية"، "والوسيط" التصريح بأن عائشة رضي الله عنها أرادت أن يختار نساؤه الفراق، قال الحافظ: فإن كانا ذكراه فيما فهماه من السياق، فذاك، وإلا فلم أر في شيء من طرق الحديث التصريح بذلك

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

راجع: "الفتح" 9/ 477.

ص: 126

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 3681](1475)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4786) و"الطلاق"(5262 و 5264)، و (أبو داود) في "الطلاق"(2203)، و (الترمذيّ) في "الطلاق، واللعان"(1179) و"التفسير"(3204)، و (ابن ماجه) في "الطلاق"(2052 و 2053)، و (النسائيّ) في "الطلاق"(6/ 55 و 159) و"الكبرى"(3/ 260 و 261)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 163 و 185)، و (الدارميّ) في "سننه"(2269)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 160)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 163)، و (عبد بن حُميد)(1/ 431)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 36 - 37) و"المعرفة"(5/ 483)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(ومنها): أن فيه ملاطفة النبيّ صلى الله عليه وسلم لأزواجه، وحلمه، وصبره على ما كان يصدر منهنّ، من إدلال وغيره، مما يبعثه عليهنّ الغيرة.

2 -

(ومنها): أن فيه إشارةً إلى أن صغر السنّ مظنّة لنقص الرأي.

3 -

(ومنها): أن فيه منقبة عظيمة لعائشة رضي الله عنها، وبيان كمال عقلها، وصحّة رأيها مع صغر سنّها.

4 -

(ومنها): أن الغيرة تَحْمِل المرأة الكاملة الرأي والعقل على ارتكاب ما لا يليق بحالها؛ لسؤال عائشة رضي الله عنها النبيّ صلى الله عليه وسلم أن لا يُخبر أحدًا من أزواجه بفعلها، ولكنه صلى الله عليه وسلم لَمّا عَلِم أن الحامل على ذلك ما طُبع عليه النساء من الغيرة، ومحبّة الاستبداد، دون ضرائرها لم يُسعِفها بما طلبت من ذلك.

5 -

(ومنها): أن فيه منقبةً ظاهرةً لعائشة، ثم لسائر أمهات المؤمنين - رضي الله تعالى عنهنّ - حيث اخترن الله، ورسوله، والدارَ الآخرةَ، وبادرن إلى ذلك.

6 -

(ومنها): أن فيه المبادرةَ إلى الخير، وإيثارَ أمور الآخرة على الدنيا؛ لأن الله سبحانه وتعالى رتّب على ذلك ثوابًا عظيمًا، كما بيّنته الآية المذكورة، وكما في قوله عز وجل:{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)} [الإسراء: 19].

ص: 127

7 -

(ومنها): أنه ذكر بعض العلماء أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم تخيير أزواجه، واستند إلى هذه القصّة، ولا دلالة فيها على الاختصاص.

نعم ادّعَى بعض من قال: إن التخيير طلاق أنه في حقّ الأُمّة، واختصّ هو صلى الله عليه وسلم بأن ذلك في حقّه ليس بطلاق، لكن الصحيح أن التخيير ليس طلاقًا في حقّ أحد، كما سيأتي تحقيقه - إن شاء الله تعالى -.

8 -

(ومنها): أن بعضهم استدلّ به على ضعف ما جاء أن من الأزواج حينئذ من اختارت الدنيا، ففارقها، وهي فاطمة بنت الضحّاك، لعموم قول عائشة رضي الله عنها:"ثم فعل أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت".

وذكر ابن العربيّ عن ابن شهاب أن امرأة واحدة منهنّ اختارت نفسها، فذهبت، وكانت بدويّة، اسمها عمرة بنت يزيد الكلابيّة، اختارت الفراق، فذهبت، فابتلاها الله تعالى بالجنون، ويقال: إن أباها تركها ترعى غنمًا له، فصارت في طلب إحداهنّ، فلم يُعلم ما كان من أمرها إلى اليوم.

وذكر ابن سيّد الناس عن أبي عمر أن اسمها فاطمة بنت الضحّاك بن سفيان الكلابيّ، وذكر أنها كانت بعد ذلك تلتقط البعر، وتقول: أنا الشقيّة، اخترت الدنيا.

وهذه الروايات كلّها قد ردّ عليها ابن العربيّ في "أحكام القرآن"

(1)

، وابن سيّد الناس في "عيون الأثر"

(2)

، وقد أشبع القول في ذلك الحافظ في "الإصابة"

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف الروايات في سبب هذه نزول الآية الكريمة:

قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: سبب نزول آية التخيير فيما روى أبو بكر ابن مردويه في "تفسيره" من حديث الحسن مرسلًا أنّ عائشة رضي الله عنها، طلبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبًا، فأمر الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يُخيّر نساءه، أَمَا عند الله يُردن، أم الدنيا؟ وهذا مرسل.

(1)

راجع: "أحكام القرآن" لابن العربيّ 2/ 162.

(2)

راجع: "عيون الأثر" 2/ 310.

(3)

راجع: "الإصابة في تمييز الصحابة" 8/ 272 - 274.

ص: 128

لكن يشهد له حديث جابر عند مسلم، وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "وهنّ حولي كما ترى، يسألنني النفقة"، فقام أبو بكر إلى عائشة يَجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يَجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده؟ قلن: والله ما نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا أبدًا، ليس عنده، ثم اعتزلهنّ شهرًا، أو تسعًا وعشرين، ثم نزلت عليه هذه الآية:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} الآية، فذكر الحديث. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": ورد في سبب هذا التخيير ما أخرجه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه يعني الآتي آخر الباب -: "قال: دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم

" الحديث، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "هُنّ حولي كما ترى يسألنني النفقة"، يعني نساءه، وفيه: "ثم اعتزلهنّ شهرًا، ثم نزلت عليه هذه الآية:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} ، حتى بلغ {أَجْرًا عَظِيمًا} ، قال: فبدأ بعائشة"، فذكر نحو هذا الحديث.

ويأتي أيضًا في الباب التالي من طريق ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن ابن عباس، عن عمر، في قصة المرأتين اللتين تظاهرتا بطوله، وفي آخره حين أفشته حفصة إلى عائشة، وكان قد قال: "ما أنا بداخل عليهنّ شهرًا، من شِدّة مَوْجِدته عليهنّ، حتى عاتبه الله، فلما مضت تسع وعشرون دخل على عائشة، فبدأ بها، فقالت له: إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهرًا، وقد أصبحنا لتسع وعشرين ليلة أعُدّها عدًّا، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: الشهر تسع وعشرون، وكان ذلك الشهر تسعًا وعشرين، قالت عائشة: فأنزلت آية التخيير، فبدأ بي أول امرأة، فقال: إني ذاكر لك أمرًا، فلا عليك أن لا تعجلي

" الحديث، لفظ البخاريّ في "كتاب المظالم".

قال في "الفتح": وهذا السياق ظاهره أن الحديث كله من رواية ابن عباس، عن عمر، وأما المروي عن عائشة، فمن رواية ابن عباس عنها، وقد وقع التصريح بذلك فيما أخرجه ابن أبي حاتم، وابن مردويه، من طريق أبي

(1)

"طرح التثريب" 7/ 102 - 103.

ص: 129

صالح، عن الليث، بهذا الإسناد، إلى ابن عباس، قال: قالت عائشة: "أُنزلت آية التخيير، فبدأ بي

" الحديث.

لكن أخرج مسلم الحديث من رواية معمر، عن الزهريّ، ففصّله تفصيلًا حسنًا، وذلك أنه أخرجه بطوله إلى آخر قصة عمر في المتظاهرتين إلى قوله:"حتى عاتبه"، ثم عقّبه بقوله: قال الزهريّ: فأخبرني عروة، عن عائشة، قالت: لَمّا مضى تسع وعشرون، فذكر مراجعتها في ذلك، ثم عقّبه بقوله: قال: "يا عائشة إني ذاكر لك أمرًا، فلا عليكِ أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك

" الحديث.

فعُرف من هذا أن قوله: "فلما مضت تسع وعشرون" إلخ في رواية عُقَيل هو من رواية الزهريّ، عن عائشة بحذف الواسطة، ولعل ذلك وقع عن عمد، من أجل الاختلاف على الزهريّ في الواسطة بينه وبين عائشة في هذه القصة بعينها، كما بيّنه البخاريّ، وكأن من أدرجه في رواية ابن عباس مشى على ظاهر السياق، ولم يَفْطُن للتفصيل الذي وقع في رواية معمر.

وقد أخرج مسلم أيضا من طريق سماك بن الوليد، عن ابن عباس: حدّثني عمر بن الخطاب قال: لَمّا اعتَزَل النبيّ صلى الله عليه وسلم نساءه، دخلت المسجد

الحديث بطوله، وفي آخره: قال: وأنزل الله آية التخيير، فاتفق الحديثان على أن آية التخيير نزلت عقب فراغ الشهر الذي اعتزلهنّ فيه.

ووقع ذلك صريحًا في رواية عمرة، عن عائشة: قالت: لما نزل النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى نسائه أمر أن يخيرهنّ

الحديث، أخرجه الطبريّ، والطحاويّ.

واختلف الحديثان في سبب الاعتزال، ويمكن الجمع بأن تكون القضيتان جميعًا سبب الاعتزال، فإن قصة المتظاهرتين خاصة بهما، وقصة سؤال النفقة عامة في جميع النسوة، ومناسبة آية التخيير بقصة سؤال النفقة أليق منها بقصة المتظاهرتين. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: اختَلَف الصحابة رضي الله عنهم في أن التخيير في الآية، هل كان بين إقامتهنّ في عصمته، وفراقهنّ، أو بين أن يُبْسَط لهنّ في الدنيا، أو لا يبسط لهنّ فيها؟ فذهب إلى الأول عائشة،

ص: 130

وجابر رضي الله عنهما، وذهب إلى الثاني علي بن أبي طالب، وابن عبّاس رضي الله عنهم. ذكر ذلك والدي رحمه الله في "شرح الترمذيّ"، وقال: الأول أصحّ، وعائشة صاحبة القصّة، وهي أعرف بذلك، مع موافقة ظاهر القرآن؛ لقوله:{فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} ، وهو الطلاق. انتهى

(1)

.

وقال الحافظ رحمه الله: قال الماورديّ: اختُلِف هل كان التخيير بين الدنيا والآخرة، أو بين الطلاق والإقامة عنده؟ على قولين للعلماء، أشبههما بقول الشافعيّ الثاني، ثم قال: إنه الصحيح، وكذا قال القرطبيّ: اختُلِف في التخيير، هل كان في البقاء والطلاق، أو كان بين الدنيا والآخرة؟ انتهى.

قال الحافظ: والذي يظهر الجمع بين القولين؛ لأن أحد الأمرين ملزوم للآخر، وكأنهنّ خُيِّرن بين الدنيا، فيطلقهنّ، وبين الآخرة، فيمسكهنّ، وهو مقتضى سياق الآية.

قال: ثم ظهر لي أن محل القولين، هل فُوِّض إليهنّ الطلاق أم لا؟ ولهذا أخرج أحمد، عن عليّ قال: لم يخيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه إلا بين الدنيا والآخرة. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3682]

(1476) - (حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ مُعَاذَةَ الْعَدَوِيَّة، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَأْذِنُنَا، إِذَا كَانَ فِي يَوْمِ الْمَرْأَةِ مِنَّا بَعْدَمَا نَزَلَتْ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ}، فَقَالَتْ لَهَا مُعَاذَةُ: فَمَا كُنْتِ تَقُولِينَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اسْتَأْذَنَكِ؟ قَالَتْ: كُنْتُ أقولُ: إِنْ كَانَ ذَاكَ إِلَيَّ، لَمْ أُوثِرْ أَحَدًا عَلَى نَفْسِي).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ) بن إبراهيم، أبو الحارث البغداديّ، مروزيّ الأصل، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 235)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.

(1)

"طرح التثريب" 7/ 103.

(2)

راجع: "الفتح" 10/ 497 - 499 "كتاب التفسير" رقم (4786).

ص: 131

2 -

(عَبَّادُ بْنُ عَبَّادِ) بن حبيب بن الْمُهلَّب بن أبي صُفرة الأزديّ المهلّبيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ [7](ت 179) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

3 -

(عَاصِمُ) بن سليمان الأحول، أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقةٌ [4] مات بعد (140)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.

4 -

(مُعَاذَةُ الْعَدَوِيَّةُ) بنت عبد الله، أم الصهباء البصريّة، ثقةٌ [3](ع) تقدمت في "الحيض" 9/ 738.

و"عائشة رضي الله عنها " ذُكرت قبله.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رواته رواة الجماعة، سوى شيخه، كما أسلفته آنفًا.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، غير شيخه، فبغداديّ، وعائشة رضي الله عنها فمدنيّة.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّة، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَأْذِنُنَا) أي: يطلب إذننا (إِذَا كَانَ فِي يَوْمِ الْمَرْأَةِ مِنَّا) أي: إذا كان في اليوم الذي يكون فيه نوبتها إذا أراد أن يتوجّه إلى الأخرى (بَعْدَمَا نَزَلَتْ) هذه الآية الكريمة ({تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51]) تقدّم شرح الآية، وأقوال أهل العلم فيها في "كتاب الرضاع""باب جواز هبتها نوبتها لضرّتها"[14/ 3631](1464).

ومعنى كلام عائشة رضي الله عنها هذا أنه صلى الله عليه وسلم بعدما أنزلت هذه الآية الكريمة التي خيّرته بين إرجاء بعض أزواجه، وإيواء بعضهنّ لم يُرجئ أحدًا منهنّ، بل كان يَقْسِم لهنّ، وإذا أراد أن يذهب إلى غير صاحبة النوبة، استأذنها.

(فَقَالَتْ لَهَا) أي: لعائشة رضي الله عنها (مُعَاذَةُ) العدويّة (فَمَا) استفهاميّة؛ أي: أيَّ شيء (كُنْتِ تَقُولِينَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اسْتَأْذَنَكِ؟) في الذهاب إلى غيركِ في نوبتكِ (قَالَتْ: كُنْتُ أقولُ: إِنْ كَانَ ذَاكَ إِلَيَّ) أي: إن كان ما ذكرته من الإرجاء

ص: 132

والإيواء مفوَّضًا إليّ (لَمْ أُوثِرْ أَحَدًا عَلَى نَفْسِي) أي: لم أفضّل أحدًا من ضرائريّ على نفسي.

وإنما ذكّرت "أحدًا"؛ لأنه يُطلق على الذكر والأنثى، قال الفيّوميّ رحمه الله:"أحدٌ" أصله وَحَدٌ بالواو، فأبدلت الواو همزة، ويقع على الذكر والأنثى، وفي التنزيل:{يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} الآية [الأحزاب: 32]. انتهى

(1)

.

قال النوويّ رحمه الله: قولها: "إن كان ذلك إليّ لم أُوثر على نفسي أحدًا" هذه المنافسة فيه صلى الله عليه وسلم ليست لمجرد الاستمتاع، ولمطلق العِشرة، وشهوات النفوس، وحظوظها التي تكون من بعض الناس، بل هي منافسة في أمور الآخرة، والقرب من سيد الأولين والآخرين، والرغبة فيه، وفي خدمته، ومعاشرته، والاستفادة منه، وفي قضاء حقوقه وحوائجه، وتوقع نزول الرحمة والوحي عليه عندها، ونحو ذلك، ومثل هذا حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقوله في القدح:"لا أُوثر بنصيبي منك أحدًا"، ونظائر ذلك كثيرةٌ. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 3682 و 3683](1476)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4789)، و (أبو داود) في "النكاح"(2136)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 301 - 302)، وأحمد في "مسنده"(6/ 76)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4206)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 157)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(6/ 246)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 74)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): مشروعيّة استئذان الزوجات لمن أراد أن يأتي زوجة في غير نوبتها.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 650.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 79.

ص: 133

2 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من حسن العشرة وكريم الملاطفة لأزواجه؛ لأنه لا يجب عليه القَسْم على الصحيح، ومع ذلك كان يقسم لهنّ، ولا يترك ذلك، مع أن الآية الكريمة أباحت له ذلك.

3 -

(ومنها): أن القائلين بوجوب القسم عليه صلى الله عليه وسلم احتجوا بهذا الحديث، ولكن الأرجح أنه لا يدلّ عليه؛ لأنه إنما كان يستأذنهنّ من باب حسن المعاملة، فتنبّه.

4 -

(ومنها): بيان شدّة حبّ عائشة رضي الله عنها له صلى الله عليه وسلم بحيث إنها لا تؤثر بنصيبها منه غيرها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3683]

(

) - (وَحَدَّثنَاه الْحَسَنُ بْنُ عِيسَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَك، أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(الْحَسَنُ بْنُ عِيسَى) بن ماسَرْجِس، أبو عليّ النيسابوريّ، ثقةٌ [10](ت 24 - )(م د س) تقدم في "المقدمة" 6/ 101.

2 -

(ابْن الْمُبَارَكِ) هو: عبد الله الحنظليّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ جواد، مجاهدٌ، جُمعت فيه خصال الخير [8](ت 181)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 32.

و"عاصم" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية ابن المبارك، عن عاصم الأحول هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(4789)

- حدّثنا حِبّان بن موسى، أخبرنا عبد الله، أخبرنا عاصم الأحول، عن مُعاذة، عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستأذن في يوم المرأة مِنّا بعد أن أُنزلت هذه الآية: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب: 51]، فقلت لها: ما كنتِ تقولين؟ قالت: كنت أقول له: إن كان ذاك إليّ، فإني لا أُريد يا رسول الله أن أُوثر عليك أحدًا. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 134

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3684]

(1477) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْثَرٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: قَدْ خَيَّرَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ نَعُدَّهُ طَلَاقًا)

(1)

.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(عَبْثَرُ) بن القاسم الزُّبيديّ، أبو زُبيد - بالضمّ فيهما - الكوفيّ، ثقةٌ [8] [179) (ع) تقدم في "الإيمان" 48/ 305.

3 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ) البجليّ الأحمسيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 299.

4 -

(الشَّعْبِيُّ) عامر بن شراحيل، أبو عمرو الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ مشهور [3] مات بعد المائة، وله نحو من ثمانية سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

5 -

(مَسْرُوقُ) بن الأجدع بن مالك الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو عائشة الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ مخضرمٌ [2](ت 2 أو 63)(ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 217.

و"عائشة رضي الله عنها " ذُكرت قبله.

شرح الحديث:

(عَنْ مَسْرُوقِ) بن الأجدع رحمه الله أنه (قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها (قَدْ خَيَّرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: لَمّا نزلت آية التخيير، كما تقدّم قبل حديثين (فَلَمْ نَعُدَّهُ) بنون المتكلّم، وفي بعض النسخ:"فلم يعُدّه" بياء الغائب، والضمير للنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أي: لم يعدّ ذلك التخيير (طَلَاقًا)، وفي رواية:"فلم يكن طلاقًا"، وفي رواية:"فاخترناه، فلم يعدّه طلاقًا"، وفي رواية:"فاخترناه، فلم يعددها علينا شيئًا"، وفي بعض النسخ:"فلم يعُدّها علينا شيئًا"، وكلها عند المصنّف هنا، وفيه أن من خيّر زوجته، فاختارته لم يكن ذلك طلاقًا، ولا يقع به الفُرقة.

قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: فيه أن من خيّر زوجته، فاختارته لم يكن

(1)

وفي نسخة: "فلم يعدّه طلاقًا".

ص: 135

ذلك طلاقًا، ولم تقع به فُرقةٌ، وقد صرّحت بذلك عائشة رضي الله عنها بقولها:"خيّرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يعدّه طلاقًا"، وفي لفظ:"فلم يكن طلاقًا"، وفي لفظ:"فلم يعُدّه علينا شيئًا"، وفي لفظ:"أفكان طلاقًا؟ "، وكلّ هذه الألفاظ في "الصحيح"، من رواية مسروق عنها، وبه قال جمهور العلماء، من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم، وهو مذهب الأئمّة الأربعة، وممن قال به: عمر، وابن مسعود، وأبو الدرداء، وابن عبّاس رضي الله عنهم، وغيرهم، ووراء ذلك قولان شاذّان:

[أحدهما]: أنه يقع بذلك طلقةٌ رجعيّة، وهو محكيّ عن عليّ رضي الله عنه.

[والثاني]: أنه تقع به طلقة بائنة، وهو محكيّ عن زيد بن ثابت. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله باختصار

(1)

، وسيأتي تحقيق الخلافات في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى - والئه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 3684 و 3685 و 3686 و 3687 و 3688 و 3689](1477)، و (البخاريّ) في "الطلاق"(5262 و 5263)، و (أبو داود) في "النكاح"(2203)، و (الترمذيّ) في "الطلاق"(1179)، و (النسائيّ) في "الطلاق"(6/ 56 و 160 و) و"الكبرى"(3/ 363)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 88)، و (أحمد) في "مسنده"(645 و 47 و 97 و 170 و 173 و 202 و 205 و 239 و 240)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 215)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 161 و 162)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 157)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 184)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(1/ 425)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 50 و 87)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 345) و"الصغرى"(6/ 343)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم من خيّر امرأته:

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 103 - 104.

ص: 136

ذهب جمهور أهل العلم من الصحابة، والتابعين، وفقهاء الأمصار إلى ما قالته عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث، وهو أن من خيّر امرأته، فاختارته، لا يقع عليه بذلك طلاق، واختلفوا فيما إذا اختارت نفسها، هل يقع طلقة واحدة رجعيّة، أو بائنًا، أو يقع ثلاثًا؟ وحكى الترمذيّ عن عليّ رضي الله عنه: إن اختارت نفسها فواحدةٌ بائنةٌ، وإن اختارت زوجها فواحدةٌ رجعيّةٌ، وعن زيد بن ثابت رضي الله عنهما: إن اختارت نفسها فثلاثٌ، وإن اختارت زوجها فواحدة بائنة، وعن عمر، وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما: إن اختارت نفسها فواحدةٌ بائنةٌ، وعنهما: رجعيّةٌ، وإن اختارت زوجها فلا شيء.

ويؤيّد قول الجمهور من حيث المعنى: أن التخيير ترديدٌ بين شيئين، فلو كان اختيارها لزوجها طلاقًا لاتّحدا، فدلّ على أن اختيارها لنفسها بمعنى الفراق، واختيارها لزوجها بمعنى البقاء في العصمة.

وقد أخرج ابن أبي شيبة من طريق زاذان، قال: كنّا جلوسًا عند عليّ رضي الله عنه، فسُئل عن الخيار؟ فقال: سألني عنه عمر؟ فقلت: إن اختارت نفسها فواحدةٌ بائنٌ، وإن اختارت زوجها فواحدةٌ رجعيّةٌ، قال: ليس كما قلت، إن اختارت زوجها فلا شيء، قال: فلم أجد بُدًّا من متابعته، فلما وليت رجعت إلى ما كنت أعرف، قال عليّ: وأرسل عمر إلى زيد بن ثابت، فقال

فذكر مثل ما حكاه عنه الترمذيّ.

وأخرج ابن أبي شيبة من طرق عن عليّ رضي الله عنه نظير ما حكاه عنه زاذان من اختياره.

وأخذ مالك بقول زيد بن ثابت، واحتجّ بعض أتباعه لكونها إذا اختارت نفسها تقع ثلاثًا بأن معنى الخيار بتّ أحد الأمرين، إما الأخذ، وإما الترك، فلو قلنا: إذا اختارت نفسها يكون طلقةً رجعيّة لم يعمل بمقتضى اللفظ؛ لأنها تكون بعدُ في أسر الزوج، وتكون كمن خُيِّرَ فاختار غيرهما.

وأخذ أبو حنيفة بقول عمر، وابن مسعود فيما إذا اختارت نفسها، فواحدةٌ بائنةٌ، ولا يَرِدُ عليه الإيراد السابق.

وقال الشافعيّ: التخيير كناية، فإذا خيّر الزوج امرأته، وأراد بذلك تخييرها بين أن تطلّق منه، وبين أن تستمرّ في عصمته، فاختارت نفسها،

ص: 137

وأرادت بذلك الطلاق طلّقت، فلو قالت: لم أرد باختيار نفسي الطلاق صُدّقت.

قال الحافظ: ويؤخذ من هذا أنه لو وقع التصريح في التخيير بالتطليق أن الطلاق يقع جزمًا، نبّه على ذلك شيخنا الحافظ أبو الفضل العراقيّ في "شرح الترمذيّ".

ونبّه صاحب "الهداية" من الحنفيّة على اشتراط ذكر النفس في التخيير، فلو قال مثلًا: اختاري، فقالت: اخترتُ لم يكن تخييرًا بين الطلاق وعدمه، وهو ظاهر، لكن محلّه الإطلاق، فلو قصد ذلك بهذا اللفظ ساغ، وقال صاحب "الهداية" أيضًا: إن قال: اختاري ينوي به الطلاق، فلها أن تطلّق نفسها، ويقع بائنًا، فلو لم ينو فهو باطلٌ، وكذا لو قال: اختاري، فقالت: اخترتُ، فلو نوى، فقالت: اخترت نفسي وقعت طلقةٌ رجعيّة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأرجح ما قاله عمر، وابن مسعود رضي الله عنهما، وهو أنها إن اختارت زوجها، فلا شيء، وإن اختارت نفسها فهي طلقة واحدة؛ لحديث عائشة رضي الله عنها المذكور في الباب وسيأتي وَجْهُ الاستدلال في المسألة التالية، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): قال الخطّابيّ رحمه الله: يؤخذ من قول عائشة رضي الله عنها: "فاخترناه، فلم يكن ذلك طلاقًا" أنها لو اختارت نفسها لكان ذلك طلاقًا، ووافقه القرطبيّ في "المفهم"، فقال: في الحديث أن المخيّرة إذا اختارت نفسها أن نفس ذلك الاختيار يكون طلاقًا من غير احتياج إلى نطق بلفظ يدلّ على الطلاق، قال: وهو مقتبسٌ من مفهوم قول عائشة المذكور.

قال الحافظ: لكن ظاهر الآية أن ذلك بمجرّده لا يكون طلاقًا، بل لا بدّ من إنشاء الزوج الطلاق؛ لأن فيها:{فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} الآية، أي: بعد الاختيار، ودلالة المنطوق مقدّمةٌ على دلالة المفهوم. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أنه لا تخالف بين الدلالتين؛ إذ التسريح المراد به أن يخلي سبيلها، ولا يتعرض لها بعد اختيار نفسها؛ لكونه

(1)

راجع: "الفتح" 12/ 41 - 42 "كتاب الطلاق" رقم (5262).

ص: 138

طلاقًا، لا أنه يحتاج إلى أن يطلقها، فلا يخالف مفهومُ حديث عائشة منطوق الآية. فَتَأَمَّلْ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): اختلفوا في التخيير، هل هو بمعنى التمليك، أو بمعنى التوكيل؟ وللشافعيّ فيه قولان: المصحّح عند أصحابه أنه تمليكٌ، وهو قول المالكيّة بشرط مبادرتها له، حتى لو أخّرت بقدر ما ينقطع القبول عن الإيجاب في العقد، ثم طلّقت لم يقع، وفي وجه: لا يضرّ التأخير ما داما في المجلس، وبه جزم ابن القاصّ، وهو الذي رجّحه المالكيّة، والحنفيّة، وهو قول الثوريّ، والليث، والأوزاعيّ، وقال ابن المنذر: الراجح أنه لا يتقيّد، ولا يشترط فيه الفور، بل متى طلّقت نفذ، وهو قول الحسن، والزهريّ، وبه قال أبو عبيد، ومحمد بن نصر، من الشافعيّة، والطحاويّ من الحنفيّة، وتمسّكوا بقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: "إني ذاكرٌ لك أمرًا، فلا تعجلي حتى تستأمري أبويك

" الحديث، فإنه ظاهرٌ في أنه فسّح لها إذ أخبرها أن لا تختار شيئًا حتى تستأذن أبويها، ثم تفعل ما يشيران به عليها، وذلك يقتضي عدم اشتراط الفور في جواب التخيير.

قال الحافظ: ويمكن أن يقال: يشترط الفور، أو ما داما في المجلس عند الإطلاق، فأما لو صرّح الزوج بالفسحة في تأخيره بسبب يقتضي ذلك، فيتراخى، وهذا الذي وقع في قصّة عائشة رضي الله عنها، ولا يلزم من ذلك أن يكون كلّ خيار كذلك. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي ذكره الحافظ من الإمكان فيه نظر لا يخفى، بل الظاهر ما قاله الحسن، والزهريّ، وأبو عبيد، والطحاويّ، واختاره ابن المنذر - رحمهم الله تعالى - من عدم التقييد في التخيير، كما هو ظاهر حديث الباب، فليُتأمّل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3685]

(

) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْن أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَن الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: مَا أُبَالِي خَيَّرْتُ

ص: 139

امْرَأَتِي وَاحِدَةً، أَوْ مِائَةً، أَوْ أَلْفًا، بَعْدَ أَنْ تَخْتَارَنِي، وَلَقَدْ سَأَلْتُ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: قَدْ خَيَّرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أفَكَانَ طَلَاقًا؟).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) تقدّم في الباب الماضي.

والباقون ذُكروا قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3686]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَن الشَّعْبِيّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيرَ نِسَاءَهُ، فَلَمْ يَكُنْ طَلَاقًا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) المعروف ببندار، تقدّم قبل بابين.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغندر، تقدّم أيضًا قبل بابين.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجاج الإمام الشهير، تقدّم أيضًا قبل بابين.

والباقون ذُكروا في الباب.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3687]

(

) - (وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَن، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَل، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَن الشَّعْبِيّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَيَّرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَاخْتَرْنَاهُ، فَلَمْ يَعُدَّهُ

(1)

طَلَاقًا).

(1)

وفي نسخة: "نعدّه" بالنون.

ص: 140

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الكوسج، تقدّم قبل بابين

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن مهديّ بن حسّان الْعَنْبريّ، أبو سعيد البصريّ الإمام الحجة الثبت الناقد البصير [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.

3 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، أبو عبد اللُّه الكوفيّ، ثقةٌ حافظ فقيهٌ عابد إمام حجة من رؤوس [7](161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (فَلَمْ يَعُدَّهُ) بالياء التحتانيّة، وفي بعض النسخ:"فلم نعدّه" بالنون.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3688]

(

) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَن الْأَعْمَش، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَيَّرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَاخْتَرْنَاهُ، فَلَمْ يَعْدُدْهَا عَلَيْنَا شَيْئًا).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(أَبُو مُعَاوَيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِم في حديث غيره، من كبار [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

3 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهران الكاهليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ حافظ عارف بالقراءة ورع، لكنه يدلّس [5](ت 7 أو 148)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.

4 -

(مُسْلِمُ) بن صُبيح الْهَمْدانيّ، أبو الضُّحى الكوفيّ العطّار، ثقةٌ فاضلٌ [4](ت 100)(ع) تقدم في "الطهارة" 22/ 635.

ص: 141

والباقون ذُكروا في الباب.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3689]

(

) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَن الْأَسْوَد، عَنْ عَائِشَةَ، وَعَن الْأَعْمَش، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ) سليمان بن داود، تقدّم قبل بابين.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ) بن مُرّة الْخُلْقَانيّ

(1)

، أبو زياد الكوفيّ، لقبه شَقُوصَا

(2)

، صدوقٌ يُخطئ قليلًا [8](ت 194) أو قبلها (ع) تقدّم في "المقدّمة" 5/ 27.

3 -

(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ، ثقةٌ فقيه، يرسل كثيرًا [5](ت 96)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.

4 -

(الْأَسْوَدُ) بن يزيد بن قيس النخعيّ، أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقة مكثرٌ فقيهٌ مخضرم [2](4 أو 75)(ع) تقدم في "الطهارة" 32/ 674.

والباقون ذُكروا قبله، و"مسلم" هو: ابن صُبيح، المكنى بأبي الضحى.

[تنبيه]: رواية إسماعيل بن زكريّاء، عن الأعمش ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" 4/ 158 فقال:

(3485)

- وثنا عبد الله بن محمد، ومحمد بن إبراهيم، قالا: ثنا أحمد بن عليّ، ثنا أبو الربيع سليمان

(3)

بن داود، ثنا إسماعيل بن زكريا، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت:"خَيَّرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاخترناه، فلم يجعل ذلك طلاقًا". انتهى.

(1)

بضمّ الخاء المعجمة، وسكون اللام، بعدها قاف.

(2)

بفتح الشين المعجمة، وضمّ القاف الخفيفة، وبالصاد المهملة.

(3)

وقع في النسخة: "ابن سليمان" بزيادة لفظة "ابن"، وهو غلط بلا شكّ، فتنبّه.

ص: 142

ورواية الأعمش، عن مسلم

(1)

ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(4962)

- حدّثنا عُمَرُ بن حَفْصٍ، حدّثنا أبي، حدّثنا الْأَعْمَشُ، حدّثنا مُسْلِمٌ، عن مَسْرُوقٍ، عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت:"خَيَّرَنَا رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَاخْتَرْنَا اللهَ وَرَسُولَهُ، فلم يَعُدَّ ذلك عَلَيْنَا شيئًا". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3690]

(1478) - (وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ، يَسْتَأْذِنُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَجَدَ النَّاسَ جُلُوسًا بِبَابِه، لَمْ يُؤْذَنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ، قَالَ: فَأُذِنَ لِأَبِي بَكْرٍ، فَدَخَلَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ، فَاسْتَأْذَنَ، فَأُذِنَ لَهُ، فَوَجَدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا، حَوْلَهُ نِسَاؤُهُ، وَاجِمًا سَاكِتًا، قَالَ: فَقَالَ: لَأَقُولَنَّ شَيْئًا أُضْحِكُ

(2)

النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، لَوْ رَأَيْتَ بِنْتَ خَارِجَةَ سَأَلَتْنِي النَّفَقَةَ، فَقُمْتُ إِلَيْهَا، فَوَجَأْتُ عُنُقَهَا، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ:"هُنَّ حَوْلِي، كَمَا تَرَى، يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ"، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عَائِشَةَ، يَجَأُ عُنُقَهَا، فَقَامَ عُمَرُ إِلَى حَفْصَةَ، يَجَأُ عُنُقَهَا، كِلَاهُمَا يَقُولُ: تَسْأَلْنَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَيْسَ عِنْدَهُ؟ فَقُلْنَ

(3)

: وَاللهِ لَا نَسْأَلُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا أَبَدًا، لَيْسَ عِنْدَهُ. ثُمَّ اعْتَزَلَهُنَّ شَهْرًا، أَوْ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، ثُمَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} ، حتى بلغ:{لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28، 29]، قَالَ: فَبَدَأَ بِعَائِشَةَ، فَقَالَ:"يَا عَائِشَةُ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَعْرِضَ عَلَيْكِ أَمْرًا، أُحِبُّ أَنْ لَا تَعْجَلِي فِيه، حَتَّى تَسْتَشِيرِي أَبَوَيْكِ"، قَالَتْ: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَتَلَا عَلَيْهَا الْآيَةَ، قَالَتْ: أَفِيكَ يَا رَسُولَ اللهِ أَسْتَشِيرُ أَبَوَيَّ؟ بَلْ أَخْتَارُ اللهَ، وَرَسُولَهُ، وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، وَأَسْأَلُكَ أَنْ

(1)

هو أبو الضحى مسلم بن صُبَيح.

(2)

وفي نسخة: "يضحك".

(3)

وفي نسخة: "قلن".

ص: 143

لَا تُخْبِرَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِكَ بِالَّذِي قُلْتُ، قَالَ:"لَا تَسْأَلُنِي امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ، إِلَّا أَخْبَرْتُهَا، إِنَّ اللهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا، وَلَا مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا، مُيَسِّرًا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(رَوْحُ بْنُ عُبَادَةً) القَيسيّ، تقدّم قبل باب.

3 -

(زَكرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ) المكيّ، ثقةٌ، رُمي بالقدر [6](ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 130.

4 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس، تقدّم قبل بابين.

5 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، تُوفي بعد السبعين، وهو ابن (94) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أن فيه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، غزا تسع عشرة غزوة مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن المعمّرين، وهو أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما، وفي رواية أبي عوانة في "مسنده": "حدّثنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول

"، فصرّح بالسماع، فزالت تهمة التدليس، والحمد لله، وقد تجرّأ بعض من علّق على مسلم بضعف هذا الإسناد، بسبب عنعنته، وهو عجيب، فليُتنبّه. (قَالَ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه (يَسْتَأْذِنُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَجَدَ النَّاسَ جُلُوسًا) جمع جالس، منصوب على الحال (بِبَابِهِ) صلى الله عليه وسلم (لَمْ يُؤْذَنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ) وفي رواية أبي عوانة في "مسنده": "مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا لم يخرج، قال: فحضر الناس المسجد ينتظرونه، قال: فجاء أبو بكر وعمر، فقالوا: لو أن أبا بكر استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستأذن أبو

ص: 144

بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَرُدّ، ثم استأذن عمر، فرُدّ، فجلسا مع الناس ساعةً، فقال القوم لأبي بكر: عُدْ، فعاد أبو بكر، فاستأذن، فأُذن له، ثم استأذن عمر، فأُذن له، فدخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونساؤه كلّهنّ حوله، وهو ناكسٌ رأسه، ثم رفع إليهم بصره، فقال عمر: يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد سألتني آنفًا الكسوة والنفقة، فعَمدت إليها، فوجأت رقبتها وَجْأةً خرّت منها، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدا ناجذه، ثم قال:"والله ما حبسني عنكم منذ اليوم إلا أنهنّ يسألنني النفقة والكسوة، وليست عندي"، قال: فقام أبو بكر إلى عائشة، فرفع يده ليضربها، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام عمر إلى حفصة ليضربها، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قالا: أتسألان رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده؟ فقلن: والله لا نسأله شيئًا بعد اليوم يشقّ عليه، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا، وخرجا معه، فأُذِّن بالصلاة، فصلى، ثم نزل التخيير:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)} [الأحزاب: 28، 29]

" الحديث.

(قَالَ) جابر رضي الله عنه (فَأُذِنَ) بالبناء للمفعول (لِأَبِي بَكْرٍ، فَدَخَلَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ، فَاسْتَأْذَنَ، فَأُذِنَ لَهُ، فَوَجَدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا، حَوْلَهُ نِسَاؤُهُ) جملة حاليّة بعد حال، وكذا قوله:"واجمًا ساكتًا".

قال القاري: قوله: "حوله نساؤه" لعل هذا قبل نزول الحجاب، وتعقّبه بعضهم بأن التخيير كان سنة تسع بعد نزول الحجاب، ويجاب عن دخول أبي بكر وعمر على أمهات المؤمنين بأنه لا يلزم منه رفع الحجاب، وَيحتَمِل أن يكنّ مرتديات

(1)

، والله تعالى أعلم.

(وَاجِمًا سَاكِتًا) والواجم بالجيم، هو الذي اشتدّ حزنه حتى أمسك عن الكلام، يقال: وَجَمَ - بفتح الجيم - وُجُومًا، قاله النوويّ، وقال الفيّوميّ: وَجَمَ من الأمر يَجِمُ وُجُومًا: أمسك عنه، وهو كارهٌ. انتهى

(2)

، فعطفُ "ساكتًا" عليه من عطف المؤكِّد على المؤكَّد.

(قَالَ) جابر (فَقَالَ) عمر بن الخطّاب، كما صرّح به أبو عوانة في

(1)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 1/ 175.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 649.

ص: 145

روايته

(1)

، وكذا صرّح الإمام أحمد به في "مسنده"

(2)

، فلا التفات إلى ما رجحه في "تكملة فتح الملهم" من أن القائل هو أبو بكر، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(لَأَقُولَنَّ شَيْئًا أُضْحِكُ) وفي نسخة: "يُضحك"(النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، لَوْ رَأَيْتَ بِنْتَ خَارِجَةَ) هكذا الرواية هنا، وقد تعقّب هذا صاحب "التنبيه"، فقال: هذا فيه نظرٌ، فإن بنت خارجة تحت الصدّيق، لا تحت عمر، وفي "مسند أحمد":"لو رأيت ابنة زيد - امرأة عمر"، وكذلك أخرجه أبو عوانة في "مستخرجه على مسلم". انتهى

(3)

.

(سَأَلَتْنِي النَّفَقَةَ، فَقُمْتُ إِلَيْهَا، فَوَجَأْتُ) بالجيم، والهمزة، يقال: وَجَأَ يَجَأُ: إذا طعن، قاله النوويّ، وقال المجد: وَجَأَهُ باليد، والسكّين، كوضعه: ضَرَبه، كتوَجَّأَهُ. انتهى

(4)

، وقال الفيّوميّ: وَجَأتُهُ أَوْجَؤُهُ مهموزٌ، من باب نَفَعَ، ورُبّما حُذفت الواو في المضارع، فقيل: يَجَا، كما قيل في: يَسَعُ، ويَطَأُ، وَيهَبُ، وذلك إذا ضربته بسكّين ونحوه في أيّ موضع كان، والاسم الْوِجَاءُ، مثلُ كِتاب. انتهى

(5)

.

(عُنُقَهَا) بضمّتين: الرقبة، وهو مذكّر، وأهل الحجاز يؤنثونه، والنون مضمومة للإتباع في لغة الحجاز، وساكنة في لغة تميم، والجمع: أعناق

(6)

.

(فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: "هُنَّ) يعني أزواجه (حَوْلِي، كَمَا تَرَى، يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ") يعني زيادة النفقة على المقدار المعتاد، وإلا فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعزل نفقة أهله سنة، كما أخرجه الشيخان وغيرهما

(7)

.

وقال في "العمدة": قيل: إنهنّ اجتمعن يومًا، فقلن: نريد ما تريد النساء من الحليّ، حتى قال بعضهنّ: لو كنا عند غير النبيّ صلى الله عليه وسلم لكان لنا شأن، وثياب، وحُلِيّ، وقيل: إن كل واحدة طلبت منه شيئًا، فكان غير مستطيع،

(1)

راجع: "مسند أبي عوانة" 3/ 174 - 175.

(2)

راجع: "المسند" 3/ 328 و 342.

(3)

"تنبيه المعلم" ص 248.

(4)

"القاموس المحيط" 1/ 31.

(5)

"المصباح المنير" 2/ 649 - 650.

(6)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 432.

(7)

"تكملة فتح الملهم" 1/ 176.

ص: 146

فطلبت أم سلمة مُعْلَمًا، وميمونة حُلّةً يمانية، وزينب ثوبًا مخططًا، وهو البُرد اليمانيّ، وأم حبيبة ثوبًا سُحُوليًا، وحفصة ثوبًا من ثياب مصر، وجويرية مِعْجَرًا، وسودة قطيفة خيبرية، إلَّا عائشة رضي الله عنها، فلم تطلب شيئًا. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا ذكر العينيّ في "عمدة القاري"، ولم يسنده، ومثل هذا يحتاج إلى تبيّن إسناده، فتأمل، والله تعالى أعلم.

(فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه (إِلَى عَائِشَةَ) بنته رضي الله عنها (يَجَأُ) تقدّم آنفًا أنه مما حُذف واوه؛ إذ أصله "يَوْجَأ"(عُنُقَهَا) تقدّم في رواية أبي عوانة أنه صلى الله عليه وسلم أمسك، أي: أمسك بيده لئلا يضرب (فَقَامَ عُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله عنه (إِلَى حَفْصَةَ) بنته رضي الله عنها (يَجَأُ عُنُقَهَا) تقدّم أيضًا أنه صلى الله عليه وسلم أمسكه، وفي رواية أحمد:"فنهاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم "(كِلَاهُمَا يَقُولُ: تَسْأَلْنَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بتقدير أداة الاستفهام، وهو للإنكار والتوبيخ؛ أي: أتسألنه (مَا لَيْسَ عِنْدَهُ؟) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا الفعل من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بابنتيهما مبالغة في تأديبهما، وكذلك غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهنّ، وهِجرانه لهنّ إنما كان مبالغة في أدبهنّ، فإنهنّ كنّ كثّرن عليه، وتبسّطن عليه تبسّطًا تعدّين فيه ما يليق بالنبيّ صلى الله عليه وسلم من احترامه، وإعظامه، وكان ذلك منهنّ بسبب حسن معاشرته، ولين خُلُقه، وربّما امتدّت أعين بعضهنّ إلى شيء من متاع الدنيا، ولذلك أمر الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم بأن يُخيّرهنّ بين إرادة زينة الدنيا، وإرادة وجه الله تعالى، وما عنده، فاخترن الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، والدار الآخرة، ولم يكن فيهنّ من تَوَقّفت في شيء من ذلك، ولا تردّدت فيه؛ لأنهنّ مختارات لمختار، وطيّبات لطيّب، سلام الله تعالى عليهنّ أجمعين. انتهى

(2)

.

(فَقُلْنَ) وفي نسخة: "قُلْنَ"(وَاللهِ لَا نَسْأَلُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا أَبَدًا، لَيْسَ عِنْدَهُ. ثُمَّ اعْتَزَلَهُنَّ) أي: حلف أن لا يدخل عليهنّ (شَهْرًا) هذا على تقدير كمال الشهر (أَوْ تِسْعًا وَعِشْرِينَ) أي: على تقدير نقصانه، وهو الواقع في القصّة.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أو تسعًا وعشرين" ظاهره شكّ من الراوي،

(1)

"عمدة القاري" 19/ 117.

(2)

"المفهم" 4/ 255 - 256.

ص: 147

وسيأتي حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما أنه اعتزلهنّ تسعًا وعشرين، وهو الصحيح. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} حتى بلغ {لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}، قَالَ) جابر رضي الله عنه (فَبَدَأَ) صلى الله عليه وسلم التخيير (بِعَائِشَةَ) رضي الله عنها (فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَعْرِضَ) بكسر الراء، من باب ضرب (عَلَيْكِ أَمْرًا، أُحِبُّ أَنْ لَا تَعْجَلِي فِيه، حَتَّى تَسْتَشِيرِي أَبَوَيْك، قَالَتْ: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَتَلَا عَلَيْهَا الْآيَةَ، قَالَتْ: أَفِيكَ) الاستفهام إنكاريّ (يَا رَسُولَ اللهِ أَسْتَشِيرُ أَبَوَيَّ؟ بَلْ أَخْتَارُ اللهَ) سبحانه وتعالى (وَرَسُولَهُ) صلى الله عليه وسلم (وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، وَأَسْأَلُكَ أَنْ لَا تُخْبِرَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِكَ بِالَّذِي قُلْتُ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا قول أخرجته غَيْرتها، وحرصها على انفرادها بالنبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى.

(قَالَ: "لَا تَسْأَلُنِي امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ، إِلَّا أَخْبَرْتُهَا، إِنَّ اللهَ لَمْ يَبْعَثْنِيٍ مُعَنِّتًا) أي: مشدّدًا على الناس، ومُلزمًا إياهم ما يصعُب عليهم (وَلَا مُتَعَنِّتًا) أي: طالبًا زلّتهم، ورواية أحمد:"معنّفًا"، والمعاني متقاربة، فأما المعنّت: فهو من عنّته: إذا شدّد عليه، وألزمه ما يصعُب عليه أداؤه، والْمُتعنّت: هو الذي يطلب زلّة غيره، كما في "القاموس"، وأما التعنيف: فهو التشديد والتوبيخ، كما في "مجمع البحار" وغيره، والمراد: إنني لا أريد أن أشقّ على نسائي، أو أطلب زلّاتهنّ، فلا أمسك عن إخبارهنّ باختيارك

(2)

.

وقال القرطبيّ: أصل الْعَنَت: المشقّة، والْمُعنِت: هو الذي يوقع الْعَنَت بغيره، والْمُتَعَنّت: هو الذي يَحْمِل غيره على العمل بها، ويَحْتَمِلُ أن يقال: المُعنت هو المجبول على ذلك، والمتعنّت هو الذي يتعاطى ذلك، وإن لم يكن في جِبِلّته، وكأن عائشة رضي الله عنها توقّعت أنه إذا لم يُخبر أحدًا من زوجاته يكون فيهنّ من يختار الدنيا، فيفارقها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنهنّ إذا سمعن باختيارها هي له اقتدين بها، فيخترنه، وكذلك فعلن، ووقع للنبيّ صلى الله عليه وسلم أنه إن سألته واحدة منهنّ عن فعل عائشة، فلم يُخبرها كان ذلك نوعًا من الْعَنَت، وإدخالِ الضرر عليهنّ بسبب إخفاء ما يُسأل عنه، فقال مجيبًا:"إن الله لم يبعثني مُعنتًا" (وَلَكِنْ بَعَثَنِي

(1)

"المفهم" 4/ 256.

(2)

"تكملة فتح الملهم" 1/ 177.

ص: 148

مُعَلِّمًا، مُيَسِّرًا") وجه التسير في هذا أنه إذا أخبر بذلك اقتدى بها غيرها من أزواجه، وسهُل عليها اختيار الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، والدار الآخرة

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان في هذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 3690](1478)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 383)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 328 و 342)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 174 - 175)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 159)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4/ 175)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 38) و"المعرفة"(5/ 483)، وأما فوائد الحديث، فقد سبقت، وستأتي أيضًا في الباب التالي - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(5) - (بَابٌ فِي إِيلَاءِ الرَّجُلِ مِنْ نِسَائِه، وَتَأْدِيبِهِنَّ بِاعْتِزَالِهِنَّ)

(2)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3691]

(1479) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ سِمَاكٍ أَبِي زُمَيْلٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب، قَالَ: لَمَّا اعْتَزَلَ نَبِي اللهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ، قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا النَّاسُ يَنْكُتُونَ بِالْحَصَى، وَيَقُولُونَ: طَلَّقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرْنَ بِالْحِجَاب، فَقَالَ عُمَرُ، فَقُلْتُ: لَأَعْلَمَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ،

(1)

"المفهم" 4/ 256 - 257.

(2)

هكذا ترجم القرطبيّ رحمه الله في "المفهم"، وهو أنسب، وأخصر من ترجمة النوويّ وغيره، فتنبّه.

ص: 149

قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَقُلْتُ: يَا بِنْتَ

(1)

أَبِي بَكْرٍ أقَدْ بَلَغَ

(2)

مِنْ شَأْنِكِ أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَتْ: مَا لِي وَمَا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّاب، عَلَيْكَ بِعَيْبَتِكَ، قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ، فَقُلْتُ لَهَا: يَا حَفْصَةُ أَقَدْ بَلَغَ مِنْ شَأْنِكِ أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَاللهِ لَقَدْ عَلِمْت، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُحِبُّك، وَلَوْلَا أَنَا لَطَلَّقَكِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَكَتْ أَشَدَّ الْبُكَاء، فَقُلْتُ لَهَا: أَيْنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: هُوَ فِي خِزَانَتِهِ فِي الْمَشْرُبَة، فَدَخَلْتُ، فَإِذَا أَنَا بِرَبَاحٍ غُلَامِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدًا عَلَى أُسْكُفَّةِ الْمَشْرُبَة، مُدَلٍّ رِجْلَيْهِ عَلَى نَقِيرٍ مِنْ خَشَبٍ، وَهُوَ جِذْعٌ يَرْقَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَيَنْحَدِرُ، فَنَادَيْتُ: يَا رَبَاحُ، اسْتَأْذِنْ لِي عِنْدَكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَظَرَ رَبَاحٌ إِلَى الْغُرْفَة، ثُمَّ نَظَرَ إِلَيَّ، فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، ثُمَّ قُلْتُ: يَا رَبَاحُ، اسْتَأْذِنْ لِي عِنْدَكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَظَرَ رَبَاحٌ إِلَى الْغُرْفَة، ثُمَّ نَظَرَ إِلَيَّ، فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، ثُمَّ رَفَعْتُ صَوْتِي، فَقُلْتُ: يَا رَبَاحُ، اسْتَأْذِنْ لِي عِنْدَكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ظَنَّ أَنِّي جِئْتُ مِنْ أَجْلِ حَفْصَةَ، وَاللهِ لَئِنْ أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِضَرْبِ عُنُقِهَا لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهَا، وَرَفَعْتُ صَوْتِي، فَأَوْمَأَ إِلَيَّ أَنِ ارْقَهْ، فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى حَصِيرٍ، فَجَلَسْتُ، فَأَدْنَى عَلَيْهِ إِزَارَهُ

(3)

، وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَإِذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِه، فَنَظَرْتُ بِبَصَرِي فِي خِزَانَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا أَنَا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاع، وَمِثْلِهَا قَرَظًا فِي نَاحِيَةِ الْغُرْفَة، وَإِذَا أَفِيقٌ مُعَلَّقٌ، قَالَ: فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ، قَالَ:"مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ "، قُلْتُ: يَا نَبِيَّ الله، وَمَا لِي لَا أَبْكِي، وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبكَ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ، لَا أَرَى فِيهَا إِلَّا مَا أَرَى، وَذَاكَ قَيْصَرُ وَكِسْرَى فِي الثِّمَارِ وَالْأَنْهَار، وَأَنْتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَصَفْوَتُهُ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ، فَقَالَ:"يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الْآخِرَةُ، وَلَهُمُ الدُّنْيَا؟ "، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ حِينَ دَخَلْتُ، وَأنا أَرَى فِي وَجْهِهِ الْغَضَبَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا يَشُقُّ عَلَيْكَ

(1)

وفي نسخة: "يا ابنة".

(2)

وفي نسخة: "أَوَ بَلَغَ" بفتح الواو.

(3)

وفي نسخة: "فإذا عليه إزاره".

ص: 150

مِنْ شَأْنِ النِّسَاءِ؟

(1)

فَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهُنَّ، فَإِنَّ اللهَ مَعَكَ، وَمَلَائِكَتَهُ، وَجِبْرِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَأَنَا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَالْمُؤْمِنُونَ مَعَكَ، وَقَلَّمَا تَكَلَّمْتُ، وَأَحْمَدُ اللهَ بِكَلَامٍ إِلَّا رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ اللهُ يُصَدِّقُ قَوْلِي الَّذِي أَقُولُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، آيَةُ التَّخْيِيرِ:{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} ، {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ وَحَفْصَةُ تَظَاهَرَانِ عَلَى سَائِرِ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَطَلَّقْتَهُنَّ؟ قَالَ: "لَا": قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، وَالْمُسْلِمُونَ يَنْكُتُونَ بِالْحَصَى، يَقُولُونَ: طلَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ، أَفَأَنْزِلُ، فَأُخْبِرَهُمْ أَنَّكَ لَمْ تُطَلِّقْهُنَّ؟ قَالَ:"نَعَمْ إِنْ شِئْتَ"، فَلَمْ أَزَلْ أُحَدِّثُهُ، حَتَّى تَحَسَّرَ الْغَضَبُ عَنْ وَجْهِه، وَحَتَّى كَشَرَ، فَضَحِكَ، وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ ثَغْرًا، ثُمَّ نَزَلَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَزَلْتُ، فَنَزَلْتُ أتشَبَّثُ بِالْجِذْع، وَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَأَنَّمَا يَمْشِي عَلَى الْأَرْض، مَا يَمَسُّهُ بِيَدِه، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّمَا كُنْتَ فِي الْغُرْفَةِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ؟ قَالَ: "إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ"، فَقُمْتُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِد، فَنَادَيْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: لَمْ يُطَلِّقْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، فَكُنْتُ أَنَا اسْتَنْبَطْتُ ذَلِكَ الْأَمْرَ، وَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل آيَةَ التَّخْيِيرِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الْحَنَفِيُّ) أبو حفص اليماميّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.

3 -

(عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ) الْعِجليّ، أبو عمّار اليماميّ، بصريّ الأصل، ثقةٌ، إلا في روايته عن يحيى بن أبي كثير، فضعيف؛ لاضطرابه [5] مات قبيل الستين ومائة (خت م س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.

(1)

وفي نسخة: "من أمر النساء".

ص: 151

4 -

(سِمَاكٌ أَبُو زُمَيْلٍ) ابن الوليد الحنفيّ اليماميّ، ثم الكوفيّ، ثقةٌ [3](بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 34/ 241.

5 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ) البحر الحبر رضي الله عنهما، تقدّم قبل باب.

6 -

(عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) بن نُفيل القرشيّ العدويّ، أمير المؤمنين الخليفة الراشد، جمّ المناقب، واستُشهد في ذي الحجة سنة (23)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

شرح الحديث:

(عَنْ سِمَاكٍ أَبِي زُمَيْلٍ) بضم الزاي، وفتح الميم الخفيفة، هو سماك بن الوليد (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب، قَالَ: لَمَّا اعْتَزَلَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ) سيأتي سبب اعتزاله مفصّلًا في الحديث التالي (قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ) النبويّ (فَإِذَا النَّاسُ)"إذا" هي الْفُجائيّة؛ أي: ففاجأني وجود الناس (يَنْكُتُونَ بِالْحَصَى) بتاء مثنّاة، بعد الكاف، من باب نصر؛ أي: يضربون الأرض، كفعل المهموم المفكّر (وَيَقُولُونَ: طَلَّقَ رَسُولُ اللْهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرْنَ بِالْحِجَابِ) استدلّ بهذا ابن العربيّ في "أحكام القرآن" وغيره على أن واقعة التخيير كانت قبل نزول الحجاب، ولكن ردّ عليه الحافظ في "الفتح"، فقال: هو غلطٌ بيِّنٌ، فإن نزول الحجاب كان في أول زواج النبيّ صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش، وهذه القصّة كانت سبب آية التخيير، وكانت زينب بنت جحش فيمن خُيِّر، قال: وقد تقدم ذكر عمر رضي الله عنه لها في قوله: "ولا حُسْنُ زينب بنت جحش"، وسيأتي من طريق أبي الضُّحَى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أصبحنا يومًا ونساء النبيّ صلى الله عليه وسلم يبكين، فخرجتُ إلى المسجد، فجاء عمر، فصعد إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو في غرفة له، فذكر هذه القصة مختصرًا، فحضور ابن عباس، ومشاهدته لذلك، يقتضي تأخر هذه القصة عن الحجاب، فإن بين الحجاب، وانتقال ابن عباس إلى المدينة مع أبويه، نحوُ أربع سنين؛ لأنهم قَدِمُوا بعد فتح مكة، فآية التخيير على هذا نزلت سنة تسع؛ لأن الفتح كان سنة ثمان، والحجاب كان سنة أربع أو خمس. انتهى.

وقال في "الفتح" أيضًا: ومما يؤيد تأخر قصة التخيير ما تقدّم من قول عمر رضي الله عنه في رواية عُبيد بن حُنين التي قدّمت الإشارة إليها في "المظالم":

ص: 152

وكان مَن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقام له إلا ملك غَسّان بالشام، فإن الاستقامة التي أشار إليها، إنما وقعت بعد فتح مكة، وقد مضى في غزوة الفتح من حديث عمرو بن سَلِمَة الْجَرْميّ: وكانت العرب تَلَوَّم بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومَهُ، فإن ظهر عليهم فهو نبيّ، فلما كانت وقعة الفتح بادر كلُّ قوم بإسلامهم. انتهى، والفتح كان في رمضان سنة ثمان، ورجوع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في أواخر ذي القعدة منها، فلهذا كانت سنةُ تسع تُسَمّى سنةَ الوفود؛ لكثرة مَن وَفَدَ عليه من العرب، فظهر أن استقامة مَن حوله صلى الله عليه وسلم إنما كانت بعد الفتح، فاقتضى ذلك أن التخيير كان في أول سنة تسع، كما قدمته.

قال: وممن جزم بأن آية التخيير كانت سنة تسع الدمياطيّ وأتباعه، وهو المعتمد. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله الحافظ رحمه الله تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، وخلاصته أن ما وقع في رواية سماك أبي زُميل هذه من قوله:"وذلك قبل أن يؤمرن بالحجاب" غلط ظاهر، والصواب أنه بعد الأمر بالحجاب؛ لأن الأمر به كان في قصّة زواج زينب رضي الله عنها، وآية التخيير إنما جاءت في قصّة العسل، أو قصّة مارية.

وأحسن محامل هذه الرواية - كما قال الحافظ - أن يقال: إن الراوي لَمّا رأى قول عمر: إنه دخل على عائشة ظَنّ أن ذلك كان قبل الحجاب، فجَزَم به، لكن جوابه أنه لا يلزم من الدخول رفع الحجاب، فقد يدخل من الباب، وتخاطبه من وراء الحجاب، كما لا يلزم من وَهَم الراوي في لفظة من الحديث أن يُطْرَح حديثه كله، والله تعالى أعلم بالصواب.

(فَقَالَ عُمَرُ)(فَقُلْتُ: لَأَعْلَمَنَّ ذَلِكَ) أي: قول الناس: طلّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، وقوله:(الْيَوْمَ) ظرف لـ"أعلمنّ"، وليس مفعولًا به، فتنبّه (قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ) رضي الله عنها (فَقُلْتُ: يَا بِنْتَ) وفي بعض النسخ: "يا ابنة"(أَبِي بَكْرٍ) الصدّيق (أَقَدْ بَلَغَ) وفي بعض النسخ: "أَوَ بلغ" والهمزة للاستفهام، والواو عاطفة (مِنْ شَأْنِكِ أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟) أي: بما جرى مع بقيّة الأزواج من المطالبة بالنفقات (فَقَالَتْ) عائشة (مَا لِي وَمَا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّاب، عَلَيْكَ بِعَيْبَتِكَ) أي: عليك بخاصّتك، وموضع سرّك، و"الْعَيْبَة" بفتح، فسكون: وعاء

ص: 153

يَجعل فيه الإنسان أفضل ثيابه، ونفيس متاعه، فشَبّهت بها عائشة حفصة بنت عمر رضي الله عنهم، والمراد: عليك بوعظ ابنتك حفصة (قَالَ) عمر رضي الله عنه (فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ بنْتِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (فَقُلْتُ لَهَا: يَا حَفْصَةُ أَقَدْ بَلَغَ مِنْ شَأْنِكِ أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ وَاللهِ لَقَدْ عَلِمْت، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُحِبُّك، وَلَوْلَا أَنَا لَطَلَّقَكِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وكأنه رضي الله عنه يشير إلى ما رواه موسى بن عُليّ، عن أبيه، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: طلّق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة بنت عمر، فبلغ ذلك عمر، فحَثَى الترابَ على رأسه، وقال: ما يعبأ الله بعمر وابنته بعدها، فنزل جبريل من الغد على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"إن الله يأمرك أن تراجع حفصة رحمة بعمر".

وفي رواية أبي صالح عند أبي يعلى: دخل عمر على حفصة، وهي تبكي، فقال: لعلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد طلّقك، إنه كان قد طلّقك مرّة، ثم راجعك من أجلي، فإن كان طلّقك مرّة أخرى لا أكلّمك أبدًا

(1)

.

وأخرج ابن سعد، والدارميّ، والحاكم:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم طَلّق حفصة، ثم راجعها"، ولابن سعد مثله من حديث ابن عباس، عن عمر، وإسناده حسنٌ، وأخرج ابن سعد عن قيس بن زيد مرسلًا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلّق حفصة بنت عمر، فأتاها خالاها: عثمان، وقُدامة ابنا مظعون، فبكت، وقالت: والله ما طلّقني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شِبَع، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عليها، فتجلببت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن جبريل عليه السلام أتاني، فقال لي: راجع حفصة، فإنها صوّامة، قوّامةٌ

(2)

، وهي زوجتك في الجنّة"، وقيس مختلف في صحبته، ونحوه

(1)

راجع: "الإصابة" في ترجمة حفصة رضي الله عنها 4/ 265، والحديث حسنٌ، كما قال الشيخ الألبانيّ رحمه الله.

(2)

قال الشيخ الألبانيّ رحمه الله في "السلسلة الصحيحة"(5/ 15) - بعد إيراده هذا الحديث -: [فائدة]: دلّ الحديث على جواز تطليق الرجل لزوجته، ولو أنها كانت صوّامة قوّامة، ولا يكون ذلك بطبيعة الحال إلا لعدم تمازجها، وتطاوعها معه، وقد يكون هناك أمور داخلية، لا يمكن لغيرهما الاطلاع عليها، ولذلك فإن ربط الطلاق بموافقة القاضي من أسوأ وأسخف ما يُسمع به في هذا الزمان الذي يلهج به كثير من حكامه، وقضاته، وخطبائه بحديث:"أبغض الحلال إلى الله الطلاق"، وهو حديث ضعيف، كما في "إرواء الغليل"، رقم 2040.

ص: 154

عنده من مرسل محمد بن سيرين. انتهى

(1)

.

(فَبَكَتْ أَشَدَّ الْبُكَاءِ) أي: لِمَا اجتمع عندها من الحزن على فراق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولِمَا تتوقعه من شدة غضب أبيها عليها، وقد قال لها:"والله إن كان طلقك، لا أكلمك أبدًا"،

(فَقُلْتُ لَهَا: أَيْنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: هُوَ فِي خِزَانَتِهِ) بكسر الخاء المعجمة: مكان حفظ المال، جمعه: خزائن (فِي الْمَشْرُبَةِ) بفتح الراء، وضمّها بمعنى الْغُرفة الْعُلّيّة، وقال ابن قتيبة: هي كالصّفّة بين يدي الْغُرفة، وقال الداوديّ: هي الغرفة الصغيرة، وقال ابن بطّال: الْمشربة: الْخِزانة التي يكون فيها طعامه وشرابه، وقيل لها مشربة فيما أرى لأنهم كانوا يخزُنون

(2)

فيها شرابهم

(3)

، وذكر في "مجمع البحرين" أن المشربة بمعنى الْخِزانة مفتوحة الراء فقط، وأما بمعنى الغرفة، فتفتح راؤها، وتضمّ. انتهى

(4)

.

(فَدَخَلْتُ، فَإِذَا أَنَا بِرَبَاحٍ) بفتح الراء، وتخفيف الموحّدة (غُلَامِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال في "الإصابة": رباح مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت ذكره في "الصحيحين" من حديث عمر رضي الله عنه في قصّة اعتزال النبيّ صلى الله عليه وسلم نساءه، سماه مسلم في روايته، وفي مسلم أيضًا من حديث سلمة بن الأكوع الطويل، قال: وكان للنبيّ صلى الله عليه وسلم غلام اسمه رَبَاح، وقال البلاذريّ: كان أسود، وكان يستأذن عليه، ثم صيّره مكان يسار بعد قتله، فكان يقوم بلقاحه. انتهى

(5)

. (قَاعِدًا عَلَى أُسْكُفَّةِ الْمَشْرُبَةِ)"الأُسْكُفّة" بضمّ الهمزة والكاف، وتشديد الفاء: هي عَتَبة الباب السفلى

(6)

. (مُدَلٍّ رِجْلَيْهِ) اسم فاعل من التدلية، وهو مدّ الرجلين إلى الأسفل (عَلَى نَقِيرٍ مِنْ خَشَبٍ) النقير: بنون مفتوحة، ثم قاف مكسورة، هذا هو الصحيح الموجود في جميع النسخ، وذكر القاضي عياضٌ أنه بالفاء بدل النون، وهو فَقِيرٌ بمعنى مفقور، مأخوذ من فقار الظهر، وهو جِذع فيه دَرَجٌ، قاله

(1)

"طبقات ابن سعد" 4/ 84، والحديث حسنٌ، كما قال الشيخ الألبانيّ رحمه الله.

(2)

من باب نصر.

(3)

"عمدة القاري" 6/ 137.

(4)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 1/ 180.

(5)

راجع: "الإصابة" 2/ 377.

(6)

"شرح النوويّ" 10/ 82.

ص: 155

النوويّ

(1)

. (وَهُوَ جِذْعٌ) بكسر الجيم، وسكون الذال المعجمة: هو ساق النخلة، جمعه جُذُوعٌ، وأجذاعٌ

(2)

. (يَرْقَى) بفتح أوله، وثالث، مضارع رَقِي، كرضِيَ يَرْضَى؛ أي: يصعد عليه (عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَيَنْحَدِرُ) أي: ينزل عليه (فَنَادَيْتُ: يَا رَبَاحُ، اسْتَأْذِنْ لِي عِنْدَكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) فيه جواز اتخاذ الحاكم عند الخلوة بوّابًا يمنع من الدخول إليه بغير إذنه، ولا يعارض هذا ما أخرجه الشيخان من حديث أنس رضي الله عنه في قصّة المرأة التي وعظها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم تعرفه، ثم جاءت إليه تعتذر، فلم تجد عنده بوّابًا

الحديث؛ لأنه محمول على الأوقات التي يجلس فيها للناس، كما قاله في "الفتح" (فَنَظَرَ رَبَاحٌ إِلَى الْغُرْفَةِ) أي: استئذانًا من النبيّ صلى الله عليه وسلم (ثُمَّ نَظَرَ إِلَيَّ، فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا) أي: فلم يردّ عليّ شيئًا، لا إذنًا، ولا منعًا، وفي الرواية الآتية:"فقلت: استأذن لعمر، فدخل، ثم خرج إليّ، فقال: قد ذكرتك له، فصَمَتَ"، قال في "الفتح": يَحْتَمل أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم نائمًا، أو ظنّ أن عمر جاء يستعطفه على أزواجه؛ لكون حفصة ابنته منهن. انتهى. (ثُمَّ قُلْتُ:) أي: بعد ذهابه، ورجوعه، ففي الرواية الآتية:"فانطلقت، حتى انتهيتُ إلى المنبر، فجلست، فإذا رهط جُلُوسٌ، يبكي بعضهم، فجلست قليلًا، ثم غلبني ما أجد، ثم أتيت الغلام، فقلت: استأذن لعمر"(يَا رَبَاحُ، اسْتَأْذِنْ لِي عِنْدَكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَظَرَ رَبَاحٌ إِلَى الْغُرْفَة، ثُمَّ نَظَرَ إِلَيَّ، فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا) وفي الرواية الآتية: "فدخل، ثم خرج إليّ، فقال: قد ذكرتك له، فصَمَتَ، فولّيتُ مدبرًا، فإذا الغلام يدعوني، فقال: ادخل، فقد أَذِنَ لك"(ثُمَّ رَفَعْتُ صَوْتِي) أي: حتى يسمع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفيه جواز تكرار الاستئذان إذا رجا صاحبه الإذن (فَقُلْتُ: يَا رَبَاحُ، اسْتَأْذِنْ لِي عِنْدَكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنِّي أَظُن أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ظَنَّ أَنِّي جِئْتُ مِنْ أَجْلِ حَفْصَةَ) يعني أنه إنما لم يأذن له لظنه أنه إنما جاء من أجل حفصة ابنته، فشقّ عليه الإذن (وَاللهِ لَئِنْ أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِضَرْب عُنُقِهَا لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهَا، وَرَفَعْتُ صَوْتِي، فَأَوْمَأَ) أي: أشار رباح (إِلَيَّ أَنِ ارْقَهْ)"أَي" مصدريّة؛ أي: بالرُّقِيّ، و"ارقه" فعل أمر من رَقِيَ يَرْقَى، والهاء للسكت، قيل: ويَحتمل أن تكون ضميرًا عائدًا إلى الجذع.

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 83.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 94.

ص: 156

[فإن قلت]: ظاهر هذا أن الإذن حصل بعد رفع صوته، فيخالف قوله في الرواية المذكورة:"فولّيت مدبرًا، فإذا الغلام يدعوني، فقال: ادخل، فقد أذن لك".

[قلت]: يُجمَع بينهما بان الإذن إنما حصل بعد تولّيه مدبرًا، وذلك أنه بعدما رفع صوته بما قاله، ولّى مدبرًا، فناداه الغلام، وأخبره بأنه صلى الله عليه وسلم أَذِن له، ولا مخالفة أيضًا بين الإشارة، والنداء؛ لاحتمال أن يكون جمع بينهما، والله تعالى أعلم.

(فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُضْطَجِعٌ) جملة حاليّة في محلّ نصب (عَلَى حَصِيرٍ) بفتح الحاء، وكسر الصاد المهملتين، وهي الباريّة، وجمعها حُصُرٌ، مثلُ بَرِيد وبُرُد

(1)

. (فَجَلَسْتُ، فَأَدْنَى عَلَيْهِ إِزَارَهُ) وفي بعض النسخ: "فإذا عليه إزاره"(وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ) أي: من الرداء، وغيره (وَإِذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ) أي: لعدم بسط فراش ونحوه عليه (فَنَظَرْتُ بِبَصَرِي فِي خِزَانَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا أَنَا بِقَبْضَةٍ) بفتح القاف وضمّها لغةٌ (مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ) بجرّ "نحوِ" بدلًا من "شعير"(وَمِثْلِهَا) بالجرّ عطفًا على "شعير"، وقوله:(قَرَظًا) منصوب على التمييز، قال الفيّوميّ رحمه الله: القَرَظُ - أي: بفتحتين - حَبّ معروفٌ يَخرُج في غُلُفٍ، كالعدَس، من شجر الْعِضَاه، وبعضهم يقول: القَرَظ: ورَقُ السَّلَم، يُدْبَغُ به الأَدِيمُ، وهو تسامحٌ، فإن الوَرَق لا يُدبغ به، وإنما يُدبغ بالحبّ، وبعضهم يقول: الْقَرَظ شجرٌ، وهو تسامحٌ أيضًا، فإنهم يقولون جَنَيتُ الْقَرَظَ، والشجر لا يُجنى، وإنما يُجنى ثموه، يقال: قَرَظتُ قَرْظًا، من باب ضَرَبَ: إذا جنيته، أو جمعته، والفاعل قارظٌ. انتهى

(2)

. (فِي نَاحِيَةِ الْغُرْفَةِ) أي: في جهة من جهاتها (وَإِذَا أَفِيقٌ مُعَلَّقٌ)"الأَفِيقُ" - بفتح الهمزة، وكسر الفاء -: هو الجلد الذي لم يتمّ دِباغه، وجمعه أفَقٌ بفتحها، كأَدِيمٍ وأَدَمٍ، وقد أَفَقَ أَدِيمه يَأْفِقُهُ بكسر الفاء، قاله النوويّ رحمه الله

(3)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الأَفِيقُ: الجلد بعد دبغه، والجمع أَفَقٌ بفتحتين،

(1)

"المصباح" 1/ 138 - 139.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 499.

(3)

"شرح النوويّ" 10/ 83 - 84.

ص: 157

وقيل: الأَفِيق: الأديم الذي لم يَتِمّ دَبْغُهُ، فإذا تمّ، واحمرّ، فهو أَدِيمٌ، يقال: أَفَقْتُ الجلدَ أَفْقًا، من باب ضَرَبَ: دبغتُهُ، فالأَفِيق فَعِيلٌ بمعنى مفعول. انتهى

(1)

.

وقال في "القاموس" و"شرحه": الأَفِيق كأَمِيرٍ: الجلد لم يتمّ دباغه، أو الأديم دُبِغ قبل أن يُخْرَزَ، أو قبل أن يُشقّ، وقيل: هو ما دُبغ بغير القرظ والأرطَى، وغيرهما من أدبغة أهل نجد، وقيل: حين يَخرُج من الدباغ مفروغًا منه، وفيه رائحته، وقيل: أول ما يكون من الجلد في الدباغ، فهو مَنِيئَةٌ، ثم أَفِقٌ، ثم يكون أَدِيمًا، كالأَفِيقة، كسَفِينة، والأَفِق، ككَتِفٍ، جمعه أَفَقٌ مُحرَّكةً، وبضمّتين، وأنكر هذا اللحيانيّ، أو المحرّكة اسم جمع؛ لأن فَعِيلًا لا يُكَسَّرُ على فَعَلٍ، وقال الأصمعيّ: جمع الأَفِيق آفِقَةٌ، كرغيف وأرغِفَة. انتهى

(2)

.

(قَالَ: فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ) أي: لم أتمالك أن بكيتُ حتى سالت دموعي، قال المجد: بادره مُبادرةً، وبِدَارًا، وابتدره، وبَدَرَ غيره إليه: عا جله، وبَدَرهُ الأمرُ، وإليه: عَجِلَ إليه، واستَبَقَ. انتهى

(3)

. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟)"ما" استفهاميّة؛ أي: أيُّ شيء يجعلك باكيًا؟ (قُلْتُ: يَا نَبِيَّ الله، وَمَا لِي لَا أَبْكِي، وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِكَ، وَهَذ خِزَانَتُكَ، لَا أَرَى فِيهَا إِلَّا مَا أَرَى) أي: إلا الشيء اليسير (وَذَاكَ قَيْصَرُ) بفتح القاف، وسكون التحتانيّة: لقبُ مَن مَلَك الرُّوم، ككسرى لقب من ملك الفُرس، والنجاشيّ لقب من ملك الحبشة

(4)

. (وَكِسْرَى) بكسر الكاف، وتُفتح: مَلِكُ الفُرس، معرّب خُسْرَوْ؛ أي: واسع الملك، جمعه أكاسرة، وكساسرةٌ، وأكاسرُ، وكُسُورٌ، والقياس: كِسْرُون، كَعِيسُون، والنسبة كِسْريٌّ، وكِسْرَويّ، قاله المجد رحمه الله

(5)

. (فِي الثِّمَارِ وَالْأَنْهَار، وَأَنْتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَصَفْوَتُهُ) بتثليث الصاد المهملة:

(1)

"المصباح المنير" 1/ 17.

(2)

راجع: "تاج العروس من جواهر القاموس" 6/ 280.

(3)

"القاموس المحيط" 1/ 369.

(4)

"القاموس" 2/ 118 مع شرحه "تاج العروس" 3/ 497.

(5)

"القاموس المحيط" 2/ 127.

ص: 158

خالص الشيء، وما صفا منه، وفي "المصباح": صَفْوُ الشيء بالفتح: خالصه، والصِّفْوة بالهاء، والكسر مثله، وحُكي التثليث. انتهى

(1)

. (وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ) أي: لا يوجد فيها ما عند هؤلاء من متاع الدنيا، وفيه جواز نظر الإنسان إلى نواحي بيت صاحبه، وما فيه إذا عَلِمَ أنه لا يكره ذلك، وبهذا يُجمَع بين ما وقع لعمر رضي الله عنه هنا، وما بين ما ورد من النهي عن فُضُول النظر، أشار إليه النوويّ رحمه الله. (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم:("يَا ابْنَ الْخَطَّابِ) وفي رواية للبخاريّ في "النكاح": "فجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان متّكئًا، فقال: أوَ في شكّ أنت يا ابن الخطّاب؟ "، والمعنى: أأنت في شكّ في أن التوسّع في الآخرة خير من التوسّع في الدنيا؟ وهذا يُشعر بأنه صلى الله عليه وسلم ظنّ أنه بكى من جهة الأمر الذي كان فيه، وهو غضب النبيّ صلى الله عليه وسلم على نسائه حتى اعتَزَلهنّ، فلما ذكر له من أمر الدنيا أجابه بما أجابه به، قاله في "الفتح"

(2)

.

(أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الْآخِرَةُ، وَلَهُمُ) أي: لقيصر، وكسرى، وأتباعهما (الدُّنْيَا؟ "، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ حِينَ دَخَلْتُ، وَأَنَا أَرَى فِي وَجْهِهِ الْغَضَبَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا) استفهاميّة؛ أي: أيُّ شيء (يَشُقُّ عَلَيْكَ مِنْ شَأْنِ النِّسَاءِ؟) وفي بعض النسخ: "من أمر النساء"(فَإِنْ كنْتَ طَلَّقْتَهُنَّ) فلا حرج عليك، ولا مشقّة عليك، ثم علّل ذلك بقوله:(فَإِنَّ اللهَ مَعَكَ) وقوله: (وَمَلَائِكَتَهُ) وما بعده يَحتَمِل أن يكون مرفوعًا، على الابتداء، خبره:"معك" الآتي، أو هو معطوف على المحلّ، ويَحْتَمل أن يكون منصوبًا عطفًا على لفظ الجلالة، ويكون "معك" الآتي توكيدًا للأول، وإلى ما ذكرته أشار ابن مالك في "الخلاصة" حيث قال:

وَجَائِزٌ رَفْعُكَ مَعْطُوفًا عَلَى

مَنْصُوبِ "إِنَّ" بَعْدَ أَنْ تَسْتَكْمِلَا

(وَجبْرِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَأَنَا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَالْمُؤْمِنُونَ مَعَكَ) قال عمر رضي الله عنه: (وَقَلَّمَا تَكَلَّمْتُ) وقوله: (وَأَحْمَدُ اللهَ) جملة معترضة بين العامل ومعموله، وهو:(بِكَلَامٍ) متعلّق بـ"تكلّمتُ"(إِلَّا رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ اللهُ يُصَدِّقُ قَوْلِي الَّذِي أَقُولُ)

(1)

راجع: "القاموس" 4/ 352، و"المصباح" 1/ 343.

(2)

"الفتح" 11/ 616.

ص: 159

أي: بإنزال الوحي على وفقه، كما نزلت الآية الكريمة موافقة لكلامه المذكور، كما بيّنه بقوله:(وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، آيَةُ التَّخْيِيرِ) بدل من "الآية"، وقوله:({عَسَى رَبُّهُ}) إلخ خبر لمحذوف محكي لقصد لفظه؛ أي: هي {عَسَى رَبُّهُ} ، الآية ({إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ}، {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}، وَكَانَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ وَحَفْصَةُ) بنت عمر، وقوله:(تَظَاهَرَانِ) بحذف إحدى التاءين؛ إذ أصله تتظاهران؛ أي: تتعاونان (عَلَى سَائِرِ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَطَلَّقْتَهُنَّ؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَا") أي: لأنه إنما آلى منهنّ أن يدخل عليهنّ شهرًا (قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، وَالْمُسْلِمُونَ يَنْكُتُونَ بِالْحَصَى) تقدّم شرحه قريبًا (يَقُولُونَ: طَلَّقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ، أَفَأَنْزِلُ، فَأُخْبِرَهُمْ أَنَّكَ لَمْ تُطَلِّقْهُنَّ؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("نَعَمْ إِنْ شِئْتَ") أي: أخبرهم إن أحببت إخبارهم به (فَلَمْ أَزَلْ أُحَدِّثُهُ، حَتَّى تَحَسَّرَ) أي: انكشف (الْغَضَبُ عَنْ وَجْهِهِ) صلى الله عليه وسلم (وَحَتَّى كَشَرَ) الكشر: بدُوّ الأسنان، يقال: كشَرَ الرجلُ عن أسنانه، من باب ضرب: إذا أبداها في الضحك (فَضَحِكَ) من باب تَعِبَ (وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ ثَغْرًا) بفتح الثاء المثلَّثة، وسكون الغين المعجمة: الفم، أو الأسنان، أو مقدّمها، قاله المجد رحمه الله

(1)

. (ثُمَّ نَزَلَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَزَلْتُ، فَنَزَلْتُ أَتَشَبَّثُ) أي: أتعلّق، وأستمسك خوفًا من السقوط (بِالْجذْعِ) بكسر، فسكون: ساق النخلة (وَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَأَنَّمَا يَمْشِي عَلَى الْأَرْضَ، مَا يَمَسُّهُ بِيَدِهِ) يعني أنه صلى الله عليه وسلم لا يمسّ الجِذع؛ لعدم مخافته من السقوط؛ إما لزيادة قوته، وإما لاعتياده ذلك (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّمَا كُنْتَ فِي الْغُرْفَةِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ؟) وفيه تذكير الحالف بيمينه إذا وقع منه ما ظاهره نسيانها؛ لأن عمر رضي الله عنه خشِي أن يكون صلى الله عليه وسلم نسي مقدار ما حلف عليه، وهو شهر، فذكّره به (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ") أي: وهذا الشهر منه.

قال الحافظ رحمه الله: فيه تقوية لقول من قال: إن يمينه صلى الله عليه وسلم اتَّفق أنها كانت في أول الشهر، ولهذا اقتصر على تسعة وعشرين، وإلا فلو اتَّفق ذلك في أثناء

(1)

"القاموس المحيط" 1/ 382.

ص: 160

الشهر، فالجمهور على أنه لا يقع البَرّ إلا بثلاثين. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: قال في "الفتح": هذا مشكلٌ في هذه الرواية، فإن ظاهره أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نزل عقب ما خاطبه عمر، فيلزم منه أن يكون عمر تأخر كلامه معه تسعًا وعشرين يومًا، وسياق غيره ظاهر في أنه تكلم معه في ذلك اليوم، وكيف يُمْهِل عمر تسعًا وعشرين يومًا لا يتكلم في ذلك، وهو مصرِّح بأنه لم يصبر ساعةً في المسجد، حتى يقوم، ويرجع إلى الغرفة، ويستأذن؟

ولكن تأويل هذا سهلٌ، وهو أن يُحْمَل قوله:"فنزل" أي: بعد أن مضت المدة، ويستفاد منه أنه كان يتردد إلي النبيّ صلى الله عليه وسلم في تلك المدة التي حَلَف عليها، فاتَّفَق أنه كان عنده عند إرادته النزول، فنزل معه، ثم خَشِي أن يكون نَسِي فذَكَّره، كما ذَكَّرته عائشة رضي الله عنها، كما سيأتي. انتهى

(2)

.

(فَقُمْتُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِد، فَنَادَيْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: لَمْ يُطَلِّقْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ) إنما فعل ذلك؛ ليزيل الكرب الذي حلّ بالصحابة رضي الله عنهم بسبب توهّمهم أنه صلى الله عليه وسلم طلّق نساءه (وَنَزَلَتْ هَذ الْآيَةُ) هذا بيان صريحٌ على أن سبب نزول هذه الآية هو قصّة عمر رضي الله عنه هذه، وهذا أصح مما ذكره المفسّرون، كابن جرير

(3)

من أنها نزلت في المنافقين، على أنه لا يبعد أن تنزل في الأمرين معًا، والله تعالى أعلم.

{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] قال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ} في "إذا" معنى الشرط، ولا يُجازَم

(4)

بها، وإن زيدت عليها "ما" وهي قليلة الاستعمال، قال سيبويه: والجيّد ما قال كعب بن زهير [من الخفيف]:

وَإِذَا مَا تَشَاءُ تَبْعَثُ مِنْهَا

مَغْرِبَ الشَّمْسِ نَاشِطًا مَذْعُورَا

(5)

(1)

"الفتح" 11/ 622.

(2)

"الفتح" 11/ 286.

(3)

راجع: "تفسير ابن جرير الطبريّ" 8/ 568 - 570.

(4)

وقع في النسخة: "لا يجازى" والظاهر أنه مصحّف، فتنبّه.

(5)

وصف ناقته بالنشاط والسرعة بعد سير النهار كلّه، فشبّهها في انبعاثها مسرعةً =

ص: 161

يعني أن الجيّد لا يجزم بـ"إذا ما" كما لم يجزم في هذا البيت.

والمعنى أنهم إذا سمعوا شيئًا من الأمور، فيه أمن، نحو ظَفَر المسلمين، وقتل عدوّهم، {أَوِ الْخَوْفِ} وهو ضدّ هذا {أَذَاعُوا بِهِ} أي: أفشَوْه، وأظهروه، وتحدّثوا به قبل أن يَقِفُوا على حقيقته، فقيل: كان هذا من ضَعَفة المسلمين عن الحسن

(1)

؛ لأنهم كانوا يُفشون أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويظنون أنهم لا شيء عليهم في ذلك، وقال الضحاك، وابن زيد: هو في المنافقين، فنُهُوا عن ذلك؛ لما يلحقهم من الكذب في الإرجاف.

وقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} أي: لم يُحدِّثوا به، ولم يُفشوه حتى يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الذي يحدث به، ويفشيه، أو أولو الأمر، وهم أهل العلم والفقه، عن الحسن، وقتادة، وغيرهما، وقال السّدّيّ، وابن زيد: الولاةُ، وقيل: أمراء السرايا {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} أي: يستخرجونه؛ أي: لعلموا ما ينبغي أن يُفْشَى منه، وما ينبغي أن يُكْتَمَ، والاستنباط مأخوذ من استنبَطتُ الماءَ: إذا استخرجته، والنَّبْطُ: الماء المستنبط أوّلَ ما يَخرُج من ماء البئر أوّلَ ما تُحْفَر، وسُمّي النَّبَط نَبَطًا لأنهم يستخرجون ما في الأرض، والاستنباط في اللغة: الاستخراج، وهو يدلّ على الاجتهاد، إذا عُدِم النصّ، والإجماع. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

.

وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: قوله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها، فيخبر بها، ويُفشيها، ويَنشرها، وقد لا يكون لها صحة، وقد أخرج مسلم في "مقدمة صحيحه"، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع".

وفي "الصحيحين" عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن رسول الله نَهَى عن قيل

= بناشط قد ذُعر من صائد، أو سبع، والناشط: الثور يخرج من بلد إلى بلد، فذلك أوحش له، وأذعر.

(1)

أي هذا القول محكيّ عن الحسن البصريّ رحمه الله.

(2)

"الجامع لأحكام القرآن" 5/ 291 - 292.

ص: 162

وقال؛ أي: الذي يَكثُر من الحديث عما يقول الناس، من غير تثبت، ولا تدبر، ولا تبيُّن.

وفي "سنن أبي داود" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بئس مَطِيّة الرجل زَعَمُوا".

وفي "صحيح مسلم" مرفوعًا: "من حدّث بحديث، وهو يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين".

قال: ومعنى {يَسْتَنْبِطُونَهُ} أي: يستخرجونه من معادنه، يقال: استنبط الرجل العين: إذا حَفَرها، واستخرجها من قُعُورها. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله باختصار

(1)

.

قال عمر رضي الله عنه: (فَكُنْتُ أَنَا اسْتَنبطْتُ ذَلِكَ الْأَمْر) أي: أمر طلاق النبيّ صلى الله عليه وسلم نساءه؛ أي: تتبعتّه، واستخرجت حقيقته، وعلمت عدم صحّته.

(وَأَنْزَلَ الله عز وجل آيَةَ التَّخْيِيرِ) هي الآية السابقة، وقد مضى البحث فيها مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

والحديث متّفقٌ عليه، وسيأتي بيان مسائله بعد ثلاثة أحاديث - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3692]

(

) - (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ، يَعْنِي ابْنَ بِلَالٍ، أَخْبَرَنِي يَحْيَى، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ بْنُ حُنَيْنٍ؛ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ يُحَدِّثُ، قَالَ: مَكَثْتُ سَنَةً، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ آيَةٍ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْأَلَهُ؛ هَيْبَةً لَهُ، حَتَّى خَرَجَ حَاجًّا، فَخَرَجْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ، فَكُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيق، عَدَلَ إِلَى الْأَرَاكِ لِحَاجَةٍ لَهُ، فَوَقَفْتُ لَهُ، حَتَّى فَرَغَ، ثُمَّ سِرْتُ مَعَهُ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنِ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَزْوَاجِهِ؟ فَقَالَ: تِلْكَ حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: وَاللهِ إِنْ كُنْتُ لَأُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ هَذَا مُنْذُ سَنَةٍ، فَمَا أَستَطِيعُ؛ هَيْبَةً لَكَ، قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ، مَا ظنَنْتَ أَنَّ عِنْدِي مِنْ عِلْمٍ، فَسَلْنِي

(2)

عَنْهُ، فَإِنْ كُنْتُ أَعْلَمُهُ أَخْبَرْتُكَ، قَالَ: وَقَالَ

(1)

"تفسير ابن كثير" 1/ 530 - 531.

(2)

وفي نسخة: "فاسألني".

ص: 163

عُمَرُ: وَاللهِ إِنْ كنَّا فِي الْجَاهِلِيَّة، مَا نَعُدُّ لِلنِّسَاءِ أَمْرًا، حَتَّى أَنْزَلَ الله تَعَالَى فِيهِنَّ مَا أَنْزَلَ، وَقَسَمَ لَهُنَّ مَا قَسَمَ، قَالَ: فَبَيْنَمَا أَنَا فِي أَمْرٍ أَأْتَمِرُهُ، إِذْ قَالَتْ لِي امْرَأَتِي: لَوْ صَنَعْتَ كَذَا وَكَذَا، فَقُلْتُ لَهَا: وَمَا لَكِ أَنْتِ وَلِمَا هَا هُنَا؟ وَمَا تَكَلُّفكِ فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ؟ فَقَالَتْ لِي: عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّاب، مَا تُرِيدُ أَنْ تُرَاجَعَ أَنْتَ، وَإِنَّ ابْنَتَكَ لَترَاجِعُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَةَ غَضْبَانَ، قَالَ عُمَرُ: فَآخُذ رِدَائِي، ثمَّ أَخْرُجُ مَكَانِي، حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْت لَهَا: يَا بُنَيَّة، إِنَّكِ لَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ؟ فَقَالَتْ حَفْصَةُ: وَاللهِ إِنَّا لَنُرَاجِعُهُ، فَقُلْتُ: تَعْلَمِينَ أَنِّي أُحَذِّرُكِ عُقُوبَةَ الله، وَغَضَبَ رَسُولِه، يَا بُنَيَّةُ لَا تَغُزَنَّكِ هَذِهِ الَّتِي قَدْ أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا، وَحُبُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهَا، ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى أَدْخلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ؛ لِقَرَابَتِي مِنْهَا، فَكَلَّمْتُهَا، فَقَالَتْ لِي أُمُّ سَلَمَةَ: عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّاب، قَدْ دَخَلْتَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى تَبْتَغِيَ أَنْ تَدْخلَ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَزْوَاجِهِ

(1)

، قَالَ: فَأَخَذَتْنِي أَخْذًا، كَسَرَتْنِي عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُ أَجِدُ، فَخَرَجْت مِنْ عِنْدِهَا، وَكَانَ لِي صَاحِبٌ مِنَ الْأَنْصَار، إِذَا غِبْتُ أَتَانِي بِالْخَبَر، وَإِذَا غَابَ كُنْتُ أَنَا آتِيهِ بِالْخَبَر، وَنَحْنُ حِينَئِذٍ نَتَخَوَّفُ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ غَسَّانَ، ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْنَا، فَقَد امْتَلَأَتْ صُدُورُنَا مِنْهُ، فَأَتَى صَاحِبِي الْأَنْصَارِيُّ يَدُقُّ الْبَابَ، وَقَالَ: افْتَحْ افْتَحْ، فَقُلْتُ: جَاءَ الْغَسَّانِيُّ؟ فَقَالَ: أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ، اعْتَزَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَزْوَاجَهُ، فَقُلْتُ: رَغِمَ أَنْفُ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ، ثُمَّ آخُذُ ثَوْبِي، فَأَخْرجُ حَتَّى جِئْتُ، فَاِذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ، يُرْتَقَى إِلَيْهَا بعَجَلَةٍ

(2)

، وَغُلَامٌ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَسْوَدُ عَلَى رَأْسِ الدَّرَجَة، فَقُلْتُ: هَذَا عُمَرُ، فَأُذِنَ لِي، قَالَ عُمَرُ: فَقَصَصْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْحَدِيثَ، فَلَمَّا بَلَغْتُ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ، تَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ، مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ، حَشْوُهَا لِيفٌ، وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا

(1)

وفي نسخة: "وبين أزواجه".

(2)

وفي نسخة: "بعجلها"، وفي أخرى:"بعجلتها".

ص: 164

مَضْبُورًا

(1)

، وَعِنْدَ رَأْسِهِ أُهُبًا مُعَلَّقَةً، فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ فِي جَنْبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَكَيْتُ، فَقَالَ:"مَا يُبْكِيكَ؟ "

(2)

، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ كِسْرَى، وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيه، وَأَنْتَ رَسُولُ الله، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمَا الدُّنْيَا، وَلَكَ الْآخِرَةُ؟ ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ) أبو جعفر، نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253)(م دس ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) المدنيّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(يَحْيَى) بن سعيد الأنصاريّ، أبو سعيد المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت 144) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.

5 -

(عُبَيْدُ بْنُ حُنَيْنٍ) أبو عبد الله المدنيّ، مولى آل زيد بن الخطاب، ويقال: مولى بني زُريق، ثقةٌ قليل الحديث [3].

رَوَى عن قتادة بن النعمان، وأبي موسى الأشعريّ، وابن عمر، وأبي سعيد بن الْمُعَلَّى، وغيرهم.

وروى عنه سالم أبو النضر، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وأبو الزناد، ومروان بن عثمان بن أبي سعيد بن الْمُعَلَّى، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي ذُباب، وغيرهم.

قال ابن سعد: كان ثقةً، وليس بكثير الحديث، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، ذكره ابن حبان في "الثقات".

قال الواقديّ وغيره: مات سنة خمس ومائة، وهو ابن سبعين سنةً، ويقال: وهو ابن تسعين سنةً

(3)

.

(1)

وفي نسخة: "مصبورًا" بالصاد المهملة.

(2)

وفي نسخة: "ما يُبكيك يا عمر؟ ".

(3)

قال الحافظ المزيّ رحمه الله بعد ذكر "ابن سبعين سنةً": وقال في "الكمال": وهو ابن =

ص: 165

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط برقم (1479) وأعاده بعده، و (2382): "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر، فقال: عبد خيّره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا

" الحديث، وله عند أبي داود حديثٌ في النهي عن بيع السلعة حيث تباع.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (عَنْ آيَةٍ) هي آية سورة التحريم.

وقوله: (فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْأَلَهُ؟ هَيْبَةً لَهُ) فيه توقير العالم، ومهابته عن استفسار ما يُخشى من تغيّره عند ذكره، وترقّب خلوته؛ ليسأل عما يريده.

وقوله: (عَدَلَ إِلَى الْأَرَاكِ إلخ) يعني مالَ عن الطريق السلوكة إلى طريق لا يُسلك غالبًا لقضاء حاجته، والأراك شجر معروف، ترعاه الإبل.

وشرح الحديث، ومسائله تأتي بعد حديثين، وإنما أخرّتها إليه؛ لكونه أتمّ سياقًا مما هنا، ولكن أشرح بعض ما يُستغرب هنا، فأقول:

قوله: (ثُمَّ سِرْتُ مَعَهُ، فَقُلْتُ إلخ) فيه البحث في العلم في الطريق، والخلوات، وفي حال القعود والمشي.

وقوله: (حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِنَّ مَا أَنْزَلَ إلخ) يعني حتى أمرنا الله تعالى بأداء حقوقهنّ، كما في قوله تعالى:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228].

وقوله: (فَبَيْنَمَا أَنَا) معنى "بينما"، و"بينا" أي: بين أوقات ائتماري، وكذا ما أشبهه، وسبق بيانه، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

= تسعين سنةً - يعني بتقديم التاء - قال: وهو خطأ، قال الحافظ: بل هو الصواب، فهو ثابت فيما ذكره ابن سعد عن الواقديّ، وكذا في "ثقات ابن حبان"، ومما يؤيده أن الواقديّ روى عنه أنه قال: قلت لزيد بن ثابت مقتل عثمان: اقرأ عليّ الأعراف، فقال: اقرأها عليّ أنت، قال: فقرأتها عليه، فما أخذ عليّ ألفًا، ولا واوًا. انتهى، وكان مقتل عثمان سنة (35) فلو كان كما ذكر المزيّ كان يكون عمره إذ ذاك خمس سنين، ويبعد أن مثله يحفظ سورة الأعراف، ويتأهل لأن يقرأها على زيد بن ثابت. انتهى كلام الحافظ رحمه الله. "تهذيب التهذيب" 3/ 34 - 35.

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 85.

ص: 166

وقوله: (فِي أَمْرٍ أَأْتَمِرُهُ) أي: أشاور نفسي، وأفكّر.

وقوله: (لَوْ صَنَعْتَ كَذَا وَكَذَا) أي: أشارت عليّ بشيء، وأغلظت لي فيه، كما هو مصرّح في "صحيح البخاريّ" في "اللباس".

وقوله: (وَمَا تَكَلُّفُكِ فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ؟) وفي رواية يزيد بن رُومان: "فقمت إليها بقضيب، فضربتها به، فقالتَ: يا عجبًا لك يا ابن الخطاب إلخ".

وقوله: (مَا تُرِيدُ أَنْ تُرَاجَعَ أَنْتَ) المراجعة هي الترادّ في الكلام، والمناظرة فيه.

وقوله: (حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى حَفْصَةَ) بنصب "يدخلَ".

وقوله: (تَعْلَمِينَ) بمعنى اعلمي.

وقوله: (لَا تَغُرَّنَّكِ هَذِهِ الَّتِي قَدْ أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا إلخ) يريد عائشة رضي الله عنها، وأراد بذلك أن لا تقيس نفسها بها، ولا تسير بسيرها في كل شيء؛ فإنها أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، فربما يصدر من إدلالها به صلى الله عليه وسلم ما لا يليق بها.

وقوله: (فَأَخَذَتْنِي أَخْذًا، كَسَرَتْنِي عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُ أَجِدُ) أي: أخذتني بلسانها أخذًا دفعتني عن مقصدي وكلامي

وقوله: (مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ غَسَّانَ) اسمه الحارث بن أبي شَمِر.

وقوله: (فَقَد امْتَلَأَتْ صُدُورُنَا مِنْهُ) أي: غيظًا، أو خوفًا.

وقوله: (رَغِمَ أَنْفُ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ) بفتح الغين، وكسرها؛ أي: لَصِقَ بالرغام، وهو التراب، هذا هو الأصل، ثم استُعمل في كلّ من عجز من الانتصاف، وفي الذّلّ والانقياد كرهًا، قاله النوويّ رحمه الله.

وقوله: (ثُمَّ آخُذُ ثَوْبِي) قال النوويّ رحمه الله: فيه استحباب التجمّل بالثوب والعمامة ونحوهما عند لقاء الأئمة والكبار؛ احترامًا لهم.

(بِعَجَلَةٍ) وفي نسخة: "بعَجَلها"، وفي أخرى:"بعجلتها"، وهي درجة من النخل.

وقوله: (مِنْ أَدَمٍ) بفتحتين؛ أي: جلد.

ص: 167

وقوله: (حَشْوُهَا لِيفٌ) أي: محشوّة باللِّيف، وهو بكسر اللام: ليف النخل.

وقوله: (مَضْبُورًا) بالضاد المعجمة؛ أي: مجموعًا، وفي بعض النسخ بالصاد المهملة.

وقوله: (أُهُبًا) بفتحتين، أو بضمّتين: جمع إهاب، وهو الجلد قبل الدبغ.

والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3693]

(

) - (وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَادُ بْنُ سَلَمَةَ، أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَن ابْنِ عَبَاسٍ، قَالَ: أَقْبَلْتُ مَعَ عُمَرَ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِمَرِّ الظَّهْرَان، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِطُولِه، كَنَحْوِ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بلَالٍ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ: شَأْنُ الْمَرْأَتَيْنِ؟

(1)

قَالَ: حَفْصَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ، وَزَادَ فِيهِ: وَأَتَيْتُ الْحُجَرَ

(2)

، فَإِذَا فِي كُلِّ بَيْتٍ بُكَاءٌ، وَزَادَ أَيْضًا: وَكَانَ آلَى مِنْهُنَّ شَهْرًا، فَلَمَّا كَانَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ نَزَلَ إِلَيْهِنَّ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قريبًا.

2 -

(عَفَّانُ) بن مسلم الصفّار، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [10](ت 220)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 44.

3 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، وتغيّر بآخره، من كبار [8](ت 167)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (كُنَّا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ) اسم واد قرب مكة، قال في "القاموس" و"شرحه": وظهران: كسَحْبان": وادٍ قرب مكة، بينها وبين عُسْفانَ، يُضَافُ إِليه مَرٌّ - بفتح الميم - فيقال: مَرُّ الظَّهْرَان، فـ"مَرّ" اسمُ القَرْيَة، و"ظَهْرَانُ": الوادِي،

(1)

وفي نسخة: "ما شأن المرأتين؟ ".

(2)

وفي نسخة: "فأتيت الْحُجر".

ص: 168

وبمَرّ عُيُونٌ كَثِيرةٌ، ونَخِيلٌ، لأَسْلَمَ، وهُذَيْلٍ، وغاضِرَةَ، ويعْرَف الآنَ بِوَادِي فاطِمَةَ، وهي إِحْدَى مَناهِلِ الحاجّ، قال كُثَيِّر [من الكامل]:

ولَقَدْ حَلَفْتُ لَهَا يَمِينًا صادِقًا

بالله عندَ مَحارِمِ الرَّحْمَنِ

بالرّاقِصَاتِ على الكَلَالِ عَشِيَّةً

تَغْشَى مَنابِتَ عَرْمَضِ الظَّهْرَانِ

العَرْمَضُ هنا صِغَارُ الأَرَاك، حكاه ابنُ سِيدَه، عن أَبي حَنِيفَةَ؛ أي: الدِّينوريّ. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِطُولهِ) فاعل "ساق" ضمير حماد بن سلمة.

وقوله: (قُلْتُ: شَأْنُ الْمَرْأَتَيْنِ؟) يَحْتَمِل أن يكون مرفوعًا بتقدير "ما" الاستفهاميّة؛ أي: ما شأن المرأتين؟ وَيحتمل أن يكون منصوبًا بفعل مقدّر؛ أي: حدّثني شأن المرأتين، ووقع في بعض النسخ بلفظ:"ما شأن المرأتين"؟.

وقوله: (وَأَتَيْتُ الْحُجَرَ) وفي نسخة: "فأتيت الحُجَر"، وهو بضمّ الحاء المهملة، وفتح الجيم: جمع حُجْرة، وهي بيوت أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (وَكَانَ آلَى مِنْهُنَّ شَهْرًا) هو بمد الهمزة، وفتح اللام، ومعناه: حَلَفَ، لا يدخل عليهنّ شهرًا، قال النوويّ رحمه الله: وليس هو من الإيلاء المعروف في اصطلاح الفقهاء، ولا له حكمه، وأصل الإيلاء في اللغة: الحلف على الشيء، يقال منه: آلى يؤالي إيلاءً، وتألّى تَأَلِّيًا، وائتلى ائتلاء، وصار في عُرف الفقهاء مختصًّا بالحلف على الامتناع من وطء الزوجة، ولا خلاف في هذا، إلا ما حُكي عن ابن سيرين أنه قال: الإيلاء الشرعيّ محمول على ما يتعلق بالزوجة، من ترك جماع، أو كلام، أو إنفاق، قال القاضي عياض رحمه الله: لا خلاف بين العلماء أن مجرد الإيلاء لا يوجب في الحال طلاقًا، ولا كفارةً، ولا مطالبةً.

ثم اختلفوا في تقدير مدّته، فقال علماء الحجاز، ومعظم الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم: المؤلي من حلف على أكثر من أربعة أشهر، فإن حلف على أربعة، فليس بمولٍ، وقال الكوفيون: هو من حلف على أربعة أشهر، فأكثر، وشذّ ابن أبي ليلى، والحسن، وابن شبرمة في آخرين، فقالوا: إذا

(1)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 3/ 374.

ص: 169

حلف لا يجامعها يومًا، أو أقلّ، ثم تركها حتى مضت أربعة أشهر، فهو مؤلٍ، وعن ابن عمر: أن كل من وَقَّت في يمينه وقتًا، وإن طالت مدته، فليس بمؤلٍ، وإنما المؤلي من حلف على الأبد.

قال: ولا خلاف بينهم أنه لا يقع عليه طلاق قبل أربعة أشهر، ولا خلاف أنه لو جامع قبل انقضاء المدة سقط الإيلاء، فأما إذا لم يجامع حتى انقضت أربعة أشهر، فقال الكوفيون: يقع الطلاق، وقال علماء الحجاز، ومصر، وفقهاء أصحاب الحديث، وأهل الظاهر كلهم: يقال للزوج: إما أن تجامع، وإما أن تُطَلِّق، فإن امتنع طلق القاضي عليه، وهو المشهور من مذهب مالك، وبه قال الشافعيّ، وأصحابه، وعن مالك روايةٌ، كقول الكوفيون، وللشافعيّ قول أنه لا يطلق القاضي عليه، بل يجبر على الجماع، أو الطلاق، ويُعَزَّر على ذلك، إن امتنع، واختَلَف الكوفيون: هل يقع طلاق رجعيّ، أم بائنٌ؟

فأما الآخرون فاتفقوا على أن الطلاق الذي يوقعه هو أو القاضي، يكون رجعيًّا، إلا أن مالكًا يقول: لا تصح فيها الرجعة، حتى يجامع الزوج في العدة، قال القاضي عياض: ولم يُحفظ هذا الشرط عن أحد سوى مالك.

ولو مضت ثلاثة أقراء في الأشهر الأربعة، فقال جابر بن زيد: إذا طلق انقضت عدتها بتلك الأقراء، وقال الجمهور: يجب استئناف العدة.

واختلفوا في أنه هل يشترط للإيلاء أن تكون يمينه في حال الغضب، ومع قصد الضرر، فقال جمهورهم: لا يشترط، بل يكون مؤليًا في كل حال، وقال مالك، والأوزاعيّ: لا يكون مؤليًا إذا حلف لمصلحة ولده لفطامه، وعن عليّ، وابن عباس رضي الله عنهم أنه لا يكون مؤليًا إلا إذا حلف على وجه الغضب. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: هذا الحديث لم أجد من ساقه بتمامه، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 88 - 89.

ص: 170

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3694]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَاللَّفْظُ لِأَبِي بَكْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ حُنَيْنٍ، وَهُوَ مَوْلَى الْعَبَّاس، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، يَقُولُ: كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ عَن الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَظَاهَرَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَبِثْتُ سَنَةً، مَا أَجِدُ لَهُ مَوْضِعًا، حَتَّى صَحِبْتُهُ إِلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا كَانَ بِمَرِّ الظَّهْرَان، ذَهَبَ يَقْضِي حَاجَتَهُ، فَقَالَ: أَدْرِكْني بِإِدَاوَةٍ مِنْ مَاءٍ، فَأَتيْتُهُ بِهَا، فَلَمَّا قَضَى حَاجَتَهُ وَرَجَعَ، ذَهَبْتُ أَصُبُّ عَلَيْه، وَذَكَرْتُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنِ الْمَرْأَتَانِ؟ فَمَا قَضَيْتُ كَلَامِي، حَتَّى قَالَ: عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) بن أبي عمران ميمون الهلاليّ، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ، الإمام الحجة الثبت الحافظ الشهير، من كبار [8](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.

والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي.

وقوله: (وَهُوَ مَوْلَى الْعَبَّاسِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ: مولى العباس، قالوا: وهذا قول سفيان بن عيينة، قال البخاريّ: لا يصح قول ابن عيينة هذا، وقال مالك: هو مولى آل زيد بن الخطاب، وقال محمد بن جعفر بن أبي كثير: هو مولى بني زُرَيق

(1)

، قال القاضي عياض وغيره: الصحيح عند الحفاظ وغيرهم في هذا قول مالك، وحديثه عند أهل المدينة. انتهى

(2)

.

وقوله: (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ: "على عهد"، قال القاضي عياض رحمه الله: إنما قال: "تظاهرتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ولم يقل:"تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم "؛ توقيرًا لهما وبِرًّا، والمراد: تظاهرتا عليه في عهده، كما قال الله تعالى:{وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ}

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 89.

(2)

"إكمال المعلم" 5/ 44 - 45.

ص: 171

[التحريم: 4]، وقد صُرِّح في سائر الروايات بأنهما تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3695]

(

) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ، وَتَقَارَبَا فِي لَفْظِ الْحَدِيث، قَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَن الزُّهْرِيّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ عَن الْمَرْأَتَيْن، مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّتَيْنِ قَالَ اللهُ تَعَالَى:{إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} ، حَتَّى حَجَّ عُمَرُ، وَحَجَجْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيق، عَدَلَ عُمَرُ، وَعَدَلْتُ مَعَهُ بِالْإِدَاوَة، فَتَبَرَّزَ، ثُمَّ أَتَانِي، فَسَكَبْتُ عَلَى يَدَيْه، فَتَوَضَّأَ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَن الْمَرْأَتَان، مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّتَانِ قَالَ اللهُ لَهُمَا:{إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} ؟ قَالَ عُمَرُ: وَا عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: كَرِهَ وَاللهِ مَا سَأَلَهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَكْتُمْهُ، قَالَ: هِيَ حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ، ثُمَّ أَخَذَ يَسُوقُ الْحَدِيثَ، قَالَ: كُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قَوْمًا نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، وَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا، يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ، قَالَ: وَكَانَ مَنْزِلِي فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، بِالْعَوَالِي، فَتَغَضَّبْتُ يَوْمًا عَلَى امْرَأَتِي، فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعُنِي، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي، فَقَالَتْ: مَا تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ؟ فَوَاللهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيُرَاجِعْنَهُ، وَتَهْجُرُهُ إِحْدَاهُنَّ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْل، فَانْطَلَقْتُ، فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: أَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: أَتَهْجُرُهُ إِحْدَاكُنَّ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قُلْتُ: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْكُنَّ وَخَسِرَ

(2)

، أفَتَأْمَنُ إِحْدَاكُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ، لَا تُرَاجِعِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا تَسْأَلِيهِ شَيْئًا، وَسَلِينِي مَا بَدَا لَك، وَلَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ

(1)

"إكمال المعلم" 5/ 46.

(2)

وفي نسخة: "وخسِرت".

ص: 172

جَارَتُكِ هِيَ أَوْسَمَ، وَأَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْك، يُرِيدُ عَائِشَةَ، قَالَ: وَكَانَ لِي جَارٌ مِنَ الْأَنْصَار، فَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَنْزِلُ يَوْمًا، وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَيَأْتِينِي بِخَبَرِ الْوَحْيِ وَغَيْرِه، وَآتِيهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَكُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ الْخَيْلَ لِتَغْزُوَنَا، فَنَزَلَ صَاحِبِي، ثُمَّ أَتَانِي عِشَاءً، فَضَرَبَ بَابِي، ثُمَّ نَادَانِي، فَخَرَجْتُ إِلَيْه، فَقَالَ: حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، قُلْتُ: مَاذَا؟ أَجَاءَتْ غَسَّانُ؟ قَالَ: لَا، بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَطْوَلُ، طَلَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ، فَقُلْتُ: قَدْ خَابَتْ حَفْصَةُ وَخَسِرَتْ، قَدْ كُنْتُ أَظُنُّ هَذَا كَائِنًا، حَتَّى إِذَا صَلَّيْتُ الصُّبْحَ، شَدَدْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي، ثُمَّ نَزَلْتُ، فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، وَهِيَ تَبْكِي، فَقُلْتُ: أَطَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَتْ: لَا أَدْرِي، هَا هُوَ ذَا مُعْتَزِلٌ فِي هَذِهِ الْمَشْرُبَة، فَأَتَيْتُ غُلَامًا لَهُ أَسْوَدَ، فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ، فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ، فَصَمَتَ، فَانْطَلَقْتُ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى الْمِنْبَر، فَجَلَسْتُ، فَإِذَا عِنْدَهُ رَهْطٌ جُلُوسٌ يَبْكِي بَعْضُهُمْ، فَجَلَسْتُ قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، ثُمَّ أَتَيْتُ الْغُلَامَ، فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ، فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ، فَصَمَتَ، فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا، فَإِذَا الْغُلَامُ يَدْعُونِي، فَقَالَ: ادْخُلْ، فَقَدْ أَذِنَ لَكَ، فَدَخَلْتُ، فَسَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا هُوَ مُتَّكِيءٌ عَلَى رَمْلِ حَصِيرٍ، قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِه، فَقُلْتُ: أَطَلَّقْتَ يَا رَسُولَ اللهِ نِسَاءَكَ؟ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيَّ، وَقَالَ:"لَا"، فَقُلْتُ: اللهُ أَكْبَرُ، لَوْ رَأَيْتَنَا يَا رَسُولَ الله، وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قَوْمًا نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، وَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ، فَتَغَضَّبْتُ عَلَى امْرَأَتِي يَوْمًا، فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعُنِي، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي، فَقَالَتْ: مَا تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ؟ فَوَاللهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيُرَاجِعْنَهُ، وَتَهْجُرُهُ إِحْدَاهُنَّ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْل، فَقُلْتُ: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكِ مِنْهُنَّ وَخَسِرَ، أَفَتَأْمَنُ إِحْدَاهُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِه، فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ؟ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، قَدْ دَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: لَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِيَ أَوْسَمُ مِنْك، وَأَحَبُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْك، فَتَبَسَّمَ أُخْرَى، فَقُلْتُ: أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، فَجَلَسْتُ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فِي

ص: 173

الْبَيْت، فَوَاللهِ مَا رَأَيْتُ فِيهِ شَيْئًا، يَرُدُّ الْبَصَرَ إِلَّا أُهُبًا ثَلَاَثةً، فَقُلْتُ: ادْعُ اللهَ يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى أُمَّتِكَ، فَقَدْ وَسَّعَ عَلَى فَارِسَ وَالرُّوم، وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللهَ، فَاسْتَوَى جَالِسًا، ثُمَّ قَالَ:"أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا"، فَقُلْتُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ الله، وَكَانَ أَقْسَمَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا، مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ، حَتَّى عَاتَبَهُ اللهُ عز وجل.

قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا مَضَى تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً، دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَدَأَ بِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّكَ أقسَمْتَ أَنْ لَا تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا، وَإِنَّكَ دَخَلْتَ مِنْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ أَعُدُّهُنَّ، فَقَالَ:"إِنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ"، ثُمَّ قَالَ:"يَا عَائِشَةُ إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا، فَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تَعْجَلِي فِيه، حَتَّى تَسْتَأْمِرِي؟ أَبَوَيْكِ"، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيَّ الْآيَةَ:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} حتى بلغ: {أَجْرًا عَظِيمًا} ، قَالَتْ عَائِشَةُ: قَدْ عَلِمَ وَاللهِ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا لِيَأْمُرَانِي بِفِرَاقِه، قَالَتْ: فَقُلْتُ: أَوَ فِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ فَإِنِّي أُرِيدُ اللهَ، وَرَسُولَهُ، وَالدَّارَ الْآخِرَةَ.

قَالَ مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ؛ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَا تُخْبِرْ نِسَاءَكَ أَنِّي اخْتَرْتُكَ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ اللهَ أَرْسَلَنِي مُبَلِّغًا، وَلَمْ يُرْسِلْنِي مُتَعَنِّتًا"، قَالَ قتَادَةُ:{صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} : مَالَتْ قُلُوبُكُمَا).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ) هو ابن راهويه، تقدّم قبل بابين.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، ثم المكيّ، ثقةٌ [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

3 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم أيضًا قبل بابين.

4 -

(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم قبل بابين.

5 -

(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم، تقدّم في الباب الماضي.

ص: 174

6 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ) القرشيّ المدنيّ، مولى بني نوفل، ثقةٌ [3].

رَوَى عن ابن عباس، وصفية بنت شيبة، وعنه الزهريّ، ومحمد بن جعفر بن الزبير، ذكره مسلمة في الطبقة الثالثة من أهل المدينة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال البخاريّ: قال مصعب: كان أبو ثور من بني الغوث بن مُرّ بن أُدّ، وعِداده في بني نوفل، قال الحافظ: وذكر الخطيب في "المكمل" أنه لم يرو عن غير ابن عباس، ولم يرو عنه غير الزهريّ

(1)

.

أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

والباقيان ذُكرا قبله.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سباعيات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما، ثم فصّل.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له ابن ماجه، والثاني ما أخرج له البخاريّ، وأبو داود.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: الزهريّ، عن عبيد الله.

4 -

(ومنها): أن فيه عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، وإن كان ثقة، إلا أنه قليل الرواية، فليس له في الكتب الستة إلا هذا الحديث، وقد اشترك معه في اسمه، واسم أبيه، وفي الرواية عن ابن عباس، ورواية الزهريّ عنهما: عبيدُ الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود الهذليّ المدنيّ، لكن رواية هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما كثيرة في "الصحيحين"، وغيرهما، وليس لابن أبي ثور عن ابن عباس غير هذا الحديث، أفاده في "الفتح"

(2)

.

5 -

(ومنها): أن فيه ابن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة، وبحرها، وأحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والله تعالى أعلم.

(1)

هذا فيه نظر، فقد ذكر في ترجمته أنه روى عن صفيّة بنت شيبة، وروى عنه غير الزهريّ محمد بن جعفر بن الزبير.

(2)

"الفتح" 1/ 250.

ص: 175

شرح الحديث:

(عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ) النوفليّ المكيّ (عَن ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا أَن أَسْأَلَ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنه، في رواية عبيد بن حُنين الماضية أنه سمع ابن عباس يُحدّث، قال: مكثت سنة، وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه (عَن الْمَرْأَتَيْنِ) وفي رواية عبيد بن حُنين:"عن آية"(مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّتَيْنِ قَالَ اللهُ تَعَالَى) في شأنهما ({إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ} أي: مالت ({قُلُوبُكُمَا}، حَتى حَجَّ عُمَرُ) رضي الله عنه (وَحَجَجْتُ مَعَهُ) وفي رواية عبيد: "فما أستطيع أن أسأله هيبة له، حتى خرج حاجًّا"، وفي رواية يزيد بن رُومان عند ابن مردويه:"عن ابن عباس: أردت أن أسأل عمر، فكنت أهابه، حتى حججنا معه، فلما قضينا حجنا، قال: مرحبًا بابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما حاجتك؟ ".

(فَلَمَّا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيق، عَدَلَ عُمَرُ) أي: عن الطريق الجادّة المسلوكة إلى طريق لا يُسْلَك غالبًا؛ ليقضي حاجته، ووقع في رواية عُبيد بن حُنين السابقة:"فخرجت معه، فلما رجع، فكنا ببعض الطريق عَدَلَ إلى الأراك لحاجة له"، وبيّن في رواية حماد بن سلمة، وابن عيينة كلاهما عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ أن المكان المذكور هو "مَرّ الظَّهْران"، وقد تقدّم ضبطه، ومعناه قبل حديث (وَعَدَلْتُ مَعَهُ بِالْإِدَاوَةِ) بكسر الهمزة: الْمِطْهَرة؛ أي: إناء الطهارة، وجمعها الأَدَاي بالفتح

(1)

. (فَتَبَرَّزَ) أي: قَضَى حاجته، وأصل التَّبَرّز من الْبَرَاز، وهو الموضع الخالي البارز عن البيوت، ثم أُطلق على نفس الفعل، وفي رواية حماد بن سلمة المذكورة عند الطيالسيّ:"فدخل عمر الأراك، فقضى حاجته، وقعدت له، حتى خَرَج"، فيؤخذ منه أن المسافر إذا لم يجد الفضاء لقضاء حاجته استتر بما يمكنه الستر به من شجر البادية

(2)

. (ثُمَّ أَتَانِي، فَسَكَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ) وفي رواية عُقيل: "فسكبت من الإداوة"؛ أي: صببت عليه، قال النوويّ رحمه الله: فيه جواز الاستعانة في الوضوء، وقد سبق إيضاحها في أوائل الكتاب، وهو أنها إن كانت لعذر، فلا بأس بها، وإن كانت بغيره فهي خلاف

(1)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 9.

(2)

"الفتح" 11/ 600.

ص: 176

الأَولى، ولا يقال: مكروهة على الصحيح. انتهى

(1)

.

(فَتَوَضَّأَ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَن الْمَرْأَتَانِ) وفي رواية الطيالسيّ: "فقلت: يا أمير المؤمنين أريد أن أسألك عن حديث منذ سنة، فتمنعني هيبتك، أن أسألك"، ورواية عُبيد بن حُنين الماضية:"فوقفت له، حتى فرغ، ثم سِرْت معه، فقلت: يا أمير المؤمنين، مَن اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه؟ قال: تلك حفصة وعائشة، فقلت: والله إن كنت لأُريد أن أسألك عن هذا منذ سنة، فما أستطيع هيبة لك، قال: فلا تفعل، ما ظننت أَنّ عندي من علم، فاسألني، فإن كان لي علم أخبرتك"، وفي رواية يزيد بن رَومان:"فقال: ما تسأل عنه أحدًا أعلم بذلك مني".

(مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّتَانِ قَالَ اللهُ عز وجل لَهُمَا: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}؟) أي: قال الله تعالى لهما: إن تتوبا من التعاون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدلّ عليه قوله بعدُ:{وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} ؛ أي: تتعاونا، ومعنى تظاهرهما: أنهما تعاونتا حتى حَرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه ما حَرَّم كما تقدّم بيانه.

وقوله: {قُلُوبُكُمَا} كَثُر استعمالهم في موضع التثنية لفظ الجمع، كقولهم: وَضَعا رحالهما؛ أي: رَحْلَي راحلتيهما

(2)

.

(قَالَ عُمَرُ) رضي الله عنه (وَا عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ) هذا من عمر رضي الله عنه تَعَجُّبٌ من ابن عباس رضي الله عنهم مع شهرته بعلم التفسير، كيف خَفِي عليه هذا القدر مع شهرته، وعظمته في نفس عمر، وتقدمه في العلم على غيره، كما هو مشهور في قصّة سؤاله له عن تفسير {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} الآيات [النصر: 1 - 3]، ومع ما كان ابن عباس مشهورًا به من الحرص على طلب العلم، ومداخلة كبار الصحابة، وأمهات المؤمنين فيه.

أوْ تعجَّبَ من حرصه على طلب فنون التفسير، حتى معرفة المبهم.

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 90.

(2)

"الفتح" 11/ 601.

ص: 177

ووقع في رواية معمر: "وا عجبي لك"

(1)

.

[تنبيه]: يجوز في "عجبًا" التنوين، وعدمه، قال ابن مالك:"وا" في قوله: "واعجبًا" إن كان منونًا فهو اسم فعل، بمعنى "أَعْجَبُ"، ومثله "وهًا"، و"وَيْ"، وجيء بعده بـ"عَجَبًا"، توكيدًا.

وإن كان بغير تنوين، فالأصل فيه "وا عجبي"، فأُبدلت الكسرة فتحةً، والياء ألفًا، كما في:"يا أسفا"، و"يا حسرتا".

وفيه شاهد لجواز استعمال "وا" في منادى غير مندوب، وهو مذهب المبرّد، وهو مذهب صحيح. انتهى

(2)

.

(قَالَ الزُّهْرِيُّ) مبيّنًا قول عمر لابن عبّاس: "وَا عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ"(كَرِهَ وَاللهِ مَا سَأَلَهُ عَنْهُ) فَهِمَ الزهريّ من هذا التعجّب الإنكار لِمَا سأله عنه، وفيه بُعْدٌ، ويُمكن أن يقال: إن تعجّبه إنما كان لأنه استَبعد أن يخفى مثلُ هذا على مثل ابن عبّاس مع مداخلته لأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وشُهرة هذه القضيّة، وشدّة حرصه هو على سماع الأحاديث، وكثرة حفظه، وغزارة علمه، ولمَا كان في نفس عمر من ابن عبّاس، فإنه كان يُعظّمه، ويُقدّمه على كثير من مشايخ الصحابة، كما اتّفق له معه؛ إذ سأله عن قوله تعالى:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} الآيات [النصر: 1 - 3]، والقصّة مشهورة

(3)

.

وقوله: (وَلَمْ يَكْتُمْهُ) من تَتِمّة كلام الزهريّ، يعني مع كراهته سؤاله لم يكتمه جواب ما سأل عنه، بل أوضح له، كما قال:(قَالَ) عمر رضي الله عنه (هِيَ حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ) كذا عند المصنّف في جميع النسخ التي بين يديّ، بإفراد الضمير، ووقع في رواية البخاريّ بلفظ:"هما عائشة وحفصة" بالتثنية، وهي الموافقة للقواعد؛ لأن الخبر مثنّى، وأن السؤال بـ"من المرأتان؟ "، فليُتنبّه.

وقوله: "حفصة وعائشة"، كذا في أكثر الروايات، ووقع في رواية حماد بن سلمة وحده عن يحيى بن سعيد الماضية:"حفصة وأم سلمة"، وقد

(1)

"الفتح" 11/ 602.

(2)

راجع: "شواهد التوضيح والتصحيح"(ص 212).

(3)

"المفهم" 4/ 259.

ص: 178

أخرجه الطيالسيّ في "مسنده" عن يحيى، فقال:"عائشة وحفصة" مثل الجماعة.

[تنبيه]: قال في "الفتح": هذا هو المعتمد أن ابن عباس هو المبتدئ بسؤال عمر عن ذلك، ووقع عند ابن مردويه من وجه آخر ضعيف، عن عمران بن الحكم السّلَميّ: حدّثني ابن عباس، قال: كنا نسير فلَحِقَنا عمر، ونحن نتحدّث في شأن حفصة وعائشة، فسكتنا حين لَحِقنا، فعَزَم علينا أن نُخبره، فقلنا: تذاكرنا شأن عائشة وحفصة وسودة، فذَكَر طرفًا من هذا الحديث، وليس بتمامه.

قال الحافظ رحمه الله: ويمكن الجمع بأن هذه القصة كانت سابقةً، ولم يتمكن ابن عباس من سؤال عمر عن شرح القصة على وجهها، إلا في الحال الثاني. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ أَخَذَ) عمر رضي الله عنه (يَسُوقُ الْحَدِيثَ) ولفظ البخاريّ: "ثم استقبل عمر الحديث يسوقه"؛ أي: القصّة التي كانت سبب نزول الآية المسئول عنها (قَالَ) عمر (كُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ) منصوب على الاختصاص، كما قال في "الخلاصة":

الاخْتِصَاصُ كَنِدَاءٍ دُونَ "يَا"

كَـ"أَيُّهَا الْفَتَى" بِإِثْرِ "ارْجُونِيَا"

وَقَدْ يُرَى ذَا دُونَ "أَيٍّ" تِلْوَ "أَلْ"

كَمِثْلِ "نَحْنُ الْعُرْبَ أَسْخَى مَنْ بَذَلْ"

(قَوْمًا) منصوب على أنه خبر "كان"، وقوله:(نَغْلِبُ النِّسَاءَ) جملة في محلّ نصب، على أنه صفةُ "قومًا" أي: نَحْكُم عليهنّ، ولا يحكمن علينا، بخلاف الأنصار، فكانوا بالعكس من ذلك، وفي رواية يزيد بن رُومان:"كنا، ونحن بمكة لا يُكَلِّم أحد امرأته إلا إذا كانت له حاجة، قضى منها حاجته"، وفي رواية عُبيد بن حُنين:"وقال عمر: والله إن كنا في الجاهليّة ما نَعُدّ للنساء أمرًا، حتى أنزل الله فيهنّ ما أنزل، وقَسَم لهنّ ما قسم"، وفي رواية الطيالسيّ:"كنا لا نعتدّ بالنساء، ولا نُدخلهنّ في أمورنا".

(فَلَمَّا قَدِمْنَا) بكسر الدال (الْمَدِينَةَ، وَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا) بكسر الفاء، وقد تُفتح؛ أي: جَعَل، أو أخذ، والمعنى: أنهنّ أخذن في تعلم ذلك (يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ) وفي رواية البخاريّ: "فطفق نساؤنا يأخذن

(1)

"الفتح" 11/ 602 "كتاب النكاح" رقم (5191).

ص: 179

من أدب نساء الأنصار"؛ أي: من سِيرتهنّ، وطريقتهنّ، وفي رواية له: "من أَرَبِ" بالراء، وهو العقل، وفي رواية يزيد بن رُومان: "فلما قَدِمنا المدينة تزوجنا من نساء الأنصار، فجعلن يكلمننا، ويراجعننا" (قَالَ) عمر رضي الله عنه (وَكَانَ مَنْزِلِي فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ) أي: ابن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف من الأوس (بِالْعَوَالِي) أي: عوالي المدينة، والعوالي: جمع عالية، وهي قُرًى بقرب المدينة، مما يلي المشرق، وكانت منازل الأوس (فَتَغَضَّبْتُ) أي: استعملت الغضب؛ أي: أسبابه (يَوْمًا عَلَى امْرَأَتِي) وفي رواية البخاريّ: "فَسَخَبْتُ على امرأتي"، بسين مهملة، ثم خاء معجمة، ثم موحدة، وفي رواية الكشميهنيّ بالصاد المهملة، بدل السين، وهما بمعنًى، والصَّخَب، والسَّخَب: الزجر من الغضب.

وفي رواية: "فصحت" بحاء مهملة، من الصياح، وهو رفع الصوت، ووقع في رواية عُبيد بن حُنين:"فبينما أنا في أمر أتأمره" أي: أتفكر فيه، وأُقَدِّره، "فقالت امرأتي: لو صنعت كذا وكذا" (فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعُنِي) "إذا" هي الفُجائيّة؛ أي: ففاجأني مراجعتها إياي، وفي رواية عُبيد بن حُنين: "قال: فبينما أنا في أمر أئتمره، إذ قالت لي امرأتي: لو صنعت كذا وكذا" (فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي) أي: تُرادَّني في القول، وتناظرني فيه، ووقع في رواية عُبيد بن حُنين: "فقلت لها: ومالك أنت، ولما ها هنا، وما تكلفك في أمر أريده؟ " فقالت لي: عجبًا لك يا ابن الخطاب، ما تريد أن تراجع أنت، وفي لفظ للبخاريّ:"فلما جاء الإسلام، وذكرهنّ الله، رأين لهن بذلك حقًّا علينا، من غير أن نُدخلهن في شيء من أمورنا، وكان بيني وبين امرأتي كلام، فأغلظت لي"، وفي رواية يزيد بن رُومان:"فقمت إليها بقضيب، فضربتها به، فقالت: يا عجبًا لك يا ابن الخطّاب"(فَقَالَتْ: مَا تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ؟)"ما" استفهاميّة إنكاريّة؛ أي: أيّ شيء تنكر في مراجعتك؟ وفي رواية البخاريّ: "فقالت: ولمَ تُنْكر أن أراجعك؟ "، وفي رواية عُبيد:"فقالت لي: عجبًا لك يا ابن الخطّاب، ما تريد أن تُراجع أنت"(فَوَاللهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيُرَاجِعْنَهُ، وَتَهْجُرُهُ إِحْدَاهُنَّ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ) وفي رواية عُبيد بن حُنين: "وإن ابنتك لتراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يَظَلّ يومه غضبان"، وفي رواية للبخاريّ: "قالت: تقول لي هذا، وابنتك

ص: 180

تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية الطيالسيّ: "فقلت: متى كنتِ تدخلين في أمورنا؟ فقالت: يا ابن الخطاب، ما يستطيع أحد أن يكلمك، وابنتك تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يظل غضبان".

وقولها: "اليومَ إلى الليل" بنصب "اليوم" على الظرفيّة لـ"تهجر"؛ أي: من أول النهار إلى أن يدخل الليل، وَيحْتَمِل أن يكون المراد: حتى إنها لتهجره اليومَ مضافًا إلى الليل.

(فَانْطَلَقْتُ) زاد في رواية البخاريّ: "فأفزعني ذلك، فقلت لها: قد خاب من فَعَلَ ذلكِ منهنّ، ثم جمعت عليّ ثيابي، فنزلت"(فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ) يعني ابنته، وبدأ بها لمنزلتها منه (فَقُلْتُ: أَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ) وفي رواية عُبيد بن حُنين: "فقالت حفصة: والله لنراجعه"، وفي رواية حماد بن سلمة:"فقلت: ألا تتّقين الله"(فَقُلْتُ: أَتَهْجُرُهُ إِحْدَاكُنَّ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ؟) وفي رواية البخاريّ: "فقلت لها؛ أي: حفصةُ، أتغاضب إحداكنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم اليوم حتى الليل؟ "(قَالَتْ: نَعَمْ، قُلْتُ: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْكُنَّ وَخَسِرَ) وفي نسخة: "وخسِرَت" فالتذكير بالنظر إلى لفظ "من"، والتأنيث بالنظر إلى المعنى (أفَتَأْمَنُ إِحْدَاكُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ؟) وفي رواية البخاريّ: "أفتأمنين أن يغضب الله لغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتهلكي"، قال في "الفتح": كذا هو بالنصب للأكثر، ووقع في رواية عُقيل:"فتهلكين"، وهو على تقدير محذوف، وتقدم في "كتاب المظالم":"أفتأمنُ أن يغضب الله لغضب رسوله، فتهلكين"، قال أبو عليّ الصدفيّ: الصواب: أفتأمنين، وفي آخره: فتهلكي، كذا قال، وليس بخطأ؛ لإمكان توجيهه.

وفي رواية عُبيد بن حُنين: "فتهلكن" بسكون الكاف، على خطاب جماعة النساء، وعنده:"فقلت: تَعْلَمِين أني أحذِّرك عقوبة الله، وغضب رسوله".

(لَا تُرَاجِعِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا تَسْأَلِيهِ شَيْئًا، وَسَلِينِي مَا بَدَا لَكِ) أي: ظهر لك، وفي رواية البخاريّ:"لا تستكثري النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا تراجعيه في شيء، ولا تهجريه، وسليني ما بدا لك"، ومعنى:"لا تستكثري": أي لا تطلبي منه الكثير، ومعنى:"لا تراجعيه في شيء" أي: لا ترادّيه في الكلام، ولا تردي عليه، و"لا تهجريه" أي: ولو هجركِ.

ص: 181

وفي رواية يزيد بن رومان: "لا تكلمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس عنده دنانير، ولا دراهم، فما كان لكِ من حاجة حتى دُهْنةٍ، فسليني".

(وَلَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ) بفتح الألف، وبكسرها أيضًا (كَانَتْ جَارَتُكِ) أي: ضَرّتك، أو هو على حقيقته؛ لأنها كانت مجاورة لها، والأولى أن يُحْمَل اللفظ هنا على معنييه؛ لصلاحيته لكل منهما، والعرب تُطلق على الضرّة جارةً؛ لتجاورهما المعنويّ؛ لكونهما عند شخص واحد، وإن لم يكن حسيًّا، وقد وقع في حديث حَمَل بن مالك:"كنت بين جارتين" يعني ضرّتين، فإنه فسره في الرواية الأخرى، فقال:"امرأتين"، وكان ابن سيرين يكره تسميتها ضرّةً، ويقول: إنها لا تضرّ، ولا تنفع، ولا تذهب من رزق الأخرى بشيء، وإنما هي جارةٌ، والعرب تسمي صاحب الرجل، وخليطه: جارًا، وتسمي الزوجة أيضًا جارةً؛ لمخالطتها الرجلَ

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: أراد بالجارة الضرّة، وكَنَى بها عنها؛ مراعاةً للأدب، واجتنابًا للفظ الضرر أن يضاف لمثل أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهنّ، ويعني بذلك عائشة رضي الله عنها. انتهى

(2)

.

(هِيَ أَوْسَمَ) أي: أجمل، وهو بالسين المهملة، من الوسامة، وهي العلامة، والوسيم: الجميل، فكأن الحسن وَسَمها؛ أي: علّمها بعلامة تُعرف بها، ولفظ البخاريّ:"أوضأ" من الوضاءة (وَأَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْك، يُرِيدُ عَائِشَةَ) المعنى: لا تغترّي بكون عائشة تفعل ما نهيتكِ عنه، فلا يؤاخذها بذلك، فإنها تُدْلِ بجمالها، ومحبة النبيّ صلى الله عليه وسلم فيها، فلا تغتري أنت بذلك؛ لاحتمال أن لا تكوني عنده في تلك المنزلة، فلا يكون لك من الإدلال مثل الذي لها.

ووقع في رواية عُبيد بن حُنين الماضية أبين من هذا، ولفظه:"يا بُنيّةُ لا تغرّنّك هذه التي قد أعجبها حسنها، وحبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها".

وفي رواية الطيالسيّ: "لا تغترّي بحسن عائشة، وحبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

"الفتح" 11/ 606 "كتاب النكاح" رقم (5191).

(2)

"المفهم" 4/ 260.

ص: 182

إياها"، وعند ابن سعد في رواية أخرى: "إنه ليس لك مثل حَظوة عائشة، ولا حسن زينب"، يعني بنت جحش.

وزاد عُبيد بن حُنين في هذه الرواية: "ثم خرجتُ حتى دخلت على أم سلمة؛ لقرابتي منها"، يعني لأن أم عمر كانت مخزومية، مثل أم سلمة، وهي أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة، ووالدة عمر حنتمة بنت هاشم بن المغيرة، فهي بنت عم أمه، وفي رواية يزيد بن رُومان:"ودخلت على أم سلمة، وكانت خالتي"، وكأنه أطلق عليها خالة؛ لكونها في درجة أمه، وهي بنت عمها، وَيحْتَمِل أن تكون ارتضعت معها، أو أختها من أمها، قاله في "الفتح"

(1)

.

(قَالَ) عمر رضي الله عنه (وَكَانَ لِي جَارٌ مِنَ الْأَنْصَارِ) قال في "الفتح": اسم الجار المذكور أوس بن خَوْلِيّ بن عبد الله بن الحارث الأنصاريّ، سماه ابن سعد من وجه آخر، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة، فذكر حديثًا، وفيه:"وكان عُمَر مؤاخيًا أوس بن خَوْلي، لا يسمع شيئًا إلا حدّثه، ولا يسمع عمر شيئًا إلا حدّثه"، فهذا هو المعتمد.

وأما ما تقدّم في "العلم" عمن قال: إنه عتبان بن مالك، فهو من تركيب ابن بشكوال، فإنه جوَّز أن يكون الجار المذكور عتبان؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم آخَى بينه وبين عمر، لكن لا يلزم من الإخاء أن يتجاورا، والأخذ بالنصّ مقدَّم على الأخذ بالاستنباط، وقد صرحت الرواية المذكورة عند ابن سعد أن عمر كان مؤاخيًا لأوس، فهذا بمعنى الصداقة، لا بمعنى الإخاء الذي كانوا يتوارثون به، ثم نُسِخ، وقد صرح به ابن سعد بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم آخَى بين أوس بن خَوْليّ وشُجاع بن وهب، كما صرح به بأنه آخَى بين عمر وعتبان بن مالك، فتبيّن أن معنى قوله:"كان مؤاخيًا" أي: مصادقًا، ويؤيد ذلك أن في رواية عُبيد بن حُنين:"وكان لي صاحب من الأنصار". انتهى

(2)

.

(فَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي لفظ للبخاريّ: "على رسول الله صلى الله عليه وسلم "(فَيَنْزِلُ يَوْمًا، وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَيَأْتِينِي بِخَبَرِ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ) أي: من

(1)

"الفتح" 11/ 607.

(2)

"الفتح" 11/ 602 - 603 "كتاب النكاح" رقم (5191).

ص: 183

الحوادث الكائنة عند النبيّ صلى الله عليه وسلم (وَآتِيهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ) وفي رواية ابن سعد المذكورة: "لا يسمع شيئًا إلا حدّثه به، ولا يسمع عمر شيئًا إلا حدثه به"، وفي رواية عُبيد بن حُنين السابقة:"إذا غِبت أتاني بالخبر، وإذا غاب كنت آتيه بالخبر"، ولفظ البخاريّ:"إذا غاب، وشهدت أتيته بما يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية الطيالسيّ:"يحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غبت، وأحضره إذا غاب، ويخبرني، وأخبره"(وَكُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ غَسَّانَ) والأشهر فيه ترك صرفه باعتبار القبيلة، وقيل: يُصرف باعتبار أنه أبٌ، أو حي، وقد سمّاه ابن سعد في روايته:"الحارث بن أبي شَمِر"(تُنْعِلُ الْخَيْلَ) وفي لفظ للبخاريّ: "وكنا قد تحدثنا أن غَسّان تنعل الخيل"، وفي لفظ له في "المظالم":"تُنْعِل النعال" أي: تستعمل النعال، وهي نعال الخيل.

وَيحْتَمِل أن يكون بالموحدة، ثم المعجمة، ويؤيده لفظ الخيل في هذه الرواية، و"تُنْعِل" في الموضعين بفتح أوله، وأنكر الجوهريّ ذلك في الدابة، فقال: أنعلت الدابة، ولا تقل: نَعَلتُ، فيكون على هذا بضم أوله، وحكى عياض في "تُنعل الخيل" الوجهين، وغَفَل بعض المتأخرين، فرَدّ عليه، وقال المجد في البخاريّ:"تنعل النعال"، فاعتمد على الرواية التي في "المظالم"، ولم يستحضر التي هنا، وهي التي تكلم عليها عياض، قاله في "الفتح"

(1)

.

(لِتَغْزُوَنَا) وقع في رواية عُبيد بن حُنين السابقة: "ونحن حينئذ نتخوف ملِكًا من ملوك غسان، ذُكِر لنا أنه يريد أن يسير إلينا، فقد امتلأت صدورنا منه"، وفي روايته عند البخاريّ في "اللباس":"وكان مَن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقام له، فلم يبق إلا ملك غسان بالشام، كنا نخاف أن يأتينا"، وفي رواية الطيالسيّ:"ولم يكن أحد أخوف عندنا من أن يغزونا ملك من ملوك غسان".

(فَنَزَلَ صَاحِبِي، ثُمَّ أَتَانِي عِشَاءً) لفظ البخاريّ: "فرجع إلينا عِشاءً"(فَضَرَبَ بَابِي) زاد في رواية البخاريّ: "ضربًا شديدًا"(ثُمَّ نَادَانِي) ولفظ البخاريّ: "وقال: أَثَمَّ هو؟ "؛ أي: في البيت، وذلك لبطء إجابتهم له، فظنّ أنه خرج من البيت، وفي رواية عُقيل:"أنائم هو؟ "، وهي أولى، قاله في "الفتح"

(2)

.

(1)

"الفتح" 11/ 608.

(2)

"الفتح" 11/ 608.

ص: 184

(فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ) وفي رواية البخاريّ: "ففزِعتُ، فخرجت إليه"(فَقَالَ: حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ) وللبخاريّ: "فقال: قد حدث اليوم أمر عظيم"(قُلْتُ: مَاذَا؟) وللبخاريّ: "ما هو؟ "(أَجَاءَتْ غَسَّانُ؟) وللبخاريّ: "أجاء غسان؟ "، تقدّم أنه يجوز صرفه، وعدمه، وفي رواية عبيد بن حنين:"أجاء الغساني؟ "، (قَالَ: لَا، بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَطْوَلُ) ولفظ البخاريّ:"وأهول"، قال في "الفتح": هو بالنسبة إلى عمر؛ لكون حفصة بنته منهنّ. انتهى. (طَلَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ) قال في "الفتح": كذا وقع في جميع الطرق عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور: "طَلَّق" بالجزم، ووقع في رواية عمرة، عن عائشة، عند ابن سعد:"فقال الأنصاريّ: أمر عظيم، فقال عمر: لعل الحارث بن أبي شَمِر سار إلينا؟ فقال الأنصاريّ: أعظم من ذلك، قال: ما هو؟ قال: ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قد طلَّق نساءه"، وأخرج نحوه من رواية الزهريّ، عن عروة، عن عائشة، وسَمَّى الأنصاريَّ أوسَ بن خَوْليّ، كما تقدم، ووقع قوله:"طلق" مقرونًا بالظنّ. انتهى

(1)

.

(فَقُلْتُ: قَدْ خَابَتْ حَفْصَةُ وَخَسِرَتْ) إنما خصها بالذكر؛ لمكانتها منه؛ لكونها بنته، ولكونه كان قريب العهد بتحذيرها من وقوع ذلك، ووقع في رواية عُبيد بن حُنين:"فقلت: رَغِم أنفُ حفصة وعائشة"، وكأنه خصهما بالذكر؛ لكونهما كانتا السبب في ذلك، كما تقدّم بيانه (قَدْ كُنْتُ أَظُنُّ هَذَا كَائِنًا) ولفظ البخاريّ:"قد كنت أظنّ هذا يوشك أن يكون"، بكسر الشين من يوشك؛ أي: يقرب، وذلك لمّا كان تقدم له من أن مراجعتهن قد تفضي إلى الغضب المفضي إلى الفرقة (حَتَّى إِذَا صَلَّيْتُ الصُّبْحَ، شَدَدْتُ عَلَيَّ ثِيَابِيِ) ولفظ البخاريّ: "فجمعت عليّ ثيابي، فصلّيت الصبح مع النبيّ صلى الله عليه وسلم "(ثُمَّ نزَلْتُ، فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، وَهِيَ تَبْكِي) وفي رواية سماك المتقدّمة: "أنه دخل أوّلًا على عائشة، فقال: يابنت أبي بكر، أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ما لي ولك يا ابن الخطاب؟ عليك بِعَيبتك"؛ أي: عليك بخاصتك، وموضع سرّك، ومرادها: عليك بوعظ ابنتك (فَقُلْتُ: أَطَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟) وفي

(1)

"الفتح" 11/ 609.

ص: 185

رواية البخاريّ: "ألم أكن حذّرتكِ؟ أطلّقكنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ "(فَقَالَتْ: لَا أَدْرِي، هَا هُوَ ذَا مُعْتَزِلٌ فِي هَذِهِ الْمَشْرُبَةِ) وفي رواية سماك: "فقلت لها: أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هو في خِزانته، في المشربة"، وهي بضم الراء، وبفتحها، وجمعها: مشارب، ومشربات، وهي الغرفة العليّة، وقيل غير ذلك، مما تقدّم بيانه (فَأَتَيْتُ غُلَامًا لَهُ أَسْوَدَ) هو رَبَاح، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم (فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ) في رواية عُبيد بن حُنين: "فقلت له: قل: هذا عمر بن الخطاب"(فَدَخَلَ) إلى المشربة (ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ، فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ، فَصَمَتَ) بفتح الميم من باب نصر؛ أي: سكت، وصُمُوتًا، وصُمَاتًا، وفي رواية سماك:"فنظر رباح إلى الغرفة، ثم نظر إليّ، فلم يقل شيئًا".

قال في "الفتح": واتفقت الروايتان على أنه أعاد الذهاب والمجيء ثلاث مرّات، لكن ليس ذلك صريحًا في رواية سماك، بل ظاهر روايته أنه أعاد الاستئذان فقط، ولم يقع شيء من ذلك في رواية عُبيد بن حُنين، ومَن حَفِظ حجة على من لم يحفظ.

ويَحْتَمِل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم في المرتين الأوليين كان نائمًا، أو ظَنّ أن عمر جاء يستعطفه على أزواجه؛ لكون حفصة ابنته منهنّ. انتهى

(1)

.

(فَانْطَلَقْتُ) أي: ذهبت إلى المسجد (حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى الْمِنْبَر، فَجَلَسْتُ) وفي رواية البخاريّ: "فانصرفت حتى جلست مع الرهط الذين عند المنبر"(فَإِذَا عِنْدَهُ) أي: عند المنبر (رَهْطٌ) أي: جماعة، قال الفيّوميّ رحمه الله: الرَّهْط: ما دون عشرة من الرجال، ليس فيهم امرأة، وسكون الهاء أفصح من فتحها، وهو جمع لا واحد له من لفظه، وقيل: الرهط من سبعة إلى عشرة، وما دون السبعة إلى الثلاثة نَفَرٌ، وقال أبو زيد: الرَّهْطُ، والنَّفَرُ: ما دون العشرة من الرجال، وقال ثعلب أيضًا: الرهط، والنَّفَر، والقوم، والْمَعْشَر، والْعَشِيرة: معناهم الجمع، لا واحد لهم من لفظهم، وهو للرجال دون النساء، وقال ابن السِّكِّيت: الرهط، والعشيرة: بمعنًى، ويقال: الرهط: ما فوق العشرة إلى الأربعين، قاله الأصمعيّ في "كتاب الضاد، والظاء"، ونقله ابن فارس أيضًا، ورَهْطُ الرجل: قومُهُ، وقبيلته الأقربون. انتهى.

(1)

"الفتح" 11/ 613.

ص: 186

وقوله: (جُلُوسٌ) جمع: جالس، وهو صفة لـ"رهط"، وقوله:(يَبْكِي بَعْضُهُمْ) جملة حاليّة، قال الحافظ:"لم أقف على تسميتهم"، وفي رواية سماك بن الوليد الماضية:"دخلت المسجد، فإذا الناس ينكتون بالحصى"؛ أي: يضربون الأرض، كفعل المهموم المفكّر (فَجَلَسْتُ قَلِيلًا) وفي رواية البخاريّ:"فجلست مع الرهط الذين عند المنبر"(ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ) أي: مِن شُغْل قلبه بما بلغه، من اعتزال النبيّ صلى الله عليه وسلم نساءه، وأن ذلك لا يكون إلا عن غضب منه، ولاحتمال صحة ما أُشيع من تطليق نسائه، ومن جملتهنّ حفصة بنت عمر رضي الله عنهما، فتنقطع الوصلة بينهما، وفي ذلك من المشقّة عليه ما لا يخفى (ثُمَّ أَتَيْتُ الْغُلَامَ، فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ، فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ، فَصَمَتَ، فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا، فَإِذَا الْغُلَامُ يَدْعُونِي) وفي رواية سماك: "ثم رفعت صوتي، فقلت: يا رَباح استأذن لي، فإني أظنّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظن إني جئت من أجل حفصة، والله لئن أمرني بضرب عنقها لأضربن عنقها". قال الحافظ: وهذا يقوي الاحتمال الثاني

(1)

؛ لأنه لمّا صرح في حقّ ابنته بما قال، كان أبعد أن يستعطفه لضرائرها. انتهى.

(فَقَالَ: ادْخُلْ، فَقَدْ أَذِنَ لَكَ) بالبناء للفاعل، وهو ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم، وَيحْتَمِل أن يكون بالبناء للمفعول (فَدَخَلْتُ، فَسَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا هُوَ مُتَّكِيءٌ) قال القاضي عياض رحمه الله: متّكئ هنا: بمعنى مضطجع. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله، الاتّكاء هنا هو التمكّن، والتثبّت، فيكون ميلًا على جنب، ويكون تربّعًا؛ إذ كلّ واحد منهما متمكن، ومتثبّتٌ، ويعني به ها هنا: التمكّن على أحد جنبيه. انتهى

(3)

.

(عَلَى رَمْلِ حَصِيرٍ) أي: نسجه، وفي رواية البخاريّ:"فإذا هو مضطجع على رِمَال" بكسر الراء، وقد تُضَمّ، وفي رواية معمر:"على رَمْل" بسكون الميم، والمراد به النسج، تقول: رَمَلتُ الحصيرَ، وأرملته: إذا نسجته، وحَصِير مرمولٌ؛ أي: منسوج، والمراد هنا أن سريره كان مرمولًا بما يُرْمَل به الحصير،

(1)

يعني قوله الماضي: "أو ظنّ أن عمر جاء يستعطفه على أزواجه

إلخ".

(2)

"إكمال المعلم" 5/ 41.

(3)

راجع: "المفهم" 4/ 262.

ص: 187

ووقع في رواية أخرى: "على رِمال سرير"، ووقع في رواية سماك:"على حصير، وقد أثّر الحصير في جنبه"، وكأنه أطلق عليه حَصِيرًا تغليبًا، وقال الخطابيّ: رِمَال الحصير: ضُلُوعه المتداخلة بمنزلة الخيوط في الثوب، فكأنه عنده اسم جمع، قال الحافظ: وقوله: "ليس بينه وبينه فراش، قد أَثَّر الرِّمال بجنبه" يؤيد ما قدمته أنه أَطْلق على نسج السرير حصيرًا. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: إضافة "رَمْلِ" إلى "حَصِيرٍ" في رواية المصنّف من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: الحصير المرمول؛ أي: المنسوج، والله تعالى أعلم.

(قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ) أي: قد ظهر في جنبه صلى الله عليه وسلم الشريف أثر ذلك الحصير؛ لعدم فراش يقيه منه (فَقُلْتُ) زاد في رواية البخاريّ: "وأنا قائم"(أَطَلَّقْتَ يَا رَسُولَ اللهِ نِسَاءَكَ؟ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيَّ) ولفظ البخاريّ: "فرفع إليّ بصره"(وَقَالَ: "لَا") أي: لم أطلِّقهن، وإنما اعتزلت عنهنّ (فَقُلْت: الله أَكْبَرُ) قال الكرمانيّ رحمه الله: لَمّا ظَنّ الأنصاريّ أن الاعتزال طلاقٌ، أو ناشئ عن طلاق أخبر عمرَ بوقوع الطلاق، جازمًا به، فلما استَفْسَر عمر عن ذلك، فلم يجد له حقيقة كَبَّر تعجبًا من ذلك. انتهى.

ويَحْتَمِل أن يكون كبّر الله حامدًا له على ما أنعم به عليه، من عدم وقوع الطلاق، وفي حديث أم سلمة رضي الله عنها، عند ابن سعد:"فكبّر عمر تكبيرةً سمعناها، ونحن في بيوتنا، فعلمنا أن عمر سأله: أطلقت نساءك؟ فقال: لا، فكبّر حتى جاءنا الخبر بعدُ"، ووقع في رواية سماك السابقة:"فقلت: يا رسول الله أطلقتهنّ؟ قال: لا، قلت: إني دخلت المسجد، والمسلمون ينكتون بالحصى، يقولون: طَلَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، أفأنزل، فأخبرهم أنك لم تطلقهنّ؟ قال: نعم، إن شئت"، وفيه:"فقمت على باب المسجد، فناديت بأعلى صوتي، لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه"

(2)

.

(لَوْ رَأَيْتَنَا يَا رَسُولَ اللهِ) وفي رواية البخاريّ: "ثم قلت، وأنا قائم: أستأنس يا رسول الله؟ "، قال في "الفتح": يَحْتَمِل أن يكون قوله: "أستأنس"

(1)

"الفتح" 11/ 613 - 614.

(2)

"الفتح" 11/ 614.

ص: 188

استفهامًا بطريق الاستئذان، وَيحْتَمِل أن يكون حالًا من القول المذكور بعده، وهو ظاهر سياق هذه الرواية، وجزم القرطبيّ بأنه للاستفهام، فيكون أصله بهمزتين، تُسَهّل إحداهما، وقد تُحذف؛ تخفيفًا، ومعناه: أنبسط في الحديث؟ واستأذَنَ في ذلك؛ لقرينة الحال التي كان فيها؛ لعلمه بأن بنته كانت السبب في ذلك، فخَشِي أن يلحقه هو شيء من المعتبة، فبقي كالمنقبض عن الابتداء بالحديث، حتى استأذن فيه. انتهى.

(وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قَوْمًا نَغْلِبُ النِّسَاءَ) فساق الحديث، وكذا في رواية عُقيل، ووقع في رواية معمر أن قوله:"أستأنس" بعد سياق القصة، ولفظه:"فقلت: الله أكبر، لو رأيتنا يا رسول الله، وكنا معشر قريش - فساق القصة - فقلت: أستأنس يا رسول الله؟ قال: نعم"، وهذا يعيّن الاحتمال الأول، وهو أنه استأذن في الاستئناس، فلما أَذِن له فيه جلس، قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الأولى عندي أن قوله: "أستأنس" جملة حالية من "قُلتُ"، وأما الاستفهام فسيأتي بعده، والله تعالى أعلم.

(فَلَمَّا قَدِمْنَا) بكسر الدال (الْمَدِينَةَ، وَجَدْنَا قَوْمًا) هم الأنصار (تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ) تقدّم أنه بكسر الفاء، وفتحها؛ أي: شرع، وأخذ (نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ، فَتَغَضَّبْتُ عَلَى امْرَأَتِي يَوْمًا، فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعُنِي، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي، فَقَالَتْ: مَا تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ؟ فَوَاللهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيُرَاجِعْنَهُ، وَتَهْجُرُهُ إِحْدَاهُنَّ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْل، فَقُلْتُ: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكِ مِنْهُنَّ وَخَسِرَ، أَفَتَأْمَنُ إِحْدَاهُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ؟) تقدّم شرح هذا كله (فَتبسَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، قَدْ دَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: لَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِيَ أَوْسَمُ مِنْك، وَأَحَبُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْك، فَتَبَسَّمَ أُخْرَى) أي: تبسّمة أخرى، وفي رواية عُبيد بن حُنين:"فذكرت له الذي قلت لحفصة، وأم سلمة، فضحك"، وفي رواية سماك:"فلم أزل أحدّثه حتى تَحَسّر الغضب عن وجهه، وحتى كَشَر، فضحك، وكان من أحسن الناس ثَغْرًا"، وقوله:"تحسَّر" بمهملتين؛ أي: تكشَّف وزنًا

(1)

"الفتح" 11/ 614.

ص: 189

ومعنًى، وقوله:"كَشَر" بفتح الكاف، والمعجمة؛ أي: أبدى أسنانه ضاحكًا، قال ابن السِّكِّيت: كَشَرَ، وتبَسَّم، وابتسم، وافْتَرَّ: بمعنًى، فإذا زاد قيل: قَهْقَهَ، وكَرْكَرَ، وقد جاء في صفته صلى الله عليه وسلم:"كان ضَحِكُهُ تبسُّمًا".

(فَقُلْتُ: أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللهِ؟) هذا هو الاستفهام في الاستئناس، والاستئذان فيه، وأما قوله فيما مضى:"فقلت: أستأنس"، وإن رجّح الحافظ كونه استئنافًا، فالأظهر كونه حالًا، كما أسلفته، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أستأنس" هو على الاستفهام، فيكون بهمزتين: همزة الاستفهام، دخلت على همزة المتكلّم، فإن شئت حقّقتهما، وإن شئت حقّقت الأولى، وسهّلت الثانية، ومعناه: أنبسط في الحديث انبساط المتأنّس الذي لا يخاف عَتْبًا، ولا لومًا؟ انتهى

(1)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("نَعَمْ") أي: استأنس (فَجَلَسْت، فَرَفَعْت رَأْسِيٍ فِي الْبَيْتِ) ولفظ البخاريّ: "فرفعت بصري في بيته"(فَوَاللهِ مَا رَأَيْتُ فِيهِ شَيْئًا، يَرُدُّ الْبَصَرَ) قيل: معناه: يَحْمِل البصر على تكرار الرؤية (إِلَّا أُهُبًا ثَلَاثَةً)"الأُهُبُ" بضمّتين: جمع إهاب بكسر الهمزة، قال المجد رحمه الله:"الإهاب" ككِتابٍ: الْجِلدُ، أو ما لم يُدبغ، جمعه: آهِبَةٌ، وأُهُبٌ، وأَهَبٌ. انتهى

(2)

.

وفي رواية البخاريّ: "غير أَهبَةٍ ثلاثة"، قال في "الفتح": في رواية الكشميهنيّ: "ثلاث"، و"الأَهَبَةُ" بفتح الهمزة والهاء، وبضمهما أيضًا: بمعنى الأُهُب، والهاء فيه للمبالغة، وهو جمع إهاب، على غير قياس، وهو الجلد قبل الدباغ، وقيل: هو الجلد مطلقًا، دُبِغ أو لم يدبغ، والذي يظهر أن المراد به هنا جلد شُرِع في دبغه، ولم يكمل؛ لقوله في رواية سماك بن الوليد:"فإذا أَفِيقٌ مُعَلَّقٌ"، والأَفِيق بوزن عَظِيم: الجلد الذي لم يَتِمّ دباغه، يقال: أَدَمٌ، وأديم وأَفَقٌ، وأَفِيقٌ، وإهابٌ، وأُهُبٌ، وعِمادٌ، وعَمُودٌ، وعَمَدٌ، ولم يجئ فَعِيلٌ، وفَعُول على فَعَلٍ، بفتحتين في الجمع إلا هذه الأحرف، والأكثر أن يجيء فُعُلٌ بضمتين، وزاد في رواية عَبيد بن حُنين:"وأن عند رجليه قَرَظًا - بقاف، وظاء معجمة - مصبوبًا - بموحدتين"، وفي رواية أبي ذرّ:"مصبورًا" -

(1)

"المفهم" 4/ 263.

(2)

"القاموس المحيط" 1/ 37.

ص: 190

براء - قال النوويّ: ووقع في بعض الأصول "مضبورًا" بضاد معجمة، وهي لغةٌ، والمراد بالمصبور بالمهملة، والمعجمة: المجموع، ولا ينافي كونه مصبوبًا، بل المراد أنه غير منتثر، وإن كان في غير وعاء، بل هو مصبوب مجتمع، وفي رواية سماك:"فنظرت في خِزانة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أنا بقَبضة من شعير، نحوِ الصاع، ومثلِها قرظًا في ناحية الغرفة".

(فَقُلْتُ: ادْعُ اللهَ يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى أُمَّتِكَ) في رواية عُبيد بن حُنين: "فبكيت، فقال: وما يبكيك؟ فقلت: يا رسول الله إن كسرى وقيصر، فيما هما فيه، وأنت رسول الله"، وفي رواية سماك:"فابتدرت عيناي، فقال: ما يبكيك يابن الخطاب؟ فقلت: يا نبيّ الله، وما لي لا أبكي، وهذا الحصير قد أَثَّر في جنبك، وهذه خِزانتك، لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك قيصر وكسرى، في الأنهار والثمار، وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصفوته؟ ".

(فَقَدْ وَسَّعَ عَلَى فَارِسَ وَالرُّوم، وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللهَ، فَاسْتَوَى جَالِسًا) ولفظ البخاريّ: "فجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان متّكئًا"(ثُمَّ قَالَ: "أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟) وفي رواية للبخاريّ: "أو في هذا أنت يا ابن الخطاب؟ ".

والمعنى: أأنت في شك في أن التوسع في الآخرة خير من التوسع في الدنيا؟ وهذا يُشعر بأنه صلى الله عليه وسلم ظَنّ أنه بكى من جهة الأمر الذي كان فيه، وهو غضب النبيّ صلى الله عليه وسلم على نسائه، حتى اعتزلهنّ، فلما ذكر له أمر الدنيا أجابه بما أجابه به.

وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا إنكار منه صلى الله عليه وسلم على عمر رضي الله عنه لِمَا وقع منه من الالتفات إلى الدنيا، ومدّ عينيه إليها، وقد بالغ صلى الله عليه وسلم في الجواب، والردع بقوله:"أولئك قومٌ عُجِّلت لهم طيّباتهم"، وقوله:"أما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الآخرة"، وفيه حجة على تفضيل الفقر. انتهى

(1)

.

(أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا") وفي رواية عُبيد بن حُنين: "أَلَا ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الآخرة؟ "، وفي رواية له:"لهما" بالتثنية، على إرادة كسرى وقيصر؛ لتخصيصهما بالذكر، والأخرى بإرادتهما،

(1)

"المفهم" 4/ 263.

ص: 191

ومن تبعهما، أو كان على مثل حالهما، زاد في رواية سماك:"فقلت: بلى".

(فَقُلْتُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللهِ) أي: عن جراءتي بهذا القول بحضرتك، أو عن اعتقادي أن التجملات الدنيوية مرغوب فيها، أو عن إرادتي ما فيه مشابهة الكفار في ملابسهم، ومعايشهم

(1)

.

(وَكَانَ) صلى الله عليه وسلم (أَقْسَمَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِن شَهْرًا) في رواية حماد بن سلمة، عن عبيد بن حنين:"وكان آلى منهنّ شهرًا" أي: حَلَف، أو أقسم، وليس المراد به الإيلاء الذي في عُرف الفقهاء اتفاقًا. وفي حديث أنس قال:"آلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه شهرًا"، وهذا موافق للفظ رواية حماد بن سلمة هنا، وإن كان أكثر الرواة في حديث عُمر لم يعبّروا بلفظ الإيلاء، قاله في "الفتح".

وقوله: (مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ) أي: غضبه (عَلَيْهِنَّ، حَتَّى عَاتَبَهُ اللهُ عز وجل وفي رواية البخاريّ:"اعتزل النبيّ صلى الله عليه وسلم نساءه، من أجل ذلك الحديث الذي أفشته حفصة إلى عائشة".

قال الحافظ رحمه الله في "الفتح": كذا في هذه الطريق لم يُفَسَّر الحديث المذكور الذي أفشته حفصة، وفيه أيضًا:"وكان قال: ما أنا بداخل عليهنّ شهرًا، من شدة مَوْجَدته عليهنّ حين عاتبه الله"، وهذا أيضًا مبهم، ولم أره مفسّرًا، وكان اعتزاله في المشربة، كما في حديث ابن عباس، عن عمر، فأفاد محمد بن الحسن المخزوميّ في كتابه "أخبار المدينة" بسند له مرسل:"أنه صلى الله عليه وسلم كان يبيت في المشربة، وَيقِيل عند أراكة على خلوة بئر كانت هناك"، وليس في شيء من الطرق عن الزهريّ بإسناد حديث الباب إلا ما رواه ابن إسحاق، كما أشرت إليه في تفسيع سورة التحريم، والمراد بالمعاتبة قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الآيات [التحريم: 1 - 3].

وقد اختُلِف في الذي حَرَّم على نفسه، وعوتب على تحريمه، كما اختُلِف في سبب حلفه على أن لا يدخل على نسائه، على أقوال، فالذي في "الصحيحين" أنه العسل، كما مضى، من طريق عُبيد بن عُمير، عن عائشة رضي الله عنها، وذكرت في التفسير قولًا آخر أنه في تحريم جاريته مارية، وذكرت هناك كثيرًا

(1)

"الفتح" 11/ 616.

ص: 192

من طرقه، ووقع في رواية يزيد بن رُومان، عن عائشة عند ابن مردويه ما يَجْمَع القولين، وفيه:"أن حفصة أُهديت لها عُكّة فيها عسلٌ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليها حبسته، حتى تُلعقه، أو تسقيه منها، فقالت عائشة لجارية عندها حبشية، يقال لها: خضراء: إذا دخل على حفصة، فانظري ما يصنع؟ فأخبرتها الجارية بشأن العسل، فأرسلت إلى صواحبها، فقالت: إذا دخل عليكنّ، فقلن: إنا نجد منك ريح مغافير، فقال: هو عسل، والله لا أطعمه أبدًا، فلما كان يوم حفصة، استأذنته أن تأتي أباها، فأَذِنَ لها، فذهبت، فأرسل إلى جاريته مارية، فأدخلها بيت حفصة، قالت حفصة: فرجعتُ، فوجدت الباب مُغْلَقًا، فخرج ووجهه يقطر، وحفصة تبكي، فعاتبته، فقال: أُشهِدك أنها عليّ حرام، انظري لا تخبري بهذا امرأة، وهي عندك أمانة، فلما خرج قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة، فقالت: ألا أبشِّرك؟ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرّم أمَته، فنزلت".

وعند ابن سعد، من طريق شعبة مولى ابن عباس عنه:"خرجت حفصة من بيتها يوم عائشة، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بجاريته القبطية بيت حفصة، فجاءت، فرقبته، حتى خرجت الجارية، فقالت له: أما إني قد رأيت ما صنعت، قال: فاكتمي عليّ، وهي حرام، فانطلقت حفصة إلى عائشة، فأخبرتها، فقالت له عائشة: أما يومي فتُعْرِس فيه بالقبطية، ويَسْلَم لنسائك سائر أيامهنّ، فنزلت الآية".

وجاء في ذلك ذكر قول ثالث، أخرجه ابن مردويه، من طريق الضحاك، عن ابن عباس، قال:"دخلت حفصة على النبيّ صلى الله عليه وسلم بيتها، فوجدت معه مارية، فقال: لا تخبري عائشة، حتى أبشرك ببشارة، إنّ أباك يلي هذا الأمر بعد أبي بكر، إذا أنا مت، فذهبت إلى عائشة، فأخبرتها، فقالت له عائشة ذلك، والتمست منه أن يُحَرِّم مارية، فحَرَّمها، ثم جاء إلى حفصة، فقال: أمرتك ألا تخبري عائشة، فأخبَرْتِها"، فعاتبها على ذلك، ولم يعاتبها على أمر الخلافة، فلهذا قال الله تعالى:{عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} .

وأخرج الطبراني في "الأوسط"، وفي "عشرة النساء" عن أبي هريرة نحوه بتمامه، وفي كلٍّ منهما ضعف.

ص: 193

وجاء في سبب غضبه منهنّ، وحلفه أن لا يدخل عليهنّ شهرًا قصة أخرى، فأخرج ابن سعد من طريق عمرة، عن عائشة، قالت: "أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم هدية، فأرسل إلى كل امرأة من نسائه نصيبها، فلم ترض زينب بنت جحش بنصيبها، فزادها مرّةً أخرى، فلم ترض، فقالت عائشة: لقد أَقْمَأَتْ وجهك

(1)

، ترد عليك الهدية؟ فقال: لأنتنّ أهون على الله من أن تقمئنني، لا أدخل عليكنّ شهرًا

" الحديث.

ومن طريق الزهريّ، عن عروة، عن عائشة نحوه، وفيه:"ذَبَحَ ذِبْحًا، فقسمه بين أزواجه، فأرسل إلى زينب بنصيبها، فردّته، فقال: زيدوها ثلاثًا، كلُّ ذلك تردّه"، فذكر نحوه.

وفيه قول آخر تقدّم لمسلم من حديث جابر رضي الله عنه قال: جاء أبو بكر، والناس جلوس بباب النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يؤذن لأحد منهم، فأُذن لأبي بكر، فدخل، ثم جاء عمر، فاستأذن، فأُذن له، فوجد النبيّ صلى الله عليه وسلم جالسًا، وحوله نساؤه، فذكر الحديث، وفيه:"هنّ حولي كما ترى، يسألنني النفقة"، فقام أبو بكر إلى عائشة، وقام عمر إلى حفصة، ثم اعتزلهنّ شهرًا، فذكر نزول آية التخيير.

قال الحافظ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون مجموع هذه الأشياء كان سببًا لاعتزالهنّ، وهذا هو اللائق بمكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم، وسعة صدره، وكثرة صفحه، وأن ذلك لم يقع منه حتى تكرر موجِبه منهنّ صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهنّ.

وقَصّر ابنُ الجوزيّ، فنسب قصة الذبح لابن حبيب بغير إسناد، وهي مسندة عند ابن سعد، وأبهم قصّة النفقة، وهي في "صحيح مسلم".

والراجح من الأقوال كلها قصة مارية؛ لاختصاص عائشة وحفصة بها، بخلاف العسل، فإنه اجتمع فيه جماعة منهنّ، كما تقدّم ذلك.

ويَحْتَمِل أن تكون الأسباب جميعها اجتمعت، فأشير إلى أهمها، ويؤيده شمول الحلف للجميع، ولو كان مَثَلًا في قصة مارية فقط لاختَصّ بحفصة وعائشة.

[تنبيه]: ومن اللطائف أن الحكمة في الشهر، مع أن مشروعية الهجر

(1)

أي أذلّته، وصغّرته. "ق".

ص: 194

ثلاثة أيام، أن عدتهنّ كانت تسعةً، فإذا ضُربت في ثلاثة، كانت سبعة وعشرين، واليومان لمارية؛ لكونها كانت أمةً، فنقصت عن الحرائر. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب.

(قَالَ الزُّهْرِيُّ) أي: بالإسناد السابق، وليس معلّقًا، وقد وقع عند البخاريّ من رواية عُقيل، وشعيب بن أبي حمزة مدرجًا، كما قال في "الفتح"

(2)

.

(فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ) بن الزبير (عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (قَالَتْ: لَمَّا مَضَى تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً، دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَدَأَ بِي) فيه أن من غاب عن أزواجه، ثم حضر يبدأ بمن شاء منهنّ، ولا يلزمه أن يبدأ من حيث بلغ، ولا أن يُقرع، كذا قيل، ويَحْتَمِل أن تكون البداءة بعائشة رضي الله عنها؛ لكونه اتَّفَقَ أنه كان يومها، قاله في "الفتح"

(3)

.

(فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّكَ أَقْسَمْتَ أَنْ لَا تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا) تقدم في رواية سماك بن الوليد أن عمر ذَكَّره صلى الله عليه وسلم بذلك، ولا منافاة بينهما؛ لأن في سياق حديث عمر أنه ذَكَّره بذلك عند نزوله من الغرفة، وعائشة ذكرته بذلك حين دخل عليها، فكأنهما تواردا على ذلك.

وقد تقدّم عند مسلم من حديث جابر رضي الله عنه في هذه القصة: "قال: فقلنا"، قال الحافظ: فظاهر هذا السياق يوهم أنه من تتمة حديث عمر، فيكون عُمر حضر ذلك من عائشة، وهو مُحْتَمِل عندي، لكن يُقَوِّي أن يكون هذا من تعاليق الزهريّ في هذه الطريق، فإن هذا القدر عنده عن عروة، عن عائشة، أخرجه مسلم من رواية معمر، عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقسم أنه لا يدخل على نسائه شهرًا، قال الزهريّ: فأخبرني عروة، عن عائشة، قالت، فذكره. انتهى.

(وَإِنَّكَ دَخَلْتَ مِنْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ أَعُدُّهُنَّ) جملة في محلّ جرّ نعت للعدد، وفي رواية البخاريّ:"وإنمَا أصبحت من تسع وعشرين ليلةً أعَدُّها عدًّا"(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ") ليس هذا الكلام على معنى الحصر،

(1)

راجع: "الفتح" 11/ 617 - 618، "كتاب النكاح" رقم (5191).

(2)

راجع: "الفتح" 11/ 619 رقم (5191).

(3)

"الفتح" 11/ 618.

ص: 195

وإنما معناه: إن هذا الشهر تسع وعشرون" فـ"أل" في "الشهر" عهديّةٌ، فتنبّه.

ووقع في رواية البخاريّ بلفظ: "فقال: الشهر تسع وعشرون ليلةً، وكان ذلك الشهر تسعًا وعشرين ليلةً"، قال في "الفتح": في هذا إشارة إلى تأويل الكلام الذي قبله، وأنه لا يراد به الحصر، أو أن اللام في قوله:"الشهر" للعهد من الشهر المحلوف عليه، ولا يلزم من ذلك أن تكون الشهور كلها كذلك، وقد أنكرت عائشة على ابن عمر روايته المطلقة:"إن الشهر تسع وعشرون"، فأخرج أحمد، من طريق يحيى بن عبد الرحمن، عن ابن عمر رفعه:"الشهر تسع وعشرون"، قال: فذكروا ذلك لعائشة، فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن، إنما قال:"الشهر قد يكون تسعًا وعشرين".

وقد تقدّم لمسلم في رواية سماك بن الوليد، بنحو اللفظ الأخير الذي جزمت به عائشة، ولفظه:"قال: إن الشهر يكون تسعًا وعشرين".

وقال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: [إن قلت]: ظاهر قوله: "إن الشهر تسع وعشرون" حصر الشهر في تسع وعشرين، مع أنه لا ينحصر فيه، فقد يكون ثلاثين.

[قلت]: عنه أجوبة:

(أحدهما): أن المعنى كما تقدم أن الشهر يكون تسعة وعشرين يومًا، وحينئذ فلا إشكال في ذلك.

(ثانيها): أن الألف واللام للعهد، والمراد أن هذا الشهر الذي أقسم على الامتناع من الدخول فيه تسعة وعشرون يومًا.

(ثالثها): أنه بنى ذلك على الغالب الأكثر؛ لأن مجيء الشهر تسعًا وعشرين في زمنه صلى الله عليه وسلم كان أكثر من ثلاثين، وفي سنن أبي داود، والترمذيٌ، عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال:"ما صمت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم تسعًا وعشرين أكثر مما صمنا ثلاثين"، وكذا في سنن ابن ماجه، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(رابعها): قال القاضي أبو بكر بن العربيّ: معناه حصره من أحد طرفيه، وهو النقصان؛ أي: أنه يكون تسعًا وعشرين، وهو أقلّه، وقد يكون ثلاثين، وهو أكثره، فلا تأخذوا أنتم بصوم الأكثر احتياطًا، ولا تقتصروا على الأقلّ

ص: 196

تخيفيفًا، ولكن اربطوا عبادتكم برؤيته، واجعلوا عبادتكم مرتبطة ابتداء وانتهاء باستهلاله. انتهى

(1)

.

وقوله: (ثمَّ قَالَ: "يَا عَائِشَةُ إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا، فَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تَعْجَلِي فِيه، حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَويْكِ"، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيَّ الْآيَةَ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} حتى بلغ {أَجْرًا عَظِيمًا}، قَالَتْ عَائِشَةُ: قَدْ عَلِمَ وَاللهِ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا لِيَأْمُرَانِي بِفِرَاقِه، قَالَتْ: فَقُلْتُ: أَوَ فِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبوَيَّ؟ فَإِنِّي أُرِيدُ اللهَ، وَرَسُولَهُ، وَالدَّارَ الْآخِرَةَ) هذا تقدّم شرحه مستوفًى في الباب الماضي، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: (قَالَ مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ) بن أبي تميمة السختيانيّ المتوفّى سنة (131) تقدّمت ترجمته في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305. (أَنَّ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (قَالَتْ: لَا تُخْبِرْ نِسَاءَكَ أَنِّي اخْتَرْتُكَ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ أَرْسَلَني مُبَلِّغًا) أي: أبلّغ ما أمرني الله تعالى بتبليغه للناس (وَلَمْ يُرْسِلْنِي مُتَعَنِّتًا") أي: طالبًا لزلات الناس، ومكلّفًا إياهم ما يشقّ عليهم (قَالَ قَتَادَةُ) بن دِعامة السدوسيّ المتوفّى سنة (7 أو 118) تقدّمت ترجمته في "المقدمة" 6/ 70. ({صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}: مَالَتْ قُلُوبُكُمَا) يعني أن معنى {صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} ي: مالت قلوبكما عن الصواب.

[تنبيه]: قال الحافظ الرشيد العطّار رحمه الله في "غرر الفوائد"(30): قوله: "قال معمرٌ: فأخبرني أيوب" منقطع، فإن أيوب السختيانيّ لم يدرك عائشة رضي الله عنها؛ لأن مولده سنة ست وستين من الهجرة، وقيل: سنة ثمان وستّين، وتُوُفّيت عائشة رضي الله عنها سنة ثمان وخمسين، وقيل: سنة سبع وسبعين، والأول أشهر، ومسلم إنما أخرج هذه الزيادة؛ تبعًا للحديث المسند الذي وقعت هذه في آخره، لم ير اختصارها منه على عادته التي بيّنّاها من قبل، ومع ذلك، فهذه الزيادة متّصلة في "كتابه" في حديث التخيير، من رواية أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، فثبت اتّصاله في كتاب مسلم. انتهى كلام الرشيد العطّار رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصوإب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"طرح التثريب" 4/ 121.

ص: 197

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 3691 و 3692 و 3693 و 3694 و 3695](1479)، و (البخاريّ) في "العلم"(89) و"المظالم"(2468) و"التفسير"(4913 و 4914 و 4915) و"النكاح"(5191 و 5218) و"اللباس"(5843) و"أخبار الآحاد"(7256 و 7263)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3318)، و (النسائيّ) في "الصيام"(4/ 137 - 138) و"الكبرى"(5/ 367)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 33 - 34)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4286)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 1172)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 163)، و (البزّار) في "مسنده"(1/ 320)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 37 و 10/ 102)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن فيه سؤالَ العالم عن بعض أمور أهله، وإن كان عليه فيه غَضَاضة، إذا كان في ذلك سنةٌ تُنْقَل، ومسألةٌ تُحْفَظُ. قاله المهلب رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن فيه توقيرَ العالم، ومهابته عن استفسار ما يُخْشَى من تغيّره عند ذِكره، وترقُّب خَلَوات العالم؛ ليُسأل عما لعله لو سُئل عنه بحضرة الناس أنكره على السائل، ويؤخذ من ذلك مراعاة المروءة.

3 -

(ومنها): أن شدة الوطاة على النساء مذمومٌ؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَخَذ بسيرة الأنصار في نسائهم، وترك سيرة قومه.

4 -

(ومنها): أن فيه تأديبَ الرجل ابنته، وقرابته بالقول؛ لأجل إصلاحها لزوجها.

5 -

(ومنها): أن فيه سياقَ القصة على وجهها، وإن لم يَسأل السائل عن ذلك، إذا كان في ذلك مصلحة، من زيادة شرح، وبيان، وخصوصًا إذا كان العالم يَعْلَم أن الطالب يُؤْثر ذلك.

6 -

(ومنها): أن فيه مهابةَ الطالب للعالم، وتواضع العالم له، وصبره على مساءلته، وإن كان عليه في شيء من ذلك غَضاضة.

ص: 198

7 -

(ومنها): أن فيه جوازَ ضرب الباب، ودَقِّه إذا لم يَسمع الداخل بغير ذلك.

8 -

(ومنها): جواز دخول الآباء على البنات، ولو كان بغير إذن الزوج، والتنقيب عن أحوالهنّ، لا سيما ما يتعلق بالمتزوجات.

9 -

(ومنها): أن فيه حسنَ تلطف ابن عباس رضي الله عنهما، وشدّة حرصه على الاطّلاع على فنون التفسير.

10 -

(ومنها): أن فيه طلبَ علو الإسناد؛ لأن ابن عباس رضي الله عنهما أقام مدّةً طويلة ينتظر خلوة عمر؛ ليأخذ عنه، وكان يمكنه أخذ ذلك بواسطة عنه، ممن لا يهاب سؤاله، كما كان يهاب عمر رضي الله عنه.

11 -

(ومنها): أن فيه حرص الصحابة رضي الله عنهم على طلب العلم، والضبط بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم.

12 -

(ومنها): أن طالب العلم يجعل لنفسه وقتًا يتفرغ فيه لأمر معاشه، وحال أهله.

13 -

(ومنها): البحث في العلم في الطرُق، والخلوات، وفي حال القعود، والمشي.

14 -

(ومنها): إيثار الاستجمار في الأسفار، وإبقاء الماء للوضوء، هكذا قال في "الفتح"، وهو محلّ نظر.

15 -

(ومنها): أن فيه ذكرَ العالم ما يقع من نفسه وأهله، بما يترتب عليه فائدة دينية، وإن كان في ذلك حكاية ما يُسْتَهْجَنُ.

16 -

(ومنها): جواز ذكر العمل الصالح لسياق الحديث على وجهه، وبيان ذكر وقت التحمل.

17 -

(ومنها): الصبر على الزوجات، والإغضاء عن خطابهن، والصفح عما يقع منهنّ من زلل في حقّ المرء دون ما يكون من حق الله تعالى.

18 -

(ومنها): جواز اتخاذ الحاكم عند الخلوة بوابًا يمنع من يدخل إليه بغير إذنه، ويكون قول أنس رضي الله عنه في المرأة التي وعظها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم تعرفه، ثم جاءت إليه، فلم تجد له بوّابين - رواه البخاريّ - محمولًا على الأوقات التي يجلس فيها للناس.

ص: 199

19 -

(ومنها): ما قال المهلَّب رحمه الله: وفيه أن للإمام أن يحتجب عن بطانته، وخاصته عند أمر يطرقه من جهة أهله، حتى يذهب غيظه، ويخرج إلى الناس، وهو منبسط إليهم، فإن الكبير إذا احتجب لم يحسن الدخول إليه بغير إذن، ولو كان الذي يريد أن يدخل جليل القدر، عظيم المنزلة عنده.

20 -

(ومنها): أن فيه الرفقَ بالأصهار، والحياء منهم، إذا وقع للرجل من أهله ما يقتضي معاتبتهم.

21 -

(ومنها): أن السكوت قد يكون أبلغ من الكلام، وأفضل في بعض الأحايين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لو أمر غلامه بِرَدّ عمر لم يجز لعمر العود إلى الاستئذان مرة بعد أخرى، فلما سكت فَهِمَ عمر من ذلك أنه لم يؤثر ردّه مطلقًا. أشمار إلى ذلك المهلب رحمه الله.

22 -

(ومنها): أن الحاجب إذا عَلِم مَنْعَ الإذن بسكوت المحجوب، لم يأذن.

23 -

(ومنها): أن فيه مشروعيةَ الاستئذان على الإنسان، وإن كان وحده؛ لاحتمال أن يكون على حالة يَكْرَه الاطلاع عليها.

24 -

(ومنها): أن فيه جوازَ تكرار الاستئذان لمن لم يُؤْذَن له، إذا رجا حصول الإذن، وأن لا يتجاوز به ثلاث مرات، كما سيأتي إيضاحه في "كتاب الأدب" في قصة أبي موسى مع عمر رضي الله عنه، ولا استدراك على عمر من هذه القصة؛ لأن الذي وقع من الإذن له في المرة الثالثة وقع اتّفاقًا، ولو لم يُؤْذَن له فالذي يظهر أنه كان يعود إلى الاستئذان؛ لأنه صرّح كما سيأتي بأنه لم يبلغه ذلك الحكم.

25 -

(ومنها): أن فيه أن كل لذّة، أو شهوة قضاها المرء في الدنيا، فهو استعجال له من نعيم الآخرة، وأنه لو ترك ذلك لادُّخِر له في الآخرة، أشار إلى ذلك الطبريّ رحمه الله.

26 -

(ومنها): أنه استنبط منه بعضهم إيثار الفقر على الغنى، وخصه الطبريّ بمن لم يصرفه في وجوهه، ويفرّقه في سبله التي أمر الله بوضعه فيها، قال: وأما مَن فَعَل ذلك فهو من منازل الامتحان، والصبرُ على المحن مع الشكر أفضل من الصبر على الضراء وحده. انتهى.

ص: 200

قال القاضي عياض رحمه الله: هذه القصة مما يَحتج به مَن يُفَضِّل الفقير على الغني؛ لما في مفهوم قوله: إن من تنعم في الدنيا يفوته في الآخرة بمقداره، قال: وحاوله الآخرون بأن المراد من الآية: أن حظ الكفار هو ما نالوه من نعيم الدنيا؛ إذ لا حظ لهم في الآخرة. انتهى.

قال الحافظ: وفي الجواب نظر، وهي مسألة اختَلَفَ فيها السلف والخلف، وهي طويلة الذيل، سيكون لنا بها إلمام - إن شاء الله تعالى - في "كتاب الرقاق".

27 -

(ومنها): أن المرء إذا رأى صاحبه مهمومًا استُحِبّ له أن يُحَدِّثه بما يزيل همه، ويطيب نفسه؛ لقول عمر:"لأقولنّ شيئًا يضحك النبي صلى الله عليه وسلم"، ويستحب أن يكون ذلك بعد استئذان الكبير في ذلك، كما فعل عمر رضي الله عنه.

28 -

(ومنها): جواز الاستعانة في الوضوء بالصبّ على المتوضئ، وخدمة الصغير الكبير، وإن كان الصغير أشرف نسبًا من الكبير.

29 -

(ومنها): أن فيه التجملَ بالثوب، والعمامة عند لقاء الأكابر.

30 -

(ومنها): أن فيه تذكيرَ الحالف بيمينه، إذا وقع منه ما ظاهره نسيانها، لا سيما ممن له تعلق بذلك؛ لأن عائشة رضي الله عنها خَشِيت أن يكون صلى الله عليه وسلم نَسِيَ مقدار ما حلف عليه، وهو شهر، والشهر ثلاثون يومًا، أو تسعة وعشرون يومًا، فلما نزل في تسعة وعشرين ظنت أنه ذَهلَ عن القدر، أو أن الشهر لم يُهِلّ، فأعلمها أن الشهر استُهِلّ، فإن الذي كان الحلف وقع فيه جاء تسعًا وعشرين يومًا.

31 -

(ومنها): أن فيه تقويةً لقول مَن قال: إن يمينه صلى الله عليه وسلم اتَّفق أنها كانت في أول الشهر، ولهذا اقتصر على تسعة وعشرين، وإلا فلو اتَّفق ذلك في أثناء الشهر، فالجمهور على أنه لا يقع الْبَرّ إلا بثلاثين، وذهبت طائفة في الاكتفاء بتسعة وعشرين؛ أخذًا بأقل ما يَنطلق عليه الاسم.

قال ابن بطال: يؤخذ منه أن مَن حَلَف على فعل شيء يَبَرّ بفعل أقلّ ما ينطلق عليه الاسم، والقصة محمولة عند الشافعيّ، ومالك على أنه دخل أول الهلال، وخرج به، فلو دخل في أثناء الشهر لم يَبرّ إلَّا بثلاثين.

ص: 201

32 -

(ومنها): أن فيه سكنى الغرفة ذات الدرج، واتخاذ الْخِزانة لأثاث البيت والأمتعة.

33 -

(ومنها): أن فيه التناوبَ في مجلس العالم، إذا لم تتيسر المواظبة على حضوره؛ لشاغل شرعيّ، من أمر دينيّ، أو دنيويّ.

34 -

(ومنها): أن فيه قبولَ خبر الواحد، ولو كان الآخذ فاضلًا، والمأخوذ عنه مفضولًا.

35 -

(ومنها): رواية الكبير عن الصغير.

36 -

(ومنها): أن الأخبار التي تُشاع، ولو كثر ناقلوها، إن لم يكن مرجعها إلى أمر حسيّ، من مشاهدة، أو سماع، لا تستلزم الصدق، فإنّ جزمَ الأنصاريّ في روايته بوقوع التطليق، وكذا جزْم الناس الذين رآهم عمر عند المنبر بذلك، محمول على أنهم شاع بينهم ذلك من شخص، بناءً على التوهم الذي توهمه من اعتزال النبيّ صلى الله عليه وسلم نساءه، فظنّ لكونه لم تجر عادته بذلك أنه طلقهنّ، فأشاع أنه طلقهنّ، فشاع ذلك، فتحدث الناس به، وأَخْلِقْ بهذا الذي ابتدأ بإشاعة ذلك أن يكون من المنافقين

(1)

.

37 -

(ومنها): أن فيه الاكتفاءَ بمعرفة الحكم بأخذه عن القرين، مع إمكان أخذه عاليًا عمن أخذه عنه القرين، وأن الترغيب في العلو حيث لا يعوق عنه عائق شرعيّ، ويمكن أن يكون المراد بذلك أن يستفيد منه أصول ما يقع في غيبته، ثم يسأل عنه بعد ذلك مشافهةً، وهذا أحد فوائد كتابة أطراف الحديث

(2)

.

38 -

(ومنها): بيان ما كان الصحابة رضي الله عنهم عليه، من محبة الاطلاع على أحوال النبيّ صلى الله عليه وسلم جَلَّت، أو قلّت، واهتمامهم بما يَهْتَمّ له؛ لإطلاق الأنصاريّ اعتزاله نساءه الذي أشعر عنده بأنه طلقهنّ المقتضي وقوعَ غَمِّه صلى الله عليه وسلم بذلك أعظم من طروق ملك الشام الغسانيّ بجيوشه المدينةَ لغزو مَن بها، وكان ذلك بالنظر إلى أن الأنصاريّ كان يتحقق أن عدوّهم، ولو طرقهم مغلوب، ومهزوم، واحتمال خلاف ذلك ضعيف، بخلاف الذي وقع بما توهمه من التطليق الذي

(1)

"الفتح" 11/ 623.

(2)

المصدر السابق.

ص: 202

يتحقق معه حصول الغمّ، وكانوا في الطرف الأقصى من رعاية خاطره صلى الله عليه وسلم أن يحصل له تشويش، ولو قَلّ، والقَلَق لما يُقْلِقه، والغضب لما يُغضبه، والهمّ لما يُهِمه رضي الله عنهم.

39 -

(ومنها): أن الغضب والحزن يَحْمِل الرجل الوَقُور على ترك التأني المألوف منه؛ لقول عمر رضي الله عنه: ثم غلبني ما أجد ثلاث مرات.

40 -

(ومنها): شدة الفزَع والجزَع للأمور المهمة.

41 -

(ومنها): جواز نظر الإنسان إلى نواحي بيت صاحبه، وما فيه، إذا عَلِمَ أنه لا يَكره ذلك، وبهذا يُجمع بين ما وقع لعمر رضي الله عنه هنا، وبين ما ورد من النهي عن فضول النظر، أشار إلى ذلك النوويّ رحمه الله.

قال الحافظ: وَيحْتَمِل أن يكون نظر عمر رضي الله عنه في بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم وقع أولًا اتِّفاقًا، فرأى الشعير والقرظ مثلًا، فاستقلّه، فرفع رأسه؛ لينظر هل هناك شيء أنفس منه؟ فلم ير إلا الأهب، فقال ما قال، ويكون النهي محمولًا على من تعمّد النظر في ذلك، والتفتيشَ ابتداءً.

42 -

(ومنها): أن فيه كراهيةَ سخط النعمة، واحتقار ما أنعم الله به، ولو كان قليلًا، والاستغفار من وقوع ذلك، وطلب الاستغفار من أهل الفضل.

43 -

(ومنها): أن فيه إيثارَ القناعة، وعدمَ الالتفات إلى ما خُصّ به الغير من أمور الدنيا الفانية.

44 -

(ومنها): أن فيه المعاقبةَ على إفشاء السرّ بما يليق بمن أفشاه

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(6) - (بَابٌ إِنَّ الْمُطَلَّقَةَ الْبَائِنَ لَا نَفَقَةَ لَهَا، وَلَا سُكْنَى)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3696]

(1480) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ مَوْلَى الْأَسْوَدِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ

(1)

راجع: "الفتح" 11/ 620 - 623 "كتاب النكاح" رقم (5191).

ص: 203

فَاطِمَةَ بنْتِ قَيْسٍ؛ أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ طَلَّقَهَا الْبَتَّةَ، وَهُوَ غَائِبٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا وَكِيلُهُ بِشَعِيرٍ، فَسَخِطَتْهُ، فَقَالَ

(1)

: وَاللهِ مَا لَكِ عَلَيْنَا مِنْ شَيْءٍ، فَجَاءَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ:"لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ"، فَأَمَرَهَا أنْ تَعْتَدَّ فِي بَيتِ أُمِّ شَرِيكٍ، ثُمَّ تَالَ:"تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي، اعْتدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى، تَضَعِينَ ثِيَابَك، فَإِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي"، قَالَت: فَلَمَّا حَلَلْتُ ذَكَرْتُ لَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أبِي سُفْيَانَ، وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَمَّا أَبُو جَهْمٍ، فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتقِه، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ، فَصُعْلُوكٌ، لَا مَالَ لَهُ، انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ"، فَكَرِهْتُهُ، ثُمَّ قَالَ:"انْكِحِي أُسَامَةَ"، فَنَكَحْتُهُ، فَجَعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا، وَاغْتَبَطْتُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) تقدّم قبل باب.

2 -

(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، تقدّم قريبًا.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ مَوْلَى الْأَسْوَدِ بْنِ سُفْيَانَ) المخزوميّ المدنيّ المقرئ الأعور، ثقةٌ [6](ت 148)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 20/ 1302.

4 -

(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف، تقدّم قبل باب.

5 -

(فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسِ) بن خالد الفهريّة، أخت الضحاك الأمير، وكانت أسنّ منه.

رَوَت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورَوَى عنها القاسم بن محمد بن أبي بكر، وأبو بكر بن أبي الجهم، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعبد الله بن عبد الله بن عبيد بن مسعود، والأسود بن يزيد، وسليمان بن يسار، وعبد الله البهيّ، ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، وعامر الشعبي، وعبد الرحمن بن عاصم بن ثابت، وتميم مولى فاطمة بنت قيس.

قال ابن عبد البرّ: كانت من المهاجرات الأُوَل، وكانت ذات جمال

(1)

وفي نسخة: "فقال لها".

ص: 204

وعقل، وفي بيتها اجتمع أصحاب الشُّورى عند قتل عمر، وكانت عند أبي عَمْرو بن حفص بن المغيرة، فطلقها فتزوجها بعده أسامة بن زيد.

أخرج لها الجماعة، ولها في هذا الكتاب حديث الباب فقط، وكرّره ست عشرة مرّة، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة.

شرح الحديث:

(عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ) بن خالد، من بني محارب بن فِهر بن مالك، وهي أخت الضحّاك بن قيس الذي وَلي العراق ليزيد بن معاوية، وقُتِلَ بِمَرْجِ راهط، وهو من صغار الصحابة، وهي أسنّ منه، يقال: بعشر سنين، قَدِمت على أخيها الكوفةَ، وهو أميرها، فرَوَى عنها الشعبيّ قصّةَ الجسّاسة بطولها، فانفردت بها مطوّلة، وتابعها جابرٌ وغيره.

(أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ) هكذا قال الجمهور: إنه أبو عمرو بن حفص، وقيل: أبو حفص بن عمرو، وقيل: أبو حفص بن المغيرة، واختلفوا في اسمه، والأكثرون على أن اسمه عبد الحميد، وقال النسائيّ: اسمه أحمد، وقال آخرون: اسمه كنيته، قاله النوويّ

(1)

.

وقال القرطبيّ: هكذا رواية أكثر الأئمة الحفّاظ: مالك وغيره، وقد قلبه شيبان، وأبان العطّار، عن يحيى بن أبي كثير، فقال: إن أبا حفص بن عمرو، والمحفوظ الأول، واسمه أحمد على ما ذكره الداوديّ عن النسائيّ، قال القاضي: والأشهر عبد الحميد، وقيل: اسمه كنيته، ولا يُعرف في الصحابة من

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 94 - 95.

ص: 205

اسمه أحمد سواه. انتهى

(1)

.

وفي "الإصابة": أبو عمرو بن حفص بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشيّ المخزوميّ، زوج فاطمة بنت قيس، وهو ابن عمّ خالد بن الوليد بن المغيرة، وقيل: هو أبو حفص بن عمرو بن المغيرة، وأمه دُرّة بنت خُزَاعيّ الثقفيّة، وكان خرج مع عليّ إلى اليمن في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فمات هناك، ويقال: بل رجع إلى أن شَهِد فتوح الشام، ذكر ذلك عليّ بن رَبَاح، عن ناشرة بن سُميّ، سمعت عمر يقول: إني معتذرٌ لكم من عزل خالد بن الوليد، فقال أبو عمرو بن حفص: عزلت عنّا عاملًا استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر القصّة، أخرجه النسائيّ، وقال البغويّ: سكن المدينة. انتهى باختصار

(2)

.

(طَلَّقَهَا) قال النوويّ رحمه الله: هذا هو الصحيح المشهور الذي رواه الحفّاظ، واتَّفَق على روايته الثقات على اختلاف ألفاظهم، في أنه طلقها ثلاثًا، أو البتةَ، أو آخر ثلاث تطليقات، وجاء في آخر "صحيح مسلم" في حديث الجسّاسة ما يُوهم أنه مات عنها، قال العلماء: وليست هذه الرواية على ظاهرها، بل هي وَهَمٌ، أو مؤوّلة، وسنوضحها في موضعها - إن شاء الله تعالى -.

وأما قوله في رواية: "أنه طلقها ثلاثًا"، وفي رواية:"أنه طلقها ألبتةَ"، وفي رواية:"طلقها آخر ثلاث تطليقات"، وفي رواية:"طلّقها طلقةً كانت بقيت من طلاقها"، وفي رواية:"طلقها"، ولم يذكر عددًا ولا غيره، فالجمع بين هذه الروايات أنه كان طلقها قبل هذا طلقتين، ثم طلقها هذه المرة الطلقة الثالثة، فمن روى أنه طلقها مطلقًا، أو طلقها واحدةً، أو طلقها آخر ثلاث تطليقات، فهو ظاهر، ومن روى البتةَ، فمراده طلقها طلاقًا صارت به مبتوتة بالثلاث، ومن رَوَى ثلاثًا أراد تمام الثلاث. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(3)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "طَلّقها" هذا هو الصحيح، والذي جاءت به الرواية من الحفّاظ على اختلاف صفة الطلاق، هل ثلاثٌ، أو البتّة،

(1)

"المفهم" 4/ 266.

(2)

راجع: "الإصابة" 11/ 266.

(3)

"شرح النوويّ" 10/ 95.

ص: 206

أو آخر تطليقات، على ما سيأتي تفسيره، وقد جاء في آخر الكتاب في حديث الجسّاسة لفظ يوهم أنه مات عنها، وليس هذا على ظاهره، أو يكون وَهَمًا من راويه، وقد تكلّمنا عليه بما يُستغرب هناك، فانظره. انتهى كلام القاضي رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح": واتفقت الروايات عن فاطمة بنت قيس على كثرتها عنها أنها بانت بالطلاق، ووقع في آخر "صحيح مسلم" في حديث الجسّاسة عن فاطمة بنت قيس: "نَكَحْتُ ابنَ المغيرة، وهو من خيار شباب قريش يومئذ، فأصيب في الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما تأيّمتُ خطبني أبو جهم

" الحديث، وهذه الرواية وَهَمٌ، ولكن أوّلها بعضهم على أن المراد بقولها: "أصيب" أي: مات على ظاهره، وكان في بعث عليّ إلى اليمن، فيصدق أنه أُصيب في الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: في طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم من ذلك أن تكون بينونتها منه بالموت، بل بالطلاق السابق على الموت، فقد ذهب جمع جمّ إلى أنه مات مع عليّ باليمن، وذلك بعد أن أرسل إليها بطلاقها، فإذا جُمع بين الروايتين استقام هذا التأويل، وارتفع الوهم، ولكن يَبْعُد بذلك قول من قال: إنه بقي إلى خلافة عمر رضي الله عنه. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قولها: "طلقها البتة" هذا هو الصحيح: أنه طلَّقها عند جميع الحفاظ، وسيأتي في حديث الجسَّاسة لفظٌ يوهم: أنه مات عنها، وله تأويل يأتي في موضعه - إن شاء الله تعالى - ويعني بالبتة: آخر الثلاث تطليقات، كما جاء مفسَّرًا في الرواية الأخرى، لا أنه أوقع عليها لفظ البتة، وإنما سَمَّى آخر الثلاث البتة؛ لأنها طلقة تَبُتُّ العصمة، ولا تُبْقي منها شيئًا، ولما كملت بهذه الطلقة الثلاث عَبَّر عنها بعض الرواة بالثلاث، والرواية المفضَّلة قاضيةٌ على غيرها، وهي الصحيحة. انتهى

(3)

.

وقوله: (الْبَتَّةَ) منصوب على المفعوليّة المطلقة، يقال: بَتّه بَتًّا، من بابي ضرب، وقتل: قَطَعه، وفي المطاوع: فانبتّ، كما يقال: فانقطع، وانكسر،

(1)

"إكمال المعلم" 5/ 48 - 49.

(2)

"الفتح" 10/ 599.

(3)

"المفهم" 4/ 267.

ص: 207

وبَتَّ الرجل طلاق امرأته، فهي مبتوتةٌ، والأصل مبتوتٌ طلاقها، وطَلّقها طلقةً بَتّةً، وبتّها بَتّةً: إذا قطعها عن الرجعة، وأبتّ طلاقها بالألف لغةٌ، قال الأزهريّ: ويُستعمَل الثلاثيّ والرباعيّ لازمين ومتعدّيين، فيقال: بتّ طلاقها، وأبتّ، وطلاقٌ باتٌّ، ومُبِتٌّ، قال ابن فارس: ويقال لما لا رجعة فيه: لا أفعله بتّةً. انتهى

(1)

.

(وَهُوَ غَائِبٌ) جملة حاليّة من الفاعل، وقد بُيّن سبب غيابه في رواية الزهريّ الآتية، عن عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة أن أبا عمرو بن حفص بن المغيرة، خرج مع عليّ بن أبي طالب إلى اليمن، فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها.

(فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا) أي: إلى فاطمة، وقوله:(وَكِيلُهُ) بالرفع على الفاعليّة، وهكذا بالإفراد، وكذا هو في رواية أبي بكر بن الجهم الآتية:"قال: سمعت فاطمة بنت قيس تقول: أرسل إليّ زوجي أبو عمرو بن حفص بن المغيرة عيّاشَ بن أبي ربيعة بطلاقي، وأرسل معه بخمسة آصع تمرٍ، وخمسة آصع شعير"، لكن سيأتي في رواية عبيد الله بن عبد الله الآتية أنهما اثنان، ولفظه:"وأمر لها الحارثَ بنَ هشام، وعيّاشَ بن أبي ربيعة بنفقة"، ولعله ضم الحارث بعد تعيينه عيّاشًا، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فأرسل إليها وكيله بشعير، فسخطته" كان صوابه أن يقول: وَكِيلَيْه؛ لأنهما الحارث بن هشام، وعياش بن ربيعة؛ كما جاء مفسَّرًا في الرواية الأخرى.

وفيه دليل على العمل بالوكالة، وشهرتها عندهم، وكأنَّ إرساله بهذا الشعير كان منه متعة، فحسبته هي نفقةً واجبةً عليه، ولذلك سخطته، ورأت: أنها تستحق عليه أكثر من ذلك وأطيب، فحين تحقَّق الوكيلان منها ذلك؛ أخبراها بالحكم، فلم تقبل منهما حتى أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها:"لا نفقة لك، ولا سكنى".

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "كان صوابه أن يقول: وكيليه"، قد عُرف

(1)

"المصباح المنير" 1/ 35.

ص: 208

تأويله آنفًا، وأيضًا أن لفظ "وكيل" مفرد مضاف، فيعمّ، فلا حاجة إلى تخطئة الرواية الصحيحة، فتنبّه.

وقوله: (بِشَعِيرٍ) تقدّم أنه أرسل لها مع وكيله بخمسة آصع تمر، وخمسة آصع شعير، وفي رواية النسائيّ: "فوضع لي عشرة أقفزة عند ابن عمّ له، خمسة شعير، وخمسة تمر

".

وقوله: (فَسَخِطَتْهُ) أي: سخطت فاطمة ذلك الشعير، وفي رواية أبي بكر بن الجهم الآتية:"فقلت: أما لي نفقةٌ إلا هذا؟ ولا أعتدّ في منزلكم؟ قال: لا"، وفي رواية أبي سلمة:"وكان أنفق عليها نفقة دونٍ، فلما رأت ذلك قالت: والله لأُعلمنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان لي نفقةٌ أخذت الذي يصلحني، وإن لم تكن لي نفقةٌ لم آخذ منه شيئًا".

(فَقَالَ) وفي نسخة: "فقال لها"(وَاللهِ مَا لَكِ عَلَيْنَا مِنْ شَيْءٍ) أي: من نفقة، أو سكنى؛ لأنك مطلّقة طلاقًا بائنًا، وفي رواية عبيد الله:"فقالا لها: والله ما لك نفقةٌ، إلا أن تكوني حاملًا".

وفي رواية النسائيّ: "فَقَالَا: وَاللهِ مَا لَهَا عِنْدَنَا نَفَقَةٌ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا، وَمَا لَهَا أَنْ تَكُونَ فِي مَسْكَنِنَا، إِلَّا بِإِذْنِنَا"، والظاهر أن الحارث وعياشًا كان عندهما علم بحكم المسألة قبل هذا، وَيحْتَمِل أنهما قالا ذلك باجتهادهما، ولكن وافق اجتهادهما النصّ، والله تعالى أعلم.

(فَجَاءَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ) أي: ما جرى بينها وبين وكيل زوجها من الخصام في النفقة (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ") وفي رواية أبي بكر بن أبي الجهم المذكورة: "قالت: فشَدَدتُّ عليّ ثيابي، وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "كم طلّقك؟ قلت: ثلاثًا، قال: صدق، ليس لك نفقة، واعتدّي في بيت ابن أم مكتوم

" الحديث.

وفي رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن فاطمة الآتية:"فانطلق خالد بن الوليد رضي الله عنه في نفر من بني مخزوم، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة، فقالوا: إن أبا حفص بن عمرو طلّق امرأته ثلاثًا، فهل لها نفقة؟ فقال: "ليس لها نفقة، ولا سكنى"، لفظ النسائيّ، ولفظ مسلم نحوه، وسيأتي.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ويُجْمَع بين الروايتين بأن فاطمة ذهبت مع

ص: 209

خالد والنفر الذين معه، فسأل لها خالد ومن معه، والله تعالى أعلم.

(فَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ) قال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: أم شريك هذه قرشيّةٌ عامريّةٌ، وقيل: إنها أنصاريّةٌ، وقد ذكر مسلم في آخر الكتاب في حديث الجسّاسة: أنها أنصاريّة، واسمها غُزَيّة، وقيل: غُزيلة - بغين معجمة مضمومة، ثم زاي فيهما - وهي بنت داود بن عوف بن عمرو بن عامر بن رواحة بن حُجير بن عبد بن معيص بن عامر بن لُؤيّ بن غالب، وقيل في نسبها غير هذا. قيل: إنها التي وهبت نفسها للنبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقيل: غيرها. انتهى

(1)

.

وقال في "الإصابة": أم شريك بنت أنس بن رافع بن امرئ القيس بن زيد الأنصاريّة، من بني عبد الأشهل، ذكرها ابن حبيب في المبايعات، قاله في "الإصابة"

(2)

.

وقال أيضًا: أم شريك الأنصارية: قيل: هي بنت أنس الماضية، وقيل: هي بنت خالد المذكورة قبلها، وقيل: هي غيرها، وقيل: هي أم شريك بنت أبي العَكَر بن سُمَيّ، وذكرها ابن أبي خيثمة من طريق قتادة قال: وتزوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أم شريك الأنصارية النجارية، وقال:"إني أحب أن أتزوج في الأنصار، ثم قال: إني أكره غيرة الأنصار، فلم يدخل بها".

ثم قال: ولها ذكر في حديثٍ عند مسلم من رواية فاطمة بنت قيس، في قصة الجساسة، في حديث تميم الداريّ، قال فيه: وأم شريك امرأة غنية من الأنصار عظيمة النفقة في سبيل الله ينزل عليها الضيفان.

ولها حديث آخر أخرجه ابن ماجه، من طريق شَهْر بن حَوْشب: حدّثتني أم شريك الأنصارية، قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب، ويقال: إنها التي أُمِرت فاطمةُ بنتُ قيس أن تَعْتَدّ عندها، ثم قيل لها: اعتدي عند ابن أم مكتوم. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقولها: "فأمرها أن تعتدّ في بيت أم شريك" لا

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 96.

(2)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 4/ 99.

(3)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 4/ 100.

ص: 210

خلاف في أن كل زوجة مدخول بها طلَّقها زوجُها يجب عليها العدّة، ثم هي - أعني: العدَّة - منقسمة بحسب أحوالهنَّ: فالحامل عدَّتُها وضْعُ حملها، والحائل إن كانت حرَّة: ثلاثة قروء، وإن لم تكن من ذوات الأقراء: فثلاثة أشهر، وأمَّا الأَمَة: فقرءان، أو شهران، ويجري الفسخ بغبر طلاق مجرى الطلاق، وأمَّا المتوفَّى عنها زوجها: فالحرَّة تعتدّ أربعة أشهر وعشرًا، والأَمَة: شهران وخمس ليال عندنا، وسيأتي بعضُ ذلك، وتفصيله في كتب الفقه.

وأمُّ شريك اسمها: غَزِيَّة. وقيل: غُزَيْلة. وهي قرشية عامريّة. وقد ذكرها بعضهم في أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقيل فيها: إنها أنصارية، على ما ذكره مسلم في حديث الجسَّاسة، وسيأتي. وكانت كثيرة المعروف، والنفقة في سبيل الله تعالى، والتضييف للغرباء من المهاجرين وغيرهم. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"تلك امرأة يغشاها أصحابي".

وإنما أذن النبيّ صلى الله عليه وسلم لفاطمة أن تخرج من البيت الذي طلقت فيه؛ لما ذكره مسلم في الرواية الأخرى من أنها خافت على نفسها من عورة منزلها.

وفيه دليل: على أن المعتدة تنتقل لأجل الضرر، وهذا أولى من قول من قال: إنها كانت لَسِنَةً تُؤْذي زوجَها وأحماءهَا بلسانها؛ فإن هذه الصِّفَة لا تليق بمن اختارها رسول الله صلى الله عليه وسلم لِحبِّه ابن حِبِّه، وتواردت رغبات الصحابة عليها حين انقضت عدَّتُها، ولو كانت على مثل تلك الحال لكان ينبغي ألا يُرْغَبَ فيها، ولا يُحْرَصَ عليها، وأيضًا: فلم يثبث بذلك نقل مُسْنَدٌ صحيحٌ، وإنما الذي تمسَّك به في ذلك قول عائشة: ما لفاطمة خير أن تذكر هذا.

وقول عمر: "لا ندع كتاب الله لقول امرأة لا نعلم حفظت أو نسيت"، وقول بعضهم: تلك امرأة فتنت الناس. وليس في شيء من ذلك دليل على ذلك.

ويا للعجب! كيف يجترأ ذو دِينٍ أن يُقْدِمَ على غيبة مثل هذه الصحابية؛ التي اختارها النبيّ صلى الله عليه وسلم لِحِبّه ابن حِبِّه، لسبب خبر لم يَثْبُت.

وأعجب من ذلك قول بعض المفسرين في قوله تعالى: {وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] إنها نزلت في فاطمة؛ لأنها كانت فيها بذاذة لسان، وأذى للأحماء، وهذا لم يثبث فيه نقلٌ، ولا يدلُّ عليه نظرٌ، فَذِكْرُ ذلك عنها، ونسْبَتُه إليها غيبة، أو بهتان.

ص: 211

وأحسن ما قيل في التفسير؛ قول ابن عمر رضي الله عنهما: إن الفاحشة: الزنى. فيخرجن لإقامة الحد عليهنَّ.

وتعليله منع اعتدادها في بيت أمِّ شريك بدخول أصحابه؛ دليل على أن المرأة ممنوعة من التعرض لموضع يشق عليها فيه التحرُّز من أن يُطَّلع منها على ما لا يجوز. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("تِلْكَ) أي: أم قيس (امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا) أي: ينزل (أَصْحَابِي) وفي رواية أبي سلمة: "ثم أرسل إليها أن أم شريك يأتيها المهاجرون الأولون".

قال النوويّ رحمه الله: معنى هذا الحديث: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يزورون أم شريك، ويُكثرون التردد إليها لصلاحها، فرأى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن على فاطمة من الاعتداد عندها حرجًا، من حيث إنه يلزمها التحفّظ من نظرهم إليها، ونظرها إليهم، وانكشاف شيء منها، وفي التحفّظ من هذا مع كثرة دخولهم، وتردّدهم مشقّةٌ ظاهرةٌ، فأمرها بالاعتداد عند ابن أم مكتوم؛ لأنه لا يُبصرها، ولا يتردد إلى بيته من يتردّد إلى بيت أُمُّ شريك. انتهى.

(اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ) هو عمرو بن زائدة، أو ابن قيس بن زائدة. ويقال: زياد القرشيّ العامريّ الصحابيّ المشهور، قديم الإسلام، ويقال: اسمه عبد الله، ويقال: الحصين، كان النبيّ صلى الله عليه وسلم استخلفه على المدينة، مات رضي الله عنه في آخر خلافة عمر رضي الله عنه. تقدّمت ترجمته في "الصلاة" 4/ 849.

وفي رواية النسائيّ: "قال: انتقلي عند ابن أم مكتوم الأعمى الذي سمّاه الله في كتابه"؛ أي: في قوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)} [عبس: 1، 2]، وفي رواية له:"وهو الأعمى الذي عاتبه الله في كتابه"، وضمير "عاتبه" للنبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "اعتدِّي عند ابن أم مكتوم"، وفي رواية لمسلم:"عند ابن عمك عمرو بن أم مكتوم"، وكذلك جاء في آخر الكتاب، وزاد:"رجل من بني فهر"، من البطن التي هي منه، والمعروف خلاف هذا،

(1)

"المفهم" 4/ 269 - 270.

ص: 212

وليسا من بطن واحد، هي من بني محارب بن فهر، وهو من بني عامر بن لؤي.

واختلفوا في اسم ابن أُمُّ مكتوم. فقيل: عمرو، كما ذُكر، وقيل: عبد الله، وكذا ذكره في "الموطأ"، وفي آخر الكتاب، والخلاف في ذلك كثير، قاله القاضي أبو الفضل عياض. انتهى

(1)

.

(فَإِنَّهُ) أي: ابن أم مكتوم (رَجُلٌ أَعْمَى، تَضَعِينَ ثِيَابَكِ) هذا هو السبب الذي ذكره النبيّ صلى الله عليه وسلم في أمرها بالاعتداد عنده، بعد أن أمرها أن تعتدّ في بيت أم شريك رضي الله عنها، وفي رواية النسائيّ، من طريق الشعبيّ، عن فاطمة:"فانطلقي إلى أم شريك" - وأم شريك امرأة غنيّةٌ، من الأنصار، عظيمة النفقة في سبيل الله عز وجل ينزل عليها الضِّيفَان - فقلت: سأفعل، قال:"لا تفعلي، فإن أُمُّ شريك كثيرة الضيفان، فإني أكره أن يسقط عنك خمارك، أو ينكشف الثوب عن ساقيك، فيرى القوم منك بعض ما تكرهين، ولكن انتقلي إلى ابن عمّك، عبد الله بن عمرو ابن أُمُّ مكتوم"، وهو رجل من بني فهر، فانتقلت إليه.

وفي الرواية الآتية للمصنّف بعد حديثين: "ثم أرسل إليها أن أم شريك يأتيها المهاجرون الأولون، فانطلقي إلى ابن أم مكتوم الأعمى، فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك

".

(فَإِذَا حَلَلْتِ) أي: صِرت حلالًا لأن تتزوّجي (فَآذِنِينِي") بمدّ الهمزة؛ أي: أعلميني، وديه جواز التعريض بخِطبة البائن، وهو الصحيح المختار.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "فإذا حللت فآذنيني" أي: إذا انقضت عِدَّتُك. و"آذنيني": أعلميني، وفي لفظ آخر:"فلا تبدئيني بنفسك"، وكل ذلك بمعنى واحدٍ؛ أي: لا تزوِّجي نَفْسَكِ حتى تعرِّفيني، وفيه التَّعْرِيض في العدَّة. انتهى

(2)

.

(قَالَتْ) فاطمة (فَلَمَّا حَلَلْتُ ذَكَرْتُ لَهُ) صلى الله عليه وسلم (أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ) صخر بن حرب الأمويّ، أبو عبد الرحمن الصحابيّ الخليفة المتوفَّى في رجب سنة (60 هـ) وقد قارب الثمانين، تقدّمت ترجمته في "الصلاة" 8/ 858.

(1)

"المفهم" 4/ 270.

(2)

"المفهم" 4/ 271.

ص: 213

وقال النوويّ رحمه الله: قولها: "ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان" هذا تصريح بأن معاوية الخاطب في هذا الحديث هو معاوية بن أبي سفيان بن حرب، وهو الصواب، وقيل: إنه معاوية آخر، وهذا غلط صريح، نَبَّهتُ عليه لئلا يُغْتَرَّ به، وقد أوضحته في "تهذيب الأسماء واللغات" في ترجمة معاوية رضي الله عنه، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(وَأَبَا جَهْمٍ) قال النوويّ رحمه الله: هو بفتح الجيم، مكبرٌ، وهو أبو الجهم المذكور في حديث الأنبجانية، وهو غير أبو الجهيم المذكور في التيمم، وفي المرور بين يدي المصلي، فإن ذاك بضم الجيم مصغرٌ، وقد أوضحتهما باسميهما ونسبيهما، ووصفيهما في "باب التيمم"، ثم في "باب المرور بين يدي المصلي"، وذكرنا أن أبا الجهم هذا هو ابن حُذيفة القرشيّ العدويّ، قال القاضي عياض: وذكره الناس كلهم، ولم ينسبوه في الرواية، إلا يحيى بن يحيى الأندلسيّ، أحد رواة "الموطأ"، فقال: أبو جهم بن هشام، قال: وهو غلطٌ، ولا يُعْرَف في الصحابة أحد، يقال له: أبو جهم بن هشام، قال: ولم يوافق يحيى على ذلك أحدٌ من رواة "الموطأ"، ولا غيرهم. انتهى

(2)

.

(خَطَبَانِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أمَّا أَبُو جَهْمٍ، فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ)

هو ما بين العُنُق والْمَنكِب، قال النوويّ رحمه الله: فيه تأويلان مشهوران: أحدهما: أنه كثير الأسفار، والثاني أنه كثير الضرب للنساء، وهذا أصحّ، بدليل الرواية التي ذكرها مسلم بعد هذه، أنه ضَرّاب للنساء.

قال: وفي هذا استعمال المجاز، وجواز إطلاق مثل هذه العبارة في قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يضع العصا عن عاتقه"، وفي معاوية: أنه "صعلوكٌ، لا مال له" مع العلم بأنه كان لمعاوية ثوب يلبسه، ونحو ذلك من المال المحقَّر، وأن أبا الجهم كان يضع العصا عن عاتقه في حال نومه، وأكله، وغيرهما، ولكن لما كان كثير الحمل للعصا، وكان معاوية قليل المال جدًّا، جاز إطلاق هذا اللفظ عليهما مجازًا، ففي هذا جواز استعمال مثله في نحو هذا، وقد نص عليه أصحابنا.

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 98.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 97.

ص: 214

قال: وفيه دليل على جواز ذكر الإنسان بما فيه عند المشاورة، وطلب النصيحة، ولا يكون هذا من الغيبة المحرمة، بل من النصيحة الواجبة، وقد قال العلماء أن الغيبة تباح في ستة مواضع. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: قد نظمت تلك المواضع الستّة بقولي:

يَا طَالِبًا فَائِدَةً جَلِيلَهْ

اعْلَمْ هَدَاكَ اللهُ لِلْفَضِيلَهْ

أَنَّ اغْتِيَابَ الشَّخْصِ حَيًّا أَوْلَى

مُحَرَّمٌ قَطْعًا بِنَصٍّ يُتْلَى

لَكِنَّهُ لِغَرَضٍ صَحِيحِ

أُبِيحَ عَدَّهَا أُولُو التَّرْجِيحِ

فَذَكَرُوهَا سِتَّةً تَظَلَّمِ

وَاسْتَفْتِ وَاسْتَعِنْ لِرَدْعِ مُجْرِمِ

وَعِبْ مُجَاهِرًا بِفِسْقٍ أَوْ بِدَعْ

بِمَا بِهِ جَاهَرَ لَا بِمَا امْتَنَعْ

وَعَرِّفَنْ بِلَقَبٍ مَنْ عُرِفَا

بِهِ كَقَوْلِكَ رَأَيْتُ الأَحْنَفَا

(1)

وَحَذِّرَنْ مِنْ شَرِّ ذِي الشَّرِّ إِذَا

تَخَافُ أَنْ يُلْحِقَ بِالنَّاسِ الأَذَى

وَفِي سِوَى هَذَا احْذَرَنْ لَا تَغْتَبِ

تَكُنْ مُوَفَّقًا لِنَيْلِ الأَرَبِ

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "أمَّا أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه" المعروف: أبو جهم على التكبير، وقد صغَّره بعضهم، وهو: أبو جهم بن حذيفة القرشي، العدوي، وهو صاحب الأَنْبِجَانية، وقد غَلِطَ فيه يحيى بن يحيى الأندلسي فقال: أبو جهم بن هشام، ولا يُعرف في الصحابة من اسمه: أبو جهم بن هشام ولم يوافقه أحد من رواة "الموطأ" على ذلك.

واختُلِف في معنى قوله: "ولا يضع عصاه عن عاتقه" فقيل: معناه: أنَّه ضرَّاب للنساء، كما جاء مفسَّرًا في الرواية الأخرى، وفي أخرى:"فيه شدَّة على النساء"، وقيل: المراد به: أنَّه كثير الأسفار، وقد جاء أيضًا في بعض رواياته في غير كتاب مسلم ما يدلّ على ذلك، غير أن التأويل الأوّل أحسن وأصحّ.

وفيه ما يدلّ: على جواز تأديب النساء بالضرب، لكن غير المبرح، ولا خلاف في جواز ذلك على النشوز، وهو الامتناع من الزوج.

قال بعضهم: واختُلف في ضربهنَّ على خدمة بيوتهن، وهذا إنما يتمشَّى

(1)

"الأحنف": هو الأعرج، أو الذي يمشي على ظهر قدميه.

ص: 215

على قول من أوجب ذلك عليهنَّ، ولا يعارض هذا قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يجلد أحدكم زوجته جَلْدَ العبد، ثمَّ يضاجعها"؛ لأنَّ هذا النهي إنما يقتضي المنع من الضرب المبرح الذي لا يجوز، وهو الشديد المفرط، ولا خلاف في منع مثله. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

(وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ، فَصُعْلُوكٌ) بضمّ الصاد المهملة؛ أي: فقير، كما بيّنه بقوله:(لَا مَالَ لَهُ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا تفسير للرواية التي وقع فيها "تَرِبٌ"، وقد تقدَّم أنَّه يقال: تَرِبَ الرجلُ: إذا افتقر، وأترب: إذا استغنى، وفيه ما يدلُّ على أن ذكر مساوئ الخاطب، أو من يُعامِل، أو من يُحتاج إلى قبول قوله، أو فتياه جائز، ولا يعدُّ ذلك غيبة، ولا بُهتانًا؛ إذ لا يذكر ذلك على جهة التنقيص وإضافة العيب إليه، لكن على جهة الإخبار، وأداء النصيحة، وأداء الأمانة، كما فعله أهل الحديث وغيرهم. انتهى

(2)

.

(انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ") بن شَرَاحيل الكلبيّ الأمير الصحابيّ ابن الصحابيّ، حِبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن حبّه رضي الله عنهما، أبو محمَّد، وأبو زيد، مات سنة (54 هـ) وهو ابن (75)، تقدّمت ترجمته في "الإيمان" 43/ 284.

قال القرطبيّ رحمه الله: فيه ما يدلّ على جواز نكاح المولى للقرشية؛ فإن أسامة مولى، وفاطمة قرشية، كما تقدم. وإن الكفاءة المعتبرة هي كفاءة الدين، لا النسب، كما هو مذهب مالك.

وقد رَوَى الدارقطنيّ

(3)

عن حنظلة بن أبي سفيان الجمحي عن أمِّه قالت: رأيت أخت عبد الرحمن بن عوف تحت بلال

(4)

.

(فَكَرِهْتُهُ) بكسر الراء، من باب عَلِمَ؛ أي: لكونه مولًى، وهي قرشيّة (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("انْكِحِي أُسَامَةَ"، فَنَكَحْتُهُ) وفي رواية الشعبي، عن فاطمة، قالت: "خطبني عبد الرحمن بن عوف في نفر من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وخطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم على مولاه أسامة بن زيد، وقد كنت حُدِّثتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

"المفهم" 4/ 271 - 272.

(2)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 13/ 102.

(3)

"سنن الدارقطنيّ" 3/ 302.

(4)

"المفهم" 13/ 102.

ص: 216

قال: من أحبني، فليُحبّ أسامة، فلما كلّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: أمري بيدك، فأنكحني من شئتَ. . .".

وفي رواية أبي سلمة، ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عنها، قالت: فلما حللت آذنته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ومن خطبك؟ "، فقلت: معاوية، ورجل آخر من قريش، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أما معاوية فإنَّه غلام من غلمان قريش، لا شيء له، وأما الآخر، فإنَّه صاحب شرّ، لا خير فيه، ولكن انكحي أسامة بن زيد"، قالت: فكرهته، فقال لها ذلك ثلاث مرّات، فنكحتْه.

(فَجَعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا) وفي رواية أبي سلمة، عنها، قالت: فنكحته، فجعل الله عز وجل فيه خيرًا عظيمًا.

قال القرطبيّ رحمه الله: قولها: "فنكحته، فجعل الله فيه خيرًا إلخ" كان ذلك منها بعد أن صدر منها توقّف، وما يدلّ على كراهتها لذلك، كما جاء في روايةٍ: فقالت بيدها - هكذا - أسامة، أسامة! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"طاعة الله وطاعة رسوله خير لك"، قالت: فتزوجته فاغتَبَطتُ. انتهى.

(وَاغْتَبَطْتُ بِهِ) أي: حَسُن حالي بسبب نكاحي إياه، قال الفيّوميّ رحمه الله: الْغِبْطَةُ: حُسْنُ الحال، وهي اسم من غَبَطْتُهُ غَبْطًا، من باب ضَرَبَ: إذا تَمَنَّيتَ مثلَ ما ناله، من غير أن تريد زواله عنه؛ لما أَعجبك منه، وعَظُم عندك، وفي حديث:"أَقُومُ مَقَامًا يَغْبِطُنِي فِيهِ الأَوَّلُونَ وَالآخِرُونَ"، وهذا جائز، فإنَّه ليس بحَسَد، فإن تمنيت زواله فهو الْحَسَد. انتهى

(1)

.

وقال المجد رحمه الله: الْغِبْطةُ بالكسر: حُسنُ الحال، والْمَسَرّةُ، وقد اغْتَبَطَ، والْحَسَدُ، كالْغَبْط، وقد غَبِطَه، كضربه، وسَمِعه، وتمنَّى نعمةً على أن لا تتحوّل عن صاحبها، فهو غابطٌ، جمعه غُبُطٌ، ككُتُب. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: هو بفتح التاء والباء، ولم تقع لفظة "به" في أكثر النسخ، قال أهل اللغة: الْغِبْطة: أن يُتَمَنَّى مثلُ حال المغبوط، من غير إرادة زوالها عنه، وليس هو بحسَد، تقول منه: غَبَطته بما نال أَغْبِطه بكسر الباء

(3)

،

(1)

"المصباح المنير" 2/ 442.

(2)

"القاموس المحيط" 2/ 375.

(3)

تقدَّم عن "القاموس" أنَّه بكسر الباء، وفتحها، من بابي ضرب، وسَمِع.

ص: 217

غَبْطًا، وغِبْطةً، فاغْتَبَطَ هو، كَمَنَعْتُهُ، فامْتَنَعَ، وحَبَسْتُهُ فاحْتَبَسَ.

وأما إشارته صلى الله عليه وسلم بنكاح أسامة رضي الله عنه، فَلِمَا عَلِمه من دينه، وفضله، وحسن طرائقه، وكَرَم شمائله، فنصحها بذلك، فكرهته؛ لكونه مولًى، ولكونه كان أسود جدًّا، فكرَّر عليها النبيّ صلى الله عليه وسلم الحثّ على زواجه؛ لِمَا عَلِم من مصلحتها في ذلك، وكان كذلك، ولهذا قالت: فجَعَل الله لي فيه خيرًا عظيمًا، واغتَبَطَتْ، ولهذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في الرواية التي بعد هذا:"طاعة الله، وطاعة رسوله خير لك"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 3696 و 3697 و 3698 و 3699 و 3700 و 3701 و 3702 و 3703 و 3704 و 3705 و 3706 و 3707 و 3708 و 3709 و 3710 و 3711 و 3712 و 3713 و 3714 و 3715](1480)، و (أبو داود) في "الطلاق"(2284 و 2288 و 2289 و 2290)، و (النسائيّ)(6/ 75 و 144 و 208) و"الكبرى"(3/ 495)، و (الترمذيّ) في "النكاح"(1135)، و (ابن ماجه) في "الطلاق"(2024 و 2032 و 2035 و 2036)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 5)، و (مالك) في "الموطّإ"(1234 و 1277)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 186 و 274)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 412 و 413 و 414 و 415 و 416)، و (الدارميّ) في "سننه"(2274 و 2275)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(24/ 913)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(760)، و (ابن حبَّان) في "صحيحه"(4290)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 135 و 177 و 178 و 181 و 432 و 471)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2385)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن المبتوتة لا نفقة لها، ولا سكنى، وفيه اختلاف بين

ص: 218

أهل العلم، سيأتي تحقيقه في المسألة الخامسة - إن شاء الله تعالى -.

2 -

(ومنها): بيان أن الكفاءة، في الدين، لا في النسب، فقد أنكح النبيّ صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت قيس، وهي قرشيّة أسامة بن زيد، وهو مولى، وقد تقدَّم بيان اختلاف العلماء في ذلك في محلّه برقم [15/ 3635]، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

3 -

(ومنها): جواز طلاق البتّة، حيث لم ينكره صلى الله عليه وسلم على زوج فاطمة رضي الله عنها.

4 -

(ومنها): أن في قوله صلى الله عليه وسلم في أم شريك رضي الله عنها: "يغشاها أصحابي" دليلٌ على أن المرأة المتجالّة العجوز الصالحة جائز أن يغشاها الرجال في بيتها، ويتحدّثون عندها، وكذلك لها أن تغشاهم في بيوتهم، ويرونها، وتراهم فيما يحلّ، ويَجْمُلُ، وينفع، ولا يضرّ، قال الله:{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور: 60]. والغشيان في كلام العرب: الإلمام، والورود، قال حسّان بن ثابت رضي الله عنه[من الكامل]:

يُغْشَوْنَ حَتَّى مَا تَهِرُّ كِلَابُهُمْ

لَا يَسْأَلُونَ عَنِ السَّوَادِ الْمُقْبِلِ

فمعنى قوله: "تلك امرأة يَغشاها أصحابي"؛ أي: يُلِمّون بها، ويَرِدون عليها، ويجلسون عندها. قاله في "الاستذكار"

(1)

.

5 -

(ومنها): أن في قوله: "تضعين ثيابك، ولا يراك" دليلًا على عدم جواز نظر الرجل إلى المرأة؛ لما فيه من داعية الفتنة.

6 -

(ومنها): ما قاله أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: فيه دليلٌ على أن المرأة يجوز لها أن تطّلع من الرجل على ما لا يجوز للرجل أن يطّلع عليه من المرأة، كالرأس، ومعلّق القرط، ونحو ذلك، فأما العورة فلا، ولكن هذا يعارضه ما ذكره الترمذيّ من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لميمونة وأم سلمة، وقد دخل عليهما ابن أم مكتوم، فقال:"احتجبا منه"، فقالتا: إنه أعمى، فقال:"أفَعَمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟ ". والجواب من وجهين:

(1)

"الاستذكار" 18/ 76 - 77.

ص: 219

[أحدهما]: أن هذا الحديث لا يصحّ عند أهل النقل؛ لأنَّ راويه عن أم سلمة نبهان مولاها، وهو ممن لا يُحتجّ بحديثه.

[وثمانيهما]: على تقدير صحّته، فذلك تغليظ منه صلى الله عليه وسلم على أزواجه لحرمتهنّ، كما غلّظ عليهنّ أمر الحجاب، ولهذا أشار أبو داود وغيره من الأئمة. انتهى

(1)

.

وقال الحافظ رحمه الله عند قول البخاريّ رحمه الله: "باب نظر المرأة إلى الحَبَش، ونحوهم من غير ريبة"، ما نصّه: وظاهر الترجمة أن المصنّف كان يذهب إلى جواز نظر المرأة إلى الأجنبيّ، بخلاف عكسه، وهي مسألة مشهورة، واختَلَف الزجيح فيها عند الشافعيّة، وحديث الباب يساعد من أجاز، وقد تقدَّم في أبواب العيد جواب النوويّ عن ذلك بأن عائشة كانت صغيرةً، دون البلوغ، أو كان قبل الحجاب، وقوّاه بقوله في هذه الرواية:"فاقدروا قدر الجارية الحديثة السنّ"، لكن تقدَّم ما يعكُر عليه، وأن في بعض طرقه أن ذلك كان بعد قدوم الحبشة، وأن قدومهم كان سنة سبع، ولعائشة يومئذ ست عشرة سنة، فكانت بالغةً، وكان بعد الحجاب.

وحجة من منع حديث أمّ سلمة الحديث المشهور: "أفعمياوان أنتما؟ "، وهو حديث أخرجه أصحاب "السنن"

(2)

من رواية الزهريّ، عن نبهان، مولى أم سلمه، عنها، وإسناده قويّ، وأكثر ما عُلّل به انفراد الزهريّ بالرواية عن نبهان، وليست بعلّة قادحة، فإن من يعرفه الزهريّ، ويصفه بأنّه مكاتب أم سلمة، ولم يجرحه أحدٌ، لا تُردّ روايته.

والجمع بين الحديثين احتمال تقدَّم الواقعة، أو أن في قصّة الحديث الذي ذكره نبهان شيء يمنع النساء من رؤيته؛ لكون ابن أم مكتوم كان أعمى، فلعلّه كان منه شيء ينكشف، ولا يشعر به.

ويقوّي الجواز استمرار العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد،

(1)

"المفهم" 4/ 270 - 271.

(2)

أخرجه أبو داود في "سننه" في "كتاب اللباس" رقم (4112)، والترمذيّ في "جامعه" في "الأدب" رقم (2778)، وأحمد في "مسنده"(25997).

ص: 220

والأسواق، والأسفار، منتقبات؛ لئلا يراهنّ الرجال، ولم يؤمر الرجال قطّ بالانتقاب لئلا يراهم النساء، فدلّ على تغاير الحكم بين الطائفتين، وبهذا احتجّ الغزاليّ على الجواز، فقال: لسنا نقول: إن وجه الرجل في حقّها عورةٌ كوجه المرأة في حقّه، بل هو كوجه الأمرد في حقّ الرجل، فيحرم النظر عند خوف الفتنة فقط، وإن لم تكن فتنة فلا؛ إذ لم يزل الرجال على ممرّ الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات، فلو استووا لأُمر الرجال بالتنقّب، أو منعن من الخروج. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي ذهب إليه البخاريّ، وحقّقه الغزاليّ، وأقرّه الحافظ - رحمهم الله تعالى - هو الحقّ الحقيق بالقبول، حيث دلّ عليه صحيح المنقول، وما عداه، كحديث أم سلمة رضي الله عنها المذكور يُحْمَل على الاحتياط، ولا سيّما في حقّ أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد قال الله تعالى:{يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} الآية [الأحزاب: 32]، وقد أمر الله تعالى أن لا يُكَلّمن إلا من وراء حجاب، متجالّات كنّ، أو غير متجالّات، والحجاب عليهنّ أشدّ منه على غيرهنّ؛ لظاهر القرآن، وحديث نبهان المذكور، كما أشار إلى ذلك ابن عبد البرّ رحمه الله

(2)

.

وكذا قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} الآية [النور: 31] محمول على الاستحباب، أو على خوف الفتنة، وإلى ذلك أشار البخاريّ رحمه الله حيث قال:"من غير ريبة".

والحاصل أن نظر المرأة إلى الرجال الأجانب جائز عند أمن الخوف من الفتنة، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم بالصواب.

7 -

(ومنها): أن الخِطبة المنهيّ عنها في قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يخطب على خطبة أخيه" محمول على ما إذا كان هناك ركون وميل، ومقاربة، فأما إذا لم يوجد ذلك، فلا يُمنع، فقد قالت فاطمة: إن معاوية، وأبا جهم خطباني، فلم ينكر عليها النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك، بل خطبها مع ذلك لأسامة بن زيد، حيث لم يحصل منها ميل إليهما، ولا إلى أحد منهما.

(1)

"الفتح" 10/ 422.

(2)

راجع: "الاستذكار" 18/ 82.

ص: 221

8 -

(ومنها): أن من أخبر بعيب أخيه لمن استنصحه عند الخِطبة، أو نحوها ليس بمغتاب له، بل جائز، من باب النصيحة التي هي الدين، لما في "صحيح مسلم" من حديث تميم الداريّ رضي الله عنه، مرفوعًا:"الدين النصيحة"، قلنا: لمن؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم"، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"حقّ المسلم على المسلم ستٌّ"، وفيه:"وإذا استنصحك، فانصح له. . ." الحديث.

9 -

(ومنها): أن في قوله: "صُعلوك، لا مال له" دليلًا على أن المال من مستحقّات النكاح، وخصال الناكح، وأن الفقر من عيوبه، وأنه لو بُيِّن في العقد، أو عَرفت المرأة منه ذلك، ورضيت به جاز كسائر العيوب.

10 -

(ومنها): أن كثرة ضرب النساء عيب يمنع من النكاح، إلا إذا رضيت المرأة به، كما سبق في الذي قبله.

11 -

(ومنها): جواز طلاق الغائب.

12 -

(ومنها): جواز التوكيل في الحقوق في القبض والدفع.

13 -

(ومنها): جواز سماع كلام الأجنبية، والأجنبيّ في الاستفتاء ونحوه.

14 -

(ومنها): جواز الخروج من منزل العدّة للحاجة.

15 -

(ومنها): جواز التعريض لخطبة المعتدّة البائن بالثلاث.

16 -

(ومنها): جواز الْخِطبة على خِطبة غيره إذا لم يحصل للأول إجابة؛ لأنها أخبرته أن معاوية وأبا الجهم وغيرهما خطبوها.

17 -

(ومنها): جواز استعمال المجاز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يضع العصا عن عاتقه، ولا مال له".

18 -

(ومنها): استحباب إرشاد الإنسان إلى مصلحته، وإن كرهها، وتكرار ذلك عليه؛ لقولها: قال: "انكحي أسامة، فكرهته، ثمَّ قال: انكحي أسامة، فنكحته".

19 -

(ومنها): قبول نصيحة أهل الفضل والانقياد إلى إشارتهم، وأن عاقبتها محمودة.

20 -

(ومنها): الحرص على مصاحبة أهل التقوى والفضل، وإن دَنَئت أنسابهم.

ص: 222

21 -

(ومنها): جواز إنكار المفتي على مفتٍ آخر خالف النصّ، أو عمّم ما هو خاصّ؛ لأنَّ عائشة أنكرت على فاطمة بنت قيس تعميمها أن لا سكنى للمبتوتة، وإنما كان انتقال فاطمة من مسكنها لعذر من خوف اقتحامه عليها، أو لبذاءتها، أو نحو ذلك.

22 -

(ومنها): استحباب ضيافة الزائر، وإكرامه بطيب الطعام والشراب، سواء كان الضيف رجلًا، أو امرأة،.

23 -

(ومنها): أن من أفرط في الوصف لا يلحقه الكذب، والمبالغ في النعت بالصدق لا يدركه الذمّ، ألا ترى إلى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في أبي جهم:"لا يضع عصاه عن عاتقه"، وهو قد ينام، ويُصلّي، ويأكل، ويشرب، ويشتغل بما يحتاج إليه من شغله في دنياه، وإنما أراد المبالغة في وصفه بتأديب النساء.

قال الحافظ أبو عمر رحمه الله: وإنما أراد المبالغة في أدب النساء باللسان واليد، وربما يحسن الأدب بمثله، كما يَصنع الوالي في رعيته. وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال لرجل أوصاه:"لا ترفع عصاك عن أهلك، وأخفهم في الله عز وجل "

(1)

.

وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "علّق سوطك حيث يراه أهلك"

(2)

.

قال: ومعنى العصا في هذين الحديثين الإخافة والشدّة بكلّ ما يتهيّأ، ويمكن مما يَجمُلُ، ويَحسُنُ من الأدب فيما يجب الأدب فيه.

وقد قال بعض أصحابنا: إن فيه إباحة ضرب الرجل امرأته ضربًا كثيرًا؛ لأنه قصد به قصد العيب له، والضرب القليل ليس بعيب؛ لأنَّ الله تعالى قد

(1)

ذكره الحافظ أبو بكر الهيثميّ: في "مجمع الزوائد"(8/ 106) عن ابن عمر رضي الله عنها، وقال: رواه الطبرانيّ في "الصغير"، و"الأوسط"، وفيه الحسن بن صالح بن حيّ وثقه أحمد، وغيره، وضعّفه الثوريّ وغيره. انتهى.

(2)

حديث حسنٌ، أخرجه أبو نعيم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ:"عَلِّقوا السوط حيث يراه أهل البيت"، وأخرجه الطبرانيّ من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما بلفظ:"عَلِّقوا السوط حيث يراه أهل البيت، فإنَّه أدبٌ لهم"، راجع:"الصحيحة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله (3/ 431 - 432) رقم (1446 و 1447).

ص: 223

أباحه، قال: ولَمّا لم يغيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي جهم ما كان عليه من ذلك، كان في طريق الإباحة، وفيما قال من ذلك - والله أعلم - نظر، قال ابن وهب: ذمُّهُ لذلك دليلٌ على أنَّه لا يجوز فعله، ومن هذا قالت العرب: فلان ليّن العصا، وفلان شديد العصا، يقولون ذلك في الوالي، وما أشبهه، وقال الشاعر [من الطويل]:

لِذِي الْحِلْمِ قَبْلَ الْيَوْمِ مَا تَقْرَعُ الْعَصَا

وَمَا عُلِّمَ الإِنْسَانُ إِلَّا لِيَعْلَمَا

وقال معن بن أوس، يصف راعي إبله [من الطويل]:

عَلَيْهَا شَرِيبٌ وَادِعٌ لَيِّنُ الْعَصَا

يُسَائِلُهَا عَمَّا بِهِ وَتُسَائِلُهْ

والعرب تُسمّي الطاعة، والأُلفة، والجماعة العصا، ويقولون: عصا الإِسلام، وعصا السلطان، ومن هذا قول الشاعر [من الطويل]:

إِذَا كَانَتِ الْهَيْجَاءُ وَانْشَقَّتِ الْعَصَا

فَحَسْبُكَ وَالضَّحَّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدُ

ومنه قول صلة بن أشيم: إياك وقتيل العصا، يقول: إياك أن تقتل، أو تُقتل قتيلًا إذا انشقّت العصا.

والعرب أيضًا تسمّي قرار الظاعن عصًا، وقرار الأمر، واستواءه عصًا، فإذا استغنى المسافر عن الظعن، قالوا: قد ألقى عصاه، وقال الشاعر [من الطويل]:

فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى

كَمَا قَرَّ عَيْنًا بِالإِيَابِ الْمُسَافِرُ

ورُوي أن عائشة رضي الله عنها تمثّلت بهذا البيت حين اجتمع الأمر لمعاوية رضي الله عنه. انتهى كلام الحافظ ابن عبد البرّ رضي الله عنه

(1)

، وهو بحث نفيس جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في بيان ما وجّه إلى حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها هذا، من المطاعن، والجواب عنه:

وقد أشبع الكلام في هذه المسألة العلّامة ابن القيّم: في كتابه الممتع "زاد المعاد"، وقد ذكر قبل ذكر المطاعن وأجوبتها كون حديثها موافقًا لكتاب الله عز وجل فقال:

(1)

"التمهيد" 19/ 161 - 162.

ص: 224

[موافقة هذا الحكم لكتاب الله عز وجل]:

قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1].

فأمر الله عز وجل الأزواج الذين لهم عند بلوغ الأجل الإمساكُ، والتسريح بأن لا يُخرجوا أزواجهم من بيوتهم، وأمر أزواجهنّ أن لا يخرجوهن، فدلّ على جواز إخراج من ليس لزوجها إمساكها بعد الطلاق، فإنَّه سبحانه وتعالى ذكر لهؤلاء المطلقات أحكامًا متلازمة، لا ينفك بعضها عن بعض:

[أحدها]: أن الأزواج لا يخرجوهن من بيوتهنّ.

[والثاني]: أنهنّ لا يخرجن من بيوت أزواجهنّ.

[والثالث]: أن لأزواجهنّ إمساكهنّ بالمعروف قبل انقضاء الأجل، وترك الإمساك، فيُسرّحوهنّ بإحسان.

[والرابع]: إشهاد ذوي عدل، وهو إشهادٌ على الرجعة إما وجوبًا، وإما استحبابًا، وأشار سبحانه إلى حكمة ذلك، وأنه في الرجعيّات خاصّةً بقوله:{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]، والأمر الذي يُرجى إحداثه ههنا هو المراجعة، هكذا قال السلف، ومن بعدهم. قال ابن أبي شيبة: حدثنا أبو معاوية، عن داود الأوديّ، عن الشعبيّ:{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} ، قال: لعلّك تَنْدَمُ، فيكون لك سبيل إلى المراجعة. وقال الضحّاك:{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]، قال: لعله أن يراجعها في العدّة. وقاله عطاء، وقتادة، والحسن، وقد تقدَّم قول فاطمة بنت قيس: أيُّ أمر يحدث بعد الثلاث؟

فهذا يدلّ على أن الطلاق المذكور هو الرجعيّ الذي ثبتت فيه هذه الأحكام، وأن حكمة أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، اقتضته لعل الزوج أن يندم، ويزول الشرّ الذي نزغه الشيطان بينهما، فتتبعها نفسه، فيراجعها، كما قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: لو أن الناس أخذوا بأمر الله في الطلاق، ما أتبع رجل نفسه امرأة يُطلّقها أبدًا.

ثمَّ ذكر سبحانه وتعالى الأمر بإسكان هؤلاء المطلّقات، فقال:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق: 6]، فالضمائر كلّها يتّحد مفسّرها، وأحكامها كلها متلازمة،

ص: 225

وكان قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها رجعة"، مشتقًّا من كتاب الله عز وجل ومفسّرًا له، وبيانًا لمراد المتكلّم به منه، فقد تبيّن اتحاد قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتاب الله عز وجل، والميزان العادل معهما أيضًا، لا يُخالفهما، فإن النفقة إنما تكون للزوجة، فإذا بانت منه صارت أجنبيّة حكمها حكم سائر الأجنبيّات، ولم يبق إلا مجرّد اعتدادها منه، وذلك لا يوجب لها نفقة، كالموطوءة بشبهة، أو زنى، ولأن النفقة إنما تجب في مقابلة التمكن من الاستمتاع، وهذا لا يمكن استمتاعه بها بعد بينونتها، ولأن النفقة لو وجبت لها عليه لأجل عدّتها، لوجبت للمتوفّى عنها من ماله، ولا فرق بينهما البتّة، فإن كلّ واحدة منهما قد بانت عنه، وهي معتدّةٌ منه، قد تعذّر منهما الاستمتاع، ولأنها لو وجبت لها السكنى، لوجبت لها النفقة، كما يقوله من يوجبها، فأما أن تجب لها السكنى دون النفقة، فالنصّ، والقياس يدفعه.

ثمَّ قال رحمه الله تعالى:

[ذكر المطاعن التي طُعن بها على حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قديمًا وحديثًا]:

(فأولها): طعن أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، فروى مسلم في "صحيحه" عن أبي إسحاق، قال: كنت مع الأسود بن يزيد، جالسًا، في المسجد الأعظم، ومعنا الشعبي، فحدّث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، ثمَّ أخذ الأسود كَفًّا من حصى، فحصبه به، فقال: ويلك تُحدّث بمثل هذا؟ قال عمر: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة، لا ندري لعلها حفظت، أو نسيت، لها السكنى والنفقة، قال الله عز وجل:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1].

قالوا: فهذا خبر عمر يُخبر أن سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لها النفقة والسكنى، ولا ريب أن هذا مرفوع، فإن الصحابيّ إذا قال:"من السنة كذا"، كان مرفوعًا، فكيف إذا قال:"من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم "؟، فكيف إذا كان القائل عمر بن الخطّاب؟ وإذا تعارضت رواية عمر رضي الله عنه، ورواية فاطمة، فرواية عمر

ص: 226

أولى، ولا سيما، ومعها ظاهر القرآن، كما سنذكر. وقال سعيد بن منصور: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، قال: كان عمر بن الخطّاب إذ ذُكر عنده حديث فاطمة بنت قيس قال: ما كنّا نغيّر في ديننا بشهادة امرأة.

‌[ذكر طعن عائشة في خبر فاطمة بنت قيس رضي الله عنهما

-]:

في "الصحيحين" من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، قال: تزوّج يحيى بن سعيد بن العاص، بنت عبد الرحمن بن الحكم، فطلّقها، فأخرجها من عنده، فعاب ذلك عليهم عروة، فقالوا: إن فاطمة قد خَرَجت، قال عروة: فأتيت عائشة، فأخبرتها بذلك، فقالت: ما لفاطمة بنت قيس خير في أن تذكر هذا الحديث.

وقال البخاري: فانتقلها عبد الرحمن، فأرسلت عائشة أم المؤمنين، إلى مروان بن الحكم، وهو أمير المدينة: اتَّقِ اللهَ وارددها إلى بيتها، قال مروان: إن عبد الرحمن بن الحكم غلبني، وقال: أَوَما بلغك شأن فاطمة بنت قيس؟ قالت: لا يضرّك أن لا تذكر حديث فاطمة، فقال مروان بن الحكم: إن كان بكِ شرّ، فحسبك ما بين هذين من الشر.

ومعنى كلامه: إن كان خروج فاطمة لما يقال من شرّ كان في لسانها، فيكفيك ما بين يحيى بن سعيد بن العاص، وبين امرأته من الشرّ.

وفي "الصحيحين": عن عروة أنَّه قال لعائشة: ألم تري إلى فلانة بنت الحكم، طلّقها زوجها البتة، فخرجت؟ فقالت: بئس ما صنعت، قال: ألم تسمعي في قول فاطمة؟ قالت: أما إنه ليس لها خير في ذكر هذا الحديث.

وفي حديث القاسم، عن عائشة رضي الله عنها يعني في قولها: لا سكنى ولا نفقة. وفي "صحيح البخاريّ": عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لفاطمة: ألا تتّقي الله، تعني في قولها: لا سكنى ولا نفقة. وفي "صحيحه" أيضًا: عنها: إن فاطمة كانت في مكان وحش، فخيف على ناحيتها، فلذلك أرخص النبيّ صلى الله عليه وسلم لها.

وقال عبد الرزاق، عن ابن جريج، أخبرني ابن شهاب، عن عروة، أن عائشة رضي الله تعالى عنها، أنكرت ذلك على فاطمة بنت قيس، تعني انتقال المطلّقة ثلاثًا.

ص: 227

وذكر القاضي إسماعيل، حدّثنا نصر بن عليّ، حدثني أبي، عن هارون، عن محمَّد بن إسحاق، قال: أحسبه عن محمَّد بن إبراهيم، أن عائشة رضي الله عنه قالت لفاطمة بنت قيس: إنما أخرجك هذا اللسان.

[ذكر طعن أسامة بن زيد رضي الله عنه على حديث فاطمة]:

روى عبد الله بن صالح كاتب الليث، قال: حدثني الليث بن سعد، حدثني جعفر، عن ابن هرمز، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: كان محمَّد بن أُسامة بن زيد يقول: كان أسامة إذا ذكرت فاطمة شيئًا من ذلك، يعني انتقالها في عدّتها رماها بما في يده.

[ذكر طعن مروان على حديث فاطمة]:

روى مسلم في "صحيحه" من حديث الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة حديث فاطمة هذا أنَّه حدّث به مروان، فقال مروان: لم نسمع هذا إلا من امرأة، سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها.

[ذكر طعن سعيد بن المسيّب]:

روى أبو داود في "سننه" من حديث ميمون بن مهران، قال: قدمت المدينة، فدُفِعتُ إلى سعيد بن المسيّب، فقلت: فاطمة بنت قيس طُلِّقت، فخرجت من بيتها، فقال سعيد: تلك امرأة فَتنت الناس، إنها كانت امرأة لَسِنَةً، فوُضعت على يدي ابن أم مكتوم الأعمى.

[ذكر طعن سليمان بن يسار]:

روى أبو داود في "سننه" أيضًا، قال في خروج فاطمة: إنما كان من سوء الخلق.

[ذكر طعن الأسود بن يزيد]:

تقدَّم حديث مسلم: أن الشعبيّ حدّث بحديث فاطمة، فأخذ الأسود كفًّا من حصباء، فحصبه به، وقال: ويلك تُحدّث بمثل هذا؟ وقال النسائيّ: ويلك، لِمَ تفتي بمثل هذا؟ قال عمر لها: إن جئت بشاهدين يشهدان أنهما سمعاه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا لم نترك كتاب ربّنا لقول امرأة.

ص: 228

[ذكر طعن أبي سلمة بن عبد الرحمن]:

قال الليث: حدّثني عُقيلٌ، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، فذكر حديث فاطمة.

ثمَّ قال: فأنكر الناس عليها ما كانت تُحدّث من خروجها قبل أن تَحِلّ، قالوا: وقد عارض رواية فاطمة صريح رواية عمر في إيجاب النفقة والسكنى، فروى حمّاد بن سلمة، عن حمّاد بن أبي سليمان، أنَّه أخبر إبراهيم النخعيّ بحديث الشعبيّ، عن فاطمة بنت قيس، فقال له إبراهيم: إن عمر أُخبر بقولها، فقال: لسنا بتاركي آية من كتاب الله، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم، لقول امرأة لعلها أوهمت، سمعتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:"لها السكنى والنفقة". ذكره أبو محمَّد في "المحلّى"، فهذا نصّ صريحٌ، يجب تقديمه على حديث فاطمة؛ لجلالة رواته، وترك الصحابة عليه، وموافقته لكتاب الله.

[ذكر الأجوبة عن هذه المطاعن، وبيان بطلانها]:

وحاصلها أربعة:

[أحدها]: أن راويتها امرأة، لم تأت بشاهدين يُتابعانها على حديثها.

[الثاني]: أن روايتها تضمّنت مخالفة القرآن.

[الثالث]: أن خروجها من المنزل لم يكن لأنه لا حقّ لها في السكنى، بل لأذاها أهل زوجها بلسانها.

[الرابع]: معارضة روايتها برواية أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه.

ونحن نبيّن ما في كلّ واحد من هذه الأمور الأربعة - بحول الله تعالى وقوّته - هذا مع أن في بعضها من الانقطاع، وفي بعضها من الضعف، وفي بعضها من البطلان ما سننبّه عليه، وبعضها صحيح عمن نُسب إليه بلا شكّ.

فأما الطعن الأوّل، وهو كون الراوي امرأة، فمَطْعَنٌ باطل بلا شكّ، والعلماء قاطبةً على خلافه، والمحتجّ بهذا من أتباع الأئمة أول مبطل له، ومخالف له، فإنهم لا يختلفون في أن السنن تؤخذ عن المرأة كما تؤخذ عن الرجل، هذا وكم من سنّة تلقاها الأئمة بالقبول عن امرأة واحدة من الصحابة، وهذه مسانيد نساء الصحابة بأيدي الناس، لا تشاء أن ترى فيها سنّة تفرّدت بها

ص: 229

امرأة منهنّ إلا رأيتها، فما ذنب فاطمة بنت قيس دون نساء العالمين؟ وقد أخذ الناس بحديث فُريعة بنت مالك بن سنان، أخت أبي سعيد الخدريّ في اعتداد المتوفّى عنها في بيت زوجها، وليست فاطمة بدونها علمًا، وجلالةً، وثقةً، وأمانةً، بل هي أفقه منها بلا شكّ، فإن فُريعة لا تُعرف إلا في هذا الخبر، وأما شهرة فاطمة، ودعاؤها من نازعها من الصحابة إلى كتاب الله ومناظرتها على ذلك، فأمرٌ مشهور، وكانت أسعد بهذه المناظرة ممن خالفها، كما مضى تقريره.

وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يختلفون في الشيء، فتروي لهم إحدى أمهات المؤمنين عن النبيّ صلى الله عليه وسلم شيئًا، فيأخذون به، ويرجعون إليه، ويتركون ما عندهم له، وإنما فُضّلن على فاطمة بنت قيس بكونهنّ أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فهي من المهاجرات الأُوَل، وقد رضيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لِحِبّه، وابن حِبّه أُسامة بن زيد رضي الله عنهما، وكان هو الذي خطبها له، وإذا شئت أن تعرف مقدار حفظها وعلمها، فاعرفه من حديث الدجّال الطويل الذي حدّث به رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فوعته فاطمة، وحفظته، وأدّته كما سمعته، ولم يُنكره عليها أحدٌ مع طوله، وغرابته، فكيف بقصّة جرت لها، وهي سببها، وخاصمت فيها، وحُكم فيها بكلمتين، وهي "لا نفقة، ولا سكنى"، والعادة توجب حفظ مثل هذا، وذِكْرَه، واحتمالُ النسيان فيه أمر مشتركٌ بينها وبين من أنكر عليها، فهذا عمر قد نسي تيمّم الجنب، وذكّره عمار بن ياسر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما بالتيمّم من الجنابة، فلم يَذكُره عمر رضي الله عنه، وأقام على أن الجنب لا يصلّي حتى يجد الماء.

ونسي قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20]، حتى ذكّرته به امرأة، فرجع إلى قولها.

ونسي قوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، حتى ذُكّر به.

فإن كان جواز النسيان على الراوي يوجب سقوط روايته سقطت رواية عمر التي عارضتم بها خبر فاطمة، وإن كان لا يوجب سقوط روايته بطلت المعارضة بذلك، فهي باطلة على التقديرين، ولو رُدّت السننُ بمثل هذا، لم

ص: 230

يبق بأيدي الأمة منها إلا اليسير، ثمَّ كيف يُعارِض خبرَ فاطمة، ويَطعن فيه بمثل هذا من يرى قبول خبر الواحد العدل، ولا يشترط للرواية نصابًا؟ وعمر رضي الله عنه أصابه في مثل هذا ما أصابه في ردّ خبر أبي موسى في الاستئذان حتى شهد له أبو سعيد، وردّه خبر المغيرة بن شعبة في إملاص المرأة حتى شَهِد له محمَّد بن مسلمة، وهذا كان تثبيتًا منه رضي الله عنه حتى لا يركب الناس الصعب والذَّلُول في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فقد قَبِلَ خبر الضحّاك بن سفيان الكلابيّ وحده، وهو أعرابيّ، وقبل لعائشة رضي الله عنها عدّة أخبار تفرّدت بها.

وبالجملة، فلا يقول أحد: إنه لا يُقبل قولُ الراوي الثقة العدل حتى يشهد له شاهدان، لا سيما إن كان من الصحابة.

فصل:

وأما المطعن الثاني، وهو أن روايتها مخالفة للقرآن، فنجيب بجوابين: مجمل، ومفصّل، أما المجمل، فنقول: لو كانت مخالفةً كما ذكرتم، لكانت مخالفةً لعمومه، فتكون تخصيصًا للعامّ، فحكمها حكم تخصيص قوله:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] بالكافر، والرقيق، والقاتل، وتخصيص قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء: 24] بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها، ونظائره، فإن القرآن لم يُخصّ البائن بأنها لا تُخرَج، ولا تَخرُج، وبأنها تسكن من حيث يسكن زوجها، بل إما أن يعمّها، ويعُمّ الرجعيّة، وإما أن يخصّ الرجعيّة.

فإن عمّ النوعين، فالحديث مخصّص لعمومه، وإن خصّ الرجعيات، وهو الصواب للسياق الذي من تدبّره، وتأمله قطع بأنّه في الرجعيّات من عدّة أوجه قد أشرنا إليها، فالحديث ليس مخالفًا لكتاب الله، بل موافقٌ له، ولو ذُكِّر أمير المؤمنين رضي الله عنه بذلك، لكان أوّل راجع إليه، فإن الرجل كما يذهَلُ عن النصّ يذهل عن دلالته وسياقه، وما يقترن به مما يتبيّن المراد منه، وكثيرًا ما يذهَلُ عن دخول الواقعة المعيّنة تحت النصّ العامّ، واندراجه تحتها، فهذا كثيرٌ جدًّا، والتفطّن له من الفهم الذي يؤتيه الله من يشاء من عباده، ولقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه من ذلك بالمنزلة التي لا تُجهل، ولا تستغرقها عبارة، غير أن النسيان والذهول عُرْضةٌ للإنسان، وإنما الفاضل العالم من إذا ذُكّر ذَكَرَ، ورجع.

ص: 231

فحديث فاطمة رضي الله تعالى عنها مع كتاب الله على ثلاث أطباق، لا يخرج عن واحد منها، إما أن يكون تخصيصًا لعامّه. الثاني: أن يكون بيانًا لما لم يتناوله، بل سكت عنه. الثالث: أن يكون بيانًا لما أريد به، وموافقًا لما أرشد إليه سياقُه، وتعليلُه، وتنبيهه، وهذا هو الصواب، فهو إذن موافقٌ له، لا مخالفٌ، وهكذا ينبغي قطعًا، ومعاذَ الله أن يحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يُخالف كتاب الله تعالى، أو يعارضه. وقد أنكر الإمام أحمد رحمه الله هذا من قول عمر رضي الله عنه، وجعل يتبسّم ويقول: أين في كتاب الله إيجاب السكنى، والنفقة للمطلّقة ثلاثًا؟ وأنكرته قبله الفقيهة الفاضلة فاطمة، وقالت: بيني وبينكم كتاب الله، قال الله تعالى:{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]، وأيّ أمر يحدث بعد الثلاث؟ وقد تقدَّم أن قوله:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} [الطلاق: 2]، يشهد بأن الآيات كلها في الرجعيّات.

فصل:

وأما المطعن الثالث، وهو أن خروجها لم يكن إلا لفحش من لسانها، فما أبرده من تأويل، وأسمجه، فإن المرأة من خيار الصحابة رضي الله عنهم، وفضلائهم، ومن المهاجرات الأُوَل، وممن لا يحملها رقّة الدين، وقلّة التقوى على فُحش، يوجب إخراجها من دارها، وأن يمنع حقّها الذي جعله الله لها، ونهى عن إضاعته، فيا عجبًا: كيف لم ينكر عليها النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الفُحْش، ويقول لها: اتق اللهَ وكُفّي لسانك عن أذى أهل زوجك، واستقرّي في مسكنك؟ وكيف يعدِل عن هذا إلى قوله:"لا نفقة لك، ولا سكنى"، وإلى قوله:"إنما السكنى والنفقة للمرأة التي إذا كان لزوجها عليها رجعة"؟، فيا عجبًا كيف يُترك هذا المانع الصريح الذي خرج من بين شفتي النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويُعلّل بأمر موهوم لم يعلّل به رسول الله صلى الله عليه وسلم البتّة، ولا أشار إليه، ولا نبّه عليه؟ هذا من المحال البيَّن. ثمَّ لو كانت فاحشة اللسان، وقد أعاذها الله من ذلك، لقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسمعت، وأطاعت: كُفّي لسانك حتى تنقضي عدّتك، وكان من دونها يسمع، ويُطيع؛ لئلا يخرج من سكنه.

فصل:

وأما المطعن الرابع: وهو معارضة روايتها برواية عمر رضي الله عنه، فهذه المعارضة تُورد من وجهين: أحدهما: قوله: "لا ندع كتاب ربّنا، وسنّة نبيّنا"،

ص: 232

وأن هذا من حكم المرفوع. الثاني: قوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لها السكنى والنفقة".

ونحن نقول: قد أعاذ الله أمير المؤمنين من هذا الكلام الباطل الذي لا يصحّ عنه أبدًا. قال الإمام أحمد: لا يصحّ ذلك عن عمر. وقال أبو الحسن الدارقطنيّ: بل السنّة بيد فاطمة بنت قيس قطعًا، ومن له إلمامٌ بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهد شهادة الله أنَّه لم يكن عند عمر رضي الله عنه سُنَّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن للمطلّقة ثلاثًا السكنى والنفقة، وعمر كان أتقى لله، وأحرص على تبليغ سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكون هذه السنّة عنده، ثمَّ لا يرويها أصلًا، ولا يبيّنها، ولا يبلّغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما حديث حمّاد بن سلمة، عن حمّاد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن عمر رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لها السكنى والنفقة"، فنحن نشهد بالله شهادة نُسأل عنها إذا لقيناه أن هذا كذبٌ على عمر رضي الله عنه، وكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن لا يَحمِل الإنسانَ فرط الانتصار للمذاهب، والتعصّب لها على معارضة سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الصريحة بالكذب البحت، فلو يكون عند عمر رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم لخَرِسَت فاطمة، وذووها، ولم ينسبوا بكلمة، ولا دعت فاطمة إلى المناظرة، ولا احتيج إلى ذكر إخراجها لبذاء لسانها، ولَمَا فات هذا الحديث أئمة الحديث، والمصنّفين في السنن، والأحكام، المنتصرين للسُّنَن فقط، لا لمذهب، ولا لرجل، هذا قبل أن نصل به إلى إبراهيم، ولو قُدّر وصولنا بالحديث إلى إبراهيم لانقطع نُخاعُهُ، فإن إبراهيم لم يولد إلا بعد موت عمر رضي الله عنه بسنين، فإن كان مخبر أخبر به إبراهيم، عن عمر رضي الله عنه، وحَسّنّا به الظنّ، وكان قد روي له قول عمر رضي الله عنه بالمعنى، وظنّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي حكم بثبوت النفقة والسكنى للمطلّقة، حتى قال عمر رضي الله عنه: لا ندع كتاب ربّنا لقول امرأة، فقد يكون الرجل صالحًا، ويكون مُغفّلًا، ليس تحمّل الحديث، وحفظه، وروايته من شأنه. وبالله التوفيق.

وقد تناظر في هذه المسألة ميمون بن مهران، وسعيد بن المسيّب، فذكر له ميمون خبر فاطمة، فقال سعيد: تلك امرأة فتنت الناس، فقال له ميمون؛ لئن كانت إنما أخذت بما أفتاها به رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فَتَنت الناسَ، وإن لنا في

ص: 233

رسول الله أسوة حسنة، مع أنها أحرم الناس عليه، ليس لها عليه رجعةٌ، ولا بينهما ميراث. انتهى.

ولا يُعلم أحد من الفقهاء رحمهم الله تعالى إلا وقد احتجّ بحديث فاطمة بنت قيس هذا، وأخذ به في بعض الأحكام كمالك، والشافعيّ، وجمهور الأمة يحتجّون به في سقوط نفقة المبتوتة، إذا كانت حائلًا، والشافعيّ نفسه احتجّ به على جواز جمع الثلاث؛ لأنَّ في بعض ألفاظه: فطلّقني ثلاثًا، وقد بيّنّا أنَّه إنما طلّقها آخر ثلاث، كما أخبرت به عن نفسها. واحتجّ به من يرى جواز نظر المرأة إلى الرجال. واحتجّ به الأئمة كلّهم على جواز خطبة الرجل على خطبة أخيه إذا لم تكن المرأة قد سكنت إلى الخاطب الأوّل. واحتجّوا به على جواز بيان ما في الرجل إذا كان على وجه النصيحة لمن استشاره أن يزوّجه، أو يُعامله، أو يسافر معه، وأن ذلك ليس بغيبة. واحتجّوا به على وقوع الطلاق في حال غيبة أحد الزوجين عن الآخر، وأنه لا يشترط حضوره، ومواجهته به. واحتجّوا به على جواز التعريض بخطبة المعتدّة البائن، وكانت هذه الأحكام كلها حاصلة ببركة روايتها، وصدق حديثها، فاستنبطتها الأمّة منها، وعمِلت بها، فما بال روايتها تُردّ في حكم واحد من أحكام هذا الحديث، وتُقبل فيما عداه؟ فإن كانت حفظته، قُبلت في جميعه، وإن لم تكن حفظته وجب أن لا يُقبل في شيء من أحكامه. وبالله التوفيق.

[فإن قيل [: بقي عليكم شيء واحدٌ، وهو أن قوله سبحانه وتعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} إنما هو في البوائن، لا في الرجعيّات، بدليل قوله عقبه: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] فهذا في البائن؛ إذ لو كانت رجعيّة، لما قيّد النفقة عليها بالحمل، ولكان عديم التأثير، فإنها تستحقّها حائلًا كانت، أو حاملًا، والظاهر أن الضمير في {أَسْكِنُوهُنَّ} هو والضمير في قوله:{وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ} واحد.

[فالجواب]: أن مورد هذا السؤال إما أن يكون من الموجبين النفقة والسكنى، أو ممن يوجب السكنى دون النفقة، فإن كان الأوّل، فالآية على زعمه حجة عليه؛ لأنه شرط في إيجاب النفقة عليهنّ كونهنّ حوامل، والحكم المعلّق على الشرط ينتفي عند انتفائه، فدلّ على أن البائن الحائل لا نفقة لها.

ص: 234

[فإن قيل]: فهذه دلالة على المفهوم، ولا يقول بها.

[قيل]: ليس ذلك من دلالة المفهوم، بل من انتفاء الحكم عند انتفاء شرطه، فلو بقي الحكم بعد انتفائه لم يكن شرطًا.

وإن كان ممن يوجب السكنى وحدها، فيقال له: ليس في الآية ضمير واحد يخصّ البائن، بل ضمائرها نوعان: نوع يخصّ الرجعيّة قطعًا، كقوله:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]. ونوع يَحتَمِل أن يكون للبائن، وأن يكون للرجعيّة، وأن يكون لهما، وهو قوله:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} ، وقوله:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} ، فحمله على الرجعيّة هو المتعيّن؛ لتتّحد الضمائر ومفسّرها، فلو حُمل على غيرها لزم اختلاف الضمائر، ومفسّرها، وهو خلاف الأصل، والحمل على الأصل أولى.

[فإن قيل]: فما الفائدة في تخصيص نفقة الرجعيّة بكونها حاملًا؟

[قيل]: ليس في الآية ما يقتضي أنَّه لا نفقة للرجعيّة الحائل، بل الرجعيّة نوعان، قد بيّن الله حكمهما في كتابه: حائلٌ، فلها النفقة بعقد الزوجيّة؛ إذ حكمها حكم الأزواج. أو حامل، فلها النفقة بهذه الآية إلى أن تضع حملها، فتصير النفقة بعد الوضع نفقة قريب، لا نفقة زوج، فيخالف حالها قبل الوضع حالها بعده، فإن الزوج يُنفق عليها وحده، إذا كانت حاملًا، فإذا وضعت صارت نفقتها على من تجب عليه نفقة الطفل، ولا يكون حالها في حال حملها كذلك، بحيث تجب نفقتها على من تجب عليه نفقة الطفل، فإنَّه في حال حملها جزء من أجزائها، فإذا انفصل كان له حكم آخر، وانتقلت النفقة من حكم إلى حكم، فظهرت فائدة التقييد، وسرّ الاشتراط. والله أعلم بما أراد من كلامه. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله تعالى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي حقّقه العلّامة ابن القيّم رحمه الله تحقيقٌ نفيس جدًّا.

وحاصله أن حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها حديث صحيح يجب العمل به؛

(1)

"زاد المعاد في هدي خير العباد" 5/ 528 - 542.

ص: 235

فإن المطاعن التي وُجّهت إليه غير مقبولة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم نفقة المبتوتة:

قال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: اختلف الناس في النفقة للمبتوتة إذا لم تكن حاملًا: فأباها قومٌ، وهم أهل الحجاز، منهم مالك، والشافعيّ، وتابعهم على ذلك أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد. وحجتهم هذا الحديث، قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة:"ليس لك عليه نفقة"، وهو مرويّ من وجوه صحاح، متواترة عن فاطمة رضي الله عنها.

وممن قال: إن المبتوتة لا نفقة لها، إن لم تكن حاملًا: عطاء بن أبي رباح، وابن شهاب، وسعيد بن المسيّب، وسليمان بن يسار، والحسن البصريّ، وبه قال الليث بن سعد، والأوزاعيّ، وابن أبي ليلى.

وقال أبو حنيفة، وأصحابه، والثوريّ، والحسن بن حيّ: لكلّ مطلّقة السكنى، والنفقة، ما دامت في العدّة، حاملًا كانت، أو غير حامل، مبتوتة، أو رجعيّة، وهو قول عثمان البَتِّيّ، وابن شُبْرُمة.

وحجتهم في ذلك أن عمر بن الخطّاب، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، قالا في المطلّقة ثلاثًا: لها السكنى والنفقة ما كانت في العدّة.

وقالت طائفة: المطلّقة المبتوتة إن لم تكن حاملًا لا سكنى لها، ولا نفقة، منهم: الشعبيّ، وميمون بن مهران، وعكرمة، ورواية عن الحسن. وروي ذلك عن عليّ، وابن عبّاس، وجابر بن عبد الله. وبه قال أحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبو ثور، وداود.

ثمَّ قال أبو عمر رحمه الله بعد أن ذكر أقوال من ردّ حديث فاطمة، أو تأوله -، ما نصّه:

لكن من طرق الحجة، وما يلزم منها قول أحمد بن حنبل، ومن تابعه أصحّ، وأحجّ؛ لأنه لو وجب السكنى عليها، وكانت عبادة تعبّدها الله بها، لألزمها ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يُخرجها عن بيت زوجها إلى بيت أم شريك، ولا إلى بيت أم مكتوم؛ ولأنه أجمعوا أن المرأة التي تبذو على أحمائها بلسانها، تؤدّب، وتقصر على السكنى في المنزل الذي طُلّقت فيه، وتُمنع من

ص: 236

أذى الناس، فدلّ ذلك على أن من اعتلّ بمثل هذه العلّة في الانتقال، اعتلّ بغير صحيح من النظر، ولا متّفق عليه من الخبر، هذا ما يوجبه عندي التأمّل لهذا الحديث مع صحّته، وبالله تعالى التوفيق.

وإذا ثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت قيس - وقد طُلّقت طلاقًا باتًا -: لا سكنى لك، ولا نفقة، وإنما السكنى والنفقة لمن عليها رجعة؛ فأيّ شيء يعارض به هذا؟ هل يُعارض إلا بمثله عن النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي هو المبيّن عن الله مراده من كتابه، ولا شيء عنه صلى الله عليه وسلم يدفع ذلك، ومعلوم أنَّه أعلم بتأويل قول الله عز وجل:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} من غيره صلى الله عليه وسلم، وأما الصحابة، فقد اختلفوا كما رأيت، منهم من يقول: لها السكنى والنفقة، منهم: عمر، وابن مسعود، ومنهم من يقول: لها السكنى، ولا نفقة، منهم ابن عمر، وعائشة، ومنهم من يقول: لا سكنى لها، ولا نفقة، وممن قال ذلك: عليّ، وابن عباس، وجابر، وكذلك اختلاف فقهاء الأمصار على هذه الثلاثة الأقوال، على ما ذكرنا، وبيّنّا - والحمد لله -. انتهى المقصود من كلام ابن عبد البرّ رحمه الله.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي حقّقه الحافظ أبو عمر رحمه الله من ترجيح القول بما دلّ عليه حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها هو الحقّ الذي لا مرية فيه.

والحاصل أن الصحيح أنَّه لا سكنى، ولا نفقة للمبتوتة، إلا أن تكون حاملًا؛ لحديث فاطمة رضي الله عنها هذا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3697]

(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيز، يَعْنِي ابْنَ أَبِي حَازِمٍ، وَقَالَ قُتَيْبَةُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيَّ، كِلَيْهِمَا عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ؛ أَنَّهُ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا، فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ أَنْفَقَ عَلَيْهَا نَفَقَةَ دُونٍ، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ، قَالَتْ: وَاللهِ لَأُعْلِمَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنْ كَانَ لِي نَفَقَةٌ أَخَذْتُ الَّذِي يُصْلِحُنِي، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِي نَفَقَةٌ، لَمْ آخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، قَالَتْ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "لَا نَفَقَةَ لَك، وَلَا سُكْنَى").

ص: 237

رجال هذا الإسناد: ستّة.:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، تقدَّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ) المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [8](ت 184)(ع) تقدم في "الإيمان" 45/ 290.

3 -

(يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ) بالتشديد - المدنيّ، نزيل الإسكندريّة، ثقةٌ [8](ت 181)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 35/ 245.

4 -

(أَبُو حَازِمٍ) سلمة بن دينار الأعرج التمّار القاصّ المدنيّ، ثقةٌ عابدٌ [5](ت 140) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (كِلَيْهِمَا) هكذا النسخ، وهو صحيح، بتقدير: أعني كليهما، أو هو مرفوع تأكيد للمرفوع، كُتب بالياء لإجل الإمالة، فيُقرأ بالألف، وضمير التثنية لعبد العزيز، ويعقوب، والله تعالى أعلم.

وقولها: (وَكَانَ أَنْفَقَ عَلَيْهَا نَفَقَةَ دُونٍ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في النسخ "نفقةَ دُونٍ" بإضافة "نفقة" إلى "دون"، قال أهل اللغة: الدُّون: الرديء الحقير، قال الجوهريّ: ولا يُشتقّ منه فعلٌ، قال: وبعضهم يقول منه: دان يدون دُونًا، وأدين إدانةً. انتهى.

وقولها: (وَاللهِ لَأُعْلِمَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بضم الهمزة، من الإعلام، و"رسول الله صلى الله عليه وسلم" منصوب على المفعوليّة، وهو الأوّل، والثاني محذوف؛ أي: هذا الأمر.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وتقدّم البحث عنه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3698]

(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ، فَأَخْبَرَتْنِي أَنَّ زَوْجَهَا الْمَخْزُومِيَّ طَلَّقَهَا، فَأَبَى أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا، فَجَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَتْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا نَفَقَةَ لَك، فَانْتَقِلِي، فَاذْهَبِي إِلَى ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَكُونِي عِنْدَهُ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى، تَضَعِينَ ثِيَابَكِ عِنْدَهُ").

ص: 238

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(لَيْثُ) بن سعد الإمام الشهير، تقدَّم قريبًا.

2 -

(عِمْرَانُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ) القُرشيّ العامريّ المدنيّ، نزيل الإسكندريّة، ثقةٌ [5](ت 117) بالمدينة (بخ م د ت س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 56/ 1557.

والباقون ذُكروا قبله، و"أبو سلمة" هو ابن عبد الرحمن بن عوف.

وقولها: (أَنَّ زَوْجَهَا الْمَخْزُومِيَّ) تقدَّم أنَّه أبو عمرو بن حفص، وقيل بالعكس، واسمه عبد الحميد، وقيل: غيره، من بني مخزوم.

وقوله: (فَأَبَى أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا) أي: أبي وكيلاه أن ينفقا عليها؛ لعلمهما أنَّه لا نفقة للمبتوتة ولا سكنى، كما تقدَّم بيان ذلك.

وقوله: (تَضَعِينَ ثِيَابَكِ عِنْدَهُ) وفي الرواية الأخرى: "فإنك إذا وَضَعتِ خمارك لم يرك"، قال النوويّ رحمه الله: هذه الرواية مفسّرة للأولى، ومعناه: لا تخافين من رؤية رجل إليك. انتهى

(1)

.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وتقدّم البحث عنه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3699]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، وَهُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ؛ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ، أُخْتَ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ، أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أَبَا حَفْصِ بْنَ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّ، طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى الْيَمَن، فَقَالَ لَهَا أَهْلُهُ: لَيْسَ لَكِ عَلَيْنَا نَفَقَةٌ، فَانْطَلَقَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي نَفَرٍ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ، فَقَالُوا: إِنَّ أَبَا حَفْصٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، فَهَلْ لَهَا مِنْ نَفَقَةٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَيْسَتْ لَهَا نَفَقَةٌ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ"، وَأَرْسَلَ إِلَيْهَا أَنْ لَا تَسْبِقِينِي بِنَفْسِك، وَأَمَرَهَا أَنْ تَنْتَقِلَ إِلَى أُمِّ شَرِيكٍ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهَا، أَنَّ أُمَّ شَرِيكٍ يَأْتِيهَا الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ، فَانْطَلِقِي إِلَى

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 99 - 100.

ص: 239

ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى، فَإِنَّكِ إِذَا وَضَعْتِ خِمَارَكِ لَمْ يَرَك، فَانْطَلَقَتْ إِلَيْه، فَلَمَّا مَضَتْ عِدَّتُهَا، أَنْكَحَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدَّم قريبًا.

2 -

(حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن بَهْرَام التميميّ، أبو محمَّد، أو أبو عليّ الْمَرُّوذِيّ

(1)

نزيل بغداد، ثقة [9](ت 213 أو بعدها بسنة، أو سنتين (ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 56/ 1543.

3 -

(شَيْبَانُ) بن عبد الرحمن التميميّ مولاهم النحويّ، أبو معاوية البصريّ، نزيل الكوفة، ثقة، صاحب كتاب [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

4 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) صالح بن المتوكّل الطائيّ مولاهم، أبو نصر البصريّ، ثمَّ اليماميّ، ثقةٌ ثبتٌ، يدلّس ويُرسل [5](ت 132) أو قبل ذلك (ع) تقدَّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (أن أبا حفص بن المغيرة) تقدَّم الخلاف، في كنيته، وفي اسمه أيضًا.

وقولها: (طلّقها ثلانًا) أي: آخر تطليقات ثلاث، كما تقدَّم بيانه.

وقولها: (ثمَّ انطلق إلى اليمن) أي: مع عليّ رضي الله عنه لَمّا بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم إليها.

وقولها: (فانطلق خالد بن الوليد) قد تقدَّم أن خالدًا رضي الله عنه كان ابن عمّ لأبي حفص زوج فاطمة رضي الله عنهما.

وقوله: (لا تسبقيني بنفسك) أي: لا تفعلي شيئًا من تزويج نفسك قبل إعلامك لي بذلك، وإنما قال لها صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأنه يريد أن يخطبها لأسامة رضي الله عنه، وهذا يدلّ على جواز التعريض بخِطبة المعتدّة البائن، كما قال تعالى:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} الآية.

(1)

بتشديد الراء، وإسكان الواو، بعدها ذال معجمة.

ص: 240

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدَّم البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3700]

(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، يَعْنُونَ ابْنَ جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ (ح) وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، قَالَ: كَتَبْتُ ذَلِكَ مِنْ فِيهَا كِتَابًا، قَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، فَطَلَّقَنِي الْبَتَّةَ، فَأَرْسَلْتُ إِلَى أَهْلِه، أَبْتَغِي النَّفَقَةَ، وَاقْتَصُّوا الْحَدِيثَ، بِمَعْنَى حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو:"لَا تَفُوتِينَا بِنَفْسِكِ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ، أبو زكرياء البغداديّ، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 234)(عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

2 -

(ابْنُ حُجْرٍ) عليّ السعديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

3 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق المدنيّ القارئ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 110.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو) بن علقمة بن وقّاص الليثيّ المدنيّ، صدوقٌ، له أوهامٌ [6](ت 145)(ع) تقدم في "الصلاة" 42/ 1085.

5 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدَّم في الباب الماضي.

6 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) الْعَبديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (قَالَ: كَتَبْتُ ذَلِكَ مِنْ فِيهَا كِتَابًا) القائل هو أبو سلمة بن عبد الرحمن، يعني أنَّه كتب الحديث المذكور بعد سماعه من فم فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، فقوله:"من فيها" لغة في الفم، و"كتابًا" مصدر لـ "كتبتُ"؛ أي: كتبته كتابة.

ص: 241

وقولها: (فَطَلَّقَنِي الْبَتَّةَ) تقدَّم أن المراد به أنَّه طلّقها طلاقًا بائنًا، وهي آخر الطلقات الثلاث، لا أنَّه طلّقها بلفظ "البتّة"، فتنبّه.

وقوله: (وَاقْتَصُّوا الْحَدِيثَ) ضمير الجماعة يعود إلى شيوخه الأربعة: يحيى بن أيوب، وقتيبة، وابن حجر، وابن أبي شيبة.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو: "لَا تَفُوتِينَا بِنَفْسِكِ") يعني أن الخلاف بين محمَّد بن عمرو وبين يحيى بن أبي كثير في قوله: "أن لا تسبقيني بنفسك"، فإن محمَّد بن عمرو رواه بلفظ:"لا تفوتينا بنفسك"، من الفوات.

[تنبيه]: رواية محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة لم أر من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3701]

(. . .) - (حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ جَمِيعًا، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَن ابْنِ شِهَابٍ؛ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ أَخْبَرَتْهُ؛ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ أَبِي عَمْرِو بْنِ حَفْصِ بْنِ الْمُغِيرَة، فَطَلَّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ، فَزَعَمَتْ أَنَّهَا جَاءَتْ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم تَسْتَفْتِيهِ فِي خُرُوجِهَا مِنْ بَيْتِهَا، فَأَمَرَهَا أَنْ تَنْتَقِلَ إِلَى ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى، فَأَبَى مَرْوَانُ أَنْ يُصَدِّقَهُ فِي خُرُوجِ الْمُطَلَّقَةِ مِنْ بَيْتِهَا، وَقَالَ عُرْوَةُ: إِنَّ عَائِشَةَ أَنْكَرَتْ ذَلِكَ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ) الخلّال، نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [11](ت 242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

2 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكِسّيّ، أبو محمَّد، قيل: اسمه عبد الحميد، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

3 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

4 -

(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف

ص: 242

الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجة [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

5 -

(صَالِحُ) بن كيسان الغفاريّ مولاهم، أبو محمَّد المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [4] مات بعد (30 أو 140)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

والباقون ذُكروا قبله.

وقولها: (كَانَتْ تَحْتَ أَبِي عَمْرِو بْنِ حَفْصِ بْنِ الْمُغِيرَةِ) هذا هو الصحيح الذي قاله الجمهور، وقلبه بعضهم، فقال: أبو حفص بن عمرو، فتنبّه.

وقولها: (فَطَلَّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ) هذا هو المفسّر للرواية الأخرى: "طلقها البتّة"، وكذا "طلقها ثلاثًا"، فالمراد أن الطلقة التي طلّقها كانت هي الطلقة الثلاثة، بانت بها من زوجها، فتنبّه.

فقوله: (زَعَمَتْ) المراد بالزعم هنا هو القول المحقّق، لا الباطل.

وقولها: (فَأَمَرَهَا أَنْ تَنْتَقِلَ إِلَى ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى) قال النوويّ رحمه الله: هذا محمول على أنَّه أَذِن لها في الانتقال؛ لعذر، وهو البذاءة على أحمائها، أو خوفها أن يُقْتَحَم عليها، أو نحو ذلك، وقد سبقت الإشارة إلى هذا في أوائل هذا الباب، وأما لغير حاجة فلا يجوز لها الخروج والانتقال، ولا يجوز نقلها، قال الله تعالى:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1]، قال ابن عباس وعائشة: المراد بالفاحشة هنا النشوز، وسوء الخلق، وقيل: هو البذاءة على أهل زوجها، وقيل: معناه إلا أن يأتين بفاحشة الزنى، فيخرجن لإقامة الحدّ، ثمَّ ترجع إلى المسكن. انتهى

(1)

.

وقوله: (فَأَبَى مَرْوَانُ أَنْ يُصَدِّقَهُ إلخ) هو مروان بن الحكم، وستأتي قصّته في ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3702]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا حُجَيْنٌ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ، مَعَ قَوْلِ عُرْوَةَ: إِنَّ عَائِشَةَ أَنْكَرَتْ ذَلِكَ عَلَى فَاطِمَةَ).

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 101.

ص: 243

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حُجَيْنُ) بن المثنّى اليماميّ، أبو عُمير، سكن بغداد، وولي قضاء خُراسان، ثقةٌ [9](ت 205)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 81/ 437.

2 -

(عُقَيْلُ) بن خالد الأمويّ مولاهم، أبو خالد الأيليّ، ثقةٌ، ثبتٌ [6](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 133.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: رواية عُقيل، عن ابن شهاب هذه ساقها النسائيّ في "الكبرى" 3/ 398 فقال:

(5740)

أخبرنا محمَّد بن رافع النيسابوريّ، قال: حدّثنا حُجين بن الْمُثَنَّى، قال: حدّثنا الليث، عن عُقيل، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن فاطمة بنت قيس، أنها أخبرته، أنها كانت تحت أبي عمرو بن حفص بن المغيرة، فطلقها آخر ثلاث تطليقات، فزعمت فاطمة أنها جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتته في خروجها من بيتها، فأمرها أن تنتقل عند ابن أم مكتوم الأعمى، فأبى مروان أن يصدق فاطمة في خروج المطلقة من بيتها، قال عروة: أنكرت عائشة ذلك على فاطمة. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3703]

(. . .) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَاللَّفْظُ لِعَبْدٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَن الزُّهْرِيّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصِ بْنِ الْمُغِيرَة، خَرَجَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى الْيَمَن، فَأَرْسَلَ إِلَى امْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ بِتَطْلِيقَةٍ، كَانَتْ بَقِيَتْ مِنْ طَلَاقِهَا، وَأَمَرَ لَهَا الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ بِنَفَقَةٍ، فَقَالَا لَهَا: وَاللهِ مَا لَكِ نَفَقَةٌ، إِلَّا أَنْ تَكُونِي حَامِلًا، فَأَتَت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَتْ لَهُ قَوْلَهُمَا، فَقَالَ:"لَا نَفَقَةَ لَكِ"، فَاسْتَأْذَنَتْهُ فِي الانْتِقَال، فَأَذِنَ لَهَا، فَقَالَتْ: أَيْنَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: "إِلَى ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ"، وَكَانَ أَعْمَى، تَضَعُ ثِيَابَهَا عِنْدَهُ، وَلَا يَرَاهَا، فَلَمَّا مَضَتْ عِدَّتُهَا، أَنْكَحَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا مَرْوَانُ قَبِيصَةَ بْنَ

ص: 244

ذُؤَيْبٍ، يَسْأَلُهَا عَن الْحَدِيث، فَحَدَّثَتْهُ بِه، فَقَالَ مَرْوَانُ: لَمْ نَسْمَعْ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَّا مِن امْرَأَةٍ، سَنَأْخُذُ بِالْعِصْمَةِ الَّتِي وَجَدْنَا النَّاسَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ، حِينَ بَلَغَهَا قَوْلُ مَرْوَانَ: فَبَيْنِي وَبَيْنَكُمْ الْقُرْآنُ، قَالَ اللهُ تعالى:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} الْآيَةَ، قَالَتْ: هَذَا لِمَنْ كَانَتْ لَهُ مُرَاجَعَةٌ، فَأَيُّ أَمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الثَّلَاثِ؟ فَكَيْفَ تَقُولُونَ: لَا نَفَقَةَ لَهَا، إِذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا، فَعَلَامَ تَحْبِسُونَهَا؟).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ) بن مسعود الْهُذليّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 94)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

والباقون ذُكروا في الباب والباب الماضي.

وقوله: (عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ؛ أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصِ بْنِ الْمُغِيرَة، خَرَجَ إلخ) قال القرطبيّ: هو مرسلٌ، على ما قاله أبو مسعود الدمشقيّ

(1)

.

وقال الحافظ الرشيد العطار في "غرر الفوائد": وفي سماع عبيد الله هذا من أبي عمرو بن حفص رضي الله عنه نظرٌ، وقد ذكر غير واحد من العلماء أن هذا الحديث من هذا الوجه غير متصل، قلت: وهذا حديث انفرد به مسلم دون البخاريّ، وأخرجه في "صحيحه" متصلًا من عدّة طرق، من حديث الشعبيّ، وأبي سلمة، وغيرهما، عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، ولو سلّمنا أنَّه منقطع من هذا الوجه، فقد بينا أنَّه متّصلٌ في كتاب مسلم من عدّة أوجه. انتهى كلام الرشيد العطار.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن هذا الحديث من هذا الوجه مرسلٌ؛ لأنَّ عبيد الله بن عبد الله لم يسمع من أبي عمرو بن حفص، لكن لا يضرّ إرساله؛ لأنَّ مسلمًا قد أخرجه متّصلًا من عدّة طرق، من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن فاطمة بنت قيس، ومن رواية الشعبيّ، عنها، ومن رواية غيرهما عنها، كما هو واضح من أحاديث الباب، وإنما أورده مسلم، مع

(1)

"المفهم" 4/ 276.

ص: 245

إرساله؛ متابعةً، ومعلوم أن المتابعة يُغتفر فيها ما لا يُغتفر في الأصول، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (وَأَمَرَ لَهَا الْحَارِثَ بْنَ هِشَام) بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، أبا عبد الرحمن المكيّ، أخا أبي جهل، وابن عمّ خالد بن الوليد، وأمه فاطمة بنت الوليد بن المغيرة. قال الزبير بن بكّار: كان شريفًا مذكورًا، مدحه كعب بن الأشرف اليهوديّ، وشهد الحارث بن هشام بدرًا مع المشركين، وكان فيمن انهزم، فعيّره حسّان بن ثابت، فقال [من الكامل]:

إِنْ كُنْتِ كَاذِبَةَ الَّذِي حَدَّثْتِنِي

فَنَجَوْتِ مَنْجَى الْحَارِثِ بْنِ هَشَامِ

تَرَكَ الأَحِبَّةَ أَنْ يُقَاتِلَ دُونَهُمْ

وَنَجَا بِرَأْسِ طِمْرَةٍ وِلِجَامِ

فأجاب الحارث [من الكامل]:

اللهُ يَعْلَمُ مَا تَرَكْتُ قِتَالَهُمْ

حَتَّى رَمَوْا فَرَسِي بِأَشْقَرَ مُزْبِدِ

فَعَلِمْتُ أَنِّي إِنْ أُقَاتِلْ وَاحِدًا

أُقْتَلْ وَلَا يُنْكِي عَدُوِّي مَشْهَدِي

فَفَرَرْتُ عَنْهُمْ وَالأَحِبَّةُ فِيهِمُ

طَمَعًا لَهُمْ بِعِقَابِ يَوْمٍ مُرْصَدِ

ويقال: إن هذه الأبيات أحسن ما قيل في الاعتذار من الفرار، قال الزبير: ثمَّ شهد أُحدًا مشركًا حتى أسلم يوم فتح مكة، ثمَّ حسن إسلامه، قال: وحدثني عمي، قال: خرج الحارث في زمن عمر بأهله وماله من مكة إلى الشام، فتبعه أهل مكة، فقال: لو استبدلت بكم دارًا بدار ما أردت بكم بدلًا، ولكنها النقلة إلى الله، فلم يزل بالشام حتى ختم الله له بخير. قال الزبير: لم يترك الحارث إلا ابنه عبد الرحمن، فأُتي به، وبناجية بنت عتبة بن سُهيل بن عمرو إلى عمر، فقال: زوّجوا الشريدة بالشريد، عسى الله أن ينشر منهما، فنشر الله منهما ولدًا كثيرًا. وكان الحارث يُضرب به المثل في السؤدد، حتى قال الشاعر [من الكامل]:

أَظَنَنْتَ أَنَّ أَبَاكَ حِينَ نَسَبْتَنِي

فِي الْمَجْدِ كَانَ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامِ

أَوْلَى قُرَيشٍ بِالْمَكَارِمِ وَالنَّدَى

فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ وَالإِسْلَامِ

وقال الزبير بن بكّار في "الموفّقيّات" من طريق محمَّد بن إسحاق في قصّة سَقيفة بني ساعدة، قال: فقام الحارث بن هشام، وهو يومئذ سيد بني مخزوم، ليس أحد يعدل به إلا أهل السوابق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والله لولا قول

ص: 246

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش" ما أُبعد منها الأنصار، ولكانوا لها أهلًا، ولكنه قولٌ لا شكّ فيه، فوالله لو لم يبق من قريش كلها إلا رجلٌ واحد لصيّر الله هذا الأمر فيه، وكان الحارث يَحمل في قتال الكفّار، ويرتجز:

إِنِّي بِرَبِّي وَالنَّبِيِّ مُؤْمِنُ

وَالْبَعْثِ مِنْ بَعْدِ الْمَمَاتِ مُوقِنُ

أَقْبِحْ بِشَخْصٍ لِلْحَيَاةِ مُوطِنُ

وذكر ابن سعد وغيره: أنَّه توفّي في طاعون عَمَواس سنة (18).

وقوله: (وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ) - واسم أبيه عمرو، ويُلقّب ذا الرمحين - ابن المغيرة بن عبد الله بن عُمَر بن مخزوم القرشيّ المخزوميّ، ابن عم خالد بن الوليد بن المغيرة، وكان من السابقين الأولين، وهاجر الهجرتين، ثمَّ خَدَعه أبو جهل إلى أن رجعوه من المدينة إلى مكة، فحبسوه، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو له في القنوت، كما ثبت في "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه، وذكر العسكريّ أنَّه شهد بدرًا، وغلّطوه. قال ابن قانع، والقراب، وغيرهما: مات سنة (15) بالشام في خلافة عمر رضي الله عنه، وقيل: استُشهد باليمامة. وقيل: باليرموك.

وقوله: (قَبِيصَةَ بْنَ ذُؤَيْبِ) بن حَلْحَلَة الْخُزاعيّ، أبو سعيد، أو أبو إسحاق المدنيّ، نزيل دمشق، من أولاد الصحابة، وله رؤية، مات سنة بضع وثمانين، تقدَّم في "الجنائز" 4/ 2130.

وقوله: (فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا مَرْوَانُ إلخ) حاصل قصّته هو ما أخرجه عبد الرزاق في "مصنّفه" 7/ 22 فقال:

(12025)

عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة؛ أن عبد الله بن عمرو بن عثمان طلَّق، وهو غلام شابٌّ في إِمْرة مروان ابنةَ سعيد بن زيد، وأمها ابنة قيس، فطلّقها البتة، فأرسلت إليها خالتها فاطمة بنت قيس، فأمرتها بالانتقال من بيت زوجها عبد الله بن عمرو، فسمع ذلك مروان، فأرسل إليها، فأمرها أن ترجع إلى مسكنها، فسألها ما حملها على الانتقال قبل أن تنقضي عدتها؟ فأرسلت تخبره أن فاطمة بنت قيس أفتتها بذلك، وأخبرتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتاها بالخروج، أو قال: بالانتقال حين طلقها أبو عمرو بن حفص المخزوميّ، فأرسل مروان قبيصة بن ذؤيب إلى فاطمة بنت قيس يسألها عن ذلك، فأخبرته أنها كانت تحت أبي عمرو بن

ص: 247

حفص المخزوميّ، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّر عليًّا على بعض اليمن، فخرج معه زوجها، وبعث إليها بتطليقة، كانت بقيت لها، وأَمَرَ عياش بن أبي ربيعة، والحارث بن هشام أن يُنفقا عليها، فقالا: والله ما لها نفقة، إلا أن تكون حاملًا، قالت: فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال:"لا نفقة لك، إلا أن تكوني حاملًا"، واستأذنته في الانتقال، فأذن لها، فقالت: أين أنتقل يا رسول الله؟ قال: عند ابن أم مكتوم، وكان أعمى، تضع ثيابها عنده، ولا يُبصرها، فلم تزل هنالك، حتى مضت عدّتها، فأنكحها النبيّ صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد. انتهى.

وقوله: (سَنَأْخُذُ بِالْعِصْمَةِ الَّتِي وَجَدْنَا النَّاسَ عَلَيْهَا) هكذا هو في معظم النسخ: "بالعصمة" بكسر العين، وفي بعضها "بالقضيّة" بالقاف، والضاد، وهذا واضحٌ، ومعنى الأوّل بالثقة، والأمر القويّ الصحيح، قاله النوويّ

(1)

.

وقولها: (قَالَتْ: هَذَا لِمَنْ كَانَتْ لَهُ مُرَاجَعَةٌ) أرادت به الردّ على قول مروان من مَنْعِه المبتوتة من الانتقال من بيتها، واستدَلّت عليه بأن الآية إنما تضمّنت نهي غير المبتوتة بقرينة قول الله سبحانه وتعالى:{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]، تقول: وأيّ أمر يحدث بعد تمام الطلقات الثلاث؟ بخلاف غير المبتوتة، فإنها بصدد أن يَحدُث لمطلّقها أمر، إما بالارتجاع، أو باستئناف النكاح

(2)

.

وقولها: (فَعَلَامَ تَحْبِسُونَهَا؟) اعتراض على مروان بأنّه يوجب للمبتوتة السكنى، ويمنع من خروجها، دون النفقة، وحاصل اعتراضها: أنكم إذا لم توجبوا النفقة فكيف تمنعونها من الخروج؟ والنفقة جزاء الاحتباس، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3704]

(. . .) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا سَيَّارٌ، وَحُصَيْنٌ، وَمُغِيرَةُ، وَأَشْعَثُ، وَمُجَالِدٌ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، وَدَاوُدُ، كُلُّهُمْ عَنْ

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 102.

(2)

"تكملة فتح الملهم" 1/ 211.

ص: 248

الشَّعْبِيّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، فَسَأَلْتُهَا عَنْ قَضَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: طَلَّقَهَا زَوْجُهَا الْبَتَّةَ، فَقَالَتْ: فَخَاصَمْتُهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي السُّكْنَى وَالنَّفَقَة، قَالَتْ: فَلَمْ يَجْعَلْ لِي سُكْنَى، وَلَا نَفَقَةً، وَأَمَرَنِي أَنْ أَعْتَدَّ فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ).

رجال هذا الإسناد: أحد عشر:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدَّم في الباب الماضي.

2 -

(هُشَيْمُ) بن بشير الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7](ت 183)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

3 -

(سَيَّارُ) بن أبي سيّار وَرْدان، أبو الحكم الْعَنَزيّ الواسطيّ، أو البصريّ، ثقةٌ [6](122)(ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.

4 -

(حُصَيْنُ) بن عبد الرحمن السلميّ، أبو الْهُذيل الكوفيّ، ثقةٌ تغيّر في الآخر [5](ت 136) وله (93) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 285.

5 -

(مُغِيرَةُ) بن مِقْسم الضبيّ مولاهم، أبو هشام الكوفيّ الأعمى، ثقةٌ متقنٌ، يدلّس [6](ت 136)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.

6 -

(أَشْعَثُ) بن سوّار الكِنْديّ النجّار الكوفيّ، مولى ثقيف، ويقال له: شعبة النجار، وأشعث التابوتيّ، وأشعث الأفرق، ويقال: الأثرم، صاحب التوابيت، وكان على قضاء الأهواز، ضعيف [6].

رَوَى عن الحسن البصري، والشعبيّ، وعديّ بن ثابت، وعكرمة، وأبي إسحاق، وعون بن أبي جُحيفة، والحكم بن عتيبة، وغيرهم.

وروى عنه شعبة، والثوريّ، وهشيم، وحفص بن غياث، وبشير بن ميمون، وأبو خالد الأحمر، وعبثر بن القاسم، وابن نمير، وغيرهم.

قال الثوريّ: أشعث أثبت من مجالد، وقال يحيى بن سعيد: الحجاج بن أرطاة، ومحمد بن إسحاق عندي سواء، وأشعث دونهما، وقال عمرو بن عليّ: كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عنه، ورأيت عبد الرحمن يَخُطّ على حديثه، وقال أبو موسى: ما سمعت يحيى، ولا عبد الرحمن حدّثا عن سفيان عنه بشيء قط، وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: أشعث بن سوار أحب إلي من

ص: 249

إسماعيل بن مسلم، وسمع من الشعبيّ، ولم يسمع من إبراهيم، وقال مرةً: ضعيفٌ، وقال ابن الدّورقيّ عنه: ثقةٌ، وقال أحمد: هو أمثل في الحديث من محمَّد بن سالم، ولكنه على ذلك ضعيف الحديث، وقال العجليّ: أمثل من محمَّد بن سالم، وقال أبو زرعة: لَيِّنٌ، وقال النسائيّ، والدارقطنيّ: ضعيفٌ، وقال ابن عديّ: ولأشعث بن سوّار روايات عن مشايخه، وفي بعض ما ذكرت يخالفونه، وفي الجملة يُكتب حديثه، وأشعث بن عبد الملك خير منه، ولم أجد له فيما يرويه متنًا منكرًا، إنما في الأحايين يخلط في الإسناد، ويخالف.

وقال الْبَرْقانيّ: قلت للدارقطنيّ: أشعث عن الحسن، قال: هم ثلاثة يحدثون جميعًا عن الحسن: الْحُمْرانيّ، وهو ابن عبد الملك، أبو هانئ ثقةٌ، وابن عبد الله بن جابر الْحُدّانيّ، يُعتبر به، وابن سوّار، يُعتبر به، وهو أضعفهم، روى عنه شعبة حديثًا واحدًا.

وقال ابن حبَّان: فاحش الخطأ، كثير الوهم، وقال ابن سعد: كان ضعيفًا في حديثه، وقال العجليّ: ضعيف يُكتب حديثه، وقال مرةً: لا بأس به، وليس بالقويّ، قال: وقال ابن مهديّ: هو أرفع من مجالد، قال: والناس لا يتابعونه على هذا، مجالدٌ أرفع منه، وقال ابن شاهين في "الثقات" عن عثمان بن أبي شيبة: صدوقٌ، قيل: حجةٌ؟ قال: لا، وقال بندار: ليس بثقة، وقال الآجريّ: قلت لأبي داود: أشعث وإسماعيل بن مسلم أيهما أعلى؟ قال: إسماعيل دون أشعث، وأشعث ضعيفٌ، وقال البزار: لا نعلم أحدًا ترك حديثه، إلا من هو قليل المعرفة، واستنكر له العقيليّ روايته عن الحسن، عن أبي موسى، حديث:"الأذنان من الرأس"، وقال: لا يتابع عليه.

قال عمرو بن عليّ: مات سنة (136).

أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والترمذيّ،

والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث متابعةً.

7 -

(مُجَالِدُ) بن سعيد بن عُمير بن بِسطام بن ذي مرّان بن شُرَحبيل بن ربيعة بن مَرثد بن جُشَم الْهَمْدانيّ، أبو عمرو، ويقال: أبو سعيد الكوفيّ، ليس بالقويّ، وقد تغيّر في آخره، من صغار [6].

ص: 250

روى عن الشعبيّ، وقيس بن أبي حازم، وأبي الودّاك جَبْر بن نَوْف، وزياد بن عِلاقة، ومحمد بن بشر الْهَمْدانيّ، وغيرهم.

وروى عنه ابنه إسماعيل، وإسماعيل بن أبي خالد، وهو من أقرانه، وجرير بن حازم، وشعبة، والسفيانان، وابن المبارك، وعبد الواحد بن زياد، وهشيم، وحماد بن زيد، وغيرهم.

قال البخاريّ: كان يحيى بن سعيد يضعّفه، وكان ابن مهديّ لا يروي عنه، وكان أحمد بن حنبل لا يراه شيئًا، وقال ابن المدينيّ: قلت ليحيى بن سعيد: مجالد؟ قال: في نفسي منه شيء، وقال أحمد بن سنان القطان: سمعت ابن مهديّ يقول: حديث مجالد عند الأحداث: أبي أسامة، وغيره ليس بشيء، ولكن حديث شعبة، وحماد بن زيد، وهشيم، وهؤلاء، يعني أنَّه تغير حفظه في آخر عمره، وقال عمرو بن عليّ: سمعت يحيى بن سعيد يقول لبعض أصحابه: أين تذهب؟ قال: إلى وهب بن جرير أكتب السيرة عن أبيه، عن مجالد، قال: تكتب كذبًا كثيرًا، لو شئتَ أن يجعلها إلى مجالد كلها عن الشعبيّ، عن مسروق، عن عبد الله فعل، وقال أبو طالب عن أحمد: ليس بشيء، يرفع حديثًا كثيرًا لا يرفعه الناس، وقد احتمله الناس، وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: لا يحتج بحديثه، وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ضعيف، واهي الحديث، كان يحيى بن سعيد يقول: لو أردت أن يرفع لي مجالد حديثه كله رفعه، قلت: ولِمَ يرفعه؟ قال: للضعف، وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي: يُحتج بمجالد؟ قال: لا، وهو أحب إلي من بشر بن حرب، وأبي هارون العبديّ، وشهر بن حوشب، وعيسى الخياط، وداود، وليس مجالد بقويّ في الحديث، وقال النسائيّ: ليس بالقويّ، ووثقه مرةً، وقال ابن عديّ: له عن الشعبيّ، عن جابر أحاديث صالحةٌ، وعن غير جابر، وعامة ما يرويه غير محفوظ.

وقال عمرو بن عليّ وغيره: مات سنة أربع وأربعين ومائة في ذي الحجة.

أخرج له المصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث متابعةً، ومقرونًا.

ص: 251

8 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ) البجليّ الأحمسيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 146)(ع) تقدَّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 299.

9 -

(دَاوُدُ) بن أبي هند دينار القُشيريّ مولاهم، أبو بكر، أو أبو محمَّد البصريّ، ثقةٌ متقنٌ [5](ت 140) أو قبلها (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.

10 -

(الشَّعْبِيُّ) عامر بن شَرَاحيل، أبو عمرو الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه فاضلٌ [3] مات بعد المائة، وله نحو من (80) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

و"فاطمة" ذُكرت قبله.

والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3705]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ حُصَيْنٍ، وَدَاوُدَ، وَمُغِيرَةَ، وَإِسْمَاعِيلَ، وَأَشْعَثَ، عَن الشَّعْبِيِّ؛ أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، بِمِثْلِ حَدِيثِ زُهَيْرٍ، عَنْ هُشَيْمٍ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية.

وكلهم ذُكروا في الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3706]

(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ

(1)

، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ الْهُجَيْمِيُّ، حَدَّثَنَا قُرَّةُ، حَدَّثَنَا سَيَّارٌ أَبُو الْحَكَم، حَدَّثَنَا الشَّعْبِيُّ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، فَأَتْحَفَتْنَا بِرُطَبِ ابْنِ طَابٍ، وَسَقَتْنَا سَوِيقَ سُلْتٍ، فَسَأَلْتُهَا عَن الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا، أَيْنَ تَعْتَدُّ؟ قَالَتْ: طَلَّقَنِي بَعْلِي ثَلَاثًا، فَأَذِنَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَعْتَدَّ فِي أَهْلِي).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ) بن عربيّ البصريّ، ثقةٌ [10](ت 248)(م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا يحيى بن حبيب بن عربيّ".

ص: 252

2 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ الْهُجَيْمِيُّ) أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.

3 -

(قُرَّةُ) بن خالد السَّدُوسيّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [6](ت 155)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 126.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (فَأَتْحَفَتْنَا بِرُطَبِ ابْنِ طَابٍ) قال النوويّ رحمه الله: معنى "أتحفتنا": ضيّفتنا، و "رُطَب ابن طاب" نوع من الرُّطَب الذي بالمدينة، وقد ذكرنا أن أنواع تمر المدينة مائة وعشرون نوعًا. انتهى

(1)

.

وقوله: (وسقتنا سَوِيق سُلْت) قال النوويّ رحمه الله: بسين مهملة مضمومة، ثمَّ لام ساكنة، ثمَّ مثناة فوقُ، وهو حَبّ متردّد بين الشعير والحنطة، قيل: طبعه طبع الشعير في البرودة، ولونه قريب من لون الحنطة، وقيل: عكسه، واختَلَف أصحابنا في حكمه على ثلاثة أوجه مشهورة، الصحيح أنَّه جنس من الحبوب، ليس هو حنطة، ولا شعيرًا، والثاني أنَّه حنطة، والثالث أنَّه شعير، وتظهر فائدة الخلاف في بيعه بالحنطة، أو بالشعير متفاضلًا، وفي ضمّه إليهما في إتمام نصاب الزكاة، وفي غير ذلك.

وفي هذا الحديث استحباب الضيافة، واستحبابها من النساء؛ لزوارهنّ، من فُضلاء الرجال، وإكرام الزائر، وإطعامه، والله أعلم. انتهى

(2)

.

والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3707]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَن الشَّعْبِيّ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا، قَالَ: "لَيْسَ لَهَا سُكْنَى، وَلَا نَفَقَةٌ").

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 102 - 103.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 103.

ص: 253

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدَّم في الباب الماضي.

2 -

(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمَّد المعروف ببُندار، تقدَّم قريبًا.

3 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) تقدَّم قبل باب.

4 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدَّم أيضًا قبل باب.

5 -

(سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ) الْحَضرميّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 122)(ع) تقدم في "الحيض" 5/ 704.

والباقيان ذُكرا قبله.

والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3708]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ رُزَيْقٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَن الشَّعْبِيّ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، قَالَتْ: طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا، فَأَرَدْتُ النُّقْلَةَ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "انْتَقِلِي إِلَى بَيْتِ ابْنِ عَمِّك، عَمْرِو بْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَاعْتَدِّي عِنْدَهُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ آدَمَ) بن سليمان الأمويّ مولاهم، أبو زكريّاء الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، فاضلٌ، من كبار [9](ت 203)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

2 -

(عَمَّارُ بْنُ رُزَيْقٍ) - بتقديم الزاي، مصغّرًا - الضبّيّ، أو التميميّ، أبو الأحوص الكوفيّ، ثقةٌ [7](ت 159)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 63/ 348.

3 -

(أَبُو إِسْحَاقَ) السَّبيعيّ، عَمرو بن عبد الله الْهَمْدانيّ، ثقةٌ مكثرٌ عابدُ، اختلط بآخره، ويدلّس [3](ت 129)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (انْتَقِلِي إِلَى بَيْتِ ابْنِ عَمِّكِ إلخ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع هنا، وكذا جاء في "صحيح مسلم" في آخر الكتاب، وزاد:"فقال: هو رجل من بني فِهْر، من البطن الذي هي منه"، قال القاضي عياض: والمشهور خلاف

ص: 254

هذا، وليس هما من بطن واحد، هي من بني مُحارب بن فِهر، وهو من بني عامر بن لؤيّ، قال النوويّ: وهو ابن عمها مجازًا يجتمعان في فِهْر، واختَلَفِت الرواية في اسم ابن أم مكتوم، فقيل: عمرو، وقيل: عبد الله، وقيل: غير ذلك. انتهى

(1)

.

والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3709]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَبَلَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ رُزَيْقٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَم، وَمَعَنَا الشَّعْبِيُّ، فَحَدَّثَ الشَّعْبِيُّ بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَجْعَلْ لَهَا سُكْنَى، وَلَا نَفَقَةً، ثُمَّ أَخَذَ الْأَسْوَدُ كَفًّا مِنْ حَصًى، فَحَصَبَهُ بِه، فَقَالَ: وَيْلَكَ تُحَدِّثُ بِمِثْلِ هَذَا؟ قَالَ عُمَرُ: لَا نَتْرُكُ كِتَابَ الله، وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِ امْرَأَةٍ، لَا نَدْرِي لَعَلَّهَا حَفِظَتْ، أَوْ نَسِيَتْ، لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ، قَالَ اللهُ تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَبَلَةَ) هو: محمَّد بن عمرو بن عَبّاد بن جَبَلَة بن أبي رَوّاد الْعَتَكيّ، أبو جعفر البصريّ، صدوقٌ [11](ت 234)(م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 348.

2 -

(أَبُو أَحْمَدَ) محمَّد بن عبد الله بن الزبير بن عُمر بن درهم الأسديّ الزُّبيريّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 314.

والباقون ذُكروا قبله.

قوله: (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) هو السبيعيّ.

وقوله: (قَالَ: كُنْتُ مَعَ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ) بن قيس النخعيّ الكوفيّ

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 103 - 104.

ص: 255

المخضرم المتوفّى سنة أربع، أو خمس وسبعين، تقدّمت ترجمته في "الطهارة" 32/ 674.

وقوله: (فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ) يعني مسجد الكوفة، فإن أبا إسحاق، والأسود، والشعبيّ كلهم من أهل الكوفة.

وقوله: (فَحَصَبَهُ بِهِ) من بابي ضرب، ونصر؛ أي: رماه بذلك الحصى.

وقوله: (فَقَالَ: وَيْلَكَ) هو كقولهم: تربت يمينك، وعقرى حلقى، مما يجري على اللسان، ولا يراد به حقيقة معناه، وأصل الويل كلمة عذاب، أو واد في جهنّم، أو باب لها

(1)

، والله تعالى أعلم.

وقوله: (لَا نَتْرُكُ كِتَابَ اللهِ إلخ) المراد به الآية التي ذكرها بعدُ.

وقوله: (وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم) انتقد الدارقطنيّ، والبيهقيّ أن زيادة:"وسنة نبينا" لا تصحّ؛ والمحفوظ: "لا نترك كتاب ربنا" فقط، قال الدارقطنيّ في "سننه" 4/ 25:

(71)

- نا الحسين بن إسماعيل، نا أحمد بن محمَّد بن يحيى بن سعيد، نا يحيى بن آدم، نا عمار بن رُزيق، عن أبي إسحاق، عن الشعبيّ، عن فاطمة بنت قيس، قالت: طلّقني زوجي ثلاثًا، فأردت النفقة، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"انتقلي إلى بيت ابن أم مكتوم"، قال أبو إسحاق: فلما حدّث به الشعبيّ حصبه الأسود، وقال: ويحك تحدّث، أو تُفتي بمثل هذا؟ قد أتت عمر، فقال: إن جئت بشاهدين يشهدان أنهما سمعاه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا لم نترك كتاب الله لقول امرأة، {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} الآية [الطلاق: 1]، ولم يقل فيه:"وسنة نبينا"، وهذا أصح من الذي قبله؛ لأنَّ هذا الكلام لا يثبت، ويحيى بن آدم أحفظ من أبي أحمد الزبيري، وأثبت منه والله أعلم، وقد تابعه قَبيصة بن عُقبة، ثمَّ أورد رواية قبيصة بعده، والله تعالى أعلم.

وقوله: (لَعَلَّهَا حَفِظَتْ، أَوْ نَسِيَتْ) ذكر بعض الأصوليين هذا الحديث، بلفظ:"صدقت، أم كذبت"، فتمسك به بعض الملاحدة على أن الصحابة كان يكذّب بعضهم بعضًا في رواية الحديث، فلا ثقةَ في رواياتهم أصلًا، ولكن

(1)

راجع: "القاموس" 4/ 67.

ص: 256

ذلك جهل منهم بالأحاديث، فإن قوله:"صدقت، أم كذبت" إنما ذكره بعض الأصوليين من غير مراجعة كتب الحديث، فإنَّه لا يوجد في شيء من الروايات إلا قول عمر رضي الله عنه:"حفظت، أو نسيت"، قال ابن القيّم رحمه الله: وما يرويه بعض الأصوليين: "لا ندع كتاب ربنا، وسنة نبيّنا لقول امرأة لا ندري، أصدقت أم كذبت" غلطٌ، ليس في الحديث، وإنما الذي في الحديث:"حفظت، أم نسيت". انتهى

(1)

.

والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[3710]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ مُعَاذٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، نَحْوَ حَدِيثِ أَبِي أَحْمَدَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ رُزَيْقٍ بِقِصَّتِهِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ) أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ رُمي بالنصب [10](245)(م 4) تقدم في "الإيمان" 1/ 103.

2 -

(أَبُو دَاوُدَ) سليمان بن داود بن الجارود الطيالسيّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 204)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.

3 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ مُعَاذٍ) هو: سليمان بن قَرْم - بفتح القاف، وسكون الراء - ابن معاذ التيميّ الضبّيّ، أبو داود البصريّ النحويّ، ومنهم من ينسبه إلى جدّه، سيئ الحفظ، يتشيّع [7].

رَوَى عن أبي إسحاق السبيعيّ، وأبي يحيى القَتّات، وعطاء أبي السائب، وابن المنكدر، والأعمش، وسماك بن حرب، وعاصم بن بَهْدلة، وغيرهم.

وروى عنه سفيان الثوريّ، وهو من أقرانه، وحسين بن محمَّد المروزيّ، ويعقوب بن إسحاق الحضرميّ، ويونس بن محمَّد المؤدب، وأبو داود الطيالسيّ، ونسبه إلى جدّه، وغيرهم.

(1)

راجع: "تهذيب السنن" 3/ 194.

ص: 257

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: كان أبي يتتبع حديث قطبة بن عبد العزيز، وسليمان بن قَرْم، ويزيد بن عبد العزيز بن سياه، وقال: هؤلاء قوم ثقات، وهم أتم حديثًا من سفيان، وشعبة، وهم أصحاب كتب، وإن كان سفيان وشعبة أحفظ منهم، وقال محمَّد بن عوف، عن أحمد: لا أرى به بأسًا، لكنه كان يُفرط في التشيع، وقال ابن معين: ضعيف، وقال مرةً: ليس بشيء، وقال أبو زرعة: ليس بذاك، وقال أبو حاتم: ليس بالمتين، وقال النسائيّ: ضعيفٌ، وقال ابن عديّ: له أحاديث حسان أفراد، وهو خير من سليمان بن أرقم بكثير، وتدلّ صورة سليمان هذا على أنَّه مفرط في التشيع، وفرّق بينه وبين سليمان بن معاذ الضبيّ، فقال: لم أر للمتقدمين فيه كلامًا، وفي بعض ما يروي مناكير، وقد قال غير واحد أن سليمان بن معاذ هو سليمان بن قَرْم، منهم أبو حاتم.

قال الحافظ: وممن فرّق بينهما ابن حبَّان تبعًا للبخاريّ، ثمَّ ابن القطان، وذكر عبد الغني بن سعيد في "إيضاح الاشكال" أن من فرق بينهما فقد أخطأ، وكذا قال الدارقطنيّ، وأبو القاسم الطبرانيّ، وقال ابن حبَّان: كان رافضيًّا غاليًا في الرفض، ويقلب الأخبار مع ذلك، وقال في "الثقات": سليمان بن معاذ يروي عن سماك، وعنه أبو داود، وجزم ابن عقدة بأنّه سليمان بن قَرْم، وأن أبا داود الطيالسي أخطأ في قوله: سليمان بن معاذ، قال الآجريّ، عن أبي داود: كان يتشيع، وذكره الحاكم في "باب من عيب على مسلم إخراج حديثهم"، وقال: غمزوه بالغلوّ في التشيع، وسوء الحفظ جميعًا، أعني سليمان بن قَرْم.

والحاصل أن أحدًا لم يقل: سليمان بن معاذ إلا الطيالسيّ، وتبعه ابن عديّ، فإن كان معاذ اسم جدّه فلم يخطئ، والله أعلم. انتهى.

أخرج له البخاريّ في التعاليق، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1480)، و (2641):"المرء مع من أحبّ".

و"أبو إسحاق" وهو السَّبيعيّ ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية سليمان بن معاذ، عن أبي إسحاق هذه لم أر من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 258

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3711]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي الْجَهْمِ بْنِ صُخَيْرٍ الْعَدَوِيّ، قَالَ: سَمِعْتُ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ تَقُولُ: إِنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُكْنَى، وَلَا نَفَقَةً، قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي"، فَآذَنْتُهُ، فَخَطَبَهَا مُعَاوِيَةُ، وَأَبُو جَهْمٍ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَرَجُلٌ تَرِبٌ، لَا مَالَ لَهُ، وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ، فَرَجُلٌ ضَرَّابٌ لِلنِّسَاء، وَلَكِنْ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ"، فَقَالَتْ بِيَدِهَا هَكَذَا أُسَامَةُ أُسَامَةُ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "طَاعَةُ الله، وَطَاعَةُ رَسُولِهِ خَيْرٌ لَكِ"، قَالَتْ: فَتَزَوَّجْتُهُ، فَاغْتَبَطْتُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح بن مَلِيح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

2 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الْجَهْمِ بْنِ صُخَيْرٍ الْعَدَوِيِّ) قال في "التهذيب": أبو بكر بن عبد الله بن أبي الجهم العدويّ، وقد يُنسب إلى جده، واسم أبي الجهم: صُخير

(1)

، ويقال: عُبيد بن حُذيفة بن غانم بن عبد الله بن عُبيد بن عُويج، ثقة [4].

رَوَى عن عمه محمَّد بن أبي الجهم بن حُذيفة، وابن عمر، وفاطمة بنت قيس، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وغيرهم.

وروى عنه شعبة، والثوريّ، وأبو العُميس، وعليّ بن صالح بن حيّ، وشَريك.

قال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال ابن حبَّان: صدوقٌ، وذكره ابن حبَّان في "الثقات"، وقال الزبير بن بكار: كان فقيهًا، وقال ابن سعد: كان قليل الحديث، وفي "سنن ابن ماجه": عن أبي بكر بن أبي الجهم بن صخير.

(1)

هذا يخالف ما وقع في "صحيح مسلم" من كونه اسم والد أبي الجهم، فليتأمّل.

ص: 259

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي نسبه في "التهذيب" إلى "سنن ابن ماجه" هو الذي وقع في "صحيح مسلم" في هذا الإسناد، والظاهر أنَّه اختُلف في صخر، هل هو اسم أبي الجهم، أو اسم والده؟ والله تعالى أعلم.

أخرج له البخاريّ في "جزء القراءة"، والمصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذه الحديث، وأعاده بعده.

[تنبيه]: قوله: "ابن صُخير" قال النوويّ: هكذا هو نسخ بلادنا "صُخير" بضمّ الصاد، على التصغير، وحَكَى القاضي عياض عن بعض رواتهم أنَّه "صخر" بفتحها، على التكبير، والصواب المشهور هو الأوّل. انتهى

(1)

.

والباقون ذُكروا في الباب، و"سفيان" هو الثوريّ.

وقولها: (طَلَّقَهَا ثَلَاثًا) تقدَّم أن المراد: طلّقها آخر طلقات ثلاث، لا أنَّه طلّقها ثلاثًا بلفظ واحد، فتنبّه.

وقولها: (وَلَا نَفَقَةً) تعني نفقة يناسب حالها، وإلا فسيأتي في الرواية التالية أنَّه أرسل إليها بخمسة آصع تمر، وخمسة آصع شعير، وقد تقدَّم أنَّه أمر لها بشعير، فسخطته، فتنبّه.

وقوله: (فَرَجُلٌ تَرِبٌ، لَا مَالَ لَهُ) هو بفتح التاء، وكسر الراء، وهو الفقير، فأكده بأنّه لا مال له؛ لأنَّ الفقير قد يُطلق على من له شيء يسير، لا يقع موقعًا من كفايته، قاله النوويّ

(2)

.

وقوله: (فَقَالَتْ بِيَدِهَا هَكَذَا أُسَامَةُ أُسَامَةُ) يعني أنها أشارت بيدها كراهية لأسامة، وتقليلًا من شأنه، ثمَّ اغتبطته بعد ذلك، ورأت خيرًا، وفيه عدم مراعاة الكفاءة في النسب؛ لأنه مولى، وهي قرشيّة، وإنما الكفاءة في الدين، وهو قول مالك، وروى الدارقطنيّ عن حنظلة بن أبي سفيان الْجُمَحيّ، عن أمّه، قالت: رأيت أخت عبد الرحمن بن عوف تحت بلال، ذكره الأبيّ رحمه الله

(3)

.

وقولها: (فَاغْتَبَطْتُ) تقدَّم أنَّه بالبناء للفاعل، ومعناه: حسنت حالي.

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 104.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 104 - 105.

(3)

"شرح الأبّيّ" 4/ 128.

ص: 260

والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3712]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَن، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي الْجَهْم، قَالَ: سَمِعْتُ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ تَقُولُ: أَرْسَلَ إِلَيَّ زَوْجِي أَبُو عَمْرِو بْنُ حَفْصِ بْنِ الْمُغِيرَة، عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ بِطَلَاقِي، وَأَرْسَلَ مَعَهُ بِخَمْسَةِ آصُعِ تَمْرٍ، وَخَمْسَةِ آصُعِ شَعِيرٍ، فَقُلْتُ: أَمَا لِي نَفَقَةٌ إِلَّا هَذَا، وَلَا أَعْتَدُّ فِي مَنْزِلِكُمْ؟ قَالَ: لَا، قَالَتْ: فَشَدَدْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي، وَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"كَمْ طَلَّقَكِ؟ " قُلْتُ: ثَلَاثًا، قَالَ:"صَدَقَ، لَيْسَ لَكِ نَفَقَةٌ، اعْتَدِّي فِي بَيْتِ ابْنِ عَمِّكِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَإِنَّهُ ضَرِيرُ الْبَصَر، تُلْقِي ثَوْبَكِ عِنْدَهُ، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُك، فَآذِنِينِي"، قَالَتْ: فَخَطَبَنِي خُطَّابٌ، مِنْهُمْ مُعَاوِيَةُ، وَأَبُو الْجَهْم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مُعَاوِيَةَ تَرِبٌ، خَفِيفُ الْحَال، وَأَبُو الْجَهْمِ مِنْهُ شِدَّةٌ

(1)

عَلَى النِّسَاء، أَوْ يَضْرِبُ النِّسَاءَ، أَوْ نَحْوَ هَذَا، وَلَكِنْ عَلَيْكِ بِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الْكَوْسج، أبو يعقوب المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

والباقون ذُكروا في الباب، و"عبد الرحمن" هو ابن مهديّ، و"سفيان" هو: الثوريّ.

وقولها: (أَرْسَلَ إليّ زوجي بِطَلَاقِي) أي: بآخر طلاقها الثلاث.

وقولها: (بِخَمْسَةِ آصُعِ تَمْرٍ) بمدّ الهمزة: جمع صاع على القلب، قال الفيّوميّ رحمه الله: والصاع يُذَكَّر، ويؤنّث، قال الفراء: أهل الحجاز يؤنثون الصاع، ويجمعونها في القلّة على أَصْوُعٍ، وفي الكثرة على صِيعَانٍ، وبنو أسد، وأهل نجد يُذَكِّرون، ويجمعون على أَصْوَاعٍ، وربما أنّثها بعض بني أسد، وقال

(1)

وفي نسخة: "فيه شدّة".

ص: 261

الزجاج: التذكير أفصح عند العلماء، ونقل الْمُطَرِّزيّ، عن الفارسيّ أنَّه يجمع أيضًا على آصع بالقلب، كما قيل: دار، وآدُرٌ بالقلب، وهذا الذي نقله جعله أبو حاتم من خطأ العوامّ، وقال ابن الأنباريّ: وليس عندي بخطأ في القياس؛ لأنه وإن كان غير مسموع من العرب، لكنه قياس ما نُقِل عنهم، وهو أنهم ينقلون الهمزة من موضع العين إلى موضع الفاء، فيقولون: أَبْآرٌ، وآبارٌ. انتهى

(1)

.

وقوله: (قَالَ: "صَدَقَ) فاعل "صدق" ضمير عيّاش بن أبي ربيعة؛ أي: صدق في قوله: "ليس لكِ نفقة" فوق ما أُعطيت.

وقوله: (فِي بَيْتِ ابْنِ عَمِّكِ) تقدَّم الكلام فيه قريبًا.

وقوله: (فَإِنَّهُ ضَرِيرُ الْبَصَرِ) أي: أعمى، وجمعه أَضِرّاء؛ كشديد وأشِدّاء، وسُمّي الأعمى ضريرًا؛ لأنه به ضررًا بذهاب عينه.

وقوله: (تُلْقِي ثَوْبَكِ عِنْدَهُ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ "تُلْقي"، وهي لغة صحيحة، والمشهور في اللغة "تلقين" بالنون. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: حذف نون الرفع دون ناصب، وجازم لغة، كما قال ابن مالك في "الكافية الشافية":

وَحَذْفُهَا فِي الرَّفْعِ قَبْلَ "نِي" أَتَى

وَالْفَكُّ وَالإِدْغَامُ أَيْضًا ثَبَتَا

وَدُونَ "نِي" في الرَّفْعِ حَذْفَهَا حَكَوْا

فِي النَّثْرِ وَالنَّظْمِ وَمِمَّا قَدْ رَوَوْا

أَبِيتُ أَسْرِي وَتَبِيتِ تَدْلُكِي

وَجْهَكِ بِالْعَنْبَرِ وَالْمِسْكِ الذَّكِي

وقوله: (خَفِيفُ الْحَالِ) هو بمعنى "تربٌ"، وهو كناية عن فقره.

(وَأَبُو الْجَهْمِ مِنْهُ شِدَّةٌ) وفي بعض النسخ: "فيه شدّة"، ووقع في "شرح النوويّ" هنا:"أبو الجهيم" بالتصغير، فقال النوويّ: هكذا هو في النسخ في هذا الموضع: "أبو الجهيم" بضم الجيم مصغرٌ، والمشهور أنَّه بفتحها مكبرٌ، وهو المعروف في باقي الروايات، وفي كتب الأنساب، وغيرها. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي وقع في نسخة النوويّ وقع مثله في النسخة الهنديّة، وبقية النسخ بالتكبير، وهو الصواب، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 351 - 352.

ص: 262

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3713]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الْجَهْم، قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، فَسَأَلْنَاهَا، فَقَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَمْرِو بْنِ حَفْصِ بْنِ الْمُغِيرَة، فَخَرَجَ فِي غَزْوَةِ نَجْرَانَ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، بِنَحْوِ حَدِيثِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، وَزَادَ: قَالَتْ: فَتَزَوَّجْتُهُ، فَشَرَّفَنِي اللهُ بِأَبِي زَيْدٍ، وَكَرَّمَنِي اللهُ بِأَبِي زَيْدٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو عَاصِمٍ) الضحّاك بن مَخْلَد النبيل الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 212)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (فَخَرَجَ فِي غَزْوَةِ نَجْرَانَ) بفتح النون، وسكون الجيم: بلدة من بلاد هَمْدان، من اليمن، قال البكريّ: سُمّيت باسم بانيها

(1)

.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ) فاعل "ساق" ضمير أبي عاصم.

وقولها: (فَشَرَّفَنِي اللهُ بِأَبِي زَيْدٍ، وَكَرَّمَنِي اللهُ بِأَبِي زَيْدٍ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في بعض النسخ: "بأبي زيد" في الموضعين، على أنَّه كنية، وفي بعضها:"بابن زيد" بالنون في الموضعين، وادَّعَى القاضي أنها رواية الأكثرين، وكلاهما صحيح، هو أسامة بن زيد، وكنيته أبو زيد، ويقال: أبو محمَّد. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: رواية أبي عاصم، عن سفيان الثوريّ هذه ساقها أبو عوانة في "مسنده" 3/ 153 فقال:

(4537)

- حدّثنا أحمد بن سعيد الدارميّ، قثنا أبو عاصم، قال: أنبا سفيان، قال: حدّثني أبو بكر بن أبي الجهم، قال: دخلت أنا وأبو سلمة بن عبد الرحمن على فاطمة بنت قيس، فسألناها، فقالت: كنت عند أبي عمرو بن حفص بن المغيرة، فخرج في غزوة نجران، فبعث إليّ مع عيّاش بن أبي ربيعة

(1)

"المصباح المنير" 2/ 594.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 106.

ص: 263

خمسة آصع شعير، وخمسة آصع تمر، فقلت: ما لي نفقة إلا هذا، ولا أعتدّ في داركم؟ قالت: فجمعت ثيابي، وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال:"كم طلّقك؟ " قلت: ثلاثًا، قال:"صدقَ، لا نفقة لك، واعتدّي في بيت ابن أم مكتوم، فإذا حللت فآذنيني"، فلما حللت خطبني رجال كثير من قريش، فلما يَعْلَقْ بنفسي إلا معاوية، وأبو الجهم"، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال: "أما معاوية فمسكين، تَرِبٌ، لا مال له، وأما أبو الجهم فرجل ضرّاب للنساء، ولكن أنكحي أسامة بن زيد"، قال: فجعلت أصبعي في أذني، فقلت: أسامة بن زيد؟ مَدَّ بها أبو عاصم صوته، قال أحمد بن سعيد: إنكارًا، فقال: "طاعة الله، وطاعة رسوله خير لك"، قالت: فتزوجت أسامة، فشَرَّفني الله بابن زيد، وأكرمني. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3714]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو سَلَمَةَ، عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، زَمَنَ ابْنِ الزُّبَيْر، فَحَدَّثَتْنَا أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا طَلَاقًا بَاتًّا، بِنَحْوِ حَدِيثِ سُفْيَانَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان الْعَنبريّ البصريّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجاج الإمام الشهير، تقدَّم قريبًا.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية شعبة، عن أبي بكر بن أبي الجهم هذه ساقها الطبريّ رحمه الله في "تهذيب الآثار" 1/ 425 فقال:

(703)

- حدّثنا ابن المثنى، حدّثنا وهب بن جرير، حدّثنا شعبة، عن أبي بكر بن أبي الجهم، قال: دخلت أنا وأبو سلمة بن عبد الرحمن على فاطمة

ص: 264

بنت قيس، فحدّثت أن زوجها طلقّها طلاقًا بائنًا، قالت: فلما انقضت عدّتي خطبني معاوية، وأبو الجهم، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"أما معاوية فرجل لا مال له، وأما أبو الجهم فرجل شديد على النساء"، قال

(1)

: فخطبني أسامة بن زيد، فتزوجته، فبارك الله لي في أسامة. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3715]

(

) - (وَحَدَّثَنِي حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، عَن السُّدِّيّ، عَن الْبَهِيِّ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، قَالَتْ: طلَّقَني زَوْجِي ثَلَاثًا، فَلَمْ يَجْعَلْ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُكْنَى، وَلَا نَفَقَةً).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(حَسَنُ بْنُ صَالِحِ) بن صالح بن حيّ، وهو حيّان بن شُفيّ الْهَمْدانيّ الثوريّ الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ، رُمي بالتشيّع [7](ت 199)(بخ م 4) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 17/ 1714.

2 -

(السُّدِّيُّ) - بضمّ الدال المهملة، وتشديد الياء - إسماعيل بن عبد الرَّحمن بن أبي كريمة، أبو محمد الكوفيّ، صدوق يَهِم، ورُمي بالتشيّع [4](ت 127)(م 4) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 8/ 1640.

3 -

(الْبَهِيُّ) - بفتح الموحدة، وكسر الهاء، وتشديد الياء - اسمه: عبد الله مولى الزبير الكوفيّ، يقال: اسم أبيه يسار، صدوقٌ يُخطئ [3](بخ م 4) تقدم في "الحيض" 29/ 832.

والباقون ذُكروا في الباب.

والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف أوّل الكتاب قال:

[3716]

(1481) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: تَزَوَّجَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ

(1)

هكذا وقع في النسخة: "قال"، بلفظ التذكير، والظاهر:"قالت"، فليُحرّر.

ص: 265

الْحَكَم، فَطَلَّقَهَا، فَأَخْرَجَهَا مِنْ عِنْدِه، فَعَابَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عُرْوَةُ، فَقَالُوا: إِنَّ فَاطِمَةَ قَدْ خَرَجَتْ، قَالَ عُرْوَةُ: فَأَتَيْتُ عَائِشَةَ، فَأَخْبَرْتُهَا بِذَلِكَ، فَقَالَتْ: مَا لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ خَيْرٌ فِي أَنْ تَذْكُرَ هَذَا الْحَدِيثَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة.

وكلّهم تقدّموا قبل بابين، و"أبو كريب" هو: محمد بن العلاء، و"أَبُو أُسَامَةَ" هو: حمّاد بن أسامة، و"هِشَامٌ" هو: ابن عروة.

شرح الحديث:

(عَنْ هِشَام) بن عروة أنه قال: (حَدَّثَنِي أَبِي) عروة بن الزبير (قَالَ: تَزَوَّجَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ) أي: ابن سعيد بن العاص بن أمية، وكان أبوه أمير المدينة لمعاوية، ويحيى هو أخو عمرو بن سعيد المعروف بالأشدق

(1)

. (بنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ) بنصب "بنت" على المفعوليّة لـ "تزوَّج"، وهي بنت أَخي مروان الذي كان أمير المدينة أيضًا لمعاوية حينئذ، وولي الخلافة بعد ذلك، واسمها عمرة فيما قيل، قاله في "الفتح"

(2)

.

(فَطَلَّقَهَا) وفي الرواية الآتية: "طلّقها زوجها البتّة"(فَأَخْرَجَهَا مِنْ عِنْدِهِ) وفي "صحيح البخاريّ" ما يدلّ على أن الذي أخرجها هو أبوها، ولا تنافي بينهما؛ لإمكان أن يكون كلّ منهما سببًا في خروجها (فَعَابَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عُرْوَةُ) بن الزبير (فَقَالُوا: إِنَّ فَاطِمَةَ) بنت قيس (قَدْ خَرَجَتْ) المعنى أن خروج هذه المرأة جائز شرعًا؛ لأن فاطمة بنت قيس طُلِّقت بائنًا، فأذن لها النبيّ صلى الله عليه وسلم بالخروج، فدلّ على جواز ذلك (قَالَ عُرْوَةُ: فَأَتَيْتُ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها (فَأَخْبَرْتُهَا بِذَلِكَ) أي: بما قالوا من أمر فاطمة رضي الله عنها (فَقَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (مَا) نافية (لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ خَيْرٌ فِي أَنْ تَذْكُرَ هَذَا الْحَدِيثَ) الذي فيه قصّتها؛ لأنه يخصُّها، ولا يعمّ غيرها، ومرادها أنه لا حجة فيه؛ لجواز انتقال المطلّقة من منزلها بغير سبب

(3)

.

(1)

"الفتح" 12/ 219.

(2)

"الفتح" 12/ 219.

(3)

"الفتح" 12/ 220.

ص: 266

قال الجامع عفا الله عنه: كانت عائشة رضي الله عنها ممن يقول بوجوب السكنى للمبتوتة، وقد تقدّم أن الحقّ والصواب هو ما دلّ عليه صريح حديث فاطمة رضي الله عنها من أنه لا نفقة، ولا سكنى للمبتوتة، فلتراجع ما سبق تحقيقه في مسائل حديث أول الباب، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

[تنبيه]: أخرج البخاريّ رحمه الله هذه القصّة في "صحيحه"، فقال:

(5321)

- حدّثنا إسماعيل، حدّثنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، وسليمان بن يسار؛ أنه سمعهما يذكران: أن يحيى بن سعيد بن العاص طَلّق بنت عبد الرَّحمن بن الحكم، فانتقلها عبد الرَّحمن، فأرسلت عائشة أم المؤمنين إلى مروان بن الحكم، وهو أمير المدينة: اتَّقِ الله، واردُدْها إلى بيتها، قال مروان - في حديث سليمان -: إن عبد الرَّحمن بن الحكم غلبني، وقال القاسم بن محمد: أوَ ما بلغك شأن فاطمة بنت قيس؟ قالت: لا يضرك أن لا تذكر حديث فاطمة، فقال مروان بن الحكم: إن كان بكِ شرّ فحسبك ما بين هذين من الشرّ. انتهى.

قال في "الفتح": وقوله: "إن كان بك شرّ" أي: إن كان عندك أن سبب خروج فاطمة ما وقع بينها وبين أقارب زوجها من الشر، فهذا السبب موجود، ولذلك قال: "فحسبك ما بين هذين من الشرط، وهذا مصير من مروان إلى الرجوع عن ردّ خبر فاطمة، فقد كان أنكر ذلك على فاطمة بنت قيس، كما أخرجه النسائيّ، من طريق شعيب، عن الزهريّ: أخبرني عبيد الله بن عبد الله؛ أن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، طلَّق بنت سعيد بن زيد البتة، وأمها حزمة بنت قيس، فأمرتها خالتها فاطمة بنت قيس بالانتقال، فسمع بذلك مروان، فأنكر، فذكرت أن خالتها أخبرتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتاها بذلك، فأرسل مروان قبيصة بن ذُؤيب إلى فاطمة، يسألها عن ذلك، فذكرت الحديث، وأخرجه مسلم من طريق معمر، عن الزهريّ، دون ما في أوله، وزاد: فقال مروان: لَمْ نسمع هذا الحديث إلَّا من امرأة، فسنأخذ بالعصمة التي وجدنا عليها الناس، فكأن مروان أنكر الخروج مطلقًا، ثم رجع إلى الجواز بشرط

ص: 267

وجود عارض، يقتضي جواز خروجها، من منزل الطلاق. انتهى

(1)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنهما هذا متَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 3716](1481)، و (البخاريّ) في "الطلاق"(5327 و 5328)، و (أبو داود) في الطلاق" (2295)، و (أبو عوانة) في "مسنده" (3/ 187 - 188)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3717]

(1482) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيه، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، زَوْجِي طلَّقَنِي ثَلَاثًا، وَأخَافُ أَنْ يُقْتَحَمَ عَلَيَّ، قَالَ: فَأَمَرَهَا، فَتَحَوَّلَتْ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ) بن طلق بن معاوية النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ القاضي، ثقةٌ فقيهٌ، تغيّر في الآخر [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقولها: (أَنْ يُقْتَحَمَ عَلَيَّ) ببناء الفعل للمفعول، يقال: اقتحم عَقَبةً، أو وَهْدةً: رَمَى بنفسه فيها، وكأنه مأخوذ من اقْتَحَمَ الفرسُ النهرَ: إذا دخل فيه، وتقحّم مثله، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(2)

.

وأرادت فاطمة بذلك أنَّها تخاف أن يدخل عليها قهرًا من يريد الفاحشة، فأمرها النبيّ صلى الله عليه وسلم أن تتحوّل من ذلك المنزل الذي تخاف فيه الاقتحام إلى منزل لا تخاف فيه، وقد تقدّم أنه منزل ابن أم مكتوم رضي الله عنه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

راجع: "الفتح" 12/ 219.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 491.

ص: 268

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[3718]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِم، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ؛ أَنَّهَا قَالَتْ: مَا لِفَاطِمَةَ خَيْرٌ أَنْ تَذْكُرَ هَذَا، قَالَ: تَعْني قَوْلَهَا: لَا سُكْنَى، وَلَا نَفَقَةَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغُندر، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ) بن محمد التيميّ، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضل [6](ت 126)(ع) تقدم في "الحيض" 27/ 822.

3 -

(أَبُوهُ) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصدّيق التيميّ، المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه فاضلٌ، من كبار [3](ت 106)(ع) تقدم في "الحيض" 3/ 695، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3719]

(

) - (وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَن، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِم، عَنْ أَبِيه، قَالَ: قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ لِعَائِشَةَ: أَلَمْ تَرَيْ إِلَى فُلَانَةَ

(1)

بنْتِ الْحَكَمِ؟ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا الْبَتَّةَ، فَخَرَجَتْ، فَقَالَتْ: بِئْسَمَا صنَعَتْ، فَقَالَ: أَلَمْ تَسْمَعِي إِلَى قَوْلِ فَاطِمَةَ؟ فَقَالَتْ: أَمَا إِنَّهُ لَا خَيْرَ لَهَا فِي ذِكْرِ ذَلِكَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلهم ذُكروا في الباب.

وقوله: (أَلَمْ تَرَيْ إِلَى فُلَانَةَ) تقدّم أنَّها عمرة بنت عبد الرَّحمن بن الحكم، نسبها هنا إلى جدّها.

وقوله: (إِلَى قَوْلِ فَاطِمَةَ) هو ذكرُها الخروج، والانتقال من المنزل الذي طُلّقت فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

وفي نسخة: "أنّ فلانة".

ص: 269

(7) - (بَابُ جَوَازِ خُرُوجِ الْمُعْتَدَّةِ الْبَائِن، وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا؛ لِحَاجَتِهَا)

(اعلم): أن "المتوفّى" بفتح الفاء المشدّدة: اسم مفعول، من توفّاه الله تعالى: إذا أماته، قال ابن منظور: الوفاة: المنيّة، والوفاة: الموت، وتُوفي فلان، وتوفّاه الله: إذا قبض نفسه، وفي "الصحاح": إذا قبض روحه، وقال غيره: تَوَفِّي الميتِ استيفاء مدّته التي وُفيت له، وعدد أيامه وشهوره، وأعوامه في الدنيا. انتهى.

وقرئ في الشواذّ: "والذين يَتَوَفّون منكم" الآية - بفتح الياء بالبناء للفاعل -: ومعناه: يستوفون آجالهم. قاله الزمخشريّ. وعلى هذه القراءة، يجوز "المتوفّي عنها زوجها" بصيغة اسم الفاعل، بمعنى المستوفي أجله.

قال السمين الحلبيّ: والذي يُحكى أن أبا الأسود كان خلف جنازة، فقال له رجل: مَن المتوفِّي؟ بكسر الفاء، فقال: الله، وكان أحد الأسباب الباعثة لعليّ رضي الله عنه على أن أمر بوضع كتاب في النحو، تناقضه هذه القراءة. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3720]

(1483) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى ابْنُ سَعِيدٍ، عَن ابْنِ جُرَيْجٍ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ (ع) وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ الله، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ ابْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي؛ أَبُو الزُّبَيْرِ؛ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: طُلِّقَتْ خَالَتِي، فَأَرَادَتْ أَنْ تَجُدَّ نَخْلَهَا، فَزَجَرَهَا رَجُلٌ أَنْ تَخْرُجَ، فَأتَت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"بَلَي، فَجُدِّي نَخْلَك، فَإِنَّكِ عَسَى أَنْ تَصَدَّقِي، أَوْ تَفْعَلِي مَعْرُوفًا").

(1)

"الدرّ المصون في علوم كتاب الله المكنون" 1/ 577 "تفسير سورة البقرة".

ص: 270

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطان، تقدّم قريبًا.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(عَبْدُ الرَّزاقِ) بن همّام، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.

5 -

(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) الحمّال، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

6 -

(حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ) الأعور المصّيصيّ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

7 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

8 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، تقدّم قبل بابين.

9 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قبل بابين.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة أسانيد، فصل بينها بكتابة (ح).

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيوخه، فالأول انفرد به هو وأبو داود، والثاني ما أخرج له ابن ماجة، والثالث ما أخرج له البخاريّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث، والإخبار، والسماع، وفيه جابر رضي الله عنه من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عن ابْنِ جُرَيْجٍ) أنه (أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ؛ أنهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما، رواية المصنّف فيها بيان كلّ من ابن جريج، وأبي الزبير بالإخبار، والسماع، فانتفت تهمة التدليس عن كلّ منهما (يَقُولُ: طُلِّقَتْ) قال القاري رحمه الله: بضمّ الطاء، وتشديد اللام، وفي نسخة

(1)

بفتح أوله، وضم لامه المخففة

(2)

.

(خَالَتِي) لا تُعرف، وفي رواية أبي داود:"طُلّقت خالتي ثلاثًا"، فدلّ على أن

(1)

يعني نسخة: "المشكاة".

(2)

"مرقاة المفاتيح" 6/ 450.

ص: 271

طلقتها كانت بائنة (فَأَرَادَتْ أَنْ تَجُدَّ) - بفتح التاء، وضم الجيم، بعدها دال مهملة -؛ أي: تقطف، وتقطع (نَخْلَهَا) أي: ثمارها (فَزَجَرَهَا) أي: نهاها (رَجُلٌ) لا يُعرف (أَنْ تَخْرُجَ) عن الخروج من بيتها؛ ظنًّا منه أن آية: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} يعمّها (فأتت النبي صلى الله عليه وسلم) زاد في رواية أبي داود: فذكرت ذلك له؛ أي: ذكرت نهي الرجل لها عن الخروج (فقال) صلى الله عليه وسلم: ("بلى) قال القاري رحمه الله: تقرير للنفي؛ أي: أتت النبي صلى الله عليه وسلم، وسألته: أليس يسوغ لي الخروج للجدادة؟ فقال: بلى. انتهى

(1)

، ولفظ النسائي:"فقال: اخرجي"(فَجُدِّي) بضم الجيم؛ أي: اقطفي (نَخْلَك، فَإِنَّكِ عَسَى أَنْ تَصَدَّقِي) أصله تتصدقي بتاءين، فحذف منه إحداهما؛ تخفيفًا، كما في قوله عز وجل:{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} [القدر: 4]، وقوله:{فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)} [عبس: 6]، قال ابن مالك في "خلاصته":

وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَر

فِيهِ عَلَى تَا كـ"تَبَيَّنُ الْعِبَر"

ولفظ النسائيّ: "لعلّك أن تصدّقي".

قال القاري: وقوله: "أن تصدقي" تعليل للخروج، ويعْلَم منه أنه لولا المتصدق لما جاز لها الخروج. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: فيما قاله نظر لا يخفي، بل الحقّ لها الخروج لحاجتها، ولو لَمْ يكن التصدّق، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(أَوْ تَفْعَلِي مَعْرُوفًا") وللنسائيّ: "تفعلي معروفًا" بالواو، والظاهر أن "أو" هنا للتنويع، لا للشكّ، ويَحْتَمل أن تكون للشكّ من الراوي، والأول أظهر، وعليه فيكون من عطف العامّ على الخاصّ؛ إذ المعروف يعمّ الصدقة، وغيرها، كقضاء الديون، ونحوه.

قوله: "أو تفعلي معروفًا" أي: من التطوع، والهدية، والإحسان إلى الجيران، ونحوها، و"أو" للتنويع، يعني إن يبلغ مالك نصابًا، فأدِّي زكاته، وإلا فافعلي معروفًا، من المتصدق، والتقرب، والتهادي، وفيه أن حفظ المال، واقتناءه لفعل المعروف مرخصٌ. انتهى.

قال الخطّابيّ: رحمه الله ما حاصله: الحديث يدلّ على جواز خروج المتوفّى

(1)

"مرقاة المفاتيح" 6/ 450.

ص: 272

عنها، أو المبتوتة نهارًا، ووجه ذلك أن جداد النخل في غالب العرف لا يكون إلَّا نهارًا، وقد نُهي عن جداد الليل، ونخل الأنصار قريبٌ من دورهم، فهي إذا خرجت بُكرة للجداد أمكنها أن تُمسي في بيتها؛ لقرب المسافة. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ: قوله: "فلعلّك أن تصدّقي الخ" ليس تعليلًا لإباحة الخروج لها بالاتفاق، وإنما خرج هذا مخرج التنبيه لها، والحضّ على فعل الخير. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي فيما قاله نظر، فما المانع أن يكون تعليلًا؟ مع أن سياق الحديث ظاهر فيه، فليُتأمّل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 3720](1483)، و (أبو داود) في "الطلاق"(2297)، و (ابن ماجة) في "الطلاق"(2034)، و (النسائيّ) في "الطلاق"(3577) و"الكبرى"(5744)، و (أحمد) في "مسنده"(14035)، و (الدارميّ) في "سننه"(2288)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 188 - 189)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 171)، و (البيهقيّ) في "السنن الصغرى"(6/ 463) و"المعرفة"(6/ 57)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان مشروعيّة خروج المتوفّى عنها زوجها من بيتها أثناء العدّة؛ لحاجتها.

2 -

(ومنها): جواز خروج المبتوتة من بيتها؛ للحاجة.

3 -

(ومنها): الحثّ على التصدّق، وفعل الخير.

(1)

راجع: "معالم السنن" 3/ 197.

(2)

"المفهم" 4/ 279.

ص: 273

4 -

(ومنها): أن النساء كالرجال في فعل الخير؛ لأنهنّ شقائق الرجال، قال الله تعالى:{وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} الآية [الأحزاب: 35].

5 -

(ومنها): مشروعيّة العناية بحفظ المال، واقتنائه لفعل الخير، والمواساة به.

6 -

(ومنها): استحباب الصدقة من التمر عند جداده، والهديّة منه.

7 -

(ومنها): استحباب التعريض لصاحب التمر بفعل ذلك، وتذكيره بالمعروف، والبرّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في خروج المعتدّة من بيتها:

قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث دليلٌ لمالك، والشافعيّ، وأحمد، والليث على قولهم: إن المعتدّة تخرج بالنهار في حوائجها، وإنما تلزم منزلها بالليل، وسواء عند مالك كانت رجعيّةً، أو بائنة.

وقال الشافعيّ في الرجعيّة: لا تخرج ليلًا، ولا نهارًا، وإنما تخرج نهارًا المبتوتة.

وقال أبو حنيفة: ذلك في المتوفّى عنها زوجها، وأما المطلّقة، فلا تخرج ليلًا ولا نهارًا.

وقال الجمهور بهذا الحديث

(1)

إن الجداد بالنهار عرفًا، وشرعًا، أما العرف، فهو عادة الناس في مثل ذلك الشغل، وأما الشرع، فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن جداد الليل.

ولا يقال: فيلزم من إطلاقه أن تخرج بالليل، إذ قد يكون نخلها بعيدًا، تحتاج إلى المبيت فيه؛ لأنا نقول: لا يلزم ذلك من هذا الحديث؛ لأن نخلهم لَمْ يكن الغالب عليها البعد من المدينة، بحيث يُحتاج إلى المبيت، وإنما هي بحيث يُخرَج إليها، ويُرجَع منها في النهار. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن المتوفّى عنها زوجها،

(1)

كذا نسخة: "المفهم"، والعبارة فيها ركاكة، ولعل الصواب: وقال الجمهور: المراد بهذا الحديث الخروج نهارًا؛ لأن الجداد بالنهار

إلخ، والله تعالى أعلم.

(2)

"المفهم" 4/ 279.

ص: 274

والمطلّقة طلاقًا بائنًا لهنّ الخروج لحوائجهنّ مطلقًا، ليلًا، أو نهارًا، ثم يَعُدْن إلى بيوتهنّ؛ لإطلاق حديث جابر رضي الله عنه، فإنه صلى الله عليه وسلم لما قال لها:"اخرجي، فجدّي" ما قيّده، لا بليل، ولا بنهار، فيُعْمَل بعمومه، وأما المطلّقة طلاقًا رجعيًّا، فلا تخرج مطلقًا، إلَّا لما استثناه الله تعالى في كتابه حيث قال سبحانه وتعالى:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} الآية [الطلاق: 1]

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(8) - (بَابُ انْقِضَاءِ عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَغَيْرِهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3721]

(1484) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، وَتَقَارَبَا فِي اللَّفْظ، قَالَ حَرْمَلَةُ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ أَبُو الطَّاهِرِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي يُونُسُ ابْنُ يَزِيدَ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ؛ أَنَّ أَبَاهُ كتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْأَرْقَمِ الزهْرِيّ، يَأْمُرُهُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى سُبَيْعَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيَّة، فَيَسْأَلَهَا عَنْ حَدِيثِهَا، وَعَمَّا قَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ اسْتَفْتَتْهُ، فَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، يُخْبِرُهُ أَنَّ سُبَيْعَةَ أَخْبَرَتْهُ؛ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ، وَهُوَ فِي بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، فَتُوُفِّيَ عَنْهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاع، وَهِيَ حَامِل، فَلَمْ تَنْشَبْ

(2)

أَنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ وَفَاتِه، فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا، تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّاب، فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو السَّنَابِلِ ابْنُ بَعْكَكٍ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّار، فَقَالَ لَهَا: مَا لِي أَرَاكِ مُتَجَمِّلَةً؟ لَعَلَّكِ تَرْجِينَ النِّكَاحَ؛ إِنَّكِ وَاللهِ مَا أَنْتِ بِنَاكِحٍ، حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْكِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ،

(1)

انظر ما كتبه ابن حزم رحمه الله في كتابه "المحلَّى"(10/ 282 - 303) في هذه المسألة، وإِن كنت لا أوافقه في بعض أبحاثه، لكنه رحمه الله أجاد في كثير منه.

(2)

وفي نسخة: "فلم تلبث".

ص: 275

قَالَتْ سُبَيْعَةُ: فَلَمَّا قَالَ لِي ذَلِكَ، جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي، حِينَ أَمْسَيْتُ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَفْتَانِي بِأَنِّي قَدْ حَلَلْتُ حِينَ وَضَعْتُ حَمْلِي، وَأَمَرَنِي بِالتَّزَوُّجِ إِنْ بَدَا لِي، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَلَا أَرَى بَأْسًا أَنْ تَتَزَوَّجَ حِينَ وَضَعَتْ، وَإِنْ كَانَتْ: فِي دَمِهَا، غَيْرَ أَنْ لَا يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَطْهُرَ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(أبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن السَّرح، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجيبيّ، تقدَّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ) الأيليّ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

5 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

6 -

(عُبَيْدُ الله بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ) الْهُذليّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه [3](ت 94)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

7 -

(عبد الله بن عتبة بن مسعود) الهذليّ، ابن أخي عبد الله بن مسعود، أبو عبد الله، ويقال: أبو عبيد الله، ويقال: أبو عبد الرَّحمن، المدنيّ، ويقال: الكوفيّ، وُلد في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ووثقه العجليّ، وجماعة، من كبار [2].

أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورآه، وروى عنه، وعن عمّه عبد الله بن مسعود، وعُمر، وعمّار، وعمر بن عبد الله بن الأرقم مكاتبةً، وأبي هريرة، وغيرهم.

وروى عنه ابناه عُبيد الله، وعون، وحميد بن عبد الرَّحمن، والشعبيّ، وأبو إسحاق السبيعيّ، وابن سيرين، وغيرهم.

قال ابن سعد: كان ثقةٌ، رفيعًا، كثير الحديث، والفتيا، فقيهًا، وذكره ابن الْبَرْقيّ فيمن أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يثبُت له عنه رواية، وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل المدينة، ممن وُلد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال العجليّ: تابعيّ ثقةٌ، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: كان يؤمّ الناس بالكوفة، مات في ولاية بشر بن مروان على العراق سنة أربع وسبعين، وقال خليفة: مات سنة ثلاث، أو أربع وسبعين، وأرّخه ابن قانع سنة ثلاث.

رَوَى له الجماعة، سوى الترمذيّ. له في مسلم أربعة أحاديث فقط.

ص: 276

8 -

(عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْأَرْقَمِ الزُّهْرِيُّ) هو: عمر بن عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ

(1)

[3].

رَوَى عن سُبيعة الأسلميّة. وعنه عبد الله بن عتبة بن مسعود، وابنه عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة، فيما كتب إليهما، ذكره ابن حبّان في "الثقات".

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله عندهم حديث سبيعة رضي الله عنها هذا فقط.

9 -

(سُبَيْعَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيَّةُ) زوجة سعد بن خَوْلة، روت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم عدّتها، وروى عنها عمر بن عبد الله بن الأرقم، ومسروق بن الأجدع، وزُفر بن أوس بن الْحَدَثَان، وعبيد أبو سَوِيَّةَ، وعمرو بن عُتبة بن فَرْقَد، قال ابن عبد البرّ: روى عنها فُقهاء المدينة والكوفة حديثها هذا، وروى ابن عمر عنها حديث: "من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت

" الحديث، قال: وزعم العقيليّ أن سُبيعة التي روى عنها ابن عمر غير الأولي، ولا يصحّ عندي.

روى لها الجماعة، سوى الترمذيّ، ولها عندهم هذا الحديث فقط، راجع "تحفة الأشراف"(11/ 110 - 111)، وقد كرّره المصنّف رحمه الله في هذا الباب ثلاث مرّات، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سباعيّات المصنّف: رحمه الله، وله فيه شيخان، قرن بينهما، ثم فصّل، لما سبق غير مرّة.

2 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمصريين إلى يونس بن يزيد، وبعده مسلسل بالمدنيين.

3 -

(ومنها): أن) فيه أربعةً من التابعين روى بعضهم عن بعض: ابن

(1)

في "التقريب": مقبول، والظاهر أنه ثقةٌ، فقد روى عنه ثقتان، واحتجّ به الشيخان، ووثقه ابن حبّان، نبّه على هذا صاحب "التحرير"، وهو الصواب.

ص: 277

شهاب، عن عبيد الله بن عتبة، عن أبيه، عن عمر بن عبد الله.

4 -

(ومنها): أن صحابيّته من المقلّين من الرواية، فليس لها إلَّا هذا الحديث عند الجماعة، إلَّا الترمذيّ، كما سبق آنفًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ؛ أنه قال: (حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ) ظاهر هذا السياق يدلّ أن عبيد الله قرأ كتاب عمر بن عبد الله، وهو الذي صرّح به في "تهذيب التهذيب" حيث قال عند ذكر من روى عن عمر هذا ما نصّه: وعنه عبد الله بن عتبة بن مسعود، وابنه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، فيما كَتَب عنه. انتهى

(1)

.

لكن رواية البخاريّ في "الطلاق" من طريق الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ابن شهاب، صريحة على أنه رواه عن أبيه، ولفظه: حدّثنا يحيى بن بُكير، عن الليث، عن يزيد؛ أن ابن شهاب كتب إليه؛ أن عبيد الله بن عبد الله أخبره عن أبيه، "أنه كتب إلى ابن أرقم

" الحديث

(2)

، ولهذا رأيت إدخاله في السند، بعد أن كنت ملت إلى حذفه.

والحاصل أن الظاهر أنه إنما رواه عن أبيه، لا عن عمر المذكور، والله تعالى أعلم.

(حَدَّثَهُ أَن أَبَاهُ) عبد الله بن عتبة (كتَبَ) فيه العمل بالمكاتبة، وهو مذهب الجمهور، وقد عقد الإمام البخاريّ رحمه الله للمكاتبة، والمناولة بابًا في "كتاب العلم" من "صحيحه"، فقال:"بابُ ما يُذكر في المناولة، وكتابِ أهل العلم بالعلم إلى البلدان"، وقال أنس: نسخ عثمان المصاحف، فبعث بها إلى الآفاق، ورأى عبد الله بن عمر، ويحيى بن سعيد، ومالكٌ ذلك جائزًا، واحتجّ بعض أهل الحجاز في المناولة بحديث النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث كتب لأمير السريّة كتابًا، وقال: لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا وكذا، فلما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس، وأخبرهم بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم أخرج بسنده عن عبيد الله بن عبد الله بن

(1)

"تهذيب التهذيب" 2/ 236.

(2)

"صحيح البخاريّ" رقم (5319).

ص: 278

عتبة بن مسعود؛ أن عبد الله بن عباس، أخبره؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث بكتابه رجلًا، وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه مَزّقه

قال الحافظ رحمه الله: والمكاتبة من أقسام التحمّل، وهو أن يكتب الشيخ حديثه بخطّه، أو يأذن لمن يَثِق به بكتبه، ويرسله بعد تحريره إلى الطالب، ويأذن له في روايته عنه، وقد سوّى البخاريّ بينها وبين المناولة، ورجّح قوم المناولة عليها؛ لحصول المشافهة فيها بالإذن، دون المكاتبة. وقد جوّز جماعة من القدماء إطلاق الإخبار فيهما، والأَولى ما عليه المحقّقون من اشتراط بيان ذلك. انتهى

(1)

.

(إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الأَرْقَمَ الزُّهْرِيِّ) ولفظ البخاريّ: "أنه كتب إلى ابن الأرقم"، قال في "الفتح": جزم جمع من الشُّرّاح أنه عبد الله بن الأرقم الزهريّ الصحابي المشهور، ووَهِموا في ذلك، وإنما هو ولده عمر بن عبد الله، كذلك وقع واضحًا مُفَسَّرًا في رواية يونس، وليس لعمر المذكور في "الصحيحين" سوى هذا الحديث الواحد، ووقع في رواية عُقيل، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن أباه كتب إليه؛ أن الْقَ سُبيعة، فسَلْها، كيف قضى لها؟ قال: فأخبرني زُفَر بن أوس بن الْحَدَثان أن سبيعة أخبرته، والقائل: أخبرني زُفر: هو عبيد الله بن عبد الله، بَيَّن ذلك النسائيّ في روايته من طريق زيد ابن أنيسة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ابن شهاب، ووضح بذلك أن لابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة فيه طريقين، والطريق الثالثة رواية هشام بن عروة، عن أبيه، عن الْمِسْور بن مَخْرَمة؛ أن سبيعة الأسلمية نُفِست، وهذا يَحْتَمِل أن يكون المسور حمله، أو أرسله عن سبيعة، أو حَضَر القصة، فإنه حَفِظَ خطبة النبيّ صلى الله عليه وسلم في شأن فاطمة الزهراء، وكانت قبل قصة سبيعة، فلعله حضر قصة سبيعة أيضًا. انتهى

(2)

.

(يَأْمُرُهُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى سُبَيْعَةَ) بضمّ السين المهملة، وفتح الموحدة، تصغير سبع (بِنْتِ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيَّةِ) رضي الله عنها، نسبة إلى بني أسل، ذكرها ابن سعد في

(1)

"الفتح" 1/ 208.

(2)

"الفتح" 12/ 208.

ص: 279

المهاجرات، ووقع في رواية لابن إسحاق، عند أحمد:"سُبيعة بنت أبي برزة الأسلميّ"، قال الحافظ: فإن كان محفوظًا، فهو أبو برزة آخر غير الصحابيّ المشهور، وهو إما كنية للحارث، والد سبيعة، أو نُسبت في الرواية المذكورة إلى جدّ لها. انتهى

(1)

.

(فَيَسْأَلَهَا حَدِيثَهَا، وَعَمَّا قَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، حِينَ اسْتَفْتَتْهُ، فَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الله، إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، يُخْبِرُهُ أَنَّ سُبَيْعَةَ أَخْبَرَتْهُ؛ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ) بفتح الخاء المعجمة، وسكون الواو، ويقال: سعد بن خَوْليّ، بفتح الخاء، وسكون الواو، وكسر اللام، وتشديد التحتانيّة

(2)

؛ أي: كانت زوجًا له (وَهُوَ في في عَاصَ بْنِ لُؤَيٍّ) أي: عِدادهم، وذكر ابن إسحاق أنه كان حليفًا لهم، ثم لأبي رُهم بن عبد العزّى منهم، وقيل: كان من الفُرس الذين نزلوا اليمن

(3)

.

وقال النوويّ: قوله: "في بني عامر" هكذا هو في النسخ: "في بني عامر" بـ "في"، وهو صحيحٌ، ومعناه: ونسبه في بني عامر؛ أي: هو منهم. انتهى

(4)

، ولفظ النسائيّ:"وهو من بني عامر بن لُؤيّ".

وفي "الإصابة": سعد بن خولة القرشيّ العامريّ، من بني مالك بن حِسْل بن عامر بن لُؤيّ. وقيل: من حلفائهم، وقيل: من مواليهم، قال ابن هشام: هو فارسيّ من اليمن، حالف بني عامر، ذكره موسى بن عُقبة، وابن إسحاق، وغيرهما في البدريين، وله ذكر في "الصحيحين" من حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه، حيث مرض بمكة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لكن البائس سعد بن خولة، يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن مات بمكة". انتهى

(5)

.

(وَكَانَ) سعد هذا (مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا) أي: غزوة بدر (فَتُوُفِّيَ عَنْهَا) بالبناء

(1)

"الفتح" 12/ 208.

(2)

قال في "الفتح": واتّفقوا على سكون الواو، وأغرب ابن التين، فحكى عن القابسيّ فتحها. انتهى.

(3)

راجع: "الفتح" 6/ 676 "كتاب الوصايا" رقم (2742).

(4)

"شرح النوويّ" 10/ 110.

(5)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 4/ 139.

ص: 280

للمفعول؛ أي: مات، وفي رواية النسائيّ:"فتُوفّي عنها زَوْجُهَا"، وفيه الإظهار في مقام الإضمار للإيضاح (فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ) بكسر الحاء: المرة من الحجّ، وهو غير قياس، والجمع حِججٌ، مثلُ سدرة وسِدَر، قال ثعلبٌ: قياسه الفتح، ولم يُسمع من العرب، قاله الفيّوميّ

(1)

.

و"الوداع" بفتح الواو اسم من التوديع، يقال: ودّعته توديعًا: إذا شيّعته عند سفره، وإنما سُمي بذلك لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم ودعّ الناس فيه.

وقوله: "فتُوفّي عنها في حجة الوداع" قال في "الفتح": نَقَل ابنُ عبد البرّ الاتفاق على ذلك، وفي ذلك نظر، فقد ذَكَر محمد بن سعد أنه مات قبل الفتح، وذكر الطبريّ أنه مات سنة سبع

(2)

، ووقع في "تفسير سورة الطلاق" من "صحيح البخاريّ" أن زوج سبيعة قُتِل رضي الله عنه وهي حُبلي، ومعظم الروايات على أنه مات، وهو المعتمد.

وأجاب الكرمانيّ، فقال: لعل سبيعة قالت: قُتِل بناءً على ظن منها في ذلك، فتبيّن أنه لَمْ يُقتل.

وتعقّبه الحافظ، فقال: وهذا الجمع يَمُجُّه السمع، وإذا ظنت سبيعة أنه قُتل، ثم تبيّن لها أنه لَمْ يُقتل، فكيف تجزم بعد دهر طويل بأنه قُتل؟ فالمعتمد أن الرواية التي فيها قُتِل إن كانت محفوظة، تَرَجَّحت؛ لأنَّها لا تنافي مات، أو تُوُفِّي، وإن لَمْ يكن في نفس الأمر قُتل، فهي رواية شاذّةٌ. انتهى

(3)

.

(وَهِيَ حَامِلٌ) جملة حاليّة؛ أي: والحال أن سُبيعة حامل من زوجها المتوفّى هذا.

قال الفيّوميّ: حَمَلَت المرأةُ ولدَهَا، ويجعلُ حَمَلت بمعنى عَلِقَتْ، فيتعدّى بالباء، فيقال: حَمَلت به في ليلة كذا، وفي موضع كذا؛ أي: حَبِلَت،

(1)

"المصباح المنير" 1/ 121.

(2)

قال في "الفتح" في "كتاب الوصايا": وجزم الليث بن سعد في "تاريخه" عن يزيد بن أبي حبيب بأن سعد بن خولة مات في حجة الوداع، وهو الثابت في "الصحيح"، خلافًا لمن قال: إنه مات في مدّة الْهُدنة مع قريش سنة سبع. انتهى.

(3)

راجع: "الفتح" 6/ 676 "كتاب الوصايا" رقم (2742).

ص: 281

فهي حاملٌ، بغير هاء؛ لأنَّها صفة مختصّةٌ، وربّما قيل: حاملةٌ بالهاء. قيل: أرادوا المطابقة بينها وبين حَمَلَت. وقيل: أرادوا مجاز الحمل، إما لأنَّها كانت كذلك، أو ستكون، فإذا أريد الوصف الحقيقيّ قيل: حاملٌ بغير هاء. انتهى

(1)

.

(فَلَمْ تَنْشَبْ) أي: لَمْ تَلْبَث، ولم تتأخّر، قال ابن الأثير: يقال: لَمْ يَنْشَب أن فَعَلَ كذا؛ أي: لَمْ يلبث، وحقيقته لَمْ يتعلّق بشيء غيره، ولا اشتغل بسواه. انتهى

(2)

. (أَنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا)"أن" مصدريّة، والمصدر المؤوّل بدل من الضمير الفاعل في "ينشَب"؛ أي: لَمْ ينشب وضعُ حملها (بَعْدَ وَفَاتِهِ) أي: وفاة سعد بن خَوْلة المذكور، وقال أبو عمر: وَضَعت بعد وفاة زوجها بليال، وقيل: بخمس وعشرين ليلةً، وقيل: بأقل من ذلك، ذكره في "العمدة"

(3)

.

(فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا) بتشديد اللام؛ أي: ارتفعت، أو بَرَأت (تَجَمَّلَتْ) أي: تزيّنت، وتحسّنت، يقال: جَمِل الرجل بالضمّ، والكسر جَمَالًا، فهو جميل، وامرأة جميلة، قال سيبويه: الجمال رقّةُ الْحُسن، والأصل جمالةٌ بالهاء، مثلُ صَبُحَ صَبَاحَةً، لكنهم حذفوا الهاء؛ تخفيفًا؛ لكثرة الاستعمال، وتجمّل تجمُّلًا: بمعنى تزيّن، وتحسّن، إذا اجتلب البهاء، والإضاءة، ذكره الفيّومي

(4)

. (لِلْخُطَّابِ) بضم الخاء المعجمة، جمع خاطب، ككاتب وكُتّاب (فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو السَّنَابِلِ) بالسين المهملة، والنون، ثم موحدة: جمع سُنْبُلة، واختُلف في اسمه، فقيل: عمرو، قاله ابن الْبَرْقيّ، عن ابن هشام، عمن يَثِق به، عن الزهريّ، وقيل: عامر، رُوي عن ابن إسحاق، وقيل: حبة - بفتح الحاء المهملة، وتشديد الموحدة - وقيل: بنون، وقيل: لَبِيدُرَيَّه - بالإضافة - وقيل: أصرم، وقيل: عبد الله، ووقع في بعض الشروح: وقيل: بَغِيض. قال الحافظ: وهو غلط، والسبب فيه أن بعض الأئمة سُئل عن اسمه، فقال: بَغِيض يَسأل عن بغيض، فظنّ الشارح أنه اسمه، وليس كذلك؛ لأن في بقية الخبر اسمه لَبِيدُريه، وجزم العسكريّ بأن اسمه كنيته. انتهى

(5)

.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 151.

(2)

"النهاية" 5/ 52.

(3)

"عمدة القاري" 153/ 17.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 110.

(5)

"الفتح" 12/ 209 "كتاب الطلاق" رقم (5318).

ص: 282

(ابْنُ بَعْكَكٍ) - بموحدة، ثم عين مهملة، ثم كافين، بوزن جعفر - ابن الحارث بن عَمِيلة - بفتح أوله - ابن السَّبَّاق بن عبد الدار القرشيّ الْعَبْدريّ، وكذا نسبه ابنُ إسحاق، وقيل: هو ابن بعكك بن الحجاج رحمه الله بن الحارث بن السباق، نَقَلَ ذلك عن ابن الكلبيّ ابنُ عبد البرّ، قال: وكان من المؤلَّفة، وسكن الكوفة، وكان شاعرًا.

ونَقَل الترمذيّ، عن البخاريّ أنه قال: لا يُعلم أن أبا السَّنَابل عاش بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم، كذا قال، لكن جزم ابن سعد أنه بقي بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم زمنًا.

وقال ابنُ مَنْدَهْ في "الصحابة": عِداده في أهل الكوفة، وكذا قال أبو نعيم: إنه سكن الكوفة، وفيه نظرٌ؛ لأن خليفة قال: أقام بمكة حتى مات، وتبعه ابن عبد البرّ.

ويؤيد كونه عاش بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم قول ابن الْبَرْقيّ: إن أبا السنابل تزوج سُبيعة بعد ذلك، وأولدها سنابل بن أبي السنابل، ومقتضى ذلك أن يكون أبو السنابل عاش بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه وقع في رواية عبد ربه بن سعيد، عن أبي سلمة: أنَّها تزوجت الشابّ، وكذا في رواية داود بن أبي عاصم: أنَّها تزوجت فَتًى من قومها، وتقدم أن قصتها كانت بعد حجة الوداع، فيحتاج أن كان الشاب دخل عليها، ثم طلّقها إلى زمان عدة منه، ثم إلى زمان الحمل حتى تضع، وتَلِد سنابل، حتى صار أبوه يُكْنَى به أبا السنابل.

وقد أفاد محمد بن وضأح، فيما حكاه ابن بشكوال وغيره عنه؛ أن اسم الشابّ الذي خطب سُبيعة هو وأبو السنابل، فآثرته على أبي السنابل: أبو البِشْر بن الحارث، وضبطه بكسر الموحدة، وسكون المعجمة.

وقد أخرج الترمذيّ، والنسائيّ قصة سبيعة، من رواية الأسود، عن أبي السنابل، بسند على شرط الشيخين إلى الأسود، وهو من كبار التابعين، من أصحاب ابن مسعود، ولم يوصف بالتدليس، فالحديث صحيح، على شرط مسلم، لكن البخاريّ على قاعدته في اشتراط ثبوت اللقاء، ولو مرّةً، فلهذا قال ما نقله الترمذيّ. انتهى

(1)

.

(1)

راجع: "الفتح" 12/ 209 - 210.

ص: 283

(رَجُلٌ) بالرفع بدلٌ من "أبو السنابل"(مِنْ بَني عَبْدِ الدَّار، فَقَالَ لَهَا: مَا لِي أَرَاك، مُتَجَمِّلَةً؟ لَعَلكِ تَرَجَّيْنَ) من الترجية، وفي رواية:"تريدين"(النِّكَاحَ؟ إِنَّكِ وَاللهِ مَا أَنْتِ بِنَاكِحٍ) أي: ليس من شأنك النِّكَاح، ولستِ من أهله، يقال: امرأة ناكحٌ، مثل حائضٍ، وطالقٍ، ولا يقال: ناكحة، إلَّا إذا أرادوا بناء الاسم لها، فيقال: نكحت فهي ناكحة، قاله في "العمدة"

(1)

.

(حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْكِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ) برفع "أربعةُ" على الفاعليّة و"تَمُرُّ"، ووقع عند النسائيّ بلفظ:"أربعةَ أشهر وعشرًا" بالنصب، ويمكن أن يوجّه بأن يكون النصب على الظرفية، والعامل فاعل "تمرّ" مقدّرًا؛ أي: تمرّ عليك العدّة أربعة أشهر وعشرًا، ويَحْتَمِل أن يكون على حكاية لفظ القرآن، والله تعالى أعلم.

(قَالَتْ سُبَيْعَةُ) رضي الله عنها (فَلَمَّا قَالَ لِي ذَلِكَ، جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي) كناية عن استتارها بثيابها، وتحفّظها عن أن يظهر شيء من جسدها (حِينَ أَمْسَيْتُ) أي: دخلت في وقت المساء، وإنما اختارت المساء؛ لكونه أستر (فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ) أي: عما قال لي أبو السنابل (فَأَفْتَانِي بِأَنِّي قَدْ حَلَلْتُ، حِينَ وَضَعْتُ حَمْلِي، وَأَمَرَنِي بِالتَّزْوُّجِ إِنْ بَدَا لِي) أي: ظهر لي التزوّج؛ أي: إن أرادت ذلك، ففيه أن النِّكَاح ليس بواجب على المرأة، وتقدّم اختلاف أهل العلم في حكم النِّكَاح مفصّلًا في الباب الأول من "كتاب النِّكَاح"، فراجعه، تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَلَا أَرَى بَأْسًا أَنْ تَتَزَوَّجَ حِينَ وَضَعَتْ، وَإِنْ كَانَتْ فِي دَمِهَا) أي: وإن لَمْ تَتَطَهَّر من نفاسها (غَيْرَ أَنْ لَا يَقْرَبُهَا) بفتح الراء، وتُضمّ، قال الفيّوميّ: وقَرِبْتُ الأمرَ أقرَبه، من باب تَعِبَ، وفي لغة من باب قَتَلَ قِرْبَانًا بالكسر: فعلته، أو دانيته، ومن الأول:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32]، ومن الثاني:"لا تَقرَب الْحِمَى"؛ أي: لا تدن منه. انتهى

(2)

.

والمعنى هنا: لا يجامعها (زَوْجُهَا حَتَّى تَطْهُرَ) لأن النفاس يمنع من جماعها.

(1)

"عمدة القاري" 17/ 103.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 496.

ص: 284

قال القرطبيّ رحمه الله: هذا الذي قاله ابن شهاب رحمه الله من أنها تتزوّج حين وضعت حملها، وإن لَمْ تتطهّر من نفاسها هو مذهب الجمهور، وقد شذّ الحسن، والشعبيّ، والنخعيّ، وحمّاد، فقالوا: لا تنكح ما دامت في دم نفاسها، والحديث حجة عليهم، وسيأتي تمام البحث فيه قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سُبيعة بنت الحارث الأسلميّة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 3721](1484)، و (البخاريّ) في "الطلاق"(5319)، و (أبو داود) في "الطلاق"(2306)، و (النسائيّ) في "الطلاق"(6/ 194 و 195 و 166) و"الكبرى"(3/ 389)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 432)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 190)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 172)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(24/ 295)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 428)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده

(1)

:

1 -

(منها): بيان عدّة الحامل المتوفّى عنها زوجها، وذلك بوضع حملها، وفيه اختلاف بين العلماء سيأتي تحقيقه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

2 -

(ومنها): جواز الإفتاء بحضرة من هو أعلم منه؛ لأن الصحابة رضي الله عنه كانوا يُفتون في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومنهم أبو السنابل بن بعكك رضي الله عنه، حيث أفتى سبيعة بأنها لا تحلّ بوضع حملها، بل بأربعة أشهر وعشر.

3 -

(ومنها): أن المفتي إذا كان له ميلٌ إلى شيء، لا ينبغي له أن يُفتي

(1)

المراد فوائد حديث سبيعة الأسلميّة رضي الله عنها برواياته المختلفة عند المصنّف، أو فيما أشرت إليه في الشرح، لا خصوص سياق المصنّف هذا فقط، فليُتنبّه.

ص: 285

فيه؛ لئلا يحمله الميل إليه على ترجيح ما هو المرجوح، كما وقع لأبي السنابل، حيث أفتى سُبيعة أنَّها لا تحلّ بالوضع؛ لكونه خطبها، فمنعته، ورجا أنَّها إذا قبِلت ذلك منه، وانتظرت مضيّ المدّة حضر أهلها، فرغّبوها في زواجه، دون غيره، كما بُيّن في رواية أبي سلمة أنه خطبها رجلان: أحدهما شابّ، والآخر كهلٌ، فحطّت إلى الشابّ، فقال الكهل - هو أبو السنابل -: لَمْ تحلل، وكان أهلها غَيْبًا، فرجا إذا جاء أهلها أن يؤثروه بها.

4 -

(ومنها): ما كان في سُبيعة رضي الله عنها من الشهامة والفِطنة، حيث تردّدت فيما أفتاها به حتى حملها ذلك على استيضاح الحكم من الشارع، وهكذا ينبغي لمن ارتاب في فتوى المفتي، أو حكم الحاكم في مواضع الاجتهاد أن يبحث عن النصّ في تلك المسألة، قال الحافظ رحمه الله: ولعلّ ما وقع من أبي السنابل من ذلك هو السرّ في إطلاق النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كَذَبَ في الفتوى المذكورة، كما أخرجه أحمد من حديث ابن مسعودمنه، على أن الخطأ قد يُطلق عليه الكذب، وهو في كلام أهل الحجاز كثير، وحمله بعض العلماء على ظاهره، فقال: إنما كذّبه؛ لأنه كان عالمًا بالقصّة، وأفتى بخلافه، حكاه ابن داود عن الشافعيّ في "شرح المختصر"، وهو بعيد.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله هذا البعض من زلّة الأقلام، بل من الخطأ الفادح، فلا ينبغي أن نقول: إن هذا الصحابيّ مع علمه بحكم الله تعالى أفتى بخلافه؛ لأجل أن ينال شهوته، حاشا لله، ثم حاشا لله، فالواجب علينا أن نؤول مثل هذا بما لا يتعارض مع منصب الصحبة، فنقول: إن الكذب معناه هنا الخطأ؛ أي: أخطأ في هذه الفتوي، لظنه الحكم كذلك، فليُتنبّه، والله الهادي إلى سواء السبيل.

5 -

(ومنها): أن فيه الرجوعَ في الوقائع إلى الأعلم.

6 -

(ومنها): مباشرة المرأة بنفسها السؤال عما ينزل بها، ولو كان مما تَستحي النساء من مثله، لكن خروجها من منزلها ليلًا يكون أستر لها، كما فعلت سُبيعة.

7 -

(ومنها): أن الحامل تنقضي عدّتها بالوضع على أي صفة كان، من مُضْغة، أو عَلَقَة، سواء استبان خلق الآدميّ، أم لا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم رتّب الحلّ على

ص: 286

الوضع من غير تفصيل، وتوقّف ابن دقيق العيد فيه من جهة أن الغالب في إطلاق وضع الحامل هو الحمل التامّ المتخلّق، وأما خروج المضغة، أو العلقة، فهو نادرٌ، والحمل على الغالب أقوي، ولهذا نُقل عن الشافعيّ قولٌ بأن العدّة لا تنقضي بوضع قطعة لحم، ليس فيها صورةٌ بيّنة، ولا خفيّة.

وأجيب عن الجمهور بأن المقصود في انقضاء العدّة براءة الرحم، وهو حاصلٌ بخروج المضغة، أو العلّقَة، بخلاف أم الولد، فإن المقصود منها الولادة، وما لا يصدق عليه أنه أصل آدميّ، لا يُقال فيه: ولدت، وسيأتي مزيد بسط في هذا في المسألة الخامسة - إن شاء الله تعالى -.

8 -

(ومنها): جواز تجمّل المرأة بعد انقضاء عدّتها لمن يخطبها؛ لقول أبي السنابل: "ما لي أراك متجمّلةً؟ "، وفي رواية ابن إسحاق:"فتهيّأت للنكاح، واختضبت"، وفي رواية معمر، عن الزهريّ، عند أحمد:"فلقيها أبو السنابل، وقد اكتحلت"، وفي رواية الأسود:"فتطيّبت، وتصنّعت".

9 -

(ومنها): أنه استُدلّ به على أن المرأة لا يجب عليها الزَّواج؛ لقولها في الخبر من طريق الزهريّ: "وأمرني بالتزويج إن بدا لي".

10 -

(ومنها): أن الثيّب لا تُزوّج إلَّا برضاها من ترضاه، ولا إجبار لأحد عليها، وقد تقدّم بيانه في بابه.

11 -

(ومنها): أنه استُدلّ بقولها: "فأفتاني بأني حللت حين وضعت حملي" على أنه يجوز العقد عليها إذا وَضَعت، ولو لَمْ تطهر من دم النفاس، وبه قال الجمهور، وإلى ذلك أشار ابن شهاب في آخر حديثه، حيث قال:"ولا أرى بأسًا أن تتزوّج حين وضعت، وإن كانت في دمها، غير أنه لا يقربها زوجها حتى تطهر".

وقال الشعبيّ، والحسن، والنخعيّ، وحماد بن سلمة: لا تنكح حتى تطهر.

قال القرطبيّ: وحديث سبيعة حجة عليهم، ولا حجة لهم في قوله في بعض طرقه:"فلما تعلّت من نفاسها"؛ لأن "تعلّت" وإن كان أصله طهرت من دم نفاسها، على ما حكاه الخليل، فيحتمل أن يكون المراد به هنا: تعلّت من آلام نفاسها؛ أي: استقلّت من أوجاعها، وتغييراته. ولو سُلّم أن معناه ما قاله

ص: 287

الخليل، فلا حجة فيه أيضًا؛ لأنَّها حكاية واقعة سُبيعة، وإنما الحجة في قوله صلى الله عليه وسلم:"إنها حلّتْ حين وضعتْ"، كما في حديث ابن شهاب هذا.

وفي رواية معمر، عن الزهريّ:"حللتِ حين وضعتِ حملك"، وكذا أخرجه أحمد من حديث أبيّ بن كعب رضي الله عنه:"أن امرأته أم الطفيل قالت لعمر رضي الله عنه: قد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيعة أن تنكِح إذا وضعت".

وهو ظاهر القرآن في قوله تعالى: {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، فعلّق الحلّ بحين الوضع، وقصره عليه، ولم يقل: إذا طهرت، ولا إذا انقطع دمك، فصحّ ما قاله الجمهور. انتهى كلام القرطبي رحمه الله

(1)

، وهو تحقيق حسن جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في عدّة الحامل المتوفّى عنها زوجها:

ذهب جمهور العلماء من السلف، وأئمة الفتوى في الأمصار إلى أن الحامل إذا مات عنها زوجها تحلّ بوضع الحمل، وتنقضي عدّة الوفاة.

وخالف في ذلك عليّ رضي الله عنه، فقال: تعتدّ آخر الأجلين، ومعناه أنَّها إن وضعت قبل مضيّ أربعة أشهر وعشر، تربّصت إلى انقضائها، ولا تحلّ بمجرّد الوضع، وإن انقضت المدّة قبل الوضع، تربّصت إلى الوضع، أخرجه سعيد بن منصور، وعبد بن حُميد، عن عليّ رضي الله عنه بسند صحيح. وبه قال ابن عبّاس رضي الله عنهما، كما في قصّته مع أبي هريرة رضي الله عنه الآتية في هذا الباب، ويقال: إنه رجع عنه، ويقوّيه أن المنقول عن أتباعه وفاق الجماعة في ذلك. وعن عبد الرَّحمن بن أبي ليلى أنه أنكر على ابن سيرين القول بانقضاء عدّتها بالوضع، وأنكر أن يكون ابن مسعود قال بذلك، وقد ثبتٌ عن ابن مسعود رضي الله عنه من عدّة طرق أنه كان يوافق الجماعة، حتى كان يقول:"من شاء لاعنته على ذلك".

ويظهر من مجموع الروايات في قصّة سبيعة. أن أبا السنابل رجع عن فتواه أَوّلًا أنَّها لا تحلّ حتى تمضي مدّة عدّة الوفاة؛ لأنه قد روى قصّة سبيعة وردّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ما أفتاها أبو السنابل به من أنَّها لا تحلّ حتى يمضي أربعة أشهر

(1)

"المفهم" 4/ 281 - 282، و"الفتح" 13/ 212.

ص: 288

وعشر، ولم يَرِد عن أبي السنابل تصريح في حكمها لو انقضت المدّة قبل الوضع، هل كان يقول بظاهر إطلاقه من انقضاء العدّة، أو لا؟ لكن نقل غير واحد الإجماع على أنَّها لا تنقضي في هذه الحالة الثانية حتى تضع. وقد وافق سحنون من المالكيّة عليًّا رضي الله عنه، نقله المازريّ وغيره، وهو شذوذ مردود؛ لأنه إحداث خلاف بعد استقرار الإجماع.

والسبب الحامل له الحرص على العمل بالآيتين اللتين تعارض عمومهما، فقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، عامّ في كلّ من مات عنها زوجها، يشمل الحامل وغيرها، وقوله تعالى:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] عامّ أيضًا، يشمل المطلّقة، والمتوفّى عنها، فجمع أَوَّلئك بين العمومين بقصر الثانية على المطلّقة، بقرينة ذكر عدد المطلّقات، كالآية، والصغيرة قبلهما، ثم لَمْ يمهلوا ما تناولته الآية الثانية من العموم، لكن قصروه على من مضت عليها المدّة، ولم تضع، فكان تخصيص بعض العموم أولى، وأقرب إلى العمل بمقتضى الآيتين من إلغاء أحدهما في حقّ بعض من شمله العموم.

قال القرطبيّ: هذا حسنٌ، فإن الجمع أولى من الترجيح باتفاق أهل الأصول، لكن حديث سبيعة نصّ بأنها تحلّ بوضع الحمل، فكان فيه بيان للمراد بقوله تعالى:{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} أنه في حقّ من لَمْ تضع، وإلى ذلك أشار ابن مسعود لعبه بقوله:"إن آية الطلاق نزلت بعد آية البقرة"، وفهم بعضهم منه أنه يرى نسخ الأولى بالأخيرة، وليس ذلك مراده، وإنما يعني أنَّها مخصّصة لها، فإنها أَخرجت منها بعض متناولاتها.

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: لولا حديث سُبيعة لكان القول ما قال عليّ، وابن عبّاس رضي الله عنهما؛ لأنهما عدّتان مجتمعتان بصفتين، وقد اجتمعتا في الحامل المتوفّى عنها زوجها، فلا تخرج من عدّتها إلَّا بيقين، واليقين آخر الأجلين. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الأرجح هو ما ذهب إليه الجمهور، من العمل بحديث سُبيعة رضي الله عنها، فإذا وضعت الحامل حملها بعد

ص: 289

وفاة زوجها، فقد انقضت عدّتها، سواء كان قريبًا من وفاته، ولو لحظة، أو بعيدًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم فيما تنقضي بوضعه العدّة، من الحمل:

قال العلامة ابن قدامة رحمه الله ما ملخّصه: إذا ألقت المرأة بعد فرقة زوجها، أو موته شيئًا لَمْ يخلُ من خمسة أحوال:

[أحدها]: أن تضع ما بأن فيه خلق الآدميّ، من الرأس، واليد، والرجل، فهذا تنقضي به العدّة بلا خلاف بين العلماء، قال ابن المنذر: أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم على أن عدّة المرأة تنقضي بالسقط، إذا عُلم أنه ولد، وممن نحفظ عنه ذلك: الحسن، وابن سيرين، وشُريح، والشعبيّ، والنخعيّ، والزهريّ، والثوريّ، وأبو حنيفة، ومالكٌ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، قال: وذلك لأنه إذا بأن فيه شيء من خلق الآدميّ عُلم أنه حملٌ، فيدخل تحت قوله تعالى:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4].

[الحال الثاني]: أن تُلقي نطفة، أو دمًا، لا تدري، هل هو ما يُخلق منه الآدميّ، أو لا؟ فهذا لا يتعلّق به شيء من الإحكام؛ لأنه لَمْ يثبت أنه ولدٌ، لا بالمشاهدة، ولا بالبيّنة.

[الحال الثالث]: أن تُلقي مضغة، لَمْ تَبِن فيها الخلقة، فشهدت ثقاتٌ من القوابل أن فيه صورة خفيّةً، بأن بها خلقة آدميّ، فهذا في حكم الحال الأول؛ لأنه قد تبيّن بشهادة أهل المعرفة أنه ولد.

[الحال الرابع]: أن تُلقي مضغة، لا صورة فيها، فشهد ثقات من القوابل أنه مبتدأ خلق آدميّ، فاختلف عن أحمد، فنقل أبو طالب أن عدّتها لا تنقضي، ولا تصير به أم ولد؛ لأنه لَمْ يبن فيه خلق آدميّ، فأشبه الدم، وقد ذُكر هذا قولًا للشافعيّ، ونقل الأثرم عنه أن عدتها لا تنقضي به، ولكن تصير أم ولد؛ لأنه مشكوك في كونه ولدًا، فلا تنقضي عدتها، ويثبت كونها أم ولد؛ احتياطًا في كلّ منهما.

[الحال الخامس]: أن تضع مضغة لا سورة فيها، ولم تشهد القوابل بأنها مبتدأ خلق آدميّ، فهذا لا تنقضي به عدّة، ولا تصير به أم ولد؛ لأنه لَمْ يثبت

ص: 290

كونه ولدًا ببيّنة، ولا مشاهدة، فأشبه الْعَلَقَة، ولا تنقضي العدة بوضع ما قبل المضغة بحال، سواء كان نطفة، أو علقة، وسواء قيل: مبتدأ خلق آدميّ، أو لَمْ يُقل، ولا نعلم في هذا مخالفًا إلَّا الحسن، فإنه قال: إذا عُلم أنه حمل انقضت به العدّة، وفيه الغُرّة، والأول الأصحّ، وعليه الجمهور.

وأقلّ ما تنقضي به العدّة من الحمل أن تضعه بعد ثمانين يومًا منذ أمكنه وطؤها؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إن خلق أحدكم ليُجمَع في بطن أمه، فيكون نطفة أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك

" الحديث متّفقٌ عليه، ولا تنقضي العدّة بما دون المضغة، فوجب أن تكون بعد الثمانين، فأما ما بعد الأربعة أشهر، فليس فيه إشكال؛ لأنه يُنكّس في الخلق الرابع. انتهى كلام ابن قدامة بتصرّف واختصار وهو تفصيل حسن جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[3722]

(1485) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّاب، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ؛ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَن، وَابْنَ عَبَّاسٍ اجْتَمَعَا عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُمَا يَذْكُرَانِ الْمَرْأةَ، تُنْفَسُ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عِدَّتُهَا آخِرُ الْأَجَلَيْن، وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: قَدْ حَلَّتْ، فَجَعَلَا يَتَنَازَعَانِ ذَلِكَ، قَالَ: فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي، يَعْنِي أَبَا سَلَمَةَ، فَبَعَثُوا كُرَيْبًا مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى أمِّ سَلَمَةَ، يَسْأْلُهَا عَنْ ذَلِكَ، فَجَاءَهُمْ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: إِنَّ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةَ، نُفِسَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ، وَإِنَّهَا ذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ) أبو موسى الزَّمِنُ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَبْدُ الْوَهَّابِ) بن عبد المجيد الثقفيّ البصريّ، ثقةٌ [8](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

3 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ) بن قيس الأنصاريّ المدنيّ القاضي، ثقةُ ثبتٌ [5](ت 144)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.

ص: 291

4 -

(سُلَيْمَانُ بْن يَسَارٍ) الهلاليّ مولى ميمونة المدنيّ، ثقةٌ فاضل فقيهٌ، من كبار [3] مات بعد المائة، أو قبلها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 489.

5 -

(أُمُّ سَلَمَةَ) هند بنت أبي أميّة المخزوميّة، أم المؤمنين، ماتت رضي الله عنها سنة (62) وقيل غير ذلك (ع) تقدمت في "شرح المقدمة" ج 2 ص 473.

شرح الحديث:

عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ (أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف التابعيّ الشهير (وَابْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (اجْتَمَعَا عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (وَهُمَا يَذْكُرَانِ الْمَرْأةَ) جملة في محلّ نصب على الحال من فاعل "اجتمع"، وقوله:(تُنْفَسُ) جملة في محلّ نصب على الحال من "المرأة"، وهو بضمّ أوله، بصيغة المبنيّ للمفعول، ومعناه معلومٌ؛ أي: تَلِدُ، يقال: نُفِسَت المرأة، فهي نُفساء، والجمع نفاس بالكسر، ومثله عُشَرَاء وعِشار، وبعض العرب يقول: نَفِسَتْ تَنْفَسُ، من باب تَعِبَ، فهي نافسٌ، مثلُ حائض، والولد منفوس، والنِّفَاس بالكسر أيضًا اسم من ذلك، ونَفِسَت تَنْفَس، من باب تَعِبَ: حاضت، ونُقل عن الأصمعيّ: نُفِسَت بالبناء للمفعول أيضًا، وليس بمشهور في الكتب في الحيض، ولا يقال في الحيض: نُفِسَت بالبناء للمفعول، وهو من النفس، وهو الدم، ومنه قولهم: لا نفس له سائلة؛ أي: لا دمَ له يَجْري، وسُمِّي الدم نفسًا؛ لأن النفس التي هي اسم لجملة الحيوان قِوَامها بالدم، والنفساء من هذا، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا) ظرف متعلّق بـ "نُفِسَت"، وقوله:(بِلَيَالٍ) التنوين للتقليل؛ أي: ليالٍ قليلة، لا تبلغ مدّة أربعة أشهر وعشرًا (فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (عِدَّتُهَا آخِرُ الْأَجَلَيْنِ) أي: من عدّة الوفاة، أو من عدّة وضع الحمل، يعني أنَّها تتربّص أربعة أشهر وعشرًا، لو وضعت قبل ذلك، وتترئص وضعها إن مضت المدة، ولم تضع، وقال بقول ابن عبّاس هذا محمد بن عبد الرَّحمن بن أبي ليلي، ونُقل عن سحنون أيضًا، ووقع عند الإسماعيليّ: قيل لابن عبّاس في امرأة وَضَعت بعد وفاة زوجها بعشرين ليلةً، أيصلح أن تتزوج؟ قال: لا، إلى

(1)

"المصباح المنير" 2/ 617.

ص: 292

آخر الأجلين، قال أبو سلمة: فقلت: قال الله: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] قال: إنما ذاك في الطلاق، وقد أخرج الطبريّ وابن أبي حاتِم بطرُق متعددة إلى أُبَيّ بن كعب أنه قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} المطلقة ثلاثًا، أو المتوفى عنها زوجها؟ قال: هي للمطلقة ثلاثًا، أو المتوفى عنها، قال الحافظ رحمه الله: وهذا المرفوع، وإن كان لا يخلو شيء من أسانيده عن مقال، لكن كثرة طرقه تُشعر بأن له أصلًا، ويعْضِده قصة سبيعة المذكورة. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: يقال: إن ابن عبّاس رضي الله عنهما رجع عن مذهبه هذا، وقال بقول الجمهور، قال في "الفتح": ويقوّيه أن المنقول عن أتباعه وفاق الجماعة في ذلك. انتهى.

(وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرَّحمن (قَدْ حَلَّتْ) أي: حلّ نكاحها؛ لانقضاء عدّتها بوضع حملها؛ عملًا بالآية المذكورة (فَجَعَلَا يَتَنَازَعَانِ ذَلِكَ) فيه أن المفضول يسعه خلاف الفاضل في المسائل، فإن أبا سلمة من التابعين، وابن عبّاس من الصحابة رضي الله عنهما.

(قَالَ) سليمان بن يسار (فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي، يَعْنِي أَبَا سَلَمَةَ) بن عبد الرَّحمن؛ أي: أنا أوافقه فيما قال (فَبَعَثُوا) أي: أرسلوا (كُرَيْبًا مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) هو كريب بن أبي مسلم الهاشميّ مولاهم، أبو رِشدين المدنيّ الثقة من الثالثة، توفي سنة (98 هـ) تقدّمت ترجمته في "الحيض" 2/ 688.

[تنبيه]: قال في "الفتح": هذا السياق ظاهره أن أبا سلمة تَلَقَّى ذلك عن كريب، عن أم سلمة، وهو المحفوظ، وذكر الحميديّ في "الجمع" أن أبا مسعود ذكره في "الأطراف" في ترجمة أبي سلمة، عن عائشة، قال الحميديّ: وفيه نظر؛ لأن الذي عندنا من البخاريّ: "فأرسل ابنُ عباس غلامه كُريبًا، فسألها"، لَمْ يذكر لها اسمًا، قال الحافظ: كذا قال، والذي وقع لنا، ووقفت عليه من جميع الروايات في البخاريّ، في هذا الموضع:"فأرسل ابن عباس غلامه كريبًا إلى أم سلمة"، وكذا عند الإسماعيليّ من وجه آخر، عن يحيى بن

(1)

"الفتح" 10/ 715 - 716 "كتاب التفسير""تفسير سورة الطلاق" رقم (4909).

ص: 293

أبي كثير، وقد ساقه مسلم من وجه آخر، فأخرجه من طريق سليمان بن يسار؛ "أن أبا سلمة بن عبد الرَّحمن، وابن عباس اجتمعا عند أبي هريرة، وهما يذكران المرأة تُنْفَس بعد وفاة زوجها بليالي، فقال ابن عباس: عدتها آخر الأجلين، فقال أبو سلمة: قد حَلَّت، فجعلا يتنازعان، فقال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي، فبعثوا كُريبًا مولى ابن عباس إلى أم سلمة، يسألها عن ذلك"، فهذه القصة معروفة لأم سلمة. انتهى

(1)

.

(إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ) هند بنت أبي أمية المخزوميّة رضي الله عنها، وقوله:(يَسْأَلُهَا عَنْ ذَلِكَ) جملة في محلّ نصب على الحال من "كريبًا"(فَجَاءَهُمْ) كريب بعد أن سألها (فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ) رضي الله عنها (قَالَتْ: إِنَّ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةَ، نُفِسَتْ) قال النوويّ رحمه الله: هو بضمّ النون على المشهور، وفي لغة بفتحها، لغتان في الولادة. انتهى

(2)

. (بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ) كذا أبهم المدّة في هذه الرواية، عند مسلم، وكذا هو عند البخاريّ في رواية الْمِسور بن مَخْرمة، وفي رواية الزهريّ الماضية:"فلم تَنْشَبْ أن وضعت"، ووقع في رواية محمد بن إبراهيم التيميّ، عن أبي سلمة، عن سبيعة، عند أحمد:"فلم أمكُث إلَّا شهرين، حتى وضعت"، وفي رواية داود بن أبي عاصم:"فولدت لأدنى من أربعة أشهر"، وهذا أيضًا مبهم، وفي رواية يحيى بن أبي كثير عند البخاريّ في "تفسير الطلاق":"فوضعت بعد موته بأربعين ليلةً"، كذا في رواية شَيبان عنه، وفي رواية حجاج الصوّاف، عند النسائيّ:"بعشرين ليلةً"، ووقع عند ابن أبي حاتم، من رواية أيوب، عن يحيى:"بعشرين ليلة، أو خمس عشرة"، ووقع في رواية الأسود:"فوضعت بعد وفاة زوجها بثلاثة وعشرين يومًا، أو خمسة وعشرين يومًا"، كذا عند الترمذيّ، والنسائيّ، وعند ابن ماجة:"ببضع وعشرين ليلة"، وكأن الراوي ألغى الشكّ، وأتى بلفظ يَشْمُل الأمرين.

ووقع في رواية عبد ربه بن سعيد: "بنصف شهر"، وكذا في رواية شعبة بلفظ:"خمسة عشر، نصف شهر"، وكذا في حديث ابن مسعود، عند أحمد.

(1)

"الفتح" 10/ 716 "تفسير سورة الطلاق" رقم (4909).

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 111.

ص: 294

قال الحافظ رحمه الله: والجمع بين هذه الروايات متعذِّر؛ لاتحاد القصّة، ولعل هذا هو السرّ في إبهام من أبهم المدّة، إذ محل الخلاف أن تضع لدون أربعة أشهر وعشر، وهو هنا كذلك، فأقلّ ما قيل في هذه الروايات:"نصف شهر".

قال: وأما ما وقع في بعض الشروح أن في البخاريّ رواية "عشر ليال"، وفي رواية للطبرانيّ: ثمان، أو سبع، فهو في مدّة إقامتها بعد الوضع إلى أن استفتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، لا في مدة بقية الحمل، وأكثرُ ما قيل فيه بالتصريح شهران، وبغيره دون أربعة أشهر. انتهى

(1)

.

كذا أبهم الراوي المدة في روايات مسلم، وبعضهم عيّنوا المدّة، واختلفوا فيه اختلافًا كثيرًا، فرُوي أنَّها وضعت بعد وفاة زوجها بشهرين، كما في رواية أحمد، وروى البخاريّ:"بعد أربعين ليلةً"، وروى النسائيّ:"بعد عشرين ليلةً"، ورُوي غيرها.

قال الحافظ بعدما ساق هذه الروايات: والجمع بين هذه الروايات متعذّر؛ لاتحاد القصّة، ولعلّ هذا هو السرّ في إبهام من أبهم المدّة. انتهى.

(وَإِنَّهَا) أي: سبيعة (ذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ) استَغْنَت أم سلمة رضي الله عنها بسياق قصة سُبيعة عن الجواب بـ "لا"، أو"نعم"، لكونه تضمّن الجواب بـ "نعم" مع بيان الدليل، ففيه جواب السؤال بدليله، وهو أوفى، وأخصر، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: من أغرب ما رأيت أن صاحب "تكملة فتح الملهم" احتجّ بقوله: "فأمرها أن تتزوّج" لمذهبه الحنفيّ أن النِّكَاح يصحّ بدون وليّ، وبعبارات النساء، وهذا احتجاج عجيبٌ، كيف يصنع بقوله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطلٌ، فنكاحها باطلٌ، فنكاحها باطلٌ

" الحديث أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجة، والحاكم، وهو حديث صحيح، وقد استوفيت البحث في هذا في غير هذا الموضع، ولله الحمد، والمنّة، وله الفضل والنعمة، وهو أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"الفتح" 12/ 211 "كتاب الطلاق" رقم (5320).

ص: 295

مسألتان تتعلّقان بهدا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أم سلمة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 3722 و 3723](1485)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4909)، و (الترمذيّ) في "الطلاق"(1194)، و (النسائيّ) في "الطلاق"(6/ 192 و 193)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 590)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 52)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11724)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 314)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(5/ 189)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 165 - 166)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(762)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4295 و 4296)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 190 - 191)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(4/ 173)، و (البيهقيّ) في "الصغرى"(6/ 455) و"المعرفة"(6/ 47)، وفوائده تقدّمت في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّلَ الكتاب قال:

[3723]

(

) - (وَحَدَّثنَاه مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أخْبَرَنَا اللَّيْثُ (ع) وَحَدَّثنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، بِهَذَا الإِسْنَاد، غَيْرَ أَنَّ اللَّيْثَ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: فَأَرْسَلُوا إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ، وَلَمْ يُسَمِّ كُرَيبًا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ) بن المهاجر التجيبيّ المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

2 -

(اللَّيْثُ) بن سعد الإمام المشهور، تقدّم قبل باب.

3 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم أيضًا قبل باب.

4 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) ابن محمد بن بُكير البغداديّ، نزيل الرَّقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

ص: 296

5 -

(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) السلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقةٌ متقن عابدٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 45.

و"يحيى بن سعيد" وهو الأنصاري، ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية الليث، عن يحيى بن سعيد، ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى" 3/ 387 فقال:

(5706)

- أخبرنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا الليث، عن يحيى، وهو ابن سعيد، عن سليمان بن يسار؛ أن أبا هريرة، وابن عباس، وأبا سلمة بن عبد الرَّحمن، تذاكروا عدّة المتوفَّى عنها الحامل، تضع عند وفاة زوجها، فقال ابن عباس: تعتد آخر الأجلين، وقال أبو سلمة: بل تَحِلّ حين تضع، فقال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي، فأرسلوا إلى أم سلمة، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت:"وضعت سُبيعة الأسلمية، بعد وفاة زوجها بيسير، فاستفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرها أن تتزوج". انتهى.

ورواية يزيد بن هارون، عن يحيى ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" 3/ فقال:

(4647)

- حدّثنا عمار بن رجاء، قال: أنبا يزيد بن هارون، قال: أنبا يحيى بن سعيد؛ أن سليمان بن يسار أخبره، عن أبي سلمة بن عبد الرَّحمن، وابن عباس، اجتمعا عند أبي هريرة، فتذاكروا الرجل، يُتَوَفَّى عن المرأة، أو المرأة يُتَوَفَّى عنها زوجها، فتَلِد بعده بليالي، فقال ابن عباس: أجلها آخر الأجلين، قال أبو سلمة: إذا وَضَعت، فقد أُحِلَّت، فأرسلوا كريبًا إلى أم سلمة، يسألها عن ذلك، فقالت: إن سُبيعة بنت الحارث تُوُفِّي عنها زوجها، فوضعت بعد وفاته بليالي، وإن رجلًا من بني عبد الدار، يُدْعَى أبا السَّنابِل بن بَعْكَك خطبها، وأخبرها أنَّها قد حَلَّت، فأرادت أن تزوج غيره، فقال لها أبو السنابل: فإنك لَمْ تحلي، فذكرت ذلك سُبيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرها أن تزوج. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 297

(9) - (بَابُ وُجُوبِ الإِحْدَادِ في عِدَّةِ الْوَفَاة، وَتَحْرِيمِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، إِلَّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ)

(اعلم): أن "الإحداد" - بكسر الهمزة -: مصدر أحدّت المرأة رُباعيًّا، ويقال: حدّت ثلاثيًّا.

قال الفيّوميّ رحمه الله: حدّت المرأة على زوجها تَحِدُّ - بالكسر - وتَحُدّ - بالضمّ - حِدَادًا بالكسر، فهي حادّ، بغير هاء، وأحدّت إحدادًا، فهي مُحِدٌّ، ومُحِدَّةٌ: إذا تركت الزينة لموته. وأنكر الأصمعيّ الثلاثيّ، واقتصر على الرباعيّ. انتهى.

وقال ابن منظور رحمه الله بعد ذكر نحو ما تقدّم -: قال أبو عبيد: وإحداد المرأة على زوجها ترك الزينة، وقيل: هو إذا حَزِنت عليه، ولبست ثياب الحزن، وتركت الزينة والخضاب، قال أبو عبيد: ونرى أنه مأخوذ من المنع؛ لأنَّها قد مُنِعَت من ذلك، ومنه قيل للبوّاب: حدّاد؛ لأنه يمنع الناس من الدخول. انتهى.

وقال في "الفتح": قوله: "تحد" بضمّ أوله، وكسر ثانيه، من الرباعيّ، ويجوز بفتحة، ثم ضمة، من الثلاثيّ، قال أهل اللغة: أصل الإحداد المنع، ومنه سمّي البوّاب حدّادًا؛ لمنعه الداخل، وسمّيت العقوبة حدًّا؛ لأنَّها تردع عن المعصية.

وقال ابن درستويه: معنى الإحداد منع المعتدّة نفسَهَا الزينةَ، وبَدَنَها الطيبَ، ومنع الْخُطّاب خِطبتها، والطمعَ فيها، كما منع الحدّ المعصية.

وقال الفرّاء: سمّي الحديد حديدًا؛ للامتناع به، أو لامتناعه على محاوله، ومنه تحديد النظر بمعنى امتناع تقلّبه في الجهات. ويُروى بالجيم، حكاه الخطّابيّ، قال: يُروى بالحاء والجيم، وبالحاء أشهر، والجيم مأخوذ من جددت الشيء إذا قطعته، فكأن المرأة انقطعت عن الزينة.

وقال أبو حاتم: أنكر الأصمعيّ: حَدّت، ولم يَعرِف إلَّا: أحدّت.

ص: 298

وقال الفرّاء: كان القدماء يؤثرون: أحدّت، والأخرى أكثر في كلام العرب.

وقال في موضع آخر: قال ابن بطّال: الإحداد - بالمهملة -: امتناع المرأة المتوفّى عنها زوجها من الزينة، كلها من لباس، وطيب، وغيرهما، وكلّ ما كان من دواعي الجماع.

وأباح الشارع للمرأة أن تحدّ على غير زوجها ثلاثة أيام لما يغلب من لَوْعة الحزن، ويهجم من ألم الوجد، وليس ذلك واجبًا؛ لاتفاقهم على أن الزوج لو طالبها بالجماع لَمْ يحل لها منعه في تلك الحال. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3724]

(1486) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ زينَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ؛ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ، قَالَ: قَالَتْ زينَبُ: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوُفِّيَ أَبُوهَا، أَبُو سُفْيَانَ، فَدَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِطِيبٍ، فِيهِ صُفْرَةٌ، خَلُوقٌ، أَوْ غَيْرُهُ، فَدَهَنَتْ مِنْهُ جَارِيةً، ثُمَّ مَشَتْ بِعَارِضَيْهَا، ثمَّ قَالَت: وَالله، مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ:"لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر، تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ، فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا"، قَالَتْ زينَبُ: ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى زينَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، حِينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَا، فَدَعَتْ بِطِيبٍ، فَمَسَّتْ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَتْ: وَاللهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ:"لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ، تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر، تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ، فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا"، قَالَتْ زينَبُ: سَمِعْتُ أُمِّي، أُمَّ سَلَمَةَ تَقُولُ: جَاءَت امْرَأةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَقَدْ اشْتَكَتْ عَيْنُهَا، أَفَنَكْحُلُهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا"، مَرَّتَيْن، أَوْ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ:"لَا"، ثُمَّ قَالَ:"إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّة، تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ"، قَالَ حُمَيْدٌ: قُلْتُ لِزَيْنَبَ: وَمَا تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ؟ فَقَالَتْ

ص: 299

زينَبُ: كَانَتْ الْمَرْأَةُ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، دَخَلَتْ حِفْشًا، وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا، وَلَمْ تَمَسَّ طيبًا، وَلَا شَيْئًا، حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ، ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ، حِمَارٍ، أَوْ شَاةٍ، أَوْ طَيْرٍ، فَتَفْتَضُّ بِه، فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَيْءٍ إِلَّا مَاتَ، ثُمَّ تَخْرُجُ، فَتُعْطَى بَعْرَةً، فَتَرْمِي بِهَا، ثُمَّ تُرَاجعُ بَعْدُ مَا شَاءَتْ، مِنْ طيبٍ، أَوْ غَيْرِهِ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم قبل بابين.

2 -

(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، تقدّم أيضًا قبل بابين.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ) بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاريّ المدنيّ القاضي، ثقةٌ [5](ت 135)(ع) تقدم في "الصلاة" 17/ 916.

4 -

(حُمَيْدُ بْنُ نَافِعٍ) الأنصاريّ، أبو أفلح المدنيّ، يقال له: حُميد صُفيرا، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الرضاع" 7/ 3603.

5 -

(زَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ) عبد الله بن عبد الأسد، الصحابيّة بنت الصحابيّ والصحابيّة رضي الله عنهم، ربيبة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ماتت سنة (73)(ع) تقدمت في "الحيض" 2/ 689.

6 -

(أُمّ حَبِيبَةَ) رملة بنت أبي سفيان بن حرب الأمويّة، أم المؤمنين، ماتت رضي الله عنها سنة (2 أو 4 أو 49) وقيل غير ذلك (ع) تقدمت في "المساجد ومواضع الصلاة" 3/ 1186.

7 -

(زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ) الأسديّة، أم المؤمنين، ماتت) رضي الله عنها في خلافة عمر رضي الله عنه (ع) تقدمت في "الزكاة" 49/ 2481.

8 -

(أُمُّ سَلَمَةَ) رضي الله عنها تقدّمت في السند الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رواته رواة الجماعة غير شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه أيضًا، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة.

ص: 300

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: عبد الله بن أبي بكر عن حُمَيد.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية صحابيّة، عن ثلاث صحابيّات، كلهنّ من أمهات المؤمنين، وإحداهنّ أمها، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ زينَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ) عبد الله بن عبد الأسد رضي الله عنها، وزعم ابن التين أنَّها لا رواية لها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذا قال، وقد أخرج لها مسلم حديثها: "كان اسمي برّة، فسمّاني رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب

" الحديث، وأخرج لها البخاريّ حديثًا في "المناقب"

(1)

.

(أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ، هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ) التي بيّنتها في كلامها الآتي (قَالَ: قَالَتْ زينَبُ) رضي الله عنها (دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ) رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما (زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، حِينَ تُوُفِّيَ أَبُوهَا، أَبُو سُفْيَانَ) صخر بْنُ حَرْب رضي الله عنه، مات سنة (32 هـ) عند الجمهور، وقيل: سنة ثلاث، ووقع عند البخاريّ في "الجنائز" من رواية ابن عُيينة:"لَمّا جاء نَعْيُ أبي سفيان من الشام".

قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأنه مات بالمدينة، بلا خلاف بين أهل الأخبار، ولم أر في شيء من طرق هذا الحديث تقييده بذلك، إلَّا في رواية ابن عيينة هذه، وأظنّها وهَمًا، وكنت أظنّ أنه حذف منه لفظ "ابن"؛ لأن الذي جاء نعيه من الشام، وأمّ حبيبة في الحياة هو أخوها يزيد بن أبي سفيان الذي كان أميرًا على الشام، لكن رواه البخاريّ في "العِدَد" من طريق مالك، ومن طريق سفيان الثوريّ، كلاهما عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن حُميد بن نافع بلفظ:"حين توفّي عنها أبوها، أبو سفيان بن حرب"، فظهر أنه لَمْ يسقط منه شيء، ولم يقل واحد منهما "من الشام"، وكذا أخرجه ابن سعد في ترجمة أم حبيبة، من طريق صفيّة بنت أبي عُبيد، عنها، ثم وجدت الحديث في "مسند ابن أبي شيبة"، قال: "حدثنا وكيع، حدثنا شعبة، عن حُميد بن نافع - ولفظه: جاء نعي أخي أم حبيبة، أو حميم لها، فدعت بصفرة، فلطخت به

(1)

راجع: "الفتح" 12/ 230.

ص: 301

ذراعيها"، وكذا رواه الدارميّ عن هاشم بن القاسم، عن شعبة، لكن بلفظ: "أن أخًا لأم حبيبة مات، أو حميمًا لها"، ورواه أحمد عن حجاج، ومحمد بن جعفر جميعًا، عن شعبة، بلفظ: "أن حميمًا لها مات"، من غير تردّد، وإطلاق الحميم على الأخ أقرب من إطلاقه على الأب، فقوي الظنّ عند هذا أن القصّة تعدّدت لزينب مع أمّ حبيبة عند وفاة أخيها يزيد، ثم عند وفاة أبيها أبي سفيان، ولا مانع من ذلك. انتهى

(1)

.

(فَدَعَتْ أمّ حَبِيبَةَ بِطِيبٍ) أي: طلبت طيبًا (فِيهِ صُفْرَةٌ) قال الفيّوميّ: "الصُّفْرة": لون دون الحمرة، والأصفر الأسود أيضًا. انتهى

(2)

، وقوله:(خَلُوقٌ) بدل من "صُفرة"، وهو بفتح الخاء المعجمة، بوزن رَسُول: ما يُتخلّق به من الطيب، قال بعض الفقهاء: وهو مائعٌ، فيه صُفْرة، قاله الفيّوميّ

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: هو برفع "خَلُوقٌ"، وبرفع "غيرُهُ"؛ أي: دعت بصفرة، وهي خَلوقٌ، أو غيره، و"الْخَلُوق": بفتح الخاء: طِيب مخلوط. انتهى

(4)

.

وقال النوويّ رحمه الله: "الْخَلُوق" بفتح الخاء المنقوطة: أنواع من الطيب تُخلط بالزعفران، وهو العبير أيضًا

(5)

.

(أَوْ غَيْرُهُ) أي: غير الخلوق، من أنواع الطيب (فَدَهَنَتْ مِنْهُ جَارِيَةً) بالنصب، قال الحافظ: لَمْ أعرف اسمها (ثُمَّ مَسَّتْ بعَارِضَيْهَا) أي: جانبي وجهها، وجعل العارضين ماسحين تجوّزًا، والظاهر أَنها جعلت الطيب في يديها، ومسحتها بعارضيها، والباء للإلصاق، أو الاستعانة، و"مسح" يتعدّى بنفسه، وبالباء، تقول: مسحت برأسي، ومسحت رأسي.

وفي "الإكمال": قال ابن دريد: العارضان صفحتا العنق، وما بعده الأسنان.

وفي "كتاب العين": عارضة الوجه: ما يبدو منه، ومبسما الوجه والثنايا، والمراد هنا الأول.

(1)

"الفتح" 4/ 21.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 342.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 180.

(4)

"شرح النوويّ" 10/ 113.

(5)

"المفهم" 4/ 282 - 283.

ص: 302

وقال القرطبيّ رحمه الله في "المفهم": أصل العوارض: الأسنان، وسُمِّيت الخدود عوارض؛ لأنَّها عليها، من باب تسمية الشيء باسم الشيء إذا جاوزه، أو كان منه بسبب، والعارضان هنا هما: الخدّان. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "مست بعارضيها": هما جانبا الوجه، فوق الذَّقَن إلى ما دون الأذن، وإنما فَعَلت هذا؛ لدفع سورة الإحداد، وفي هذا الذي فعلته أم حبيبة، وزينب رضي الله عنهما مع الحديث المذكور دلالة لجواز الإحداد على غير الزوج ثلاثة أيام، فما دونها. انتهى

(2)

.

(ثُمَّ قَالَتْ) أمّ حبيبة رضي الله عنها (وَاللهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ)"من" زائدة، وفي رواية:"حاجةٌ"(غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقَولُ عَلَى الْمِنْبَرِ) أي: حال كونه قائمًا على المنبر ("لَا يَحِلُّ) نفي بمعنى النهي، للتأكيد، واستُدلّ به على تحريم الإحداد على غير الزوج، وهو واضحٌ، وعلى وجوب الإحداد المدّةَ المذكورةَ على الزوج.

واستُشكل بأن الاستثناء وقع بعد النفي، فيدلّ على الحلّ فوق الثلاث على الزوج، لا على الوجوب.

وأجيب بأن الوجوب استُفيد من دليل آخر؛ كالإجماع.

ورُدّ بأن المنقول عن الحسن البصريّ أن الإحداد لا يجب، أخرجه ابن أبي شيبة، ونَقَلَ الخلّال بسنده عن أحمد، عن هُشيم، عن داود، عن الشعبيّ؛ أنه كان لا يعرف الإحداد.

قال أحمد: ما كان بالعراق أشدّ تبحّرًا من هذين - يعني الحسن والشعبيّ - قال: وخفي ذلك عليهما. انتهى.

ومخالفتهما لا تقدح في الاحتجاج، وإن كان فيها ردّ على من ادّعى الإجماع، وفي أثر الشعبيُّ تعقّبٌ على ابن المنذر، حيث نفى الخلاف في المسألة، إلَّا عن الحسن.

(1)

"المفهم" 4/ 282 - 283، و"شرح الزرقانيّ على الموطإ" 3/ 230 - 231.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 113.

ص: 303

وأيضًا فحديث التي شَكَت عينها - وهو الثالث من الأحاديث المذكورة هنا - دالّ على الوجوب، وإلا لَمْ يمنع التداوي المباح.

وأجيب أيضًا بأن السياق يدلّ على الوجوب، فإن كلّ ما منع منه إذا دلّ دليلٌ على جوازه كان ذلك الدليل دالًّا بعينه على الوجوب؛ كالختان، والزيادة على الركوع في الكسوف، ونحو ذلك، قاله في "الفتح"

(1)

.

(لِامْرَأَةٍ) تمسّك بمفهومه الحنفيّة، فقالوا: لا يجب الإحداد على الصغيرة، وذهب الجمهور إلى وجوب الإحداد عليها، كما تجب العدّة، وأجابوا عن التقييد بالمرأة أنه خرج مخرج الغالب، وعن كونها غير مكلّفة؛ لأن الولي هو المخاطب بمنعها مما تُمنع منه المعتدّة، ودخل في عموم قوله:"امرأة" المدخول بها، وغير المدخول بها حرّة كانت، أو أمة، ولو كانت مبعّضة، أو مكاتَبة، أو أم ولد إذا تُوُفّي عنها زوجها، لا سيّدها لتقييده في الخبر، خلافًا للحنفيّة.

(تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) استدلّ النسائيّ رحمه الله بهذا على اختصاص الإحداد بالمسلمة، فترجم بقوله:"تركُ الزينة للحادّة المسلمة، دون اليهوديّة والنصرانيّة"، وبه قال الحنفيّة، وبعض المالكيّة، وأبو ثور؛ وذلك لتقييده بالإيمان.

وأجاب الجمهور بأنه ذُكِر تاكيدًا للمبالغة في الزجر، فلا مفهوم له، كما يقال: هذا طريق المسلمين، وقد يسلكه غيرهم.

وأيضًا فالإحداد من حقّ الزوج، وهو ملتحق بالعدة في حفظ النسب، فتدخل الكافرة في ذلك بالمعنى كما دخل الكافر في النهي عن السَّوْم على سَوْم أخيه، ولأنه حقّ للزوجية، فأشبه النفقة والسكنى.

ونقل السبكيّ في فتاويه عن بعضهم أن الذميّة داخلة في قوله: "تؤمن بالله، واليوم الآخر"، ورَدّ على قائله، وبيّن فساد شبهته، فأجاد.

وقال النوويّ: قيّد بوصف الإيمان؛ لأن المتّصف به هو الذي ينقاد للشرع، قال ابن دقيق العيد: والأول أولى، وفي رواية عند المالكيّة أن الذّمّيّة

(1)

"الفتح في 12/ 230 - 231.

ص: 304

المتوفّى عنها تعتدّ بالأقراء، قال ابن العربيّ: هو قول من قال: لا إحداد عليها.

(تَحِدُّ) بضم أوله، من الإحداد رباعيًّا، وبفتحه، من الحدّ، ثلاثيًّا، وهو على حذف "أن" المصدريّة، ورفع الفعل، وهو مقيس، كما في قوله عز وجل:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} الآية [الروم: 24]، وهو في تأويل المصدر فاعل "يحلّ "؛ أي: لا يحل لها الإحداد (عَلَى مَيْتٍ) بسكون الياء، وتشديدها، واستُدِلّ به لمن قال: لا إحداد على امرأة المفقود؛ لأنه لَمْ تتحقّق وفاته، خلافًا للمالكية (فَوْقَ ثَلَاثٍ) يعني ثلاث ليال، ولذا ذكّر العدد؛ لكون المعدود مؤنَثًا، فتنبّه.

وقال ابن بطّال رحمه الله: أباح الشارع للمرأة أن تحدّ على غير الزوج ثلاثة أيام؛ لِمَا يَغْلِب من لَوْعة الحزن، ويهجُمُ من أليم الوجد، وليس واجبًا؛ للاتفاق على أن الزوج لو طالبها بالجماع لَمْ يحلّ لها منعه في تلك الحالة.

وقال القرطبيّ رحمه الله: ويستفاد منه أن المرأة إذا مات حميمها، فلها أن تمتنع من الزينة ثلاث ليال متتابعة، تبدأ بالعدد من الليلة التي تستقبلها إلى آخر ثالثها، فإن مات حميمها في بقيّة يوم أو ليلة الغتها، وحسبت من الليلة القابلة المستأنفة. انتهى

(1)

.

(إِلَّا عَلَى زَوْجٍ) أُخِذَ من هذا الحصر أن لا يُزاد على الثلاث في غير الزوج أبًا كان أو غيره.

وأما ما أخرجه أبو داود في "المراسيل" من رواية عمرو بن شعيب "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رخّص للمرأة أن تحدّ على أبيها سبعة أيام، وعلى من سواه ثلاثة أيام"، فلو صحّ لكان خصوص الأب يخرج من هذا العموم، لكنه مرسلٌ، أو معضل؛ لأن جلّ رواية عمرو بن شعيب عن التابعين، ولم يرو عن أحد من الصحابة، إلَّا الشيء اليسير عن بعض صغار الصحابة.

ووهم بعض الشّرَّاح، فتعقّب أبا داود تخريجه في "المراسيل"، فقال: عمرو بن شُعيب ليس تابعيًّا، فلا يخرّج حديثه في المراسيل.

(1)

"المفهم" 4/ 284.

ص: 305

وهذا التعقّب مردود لما سبق؛ ولاحتمال أن يكون أبو داود كان لا يخصّ المراسيل

(1)

برواية التابعيّ، كما هو منقول عن غيره أيضًا.

واستُدلّ به للأصحّ عند الشافعيّة في أن لا إحداد على المطلّقة، فأما الرجعيّة، فلا إحداد عليها إجماعًا، وإنما الاختلاف في البائن، فقال الجمهور: لا إحداد عليها، وقالت الحنفيّة، وأبو عُبيد، وأبو ثور: عليها الإحداد؛ قياسًا على المتوفّى عنها، وبه قال بعض الشافعيّة، والمالكيّة.

واحتجَّ الأولون بأن الإحداد شُرع لأن تركه من التطيب، واللبس، والتزيّن، يدعو إلى الجماع، فمُنعت المرأة منه زجرًا لها عن ذلك، فكان ذلك ظاهرًا في حقّ الميت؛ لأنه يمنعه الموت عن منع المعتدّة منه عن التزويج، ولا تراعيه هي، ولا تخاف منه، بخلاف المطلّق الحيّ في كلّ ذلك، ومن ثَمّ وجبت العدّة على كلّ متوفّى عنها، وإن لَمْ تكن مدخولًا بها، بخلاف المطلّقة قبل الدخول، فلا إحداد عليها اتفاقًا، وبأن المطلّقة البائن يمكنها العود إلى الزوج بعينه بعقد جديد.

وتُعُقّب بأن الملاعنة لا إحداد عليها.

وأجيب بأن تركه لفقدان الزوج بعينه، لا لفقدان الزوجيّة.

واستُدلّ به على جواز الإحداد على غير الزوج من قريب ونحوه ثلاث ليال، فما دونها، وتحريمه فيما زاد عليها، وكأن هذا القدر أُبيح لأجل حظ النفس، ومراعاتها، وغلبة الطباع البشريّة، ولهذا تناولت أمّ حبيبة، وزينب بنت جحش رضي الله عنهما الطيب؛ لتخرجا عن عُهدة الاحداد، وصرّحت كلّ منهما بأنها لَمْ تتطيّب لحاجة، إشارةً إلى أن آثار الحزن باقيةٌ عندهما، لكنهما لَمْ يسعهما إلَّا امتثال الأمر.

(أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا") قال القرطبيّ: "أربعة" منصوب على الظرف، والعامل فيه "تحدّ"، و"عشرًا" معطوف عليه. انتهى

(2)

.

(1)

قال الجامع: هذا هو الحقّ، فإنك لا ترى في عبارة أبي داود، وكذا النسائيّ إلَّا أنهم يُطلقون المرسل على المنقطع، ولا يعبّرون بلفظ المنقطعة، فتنبّه.

(2)

"المفهم" 4/ 284.

ص: 306

وقال الطيبيّ: الاستثناء في قوله: "إلَّا على زوج" متّصل، إذا جعل قوله:"أربعة أشهر" منصوبًا بمقدّر، بيانًا لقوله:"فوق ثلاث "؛ أي: أعني، أو أذكر، فهو من باب قوله:"ما اخترت إلَّا منكم رفيقًا"؛ لكون ما بعد "إلَّا" شيئين، فيقدّم المفسّر، أعني"أربعة أشهر" على الاستثناء، تقديره: لا تحدّ المرأة على ميت فوق ثلاث، أعني أربعة أشهر، إلَّا على زوج، أو من قولك: ما ضرب أحدٌ أحدًا إلَّا زيدٌ عمرًا، وإذا جُعل معمولًا لـ "تحدّ" مضمرًا، كان منقطعًا، فالتقدير: لا تحدّ امرأة على ميت، فوق ثلاث، لكن تحدّ على زوج أربعة أشهر. انتهى

(1)

.

قيل: الحكمة في كونه أربعة أشهر وعشرًا أن الولد يتكامل تخليقه، وتنفخ فيه الروح بعد مضيّ مائة وعشرين يومًا، وهي زيادة على أربعة أشهر بنقصان الأهلّة، فجُبر الكسر إلى العقد على طريق الاحتياط، وذَكَرَ العشر مؤنّثًا؛ لإرادة الليالي، والمراد مع أيامها عند الجمهور، فلا تحلّ حتى تدخل الليلة الحادية عشرة، وعن الأوزاعيّ، وبعض السلف: تنقضي بمضيّ الليالي العشر بعد مضيّ الأشهر، وتحلّ في أول اليوم العاشر.

واستُثنيت الحامل كما تقدّم شرح حالها في الكلام على حديث سُبيعة بنت الحارث الأسلميّة رضي الله عنها.

وقد ورد في حديث قويّ الإسناد، أخرجه أحمد، وصححه ابن حبّان، عن أسماء بنت عُميس رضي الله عنها، قالت:"دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم الثالث من قتل جعفر بن أبي طالب، فقال: لا تُحدّي بعد يومك هذا"، لفظ أحمد، وفي رواية له، ولابن حبّان، والطحاويّ:"لَمّا أُصيب جعفر أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: تَسَلّبي ثلاثًا، ثم اصنعي ما شئت".

قال الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ": ظاهره أنه لا يجب الإحداد على المتوفّى عنها بعد اليوم الثالث؛ لأن أسماء بنت عُميس، كانت زوج جعفر بن أبي طالب بالاتفاق، وهي والدة أولاده: عبد الله، ومحمد، وعون، وغيرهم، قال: بل ظاهر النهي أن الإحداد لا يجوز.

(1)

"شرح المشكاة" 6/ 365.

ص: 307

وأجاب بأن هذا الحديث شاذّ مخالفٌ للأحاديث الصحيحة، وقد أجمعوا على خلافه، قال: ويحتمل أن يقال: إن جعفرًا قُتل شهيدًا، والشهداء أحياء عند ربّهم، قال: وهذا ضعيف؛ لأنه لَمْ يرد في حقّ غير جعفر، من الشهداء، ممن قُطع بأنهم شُهداء، كما قُطع لجعفر، كحمزة بن عبد المطّلب عمه، وكعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر. انتهى كلام العراقيّ، ملخّصًا.

وأجاب الطحاويّ بأنه منسوخ، وأن الإحداد كان على المعتدة في بعض عدّتها في وقت، ثم أُمرت بالإحداد أربعة أشهر وعشرًا، ثم ساق أحاديث الباب، وليس فيها ما يدلّ على ما ادَّعاه من النسخ، لكنّه يُكثر من ادِّعاء النسخ بالاحتمال، فجرى على عادته، وَيحْتَمِل وراء ذلك أجوبة أخرى:

[أحدهما]: أن يكون المراد بالإحداد المقيّد بالثلاث قدرًا زائدًا على الإحداد المعروف، فَعَلَتْه أسماء مبالغة في حزنها على جعفر، فنهاها عن ذلك بعد الثلاث.

[ثانيها]: أنَّها كانت حاملًا، فوضعت بعد ثلاث، فانقضت العدّة، فنهاها بعدها عن الإحداد، ولا يمنع ذلك قوله في الرواية الأخرى:"ثلاثًا"؛ لأنه يُحمل على أنه صلى الله عليه وسلم اطّلع على أن عدّتها تنقضي عند الثلاث.

[ثالثها]: لعله كان أبانها بالطلاق قبل استشهاده، فلم يكن عليها إحداد.

[رابعها]: أن البيهقيّ أَعَلّ الحديث بالانقطاع، فقال: لَمْ يثبت سماع عبد الله بن شدّاد من أسماء، وهذا تعليلٌ مدفوع، فقد صححه أحمد، لكنه قال: إنه مخالفٌ للأحاديث الصحيحة في الإحداد.

وهو مصير منه إلى أنه يُعلّه بالشذوذ، وذكر الأثرم أن أحمد سُئل عن حديث حنظلة، عن سالم، عن ابن عمر، رفعه:"لا إحداد فوق ثلاث"؟ فقال: هذا منكر، والمعروف عن ابن عمر من رأيه. انتهى.

وهذا يَحْتَمِل أن يكون لغير المرأة المعتدّة، فلا نكارة فيه، بخلاف حديث أسماء، والله أعلم.

وأغرب ابن حبّان، فساق الحديث بلفظ:"تسلّمي" بالميم، بدل الموحدة، وفسّره بأنه أمرها بالتسليم لأمر الله، ولا مفهوم لتقييدها بالثلاث، بل

ص: 308

الحكمة فيه كون القلق يكون في ابتداء الأمر أشدّ، فلذلك قيّدها بالثلاث، هذا معنى كلامه، فصحّف الكلمة، وتكلّف لتأويلها.

وقد وقع في رواية البيهقيّ وغيره: "فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتسلّب ثلاثًا"، فتبيّن خطؤه، قاله في "الفتح"

(1)

.

(قَالَتْ زينَبُ) رضي الله عنها، بالسند السابق، وهذا هو الحديث الثاني (ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى زينَبَ بِنْتِ جَحْشٍ) أم المؤمنين رضي الله عنها.

قال في "الفتح": وظاهره أن هذه القصّة وقعت بعد قصّة أم حبيبة رضي الله عنها، ولا يصحّ ذلك إلَّا إن قلنا بالتعدّد، ويكون ذلك عقب وفاة يزيد بن أبي سفيان؛ لأن وفاته سنة ثمان عشرة، أو تسع عشرة، ولا يصحّ أن يكون ذلك عند وفاة أبيه؛ لأن زينب بنت جحش ماتت قبل أبي سفيان بأكثر من عشر سنين، على الصحيح المشهور عند أهل العلم بالأخبار، فيُحْمَل على أنَّها لَمْ تُرِد ترتيب الوقائع، وإنما أرادت ترتيب الأخبار.

وقد وقع في رواية أبي داود بلفظ: "ودخلت"، وذلك لا يقتضي الترتيب، والله أعلم. انتهى.

(حِينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَما) قال الحافظ رحمه الله: لَمْ أتحقّق من المراد به؟ لأن لزينب ثلاثة إخوة: عبد الله، وعبد، بغير إضافة، وعبيد الله بالتصغير، فأما المكبَّر، فاستُشهد بأحد، وكانت زينب إذ ذاك صغيرة جدًّا؛ لأن أباها أبا سلمة مات بعد بدر، وتزوّج النبيّ صلى الله عليه وسلم أمها، أم سلمة، وهي صغيرة تَرْضَع، فقد ثبتٌ أن أمها حلّت من أبي سلمة بوضع زينب هذه، فانتفى أن يكون هو المراد هنا، وإن كان وقع في كثير من "الموطّآت" بلفظ:"حين توفّي أخوها عبد الله"، كما أخرجه الدارقطنيّ من طريق ابن وهب وغيره عن مالك.

وأما عبدٌ بغير إضافة، فيُعرف بأبي أحمد

(2)

، وكان شاعرًا أعمي، وعاش

(1)

"الفتح" 12/ 232 - 234.

(2)

هذا هو المعروف في السِّيَر، ووقع في نسخة "الفتح": أبو حميد، وهو تصحيف، وقد وقع في "عمدة القاري" على الصواب، راجعه 8/ 66.

ص: 309

إلى خلافة عمر رضي الله عنه، وقد جزم ابن إسحاق وغيره من أهل العلم بالأخبار بأنه مات بعد أخته زينب بسنة.

وروى ابن سعد في ترجمتها في "الطبقات" من وجهين أن أبا أحمد المذكور حضر جنازة زينب مع عمر رضي الله عنه، وحكي عنه مراجعة له بسببها، وإن كان في إسنادهما الواقديّ، لكن يُستشهد به في مثل هذا، فانتفى أن يكون هذا الأخير المراد.

وأما عُبيد الله المصغّر، فأسلم قديمًا، وهاجر بزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان إلى الحبشة، ثم تنصّر هناك، ومات، فتزوّج النبيّ صلى الله عليه وسلم بعده أم حبيبة، فهذا يَحْتَمِل أن يكون هو المراد؛ لأن زينب بنت أبي سلمة عندما جاء الخبر بوفاة عبيد الله، كانت في سنّ من يَضبط، ولا مانع أن يحزن المرء على قريبه الكافر، ولا سيّما إذا تذكّر سوء مصيره، ولعلّ الرواية التي في "الموطّإ":"حين توفّي أخوها عبد الله" كانت بالتصغير، فلم يَضبطها الكاتب، والله أعلم.

ويعكُر على هذا قول من قال: إن عُبيد الله مات بأرض الحبشة، فتزوّج النبيِّ صلى الله عليه وسلم أم حبيبة، فإن ظاهرها أن تزويجها كان بعد موت عُبيد الله، وتزويجها وقع بأرض الحبشة، وقبل أن تسمع النهي.

وأيضًا ففي السياق: "ثم دخلت على زينب" بعد قولها: "دخلت على أم حبيبة"، وهو ظاهر في أن ذلك كان بعد موت قريب زينب بنت جحش المذكور، وهو بعد مجيء أم حبيبة من الحبشة بمدّة طويلة، فإن لَمْ يكن هذا الظنّ هو الواقع احتمل أن يكون أخًا لزينب بنت جحش من أمها، أو من الرضاعة، أو يُرجّح ما حكاه ابن عبد البرّ وغيره من أنّ زينب بنت أبي سلمة وُلدت بأرض الحبشة، فإن مقتضى ذلك أن يكون لها عند وفاة عبد الله بن جحش أربع سنين، ومثلها يَضبِط في مثلها، والله أعلم. قاله في "الفتح"

(1)

.

(فَدَعَتْ بِطِيبٍ، فَمَسَّتْ مِنْهُ) وفي رواية "به" أي: مسّت جسدها من ذلك الطيب، أو بذلك الطيب (ثُمَّ قَالَتْ: وَاللهِ) وفي رواية: "أما والله"(مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ) وفي رواية بحذف "من" (غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم،

(1)

راجع: "الفتح" 4/ 22 - 23 "كتاب الجنائز" رقم (1281).

ص: 310

يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: "لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ، تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر، تُحِدُّ) تقدّم أنه بفتح أوله، وضمه، وأنه على تقدير حرف مصدريّ، وهو في تأويل المصدر فاعل "يحلّ" (عَلَى مَيْتٍ، فَوْقَ ثَلَاثٍ) أي: ثلاث لَيَالٍ (إِلَّا عَلَى زَوْجٍ) أي: فتحدّ عليه (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا") أي: أيامها، عند الجمهور، وقيل: عشر ليال، وقد تقدم تفصيل الخلاف في ذلك.

(قَالَتْ زينَبُ) بالسند السابق، وهذا هو الحديث الثالث (سَمِعْتُ أمِّي أُمَّ سَلَمَةَ) أي: أم المؤمنين هند بنت أبي أميّة المخزوميّة رضي الله عنهما (تَقُولُ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ) زاد في رواية الليث، عن حميد بن نافع:"جاءت امرأة من قريش"، وسمّاها ابن وهب في "موظئه"، وأخرجه إسماعيل القاضي في "أحكامه" من طريق عاتكة بنت نعيم بن عبد الله، أخرجه ابن وهب: "عن أبي الأسود النوفليّ، عن القاسم بن محمد، عن زينب، عن أمها، أم سلمة؛ أن عاتكة بنت نُعيم بن عبد الله، أتت تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن ابنتي تُوفّي عنها زوجها، وكانت تحت المغيرة المخزوميّ، وهي تحدّ، وتشتكي عينها

" الحديث، وهكذا أخرجه الطبرانيّ من رواية عمران بن هارون الرمليّ، عن ابن لهيعة، لكنه قال: "بنت نُعيم"، ولم يسمّها. وأخرجه ابن منده في "المعرفة" من طريق عثمان بن صالح"عن عبد الله بن عُقبة، عن محمد بن عبد الرَّحمن، عن حميد بن نافع، عن زينب، عن أمها، عن عاتكة بنت نُعيم، أخت عبد الله بن نعيم، جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن ابنتها تُوفّي زوجها

" الحديث، وعبد الله بن عقبة هو ابن لَهِيعة، نسبه لجدّه، ومحمد بن عبد الرَّحمن هو أبو الأسود، فإن كان محفوظًا فلابن لهيعة طريقان، ولم تسمّ البنت التي توفّي زوجها، قال الحافظ رحمه الله: ولم تُنسب فيما وقفت عليه، وأما المغيرة المخزوميّ، فلم أقف على اسم أبيه، وقد أغفله ابن منده في "الصحابة"، وكذا أبو موسى في "الذيل" عليه، وكذا ابن عبد البرّ، لكنه استدركه ابن فتحون عليه. انتهى كلام الحافظ

(1)

.

(إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ؛ يَا رَسُولَ الله، إِنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا،

(1)

"الفتح" 12/ 234.

ص: 311

وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا) قال النوويّ رحمه الله: هو برفع النون، ووقع في بعض الأصول "عيناها" بالألف. انتهى

(1)

.

وقال ابن دقيق العيد: يجوز فيه وجهان ضمّ النون على الفاعليّة على أن تكون العين هي المشتكية، وفتحها على أن يكون في اشتكت ضمير الفاعل، وهي المرأة، ورجّح هذا. ووقع في بعض الروايات:"عيناها" يعني ويرجّح الضمّ، وهذه الرواية في مسلم

(2)

، وعلى الضمّ اقتصر النوويّ، وهو الأرجح، والذي رجّح الأول هو المنذريّ.

(أفَأَكْحُلُهَا؟) بضمّ الحاء المهملة، من باب قتل (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا"، مَرّتَيْن، أَوْ ثَلَاثًا) أي: سألته عن ذلك مرتين، أو ثلاث مرّات (كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: لَا) وفي رواية شعبة، عن حميد بن نافع، فقال:"لا تكتحل"، قال النوويّ: فيه دليلٌ على تحريم الاكتحال على الحادّة، سواء احتاجت إليه، أم لا، وجاء في حديث أم سلمة رضي الله عنها في "الموطإ" وغيره:"اجعليه بالليل، وامسحيه بالنهار".

ووجه الجمع أنَّها إذا لَمْ تحتج إليه لا يحلّ، وإذا احتاجت لَمْ يجز بالنهار، ويجوز بالليل، مع أن الأولى تركه، فإن فعلت مسحته بالنهار.

قال: وتأوّل بعضهم حديث الباب على أنه لَمْ يتحقّق الخوف على عينها.

وتُعُقّب بأن في حديث شعبة المذكور "فخشُوا على عينها"، وفي رواية ابن منده المتقدّم ذكرها:"رَمِدت رَمَدًا شديدًا، وقد خَشِيت على بصرها"، وفي رواية الطبرانيُّ أنَّها قالت في المرّة الثانية:"إنها تشتكي عينها فوق ما يظنّ، فقال: لا"، وفي رواية القاسم بن أصبغ، أخرجها ابن حزم:"إني خشيت أن تنفقئ عينها، قال: لا، وإن انفقأت"، وسنده صحيح، وبمثل ذلك أفتت أسماء بنت عُميس، أخرجه ابن أبي شيبة، وبهذا قال مالك في رواية عنه بمنعه مطلقًا، وعنه يجوز إذا خافت على عينها بما لا طيب فيه، وبه قال الشافعيّة مقيّدًا بالليل.

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 113.

(2)

هو في بعض نسخ مسلم، كما نبّه عليه النوويّ رحمه الله.

ص: 312

وأجابوا عن قصّة المرأة باحتمال أنه كان يحصل لها البرء بغير الكحل؛ كالتضميد بالصبر ونحوه.

وقد أخرج ابن أبي شيبة عن صفيّة بنت أبي عبيد أنَّها أحدّت على ابن عمر، فلم تكتحل حتى كادت عيناها تزيغان، فكانت تقطر فيهما الصبر.

ومنهم من تأول النهي على كحل مخصوص، وهو ما يقتضي التزيّن به؛ لأن محض التداوي قد يحصل بما لا زينة فيه، فلم ينحصر فيما فيه زينة.

وقالت طائفة من العلماء: يجوز ذلك، ولو كان فيه طيب، وحملوا النهي على التنزيه؛ جمعًا بين الأدلّة.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بالمنع مطلقًا هو الصواب؛ لقوة أدلته، والله تعالى أعلم.

(ثمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ) ووقع في "البخاريّ: "أربعةَ أشهر وعشرًا" بالنصب، قال في "الفتح": كذا في الأصل بالنصب على حكاية لفظ القرآن، ولبعضهم بالرفع، وهو أوضح.

وقال ابن دقيق العيد: فيه إشارة إلى تقليل المدّة بالنسبة لما كان قبل ذلك، وتهوين الصبر عليها، ولهذا قال بعده.

(وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ") وفي التقييد بالجاهليّة إشارة إلى أن الحكم في الإسلام صار بخلافه، وهو كذلك بالنسبة لما وصف من الصنيع، لكن التقدير بالحول استمرّ في الإسلام بنصّ قوله تعالى:{وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} [البقرة: 240]، ثم نُسخت بالآية التي قبلُ، وهي:{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234].

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكنّ في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول" معناه: لا تستكثرن العدّة، ومنع الاكتحال فيها، فإنها مدة قليلة، وقد خُفِّفت عنكنّ، وصارت أربعة أشهر وعشرًا، بعد أن كانت سنة، وفي هذا تصريح بنسخ الاعتداد سنةً المذكورِ في سورة البقرة في الآية الثانية.

وأما رميها بالبعرة على رأس الحول، فقد فَسَّره في الحديث، قال بعض العلماء: معناه: أنَّها رمت بالعدّة، وخرجت منها؛ كانفصالها من هذه البعرة،

ص: 313

ورميها بها، وقال بعضهم: هو إشارة إلى أن الذي فعلته، وصبرت عليه، من الاعتداد سنة، ولبسها شرّ ثيابها، ولزومها بيتًا صغيرًا هَيِّن بالنسبة إلى حقّ الزوج، وما يستحقه من المراعاة، كما يهون الرمي بالبعرة. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وقد كانت إحداكنّ إلخ" هذا منه صلى الله عليه وسلم إخبارٌ عن حالة المتوفَّى عنهنّ أزواجهنّ قبل ورود الشرع.

وحاصله أنهنّ كنّ يُقمن في بيوتهنّ حولًا ملازمات لحالة الشَّعَث، والْبَذَاذة، والتَّفَل، ووحشة المسكن، وفي شرار الثياب، والأحلاس إلى أن ينقضي الحول، وعند ذلك تخرج، فترمي ببعرة، مشعرةً بأن أمر العدّة المذكورة، وإن كان شديدًا، قد هان عليها في حقّ من مات عنها، كرمي البعرة.

وقيل: إن معنى ذلك أنَّها رمت بالعدّة وراء ظهرها، كما رمت بالبعرة، فلما جاء الإسلام أمرهنّ الله تعالى بملازمة البيوت حولًا، وقد دلّ عليه قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} الآية [البقرة: 240]، وأشهر قول المفسّرين فيها، وأحسنه أن المتوفَّى عنها زوجها كانت تجلس في بيت المتوفّى حولًا، ويُنفَق عليها من ماله ما لَمْ تخرج من المنزل، فإن خرجت لَمْ يكن على الورثة جُناح في قطع النفقة عنها، ثم نُسخ الحول بالأربعة الأشهر والعشر، ونُسخت النفقة بالربع، أو الثمن، قاله ابن عبّاس، وقتادة، والضحاك، وعطاء، وغيرهم، وفي هذه الآية مباحث كثيرةٌ لذكرها موضع آخر.

قال القاضي عياض: والإجماع منعقد على أن الحول منسوخٌ، وأن عدّتها أربعة أشهر وعشر، يعني أنَّها منسوخة بقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} الآية [البقرة: 234]. انتهى

(2)

.

(قَالَ حُمَيْدٌ) هو ابن نافع، راوي الحديث، وهو موصول بالإسناد المبدوء به (فَقُلْتُ لِزَيْنَبَ) بنت أبي سلمة رضي الله عنها (وَمَا تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ؟) أي: بيّني لي المراد بهذا الكلام الذي خوطبت به هذه المرأة (فَقَالَتْ زينَبُ) رضي الله عنها

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 114.

(2)

"المفهم" 4/ 286 - 287.

ص: 314

(كَانَتِ الْمَرْأَةُ، إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا) قال في "الفتح": هكذا في هذه الرواية لم تسنده زينب، ووقع في رواية شعبة، مرفوعًا كله، لكنه باختصار، ولفظه:"فقال: لا تكتحل، قد كانت إحداكن تمكث في شرّ أحلاسها، أو شرّ بيتها، فإذا كان حولٌ، فمرّ كلبٌ رمت ببعرة، فلا، حتى تمضي أربعة أشهر وعشرٌ".

قال الحافظ: وهذا لا يقتضي إدراج رواية الباب؛ لأن شعبة من أحفظ الناس، فلا يقضى على روايته برواية غيره بالاحتمال، ولعل الموقوف ما في رواية الباب من الزيادة التي ليست في رواية شعبة. انتهى.

لكن تعقّب هذا الزرقاني في "شرح الموطإ" حيث قال بعد نقل كلام الحافظ هذا: وقد يرد عليه أن ذلك ليس بالاحتمال، فقد صرّح هو في "شرح نخبته" تبعًا لغيره بأن مما يُعرف به الإدراج مجيء رواية مبيّنة للقدر المدرج، وما هنا من ذلك، فإن رواية مالك عن شيخه، عن حميد بيّنت أن التفسير من زينب، وكون شعبة من الحفّاظ لا يقتضي أنه لا يروي ما فيه المدرج، فلم يزل الحفّاظ يروونه كثيرًا؛ كابن شهاب وغيره. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ادَّعَوه من الإدراج في رواية شعبة لا يظهر لي وجهه، فإن أصل الحديث مرفوع، لا إدراج فيه، وإنما التفسير الواقع في رواية مالك بطوله من زينب رضي الله عنها، فلا إدراج في رواية شعبة الآتية بعد حديث، ونحوها رواية يحيى بن سعيد الأنصاريّ الآتية بعد ثلاثة أحاديث، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(دَخَلَتْ حِفْشًا) - بكسر الحاء المهملة، وإسكان الفاء، بعدها شين معجمة - أي: بيتًا صغيرًا حقيرًا، قريب السِّمْك، قاله النوويّ

(1)

.

وقال مالك رحمه الله: "الحفش البيت الرديء"، وفي رواية عنه:"الصغير جدًّا"، وهما بمعنًى، فرداءته لصغره.

وفسره مالك أيضًا بالخصّ، وهو - بضم الخاء المعجمة، وتشديد الصاد المهملة -: البيت من القصب، والجمع أَخصاص، مثل قُفْل وأَقفال.

وقال الشافعيّ: الحِفْش: البيت الذليل الشَّعِث البناء، وقيل: هو شيء من

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 114.

ص: 315

خُوص يُشبه القُفّة، تَجمع فيه المعتدّة متاعها من غزل، أو نحوه.

قال في "الفتح": وظاهر سياق القصّة يأبى هذا، ففي رواية يحيى الأنصاريّ، عن حميد بن نافع:"عَمَدَت إلى شرّ بيت لها، فجلست فيه"، ولعلّ أصل الحفش ما ذُكر، ثم استعمل في البيت الصغير الحقير على طريق الاستعارة. انتهى

(1)

.

(وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا، وَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا، وَلَا شَيْئًا) أي: مما يُتزيَّن به (حَتَّى تَمُرَّ بِهَا) وفي رواية: "لها"(سَنَةٌ، ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ) بالتنوين (حِمَارٍ) بالجرّ على البدل (أَوْ شَاةٍ، أَوْ طَيْرٍ)"أو" فيهما للتنويع، لا للشكّ، وإطلاق الدابّة على ما ذُكر هو بطريق الحقيقة اللغويّة، لا العرفيّة.

وقال القرطبيّ: سُمّيت هذه كلها دوابّ؛ لأنها تدبّ؛ أي: تمشي، وهذه تسمية لغويّة أصليّة، كما قال الله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} الآية [هود: 6] انتهى

(2)

.

(فَتَفْتَضُّ بِهِ) بفاء، ثم مثنّاة، ثم ضاد معجمة مشدّدة، والباء في "به" سببيّة، وجوّز الكرمانيّ أن تكون للتعدية، أو تكون زائدة؛ أي: تفتضّ الطائر بأن تكسر بعض أعضائه. انتهى.

لكن يردّه ما يأتي من تفسير الافتضاض صريحًا.

وقال مالك رحمه الله: معنى "تفتضّ لما؛ أي: "تمسح به جلدها"، قال في "الفتح": وأصل الفضّ الكسر؛ أي: تكسر ما كانت فيه، وتخرُج منه بما تفعله بالدابّة.

ووقع في رواية النسائيّ: "تقبص" بقاف، ثم موحّدة، ثم مهملة خفيفة، وهي رواية الشافعيّ، والقبص الأخذ بأطراف الأنامل، والضبط الأول أشهر.

قال الأصبهانيّ، وابن الأثير: هو كناية عن الإسراع؛ أي: تذهب بعَدْو، وسرعة إلى منزل أبويها؛ لكثرة حيائها؛ لقبح منظرها، أو لشدّة شوقها إلى التزويج؛ لبُعد عهدها به.

وقال ابن قتيبة: سألت الحجازيين عن الافتضاض، فذكروا أن المعتدّة،

(1)

"الفتح" 12/ 236.

(2)

"المفهم" 4/ 287.

ص: 316

كانت لا تمسّ ماءً، ولا تقلّم ظفرًا، ولا تُزيل شعرًا، ثم تخرج بعد الحول بأقبح منظر، ثم تفتضّ؛ أي: تكسر ما هي فيه من العدّة بطائر تمسح به قُبُلَها، وتنبذه، فلا يكاد يَعيش بعدما تفتضّ به.

وهذا لا يخالف تفسير مالك، لكنه أخصّ منه؛ لأنه أطلق الجلد، وتبيّن أن المراد به جلد القُبُل.

وقال ابن وهب: معناه أنها تمسح بيدها على الدابّة، وعلى ظهره، وقيل: المراد تمسح به، ثم تفتضّ؛ أي: تغتسل، والافتضاض: الاغتسال بالماء العذب؛ لإزالة الوسخ، وإرادة النقاء، حتى تصير بيضاء نقيّة كالفضّة، ومن ثمّ قال الأخفش: معناه تتنظّف، فتنتفي من الوسخ، فتشبه الفضّة في نقائها وبياضها، والغرض بذلك الإشارة إلى إهلاك ما هي فيه، ومن الرمي الانفصال منه بالكلّيّة. انتهى.

(فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَيْءٍ، إِلَّا مَاتَ، ثُمَّ تَخْرُجُ) بالبناء للفاعل؛ أي: تخرج تلك المعتدّة من حفشها (فَتُعْطَى) بالبناء للمفعول (بَعْرَةً) بفتح الموحّدة، وسكون المهملة، ويجوز فتحها (فَتَرْمِي بِهَا) وفي رواية مطرّف، وابن الماجشون، عن مالك:"ترمي ببعرة من بعر الغنم، أو الإبل، فترمي بها أمامها، يكون ذلك إحلالًا لها"، وفي رواية ابن وهب:"فترمي ببعرة من بعر الغنم من وراء ظهرها"، ووقع في رواية شعبة المذكورة:"فإذا كان حولٌ، فمرّ كلبٌ رمت ببعرة"، وظاهره أن رميها البعرة يتوقّف على مرور الكلب، سواء طال زمن انتظار مروره، أم قصر، وبه جزم بعض الشرّاح، وقيل: ترمي بها من عرض، من كلب، أو غيره، ترمي من حضرها أن مقامها حولًا أهون عليها من بعرة ترمي بها كلبًا أو غيره.

وقال عياضٌ: يمكن الجمع بأن الكلب إذا مرّ افتضّت به، ثم رمت البعرة، قال الحافظ: ولا يخفى بُعده، والزيادة من الثقة مقبولة، ولا سيّما إذا كان حافظًا، فإنه لا منافاة بين الروايتين حتى يحتاج إلى الجمع.

واختُلف في المراد برمي البعرة، فقيل: هو إشارة إلى أنها رمت العدّة

ص: 317

رمي البعرة، وقيل: إشارة إلى أن الفعل الذي فعلته من التربّص، والصبر على البلاء الذي كانت فيه لما انقضى، كان عندها بمنزلة البعرة التي رمتها؛ استحقارًا له، وتعظيمًا لحق زوجها، وقيل: بل ترميها على سبيل التفاؤل بعدم عودها إلى مثل ذلك، قاله في "الفتح"

(1)

.

(ثُمَّ تُرَاجعُ) بضم المثناة الفوقيّة، مبنيًّا للفاعل، من المراجعة (بَعْدُ) أي: بعدما ذُكر من الافتضاض، والرمي (مَا شَاءَتْ، مِنْ طِيبٍ، أَوْ غَيْرِهِ) مما كانت ممنوعة منه في تلك المدّة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث زينب بنت أبي سلمة، عن أمهات المؤمنين الثلاثة رضي الله عنهن متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 3724 و 3725 و 3726 و 3727 و 3728 و 3729](1486)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1282) و"الطلاق"(5334 و 5335 و 5336)، و (أبو داود) في "الطلاق"(2299)، و (الترمذيّ) في "الطلاق"(1196 و 1197)، و (النسائيّ) في "الطلاق"(6/ 201 - 202) و"الكبرى"(3/ 394 و 396)، و (ابن ماجه) في "الطلاق"(2084)، و (مالك) في "الموطإ"(2/ 596 - 597)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 61 - 62)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(12130)، و (الحميديّ) في "مسنده"(304 و 306)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 291 و 292 و 311 و 324 و 325)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 167)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4304)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(765 و 768)، و (الطبرا نيّ) في "الكبير"(23/ 422 و 423 و 424 و 425 و 426 و 427 و 813 و 815 و 816 و 817)، و (أبو عوانة)

(1)

"الفتح" 12/ 237 - 238.

ص: 318

في "مسنده"(3/ 193 و 195)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 437) و"المعرفة"(6/ 59 - 60)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2389)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أنه يدلّ على وجوب الإحداد على المعتدّة من وفاة زوجها، وهو مجمع عليه في الجملة، وإن اختلفوا في تفصيله، على ما سيأتي بيانه في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى -.

2 -

(ومنها): بيان وجوب عدّة المتوفّى عنها زوجها، وبيان مدّته، وهو أربعة أشهر وعشرة أيام، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

[فإن قيل]: حديث الباب لا يدلّ على وجوب العدّة، فمن أين يؤخذ الوجوب؟

[قلت]: يؤخذ من الأدلة الأخرى، كقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، وكنهيه صلى الله عليه وسلم عن كَحْل عين تلك المرأة مع وجود المرض، فإنه دليل وجوب الإحداد، فيكون تقدير قوله صلى الله عليه وسلم:"أربعة أشهر وعشرًا" أي: يجب عليها أن تُحدّ هذه المدّة.

3 -

(ومنها): أنه يستفاد من قوله: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} وأنها لو كانت حاملًا، فزاد حملها على هذه المدّة لم يلزمها الإحداد، وبهذا قال الجمهور، وقالت المالكيّة: عليها الإحداد إلى أن تضع؛ نظرًا إلى المعنى؛ إذ كلّ ذلك عدة من وفاة، وإنما خصّ ذلك العدد بالذكر؛ لأن الْحُيَّلَ من النساء أغلب، وهنّ الأصل، والحمل طارئ، قاله القرطبيّ

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله الجمهور هو الأرجح عندي؛ لموافقته لظاهر النصّ، فتأمل، والله تعالى أعلم.

4 -

(ومنها): جواز الإحداد للمرأة على أقاربها لمدة ثلاثة أيام، فما دونها.

5 -

(ومنها): أن الإحداد لا يجب إلا على المرأة المسلمة، لقوله صلى الله عليه وسلم:"تؤمن بالله واليوم الآخر".

(1)

"المفهم" 4/ 285.

ص: 319

6 -

(ومنها): أن قوله صلى الله عليه وسلم: "لا" في جواب "أفنكحُلها؟ "، وقوله: في حديث أم عطية رضي الله عنها المذكور بعده: "لا تكتحل" دليل على تحريم الاكتحال على الحادّة، سواء احتاجت إليه أم لا، وجاء في الحديث الآخر في "الموطإ" وغيره في حديث أم سلمة رضي الله عنها:"اجعليه بالليل، وامسحيه بالنهار".

ووجه الجمع بين الأحاديث أنها إذا لم تحتج إليه لا يحلّ لها، وإن احتاجت لم يجز بالنهار، ويجوز بالليل، مع أن الأولى تركه، فإن فعلته مسحته بالنهار، فحديث الإذن فيه؛ لبيان أنه بالليل للحاجة غير حرام، وحديث النهي محمول على عدم الحاجة، وحديث التي اشتكت عينها، فنهاها محمول على أنه نهي تنزيه، وتأوّله بعضهم على أنه لم يتحقق الخوف على عينها.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن تأويل بعضهم بعد تحقّق الخوف أقرب، والله تعالى أعلم.

وقد اختَلَف العلماء في اكتحال المحدّة، فقال سالم بن عبد الله، وسليمان بن يسار، ومالك في رواية عنه: يجوز إذا خافت على عينها بكحل لا طيب فيه، وجوّزه بعضهم عند الحاجة، وإن كان فيه طيب، قال النوويّ رحمه الله: ومذهبنا جوازه ليلًا عند الحاجة بما لا طيب فيه. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله النوويّ رحمه الله هو الأرجح عندي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في وجوب الإحداد على المرأة المتوفّى عنها زوجها:

قال النوويّ رحمه الله: يجب على كلّ معتدّة عن وفاة، سواءٌ المدخول بها، وغيرها، والصغيرة، والكبيرة، والبكر، والثيِّب، والحرّة، والأمة، والمسلمة، والكافرة، هذا مذهب الشافعيّ، والجمهور.

وقال أبو حنيفة وغيره من الكوفيين، وأبو ثور، وبعض المالكية: لا يجب على الزوجة الكتابية، بل يختص بالمسلمة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 114.

ص: 320

بالله واليوم الآخر"، فخصَّه بالمؤمنة، ودليل الجمهور أن المؤمن هو الذي يستثمر خطاب الشارع، وينتفع به، وينقاد له، فلهذا قُيِّد به.

قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر أن ما ذهب إليه الحنفيّة، ومن معهم من أن الوجوب خاصّ بالمسلمة هو الأقرب؛ لظاهر النصّ، فليُتأمّل، والله تعالى أعلم.

قال: وقال أبو حنيفة أيضًا: لا إحداد على الصغيرة، ولا على الزوجة الأمة.

وأجمعوا على أنه لا إحداد على أم الولد، ولا على الأمة إذا تُوُفّي عنهما سيدهما، ولا على الزوجة الرجعية.

واختلفوا في المطلقة ثلاثًا، فقال عطاء، وربيعة، ومالك، والليث، والشافعيّ، وابن المنذر: لا إحداد عليها، وقال الحكم، وأبو حنيفة، والكوفيون، وأبو ثور، وأبو عبيد: عليها الإحداد، وهو قول ضعيف للشافعيّ.

قال الجامع عفا الله عنه: ما ذهب إليه الأولون من أن وجوب الإحداد خاصّ بالمتوفّى عنها زوجها، ولا إحداد على المطلقة البائن هو الأرجح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله، واليوم الآخر تُحدّ على ميت، إلا على زوج

" الحديث، فخصّ الإحداد بالميت، بعد تحريمه في غيره، فتأمله بإنصاف، والله تعالى أعلم.

قال: وحَكَى القاضي قولًا عن الحسن البصريّ؛ أنه لا يجب الإحداد على المطلقة، ولا على المتوفَّى عنها، وهذا شاذّ غريب.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى بطلان هذا القول، فتأمله، والله تعالى أعلم.

قال القاضي عياض رحمه الله: واستفيد وجوب الإحداد في المتوفّى عنها من اتفاق العلماء على حمل الحديث على ذلك، مع أنه ليس في لفظه ما يدل على الوجوب، ولكن اتفقوا على حمله على الوجوب مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر، حديثِ أم سلمة، وحديثِ أم عطية في الكُحل، والطيب، واللباس، ومنعها منه، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 112.

ص: 321

[تنبيه]: قال العلماء: والحكمة في وجوب الإحداد في عدّة الوفاة دون الطلاق؛ لأن الزينة، والطيب، يدعوان إلى النكاح، ويوقعان فيه، فنُهيت عنه؛ ليكون الامتناع من ذلك زاجرًا عن النكاح؛ لكون الزوج ميتًا، لا يَمنع معتدته من النكاح، ولا يراعيه ناكحها، ولا يخاف منه، بخلاف المطلق الحيّ، فإنه يُستغنَى بوجوده عن زأجر آخر، ولهذه العلة وجبت العدّة على كل متوفًى عنها، وإن لم تكن مدخولًا بها، بخلاف الطلاق، فاستُظهر للميت بوجوب العدّة، وجُعلت أربعة أشهر وعشرًا؛ لأن الأربعة فيها ينفخ الروح في الولد إن كان، والعشر احتياطًا، وفي هذه المدة يتحرك الولد في البطن، قالوا: ولم يوكل ذلك إلى أمانة النساء، ويجعل بالإقراء كالطلاق؛ لما ذكرناه من الاحتياط للميت، وَلَمّا كانت الصغيرة من الزوجات نادرةً أُلحقت بالغالب في حكم وجوب العدّة، والإحداد

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في عدّة المتوفّى عنها زوجها: قال العلّامة ابن قُدامة رحمه الله: أجمع أهل العلم على أن عدّة الحرّة المسلمة، غير ذات الحمل من وفاة زوجها أربعة أشهر وعشرٌ، مدخولًا بها، أو غير مدخول بها، وسواء كانت كبيرة، أو صغيرةً، لم تبلغ، وذلك لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة

" الحديث المذكور في الباب.

[فإن قيل]: ألا حملتم الآية على المدخول بها، كما قلتم في قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]؟

[قلنا]: إنما خصّصنا هذه بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]، ولم يَرِد تخصيص عدّة الوفاة، ولا أمكن قياسها على المطلقة في التخصيص لوجهين:

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 113.

ص: 322

[أحدهما]: أن النكاح عقدُ عُمُرٍ، فإذا مات انتهى، والشيء إذا انتهى تقرّرت أحكامه، كتقرّر أحكام الصيام بدخول الليل، وأحكام الإجارة بانقضائها، والعدّة من أحكامه.

[الثاني]: أن المطلّقة إذا أتت بولد يُمكن الزوج تكذيبها، ونفيه باللعان، وهذا ممتنعٌ في حقّ الميت، فلا يؤمَن أن تأتي بولد، فيلحق الميت نسبه، وما له من ينفيه، فاحتطنا بإيجاب العدّة عليها؛ لحفظها عن التصرّف، والمبيت في غير منزلها؛ حفظًا لها.

إذا ثبت هذا، فإنه لا يُعتبر وجود الحيض في عدّة الوفاة في قول عامّة أهل العلم.

وحكي عن مالك أنها إذا كانت حاملًا، مدخولًا بها وجبت أربعة أشهر وعشرٌ فيها حيضة، واتباع الكتاب والسنّة أولى؛ ولأنه لو اعتبر الحيض في حقّها لاعتُبر ثلاثة قروء، كالمطلّقة.

وهذا الخلاف يختصّ بذوات القرء، وأما الآيسة، والصغيرة، فلا خلاف فيهما.

وأما الأمة المتوفّى عنها زوجها، فعدّتها شهران وخمسة أيام، في قول عامّة أهل العلم، منهم سعيد بن المسيّب، وعطاء، وسليمان بن يسار، والزهريّ، وقتادة، ومالكٌ، والثوريّ، والشافعيّ، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وغيرهم، إلا ابن سيرين، فإنه قال: ما أرى عدّة الأمة إلا كعدّة الحرّة؛ إلا أن تكون قد مضت في ذلك سنة، فإن السنّة أحقّ أن تُتّبع، وأخَذَ بظاهر النصّ وعمومه. واحتجّ الأولون باتفاق الصحابة رضي الله عنهم على أن عدّة الأمة المطلّقة على النصف من عدّة الحرّة، فكذلك عدة الوفاة. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما قاله ابن سيرين رحمه الله تعالى في مسألة عدة الأمة هو الحقّ؛ لظاهر الآية، وعدم دليل يخصّصها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"المغني" 11/ 224.

ص: 323

(المسألة السادسة): في بيان الحكمة في كون عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرًا:

قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: إنما خصّ الله تعالى عدّة الوفاة بأربعة أشهر وعشر؛ لأن غالب الحمل يَبِين تحرّكه في تلك المدّة؛ لأن النطفة تبقى في الرحم أربعين، ثم تصير علقةً أربعين، ثم مضغة أربعين، فتلك أربعة أشهر، ثم يُنفخ فيه الروح بعد ذلك، فتظهر حركته في العشر الزائد على الأربعة الأشهر، وهذا ما جاء من حديث عبد الله بن مسعود رحمه الله.

وأنّث عشرًا؛ لأنه أراد به مدّة العشر. قاله المبرّد. وقيل: لأنه أراد الأيام بلياليها، وإلى هذا ذهب كافّة العلماء، فقالوا: عشرة أيام بعد الأربعة الأشهر. وقال الأوزاعيّ: إنما أنّث العشر؛ لأنه أراد الليالي، فعلى قول الجمهور: تحلّ باليوم العاشر بآخره، وعلى قول الأوزاعيّ تحلّ بانقضاء الليلة العاشرة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وقال ابن قدامة رحمه الله: والعشر المعتبرة في العدّة هي عشر ليال بأيامها، فتجب عشرة أيام مع الليالي، وبهذا قال مالكٌ، والشافعيّ، وأبو عبيد، وابن المنذر، وأصحاب الرأي.

وقال الأوزاعيّ: يجب عشر ليال وتسعة أيام؛ لأن العشر تستعمل في الليالي، دون الأيام، وإنما دخلت الأيام اللاتي في أثناء الليالي تبعًا.

وأجيب بأن العرب تغلّب اسم التأنيث في العدد خاصّة على المذكّر، فتُطلق لفظ الليالي، وتريد الليالي بأيامها، كما قال الله تعالى:{آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم: 10]، يريد بأيامها، بدليل أنه قال في موضع آخر:{آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران: 41]، يريد بلياليها. انتهى بتصرّف يسير

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي ما قاله الأولون هو الأرجح؛ لوضوح حجته، فتأمل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"المفهم" 4/ 285.

(2)

"المغني" 11/ 224 - 225.

ص: 324

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3725]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ، قَالَ: سَمِعْتُ زينَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: تُوُفِّيَ حَمِيمٌ لِأُمِّ حَبِيبَةَ، فَدَعَتْ بِصُفْرَةٍ، فَمَسَحَتْهُ بِذِرَاعَيْهَا، وَقَالَتْ: إِنَّمَا أَصْنَعُ هَذَا؛ لِأَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ، تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ أَنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا". وَحَدَّثَتْهُ

(1)

زينَبُ عَنْ أُمِّهَا، وَعَنْ زينَبَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ عَن امْرَأَةٍ مِنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

وكلّهم ذُكروا في السند الماضي، وقبل باب، وكذا شرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الحديث الماضي.

وقوله: (تُوُفِّيَ حَمِيمٌ لِأُمِّ حَبِيبَةَ) أي: قريب لها.

[تنبيه]: قال الحافظ أبو عليّ الجيّانيّ رحمه الله عند قوله: "تُوُفّي حميم لأم حبيبة" هكذا رواه أبو أحمد الْجُلُوديّ وغيره، ووقع في نسخة ابن الحذّاء:"تُوُفّي حميم لأم سلمة"، جَعل أم سلمة بدل أم حبيبة، ورواية أبي أحمد على الصواب، قال أبو عليّ: حدّثنا حكم بن محمد، قال: نا أبو بكر بن إسماعيل، قال: نا أبو بشر الدُّولابيّ، قال: نا أحمد الْمِصّيصيّ، قال: نا حجّاج بن محمد، قال: نا شعبة، عن حميد بن نافع، عن زينب بنت أبي سلمة، قالت: تُوفّي حميم لأم حبيبة، فَدَعت بصُفْرة، وذكر الحديث إلى آخره.

وفي حديث مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن حُميد بن نافع، عن زينب بنت أبي سلمة؛ أنها أخبرته هذه الأحاديث الثلاثة، قال: قالت زينب: دخلت على أم حبيبة، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم حين تُوُفّي أبوها أبو سفيان، قالت: ثم دخلتُ على زينب بنت جحش، ثم قالت: سمِعتُ أمي أم سلمة تقول: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

الحديث. انتهى كلام الجيّانيّ رحمه الله

(2)

.

وقوله: (وَحَدَّثَتْهُ زينَبُ) وفي بعض النسخ: "وحدّثتنيه زينب".

(1)

وفي نسخة: "وحدّثتنيه".

(2)

"تقييد المهمل" 3/ 856 - 857.

ص: 325

وقوله: (أَوْ عَن امْرَأَةٍ مِنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)"أو" هنا للشكّ من الراوي، هل قالت:"وعن زينب"، فصرّحت باسمها، أو قالت: عن امرأة من بعض أزوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأبهمتها.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل الى المؤلّف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3726]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدثنَا مُحَمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ، قَالَ: سَمِعْتُ زينَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ، تُحَدِّثُ عَنْ أُمِّهَا؛ أَنَّ امْرَأَةٌ تُوُفِّيَ زَوْجُهَا، فَخَافُوا عَلَى عَيْنِهَا، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَأَذَنُوهُ فِي الْكُحْل، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ كَانَتْ اِحْدَاكُنَّ تَكُونُ فِي شَرِّ بَيْتِهَا، فِي أَحْلَاسِهَا، أَوْ فِي شَرِّ أَحْلَاسِهَا فِي بَيْتِهَا حَوْلًا، فَإِذَا مَرَّ كلْبٌ، رَمَتْ بِبَعْرَةٍ، فَخَرَجَتْ، أفَلَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وهم المذكورون قبله.

وقوله: (أَن امْرَأَةً تُوُفِّيَ زَوْجُهَا) تقدّم أن المرأة لا يُعرف اسمها، وزوجها هو المغيرة المخزوميّ.

وقوله: (فِي الْكُحْلِ) يَحْتَمل أن يكون بفتح الكاف مصدر "كَحَل"، من باب نصر، ويَحْتَمِل أن يكون بضمها، وهو - كما في "القاموس،

(1)

-: الإثْمُد، وكلُّ ما وُضع في العين يُستشفى به، فعلى هذا يكون الكلام على حذف مضاف؛ أي: في استعمال الكُحل، والله تعالى أعلم.

وقوله: (فِي أَحْلَاسِهَا) بفتح الهمزة، وإسكان الحاء المهملة: جمع حِلْس، بكسر، فسكون، والمراد شرّ ثيابها، كما قال في الرواية الأخرى، وهو مأخوذ من حِلْس البعير وغيره، من الدوابّ، وهو كالْمِسْح، يُجعل على ظهره

(2)

.

(1)

"القاموس المحيط" 4/ 43.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 116.

ص: 326

وقوله: (بِبَعْرَةٍ) بسكون العين المهملة، وفتحها.

وقوله: (أَفَلَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) أي: أفلا تمكث أربعة أشهر وعشرًا.

والحديث مُتّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3727]

(

) - (وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثنَا أَبِي، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ، بِالْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا: حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ فِي الْكُحْل، وَحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَأُخْرَى مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ تُسَمِّهَا زَيْنَبَ، نَحْوَ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) الْعَنْبريّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان الْعَنبريّ، أبو المثنّى البصريّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية معاذ بن معاذ، عن شعبة هذه لم أر من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3728]

(1488/ 1486) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، قَالَا: حَدَّثنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ؛ أنَّهُ سَمِعَ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ، تُحَدِّثُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَأُمِّ حَبِيبَةَ، تَذْكُرَان أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَتْ لَهُ أَنَّ بِنْتًا لَهَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، فَاشْتَكَتْ عَيْنُهَا، فَهِيَ تُرِيدُ أَنْ تَكْحُلَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُن تَرْمِي بِالْبَعْرَة، عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْل، وَإِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ").

ص: 327

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

وكلهم تقدّموا في الباب، والباب الماضي.

وقولها: (فَاشْتَكَتْ عَيْنُهَا) تقدّم أنه يجوز رفع "عينُها" على الفاعليّة، ونصبه على المفعوليّة، والفاعل ضمير البنت.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، ومسائله، في شرح حديث أول الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3729]

(1486) - (وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، وَاللَّفْظُ لِعَمْرٍو، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَتْ: لَمَّا أَتَى أُمَّ حَبِيبَةَ نَعِيُّ أَبِي سُفْيَانَ، دَعَتْ فِي الْيَوْمِ الثالِثِ بِصُفْرَةٍ، فَمَسَحَتْ بِهِ ذِرَاعَيْهَا، وَعَارِضَيْهَا، وَقَالَتْ: كُنْتُ عَنْ هَذَا غَنِيَّةً، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ أَنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ، فَإنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) الإمام المشهور، تقّدم أيضًا قريبًا.

3 -

(أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى) بن عمرو بن سعيد بن العاص الأمويّ، أبو موسى المكيّ، ثقةٌ [6](ت 132)(ع) تقدم في "الحيض" 11/ 750.

والباقون ذُكروا قبله.

وقولها: (نَعِيُّ أَبِي سُفْيَانَ) بفتح النون، وكسر العين، وتشديد الياء، أو بفتح النون، وسكون العين، وتخفيف الياء؛ أي: خبر موته.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في حديث أول الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 328

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3730]

(1490) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ رُمْحٍ، عَن اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ نَافِعٍ؛ أَن صَفِيَّةَ بِنْتَ أَبِي عُبَيْدٍ، حَدَّثَتْهُ عَنْ حَفْصَةَ، أَوْ عَنْ عَائِشَةَ، أَوْ عَنْ كِلْتَيْهِمَا؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر، أَوْ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ؛ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاَثةِ أَيَّامٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجِهَا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(صَفِيَّةُ بِنْتُ أَبِي عُبَيْد) بن مسعود الثقفيّة، زوج ابن عمر، وهي أخت المختار بن أبي عبيد، قيل: لها إدراك، وأنكره الدارقطنيّ، وقال العجليّ: ثقةٌ، فهي من الطبقة [2].

رأت عمر بن الخطاب، وروت عن حفصة، وعائشة، وأم سلمة، أمهات المؤمنين، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق.

وروى عنها سالم بن عبد الله بن عمر، ونافع مولى ابن عباس، وعبد الله بن دينار، وعبد الله بن صفوان بن أمية، وحميد بن قيس الأعرج، وموسى بن عقبة.

قال العجليّ: مدنيّةٌ تابعيةٌ ثقةٌ، وذكرها ابن حبان في "الثقات"، وذكرها ابن عبد البرّ في الصحابة، وقال ابن منده: أدركت النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يصح لها منه سماع، وقال الدارقطنيّ: لم تُدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذكر الواقديّ عن موسى بن ضمرة بن سعيد المازنيّ، عن أبيه؛ أنها تزوجت عبد الله بن عمر في خلافة أبيه عمر رضي الله عنه.

أخرج لها البخاريّ في التعاليق، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، ولها في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1490)، و (2230):"من أتى عرّافًا، فسأله عن شيء، لم تُقبل له صلاة أربعين ليلةً".

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب، وشرحه يُعلم مما سبق.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، أخرجه هنا [9/ 3730 و 3731 و 3732 و 3733](1490)، و (النسائيّ) في "الطلاق"(6/ 189)، و (ابن ماجه)

ص: 329

فيه (2086)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 286)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3731]

(

) - (وَحَدَّثَنَاه شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيز، يَعْنِي ابْنَ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ نَافِعٍ، بِإِسْنَادِ حَدِيثِ اللَّيْث، مِثْلَ رِوَايَتِهِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الأُبُلّيّ، صدوق يَهِمُ، ورُمي بالقدر، من صغار [9](ت 5 أو 236) وله بضع و (90) سنةَ (م دس) تقدم في "الإيمان" 112/ 57.

2 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ) الْقَسْمَليّ، أبو يزيد المروزيّ، ثم البصريّ، ثقةٌ عابدٌ ربما وَهِمَ [7](ت 167)(خ م د ت س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 2/ 1183.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ) العَدَويّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ [4](ت 127)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.

ونافع ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية عبد الله بن دينار، عن نافع هذه ساقها إسحاق ابن راهويه رحمه الله في "مسنده" 2/ 466 فقال:

(1039)

أخبرنا صالح بن قُدامة الْجُمَحيّ، نا ابن دينار، وهو عبد الله، عن نافع، عن صفية، عن عائشة، أو حفصة، أو كلتيهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله، وباليوم الآخر؛ أن تحدّ على ميت فوق ثلاث، إلا على زوجها". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3732]

(

) - (وَحَدَّثَنَاه أبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِي، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّاب، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ نَافِعًا، يُحَدِّثُ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ؛ أَنَّهَا سَمِعَتْ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ، زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تُحَدِّثُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ اللَّيْث، وَابْنِ دِينَارٍ، وَزَادَ: (فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا").

ص: 330

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ) مالك بن عبد الواحد البصريّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م د) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله، و"عبد الوهّاب " هو: ابن عبد المجيد الثقفيّ، و"يحيى بن سعيد" هو: الأنصاريّ.

[تنبيه]: رواية يحيى بن سعيد، عن نافع هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"

(1)

7/ 438 فقال:

(15298)

- وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ؛ أنا أبو العباس محمد بن يعقوب، نا محمد بن إسحاق الصغانيّ، نا معلى بن منصور الرازيّ، نا عبد الوهاب الثقفيّ

قال: وأخبرني عبد الله بن أحمد النسويّ، نا الحسن بن سفيان، نا محمد بن المثنّى، نا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد، قال: سمعت نافعًا يحدث عن صفية بنت أبي عبيد؛ أنها سمعت حفصة بنت عمر رضي الله عنهما تحدث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاثة أيام، إلا على زوج، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا".

انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3733]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيع، حَدَّثنَا حَمَّاد، عَنْ أَيُّوبَ (ح) وَحَدَّثنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ الله، جَمِيعًا عَنْ نَافِعٍ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَى حَدِيثِهِمْ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(أَبُو الرَّبِيعِ) سليمان بن داود، تقدّم قريبًا.

2 -

(حَمَّادُ) بن زيد، تقدّم أيضًا قريبًا.

(1)

وأخرجه أيضًا النسائيّ في "الكبرى"(3/ 384) رقم (5696)، إلا أن لفظ البيهقيّ موافق لسياق المصنّف، ولذا آثره، فتنبّه.

ص: 331

3 -

(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة السَّخْتِيانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

6 -

(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر الْعُمريّ المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) هي أم سلمة، كما يأتي في التنبيه.

وقوله: (بِمَعْنَى حَدِيثِهِمْ) أي: حديث الليث بن سعد، وعبد الله بن دينار، ويحيى بن سعيد، كلهم عن نافع، عن صفيّة بنت أبي عبيد.

[تنبيه]: رواية أيوب عن نافع، ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى" 3/ 385 فقال:

(5697)

- أخبرنا عبد الله بن الصباح بن عبد الله العطار البصريّ، قال: حدّثنا محمد بن سواء، قال: أنبأنا سعيد، عن أيوب، عن نافع، عن صفية بنت أبي عبيد، عن بعض أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي أم سلمة؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، وتؤمن بالله ورسوله، تحدّ على ميت أكثر من ثلاثة أيام، إلا على زوج، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا".

انتهى.

وأما رواية عبيد الله، عن نافع، فلم أجد من ساقها بتمامها، فيُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3734]

(1491) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرُونَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَن الزُّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجِهَا").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

وكلهم ذُكروا في الباب، وقبل بابين، وشرح الحديث واضح يُعلم مما سبق.

ص: 332

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 3734](1491)، و (النسائيّ) في "الطلاق"(3552 و 3553) و"الكبرى"(5719 و 5720)، و (ابن ماجه) في "الطلاق"(2085)، و (مالك) في "الموطّإ"(1271)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 37 و 249 و 281)، و (الدارميّ) في "سننه"(2283)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 198)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3735]

(938) - (وَحَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ الرَّبِيع، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ؛ أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا، إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلَا تَكْتَحِلُ، وَلَا تَمَسُّ طيبًا، إِلَّا إِذَا طَهُرَتْ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ، أَوْ أَظْفَارٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ) الْبَجليّ، أبو عليّ الْبُورانيّ الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 20 أو 221)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

2 -

(ابْنُ إِدْرِيسَ) هو: عبد الله الأوديّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(هِشَامُ) بن حسّان الأزديّ القُردوسيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ [6](ت 7 أو 148)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

4 -

(حَفْصَةُ) بنت سيرين الأنصاريّة، أم الْهُذيل البصريّة، ثقةٌ [3] ماتت بعد المائة (ع) تقدمت في "صلاة العيدين" 2/ 2055.

5 -

(أُمُّ عَطِيَّةَ) نُسيبة بنت كعب، أو بنت الحارث الأنصاريّة الصحابيّة المشهورة، كانت من فاضلات الصحابيّات، تُمَرِّض الْمَرْضَى، وتُداوي الْجَرْحَى، وتغسل الموتى، سكنت البصرة، تقدّمت في "صلاة العيدين" 2/ 2054.

ص: 333

شرح الحديث:

(عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ) الأنصاريّة رضي الله عنها (أَن رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَحِدُّ) تقدّم أنه بضم أوله، أو فتحها، من الإحداد رباعيًّا، أو الحدّ ثلاثيًّا.

قال في "العمدة": قوله: "تُحدّ" بضم النون، وكسر الحاء المهملة، من الإحداد، وهو الامتناع من الزينة، قال الجوهريّ: أَحَدّت المرأة؛ أي: امتنعت من الزينة، والخضاب، بعد وفاة زوجها، وكذلك حَدَّتْ تُحِدُّ بالضمّ، وتَحِدّ بالكسر حِدَادًا، وهي حادٌّ، ولم يَعرف الأصمعيَ إلا أحدت، فهي مُحِدّة، كذا في "المحكم"، وأصل هذه المادة المنع، ومنه قيل للبوّاب: حدَّادٌ؛ لأنه يمنع الدخول والخروج، وأغرب بعضهم، فحكاه بالجيم، نحوُ جَدَدْتُ الشيءَ: إذا قطعته، فكأنها قد انقطعت عن الزينة، عما كانت عليه قبل ذلك. انتهى

(1)

.

(امْرَأَةٌ عَلَى مَيْتٍ) تقدّم أنه يجوز تخفيف يائه، وتشديدها (فَوْقَ ثَلَاثٍ) ذكّره باعتبار ليالي (إِلَّا عَلَى زَوْجٍ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) أي: تحدّ عليه هذه المدّة، ولفظ النسائيّ:"فَإِنَّهَا تَحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا"(وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا، إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ) - بفتح العين، وسكون الصاد المهملتين - قال في "المحكم": هو ضَرْب من برود اليمن، يُعصب غَزْله؛ أي: يُجمَع، ثم يُصبغ، ثم يُنسج.

وقال ابن الأثير: العَصْب برودٌ يمنيّةٌ، يُعصب غزلها؛ أي: يُجمع، ويُشدّ، ثم يُصبغ، وينسج، فيأتي مَوْشِيًّا؛ لبقاء ما عُصب منه أبيض لم يأخذه صِبْغ، يقال: بُرْدٌ عَصْبٌ، وبُرُودُ عَصْبٍ، بالتنوين والإضافة.

وقيل: هي برودٌ مخطّطةٌ، والعًصب: الفَتْلُ، والعَصّاب الْغَزَّال، فيكون النهي للمعتدّة عما صُبغ بعد النسج. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": قوله: "إلا ثوب عَصْبٍ - بمهملتين، مفتوحة، ثم ساكنة، ثم موحّدة - وهو بالإضافة، وهي برود اليمن، يُعصب غزلها؛ أي: يُربط، ثم يُصبغ، ثم ينسج معصوبًا، فيخرج موشى؛ لبقاء ما عُصِب به أبيض لم ينصبغ، وإنما يُعصب السُّدَى، دون اللُّحْمَة.

(1)

"عمدة القاري" 3/ 282.

(2)

"النهاية" 3/ 245.

ص: 334

وقال صاحب "المنتهى": العَصْب هو المفتول من برود اليمن.

وذكر أبو موسى المدينيّ في "ذيل الغريب" عن بعض أهل اليمن أنه من دابّة بحريّة، تُسمّى فرس فرعون، يُتّخذ منها الخرز وغيره، ويكون أبيض، وهذا غريب، وأغرب منه قول السهيليّ: إنه نبات لا ينبت إلا باليمن، وعزاه لأبي حنيفة الدِّينَوَريّ، وأغرب منه قول الداوديّ: المراد بالثوب العصب: الخضرة، وهي الْحِبَرَة، وليس له سلف في أن العصب الأخضر. انتهى

(1)

.

(وَلَا تَكْتَحِلُ) أي: لا تستعمل الكُحل، زاد في رواية النسائيّ:"وَلَا تَمْتَشِطُ"؛ أي: لا تسرّح شعرها بالْمُشط، يقال: مَشَطتُ الشعر مَشْطًا، من بابي قتل، وضرب: سَرَّحْتُهُ، والتثقيل مبالغة، وامتشطت المرأةُ: مشَطتْ شعرها، والْمُشط الذي يُمْشَط به بضمّ الميم، وتميم تكسرها، وهو القياس؛ لأنه آلة، والجمع أمشاط، قاله الفيّوميّ.

(وَلَا تَمَسُّ) بفتح الميم، وضمها، يقال: مَسِسْتُهُ مَسًّا، من باب تَعِبَ، وفي لغة من باب قتل: أفضيتُ إليه بيدي من غير حائل، قاله الفيّوميّ (طيبًا، إِلَّا إِذَا طَهُرَتْ) بضمّ الهاء، وفتحها، يقال: طَهُر الشيءُ، من بابي قَتَلَ، وقَرُبَ طَهَارة، والاسم الطُّهْرُ، وهو النقاء من الدنس، والنجس، وهو طاهرُ الْعِرْض، أي بريءٌ من العيب، ومنه قيل للحالة المناقضة للحيض: طُهْرٌ، والجمع أطهارٌ، مثلُ قُفْل وأقفالٍ، وامرأة طاهرة من الأدناس، وطاهر من الحيض بغير هاء، وقد طَهُرَت من الحيض، من باب قَتَلَ، وفي لغة قليلة من باب قَرُبَ، وتطهّرت: اغتسلت، قاله الفيّوميّ

(2)

.

وقوله: (نُبْذَةً) - بضم، فسكون -؛ أي: قطعة، جمعه "نُبَذٌ" - بضمّ أوله، وفتح ثالثه - قال القاضي عياض: النُّبْذَة: الشيء اليسير، وأدخل فيه الهاء؛ لأنه بمعنى القطعة.

(مِنْ قُسْطٍ، أَوْ أَظْفَارٍ") قال النوويّ رحمه الله: القُسْط - بضم القاف، ويقال فيه: كُسْت، بكاف مضمومة، بدل القاف، وبتاء بدل الطاء -، وهو والأظفار نوعان معروفان من البخور، وليسا من مقصود الطيب، رُخِّص فيه للمغتسِلة من

(1)

"الفتح" 12/ 239.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 379.

ص: 335

الحيض؛ لإزالة الرائحة الكريهة، تتبع به أثر الدم، لا للتطيب. انتهى

(1)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: الْقُسْط: ضرب من الطيب، وقيل: هو العود، والقسط عَقّارٌ معروفٌ في الأدوية طيّب الريح، تبخّر به النساء والأطفال، وهو أشبه بالحديث؛ لإضافته إلى الأظفار، قال: و"الأظفار": جنس من الطيب، لا واحد له من لفظه، وقيل: واحده ظفر، وقيل: هو شيء من العطر أسود، والقطعة منه شَبيهةٌ بالظفر. انتهى

(2)

.

وقال الحافظ رحمه الله: المقصود من التطيّب بهما أن يُخلطا في أجزاء أُخَر من غيرهما، ثم تُسحَق، فتصير طيبًا، والمقصود بهما هنا أن تتبع بهما أثر الدم؛ لإزالة الرائحة، لا للتطيّب.

وزعم الداوديّ أن المراد أنها تسحق القسط، وتُلقيه في الماء آخر غسلها؛ لتذهب رائحة الحيض.

وردّه عياضٌ رحمه الله بأن ظاهر الحديث يأباه، وأنه لا يحصل منه رائحة طيّبة، إلا من التبخّر به. كذا قال، وفيه نظر. انتهى

(3)

.

وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: وإنما رُخّص لها في هذا؛ لقطع الروائح الكريهة، والتنظيف، لا على معنى التطيّب، مع أن القسط والأظفار ليس من مؤنّث الطيب المستعمل نفسه في ذلك، وظاهره أنها تتبخّر بذلك.

وقال الداوديّ: تَسْحَقُ القُسْطَ والأظفارَ، وتُلقيه في الماء آخر غسلها، والأول أظهر؛ لأن القسط والأظفار لا يحصل منهما شيء إلا من بَخُورهما، ويقال: قُسْط - بالقاف، والكاف - وأكثر ما يُستعمل الْقُسط، والأظفار مع غيرهما فيما يُتبخّر به، لا بمجرّدهما. انتهى.

ووقع في كتاب البخاريّ: "قسط أظفار"، وهو خطأ، إذ لا يضاف أحدهما للآخر؛ لأنهما لا نسبة بينهما.

وعند بعضهم: "قسط ظفار" وهذا له وجهٌ، فإن ظَفَارِ مدينة باليمن، نُسب إليها الْقُسْط، وما في مسلم أحسن، قال: وعلى هذا فينبغي أن لا يُصرف

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 119.

(2)

"النهاية" 3/ 157.

(3)

"الفتح" 12/ 240.

ص: 336

للتعريف والتأنيث، ويكون كـ"حَذَامِ"، و"قَطَام"، أو يكون مبنيًّا على الكسر، على القول الثاني في "حذام"، و"قطام". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أمّ عطيّة رضي الله عنه متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [9/ 3735 و 3736 و 3737](938)

(2)

، و (البخاريّ) في "الحيض"(313) و"الطلاق"(5342 و 5343)، و (أبو داود) في "الطلاق"(2302)، و (النسائيّ) في "الطلاق"(6/ 202 و 203) و"الكبرى"(3/ 395)، و (ابن ماجه) في "الطلاق"(2087)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 280 و 281)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 85 و 6/ 408)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 167 و 168)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4305)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 198)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(766)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(25/ 139 و 141)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 439)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2390)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(ومنها): وجوب الإحداد على الزوج المتوفّى.

2 -

(ومنها): بيان أن مدة الإحداد أربعة أشهر وعشر.

3 -

(ومنها): بيان ما تجتنبه الحادّة من الثياب الْمُصَبَّغَة.

4 -

(ومنها): جواز لبس الثوب المعصوب؛ أي: الذي رُبِط غزله، ثم صُبغ، ونُسج.

5 -

(ومنها): عدم جواز الاكتحال والامتشاط للحادّة.

6 -

(ومنها): عدم استعمال الطيب، إلا شيئًا يسيرًا من القسط عند طهارتها من المحيض.

(1)

"الفتح" 4/ 289 - 290.

(2)

ترقيم محمد فؤاد مكرّر.

ص: 337

7 -

(ومنها): أنه يؤخذ من مفهومه جواز لبس ما ليس بمصبوغ، من الثياب البيض، ونحوها.

8 -

(ومنها): أنه يدلّ على جواز استعمال ما فيه منفعة لها، من جنس ما مُنِعت منه، إذا لم يكن للتزيّن، أو التطيّب، كالتدهّن بالزيت في شعر الرأس، أو غيره، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم فيما تجتنبه الحادّة من اللباس:

قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: أجمع العلماء على أنه لا يجوز للحادّة لبس الثياب المعصفرة، ولا المصبّغة، إلا ما صُبغ بسواد، فرخّص في المصبوغ بالسواد عروة بن الزبير، ومالكٌ، والشافعيّ، وكرهه الزهريّ، وكره عروة العَصْب، وأجازه الزهريّ، وأجاز مالك غليظه، قال النوويّ: والأصحّ عند أصحابنا تحريمه مطلقًا، وهذا الحديث حجة لمن أجازه.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: معلوم لدى كلّ منصف أن من كان الحديث حجته، حجّ خصمه، فمن أيّده الحديث من الإنسان، لا يستطيع أن يقاومه ألف شجعان.

قال ابن المنذر: رخّص العلماء في الثياب البيض، ومنع بعض متأخري المالكيّة جيّد البيض الذي يتزيّن به، وكذلك جيّد السواد، وجوّز الشافعيّة كل ما صُبغ، ولا تقصد منه الزينة، ويجوز لها لبس الحرير في الأصحّ، ويحرم حليّ الذهب والفضّة، وكذلك اللؤلؤ، وفي اللؤلؤ وجه أنه يجوز، قاله النوويّ.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تحريم أنواع الحليّ عليها هو الصواب، لِمَا أخرجه أحمد في "مسنده"، وأبو داود في "سننه"، بإسناد صحيح: من طريق الحسن بن مسلم، عن صفية بنت شيبة، عن أم سلمة، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:"المتوفى عنها زوجها، لا تلبس المعصفر من الثياب، ولا الْمُمَشَّقَة، ولا الْحُلِيّ، ولا تختضب، ولا تكتحل".

والحاصل أنها تمتنع من أنواع الطيب، إلا قطعة من القسط عند اغتسالها من محيضها، ولا تلبس الثياب المصبوغة، إلا المعصوب، فيجوز لها لبسه، ولا المعصفر، ولا تلبس الممشَّقة؛ أي: المصبوغة بالْمِشْق، وهو الْمَغَرة، ولا

ص: 338

تستعمل الخضاب بالحناء وغيره، ولا الاكتحال، ولا تلبس أنواع الحليّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3736]

(

) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَقَالَا:"عِنْدَ أَدْنَى طُهْرِهَا نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ، وَأَظْفَارٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

كلهم ذُكروا في الباب.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ) يعني عبد الله بن نُمير، ويزيد بن هارون، رويا عن هشام بن حسّان.

[تنبيه]: رواية عبد الله بن نمير، عن هشام، ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:

(2087)

- حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا عبد الله بن نُمير، عن هشام بن حسان، عن حفصة، عن أم عطية، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحد على ميت، فوق ثلاث، إلا امرأة تحد على زوجها أربعة أشهر وعشرًا، ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا، إلا ثوب عصب، ولا تكتحل، ولا تَطَيَّب إلا عند أدنى طهرها، بنبذة من قُسْط، أو أظفار". انتهى.

ورواية يزيد بن هارون، عن هشام، ساقها ابن حبان في "صحيحه" 10/ 142 فقال:

(4305)

- أخبرنا عمر بن محمد الْهَمْدانيّ، قال: حدّثنا يعقوب بن إبراهيم الدَّوْرَقيّ، قال: حدّثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا هشام، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر؛ أن تحد على ميت، فوق ثلاث، إلا على زوج، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا، لا تكتحل، ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا، إلا ثوب عَصْب، ولا تمس طيبًا إلا عند أدنى طهرها، إذا اغتسلت من محيضها، نُبْذةَ قُسْطٍ، وأظفار". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 339

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3737]

(

) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: كُنَّا نُنْهَى أَنْ نُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْج أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا نَكْتَحِلُ، وَلَا نَتَطَيَّبُ، وَلَا نَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا، وَقَدْ رُخصَ لِلْمَرْأَةِ فِي طُهْرِهَا، إِذَا اغْتَسَلَتْ إِحْدَانَا مِنْ مَحِيضِهَا، فِي نُبْذَةٍ مِنْ قُسْطٍ، وَأَظْفَارٍ" (1).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهُم ذُكروا في الباب، و"أبو الربيع" هو: سليمان بن داود، و"حمّاد" هو: ابن زيد، و"أيوب" هو: السختيانيّ.

وقولها: (كُنَّا نُنْهَى إلخ) بالبناء للمفعول، وهذا مما له حكم الرفع، كما أشار إليه في "ألفيّة الحديث" حيث قال:

وَلْيُعْطَ حُكْمَ الرَّفْعٍ فِي الصَّوَابِ

نَحْوُ "مِنَ السُّنَّةَ" مِنْ صَحَابِي

كَذَا "أُمِرْنَا" وَكَذا "كُنَّا نَرَى

فِي عَهْدِهِ" أَوْ عَنْ إِضَافَةٍ عَرَى

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

* * *

ص: 340

‌19 - (كِتَابُ اللِّعَانِ)

مسألتان تتعلّقان بهذه الترجمة:

(المسألة الأولى): في تعريف اللعان لغة، وشرعًا، وأصل اشتقاقه:

(اعلم): أن "اللعان" - بكسر اللام - مصدر لاعن، كالملاعنة، كما قال ابن مالك رحمه الله في "لاميّته":

لِفَاعَلَ اجْعَلْ فِعَالًا أَوْ مُفَاعَلَةً

وِفِعْلَةٌ عَنْهُمَا قَدْ نَابَ فَاحْتُمِلَا

قال الفيّوميّ رحمه الله: لاعن الرجل زوجته: قذفها بالفجور. وقال ابن دريد: كلمة إسلاميّة في لغة فصيحة. انتهى.

وقال في "الفتح": هو مأخوذ من اللعن؛ لأن الملاعن يقول: "لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين".

واختير لفظ اللعن، دون الغضب في التسمية؛ لأنه قول الرجل، وهو الذي بُدئ به في الآية، وهو أيضًا يُبدأ به، وله أن يرجع عنه، فيسقط عن المرأة بغير عكس.

وقيل: سُمّي لعانًا؛ لأن اللعن الطردُ والإبعاد، وهو مشتركٌ بينهما، وإنما خُصّت المرأة بلفظ الغضب؛ لعظم الذنب بالنسبة إليها؛ لأن الرجل إذا كان كاذبًا لم يصل ذنبه إلى أكثر من القذف، وإن كانت هي كاذبةً، فذنبها أعظم؛ لما فيه من تلويث الفراش، والتعرّض لإلحاق من ليس من الزوج به، فتنتشر المحرميّة، وتَثْبُتُ الولاية، والميراث لمن لا يستحقّهما.

واللعان، والالتعان، والملاعنة بمعنًى. ويقال: تلاعنا، والتعنا، ولاعن الحاكم بينهما، والرجل ملاعن، والمرأة ملاعنةٌ؛ لوقوعه غالبًا من الجانبين.

وأجمعوا على مشروعيّة اللعان، وعلى أنه لا يجوز مع عدم التحقّق،

ص: 341

واختُلف في وجوبه على الزوج، لكن لو تحقّق أن الولد ليس منه قَوِيَ الوجوب. انتهى

(1)

.

وقال البدر العينيّ رحمه الله: ويقال: تلاعنا، والتعنا، ولاعن الحاكم بينهما، والرجل ملاعِنٌ، والمرأة ملاعنة، وسمّي به؛ لما فيه من لَعْن نفسه في الخامسة، وهي من تسمية الكلّ باسم البعض، كالصلاة تُسمّى ركوعًا وسُجودًا.

ومعناه الشرعيّ: شهادات مؤكّدات بالأيمان مقرونة باللعن.

وقال الشافعيّ: هي أيمان مؤكّدات بلفظ الشهادة، فيُشترط أهليّة اليمين عنده، فيجري بين المسلم وامرأته الكافرة، وبين الكافر والكافرة، وبين العبد وامرأته، وبه قال مالكٌ، وأحمد. وعندنا - يعني الحنفيّة - يُشترط أهليّة الشهادة، فلا يَجري إلا بين المسلمين الحرّين العاقلين البالغين، غير محدودين في قذف.

قال: وجُوّز اللعان؛ لحفظ الأنساب، ودفع المعَرَّة عن الأزواج، وأجمع العلماء على صحّته. انتهى المقصود منه

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الثانية): في اختلاف أهل العلم في سبب نزول آية اللعان:

قال في "الفتح": وقد اختلف الأئمة في هذا الموضع: فمنهم من رجّح أنها نزلت في شأن عويمر، ومنهم من رجّح أنها نزلت في شأن هلال، ومنهم من جمع بينهما بأن أوّل من وقع له ذلك هلال، وصادف مجيء عويمر أيضًا، فنزلت في شأنهما معًا في وقت واحد، وقد جنح النوويّ إلى هذا، وسبقه الخطيب، فقال: لعلّهما اتفق كونهما جاءآ في وقت واحد، ويؤيّد التعدّد أن القائل في قصّة هلال: سعد بن عبادة، كما أخرجه أبو داود، والطبريّ من طريق عبّاد بن منصور، عن عكرمة، عن ابن عبّاس مثل رواية هشام بن حسّان بزيادة في أوله: "لَمّا نزلت {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6]، قال سعد بن عبادة: لو رأيت لكاعًا قد تفخّذها رجل، لم يكن لي أن أُهيجه حتى آتي أربعة شهداء، ما كنت لآتي بهم حتى يَفرُغ من حاجته، قال: فما لبثوا إلا يسيرًا حتى جاء هلال بن أميّة

" الحديث.

(1)

"الفتح" 12/ 156.

(2)

"عمدة القاري" 15/ 329 - 330.

ص: 342

وعند الطبريّ من طريق أيوب، عن عكرمة، مرسلًا فيه نحوه، وزاد: "فلم يلبثوا أن جاء ابن عمّ له، فرمى امرأته

" الحديث.

والقائل في قصّة عويمر: عاصم بن عديّ، كما في حديث سهل بن سعد في هذا الباب. وأخرج الطبريّ من طريق الشعبيّ مرسلًا، قال: "لما نزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الآية، قال عاصم بن عديّ: إن أنا رأيت، فتكلّمت، جُلِدتُ، وإن سكتّ سكتّ على غيظ

" الحديث، ولا مانع أن تتعدّد القصص، ويتّحد النزول.

وروى البزّار من طريق زيد بن يُثيع، عن حذيفة رضي الله عنه، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: لو رأيت مع أم رُومان رجلًا ما كنت فاعلًا به؟ قال: كنت فاعلًا به شرًّا، قال: فأنت يا عمر؟ قال: أقول: لعن الله الأبعد، قال:

فنزلت".

ويحتمل أن النزول سبق بسبب هلال، فلما جاء عويمر، ولم يكن علم بما وقع لهلال أعلمه النبيّ صلى الله عليه وسلم بالحكم، ولهذا قال في قصّة هلال:"فنزل جبريل"، وفي قصّة عويمر:"قد أنزل الله فيك"، فيؤوّل قوله:"قد أنزل الله فيك"؛ أي: وفيمن كان مثلك، وبهذا أجاب ابن الصبّاغ في "الشامل"، قال: نزلت الآية في هلال، وأما قوله لعويمر:"قد نزل فيك وفي صاحبتك"، فمعناه ما نزل في قصّة هلال.

ويؤيّده أن في حديث أنس عند أبي يعلى قال: "أول لعان كان في الإسلام أن شريك بن سَحْماء قذفه هلال بن أميّة بامرأته

" الحديث.

وجنح القرطبيّ إلى تجويز نزول الآية مرّتين، قال: وهذه الاحتمالات، وإن بعُدت أولى من تغليط الرواة الحفّاظ.

وقد أنكر جماعة ذِكْرَ هلال فيمن لاعن، قال القرطبيّ: أنكره أبو عبد الله بن أبي صفرة، أخو المهلّب، وقال: هو خطأ، والصحيح أنه عويمر، وسبقه إلى نحو ذلك الطبريّ.

وقال ابن العربيّ: قال الناس: هو وَهَمٌ من هشام بن حسّان، وعليه دار حديث ابن عبّاس، وأنس بذلك.

وقال عياضٌ في "المشارق": كذا جاء من رواية هشام بن حسّان، ولم

ص: 343

يقله غيره، وإنما القصّة لعويمر العجلانيّ، قال: ولكن وقع في "المدوّنة" في حديث العجلانيّ ذِكْرُ شريك. وقال النوويّ في "مبهماته": اختلفوا في الملاعن على ثلاثة أقوال: عويمر العجلانيّ، وهلال بن أُميّة، وعاصم بن عديّ، ثم نقل عن الواحديّ أن أظهر هذه الأقوال أنه عويمر.

قال الحافظ: وكلام الجميع مُتعقَّبٌ، أما قول ابن أبي صفرة، فدعوى مجرّدة، وكيف يجزم بخطأ حديث ثابت في "الصحيحين" مع إمكان الجمع؛ وما نسبه إلى الطبريّ لم أره في كلامه.

وأما قول ابن العربيّ: إن ذِكْرَ هلال دار على هشام بن حسّان، وكذا جزم عياض بأنه لم يقله غيره، فمردود؛ لأن هشام بن حسّان لم ينفرد به، فقد رواه عبّاد بن منصور، كما قدّمته، وكذا جزم جرير بن حازم، عن أيوب، أخرجه الطبريّ، وابن مردويه، موصولًا، قال:"لَمّا قذف هلال بن أميّة امرأته".

وأما قول النوويّ تبعًا للواحديّ، وجنوحه إلى الترجيح فمرجوح؛ لأن الجمع مع إمكانه أولى من الترجيح، ثم قوله:"وقيل: عاصم بن عديّ" فيه نظر؛ لأنه ليس لعاصم فيه قصّة أنه الذي لاعن امرأته، وإنما الذي وقع من عاصم نظير الذي وقع من سعد بن عبادة.

ولمّا روى ابن عبد البرّ في "التمهيد" طريق جرير بن حازم تعقّبه بأن قال: قد رواه القاسم بن محمد، عن ابن عبّاس كما رواه الناس، وهذا يوهم أن القاسم سمّى الملاعن عويمرًا، والذي في "الصحيح":"فأتاه رجلٌ من قومه"؛ أي: من قوم عاصم، وللنسائيّ من هذا الوجه:"لاعن بين العجلانيّ وامرأته"، والعجلانيّ هو عمير. انتهى كلام الحافظ رحمه الله في "تفسير سورة النور"

(1)

.

وقال في "كتاب الطلاق" بعد الإشارة إلى ما تقدّم: وظهر لي الآن احتمال أن يكون عاصم سال قبل النزول، ثم جاء هلال بعده، فنزلت عند سؤاله، فجاء عويمرٌ في المرّة الثانية التي قال فيها:"إن الذي سألتك عنه، قد ابتليت به"، فَوَجَدَ الآيةَ نزلت في شان هلال، فأعلمه صلى الله عليه وسلم بأنها نزلت فيه، يعني

(1)

"الفتح" 10/ 382 - 384.

ص: 344

أنها نزلت في كلّ من وقع له ذلك؛ لأن ذلك لا يختصّ بهلال، وكذا يجاب على سياق حديث ابن مسعود رضي الله عنه: يَحْتَمِل أنه لما شَرَع يدعو بعد توجّه العجلانيّ جاء هلال، فذكر قصّته، فنزلت، فجاء عويمرٌ، فقال: قد نزل فيك، وفي صاحبتك. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الجمع الذي سلكه الحافظ رحمه الله جمع حسن جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3738]

(1492) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ؛ أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ أَخْبَرَهُ؛ أَنَّ عُويمِرًا الْعَجْلَانِيَّ، جَاءَ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ الْأنصَارِيّ، فَقَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَ يَا عَاصِمُ لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا، أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ، أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَسَلْ لِي عَنْ ذَلِكَ يَا عَاصِمُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَ عَاصِمٌ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسَائِلَ، وَعَابَهَا، حَتَّى كَبُرَ عَلَى عَاصِمٍ مَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إِلَى أَهْلِه، جَاءَهُ عُويمِرٌ، فَقَالَ: يَا عَاصِمُ مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ عَاصِمٌ لِعُويمِرٍ: لَمْ تَأْتِنِي بِخَيْرٍ، قَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسْأَلَةَ الَّتِي سَأَلَتُهُ عَنْهَا، قَالَ عُوَيْمِرٌ: وَاللهِ لَا أَنْتَهِي، حَتَّى أَسْأَلَهُ عَنْهَا، فَأَقْبَلَ عُويمِرٌ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَسَطَ النَّاس، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ، فَتَقْتُلُونَهُ؟ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ نَزَلَ فِيكَ، وَفِي صَاحِبَتِكَ، فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا"، قَالَ سَهْلٌ: فَتَلَاعَنَا وَأَنَا مَعَ النَّاس، عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا فَرَغَا، قَالَ عُويمِرٌ؛ كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا، قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَتْ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم في الباب الماضي.

(1)

"الفتح" 12/ 174 - 175.

ص: 345

2 -

(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.

3 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ الإمام المشهور، تقدّم قبل بابين.

4 -

(سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ) هو: سهل بن سعد بن مالك بن خالد الأنصاريّ الخزرجيّ الساعديّ، أبو العبّاس المدنيّ، الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنها، مات سنة (88) أو بعدها، وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.

لطائف هذا الامشاد:

1 -

(منها): أنه من رُباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (238) من رباعيّات الكتاب.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، كما أسلفته آنفًا.

4 -

(ومنها): أن صحابيّه ابن صحابيّ، وهو من المعمّرين، وآخر من مات بالمدينة على بعض الأقوال، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) في رواية الشافعيّ، عن مالك:"حدّثني ابن شهاب"(أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ) رضي الله عنهما (السَّاعِدِيَّ) منسوب إلى ساعدة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة، قاله في "اللباب"

(1)

. (أَخْبَرَهُ) أي: ابنَ شهاب (أَنَّ عُويمِرًا الْعَجْلَانِيَّ) في رواية القعنبيّ، عن مالك:"عويمر بن أشقر"، وكذا أخرجه أبو داود، وأبو عوانة، من طريق عياض بن عبد الله الْفِهْريّ، عن الزهريّ، ووقع في "الاستيعاب": عويمر بن أبيض، وعند الخطيب في "المبهمات": عويمر بن الحارث، وهذا هو المعتمد، فإن الطبري نسبه في "تهذيب الآثار"، فقال: هو عويمر بن الحارث بن زيد بن الجدّ بن عَجْلان، فلعل أباه كان يلقب أشقر، أو أبيض، وفي الصحابة ابن أشقر آخر،

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 422.

ص: 346

وهو مازنيّ، أخرج له ابن ماجه، واتفقت الروايات عن ابن شهاب على أنه في مسند سهل، إلا ما أخرجه النسائيّ، من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة، وإبراهيم بن سعد، كلاهما عن الزهريّ، فقال فيه: عن سهل، عن عاصم بن عديّ، قال: كان عويمر رجلًا من بني العجلان، فقال - أي: عاصم - فذكر الحديث، والمحفوظ الأول، وسيأتي عن سهل أنه حضر القصة.

وفي رواية سفيان بن عيينة، عن الزهريّ، قال: قال سهل بن سعد: شَهِدت المتلاعنين، وأنا ابن خمس عشرة سنةً.

ووقع في نسخة أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهريّ، عن سهل بن سعد، قال: تُوُفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا ابن خمس عشرة سنة، فهذا يدلّ على أن قصة اللعان، كانت في السنة الأخيرة، من زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم، لكن جزم الطبريّ، وأبو حاتم، وابن حبان بأن اللعان كان في شعبان سنة تسع، وجزم به غير واحد من المتأخرين.

ووقع في حديث عبد الله بن جعفر عند الدارقطني أن قصة اللعان كانت بمنصرف النبيّ صلى الله عليه وسلم من تبوك، وهو قريب من قول الطبريّ، ومن وافقه، لكن في إسناده الواقديّ، فلا بد من تأويل أحد القولين، فإن أمكن، وإلا فطريق شعيب أصحّ.

ومما يوهن رواية الواقديّ ما اتفق عليه أهل السير أن التوجه إلى تبوك كان في رجب، وما ثبت في "الصحيحين" أن هلال بن أمية أحد الثلاثة الذين تِيب عليهم، وفي قصته أن امرأته استأذنت له النبيّ صلى الله عليه وسلم أن تخدمه، فأَذِن لها بشرط أن لا يَقْرَبها، فقالت: إنه لا حِرَاك به، وفيه أن ذلك كان بعد أن مضى لهم أربعون يومًا، فكيف تقع قصة اللعان في الشهر الذي انصرفوا فيه من تبوك، ويقع لهلال مع كونه فيما ذُكر من الشغل بنفسه، وهجران الناس له، وغير ذلك؟

وقد ثبت في حديث ابن عباس أن آية اللعان نزلت في حقّه، وكذا عند مسلم من حديث أنس أنه أول من لاعن في الإسلام.

ووقع في رواية عباد بن منصور، في حديث ابن عباس، عند أبي داود، وأحمد: "حتى جاء هلال بن أمية، وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، فوجد

ص: 347

عند أهله رجلًا

" الحديث، فهذا يدلّ على أن قصة اللعان تأخرت عن قصة تبوك، والذي يظهر أن القصة كانت متأخرةً، ولعلها كانت في شعبان سنة عشر، لا تسع، وكانت الوفاة النبوية في شهر ربيع الأول، سنة إحدى عشرة باتفاق، فيلتئم حينئذ مع حديث سهل بن سعد.

ووقع عند مسلم، من حديث ابن مسعود:"كنا ليلة جمعة في المسجد، إذ جاء رجل من الأنصار"، فذكر القصة في اللعان باختصار، فعيَّن اليوم، لكن لم يعيِّن الشهر، ولا السنة. انتهى

(1)

.

(جَاءَ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ الأنصَارِيِّ) أي: ابن الجدّ بن العجلان العجلانيّ، وهو ابن عمّ والد عويمر، وفي رواية الأوزاعيّ، عن الزهريّ:"وكان عاصم سيد بني عجلان"، والْجَدّ - بفتح الجيم، وتشديد الدال - والعجلان - بفتح المهملة، وسكون الجيم - هو ابن حارثة بن ضُبيعة، من بني بَلِيّ بن عمرو بن الحاف بن قُضاعة، وكان العجلان حالف بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، من الأنصار، في الجاهلية، وسكن المدينة، فدخلوا في الأنصار.

وقد ذكر ابن الكلبيّ أن امرأة عويمر، هي بنت عاصم المذكور، وأن اسمها خولة.

وقال ابن منده في "كتاب الصحابة": خولة بنت عاصم التي قذفها زوجها، فلاعن النبيّ صلى الله عليه وسلم بينهما، لها ذِكْر، ولا تُعرف لها رواية، وتبعه أبو نعيم، ولم يذكرا سلفهما في ذلك، وكأنه ابن الكلبيّ، وذكر مقاتل بن سليمان، فيما حكاه القرطبيّ أنها خولة بنت قيس.

وذكر ابن مردويه أنها بنت أخي عاصم، فأخرج من طريق الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى؛ أن عاصم بن عديّ، لما نزلت:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] قال: يا رسول الله أين لأحدنا أربعة شهداء؟ فابتُلي به في بنت أخيه، وفي سنده مع إرساله ضعف.

وأخرج ابن أبي حاتم في "التفسير" عن مقاتل بن حيّان، قال: "لما سأل

(1)

"الفتح" 12/ 169 - 170.

ص: 348

عاصم عن ذلك، ابتُلي به في أهل بيته، فأتاه ابن عمه تحته ابنة عمه، رماها بابن عمة المرأة، والزوج، والحليل، ثلاثتهم بنو عم عاصم"، وعن ابن مردويه في مرسل ابن أبي ليلى المذكور؛ أن الرجل الذي رَمَى عويمر امرأته به هو شَريك بن سَحْماء، وهو يشهد لصحة هذه الرواية؛ لأنه ابن عم عويمر، وكذا في مرسل مقاتل بن حيّان عند أبي حاتم، فقال الزوج لعاصم: يا ابن عم أُقسم بالله، لقد رأيت شَريك بن سَحْماء على بطنها، وإنها لحبلى، وما قربتها منذ أربعة أشهر.

وفي حديث عبد الله بن جعفر، عند الدارقطنيّ لاعن بين عويمر العجلانيّ، وامرأته، فأنكر حملها الذي في بطنها، وقال: هو لابن سَحْماء، ولا يمتنع أن يُتَّهَم شريك بن سحماء بالمرأتين معًا.

وأما قول ابن الصباغ في "الشامل" أن المزني ذكر في "المختصر" أن العجلانيّ قذف زوجته بشريك بن سحماء، وهو سهو في النقل، وإنما القاذف بشريك: هلال بن أمية، فكأنه لم يعرف مستند المزنيّ في ذلك، وإذا جاء الخبر من طُرُق متعددة، فإن بعضها يَعْضد بعضًا، والجمع ممكن، فيتعيّن المضير إليه، فهو أولى من التغليط، ذكره في "الفتح"

(1)

.

(فَقَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَ) أي: أخبرني عن حكم رجل (يَا عَاصِمُ لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا) كذا اقتصر على قوله: "مع"، فاستعمل الكناية، فإن مراده معية خاصّة، ومراده أن يكون وجده عند الرؤية (أَيَقْتُلُهُ) الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الاستخبار

(2)

. (فَتَقْتُلُونَهُ) أي: قصاصًا؛ لتقدم علمه بحكم القصاص؛ لعموم قوله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]، لكنه يطرقه احتمالُ أن يُخَصّ من ذلك ما يقع بالسبب الذي لا يقدر على الصبر عليه غالِبًا، من الغيرة التي في طبع البشر، ولأجل هذا قال:"أم كيف يفعل؟ ".

وقد ثبت في "الصحيحين" استشكال سعد بن عبادة مثل ذلك، وقوله:"لو رأيته لضربته بالسيف غير مُصفح"، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم لهلال بن أميّة:"أربعة شهداء، وإلا فحدّ في ظهرك"، وذلك كلّه قبل أن ينزل اللعان.

(1)

"الفتح" 12/ 170 - 171.

(2)

"عمدة القاري" 17/ 328.

ص: 349

وقد اختلف العلماء فيمن وجد مع امرأته رجلًا، فقتله، هل يُقتل به، أم لا؟ وسيأتي بيان ذلك في المسألة السابعة - إن شاء الله تعالى -.

(أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟) يَحْتَمِل أن تكون "أم" متّصلة، والتقدير: أم يصبر على ما به من المضض؟ ويَحْتَمِل أن تكون منقطعة بمعنى الإضراب؛ أي: بل هناك حكم آخر لا يعرفه، ويريد أن يطّلع عليه، فلذلك قال:"سَلْ لي يا عاصم"، وإنما خصّ عاصمًا بذلك لما تقدّم من أنه كان كبير قومه، وصهره على ابنته، أو ابن أخيه، ولعله كان اطّلع على مخايل ما سأل عنه، لكن لم يتحقّقه، فلذلك لم يُفصح به، أو اطّلع حقيقة، لكن خَشِي إذا صرّح به من العقوبة التي تضمّنها من رمي المحصنة بغير بينة، أشار إلى ذلك ابن العربيّ. قال: ويَحْتَمِل أن يكون لم يقع له شيء من ذلك، لكن اتَّفَق أنه وقع في نفسه إرادة الاطّلاع على الحكم، فابتُلي به، كما يُقال: البلاء موكّلٌ بالمنطق، ومن ثمّ قال: إن الذي سألتك عنه قد ابتُليت به.

وسيأتي في حديث ابن عمر رضي الله عنهما الآتي بعد هذا في قصّة العجلانيّ: "فقال: أرأيت إن وجد رجلٌ مع امرأته رجلًا، فإن تكفم به تكلّم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك؟ ".

وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عنده أيضًا: "إن تكلّم جلدتموه، أو قتل قتلتموه، وإن سكت سكت على غيظ"، وهذه أتمّ الروايات في هذا المعنى.

(فَسَلْ) أصله "اسأل"، فنُقلت حركة الهمزة إلى السين، بعد حذفها للتخفيف، واستُغني عن همزة الوصل، فحُذفت، فصار "سَلْ"، على وزن "فَلْ"(لِي عَنْ ذَلِكَ يَا عَاصمُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَ عَاصِمٌ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسَائِلَ، وَعَابَهَا، حَتَّى كَبُرَ عَلَى عَاصِمٍ مَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)"كَبُرَ" بفتح الكاف، وضمّ الموحّدة؛ أي: عظُم، وزنًا ومعنًى، وسببه أن الحامل لعاصم على السؤال غيره، فاختصّ هو بالإنكار عليه، ولهذا قال لعويمر لَمّا رجع، فاستفهمه عن الجواب: لم تأتني بخير.

وسبب كراهته صلى الله عليه وسلم السؤال ما قاله الشافعيّ رحمه الله: كانت المسائل فيما لم يَنزل فيه حكم زمن نزول الوحي ممنوعةً؛ لئلا ينزل الوحي بالتحريم فيما لم يكن قبل ذلك مُحَرَّمًا، فيحرم، ويشهد له الحديث المخرَّج في "الصحيح":

ص: 350

"أعظم الناس جُرْمًا من سأل عن شيء لم يُحَرَّم، فحُرِّم من أجل مسألته".

وقال النوويّ رحمه الله: المراد كراهة المسائل التي لا يُحتاج إليها، لا سيما ما كان فيه هَتْك ستر مسلم، أو إشاعة فاحشة، أو شناعة عليه، وليس المراد المسائل المحتاج إليها إذا وقعت، فقد كان المسلمون يسألون عن النوازل، فيجيبهم صلى الله عليه وسلم بغير كراهة، فلما كان في سؤال عاصم شناعة، ويترتب عليه تسليط اليهود والمنافقين على أعراض المسلمين، كره مسألته، وربما كان في المسألة تضييق، وكان صلى الله عليه وسلم يحب التيسير على أمته، وشواهد ذلك في الأحاديث كثيرة، وفي حديث جابر:"ما نزلت آية اللعان إلا لكثرة السؤال"، أخرجه الخطيب في "المبهمات"، من طريق مُجالد، عن عامر، عنه

(1)

.

(فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إِلَى أَهْلِه، جَاءَهُ عُويمِرٌ، فَقَالَ: يَا عَاصِمُ مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ عَاصِمٌ لِعُويمِرٍ: لَمْ تَأْتِنِي بِخَيْرٍ) وقوله: (قَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسْأَلَةَ الَّتي سَأَلْتُهُ عَنْهَا) جملة تعليليّة لكونه لمَ يأته بخير (قَالَ عُويمِرٌ: وَاللهِ لَا أَنْتَهِي) أي: لا أرجع عن السؤال، ولا أتركه، ولو نُهيت عنه، زاد ابن أبي ذئب في روايته عن ابن شهاب، في هذا الحديث كما عند البخاريّ في "الاعتصام":"فأنزل الله القرآن خلف عاصم"؛ أي: بعد أن رجع من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية ابن جريج:"فانزل الله في شأنه ما ذُكر في القرآن من أمر الملاعنة"، وفي رواية إبراهيم بن سعد:"فأتاه، فوجده قد أنزل الله عليه".

(حَتَّى أَسْأَلَهُ) صلى الله عليه وسلم (عَنْهَا) أي: عن هذه المسألة (فَأَقْبَلَ عُويمِرٌ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بالنصب على المفعوليّة (وَسَطَ النَّاسِ) بفتح السين، وبسكونها، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال المجد رحمه الله: وَسَطُ الشيء مُحَرَّكةً: ما بين طرفيه، كأوسطه، فإذا سُكّنت كانت ظرفًا، أو هما فيما هو مُصْمَتٌ، كالْحَلْقة، فإذا كانت أجزاؤه متباينةً فبالإسكان فقط، أو كلُّ موضع صَلَحَ فيه "بين" فهو بالتسكين، وإلا فبالتحريك. انتهى

(3)

.

(1)

"الفتح" 12/ 173.

(2)

"الفتح" 12/ 173 - 174.

(3)

"القاموس المحيط" 2/ 391.

ص: 351

[فائدة مهمّة]: كتب المحقّق المرتضى رحمه الله في "شرح القاموس" بحثًا نفيسًا في ضبط "الوَسْطِ"، أحببت إيراده، وإن كان طويلًا؛ لنفاسته، قال رحمه الله:

وللشيخ أبي محمد بن بَرّيّ رحمه الله هنا كلام مفيدٌ لا يُستَغْنَى عن إيراده كلِّه؛ لحسنه، قال: اعلم أن الوسط بالتحريك اسم لِمَا بين طرفي الشيء، وهو منه، كقولك: قبضت وَسَطَ الحبل، وكسرت وَسَط الرمح، وجلست وَسَط الدار، ومنه المثل:"يَرْتَقِي وَسَطًا، وَيَرْبِضُ حَجْرَةً"؛ أي: يَرتعي أوسط المرعى، وخياره، ما دام القوم في خير، فإذا أصابهم شرٌّ اعتزلهم، ورَبَضَ حَجْرَة أي: ناحيةً منعزلًا عنهم، وجاء الوَسَط محركًا أوسطه على وزان نقيضه في المعنى، وهو الطَّرَف؛ لأن نقيض الشيء يتنزل منزلة نظيره في كثير من الأوزان، نحو جَوْعَان، وشَبْعَان، وطَوِيل، وقَصِير، قال: ومما جاء على وزان نظيره قولهم: الَحَرْدُ؛ لأنه على وزان القَصْد، والْحَرَدُ؛ لأنه على وزان نظيره، وهو الغَضَب، يقال: حَرَدَ يَحْرِدُ حَرْدًا، كما يقال: قَصَدَ يَقْصِدُ قَصْدًا، ويقال: حَرِدَ يَحْرَد حَرَدًا، كما يقال: غَضِبَ يَغْضَبُ غَضَبًا، وقالوا: الْعَجْم؛ لأنه على وزان الْعَضِّ، وقالوا: الْعَجَم، لِحَبِّ الزبيب وغيره؛ لأنه وزان النَّوَى، وقالوا: الْخِصْبُ، والْجَدْبُ؛ لأن وزانهما الْعِلم، والْجَهْل؛ لأن العلم يُحْيِي الناس، كما يحييهم الْخِصْب، والجهل يُهْلِكهم كما يهلكهم الْجَدْب، وقالوا: الْمَنْسِرُ؛ لأنه على وزان الْمَنْكِب، وقالوا: الْمِنْسَرُ؛ لأنه على وزان الْمِخْلَب، وقالوا: أدليت الدلو: إذا أرسلتها في البئر، ودَلَوتها: إذا جَذَبتها، فجاء أدلى على مثال أرسل، ودَلا على مثال جَذَبَ، قال: فبهذا تعلم صحة قول من فَرّق بين الضَّرِّ، والضُّرّ، ولم يجعلهما بمعنًى، فقال: الضَّرّ بإزاء النَّفْع الذي هو نقيضه، والضُّرّ بإزاء السُّقْم الذي هو نظيره في المعنى، وقالوا: فَاد يَفِيد جاء على وزان مَاسَ يَمِيس: إذا تبختر، وقالوا: فَاد يَفُود، على وزان نظيره، وهو مات يموت، والنَّفَاقُ في السوق، جاء على وزن الْكَسَاد، والنِّفَاق في الرجل، جاء على وزان الْخِدَاع، قال: وهذا النحو في كلامهم كثيرٌ جدًّا.

قال: واعلم أن الوَسَطَ قد يأتي صفةً، وإن كان أصله أن يكون اسْمًا من جهة أن أوسط الشيء أفضله، وخياره، كوَسطُ المرعى خيرٌ من طرفيه، وكوسطُ

ص: 352

الدابة للركوب خير من طرفيها؛ لتمكّن الراكب، ومنه الحديث:"خيار الأمور أوساطها"

(1)

، وقول الراجز:

إِذَا رَكِبْتُ فَاجْعَلَانِي وَسَطَا

وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]؛ أي: عَدْلًا، فهذا تفسير الوَسَط، وحقيقة معناه، وأنه اسم لما بين طرفي الشيء، وهو منه.

قال ابن بَرّيّ: وأما الوَسْط بسكون السين، فهو ظرفٌ، لا اسمٌ جاء على وزان نظيره في المعنى، وهو "بَيْنَ"، تقول: جلست وَسْطَ القوم؛ أي: بينهم، ومنه قول أبي الأخزر الْحِمّانيّ [من الرجز]:

سَلُّومُ لَوْ أَصْبَحْتِ وَسْطَ الأَعْجَمِ

أي: بين الأعجم، وقال آخر [من الرجز]:

أَكْذَبُ مِنْ فَاخِتَةٍ

تَقُولُ وَسْطَ الْكَرَبِ

وَالطَّلْعُ لَمْ يَبْدُ لَهَا

هَذَا أَوَانُ الرُّطَبِ

وقال سَوّار بن الْمُضَرِّب [من البسيط]:

إنِّي كَأَنِّي أَرَى مَنْ لَا حَيَاءَ لَهَ

وَلَا أَمَانَةَ وَسْطَ النَّاسِ عُرْيَانَا

وفي الحديث: "حتى أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وسط الناس"

(2)

أي: بينهم.

ولما كانت "بَيْنَ" ظرفًا كانت "وَسْطَ" ظرفًا، ولهذا جاءت ساكنة الأوسط؛ لتكون على وزانها، ولما كانت "بَيْن" لا تكون بعضًا لما يضاف إليها، بخلاف الوَسَط الذي هو بعضُ ما يضاف إليه، كذلك وَسْطُ لا تكون بعضُ ما تضاف إليه، ألا ترى أن وَسَط الدار منها، ووسْط القوم غيرهم؟ ومن ذلك قولهم: وَسَطُ رأسه صُلْبٌ؛ لأن وَسَط الرأس بعضُها، وتقول: وَسْطَ رأسه دُهْنٌ، فتنصب وَسْطَ على الظرف، وليس هو بعض الرأس، فقد حصل لك الفرق بينهما من جهة المعنى، ومن جهة اللفظ.

أما من جهة المعنى، فإنها تلزم الظرفية، وليست باسم متمكن يصحّ رفعه، ونصبه، على أن يكون فاعلًا، ومفعولًا، وغير ذلك، بخلاف الْوَسَطِ.

(1)

حديث ضعيف.

(2)

هذا من الحديث الذي نشرحه الآن.

ص: 353

وأما من جهة اللفظ، فإنه لا يكون من الشيء الذي يضاف إليه، بخلاف الْوَسَط أيضًا.

فإن قلت: قد ينتصب الْوَسَط على الظرف، كما ينتصب الْوَسْطُ، كقولهم: جلست وَسَطَ الدار، وهو يَرتعي وَسَطًا، ومنه ما جاء في الحديث؛ أنه كان يَقِف في الجنازة على المرأة وَسَطها.

فالجواب: أن نصب الْوَسَط على الظرف، إنما جاء على جهة الاتساع، والخروج عن الأصل، على حدّ ما جاء الطريقَ، ونحوه، وذلك مثل قوله:

كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ

وليس نصبه على الظرف على معنى "بَيْنَ"، كما كان ذلك في "وَسْطَ"، ألا ترى أن وَسْطًا لازم للظرفية، وليس كذلك وَسَطٌ، بل اللازم له الاسمية في الأكثر والأعم، وليس انتصابه على الظرف، وإن كان قليلًا في الكلام، على حدّ انتصاب الَوَسْط في كونه بمعنى "بَيْنَ"، فافهم ذلك.

قال: واعلم أنه متى دخل على وسْط حرف الوعاء، خرج عن الظرفية، ورجعوا فيه إلى وَسَط، ويكون بمعنى وَسَط، كقولك: جلست في وَسْط القوم، وفي وَسَط رأسه دُهْنٌ، والمعنى فيه مع تحرّكه، كمعناه مع سكونه، إذا قلت: جلستُ وَسْطَ القوم، ووَسْطَ رأسه دُهن، ألا ترى أن وَسْط القوم بمعنى وَسَط القوم، إلا أن وَسْطًا يلزم الظرفية، ولا يكون إلا اسْمًا، فاستعير له إذا خرج عن الظرفية الوَسْط على جهة النيابة عنه، وهو في غير هذا مخالف لمعناه.

وقد يُستَعمل الْوَسْط الذي هو ظرف اسْمًا، ويبقى على سكونه، كما استعملوا "بَيْنَ" اسمًا على حكمها ظرفًا، في نحو قوله تعالى:{لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94]، قال الْقَتَّال الْكِلابيّ [من الكامل]:

مِنْ وَسْطِ جَمْعِ بَنِي قُرَيْظٍ بَعْدَمَا

هَتَفَتْ رَبِيعَةُ يَا بَنِي خَوَّارِ

وقال عَدِيُّ بن زيد [من الخفيف]:

وَسْطُهُ كَالْيَرَاعِ أَوْ سَرُجِ الْمَجْـ

دَلِ حِينًا يَخْبُو وَحِينًا يَنِيرُ

انتهى كلام ابن بريّ.

ص: 354

وقال ابن الأثير في تفسير حديث: "الجالسُ وَسْط الحلقة ملعون"

(1)

، ما نَصُّه: الوَسْط بالتسكين، يقال فيما كان متفرق الأجزاء، غير متصل؛ كالناس، والدوابّ، وغير ذلك، فإذا كان متصل الأجزاء؛ كالدار، والرأس، فهو بالفتح، وكلُّ ما يصلح فيه "بَيْنَ" فهو بالسكون، وما لا يصلح فيه "بَيْن"، فهو بالفتح، وقيل: كلٌّ منهما يقع موقع الآخر، قال: وكأنه الأشبه، قال: وإنما لُعِن الجالس وسط الحلقة؛ لأنه لا بدّ، وأن يستدبر بعض المحيطين به، فيؤذيهم، فيلعنونه، ويذمُّونه.

قال المرتضى رحمه الله: وقديمًا كنت أسمع شيوخنا يقولون في الفرق بينهما كلامًا شاملًا لما ذكروه، وهو: الساكن متحرِّك، والمتحرِّك ساكنٌ، وما فصّلناه مُدرَجٌ تحت هذا الكامن، وقال الصَّفَديّ في "تاريخه": أنشدني الشيخ جمال الدين يوسف بن محمد الْعُقيليّ السُّرمَرّيّ لنفسه [من الخفيف]:

فَرْقُ مَا بَيْنَهُمْ وَسَطُ الشَّيْ

ءِ وَوَسْطٌ تَحْرِيكًا أَوْ تَسْكِينَا

مَوْضِعٌ صَالِح لِبَيْنَ فَسَكِّنْ

وَلفِي حَرِّكَنْ تَرَاهُ مُبِينَا

كَجَلَسْتُ وَسْطَ الْجَمَاعَةِ إِذْ هُمْ

وَسَطُ الدَّارِ كُلُّهُمْ جَالِسِينَا

والله أعلم، وبه نستعين. انتهى ما كتبه المرضى رحمه الله في "شرح القاموس"

(2)

، وهو بحثٌ مفيد جدًّا، ولهذا نقلته بطوله، والله تعالى وليّ التوفيق.

(فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا؛ لقْتُلُهُ، فَتَقْتُلُونَهُ؟ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ نَزَلَ فِيكَ، وَفي صَاحِبَتِكَ) ولفظ البخاريّ: "قد أنزل الله فيك، وفي صاحبتك"، قال الحافظ رحمه الله: ظاهر هذا السياق أنه كان تقدّم منه إشارة إلى خصوص ما وقع له مع امرأته، فيترجّح أحد الاحتمالات التي أشار إليها ابن العربيّ.

لكن ظهر لي من بقية الطُّرُق أن في السياق اختصارًا، ويوضح ذلك ما وقع في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في قصة الْعَجلانيّ بعد قوله: "إن تكلم تكلم بأمر

(1)

حديث ضعيف، راجع:"الضعيفة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله 2/ 97.

(2)

راجع: "تاج العروس من جواهر القاموس" 5/ 239 - 240.

ص: 355

عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك":"فسكت عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما كان بعد ذلك أتاه، فقال: إن الذي سألتك عنه قد ابتُليت به"، فدَلّ على أنه لم يذكر امرأته إلا بعد أن انصرف، ثم عاد.

ووقع في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن الرجل لما قال: "وإن سكت سكت على غيظ"، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اللهم افتح"، وجعل يدعو، فنزلت آية اللعان، وهذا ظاهره أن الآية نزلت عقب السؤال، لكن يَحْتَمِل أن يتخلل بين الدعاء والنزول زمن، بحيث يذهب عاصم، ويعود عويمر، وهذا كله ظاهر جدًّا في أن القصة نزلت بسبب عويمر، ويعارضه حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن هلال بن أمية قذف امرأته بشَرِيك بن سَحْماء، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"البينةَ، أو حَدّ في ظهرك"، فقال هلال: والذي بعثك بالحقّ إنني لصادق، ولَيُنزلنّ الله فِيّ ما يبرئ ظهري من الحدّ، فنزل جبريل، فأنزل عليه:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] الحديث.

وفي رواية عباد بن منصور، عن عكرمة، عن ابن عباس في هذا الحديث، عند أبي داود:"فقال هلال: وإني لأرجو أن يجعل الله لي فرَجًا، قال: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، إذ نزل عليه الوحي".

وفي حديث أنس الآتي عند مسلم: "أن هلال بن أمية قَذَف امرأته بشَريك بن سَحْماء، وكان أخا البراء بن مالك لأمه، وكان أوّل رجل لاعن في الإسلام"، فهذا يدلّ على أن الآية نزلت بسبب هلال، وقد تقدّم في المسألة الثانية المذكورة أول "كتاب اللعان" بيان اختلاف أهل العلم في ذلك.

والأحسن في كيفية الجمع بينهما؛ أن يقال: إن هلال بن أميّة سأل أوّلًا، ثم سأل عويمرٌ، فنزلت في شأنهما معًا.

ومال الحافظ إلى ترجيح أن يكون عاصم سأل قبل النزول، ثم جاء هلال بعده، فنزلت عند سؤاله، فجاء عويمر في المرة الثانية التي قال فيها: إن الذي سألتك عنه قد ابتُليت به، فوجد الآية نزلت في شأن هلال، فأعلمه صلى الله عليه وسلم بأنها نزلت فيه، يعني أنها نزلت في كل من وقع له ذلك؛ لأن ذلك لا يختص بهلال، وكذا يجاب على سياق حديث ابن مسعود بأنه يَحْتَمِل أنه لَمَا شَرَع يدعو بعد توجه العجلانيّ جاء هلال، فذكر قصته، فنزلت، فجاء عويمر،

ص: 356

فقال: "قد نزل فيك، وفي صاحبتك"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب.

(فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا") يعني فذهَبَ فأتَى بها، واستُدِلّ به على أن اللعان يكون عند الحاكم، وبأمره، فلو تراضيا بمن يلاعن بينهما، فلاعن لم يصحّ؛ لأن في اللعان من التغليظ ما يقتضي أن يَختص به الْحُكّام، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنه:"فتلاهنّ عليه" أي: الآيات التي في سورة النور، ووعظه، وذَكَّره، وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، قال:"لا، والذي بعثك بالحقّ ما كذبت عليها، ثم دعاها، فوعظها، وذكّرها، وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، قالت: والذي بعثك بالحقّ إنه لكاذب".

(قَالَ سَهْلٌ) رضي الله عنه، وهو موصول بالسند المبدوء به (فَتَلَاعَنَا) فيه حذفٌ، تقديره: فذهب، فأَتَى بها، فسألها، فأنكرت، فأَمَر باللعان، فتلاعنا (وَأَنَا مَعَ النَّاس، عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) زاد ابن جريج: "في المسجد"، وزاد ابن إسحاق في روايته عن ابن شهاب في هذا الحديث:"بعد العصر"، أخرجه أحمد، وفي حديث عبد الله بن جعفر:"بعد العصر عند المنبر"، وسنده ضعيف.

واستدل بمجموع ذلك على أن اللعان يكون بحضرة الحكام، وبمجمع من الناس، وهو أحد أنواع التغليظ، ثانيها: الزمان، ثالثها: المكان، وهذا التغليظ مستحبّ، وقيل: واجب، قاله الحافظ رحمه الله، وقال أيضًا:

[تنبيه]: لم أر في شيء من طرُق حديث سهل صفة تلاعنهما إلا ما في رواية الأوزاعيّ، فإنه قال:"فأمرهما بالملاعنة بما سَمَّى في كتابه"، وظاهره أنهما لم يزيدا على ما في الآية، وحديث ابن عمر عند مسلم صريح في ذلك، فإن فيه: "فبدأ بالرجل، فشَهِد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم ثَنَّى بالمرأة

" الحديث.

وحديثُ ابن مسعود نحوه، لكن زاد فيه:"فذهبت لتلتعن، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: مَهْ، فأَبَتْ، فالتعنت".

وفي حديث أنس رضي الله عنه عند أبي يعلى، وأصله في مسلم: "فدعاه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: أتشهد بالله إنك لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا؟ فشهد

(1)

راجع: "الفتح" 12/ 174 - 175.

ص: 357

بذلك أربعًا، ثم قال له في الخامسة: ولعنة الله عليك إن كنت من الكاذبين، ففعل، ثم دعاها، فذكر نحوه، فلما كان في الخامسة: سكتت سكتةً، حتى ظنوا أنها ستعترف، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت على القول".

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما من طريق عاصم بن كُليب، عن أبيه، عنه، عند أبي داود، والنسائيّ، وابن أبي حاتم:"فدعا الرجل، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، فامَر به، فأُمسك على فيه، فوَعَظه، فقال: كلُّ شيء أهون عليك من لعنة الله، ثم أرسله، فقال: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وقال في المرأة نحو ذلك"، وهذه الطريق لم يُسَمَّ فيها الزوج، ولا الزوجة، بخلاف حديث أنس، فصرَّح فيه بأنها في قصة هلال بن أمية، فإن كانت القصّة واحدة، وقع الوهم في تسمية الملاعِن، كما جزم به غير واحد، فهذه زيادة من ثقة، فتُعتَمد، وإن كانت متعددة، فقد ثبت بعضها في قصة امرأة هلال. انتهى كلام الحافظ رحمه الله ببعض اختصار.

(فَلَمَّا فَرَغَا) زاد في رواية البخاريّ: "من تلاعنهما"(قَالَ عُويمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا) وفي رواية الأوزاعيّ: "إن حبستها فقد ظلمتها".

(فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأمُرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية بن إسحاق: "ظلمتها إن أمسكتها، فهي الطلاق، فهي الطلاق"، قال في "الفتح": وقد تفرد بهذه الزيادة، ولم يتابع عليها، وكأنه رواه بالمعنى؛ لاعتقاده منع جمع الطلقات الثلاث بكلمة واحدة، واستُدِلّ بقوله:"طلقها ثلاثًا" أن الفرقة بين المتلاعنين تتوقف على تطليق الرجل، كما نُقِل عن عثمان الْبَتّيّ.

وأجيب بقوله في حديث ابن عمر: فَرّق النبيّ صلى الله عليه وسلم بين المتلاعنين، فإن حديث سهل، وحديث ابن عمر في قصة واحدة، وظاهر حديث ابن عمر أن الفرقة وقعت بتفريق النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقد وقع في شرح مسلم للنوويّ رحمه الله قوله: "كذبت عليها يا رسول الله، إن أمسكتها" هو كلام مستقلّ، وقوله:"فطلقها"؛ أي: ثم عَقَّبَ قوله ذلك بطلاقها، وذلك لأنه ظن أن اللعان لا يُحرِّمها عليه، فأراد تحريمها بالطلاق،

ص: 358

فقال: هي طالق ثلاثًا، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا سبيل لك عليها"؛ أي: لا مِلك لك عليها، فلا يقع طلاقك. انتهى.

قال الحافظ: وهو يوهم أن قوله: "لا سبيل لك عليها" وقع منه صلى الله عليه وسلم عَقِب قول الملاعن: هي طالق ثلاثًا، وأنه موجود كذلك في حديث سهل بن سعد الذي شرحه، وليس كذلك، فإن قوله:"لا سبيل لك عليها" لم يقع في حديث سهل، وإنما وقع في حديث ابن عمر، عقب قوله:"الله يعلم أن أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها"، وفيه: "قال: يا رسول الله مالي

" الحديث، كذا في "الصحيحين".

وظهر من ذلك أن قوله: "لا سبيل لك عليها" إنما استَدَلَّ مَن استَدَلّ به من أصحابنا لوقوع الفرقة بنفس الطلاق، من عموم لفظه، لا من خصوص السياق، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

(قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) الزهريّ رحمه الله: (فَكَانَتْ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ) زاد أبو داود، عن القعنبيّ، عن مالك:"فكانت تلك"، وهي إشارة إلى الفُرْقة، وفي رواية ابن جريج:"فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغا من التلاعن، ففارقها عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ذلك تفريق بين كل متلاعنين"، كذا للمستملي، وللباقين:"فكان ذلك تفريقًا"، وللكشميهنيّ:"فصار"، بدل "فكان"، وأخرجه مسلم من طريق ابن جريج بلفظ: فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ذلك التفريق بين كل متلاعنين"، وهو يؤيد رواية المستملي، ومن طريق يونس، عن ابن شهاب، قال بمثل حديث مالك، قال مسلم: لكن أدرج قوله: "وكان فراقه إياها بعدُ سنّة بين المتلاعنين"، وكذا ذكر الدارقطنيّ في "غرائب مالك" اختلاف الرواة على ابن شهاب، ثم على مالك في تعيين من قال:"فكان فراقها سنّةً"، هل هو من قول سهل، أو من قول ابن شهاب؟ وذكر ذلك الشافعيّ، وأشار إلى أن نسبته إلى ابن شهاب لا تمنع نسبته إلى سمهل، ويؤيده ما وقع عند أبي داود، من طريق عياض بن عبد الله الْفِهْريّ، عن ابن شهاب، عن سهل، قال: "فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ما صنع عند

(1)

"الفتح" 12/ 176 - 177.

ص: 359

رسول الله صلى الله عليه وسلم سنّةً، قال سهل: حضرت هذا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمضت السنّة بعدُ في المتلاعنين أن يفرّق بينهما، ثم لا يجتمعان أبدًا".

فقوله: "فمضت السنّة" ظاهر في أنه من تمام قول سهل، ويَحْتَمِل أنه من قول ابن شهاب، ويؤيده أن ابن جريج أورد قول ابن شهاب في ذلك بعد ذكر حديث سهل، فقال بعدَ قوله:"ذلك تفريق بين كل متلاعنين"، قال ابن جريج: قال ابن شهاب: "كانت السنّة بعدهما أن يفرق بين المتلاعنين".

قال الحافظ رحمه الله: ثم وجدت في نسخة الصغانيّ في آخر الحديث: قال أبو عبد الله

(1)

: قوله: "ذلك تفريق بين المتلاعنين" من قول الزهريّ، وليس من الحديث. انتهى، وهو خلافُ ظاهر سياق ابن جريج، فكأن البخاريّ رأى أنه مُدْرَجٌ، فَنَبَّهَ عليه. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سهل بن سعد رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3738 و 3739 و 3740](1492)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(423) و"التفسير"(4745) و"الطلاق"(5309) و"الأحكام"(7166) و"الاعتصام"(7304)، و (أبو داود) في "الطلاق"(2247 و 2248 و 2251)، و (النسائيّ) في "الطلاق"(6/ 170 و 171)، و (ابن ماجه) في "الطلاق"(2066)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 45 و 46)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(12445 و 12446 و 12447)، و (أحمد) في "مسند"(5/ 330 و 331 و 334 و 337)، و (مالك) في "الموطإ"(1201)، و (الدارميّ) في "سننه"(2229)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(5674 و 5678 و 5679 و 5680 و 5681 و 5682 و 5684 و 5685 و 5686 و 5687 و 5688 و 5689 و 5691 و 5692)، و (ابن الجارود) في "المنتقى" (756

(1)

هو الإمام البخاريّ رحمه الله.

(2)

"الفتح" 12/ 177 رقم (5308).

ص: 360

و 4285)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 102)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 399 و 400 و 401)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2367)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده

(1)

:

1 -

(منها): بيان بدء مشروعيّة اللعان.

2 -

(ومنها): مشروعيةُ الاستعداد للوقائع قبل وقوعها؛ ليُعلم أحكامها إذا وقعت.

3 -

(ومنها): الرجوع إلى من له الأمر.

4 -

(ومنها): إجراء الأمر على الظواهر، والله تعالى يتولّى السرائر.

5 -

(ومنها): كراهة المسائل التي يترتّب عليها هتك المسلم، أو التوصّل إلى أذيّته بأيّ سبب كان، وفي كلام الشافعيّ رحمه الله إشارة إلى أن كراهة ذلك كانت خاصّة بزمنه صلى الله عليه وسلم من أجل نزول الوحي؛ لئلّا تقع المسألة عن شيء مباح، فيقع التحريم بسبب المسألة، وقد ثبت في "الصحيح":"أعظم المسلمين جُرْمًا من سأل عن شيء لم يُحرّم، فحُرّم من أجل مسألته". وقد استمرّ جماعة من السلف على كراهة السؤال عما لم يقع، لكن عمل الأكثر على خلافه، فلا يُحصى ما فرّعه الفقهاء من المسائل قبل وقوعها.

6 -

(ومنها): أن العالم يُقصد في منزله، ولا يُنتظر به حتى يُصادفه في المسجد، أو الطريق.

7 -

(ومنها): مشروعيّة اللعان؛ لقول الله عز وجل: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)} [النور].

8 -

(ومنها): أن اللعان يكون بحضرة الإمام، أو القاضي، وبمجمع من الناس.

(1)

المراد فوائد حديث اللعان عمومًا، لا خصوص السياق المشروح الآن، بل الأحاديث المتعلّقة به، فقد أخرج المصنّف في الباب حديث سهل، وحديث ابن عمر، وحديث ابن عبّاس، وحديث أنس، وحديث أبي هريرة، وحديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنهم.

ص: 361

9 -

(ومنها): تغليظ اللعان، قال النوويّ رحمه الله: يغلّظ اللعان بالزمان، والمكان، والجمع، فأما الزمان فبعد العصر، والمكان في أشرف موضع في ذلك البلد، والجمع طائفة من الناس، وأقلّهم أربعة، وهل هذه التغليظات واجبة، أم مستحبّة؟ فيه خلاف عندنا، والأصحّ الاستحباب. انتهى

(1)

.

10 -

(ومنها): أن اللعان لا يكون إلا بين الزوجين؛ لأن الله تعالى خصّه بالأزواج، حيث قال:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6].

11 -

(ومنها): سقوط الحدّ به عن الرجل.

2! - (ومنها): أن شرط مشروعيّة اللعان عدم إقامة البيّنة؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4]، فلو أقام الزوج الشهداء لا يجوز اللعان، بل يقام عليها الحدّ.

13 -

(ومنها): أن شرط وجوب اللعان إنكار المرأة وجود الزنا منها، فلو أقرّت به لا يجوز اللعان، بل يقام عليها الحدّ المذكور.

14 -

(ومنها): أن في حديث سعيد بن جبير الآتي ينبغي للعالم إذا سُئل عن واقعة، ولم يعلم حكمها، ورجا أن يجد فيها نصًّا أن لا يُبادر إلى الاجتهاد فيها.

15 -

(ومنها): الرحلة في المسألة النازلة؛ لأن سعيد بن جُبير رحل من العراق إلى مكّة من أجل مسألة الملاعنة.

16 -

(ومنها): إتيان العالم في منزله، ولو كان في قائلته، إذا عَرف الآتي أنه لا يشُقّ عليه.

17 -

(ومنها): تعظيم العالم، ومخاطبته بكنيته؛ لقول سعيد لابن عمر رضي الله عنهما: يا أبا عبد الرحمن.

18 -

(ومنها): التسبيح عند التعجّب؛ لقول ابن عمر: "نعم سبحان الله"، وفيه إشعار بسعة علم سعيد؛ لأن ابن عمر عجب من خفاء مثل هذا الحكم

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 360.

ص: 362

عليه، ويَحْتَمِل أن يكون تعجّبه لِعلمه بأن الحكم المذكور كان مشهورًا من قبلُ، فتعجّب كيف خفي على بعض الناس.

19 -

(ومنها): بيان أوّليات الأشياء، والعناية بمعرفتها؛ لقول ابن عمر رضي الله عنهما:"أوّل من سأل عن ذلك فلان"، وقول أنس رضي الله عنه:"أول لعان كان".

20 -

(ومنها): أن البلاء موكّلٌ بالمنطق، وأنه إن لم يقع بالناطق وقع بمن له به صلة.

21 -

(ومنها): أن الحاكم يَرْدَع الخصم عن التمادي على الباطل بالموعظة، والتذكير، والتحذير، ويكرّر ذلك؛ ليكون أبلغ.

22 -

(ومنها): ارتكاب أخفّ المفسدتين بترك أثقلهما؛ لأن مفسدة الصبر على خلاف ما توجبه الغيرة مع قبحه وشدّته أسهل من الإقدام على القتل الذي يؤدّي إلى الاقتصاص من القاتل، وقد نَهَج له الشارع سبيلًا إلى الراحة منها، إما بالطلاق، وإما باللعان.

23 -

(ومنها): أن الاستفهام بـ "أرأيت" كان قديمًا.

24 -

(ومنها): أن خبر الواحد يُعمل به إذا كان ثقةً.

25 -

(ومنها): أنه يسنّ للحاكم وعظ المتلاعنين عند إرادة التلاعن، ويتأكّد عند الخامسة، ونقل ابن دقيق العيد عن الفقهاء أنهم خصّوه بالمرأة عند إرادة تلفّظها بالغضب، واستشكله بما في حديث ابن عمر، لكن قد صرّح جماعة من الشافعيّة وغيرهم باستحباب وعظهما معًا، وهذا هو الحقّ.

26 -

(ومنها): أن فيه ذكر الدليل مع بيان الحكم.

27 -

(ومنها): أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسألون عن الحكم الذي لم ينزل فيه وحي.

28 -

(ومنها): أن للعالم إذا كره السؤال أن يَعيبه، ويُهَجّنه.

29 -

(ومنها): أن من لقي شيئًا من المكروه بسبب غيره له أن يعاتبه عليه.

30 -

(ومنها): أن المحتاج إلى معرفة الحكم لا يردّه كراهة العالم لِمَا سأل عنه، ولا غضبه عليه، ولا جفاؤه له، بل يُعاود ملاطفته إلى أن يقضي حاجته.

ص: 363

31 -

(ومنها): أن السؤال عما يلزم من أمور الدين مشروع سرًّا وجهرًا، وأن لا عيب في ذلك على السائل، ولو كان مما يُستقبح.

32 -

(ومنها): أن فيه التحريض على التوبة، والعمل بالستر، وانحصار الحقّ في أحد الجانهين عند تعذّر الواسطة؛ لقوله:"إن أحدكما كاذب"، وأن الخصمين المتكاذبين لا يُعاقب واحد منهما، وإن أحاط العلم بكذب أحدهما لا بعينه.

33 -

(ومنها)؛ أن اللعان إذا وقع سقط حدّ القذف عن الملاعن للمرأة، وللذي رميت به؛ لأنه صرّح في بعض طرقه بتسمية المقذوف، ومع ذلك لم يُنقل أن القاذف حُدّ، قال الداوديّ: لم يقل به مالكٌ؛ لأنه لم يبلغه الحديث، ولو بلغه لقال به، وأجاب بعض من قال: يُحدّ من المالكيّة، والحنفيّة بأن المقذوف لم يطلب، وهو حقّه، فلذلك لم يُنقل أن القاذف حدّ؛ لأن الحدّ سقط من أصله باللعان، وذكر عياض أن بعض أصحابهم اعتذر عن ذلك بأن شريكًا كان يهوديًّا.

34 -

(ومنها): أن فيه ليس على الإمام أن يُعلم المقذوف بما وقع من قاذفه.

35 -

(ومنها): أن الحامل تلاعنُ قبل الوضع؛ لقوله في الحديث: "انظروا، فإن جاءت به إلخ"، كما في حديث سهل رضي الله عنه، وفي حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه: فجاء - يعني الرجل - هو وامرأته، فتلاعنا، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لعلّها أن تجيء به أسود جَعْدًا، فجاءت به أسود، جعدًا"، وبه قال الجمهور؛ خلافًا لمن أبي ذلك من أهل الرأي، معتلًّا بان الحمل لا يُعلم لأنه قد يكون نفخة، وحجة الجمهور أن اللعان شُرع لدفع حدّ القذف عن الرجل، ودفع حدّ الرجم عن المرأة، فلا فرق بين أن تكون حاملًا، أو حائلًا، ولذلك يُشرع اللعان مع الآيسة، وقد اختُلف في الصغيرة، فالجمهور على أن الرجل إذا قذفها فله أن يلتعن لدفع حدّ القذف عنه دونها.

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله الجمهور هو الأظهر حجةً، والله تعالى أعلم.

ص: 364

36 -

(ومنها): أنه استُدلّ به على أن لا كفّارة في اليمين الغموس؛ لأنها لو وجبت لبيّنت في هذه القصّة.

وتُعقّب بأنه لم يتعيّن الحانث، وأُجيب بأنه لو كان واجبًا لبيّنه مجملًا بأن يقول مثلًا: فليُكفّر الحانث منكما عن يمينه، كما أرشد أحدهما إلى التوبة.

37 -

(ومنها): أن في قوله صلى الله عليه وسلم لهلال بن أُميّة رضي الله عنه: "أربعة شُهداء، وإلا فحدّ في ظهرك" دلالةً على أن القاذف لو عجز عن البيّنة، فطلب تحليف المقذوف لا يُجاب؛ لأن الحصر المذكور لم يتغيّر منه إلا زيادة مشروعيّة اللعان.

38 -

(ومنها): جواز ذكر الأوصاف المذمومة عند الضرورة الداعية إلى ذلك، ولا يكون ذلك من الغيبة المحرّمة.

39 -

(ومنها): أن الحكم يتعلّق بالظاهر، وأمر السرائر موكول إلى الله عز وجل.

40 -

(ومنها): ما قال ابن التين: وبه احتجّ الشافعيّ على قبول توبة الزنديق، وفيه نظر؛ لأن الحكم يتعلّق بالظاهر فيما لا يتعلّق فيه حكم الباطن، والزنديق قد علم باطنه بما تقدّم، فلا يقبل منه ظاهر ما يبديه بعد ذلك، قال الحافظ: كذا قال، وحجة الشافعيّ ظاهرة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد تحقّق أن أحدهما كاذب، وكان قادرًا على الاطلاع على عين الكاذب، لكن أخبر أن الحكم بظاهر الشرع يقتضي أنه لا ينقب عن البواطن، وقد لاحت القرائن بتعيين الكاذب في المتلاعنين، ومع ذلك فأجراهما على حكم الظاهر، ولم يُعاقب المرأة.

41 -

(ومنها): أنه يستفاد منه أن الحاكم لا يكتفي بالمظنّة، والإشارة في الحدود، إذا خالفت الحكم الظاهر، كيمين المدّعَى عليه، إذا أنكر، ولا بيّنة.

42 -

(ومنها): أن الشافعيّ رحمه الله استدلّ به على إبطال الاستحسان؛ لقوله: "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن".

43 -

(ومنها): أن الحاكم إذا بذل وسعه، واستوفى الشرائط لا ينقض حكمه إلا إن ظهر عليه إخلال شرط، أو تفريق في سبب.

44 -

(ومنها): أن اللعان يُشرع في كلّ امرأة دخل بها، أو لم يدخل،

ص: 365

ونقل فيه ابن المنذر الإجماع، وفي صداق غير المدخول بها خلاف للحنابلة، والمشهور أن لها نصف المهر؛ لأنها فُرقة منه، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومالك، وفي رواية: لا صداق لها؛ لأن الفرقة حصلت بلعانهما جميعًا، فأشبه الفرقة بعيب في أحدهما.

45 -

(ومنها): أنه لو نكح فاسدًا، أو طلّق بائنًا، فولدت، فأراد نفي الولد، فله الملاعنة. وقال أبو حنيفة: يلحقه الولد، ولا نفي، ولا لعان؛ لأنها أجنبيّة، وكذا لو قذفها، ثم أبانها بثلاث فله اللعان، وقال أبو حنيفة: لا، وقد أخرج ابن أبي شيبة عن هُشيم، عن مغيرة، قال الشعبيّ: إذا طلّقها ثلاثًا، فوضعت، فانتفى منه، فله أن يلاعن، فقال له الحارث: إن الله يقول: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الآية [النور: 6]، أفتراها زوجة؟ فقال الشعبيّ: إني لأستحيي من الله إذا رأيت الحقّ أن لا أرجع إليه، فلو التعن ثلاث مرّات فقط، فالتعنت المرأة مثله، ففرّق الحاكم بينهما لم تقع الفرقة عند الجمهور؛ لأن ظاهر القرآن أن الحدّ وجب عليهما، وأنه لا يندفع إلا بما ذُكر، فتعيّن الإتيان بجميعه، وقال أبو حنيفة: أخطأ السنّة، وتحصل الفرقة؛ لأنه أُتي بالأكثر، فتعلّق به الحكم، ومذهب الجمهور أصحّ.

46 -

(ومنها): أنه استُدلّ به على أن الالتعان ينتفي به الحمل؛ خلافًا لأبي حنيفة، ورواية عن أحمد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"انظروا، فإن جاءت إلخ"، فإن الحديث ظاهر في أنها كانت حاملًا، وقد أُلحق الولد مع ذلك بأمه.

47 -

(ومنها): أن فيه جواز الحلف على ما يغلب على الظنّ، ويكون المستند التمسّك بالأصل، أو قوة الرجاء من الله تعالى عند تحقّق الصدق؛ لقول من سأله هلال:"والله ليجلدنّك"، ولقول هلال:"والله لا يضربني، وقد علم أني رأيت، حتى استفتيت".

48 -

(ومنها): أن اليمين التي يُعتدّ بها في الحكم ما يقع بعد إذن الحاكم؛ لأن هلالًا قال: "والله إني لصادق"، ثم لم يحتسب بها من كلمات اللعان الخمس.

49 -

(ومنها): أنه تمسّك به من قال لإلغاء حكم القافة، وتُعقّب بأن إلغاء حكم الشبه هنا إنما وقع حيث عارضه حكم الظاهر بالشرع، وإنما يُعتبر حكم

ص: 366

القافة حيث لا يوجد ظاهر يُتمسّك به، ويقع الاشتباه، فيرجع حينئذ إلى القافة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في صفة الزوجين اللذين يصحّ منهما اللعان:

ذهبت طائفة إلى أن اللعان يصحّ من كلّ زوجين مكلّفين، مسلمين كانا، أو كافرين، أو عدلين، أو فاسقين، أو محدودين في قذف، أو كان أحدهما كذلك، وبهذا قال سعيد بن المسيّب، وسليمان بن يسار، والحسن، وربيعة، ومالك، وإسحاق، وأحمد في رواية.

وحجّتهم عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6]؛ ولأن اللعان يمين، فلا يفتقر إلى سائر ما اشترطوه، كسائر الأيمان، ودليل أنه يمين قوله صلى الله عليه وسلم:"لولا الأيمان، لكان لي ولها شأن"، وأما تسميته شهادة؛ فلقوله في يمينه: أشهد بالله، فسمي ذلك شهادة، وإن كان يمينًا، كما قال تعالى:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1].

وذهبت طائفة إلى أنه لا يصحّ اللعان إلا من زوجين مسلمين، عدلين، حزين، غير محدودين في قذف، روي هذا عن الزهريّ، والثوريّ، والأوزاعيّ، وحماد، وأصحاب الرأي. وعن مكحول: ليس بين المسلم والذّمّيّة لعان، وعن عطاء، والنخعيّ في المحدود في القذف: يُضرب الحدّ، ولا يُلاعن، وروي فيه حديث، ولا يثبت، كذلك قال الشافعيّ، والساجيّ؛ ولأن اللعان شهادة، بدليل قوله عز وجل:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6]، فاستثنى أنفسهم من الشهداء، وقال تعالى:{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} [النور: 6]، فلا يُقبل ممن ليس من أهل الشهادة

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الأرجح عندي ما ذهب إليه الأولون؛ لقوّة دليله، والله تعالى أعلم.

وقال في "الفتح" عند شرح حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "أن رجلًا من الأنصار قذف امرأته، فأحلفهما النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم فرّقهما"، ما نصّه: وقد تمسّك به من

(1)

راجع: "المغني" لابن قدامة رحمه الله 11/ 124.

ص: 367

قال: إن اللعان يمين، وهو قول مالك، والشافعيّ، والجمهور، وقال أبو حنيفة: اللعان شهادة، وهو وجه للشافعيّة، وقيل: شهادة فيها شائبة اليمين، وقيل: بالعكس، ومن ثمّ قال بعض العلماء: ليس بيمين، ولا شهادة.

وانبنى على الخلاف أن اللعان يُشرع بين كلّ زوجين مسلمين، أو كافرين، حرّين، أو عبدين، عدلين، أو فاسقين؛ بناءً على أنه يمين، فمن صحّ يمينه صحّ لعانه، وقيل: لا يصحّ اللعان إلا من زوجين حرّين مسلمين؛ لأن اللعان شهادة، ولا يصحّ من محدود في قذف، وهذا الحديث حجة للأولين؛ لتسوية الراوي بين لاعَنَ، وحلف، ويؤيّده أن اليمين: ما دلّ على حثّ، أو منع، أو تحقيق خبر، وهو هنا كذلك، ويدلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم في بعض طرق حديث ابن عباس رضي الله عنهما:"فقال له: احلف بالله الذي لا إله إلا هو إني لصادق، يقول ذلك أربع مرّات"، أخرجه الحاكم، والبيهقيّ، من رواية جرير بن حازم، عن أيوب، عن عكرمة، عنه. وقوله صلى الله عليه وسلم:"لولا الأيمان لكان لي ولها شأن".

واعتلّ بعض الحنفيّة بأنها لو كانت يمينًا لما تكرّرت، وأجيب بأنها خرجت عن القياس تغليظًا لحرمة الفرج، كما خرجت القسامة لحرمة الأنفس، وبأنها لو كانت شهادة لم تكرر أيضًا.

قال الحافظ رحمه الله: والذي تحرّر لي أنها من حيث الجزم بنفي الكذب، وإثبات الصدق يمين، لكن أطلق عليها شهادة لاشتراط أن لا يُكتفَى في ذلك بالظنّ، بل لا بدّ من وجود علم كلّ منهما بالأمرين علمًا يصحّ معه أن يشهد به، ويؤيّد كونها يمينًا أن الشخص لو قال: أشهد بالله لقد كان كذا لعُدّ حالفًا، وقد قال القفّال في "محاسن الشريعة": كررت أيمان اللعان؛ لأنها أقيمت مقام أربع شهود في غيره ليقام عليها الحدّ، ومن ثمّ سمّيت شهادات. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في اشتراط تفريق الحاكم بين المتلاعنين:

ذهبت جماعة إلى أن الفُرقة لا تحصل إلا بتفريق الحاكم بينهما، وبه قال

(1)

راجع: "الفتح" 12/ 193 - 196.

ص: 368

أبو حنيفة، والثوريّ، وأحمد؛ لقول ابن عبّاس رضي الله عنهما في حديثه: ففرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وفي حديث عويمر رضي الله عنه، قال:"كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلّقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وهذا يقتضي إمكان إمساكها، وأنه وقع طلاقه، ولو كانت الفرقة وقعت قبل ذلك، لما وقع طلاقه، ولا أمكنه إمساكها، ولأن سبب هذه الفرقة يَقِفُ على الحاكم، فالفرقة المتعلّقة به لا تقع إلا بحكم الحاكم، كفرقة الْعُنّة.

وذهبت طائفة إلى أن الفرقة تحصل بمجرّد التعانهما، وبه قال مالكٌ، وأبو عبيد، وأبو ثور، وداود، وزفر، وابن المنذر، وروي ذلك عن ابن عبّاس؛ لِمَا روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال:"المتلاعنان يُفرّق بينهما، ولا يجتمعان أبدًا"، رواه سعيد بن منصور، ولأنه معنى يقتضي التحريم المؤيّد، فلم يقف على حكم الحاكم كالرضاع، ولأن الفرقة لو لم تحصل إلا بتفريق الحاكم، لساغ ترك التفريق إذا كرهاه؛ كالتفريق للعيب، وللإعسار، وَلَوَجب أن الحاكم إذا لم يُفرّق بينهما أن يبقى النكاح مستمرًّا، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا سبيل لك عليها" يدلّ على هذا، وتفريقه بينهما بمعنى إعلامه لهما بحصول الفرقة، وعلى كلتا الروايتين لا تحصل الفرقة قبل تمام اللعان منهما.

وقال الشافعيّ رحمه الله: تحصل الفرقة بقول الزوج وحده، وإن لم تلتعن المرأة؛ لأنها فرقة حاصلة بالقول، فتحصل بقول الزوج وحده، كالطلاق، قال ابن قدامة: ولا نعلم أحدًا وافق الشافعيّ على هذا القول، وحُكي عن الْبَتّيّ أنه لا يتعلّق باللعان فرقةٌ؛ لِمَا روي أن العجلانيّ لَمّا لاعن امرأته طلّقها ثلاثًا، فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو وقعت الفرقة لَمَا نفذ طلاقه.

قال ابن قدامة: وكلا القولين لا يصحّ؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم فرّق بين المتلاعنين، رواه عبد الله بن عمر، وسهل بن سعد، وأخرجهما مسلم، وقال سهل بن سعد:"فكانت سنّة لمن كان بعدهما أن يفرّق بين المتلاعنين"، وقال عمر رضي الله عنه:"المتلاعنان يُفرّق بينهما، ثم لا يجتمعان أبدًا"، وأما القول الآخر فلا يصحّ؛ لأن الشرع إنما ورد بالتفريق بين المتلاعنين، ولا يكونان متلاعنين بلعان أحدهما، وإنما فرّق النبيّ صلى الله عليه وسلم بينهما بعد تمام اللعان منهما، فالقول بوقوع الفرقة قبله تحكّمٌ، يخالف مدلول السنّة، وفعل النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى

ص: 369

المقصود من كلام ابن قدامة رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح": ذهب مالكٌ، والشافعيّ، ومن تبعهما إلى أن الفرقة تقع بنفس اللعان، قال مالك، وغالب أصحابه: بعد فراغ المرأة، وقال الشافعيّ، وأتباعه، وسحنون من المالكيّة: بعد فراغ الزوج، واعتلّ بأن التعان المرأة إنما شُرع لدفع الحدّ عنها، بخلاف الرجل، فإنه يزيد على ذلك في حقّه نفي النسب، ولحاق الولد، وزوال الفراش.

وتظهر فائدة الخلاف في التوارث لو مات أحدهما عقب فراغ الرجل، وفيما إذا علّق طلاق امرأة بفراق أخرى، ثم لاعن الأخرى، وقال الثوريّ، وأبو حنيفة، وأتباعهما: لا تقع الفرقة حتى يوقعها عليهما الحاكم، واحتجّوا بظاهر ما وقع في أحاديث اللعان، وعن أحمد روايتان، وذهب عثمان البتّيّ إلى أنه لا تقع الفرقة حتى يوقعها الزوج، واعتلّ بأن الفرقة لم تذكر في القرآن، ولأن ظاهر الأحاديث أن الزوج هو الذي طلّق ابتداءً، ويقال: إن عثمان تفرّد بذلك، لكن نقل الطبريّ عن أبي الشعثاء جابر بن زيد البصريّ، أحد أصحاب ابن عبّاس رضي الله عنهما، من فقهاء التابعين نحوه، ومقابله قول أبي عبيد: إن الفرقة بين الزوجين تقع بنفس القذف، ولو لم يقع اللعان، وكأنه مفرَّعٌ على وجوب اللعان على من تحقّق ذلك من المرأة، فإذا أخلّ به عوقب بالفرقة، تغليظًا عليه. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أنه لا يحتاج إلى حكم الحاكم، بل تقع الفرقة بنفس اللعان، وأنه لا بدّ من تمام لعانهما، فلا تقع قبله؛ عملًا بظاهر الأحاديث، وأما تفريق النبيّ صلى الله عليه وسلم بينهما، فالظاهر أنه أعلمهما بذلك، وأنهما لا يجتمعان بعد ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في فرقة اللعان، هل هي فسخٌ، أم طلاق؟:

ذهبت طائفة إلى أن الفرقة فسخٌ، وبه قال الشافعيّ، وأحمد رحمهما الله

(1)

راجع: "المغني" 11/ 144 - 146.

(2)

"الفتح" 12/ 168 - 169.

ص: 370

تعالى؛ لأنها فرقة توجب تحريمًا مؤبّدًا، فكانت فسخًا، كفرقة الرضاع، ولأن اللعان ليس بصريح في الطلاق، ولا نوى به الطلاق، فلم يكن طلاقًا، كسائر ما ينفسخ به النكاح.

وقال أبو حنيفة رحمه الله: هي طلاقٌ؛ لأنها فرقة من جهة الزوج، تخصّ النكاح، فكانت طلاقًا، كالفرقة بقوله: أنت طالقٌ، ذكره ابن قدامة رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: المذهب الأول هو الأظهر عندي؛ لظهور حجته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): في اختلاف أهل العلم فيمن وجد مع امرأته رجلًا، فتحقق الأمر، فقتله، هل يُقتل به أم لا؟:

ذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز له الإقدام على قتله، فإن قتله يُقتصّ منه، إلا أن يأتي ببيّنة الزنا، أو على المقتول بالاعتراف، أو يعترف به ورثته، فلا يُقتل القاتل به بشرط أن يكون المقتول محصنًا، وقيل: بل يُقتل به؛ لأنه ليس له أن يُقيم الحدّ بغير إذن الإمام، وقال بعض السلف: بل لا يُقتل أصلًا، ويُعزّر فيما فعله، إذا ظهرت أمارات صدقه، وشرط أحمد، وإسحاق، ومن تبعهما أن يأتي بشاهدين أنه قتله بسبب ذلك، ووافقهم ابن القاسم، وابن حبيب من المالكيّة، لكن زاد أن يكون المقتول قد أحصن، أفاده في "الفتح"

(2)

.

وقال في موضع آخر: قال الجمهور: عليه الْقَوَد، وقال أحمد، وإسحاق: إن أقام بينة أنه وجده مع امرأته هَدَر دمه، وقال الشافعيّ: يَسَعُهُ فيما بينه وبين الله قتل الرجل، إن كان ثَيِّبًا، وعَلِم أنه نال منها ما يوجب الغسل، ولكن لا يسقط عنه القَوَد في ظاهر الحكم، وقد أخرج عبد الرزاق بسند صحيح إلى هانئ بن حِزَام أن رجلًا وجد مع امرأته رجلًا، فقتلهما، فكَتَب عمر كتابًا في العلانية أن يُقِيدوه به، وكتابًا في السرّ أن يعطوه الدية، وقال ابن المنذر: جاءت الأخبار عن عمر في ذلك مختلفةً، وعامّة أسانيدها منقطعة، وقد ثبت عن علي أنه سئل عن رجل قتل رجلًا وجده مع امرأته، فقال: إن لم يأت بأربعة شهداء، وإلا فليغط بِرُمّته، قال الشافعيّ: وبهذا نأخد، ولا نعلم

(1)

"المغني" 11/ 147.

(2)

"الفتح" 11/ 172.

ص: 371

لعليّ مخالفًا في ذلك. انتهى

(1)

.

وقال في "المفهم": وكونه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على السائل قوله: أيقتله؟ تقرير منه على ذلك، ويلزم منه إن قتله لم يكن فيه قصاص، ولا غيره، وقد عضده قول سعد رضي الله عنه: لو رأيته ضربته بالسيف، ولم ينكر عليه، بل صوّبه بقوله:"تعجبون من غيرة سعد؟ "، متّفق عليه، ولهذا قال أحمد، وإسحاق: يُهدر دمه إذا جاء القاتل بشاهدين. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله أحمد، وإسحاق - رحمهما الله تعالى - عندي أرجح؛ لظاهر حديث سعد، وعويمر رضي الله عنهما، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف: رحمه الله أوَّل الكتاب قال:

[3739]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، أن عُوَيْمِرًا الْأَنْصَارِيَّ مِنْ بَنِي الْعَجْلَان، أتَى عَاصِمَ بْنَ عَدِيٍّ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَأَدْرَجَ فِي الْحَدِيثِ قَوْلَهُ: وَكَانَ فِرَاقُهُ إِيَّاهَا بَعْدُ سُنَّةً فِي الْمُتَلَاعِنَيْن، وَزَادَ فِيهِ: قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ حَامِلًا، فَكَانَ ابْنُهَا يُدْعَى إِلَى أُمِّه، ثُمَّ جَرَت السُّنَّةُ أَنَّهُ يَرِثُهَا، وَتَرِثُ مِنْهُ، مَا فَرَضَ اللهُ لَهَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم تقدّموا في الباب، وقبله.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ) فاعل "ساق" ضمير يونس.

وقوله: (فَكَانَتْ حَامِلًا، فَكَانَ ابْنُهَا يُدْعَى إِلَى أُمِّهِ إلخ) قال النوويّ رحمه الله: فيه جواز لعان الحامل، وأنه إذا لاعنها، ونفى عنه نَسَب الحمل انتفى عنه، وأنه يثبت نسبه من الأم، ويرثها، وترث منه ما فرض الله للأم، وهو الثلث، إن لم يكن للميت ولد، ولا ولد ابن، ولا اثنان من الإخوة أو الأخوات، وإن

(1)

"الفتح" 15/ 693 "كتاب الحدود" رقم (6846).

(2)

"المفهم" 4/ 290 - 291.

ص: 372

كان شيء من ذلك، فلها السدس، وقد أجمع العلماء على جريان التوارث بينه وبين أمه، وبينه وبين أصحاب الفروض من جهة أمه، وهم إخوته وأخواته من أمه، وجدّاته من أمه، ثم إذا دفع إلى أمه فرضها، أو إلى أصحاب الفروض، وبقي شيء فهو موالي أمه، إن كان عليها ولاء، ولم يكن عليه هو، ولا بمباشرة إعتاقه، فإن لم يكن لها موال، فهو لبيت المال، هذا تفصيل مذهب الشافعيّ، وبه قال الزهريّ، وما لك، وأبو ثور، وقال الحكم، وحماد: ترثه ورثة أمه، وقال آخرون: عصبة أمه، رُوي هذا عن عليّ، وابن مسعود، وعطاء، وأحمد بن حنبل، قال أحمد: فإن انفردت الأم أخذت جميع ماله بالعصوبة، وقال أبو حنيفة: إذا انفردت أخذت الجميع، لكن الثلث بالفرض، والباقي بالردّ على قاعدة مذهبه في إثبات الردّ، والله أعلم. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: رواية يونس، عن ابن شهاب هذه ساقها الرويانيّ رحمه الله في "مسنده" 2/ 221 فقال:

(1079)

- نا أحمد بن عبد الرحمن، نا عبد الله بن وهب، حدّثني يونس، عن الزهريّ، أخبرني سهل بن سعد أنّ عُويمرًا الأنصاريّ، ثم من بني العجلان، أتى عاصم بن عديّ، فقال له: يا عاصم أرأيت رجلًا وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فيقتلونه، أم كيف يفعل؟ سَلْ لي يا عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها، حتى كَبُر على عاصم مما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رجع عاصم إلى أهله جاء عويمرٌ، فقال: يا عاصم ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عاصم لعويمر: لم تأتني بخير، قد كَرِه رسول الله صلى الله عليه وسلم التي سألته عنها وعابها، قال عويمر: والله ما أنتهي حتى أسأله، فأتى عويمر، حتى سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط الناس، فقال: يا رسول الله أرأيت رجلًا وجد مع امرأته رجلًا، فقتله، أيقتلونه

(2)

؟ أم كيف يفعل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أُنزل فيك وفي صاحبتك، فاذهب فائت بها"، ونزل القرآن، قال سهل: فتلاعنا، وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغا من

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 123 - 124.

(2)

هكذا النسخة: "أيقتلونه" بالياء، ولعله بالتاء، فليُحرّر.

ص: 373

تلاعنهما، قال: يا رسول الله كذبت عليها، إن أنا أمسكتها، فطلقها ثلاثًا، قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان فراقه إياها يعد

(1)

سنّةً في المتلاعنين، قال سهل: وكانت حاملًا، فأنكر الرجل حملها، فكان ابنه

(2)

يدعى إلى أمه، ثم جرت السنة أنه يرثها، وترثه ما فرض الله لها. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3740]

(. . .) - (وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَن الْمُتَلَاعِنَيْن، وَعَن السُّنَّةِ فِيهِمَا، عَنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَخِي بَني سَاعِدَةَ أَنّ رَجُلًا مِن الْأَنْصَار، جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِقِصَّتِه، وَزَادَ فِيهِ: فَتَلَاعَنَا فِي الْمَسْجِد، وَأنَا شَاهِدٌ، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: فَطَلَقَهَا ثَلَاثًا، قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَفَارَقَهَا عِنْدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "ذَاكُمُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ كُلِّ مُتَلَاعِنَيْنِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهم تقدّموا في الباب، وقبل باب.

قوله: (أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأنْصَارِ) تقدّم أنه عويمر العجلانيّ.

وقوله: (وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِقصَّتِهِ) فاعل "ذَكَر" ضمير ابن جُريج.

وقوله: (فَتَلَاعَنَا فِي الْمَسْجِدِ) قال القرطبيّ: رحمه الله: فيه بيان أن سنّة اللعان كونه في المسجد، ولم يُختَلف في ذلك، إلا ما روي عن عبد الملك أنه يكون في المسجد، أو عند الإمام، وفيه أنه يكون بحضرة الإمام، والقياس، والإجماع على أنه لا يكون إلا بسلطان. انتهى

(3)

.

(1)

هكذا النسخة: "يعدّ" بالياء من العدّ، والظاهر أنه مصحّف من "بعد" بالباء الموحّدة، كما هو في "صحيح مسلم"، فليُحرّر.

(2)

هكذا النسخة، والظاهر "ابنها"، كما في "صحيح مسلم"، فليُحرّر.

(3)

"المفهم" 4/ 292.

ص: 374

وقوله: ("ذَاكُمُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ كُلِّ مُتَلَاعِنَيْنِ") قال النوويّ رحمه الله: معناه عند مالك، والشافعيّ، والجمهور بيان أن الفُرقة تحصل بنفس اللعان بين كل متلاعنين، وقيل: معناه تحريمها على التأبيد، كما قال جمهور العلماء، قال القاضي عياض: واتفق علماء الأمصار على أن مجرد قذفه لزوجته لا يحرمها عليه، إلا أبا عبيد، فقال: تصير محرَّمةً عليه بنفس القذف، بغير لعان. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: رواية ابن جريج، عن ابن شهاب هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(5309)

- حدّثنا يحيى

(2)

، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني ابن شهاب، عن الملاعنة، وعن السنّة فيها، عن حديث سهل بن سعد، أخي بني ساعدة أن رجلًا من الأنصار جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلًا وجد مع امرأته رجلًا، أيقتله، أم كيف يفعل؟ فأنزل الله في شأنه ما ذُكر في القرآن، من أَمْر المتلاعنين، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"قد قضى الله فيك، وفي امرأتك"، قال: فتلاعنا في المسجد، وأنا شاهد، فلما فرغا قال: كذبت عليها يا رسول الله، إن أمسكتها، فطلقها ثلاثًا، قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغا من التلاعن، ففارقها عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك تفريقًا بين كل متلاعنين.

قال ابن جريج: قال ابن شهاب: فكانت السنّة بعدهما أن يُفَرَّق بين المتلاعنين، وكانت حاملًا، وكان ابنها يُدْعَى لأمه، قال: ثم جرت السنّة في ميراثها أنها ترثه، ويرث منها ما فَرَضَ الله له.

قال ابن جريج: عن ابن شهاب، عن سهل بن سعد الساعديّ في هذا الحديث: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إن جاءت به أحمر قصيرًا، كأنه وَحَرَةٌ، فلا أراها إلا قد صدقت، وكذب عليها، وإن جاءت به أسود، أعين، ذا أَلْيتين، فلا أراه إلا قد صدق عليها"، فجاءت به على المكروه من ذلك. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 123.

(2)

هو ابن يحيى التميميّ النيسابوريّ رحمه الله.

ص: 375

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:

[3741]

(1493) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدثنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سُئِلْتُ عَن الْمُتَلَاعِنَيْن، فِي إِمْرَةِ مُصْعَبٍ، أَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: فَمَا دَرَيْتُ مَا أَقُولُ، فَمَضَيْتُ إِلَى مَنْزِلِ ابْنِ عُمَرَ بِمَكَةَ، فَقُلْتُ لِلْغُلَامِ: اسْتَأْذِنْ لِي، قَالَ: إِنَّهُ قَائِلٌ، فَسَمِعَ صَوْتِي، قَالَ: ابْنُ جُبَيْرٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: ادْخُلْ، فَوَاللهِ مَا جَاءَ بِكَ هَذِهِ السَّاعَةَ إِلَّا حَاجَةٌ، فَدَخَلْتُ، فَإذَا هُوَ مُفْتَرِشٌ بَرْذَعَةً، مُتَوَسِّدٌ وِسَادَةً، حَشْوُهَا لِيفٌ، قُلْتُ: أَبا عَبْدِ الرَّحْمَن، الْمُتَلَاعِنَانِ أَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ نَعَمْ، إِنَّ أَوَّلَ مَنْ سَأَل عَنْ ذَلِكَ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، قَالَ: يَا رَسُولَ الله، أَرَأَيْتَ أَنْ لَوْ وَجَدَ أَحَدُنَا امْرَأتَهُ عَلَى فَاحِشَةٍ، كَيْفَ يَصْنَعُ؟ إِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَمَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ

(1)

، قَالَ: فَسَكَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يُجِبْهُ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَتَاهُ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي سَأَلتُكَ عَنْهُ، قَدْ ابْتُلِيتُ بِه، فَأَنْزَلَ اللهُ هَؤُلَاءِ الآياتِ فِي "سُورَةِ النُّورِ":{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6]، فَتَلَاهُنَّ عَلَيْه، وَوَعَظَهُ، وَذَكَّرَهُ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَة، قَالَ: لَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا كَذَبْتُ عَلَيْهَا، ثُمَّ دَعَاهَا، فَوَعَظَهَا، وَذَكَّرَهَا، وَأَخْبَرَهَا أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَة، قَالَتْ: لَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنَّهُ لَكَاذِبٌ، فَبَدَأَ بِالرًّجُل، فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، ثُمَّ ثَنَّى بِالْمَرْأَة، فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِالله، إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، وَالْخَامِسَةُ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ، ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

(1)

وفي نسخة: "عن مثل ذلك".

ص: 376

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ) تقدّم قريبًا.

4 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ) مَيْسرة الْعَرزميّ الكوفيّ، ثقةٌ [5](ت 145)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.

5 -

(سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ) الأسديّ الوالبيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 95)(ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 329.

6 -

(ابْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.

شرح الحديث:

(عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ) أنه (قَالَ: سُئِلْتُ) بالبناء للمفعول (عَن الْمُتَلَاعِنَيْنِ) أي: عن حكمهما (فِي إِمْرَةِ) بكسر الهمزة، وسكون الميم: اسم من الإمارة (مُصْعَبِ) بن الزبير بن العوّام القرشيّ الأسديّ، أمير العراقين، أبو عيسى، وأبو عبد الله، لا رواية له، كان فارسًا شجاعًا جميلًا وَسِيمًا أحارب المختار، وقتله، وكان سفّاكًا للدماء، سار لحربه عبد الملك بن مروان، وكان يسمى من سخائه آنية النحل، قال إسماعيل بن أبي خالد: ما رأيت أميرًا قط أحسن من مصعب، ورَوَى عمر بن أبي زائدة أن الشعبيّ قال: ما رأيت أميرًا قط على منبر أحسن من مصعب، قال المدائنيّ: كان يُحسد على الجمال.

قُتِل مصعب يوم نصف جمادى الأولى، سنة اثنتين وسبعين، وله أربعون سنة، ذكره الذهبيّ في "السير"

(1)

.

(أَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؟) بالبناء للمفعول (قَالَ) سعيد (فَمَا دَريتُ مَا أقُولُ، فَمَضَيْتُ إِلَى مَنْزِلِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (بِمَكَّةَ) الظاهر أنه منزله الذي نزله لما جاء مكة للحج، أو العمرة؛ لأنه من سكان المدينة، والظاهر أن سعيدًا سافر من الكوفة إلى مكة ليسأل ابن عمر رضي الله عنهما عن هذه المسألة التي لم يدر جوابها حين سئل.

وفي رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن سعيد، قال:"كنّا بالكوفة نختلف في الملاعنة، يقول بعضنا: يفرّق بينهما، ويقول بعضنا: لا يفرّق". ويؤخذ منه أن الخلاف في ذلك كان قديمًا، وقد استمرّ عثمان البتّيّ

(1)

راجع: "سير أعلام النبلاء" 4/ 140 - 143.

ص: 377

من فقهاء البصرة على أن اللعان لا يقتضي الفرقة، كما تقدّم نقله عنه، وكأنه لم يبلغه حديث ابن عمر، قاله في "الفتح"

(1)

.

(فَقُلْتُ لِلْغُلَامِ) لا يُعرف اسمه

(2)

. (اسْتَأْذِنْ لِي، قَالَ: إِنَّهُ قَائِلٌ) من القيلولة، يقال: قال يَقِيل قَيْلًا، وقَيْلُولةً: نام نصف النهار، والقائلة: وقت القيلولة، وقد تُطلق على القيلولة

(3)

. (فَسَمِعَ صَوْتِي، قَالَ: ابْنُ جُبَيْرٍ؟) برفع "ابن"، وهو بتقدير الاستفهام، أي: قال ابن عمر: أأنت ابن جبير؟ (قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: ادْخُلْ، فَوَاللهِ مَا جَاءَ بِكَ هَذِهِ السَّاعَةَ إِلَّا حَاجَةٌ) فيه أنه لا يُشقّ على العالم، ومن يُحتاج إليه في أوقات راحتهم، وأن المحتاج إليه إذا عَلِم من القرائن أن الآتي إليه في وقت راحته إنما جاء لضرورة عَرَضت له، لا ينبغي أن يضجر له، بل يواجهه ببشاشة

(4)

. (فَدَخَلْتُ، فَإِذَا هُوَ مُفْتَرِشٌ)"إذا" هي الْفُجائيّة، أي: ففاجأني افتراشه (بَرْذَعَةً) بفتح الموحّدة، وسكون الراء، فذال معجمة، ويقال: بالدال المهملة: الْحِلْسُ يُلْقَى تحت الرحل، أفاده المجد

(5)

، وفيه زَهادة ابن عمر رضي الله عنهما (مُتَوَسِّدٌ وِسَادَةً) بكسر الواو: الْمِخَدّة، وجمعها وَسادات، ووسائد، والوساد بغير هاء: كل ما يُتوسّد به، من قُماش، وتُراب، وغير ذلك، وجمعها وُسُدٌ، مثلُ كتاب وكُتُب، ويقال: الوسائد لغة في الوسادة، قاله الفيّوميّ

(6)

. (حَشْوُهَما) بفتح، فسكون؛ أي: ما جُعل فيها، ومُلئت به (لِيفٌ) بكسر اللام؛ أي: لحاء شجر (قُلْتُ: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ) كنية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وهو بتقدير حرف النداء، كما قال الحريريّ رحمه الله في "مُلحته":

وَحَذْفُ "يَا" يَجُوزُ فِي النِّدَاءَ

كَقَوْلِهِمْ "رَبِّ اسْتَجِبْ دُعَائِي"

وقال ابن مالك رحمه الله في "خلاصته":

وَغَيْرُ مَنْدُوبٍ وَمُضْمَرٍ وَمَا

جَا مُسْتَغَاثًا قَدْ يُعَرَّى فَاعْلَمَا

وَذَاكَ فِي اسْمِ الْجِنْسِ وَالْمُشَارِ لَهْ

قَلَّ وَمَنْ يَمْنَعْهُ فَانْصُرْ عَاذِلَهْ

(1)

"الفتح" 12/ 184.

(2)

راجع: "تنبيه المعلم" ص 254.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 521.

(4)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 1/ 245 - 241.

(5)

"القاموس المحيط" 3/ 4.

(6)

"المصباح المنير" 2/ 658.

ص: 378

(الْمُتَلَاعِنَانِ) مبتدأ خبره جملة قوله: (أَيُفَرَّقُ) بالبناء للمفعول (بَيْنَهُمَا؟) وفي رواية عزرة، عن سعيد بن جبير: قال: "لم يفرّق المصعب - يعني ابن الزبير - بين المتلاعنين، فذكرت ذلك لابن عمر، فقال: فرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أخوي بني العجلان".

(قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ نَعَمْ) أي: يُفرّق بينهما، إنما سبّح تعجبًا من خفاء هذا الحكم المشهور على سعيد (إِنَّ أَوَّلَ مَنْ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ) قال القرطبيّ رحمه الله: هو - والله أعلم - عويمر العجلانيّ المتقدّم الذكر. انتهى

(1)

. (قَالَ: يَا رَسُولَ الله، أَرَأَيْتَ أَن لَوْ وَجَدَ أَحَدُنَا)"أنْ" بفتح الهمزة هي المخفّفة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، أي: أنه، وإلى هذا أشار في "الخلاصة":

وَإِنْ تُخَفَّفْ "أَنَّ" فَاسْمُهَا اسْكَنْ

وَالْخَبَرَ اجْعَلْ جُمْلَةً مِنْ بَعْدِ "أَنْ"

وَإِنْ يَكُنْ فِعْلًا وَلَمْ يَكُنْ دُعَا

وَلَمْ يَكُنْ تَصْرِيفُهُ مُمْتَنِعَا

فَالأَحْسَنُ الْفَصْلُ بِـ "قَدْ" أَوْ نَفْيٍ أوْ

تَنْفِيسِ أوْ "لَوْ" وَقَلِيلٌ ذِكْرُ "لَو"

(امْرَأَتَهُ عَلَى فَاحِشَةٍ) يعني الزنا (كَيْفَ يَصْنَعُ؟ إِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ) أي: لما فيه من الفضيحة (وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ) وفي نسخة: "عن مثل ذلك"؛ أي: على أمر عظيم؛ أي: لما فيه من الْمَضَض

(2)

، والغيظ (قَالَ) ابن عمر رضي الله عنهما (فَسَكَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يُجِبْهُ) أي: لما ينتظره من الوحي، ففي حديث ابن مسعود رضي الله عنه الآتي:"لَمّا سأل الرجل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم افتح"، وجعل يدعو، فنزلت آية اللعان"(فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَتَاهُ) ذلك الرجل (فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي سَأَلْتُكَ عَنْهُ، قَدْ ابْتُلِيتُ بِهِ) هذا يدلّ على أن سؤاله الأول ليس عن شيء واقع حقيقة، وإنما هو شيء ارتاب فيه، فحمله شدّة غيرته على أن يسأل، فوقع له ذلك حقيقة، ابتلاءً، كما يقال: البلاء موكّل بالمنطق

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "قد ابْتُليتُ به" ظاهر هذا أنه خطاب من السائل للنبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا لم يُجبه، فأخبره بوقوع ذلك له؛ ليُحقّق عنده أنه مضطرّ

(1)

"المفهم" 4/ 295.

(2)

محرّكة: وجَع المصيبة.

(3)

هذا من كلام الناس، وروي مرفوعًا، ولا يصحّ.

ص: 379

إلى المسألة، فَيُجيبه، كما فَعَل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد جاء من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: ذكر التلاعن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عاصم بن عديّ في ذلك قولًا، ثم انصرف، فأتاه رجل من قومه يشكو إليه أنه وَجد مع امرأته رجلًا، فقال عاصم: ما ابتُليت بهذا إلا لقولي، فذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الحديث، وهذا نصّ في أنّ المبتلَى به عاصم من جهة أنه امتُحن بوقوع ذلك برجل من قومه، فعَظُم عليه ذلك، وشَقّ عليه، حتى تكلّف سؤال النبيّ صلى الله عليه وسلم عن تلك المسألة القبيحة، ورأى أن ذلك كالعقوبة له؛ لما تكلّم في اللعان قبل وقوعه، وأما ابتلاء السائل الذي سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنما هو أن وَجَد الرجل مع امرأته، فهو ابتلاء آخر، غير ابتلاء عاصم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله صه: عندي أنه لا مانع من كون ابتلاء السائل من نوع ابتلاء عاصم، كما أسلفت تقريره، فتأمله، والله تعالى أعلم.

(فَأَنْزَلَ اللهُ هَؤلَاءِ الْآيَاتِ فِي "سُورَةِ النُّورِ": {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ}) أي: يقذفون زوجاتهم بالزنا، زاد في رواية النسائيّ: حتى بلغ {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)} (فَتَلَاهُنَّ عَلَيْهِ) أي: تلا النبيّ صلى الله عليه وسلم هؤلاء الآيات (وَوَعَظَهُ، وَذَكَّرَة) وفي رواية النسائيّ: "فبدأ بالرجل، فوعظه، وذكّره"، قال القرطبيّ: هذا الوعظ والتذكير كان منه صلى الله عليه وسلم قبل اللعان، وينبغي أن يُتّخذ سنّة في وعظ المتلاعنين قبل الشروع في اللعان، ولذلك قال الطبريّ: إنه يجب على الإمام أن يعظ كلّ من يحلّفه، وذهب الشافعيّ إلى أنه يعظ كلّ واحد بعد تمام الرابعة، وقبل الخامسة؛ تمسّكًا بحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما في لعان هلال بن أمية رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم وعظهما عند الخامسة. انتهى

(2)

.

(وَأَخْبَرَهُ أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا) هو حدّ القذف في حقّه (أَهْوَن مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ) أي: من نار جهنّم - أعاذنا الله منها - (قَالَ) الرجل (لَا) أي: لا أتراجع مما قلته؛ لأنه حقّ، وصدقٌ، كما أوضحه بقوله:(وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا كَذَبْتُ عَلَيْهَا، ثُمَّ دَعَاهَا) أي: المرأة (فَوَعَظَهَا، وَذَكَرَهَا، وَأَخْبَرَهَا أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا) هو الرجم في حقّها حيث كانت محصنةً (أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ) قال

(1)

"المفهم" 4/ 295.

(2)

"المفهم" 4/ 295 - 296.

ص: 380

النوويّ رحمه الله: فيه أن الإمام يعظ المتلاعنين، ويُخوّفهما من وبال اليمين الكاذبة، وأن الصبر على عذاب الدنيا، وهو الحدّ أهون من عذاب الآخرة. انتهى

(1)

.

(قَالَتْ: لَا) أي: لا أتراجع عما قلته (وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنَّهُ لَكَاذِبٌ، فَبَدَأَ) صلى الله عليه وسلم في اللعان (بِالرَّجُلِ) فيه أن الابتداء في اللعان يكون بالزوج؛ لأن الله تعالى بدأ به؛ ولأنه يُسقط عن نفسه حدّ قذفها، وينفي النسب إن كان، ونقل القاضي وغيره إجماع المسلمين على الابتداء بالزوج، ثم قال الشافعيّ، وطائفة: لو لاعنت المرأة قبله لم يصحّ لعانها، وصححه أبو حنيفة، وطائفة. قاله النوويّ

(2)

. (فَشَهِدَ) بكسر الهاء، من باب عَلِم يعلم (أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ) بنصب "أربع" على المفعوليّة (بِاللهِ) متعلّق بـ "شهادات".

قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فشهِد أربِع شهادات"؛ أي: حلف أربع أيمان، وهذا معنى قوله تعالى:{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} [النور: 6]؛ أي: يحلف أربع أيمان، والعرب تقول: أشهد بالله؛ أي: أحلف، وكما قال شاعرهم:

فَأَشْهَدُ عِنْدَ اللهِ أَنِّي أُحِبُّهَا

فَهَذَا لَهَا عِنْدِي فَمَا عِنْدَهَا لِيَا

وهذا مذهب الجمهور، وقال أبو حنيفة: هي شهادات محقّقة من المتلاعنين على أنفسهما، وانبنى على هذا الخلاف في لعان الفاسقَين، والعبدَين، فعند الجمهور يصحّ، وعند أبي حنيفة لا يصحّ، وربّما استُدلّ لأبي حنيفة بما رواه أبو عمرو من حديث عمرو بن شعيب مرفوعًا:"لا لعان بين مملوكين، ولا كافرين"، وبما رواه الدارقطنيّ من هذا المعنى، ولا يصحّ منها كلِّها شيء عند المحدّثين.

واختلفوا في الألفاظ التي يقولها المتلاعنان، وأولى ذلك كلّه ما دلّ عليه كتاب الله تعالى، وهو أن يقول: أشهد بالله لقد زنيت، أو لقد رأيتها تزني، أو أن هذا الحمل ليس منّي، أو هذا الولد، أربع مرّات، ثم يُخمّس، فيقول:

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 125.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 125.

ص: 381

لعنةُ الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم تقوم هي، فتقول: أشهد بالله لقد كذَب عليّ فيما رماني به، أو أن الحمل منه، أو هذا الولد ولده، ثم تُخمّس بأن تقول؛ غَضَبُ الله عليها إن كان من الصادقين.

قال: وقد زاد بعض علمائنا في اليمين: بالله الذي لا إله إلا هو، ومشهور مذهبنا أنه إن لاعنها على رؤية الزنا نصّ على ذلك، كما ينصّه شهود الزنا، فيقول: كالْمِرْوَد في الْمُكْحُلة، وكلّ ذلك منهما، وهما قائمان. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

(إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةُ) بالنصب عطفًا على "أربعَ"؛ أي: وشهد الخامسة، ويَحتمل الرفع، على أنه مبتدأ خبره قوله:(أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) هذه ألفاظ اللعان، وهي مُجمعِ عليها، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

. (ثُمَّ ثَنَّى) بتشديد النون؛ أي: أمر ثانيًا (بِالْمَرْأَة، فشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِالله، إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، وَالْخَامِسَةُ) يَحتمل النصب، والرفع على التوجيه المذكور (أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) قال النسفيّ رحمه الله: إنما جُعل الغضب في جانبها؛ لأن النساء يَستعملن اللعن كثيرًا، كما ورد به الحديث، فربما يجترئن على الإقدام؛ لكثرة جَرْي اللعن علي ألسنتهنّ، وسقوط وقوعه عن قلوبهنّ، فذُكر الغضب في جانبهنّ؛ ليكون رادعًا لهنّ. انتهى

(3)

.

(ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا) بتشديد الراء، من التفريق، قال السنديّ رحمه الله: وفيه أنه لا بدّ من تفريق الحاكم، أو الزوج بعد اللعان، ولا يكفي اللعان في التفريق، ومن لا يقول به يرى أن معناه أظهر أن اللعان مفرّق بينهما. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تقدّم تحقيق الخلاف في ذلك مستوفًى، وأن الراجح عدم اشتراط التفريق، بل يقع بالفراغ من التعانهما، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"المفهم" 4/ 296 - 297.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 125.

(3)

"تفسير النسفي" 3/ 136.

ص: 382

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3741 و 3742 و 3743 و 3744 و 3745 و 3746](1493)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4748) و"الطلاق"(5312 و 5315) و"الفرائض"(6748)، و (أبو داود) في "الطلاق "(2257 و 2258 و 2259)، و (النسائيّ) في "الطلاق"(6/ 177) و"الكبرى"(6/ 415)، و (الترمذيّ) في "الطلاق"(1202)، و (ابن ماجه) في "الطلاق"(2069)، و (مالك) في "الموطّإ"(1202)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 49)، و (الحميديّ) في "مسنده"(671)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 11 و 19 و 42)، و (الدارميّ) في "سننه"(2231 و 2232)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(752)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4286)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 202)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(404 و 405)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في أقوال أهل العلم في كيفيّة اللعان، وألفاظه:

قال العلامة ابن قُدامة رحمه الله: أما ألفاظه فهي خمسة في حقّ كلّ واحد منهما، وصفته أن الإمام يبدأ بالزوج، فيقيمه، ويقول له: قل أربع مرّات: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي هذه من الزنا، ويُشير إليها، إن كانت حاضرة، ولا يحتاج مع الحضور، والإشارة إلى نسبة وتسمية، كما لا يحتاج إلى ذلك في سائر العقود، وإن كانت غائبةً أسماها، ونسبها، فقال: امرأتي فلانة بنت فلان، ويرفع في نسبها حتى تنتفي المشاركة بينها وبين غيرها. فإذا شهد أربع مرّات، وقفه الحاكم، وقال له: اتّق الله، فإنها الموجبة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وكلّ شيء أهون من لعنة الله، ويأمر رجلًا، فيضع يده على فيه، حتى لا يبادر بالخامسة قبل الموعظة، ثم يأمر الرجل، فيرسل يده عن فيه، فإن رآه يمضي في ذلك، قال له: قل: وأن لعنة الله عليّ، إن كنت من الكاذبين فيما رميت به زوجتي هذه من الزنى.

ثم يأمر المرأة بالقيام، ويقول لها: قولي: أشهد بالله أن زوجي هذا لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنى، وتشير إليه، وإن كان غائبًا أسمته، ونسبته،

ص: 383

فإذا كرّرت ذلك أربع مرّات، وقفها، ووعظها كما ذكرنا في حقّ الزوج، ويأمر امرأة، فتضع يدها على فيها، فإن رآها تمضي على ذلك، قال لها: قولي: وأن غضب الله عليّ، إن كان زوجي هذا من الصادقين فيما رماني به من الزنى.

قال: وعدد هذه الألفاظ الخمسة شرط في اللعان، فإن أخلّ بواحدة منها لم يصحّ. انتهى كلام ابن قدامة رحمه الله باختصار.

وسئل الإمام أحمد رحمه الله كيف يلاعن؟ فقال: على ما كتاب الله تعالى، ثم ذكر نحو ما تقدّم.

وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: واختلفوا في الألفاظ التي يقولها المتلاعنان، وأولى ذلك كلّه ما دلّ عليه كتاب الله تعالى، ثم ذكر نحو ما تقدّم. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحاصل أن ما دلّ عليه نصّ كتاب الله تعالى من ألفاظ اللعان، هو المتّبع، ولا حاجة إلى الاختلاف في الزيادة والنقص، إلا إذا ثبت في الأحاديث ما يدلّ على الزيادة، مثل التوقيف ووضع اليد في الخامسة، وقوله: إنها موجبة، ونحو ذلك، فيُعمل بالزيادة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3742]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثنا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، قَالَ: سُئِلْتُ عَن الْمُتَلَاعِنَيْن، زَمَنَ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْر، فَلَمْ أَدْرِ مَا أَقُولُ، فَأَتَيْتُ عَبْدَ اللهِ ابْنَ عُمَرَ، فَقُلْتُ: أَرَأَيْتَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ؛ أيفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؟ ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ) المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

2 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبيعيّ الكوفيّ، ثقةٌ مأمون [8](ت 187)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

ص: 384

والباقون ذكروا قبله.

وقوله: (زمَنَ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ) أي: وقت كونه أميرًا على الكوفة.

وقوله: (ثمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير عيسى بن يونس.

[تنبيه]: رواية عيسى بن يونس، عن عبد الملك بن أبي سليمان هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3743]

(. . .) - (وَحَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثنَا سُفْيَان بْن عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ، قَالَ؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ -: "حِسَابُكمَا عَلَى الله، أَحَدُكمَا كَاذِبٌ، لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا"، قَالَ: يَا رَسُولَ الله، مَالِي، قَالَ: "لَا مَالَ لَكَ، إِنْ كنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا، فَذَاكَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا"، قَالَ زُهَيْرٌ فِي رِوَايَتِهِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَمْرُو) بن دينار الأثرم الْجُمَحيّ، أبو محمد المكيّ، ثقة ثبتٌ [4](126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.

والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي.

وقوله: (حِسَابُكُمَا عَلَى اللهِ) يعني لا سبيل في الدنيا إلى معرفة الصادق، وعقاب الكاذب منكما، وإنما يحاسبكم الله تعالى في الآخرة، وفيه أن الخصمين المتكاذبين لا يعاقب واحد منهما، وإن علمنا كذب أحدهما على الإبهام، قاله النوويّ

(1)

، وفيه أن البيّنتين إذا تعارضتا تساقطتا،

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 126.

ص: 385

حكاه الخطّابيّ

(1)

.

وقوله: (أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ) قال القاضي عياض رحمه الله: ظاهره أنه قال هذا الكلام بعد فراغهما من اللعان، والمراد بيان أنه يلزم الكاذب التوبة، قال: وقال الداوديّ: إنما قاله قبل اللعان؛ تحذيرًا لهما منه، قال: والأول أظهر، وأولى بسياق الكلام، قال: وفيه ردّ على من قال من النحاة: إن لفظة "أَحَدٍ" لا تُستعمل إلا في النفي، وعلى من قال منهم: لا تُستعمل إلا في الوصف، ولا تقع موقع "واحد"، وقد وقعت في هذا الحديث في غير نفي، ولا وصف، ووقعت موقع "واحد"، وقد أجازه المبرد، ويؤيده قوله تعالى:{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور: 6]. انتهى

(2)

.

(لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا) أي: لا يبقى بينكما نكاح بعد اللعان، أو المراد أنه لا تَسَلُّط لك عليها، فلا تصدّق أنت في اتهامها من غير بيّنة، ولا تُحدّ هي للزنا بمجرّد قولك، أو المراد.

وقال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليل لمالك، ولمن قال بقوله في تأبيد التحريم، فإن ظاهره النفي العامّ، وقد ذكر الدارقطنيّ زيادة في حديث سهل بعد قوله:"ففرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما"، وقال:"لا يجتمعان أبدًا"، وقال أبو داود عن سهل: مضت سنّة المتلاعنين أن يفرّق بينهما، ثم لا يجتمعان أبدًا، قال مالك: وهي السنّة التي لا اختلاف فيها عندنا. انتهى

(3)

.

(قَالَ: يَا رَسُولَ الله، مَالِي) أي: أطلب مالي الذي أعطيتها صداقًا (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَا مَالَ لَكَ) أي: ليس لك أن تستردّ منها مهرها الذي أعطيتها؛ لأنك قد استوفيته بدخولك عليها، وتمكينها لك من نفسها، ثم أوضح صلى الله عليه وسلم ذلك بتقسيمِ مستوعِبٍ، فقال:(إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا) أي: فيما ادّعيته عليها من الزنا (فهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا) أي: فقد استوفيت حقّك منها قبل ذلك (وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا، فَذَاكَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا") أي: من مطالبتها؛ لئلا تجمع عليها الظلم في عرضها، ومطالبتها بمال قبضته منك قبضًا صحيحًا.

(1)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 1/ 243.

(2)

"إكمال المعلم" 5/ 86.

(3)

"المفهم" 4/ 298.

ص: 386

ويُستفاد منه أن الملاعِنة لو أكذبت نفسها بعد اللعان، وأقرّت بالزنا وجب عليها الحدّ، لكن لا يسقط مهرها، كذا في "الفتح".

ثم إن الإجماع قد انعقد بحكم حديث الباب على أن الملاعنة المدخول بها تستحقّ جميع الصداق، والخلاف في غير المدخول بها، فالجمهور على أن لها النصف كغيرها من المطلّقات قبل الدخول، وقال أبو الزناد، والْحَكَم، وحماد: بل جميعه، وقال الزهريّ: لا شيء لها أصلًا، ورُوي عن مالك نحوه، كذا في "عمدة القاري"

(1)

.

وقوله: (قَالَ زُهَيْرٌ) هو ابن حرب، شيخه الثالث (فِي رِوَايَتِهِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو) هو ابن دينار (سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) غرض المصنّف بهذا بيان الاختلاف بين شيوخه في صيغ الأداء، فقد صرّح زهير بسماع عمرو من سعيد، وسعيد من ابن عمر رضي الله عنهما.

والحديث متّفق عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى فيما قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3744]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثنا حَمَّاد، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: فَرَّقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَخَوَيْ بَنِي الْعَجْلَان، وَقَالَ: "اللهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟ ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهم ذُكروا في السند الماضي، والباب الماضي.

وقوله: (فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ) يعني فهل للكاذب منكما أن يتوب إلى الله تعالى؟ وفيه استحباب عرض التوبة على المذنب، وفي "صحيح البخاريّ" أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك ثلاث مرّات.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى الكلام عليه فيما قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 1/ 244.

ص: 387

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3745]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه ابْنُ أبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَن اللِّعَان، فَذَكَرَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي، و"سفيان" هو: ابن عُيينة، و"أيوب" هو: السَّختيانيّ.

[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة، عن أيوب هذه ساقها الحميديّ في "مسنده" 2/ 296 فقال:

(672)

- حدثنا الحميديّ

(1)

، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا أيوب السَّخْتيانيّ؛ أنه سمع سعيد بن جبير يقول: سألت ابن عمر، فقلت: يا أبا عبد الرحمن رجل لاعن امرأته، فقال لي ابن عمر رضي الله عنهما يده هكذا بإصبعه السبابة والوسطى: فرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أخوي بن عجلان، وقال:"الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ "، قال سفيان: وكان أيوب حدّثناه أوّلًا في مجلس عمرو، ثم حدّث عمرو بحديثه هذا، فقال له أيوب: أنت يا أبا محمد أحسن له حديثًا مني. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3746]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، وَمُحَمَدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَارٍ، وَاللَّفْظُ لِلْمِسْمَعِيِّ، وَابْنِ الْمُثَنَّى، قَالُوا: حَدَّثنَا مُعَاذٌ، وَهُوَ ابْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَني أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَزْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: لَمْ يُفَرِّق الْمُصْعَبُ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْن، قَالَ سَعِيدٌ: فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، فَقَالَ: فَرَّقَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَخَوَيْ بَني الْعَجْلَانِ).

(1)

هذا قول الراوي عن الحميديّ.

ص: 388

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(ابْنُ بَشَّارٍ) هو محمد بن بشّار بُندار، تقدّم قريبًا.

2 -

(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدستوائيّ البصريّ، صدوقٌ ربّما وَهِم [9](200) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

3 -

(أَبُوهُ) هشام الدستوائيّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السدوسيّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [4](117) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

5 -

(عَزْرَةُ) بن عبد الرحمن بن زُرارة الْخُزَاعيّ الكوفيّ الأعور، ثقةٌ [6].

رَوَى عن عائشة أم المؤمنين، مرسل، وعن أبي الشعثاء، والحسن الْعُرَنيّ، وحُميد بن عبد الرحمن الْحِمْيريّ، وسعيد بن جبير، والشعبيّ، وغيرهم.

ورَوى عنه سليمان التيميّ، وقتادة، وداود بن أبي هِنْد، وخالد الْحَذّاء، وعاصم الأحول، وعبد الكريم الجزريّ، وورقاء بن إياس.

قال عليّ بن المدينيّ: قلت ليحيى بن سعيد: من يعرف عزرة صاحب قتادة؟ فقال يحيى: بلى والله إني أعرف، وقال صالح بن أحمد، عن أبيه: عزرة روى عنه قتادة، وداود، وسليمان، وخالد، وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: عزرة الذي يروي عنه قتادة ثقةٌ، وقال ابن البراء، عن ابن المدينيّ: عزرة بن عبد الرحمن روى عنه قتادة، والتيميّ، وعبد الكريم الجزريّ، ثقةٌ، ولم يسمع من البراء، وذكره ابن حبان في الطبقة الثالثة من الثقات، ولم يصفه بأنه أعور، وذكر في هذه الطبقة عزرة بن دينار الأعور، روى عن المكيين، روى عنه التيميّ، وداود بن أبي هند، والله أعلم

(1)

.

(1)

قال في "تهذيب التهذيب": وأما الحديث الذي رَوَى أبو داود، وابن ماجه، من طريق عبدة بن سليمان، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عزرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قصة شُبْرُمة، فوقع عندهما عزرة غير منسوب، وجزم البيهقيّ بأنه عزرة بن يحيى، ونَقَل عن أبي عليّ النيسابوري أنه قال: =

ص: 389

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ

(1)

.

والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي، و"أبو غسّان الْمِسْمَعيّ " هو: مالك بن عبد الواحد.

وقوله: (لَمْ يُفَرِّق الْمُصْعَبُ) بن الزبير بن العوّام، أمير الكوفة.

وقوله: (بَيْنَ أَخَوَيْ بَنِي الْعَجْلَانِ) أي: بين رجل وامرأة من بني العجلان، وتسميتهما أخوين تغليب للذكر على الأنثى، والمراد بهما عويمر، وزوجته.

والحديث متّفقٌ عليه، وهو مختصر من حديث ابن عمر رضي الله عنهما الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3747]

(1494) - (وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَا: حَدَّثنَا مَالِكٌ (ح) وَحَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَ: قُلْتُ لِمَالِكٍ: حَدَّثَكَ نَافِعٌ، عَن ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلًا لَاعَنَ امْرَأتهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَفَرَّقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا، وَألْحَقَ الْوَلَدَ بِأُمِّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ) الخراسانيّ، ثم المكيّ، ثقةٌ مصنّف [10](ت 227)(ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 338.

والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي، و"نافعٌ" هو: مولى ابن عمر.

= روى قتادة أيضًا عن عزرة بن ثابت، وعن عزرة بن عبد الرحمن، وعن هذا، فقتادة قد روى عن ثلاثة، كل منهم اسمه عزرة، فقول النسائي في "التمييز": عزرة الذي روى عنه قتادة ليس بذاك القويّ، لم يتعين في عزرة بن تميم، كما ساقه فيه المؤلف - يعني المزّيّ في "تحفته" - فليُتفطَّن لذلك، قلت: وعزرة بن يحيى لم أر له ذكرًا في "تاريخ البخاريّ". انتهى. "تهذيب التهذيب" 7/ 173.

(1)

كنت كتبت في شرح النسائيّ ترجمة عزرة بن ثابت، والآن يميل قلبي إلى أنه عزرة بن عبد الرحمن، والله تعالى أعلم.

ص: 390

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (239) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (أَنَّ رَجُلًا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلخ) وفي رواية البخاريّ: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لاعن بين رجل وامرأته، فانتفى من ولدها، ففرّق بينهما، وألحق الولد بالمرأة".

وقوله: "فانتفى إلخ" قال الطيبيّ: الفاء سببيّة؛ أي: الملاعنة سبب الانتفاء، قال الحافظ: فإن أراد أن الملاعنة سبب ثبوت الانتفاء، فجيّد، وإن أراد أن الملاعنة سبب وجود الانتفاء، فليس كذلك، فإنه إن لم يتعرّض لنفي الولد في الملاعنة لم ينتف، والحديث في "الموطّإ" بلفظ:"وانتفى" بالواو، لا بالفاء، وذكر ابن عبد البرّ أن بعض الرواة عن مالك ذكره بلفظ:"وانتقل" يعني بقاف بدل الفاء، ولام آخره، وكأنه تصحيف، وإن كان محفوظًا، فمعناه قريبٌ من الأوّل، وعند البخاري في "التفسير" من وجه آخر عن نافع بلفظ:"أن رجلًا رمى امرأته، وانتفى من ولدها، فأمرهما النبيّ صلى الله عليه وسلم، فتلاعنا"، فوضح أن الانتفاء سبب الملاعنة، لا العكس.

واستُدِلَّ بهذا الحديث على مشروعيّة اللعان لنفي الولد، وعن أحمد ينتفي الولد بمجرّد اللعان، ولو لم يتعرّض الرجل لذكره في اللعان، وفيه نظر؛ لأنه لو استلحقه لحقه، وإنما يؤثر لعان الرجل دفع حدّ القذف عنه، وثبوت زنا المرأة، ثم يرتفع عنها الحدّ بالتعانها. وقال الشافعيّ: إن نفى الولد في الملاعنة انتفى، وإن لم يتعرّض له، فله أن يعيد اللعان لانتفائه، ولا إعادة على المرأة، وإن أمكنه الرفع إلى الحاكم، فأخّر بغير عذر حتى ولدت، لم يكن له أن ينفيه كما في الشفعة.

واستدلّ به على أنه لا يُشترط في نفي الحمل تصريحُ الرجل بأنها ولدت من زنا، ولا أنه استبرأها بحيضة، وعن المالكيّة يُشترط ذلك، واحتجّ بعض من خالفهم بأنه نفى الحمل عنه من غير أن يتعرّض لذلك، بخلاف اللعان الناشئ عن قذفها.

واحتجّ الشافعيّ بأن الحامل قد تحيض، فلا معنى لاشتراط الاستبراء، قال ابن العربيّ: ليس عن هذا جواب مقنع.

ص: 391

وقوله: (رَجُلًا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ) قال صاحب "التنبيه": الظاهر أنه عُويمر. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِأُمِّهِ) ولفظ البخاريّ: "ففرّق بينهما، وألحق الولد بالمرأة"، قال الدارقطنيّ: تفرّد مالكٌ بهذه الزيادة، قال ابن عبد البرّ: ذكروا أن مالكًا تفرّد بهذه اللفظة في حديث ابن عمر، وقد جاءت من أوجه أخرى في حديث سهل بن سعد، كما تقدّم من رواية يونس، عن الزهريّ، عند أبي داود بلفظ:"ثم خرجت حاملًا، فكان الولد إلى أمه،. ومن رواية الأوزاعيّ، عن الزهريّ: "وكان الولد يُدعى إلى أمه".

ومعنى قوله: "وألحق الولد بأمه"؛ أي: صيّره لها وحدها، ونفاه عن الزوج، فلا توارث بينهما، وأما أمّه فترث منه ما فرض الله لها، كما وقع صريحًا ففي حديث سهل بن سعد:"وكان ابنها يُدعَى لأمه، ثم جرت السنّة في ميراثها أنها ترثه، ويرث منها ما فرض الله لها".

وقيل: معنى إلحاقه بأمه أنه صيّرها له أبًا وأمّا، فترث جميع ماله، إذا لم يكن له وارث آخر من ولد ونحوه، وهو قول ابن مسعود، وواثلة بن الأسقع، وطائفة، ورواية عن أحمد. وروي أيضًا عن ابن القاسم، وعنه: معناه أن عصبة أمه تصير عصبة له، وهو قول عليّ، وابن عمر، وعطاء، والمشهور عن أحمد، وقيل: ترثه أمه وإخوته منها بالفرض والردّ، وهو قول أبي عبيد، ومحمد بن الحسن، ورواية عن أحمد، قال: فإن لم يرثه ذو فرض بحال، فعصبته عصبة أمه.

واستُدلّ به على أن الولد المنفيّ باللعان لو كان بنتًا حلّ للملاعن نكاحها، وهو وجه شاذّ لبعض الشافعيّة، والأصحّ كقول الجمهور أنها تحرم؛ لأنها ربيبته في الجملة.

والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"تنبيه المعلم"(ص 254).

ص: 392

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3748]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا أَبُو أُسَامَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ الله، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَاعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَامْرَأَتِه، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حماد بن أُسامة، تقدّم قريبًا.

2 -

(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر الْعُمَريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (بَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَامْرَأَتِهِ) الظاهر أن الرجل هو عُويمر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3749]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَعُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَا: حَدَّثنَا يَحْيَى، وَهُوَ الْقَطَّانُ، عَنْ عُبَيْدِ الله، بِهَذَا الْإِسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ) أبو قُدامة السرخسيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنّيّ [10](ت 241)(خ م س) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: رواية يحيى القطّان، عن نافع هذه ساقها البخاريّ في "صحيحه"، فقال:

(5008)

- حدّثنا مسدّد، حدّثنا يحيى، عن عبيد الله، أخبرني نافع، عن ابن عمر قال: لاعن النبيّ صلى الله عليه وسلم بين رجل وامرأة من الأنصار، وفرّق بينهما. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3750]

(1495) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثنَا جَرِيرٌ، عَن الْأَعْمَش، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ: إِنَّا لَيْلَةَ

ص: 393

الْجُمُعَةِ

(1)

فِي الْمَسْجِد، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَار، فَقَالَ: لَوْ أَن رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا، فَتَكَلَّمَ جَلَدْتُمُوهُ، أَوْ قَتَلَ قَتَلْتُمُوهُ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى غَيْظٍ، وَاللهِ لَأَسْأَلَنَّ عَنْهُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَد، أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا، فَتَكَلَّمَ جَلَدْتُمُوهُ، أَوْ قَتَلَ قَتَلْتُمُوهُ، أَوْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى غَيْظٍ، فَقَالَ:"اللَّهُمَّ افْتَحْ"، وَجَعَلَ يَدْعُو، فَنَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6]، هَذِهِ الْآيَاتُ، فَابْتُلِيَ بِهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْنِ النَّاس، فَجَاءَ هُوَ، وَامْرَأَتُهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَلَاعَنَا، فَشَهِدَ الرَّجُلُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِالله، إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، ثُمَّ لَعَنَ الْخَامِسَةَ؛ أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، فَذَهَبَتْ لِتَلْعَنَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَهْ"، فَأَبَتْ، فَلَعَنَتْ، فَلَمَّا أَدْبَرَا، قَالَ:"لَعَلَّهَا أَنْ تَجِيءَ بِهِ أَسْوَدَ، جَعْدًا"، فَجَاءَتْ بِهِ أَسْوَدَ جَعْدًا).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) ذُكر في الباب.

2 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) الْعَبْسيّ، أبو الحسن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 239)(خ م دس ق) تقدم في "الإيمان" 35/ 246.

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهوية المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ إمام حجة [10](ت 238)(خ م دت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

4 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ الكوفيّ، نزيل الرَّيّ، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

5 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهران الكوفيّ، ثقةُ حافظٌ، عارفٌ بالقراءة، وَرع، لكنه يدلّس [5](ت 147)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.

6 -

(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد بن قيس النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ كثير الإرسال [5](ت 96)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.

(1)

وفي نسخة: "إنا لليلة الجمعة".

ص: 394

7 -

(عَلْقَمَةُ) بن قيس بن عبد الله النخعيّ الكوفيّ ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عابدٌ [2] مات بعد الستّين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.

8 -

(عَبْدُ اللهِ) بن مسعود الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، مات سنة (32) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.

[تنبيه]: زاد ابن حبّان في آخر هذا الحديث ما نصّه: قال إسحاق - يعني ابن راهويه -: قال يحيى بن معين: قلت لجرير: لم يرو هذا عن الأعمش أحدٌ غيرك، قال: لكنّي سمعته منه. انتهى

(1)

.

وقوله: (إِنَّا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ) وفي نسخة: "لليلة الجمعة" بزيادة لام التأكيد على "ليلة"، وفي رواية أبي داود:"إنا لليلة جمعة"، بزيادة لام التأكيد أيضًا، وحذف أداة التعريف من "الجمعة"، وفي رواية المحاربيّ عند أحمد:"بينا نحن في المسجد ليلة الجمعة"، وفي رواية أبي عوانة عنده:"كنا جُلوسًا عشيّة الجمعة في المسجد".

وقوله: (فِي الْمَسْجِدِ) يعني المسجد النبويّ، قال ابن حبان في "صحيحه":"قال: كنّا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في مسجد المدينة ذاتَ ليلة".

وقوله: (إِذْ جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ) قال صاحب "التنبيه": الظاهر أنه عُويمر الْعَجلانيّ

(2)

، واستظهر بعضهم كونه هلال بن أميّة؛ لأن سياق هذا الحديث يناسب سياق قصّة هلال؛ فإن قوله صلى الله عليه وسلم:"اللَّهم افتح" إنما رُوي في قصّة هلال، ولم يُرو في قصّة عويمر مثله، وإنما قال له صلى الله عليه وسلم:"قد نزل فيك وفي صاحبتك إلخ"، كما سبق في حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما، ثم زاد أحمد من طريق أبي عوانة في آخر الحديث:"قال: فكان الرجل أوّل من ابتُلِي به"، وهذا عين ما ذكروه في قصّة هلال، كما سيأتي في حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما. انتهى

(3)

.

وقوله: (فَقَالَ: "اللَّهُمَّ افْتَحْ") القائل هو النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال الخطّابيّ رحمه الله:

(1)

"الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 10/ 112 - 113.

(2)

راجع: "تنبيه المعلم"(ص 254).

(3)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 1/ 247.

ص: 395

معنى "افتح": احكُم، أو بَيِّن الحكم فيه، والفتّاح: الحاكم، ومنه قوله تعالى:{ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ: 26]، ووقع في رواية أحمد بلفظ:"اللهمّ احكم"

(1)

.

وقوله: ("مَهْ") كلمة كَفّ وزَجْرٍ، يعني انتهي عما ترينه من اللعان، واعترفي بالحقّ، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وكأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم غلب على ظنّه كذبها، ولذلك قال في آخر الحديث:"لعلها أن تجيء به أسود جعدًا"، يعني على خلاف شَبَه صاحب الفراش، فجاءت به كما وصف صلى الله عليه وسلم، وقد ورد في قصّة هلال بن أميّة في حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما عند البخاريّ وغيره: أن المرأة تلكّأت بعد ذلك، ونَكَصَتْ، حتى ظنّ الصحابة رضي الله عنهم أنها سترجع، ولكنها قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخره:"لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن".

وقوله: (جَعْدًا) قال في "النهاية": الْجَعْد في صفات الرجال يكون مدحًا وذَمًّا، فالمدح معناه أن يكون شديد الأَسْر والْخَلْق، أو يكون جَعْد الشعر، وهو ضد السَّبْط؛ لأن السُّبُوطة أكثرها في شعور المعجم، وأما الذمّ فهو القصير المتردِّدُ الخلق، وقد يُطْلَق على البخيل أيضًا، يقال: رجل جَعْدُ اليدين، ويُجمَع على الْجِعَاد. انتهى

(2)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3750 و 3751](1495)، و (أبو داود) في "الطلاق"(2253)، و (ابن ماجه) في "الطلاق"(2068)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 421 - 422)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(18/ 84)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4281)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 207)، و (البيهقيّ) في

(1)

راجع: "المسند" 1/ 422.

(2)

"النهاية في غريب الأثر" 1/ 275.

ص: 396

"الكبرى"(7/ 405)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[3751]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ (ح) وَحَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، جَمِيعًا عَن الْأَعْمَش، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ الكوفيّ، ثقةٌ مأمون [8](ت 191)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

2 -

(عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الكلابيّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [8](ت 187) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 339.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية عيسى بن يونس، عن الأعمش، ساقها الطحاويّ رحمه الله في "شرح مشكل الآثار" 13/ 128 فقال:

(5138)

- حدّثنا يزيد بن سنان، قال: حدّثنا حكيم بن سيف، قال: حدّثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: قال ابن مسعود: قام رجل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجمعة، فقال: أرأيتم إن وَجَد رجل مع امرأته رجلًا، فإن هو قتله قتلتموه، وإن هو تكلم جلدتموه، وإن سكت سكت على غيظٍ شديدٍ؟ اللهم احكُم، فأُنزلت آية اللعان، قال عبد الله: فابتُلِي به، وكان رجلًا من الأنصار، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلاعن امرأته، فلما أَخَذت امرأته لتلتعن، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَهْ"، فلما أدبرت، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لعلها أن تجيء به أسود جعدًا"، فجاءت به أسود جعدًا. انتهى.

ورواية عبدة بن سليمان، عن الأعمش، ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه" 1/ 669 فقال:

(2068)

- حدّثنا أبو بكر بن خلّاد الباهليّ، وإسحاق بن إبراهيم بن حبيب، قالا: ثنا عبدة بن سليمان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة،

ص: 397

عن عبد الله، قال: كنّا في المسجد ليلةَ الجمعة، فقال رجل: لو أن رجلًا وَجَدَ مع امرأته رجلًا، فقتله قتلتموه، وإن تكلم جلدتموه، والله لأذكرنّ ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فذَكَره للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله آيات اللعان، ثم جاء الرجل بعد ذلك يقذف امرأته، فلاعن النبيّ صلى الله عليه وسلم بينهما، وقال: "عَسَى أن تجيء به أسود

(1)

"، فجاءت به أسود جعدًا. انتهى.

(4703)

- حدّثنا الصغانيّ، قثنا

(2)

محمد بن عبد الله بن نُمير، قثنا عبدة بن سليمان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: كنّا في المسجد ليلة الجمعة، فقال رجل: لو أن رجلًا وجد مع امرأته رجلًا، فقتله قتلتموه، فإن تكلم جلدتموه، لأذكرنّ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فذَكَر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله آيات اللعان، ثم جاء الرجل، فقذف امرأته، فلاعن النبيّ صلى الله عليه وسلم بينهما، وقال: "لعله أن تجيء به أسود أجعدًا

(3)

"، قال: فجاءت به أسود أجعدًا. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3752]

(1496) - (وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَذَثنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثنَا هِشَامٌ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وَأَنَا أُرَى أَنَّ عِنْدَهُ مِنْهُ عِلْمًا، فَقَالَ: إِنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ، قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، وَكَانَ أَخَا الْبَرَاءِ بْنِ مَالك لِأُمِّه، وَكَانَ أَوَّلَ رَجُلٍ لَاعَنَ في الْإِسْلَام، قَالَ: فَلَاعَنَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَبْصِرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَبْيَضَ، سَبِطًا، قَضِيءَ الْعَيْنَيْن، فَهُوَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ، جَعْدًا، حَمْشَ السَّاقَيْن، فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ"، قَالَ: فَأُنْبِئْتُ أنهَا جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ، جَعْدًا، حَمْشَ السَّاقَيْنِ).

(1)

زاد في "مصنّف ابن أبي شيبة": "جَعْدًا".

(2)

مختصرة من "قال: حدّثنا".

(3)

هكذا النسخة: "أجعدًا" في الموضعين، وهو خطأ، والصواب "جَعْدًا" ووقع على الصواب في "مصنّف ابن أبي شيبة"، و"سنن ابن ماجه"، وغيرهما، فتنبّه.

ص: 398

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) ذُكر قبل حديثين.

2 -

(عبد الأعلى): هو ابن عبد الأعلى الشاميّ البصريّ ثقةٌ [8](ت 198)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.

3 -

(هِشَامُ بن حَسّان) القُرْدُوسيّ البصريّ، ثقة، من أثبت الناس في ابن سيرين [6](ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

4 -

(محمد بن سيرين) الأنصاريّ مولاهم، أبو بكر بن أبي عمرة البصريّ، ثقة ثبت فقيه عابدٌ [3](ت 110) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 308.

5 -

(أنس بن مالك) بن النضر الأنصاريّ الصحابيّ الشهير، مات صلى الله عليه وسلم سنة (2 أو 93) وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ مُحَمَّدِ) بن سيرين رحمه الله أنه (قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ) رضي الله عنه هكذا أخرج المصنّف رحمه الله هذا الحديث من رواية هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن أنس رضي الله عنه، وأخرجه البخاريّ من رواية هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال في "الفتح": فمنهم من أعلّ حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا - يعني حديث أنس - ومنهم من حمله على أن لهشام فيه شيخين، وهذا هو المعتمد، فإن البخاريّ أخرج طريق عكرمة، ومسلمًا أخرج طريق ابن سيرين، ويرجّح هذا الحمل اختلاف السياقين، كما سنبيّنه، إن شاء الله تعالى. انتهى.

(وَأَنَا أُرَى) بضمّ الهمزة، مبنيًّا للمفعول، ومعناه معلوم؛ أي: أظنّ، ويجوز فتح همزته أيضًا (أَنَّ عِنْدَهُ) أي: عند أنس رضي الله عنه (مِنْهُ) أي: من المسئول عنه (عِلْمًا، فَقَالَ) أنس رضي الله عنه (إِنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ) بن عامر بن قيس بن عبد الأعلم بن عامر بن كعب بن واقف الأنصاريّ الواقفيّ، شهد بدرًا، وما بعدها، وهو أحد الثلاثة الذين تِيب عليهم (قَذَفَ امْرَأَتَهُ) أي: رماها، يقال: قَذَفَ المحصنةَ قَذْفًا، من باب رَمَى: إذا رماها بالفاحشة، أفاده الفيّوميّ. (بِشَرِيكِ) بفتح الشين المعجمة، وكسر الراء (ابْنِ سَحْمَاءَ) - بفتح السين،

ص: 399

وسكون الحاء المهملتين - وهي أمه، واسم أبيه عَبْدة بن مُعتّب بن الجدّ بن العجلان البلويّ، حليف الأنصار.

قال في "الإصابة": قال أبو نعيم: إن بعضهم زعم أن شريكًا صفة لهذا الرجل، لا اسم له، وإنما كان بينه وبين ابن سحماء شَرِكَةٌ، فقيل له: شريك ابن سحماء، فعلى هذا يتعيّن كتابة ألف بين "شريك"، و"ابن سحماء"، ولكنّه قول شاذّ، وقد يتقوّى بأن البراء بن مالك، كان أخا أنس بن مالك شقيقه، فعلى هذا فأُمهم جميعًا أم سُليم، ولم يُنْقَل أن أم سُليم، تزوّجت عبدة بن مُعتّب قط.

لكن يُجاب عن هذا بأنه كان أخا البراء لأمه من الرضاعة.

وقد ذكر ابن الكلبيّ وغيره أن أمّ إبراهيم بن عبد الله بن عربيّ الذي كان والي اليمامة لعبد الملك بن مروان: فاطمة بنت شَريك بن سَحْماء، وذكروا أيضًا لفاطمة بنت شريك خبرًا يوم الدار، وأنها حَمَلت مروان بن الحكم لما ضُرب يوم الدار، فسقط، فأدخلته بيتًا حتى سَلِم من القتل.

ويقال: إن شريك بن السحماء بعثه أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه رسولًا إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه، وهو باليمامة، ويقال: إنه شهد مع أبيه أُحدًا.

رَوَى ذلك ابن سعد، عن الواقديّ بسنده، قال: فبعث أبو بكر إلى خالد أن يسير من اليمامة إلى العراق، وبعث عبده مع شريك بن عبدة العجلانيّ، وكان شريك أحد الأمراء بالشام في خلافة أبي بكر، وبعثه عمر رسولًا إلى عمرو بن العاص حين أذن له أن يتوجّه إلى فتح مصر، ذكره ابن عساكر، ولم ينبّه على أنه ابن سحماء، فكأنه عنده آخر. انتهى ما في "الإصابة" باختصار

(1)

.

(وَكَانَ أَخَا الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ لِأُمِّهِ)"البراء" هذا هو ابن مالك بن النضر بن ضَمْضَم بن زيد بن حَرَام بن جُنْدُب بن عامر بن غَنْم بن عَدِيّ بن النجّار الأنصاريّ النجاريّ، أخو أنس بن مالك لأبيه، قاله أبو حاتم، وقال ابن سعد: أخوه لأبيه وأمه، أمهما أم سُليم. قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأنه أخو شَرِيك بن سَحْماء لأمه، أمهما سَحْماء، وأما أم أنس، فهي أم سليم، بلا خلاف، وكان

(1)

راجع: "الإصابة" 5/ 74 - 75.

ص: 400

البراء رضي الله عنه حادي النبيّ صلى الله عليه وسلم، يرجز له في بعض أسفاره، وشهد معه المشاهد إلا بدرًا.

رَوَى البغويّ بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين، عن أنس رضي الله عنه قال: دخلت على البراء بن مالك رضي الله عنه، وهو يتغنّى، فقلت له: قد أبدلك الله ما هو خير منه، فقال: أترهب أن أموت على فراشي، لا والله، ما كان الله ليَحْرِمني ذلك، وقد قتلت مائةً منفردًا، سوى من شاركت فيه.

وأخرج بَقِيّ بن مَخْلَد في "مسنده" عن أبي إسحاق، قال: زَحَف المسلمون إلى المشركين يوم اليمامة حتى ألجئوهم إلى حَديقة فيها عدوّ الله مسيلمة، فقال البراء بن مالك: يا معشر المسلمين، ألقوني إليهم، فاحتُمِل حتى إذا أشرف على الجدار اقتحم، فقاتلهم على الحديقة، حتى فتحها على المسلمين، ودخل عليهم المسلمون، فقتل الله مسيلمة.

وأخرج بسنده عن أنس رضي الله عنه، قال: رَمَى البراء بنفسه عليهم، فقاتلهم حتى فتح الباب، وبه بضع وثمانون جراحةً من بين رمية بسهم، وضربة، فحُمل إلى رحله يُداوَى، وقام عليه خالد شهرًا.

وأخرج الترمذيّ من طريق ثابت، وعليّ بن زيد، عن أنس رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "ربّ أشعث أغبر لا يُؤْبه له، لو أقسم على الله لأبرّه، منهم البراء بن مالك"، فلما كان يوم تُستر من بلاد فارس، انكشف الناس، فقال المسلمون: يا براء أقسم على ربّك، فقال: أُقسمُ عليك يا ربّ لَمَا مَنَحتنا أكتافهم، وألحقتني بنبيّك، فحَمَل، وحَمَل الناس معه، فقَتَل مرزُبان الزارة من عظماء الفرس، وأخذ سَلَبه، فانهزم الفرس، وقُتل البراء.

استُشهِد يوم حِصْن تستر في خلافة عمر رضي الله عنه سنة عشرين، وقيل: قبلها، وقيل: سنة ثلاث وعشرين، وذكر سيف أن الهرمزان هو الذي قتله. انتهى ملخّصًا من "الإصابة"

(1)

.

(وَكَانَ أَوَّلَ رَجُلٍ لَاعَنَ فِي الْإِسْلَامِ) قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: هذا يقتضي أن آية اللعان نزلت بسبب هلال بن أميّة، وكذلك ذكره البخاريّ، وهو

(1)

راجع: "الإصابة في تمييز الصحابة" 1/ 235 - 237.

ص: 401

مخالفٌ لما تقدّم أنها نزلت بسبب عويمر العجلانيّ، وهذا يَحْتَمِل أن تكون القضيّتان متقاربي الزمان، فنزلت بسببهما معًا، وَيحْتَمِل أن تكون الآية أنزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم مرّتين؛ أي: كرّر نزولها عليه، كما قال بعض العلماء في "سورة الفاتحة": إنها نزلت بمكّة، وتكرر نزولها بالمدينة، وهذه الاحتمالات - وإن بعُدت - فهي أولى من أن يُطرَّق الوهم للرواة الأئمة الحفّاظ. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حاصل ما أشار إليه القرطبيّ رحمه الله أن الجمع بأنها نزلت بسببهما هو الأرجح، وقد تقدّم تمام البحث في ذلك قريبًا، فراجعه تستفد، والله تعالى وليّ التوفيق.

(قَالَ: فَلَاعَنَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَبْصِرُوهَا) الضمير للمرأة الملاعِنة، ثم الظاهر أنه من الإبصار، فهمزته همزة قطع، وَيحْتَمِل أن يكون من البصر - بفتحتين - من بابي كَرُم، وعَلِمَ، لكن هذا قليل، إذ الفصيح أن يتعدى بالباء، قال الفيّوميّ: يقال: أبصرته برؤية العين إبصارًا، وبَصُرتُ بالشيء - بالضمّ، والكسرُ لغةٌ، بَصَرًا - بفتحتين -: عَلِمت به، فأنا بصير به، يتعدّى بالباء في اللغة الفصحى، وقد يتعدّى بنفسه. انتهى.

وقال السمين الحلبيّ رحمه الله في قوله تعالى: {فَبَصُرَتْ بِهِ} [القصص: 11]: يقال: بَصِر بالشيء؛ أي: عَلِمه، وأبصره؛ أي: نظر إليه، كذا قال الزجّاج، وقال غيره: بَصِر بالشيء، وأبصره: بمعنى عَلِمه، والعامّة بضم الصاد في الماضي، ومضارعه، وقرأ الأعمش، وأبو السمّال:"بصِرت" بالكسر، يبصَر بالفتح، وهي لغة. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحاصل أن الفصيح في قوله: "أبصروا" قطع الهمزة، أو تعديته بالباء، والمعنى: اعلموا ولدها، أو انظروا إلى ولدها الذي ستلده من هذا الحمل الذي لاعنت به على أي صفة تَلِده، حتى تستدلّوا على كذب أحدهما، والله تعالى أعلم.

(فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَبْيَضَ، سَبِطًا) بكسر الباء، وإسكانها؛ أي: مُسترسِل الشعر، منبسطه، يقال: سَبِط الشعرُ سَبَطًا، من باب تعب، فهو سَبِطٌ - بكسر الباء -، وربّما قيل: سَبَطٌ بالفتح وصفٌ بالمصدر: إذا كان مسترسلًا، وسَبُطَ سَبُوطةً، فهو سَبْطٌ، مثلُ سَهُل سُهُولةً، فهو سَهْلٌ، لغةٌ فيه، قاله الفيّوميّ رحمه الله.

ص: 402

(قَضِيءَ الْعَيْنَيْنِ) - بفتح القاف، وكسر الضاد المعجمة - على وزن فَعِيل أي: فاسد العينين بكثر دمع، أو حمرة، أو غير ذلك، قال ابن منظور في "اللسان": قَضِئَتْ عينُهُ تَقْضَأ قَضَأً، فهي قَضِئَةٌ: احمرّت، واسترخت مآقيها، وقَرِحَت، وفَسَدَت، والقُضْأَةُ الاسم، وفيها قَضْأَةٌ؛ أي: فسادٌ. انتهى.

(فَهُوَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ) أي: لأن هذه صفته (وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ) أفعل من الْكَحَل بفتحتين، وهو سَوادٌ يعلو جُفُون العين خِلْقَةً، يقال: كَحِلت العينُ كَحَلًا، من باب تَعِبَ، ورجلٌ أكحل، وامرأة كحلاء، مثلُ أحمر، وحَمراء، قاله الفيّوميّ

(1)

.

وفي رواية "النسائيّ": "وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ آدَمَ" بالمدّ من الأُدمة، وهي شدّة السمرة، يقال: رجلٌ آدم، وامرأة أَدْماءُ؛ كأحمر، وحمراء، ويُجمع آدم على أُدْم؛ كَحُمْر، قاله في "المفهم"، وفي "القاموس": أَدُمَ؛ كعَلِم، وكرُم، فهو آدم، جمعه أُدْمٌ، وأُدْمَانٌ - بضمّهما -، وهي أَدْمَاءُ، وشذّ: أَدمَانةٌ، جمعها أُدْمٌ - بالضمّ - انتهى. (جَعْدًا) - بفتح الجيم، وسكون العين المهملة - المراد هنا هو المتكسّر الشعر، ضدّ السبوطة المتقدّمة، قال الفيّوميّ: جَعد الشعر - بضمّ العين، وكسرها - جُعُودةً إذا كان فيه التوأء، وتقبّضٌ، فهو جعد، وذلك خلاف المسترسل. انتهى.

وفي رواية أخرى: "إن جاءت به جعدًا قَطِطًا"؛ أي: شديد الجعودة.

وزاد في رواية النسائيّ: "رَبْعًا" - بفتح الراء، وسكون الموحّدة، وتُفتح - ويقال أيضًا: رَبعة؛ أي: متوسّطًا، غير طويل، ولا قصير، قال الفيّوميّ: رجلٌ رَبْعةٌ، وامرأة رَبْعَةٌ؛ أي: معتدل، وحذف الهاء في المذكّر لغةٌ، وفتح الباء فيهما لغةٌ، ورجلٌ مربوعٌ مثله. انتهى. (حَمْشَ السَّاقَيْنِ) - بفتح الحاء المهملة، وسكون الميم، وشين معجمة -، وزان فَلْس، يقال: رجلٌ حَمْشُ الساقين، وأحمش الساقين؛ أي: دقيقهما، وحَمِشَ عَظْمُ ساقه، من باب تَعِب حَمْشةً؛ أي: رقّ (فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ") قال القرطبيّ: هذا يدلّ على أن هذا كان منه صلى الله عليه وسلم تفرّسًا وحَدْسًا، لا وحيًا، ولو كان وحيًا لكان معلومًا عنده، وفيه ما

(1)

"المصباح المنير" 2/ 527.

ص: 403

يدلّ على إلغاء حكم الشَّبَه في الحرائر، كما هو مذهب مالك، قال: وفيه: أن ذكر الأوصاف المذمومة للضرورة، والتحلية بها للتعريف ليس بغيبة. انتهى

(1)

.

(قَالَ) أنس رضي الله عنه (فَأُنْبِئْتُ أَنَّهَا جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ، جَعْدًا، حَمْشَ السَّاقَيْنِ) أي: على صفة شريك بن سَحْماء الذي ادّعَى هلال أنه وجده مع امرأته، زاد في رواية النسائيّ:"فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْلَا مَا سَبَقَ فِيهَا مِنْ كِتَاب الله، لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ"، وفي رواية: "لولا ما مضى من كتاب الله لكان ليَ ولها شأن"؛ أي: لولا ما سبق من حكم الله تعالى أن اللعان يدفع الحدّ عن المرأة لأقمت عليها الحدّ من أجل الشبه الظاهر بالذي رُميت به، ويستفاد منه أنه صلى الله عليه وسلم كان يحكم بالاجتهاد فيما لم ينزل عليه فيه وحي خاصّ، فإذا أُنزل الوحي بالحكم في تلك المسألة قَطَع النظر، وعَمِل بما نزل، وأَجرى الأمر على الظاهر، ولو قامت قرينة تقتضي خلاف الظاهر، قاله في "الفتح".

وقال القرطبيّ: يُفْهَم من ذلك أن الحكم إذا وقع على شروطه لا يُنقض، وإن تبيّن خلافه.

هذا إن لم يقع خلل، أو تفريط في شيء من أسبابه، فأما لو فرّط الحاكم، فغلط، وتبيّن تفريطه، وغلطه بوجه واضح، نُقض حكمه، وهذا مذهب الجمهور. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3752](1496)، و (النسائيّ) في "الطلاق"(3495 و 3496)، و"الكبرى"(5662 و 5663)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 142)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 209)، أما فوائد الحديث، وبيان المسائل المتعلّقة به، فقد تقدّمت في شرح حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما، فراجعها

(1)

"المفهم" 4/ 303.

(2)

"المفهم" 4/ 303.

ص: 404

تستفد علمًا جمًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله اللهُ أولَ الكتاب قال:

[3753]

(1497) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِر، وَعِيسَى بْنُ حَمَّادٍ الْمِصْرِيَّان، وَاللَّفْظُ لِابْنِ رُمْحٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِم، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: ذُكِرَ التَّلَاعُنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ فِي ذَلِكَ قَوْلًا، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِه، يَشْكُو إِلَيْهِ أَنَّهُ وَجَدَ مَعَ أَهْلِهِ رَجُلًا، فَقَالَ عَاصِمٌ: مَا ابْتُلِيتُ بِهَذَا إِلَّا لِقَوْلِي، فَذَهَبَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي وَجَدَ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُصْفَرًّا، قَلِيلَ اللَّحْم، سَبِطَ الشَّعَر، وَكَانَ الَّذِي ادَّعَى عَلَيْهِ؛ أَنَّهُ وَجَدَ عِنْدَ أَهْلِه، خَدْلًا، آدَمَ، كَثِيرَ اللَّحْم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ بَيَنْ"، فَوَضَعَتْ شَبِيهًا بِالرَّجُلِ الَّذِي ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَهَا، فَلَاعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا، فَقَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمَجْلِسِ: أَهِيَ الَّتِي قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ رَجَمْتُ أَحَدًا بِغَيْرِ بَينَةٍ رَجَمْتُ هَذِهِ"؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا، تِلْكَ امْرَأَةٌ، كَانَتْ تُظْهِرُ في الْإِسْلَامِ السُّوءَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عِيسَى بْنُ حَمَّادِ) بن مسلم التُّجيبيّ، أبو موسى المصريّ، لقبه زُغْبةُ، وهو لقب أبيه أيضًا، ثقةٌ [10](248)، وقد جاوز التسعين، وهو آخر من حدّث عن الليث من الثقات (م دس ق) تقدم في "الإيمان" 87/ 462.

3 -

(اللَّيْثُ) بن سعد الإمام الشهير المصريّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) الأنصاريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ) بن محمد بن أبي بكر الصدّيق التيميّ، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [6](ت 126) أو بعدها (ع) تقدم في "الحيض" 27/ 822.

6 -

(الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن أبي بكر الصدّيق التيميّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ فاضلٌ من كبار [3](ت 106)(ع) تقدم في "الحيض" 3/ 695.

ص: 405

7 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول انفرد به هو وابن ماجه، والثاني ما أخرج له البخاريّ، والترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، إلا شيخيه، والليث، فمصريّون.

4 -

(ومنها): أن رواية يحيى، عن عبد الرحمن من رواية الأكابر، عن الأصاغر؛ لأن يحيى من الطبقة الخامسة، وعبد الرحمن من السادسة، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه القاسم بن محمد أحد الفقهاء السبعة، وفيه ابن عبّاس رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، وكلهم تقدّموا غير مرّة، وإنما أعدته من باب التذكير، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (أَنَّهُ قَالَ: ذُكِرَ التَّلَاعُنُ) ببناء الفعل للمفعول، و"التلاعن" بالرفع على أنه نائب الفاعل، وفي رواية عند البخاريّ:"ذُكر المتلاعنان"، والمراد: ذِكْرُ حكم الرجل يرمي امرأته بالزنا، فعبّر عنه بالتلاعن باعتبار ما آل إليه الأمر بعد نزول الآية (عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ) الأنصاريّ الصحابيّ، تقدّمت ترجمته في شرح حديث سهل بن سعد رضي الله عنها (فِي ذَلِكَ قَوْلًا) قال الكرمانيّ: معنى قوله: "قولًا"؛ أي: كلامًا لا يليق به، كعُجْب النفس، والنَّخْوَة

(1)

، والمبالغة في الغيرة، وعدم المردّ إلى الله، وقدرته.

وتعقّبه الحافظ، فقال: وكلّ ذلك بمعزل عن الواقع، وإنما المراد بقول عاصم ما تقدّم في حديث سهل بن سعد أنه سأل عن الحكم الذي أمره عويمرٌ أن يسأل له عنه، وإنما جزمت بذلك؛ لأنه تبيّن لي أن حديثي سهل بن سعد، وابن عبّاس من رواية القاسم بن محمد، عنه في قصّة واحدة، بخلاف رواية

(1)

بفتح، فسكون: العظمة.

ص: 406

عكرمة، عن ابن عبّاس، فإنها قصّة أخرى، كما تقدّم في تفسير "سورة النور"، عن ابن عبد البرّ أن القاسم روى قصّة اللعان عن ابن عبّاس، كما رواه سهل بن سعد، وغيره، في أن الملاعن عويمر، وبيّنت هناك توجيهه، وعلى هذا فالقول المبهم عن عاصم في رواية القاسم هذه هو قوله:"أرأيت رجلًا وجد مع امرأته رجلًا؛ أيقتله، فتقتلونه؟ " الحديث، ولا مانع أن يروي ابن عباس القصّتين معًا، ويؤيّد التعدّد اختلاف السياقين، وخلوّ أحدهما عما وقع في الآخر، وما وقع بين القصّتين من المغايرة، كما أبيّنه. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ انْصَرَفَ) أي: رجع عاصم من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله (فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ) هو عويمر كما تقدّم، ولا يمكن تفسيره بهلال بن أُميّة؛ لأنه لا قرابة بينه وبين عاصم؛ لأنه هلال بن أمية بن عامر بن عبد قيس من بني واقف، وهو مالك بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس، فلا يجتمع مع بني عمرو بن عوف الذي ينتمي عاصم إلى حلفهم، إلا في مالك بن الأوس؛ لأن عمرو بن عوف هو ابن مالك، قاله في "الفتح"(يَشْكُو إِلَيْهِ؛ أَنَّهُ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا، فَقَالَ عَاصِمٌ: مَا ابْتُلِيتُ بِهَذَا) ببناء الفعل للمجهول؛ أي: ما ابتُليت بوقوع هذه الفاحشة في قومي إلا بسؤالي عما لم يقع، وإنما أسند الابتلاء إليه؛ لأن عويمرًا كانت تحته بنت عاصم، أو بنت أخيه، فما وقع منها فهو ابتلاء له.

وقوله (إِلَّا بِقَوْلِي) أي: بسؤالي عما لم يقع، كأنه قال: فعوقبت بوقوع ذلك في آل بيتي.

قال الحافظ: وزعم الداوديّ أن معناه أنه قال مثلًا: لو وجدت أحدًا يفعل ذلك لقتلته، أو عيّر أحدًا بذلك، فابتلي به، وكلامه أيضًا بمعزل عن الواقع، فقد وقع في مرسل مقاتل بن حيّان عن ابن أبي حاتم:"فقال عاصم: إنا لله، وإنا إليه راجعون، هذا والله بسؤالي عن هذا الأمر بين الناس، فابتليت به"، والذي كان قال:"لو رأيته لضربته بالسيف" هو سعد بن عبادة.

وقد أورد الطبريّ من طريق أيوب، عن عكرمة، مرسلًا، ووصله ابن

(1)

"الفتح" 12/ 181.

ص: 407

مردويه بذكر ابن عبّاس، قال: لما نزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} قال سعد بن عبادة: "إن أنا رأيت لَكَاعِ يَفجُر بها رجل. . ." فذكر القصّة، وفيه: فوالله ما لبثوا إلا يسيرًا حتى جاء هلال بن أُميّة، فذكر قصّته، وهو عند أبي داود في رواية عبّاد بن منصور، عن عكرمة، عن ابن عبّاس، فوضح أن قول عاصم كان في قصّة عويمر، وقول سعد بن عبادة كان في قصّة هلال، فالكلامان مختلفان، وهما مما يؤيّد تعدد القصّة، ويؤيّد التعذد أيضًا أنه وقع في آخر حديث ابن عباس عند الحاكم:"قال ابن عبّاس: فما كان بالمدينة أكثر غاشية منه"، وعند أبي داود وغيره:"قال عكرمة: فكان بعد ذلك أميرًا على مصر، وما يُدْعَى لأب"، فهذا يدلّ على أن ولد الملاعنة عاش بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم زمانًا.

وقوله: "على مصر"؛ أي: من الأمصار، وظنّ بعض شيوخنا أنه أراد مصر البلد المشهور، فقال: فيه نظر؛ لأن أمراء مصر معروفون معدودون، ليس فيهم هذا.

ووقع في حديث عبد الله بن جعفر، عند ابن سعد في "الطبقات" أن ولد الملاعنة عاش بعد ذلك سنتين، ومات، فهذا أيضًا مما يقوّي التعدد، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

(فَذَهَبَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَهُ، بِالَّذِي وَجَدَ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ) أي: الذي رَمَى امرأته (مُصْفَرًّا) - بضم أوله، وسكون الصاد المهملة، وفتح الفاء، وتشديد الراء - أي: قويّ الصفرة، وهذا لا يخالف قوله في حديث سهل رضي الله عنه:"إنه أحمر، أو أشقر"؛ لأن ذاك لونه الأصليّ، والصفرة عارضة (قَلِيلَ اللَّحْمِ) أي: نحيف الجسم (سَبِطَ الشَّعْرِ) بفتح، فكسر، أو بفتحتين؛ أي: مسترسله، وهو ضدّ الجعودة (وَكَانَ الَّذِي ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَ أَهْلِهِ خَدْلًا) - بفتح الخاء المعجمة، وإسكان الدال المهملة -: هو الممتلئ الساق الضخم؛ أي: ممتلئ الساقين، وقال أبو الحسين بن فارس:"ممتلئ الأعضاء"، وقال الطبريّ: لا يكون إلا مع غلظ العظم مع اللحم، وقال ابن التين: ضُبِط في بعض الكتب بكسر الدال، وتخفيف اللام، وفي بعضها بتشديد

(1)

"الفتح" 12/ 182.

ص: 408

اللام، وفي بعضها بسكون الدال، وكذلك هو في كتب اللغة، وكذا ضُبِط في رواية أبي صالح، وابن يوسف. قاله العينيّ رحمه الله

(1)

.

(آدَمَ) بالمدّ؛ أي: لونه قريبٌ من السواد (كَثِيرَ اللَّحْمِ) أي: في جميع جسده. قال في "الفتح": يَحْتَمِل أن تكون صفة شارحة لقوله: "خَدْلًا"، بناءً على أن الخدْل: الممتلئ البدن، وأما على قول من قال: إنه الممتلئ الساق، فيكون فيه تعميم بعد تخصيص، وزاد في روايةٍ للبخاريّ:"جَعْدًا قَطَطًا"، و"الجعد": هو المتكسّر، ضدّ السبوطة، و"الْقَطَطُ" - بفتحتين، أو بفتح، فكسر -: هو المتفلفل الشعر، قال في "الفتح"، وهذه الصفة موافقة للتي في حديث سهل بن سعد حيث إن فيه:"عظيم الأَلْيَتين خَدَلّج الساقين إلخ". انتهى

(2)

.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ بَيِّنْ") أي: بيّن لنا الحكم في هذه المسألة.

قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: ظاهره أنه دعاءٌ في أن يبيّن له ممن الولد؟ فأجيب بأنه للذي رُمي به، وتبيّن له ذلك بأن الله تعالى خلقه يُشبه الذي رُميت به، وعلى الصفة التي قال النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولذلك نسّق قوله:"فوَضَعت" على الكلام المتقدّم بالفاء، وقيل: معناه: اللَّهمّ بيّن الحكم في هذه الواقعة، كما جاء في الرواية الأخرى:"اللَّهم افتح"؛ أي: احكم، ومنه قوله تعالى:{ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا} [سبأ: 26] أي: يحكم. انتهى.

وقال البدر العينيّ رحمه الله: قوله: "اللَّهم بيّن" أي: حكم المسألة، ويقال: معناه الحرص على أن يعلم من باطن المسألة ما يَقِف به على حقيقتها، وإن كانت شريعته قد أحكمها الله في القضاء بالظاهر، وإنما صارت شرائع الأنبياء عليه السلام يُقضَى فيها بالظاهر؛ لأنها تكون سببًا لمن بعدهم من أممهم، ممن لا سبيل له إلى وحي يعلم به بواطن الأمور.

(فَوَضَعَتْ) أي: ولدت تلك المرأة ولدًا (شَبِيهًا بِالرَّجُلِ الَّذِي ذَكَرَ زَوْجُهَا؛ أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَهَا، فَلَاعَنَ) أي: أمر باللعان (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا) هذا ظاهره أن الملاعنة بينهما تأخّرت حتى وضعت، فيُحمَل على أن قوله:"فلاعن" معقّب بقوله: فذهب به إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخبره بالذي وجد عليه امرأته، واعترض

(1)

"عمدة القاري" 17/ 85.

(2)

"الفتح" 12/ 182 - 183.

ص: 409

قوله: "وكان ذلك الرجل إلخ"، والحامل على ذلك ما قدّمناه من الأدلّة على أن رواية القاسم هذه موافقة لحديث سهل بن سعد. وَيَحْتَمِل على بُعْد أن تكون الملاعنة وقعت مرّة بسبب القذف، وأخرى بسبب الانتفاء. قاله في "الفتح".

(فَقَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (فِي الْمَجْلِسِ) متعلّق بـ "قال"، وهذا السائل هو عبد الله بن شدّاد بن الهاد، وهو ابن خالة ابن عبّاس، سمّاه أبو الزناد عن القاسم بن محمد في الرواية التالية (أَهِيَ الَّتِي قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَوْ رَجَمْتُ أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، رَجَمْتُ هَذهِ؟ "، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (لَا، تِلْكَ امْرَأَةٌ، كَانَتْ تُظْهِرُ فِي الْإِسْلَامِ الشَّرَّ) وفي رواية: "كانت تظهر في الإسلام السوء" أي: كانت تُعلن بالفاحشة، ولكن لم يثبت عليها ذلك ببيّنة، ولا اعتراف. قال الداوديّ: فيه جواز عيب من يسلك مسالك السوء.

وتُعُقّب بأن ابن عبّاس لم يسمها، فإن أراد إظهار العيب على الإبهام فمُحْتَمِلٌ.

وقال القرطبيّ: قوله: "تلك امرأة كانت تُظهِر في الإسلام السوء" أي: تَظهَر عليها قرائنُ، تدلّ على أنها بَغِيّ، تتعاطى الفاحشة، فقد وقع في طريق عروة رضي الله عنه عن ابن عبّاس رضي الله عنهما عند ابن ماجه:"لو كنت راجمًا أحدًا لغير بيّنة لرجمت فلانة، فقد ظهر فيها الريبة في منطقها، وهيئتها، ومن يدخل عليها"، ولكن لم يثبت عليها سببٌ شرعيّ، يتعلّق به الرجم، لا إقرارٌ، ولا حملٌ، ولا بيّنةٌ، فلم يُقَم عليها حدٌّ لتلك الأسباب المحصورة، وفيه أنه لا يقام الحدّ بمجرّد الشياع، والقرائن، بل لا بدّ من بيّنة، أو اعتراف. انتهى بزيادة

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفَقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3753 و 3754 و 3755](1497)، و (البخاريّ)

(1)

"المفهم" 4/ 303، و"تكملة فتح الملهم" 1/ 254.

ص: 410

في "الطلاق"(5310 و 5316)، و"الحدود"(6855 و 6856)، و"التمنّي"(7238)، و (النسائيّ) في "الطلاق"(3494 و 3497 و 3498)، و"الكبرى"(5664)، و (ابن ماجه) في "الحدود"(2560)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 211)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 406)، وأما فوائد الحديث، وسائر متعلّقاته، فقد تقدّمت في شرح حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما، وما بعده، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3754]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الْأَزْدِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، حَدَّثَني سُلَيْمَانُ، يَعْنِي ابْنَ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى، حَدَّثَني عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِم، عَن الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: ذُكِرَ الْمُتَلَاعِنَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِ حَدِيثِ اللَّيْث، وَزَادَ فِيهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: كَثِيرَ اللَّحْم، قَالَ: جَعْدًا قَطَطًا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الْأَزْدِيُّ) أبو الحسن النيسابوريّ المعروف بحمدان، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 264) وله (80) سنةً (م دس ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 90.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُويْسٍ) هو: إسماعيل بن عبد الله بن أُويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحيّ، أبو عبد الله المدنيّ، صدوقٌ، أخطأ في أحاديث من حفظه [10](ت 226)(خ م دت ق) تقدم في "الحج" 17/ 2921.

3 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو أيوب المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 177)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد هذه، ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(5010)

- حدّثنا إسماعيل، قال: حدّثني سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، قال: أخبرني عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم بن محمد، عن ابن عباس؛ أنه قال: ذُكِر المتلاعنان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عاصم بن عديّ في

ص: 411

ذلك قولًا، ثم انصرف، فأتاه رجل من قومه، فذَكَر له أنه وَجَد مع امرأته رجلًا، فقال عاصم: ما ابتُليت بهذا الأمر إلا لقولي، فذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بالذي وَجَد عليه امرأته، وكان ذلك الرجل مُصْفَرًّا، قليل اللحم، سَبْطَ الشعر، وكان الذي وَجَد عند أهله آدم خَدْلًا، كثير اللحم، جَعْدًا قَطَطًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم بَيِّنْ"، فوضعت شبيهًا بالرجل الذي ذَكَر زوجُها أنه وجد عندها، فلاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، فقال رجل لابن عباس في المجلس: هي التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو رجمت أحدًا بغير بينة لرجمت هذه؟ "، فقال ابن عباس: لا، تلك امرأة كانت تُظْهِر السُّوء في الإسلام. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3755]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، وَاللَّفْظُ لِعَمْرٍو، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَاد، عَن الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ شَدَّادٍ: وَذُكِرَ الْمُتَلَاعِنَانِ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ ابْنُ شَدَّادٍ: أَهُمَا اللَّذَانِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كنْتُ رَاجِمًا أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةً لَرَجَمْتُهَا؟ "، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا، تِلْكَ امْرَأَةٌ أَعْلَنَتْ. قَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ فِي رِوَايَتِهِ: عَن الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذَكْوان القُرشيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدني، ثقةٌ فقيهٌ [5](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

والباقون ذُكروا في الباب، و"ابن أبي عمر" هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ.

[تنبيه]: رواية أبي الزناد، عن القاسم بن محمد هذه ساقها أبو يعلى في "مسنده"(4/ 312) مطوّلةً، فقال:

(2424)

- حدّثنا محمد بن بكّار، حدّثنا ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن

ص: 412

القاسم بن محمد، قال: سمعت ابن عباس يقول: لاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أخوي بني عجلان، أو بين رجل وامرأة، شكّ عبد الرحمن

(1)

، قال: فقال زوجها: والله ما قربتها منذ عَفَّرْنا، والعَفْرُ

(2)

أن يُسْقَى النخل بعد أن يُتْرَك من السقي بعد الإبَار بشهرين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم بَيِّنْ بَيِّنْ"، قال: وكان زوج المرأة أصهب الشعر، حَمْشَ الذراعين والساقين، قال: وكان الذي رُميت به ابن السحماء، قال: فجاءت بغلام أسود، جَعْد قَطَطٍ عَبْل الذراعين، خَدَلَّج الساقين، فقال ابن شدّاد: يا أبا العباس، أهي المرأة التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو كنت راجمًا أحدًا بغير بينة لرجمتها"، قال: فقال ابن عباس: لا، وقال: تلك امرأة كانت قد أعلنت في الإسلام، قال رجل آخر: يا أبا عباس، كيف الصفة؟ فقال ابن عباس: جاءت به على الوصف السيئ. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3756]

(1498) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيز، يَعْنِي الدَّرَاوَرْدِيَّ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ الأَنْصَارِيَّ قَالَ: يَا رَسُولَ الله، أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَجِدُ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا؛ أيقْتُلُهُ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا"، قَالَ سَعْدٌ: بَلَى، وَالَّذِي أكرَمَكَ بِالْحَقِّ، قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اسْمَعُوا إِلَى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ").

(1)

هو ابن أبي الزناد.

(2)

بفتح، فسكون، قال في "اللسان" 4/ 589: عَفَرَ الناس يَعْفِرون عَفْرًا - أي من باب ضرب - إذا سَقَوُا الزرع بعد طرح الحبّ، والْعَفَارُ بالفتح: تلقيح النخل، وإصلاحه، وقال في "النهاية" لابن الأثير: وفي حديث هلال: "ما قَرِبت أهلي مذ عَفَّرنا النخل"، ويرْوَى بالقاف، وهو خطأ، والتعفير: أنهم كانوا إذا أَبَّروا النخل تركوها أربعين يومًا، لا تُسْقَى؛ لئلا ينتفض حملها، ثم تُسقَى، ثم تترك إلى أن تَعطش، ثم تُسقَى، وقد عَفَّر القومُ: إذا فعلوا ذلك، وهو من تعفير الوحشية ولدها، وذلك أن تُفطمه عند الرضاع أيامًا، ثم تُرضعه، تفعل ذلك مرارًا؛ ليعتاده. انتهى. "النهاية في غريب الأثر" 3/ 263.

ص: 413

رجال هذا الإسناد: خمسة:

- (قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ) ابن محمد بن عُبيد، أبو محمد الْجُهَنيّ مولاهم المدنيّ، صدوقٌ كان يُحدّث من كتُب غيره، فيُخطئ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

3 -

(سُهَيْلُ) بن أبي صالح السّمّان، أبو يزيد المدنيّ، ثقةٌ تغيّر بآخره [6](ت 138)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 161.

4 -

(أَبُوهُ) أبو صالح ذكوان السّمّان الزّيّات المدنيّ، ثقةُ ثبتٌ [3](ت 100)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ الْأَنْصَارِيَّ) بضمّ العين المهملة، وتخفيف الموحّدة، وهو: سعد بن عُبادة بن دُليم بن حارثة بن حَرَام بن خزيمة بن ثعلبة بن طَرِيف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأنصاريّ، سيد الخزرج، يُكْنَى أبا ثابت، وأبا قيس، وأمه عمرة بنت مسعود، لها صحبة، وماتت في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم سنة خمس، وشَهِد سعد العقبة، وكان أحد النقباء، واختُلِف في شهوده بدرًا، فأثبته البخاريّ، وقال ابن سعد: كان يتهيأ للخروج، فنُهِس، فأقام، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لقد كان حريصًا عليها"، قال ابن سعد: وكان يكتب بالعربية، ويُحسن العوم، والرمي، فكان يقال له: الكامل، وكان مشهورًا بالْجُود، هو وأبوه، وجدّه، وولده، وكان لهم أُطُمٌ ينادي عليه كلَّ يوم: من أحب الشحم واللحم، فليأت أُطُم دُليم بن حارثة، وكانت جفنة سعد تدور مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في بيوت أزواجه.

وقال مِقْسَمٌ، عن ابن عباس: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المواطن كلها رايتان: مع عليّ راية المهاجرين، ومع سعد بن عُبادة راية الأنصار.

ورَوَى له أحمد من طريق محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زُرارة، عن قيس بن سعد: زارنا النبيّ صلى الله عليه وسلم في منزلنا، فقال: "السلام عليكم

ص: 414

ورحمة الله

" الحديث، وفيه: ثم رفع يده، فقال: "اللهم اجعل صلواتك، ورحمتك على آل سعد بن عُبادة".

ورَوَى أبو يعلى من حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جَزَى الله عنا الأنصار خيرًا، لا سيما عبد الله بن عمرو بن حرام، وسعد بن عبادة".

وروى ابن أبي الدنيا من طريق ابن سيرين، قال: كان أهل الصفّة إذا أَمْسَوا انطلَق الرجل بالواحد، والرجل بالاثنين، والرجل بالجماعة، فأما سعد، فكان ينطلق بثمانين.

ورَوَى الدارقطنيّ في "كتاب الأسخياء" من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، قال: كان منادي سعد ينادي على أُطُمه: من كان يريد شحمًا ولحمًا فليأت سعدًا، وكان سعد يقول: اللهم هب لي مَجْدًا، لا مجد إلَّا بفِعَال، ولا فِعَال إلَّا بمال، اللهم إنه لا يُصلحني القليل، ولا أصلح عليه.

وعن محمد بن سيرين: كان سعد بن عبادة يُعَشِّي كلَّ ليلة ثمانين من أهل الصفّة، وقصته في تخلفه عن بيعة أبي بكر مشهورة، وخرج إلى الشام، فمات بِحُوران سنة خمس عشرة، وقيل: سنة ست عشرة.

ورَوَى عنه بنوه: قيس، وسعيد، وإسحاق، وحفيده، شُرَحبيل بن سعيد، وروى عنه من الصحابة أيضًا ابن عباس، وأبو أمامة بن سهل، وأرسل عنه الحسن، وعيسى بن فائد.

وروى أبو داود من حديث قيس بن سعد: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم اجعل صلواتك، ورحمتك على آل سعد بن عبادة"، أخرجه في أثناء حديث، وقيل: إن قبره بالمنيحة قرية بدمشق بالغُوطة.

ويروى أنه مات ببُصْرَى، وهي أول مدينة فُتحت من الشام

(1)

.

وأخرج له أصحاب "السنن"، وله ذكر بلا رواية عند الشيخين، والله تعالى أعلم.

(1)

راجع: "الإصابة في تمييز الصحابة" 3/ 65 - 66.

ص: 415

(قَالَ: يَا رَسُولَ الله، أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَجِدُ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا؛ أيقْتُلُهُ؟ قَالَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا") أي: لا يحلّ له أن يقتله (قَالَ سَعْدٌ: بَلَى، وَالَّذِي أَكْرَمَكَ بِالْحَقِّ) أي: بلى ليقتلنّه، كما قال في الرواية الآتية:"قال: كلّا، والذي بعثك بالحقّ إن كنتُ لأعاجله بالسيف قبل ذلك".

قال الخطّابيّ رحمه الله: يُشبه أن تكون مراجعة سعد رضي الله عنه للنبيّ صلى الله عليه وسلم طَمَعًا في الرخصة، لا ردًّا لقوله صلى الله عليه وسلم، فلما أبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنكر عليه قوله سكت، وانقاد، ومما يدلّ على ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أحمد، واللفظ له، وأبي داود، والحاكم: لَمّا نزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الآية قال سعد بن عبادة: أهكذا أُنزلت؟ فلو وجدت لَكَاعِ متفخذها رجل لَمْ يكن لي أن أُحَرِّكه، ولا أُهيجه حتى آتي بأربعة شهداء؟ فوالله لا آتي بأربعة شهداء، حتى يقضي حاجته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟ "، قالوا: يا رسول الله لا تَلُمْه، فإنه رجل غَيور، والله ما تزوّج امرأة قط إلَّا عذراء، ولا طلّق امرأةً، فاجترأ رجل منا أن يتزوجها، من شدّة غيرته، فقال سعد: والله إني لأعلم يا رسول الله أنَّها لحقّ، وإنها من عند الله، ولكني عَجِبْتُ.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اسْمَعُوا إلَى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ") عَدّى السمع بـ "إلى" لتضمّنه معنى الإصغاء؛ أي: اسمعوا مصغين إلى قوله، ولعل الحاضرين كانوا من الخزرج، وكان سعد وجيهًا في الأنصار، ذا رياسة وسيادة، كما تقدّم آنفًا في ترجمته، وفي ذكر السيّد هنا إشارة إلى أن الغيرة من شيمة كرام الناس، وساداتهم.

وقال ابن الأنباريّ وغيره: السيّد هو الذي يفوق قومه في الفخر، قالوا: والسيد أيضًا الحليم، وهو أيضًا حَسَنُ الخلق، وهو أيضًا الرئيس، ومعنى الحديث: تعجبوا من قول سيِّدكم.

وقال القرطبيّ بعد نقل قول ابن الأنباريّ: "السيّد هو الذي يفوق قومه في الفخر"، ما نصّه:

قلت: وذلك لا يكون حتى يجتمع له من خصال الشرف والفضائل والكمال ما يُبَرِّز بها عليهم، ويتقدّمهم بسببها، كما قال [من المتقارب]:

ص: 416

فَإِنْ كُنْتَ سَيِّدَنَا سُدْتَنَا

وَإِنْ كُنْتَ لِلْخَالِ فَاذْهَبْ فَخَلْ

(1)

وقال الماورديّ وغيره: ليس قول سعد هذا ردًّا لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا مخالفة منه لأمره صلى الله عليه وسلم، وإنما معناه إخبارٌ عن حالة الإنسان عند رؤيته الرجل عند امرأته، واستيلاء الغضب عليه، فإنه حينئذ يعاجله بالسيف، وإن كان عاصيًا. انتهى

(2)

.

وقال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: يريد - والله أعلم - أن الغيرة لا تبيح للغَيُور ما حُرِّم عليه، وأنه يلزمه مع غيرته الانقياد لحكم الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن لا يتعدى حدوده، فالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أغير، ولا خلاف علمته بين العلماء فيمن قَتَل رجلًا، ثم ادَّعَى أنه إنما قتله؛ لأنه وجده مع امرأته بَيْن فخذيها، ونحو ذلك من وجوه زناه بها، ولم يُعْلَم ما ذُكر عنه إلَّا بدعواه؛ أنه لا يُقبَل منه ما ادَّعاه، وأنه يُقْتَل به، إلَّا أن يأتي بأربعة شهداء، يشهدون أنهم رأوا وطأه لها، وإيلاجه فيها، ويكون مع ذلك مُحْصَنًا مُسلمًا بالغًا، أو من يحل دمه بذلك، فإن جاء بشهداء يشهدون له بذلك نجا، وإلا قُتل، وهذا أمر واضح، لو لَمْ يجئ به الخبر لأوجبه النظر؛ لأن الله حرّم دماء المسلمين تحريمًا مطلقًا، فمن ثبتٌ عليه أنه قَتَل مسلمًا، فادَّعَى أن المسلم قد كان يجب قتله، لَمْ يُقبل منه دفع القصاص عن نفسه، حتى يتبين ما ذُكر، وهكذا كلّ من لزمه حقّ لآدمي لَمْ يقبل قوله في المَخرج منه، إلَّا ببينة تشهد له بذلك. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله

(3)

، وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قصّة سعد بن عُبادة رضي الله عنه هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما، فقال 1/ 238:

(2131)

- حدّثنا عبد الله

(4)

، حدّثني أبي، ثنا يزيد، أنا عباد بن منصور، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما نزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4]، قال سعد بن

(1)

"المفهم" 4/ 304.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 131.

(3)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 21/ 256.

(4)

هو ابن الإمام أحمد، راوي "المسند" عنه.

ص: 417

عبادة - وهو سيد الأنصار -: أهكذا نزلت يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الأنصار، ألَّا تسمعون إلى ما يقول سيدكم؟ " قالوا: يا رسول الله لا تَلُمْه، فإنه رجل غَيُور، والله ما تزوج امرأة قطّ إلَّا بكرًا، وما طَلَّق امرأة له قطّ، فاجترأ رجل منا على أن يتزوجها، من شدّة غيرته، فقال سعد: والله يا رسول الله، إني لأعلم أنَّها حقّ، وأنها من الله تعالى، ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعًا تفخّذها رجل، لَمْ يكن لي أن أُهيجه، ولا أحرّكه حتى آتي بأربعة شهداء، فوالله لا آتي بهم حتى يقضي حاجته، قال: فما لبثوا إلَّا يسيرًا حتى جاء هلال بن أمية، وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، فجاء من أرضه عِشاءً، فوجد عند أهله رجلًا، فرأى بعينيه، وسمع بأذنيه، فلم يُهجه حتى أصبح، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني جئت أهلي عشاءً، فوجدت عندها رجلًا، فرأيت بعيني، وسمعت بأذني، فكَرِه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به، واشتَدّ عليه، واجتمعت الأنصار، فقالوا: قد ابتُلينا بما قال سعد بن عبادة، الآن يَضْرِب رسول الله صلى الله عليه وسلم هلال بن أمية، ويُبطل شهادته في المسلمين، فقال هلال: والله إني لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجًا، فقال هلال: يا رسول الله إني قد أرى ما اشتدّ عليك مما جئت به، واللهُ يعلم أني لصادق. ووالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يأمر بضربه؛ إذ أنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، وكان إذا نزل عليه الوحي عَرَفُوا ذلك في تربُّد جلده، فأمسكوا عنه، حتى فرغ من الوحي، فنزلت:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} الآية [النور: 6]، فَسُرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"أبشر يا هلال، فقد جعل الله لك فرجًا ومخرجًا"، فقال هلال: قد كنت أرجو ذاك من ربي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أرسلوا إليها"، فأرسلوا إليها، فجاءت، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما، وذَكَّرهما، وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشدّ من عذاب الدنيا، فقال هلال: والله يا رسول الله، لقد صدقت عليها، فقالت: كَذَبَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لاعنوا بينهما"، فقيل لهلال: اشهَدْ، فشهِد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، فلما كان في الخامسة، قيل: يا هلال اتّقِ الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فقال: والله لا يعذّبني الله عليها، كما لَمْ يَجلِدني عليها، فشَهِد في الخامسة أن

ص: 418

لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم قيل لها: اشهَدي أربع شهادات بالله، إنه لمن الكاذبين، فلما كانت الخامسة قيل لها: اتق الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فتلكأت ساعةً، ثم قالت: والله لا أفضح قومي، فشهدت في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وقَضَى أنه لا يُدْعَى ولدها لأب، ولا تُرْمَى هي به، ولا يُرْمَى ولدها، ومن رماها، أو رمى ولدها، فعليه الحدّ، وقضى أن لا بيت لها عليه، ولا قُوت من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق، ولا مُتَوَفًّى عنها، وقال: "إن جاءت به أُصيهب، أُريسح

(1)

، حَمْشَ الساقين، فهو لهلال، وإن جاءت به أَورق، جَعْدًا، جماليًّا، خَدَلَّج الساقين، سابغ الأَلْيَتين، فهو للذي رُميت به"، فجاءت به أورق، جعدًا، جماليًّا، خَدَلَّج الساقين، سابغ الأَلْيتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا الإيمان، لكان لي ولها شأن"، قال عكرمة: فكان بعد ذلك أميرًا على مصر، وكان يُدْعَى لأمه، وما يدعى لأبيه. انتهى.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3756 و 3757 و 3758](1498)، و (أبو داود) في "الديات"(4532 و 4533)، و (ابن ماجة) في "الحدود"(2605)، وفوائده، وبقيّة مسائله تقدّمت قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3757]

(

) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ!

(1)

قال في "النهاية"/ 221: الأرسح - أي بالحاء المهملة -: الذي لا عَجُز له، أو هي صغيرة، لاصقة بالظهر، انتهى.

ص: 419

إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتي رَجُلًا، أَؤُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ قَالَ:"نَعَمْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى) بن نَجيح البغداديّ، أبو يعقوب بن الطبّاع، سَكَن أَذَنة، صدوقٌ [9](ت 214) أو بعدها بسنة (م ت س ق) تقدم في "الكسوف" 3/ 2110.

والباقون ذُكروا في "الباب"، و"مالك" هو: ابن أنس إمام دار الهجرة، والحديث سبق تمام البحث فيه.

[تنبيه]: قال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: زعم أبو بكر البزار أن مالكًا انفرد بحديثه عن سهيل في هذا الباب، وأنه لَمْ يروه غيره، ولا تابعه أحد عليه، قال: وأظنه لَمّا رأى حماد بن سلمة قد أرسله، وأسنده مالك ظنّ أنه انفرد به، وليس كما ظَنّ البزار، وقد رواه سليمان بن بلال، عن سهيل مسندًا عن أبيه، عن أبي هريرة، كما رواه مالك، ورواه الدّراوَرْديّ أيضًا عن سهيل بإسناده نحو رواية سليمان بن بلال، ثم ساق رواية سليمان بن بلال، نحو سياق مسلم هنا، ثم قال: فهذا سليمان بن بلال، قد رواه مسندًا كما رواه مالك، ولو لَمْ يروه أحد غير مالك، كما زعم البزار ما كان في ذلك شيء، فإن

(1)

أكثر السنن والأحاديث قد انفرد بها الثقات، وليس ذلك بضائر لها، ولا لشيء منها، والمعنى الموجود في هذا الحديث مجتمع عليه، قد نطق به الكتاب المحكم، وقد وردت به السنة الثابتة، واجتمعت عليه الأمة، فأي انفراد في هذا؟ وليت كلّ ما انفرد به المحدِّثون كان مثل هذا. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3758]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْن مَخْلَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، حَدَّثَني سُهَيْلٌ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ

(1)

وقع في النسخة: "لكن"، والظاهر أنه مصحّف.

(2)

"التمهيد" 21/ 255.

ص: 420

عُبَادَةَ: يَا رَسُولَ الله، لَوْ وَجَدْتُ مَعَ أَهْلِي رَجُلًا، لَمْ أَمَسَّهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"نَعَمْ"، قَالَ: كَلَّا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، إِنْ كُنْتُ لَأُعَاجِلُهُ بِالسَّيْفِ قَبْلَ ذَلِكَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"اسْمَعُوا إِلَى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ، إِنَّهُ لَغَيُورٌ، وَأنا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللهُ أَغْيَرُ مِنِّي").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ) الْقَطَوانيّ، أبو الْهَيثم الْبَجَليّ مولاهم الكوفيّ، صدوقٌ يتشيّع، وله أفراد، من كبار [10](ت 213) أو بعدها (خ م كد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 65/ 367.

والباقون ذُكروا في الباب، وشرح الحديث يأتي بعده.

وقوله: (وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، إِنْ كُنْتُ لَأُعَاجِلُهُ

إلخ) وفي رواية أبي داود: أن سعد بن عبادة قال: "يا رسول الله الرجل يجد مع أهله رجلًا فيقتله؟ قال: "لا"، قال: بلى والذي أكرمك بالحقّ"، وأخرج الطبراني من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: لَمّا نزلت آية الرجم قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: إن الله قد جعل لهنّ سبيلًا

الحديث، وفيه: فقال أناس لسعد بن عبادة: يا أبا ثابت قد نزلت الحدود، أرأيت لو وجدت مع امرأتك رجلًا، كيف كنت صانعًا؟ قال: كنت ضاربه بالسيف حتى يسكنا، فأنا أذهب، وأجمع أربعة؟ فإلى ذلك قد قَضَى الخائب حاجته، فأنطلق، وأقول: رأيت فلانًا، فيجلدوني، ولا يقبلون لي شهادة أبدًا، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"كفى بالسيف شاهدًا - ثم قال -: لولا أني أخاف أن يتتابع فيها السكران، والغَيْران"

(1)

، وفي الحديث: أن الإحكام الشرعية لا تُعَارَضُ بالرأي، أفاده في "الفتح"

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3759]

(1499) - (حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، وَأَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ، وَاللَّفْظُ لِأَبِي كَامِلٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ

(1)

حديث ضعيف، راجع:"صحيح سنن أبي داود" للشيخ الألبانيّ 4/ 144.

(2)

"الفتح" 15/ 694 "كتاب الحدود" رقم (6846).

ص: 421

عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ وَرَّادٍ كَاتِبِ الْمُغِيرَة، عَن الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: لَوْ رَأْيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي، لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْف، غَيْرُ مُصْفِحٍ عَنْهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ؟ فَوَاللهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللهُ أَغْيَرُ مِنِّي، مِنَ أَجْلِ غَيْرَةِ اللهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ الله، وَلَا شَخْصَ أحَدث إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ الله، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ اللهُ الْمُرْسَلِينَ، مُبَشِّرِينَ، وَمُنْذِرِينَ، وَلَا شَخْصَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنَ الله، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ اللهُ الْجَنَّةَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ) أبو سعيد البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 235) وله (85) سنةً (خ م د س) تقدم في "المقدمة" 6/ 75.

2 -

(أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ) البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

3 -

(أَبُو عَوَانَةَ) وضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

4 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ) اللَّخْميّ الكوفيّ الْفَرَسيّ، ثقةٌ فقيهٌ تغيّر حفظه، وربما دلّس [3](ت 136) وله (103) سنين (ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 296.

5 -

(وَرَّادٌ كَاتِبُ الْمُغِيرَةِ) الثقفيّ مولاهم، أبو سعيد، أو أبو الْوَرْد الكوفيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 26/ 1341.

6 -

(الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ) بن مسعود بن مُعَتِّب الثقفيّ الصحابيّ الشهير، أسلم قبل الْحُدَيبية، وولي إمْرة البصرة، ثم الكوفة، مات سنة (50) على الصحيح (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

شرح الحديث:

(عن الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ) الأنصاريّ رضي الله عنه (لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي) أي يفعل بها الفاحشة (لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْف، غَيْرُ مُصْفِحٍ عَنْهُ) بكسر الفاء؛ أي: غير ضارب بصَفْح السيف، وهو عرضه وجانبه،

ص: 422

والمراد: أني لا أضربه بعَرْض السيف كما يُضرَب للتأديب، وإنما أضربه بحدّه كما يُضرب للقتل، ثم ضبطة الأكثرون بكسر الفاء، على أنه صفة للضارب حالٌ منه، وقيل: إنه بفتح الفاء على أنه صفة للسيف حال منه.

وقال في "الفتح": قوله: "غير مُصْفَحٍ" قال عياض: هو بكسر الفاء، وسكون الصاد المهملة، قال: وَرَويناه أيضًا بفتح الفاء، فمَن فَتَحَ جعله وصفًا للسيف، وحالا منه، ومن كسر جعله وصفًا للضارب، وحالًا منه. انتهى.

وزَعَم ابن التين أنه وقع في سائر الأمهات بتشديد الفاء، وهو من "صُفْح السيف"

(1)

أي عَرْضه وحدّه، ويقال له: غِرَار، بِالغين المعجمة، وللسيف صفحان، وحَدّان، وأراد أنه يضربه بحدّه، لا بعرضه، والذي يضرب بالحدّ يقصد إلى القتل، بخلاف الذي يضرب بالصفح، فإنه يقصد التأديب.

قال: ووقع عند مسلم من رواية أبي عوانة: "غير مُصْفَح عنه"، وهذه يترجح فيها كسر الفاء، ويجوز الفتح أيضًا على البناء للمجهول، وقد أنكرها ابن الجوزيّ، وقال: ظَنَّ الراوي أنه من الصفح الذي هو بمعنى العفو، وليس كذلك، إنما هو من صَفْح السيف.

قال الحافظ: ويمكن توجيهها على المعنى الأول، والصفح، والصفحة بمعنى، وقد أورده مسلم من طريق زائدة، عن عبد الملك بن عُمير، وبَيَّن أنه ليس في روايته لفظة:"عنه"، وكذا سائر من رواه عن أبي عوانة في البخاريّ وغيره لَمْ يذكروها. انتهى

(2)

.

(فَبَلَغَ ذَلِكَ) أي قول سعد المذكور (رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بالنصب على المفعوليّة (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ؟) قال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: الْغَيْرَةُ - بفتح الغين - وأصلها المنع، والرجل غَيُور على أهله؛ أي يمنعهم من التعلّق بأجنبيّ بنظر، أو حديث، أو غيره، والغيرةُ صفة كمال، فأخبر صلى الله عليه وسلم بأن سعدًا غَيور، وأنه أغير منه، وأن الله أغير منه صلى الله عليه وسلم، وأنه من أجل ذلك حَرَّم

(1)

صَفْح السيف - بضمّ الصاد، وفتحها: عرضه، وهو خلاف الطول. انتهى. "المصباح " 1/ 342.

(2)

"الفتح" 11/ 669 - 670.

ص: 423

الفواحش، فهذا تفسير لمعنى غَيْرة الله تعالى؛ أي أنَّها مَنْعُه سبحانه وتعالى الناسَ من الفواحش، لكن الغيرة في حقّ الناس يقارنها تغير حال الإنسان، وانزعاجه، وهذا مستحيل في غيرة الله تعالى. انتهى كلام النوويّ

(1)

.

وقال القرطبيّ: الْغَيْرة: هَيَجَانٌ، وانزعاج يجده الإنسان من نفسه، يَحْمِل على صيانة الْحُرَم، ومنعهم من الفواحش ومقدماتها، والله تعالى مُنَزَّهٌ عن مثل ذلك الهيجان، فإنه تَغَيُّر يدلُّ على الحدوث، فإذا أُطلق لفظ الغيرة على الله تعالى فإنما معناه: أنه تعالى مَنَعَ من الإقدام على الفواحش، بما توعَّد ورتَّب عليها من العقاب والزجر، والذَّمّ، وبما نَصَب عليها من الحدود، وقد دلَّ على صحَّة هذا قوله في حديث آخر:"وغيرةُ الله أن لا يأتي المؤمن ما حرَّمه الله". انتهى.

وقال في "الفتح": "الْغَيْرَة" - بفتح المعجمة، وسكون التحتانية، بعدها راء - قال عياض وغيره: هي مشتقة من تغير القلب، وهَيَجَان الغضب، بسبب المشاركة فيما به الاختصاص، وأشدّ ما يكون ذلك بين الزوجين.

هذا في حقّ الآدميّ، وأما في حقّ الله، فقال الخطابيّ: أحسن ما يُفَسَّر به ما فُسِّر به في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو قوله:"وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حَرَّم الله عليه"، قال عياض: ويَحْتَمِل أن تكون الغيرة في حقّ الله الإشارةَ إلى تغير حال فاعل ذلك، وقيل: الغيرة في الأصل الْحَمِيَّة، والأَنَفَة، وهو تفسير بلازم التغير، فيرجع إلى الغضب، وقد نسب سبحانه وتعالى إلى نفسه في كتابه الغضب والرضا.

وقال ابن العربيّ: التغير محال على الله بالدلالة القطعية، فيجب تأويله بلازمه؛ كالوعيد، أو إيقاع العقوبة بالفاعل، ونحو ذلك، ثم قال: ومن أشرف وجوه غَيْرته تعالى اختصاصه قومًا بعصمته، يعني فمن ادَّعَى شيئًا من ذلك لنفسه عاقبه، قال: وأشدّ الآدميين غيرةً رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يَغار لله ولدينه، ولهذا كان لا ينتقم لنفسه. انتهى

(2)

.

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 132.

(2)

راجع: "الفتح" 11/ 667 - 668 "كتاب النِّكَاح" رقم (5220).

ص: 424

وقال ابن دقيق العيد: المنزّهون لله، إما ساكتٌ عن التأويل، وإما مؤوّلٌ، والثاني يقول: المراد بالغيرة المنع من الشيء، والحماية، وهما من لوازم الغيرة، فأُطلقت على سبيل المجاز؛ كالملازمة، وغيرها، من الأوجه الشائعة في لسان العرب. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا بعض ما قاله من أوَّل الغيرة الثابتة لله تعالى في هذا الحديث وغيره، ولا شكّ أن التأويل غير مقبول؛ لأنه مخالف لمنهج السلف؛ فإن منهجهم، وهو الحقّ الذي لا مرية فيه، والصواب الذي لا خطأ فيه أن يُثبتوا لله تعالى ما أثبته لنفسه في كتابه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الصحيحة، على ظاهره، على ما يليق بجلاله تعالى، دون تأويل، ولا تعطيل، ودون تشبيه، ولا تمثيل:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فيؤمنون بأن لله تعالى غيرةً تليق بجلاله، وغضبًا، ورضا، ومحبّة، ونزولًا، واستواء، وغير ذلك، مما صحّ في النصوص الصحيحة، على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى.

وقد أجاد الشيخ عبد الرَّحمن بن ناصر البرّاك حيث كتَب ردًّا على قول ابن دقيق العيد المذكور، فقال: قول ابن دقيق العيد: المنزِّهون لله

إلخ يريد ابن دقيق العيد بالمنزِّهين نُفاة حقائق كثيرة من الصفات؛ كالمحبّة، والرضا، والضحك، والفرح، والغضب، والكراهة، والغيرة، وأنهم في نصوص هذه الصفات طائفتان: إما مفوّضة، وإما مؤوّلة، وهذا يصدق على الأشاعرة ونحوهم، فإنهم ينفون هذه الصفات، ويوجبون فيما نفوه إما التفويض، وإما التأويل المخالف لظاهر اللفظ، وإطلاق لفظ المنزِّهة عليهم يستلزم أن من يُثبت هذه الصفات مشبّه، وكذلك يسمُّون المثبتين لسائر الصفات - وهم أهل السنّة - مشبّهة، كما أن الجهميّة، والمعتزلة يسمّون المثبتين لبعض الصفات؛ كالأشاعرة مشبّهةً.

والحقّ أن المنزّهة على الحقيقة هم أهل السنّة والجماعة الذين أثبتوا لله تعالى جميع الصفات الواردة في الكتاب والسنّة، ونزّهوه عن مماثلة المخلوقات، فتسمية النُّفاة منزّهة، والمثبتين لها مشبّهةً من المغالطات، وتسميةِ

(1)

راجع: "الفتح" 17/ 382 "كتاب التوحيد" رقم (7416).

ص: 425

الحقائق بغير أسمائها. انتهى

(1)

.

وكتب البرّاك أيضًا على حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: "ما من أحد أغير من الله

" الحديث، ما نصّه: دلّ حديث ابن مسعود رضي الله عنه على إثبات صفة الغيرة لله تعالى، وأن غيرته أكمل، وأعظم من غيرة كلّ أحد، فيجب أن يكون القول فيها كالقول في سائر الصفات، وهو الإيمان بأن الله تعالى يغار حقيقةً، وأن غيرته ليست كغيرة المخلوقين، بل غيرة تليق به سبحانه وتعالى، ويدلّ على أن الغيرة من الله حقيقة قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سعد بن عبادة: "أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه، والله أغير منّي"، والغيرة في مثل هذا السياق تتضمّن الغضب لانتهاك الحرمة، والله سبحانه يُبغض ما حرّم، ويغضب إذا انتُهكت حرماته.

قال: وقول عياض: "ويَحْتَمل أن تكون الغيرة في حقّ الله تعالى الإشارةَ إلى تغيّر حال فاعل ذلك" هو من التأويل المخالف لظاهر اللفظ بغير حجة، والحامل له عليه الحذَر من إضافة التغيّر إلى الله تعالى الذي يُشعر به لفظ الغيرة، وهو ممتنع عنده، وعند ابن العربيّ، ولهذا قال - فيما نقله الحافظ ابن حجر -: التغيّر محال على الله بالدلالة القطعيّة.

والحقّ أن التغيّر من الألفاظ المجملة المبتدَعة في باب صفات الله تعالى؛ إذ لَمْ يَرِد إطلاقه على الله تعالى نفيًا ولا إثباتًا، والواجب في مثل هذا التفصيل، والاستفصال، فمن أراد بالإثبات، أو النفي حقًّا قُبِل، وإن أراد باطلًا رُدّ، فالتغيّر إن أريد به النقص بعد الكمال، أو الكمال بعد النقص، فهو ممتنع على الله سبحانه وتعالى؛ لأنه منزّه عن النقص أزلًا وأبدًا، وإن أريد به التغيّر في أفعاله تبعًا لمشيئته وحكمته، مثل أن يُحبّ، ويُبغض، ويغضب، ويرضي، فذلك من كماله، وتسمية هذا تغيّرًا في ذاته ممنوع وباطلٌ، والأسماء لا تُغيِّر الحقائق، والمعوّل في الإحكام على الحقائق والمعاني، لا على الألفاظ والعبارات. انتهى كلام الشيخ البراك

(2)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، فتمسّك به،

(1)

راجع هامش: "الفتح" 17/ 382 - 383 "كتاب التوحيد" رقم (7416).

(2)

راجع هامش: "الفتح" 11/ 668 "كتاب النِّكَاح" رقم (5220).

ص: 426

فإنه تفصيل لمذهب السلف الذي أشرنا إليه سابقًا، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وقال في "الفتح": تمسك بتقرير النبيّ صلى الله عليه وسلم سعدًا على ما قاله مَن أجاز فِعْلَ ما قال سعد، وقال: إن وقع ذلك ذَهَب دم المقتول هَدَرًا، نُقِل ذلك عن ابن الموّاز من المالكية. انتهى، وقد تقدّم بسط ذلك وبيانه قريبًا، فلا تنس نصيبك منه.

(فَوَاللهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ) أي أشدّ غيرةً من سعد بن عبادة رضي الله عنه (وَاللهُ أَغْيَرُ مِنِّي، مِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ) جمع فاحشة، وهي القبائح؛ كالزنا، ونحوه، قال الفيّوميّ رحمه الله: فَحُشَ الشيءُ فُحْشًا، مثلُ قَبُح قُبْحًا وزنًا ومعنًى، وفي لغة من باب قتل، وهو فَاحِشٌ، وكلّ شيء جاوز الحدّ فهو فَاحِشٌ، ومنه غَبْنٌ فَاحِشٌ، إذا جاوزت الزيادةُ ما يُعتاد مثلُهُ، وأَفْحَشَ الرجلُ أتى بِالفُحْش، وهو القول السّيّئ، وجاء بِالفَحْشَاءِ مثله، ورماه بالفَاحِشَة، وجمعها فَوَاحِشُ، وأفحش بالألف أيضًا: بَخِلَ، وقوله تعالى:{إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ} [الطلاق: 1]، قيل: معناه إلَّا أن يزنين، فَيُخْرَجن للحدّ، وقيل: إلَّا أن يرتكبن الفاحشة بالخروج بغير إذن. انتهى

(1)

.

(مَا ظَهَرَ مِنْهَا) أي من الفواحش (وَمَا بَطَنَ، وَلَا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ) قال في "الفتح": قال ابن بطال

(2)

: أجمعت الأمة على أن الله تعالى لا يجوز أن يوصف بأنه شخص؛ لأن التوقيف لَمْ يَرِد به، وقد منعت منه المجسمة، مع قولهم بأنه جسم لا كالأجسام، كذا قال، والمنقول عنهم خلاف ما قال.

وقال الإسماعيليّ: ليس في قوله: "لا شخص أغير من الله" إثبات أن الله شخص، بل هو كما جاء: ما خلق الله أعظم من آية الكرسيّ، فإنه ليس فيه إثبات أن آية الكرسيّ مخلوقة، بل المراد أنَّها أعظم من المخلوقات، وهو كما يقول من يصف امرأة كاملة الفضل، حسنة الخلق: ما في الناس رجل يشبهها، يريد تفضيلها على الرجال، لا أنَّها رجل.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 463.

(2)

راجع: "شرح ابن بطال على البخاريّ" 10/ 442.

ص: 427

وقال ابن بطال: اختَلَفت ألفاظ هذا الحديث، فلم يُختَلَف في حديث ابن مسعود أنه بلفظ:"لا أَحَدَ"، فظهر أن لفظ "شخص" جاء موضع"أَحَدٍ"، فكأنه من تصرّف الراوي، ثم قال: على أنه من باب المستثنى من غير جنسه، كقوله تعالى:{وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [النجم: 28]، وليس الظن من نوع العلم.

قال صاحب الحافظ: وهذا هو المعتمد.

قال الجامع: بل هذا مما لا يُعتمد عليه؛ لمخالفته ظاهر النصوص، ومنهج السلف، فتبصّر.

قال: وقد قرّره ابن فُورك، ومنه أخذه ابن بطال، فقال بعدما تقدّم من التمثيل بقوله:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} : فالتقديرْ إن الأشخاص الموصوفة بالغيرة لا تبلغ غيرتها، وإن تناهت غيرة الله تعالى، وإن لَمْ يكن شخصًا بوجه.

وأما الخطابيّ فبنى على أن هذا التركيب يقتضي إثبات هذا الوصف لله تعالى، فبالغ في الإنكار، وتخطئة الراوي، فقال: إطلاق الشخص في صفات الله تعالى غير جائز؛ لأنّ الشخص لا يكون إلَّا جسمًا مؤلفًا، فخليقٌ أن لا تكون هذه اللفظة صحيحةً، وأن تكون تصحيفًا من الراوي، ودليل ذلك أن أبا عوانة رَوَى هذا الخبر عن عبد الملك، فلم يذكرها، ووقع في حديث أبي هريرة، وأسماء بنت أبي بكر بلفظ:"شيء"، والشيء والشخص في الوزن سواء، فمن لَمْ يُمْعِنْ في الاستماع، لَمْ يأمن الوهم، وليس كلّ من الرواة يُراعي لفظ الحديث، حتى لا يتعداه، بل كثير منهم يحدّث بالمعنى، وليس كلهم فَهِمًا، بل في كلام بعضهم جفاء، وتعجرف، فلعل لفظ شخص جرى على هذا السبيل، إن لَمْ يكن غَلَطًا من قبيل التصحيف، يعنى السمعيّ، قال: ثم إن عبيد الله بن عمرو انفرد، عن عبد الملك، فلم يتابع عليه، واعتوره الفساد من هذه الأوجه، وقد تلقى هذا عن الخطابيّ أبو بكر بن فورك، فقال: لفظ الشخص غير ثابت من طريق السند، فإن صح فبيانه في الحديث الآخر، وهو قوله:"لا أحد"، فاستَعْمَل الراوي لفظ "شخص" موضع "أَحَدٍ"، ثم ذكر

ص: 428

نحو ما تقدّم عن ابن بطال، ومنه أخذ ابن بطال، ثم قال ابن فورك: وإنما مَنَعَنا من إطلاق لفظ الشخص أمور: أحدها: أن اللفظ لَمْ يثبت من طريق السمع، والثاني: الإجماع على المنع منه، والثالث: أن معناه الجسم المؤلف المركب، ثم قال: ومعنى الغيرة: الزجر والتحريم، فالمعنى أن سعدًا الزجور عن المحارم، وأنا أشدّ زجرًا منه، والله أزجر من الجميع. انتهى.

قال الحافظ: وطَعْنُ الخطابيّ، ومن تبعه في السند مبنيّ على تفرد عبيد الله بن عمرو به، وليس كذلك، كما تقدم

(1)

. وكلامه ظاهر في أنه لَمْ يراجع "صحيح مسلم"، ولا غيره، من الكتب التي وقع فيها هذا اللفظ، من غير رواية عبيد الله بن عمرو.

ورَدُّ الروايات الصحيحة، والطعن في أئمة الحديث الضابطين، مع إمكان توجيه ما رَوَوْا من الأمور التي أقدم عليها كثير من غير أهل الحديث، وقد

(1)

قوله: "كما تقدّم" أراد به ما سبق له في شرح قول البخاريّ رحمه الله: "وقال عبيد الله بن عمرو، عن عبد الملك: "لا شخص أغير من الله". قال: قوله: "وقال عبيد الله بن عمرو" يعني أن عبيد الله بن عمرو روى الحديث المذكور، عن عبد الملك بالسند المذكور أَوّلًا، فقال: "لا شخص" بدل قوله: "لا أحد"، وقد وصله الدارميّ عن زكريا بن عديّ، عن عبيد الله بن عمرو، عن عبد الملك بن عمير، عن ورّاد مولى المغيرة، عن المغيرة، قال: بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم أن سعد بن عبادة يقول، فذكره بطوله، وساقه أبو عوانة يعقوب الإسفرايني في "صحيحه" عن محمد بن عيسى العطار، عن زكريا بتمامه، وقال في المواضع الثلاثة: "لا شخص"، قال الإسماعيليّ بعد أن أخرجه من طريق عبيد الله بن عمر القواريريّ، وأبي كامل فُضيل بن حُسين الْجَحْدريّ، ومحمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، ثلاثتهم عن أبي عوانة الوضّاح البصريّ، بالسند الذي أخرجه البخاريّ، لكن قال في المواضع الثلاثة: "لا شخص" بدل "لا أحد"، ثم ساقه من طريق زائدة بن قُدامة، عن عبد الملك كذلك، فكأن هذه اللفظة لَمْ تقع في رواية البخاريّ في حديث أبي عوانة عن عبد الملك، فلذلك علّقها عن عبيد الله بن عمرو. قلت: وقد أخرجه مسلم عن القواريريّ، وأبي كامل كذلك، ومن طريق زائدة أيضًا. انتهى. "الفتح" 17/ 384 - 385 "كتاب التوحيد" رقم (7416).

ص: 429

يقتضي قصور فهم من فعل ذلك منهم، ومن ثَمّ قال الكرمانيّ: لا حاجة لتخطئة الرواة الثقاة، بل حُكْم هذا حُكْم سائر المتشابهات، إما التفويض، وإما التأويل.

وقال عياض

(1)

بعد أن ذكر معنى قوله: "ولا أحد أحبّ إليه العذر من الله": إنه قدَّم الإعذار، والإنذار قبل أخذهم بالعقوبة، وعلى هذا لا يكون في ذكر الشخص ما يُشكل، كذا قال، ولم يتجه أخذ نفي الإشكال مما ذُكر، ثم قال: ويجوز أن يكون لفظ الشخص وقع تجوُّزًا من شيء، أو أحد، كما يجوز إطلاق الشخص على غير الله تعالى، وقد يكون المراد بالشخص: المرتفع؛ لأن الشخص هو ما ظَهَرَ، وشَخَصَ، وارتَفَعَ، فيكون المعنى: لا مرتفع أرفع من الله، كقوله:"لا متعالي أعلى من الله"، قال: ويَحتَمِل أن يكون المعنى: لا ينبغي لشخص أن يكون أغير من الله تعالى، وهو مع ذلك لَمْ يعاجل، ولا بادر بعقوبة عبده؛ لارتكابه ما نهاه عنه، بل حذّره، وأنذره، وأعذر إليه، وأمهله، فينبغي أن يتأدَّب بأدبه، ويَقِف عند أمره ونهيه، وبهذا تظهر مناسبة تعقيبه بقوله:"ولا أحد أحب إليه العذر من الله".

وقال القرطبيّ

(2)

: أصل وضع الشخص - يعني في اللغة - لجِرم الإنسان وجسمه، يقال: شَخص فلان وجُثمانه، واستُعمِل في كلّ شيء ظاهر، يقال: شَخَصَ الشيءُ: إذا ظَهَر، وهذا المعنى محالٌ على الله تعالى، فوجب تأويله، فقيل: معناه: لا مرتفع، وقيل: لا شيء، وهو أشبه من الأول، وأوضح منه: لا موجود، أو لا أحد، وهو أحسنها، وقد ثبتٌ في الرواية الأخرى، وكأن لفظ الشخص أُطلق مبالغةً في إثبات إيمان من يتعذر على فهمه موجودٌ لا يشبه شيئًا من الموجودات؛ لئلا يفضي به ذلك إلى النفي والتعطيل، وهو نحو قوله صلى الله عليه وسلم للجارية:"أين الله؟ " قالت: في السماء، فحكم بإيمانها مخافةَ أن تقع في التعطيل؛ لقصور فهمها عما ينبغي له من تنزيهه، مما يقتضي التشبيه، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. انتهى

(3)

.

(1)

راجع: "إكمال المعلم" 5/ 93.

(2)

راجع: "المفهم" 6/ 305.

(3)

"الفتح" 17/ 385 - 387 "كتاب التوحيد" رقم (7416).

ص: 430

قال الجامع عفا الله عنه: هذا خلاصة ما ذهب إليه المؤوّلون الذين لا يُثبتون صفة الشخص، ولا غيرها لله تعالى على ظاهرها، على مراد الله تعالى، بل يصرفونها إلى ما أرادوا من المعاني حسب أهوائهم المتفرّقة، وآرائهم المتمزّقة، والحقّ، والصواب، كما أسلفناه، هو ما كان عليه السلف المصالح، ومن تبعهم بإحسان، وذلك إثبات هذه الصفات التي وردت في النصوص الصحيحة لله تعالى على ظاهرها، على الوجه اللائق به سبحانه تعالى، من غير تشبيه، ولا تكييف، ولا تمثيل، ومن غير تعطيل، ولا تحريف، ولا تأويل.

وقد أجاد الشيخ البرّاك حين قال في الردّ على هؤلاء المؤوّلة: المنكرون لإطلاق لفظ الشخص على الله تعالى؛ كابن بطّال، والخطّابيّ، وابن فُورك، لَمْ يذكروا لهذا الإنكار دليلًا، إلَّا أن إثبات ذلك عندهم يستلزم أن يكون الله تعالى جسمًا، وهذه عين الشبهة التي نفت بها المعتزلة جميع الصفات، ونفى بها الأشاعرة ما نفوا من الصفات، ومعلوم أن الجسم لَمْ يَرِد في الكتاب والسنّة نفيه، ولا إثباته، وهو لفظ مجمل يَحْتَمِل حقًّا وباطلَا، فلا يجوز إطلاقه على الله تعالى في النفي، ولا في الإثبات، فعُلم أن المنع من إطلاق الشخص على الله تعالى مبنيّ على هذه الشبهة الباطلة التي نُفي بها كثير من الصفات، وهي باطلة، وما بُني عليها باطلٌ، ودعوى الإجماع على منع إطلاق الشخص على الله تعالى، ودعوى التصحيف كلّ ذلك ممنوع، فلا إجماع، ولا تصحيف، ولفظ الشخص يدلّ على الظهور، والارتفاع، والقيام بالنفس، فلو لَمْ يَرِد في الحديث لَمَا صحّ نفيه؛ لعدم الموجب لذلك، بل لو قيل: يصحّ الإخبار به؛ لصحّة معناه، لكان له وجه، وفكيف، وقد ورد في الحديث، ونقله الأئمة، ولم يَرَوْه مُشكلًا، فنقول: إن الله تعالى شخصٌ، لا كالأشخاص، كما نقول مثل ذلك فيما ورد من الأسماء والصفات، والله تعالى أعلم. انتهى كلام البرّاك - جزاه الله خيرًا - وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(وَلَا شَخْصَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللهِ) قال القرطبيّ رحمه الله: "أحبُّ": مرفوعٌ على أنَّه خبر المبتدأ الذي هو: "العذرُ"، على التقديم والتأخير، وخبر "لا" التبرئة محذوف؛ أي: لا أحد موجودٌ العذر أحبّ إليه من الله، ويمكن فيه

ص: 431

إعراب آخر، وهذا أوضح. انتهى

(1)

.

والمعنى: ليس أحدٌ أحبّ إليه الإعذار من الله تعالى، فالعُذر هنا بمعنى الإعذار، والإنذار قبل أخذهم بالعقوبة، ولهذا بعث المرسلين، كما أوضحه بقوله:(مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ) أي: لأجل إقامة العذر (بَعَثَ اللهُ) أي: أرسل (الْمُرْسَلِينَ) حال كونهم (مُبَشَرِينَ) أي: يُبشّرون من آمن بالله، واتّبع هداه (وَمُنْذِرِينَ) أي: مخوّفين بالعذاب من كفر بالله، واتّبع هواه، وإليه الإشارة بقوله:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين" ذلك إشارة إلى العذر، ومعناه: الإعذار للمكلفين، قال بعض أهل المعاني: إنما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا أحد أغير من الله، ولا أحد أحبُّ إليه العذر من الله" منبِّهًا لسعدٍ، ورادعًا له عن الإقدام على قتل من وَجَدَه مع امرأته، فكأنه قال: إذا كان الله مع شدّة غيرته يُحبُّ الإعذار، ولم يؤاخذ أحدًا إلَّا بعد إنهاء الإعذار، فكيف تُقْدِم على قتل من وجدته على تلك الحال؟! والله أعلم. انتهى

(2)

.

(وَلَا شَخْصَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنَ اللهِ)"الْمِدحة" بكسر الميم: هي المدح بفتحها، وهو الثناء بذكر أوصاف الكمال والإفضال، فإذا ثبتت الهاء كُسرت الميم، وإذا حُذفت فُتحت، وقوله:(مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ اللهُ الْجَنَّةَ") معناه: لأجل محبته مَدْحَ عباده له وعدهم الجنّة، ورغّبهم فيها، حتى كثُر سؤالهم إياها، وثناؤهم عليه، وقال النوويّ رحمه الله: معنى"من أجل ذلك وعد الجنّة": أنه لَمَّا وعدها، ورَغَّب فيها، كثُر سؤال العباد إياها، والثناء عليه. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "من أجل ذلك وعد الله الجَنَّة" أي: من سبب حُبِّه للمدح وَعَدَ عليه بالجنَّة، وذِكْرُه المدح مقرونًا مع ذكر الغَيْرة والإعذار تنبيهٌ لسعدٍ على ألا يُعْمِل غيرته، ولا يَعْجَل بمقتضاها، بل يتأنى، ويترفق، ويتثبت؛

(1)

"المفهم" 4/ 305.

(2)

"المفهم" 4/ 306.

(3)

"شرح النوويّ" 10/ 132.

ص: 432

حتى يحصل على وجه الصواب من ذلك، وعلى كمال الثناء والمدح بالتأني، والرفق، والصبر، وإيثار الحقّ، وقمع النفس عند هَيَجَانها، وغلبتها عند منازلتها، وهذا نحو من قوله صلى الله عليه وسلم:"ليس الشديد بالصُّرَعَة، إنما الشديد الذي يَملك نفسه عند الغضب"، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقال الكلاباذيّ رحمه الله: ويجوز أن يكون معنى قوله: "لا شخص أغير من الله"؛ أي: لا ينبغي لشخص أن يكون أغير من الله، فمعناه؛ أي: لا يكون العباد الذين هم أشخاص أغير من الله الذي ليس بشخص؛ لأن الله تعالى لا يوصف بالشخص، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، ويجوز أن يكون معناه كأنه يقول: ليس من حقّ من يترفّع، ويعظم قدره، ويشرف مرتبته أن يكون لشرفه في الرتبة، وعظم قدره، وترفعه على غيره، وأن يكون أغير من الله تعالى، والله تعالى جليل عظيم، رفيع المكان، وهو على جلالته وكبريائه، وشدته شدة غيرته، يُمهل عباده في مواقعتهم الفواحش، ولا يعاجلهم بالعقوبة عليها، فلا ينبغي لعبد أن يرتفع عن الإمهال، وترك معاجلة العقوبة لغيرته، فيقتل من يواقع الفاحشة، ويأتيها، ولكن يُمْهِل إلى أن تطلق عنه الأمر من الله تعالى في قتله، فإن أطلق الأمر، وإلا مَهُل وتربص، وإن كان شديد الغيرة، وذلك أن سعدًا كان سيد قومه، وشريف قبيلته الخزرج، وسيدها، ورفيع القدر فيها، وجليل الخطر عندها، ومن كان كذلك، فهو أقدر على معاجلة العقوبة، إذ يكاد يخاف تبعتها، والشخص ما ارتفع، ونما، وتزايد، فكأنه يقول: من كان رفعته، وشرفه، وجلالة قدره بالنمو، والتزايد، والارتفاع من حالة الانخفاض، فلا ينبغي أن يجاوز الحدّ الذي حُدّ له، والوقت الذي يجوز له أن يواقع بالعقوبة مواقع الفاحشة، فإن الله أجلّ وأعظم، وأعلى جلالته، وعظمته، وعلوّه، لَمْ يزل، ولا يزال، وغيرته أشد، وهو مع هذا يمهل مُواقِع الفاحشة، ولا يعاجله، فالشخص أولى بترك معاجلة العقوبة، والدليل على هذا التأويل رواية أبي هريرة رضي الله عنه يعني المذكور قبل حديث المغيرة - ثم أورده، ثم قال: فدل هذا الحديث على أنه أراد معاجلة العقوبة قبل وقتها لغيرته، ولم يخف التبعة فيها

(1)

"المفهم" 4/ 306.

ص: 433

لشرفه في قومه، فكأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبر أنه أغير من سعد، وأشرف، وأبلغ سؤددًا منه، وهو ينتهي إلى الحد في الغيرة، فلا يعاجل بالعقوبة مُواقع الفاحشة قبل وقتها، والله أغير مني وأعلى وأجل، وهو لا يعاجل بالعقوبة، والشخص الذي شرفه وسؤدده من جهة الشخص بالنمو والازدياد لَإلزامه أحق وأولي، ثم الأشخاص وهم المترفعون الأشراف يحبون أن يُعْذَروا من أفعالهم التي يجوز أن يلاموا عليها، فربما يفعلون الفعل الذي يلزمهم اللوم عليه، وهم يحبون أن يُعذروا إلى الناس في أفعالهم لإزالة اللوم عنهم، والتعيير لهم، والنكير ممن فوقهم عليهم، فالله تعالى في جلاله، وعظمته، وكبريائه، وقهره لخلقه يبدي العذر فيما يفعل بخلقه من عدو يهلكه، أو ولي يبليه، فقال في أعدائه:{وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 33]، وقال:{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)} [الزخرف: 76]، وقال:{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام: 146]، وأشباهه كثير، وقال في أوليائه:{ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} الآية [آل عمران: 152]، وقال تعالى:{وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي} [آل عمران: 195]، {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [آل عمران: 169]، وقال:{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور: 11]، {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [آل عمران: 166]، فهو جل جلاله وعزّ يبدي هذه الأعذار في فعله، وقد بعث الأنبياء {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، ولئلا يقولوا يوم القيامة:{إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]، {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} [الأنعام: 157]، وأمثالها كثيرة، فأبدى هذه الأعذار إلى خلقه، وأحب إبداء العذر في فعله مع غناه عن ذلك، إذ لا يلزمه تعالى في فعله لوم، ولا يلحقه تغير، ولا من غيره عليه نكير، ولا حد له فيجاوزه، وهو يفعل ما يفعل في ملكه، وهو حكيم عالم قادر، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا يُسال عما يفعل وهم يُسألون وهو تعالى يحب العذر فضلًا منه وكرمًا، وإجلالًا لعذر أوليائه وبرًا بهم، ولطفًا بهم أكثر من محبة الأجلة والأشراف الذين هم أشخاص معلولون، وعباد مربوبون، وهو الجليل العظيم الرب الكريم.

قال: ويجوز أن يكون معناه: أنه يحب العذر من عباده إليه، وهو أن

ص: 434

يعتذروا إليه من خباءاتهم، وتقصيرهم، فيغفرها لهم، وبعث المرسلين ليحثّوا على ذلك عباده، وليبلوا أعذار عباده، ويشفعوا لهم، كما قال تعالى:{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} - إلى قوله تعالى - {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} الآية [غافر: 7].

وقوله: "ولا شخص أحب إليه المدح من الله" الأشخاص: وهم المترفعون المتزايدون، يحبون أن يُمدحوا ويثنى عليهم في أوصافهم في أنفسهم وأفعالهم بمكان غيرهم وأوصافهم، فهل غيرهم بهم وأفعالهم بقوة يحدثها فيهم من له العذرة والقوة، وششحق عليهم الثواب منهم في المدح لهم، والثناء عليهم، وربما لَمْ يثنوا لرؤية فضل بدونه فيهم، وهم بحبهم عنه عواري، والله تعالى للمدح أحب، وللثناء عليه أشكر، إذ هو المستحق للمدح، وهو الله تعالى رفيع الأوصاف، جميل الأفعال، وهو المنعم المتفضل، ذو الجلال والجمال، فهو يحب المدح من عباد له، والثناء منهم عليه، والحمد والشكر له ليثيبهم عليه أفضل الثواب، وينعم عليهم بأفضل النعم، وكذلك وعد الجَنَّة ليُمدح بالفضل واللطف والبر؛ لأنه لا يستحق عليه شيئًا، ولا يجب عليه فعل فهو متفضل فيما وعد من الجَنَّة ونعيمها، فأحب أن يُمدح بما يمدح المتفضل الحسن الفعال، الجميل الأوصاف، ووعد أيضًا على المدح له والثناء له والشكر له الجَنَّة وثوابها ونعيمها، وما أعدّ فيها مما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فهو للمدح أشدّ حبًّا من الأشخاص المعلومين، وهو بالمدح أولي، وله أحق، تبارك الله الممدوح في أوصافه، المحمود على أفعاله، المنعم على عباده، المتفضل البر الرءوف. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث المغيرة بن شُعبة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3759 و 3760](1499)، و (البخاريّ) في

(1)

"بحر الفوائد المسمى بمعاني الأخيار" للكلاباذيّ 1/ 224 - 225.

ص: 435

"الحدود"(6846)، و"التوحيد"(7416)، و (أبو داود)(4532 و 4533)، و (مالك) في "الموطإ"(4/ 737 و 823)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 248)، و (عبد الله بن أحمد) في "زوائد المسند"(4/ 248)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 214 - 215)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 151)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5773)، و (الطبرانيّ) في "المعجم الكبير"(20/ 922)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 149)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(5/ 110)، والله تعالى أعلم.

وفوائد الحديث، وبقيّة مسائله، تقدّمت قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3760]

(

) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيُّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ، وَقَالَ: غَيْرَ مُصْفَحٍ، وَلَمْ يَقُلْ: عَنْهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(حُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ) بن الوليد الجعفيّ الكوفيّ المقريّ، ثقةٌ عابدٌ [9](ت 3 أو 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 154.

2 -

(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثقفيّ، أبو الصَّلْت الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، سنّيّ [7](ت 160)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

والباقيان ذُكرا في الباب.

وقوله: (وَلَمْ يَقُلْ: عَنْهُ) يعني أن زائدة لَمْ يذكر في روايته عن عبد الملك بن عُمير لفظة: "عنه"، بل قال:"غير مصفح" فقط، وقد تقدّم اختلاف العلماء في إثباتها، وعدمه، في الحديث الماضي.

[تنبيه]: رواية زائدة بن قُدامة، عن عبد الملك بن عُمير هذه لَمْ أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 436

(1) - (بَابٌ لَا يُنْفَى الْوَلَدُ لِمُخَالَفَةِ لَوْنٍ، أَوْ شَبَهٍ)

(1)

قال الجامع عفا الله عنه: ترجم الإمام البخاريّ رحمه الله على حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا بقوله: "بابٌ إذا عرّض بنفي الولد"، قال في "الفتح": قوله: "عَرَّضَ" - بتشديد الراء - من التعريض، وهو ذِكْرُ شيء يُفهَم منه شيء آخر، لَمْ يُذكَر، ويفارق الكناية بأنها ذكر شيء بغير لفظه الموضوع، يقوم مقامه، وترجم البخاريّ لهذا الحديث في "الحدود":"ما جاء في التعريض"، وكأنه أخذه من قوله في بعض طرقه:"يُعَرِّض بنفيه".

وقد اعترضه ابن الْمُنَيِّر، فقال: ذَكَر ترجمة التعريض عقب ترجمة الإشارة؛ لاشتراكهما في إفهام المقصود، لكن كلامه يُشعر بإلغاء حكم التعريض، فيتناقض مذهبه في الإشارة. والجوابُ أن الإشارة المعتبرة هي التي لا يُفهم منها إلَّا المعنى المقصود، بخلاف التعريض، فإن الاحتمال فيه إما راجح، وإما مساوٍ، فافترقا.

قال الشافعيّ في "الأُمّ": ظاهر قول الأعرابيّ أنه اتَّهَم امرأته، لكن لما كان لقوله وجه غير القذف، لَمْ يَحكم النبي صلى الله عليه وسلم فيه بحكم القذف، فدلّ ذلك على أنه لا حدّ في التعريض.

ومما يدلّ على أن التعريض لا يُعطَى حكمَ التصريح الإذن بِخِطبة المعتدّة بالتعريض، لا بالتصريح، فلا يجوز، والله أعلم. انتهى

(2)

.

وقد أشار السيوطيّ رحمه الله في "الكوكب الساطع" إلى بيان الفرق بين الكناية، والتعريض، فقال:

اللَّفْظُ إِنْ أُطْلِقَ فِي مَعْنَاهُ ثُمَّ

أُرِيدَ مِنْهُ لَازِمُ الْمَعْنَى فَسَمْ

كِنَايَةً وَهْوَ حَقِيقَةً جَرَى

أَوْ لَمْ يُرَدْ مَعْنًى وَلَكِنْ عبِّرَا

(1)

ترجم القرطبيّ في "مختصره" بنحو هذه الترجمة، وأما بقيّة شرّاح مسلم، فلم يتعرّضوا للترجمة، بل جعلوا الأحاديث كلّها تحت الترجمة السابقة "كتاب اللعان".

(2)

"الفتح" 12/ 161 "كتاب الطلاق" رقم (5305).

ص: 437

عَنْ لَازِمٍ مِنْهُ بِمَلْزُومٍ فَذَا

يَجْرِي مَجَازًا فِي الَّذِي السُّبْكِي احْتَذَى

وَمَنْ يَقُلْ مَجَازٌ أَوْ حَقِيقَةُ

أَوْ لَا وَلَا كُلٌّ لَدَيْهِ حُجَّةُ

وَإِنْ لِتَلْوِيحٍ سِوَاهُ قُصِدَا

تَعْرِيضُهُمْ لَيْسَ مَجَازًا أَبَدَا

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3761]

(1500) - (وَحَدَّثَنَاه قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَاللَّفْظُ لِقُتَيْبَةَ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَن الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ إِلَى النَّبِيّ، فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ كُلَامًا أَسْوَدَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَمَا أَلْوَانُهَا؟ " قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: "هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ " قَالَ: إِنَّ فِيهَا لَوُرْقًا، قَالَ: "فَأَنَّى أَتَاهَا ذَلِكَ؟ " قَالَ: عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ، قَالَ: "وَهَذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ).

رجال هذا الإسناد: ثمانيةٌ:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) بن حَزْن بن أبي وهب المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ الإمام المثبت الحجة الفقيه، من كبار [3](94)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

شرح الحديث:

(عَن الزُّهْرِيِّ) قال الدارقطنيّ: أخرجه أبو مصعب في "الموطإ" عن مالك، وتابعه جماعة من الرواة خارج "الموطإ"، ثم ساقه من رواية محمد بن الحسن، عن مالك: أنا الزهريّ، ومن طريق عبد الله بن محمد بن أسماء، عن مالك، ومن طريق ابن وهب، أخبرني ابن أبي ذئب، ومالك، كلاهما عن ابن شهاب. وطريق ابن وهب هذه أخرجها أبو داود، قاله في "الفتح"

(1)

.

(عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ) قال في "الفتح": كذا لأكثر أصحاب الزهريّ، وخالفهم يونس، فقال: عنه، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وسيأتي بعد

(1)

"الفتح" 12/ 161 - 162.

ص: 438

حديث من طريق ابن وهب، عنه، وهذا يدلّ على أن الشيخين يريان إلى أنه عند الزهريّ، عن سعيد، وأبي سلمة معًا، قال الحافظ: ويؤيده رواية يحيى بن الضحاك، عن الأوزاعيّ، عن الزهريّ، عنهما جميعًا، وقد أطلق الدارقطنيّ أن المحفوظ رواية مالك، ومن تابعه، وهو محمول على العمل بالترجيح، وأما طريق الجمع فهو ما صنعه الشيخان، ويتأيّد أيضًا بأن عُقيلًا رواه عن الزهريّ، قال: بلغنا عن أبي هريرة، فإن ذلك يُشعر بأنه عنده عن غير واحد، وإلا لو كان عن واحد فقط، كسعيد مثلًا لاقتصر عليه. انتهى

(1)

.

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ) - بفتح الفاء، وبالزاي، وبعد الألف راء مهملة - وللبخاريّ:"أن رجلًا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم "، وفي رواية له:"جاء أعرابيّ"، وللنسائيّ: ي جاء رجل من أهل البادية"، وكذا في رواية أشهب، عن مالك، عند الدارقطنيُّ، وفي رواية ابن وهب عند أبي داود: "أن أعرابيًّا من بني فزارة".

قال الحافظ رحمه الله: واسم هذا الأعرابي ضمضم بن قتادة، أخرج حديثه عبد الغنيّ بن سعيد في "المبهمات" له، من طريق قُطبة بنت عمرو بن هَرِم؛ أن مدلوكًا حدّثها أن ضمضم بن قتادة، وُلد له مولود أسود، من امرأة من بني عِجْل، فشكا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"هل لك من إبل؟ "(إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية ابن أبي ذئب: "صَرَخَ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم "(فَقَالَ: "إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ) قال الحافظ رحمه الله: لَمْ أقف على اسم المرأة، ولا على اسم الغلام، وزاد في رواية يونس:"وإني أنكرته"؛ أي: استنكرته بقلبي، ولم يرد أنه أنكر كونه ابنه بلسانه، وإلا لكان تصريحًا بالنفي، لا تعريضًا، ووجه التعريض أنه قال: غلامًا أسود؛ أي: وأنا أبيض، فكيف يكون مني؟

ووقع في رواية معمر، عن الزهريّ في الرواية التالية:"وهو حينئذ يُعَرِّض بأن ينفيه"، ويؤخذ منه أن التعريض بالقذف ليعس قذفًا، وبه قال الجمهور، واستدلّ الشافعيّ بهذا الحديث لذلك، وعن المالكية: يجب به الحدّ، إذا كان مفهومًا، وأجابوا عن الحديث بما سيأتي بيانه في آخر شرحه.

(1)

"الفتح" 12/ 162.

ص: 439

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: في الاستدلال بالحديث نظرٌ؛ لأن المستفتي لا يجب عليه حدّ، ولا تعزير.

قال الحافظ: وفي هذا الإطلاق نظر؛ لأنه قد يستفتي بلفظ لا يقتضي القذف، وبلفظ يقتضيه، فمن الأول أن يقول مثلًا: إذا كان زوج المرأة أبيض، فأتت بولد أسود: ما الحكم؟ ومن الثاني أن يقول مثلًا: إن امرأتي أتت بولد أسود، وأنا أبيض، فيكون تعريضًا، أو يزيد فيه مثلًا: زنت، فيكون تصريحًا، والذي ورد في حديث الباب هو الثاني، فيتم الاستدلال، وقد نبه الخطابيّ

(1)

على عكس هذا، فقال: لا يلزم الزوج إذا صرح بأن الولد الذي وضعته امرأته ليس منه حدّ قذف؛ لجواز أن يريد أنَّها وُطئت بشبهة، أو وضعته من الزوج الذي قبله، إذا كان ذلك ممكنًا. انتهى.

(فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم " (فَمَا أَلْوَانُهَا؟ " قَالَ: حُمْرٌ) بضمّ، فسكون: جمع أحمَر، وفي رواية محمد بن مصعب، عن مالك عند الدارقطنيّ:"قال: أرمك"، والأرمك الأبيض إلى حمرة (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ ") بوزن أحمر، قال النوويّ رحمه الله: الأورق: هو الذي فيه سواد ليس بصاف، ومنه قيل للرماد: أورق، وللحمامة ورقاء، وجمعه وُرْقٌ - بضم الواو، وإسكان الراء - كأحمر وحُمْرٍ. انتهى

(2)

، وقال في "الفتح": الأورق: الذي فيه سواد، ليس بحالِكٍ، بل يميل إلى الْغُبْرة

(3)

، ومنه قيل للحمامة: وَرْقاء. انتهى. (قَالَ) الرجل (إِنَّ فِيهَا لَوُرْقًا) بضمّ، فسكون: جمع أورق (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَأَتَى) - بفتح الهمزة، وتشديد النون - بمعنى"من أين" (أَتَاهَا ذَلِكَ؟ ") أي: من أين أتاها اللون الذي خالفها؟ هل هو بسبب فحل من غير لونها، طرأ عليها، أو لأمر آخر؟ (قَالَ) الرجل (عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ) وفي رواية يونس الآتية:"فقال: لعله يا رسول الله يكون نزعه عِرْق له"، وزاد في رواية معمر التالية:"فلم يُرخّص له في الانتفاء منه"، وفي رواية شُعيب بن

(1)

راجع: "الأعلام" 4/ 2300 و 2301، و"معالم السنن" 3/ 235.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 133.

(3)

بفتحتين، أو بضمّ، فسكون: التراب.

ص: 440

أبي حمزة عند النسائيّ: "فمن أجله قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا: لا يجوز لرجل أن ينتفي من وَلَد وُلد على فراشه، إلَّا أن يزعم أنه رأى فاحشةً".

ووقع في رواية البخاريّ بلفظ: "لعلّ نزعه عِرْق"، وفي رواية كريمة:"لعله"، ولا إشكال فيها، بخلاف الأول، فجزم جمع بأن الصواب النصب؛ أي: لعل عِرْقًا نزعه، وقال الصغانيّ: وَيحْتَمِل أن يكون في الأصل: لعله، فسقطت الهاء، ووَجَّهَهُ ابن مالك باحتمال أنه حُذف منه ضمير الشأن، ويؤيد توجيهه ما وقع في رواية كريمة، والمعنى: يَحْتَمِل أن يكون في أصولها ما هو باللون المذكور، فاجتذبه إليه، فجاء على لونه، وادَّعَى الداوديّ أن "لَعَلَّ" هنا للتحقيق. قاله في "الفتح"

(1)

.

قال النوويّ رحمه الله: المراد بالعِرق هنا: الأصل من النسب، شَبَّهَهُ بعِرْق الشجرة، ومنه قولهم: فلان عَرِيق في الأصالة؛ أي: أن أصله متناسب، وكذا مُعْرِق في النسب، والحسَب، وفي اللؤم والكرَم، ومعنى نَزَعه: أشبهه، واجتذبه إليه، وأظهر لونه عليه، وأصل النزع: الجذب، فكأنه جذبه إليه؛ لِشَبَهه، يقال منه: نَزَعَ الولد لأبيه، وإلى أبيه، ونَزَعه أبوه، ونزعه إليه، وقد يُطلَق النزع على الميل، ومنه ما وقع في قصة عبد الله بن سلام رضي الله عنه حين سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن شَبَه الولد بأبيه، أو بأمه:"نَزَعَ إلى أبيه، أو إلى أمه"

(2)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَهَذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ") أي: كذلك يَحْتَمِل أن يكون نزَعَ هذا الولد الأسود المخالف للونك أحدُ من كان بهذا اللون من أصوله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 3761 و 3762 و 3763 و 3764](1500)،

(1)

"الفتح" 12/ 163.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 133 - 134، و"الفتح" 12/ 163 - 164.

ص: 441

و (البخاريّ) في "الطلاق"(4/ 999) و"الحدود"(6847)، و"الاعتصام"(7314)، و (أبو داود) في "سننه"(2260 - 2261)، و (الترمذيّ) في "جامعه"(2128)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(6/ 178 و 179)، و"الكبرى"(10/ 265)، و (ابن ماجة) في (2002)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 233 و 234 و 239 و 279)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 411)، و"الصغرى"(2/ 326)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5/ 304)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 17 - 215)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 153)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 270)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 264)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن الولد لا يُنفَى بمخالفة لونه لون الزوج، فلا يجوز للزوج الانتفاء من ولده بمجرد الظنّ، وأن الولد يُلحق به، ولو خالف لونه لونه، حتى لو كان الأب أبيض، والولد أسود، أو عكسه لحقه، وكذا لو كان الزوجان أبيضين، فجاء الولد أسود، أو عكسه؛ لاحتمال أن نَزَعه عِرْقٌ من أسلافه.

وقال القرطبيّ تبعًا لابن رشد: لا خلاف في أنه لا يحل نفي الولد باختلاف الألوان المتقاربة؛ كالأُدْمة، والسُّمْرة، ولا في البياض والسواد، إذا كان قد أقر بالوطء، ولم تمض مدة الاستبراء، قال الحافظ: وكأنه أراد في مذهبه، وإلا فالخلاف ثابت عند الشافعية بتفصيل، فقالوا: إن لَمْ ينضم إليه قرينة زنا لَمْ يجز النفي، فإن اتّهمها، فأتت بولد على لون الرجل الذي اتّهمها به، جاز النفي على الصحيح، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما المتقدَّم ما يقوَيه، وعند الحنابلة: يجوز النفي مع القرينة مطلقًا، والخلاف إنما هو عند عدمها، وهو عكس ترتيب الخلاف عند الشافعية. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): أن فيه إثبات ضرب الأمثال، وتشبيه المجهول بالمعلوم؛ تقريبًا لفهم السائل.

3 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به لصحة العمل بالقياس، قال الخطابيّ رحمه الله:

(1)

"الفتح" 12/ 164.

ص: 442

هو أصل في قياس الشَّبَه، وقال ابن العربيّ: فيه دليل على صحة القياس، والاعتبار بالنظير، وتوقف فيه ابن دقيق العيد، فقال: هو تشبيه في أمر وجوديّ، والنزاع إنما هو في التشبيه في الإحكام الشرعية من طريق واحدة قوية.

4 -

(ومنها): تقديم حكم الفراش على ما يُشعر به مخالفة الشبه.

5 -

(ومنها): الاحتياط للأنساب، وإلحاقها بمجرّد الإمكان، والزجر عن تحقيق ظنّ السوء.

6 -

(ومنها): ما قال القرطبيّ: يؤخذ منه منع التسلسل العقليّ، وأن الحوادث لا بدّ لها أن تستند إلى أول ليس بحادث. انتهى

(1)

.

7 -

(ومنها): بيان حكم التعريض بالقذف، وهو أنه لا يوجب حكم القذف حتى يقع التصريح، وبه قال أبو حنيفة، والشافعيّ، وآخرون، وذهب المالكية إلى وجوب الحدّ بالتعريض إذا كان مفهومًا، قاله وليّ الدين رحمه الله

(2)

.

وقال في "الفتح" بعد ذكره مخالفة المالكيّة في ذلك، ما نصّه: وأجاب بعض المالكية بأن التعريض الذي يجب به القذف عندهم هو ما يُفهَم منه القذف، كما يفهم من التصريح، وهذا الحديث لا حجة فيه؛ لدفع ذلك، فإن الرجل لَمْ يُرِد قذفًا، بل جاء سائلًا، مستفتيًا عن الحكم؛ لِمَا وَقَع له من الريبة، فلمّا ضَرَب له المثل أذعن، وقال المهلَّب: التعريض إذا كان على سبيل السؤال لا حدّ فيه، وإنما يجب الحدّ في التعريض إذا كان على سبيل المواجهة والمشاتمة، وقال ابن الْمُنَيِّر: الفرق بين الزوِج والأجنبيّ في التعريض أن الأجنبيّ يقصد الأذية المحضة، والزوج قد يُعذر بالنسبة إلى صيانة النسب. انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3762]

(

) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ الْآخَرَانِ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ

(1)

"المفهم" 4/ 308.

(2)

"طرح التثريب" 7/ 119.

(3)

"الفتح" 12/ 164 - 165.

ص: 443

(ع) وَحَدَّثَنِي ابْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، جَمِيعًا عَنْ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ مَعْمَرٍ: فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، وَلَدَتْ امْرَأَتِي غُلَامًا أَسْوَدَ، وَهُوَ حِينَئِذٍ يُعَرِّضُ بِأَنْ يَنْفِيَهُ، وَزَادَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِي الانْتِفَاءِ مِنْهُ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(مَعْمَرُ) بن راشد اليمنيّ، بصريّ الأصل، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

2 -

(ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ) محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فُديك الديليّ مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، صدوقٌ، من صغار [8](ت 200)(ع) تقدم في "الحيض" 16/ 775.

3 -

(ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ) محمد بن عبد الرَّحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب القرشيّ العامريّ، أبو الحارث المدنيّ، ثقةٌ فقيه فاضلٌ [7](ت 158)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 93.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

[تنبيه]: رواية معمر، عن الزهريّ، ساقها النسائيّ في "المجتبى"(6/ 490)، فقال:

(3479)

- أخبرنا محمد بن عبد الله بن بَزِيع، قال: حدّثنا يزيد بن زُريع، قال: حدّثنا معمر، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة، قال: جاء رجل من بني فَزارة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إن امرأتي ولدت غلامًا أسود، وهو يريد الانتفاء منه، فقال:"هل لك من إبل؟ " قال: نعم، قال:"ما ألوانها؟ " قال: حُمْرٌ، قال:"هل فيها من أورق؟ " قال: فيها ذَوْدُ وُرْقٍ

(1)

، قال:"فما ذاك ترى؟ " قال: لعله أن يكون نزعها عرق، قال: "فلعل هذا أن

(1)

قوله: "ذَوْدُ وُرْق" بإضافة "ذَوْد" إلى "وُرْق"، و"الذَّوْد" بفتح الذال المعجمة، وسكون الواو، آخره دال مهملة: ما بين الثلاث إلى العشر، وجمعه أذواد، وإضافته لما بعده من إضافة الموصوف إلى الصفة، كمسجد الجامع.

ص: 444

يكون نزعه عرق"، قال: فلم يُرَخِّصْ له في الانتفاء منه. انتهى.

وأما رواية ابن أبي ذئب، عن الزهريّ، فلم أر من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3763]

(

) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، وَاللَّفْظُ لِحَرْمَلَةَ، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ أَعْرَابيًّا أَتَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ، وَإِنِّي أَنْكَرْتُهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:"مَا أَلْوَانُهَا؟ " قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ:"فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللهِ:"فَأَنَّى هُوَ؟ " قَالَ: لَعَلَّهُ يَا رَسُولَ اللهِ يَكُونُ نَزَعَهُ عِرْقٌ لَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "وَهَذَا لَعَلَّهُ يَكُونُ

(1)

نَزَعَهُ عِرْقٌ لَهُ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلهم تقدّموا قريبًا، و"أبو الطاهر" هو: أحمد بن عمرو بن السرح المصريّ، و"يونس" هو: ابن يزيد الأيليّ، و"أبو سلمة بن عبد الرَّحمن" بن عوف، وقد تقدّم أن الزهري روى هذا الحديث عنه، وعن المسيّب، ولذا أخرجه الشيخان من طريقيهما، فتنبّه.

وقوله: (وَإِنِّي أنكَرْتُهُ) قال النوويّ رحمه الله: معناه: استغربته بقلبي أن يكون مني، لا أنه نفاه عن نفسه بلفظه. انتهى

(2)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3764]

(

) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا حُجَيْنٌ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَن ابْنِ شِهَابٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ).

(1)

وفي نسخة: "أن يكون".

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 134.

ص: 445

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حُجَيْنُ) بن المثنّى اليماميّ، أبو عُمير، سكن بغداد، وولي قضاء خُرَاسان، ثقةٌ [9](205)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 81/ 437.

2 -

(اللَّيْثُ) بن سعد الإمام المصريّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(عُقَيْلُ) بن خالد الأيليّ، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 147)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 133.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية عُقيل، عن ابن شهاب هذه في إسنادها انقطاع؛ لأن ابن شهاب قال:"بلغنا"، وإنما أخرجها المصنّف من باب المتابعة، ولم أر من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أجملم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

* * *

ص: 446

‌20 - (كِتَابٌ الْعِتْقِ)

قال الفيّوميّ رحمه الله: عَتَقَ العبدُ عَتْقًا، من باب ضَرَبَ، وعَتَاقًا، وعَتَاقَةً - بفتح الأوائل -، والْعِتْقُ - بالكسر - اسم منه، فهو عَاتقٌ، وَيتَعَدَّى بالهمزة، فيقال: أعتقته، فهو مُعْتَقٌ، على قياس الباب، ولا يتعدى بنفسه، فلا يقال: عَتَقْتُهُ، ولهذا قال في "البارع": لا يقال: عُتِقَ العبدُ، وهو ثلاثيّ مبنيّ للمفعول، ولا أَعْتَقَ هو، بالألف، مَبْنِيًّا للفاعل، بل الثلاثيّ لازمٌ، والرباعيّ مُتَعَدٍّ، ولا يجوز: عَبْدٌ مَعْتُوقٌ؛ لأن مجيء مفعول من أَفْعَلْتُ شاذّ مسموعٌ، لا يقاس عليه، وهو عَتِيقٌ، فَعِيلٌ بمعنى مفعولٍ، وجمعه عُتَقَاءُ، مثلُ كُرَماء، وربما جاء عِتَاقٌ، مثلُ كِرامٍ، وأمةٌ عَتِيقٌ أيضًا، بغير هاء، وربما ثبتت، فقيل: عَتِيقةٌ، وجمعها عَتَائِقُ. انتهى كلام الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قال أهل اللغة: العتق: الحرّيّة، يقال منه: عَتَقَ يَعْتِقُ عِتْقًا، بكسر العين، وعَتْقًا، بفتحها أيضًا، حكاه صاحب "المحكَم"، وغيره، وعَتَاقًا، وعَتَاقَةً، فهو عَتِيقٌ، وعَاتقٌ أيضًا، حكاه الجوهريّ، وهم: عُتقاء، وأعتقه فهو مُعْتَقٌ، وهم: عُتقاء، وأمه عَتِيقٌ، وعَتِيقةٌ، وإماءٌ عَتَائق، وحَلَف بالْعَتَاق؛ أي: الإعتاق، قال الأزهريّ: هو مشتقّ من قولهم: عَتَقَ الفرسُ: إذا سَبَقَ، ونَجَا، وعَتَقَ الْفَرْخ: طار، واستَقَلَّ؛ لأن العبد يتخلص بالعتق، ويذهب حيث شاء، قال الأزهريّ وغيره: وإنما قيل لمن أَعتَق نَسَمَةً: إنه أعتق رَقَبَةً، وفَكَّ رَقبةً، فخُصّت الرقبة دون سائر الأعضاء، مع أن العتق يتناول الجميع؛ لأن حكم السيد عليه، وملكه له، كحبل في رقبة العبد، وكالْغُلِّ المانع له من الخروج، فإذا أُعتق، فكأنه أُطلقت رقبته من ذلك، والله أعلم. انتهى

(2)

.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 392.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 135.

ص: 447

هذا من حيث اللغة، وأما شرعًا: فقد فسّره في. "المُغرب": بالخروج عن المملوكيّة، ووجه مناسبته بمعناه اللغويّ أنه قوّة حكميّة يصير المرء بها أهلًا للشهادة، والولاية، والقضاء.

وقال ابن الهمام رحمه الله في "فتح القدير": ولا يخفى ما في العَتَاق من المحاسن، فإن الرقّ أثر الكفر، فالعتق إزالة أثر الكفر، وهو إحياء حكميّ لأثر حكميّ لموت حكميّ، فإن الكافر ميتٌ معني، فإنه لَمْ ينتفع بحياته، ولم يذق حلاوتها العليا، فصار كأنه لَمْ يكن له روحٌ، قال تعالى:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122]؛ أي: كافرًا، فهديناه، ثم أثَر ذلك الكفر الرقّ الذي هو سلب أهليّته لما تأهّل له العقلاء، من ثبوت الولايات على الغير، من إنكاح البنات، والتصرّف في المال، والشهادات، وعلى نفسه، حتى لا يصحّ نكاحه، ولا بيعه، ولا شراؤه - أي: بغير إذن سيّده - وامتنع أيضًا بسبب ذلك عن كثير من العبادات؛ كصلاة الجمعة، والحج، والجهاد، وصلاة الجنائز، وفي هذا كلّه من الضرر ما لا يخفي، فإنه صار بذلك ملحقًا بالأموات في كثير من الصفات، فكان العتق إحياء له معنىً. انتهى

(1)

.

(1) - (بَابٌ فِيمَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ في عَبْدٍ)

[3765]

(1501) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قُلْتُ لِمَالِكٍ: حَدَّثَكَ نَافِعٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَكَانَ لَهُ مَالٌ، يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْد، قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْعَدْل، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ

(2)

، وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ"؟).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدَّم قبل باب.

2 -

(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، تقدّم أيضًا قبل باب.

(1)

"فتح القدير" للكمال ابن الهمام رحمه الله 3/ 357.

(2)

وفي نسخة: "فأُعطِيَ شركاؤه حِصَصَهُمْ" ببناء الفعل للمفعول.

ص: 448

3 -

(نَافِعٌ) مولى ابن عمر المدنيّ الفقيه، تقدّم أيضًا قبل باب.

4 -

(ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد الله رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قبل باب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (240) من رباعيّات الكتاب.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، كما أسلفته آنفًا.

4 -

(ومنها): أنه أصحّ الأسانيد على ما نُقل عن البخاريّ رحمه الله.

5 -

(ومنها): أن فيه قول يحيى: "قلت لمالك

إلخ"، وهو بتقدير أداة الاستفهام؛ أي: أحدّثك نافع

إلخ، ثم إنه لَمْ يُذكر في هذه الرواية قول مالك: نعم، وفيه خلاف مذكور في "كتب المصطلح"، والأصحّ أنه يكفي، وإن لَمْ يذكر ذلك قولًا، وإليه أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث"، حيث قال:

إِذَا قَرَا وَلَمْ يُقِرَّ الْمُسْمَعُ

لَفْظًا كَفَى وَقِيلَ لَيْسَ يَنْفَعُ

ثَالِثُهَا يَعْمَلُ أَوْ يَرْوِيهِ

بـ "قَدْ قَرَأتُ" أَوْ "قُرِي عَلَيْهِ"

وإن أردت تحقيق المسألة، وإيضاحها فراجع شرحي المسمَّى "إسعاف ذوي الوطر"

(1)

، تستفد علمًا، وبالله تعالى التوفيق.

شرح الحديث:

(عَن ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ) شرطيّة مبتدأ، خبره جملة "قُوِّم

إلخ " (أَعْتَقَ) قال في "الفتح": ظاهره العموم، لكنه مخصوص بالاتفاق، فلا يصحّ من المجنون، ولا من المحجور عليه؛ لِسَفَهٍ، وفي المحجور عليه بفَلْس، والعبد، والمريض مرض الموت، والكافر تفاصيل للعلماء، بحسب ما يظهر عندهم من أدلة التخصيص، ولا يُقَوَّم في مرض

(1)

"إسعاف ذوي الوطر في شرح ألفيّة الأثر" 1/ 464 - 465.

ص: 449

الموت عند الشافعية، إلَّا إذا وَسِعَه الثلث، وقال أحمد: لا يُقَوَّم في المرض مطلقًا.

وخرج بقوله: "أَعْتَقَ" ما إذا أُعتِق عليه، بأن وَرِثَ بعض من يَعتِق عليه بقرابة، فلا سِراية عند الجمهور، وعن أحمد روايةٌ، وكذلك لو عَجَز المكاتَب بعد أن اشترى شِقْصًا يَعتِق على سيده، فإن المُلك والعتق يحصلان بغير فعل السيد، فهو كالإرث، ويدخل في الاختيار ما إذا أُكره بحقّ، ولو أوصى بعتق نصيبه من المشترَك، أو بعتق جزء ممن له كلّه، لَمْ يَسِرْ عند الجمهور أيضًا؛ لأن المال ينتقل للوارث، ويصير الميت معسرًا، وعن المالكية روايةٌ، وحجة الجمهور مع مفهوم الخبر أن السراية على خلاف القياس، فيَخْتَصّ بمورد النصّ، ولأن التقويم سبيله سبيل غَرامة المتلفات، فيقتضي التخصيص بصدور أمر يُجعَل إتلافًا، ثم ظاهر قوله:"من أعتق" وقوع العتق مُنَجَّزًا، وأجرى الجمهور المعلَّق بصفة، إذا وُجدت مجرى المنَجَّز. انتهى.

(شِرْكًا) بكسر الشين المعجمة، وإسكان الراء؛ أي: نصيبًا، وفي رواية للبخاريّ:"شِقْصًا"، وهو بشين معجمة، وقاف، وصاد مهملة، بوزن "شِرْكًا"، وفي رواية:"نَصِيبًا"، والكل بمعنًى، إلَّا أن ابن دُريد قال: هو القليل والكثير، وقال القَزّاز: لا يكون الشِّقْص إلَّا كذلك، والشِّرْك في الأصل مصدرٌ أُطلق على متعلَّقه، وهو العبد المشترّك، ولا بدّ في السياق من إضمار جزء، أو ما أشبهه؛ لأن المشترَك هو الجملة، أو الجزء المعيَّن منها، وظاهره العموم في كلّ رقيق، لكن يُستثنَى الجاني، والمرهون، ففيه خلاف، والأصح في الرهن والجناية منع السراية؛ لأن فيها إبطال حقّ المرتهن، والمجنِيّ عليه، فلو أَعتق مشتركًا بعد أن كاتباه، فإن كان لفظ العبد يتناول المكاتب وقعت السراية، وإلا فلا، ولا يكفي ثبوت أحكام الرقّ عليه، فقد تثبت، ولا يستلزم استعمال لفظ العبد عليه، ومثله ما لو دَبَّراه، لكن تناول لفظ العبد للمدبَّر أقوى من المكاتب، فيسري هنا على الأصح، فلو أعتق من أمة ثبتٌ كونها أم ولد لشريكه، فلا سراية؛ لأنَّها تستلزم النقل من مالك إلى مالك، وأم الولد لا تقبل ذلك، عند من لا يرى بيعها، وهو أصح قَوْلي العلماء. قاله في "الفتح"

(1)

.

(1)

"الفتح" 6/ 344 - 345 "كتاب العتق" رقم (2522).

ص: 450

وقوله: (لَهُ) متعلّق بصفة "شركًا"؛ أي: كائنًا له (فِي عَبْدٍ) متعلّق بـ"شركًا"(فَكَانَ لَهُ) أي: للمعتق (مَالٌ، يَبْلُغُ) أي: شيءٌ يبلغ، والتقييد به يُخرج ما إذا كان له مالٌ، لكنه لا يبلغ قيمة النصيب، وظاهره أنه في هذه الصورة لا يُقوَّم عليه مطلقًا، لكن الأصحّ عند الشافعيّة، وهو مذهب مالك أنه يَسري إلى القدر الذي هو موسرٌ به؛ تنفيذًا للعتق بحسب الإمكان، قاله في "الفتح"

(1)

.

(ثَمَنَ الْعَبْدِ) أي: ثمن بقية العبد؛ لأنه موسر بحصته، وقد أوضح ذلك النسائيّ في روايته من طريق زيد بن أبي أنيسة، عن عبيد الله بن عُمر، وعُمر بن نافع، ومحمد بن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر بلفظ:"وله مالٌ يبلغ قيمة أنصباء شركائه، فإنه يضمن لشركائه أنصباءهم، وَيعتِق العبدُ"، والمراد بالثمن هنا القيمة؛ لأن الثمن ما اشتُرِيت به العين، واللازم هنا القيمة، لا الثمن، وقد تبيّن المراد في رواية زيد بن أبي أنيسة المذكورة، قاله في "الفتح".

(قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْعَدْلِ) ببناء الفعل للمفعول، من التقويم، وفي رواية:"في ماله قيمة عدل، ولا وكسَ، ولا شطط"، والوَكْس - بفتح الواو، وسكون الكاف، بعدها مهملة -: النقص، والشطط - بمعجمة، ثم مهملة مكررة، والفتحِ -: الجور.

واتفق من قال بهذا من العلماء على أنه يباع عليه في حصة شريكه جميعُ ما يباع عليه في الدَّين، على اختلاف عندهم في ذلك، ولو كان عليه دَين بقدر ما يملكه، كان في حكم الموسر على أصح قولي العلماء، وهو كالخلاف في أن الدَّين هل يمنع الزكاة أم لا؟ ووقع في رواية الشافعيّ، والحميديّ:"فإنه يُقَوَّم عليه بأعلى القيمة، أو قيمة عدل"، وهو شك من سفيان، وقد رواه أكثر أصحابه عنه بلفظ:"قُوِّم عليه قيمة عدل"، وهو الصواب.

(فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ) ببناء الفعل للفاعل، ونصب "شُركاءَه" على المفعوليّة، وكذا هو عند الأكثرين، وضبطه بعضهم بالبناء للمفعول، و"شركاؤه" مرفوع على أنه نائب الفاعل، وقوله:(حِصَصَهُمْ) هو المفعول الثاني، وهو بكسر، ففتح: جمع حصّة، وهي القِسْم، والنصيب، قال الفيّوميّ رحمه الله: الْحِصّةُ:

(1)

"الفتح" 6/ 346.

ص: 451

الْقِسْم، والجمع حِصَصٌ، مثلُ سِدْرَة وسِدَرٍ، وحَصَّهُ من المال كذا يَحُصّهُ، من باب قَتَل: حَصَلَ له ذلك نَصِيبًا، وأحصصته بالألف: أعطيته حصّةً، وتحاصّ الغُرماء: اقتسموا المال بينهم حِصَصًا. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "حِصَصَهم" أي: قيمة حِصَصِهم؛ أي: إن كان له شركاء، فإن كان له شريك أعطاه جميع الباقي، وهذا لا خلاف فيه، فلو كان مشترَكًا بين الثلاثة، فأَعتق أحدهم حِضته، وهي الثلث، والثاني حصته، وهي السدس، فهل يُقَوَّم عليهما نصيب صاحب النصف بالسوية، أو على قدر الْحِصَص؟ الجمهور على الثاني، وعند المالكية والحنابلة خلاف؛ كالخلاف في الشفعة، إذا كانت لاثنين، هل يأخذان بالسويّة، أو على قدر الملك؟ انتهى

(2)

.

(وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ"؟) قال الداوديّ: هو بفتح العين من الأول، ويجوز الفتح والضم في الثاني، وتعقبه ابن التين بأنه لَمْ يقله غيره، وإنما يقال: عَتَقَ بالفتح، وأُعتق بضم الهمزة، ولا يعرف عُتِق بضم أوله؛ لأن الفعل لازمٌ غير متعدّ. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: قد أجاد ابن التين في تعقّبه هذا، فقد تقدّم في أول "كتاب العتق" ما قاله أهل اللغة، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وقد أجاد القرطبيّ رحمه الله في شرح هذا الحديث، وأحببت إيراده هنا بنصّه؛ لغزارة فوائده، وكثرة عوائده، قال رحمه الله: هذا الحديث من رواية مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، وهو أتقن ما رُوي عن نافع من ذلك، وأكمله. فلنبحث عن كلماته. فـ"من" بحكم عمومها تتناول كُلّ من يلزمه العتق، وهم المكلفون، الأحرار، المسلمون، ذكرهم، وإناثهم، فمن أعتق نصيبه منهم في مملوك مشترك نَفَذ عِتْقه في نصيبه، وقُوِّم عليه نصيب شريكه إن كان موسرًا، ودُفعت القيمة للشريك، وكُمِّل على المبتدئ بالعتق، فلو أَعتق من ليس بمكلف من صبي، أو مجنون لَمْ يلزمه العتق، ولم يكمل عليه، وكذلك لو أعتق العبد بغير إذن سيده، فلو أَذِن له السيد، أو أجاز انتقل الحكم إليه، ولزمه العتق، وكمل عليه.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 139.

(2)

"الفتح" 6/ 346.

ص: 452

وأما الكفار: فلا يصح العتق الشرعيّ منهم، إمَّا لأنَّهم غير مخاطبين بالفروع، وإما لأن صحة القُرَب الشرعية موقوفة على الإسلام، فلو كان العبد مسلمًا وسيّداه نصرانيين، فأعتق أحدهما كمّل عليه؛ لأنه حكم بين مسلم وذمي، وكذلك لو كان العبد وأحدُ سيديه نصرانيين، فأعتق النصراني كمّل عليه لحق المسلم على قول أشهب، ومطرِّف، وابن الماجشون، وفي "المختصر الكبير": لا يقوَّم عليه، وقال ابن القاسم: إن كان العبد مسلمًا قوِّم عليه، وإلا فلا، بناءً على أن القُرْبَة لا تصحُّ منهم، ولا يجبرون عليها.

و"الشِّرْك": النصيب، ومنه قوله تعالى:{وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} [سبأ: 22]. ويكون بمعنى: الشريك، لقوله تعالى:{جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف: 190]، ويكون بمعنى: الاشتراك، كما جاء في حديث معاذ: أنه أجاز من أهل اليمن الشرك، يعني: الاشتراك في الأرض.

و"الشَّقْصُ"، والشُّقَيْصُ: النصيب والجزء، والتشقيص: التجزئة.

و"العبد": اسم للمملوك الذكر بأصل وضعه، ومؤنثه: أمة - من غير لفظه -، وقد حُكِي: عبدةٌ، ولهذا قال إسحاق ابن راهويه: إنَّ هذا الحديث إنّما يتناول ذكور العبيد دون إناثهم، فلا يكمَّل على من أعتق شِرْكًا في أنثى، وهو على خلاف الجمهور من السَّلف، ومَن بعدهم: فإنهم لَمْ يفرِّقوا بين الذكر والأنثى؛ إمَّا لأن لفظ العبد يُراد به الجنس، كما قال تعالى:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} [مريم: 93]، فإنه يتناول الذكر والأنثى من العبيد قطعًا، وإمَّا على طريق الإلحاق بنفي الفارق الذي هو القياس في معنى الأصل، كما بينَّاه، ومراتبه عندنا في كتابنا في أصول الفقه.

و"المال" هنا: هو ما يُتَموَّلُ؛ أي: يتملك، فيباع عليه كلّ ما يُباع على المفلس.

و"الثمن": أراد به هنا القيمة، والتقويم: اعتبار مقدار ثمن العبد المعتق بعضُه، ولا يكون ذلك إلَّا من عارفٍ بِقِيَم السِّلع موثوقٍ بدينه، وأمانته؛ لأنَّ التقويم فَصْل بين الخصوم، وتمييز لمقادير الحقوق.

وظاهر هذا الحديث: أنَّه يقوَّم عليه كاملًا، لا عتق فيه، وهو المعروف من المذهب، وقيل: يقوَّم على أن بعضه حُرٌّ، والأول أصحُّ؛ لأن جناية المعتق

ص: 453

هي سبب تفويت مِلك الشَّريك، فيقوَّم عليه على ما كان حال الجناية؛ كالحكم في سائر الجنايات المفوتة، وهل يعتبر قيمته يوم العتق، أو يوم الحكم؟ قولان، والثاني هو المشهور.

وقوله: "فأُعْطِيَ شركاؤه حِصَصَهم" الرواية: "أُعطِي" مبنيًّا للمفعول، "شركاؤه، مفعول لما لَمْ يُسمِّ فاعله، وهو مُشْعرٌ بِجَبْرِ الْمُعتِق على الإعطاء، وجَبْرِ الشَّرِيك على الأخذ، لكن إنما يُجْبَرُ الشَّريك إذا لَمْ يُعْتِق حصَّتَه، فلو أعتق لَمْ يجبر على المشهور، وسيأتي.

ويعني بقوله: "حصصهم" أي: قيمة حصصهم.

وقوله: "وعَتَقَ عليه العبدُ"، "عَتَق" - بفتح العين والتاء -، مبنيًّا للفاعل، واسم الفاعل: عَتِيق، ولا يقال مبنيًّا لما لَمْ يسمَّ فاعله إلَّا بهمزة التعدية، فيقال: أُعتِق، فهو: مُعْتَق.

ويستفاد منه: أن مَن حُكِم عليه بالعتق نُسِب إليه، وإن كان كارهًا، وإذا صحت نسبته إليه ثبتٌ الولاء له؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"إنما الولاء لمن أعتق".

وظاهر هذا الحديث: أن العتق لا يكمل للعبد إلَّا بعد التقويم، ودفع القيمة إلى الشريك، وهو مشهور قول مالك وأصحابه، والشافعيّ في القديم، وبه قال أهل الظاهر، وعليه فيكون حكم المعتق بعضه قبل التقويم والدفع حكم العبد مطلقًا، ولو مات لَمْ يقوَّم على المعتق، ولو أَعتق الشريك نفذ عتقه، وكان الولاء بينهما.

وذهبت طائفة أخرى: إلى أن عتق البعض يسري إلى نصيب الشريك، فيلزم التكميل على الأول إن كان موسرًا، ولا يقف ذلك على تقويم، ولا حكم، ولا دفع، وإليه ذهب الثوري، والأوزاعي، وابن أبي ليلى، وابن شُبْرمة، ومالك، والشافعيّ في قولهما الآخر.

وعلى هذا فيكون حكم المعتق بعضه حكم الأحرار مطلقًا من يوم العتق، ولو أعتق الشريك لَمْ ينفذ عتقه، ولو مات العبد قبل التقويم ودفع القيمة مات حرًّا.

ومتمسَّك هؤلاء حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي قال فيه: "من أعتق شقصًا له في عبد فخلاصُه في ماله إن كان له مال"، وأظهر من هذا: ما رواه النسائيّ

ص: 454

من حديث ابن عمر وجابر رضي الله عنهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أعتق عبدًا وله فيه شركاء، وله وفاء فهو حُرٌّ، ويضمن نصيب شركائه بقيمته لِمَا أساء من مشاركتهم".

قال القرطبيّ: وهذا التمسك ليس بصحيح؛ لما يقتضيه النظر الأصوليّ، وذلك: أن هذه الأحاديث وإن تعدد رواتها، وكثرت ألفاظها؛ فمقصودها كلها واحد، وهو: بيان حكم من أعتق شركًا في عبدٍ، فهي قضية واحدة، غير أن من ألفاظ الرواة ما هو مقيَّد، ومنها ما هو مطلق، فيُحْمَل مطلقها على مقيدها، وقد اتفق الأصوليون على ذلك، فيما إذا اتحدت القضية، وهذا من ذلك النوع المتفق عليه، ثم إن هذا من باب الجمع بين الأحاديث الواردة في هذا المعنى، والجمع أولى من الترجيح إذا أمكن باتفاق أهل الأصول، ثم ظاهر ذلك اللفظ الأول: أنه لو وجد التقويم دون الإعطاء لَمْ يكمل الإعتاق إلَّا بمجموعهما. وهو ظاهر حكاية الأصحاب عن المذهب، غير أن سحنونًا قال: أجمع أصحابنا: على أن من أعتق شقصًا له في عبد أنّه بتقويم الإمام عليه حُرٌّ بغير إحداث حكم، فظاهر هذا: أن نفس التقويم على الموسر موجب للحرية، وإن لَمْ يكن إعطاء، وفيه بُعْدٌ؛ لأن التقويم لو كان محصِّلًا للعتق للزم الشريك أن يتبع ذمة المعتق إذا أعسر بالقيمة بعد التقويم، وذلك لا يتمشى؛ لا على القول بالسِّراية، ولا على مراعاة التقويم فلا على قوله:"وعتق عليه".

وقوله: "وإلا فقد عتق منه ما عتق" ذكره مالك عن نافع على أنّه من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، وجزم بذلك، وهو الظاهر من مساق الحديث، فروايته أولى من رواية أيوب عن نافع، حيث اضطرب في ذلك. فقال مرّة: قال نافع: "وإلا فقد عَتَق منه ما عَتَق"، ومرّةً قال: فلا أدري، أشيء قاله نافع، أم هو من الحديث؟ لأن مالكًا جازم غير شاك! وقد تابعه على ذلك جماعة من الحفاظ عن نافع كجرير بن حازم، وعبيد الله، وغيرهما.

وتضمَّن هذا الحديث: أنَّه لا بدَّ من عتق نصيب المعتق وتنفيذه موسرًا كان أو معسرًا. وهو مذهب كافة العلماء، وشذَّ آخرون، فأبطلوا عتق ذلك الشقص إن كان معسرًا. وهو مصادمة للنص المذكور، وكأنَّه راعى حقّ الشريك بما يدخل عليه من الضرر بحرية الشقص، وهو قياس فاسد الوضع؛ لأنه

ص: 455

مخالف للنص، ويلزمه على هذا: أن يرفع الحكم بالحديث رأسًا، فإنه مخالف للقياس، حيث حكم الشرع بعتق حصة الشريك، وإخراجها عن ملكه جبرًا، فإن اعتذر عن هذا: بأن الشرع إنما حكم بذلك تعبدًا، أو تشوّفًا للعتق، اعتذرنا بذلك عن تنفيذ عتق الشقص على المعتق المعسر.

وحاصله: أن مراعاة حق الله تعالى في العتق مقدَّمة على مراعاة حقِّ الآدمي، ولا سيما والعتق قد وقع على حصة المعتِق، وما وقع فالأصل بقاؤه.

وظاهر حديث ابن عمر رضي الله عنهما وإن اختلفت طرقه، وألفاظه -: أن المعتق إذا كان معسرًا لا يكلَّف العبد السعي في تخليص ما بقي منه، وهو مذهب كافة العلماء ما عدا أبا حنيفة؛ فإنَّه يجبر الشريك في العتق، واستسعاء العبد، متمسِّكًا في ذلك بما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه من ذكر الاستسعاء الذي قال فيه:"فإن لَمْ يكن له مالٌ اسْتُسعِي العبد غير مشقوقٍ عليه".

وقد ردّ علماؤنا ذكر الاستسعاء المذكور في هذا الباب بوجهين:

أحدهما: التأويل، وهو أن قالوا: معناه: أن يُكلَّف المتمسَّك بالرِّق عَبْدَه الخدمة على قدر ملكه، لا زيادة على ذلك، ولفظ الاستسعاء قابل لذلك؛ لأنه استدعاء السعي؛ الذي هو العمل، لكن لماذا؛ هل لحق العتق، أو لحق السَّيد؟ الأمر مُحْتَمِلٌ، ولا نصَّ، غير أن تأويلنا أولى؛ لأنه موافق للقواعد الشرعية، وتأويلهم مخالف لها على ما نبيِّنه إن شاء الله تعالى.

قال القرطبيّ: هذا معنى ما أشار إليه أصحابنا، وقد جاء في كتاب أبي داود ما يبطل هذا التأويل من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:"فإن لَمْ يكن له مال قوِّم العبد قيمة عدلٍ، ثم يُستسعى لصاحبه في قيمته غير مشقوق عليه".

والوجه الثاني: الترجيح، وهو من أوجه:

الأول: أن سند حديثنا أقرب سندًا من حديثهم، فتطرُّق احتمال الغلط إليه أبعد.

الثاني: أن حديثهم قد رواه شعبة، وهشام، وهمَّام موقوفًا على قتادة من قوله، وفتياه. وحديثنا متَّفقٌ على رفعه، فكان أولى.

والثالث: أن حديثنا معمولٌ به عند أهل المدينة، وجمهور العلماء، وحديثهم إنما عَمِل به أبو حنيفة وأصحابه من أهل العراق، فكيف تخفى سُنَّة

ص: 456

على أهل المدينة، وتظهر بالعراق؟! وهذا في الاستبعاد والهذر، كمستبضع التمر إلى هجر.

الرابع: أن حديثهم مخالف للأصول في حق السَيِّد والعبد، أما في حق السيد: فإنه إخراج لملك عن مالك من غير عوض ولا تنجيز عتق جبرًا، وبيانه: أن مدَّة الاستسعاء تفوِّت على السيد منافع عبده، وقد لا يحصل له شيء يعتق به، فتفوت عليه منافع عبده لغير فائدة. وأما في حق العبد: فإن تكليفه السعي ليحصل له العتق في معنى الكنابة، والكتابة لا يجبر عليها العبد إذا لَمْ يطلبها بالاتفاق بيننا وبينه، فالسعي لا يجبر عليه، وأيضًا فإن منع المالك من التصرف في ملكه، وإدخال العبد فيما لا يريده مؤاخذات لهما بسبب جناية غيرهما الذي هو المعتق، ومن الأنسب الأحرى: أن لا تزر وازرة وزر أخرى، فقد ظهر بهذه الأوجه: أن حديث ابن عمر أولى وأوجه.

قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي التحقيق في حديث الاستسعاء في الباب التالي - إن شاء الله تعالى -.

تنبيهان: الأول: ذهب بعض المتأخرين: إلى أن الحكم بالتكميل غير معلَّل، وليس بصحيح، بل قد نصَّ الشرع على تعليله في الحديث الذي ذكرناه من حديث ابن عمر، وجابر رضي الله عنهم، حيث قال فيه:"من أعتق عبدًا وله فيه شركاء، وله وفاء فهو حرٌّ، ويضمن نصيب شركائه بقيمته، لما أساء من مشاركتهم، وليس على العبد شيء"، وإذا علل ذلك بسوء المشاركة فذلك موجود فيما إذا دبَّر بعض عبده، فيكمِّل عليه التدبير بعد التقويم. وهذا أحد الأقوال في المذهب - يعني المالكيّ -، أو لا يُلحق به ذلك لمخالفة حكم الفرع حكم الأصل؛ فإن حكم الأصل عتق ناجزٌ لازمٌ، إمَّا في الجزء، وإمَّا في الكلّ، وفي الفرع تدبير قد لا يحصل منه شيء لإمكان لحوق الدَّين تركة السيد، فيباع المدبَّر، فلا يَكْمُل التدبير، وهو القول الثاني عندنا، وإذا لَمْ يصحّ ذلك في التدبير فالكتابة أبعد؛ لأنَّها مع توقع عجز المكاتب معاوضة، وعلى هذا فتكون علَّة الحديث قاصرة، والله أعلم.

الثاني: أن الشَّرع لَمَّا جبر الشَّريك على أخذ قيمة شقصه، فهِمَ العلماء من ذلك تشوُّف الشَّارع إلى العتق، وإذا كان ذلك في ملك الغير كان أحرى

ص: 457

وأولى في ملك نفسه، فإذا أعتق جزءًا من عبده كُمِّل عليه عتق جميعه، وهل بالسراية، أو بالحكم؟ قولان، القول بالسراية هنا أولى؛ إذ لا حاجة إلى التقويم، ولا إلى الحكم بخلاف الأصل، فإن التقويم ثَمَّ أحوج إليه حق الشريك.

وقد شذَّ بعض العلماء فمنع هذا الإلحاق، وقصر وجوب التكميل على من أعتق شقصًا من مشترك، وكذلك شذَّ عثمان البَتِّيُّ فقال: لا شيء على المعتق إلَّا أن تكون جارية رائعة تُراد للوطء، فيضمن ما أدخل على صاحبه فيها من الضرر، وكذلك أيضًا شذَّ ابن سيرين، فرأى القيمة في بيت المال، وشذَّ آخرون منهم زُفَر، والبصريون؛ فقالوا: يقوَّم على الموسر والمعسر، ويُتّبع إذا أيسر، وهذه كلها أقوال شاذَّة مخالفة للنصوص، والظواهر، فلا يُلتفت إليها. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو شرح مفيدٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 3765 و 3766](1501)، و (البخاريّ) في "الشَّرِكة"(2491 و 2503) و"العتق"(2522 و 2523 و 2524 و 2525 و 2553)، و (أبو داود) في "العتق"(3940 و 3941 و 3942 و 3943 و 3944)، و (الترمذيّ) في "الأحكام"(1346)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 319) و"الكبرى"(3/ 182 و 183 و 184 و 4/ 61)، و (ابن ماجة) في "الإحكام"(2528)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 772)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 66)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(9/ 150 و 151 و 154)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 2 و 15 و 105 و 112 و 142 و 156)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 177)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 123 و 124 و 127)، و (ابن حبّان)

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 4/ 309 - 317.

ص: 458

في "صحيحه"(4316)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(4/ 124)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 275) و"الصغرى"(9/ 279) و"المعرفة"(7/ 486 و 493)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2421)، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: أخرج هذا الحديث الأئمة الستة، خلا الترمذي من هذا الوجه، من طريق مالك، وأخرجه الشيخان، وأبو داود، والنسائيّ، من طريق عبيد الله بن عمر، بلفظ:"فعليه عتقه كلَّه، إن كان له مال يبلغ ثمنه"، وأخرجه الستة خلا ابن ماجة، من طريق أيوب السختيانيّ، ولفظ البخاريّ:"فهو عَتِيق"، وفي رواية أيوب هذه: قال نافع: "وإلا فقد عَتَق منه ما عَتَقَ"، قال أيوب:"لا أدري أشيءٌ قاله نافعٌ، أو شيء في الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ "، وفي لفظ لأبي داود:"وكان نافع ربما قال: فقد عَتَق منه ما عَتَق، وربما لَمْ يقله"، وفي رواية النسائيّ:"وأكثر ظني أنه شيء يقوله نافع مِن قِبَله"، وأخرجه البخاريّ من طريق موسى بن عقبة، ذكره مِن فتوى ابن عمر، قال في العبد، أو الأمة، وقال في آخره: يخبر ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وليس فيه:"وإلا عَتَق منه ما عَتق"، وذكره البخاريّ تعليقًا، وبَيَّن مسلم أنه ليس في روايته:"وإلا عَتق منه ما عَتق"، وذكره البخاريّ تعليقًا، ومسلم مُسندًا، من طريق محمد بن عبد الرَّحمن بن أبي ذئب، وليس فيه:"وإلا عَتَق منه ما عَتَق"، وأخرجه البخاريّ، وأبو داود، من طريق جُويرية بن أسماء، بدون هذه الزيادة أيضًا.

ولفظ البخاريّ فيه: "وجب عليه أن يَعتِق كلَّه، إن كان له مال قدر ثمنه"، ولم يسق أبو داود لفظه، قال: إنه بمعنى مالك، وأخرجه البخاريّ تعليقًا، ومسلمٌ، وأبو داود، والنسائيّ مسندًا، من طريق يحيى بن سعيد الأنصاريّ، وبَيَّن مسلم أنه ذكر هذه الزيادة، وقال: لا أدري، أهو شيء في الحديث، أو قاله نافع مِن قِبَله؟ كما فَعَل أيوب، ولم يسق البخاريّ، وأبو داود لفظه، وأخرجه البخاريّ تعليقًا، ومسلم مسندًا، من طريق إسماعيل بن أمية، بدون هذه الزيادة أيضًا، وأخرجه الشيخان، من طريق جرير بن حازم، بهذه الزيادة، وذكره البخاريّ تعليقًا، من طريق ابن إسحاق، ولم يسق لفظه، كلهم وهم أحد عشر، عن نافع، عن ابن عمر، ورواه الدارقطنيّ، ومن طريقه البيهقيّ، من

ص: 459

طريق إسماعيل بن مرزوق الكعبيّ، عن يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن عمر، وإسماعيل بن أمية، ويحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر، فذكره، وفيه:"وإلا عَتَق منه ما عَتَق، ورَقَّ ما بَقِي"، قال الطحاويّ: إسماعيل بن مرزوق ليس ممن يُقطع بروايته، وشيخه يحيى الغافقيّ متكلَّم فيه، وردّ عليه والدي - يعني الحافظ العراقيّ - وقال: إسنادها جَيِّد، وإسماعيل بن مرزوق ذكره ابن حبان في "الثقات"، ورَوَى عنه غير واحد، ولم أر أحدًا ضعّفه، وهذا ليس بجرح فيه، وأيّ نقد فرضته فهو لا يُقطع بروايته، ولكنه لما لَمْ يجد للكلام فيه موضعًا تكلّم بما لَمْ يقدح فيه، وبيحيى بن أيوب احتج الأئمة الستة في كتبهم، وباقي إسنادها ثقات. انتهى.

وقال ابن حزم في "المحلَّى": أقدم بعضهم، فزاد في هذا الخبر:"وَرَقَّ منه مَا رَقَّ"، وهي موضوعة مكذوبة، لا نعلم أحدًا رواها، لا ثقةً، ولا ضعيفًا، ولا يجوز الاشتغال بما هذه صفته. انتهى.

قال وليّ الدين رحمه الله: وهو عجيبٌ، فقد عَرَفتَ أنَّها مرويةٌ، وأنها من رواية الثقات، ولم يَقِف ابن حزم على ما ذكرناه من طريق الدارقطنيّ والبيهقيّ، ولكن ما كان ينبغي له المسارعة إلى هذه المجازفة، ولكنها شنشنته، وبها يُنكر عليه، وقد ذكر الشافعي هذه الزيادة بغير إسناد، وذلك يدلّ على أن لها أصلًا، ورواه البيهقيّ من رواية أبي حُذيفة، عن محمد بن مسلم، عن أيوب بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر، بلفظ:"إذا كان للرجل شِرْك في غلام، ثم أَعتق نصيبه، وهو حيّ، أقيم عليه قيمةَ عدل في ماله، ثم أُعتق"، ثم قال البيهقيّ: هكذا قال عن محمد بن مسلم، وقد أخبرونا عن زاهر بن أحمد الفقيه، أنا أبو القاسم البغويّ، ثنا داود بن عمر الضبيّ، ثنا محمد بن مسلم الطائفيّ، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر، قال:"قَضَى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَيُّما عبد كان فيه شرك، وأَعتق رجل نصيبه، قال: يقام عليه القيمة، يوم يُعتق، وليس ذلك عند الموت"، قال زاهر: وليست هذه اللفظة في كلّ حديث.

وأخرجه الشيخان، وأبو داود، والنسائيّ، من طريق عمرو بن دينار، عن سالم، عن أبيه، بلفظ:"مَن أَعْتَقَ عبدًا بين اثنين، فإن كان موسرًا قُوِّم عليه، ثم يَعْتِقُ"، لفظ البخاريّ، ولفظ مسلم: "مَن أَعتَق عبدًا بينه وبين آخر، قُوِّم

ص: 460

عليه في ماله قيمةَ عدل، لا وَكْسَ، ولا شَطَطَ، ثم أُعتِق عليه في ماله، إذا كان موسرًا"، ورواه مسلم، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، من طريق الزهريّ، عن سالم، عن أبيه، بلفظ: "مَن أَعْتَق شِرْكًا له في عبد، عَتَقَ ما بقي في ماله، إذا كان له مال يبلغ ثمن العبد". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن من أعتق نصيبه من عبد قُوّم عليه باقيه إذا كان موسرًا بقيمة عدل، سواء كان العبد مسلمًا أو كافرًا، وسواء كان الشريك مسلمًا أو كافرًا، وسواء كان العتيق عبدًا، أو أمةً، ولا خيار للشريك في هذا، ولا للعبد، ولا للمعتِق، بل يَنْفُذ هذا الحكم، وإن كرهه كلهم؛ مراعاةً لحقّ الله تعالى في الحرية، وأجمع العلماء على أن نصيب المعتق يَعْتِق بنفس الإعتاق إلَّا ما حكاه القاضي عن ربيعة أنه قال: لا يَعتق نصيب المعتِق موسرًا كان، أو معسرًا، قال النوويّ: وهذا مذهب باطلٌ، مخالف للأحاديث الصحيحة كلّها، والإجماع. انتهى

(2)

.

وقال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: فيه أن من ملك حِصّةَ من عبد فأَعتق تلك الحصة التي يملكها، فكان موسرًا بقيمة الباقي عَتَق عليه جميع العبد، وقُوِّمت عليه حصة شريكه، فدَفَع إليه ثمنها، وصار هو منفردًا بولاء العبد، ثم هل يَعتِق حصة شريكه عليه في الحال، أو لا يَعتق إلَّا بأداء القيمة؟ لفظ هذه الرواية مُحْتَمِل؛ لأنه ذكر إعتاق جميع العبد معطوفًا على التقويم

(3)

، وإعطاء الشريك حصته بالواو التي لا دلالة لها على الترتيب.

ورواية أيوب السَّختيانيّ عن نافع، عن ابن عمر، تقتضي العتق في الحال، فإن لفظها في "صحيح البخاريّ":"من أعتق نصيبًا له في مملوك، أو شركًا له في عبد، وكان له من المال ما يبلغ قيمته بقيمة العدل، فهو عتيق"، ورواية سالم، عن أبيه، تقتضي أنه لا يَعْتِق إلَّا بأداء القيمة، فإن لفظها: "فإن

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 6/ 192 - 197.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 137.

(3)

أي في رواية للبخاريّ حيث رواه بلفظ: "فإن كان موسرًا قُوِّم عليه، ثم يَعْتِقُ".

ص: 461

كان موسرًا، قُوِّم عليه، ثم يَعْتِق"، فرَتَّب العتق على التقويم بـ "ثُمَّ"، لكن قد يقال: لا يلزم من ترتيبه على التقويم ترتيبه على أداء القيمة، فإن التقويم معرفة قيمته، ثم قد يدفع القيمة، وقد لا يدفعها، وإن لَمْ يكن موسرًا بقيمة الباقي عَتَق عليه ذلك القدر خاصّةً، واستَمَرَّ الباقي على رِقِّه

(1)

.

وقد اختَلَفَ العلماء في هذه المسألة على أقوال، يأتي تحقيقها في "المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

2 -

(ومنها): أن قوله: "من أَعتق شركًا" بكسر الشين، هو بمعنى قوله في الرواية الأخرى:"شِقْصًا"، وهو بكسر الشين أيضًا، ويقال: الشَّقِيص أيضًا بزيادة ياء، وهو النصيب قليلًا كان أو كثيرًا، والشرك في الأصل مصدر أُطلق على مُتَعَلَّقه، وهو المشترَك، ولا بُدّ من إضمارٍ؛ أي: جزءًا مشترَكًا؛ لأن المشترَك في الحقيقة الجملة، وأُخرج به ما إذا كان مالكًا لعبد بكماله، فأَعتق بعضه، فإنه يَعتق جميعه مطلقًا؛ لمصادفة العتق ملكه، وهذا مذهب مالك، والشافعيّ، وأحمد، والجمهور، وقال أبو حنيفة: يُستسعَى في بقيته لمولاه، كما قال في المشترَك، وخالفه الناس في ذلك حتى صاحباه، وذكر النووي أن العلماء كافّةً على الأول، وانفرد أبو حنيفة بقوله، ثم قال: وحَكَى القاضي عياض أنه رُوي عن طاوس، وربيعة، وحماد، ورواية عن الحسن كقول أبي حنيفة، وقاله أهل الظاهر، وحُكي عن الشعبيّ، وعبد الله بن الحسن العنبريّ أن للرجل أن يُعتق من عبده ما شاء. انتهى

(2)

.

قال وليّ الدين: وفيما نقله عن أهل الظاهر نظر، فقد قال ابن حزم بعتق الجميع فيما إذا كان كله مملوكًا له، كقول الجمهور، ولم يَنْقُل عن أحد من أصحابهم ما يخالفه، وقال: ما نعلم لأبي حنيفة متقدمًا قبله.

3 -

(ومنها): خرج بقوله: "أَعْتَق" ما إذا أُعتق عليه قهرًا بأن وَرِث بعض من يَعتق عليه بالقرابة، فإنه يَعتق ذلك القدر خاصّةً، ولا سراية، قال وليّ الدين: وبهذا صرّح الفقهاء من الشافعيّة وغيرهم، وعن أحمد رواية بخلافه.

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 6/ 197 - 198.

(2)

"إكمال المعلم" 5/ 102.

ص: 462

وخرج به أيضًا ما إذا أوصى بإعتاق نصيبه من عبد بعد موته، فإنه يَعتق ذلك القدر، ولا سراية، وذلك لأن المال ينتقل إلى الوارث، ويصير الميت معسرًا، بل لو كان كلّ العبد له، فأوصى بإعتاق بعضه أعتق ذلك البعض، ولم يَسْر، وبهذا قال الجمهور، وعند المالكية قول أنه يُقَوَّم في ثلثه، ويُجعل موسرًا بعد الموت

(1)

.

4 -

(ومنها): قال وليّ الدين رَءإَلئهُ: قوله: "فكان له مال يبلغ ثمن العبد" أي: ثمن بقية العبد، أما حصته فهو موسر بها؛ لملكه لها، فيَعتق على كلّ حال، قال أصحابنا وغيرهم: ويصرف في ثمن بقية العبد جميع ما يباع في الدَّين، فيباع مسكنه، وخادمه، وكل ما فضل عن قوت يومه، وقوت من تلزمه نفقته، ودست ثوب يلبسه، وسكنى يوم، وقال أشهب من المالكية: يباع من الكسوة ما فَضَل عما يواريه لصلاته. انتهى.

5 -

(ومنها): أنه لو كان له مال لكنه لا يبلغ ثمن بقية العبد، فهل يَعتق من بقية العبد بقدر ما يملك، أو لا يَعتق من بقيته شيء؟ قال بعض الشافعية: لا يسري لأنه شيء لا يفيد الاستقلال في ثبوت أحكام الأحرار، وقال أكثرهم: إنه يسري إلى القدر الذي هو موسر به؛ تنفيذًا للعتق بحسب الإمكان، قال وليّ الدين: وهذا الثاني هو الأصح، وعليه نصّ الشافعيّ في "الأمّ"، وهو مذهب المالكية. انتهى.

6 -

(ومنها): أن قوله: "قُوِّم عليه قيمة العدل، بفتح العين؛ أي: بلا زيادة ولا نقص، وهو معنى قوله في رواية سالم، عن أبيه: "ولا وَكْس، ولا شَطَط"، و"الوَكْس"، بفتح الواو، وإسكان الكاف، وبالسين المهملة: النقص، و"الشَّطَطُ"، بفتح الشين المعجمة، بعدها طاء مهملة، مكرّرة: الْجَوْر، وفيه إثبات التقويم، والأخذ بما يقوله أهل المعرفة بالقيمة، وإن كان ظنًّا، وتخمينًا، مع أن أصل الشهادة أن يكون باليقين، لكن اغتُفِر ذلك في التقويم؛ للضرورة، قاله وليّ الدين رحمه الله

(2)

.

7 -

(ومنها): أنه استَدَلّ به ابن عبد البر على أن من أَتْلَف شيئًا من

(1)

"طرح التثريب" 6/ 209.

(2)

"طرح التثريب" 6/ 208.

ص: 463

الحيوان، أو العُروض التي لا تكال، ولا توزن فعليه قيمته، لا مثله، قال: وبه قال مالك، وأصحابه، قال: وذهب جماعة من العلماء، منهم الشافعيّ، وداود إلى أن القيمة لا يُقضَى بها إلَّا عند عدم المثل، قال وفي الدين: وما حكاه عن الشافعيّ، من ضمان المتلَف الذي لا يكال، ولا يوزن بالمثل مردود، فلم يقل الشافعيّ بذلك، وإنما ضمنه بالقيمة، كما دلّ عليه هذا الحديث، وإنما أوجب أصحابنا الضمان بالمثل، ولو سورة في القرض، فأما في باب الإتلافات فلا، والله أعلم. انتهى.

8 -

(ومنها): أن قوله: "فأَعطَى شركاءَهُ حصَصَهم"؛ أي: إن كان له شركاء، فإن كان له شريك واحد أعطاه جميع ثمن الباقي، أو شريكان أعطاهما، والعطية هنا على قدر الملك بلا شكّ، فلو كان للمعتق النصف، وهو موسر بالباقي، وله شريكان لأحدهما الثلث، وللآخر السدس، كان المدفوع بينهما أثلاثًا، وإنما اختلف المالكية في عكس ذلك، وهو أن يُعتق كلّ من صاحب الثلث والسدس حصته، وهما موسران، فهل يُقَوَّم عليهما نصيب صاحب النصف بالسوية، أو يكون ذلك على قدر الحصص، حتى يكون التقويم عليهما أثلاثًا؟ والصحيح عندهم الثاني، والخلاف عند الحنابلة، والصحيح عندهم الأول، وهو نظير الخلاف في الشفعة، إذا كانت لاثنين، هل يأخذانها بالسوية، أو على قدر الملك؟ والخلاف في ذلك مشهور، والصحيح عند الكلّ أنه على قدر الملك، والله أعلم. انتهى.

9 -

(ومنها): أن ظاهره أنه لا فرق في ذلك بين الصحيح، والمريض، ولو مَرَضَ الموت؛ بناءً على العموم في الأحوال، وهو المعتمد، وبه قال الشافعية، إلَّا أنهم خصوه في مرض الموت بما إذا وسعه الثلث؛ لأن تصرف المريض في الثلث كتصرف الصحيح في جميع المال، وعن أحمد وابن الماجشون أنه لا تقويم في المرض.

10 -

(ومنها): أن ظاهره أيضًا أن لا فرق بين أن يكون المعتق والشريك والعبد مسلمين، أو كفّارًا، أو بعضهم مسلمين، وبعضهم كفارًا، وبه قال الشافعية، وعند الحنابلة وجهان فيما لو أعتق الكافر شركًا له في عبد مسلم، هل يسري عليه، أم لا؟ وقال المالكية: إن كانوا كفارًا فلا سراية، وإن كان

ص: 464

المعتق كافرًا دون شريكه، فهل يسري عليه أم لا؟ فيما إذا كان العبد مسلمًا دون ما إذا كان كافرًا، ثلاثة أقوال، وإن كانا كافرين، والعبد مسلمًا، فروايتان، وإن كان المعتق مسلمًا سرى عليه بكل حال.

11 -

(ومنها): أن ظاهره أيضًا يتناول ما إذا تعلق بمحل السراية حقٌّ لازم، بأن يكون نصيب الشريك مرهونًا، أو مكاتبًا، أو مدبرًا، أو مستولدًا، بأن استولدها، وهو معسر، وفي ذلك عند الشافعية خلاف، قال وليّ الدين: والأصح عندهم السراية في المرهون، والمكاتب، والمدبر، دون المستولدة؛ لعدم قبولها نقل الملك. انتهى

(1)

.

12 -

(ومنها): أن ظاهره أيضًا أنه لا فرق بين عتقٍ مأذونٍ فيه، وغير مأذون فيه، وقال الحنفية: لا ضمان في الإعتاق لمأذون فيه، كما لو قال لشريكه: أعتق نصيبك.

13 -

(ومنها): أنه لا فرق بين الإعتاق بالتنجيز، والتعليق بالصفة مع وجودها، فإن مجموعهما كالتنجيز، واختَلَف المالكية في العتق إلى أجل، فقال مالك، وابن القاسم: يُقَوَّم عليه، فيعتق إلى أجل، وقال سحنون: إن شاء المتمسك قوّمه الساعة، فكان جميعه حرًّا إلى سنة مثلًا، وإن شاء تماسك، وليس له بيعه قبل السنة إلا من شريكه، وإذا تمّت السنة قُوِّم على مبتدئ العتق عند التقويم.

14 -

(ومنها): أن قوله: "فكان له مالٌ" يقتضي اعتبار ذلك حالة العتق، حتى لو كان معسرًا حالة الإعتاق، ثم أيسر بعد ذلك لم يَسْرِ عليه، وهو كذلك.

15 -

(ومنها): أنه لا فرق في السراية فيما إذا ملك قيمة الباقي، بين أن يكون عليه دين بقدر ذلك أم لا، وهو الأظهر من قولي الشافعيّ، وبه قال أكثر أصحابه، والخلاف في ذلك كالخلاف في أن الدَّين هل يمنع الزكاة أم لا؟ قاله وليّ الدين رحمه الله

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"طرح التثريب" 6/ 209.

(2)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 6/ 209.

ص: 465

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم من أعتق شركًا له في عبد:

(اعلم): أنهم اختلفوا في هذه المسألة على أقوال:

[أحدها]: أنه يعتق جميعه في الحال، فيما إذا كان المعتِق موسرًا بقيمة الباقي، قال وليّ الدين رحمه الله: وهذا أصح الأقوال في مذهب الشافعيّ، وبه قال أحمد، وإسحاق، وبعض المالكية، وذكر ابن حزم أن أحمد وإسحاق سكتا عن المعسر، فما سمعنا عنهما فيه لفظة، قال أصحابنا - يعني الشافعيّة -: ولو أعسر المعتق بعد ذلك استمرّ نفوذ العتق، وكانت القيمة دينًا في ذمته، ولو مات أُخذت من تركته، فإن لم يكن له تركة ضاعت القيمة، واستمرّ عتق جميعه، قالوا: ولو أعتق الشريك نصيبه بعد إعتاق الأول نصيبه، كان إعتاقه لغوًا؛ لأنه قد صار كله حرًّا.

[القول الثاني]: كالذي قبله إلا أنه لا يَعتِق إلا بدفع القيمة، فلو أعتق الشريك حصته قبل أن يدفع المعتِق القيمة نفذ عتقه، وهذا هو المشهور من مذهب مالك، وهو قول للشافعيّ، وبه قال أهل الظاهر، كما حكاه النوويّ في "شرح مسلم"، قال وليّ الدين: وفيه نظرٌ، فإن ابن حزم منهم قال بالأول، فيما إذا كان موسرًا، وقال ابن حزم بعد نقله هذا القول عن مالك بزيادة تفاريع: ما نعلم هذا القول لأحد قبله.

[الثالث]: أنه إن كان المعتِق موسرًا يُخَيَّر شريكه بين ثلاث أمور: إن شاء استسعى العبد في نصف قيمته، وإن شاء أعتق نصيبه، والولاء بينهما، وإن شاء قَوَّم نصيبه على شريكه المعتِق، ثم يرجع المعتِق بما دفع إلى شريكه على العبد يستسعيه في ذلك، والولاء كله للمعتِق، وبهذا قال أبو حنيفة، كما حكاه النوويّ في "شرح مسلم"، قال وليّ الدين: لكن الذي في كتب أصحابه، ومنها "الهداية" فيما إذا كان المعتِق معسرًا يخير الشريك بين استسعاء العبد، وبين إعتاق نصيبه، وكذا حكاه عنه ابن حزم الظاهريّ، فهذا [قول رابع].

وقال ابن حزم بعد نقله عنه: ما نعلم أحدًا من أهل الإسلام سبقه إلى هذا التقسيم.

[الخامس]: أنه إن كان موسرًا عَتَق عليه جميعه بنفس الإعتاق، ويُقَوَّم

ص: 466

عليه نصيب شريكه بقيمته يوم الإعتاق، فإن كان معسرًا استُسْعِي العبد في حصة الشريك، وبهذا قال ابن شُبْرُمة، والأوزاعيّ، والثوريّ، وابن أبي ليلى، والحسن بن حييّ، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وإسحاق ابن راهويه، وهو رواية عن أحمد بن حنبل، ورُوي عن سعيد بن المسيِّب أنه حكاه عن ثلاثين من الصحابة، ولم يصح عنه، وحكاه ابن حزم عن أبي الزناد، وابن أبي ليلى، وأنهما قالا: سمعنا أن عمر بن الخطاب تكلم ببعض ذلك، وعن سليمان بن يسار أنه قال: جرت به السنة، وإبراهيم النخعيّ، وحماد بن أبي سليمان، والشعبيّ، والحسن البصريّ، والزهريّ، وابن جريج.

ثم اختَلَف هؤلاء، فقال ابن شُبْرُمة، وابن أبي ليلى: يرجع العبد على معتِقِه بما أَدَّى في سعايته، وقال أبو حنيفة، وصاحباه: لا يرجع، فهذا [مذهب سادس].

ثم هو عند أبي حنيفة في مدة السعاية بمنزلة المكاتب، وعند الآخرين هو حُرٌّ بالسراية، فهذا [مذهب سابع].

[الثامن]: أنه يَنْفُذ عتقه في نصيبه، ولا شيء عليه لشريكه، إلا أن يكون جارية رائعة، تراد للوطء، فيَضْمَن ما أَدْخَل على شريكه فيها من الضرر، وهذا هو قول عثمان الْبَتِّيّ.

[التاسع]: أنه يَعتق الكل، وتكون القيمة في بيت المال، وهذا محكيّ عن قول ابن سيرين، وذكر النوويّ أن هذين القولين فاسدان، مخالفان لصريح الأحاديث، مردودان على قائلهما.

[العاشر]: أن هذا الحكم للعبد دون الإماء، وهذا محكيٌّ عن إسحاق ابن راهويه، قال النوويّ: وهذا القول شاذ مخالف للعلماء كافةً. انتهى.

قال وليّ الدين رحمه الله: وقد عرفت فيما تقدم أن في "صحيح البخاري" ذكر الأئمة في هذا الحكم في فتوى ابن عمر، وفي آخره يخبر ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فصار ذلك مرفوعًا، ورَوَى الدارقطنيّ من رواية عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، عن الزهريّ، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له شريك في عبد، أو أمة، فأعتق نصيبه، فإن عليه عتق ما بقي في العبد والأمة، من حصص شركائه، تمام قيمة عدل، ويؤدي إلى شركائه قيمة حصصهم،

ص: 467

وَيَعتِق العبد والأمة، إن كان في مال المعتِق بقيمة حصص شركائه"، ورواه الدارقطنيّ أيضًا من رواية صخر بن جويرية، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في العبد والأمة

الحديث.

وأيضًا فقد ذكر ابن حزم وغيره أن لفظ العبد في اللغة يتناول الأمة، فلا يُحتاج إلى التصريح بذكرها، وأصرح من ذلك في تناول الأمة لفظ الرواية الأخرى:"من أعتق شِرْكًا له في مملوك"، وهي في "الصحيحين"، بل لو لم يتناولها لفظ العبد، ولا المملوك، ولا وَرَدَ فيها نصّ بخصوصها، فإلحاقها في ذلك بالعبد من القياس الجليّ الذي لا يُنكَر.

قال إمام الحرمين: إدراك كون الأمة فيه كالعبد حاصل للسامع قبل التفطن لوجه الجمع.

[الحادي عشر]: أنه يُقَوَّم على المعتِق، وَيَعتِق عليه كله مطلقًا، فإن كان موسرًا أُخذت منه القيمة في الحال، وإن كان معسرًا أدى القيمة إذا أيسر، وبهذا قال زُفَرُ، وبعض البصريين.

وحَكَى ابن حزم إطلاق تضمين المعتق عن عمر، وابن مسعود، وعروة بن الزبير، وقال: إنه لا يصح عن عمر، وابن مسعود.

وحَكَى ابن العربيّ: الإجماع على أنه لا يُقَوَّم على المعسر.

[الثاني عشر]: أنه إن كان موسرًا قُوِّم عليه نصيب شريكه، وإن كان معسرًا بطل عتقه في نصيبه أيضًا، فبقي العبد كله رقيقًا كما كان، حكاه القاضي عياض عن بعض العلماء، وقال النوويّ: إنه مذهب باطل.

[الثالث عشر]: أنه لا يعتق نصيب المعتق موسرًا كان أو معسرًا، وبهذا قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن، قال النوويّ: وهذا مذهب باطلٌ مخالفٌ للأحاديث الصحيحة كلها، وللإجماع.

[الرابع عشر]: أنه ينفذ عتق من أعتق، ويبقى الشريك الآخر على نصيبه، يفعل فيه ما شاء، حكاه ابن حزم عن عمر بن الخطاب، وعطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، والزهريّ، ومعمر، وربيعة.

[الخامس عشر]: أن شريكه بالخيار، إن شاء أعتق، وإن شاء ضَمَّن المعتِق، حكاه ابن حزم عن سفيان الثوريّ، والليث بن سعد، وعن عمر رضي الله عنه،

ص: 468

إلا أنه قال: إنه لا يصح عنه، إنما الصحيح عنه ما تقدم، وهذا قريب مما تقدم عن أبي حنيفة، إلا أن ذاك فيه زيادة خصلة ثالثة، وهي استسعاء العبد.

[السادس عشر]: أن العبد يُسْتَسْعَى في الباقي موسرًا كان المعتق، أو معسرًا، ذكره عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، وقال ابن جريج: هذا أول قولي عطاء، رجع إلى ما ذكرت عنه قبلُ.

[السابع عشر]: أنه إذا كان المعتق معسرًا، فأراد العبد أخذ نفسه بقيمته، فهو أولى بذلك، ذكره عبد الرزاق عن ابن جريج، عن عبد الله بن أبي يزيد. ذكر هذه المذاهب وليّ الدين العراقيّ في "شرح التقريب"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي ترجيح المذهب الأول؛ لموافقته ظاهر النصّ، وأما بقية الأقوال، فلا يخفى بُعدها عنه في وجه ما، فتأملها بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إِلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3766]

(

) - (وَحَدَّثَنَاه قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، جَمِيعًا عَن اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثنا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ (ح) وَحَدَّثنا أَبُو الرَّبِيع، وَأَبُو كَامِلٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا أيُّوبُ (ح) وَحَدَّثنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّاب، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ (ح) وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، عَن ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ (ح) وَحَدَّثنا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأيْلِيُّ، حَدَّثنا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ (ح) وَحَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثنا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، عَن ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ، بِمَعْنَى حَدِيثِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ).

رجال هذا الإسناد: سبعة وعشرون:

1 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الأبليّ، أبو محمد، صدوقٌ، من صغار [9](ت 235)، وله بضع وتسعون سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 6/ 197 - 200.

ص: 469

2 -

(جَرِيرُ بْنُ حَازِمِ) بن زيد بن عبد الله الأزديّ، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ في حديثه عن قتادة ضعف [6](ت 170)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 81.

3 -

(عَبْدُ الْوَهَّابِ) بن عبد المجيد بن الصَّلْت الثقفيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

4 -

(يَحْيَى بْنَ سَعِيدِ) بن قيس الأنصاريّ، أبو سعيد المدنيّ القاضي، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت 144)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.

5 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الْكَوْسج، أبو يعقوب المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

6 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ) بن عمرو بن سعيد الأمويّ، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

7 -

(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأيْلِيُّ) أبو جعفر، نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.

8 -

(أُسَامَةُ) بن زيد الليثيّ مولاهم، أبو زيد المدنيّ، صدوقٌ يَهِم [7](ت 153)(خت م 4) تقدم في "الصلاة" 42/ 1085.

والباقون تقدّموا في الباب، والبابين الماضيين، و"أبو الربيع" هو: سليمان بن داود العتكيّ، و"أبو كامل": هو فضيل بن حسين الْجَحْدريّ، و"حماد" هو: ابن زيد، و"أيوب" هو: السَّخْتيانيّ، و"ابن نمير" هو: محمد بن عبد الله بن نمير، و"عبيد الله" هو: ابن عمر الْعُمريّ، و"عبد الرزّاق" هو ابن همّام الصنعانيّ، و"ابن جُريج" هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، و"ابن وهب" هو: عبد الله المصريّ، و"ابن أبي فُديك" هو: محمد بن إسماعيل بن مسلم، و"ابن أبي ذئب" هو: محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أبي ذئب.

وقوله: (كُلُّ هَؤُلَاءِ بِمَعْنَى حَدِيثِ مَالِكٍ إلخ) يعني أن هؤلاء الثمانية، وهم: الليث بن سعد، وجرير بن حازم، وأيوب السختيانيّ، وعبيد الله بن عمر، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وإسماعيل بن أميّة، وأُسامة بن زيد الليثيّ، وابن أبي ذئب رووا هذا الحديث عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، بمعنى رواية مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 470

[تنبيه]: رواية الليث بن سعد، عن نافع، ساقها النسائيّ في "الكبرى" 3/ 183 فقال:

(4952)

- أخبرنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا الليث، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أيُّما مملوك كان بين شركاء، فأعتق أحدهما نصيبه، فإنه يقام في مال الذي أعتق قيمة عدل، فيَعْتِق إن بلغ ذلك ماله". انتهى.

ورواية جرير بن حازم، عن نافع، ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى" 10/ 279 فقال:

(21151)

- وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ عبد الله بن محمد الكعبيّ، ثنا محمد بن أيوب، أنبأ شيبان بن فَرُّوخ، ثنا جرير بن حازم، ثنا نافع مولى عبد الله بن عمر، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق نصيبًا في عبد، فكان له من المال قدر ما يبلغ قيمته، قُوِّم عليه قيمةَ عدل، وإلا فقد عَتَق منه ما عَتَقَ". انتهى.

ورواية أيوب، عن نافع، ساقها البيهقيّ أيضًا في "الكبرى" 10/ 278 فقال:

(21143)

- وأخبرنا أبو عمرو الأديب، أنبأ أبو بكر الإسماعيليّ، أخبرني أبو يعلى، ثنا أبو الربيع، ثنا حماد، ثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق نصيبًا من عبد، أو شِرْكًا كان له في عبد، فكان له من المال ما يبلغ ثمنه بقيمة العدل، فهو عتيق"، قال: فلا أدري أهو في الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو شيء قاله نافع:"وإلا فقد عَتَق منه ما عَتَقَ"؟ انتهى.

ورواية عبيد الله بن عمر، عن نافع، ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(2387)

- حدّثنا عُبيد بن إسماعيل، عن أبي أسامة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق شِرْكًا له في مملوك، فعليه عتقه كله، إن كان له مال يبلغ ثمنه، فإن لم يكن له مال يُقَوَّم عليه قيمةَ عدل، فأُعتق منه ما أُعتق"، انتهى.

ص: 471

ورواية يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن نافع، ساقها النسائيّ في "الكبرى" 3/ 184 فقال:

(4960)

- أخبرنا عمرو بن عليّ، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: سمعت نافعًا يحدث عن عبد الله بن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أعتق نصيبًا له في مملوك، كُلِّف ما بقي، فأعتقه"، وكان نافع يقول: قال يحيى: لا أدري شيئًا كان من قبله يقوله، أم شيء في الحديث:"فإن لم يكن عنده، فقد جاز ما صنع"؟ انتهى.

ورواية إسماعيل بن أمية، عن نافع، ساقها البيهقيّ أيضًا في "الكبرى" 10/ 275 فقال:

(21113)

- أخبرنا أبو الحسن محمد بن الحسين بن داود العلويّ، أنبأ عبد الله بن محمد بن الحسن بن الشرقيّ، ثنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم، ثنا عبد الرزاق، أنبأ ابن جريج، قال: أخبرني إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق شركًا له في عبد، أقيم على الذي أعتقه، فيَدفع ثمنه إلى شركائه، وأعتق في مال الذي أعتقه". انتهى.

ورواية أسامة بن زيد الليثيّ، عن نافع، ساقها أبو عوانة في "مسنده" 3/ 222 فقال:

(4740)

- حدّثنا أبو يحيى العسقلانيّ عيسى بن أحمد، قال: أنبأ ابن وهب، قال: حدّثني أسامة بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من أعتق شِرْكًا له في عبد، أقيم عليه قيمة العبد، وأُعطي شركاءه حِصَصَهم، وعَتَق عليه العبد". انتهى.

ورواية ابن أبي ذئب، ساقها البيهقيّ في "الكبرى" 10/ 277 فقال:

(21133)

- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الشيبانيّ إملاءً، ثنا إبراهيم بن عبد الله السعديّ، أنبأ يزيد بن هارون، أنبأ ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من أعتق شِقْصًا له في مملوك، وكان للذي يُعتق منهما نصيبه مبلغ ثمنه، فقد عَتَق كله". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 472

(2) - (بَابُ ذِكْرِ سِعَايَةِ الْعَبْدِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3767]

(1502) - (وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى - قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أنَسٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الْمَمْلُوكِ بَيْنَ الرَّجُلَيْن، فَيُعْتِقُ أَحَدُهُمَا قَالَ:"يَضْمَنُ".

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثنَّى) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(ابْنُ بَشَّارٍ) هو محمد المعروف ببندار، تقدّم قبل بابين.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغندر، تقدّم أيضًا قبل بابين.

4 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم قريبًا.

5 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السدوسيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

6 -

(النَّضْرُ بْنُ أنسِ) بن مالك الأنصاريّ، أبو مالك البصريّ، ثقةٌ [3].

رَوَى عن أبيه، وابن عباس، وزيد بن أرقم، وبَشِير بن نَهِيك، وأبي بردة بن أبي موسى.

وروى عنه قتادة، وحميد الطويل، وعلي بن زيد بن جُدْعان، وعاصم الأحول، وغيرهم.

قال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الآجريّ، عن أبي داود: كان فيمن خرج إلى الجماجم، يقال: مات قبل أخيه موسى، وذكر الطبريّ أنه كان فيمن خرج مع زيد بن المهلَّب أيام خروجه على يزيد بن عبد الملك، وقال ابن سعد: كان ثقةً، له أحاديث، ومات قبل الحسن، وقال العجليّ: بصريّ، تابعيّ، ثقة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (11) حديثًا.

7 -

(بَشِيرُ بْنُ نَهِيكٍ) - بفتح النون، وكسر الهاء، وآخره كاف - السَّدُوسيّ، ويقال: السَّلُوليّ، أبو الشعثاء البصريّ، ثقةٌ [3].

ص: 473

رَوَى عن بشير بن الخصاصية، وأبي هريرة، وروى عنه يحيى بن سعيد الأنصاريّ، وأبو مِجْلَز، وعبد الملك بن عبيد، وخالد بن سُمير، والنضر بن أنس بن مالك، وغيرهم.

قال العجليّ، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: لا يحتج بحديثه، وذكره خليفة بن خياط في الطبقة الثانية من قراء البصرة، ونقل "صاحب الكمال" عن أبي حاتم قال: تركه يحيى القطان، وهذا وَهَمٌ، وتصحيف، وإنما قال أبو حاتم: روى عنه النضر بن أنس، وأبو مِجْلَز، وبَرَكة، ويحيى بن سعيد، فقوله:"وبركة" هو بالباء الموحدة، وهو أبو الوليد المجاشعيّ، وقال يحيى القطان، عن عمران بن حُدير، عن أبي مِجْلز، عن بَشِير بن نَهِيك، قال: أتيت أبا هريرة بكتابي الذي كتبت عنه، فقرأته عليه، فقلت: هذا سمعته منك؟ قال: نعم، وقال ابن سعد: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ونَقَلَ الترمذيّ في "العلل" عن البخاريّ أنه قال: لم يذكر سماعًا من أبي هريرة، قال الحافظ: وهو مردود بما تقدَّم، وقال الأثرم، عن أحمد: ثقةٌ، قلت له: روى عنه النضر بن أنس، وأبو مِجْلَز، وبركة؟ قال: نعم.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط.

8 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

وشرح الحديث يأتي في الحديث التالي، وقوله:"يَضْمَن" سيأتي بيان كيفيّة ضمانه في الرواية التالية - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3768]

(1503) - (وَحَدَّثَني عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أنسٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَخَلَاصُهُ فِي مَالِه، إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اسْتُسْعِيَ الْعَبْدُ، غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، تقدّم قبل باب.

ص: 474

2 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن عُليّة، تقدّم قريبًا.

3 -

(ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ) هو: سعيد بن أبي عَرُوبة مِهْران اليشكريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

شرح الحديث:

(عَنِ النَّضْرِ بْنِ أنَسٍ) وفي رواية البخاريّ من طريق جرير بن حازم: سمعت قتادة، قال: حدّثني النضر بن أنس (عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ) بفتح الموحّدة، وكسر المعجمة، وبفتح النون، وكسر الهاء، وزنًا واحدًا (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا) بكسر الشين المعجمة، وسكون القاف، آخره صاد مهملة: النصيب والجزء، والتشقيص: التجزئة، قاله القرطبيّ

(1)

، وقال الفيّوميّ: الشِّقْص: الطائفة من الشيء، والجمع: أشقاص، مثلُ حِمْل وأحمال. انتهى

(2)

، وقال النوويّ: الشِّقْصُ بكسر الشين: النصيب قليلًا كان أو كثيرًا، ويقال له: الشَّقِيص أيضًا بزيادة الياء، ويقال له أيضًا: الشِّرْك، بكسر الشين. انتهى

(3)

، وقوله:(لَهُ) متعلّق بصفة "شِقْصًا"، وقوله:(فِي عَبْدٍ) متعلّق بما تعلّق به الجار قبله (فَخَلَاصُهُ فِي مَالِهِ) يعني أن على المعتِق أن يُخلّص ذلك المملوك من الرّقّ بأداء قيمة نصيب الآخر من ماله (إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ) ظاهره نفي لمطلق المال، وليس هو المراد، وإنما المراد نفي ما يساوي قيمة نصيب الآخر، سوى حوائجه الأصليّة (اسْتُسْعِيَ الْعَبْدُ) ببناء الفعل للمفعول، ومعناه: طولب العبد أن يسعى في قيمة نصيب الآخر.

وقال النوويّ: قال العلماء: معنى الاستسعاء في هذا الحديث أن العبد يُكَلَّف الاكتساب والطلب، حتى تحصل قيمة نصيب الشريك الآخر، فإذا دفعها إليه عَتَقَ، هكذا فسَّره جمهور القائلين بالاستسعاء، وقال بعضهم: هو أن يَخْدُم

(1)

"المفهم" 4/ 310.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 319.

(3)

"شرح النوويّ" 10/ 137.

ص: 475

سيده الذي لم يُعْتِق بقدر ما له فيه من الرقّ، فعلى هذا تتّفق الأحاديث. انتهى

(1)

.

(غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ") منصوب على الحال؛ أي: حال كونه غير مكلّف ما يشقّ عليه، يعني أنه لا يقوّم العبد بقيمة غالية يشقّ على العبد السعاية فيها

(2)

.

وقال ابن التين: معنى "غير مشقوق عليه": لا يُستغلى عليه في الثمن، وقيل: معناه غير مكاتَب، وهو بعيد جدًّا، وفي ثبوت الاستسعاء حجة على ابن سيرين حيث قال: يَعتِق نصيب الشريك الذي لم يُعتِق من بيت المال، قاله في "الفتح"

(3)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: استسعاء العبد إذا أُعتق بعضه، ورَقّ بعضه هو أن يسعى في فكاك ما بقي من رقّه، فيَعمل، ويَكسب، ويصرف ثمنه إلى مولاه، فسُمّي تصرّفه في كسبه سِعاية. انتهى

(4)

.

وقوله: "غير مشقوق عليه"؛ أي: لا يُكلّفه فوق طاقته، وقيل: معناه: استُسعي العبد لسيّده؛ أي: يستخدمه مالك باقيه بقدر ما فيه من الرقّ، ولا يحمله ما لا يقدر عليه، والأول هو الصحيح، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 3767 و 3768 و 3769 و 3770](1502 و 1503)، و (البخاريّ) في "الشَّرِكة"(2492) و "العتق"(2527)، و (أبو داود) في "العتق"(3938 و 3939)، و (الترمذيّ) في "الأحكام"(1348)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(3/ 185)، و (ابن ماجه) في "العتق"(2527)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 422)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 467)، و (أحمد) في

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 136 - 137.

(2)

"تكملة فتح الملهم" 1/ 278.

(3)

"الفتح" 6/ 351.

(4)

"النهاية" 2/ 370.

ص: 476

"مسنده"(2/ 255 و 426 و 472)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 160)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4318)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(4/ 127 و 128)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 226 و 228)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 280 و 281 و 282 و 283) و"الصغرى"(9/ 286 و 287) و"المعرفة"(7/ 289 و 298)، والله تعالى أعلم،

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن العبد يُستسعى في قيمة الشريك الذي لم يُعتقه إذا كان المعتق له معسرًا، وبهذا قال بعض أهل العلم، وسيأتي تحقيق الخلاف في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

2 -

(ومنها): بيان جواز الشركة في الرقيق.

3 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على أن الموسر إذا أعتق نصيبه، من مملوكٍ عَتَقَ كلُّه، قال ابن عبد البر: لا خلاف في أن التقويم، لا يكون إلا على الموسر، ثم اختلفوا في وقت العتق، فقال الجمهور، والشافعي في الأصح، وبعض المالكية: إنه يَعتق في الحال، وقال بعض الشافعية: لو أعتق الشريكُ نصيبه بالتقويم، كان لغوًا، ويَغرَم المعتق حصة نصيبه بالتقويم، وحجتهم رواية أيوب، في الباب، حيث قال:"من أعتق نصيبًا، وكان له من المال ما يبلغ قيمته، فهو عتيق)، وأوضح من ذلك رواية النسائي، وابن حبان، وغيرهما، من طريق سليمان بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر، بلفظ: "من أعتق عبدًا، وله فيه شركاء، وله وفاءٌ، فهو حر، ويضمن نصيب شركائه بقيمته"، وللطحاوي من طريق ابن أبي ذئب، عن نافع: "فكان للذي يُعتق نصيبه ما يبلغ ثمنه، فهو عتيق كله"، حتى لو أَعسَر الموسر المعتِق بعد ذلك، استمر العتق، وبقي ذلك دَينًا في ذمته، ولو مات أُخذ من تركته، فإن لم يخلُف شيئًا، لم يكن للشريك شيء، واستمر العتق، والمشهور عند المالكية: أنه لا يَعتِق إلا بدفع القيمة، فلو أعتق الشريك قبل أخذ القيمة نفذ عتقه، وهو أحد أقوال الشافعي، وحجتهم رواية سالم عند البخاريّ، حيث قال: "فإن كان موسرًا، قُوّم عليه، ثم يَعتِق".

والجواب أنه لا يلزم من ترتيب العتق على التقويم، ترتيبه على أداء

ص: 477

القيمة، فإن التقويم يفيد معرفة القيمة، وأما الدفع فقدر زائد على ذلك.

وأما رواية مالك التي فيها: "فأَعطَى شركاءَهُ حصصهم، وعتق عليه العبد"، فلا تقتضي ترتيبًا؛ لسياقها بالواو.

4 -

(ومنها): أن فيه حجةً على اين سيرين، حيث قال: يَعتِق كله، ويكون نصيب من لم يُعتِق في بيت المال؛ لتصريح الحديث بالتقويم على المعتق.

وعلى ربيعة، حيث قال: لا يَنفُذ عتق الجزء من موسر، ولا معسر، وكأنه لم يثبت عنده الحديث، وعلى بُكير بن الأشج، حيث قال: إن التقويم يكون عند إرادة العتق، لا بعد صدوره.

وعلى أبي حنيفة، حيث قال: يتخير الشريك، بين أن يُقوّم نصيبه على المعتق، أو يُعتِق نصيبه، أو يُستسعَى العبدُ في نصيب الشريك، ويقال: إنه لم يُسبَق إلى ذلك، ولم يتابعه عليه أحد، حتى ولا صاحباه، وطَرْدُ قوله في ذلك، فيما لو أعتق بعضَ عبده، فالجمهور، قالوا: يعتق كله، وقال هو: يُستسعَى العبدُ في قيمة نفسه لمولاه، واستثنى الحنفية، ما إذا أذن الشريك، فقال لشريكه: أعتق نصيبك، قالوا: فلا ضمان فيه.

5 -

(ومنها): أنه استُدِلَّ به على أن من أتلف شيئًا من الحيوان، فعليه قيمته، لا مثله، ويلتحق بذلك ما لا يكال، ولا يوزن، عند الجمهور.

[تنبيه]: قال ابن بطال رحمه الله

(1)

: قيل: الحكمة في التقويم على الموسر؛ أن تكمل حرية العبد؛ لتتم شهادته وحدوده، قال: والصواب أنها لاستكمال إنقاذ الْمُعتِق من النار، قال الحافظ: وليس القول المذكور مردودًا، بل هو مُحْتَمِلٌ أيضًا، ولعل ذلك أيضًا هو الحكمة في مشروعية الاستسعاء، ذكره في "الفتح"

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم من أعتق نصيبه من عبد مشترك، وهو موسرٌ:

(1)

راجع: "شرح ابن بطال على البخاريّ" 7/ 37.

(2)

"الفتح" 6/ 349 - 350.

ص: 478

قال النوويّ رحمه الله: من أعتق نصيبه من عبد مشترك قوّم عليه باقيه إذا كان موسرًا بقيمة عدل، سواء كان العبد مسلمًا، أو كافرًا، وسواء كان الشريك مسلمًا أو كافرًا، وسواء كان العتيق عبدًا، أو أمةً، ولا خيار للشريك في هذا، ولا للعبد، ولا للمعتِق، بل ينفذ هذا الحكم، وإن كرهه كلهم؛ مراعاةً لحق الله تعالى في الحرية.

قال: وأجمع العلماء على أن نصيب المعتق يعتق بنفس الإعتاق، إلا ما حكاه القاضي عن ربيعة أنه قال: لا يَعتِق نصيب المعتِق موسرًا كان أو معسرًا، وهذا مذهب باطلٌ، مخالف للأحاديث الصحيحة كلِّها، وللإجماع.

وأما نصيب الشريك فاختلفوا في حكمه إذا كان المعتق موسرًا على ستة مذاهب:

[أحدها]: وهو الصحيح في مذهب الشافعيّ، وبه قال ابن شُبْرُمة، والأوزاعيّ، والثوريّ، وابن أبي ليلى، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وبعض المالكية: أنه عَتَقَ بنفس الإعتاق، ويُقَوَّم عليه نصيب شريكه بقيمته يوم الإعتاق، ويكون ولاء جميعه للمعتِق، وحكمه من حين الإعتاق حكم الأحرار في الميراث، وغيره، وليس للشريك إلا المطالبة بقيمة نصيبه، كما لو قتله، قال هؤلاء: ولو أعسر المعتِق بعد ذلك استمرّ نفوذ العتق، وكانت القيمة دَينًا في ذمته، ولو مات أُخذت من تركته، فإن لم تكن له تركة ضاعت القيمة، واستمرّ عتق جميعه، قالوا: ولو أعتق الشريك نصيبه بعد إعتاق الأول نصيبه، كان إعتاقه لغوًا؛ لأنه قد صار كله حرًّا.

[والمذهب الثاني]: أنه لا يَعتِق إلا بدفع القيمة، وهو المشهور من مذهب مالك، وبه قال أهل الظاهر، وهو قول الشافعيّ.

[والثالث]: - مذهب أبي حنيفة - للشريك الخيار، إن شاء استَسْعَى العبدَ في نصف قيمته، وإن شاء أعتق نصيبه، والولاء بينهما، وإن شاء قَوَّم نصيبه على شريكه المعتِق، ثم يرجع المعتِق بما دفع إلى شريكه على العبد، يستسعيه في ذلك، والولاء كله للمعتِق، قال: والعبد في مدة الكتابة بمنزلة المكاتب في كل أحكامه.

[الرابع]: مذهب عثمان البتيّ: لا شيء على المعتِق، إلا أن تكون جاريةً رائعةً تراد للوطء، فيضمن ما أدخل على شريكه فيها من الضرر.

ص: 479

[الخامس]: حكاه ابن سيرين أن القيمة في بيت المال.

[السادس]: محكيّ عن إسحاق ابن راهويه؛ أن هذا الحكم للعبيد، دون الإماء، وهذا القول شاذّ مخالفٌ للعلماء كافّةً، والأقوال الثلاثة قبله فاسدةٌ مخالفةٌ لصريح الأحاديث، فهي مردودة على قائليها. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن المذهب الأول هو الصحيح، كما قال النوويّ رحمه الله؛ لأنه الموافق لظاهر الحديث، وأما بقيّة الأقوال، فإنها بعيدة عنه، فتأملها بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم فيما إذا كان المعتق معسرًا:

(اعلم): أنهم اختلفوا أيضًا فيما إذا كان المعتق معسرًا حال الإعتاق على أربعة مذاهب:

[أحدها]: مذهب مالك، والشافعيّ، وأحمد، وأبي عبيد، وموافقيهم: ينفذ العتق في نصيب المعتِق فقط، ولا يطالب المعتَق بشيء، ولا يُستسعى العبد، بل يبقى نصيب الشريك رقيقًا، كما كان، وبهذا قال جمهور علماء الحجاز؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما.

[المذهب الثاني]: مذهب ابن شُبْرُمة، والأوزاعيّ، وأبي حنيفة، وابن أبي ليلى، وسائر الكوفيين، وإسحاق: يُستسعى العبد في حصة الشريك، واختَلَف هؤلاء في رجوع العبد بما أدَّى في سعايته على معتِقه، فقال ابن أبي ليلى: يرجع به عليه، وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يرجع، ثم هو عند أبي حنيفة في مدة السعاية بمنزلة المكاتَب، وعند الآخرين: هو حرّ بالسراية.

[المذهب الثالث]: مذهب زفر، وبعض البصريين: أنه يُقَوَّم على المعتِق، ويؤدي القيمة إذا أيسر.

[الرابع]: حكاه القاضي عن بعض العلماء: أنه لو كان المعتِق معسرًا بطل عتقه في نصيبه أيضًا، فيبقى العبد كله رقيقًا، كما كان، قال النوويّ: وهذا مذهب باطلٌ.

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 137 - 138.

ص: 480

أما إذا ملك الإنسان عبدًا بكماله، فأعتق بعضه، فيعتق كلّه في الحال، بغير استسعاء، هذا مذهب الشافعيّ، ومالك، وأحمد، والعلماء كافّة، وانفرد أبو حنيفة، فقال: يستسعى في بقيته لمولاه، وخالفه أصحابه في ذلك، فقالوا بقول الجمهور، وحَكَى القاضي أنه رُوي عن طاوس، وربيعة، وحماد، ورواية عن الحسن كقول أبي حنيفة، وقاله أهل الظاهر، وعن الشعبيّ، وعبيد الله بن الحسن العنبريّ أن للرجل أن يُعتق من عبده ما شاء، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن مذهب القائلين بالاستسعاء هو الحقّ؛ لصحّة حديث الاستسعاء على الراجح الذي هو مذهب الشيخين، والمحقّقين كما يأتي تحقيقه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في الجمع بين حديث ابن عمر المتقدّم في الباب الماضي، وبين حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور هنا:

قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" 2/ 893: "باب إذا أعتق نصيبًا في عبد، وليس له مال استُسعي العبد، غير مشقوق عليه، على نحو الكتابة"، ثم ساق حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا، ثم قال: تابعه حجاج بن حجاج، وأبان، وموسى بن خلف، عن قتادة

اختصره شعبة. انتهى.

قال في "الفتح": قوله: "باب إذا أعتق نصيبًا في عبد إلخ": أشار البخاري بهذه الترجمة إلى أن المراد بقوله، في حديث ابن عمر:"وإلا فقد عَتَق منه ما عَتَق"؛ أي: وإلا فإن كان المعتِق لا مال له، يبلغ قيمة بقية العبد، فقد تنجّز عتق الجزء الذي كان يملكه، وبقي الجزء الذي لشريكه على ما كان عليه أوّلًا، إلى أن يستسعى العبد في تحصيل القدر الذي يخلص به باقيه من الرِّقّ، إن قوي على ذلك، فإن عَجَّز نفسه، استمرت حصة الشريك موقوفة، وهو مصير منه إلى القول بصحة الحديثين جميعًا، والحكم برفع الزيادتين معًا، وهما قوله في حديث ابن عمر:"وإلا فقد عتق منه ما عتق"، وقد تقدم بيان من

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 138 - 139.

ص: 481

جزم بأنها من جملة الحديث، وبيان من توقف فيها، أو جزم بأنها من قول نافع، وقوله في حديث أبي هريرة:"فاستُسْعِيَ به، غير مشقوق عليه"، وسيأتي بيان من جزم بأنها من جملة الحديث، ومن توقف فيها، أو جزم بأنها من قول قتادة، قال الحافظ: وقد بيّنت ذلك في كتابي "المدرَج" بأبسط مما هنا، وقد استبعد الإسماعيلي إمكان الجمع بين حديثي ابن عمر وأبي هريرة، ومنع الحكم بصحتهما معًا، وجزم بأنهما متدافعان، وقد جمع غيره بينهما بأوجه أُخَر، يأتي بيانها - إن شاء الله تعالى -.

وقوله: "من أعتق شقيصًا من عبد"، وللإسماعيلي من طريق بشر بن السري، ويحيى بن بكير جميعًا، عن جرير بن حازم، بلفظ:"من أعتق شقصًا من غلام، وكان للذي أعتقه من المال، ما يبلغ قيمة العبد، أُعتق في ماله، وإن لم يكن له مال، استُسْعِي العبدُ، غير مشقوق عليه".

وقوله: "غير مشقوق عليه": قال ابن التين: معناه لا يُستَغْلَى عليه في الثمن، وقيل: معناه غير مكاتب، وهو بعيدٌ جدًّا، وفي ثبوت الاستسعاء حجة على ابن سيرين، حيث قال: يعتق نصيب الشريك الذي لم يُعتِق من بيت المال.

وقال عند قوله: "تابعه حجاج بن حجاج، وأبان، وموسى بن خلف، عن قتادة، واختصره شعبة" ما حاصله: أراد البخاريّ بهذا الردَّ على من زعم أن الاستسعاء في هذا الحديث غير محفوظ، وأن سعيد بن أبي عروبة تفرد به، فاستظهر له برواية جرير بن حازم بموافقته، ثم ذكر ثلاثة تابعوهما على ذكرها:

فأما رواية حجاج، فهو في نسخة: حجاج بن حجاج، عن قتادة، من رواية أحمد بن حفص، أحد شيوخ البخاريّ، عن أبيه، عن إبراهيم بن طهمان، عن حجاج، وفيها ذكر السعاية، ورواه عن قتادة أيضًا حجاج بن أرطاة، أخرجه الطحاويّ.

وأما رواية أبان، فأخرجها أبو داود، والنسائيّ من طريقه، قال: حدثنا قتادة، أخبرنا النضر بن أنس، ولفظه:"فإنّ عليه أن يُعتِق بقيته، إن كان له مال، وإلا استُسعي العبد"، الحديث، ولأبي داود:"فعليه أن يعتقه كله"، والباقي سواء.

ص: 482

وأما رواية موسى بن خلف، فوصلها الخطيب في كتاب "الفصل والوصل" من طريق أبي ظَفَر، عبد السلام بن مطهّر عنه، عن قتادة، عن النضر، ولفظه:"من أعتق شِقْصًا له في مملوك، فعليه خلاصه، إن كان له مال، فإن لم يكن له مال، استُسعي، غير مشقوق عليه". وأما رواية شعبة، فأخرجها مسلم، والنسائي، من طريق غندر عنه، عن قتادة بإسناده، ولفظه:"عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، في المملوك بين الرجلين، فيعتق أحدهما نصيبه، قال: يضمن"، ومن طريق معاذ، عن شعبة، بلفظ:"من أعتق شِقْصًا من مملوك، فهو حُرّ من ماله"، وكذا أخرجه أبو عوانة، من طريق الطيالسيّ، عن شعبة، وأبو داود من طريق رَوْح عن شعبة، بلفظ:"من أعتق مملوكًا، بينه وبين آخر، فعليه خلاصه".

وقد اختصر ذكر السعاية أيضًا هشام الدستوائيّ، عن قتادة، إلا أنه اختُلف عليه في إسناده، فمنهم من ذكر فيه النضر بن أنس، ومنهم من لم يذكره، وأخرجه أبو داود، والنسائيّ بالوجهين، ولفظ أبي داود، والنسائيّ، جميعًا من طريق معاذ بن هشام، عن أبيه:"من أعتق نصيبًا له في مملوك، عتق من ماله، إن كان له مال"، ولم يُختَلف على هشام في هذا القدر من المتن.

وغفل عبد الحق، فزعم أن هشامًا وشعبة ذكرا الاستسعاء، فوصلاه، وتَعَقّب ذلك عليه ابن الْمَوّاق، فأجاد.

وبالغ ابن العربي، فقال: اتفقوا على أن ذكر الاستسعاء، ليس من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من قول قتادة. ونقل الخلال في "العلل" عن أحمد أنه ضعّف رواية سعيد، في الاستسعاء، وضعّفها أيضًا الأثرم، عن سليمان بن حرب، واستند إلى أن فائدة الاستسعاء؛ أن لا يدخل الضرر على الشريك، قال: فلو كان الاستسعاء مشروعًا، للزم أنه لو أعطاه مثلًا، كل شهر درهمين؛ أنه يجوز ذلك، وفي ذلك غاية الضرر على الشريك. انتهى.

وبمثل هذا لا تُرَدّ الأحاديث الصحيحة، قال النسائيّ: بلغني أن همامًا رواه، فجعل هذا الكلام - أي: الاستسعاء - من قول قتادة.

وقال الإسماعيلي: قوله: "ثم استُسْعِيَ العبد"، ليس في الخبر مسندًا، وإنما هو قول قتادة، مدرج في الخبر، على ما رواه همام.

ص: 483

وقال ابن المنذر، والخطابيّ: هذا الكلام الأخير من فتيا قتادة، ليس في المتن.

قال الحافظ: ورواية همام قد أخرجها أبو داود، عن محمد بن كثير عنه، عن قتادة، لكنه لم يذكر الاستسعاء أصلًا، ولفظه:"أن رجلًا أعتق شقصًا من غلام، فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم عتقه، وغَرَّمه بقية ثمنه"، نعم رواه عبد الله بن يزيد المقرئ، عن همام، فذكر فيه السعاية، وفصلها من الحديث المرفوع، أخرجه الإسماعيلي، وابن المنذر، والدارقطنيّ، والخطابيّ، والحاكم، في "علوم الحديث"، والبيهقيّ، والخطيب في "الفصل والوصل"، كلهم من طريقه، ولفظُهُ مثل رواية محمد بن كثير سواء، وزاد:"قال: فكان قتادة يقول: إن لم يكن له مال، استُسْعِيَ العبد".

قال الدارقطني: سمعت أبا بكر النيسابوري يقول: ما أحسن ما رواه همام ضَبَطَه، وفَصَل بين قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبين قول قتادة.

قال الحافظ: هكذا جزم هؤلاء بأنه مدرج، وأَبىَ ذلك آخرون، منهم: صاحبا "الصحيح"، فصحَّحا كون الجميع مرفوعًا، وهو الذي رجحه ابن دقيق العيد، وجماعة؛ لأن سعيد بن أبي عروبة، أعرَف بحديث قتادة؛ لكثرة ملازمته له، وكثرة أخذه عنه، من همام وغيره، وهشام، وشعبة، وإن كانا أحفظ من سعيد، لكنهما لم ينافيا ما رواه، وإنما اقتصرا من الحديث على بعضه، وليس المجلس متحدًا، حتى يتوقف في زيادة سعيد، فإن ملازمة سعيد لقتادة، كانت أكثر منهما، فسمع منه ما لم يسمعه غيره، وهذا كله لو انفرد، وسعيد لم ينفرد، وقد قال النسائيّ في حديث قتادة، عن أبي المليح، في هذا الباب، بعد أن ساق الاختلاف فيه على قتادة: هشام، وسعيد أثبت في قتادة، من همام.

وما أُعِلّ به حديث سعيد، من كونه اختلط، أو تفرد به مردود؛ لأنه في "الصحيحين"، وغيرهما من رواية من سمع منه قبل الاختلاط؛ كيزيد بن زريع، ووافقه عليه أربعة تقدم ذكرهم، وآخرون معهم، لا نطيل بذكرهم، وهمام هو الذي انفرد بالتفصيل، وهو الذي خالف الجميع، في القدر المتفق على رفعه، فإنه جعله واقعة عين، وهم جعلوه حكمًا عامًّا، فدل على أنه لم يضبطه، كما ينبغي.

ص: 484

والعجب ممن طعن في رفع الاستسعاء، بكون همام جعله من قول قتادة، ولم يطعن فيما يدل على ترك الاستسعاء، وهو قوله، في حديث ابن عمر، في الباب الماضي:"وإلا فقد عَتَق منه ما عَتَق"، بكون أيوب جعله من قول نافع، كما تقدم شرحه، ففَصَل قول نافع من الحديث، وميّزه كما صنع همام سواءً، فلم يجعلوه مدرجًا، كما جعلوا حديث همام مدرجًا، مع كون يحيى بن سعيد وافق أيوب في ذلك، وهمام لم يوافقه أحد، وقد جزم بكون حديث نافع مدرجًا: محمد بن وضاح وآخرون، والذي يظهر أن الحديثين صحيحان مرفوعان؛ وفاقًا لعمل صاحبي "الصحيح".

وقال ابن المواق: والإنصاف أن لا نُوَهِّم الجماعة بقول واحد، مع احتمال أن يكون سمع قتادةَ يفتي به، فليس بين تحديثه به مرة، وفتياه به أخرى منافاة.

قال الحافظ: ويؤيد ذلك أن البيهقيّ، أخرج من طريق الأوزاعي، عن قتادة أنه أفتى بذلك.

والجمع بين حديثي ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنه ممكن، بخلاف ما جزم به الإسماعيلي.

قال ابن دقيق العيد: حسبك بما اتفق عليه الشيخان، فإنه أعلى درجات الصحيح، والذين لم يقولوا بالاستسعاء، تعللوا في تضعيفه بتعليلات، لا يمكنهم الوفاء بمثلها، في المواضع التي يحتاجون إلى الاستدلال فيها، بأحاديث يَرِدُ عليها مثل تلك التعليلات، وكأن البخاريّ خشي من الطعن في رواية سعيد بن أبي عروبة، فأشار إلى ثبوتها، بإشارات خفية كعادته، فإنه أخرجه من رواية يزيد بن زريع عنه، وهو من أثبت الناس فيه، وسمع منه قبل الاختلاط، ثم استظهر له برواية جرير بن حازم بمتابعته؛ لينفي عنه التفرد، ثم أشار إلى أن غيرهما تابعهما، ثم قال: اختصره شعبة، وكأنه جواب عن سؤال مقدر، وهو أن شعبة: أحفظ الناس لحديث قتادة، فكيف لم يذكر الاستسعاء؟ فأجاب بأن هذا لا يؤثر فيه ضعفًا؛ لأنه أورده مختصرًا، وغيره ساقه بتمامه، والعدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد، والله أعلم.

وقد وقع ذكر الاستسعاء في غير حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه الطبراني

ص: 485

من حديث جابر رضي الله عنه، وأخرجه البيهقيّ من طريق خالد بن أبي قلابة، عن رجل من بني عُذْرة.

وعمدة من ضعّف حديث الاستسعاء في حديث ابن عمر قوله: "وإلا فقد عتق منه ما عتق"، وقد تقدم أنه في حق المعسر، وأن المفهوم من ذلك أن الجزء الذي لشريك المعتق باق على حُكْمِهِ الأول، وليس فيه التصريح بأن يستمر رقيقًا، ولا فيه التصريح بأنه يعتق كله، وقد احتج بعض من ضَعَّف رفع الاستسعاء، بزيادة وقعت في الدارقطنيّ وغيره، من طريق إسماعيل بن أمية وغيره، عن نافع، عن ابن عمر، قال في آخره:"ورَقَّ منه ما بقي"، وفي إسناده إسماعيل بن مرزوق الكعبيّ، وليس بالمشهور، عن يحيى بن أيوب، وفي حفظه شيء عنهم، وعلى تقدير صحتها، فليس فيها أنه يستمرّ رقيقًا، بل هي مقتضى المفهوم من رواية غيره، وحديث الاستسعاء فيه بيان الحكم بعد ذلك، فللذي صحح رفعه أن يقول: معنى الحديثين: أن المعسر إذا أعتق حصته، لم يسْر العتق في حصة شريكه، بل تبقى حصة شريكه على حالها، وهي الرق، ثم يُستسعى في عتق بقيته، فيحصل ثمن الجزء الذي لشريك سيده، ويدفعه إليه، ويَعتق، وجعلوه في ذلك كالمكاتب، وهو الذي جزم به البخاريّ، والذي يظهر أنه في ذلك باختياره؛ لقوله:"غير مشقوق عليه"، فلو كان ذلك على سبيل اللزوم، بأن يكلف العبد الاكتساب والطلب، حتى يحصل ذلك، لحصل له بذلك غاية المشقة، وهو لا يُلزَم في الكتابة بذلك، عند الجمهور؛ لأنها غير واجبة، فهذه مثلها.

وإلى هذا الجمع مال البيهقيّ، وقال: لا يبقى بين الحديثين معارضة أصلًا، وهو كما قال، إلا أنه يلزم منه أن يبقى الرق في حصة الشريك، إذا لم يختر العبد الاستسعاء، فيعارضه حديث أبي المليح، عن أبيه: أن رجلًا أعتق شقصًا له من غلام، فذكر ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"ليس لله شريك"، وفي رواية:"فأجاز عتقه"، أخرجه أبو داود، والنسائيّ، بإسناد قويّ، وأخرجه أحمد بإسناد حسن، من حديث سمرة رضي الله عنه: أن رجلًا أعتق شقصًا له في مملوك، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"هو كله فليس لله شريك".

ويمكن حمله على ما إذا كان المعتق غنيًّا، أو على ما إذا كان جميعه

ص: 486

له، فأعتق بعضه، فقد رَوَى أبو داود من طريق مِلْقَام بن التَّلِبّ، عن أبيه: أن رجلًا أعتق نصيبه من مملوك، فلم يضمنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإسناده حسن، وهو محمول على المعسر، وإلا لتعارضا.

وجمع بعضهم بطريق أخرى، فقال أبو عبد الملك: المراد بالاستسعاء؛ أن العبد يستمر في حصة الذي لم يُعتق رقيقًا، فيسعى في خدمته بقدر ما له فيه من الرق، قالوا: ومعنى قوله: "غير مشقوق عليه"؛ أي: من وجه سيده المذكور، فلا يكلفه من الخدمة، فوق حصة الرق، لكن يَرُدُّ على هذا الجمع قوله، في الرواية المتقدمة:"واستسعي في قيمته لصاحبه".

واحتج من أبطل الاستسعاء، بحديث عمران بن حصين رضي الله عنهما، عند مسلم:"أن رجلًا أعتق ستة مملوكين له عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجزّأهم أثلاثًا، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأَرَقَّ أربعة".

ووجه الدلالة منه؛ أن الاستسعاء لو كان مشروعًا، لَنَجَز من كل واحد منهم عتق ثلثه، وأمره بالاستسعاء في بقية قيمته لورثة الميت.

وأجاب من أثبت الاستسعاء، بأنها واقعة عين، فيَحْتَمِل أن يكون قبل مشروعية الاستسعاء، ويَحْتَمِل أن يكون الاستسعاء مشروعًا إلا في هذه الصورة، وهي ما إذا أعتق جميع ما ليس له أن يعتقه.

وقد أخرج عبد الرزاق بإسناد، رجاله ثقات، عن أبي قلابة، عن رجل من عُذْرة:"أن رجلًا منهم أعتق مملوكًا له عند موته، وليس له مال غيره، فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلثه، وأمره أن يسعى في الثلثين"، وهذا يعارض حديث عمران، وطريق الجمع بينهما ممكن.

واحتجوا أيضًا بَما رواه النسائي في "الكبرى" 14/ 4961 من طريق سليمان بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر، بلفظ:"من أعتق عبدًا، وله فيه شركاء، وله وفاء، فهو حرّ، ويضمن نصيب شركائه بقيمته، لما أساء من مشاركتهم، وليس على العبد شيء".

والجواب مع تسليم صحته؛ أنه مختصّ بصورة اليسار؛ لقوله فيه: وله وفاء، والاستسعاء إنما هو في صورة الإعسار، كما تقدم، فلا حجة فيه.

وقد ذهب إلى الأخذ بالاستسعاء، إذا كان المعتق معسرًا، أبو حنيفة،

ص: 487

وصاحباه، والأوزاعيّ، والثوريّ، وإسحاق، وأحمد في رواية، وآخرون، ثم اختلفوا، فقال الأكثر: يعتق جميعه في الحال، ويستسعى العبد في تحصيل قيمة نصيب الشريك، وزاد ابن أبي ليلى، فقال: ثم يرجع العبد المعتَق على الأول بما أداه للشريك.

وقال أبو حنيفة وحده: يتخير الشريك بين الاستسعاء، وبين عتق نصيبه، وهذا يدل على أنه لا يعتق عنده ابتداء، إلا النصيب الأول فقط، وهو موافق لما جنح إليه البخاريّ، من أنه يصير كالمكاتب، وقد تقدم توجيهه.

وعن عطاء: يتخير الشريك بين ذلك، وبين إبقاء حصته في الرقّ، وخالف الجميع زفر، فقال: يعتق كله، وتُقَوَّم حصة الشريك، فتؤخذ، إن كان المعتق موسرًا، وترتب في ذمته إن كان معسرًا. انتهى ملخّصًا من "الفتح"

(1)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الحقّ ما ذهب إليه الشيخان، ومن قال بقولهم، من صحّة حديث الاستسعاء، وقد أجاد الإمام ابن دقيق العيد في كلامه السابق، حيث قال: حَسْبُك بما اتفق عليه الشيخان، فإنه أعلى درجات الصحيح، والذين لم يقولوا بالاستسعاء، تعللوا في تضعيفه بتعليلات، لا يمكنهم الوفاء بمثلها، في المواضع التي يحتاجون إلى الاستدلال فيها، بأحاديث يَرِدُ عليها مثل تلك التعليلات. انتهى، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3769]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، أَخْبَرَنَا عِيسَى - يَعْنِي ابْنَ يُونُسَ - عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، بِهَذَا الإسْنَاد، وَزَادَ: "إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ قُوِّمَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ قِيمَةَ عَدْلٍ، ثُمَّ يُسْتَسْعَى فِي نَصِيبِ الّذِي لَمْ يُعْتِقْ، غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ").

(1)

راجع: "الفتح" 6/ 350 - 356 "كتاب العتق" رقم (2526 - 2527).

ص: 488

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ) المروزيّ، ثقةُ، من صغار [10](ت 257) أو بعدها، وقد قارب المائة (م ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.

2 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبيعيّ الكوفيّ، ثقةٌ مأمون [8](ت 187)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

و"سعيد بن أبي عروبة" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة هذه ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه" 3/ 630 فقال:

(1348)

- حدّثنا عليّ بن خَشْرَم، أخبرنا عيسى بن يونس، عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بَشير بن نَهِيك، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق نصيبًا، أو قال: شِقْصًا في مملوك، فخلاصه في ماله، إن كان له مال، فإن لم يكن له مال قُوِّم قيمةَ عدل، ثم يُستَسْعَى في نصيب الذي لم يُعْتِق، غير مشقوق عليه". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3770]

(

) - (حَدَّثَني هَارُونُ بْنُ عَبْدِ الله، حَدَّثنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثنَا أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، يُحَدِّثُ بِهَذَا الإسْنَاد، بِمَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ أبِي عَرُوبَةَ، وَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ: "قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) الحمّال، أبو موسى البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 243)(م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.

2 -

(وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ) بن حازم، أبو عبد الله الأزديّ البصريّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 315.

3 -

(أبُوهُ) جرير بن حازم بن زيد بن عبد الله الأزديّ، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ، في حديثه عن قتادة ضعف [6](ت 170)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 81.

ص: 489

[فإن قلت]: كيف أخرج مسلم رواية جرير بن حازم هذه، وقد عرفت أن روايته عن قتادة فيها ضعف؟

[قلت]: إنما أخرج له متابعة، والمتابعة يُغتفر فيها ما لا يُغتفر في الأصول، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

و"قتادة" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية جرير بن حازم، عن قتادة هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" 3/ 226 فقال:

(4759)

- حدّثنا عمار بن رجاء، قثنا

(1)

وهب بن جرير، قثنا أبي، قثنا قتادة، عن النضر بن أنس، عن بَشير بن نَهيك، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من أعتق شَقِيصًا في مملوك، وكان له من المال ما يبلغ قدر ثمنه، قُوِّم عليه قيمةَ عدل، فأُعتق من ماله، وإلا استُسْعِيَ، غيرَ مشقوق عليه". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(3) - (بَابُ بَيَانِ "إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ")

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أولَ الكتاب قال:

[3771]

(1504) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عَائِشَةَ؛ أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِي جَارِيةً تُعْتِقُهَا، فَقَالَ: أَهْلُهَا: نَبِيعُكِهَا عَلَى أَنَّ وَلَاءَهَا لَنَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "لَا يَمْنَعُكِ ذَلِكَ، فَإنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلّهم تقدّموا قبل باب.

[تنبيه]: هذا الإسناد من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (241) من رباعيّات الكتاب.

(1)

تقدّم أنها مختصرة من "قال: حدّثنا"، فتنبّه.

ص: 490

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنه (عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها، قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: هذا الحديث أخرجه البخاريّ، وأبو داود، والنسائيّ من هذا الوجه من طريق مالك - يعني عن نافع، عن ابن عمر أن عائشة أرادت إلخ - وأخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى، هو النيسابوريّ، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن عائشة: أنها أرادت، فجعله من مسند عائشة، وكذا رواه الشافعيّ، عن مالك، فيما رواه عنه الربيع، ومن طريقه البيهقيّ في "السنن الكبرى"، و"المعرفة"، وحَكَى ابن عبد البرّ الأول عن أكثر رواة "الموطإ"، والثاني عن رواية يحيى بن يحيى، كما ذكرته، وقد عرفتَ موافقة الشافعيّ له.

ولا يقال: مذهب الجمهور أنّ حكم "أَنَّ" حكمُ "عَنْ"، فلا تفاوت بين اللفظين؛ لأن ذلك إنما هو لو قال ابن عمر: أن عائشة قالت، فأسند القصة إليها، وهو في اللفظ المشهور لم يُسند القصة إليها، وإنما حكاها من نفسه، ولعائشة رضي الله عنها فيها مجرد ذِكْر، وعلى كل حال فالحديث صحيحٌ متصلٌ، وقد رُوي حديث عائشة هذا عنها من طُرُق منتشرة، وقال ابن عبد البرّ: ليس في شيء من أخبار بريرة أصحّ من هذا الإسناد، عن ابن عمر رضي الله عنهما. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله

(1)

.

(أنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِي جَارِيةً) هذه الجارية هي بريرة بنت صفوان، كما سيأتي، وكانت مكاتَبة، وهذا يدلّ على جواز بيع المكاتب، وقد اختُلف فيه على أقوال: الجواز، والمنع، والتفصيل بين أن يبيعه للعتق، فيجوز، أو للاستخدام فيمتنع، وسيأتي تمام البحث قريبًا - إن شاء الله تعالى -.

(تُعْتِقُهَا) بضمّ أوله، من الإعتاق رباعيًّا (فَقَالَ أَهْلُهَا: نَبِيعُكِهَا عَلَى أَنَّ وَلَاءَهَا لَنَا) أي: بشرط أن يبقى ولاؤها لنا، ولا ينتقل إليك بالبيع (فَذَكَرَتْ ذَلِكَ) أي: ما اشترطه أهل بريرة، من بقاء الولاء لهم (لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَا يَمْنَعُكِ ذَلِكَ) الظاهر أن "لا" نافية، والفعل مرفوع، لكن قال وليّ الدين: قوله: "لا يمنعكِ" بالجزم على النهي، قال الخطابيّ: معناه إبطال

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 6/ 233.

ص: 491

ما شرطوه من الولاء لغير المعتِق، وقال وليّ الدين: ظاهره أنه لم يَرَ ما أرادوه من اشتراط الولاء للبائع مانعًا من الشراء على الوجه الذي أرادوه، فإن اشتراط ذلك لا يضرّ شيئًا؛ لأن حكم الشرع أن الولاء للمعتِق، فلا يضرّ اشتراط خلافه، وقد ورد التصريح بذلك في قوله في حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة:"اشتريها، وأعتقيها، واشترطي لهم الولاء، فإن الولاء لمن أعتق"، وهي في "الصحيحين".

وفي ذلك إشكال من وجهين:

[أحدهما]: أن البيع يفسد باشتراط الولاء لهم، كما تقدم، فكيف يثبت مع ذلك عتق وولاء؟

[الثاني]: كيف يَأذَن لها في اشتراط ما لا يصحّ، ولا يحلّ للمشترطين، وفي ذلك خِدَاعٌ لهم، يصان عنه الشرع، ولهذا أنكر بعضهم هذا اللفظ، وذلك مَحْكِيٌّ عن يحيى بن أكثم، وهذا ضعيفٌ؛ لثبوته في "الصحيحين"، كما تقدم، وقال بعضهم: اللام في قوله: "لهم" بمعنى "على"؛ أي: اشترطي عليهم، كما في قوله تعالى:{وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} [غافر: 52]، وهذا محكيّ عن الشافعيّ، والمزنيّ، وضعّفه بعضهم، فإنه صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم الاشتراط، ولو كان كما قاله صاحب هذا التأويل لم ينكره.

وقد يجاب عن هذا بأنه إنما أنكر ما أرادوا اشتراطه في أول الأمر.

وقيل: إن المراد بالاشتراط هنا ترك المخالفة لِمَا شرطه البائع، وعدم إظهار النزاع فيه، وقد يُعَبَّر عن التخلية بصيغة تدلّ على الفعل، كما في قوله تعالى:{وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102].

وقيل: إن ذلك عقوبة لمخالفتهم حكم الشرع بعد معرفتهم به، فعاقبهم في المال بتحسير ما نقصوا من الثمن في مقابلة كون الولاء لهم.

وقيل: معنى اشترطي لهم الولاء: أظهري حكم الولاء، ومنه أشراط الساعة.

وقيل: المراد الزجر والتوبيخ لهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان بيّن لهم حكم الولاء، وأن هذا الشرط غير جائز، فلما ألَحُّوا في اشتراطه، ومخالفة الأمر، قال لعائشة هذا الكلام، بمعنى لا تبالي، سواء شرطتيه أم لا، فإنه شرط باطل

ص: 492

مردودٌ؛ لأنه قد سبق بيان ذلك لهم، فعلى هذا لا تكون لفظة "اشترطي" هنا للإباحة.

وقيل: كان يباح اشتراط الولاء للبائع، مع كونه لا يثبت له، ثم نُسخ بخطبة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا جواب ابن حزم الظاهريّ.

وقال النوويّ في "شرحه": الأصح في تأويل الحديث ما قاله أصحابنا في كتب الفقه: إن هذا الشرط خاصّ في قصّة عائشة، واحتُمِل هذا الإذن وإبطاله في هذه القضية الخاصة، وهي قضية عين لا عموم لها، قالوا: والحكمة في إذنه فيه، ثم إبطالِهِ أن يكون أبلغ في قطع عادتهم في ذلك، وزجرهم عن مثله، كما أذن لهم صلى الله عليه وسلم في الإحرام بالحجّ في حجة الوداع، ثم أمرهم بفسخه، وجَعْلِهِ عمرةً بعد أن أحرموا بالحجّ، وإنما فَعَلَ ذلك؛ ليكون أبلغ في زجرهم، وقطعهم عما اعتادوه من منع العمرة في أشهر الحج، وقد تُحْتَمَل المفسدة اليسيرة؛ لتحصيل مصلحة عظيمة. انتهى.

وإذا عَرَفت هذه الأجوبة، تبيّن لك ضعف استدلال مَن استدلّ به على اختصاص البطلان بالشرط الفاسد، وأن ذلك لا يتعدى إلى العقد، بل يكون العقد صحيحًا، والشرط فاسدًا، وقد استَدَلّ به على ذلك النسائيّ، وبهذا قال ابن أبي ليلى، وطائفة، والجمهور على خلافه. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: في تضعيفه استدلال النسائيّ بالحديث على ما قاله نظرٌ، بل إن استدلاله جيّدٌ، كما لا يخفى على من تأمله، والله تعالى أعلم.

(فَإنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ") قال وليّ الدين رحمه الله: كلمة "إنّما" للحصر، ولولا ذلك لَمَا لزم في إثبات الولاء للمعتِق نفيه عن غيره، لكنها ذُكرت لبيان نفيه عمن لم يُعْتِق، فدلّ على أن مقتضاها الحصر. إذا تقرّر ذلك، ففيه أنه لا ولاء للإنسان على من أسلم على يديه، وبه قال مالك، والشافعيّ، وأحمد، والأوزاعيّ، وسفيان الثوريّ، وداود، والجمهور.

وقال أبو حنيفة، وربيعة، والليث بن سعد: من أسلم على يديه رجلٌ،

(1)

"طرح التثريب" 6/ 235 - 236.

ص: 493

فولاؤه له، وقال يحيى بن سعيد الأنصاريّ: إن كان حربيًّا فولاؤه للذي أسلم على يديه، وإن كان ذميًّا فللمسلمين عامةً. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر، عن عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 3771](1504)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2156 و 2169) و"الفرائض"(6752 و 6757 و 6759)، و (أبو داود) في "الفرائض"(2916)، و (النسائيّ) في "الطلاق"(6/ 163)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 28 و 30 و 100 و 113 و 144 و 156)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 89)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 236 و 245)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 1298) و"الصغرى"(9/ 349) و"المعرفة"(7/ 557)، وبقيّة المسائل تأتي قريبًا - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3772]

(

) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ؛ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ؛ أَنَّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ عَائِشَةَ، تَسْتَعِينُهَا فِي كتَابَتِهَا، ولَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: ارْجِعِي إِلَى أَهْلِك، فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ أقضِيَ عَنْكِ كتَابَتَك، وَيَكُونَ وَلَاؤُكِ لِي فَعَلْتُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ بَرِيرَةُ لأَهْلِهَا، فَأَبَوْا، وَقَالُوا: إِنْ شَاءَتْ أَنْ تَحْتَسِبَ عَلَيْكِ فَلْتَفْعَلْ، وَيَكُونَ لَنَا وَلَاؤُك، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ابْتَاعِي، فَأَعْتِقِي، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "مَا بَالُ أُناسٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كتَابِ اللهِ؛ مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كتَابِ الله، فَلَيْسَ لَهُ، وَإِنْ شَرَطَ مِائَةَ مَرَّةٍ، شَرْطُ اللهِ أَحَقُّ، وَأَوْثَقُ").

(1)

"طرح التثريب" 6/ 237.

ص: 494

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهم تقدّموا قريبًا.

شرح الحديث:

(عَنْ عُرْوَةَ) بن الزبير (أَنَّ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها (أَخْبَرَتْهُ؛ أَنَّ بَرِيرَةَ) - بفتح الموحّدة، بوزن فَعِيلة - مشتقّةٌ من البَرِير، وهو ثمر الأراك، وقيل: فَعِيلةٌ، من البرّ، بمعنى مفعولة، كمبرورة، أو بمعنى فاعلة، كرحيمة، هكذا وجّهه القرطبيّ، والأول أولى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم غيّر اسم جُويرية، وكان اسمها برّة، وقال:"لا تزكّوا أنفسكم"، فلو كانت بَرِيرة من البرّ لشاركتها في ذلك.

وكانت بريرةُ مولاةً لقوم من الأنصار، وقيل: لآل عُتبة بن أبي لهب، وقيل: لبني هلال، وقيل: لآل أبي أحمد بن جحش، قال الحافظ: وفي هذا القول نظرٌ، فإن زوجها هو الذي كان مولى أبي أحمد بن جحش، والقول الثاني خطأ، فإن مولى عُتبة سأل عائشة عن حكم المسألة، فذكرت له قصّة بريرة، أخرجه ابن سعد، وأصله عند البخاريّ، فاشترتها عائشة، فأعتقتها، وكانت تخدم عائشة رضي الله عنها قبل أن تشتريها، وتعتقها، وعاشت إلى خلافة معاوية، وتفرّست في عبد الملك بن مروان أنه يلي الخلافة، فبشّرته بذلك، ورَوَى هو ذلك عنها، فقد ذكر أبو عمر بن عبد البرّ من طريق عبد الخالق بن زيد بن واقد، عن أبيه أن عبد الملك بن مروان، قال: كنت أُجالس بَرِيرة بالمدينة، فكانت تقول لي: يا عبد الملك، إني أرى فيك خصالًا، وإنك لخليقٌ أن تلي هذا الأمر، فإن وليته، فاحذر الدماء، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن الرجل لَيُدفَع عن باب الجنّة بعد أن ينظر إليه بملء مِحْجَمة، من دم يريقه من مسلم بغير حقّ". أفاده في "الإصابة"

(1)

، و"الفتح"

(2)

.

وقال في "الفتح" أيضًا في موضع آخر: وقيل: إنها نَبَطيّةٌ - بفتح النون، والموحّدة - وقيل: إنها قِبْطِيّةٌ - بكسر القاف، وسكون الموحّدة - وقيل: إن

(1)

"الإصابة في تمييز الصحابة"(8/ 50).

(2)

"الفتح" 6/ 401 "كتاب المكاتب" رقم (2561).

ص: 495

اسم أبيها صفوان، وإنّ له صحبةً. واختُلف في مواليها، ففي رواية أُسامة بن زيد، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم، عن عائشة: أنّ بَريرة كانت لناس من الأنصار، وكذا عند النسائيّ من رواية سماك، عن عبد الرحمن، ووقع في بعض الشروح: لآل أبي لَهَب، وهو وَهَمٌ من قائله، انتقل وهمه من أيمن أحد رواة قصّة بَريرة، عن عائشة إلى بَرِيرة، وقيل: لآل بني هلال، أخرجه الترمذيّ، من رواية جرير، عن هشام بن عروة. انتهى

(1)

.

(جَاءَتْ عَائِشَةَ، تَسْتَعِينُهَا) جملة حاليّة من الفاعل (فِي كِتابَتِهَا) متعلّق بما قبله؛ أي: في أداء بدل كتابتها، وفي الرواية التالية:"عن عائشة أنها قالت: جاءت بريرة إليّ، فقالت: إني كاتبت أهلي على تسع أواق، في كلّ عام أوقيّة"(وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا) أي: لم تكن أدّت من بدل كتابتها إلى مواليها شيئًا (فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: ارْجِعِي اِلَى أَهْلِك، فَإنْ أَحَبُّوا أَنْ أقضِيَ عَنْكِ كِتَابَتَكِ) أي: أأدّي عنك بدل كتابتك إليهم (ويكُونَ وَلَاؤُكِ لي فَعَلْتُ) ذلك، وفي الرواية الآتية بعد حديث:"فقلت لها: إن شاء أهلك أن أعدّها لهم عَدّةً واحدةً، وأُعتقك، ويكون الولاء لي فعلتُ".

قال في "الفتح": وظاهره أن عائشة طلبت أن يكون الولاء لها إذا بذلت جميع مال الكتابة، ولم يقع ذلك؛ إذ لو وقع ذلك لكان اللوم على عائشة بطلبها ولاء من أعتقها غيرها، وقد رواه أبو أسامة، عن هشام بلفظ يزيل الإشكال، فقال بعد قوله:"أن أعدّها لهم عدّة واحدة، وأُعتقك، ويكون ولاؤك لي فعلت"، وكذلك رواه وهيب، عن هشام، فَعُرف بذلك أنها أرادت أن تشتريها شراء صحيحًا، ثم تُعتقها، إذ العتق فرع ثبوت الملك.

ويؤيّده قوله في بقيّة حديث الزهريّ: "ابتاعي، فأعتقي"، وهو يفسّر قوله في رواية مالك، عن هشام:"خذيها"، ويوضّح ذلك أيضًا قوله في طريق أيمن:"دخلت عليّ بريرة، وهي مكاتبة، فقالت: اشتريني، وأعتقيني، قالت: نعم"، وقوله في حديث ابن عمر:"أرادت عائشة أن تشتري جارية، فتُعتقها"،

(1)

"الفتح" 10/ 508 "كتاب الطلاق".

ص: 496

وبهذا يتّجه الإنكار على موالي بريرة؛ إذ وافقوا عائشة على بيعها، ثمّ أرادوا أن يشترطوا أن يكون الولاء لهم.

ويؤيّده قوله في رواية أيمن: "قالت: لا تبيعوني حتى تشترطوا ولائي"، وفي رواية الأسود، عن عائشة:"اشتريتُ بريرةَ لأعتقها، فاشترط أهلها ولاءها". انتهى

(1)

.

(فَذَكَرَتْ ذَلِكَ بَرِيرَةُ لأَهْلِهَا) المراد بالأهل هنا السادة، والأهل في الأصل الآل، وفي الشرع: من تلزمه نفقته على الأصحّ عند الشافعيّة، قاله في "الفتح". (فَأَبَوْا، وَقَالُوا: إِنْ شَاءَتْ أَنْ تَحْتَسِبَ عَلَيْكِ) أي: تطلب الأجر من الله تعالى، قال الفيّوميّ رحمه الله: احتسب الأجر على الله: ادّخره عنده، لا يرجو ثواب الدنيا، والاسم: الْحِسْبَةُ بالكسر، واحتَسَبْتُ بالشيء: اعتَدَدتُ به. انتهى

(2)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: الاحتسابُ من الْحَسْب؛ كالاعتداد من الْعَدّ، وإنما قيل لمن ينوي بعمله وجه الله: احتسبه؛ لأن لَه حينئذ أن يَعتدّ عمله، فجُعل في حال مباشرة الفعل كأنه معتدّ به، والْحِسْبة اسم من الاحتساب؛ كالْعِدّة من الاعتداد، والاحتساب في الأعمال الصالحة، وعند المكروهات: هو الْبِدَارُ إلى طلب الأجر، وتحصيله بالتسليم والصبر، أو باستعمال أنواع البرّ، والقيام بها على الوجه المرسوم فيها؛ طلبًا للثواب المرجوّ منها. انتهى

(3)

.

(فَلْتَفْعَلْ، وَيَكُونَ لَنَا وَلَاؤُك، فَذَكَرَتْ) عائش رضي الله عنها (ذَلِكَ) أي: ما قاله أهل بريرة لبريرة (لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ابْتَاعِي، فَأَعْتِقِي) أي: اشتري بريرة، فأعتقيها، وفي رواية:"خذيها، فأعتقيها"، وفي حديث ابن عمر الماضي:"لا يمنعك ذلك".

ثم علّل ذلك بقوله: (فَإنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ") الفاء فيه تعليليّة؟ أي: لأن الولاء لمن أعتق المملوك، لا لمن باعه، قال في "الفتح": كلمة "إنما"

(1)

"الفتح" 6/ 402 رقم (2561).

(2)

"المصباح المنير" 1/ 135.

(3)

"النهاية في غريب الأثر" 1/ 382.

ص: 497

للحصر، وهو إثبات الحكم للمذكور، ونفيه عما عداه، ولولا ذلك لما لزم من إثبات الولاء للمعتق نفيه عن غيره، واستُدلّ بمفهومه على أنه لا ولاء لمن أسلم على يديه رجل، أو وقع بينه وبينه محالفةٌ؛ خلافًا للحنفيّة، ولا للملتقط، خلافًا لإسحاق، ويستفاد من منطوقه إثبات الولاء لمن أعتق سائبة، خلافًا لمن قال: يصير ولاؤه للمسلمين، ويدخل فيمن أعتق: عتقُ المسلم للمسلم، وللكافر، وبالعكس ثبوت الولاء للمعتق. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إنما الولاء لمن أعتق" هذا حصرٌ للولاء على من باشر العتق بنفسه، من كان من رجلٍ، أو امرأة، من يصحّ منه العتق، ويستقلّ بتنفيذه، وقوّة هذا الكلام قوّة النفي والإيجاب، فكأنه قال: لا ولاء إلا لمن أعتق، وإياه عنى النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"شرط الله أوثق" في أصحّ الأقوال، وأحسنها.

وقال الداوديّ رحمه الله: هو قوله تعالى، وقال:{فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5]، وقال:{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37]، وقال:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]، وقال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7].

وهو حجة على أبي حنيفة، وأصحابه القائلين بأن من أسلم على يديه رجلٌ، فولاؤه له، وبه قال الليث، وربيعة، وعلى إسحاق في حكمه بثبوت الولاء بالالتقاط، وعلى أبي حنيفة في حكمه بثبوت الولاء بالموالاة، ولمن قال: إن من أعتق عبده عن غيره، أو عن المسلمين إن ولاءه له، أعني للمعتق، وإليه ذهب ابن نافع فيمن أعتق عن المسلمين، ويلزمه فيمن أعتق عن غيره مطلقًا، وخالفه في ذلك مالك، والجمهور، متمسّكين بأن مقصود الحديث بيان حكم من أعتق عن نفسه، بدليل اتفاق المسلمين على أن الوكيل على العتق مُعتقٌ، ومع ذلك فالولاء للمعتَق عنه إجماعًا، فكذلك حكم من أعتق عن الغير.

وتُقدّره الشافعيّة أنه ملّكه ثمّ ناب عنه في العتق، وأما المالكيّة، فإنهم

(1)

"الفتح" 6/ 407 رقم (2563).

ص: 498

قالوا: لا يحتاج إلى تقدير ذلك؛ لأنه يصحّ العتق عن الميت، وهو لا يملك، وفيه نظر، فإنه إن لم يقدّر الملك لزم منه هبة الولاء، وقد نَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء، وعن هبته، وإن قدّر الملك لم يصحّ العتق عن الميت؛ لأنه لا يملك. انتهى المقصود من كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

(ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية أبي أسامة، عن هشام الآتية: "قالت: ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيّةً، فحَمِد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فما أقوام يشترطون شُروطًا

". (فَقَالَ: "مَا بَالُ أُنَاسٍ) أي: ما حالهم؟ وقوله: (يَشْتَرِطُونَ) جملة في محلّ جرّ على أنه صفة لـ"أناس"، أو في محلّ نصب على الحال منهم (شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ؟ مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ في كِتَابِ اللهِ) المراد بما ليس في كتاب الله: ما خالف كتاب الله.

وقال ابن بطّال رحمه الله: المراد بكتاب الله هنا حكمه، من كتابه عز وجل، أو سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع الأمّة.

وقال ابن خزيمة رحمه الله: ليس في كتاب الله؛ أي: ليس في حكم الله جوازه، أو وجوبه، لا أن كلّ من شرط شرطًا لم ينطق به الكتاب يبطل؛ لأنه قد يُشترط في البيع الكفيل، فلا يبطل الشرط، ويُشترط في الثمن شروط من أوصافه، أو من نجومه، ونحو ذلك، فلا يبطل.

وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: الشروط في البيع ونحوه أقسام:

[أحدها]: شرطٌ يقتضيه إطلاق العقد، بأن شرَطَ تسليمه إلى المشتري، أو تبقية الثمرة على الشجرة إلى أوان الجَداد، أو الردّ بالعيب.

[الثاني]: شرطٌ فيه مصلحةٌ، وتدعو إليه الحاجة؛ كاشتراط الرهن، والضمين، والخيار، وتأجيل الثمن، ونحو ذلك، وهذان القسمان جائزان، ولا يؤثّران في صحّة العقد، بلا خلاف.

[الثالث]: اشتراط العتق في العبد المبيع، أو الأمة، وهذا جائزٌ أيضًا عند الجمهور؛ لحديث عائشة رضي الله عنها، وترغيبًا في العتق؛ لقوّته، وسرايته.

[الرابع]: ما سوى ذلك من الشروط، كشرطِ استثناء منفعة، وشرطِ أن

(1)

"المفهم" 4/ 328 - 329.

ص: 499

يبيعه شيئًا آخر، أو يُكريه داره، أو نحو ذلك، فهذا شرط باطلٌ، مبطلٌ للعقد، هكذا قال الجمهور، وقال أحمد: لا يبطله شرط واحد، وإنما يبطله شرطان، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ليس في كتاب الله"؛ أي: ليس مشروعًا في كتاب الله تأصيلًا، ولا تفصيلًا، ومعنى هذا أنّ من الأحكام، والشروط ما يؤخذ تفصيلها من كتاب الله؛ كالوضوء، وكونه شرطًا في صحّة الصلاة، ومنها ما يوجد فيه أصله؛ كالصلاة، والزكاة، فإنهما فيه مجملتان، ومنها ما يوجد أصل أصله، وهو كدلالة الكتاب على أصليّة السنّة، والإجماع، والقياس، فكلّ ما يُقتبسُ من هذه الأصول تفصيلًا فهو مأخوذ من كتاب الله تأصيلًا.

وعلى هذا: فمعنى الحديث أن ما كان من الشروط مما لم يدلّ على صحّته دليلٌ شرعيّ كان باطلًا؛ أي: فاسدًا مردودًا، وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردّ"، متّفقٌ عليه.

وفي هذا من الفقه ما يدلّ على أن العقود الشرعيّة إذا قارنها شرطٌ فاسدٌ بطل ذلك الشرط خاصّةً، وصحّ العقد، لكن هذا إنما يكون إذا كان ذلك الشرط خارجًا عن أركان العقد؛ كاشتراط الولاء في الكتابة، واشتراط السَّلَف في البيع، فلو كان ذلك الشرط مُخلًّا بركن من أركان العقد، أو مقصودًا، فُسخ العقد والشرط. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

.

(فَلَيْسَ لَهُ) أي: ليس جائزًا ذلك الشرط الذي ليس في كتاب الله للذي شرطه (وَإِنْ شَرَطَ مِائَةَ مَرَّةٍ) قال النوويّ رحمه الله: معنى قوله: "وإن شرط مائة شرط" أي: لو شرط مائة مرّة توكيدًا، فهو باطلٌ، وإنما حُمِلَ على التأكيد؛ لأن العموم في قوله:"كلّ شرط"، وفي قوله:"من اشترط شرطًا" دالّ على بطلان جميع الشروط المذكورة، فلا حاجة إلى تقييدها بالمائة، فإنها لو زادت عليها كان الحكم كذلك لِمَا دلّت عليها الصيغة، نعم طريق أيمن، عن عائشة عند البخاريّ بلفظ: "فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: الولاء لمن أعتق، وإن اشترطوا مائة

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 142.

(2)

"المفهم" 4/ 326 - 327.

ص: 500

شرط"، وإن احتمل التأكيد، لكنه ظاهر في أن المراد به التعدّد، وذكر المائة على سبيل المبالغة

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ولو كان مائة شرط" خرج مخرج التكثير، يعني أن الشروط الغير المشروعة باطلة، ولو كثرت، ويُفيد دليل خطابه أن الشروط المشروعة صحيحة، كما قد نصّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"المؤمنون على شروطهم، إلا شرطًا أحلّ حرامًا، أو حرّم حلالًا". أخرجه الترمذيّ من حديث عمرو بن عوف، وقال: حديث حسن. انتهى

(2)

.

(شَرْطُ اللهِ أَحَقُّ) أي: بالاتّباع من الشروط المخالفة له، وفي رواية للبخاريّ:"فقضاء الله أحقّ، وشرط الله أوثق".

وقال القرطبيّ رحمه الله؛ أي: حكم الله، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر - لما قال له الخصم: اقض بيننا بكتاب الله تعالى - فقال: "لأقضينّ بينكما بكتاب الله"، ثم قضى على الزاني البكر بالجلد والتغريب، وعلى الزانية بالرجم، وليس الرجم، والتغريب موجودين في كتاب الله تعالى، لكن في حكم الله المسمّى بالسنّة، وكذلك اختصاص الولاء بالمعتِق ليس موجودًا في كتاب الله، لكن في حكم الله به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم مما يُسمّى سنّة. انتهى

(3)

.

(وَأَوْثَقُ") أي: باتباع حدوده التي حدّها، وليس أفعل التفضيل هنا على حقيقته؛ إذ لا مشاركة بين الحقّ والباطل، وقد وردت صيغة "أفعل" لغير التفضيل كثيرًا. ويَحْتَمِل أن يُقال: ورد ذلك على ما اعتقدوه من الجواز، قاله في "الفتح"

(4)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 3772 و 3773 و 3774 و 3775 و 3776

(1)

راجع: "الفتح" 6/ 403 رقم (2561)"كتاب المكاتب".

(2)

"المفهم" 4/ 327.

(3)

"المفهم" 4/ 327.

(4)

"الفتح" 6/ 407.

ص: 501

و 3777 و 3778 و 3779 و 3780 و 3781] (1504)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1493) و"العتق"(2536) و"البيوع"(2155) و"المكاتب"(2561) و"الشروط"(2717) و"الفرائض"(6754 و 6758 و 6760)، و (أبو داود) في "الفرائض"(2916) و (الترمذيّ) في "البيوع"(1256)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(5/ 107) و"الطلاق"(6/ 163) و"البيوع"(7/ 300) و"الكبرى"(3/ 194 و 365)، و (ابن ماجه) في "العتق"(2521)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1381)، و (مالك) في "الموطإ"(2/ 780)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 174)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(9/ 9)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 42 و 175 و 186 و 189 و 190)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 169)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 245 و 412)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 82)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4270 و 4271 و 4272)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 246)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(3/ 22)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 233 و 234)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(7/ 411)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 223 و 10/ 338 و 339) و"الصغرى"(9/ 346) و"المعرفة"(7/ 555 و 557)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده

(1)

:

(اعلم): أن حديث قصّة بريرة رضي الله عنها هذا حديث عظيم، كثير الأحكام والقواعد، وقد صنّف فيه الإمامان الكبيران: ابن خزيمة، وابن جرير تصنيفين كبيرين أكثرا فيهما من استنباط الفوائد منه، فذكرا أشياء، قال الحافظ: لم أقف على تصنيف ابن خزيمة، ووقفت على كلام ابن جرير من كتابه "تهذيب الآثار"، ولخّصت منه ما تيسّر - بعون الله تعالى - وقد بَلَّغَ بعض المتأخّرين الفوائد من حديث بريرة إلى أربعمائة، أكثرها مستبعد مُتكلَّفٌ، كما وقع في

(1)

قال الجامع عفا الله عنه: ليس المراد فوائد هذا السياق فحسبُ، بل ما اشتمل عليه قصّة بريرة رضي الله عنها، بجميع رواياته المختلفة التي أوردها مسلم في هذا الباب، وكذا ما ذكرته خلال الشرح، وإنما جمعتها في محلّ واحدٍ - كما فعل صاحب "الفتح" - تقريبًا للفوائد، وحصرًا للعوائد، وبالله تعالى التوفيق.

ص: 502

نظير ذلك الذي صنّف في الكلام على حديث المجامع في رمضان، فبلغ به ألف فائدةٍ وفائدة. انتهى

(1)

.

قال الجامع: وأنا أسوقها تبعًا لصاحب "الفتح"، فأقول مستعينًا بالله تعالى:

1 -

(فمنها): ثبوت الولاء للمعتِق، والردّ على من خالفه.

2 -

(ومنها): أنه لا ولاء لغير المعتق.

3 -

(ومنها): بيان مشروعيّة الخيار للأمَة، إذا أُعتقت، وسيأتي بيان اختلاف المذاهب، وأدلّتها، وترجيح الراجح منها في المسألة التالية، إن شاء الله تعالى.

4 -

(ومنها): جواز المكاتبة بالسنّة، تقريرًا لحكم الكتاب.

5 -

(ومنها): ما رواه ابن أبي شيبة في "الأوائل" بسند صحيح أنها أول كتابة كانت في الإسلام، لكن يردّ عليه قصّة سلمان الفارسيّ رضي الله عنه، ويمكن أن يُجمع بأن أوّليته في الرجال، وأوّليّة بريرة في النساء، وقد قيل: إن أول مكاتَب في الإسلام أبو أميّة عبد عمر. وادّعى الرويانيّ أن الكتابة لم تكن تُعرف في الجاهليّة، وخولف.

6 -

(ومنها): أنه يؤخذ من مشروعيّة نجوم الكتابة البيع إلى أجل، والاستقراض، ونحو ذلك.

7 -

(ومنها): أن فيه إلحاق الإماء بالعبيد؛ لأن الآية ظاهرة في الذكور.

8 -

(ومنها): جواز كتابة أحد الزوجين الرقيقين، ويُلحق به جواز بيع أحدهما دون الآخر.

9 -

(ومنها): جواز كتابة من لا مال له، ولا حرفة، كذا قيل، وفيه نظر، لأنه لا يلزم من طلبها من عائشة الإعانة على حالها أن يكون لا مال لها، ولا حرفة.

10 -

(ومنها): جواز بيع المكاتب إذا رضي، ولم يُعَجّز نفسه إذا وقع التراضي بذلك، وحمَله من منع على أنها عجّزت نفسها قبل البيع، ولكن

(1)

"الفتح" 6/ 410 - 411 "كتاب المكاتب" رقم (2563).

ص: 503

يحتاج إلى دليل، وقيل: إنما وقع البيع على نجوم الكتابة، وهو بعيدٌ جدًّا.

11 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه أن المكاتب عبدٌ ما بقي عليه شيء، فيتفرّع منه إجراء أحكام الرّقيق كلّها في النكاح، والجنايات، والحدود، وغيرها.

12 -

(ومنها): أن من أدّى أكثر نجومه لا يَعتق تغليبًا لحكم الأكثر، وأن من أدّى من النجوم بقدر قيمته يَعتق، وأنّ من أدّى بعض نجومه لم يَعتق منه بقدر ما أدّى؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أذِنَ في شراء بريرة من غير استفصال.

13 -

(ومنها): أن فيه جواز بيع المكاتب، والرقيق بشرط العتق.

14 -

(ومنها): أن بيع الأمة المزوّجة، وعتقها ليس طلاقًا، ولا فسخًا؛ لثبوت التخيير، فلو طلّقت بذلك واحدةً لكان لزوجها الرجعة، ولم يتوقّف على إذنها، أو ثلاثًا لم يقل لها:"لو راجعته"؛ لأنها ما كانت تحلّ له، إلا بعد زوج آخر.

15 -

(ومنها): أن بيعها لا يُبيح لمشتريها وطأها؛ لأن تخييرها يدل على بقاء عُلقة العصمة.

16 -

(ومنها): أن سيّد المكاتب لا يمنعه من الاكتساب، وأن اكتسابه من حين الكتابة يكون له.

17 -

(ومنها): جواز سؤال المكاتب من يُعينه على بعض نجومه، وإن لم تحلّ، وأن ذلك لا يقتضي تعجيزه.

18 -

(ومنها): جواز سؤال ما لا يضطرّ السائل إليه في الحال.

19 -

(ومنها): جواز الاستعانة بالمرأة المتزوّجة.

20 -

(ومنها): جواز تصرّف المرأة في مالها بغير إذن زوجها.

21 -

(ومنها): جواز بذل مالها في طلب الأجر، حتى في الشراء بالزيادة على ثمن المِثل، بقصد التقرّب بالعتق.

22 -

(ومنها): جواز شراء من يكون مطلق التصرّف السلعةَ بأكثر من ثمنها؛ لأن عائشة رضي الله عنها بذلت نقدًا ما جعلوه نسيئةً في تسع سنين؛ لحصول الرغبة في النقد أكثر من النسيئة.

23 -

(ومنها): جواز السؤال في الجملة لمن يتوقّع الاحتياج إليه، فتُحْمَل الأخبار الواردة في الزجر عن السؤال على الأولويّة.

ص: 504

24 -

(ومنها): جواز سعي المرقوق في فكاك رقبته، ولو كان بسؤال من يشتري ليُعتق، وإن أضرّ ذلك بسيّده؛ لتشوّف الشارع إلى العتق.

25 -

(ومنها): بطلان الشروط الفاسدة في المعاملات، وصحّة الشروط المشروعة؛ لمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم:"كلُّ شرط ليس في كتاب الله، فهو باطلٌ".

26 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه أن من استثنى خدمة المرقوق عند بيعه لم يصحّ شرطه.

27 -

(ومنها): أن من اشترط شرطًا فاسدًا لم يستحقّ العقوبة، إلا إن علم بتحريمه، وأصرّ عليه.

28 -

(ومنها): أن سيّد المكاتب لا يمنعه من السعي في تحصيل مال الكتابة، ولو كان حقّه في الخدمة ثابتًا.

29 -

(ومنها): أن المكاتب إذا أدّى نجومه من الصدقة لم يردّها السيّد، وإذا أدّى نجومه قبل حلولها كذلك.

30 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه أن المكاتب يَعتِق بتعجيل نجومه؛ أخذًا من قول موالي بريرة: "إن شاءت أن تحتسب عليك"، فإن ظاهره في قبول تعجيل ما اتفقوا على تأجيله، ومِنْ لازمه حصول العتق.

31 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه أيضًا أنّ من تبرّع عن المكاتب بما عليه عَتَقَ.

32 -

(ومنها): أنه استُدلّ به على عدم وجوب الوضع عن المكاتب؛ لقول عائشة رضي الله عنها: "أعدّها لهم عَدَّةً واحدةً"، ولم ينكر صلى الله عليه وسلم ذلك عليها.

وأجيب بجواز قصد دفعهم لها بعد القبض.

33 -

(ومنها): جواز إبطال الكتابة، وفسخ عقدها إذا تراضى السيّد والعبد، وإن كان فيه إبطال التحرير؛ لتقرير بريرة على السعي بين عائشة ومواليها في فسخ كتابتها؛ لتشتريها عائشة رضي الله عنها.

34 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه عدّةُ مسائل؛ كعتق السائبة، واللقيط، والحليف، ونحو ذلك، كثّرَ بها العددَ من تكلّم على حديث بريرة رضي الله عنها.

35 -

(ومنها): مشروعيّة الخطبة في الأمر المهمّ، والقيام فيها، وتقدمة الحمد والثناء، وقولِ:"أما بعد" عند ابتداء الكلام في الحاجة.

ص: 505

36 -

(ومنها): أن من وقع منه ما يُنكَر استُحبّ عدم تعيينه.

37 -

(ومنها): أن استعمال السجع في الكلام لا يُكره، إلا إذا قصد إليه، ووقع متكلّفًا.

38 -

(ومنها): جواز اليمين فيما لا تجب فيه، ولا سيّما عند العزم على فعل الشيء.

39 -

(ومنها): أن لغو اليمين لا كفّارة فيه؛ لأنّ عائشة رضي الله عنها حلفت أن لا تشترط، ثم قال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اشترطي لهم الولاء"، ولم يُنقل كفّارة على ذلك.

40 -

(ومنها): جواز مناجاة الاثنين بحضرة الثالث في الأمر يَستحيي منه المناجي، ويعلم أن من ناجاه يُعلم الثالث به، ويستثنى ذلك من النهي الوارد فيه.

41 -

(ومنها): جواز سؤال الثالث عن المناجاة المذكورة إذا ظنّ أن له تعلّقًا به، وجواز إظهار السرّ في ذلك، ولا سيّما إن كان فيه مصلحة للمناجي.

42 -

(ومنها): جواز المساومة في المعاملة، والتوكيل فيها، ولو للرقيق.

43 -

(ومنها): جواز استخدام الرقيق في الأمر الذي يتعلّق بمواليه، وإن لم يأذنوا في ذلك بخصوصه.

44 -

(ومنها): ثبوت الولاء للمرأة المعتقة، فيُستثنى من عموم:"الولاء لُحْمةٌ كلُحمة النسب"، فإن الولاء لا ينتقل إلى المرأة بالإرث، بخلاف النسب.

45 -

(ومنها): أن الكافر يرث ولاء عتيقه المسلم، وإن كان لا يرث قريبه المسلم.

46 -

(ومنها): أن الولاء لا يباع، ولا يوهب.

47 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه أن معنى قوله في الرواية الأخرى: "الولاء لمن أعطى الورِق" أن المراد بالمعطي المالك، لا من باشر الإعطاء مطلقًا، فلا يدخل الوكيل، ويؤيّده قوله في رواية الثوريّ عند أحمد:"لمن أعطى الورق، وولي النعمة".

48 -

(ومنها): ثبوت الخيار للأمة إذا أُعتِقت، على التفصيل الآتي، وأن خيارها يكون على الفور، وفيه خلاف بين العلماء سيأتي قريبًا - إن شاء الله تعالى -.

ص: 506

49 -

(ومنها): أن في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن وطئك فلا خيار لك" دلالةً على أن المرأة إذا وجدت بزوجها عيبًا، ثم مكّنته من الوطء، بطل خيارها.

50 -

(ومنها): أن الخيار فسخ لا يملك الزوج فيه رجعة، وتمسّك من قال: له الرجعة بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لو راجعته"، ولا حجّة فيه، وإلا لما كان لها اختيار، فتعيّن حمل المراجعة في الحديث على معناها اللغويّ، والمراد رجوعها إلى عصمته، ومنه قوله تعالى:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} [البقرة: 230]، مع أنها في المطلّق ثلاثًا.

51 -

(ومنها): أن فيه إبطالَ قول من زعم استحالة أن يحبّ أحد الشخصين الآخر، والآخر يبغضه؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ألا تعجب من حبّ مُغيث بريرة، ومن بغض بريرة مُغيثًا؟ " نعم يؤخذ منه أن ذلك هو الأكثر الأغلب، ومن ثمّ وقع التعجّب؛ لأنه على خلاف المعتاد، وجوّز الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: أن يكون ذلك مما ظهر من كثرة استمالة مغيث لها بأنواع من الاستمالات؛ كإظهاره حبّها، وتردّده خلفها، وبكائه عليها، مع ما ينضمّ إلى ذلك من استمالته لها بالقول الحسن، والوعد الجميل، والعادة في مثل ذلك أن يميل القلب، ولو كان نافرًا، فلما خالفت العادة وقع التعجّب، ولا يلزم منه ما قال الأولون.

52 -

(ومنها): أن المرء إذا خُيّر بين مباحين، فآثر ما ينفعه لم يُلَم، ولو أضرّ ذلك برفيقه.

53 -

(ومنها): أن فيه اعتبار الكفاءة في الحرّيّة.

54 -

(ومنها): أن فيه سقوط الكفاءة برضا المرأة التي لا وليّ لها.

55 -

(ومنها): أن من خيّر امرأته، فاختارت فراقه وقع، وانفسخ النكاح بينهما، وأنها لو اختارت البقاء معه لم ينقص عدد الطلاق، وكثّر بعض من تكلّم على حديث بريرة هنا في سرد تفاريع التخيير.

56 -

(ومنها): أن المرأة إذا ثبت لها الخيار، فقالت: لا حاجة لي به ترتّب على ذلك حكم الفراق، قال الحافظ: كذا قيل، وهو مبنيّ على أن ذلك وقع قبل اختيارها الفراقَ، ولم يقع إلا بهذا الكلام، وفيه من النظر ما تقدّم.

ص: 507

57 -

(ومنها): جواز دخول النساء الأجانب بيت الرجل، سواء كان فيه، أم لا.

58 -

(ومنها): أن المكاتبة لا يلحقها في العتق ولدها، ولا زوجها.

59 -

(ومنها): تحريم الصدقة على النبيّ صلى الله عليه وسلم مطلقًا، وجواز التطوّع منها على ما يلحق به في تحريم صدقة الفرض، كأزواجه، ومواليه، وأن موالي أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم لا تحرم عليهنّ الصدقة، وإن حرمت على الأزواج.

60 -

(ومنها): جواز أكل الغنيّ ما تصدّق به على الفقير إذا أهداه له، وبالبيع أولى.

61 -

(ومنها): جواز قبول الغنيّ هديّة الفقير.

62 -

(ومنها): الفرق بين الصدقة والهديّة في الحكم.

63 -

(ومنها): نصح أهل الرجل له في الأمور كلها.

64 -

(ومنها): جواز أكل الإنسان من طعام من يُسَرُّ بأكله منه، ولو لم يأذن له فيه بخصوصه.

65 -

(ومنها): أن الأمة إذا أُعتقت جاز لها التصرّف بنفسها في أمورها، ولا حجر لمعتِقِها عليها، إذا كانت رشيدة، وأنها تتصرّف في كسبها، دون إذن زوجها، وإن كان لها زوج.

66 -

(ومنها): جواز الصدقة على من يمونه غيره؛ لأن عائشة رضي الله عنها كانت تمون بريرة، ولم يُنكَر عليها قبولها الصدقة.

67 -

(ومنها): أن من أُهدي لأهله شيء له أن يُشرك نفسه معهم في الإخبار عن ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وهو لنا هديّة".

68 -

(ومنها): أن من حرمت عليه الصدقة جاز له أكل عينها إذا تغيّر حكمها.

69 -

(ومنها): أنه يجوز للمرأة أن تُدخِل إلى بيت زوجها ما لا يملكه بغير علمه، وأن تتصرّف في بيته بالطبخ وغيره بآلاته، ووقوده.

70 -

(ومنها): جواز أكل المرء ما يجده في بيته إذا غلب الحلّ في العادة، وأنه ينبغي تعريفه بما يخشى توقّفه عنه.

ص: 508

71 -

(ومنها): استحباب السؤال عما يستفاد به علم، أو أدب، أو بيان حكم، أو رفع شبهة، وقد يَجِب.

72 -

(ومنها): سؤال الرجل عما لم يعهده في بيته.

73 -

(ومنها): أن هديّة الأدنى للأعلى لا تستلزم الإثابة مطلقًا.

74 -

(ومنها): أن قبول الهديّة، وإن نزر قَدْرها جبرٌ للمهدي.

75 -

(ومنها): أن الهديّة تُملك بوضعها في بيت المهدى له، ولا يحتاج إلى التصريح بالقبول.

76 -

(ومنها): أن من تُصُدّق عليه بصدقة له أن يتصرّف فيها بما شاء، ولا ينقص أجر المتصدّق.

77 -

(ومنها): أنه لا يجب السؤال عن أصل المال الواصل إذا لم يكن فيه شبهة، ولا عن الذبيحة إذا ذُبحت بين المسلمين.

78 -

(ومنها): أن من تُصُدّق عليه بقليل لا يتسخّطه.

79 -

(ومنها): أن فيه مشاورة المرأة زوجها في التصرّفات.

80 -

(ومنها): سؤال العالم عن الأمور الدينيّة.

81 -

(ومنها): إعلام العالم بالحكم لمن رآه يتعاطى أسبابه، ولو لم يسأل.

82 -

(ومنها): مشاورة المرأة إذا ثبت لها التخيير في فراق زوجها، أو الإقامة عنده، وعلى الذي يشاوَرُ بذل النصيحة.

83 -

(ومنها): جواز مخالفة المشير فيما يُشير به في غير الواجب.

84 -

(ومنها): استحباب شفاعة الحاكم في الرفق بالخصم، حيث لا ضرر، ولا إلزام، ولا لوم على من خالف، ولا غَضَبَ، ولو عظم قدر الشافع، وترجم عليه النسائيّ في "كتاب آداب القضاء" - 28/ 5444 - :"شفاعة الحاكم للخصوم قبل فصل الحكم"، ولا يجب على المشفوع عنده القبول.

85 -

(ومنها): يؤخذ منه أن التصميم في الشفاعة لا يسوغ فيما تشقّ الإجابة فيه على المسؤول، بل يكون على وجه العرض والترغيب.

86 -

(ومنها): جواز الشفاعة قبل أن يسألها المشفوع له؛ لأنه لم يُنقل أن مُغيثًا سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يشفع له. قال الحافظ: كذا قيل، وقد قدّمت أن في

ص: 509

بعض الطرق أن العبّاس هو الذي سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك، فَيَحْتَمِل أن يكون مغيث سأل العبّاس في ذلك، ويحتمل أن يكون العبّاس ابتدأ ذلك من قِبَل نفسه؛ شفقةً منه على مغيث.

87 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه استحباب إدخال السرور على قلب المؤمن.

88 -

(ومنها): أن الشافع يؤجر، ولو لم تحصل إجابته.

89 -

(ومنها): أن المشفوع عنده إذا كان دون قدر الشافع لم تمتنع الشفاعة.

90 -

(ومنها): تنبيه الصاحب صاحبه على الاعتبار بآيات الله، وأحكامه؛ لتعجيب النبيّ صلى الله عليه وسلم العبّاسَ من حبّ مغيث بريرة.

91 -

(ومنها): أن نظر النبيّ صلى الله عليه وسلم كان كله بحضور وفكر.

92 -

(ومنها): أن كلّ ما خالف العادة يُتعجّب منه، ويُعتبر به.

93 -

(ومنها): حسن أدب بريرة؛ لأنها لم تُفصح بردّ الشفاعة، وإنما قالت:"لا حاجة لي فيه".

94 -

(ومنها): أن فرط الحبّ يُذهب الحياء؛ لما ذُكر من حال مغيث، وغلبة الوجد عليه، حتى لم يستطع كتمان حبّها، وفي ترك النكير عليه بيان جواز قبول عذر من كان في مثل حاله، ممن يقع منه ما لا يليق بمنصبه، إذا وقع بغير اختياره، ويستنبط من هذا معذرة أهل المحبّة في الله إذا حصل لهم الوجد من سماع ما يفهمون منه الإشارة إلى أحوالهم حيث يظهر منهم ما لا يصدر عن اختيار من الرقص، ونحوه، قاله الحافظ.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في هذا الاستنباط نظر لا يخفى.

95 -

(ومنها): استحباب الإصلاح بين المتنافرين، سواء كانا زوجين، أم لا، وتأكيد الحرمة بين الزوجين إذا كان بينهما ولدٌ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"إنه أبو ولدك".

96 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه أن الشافع يذكر للمشفوع عنده ما يبعث على قبوله من مقتضى الشفاعة، والحامل عليها.

97 -

(ومنها): جواز شراء الأمة دون ولدها، وأن الولد يثبت بالفراش، والحكم بظاهر الأمر في ذلك، قال الحافظ: ولم أقف على تسمية أحدٍ من

ص: 510

أولاد بريرة، والكلام مُحْتَمِل لأن يريد به أنه ولدها بالقوّة، لكنه خلاف الظاهر.

98 -

(ومنها): أن فيه جواز نسبة الولد إلى أمه.

99 -

(ومنها): أن المرأة الثيّب لا إجبار عليها، ولو كانت معتقة.

100 -

(ومنها): جواز خِطبة الكبير والشريف لمن هو دونه.

101 -

(ومنها): حسن الأدب في المخاطبة حتى من الأعلى مع الأدنى، وحسن التلطّف في الشفاعة.

102 -

(ومنها): أن للعبد أن يخطب مطلّقته بغير إذن سيّده.

103 -

(ومنها): أن خطبة المعتدّة لا تحرم على الأجنبيّ، إذا خطبها لمطلّقها.

104 -

(ومنها): أن فسخ النكاح لا رجعة فيه إلا بنكاح جديد.

105 -

(ومنها): أن الحبّ والبغض بين الزوجين لا لوم فيه على واحد منهما؛ لأنه بغير اختيار.

106 -

(ومنها): جواز بكاء المحبّ على فراق حبيبه، وعلى ما يفوته من الأمور الدنيويّة، ومن الدينيّة بطريق الأولى.

107 -

(ومنها): أنه لا عار على الرجل في إظهار حبّه لزوجته.

108 -

(ومنها): أن المرأة إذا أبغضت زوجها لم يكن لوليّها إكراهها على عشرته، وإذا أحبّته لم يكن لوليّها التفريق بينهما.

109 -

(ومنها): جواز ميل الرجل إلى امرأة يطمع في تزويجها، أو رجعتها.

110 -

(ومنها): جواز كلام الرجل لمطلّقته في الطرق، واستعطافه لها، واتباعها أين سلكت كذلك، ولا يخفى أن محلّ الجواز عند أمن الفتنة.

111 -

(ومنها): جواز الإخبار عما يظهر من حال المرء، وإن لم يُفصح به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للعبّاس ما قال.

112 -

(ومنها): جواز ردّ الشافع المنّة على المشفوع إليه بقبول شفاعته؛ لأن قول بريرة للنبيّ صلى الله عليه وسلم: "أتأمرني؟ " ظاهر في أنه لو قال: نعم لقبلت شفاعته، فلما قال:"لا" عُلم أنه ردّ عليها ما فَهِم من المنّة في امتثال الأمر. كذا قيل،

ص: 511

وهو مُتكَلَّف، بل يؤخذ منه أن بريرة علمت أن أمره واجب الامتثال، فلما عرض عليها ما عَرَضَ استفصلت، هل هو أمرٌ، فيجب عليها امتثاله، أو مشورةٌ، فتتخيّر فيها؟

113 -

(ومنها): أن كلام الحاكم بين الخصوم في مشورة وشفاعة، ونحوهما ليس حكمًا.

114 -

(ومنها): أنه يجوز لمن سُئل قضاء حاجة أن يشترط على الطالب ما يعود عليه نفعه؛ لأن عائشة رضي الله عنها شرطت أن يكون لها الولاء، إذا أدّت الثمن دفعة واحدة.

115 -

(ومنها): جواز أداء الدين عن المدين، وأنه يبرأ بأداء غيره عنه.

116 -

(ومنها): جواز إفتاء الرجل زوجته فيما لها فيه حظّ وغرضٌ، إذا كان حقًّا، وحكم الحاكم لزوجته بالحقّ.

117 -

(ومنها): جواز قول مشتري الرقيق: أشتريه لأعتقه ترغيبًا للبائع في تسهيل البيع.

118 -

(ومنها): جواز المعاملة بالدراهم والدنانير عددًا، إذا كان قدرها بالكتابة معلومًا؛ لقولها:"أعُدّها"، ولقولها:"تسع أواق".

119 -

(ومنها): جواز بيع المعاطاة.

120 -

(ومنها): جواز عقد البيع بالكتابة؛ لقوله: "خذيها"، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في حديث الهجرة:"قد أخذتها بالثمن".

121 -

(ومنها): أن حقّ الله مقدّمٌ على حقّ الآدميّ؛ لقوله: "شرط الله أحقّ، وأوثق"، ومثله الحديث الآخر:"دَين الله أحقّ أن يُقضى".

122 -

(ومنها): جواز الاشتراك في الرقيق؛ لتكرّر ذِكْر أهل بريرة في الحديث، وفي رواية:"كانت لناس من الأنصار"، ويحتمل مع ذلك الوحدة، وإطلاق ما في الخبر على المجاز.

123 -

(ومنها): أن الأيدي ظاهرةٌ في الملك، وأن مشتري السلعة لا يَسأل عن أصلها، إذا لم تكن رِيبة.

124 -

(ومنها): استحباب إظهار أحكام العقد للعالم بها، إذا كان العاقد يجهلها.

ص: 512

125 -

(ومنها): أن حكم الحاكم لا يُغيّر الحكم الشرعيّ، فلا يُحلّ حرامًا، ولا يُحرّم حلالًا.

126 -

(ومنها): قبول خبر الواحد الثقة، ذكرًا كان، أو أنثى، حرًّا كان، أو عبدًا.

127 -

(ومنها): أن البيان بالفعل أقوى من القول.

128 -

(ومنها): جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة، والمبادرة إليه عند الحاجة.

129 -

(ومنها): أن الحاجة إذا اقتضت بيان حكم عامّ وجب إعلانه، أو نُدب بحسب الحال.

130 -

(ومنها): جواز الرواية بالمعنى، والاختصار من الحديث، والاقتصار على بعضه بحسب الحاجة؛ فإن الواقعة واحدةٌ، وقد رويت بألفاظ مختلفة، وزاد بعض الرواة ما لم يذكره الآخرون، ولم يقدح ذلك في صحّة الحديث عند أحد من العلماء.

131 -

(ومنها): أن العدّة بالنساء؛ لِمَا تقدّم من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما أنها أُمرت أن تعتدّ عدّة الحرّة، ولو كان بالرجال لأمرت أن تعتدّ بعدّة الإماء.

132 -

(ومنها): أن عدّة الأمة إذا أُعتقت تحت عبد، فاختارت نفسها ثلاثة قروء، وأما ما وقع في بعض طرقه:"تعتدّ بحيضة" فهو مرجوحٌ. ويحتمل أن أصله: "تعتدّ بحيض"، فيكون المراد: جنس ما تستبرئ به رحمها، لا الوحدة.

133 -

(ومنها): أن فيه تسمية الأحكام سننًا، وإن كان بعضها واجبًا، وأن تسمية ما دون الواجب سنّةً اصطلاحٌ حادثٌ.

134 -

(ومنها): جواز جبر السيّد أمته على تزويج من لا تختاره، إما لسوء خَلْقِه، أو خُلُقه، وهي بالضدّ من ذلك، فقد قيل: إن بريرة كانت جميلة، غير سوداء، بخلاف زوجها، وقد زُوّجت منه، وظهر عدم اختيارها لذلك بعد عتقها.

135 -

(ومنها): أن أحد الزوجين قد يُبغض الآخر، ولا يظهر له ذلك،

ص: 513

ويَحْتَمِل أن بريرة مع بغضها مُغيثًا، كانت تصبر على حكم الله عليها في ذلك، ولا تُعامله بما يقتضيه البغض إلى أن فرّج الله عنها.

136 -

(ومنها): أن فيه تنبيهَ صاحب الحقّ على ما وجب له إذا جهله.

137 -

(ومنها): استقلال المكاتب بتعجيز نفسه.

138 -

(ومنها): جواز إطلاق الأهل على السادة، وإطلاق العبيد على الأرقاء.

139 -

(ومنها): جواز تسمية العبد مُغيثًا.

140 -

(ومنها): أن مال الكتابة لا حدّ لأكثره.

141 -

(ومنها): جواز قبول المعتق الهديّةَ من معتَقه، ولا يقدح ذلك في ثواب العتق.

142 -

(ومنها): جواز الهديّة لأهل الرجل بغير استئذانه، وقبول المرأة ذلك، حيث لا ريبة.

143 -

(ومنها): سؤال الرجل عمّا لم يعهده في بيته، ولا يرِدُ على هذا ما في قصّة أمّ زرع، حيث وقع في سياق المدح:"ولا يسأل عما عهد"؛ لأن معناه: ولا يسأل عن شيء عهده، وفات، فلا يقول لأهله: أين ذهب؟ وهنا لم يسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن شيء رآه، وعاينه، ثم أُحضر له غيره، فسأل عن سبب ذلك؛ لأنه يعلم أنهم لا يتركون إحضاره له شُحًّا عليه، بل لتوهّم تحريمه، فأراد أن يبيّن لهم الجواز.

وقال ابن دقيق العيد: فيه دلالة على تبسّط الإنسان في السؤال عن أحوال منزله، وما عهده فيه قبلُ، والأول أظهر، قال الحافظ: وعندي أنه مبنيّ على خلاف ما انبنى عليه الأول؛ لأن الأول بُني على أنه علم حقيقة الأمر في اللحم، وأنه مما تُصُدّق به على بريرة، والثاني بُني على أنه لم يتحقّق من أين هو؟ فجائز أن يكون مما أُهدي لأهل بيته من بعض أقاربها مثلًا، ولم يتعيّن الأول.

144 -

(ومنها): ما قيل: إنه لا يجب السؤال عن أصل المال الواصل إليه، إذا لم يظنّ تحريمه، أو تظهر فيه شبهة، إذ لم يسأل صلى الله عليه وسلم عمن تصدّق على بريرة، ولا عن حاله.

ص: 514

وتُعُقّب بأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي أرسل إلى بريرة بالصدقة، فلم يتمّ هذا

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في خيار الأمة إذا أُعتقت:

قال العلّامة ابن قُدامة رحمه الله: أجمع أهل العلم على أن الأمة إذا أُعتقت، وزوجها عبدٌ، فلها الخيار في فسخ النكاح، ذكره ابن المنذر، وابن عبد البرّ، وغيرهما، والأصل فيه خبر بَريرة رضي الله عنها، قالت عائشة رضي الله عنها:"كاتبت بريرة، فخيّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجها، وكان عبدًا، فاختارت نفسها"، قال عروة: ولو كان حرًّا ما خيّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه مالكٌ في "الموطّأ"، وأبو داود، والنسائيّ، ولأن عليها ضَررًا في كونها تحت عبدٍ، فكان لها الخيار، كما لو تزوّج حرّةً على أنه حرّ، فبان عبدًا، فإن اختارت الفسخ، فلها فراقه، وإن رضيت الْمُقامَ معه لم يكن لها فراقه بعد ذلك؛ لأنها أسقطت حقّها، وهذا مما لا خلاف فيه بحمد الله تعالى.

قال: وإن أُعتقت تحت حرّ، فلا خيار لها، وهذا قول ابن عمر، وابن عبّاس، وسعيد بن المسيّب، والحسن، وعطاء، وسليمان بن يسار، وأبي قلابة، وابن أبي ليلى، ومالك، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وإسحاق.

وقال طاوس، وابن سيرين، ومجاهد، والنخعيّ، وحمّاد بن أبي سليمان، والثوريُّ، وأصحاب الرأي: لها الخيار؛ لِمَا روى الأسود، عن عائشة رضي الله عنها: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خيّر بريرة، وكان زوجها حرًّا، رواه النسائيّ، ولأنها كملت بالحرّية، فكان لها الخيار، كما لو كان زوجها عبدًا.

قال: ولنا أنها كافأت زوجها في الكمال، فلم يثبت لها الخيار، كما لو أسلمت الكتابيّة تحت مسلم، فأما خبر الأسود، عن عائشة، فقد روى عنها القاسم بن محمد، وعروة أن زوج بريرة كان عبدًا، وهما أخصّ بها من الأسود؛ لأنهما ابن أخيها، وابن أختها، وقد روى الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة أن زوج بريرة كان عبدًا، فتعارضت روايتاه، وقال ابن

(1)

ذكر هذه الفوائد في "الفتح" في موضع واحد في "كتاب الطلاق" 12/ 111 - 119 رقم (5284).

ص: 515

عبّاس: كان زوج بريرة عبدًا أسود لبني المغيرة، يقال له: مغيث، رواه البخاريّ وغيره، وقالت صفيّة بنت عبيد: كان زوج بريرة عبدًا أسود، وقال أحمد: هذا ابن عبّاس، وعائشة قالا في زوج بريرة: إنه عبدٌ، رواية علماء المدينة، وعَمَلهم، وإذا روى أهل المدينة حديثًا، وعملوا به، فهو أصحّ شيء، وإنما يصحّ أنه حرّ عن الأسود وحده، فأما غيره فليس بذاك، قال: والعقد صحيح، فلا يُفسخ بالمختلف فيه، والحرّ فيه اختلاف، والعبد لا اختلاف فيه، ويُخالف الحرّ العبدَ؛ لأن العبد نقصٌ، فإذا كملت تحته تضرّرت ببقائها عنده، بخلاف الحرّ. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله.

وقال في "الفتح" عند شرح قول البخاري رحمه الله: "باب خيار الأمة تحت العبد": اقتضت الترجمة بطريق المفهوم أن الأمة إذا كانت تحت حرّ، فعَتَقت لم يكن لها خيار، وقد اختلف العلماء في ذلك، فذهب الجمهور إلى ذلك، وذهب الكوفيون إلى إثبات الخيار لمن عَتَقت، سواءٌ كانت تحت حرّ أم عبد، وتمسكوا بحديث الأسود بن يزيد، عن عائشة أن زوج بريرة كان حرًّا، وقد اختُلِف فيه على راويه، هل هو من قول الأسود، أو رواه عن عائشة، أو هو قول غيره؟

قال إبراهيم بن أبي طالب أحد حفاظ الحديث، وهو من أقران مسلم، فيما أخرجه البيهقيّ عنه: خالف الأسودُ الناسَ في زوج بريرة.

وقال الإمام أحمد: إنما يصحّ أنه كان حرًّا عن الأسود وحده، وما جاء عن غيره فليس بذاك، وصحّ عن ابن عباس وغيره أنه كان عبدًا، ورواه علماء المدينة، وإذا رَوَى علماء المدينة شيئًا، وعملوا به، فهو أصح شيء، وإذا عَتَقَت الأمة تحت الحرّ، فعقدها المتفق على صحته لا يفسخ بأمر مختلَفٍ فيه. انتهى.

وحاول بعض الحنفيّة ترجيح رواية من قال: كان حرًّا على رواية من قال: كان عبدًا، فقال: الرقّ تعقبه الحرّيّة بلا عكس، وهو كما قال، لكن محل طريق الجمع إذا تساوت الروايات في القوّة، أما مع التفرّد في مقابلة الاجتماع، فتكون الرواية المنفردة شاذّةً، والشاذّ مردود، ولهذا لم يَعتبر الجمهور طريق الجمع بين الروايتين، مع قولهم: إنه لا يُصار إلى الترجيح مع

ص: 516

إمكان الجمع، والذي يتحصّل من كلام محقّقيهم، وقد أكثر منه الشافعيّ، ومن تبعه أن محلّ الجمع إذا لم يظهر الغلط في إحدى الروايتين، ومنهم من شرط التساوي في القوّة.

قال ابن بطّال: أجمع العلماء أن الأمة إذا عَتَقَت تحت عبد فإن لها الخيار، والمعنى فيه ظاهرٌ؛ لأن العبد غير مكافئ للحرّة في أكثر الأحكام، فماذا عَتَقت ثبت لها الخيار من البقاء في عصمته، أو المفارقة؛ لأنها في وقت العقد عليها لم تكن من أهل الاختيار، واحتجّ من قال: إن لها الخيار، ولو كانت تحت حرّ بأنها عند التزويج لم يكن لها رأيٌ؛ لاتفاقهم على أن لمولاها أن يزوّجها بغير رضاها، فماذا عتقت تجدّد لها حالٌ لم يكن لها قبل ذلك.

وعارضهم الآخرون بأن ذلك لو كان مؤثّرًا لثبت الخيار للبكر إذا زوّجها أبوها، ثم بلغت رشيدة، وليس كذلك، فكذلك الأمة تحت الحرّ، فإنه لم يحدُث لها بالعتق حالٌ ترتفع به عن الحرّ، فكانت كالكتابيّة تُسلم تحت المسلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر من الأدلّة أن الأرجح القول الأول، وهو أن خيار الأمة إذا أُعتقت إنما هو إذا كانت تحت عبد، لا تحت حرّ؛ قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه":"باب خيار الأمة تحت العبد"، ثم أورد حديث عائشة رحمه الله في قصّة بريرة رضي الله عنهما، قال في "الفتح": قوله: "باب خيار الأمة تحت العبد": يعني إذا عَتقت، وهذا مصير من البخاريّ إلى ترجيح قول من قال: إن زوج بريرة كان عبدًا، وقد ترجم في أوائل "النكاح" بحديث عائشة في قصّة بريرة:"باب الحرة تحت العبد"، وهو جزم منه أيضًا بأنه كان عبدًا. انتهى

(2)

.

والحاصل أن الصحيح أن الخيار إنما يثبت للأمة المعتقة إذا كان زوجها عبدًا، لا حرًّا؛ لأن الراجح أن زوج بريرة كان عبدًا، لا حرًّا، ورواية الأسود أنه كان حرًّا شاذّة، لا تعارض رواية الجماعة، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"الفتح" 12/ 104 - 105.

(2)

"الفتح" 12/ 104، رقم (5280).

ص: 517

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم هل الخيار فسخٌ، أم طلاقٌ؟

قال ابن قُدامة رحمه الله: وفرقة الخيار فسخٌ، لا ينقص بها عدد الطلاق، نصّ عليه أحمد، ولا أعلم فيه خلافًا، قيل لأحمد: لم لا يكون طلاقًا؟ قال: لأن الطلاق ما تَكلّم به الرجل؛ ولأن الفرقة لاختيار المرأة، فكانت فسخًا؛ كالفسخ لعُنّته، أو عَتَهِهِ. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: ولا أعلم فيه خلافًا، فيه نظر، فإن الخلاف ثابت، قال في "الفتح": واختُلف في التي تختار الفراق، هل يكون ذلك طلاقًا، أو فسخًا؟ فقال مالكٌ، والأوزاعيّ، والليث: تكون طلقة بائنة، وثبت مثله عن الحسن، وابن سيرين. أخرجه ابن أبي شيبة. وقال الباقون: يكون فسخًا، لا طلاقًا. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن الأرجح القول بأنه فسخٌ؛ لظهور معنى الفسخ فيه أكثر من ظهور معنى الطلاق، حيث إنه ليس فيه كلام للزوج، وأنه من قبل المرأة، فيترجّح كونه فسخًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في وقت خيار الأمة:

قال ابن قُدامة رحمه الله: خيار المعتقة على التراخي، ما لو يوجد أحد أمرين: عتق زوجها، أو وطؤه لها، وممن قال: إنه على التراخي مالكٌ، والأوزاعيّ، وروي ذلك عن عبد الله بن عمر، وأخته حفصة، وبه قال سليمان بن يسار، ونافعٌ، والزهريّ، وقتادة، وحكاه بعض أهل العلم عن الفقهاء السبعة.

وقال أبو حنيفة، وسائر العراقيين: لها الخيار في مجلس العلم، وللشافعيّ ثلاثة أقوال: أظهرها كقولنا، والثاني: أنه على الفور، كخيار الشفعة، والثالث: أنه إلى ثلاثة أيام.

ولنا ما روى الإمام أحمد في "المسند" بإسناده عن الحسن بن عمرو بن أميّة، قال: سمعت رجالًا يتحدّثون عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أعتقت الأمة،

(1)

"المغني" 10/ 70.

(2)

"الفتح" 12/ 105.

ص: 518

فهي بالخيار، ما لم يطأها، إن شاءت فارقته، وإن وطئها فلا خيار لها"

(1)

، ورواه الأثرم أيضًا، وروى أبو داود أن بريرة عتقت، وهي عند مغيث، عبد لآل أحمد، فخيّرها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال لها:"إن قربك فلا خيار لك"

(2)

، ولأنه قول من سمّينا من الصحابة، ولا مخالف لهم في عصرهم، قال ابن عبد البرّ: لا أعلم لابن عمر، وحفصة مخالفًا من الصحابة، ولأن الحاجة داعية إلى ذلك فثبت، كخيار القصاص، أو خيارٍ لدفع ضرر متحقّق، فأشبه ما قلناه. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه الإمام أحمد، ومن معه من أن تخيير الأمة على التراخي أرجح؛ لإطلاق تخيير الشارع لبريرة رضي الله عنها، دون أن يقيّده بوقت دون وقت، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): في بيان اختلاف الروايات في كون زوج بريرة حرًّا أو عبدًا: قال في "التلخيص الحبير": حديث: "أن بريرة أُعتقت، فخيّرها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فاختارت نفسها، ولو كان حرًّا لم يُخيّرها"، رواه النسائيّ، وابن حبّان، والطحاويّ، وابن حزم من حديث عائشة رضي الله عنها بهذا، قال الطحاويّ: يَحْتَمِل أن يكون من كلام عروة، قال الحافظ: وقع التصريح بذلك في النسائي، وقال ابن حزم: يَحتَمِل أن يكون من كلام عائشة، أو من دونها، والتخيير ثابتٌ في "الصحيحين" من حديث عائشة أيضًا من طرق، وفي "الطبقات" لابن سعد، عن عبد الوهّاب بن عطاء، عن داود بن أبي هند، عن عامر الشعبيّ: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لبريرة لَمّا عَتَقَت: "وقد عتق بضعك معك، فاختاري"، وهذا مرسل، ووصله الدارقطنيّ من طريق أبان بن صالح، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها.

ورُوي كون زوجها عبدًا من حديث عائشة، وابن عمر، وابن عبّاس رضي الله عنهم.

(1)

رواه أحمد في "المسند" برقم (22697)، وفي إسناده ابن لهيعة.

(2)

ضعيف؛ لأن في سنده محمد بن إسحاق، مدلّس، وقد رواه بالعنعنة.

(3)

"المغني" 10/ 71.

ص: 519

أما رواية عائشة، فرواها مسلم من حديث عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عنها، وعنده، وعند النسائيّ من طريق يزيد بن رُومان، عن عروة، عنها:"كان زوج بريرة عبدًا"، وقد اختُلف فيه على عائشة، فروى الأسود بن يزيد، عنها أنه كان حرًّا، قال إبراهيم بن أبي طالب: خالف الأسودُ الناسَ، وقال البخاريّ: هو من قول الحكم، وقول ابن عباس: إنه كان عبدًا أصحّ، وقال البيهقيّ: روينا عن القاسم، وعروة، ومجاهد، وعمرة، كلهم عن عائشة أنه كان عبدًا، وروى شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم أنه قال: ما أدري أحرّ، أم عبدٌ؟ ورواه البيهقيّ عن سماك، عن عبد الرحمن بن القاسم، فقال: كان عبدًا، وكذا رواه أسامة بن زيد، عن القاسم، عن عائشة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لها: "إن شئت أن تثوي تحت العبد"، قال المنذريّ: رُوي عن الأسود أنه قال: كان عبدًا، فاختُلف فيه عليه، مع أن بعضهم يقول: قوله: كان حرًّا من قول إبراهيم، وقيل: من قول الحكم.

وأما رواية ابن عمر رضي الله عنهما، فرواها الدارقطنيّ، والبيهقيّ، من حديث نافع، عن ابن عمر، قال: كان زوج بريرة عبدًا، وفي إسناده ابن أبي ليلى، وقد رواه البيهقيّ من رواية نافع، عن صفيّة بنت أبي عُبيد، وإسناده أصحّ، وهو في النسائيّ أيضًا.

وأما رواية ابن عبّاس رضي الله عنهما، فرواها البخاريّ من رواية القاسم بن محمد، عنه: "أن زوج بريرة كان عبدًا، يقال له: مُغيث، كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي

" الحديث. ورواه أحمد، وأبو داود، والترمذيّ، والطبرانيّ، وفي رواية للترمذيّ: "أن زوج بريرة كان عبدًا أسود لبني المغيرة يوم أُعتقت". انتهى ما في "التلخيص" ببعض تصرّف

(1)

.

وقال في "الفتح" بعد أن ذكر أن البخاريّ أورده في "الفرائض" عن حفص بن عمر، عن شعبة، وزاد في آخره: قال الحكم: "وكان زوجها حرًّا"، ثم أورده بعده من طريق منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، ثم قال: قال الأسود: وكان زوجها حرًّا، قال البخاريّ: قول الأسود منقطع،

(1)

"التلخيص الحبير" 3/ 363 - 365، تحقيق أبي عاصم حسن عباس قطب.

ص: 520

وقول ابن عباس: "رأيته عبدًا" أصحّ، وقال في الذي قبله: في قول الحكم نحو ذلك.

ثم قال: فظهر أن هذه الزيادة مدرجة، قال: وقد قال الدارقطنيّ في "العلل": لم يُختلف على عروة، عن عائشة أنه كان عبدًا، وكذا قال جعفر بن محمد بن عليّ، عن أبيه، عن عائشة، وأبو الأسود، وأسامة بن زيد، عن القاسم.

قال الحافظ: وقع لبعض الرواة فيه غلطٌ، فأخرج قاسم بن أصبغ في "مصنّفه"، وابن حزم من طريقه، قال: أنبأنا أحمد بن يزيد المعلّم، حدّثنا موسى بن معاوية، عن جرير، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة:"كان زوج بريرة حرًّا". وهذا وَهَمٌ من موسى، أو من أحمد، فإن الحفّاظ من أصحاب هشام، ومن أصحاب جرير، قالوا:"كان عبدًا"، منهم إسحاق ابن راهويه، وحديثه عند النسائيّ، وعثمان بن أبي شيبة، وحديثه عند أبي داود، وعليّ بن حُجْر، وحديثه عند الترمذيّ، وأصله عند مسلم، وأحال به على رواية أبي أسامة، عن هشام، وفيه: أنه كان عبدًا.

قال الدارقطنيّ: وكذا قال أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه.

قال الحافظ: ورواه شعبة، عن عبد الرحمن، فقال: كان حرًّا، ثم رجع عبد الرحمن، فقال: ما أدري.

قال الدارقطنيّ: وقال عمران بن حُدير، عن عكرمة، عن عائشة: كان حرًّا، وهو وَهَمٌ. قال الحافظ: وهِمَ في شيئين: في قوله: "حرًّا"، وفي قوله:"عائشة"، وإنما هو من رواية عكرمة، عن ابن عبّاس، ولم يُختلف على ابن عبّاس في أنه كان عبدًا، وكذا جزم به الترمذيّ عن ابن عمر، وحديثه عند الشافعيّ، والدارقطنيّ، وغيرهما، وكذا أخرجه النسائيّ - أي: في "الكبرى" - من حديث صفيّة بنت أبي عُبيد، قالت: كان زوج بريرة عبدًا، وسنده صحيح.

وقال النوويّ: يؤيّد قول من قال: إنه كان عبدًا قولُ عائشة: "كان عبدًا، ولو كان حرًّا لم يُخيّرها"، فأخبرت وهي صاحبة القصّة بأنه كان عبدًا، ثم علّلت بقولها:"ولو كان حرًّا لم يُخيّرها"، ومثلُ هذا لا يكاد أحد يقوله إلا توقيفًا.

ص: 521

وتُعُقّب بأن هذه الزيادة في رواية جرير، عن هشام بن عروة في آخر الحديث، وهي مدرجة من قول عروة، بُيِّنَ ذلك في رواية مالك، وأبي داود، والنسائيّ. نعم وقع في رواية أسامة بن زيد، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، قالت: "كانت بريرة مكاتبة لأناس من الأنصار، وكانت تحت عبد

" الحديث، أخرجه أحمد، وابن ماجه، والبيهقيّ. وأسامة فيه مقال.

وأما دعوى أن ذلك لا يُقال إلا بتوقيف، فمردودة، فإن للاجتهاد فيه مجالًا.

قال الدارقطنيّ: وقال إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة: كان حرًّا، قال الحافظ: وأصرح ما رأيته في ذلك رواية أبي معاوية: حدّثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: "كان زوج بريرة حرًّا، فلما أُعتقت خُيّرت

" الحديث، أخرجه أحمد عنه. وأخرج ابن أبي شيبة، عن إدريس، عن الأسود، عن عائشة، قالت: كان زوج بريرة حرًّا، ومن وجه آخر عن النخعيّ، عن الأسود؛ أن عائشة حدّثته "أن زوج بريرة كان حرًّا حين أُعتقت".

فدلّت الروايات المفصّلة التي قدّمتها آنفًا على أنه مدرجٌ من قول الأسود، أو من دونه، فيكون من أمثلة ما أُدرج في أول الخبر، وهو نادرٌ، فإن الأكثر أن يكون في آخره، ودونه أن يقع في وسطه، وعلى تقدير أن يكون موصولًا، فترجّح رواية من قال: كان عبدًا بالكثرة، وأيضًا آل المرء أعرف بحديثه، فإن القاسم ابن أخي عائشة، وعروة ابن أختها، وتابعهما غيرهما، فروايتهما أولى من رواية الأسود، فإنهما أقعد بعائشة، وأعلم بحديثها. ويترجّح أيضًا بأن عائشة كانت تذهب إلى أن الأمة إذا عتقت تحت الحرّ، لا خيار لها، وهذا بخلاف ما روى العراقيّون عنها، فكان يلزم على أصل مذهبهم أن يأخذوا بقولها، ويدعوا ما روي عنها، لا سيّما، وقد اختلف عنها فيه.

وادّعى بعضهم أنه يمكن الجمع بين الروايتين بحمل قول من قال: كان عبدًا على اعتبار ما كان عليه، ثم أعتق، فلذلك قال من قال: كان حرًّا.

ويردّ هذا الجمع ما تقدّم من قول عروة: كان عبدًا، ولو كان حرًّا لم تُخيَّر.

وأخرجه الترمذيّ بلفظ: "أن زوج بريرة كان عبدًا أسود يوم أُعتقت"،

ص: 522

فهذا يعارض الرواية المتقدّمة عن الأسود، ويعارض الاحتمال المذكور احتمالُ أن يكون من قال: كان حرًّا، أراد ما آل إليه أمره، وإذا تعارضا إسنادًا، واحتمالًا احتيج إلى الترجيح، ورواية الأكثر يرجّح بها، وكذلك الأحفظ، وكذلك الألزم، وكلّ ذلك موجودٌ في جانب من قال:"كان عبدًا". انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: فتبيّن بما تقدّم أن الرواية الراجحة هي رواية الأكثرين: "كان زوج بريرة عبدًا"، وبه يتبيّن أنه لا خيار للمعتقة إلا إذا كان زوجها عبدًا، كما تقدّم تحقيقه، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3773]

(

) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْب، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْر، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهَا قَالَتْ: جَاءَتْ بَرِيرَةُ إِليَّ، فَقَالَتْ: يَا. عَائِشَةُ إِنَي كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ، فِي كُلِّ عَام أُوقية، بِمَعْنَى حَدِيثِ اللَّيْث، وَزَادَ، فَقَالَ: "لَا يَمْنَعُكِ ذَلِكِ مِنْهَا، ابْتَاعِي، وَأَعتِقِي"، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاس، فَحَمِدَ اللهَ، وَأثنَى عَلَيْه، ثُمَّ قَالَ: "أمّا بَعْدُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلهم ذُكروا في الباب، وقبل بابين، و"أبو الطاهر" هو: أحمد بن عمرو بن السرح.

وقولها: (فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ) قال النوويّ رحمه الله: وقع في الرواية الأولى في بعض النسخ: "وَقِيَّة"

(1)

، وفي بعضها:"أوقيّة"، بالألف، وأما الرواية الثانية فـ"وُقيّة"، بغير ألف بإتفاق النسخ، وكلاهما صحيح، وهما لغتان: إثبات الألف أفصح، والأُوقيّة الحجازية أربعون درهمًا. انتهى

(2)

.

(1)

سيأتي أنها بضمّ الواو، وفي لغة بفتحها.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 145.

ص: 523

وقوله: (بِمَعْنَى حَدِيثِ اللَّيْثِ) يعني أن حديث يونس، عن ابن شهاب بمعنى حديث الليث ابن سعد عنه، يعني الماضي قبله.

وقوله: (وَزَادَ) الفاعل ضمير يونس.

[تنبيه]: رواية يونس، عن ابن شهاب هذه ساقها النسائيّ في "الكبرى" 3/ 195 فقال:

(5016)

- أخبرنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني رجال من أهل العلم، منهم يونس بن يزيد، والليث بن سعد؛ أن ابن شهاب أخبرهم، عن عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها قالت: جاءت بريرة إليّ، فقالت: يا عائشة إني كاتبت أهلي على تسع أواقٍ، في كل عام أوقية، فأعينيني، ولم تكن قَضَت من زكاتها شيئًا، فقالت لها عائشة، ونَفِست فيها: ارجعي إلى أهلك، وإن أحبوا أن أعطيهم ذلك جميعًا، ويكون ولاؤك لي فعلتُ، فذهبت بريرة إلى أهلها، فعَرَضَت ذلك عليهم، فأبوا، وقالوا: إن شاءت أن تَحْتَسِب عليك فلتفعل، ويكون ولاؤك لنا، فذكرت عائشة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"لا يمنعك ذلك منها، ابتاعي، وأعتقي، فإنما الولاء لمن أعتق"، ففعلت. وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: ما بال أناس يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله، فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحقّ، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3774]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثنا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيَّ بَرِيرَةُ، فَقَالَتْ: إِن أَهْلِي كَاتبونِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ، فِي تِسْعِ سِنِينَ، فِي كُلِّ سَنَةٍ

(1)

أُوقِيَّة، فَأعِينِيني، فَقُلْتُ لَهَا: إِنْ شَاءَ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ عَدَّةً وَاحِدَةً، وَأُعْتِقَك،

(1)

وفي نسخة: "كلَّ سنة".

ص: 524

وَيَكُونَ الْوَلَاءُ لِي فَعَلْتُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لأَهْلِهَا، فَأَبَوْا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ، فَأتَتْنِي، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ، قَالَتْ: فَانْتَهَرْتُهَا، فَقَالَتْ: لَا هَا اللهِ إِذَا، قَالَتْ: فَسَمِعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَألنِي، فَأخْبَرْتُهُ، فَقَالَ:"اشْتَرِيهَا، وَأَعْتِقِيهَا، وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ، فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ"، فَفَعَلْتُ. قَالَتْ: ثُمَّ خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَشِيَّةً، فَحَمِدَ اللهَ، وَأثنى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ:"أمّا بَعْدُ فَمَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ؟ مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ الله، فهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، كِتَابُ اللهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ، مَا بَالُ رِجَالٍ مِنْكُمْ يَقُولُ أَحَدُهُمْ: أَعْتِقْ فُلانًا، وَالْوَلَاءُ لي؟ إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانيُّ) تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقيان ذُكرا قبله.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) أمّ المؤمنين رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيَّ بَرِيرَةُ) بنت صفوان رضي الله عنها (فَقَالَتْ: إِنَّ أَهْلِي كَاتبوني) قال ابن الأثير رحمه الله: الكتابة أن يكاتب الرجل عبدَه على مالٍ يؤديه إليه مُنَجَّمًا، فإذا أدّاه صار حرًّا، وسُمِّيت كتابةً لمصدر كَتَبَ، كأنه يكتب على نفسه لمولاه ثمنه، ويكتب مولاه له عليه العتق، وقد كاتبه مكاتبةً، والعبدُ مكاتَبٌ، وإنما خُصّ العبدُ بالمفعول، لأن أصل المكاتبة من المولى، وهو الذي يكاتِب عبده، وقد تكرر ذكرها في الحديث. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: كاتبتُ العبد مكاتبةً وكتابًا، من باب قاتل، قال تعالى:{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} [النور: 33]، وكتبنا كتابًا في المعاملات، وكتابةً

(1)

"النهاية في غريب الأثر" 4/ 148.

ص: 525

بمعنًى، وقول الفقهاء:"باب الكتابة" فيه تسامحٌ؛ لأن الكتابة اسم المكتوب، وقيل للمكاتبة

(1)

: كتابة تسمية باسم المكتوب مجازًا واتساعًا؛ لأنه يُكتَب في الغالب للعبد على مولاه كتابٌ بالعتق عند أداء النجوم، ثم كَثُر الاستعمال حتى قال الفقهاء للمكاتبة: كتابةٌ، وإن لم يُكْتَب شيءٌ، قال الأزهريّ: وسُمِّيت المكاتبة كتابةً في الإسلام، وفيه دليل على أن هذا الإطلاق ليس عربيًّا، وشذّ الزمخشريّ، فجعل المكاتبة والكتابة بمعنى واحد، ولا يكاد يوجد لغيره ذلك، ويجوز أنه أراد الكتاب، فطغا القلم بزيادة الهاء، قال الأزهريّ: الكتاب والمكاتبة: أن يُكاتِب الرجلُ عبدَهُ، أو أمته على مالٍ مُنَجَّم، ويَكتُب العبدُ عليه أنه يَعْتِق إذا أدى النجوم، وقال غيره بمعناه، وتكاتبا كذلك، فالعبد مُكاتَبٌ بالفتح، اسم مفعول، وبالكسر اسم فاعل؛ لأنه كاتب سيده، فالفعل منهما، والأصل في باب المفاعلة أن يكون من اثنين فصاعدًا، يفعل أحدهما بصاحبه ما يفعل هو به، وحيحئذ فكلُّ واحد فاعلٌ، ومفعولٌ من حيث المعنى. انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله: ظاهر قولها: "إن أهلي كاتبوني": أن الكتابة قد كانت انعقدت، وصحَّت، وأن ذلك ليس بمراوضة على الكتابة، وعند هذا يكون مع ما وقع من شراء عائشة رضي الله عنها بإذن النبيّ صلى الله عليه وسلم ظاهرًا في جواز فسخ الكتابة، وبيع المكاتب للعتق، كما قد صار إليه طائفة من أهل العلم، وأما من لم يُجِز ذلك، وهم الجمهور، فأشكل عليهم الحديث، وتحزّبوا في تأويله؛ فمنهم من قال: إن الكتابة المذكورة لم تكن انعقدت، وأن قولها:"كاتبت أهلي" معناه: أنها راوضتهم عليها، وقدّروا مبلغها وأجلها، ولم يعقدوها، وقد بيَّنَّا أن الظاهر خلافه، بل إذا تُؤمِّل مساقُ الحديث مع قولها:"فأعينيني"، وجواب عائشة رضي الله عنهما، قُطِعَ بأنها قد كانت عقدتها، وأن هذا التأويل فاسد.

ومنهم من قال: إن المبيع الكتابة، لا الرقبة، وهذا فاسدٌ؛ لأن من أجاز بيع الكتابة لم يجعل بيع الولاء لمشتري الكتابة، بل لعاقدها، وأشبه ما قيل في ذلك: أن بريرة عجزت عن الأداء، فاتفقت هي وأهلها على فسخ الكتابة، وحينئذ صحَّ البيع، إلا أن هذا إنما يتمشى على قول من يقول: إن تعجيز

(1)

"المصباح المنير" 2/ 524 - 525.

ص: 526

المكاتب غير مفتقر إلى حكم حاكم إذا اتفق السيد والعبد عليه؛ لأن الحق لا يعدوهما، وهو المذهب المعروف، وقال سحنون: لا بدَّ من السلطان. وهذا: إنما خاف أن يتواطئا على ترك حق الله تعالى، وهذه التهمة فيها بُعْدٌ، فلا يلتفت إليها، ويدلُّ على أنها عجزت: ما وقع في "صحيح مسلم" من رواية ابن شهاب، حيث قال: إن بريرة جاءت عائشة تستعينها في كتابتها، ولم تكن قَضَت من كتابتها شيئًا، فقالت لها عائشة رضي الله عنها: ارجعي إلى أهلك؛ فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك فعلتُ. فظاهر هذا: أن جميع كتابتها أو بعضها استحقت عليها؛ لأنه لا يُقْضَى من الحقوق إلا ما وجبت المطالبة به، والله أعلم

(1)

.

(عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ) هذه الرواية، وهي رواية هشام عن أبيه، هي المشهورة في قدر بدل الكتابة، وقد وقعت في رواية للبخاريّ علّقها من طريق الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، مخالفة لهذه الرواية، ولفظها: "إن بريرة دخلت عليها تستعينها في كتابتها، وعليها خمس أواق، نُجّمت عليها في خمس سنين

"، وقد جزم الإسماعيليّ بأن هذه الرواية غلطٌ، قال الحافظ: ويمكن الجمع بأن التسع أصل، والخمس كانت بقيت عليها، وبهذا جزم القرطبيّ، والمحبّ الطبريّ، لكن يعكُرُ عليه قوله في رواية قُتيبة: "ولم تكن أدّت من كتابتها شيئًا"، ويجاب بأنها كانت حصلت الأربع أواقٍ قبل أن تستعين عائشة، ثم جاءتها، وقد بقي عليها خمس، وقال القرطبيّ: يُجاب بأن الخمس هي التي كانت استحقّت عليها بحلول نجومها من جملة التسع الأواقي المذكورة في حديث هشام. ويؤيّده قوله في رواية عمرة، عن عائشة، عند البخاريّ في "أبواب المساجد": "فقال أهلها: إن شئت أعطيت ما يبقى".

وذكر الإسماعيليّ أنه رأى في الأصل المسموع على الفربريّ في هذه الطريق أنها كاتبت على خمس أوساق، وقال: إن كان مضبوطًا، فهو يدفع سائر الأخبار.

قال الحافظ: لم يقع في شيء من النسخ المعتمدة التي وقفنا عليها إلا

(1)

"المفهم" 4/ 319 - 320.

ص: 527

الأواقي، وكذا في نسخة النسفيّ عن البخاريّ، وكان يمكن على تقدير صحّته أن يُجمع بأن قيمة الأوساق الخمسة تسع أواقٍ، لكن يعكر عليه قوله:"في خمس سنين"، فيتعيّن المصير إلى الجمع الأول. انتهى

(1)

.

(فِي تِسْعِ سِنِينَ، فِي كُلِّ سَنةٍ) وفي بعض النسخ: "كلَّ سنة" بإسقاط "في"، وهو منصوب على الظرفيّة (أُوقيَّة) بضمّ الهمزة؛ أي: أربعون درهمًا، قال الفيّوميّ رحمه الله:"الأوقيّة" بضم الهمزة، وبالتشديد، وهي عند العرب أربعون درهمًا، وهي في تقدير أُفْعُولة، كالأُعجوبة، والأُحدوثة، والجمع: الأواقيّ بالتشديد، وبالتخفيف؛ للتخفيف، وقال ثعلب في باب المضموم أولُه: وهي الأوقية، والْوُقيّة لغةٌ، وهي بضم الواو، هكذا هي مضبوطة في كتاب ابن السِّكِّيت، وقال الأزهريّ: قال الليث: الْوُقِيَّة: سبعة مثاقيل، وهي مضبوطة بالضم أيضًا، قال الْمُطَرِّزِيّ: وهكذا هي مضبوطة في "شرح السنة" في عِدّة مواضع، وجرى على ألسنة الناس بالفتح، وهي لغةٌ حكاها بعضهم، وجمعها: وَقَايَا، مثلُ عَطِيّة وعَطَايَا. انتهى

(2)

.

(فَأعِينِيني) قال في "الفتح": كذا للأكثر بصيغة الأمر للمؤنّث، من الإعانة، وفي رواية الكشميهنيّ:"فَأعْيَتْنِي" بصيغة الخبر، من الإعياء، والضمير للأواقي، وهو متّجه المعنى؛ أي: أعجزتني عن تحصيلها، وفي رواية حماد بن سلمة، عن هشام، عند ابن خزيمة وغيره:"فَأعْتِقِيني" بصيغة الأمر للمؤنّث بالعتق، إلا أن الثابت في طريق مالك وغيره، عن هشام: الأول. انتهى

(3)

. (فَقُلْتُ لَهَا: إِنْ شَاءَ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ عَدَّةً وَاحِدَةً) وفي حديث يونس عن ابن شهاب: أنها قالت لها: "أرأيتِ إن عددت لهم عَدَّة واحدةً؛ أيبيعك أهلك؟ فأعتِقَك، ويكون ولاؤكِ لِي"، قال القرطبيّ رحمه الله: لا تعارض بين الروايتين، وإنما هو نقل بالمعنى على عاداتهم الأكثرية في ذلك، وفيه دليل على صحَّة ما قلناه: أنها إنما اشترتها للعتق مع إمكان أن يكون ذلك عند عجزها عن أداء ما تَعَيَّن عليها من الكتابة. انتهى

(4)

.

(1)

"الفتح، 6/ 399.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 669 - 670.

(3)

"الفتح" 6/ 404 "كتاب المكاتب" رقم (2563).

(4)

"المفهم" 4/ 322.

ص: 528

وقال في "الفتح": فيه أن العدّ في الدراهم الصحاح المعلومة الوزن يكفي عن الوزن، وأن المعاملة في ذلك الوقت كانت بالأواقي، وهي أربعون درهمًا، كما سبق آنفًا، وزعم المحبّ الطبريّ أن أهل المدينة كانوا يتعاملون بالعدّ إلى مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ثم أُمروا بالوزن، وفيه نظر؛ لأن قصّة بريرة متأخّرة عن مقدمه صلى الله عليه وسلم بنحو ثمان سنين، لكن يَحْتَمِل قول عائشة رضي الله عنها:"أن أعدّها لهم عدّة واحدة"؛ أي: أدفعها لهم، وليس مرادها حقيقة العدّ، ويؤيّده قولها في طريق عمرة:"أن أصُبّ لهم ثمنكِ صبّةً واحدةً". انتهى.

(وَأُعْتِقَك، وَيَكُونَ الْوَلَاءُ لِي فَعَلْتُ) أي: اشتريتك، ثم أعتقتك (فَذَكَرَتْ) بريرة (ذَلِكَ) أي: ما قالت لها عائشة رضي الله عنها (لأَهْلِهَا) أي: مواليها (فَأبَوْا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ، فَأتَتْنِي، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ) أي: إباء مواليها ما عرضت عليهم عائشة (قَالَتْ) عائشة (فَانْتَهَرْتُهَا) أي: زجرتها، وقال القرطبيّ: قولها: "فانتهرتها" تعني أنه عَظُم عليها أن تشتريها بمالها لتعتقها، ثم يكون ولاؤها لمن باعها، وأخذ ثمنها، فبأيّ طريق يستحق الولاء؟ ولا طريق له يستحقه به. انتهى.

(فَقَالَتْ: لَا) أي: لا أشتري، ولا أعدّ الدراهم (هَا اللهِ) أي: والله، فـ"ها" عوض عن واو القسم (إِذَا) أي: إذا اشترطوا لهم الولاء.

وقال الأبّيّ في "شرحه": قوله: "فانتهرتها، فقالت" قال عياض: فيه إشكال؛ إذ يوهم أن فاعل "قالت" بريرة، وليس كذلك، وإنما هي عائشة، أخبرت عن نفسها أنها انتهرتها، ثم فسّر الراوي انتهارها إياها بقوله:"فقالت: لا ها الله"، ولذا قال بعضهم: صوابه: "فقلت". انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ: قوله: "فقالت: لا ها الله إذًا" كذا لأكثر الرواة: "فقالت"، وظاهره أن هذا قول بريرة أجابت به عائشة لَمّا انتهرتها مستلطفة لها، ومُسكّنة، فكأنها قالت: فإذا كان ذلك، تعني: موجدة عائشة، فلا أستعينك على شيء، وَيحْتَمِل أن يكون الراوي أخبر به عن عائشة، ويؤيده ما قد وقع في بعض النسخ:"فقلت" مكان "قالت"، وعلى هذا: فيكون من قول عائشة،

(1)

"شرح الأبّيّ" 4/ 160.

ص: 529

ويكون معناه: أن أهل بريرة لما أبوا إلا اشتراط الولاء لهم امتنعت من الشراء والعتق؛ لأجل الشرط، وأقسمت على ذلك بقولها:"لا، ها الله إذًا".

والرواية المشهورة في هذا اللفظ: "هاء" بالمد والهمز، و"إذًا" بالهمز والتنوين التي هي حرف جواب، وقد قيّده العذري، والهوزني بقصرها، وبإسقاط الألف من "إذًا"، فيكون:"ذا"، واستصوب ذلك جماعة من العلماء، منهم: القاضي إسماعيل، والمازري، وغيرهما. قالوا: وغيره خطأ، قالوا: ومعناه: ذا يميني. وصوَّب أبو زيد وغيره المدّ والقصر، قال: و"ذا" صلة في الكلام، وليس في كلامهم:"لا ها الله إذًا"، وفي "البارع"

(1)

: قال أبو حاتم: يقال: "لا ها الله ذا" في القسم، والعرب تقوله بالهمز، والقياس تَرْكُه، والمعنى: لا والله، هذا ما أقسم به، فأدخل اسم الله بين "ها"، و"ذا". انتهى كلامهم.

قال القرطبيّ: ويظهر لي: أن الرواية المشهورة صوابٌ، وليست بخطأ، ووجه ذلك: أن هذا الكلام قسم على جواب إحداهما للأخرى على ما قررناه آنفًا، والهاء هنا: هي التي يعوَّض بها عن تاء القسم، فإن العرب تقول: الله لأفعلنَّ - ممدودة الهمزة، ومقصورتها -، ثم إنهم عوَّضوا من الهمزة "ها"، فقالوا: ها الله؛ لتقارب مخرجيهما، كما قد أبدلوها منها في قولهم [من الطويل]:

ألا يا سَنَا بَرْقٍ على قُلَلِ الحِمَى

لِهَنَّك مِنْ بَرْقٍ عليَّ كريم

وقالوا [من الطويل]:

فهيَّاك وَالأَمْرَ الَّذِي إِنْ تَوَسَّعَتْ

مَوَارِدُهُ ضَاقَتْ عَلَيْكَ مَصَادِرُهْ

ولَمَّا كانت الهاءُ بدلًا من الهمزة، وفيها المدُّ والقصر، فالهاء تمدُّ وتقصر، كما قد حكاها أبو زيد، وتحقيقه أن الذي مَدَّ مع الهاء كأنَّه نطق بهمزتين أبدل من إحداهما ألفًا استثقالًا لاجتماعهما، كما تقول: الله، والذي قصر كأنَّه نطق بهمزةٍ واحدةٍ، فلم يحتج إلى المدّ، كما تقول: الله.

(1)

"البارع في غريب الحديث" لأبي عليّ إسماعيل بن القاسم اللغويّ التالي، المتوفَّى سنة (356 هـ).

ص: 530

وأما "إذا" فهي بلا شك حرف جواب، وتعليل، وهي مثل التي وقعت في قوله صلى الله عليه وسلم، وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال:"أينقص الرطب إذا يبس؟ "، فقالوا: نعم، قال:"فلا إذًا"، فلو قال: فلا والله إذًا، لكان مساويًا لهذه من كل وجهٍ، لكنَّه لم يحتج إلى القسم، فلم يذكره، وقد بيَّنَّا تقدير المعنى، ومناسبته، واستقامته معنى ووضعًا من غير حاجة إلى ما تكلَّفه من سبقت حكاية كلامه من النحويين من التقدير البعيد المخرج للكلام عن البلاغة، وأبعدُ من هذا كلِّه وأفسد: أن جعلوا "ها" للتنبيه و"ذا" للإشارة، وفصلوا بينهما بالمقسم به، وهذا ليس قياسًا فيطردَ، ولا فصيحًا فيحمل عليه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مرويًا برواية ثابتة، وما وُجد للعذري من ذلك فإصلاح منه، أو من غيره، ممن اغترّ بما حُكي عمَّن سبق ذكرهم من اللغويين، والحق أَولى مطلوب، والتمسُّك بالقياس المنقول أجلّ مصحوب، فالصحيح رواية المحدّثين، والله خير معين، والله أعلم.

وقول أبي زيد: ليس في كلامهم: "لا ها الله إذًا" شهادةٌ على نفيٍ، فلا تسمع، ثُمّ نعارضه بنقل أبي حاتم أنه يقال:"لا ها الله"، وليس كل ما يقتضيه القياس نوعًا يجب وجودُ جميع أشخاصه وضعًا. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا.

وقال السيوطيّ رحمه الله فيما كتبه على النسائيّ: قد تكلّم الناس قديمًا وحديثًا على هذه اللفظة، وقالوا: إنّ المحدّثين يروونها هكذا، وأنه خطأ، والصواب: لا ها الله ذا، بإسقاط الألف من "ذا"، وقد ألّفتُ في ذلك تأليفًا حسنًا، وأودعته برُمّته في كتاب "إعراب الحديث". انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: دعوى الغلط والتصحيف على المحدّثين، مع كثرة وقوعه في الأحاديث؛ اتباعًا لقول بعض النحاة غير صحيح، بل التركيب هذا فصيح، وتوجيهه واضح، كما سبق في كلام القرطبيّ رحمه الله،

(1)

"المفهم" 322 - 324.

(2)

"زهر الربى" 6/ 164 - 165، والكتاب الذي أشار إليه هو كتابه "عقود الزبرجد على مسند الإمام أحمد"، راجعه 2/ 185.

ص: 531

وسيأتي تمام البحث في هذا - إن شاء الله تعالى - في "كتاب الجهاد والسير" في شرح حديث أبي قتادة رضي الله عنه عند قوله: "وقال أبو بكر الصدّيق: لا ها الله، إذًا لا يعمد إلى أسد من أُسُد الله، يقاتل عن الله ورسوله، فيُعطيك سلبه". أسأل الله تعالى أن يبلّغني إلى شرح ذلك الحديث، بل وإلى شرح الكتاب كلّه بمنّه وكرمه، إنه جواد كريم، رؤوف رحيم.

(قَالَتْ: فَسَمِعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: ما جرى بينها، وبين بريرة (فَسَألنِي) عنه (فَأخْبَرْتُهُ) أي: بتفصيل ذلك، وفي رواية مالك، عن هشام:"فجاءت من عندهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ، فقالت: "إني عرضتُ عليهم، فأبوا، فسمع النبيّ صلى الله عليه وسلم). وفي رواية:"فسمع بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو بلغه"، زاد في رواية:"فقال: ما شأن بريرة؟ ". وفي رواية عند مسلم، وابن خزيمة:"فجاءتني بريرة، والنبيّ صلى الله عليه وسلم جالسٌ، فقالت لي فيما بيني وبينها ما أراد أهلها، فقلت: لا ها الله إذًا، ورفعت صوتي، وانتهرتها، فسمع ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسألني، فأخبرته"، لفظ ابن خزيمة. قاله في "الفتح". (فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "اشْترِيهَا، وَأَعْتِقِيهَا، وَاشْترِطي لَهُمُ الْوَلَاءَ) هذه الجملة استشكلها العلماء، وسيأتي بيان ذلك في المسألة الآتية آخر الحديث - إن شاء الله تعالى -.

(فَإِن الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ") قال القرطبيّ رحمه الله: هذا حصر للولاء على من باشر العتق بنفسه، رجلًا كان، أو امرأةً، ممن يصح منه العتق، ويستقل بتنفيذه، وقوة هذا الكلام قوّة النفي والإيجاب، فكأنه قال: لا ولاء إلا لمن أعتق، وإيَّاه عنى النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"شرط الله أوثق"، في أصحِّ الأقوال وأحسنها، وقد تقدّم تمام البحث في هذا، وبالله التوفيق. (فَفَعَلْتُ) أي: اشترطت لهم الولاء (قَالَتْ: ثُمَّ خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَشِيَّةً، فَحَمِدَ اللهَ، وَأثنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: "أمَّا بَعْدُ فَمَا بَالُ أقوَام) أي: ما حالهم؟ (يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ في كتاب الله) قال القرطبيّ رحمه الله: أيً: ليس مشروعًا في كتاب الله لا تأصيلًا ولا تفصيلًا، ومعنى هذا أن من الأحكام والشروط ما يوجد تفصيلها في كتاب الله تعالى؛ كالوضوء، وكونِهِ شرطًا في صحة الصلاة، ومنها ما يوجد فيه أصله؛ كالصلاة، والزكاة، فإنهما فيه مجملتان، ومنها ما أصل أصله، وهو كدلالة الكتاب على أصلية السُّنة والإجماع والقياس، فكل ما يُقتبس من هذه

ص: 532

الأصول تفصيلًا فهو مأخوذ من كتاب الله تأصيلًا، كما قد بيَّناه في أصول الفقه.

وعلى هذا فمعنى الحديث: أن ما كان من الشروط مما لم يدلّ على صحته دليل شرعيٌ كان باطلًاح أي: فاسدًا مردّودًا. وهذا كما قاله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو ردٌّ"، متّفق عليه.

وفي هذا من الفقه ما يدلُّ على أن العقود الشرعية إذا قارنها شرط فاسدٌ بطل ذلك الشرط خاصة، وصحَّ العقد، لكن هذا إنما يكون إذا كان ذلك الشرط خارجًا عن أركان العقد؛ كاشتراط الولاء في الكتابة، واشتراط السَّلف في البيع، فلو كان ذلك الشرط مُخِلًّا بركن من أركان العقد، أو مقصودًا؛ فُسخ العقد والشرط، وسيأتي لهذا مزيد بيان في حديث جابر، إن شاء الله تعالى. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

(مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَاب اللهِ عز وجل فَهُوَ بَاطلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ) أي: ولو شُرط مائة مرّة توكيدًا، فهو بَاطلٌ.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "ولو كان مائة شرط" خرج مخرج التكثير؛ يعني: أن الشروط غير المشروعة باطلة ولو كثرت، ويفيد دليل خطابه أن الشروط المشروعة صحيحة، كما قد نصَّ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"المؤمنون على شروطهم، إلا شرطًا أحل حرامًا، أو حرَّم حلالًا"، خرَّجه الترمذيّ

(2)

من حديث عمرو بن عوف، وقال: حديث حسن.

(كِتَابُ اللهِ أَحَقُّ) مبتدأ وخبره؛ أي: أحقّ بأن يُتّبع من غيره (وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ) أي: أوكد من شرط الناس.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق" أي: حكمُ الله، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر - لَمَّا قال له الخصم: اقض بيننا بكتاب الله تعالى - فقال: "لأقضين بينكما بكتاب الله"، ثم قضى على الزاني البكر بالجلد والتغريب، وعلى الزانية الثيب بالرجم، وليس التغريب والرجم موجودين في كتاب الله تعالى، لكن في حكم الله المسمَّى بالسُّنة، وكذلك

(1)

"المفهم" 4/ 326 - 327.

(2)

"الجامع" رقم (1352).

ص: 533

اختصاص الولاء بالمعتِق ليس موجودًا في كتاب الله، لكن في حكم الله به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم مما يسمَّى سُنَّة. انتهى

(1)

.

وقوله: (مَا بَالُ رِجَالٍ مِنْكُمْ يَقُولُ أَحَدُهُمْ: أَعْتِقْ فُلَانًا، وَالْوَلَاءُ لِي؟ إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ") توكيد لقوله: "ما بال أقوام يشترطون إلخ".

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إنما الولاء لمن أعتق" هذا حصر للولاء على من باشر العتق بنفسه، رجلًا كان، أو امرأةً، ممن يصح منه العتق، وَيستقلّ بتنفيذه، وقُوّة هذا الكلام قُوّة النفي والإيجاب، فكأنه قال: لا ولاء إلا لمن أعتق، وإيَّاه عنى النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"شرط الله أوثق"، في أصحِّ الأقوال وأحسنها.

وقال الداوديّ: هو قوله تعالى: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5]، {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37]، وقال:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]، وقال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].

وهو حجة على أبي حنيفة وأصحابه القائلين: بأن من أسلم على يديه رجل فولاؤه له، وبه قال الليث، وربيعة، وعلى إسحاق في حكمه بثبوت الولاء بالالتقاط، وعلى أبي حنيفة في حكمه بثبوت الولاء بالموالاة، ولمن قال: إن من أعتق عبده عن غيره أو عن المسلمين أن ولاءه للمعتِق، وإليه ذهب ابن نافع فيمن أعتق عن المسلمين، ويلزمه فيمن أعتق عن غيره مطلقًا، وخالفه في ذلك مالك، والجمهور، متمسكين بأن مقصود الحديث بيان حكم من أعتق عن نفسه بدليل اتفاق المسلمين على أن الوكيل عن العتق معتِق، ومع ذلك فالولاء للمعتَق عنه إجماعًا، فكذلك حكم من أعتق عن الغير، وتقدّره الشافعية أنه مَلَكَه ثم ناب عنه في العِتْق، وأما أصحابنا - يعني المالكيّة - فإنهم قالوا: لا يحتاج إلى تقدير ذلك؛ لأنه يصح العتق عن الميت، وهو لا يملك، وفيه نظر، فإنه إن لم يُقَدَّر الملك لزم منه هبة الولاء، وقد نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء، وعن هبته، وإن قُدِّر الملك لم يصح العتق عن الميت؛ لأنه لا

(1)

"المفهم" 4/ 327.

ص: 534

يملك، ويُتَخَلَّص عن هذا الإشكال ببحث طويل لا يليق بما نحن بصدده.

قال: ومسائل هذا الباب وفروعه كثيرةٌ، لكن نذكر منها ما لها تعلُّق قريب بالحديث الذي ذكرناه، وهي ثماني مسائل:

[الأولى]: جواز كتابة من لا مال له ولا صنعة، فإن بريرة كانت كذلك، وإليه ذهب مالك، والشافعي، والثوري، غير أن مالكًا في المشهور كره كتابة الأنثى؛ التي لا صنعة لها، وكرهها أيضًا الأوزاعيّ، وأحمد، وإسحاق، ورُوي مثله عن ابن عمر.

وهذا كلُّه يدل على أن "الخير" في قوله تعالى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] لم يُرَد به المال، بل: الدِّين، والأمانة، والقوّة على الكسب، وقد ذهب قوم إلى أنه المال، فمنعوا ما أجازه المتقدمون، والحديث حجة عليهم.

[الثانية]: إن المكاتب عبدٌ ما بقي عليه شيء من الكتابة، وهو قول عامَّة العلماء، وفقهاء الأمصار، وحُكي عن بعض السلف إنه بنفس عقد الكتابة حرّ، وهو غريم بالكتابة، ولا يرجع إلى الرِّق أبدًا، وحُكي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه إن عجز عَتَق منه بقدر ما أدَّى، وحُكي عن عمر، وابن مسعود، وشُريح أنه إذا أدَّى الثلث من كتابته، فهو حرّ وغريم بالباقي، وعن بعض السَّلف الشَّطْر، وعن عطاء: مثله؛ إذا أدَّى الثلاثة الأرباع. وقد رُوي عن ابن مسعود، وشريح مثله؛ إذا أدَّى قيمته.

قال القرطبيّ رحمه الله: وأضعف هذه الأقوال قول من قال: بعقد الكتابة يكون حرًّا، وغريِمًا بالكتابة، فإن حديث بريرة هذا يردُّه، وكذلك كتابة سلمان، وجويرية؛ فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم حَكَم لجميعهم بالرِّق حتى أَدَّوُا الكتابة.

وهذه الأحاديث أيضًا حجة للجمهور على أنَّ المكاتَب على حكم الرِّق ما بقي عليه شيء منها؛ مع ما رواه النسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جدّه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"المكاتب عبدٌ ما بقي عليه من كتابته درهم"، وقد رَوى نحوه النسائيّ أيضًا من حديث عطاء الخراساني، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

والصحيح موقوف على ابن عمر، وقد رُوي مثله عن عمر، وزيد بن

ص: 535

ثابت، وعائشة، وأم سلمة رضي الله عنهم، ومثل هذا لا يقوله الصحابيّ من رأيه، فهو إذا مرفوع.

وأما أقوال السلف؛ فأشبه ما فيها قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويشهد له ما خرَّجه النسائي أيضًا عن ابن عباس، وعلي رضي الله عنهم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:"المكاتب يَعتِق منه بقدر ما أدَّى، ويقام عليه الحدّ بقدر ما أدَّى، ويرث بقدر ما عتق منه"، وإسناده صحيح، ويعتضد بما رواه الترمذيّ عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان عند مكاتب إحداكن ما يؤدِّي فلتحتجب منه". قال: حديث حسن صحيح.

قال القرطبيّ: وظاهره أنَّ هذا خطاب مع زوجاته؛ أخذًا بالاحتياط، والورع في حقهنَّ، كما قال لسودة:"احتجبي منه" مع أنه قد حكم بإخوّتها له، وبقوله لعائشة وحفصة:"أَفَعَمْياوان أنتما؟! ألستما تبصرانه؟ "، يعني: ابن أم مكتوم، مع أنه قد قال لفاطمة بنت قيس:"اعتدي عند ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى، تضعين ثيابك عنده"، متّفقٌ عليه.

[الثالثة]: حديث بريرة - على اختلاف طرقه، وألفاظه - يتضمن: أن بريرة وقع فيها بيع بعد كتابة تقدَّمت، فاختلف الناس في بيع المكاتب بسبب ذلك.

فمنهم من أجازه إذا رضي المكاتب بالبيع، ولو لم يكن عاجزًا، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبد البرّ، وبه قال ابن شهاب، وأبو الزناد، وربيعة، غير أنهم قالوا: لأن رضاه بالبغ عجزٌ منه.

ومنهم من قال: يجوز بيعه على أن يمضي في كتابته؛ فان أدَّى عتق، وكان ولاؤه للذي ابتاعه، ولو عجز فهو عبدٌ له، وبه قال النخعيّ، وعطاء، والليث، وأحمد، وأبو ثور.

ومنهم من منع بيع المكاتب إلا أن يعجز، وبه قال مالك، والشافعيّ، وأبو حنيفة، وأصحابهم، وأجاز مالك بيع الكتابة، فإن أدَّاها عتق، وإلا كان رقيقًا لمشتري الكتابة. ومنع ذلك أبو حنيفة؛ لأنه بيع غرر، واختَلَف قول الشافعيّ في ذلك بالمنع والإجازة، وكل هذا الخلاف سببه اختلاف فُهومهم في حديث بريرة وقواعد الشريعة، وقد قدمنا: أن الأظهر من الحديث جواز بيع المكاتب للمعتِق، وهو أحسنها؛ لأنه الأظهر من الحديث، والأنسب لقواعد

ص: 536

الشرع؛ لأن الكتابة عقد عتق على شرط عمل أو مال، وقد يحصل ذلك أو لا يحصل، وبيعه للعتق إسقاط لذلك الشرط، وتنجيز للعتق، والله أعلم.

والولاء للمشتري؛ لأن عقد الكتابة قد انفسخ.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما سبق عن ابن عبد البرّ من جواز بيع المكاتب هو الأرجح؛ لظاهر حديث قصّة بريرة، فإنه صلى الله عليه وسلم لمّا أجاز شراءها لم يستفصل شيئًا، ولم يقيّده بشيء، بل أجازه مطلقًا، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

[المسألة الرابعة]: اتفق المسلمون على أن المكاتب إذا حلَّ عليه نجم أو أكثر، فلم يطالبه سيده بذلك، وتركه على حاله؛ أن الكتابة لا تنفسخ ما داما على ذلك، واختلفوا فيما إذا كان العبد قويًّا على السعي والأداء، فقال مالك: ليس له تعجيز نفسه إذا كان له مال ظاهر، وإن لم يظهر له مال كان له ذلك، وقال الأوزاعيّ: لا يُمَكَّن من تعجيز نفسه إذا كان قويًّا على الأداء، وقال الشافعيّ: له أن يعجز نفسه؛ عُلم له مال أو قوة، أو لم يُعلم، وإذا قال: قد عجزت، وأبطلت الكتابة، فذلك إليه.

قال القرطبيّ رحمه الله: والصحيح: أن الكتابة لا سبيل إلى إبطال حكمها ما أمكن ذلك؛ لأنها إما أن تكون عقدًا بين السيد وعبده، وقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود، وإما وعدًا بالعتق وعهدًا، فقد قال الله تعالى:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34]، وإما عتقًا على شرط يمكن تحصيله؛ فيجب الوفاء به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"المؤمنون على شروطهم"

(1)

، ولأنه لو علَّق عتقه على أجل يأتي، أو على أمرٍ يحصل لزمه العقد، وحصل العتق عند حصول ذلك الشرط، فكذلك عقد الكتابة، ويستثنى من هذا بيعه للعتق، كما بيَّناه، وإذا كان كذلك، فلا يُقْبَل من السيد، ولا من العبد دعوى العجز حتى يتبين بالطرق المعتبرة في ذلك.

[المسألة الخامسة]: إذا عجز العبد وكان السيد قبض منه بعض نجوم الكتابة حلَّ ذلك للسيد، سواء كان ذلك من صدقة على المكاتب أو غيرها،

(1)

حديث صحيح، رواه أبو داود (3594)، والترمذيّ (1352).

ص: 537

ولا رجوع للمكاتب بذلك، ولا لمن أعطاه على وجه فكاك الرقبة، هذا قول الشافعيّ، وأبي حنيفة، وأصحابهما، وأحمد بن حنبل، ورواية عن شُريح، ومالك، غير أنه قال: إن ما أُعينَ به - على جهة فك رقبته - لا يحل للسيد، ويردّ على ربه، أو قال إسحاق: ما أعطي بحال الكتابة رُدَّ على أربابه، وقال الثوريّ: يجعل السيد ما أعطاه في الرقاب، وهو قول مسروق، والنخعيّ، ورواية عن شُريح.

قال القرطبيّ: وما قاله مالك ظاهر، لا إشكال فيه.

قال الجامع عفا الله عنه: قول القرطبي هذا حسنٌ، والله تعالى أعلم.

[المسألة السادسة]: فيه دليل على أن بيع الأمة ذات الزوج لا يوجب طلاقها، وعليه فقهاء الأمصار، وقد روي عن ابن عباس، وابن مسعود: أنه طلاق لها، والعجب من ابن عباس أنه أحد رواة حديث بريرة، ومع ذلك فلم يَقُل بما رَوَى من ذلك.

[المسألة السابعة]: الولاء - وإن لم يوهب ولم يبع - يصح فيه الجرُّ في صورتين:

إحداهما: هي التي قال فيها مالك: الأمر المجتمع عليه عندنا في ولد العبد من امرأة حُرَّة: أن الحرَّ - أبا العبد - يجرُّ ولاء ولد ابنه الأحرار من امرأةٍ حرَّة، ويرثهم ما دام أبوهم عبدًا، فإن أُعتِقَ أبوهم رجع الولاء إلى مواليه، وإن مات وهو عبد كان الولاء والميراث للجدّ.

وأما الصورة الثانية: فاختَلَف أهل العلم في انتقال الولاء الذي قد ثبت لموالي الأمة المعتقة في بَنيها من الزوج العبد إن أعتق، فرُوي عن جماعة من العلماء: أن ولاءهم لموالي أمهم، ولا يجرّه الأب إن أُعتق، وروي ذلك عن ابن عمر، وعطاء، وعكرمة بن خالد ومجاهد، وابن شهاب وقبيصة بن ذؤيب، وقضى به عبد الملك بن مروان في آخر خلافته، لمّا بلغه قضاء عمر به، وكان قبلُ يقضي بقضاء مروان أن الولاء يعود إلى موالي أبيهم، وبهذا القول قال مالك، والأوزاعيّ، وأبو حنيفة، وسفيان الثوريّ، والليث بن سعد، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق.

[المسألة الثامنة]: ولاء السائبة - وهو: الذي يقول له معتقه: أنت عتيق

ص: 538

سائبة، أو أنت مُسيَّب، أو ما أشبهه -: للمسلمين عند مالك، وجُلّ أصحابه، لا للذي أعتقه، وليمس للمعتق أن يوالي من شاء، وبه قال عمر بن عبد العزيز، وروي عن عمر.

وقال ابن شهاب، ويحيى بن سعيد، والأوزاعيّ، والليث: إنه يوالي من شاء، وإلا فللمسلمين، وكان الشعبيّ وإبراهيم يقولان: لا بأس ببيع ولاء السائبة وهِبَته، وقال أبو حنيفة، والشافعيّ وأصحابهما، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وداود: هو لمعتقه لا لغيره، ولا يوالي أحدًا. انتهى ما كتبه القرطبيّ رحمه الله على هذا الحديث، وهو بحثٌ مفيدٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث متّفق عليه، وقد تقدّم تخريجه، وبقيّة مسائله قبل حديث، وأذكر هنا مسألة لم يتقدّم البحث فيها، فأقول:

[مسألة]: في اختلاف أهل العلم في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "واشترطي لهم الولاء".

قال القرطبيّ رحمه الله: هذه اللفظة - يعني قوله: "واشترطي لهم الولاء" - لفظة انفرد بها هشام، والرواة كلهم لهم لا يذكرونها، وهي مشكلة، ووجه إشكالها: أن ظاهره: أنه أمرها باشتراط ما لا يجوز، ولا يصح، ولا يلزم لمن لا يعلم ذلك ليتم البيع، وذلك حَمْل على ما لا يجوز، وغشٌّ، وغرر لمن لا يعلم ذلك، وكل ذلك محال على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولَمَّا وقع هذا الإشكال العظيم تحزَّب العلماء في التخلص منه أحزابًا، فمنهم من أنكر هذه الرواية عن هشام من حيث انفرد بها عن الحفاظ، وهو: يحيى بن أكثم، والجمهور على القول بصحَّة الحديث؛ لأن هشامًا ثقة، حافظ، إمام، ثم قد روى هذا الحديث الأئمة عنه، وقبلوه، كمالك وغيره مع تَحَرّزهم، ونقدهم، وعلمهم بما يُقْبَلُ وبما يُرَدّ، وخصوصًا أمير المؤمنين بالحديث مالك بن أنس، فقد أخذه عنه، ورواه عُمُرَه لجماهير الناس، ولا إنكار منه، ولا نكير عليه، فصار الحديث مُجْمَعًا على صحته، ولَمَّا ثبت ذلك رام العلماء القابلون للحديث التخلّص من ذلك الإشكال بإبداء تأويلاتٍ، أقربها أربعة:

(الأول): أن قوله: "واشترطي لهم الولاء": أي: عليهم، كما قال

ص: 539

تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] أي: عليها، ومنه قوله:{أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} [الرعد: 25] أي: عليهم.

(الثاني): أن قوله: "اشترطي" لم يكن على جهة الإباحة، لكن على جهة التنبيه على أن ذلك الشرط لا ينفعهم، فوجوده وعدمه سواء، فكأنه يقول: اشترطي أو لا تشترطي فذلك لا يفيدهم، وقد قوَّى هذا الوجه ما جاء من رواية أيمن المكي عن عائشة:"اشتريها، ودعيهم يشترطون".

(الثالث): أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد كان أعلم بأن اشتراط البائع الولاء باطل، واشتَهَر ذلك، بحيث لا يخفى على هؤلاء، فلمَّا أرادوا أن يشترطوا لِمَا عَلِموا بطلانه أطلق صيغة الأمر مريدًا بها التهديد على مآل الحال، كما قال تعالى:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 105]، فكأنه يقول: اشترطي لهم، فسيعلمون أن ذلك لا يفيد، ويؤيِّده قوله في حين خطبهم:"ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟! من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق"، فتوبيخهم بمثل هذا القول يدلُّ على ما كان قد تقدَّم بيانه لحكم الله تعالى بإبطاله؛ إذ لو لم يتقدَّم بيان ذلك لبدأ الآن ببيان الحكم، لا بتوبيخ الفاعل؛ لأنه باق على البراءة الأصلية. قال القرطبيّ: وهذه التأويلات الثلاث لعلمائنا.

(الرابع): ما قاله الطحاويّ من أن الشافعي روى هذه اللفظة عن مالك عن هشام بن عروة بإسناده، ولفظه، وقال فيها:"وأشرطي لهم الولاء" - بغير تاء -، وقال: معناه: أظهري لهم حكم الولاء؛ لأن الإشراط هو: الإظهار في كلام العرب، ثم أورد الشاهد الآتي قريبًا.

قال: وهذه الرواية مما انفرد بها الشافعيّ، عن مالك، والجمهور من الأئمة الحفاظ على ما تقدم من ذلك. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح": قال ابن عبد البز، وغيره: كذا رواه أصحاب هشام، عن عروة، وأصحاب مالك، عن هشام، واستُشكل صدور الإذن منه صلى الله عليه وسلم في البيع على شرط فاسدٍ، واختلف العلماء في ذلك: فمنهم من أنكر الشرط في

(1)

"المفهم" 4/ 324 - 326.

ص: 540

الحديث، فروى الخطّابيّ في "المعالم"

(1)

بسنده إلى يحيى بن أكثم أنه أنكر ذلك.

وعن الشافعيّ في "الأمّ" الإشارة إلى تضعيف رواية هشام المصرّحة بالاشتراط؛ لكونه انفرد بها، دون أصحاب أبيه، وروايات غيره قابلة للتأويل، وأشار غيره إلى أنه رَوَى بالمعنى الذي وقع له، وليس كما ظَنّ.

وأثبت آخرون، وقالوا: هشام ثقةٌ حافظٌ، والحديث متّفقٌ على صحّته، فلا وجه لردّه، ثمّ اختلفوا في توجيهها: فزعم الطحاويّ أن المزنيّ حدّث به عن الشافعيّ بلفظ: "وأشرطي" بهمزة قطع، بغير تاء مثنّاة، ثمّ وجّهه بأنّ معناه: أظهري لهم حكم الولاء، والإشراط الإظهار، قال أوس بن حجر:

فَأَشْرَطَ فِيهَا نَفْسَهُ وَهُوَ مُعْلِمٌ

وَأَلْقَى بِأَسْبَابٍ لَهُ وَتَوَكَّلَا

يعني أظهر نفسه لَمّا حاول أن يفعل.

وأنكر غيره الرواية. والذي في "مختصر المزنيّ"، و"الأمّ"، وغيرهما عن الشافعيّ كرواية الجمهور:"واشترطي" بصيغة أمر المؤنّث من الشرط، ثمّ حكى الطحاويّ أيضًا تأويل الرواية التي بلفظ "اشترطي"، وأن اللام في قوله:"اشترطي لهم" بمعنى "على"، كقوله تعالى:{وَإِنْ أَسَأْتُمْ} [الإسراء: 7]، وهذا المشهور عن المزنيّ، وجزم به الخطّابيّ، وهو صحيحٌ عن الشافعيّ، أسنده البيهقيّ في "المعرفة" من طريق أبي حاتم الرازيّ، عن حرملة، عنه. وحكى الخطّابيّ، عن ابن خزيمة أن قول يحيى بن أكثم غلطٌ، والتأويل المنقول عن المزنيّ لا يصحّ،

وقال النوويّ: تأويل اللام بمعنى "على" هنا ضعيف؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أنكر الاشتراط، ولو كانت بمعنى "على" لم يُنكره.

فإن قيل: ما أنكر إلا إرادة الاشتراط في أوّل الأمر.

فالجواب أن سياق الحديث يأبى ذلك.

وضعّفه أيضًا ابن دقيق العيد، وقال: اللام لا تدل بوضعها على الاختصاص النافع، بل على مطلق الاختصاص، فلا بُدّ في حملها على ذلك من قرينة.

(1)

4/ 61.

ص: 541

وقال آخرون: الأمر في قوله: "واشترطي"، للإباحة، وهو على وجه التنبيه على أن ذلك لا ينفعهم، فوجوده وعدمه سواء، وكأنه يقول: اشترطي، أو لا تشترطي، فذلك لا يُفيدهم.

ويقوّي هذا التأويل قوله في رواية أيمن عند البخاريّ: "اشتريها، ودعيهم يشترطون ما شاؤوا".

وقيل: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أعلم الناسَ بأن اشتراط البائع الولاء باطلٌ، واشتهر ذلك بحيث لا يخفى على أهل بريرة، فلما أرادوا أن يشترطوا ما تقدّم لهم العلمُ ببطلانه أطلق الأمر، مُريدًا به التهديد على مآل الحال، كقوله تعالى:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} [التوبة: 105]، وكقول موسى:{أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} [الشعراء: 43] أي: فليس ذلك بنافعكم، وكأنّه يقول: اشترطي لهم، فسيعلمون أن ذلك لا ينفعهم.

ويؤيّده قوله حين خطبهم: "ما بال أقوام يشترطون شروطًا إلخ"، فوبّخهم بهذا القول، مشيرًا إلى أنه قد تقدّم منه بيان حكم الله بإبطاله، إذ لو لم يتقدّم بيان ذلك، لبدأ ببيان الحكم في الخطبة، لا بتوبيخ الفاعل؛ لأنه كان يكون باقيًا على البراءة الأصليّة.

وقيل: الأمر فيه بمعنى الوعيد الذي ظاهره الأمر، وباطنه النهي، كقوله تعالى:{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40].

وقال الشافعيّ في "الأمّ": لمّا كان مَن اشترط خلاف ما قضى الله ورسوله عاصيًا، وكانت في المعاصي حدودٌ، وآدابٌ، وكان من أدب العاصين أن يُعطل عليهم شروطهم ليرتدعوا عن ذلك، ويرتدع به غيرهم، كان ذلك من أيسر الأدب.

وقال غيره: معنى "اشترطي": اتركي مخالفتهم فيما اشترطوه، ولا تُظهري نزاعهم فيما دعوا إليه، مراعاة لتنجيز العتق؛ لتشوّف الشارع إليه، وقد يعبّر عن الترك بالفعل، كقوله تعالى:{وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]، أي: نتركهم يفعلون ذلك، وليس المراد بالإذن إباحة الإضرار بالسحر.

ص: 542

قال ابن دقيق العيد: وهذا وإن كان مُحْتَمِلًا، إلا أنه خارجٌ عن الحقيقة من غير دلالة على المجاز من حيث السياق.

وقال النوويّ: أقوى الأجوبة أن هذا الحكم خاصّ بعائشة في هذه القضيّة، وأن سببه المبالغة في الرجوع عن هذا الشرط؛ لمخالفته حكم الشارع، وهو كفسخ الحجّ إلى العمرة، كان خاصًّا بتلك الحجّة، مبالغةً في إزالة ما كانوا عليه من منع العمرة في أشهر الحجّ.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قوّاه النوويّ ضعيفٌ عندي؛ إذ خطبته صلى الله عليه وسلم المذكورة في الحديث تردّ هذه الدعوى، حيث عمّمت بإبطال كلّ شروطٍ منافية لحكم الشارع.

وقد تعقّبه ابن دقيق العيد بأن التخصيص لا يثبت إلا بدليل، ولأن الشافعيّ نصّ على خلاف هذه المقالة.

ثمّ إن ما ذكره في فسخ الحجّ ضعيفٌ أيضًا، إذ الحقّ أن فسخ الحجّ إلى العمرة ليس خاصًّا بتلك الحجّة، بل عامّ إلى يوم القيامة، وقد تقدّم تحقيق هذه المسألة بأدلّتها في "كتاب الحجّ"، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم.

قال: ويُستفاد منه ارتكاب أخفّ المفسدتين، إذا استلزم إزالة أشدّهما.

وتُعُقّب بأنه استدلالٌ بِمُختَلَفٍ فيه على مُختَلَفٍ فيه.

وقال ابن الجوزيّ: ليس في الحديث أن اشتراط الولاء والعتق كان مقارنًا للعقد، فيُحْمَل على أنه كان سابقًا للعقد، فيكون الأمر بقوله:"اشترطي" مجرّد الوعد، ولا يجب الوفاء به.

وتُعُقّب باستبعاد أنه صلى الله عليه وسلم يأمر شخصًا أن يَعِدَ مع علمه بأنه لا يفي بذلك الوعد.

وأغرب ابن حزم، فقال: كان الحكم ثابتًا بجواز اشتراط الولاء لغير المعتق، فوقع الأمر باشتراطه في الوقت الذي كان جائزًا فيه، ثم نُسخ ذلك الحكم بخطبته صلى الله عليه وسلم، وبقوله:"إنما الولاء لمن أعتق"، ولا يخفى بُعْدُ ما قال، وسياق طرق الحديث يدفع في وجه هذا الجواب، والله المستعان.

وقال الخطّابيّ: وجه هذا الحديث أن الولاء لَمّا كان كلُحْمة النسب، والإنسان إذا وُلد له ولدٌ ثبت له نسبه، ولا ينتقل نسبه عنه، ولو نُسب إلى

ص: 543

غيره، فكذلك إذا أعتَقَ عبدًا ثبت له ولاؤه، ولو أراد نقل ولائه عنه، أو أذن في نقله عنه لم ينتقل، فلم يعبا باشتراطهم الولاء، وقيل:"اشترطي"، و"دعيهم يشترطون ما شاؤوا"، ونحو ذلك؛ لأن ذلك غير قادح في العقد، بل هو بمنزلة اللغو من الكلام، وأَخّر إعلامهم بذلك؛ ليكون ردّه، وإبطاله قولًا شهيرًا، يُخطب به على المنبر ظاهرًا، إذ هو أبلغ في النكير، وأوكد في التعبير. انتهى، وهو يؤول إلى أن الأمر فيه بمعنى الإباحة، كما تقدّم. قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: أقرب الأجوبة عندي أن الأمر بالاشتراط من باب التهديد، فكأنه قال: اشترطي لهم الولاء، ولا ينفعهم ذلك؛ لعلمهم بأن هذا الشرط باطل، وذلك لأنه بيّن لهم الحكم سابقًا، ولكنهم تساهلوا في ذلك، فأراد أن يأدبهم بالاشتراط الذي لا ينفعهم.

قال القاضي عياض: قال محمد بن داود الأصبهاني: أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اشترطي لهم الولاء" إنما معناه: أن ذلك بعد علمهم، ولم يأمرها صلى الله عليه وسلم باشتراطه، ثم يُبطل الشرط، ويصحّح البيع، وهم غير عالمين ببطلانه، وإنما كان هذا منه تهديدًا لمن رغِب عن حكمه، وخالف أمره. انتهى

(2)

. وهو تحقيق نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3775]

، (

) - (وَحَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثنَا ابْنُ نُمَيْرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَنْ جَرِيرٍ، كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، بِهَذَا الإسْنَاد، نَحْوَ حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ، غيْرَ أَن فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ قَالَ: وَكَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا، فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا، وَلَوْ كَانَ حُرًّا لَمْ يُخَيِّرْهَا، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِهِمْ:"أمَّا بَعْدُ").

(1)

"الفتح" 6/ 405 - 407 "كتاب المكاتب" رقم (2563).

(2)

"إكمال المعلم" 5/ 114.

ص: 544

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.

2 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو عبد الله بن نُمير، تقدّم قريبًا.

3 -

(وَكيعُ) بن الجرّاح، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(زهَيْرُ بْنُ حَرْب) تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل بابين.

6 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم قريبًا.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ) يعني أن هؤلاء الثلاثة: عبد الله بن نُمير، ووكيع، وجرير رووه عن هشام بن عروة نحو رواية أبي أسامة الماضية عنه.

وقوله: (وَكَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا) زوج بريرة اسمه مغيث، ويقال: برير، ويقال: مِقسَم

(1)

.

[تنبيه]: رواية عبد الله بن نُمير، عن هشام لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

ورواية وكيع، عن هشام ساقها ابن ماجه في "سننه" 2/ 842 فقال:

(2521)

- حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وعليّ بن محمد قالا: ثنا وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أن بريرة أتتها، وهي مكاتبة، قد كاتبها أهلها على تسع أواق، فقالت لها: إن شاء أهلك عددت لهم عَدَّةً واحدةً، وكان الولاء لي، قال: فأتت أهلها، فذكرت ذلك لهم، فأبوا إلا أن تشترط الولاء لهم، فذكرت عائشة ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"افعلي"،. قال: فقام النبيّ صلى الله عليه وسلم، فخطب الناس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:"ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟ كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحقّ، وشرط الله أوثق، والولاء لمن أعتق". انتهى.

(1)

"تنبيه المعلم"(ص 594).

ص: 545

ورواية جرير، عن هشام ساقها إسحاق ابن راهويه في "مسنده" 2/ 244 فقال:

(746)

- أخبرنا جرير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: كاتبت بريرة على نفسها بتسع أواق، في كل سنة أوقية، فأتت عائشة تستعينها، فقالت: لا، إلا أن يشاؤوا أن أعدّها لهم عَدّة واحدةً، ويكون الولاء لي، فذهبت بريرة، وكلَّمت بذلك أهلها، فأبوا عليها إلا أن يكون الولاء لهم، فجاءت إلى عائشة، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك، فقالت لها ما قال أهلها، فقالت: لا ها الله إذًا، إلا أن يكون الولاء لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما هذا؟ " فقلت: يا رسول الله إن بريرة أتتني تستعين بي على كتابتها، فقلت: لا، إلا أن يشاؤوا أن أعدّها لهم عَدَّة واحدة، ويكون الولاء لي، وقد ذكَرَتْ ذلك لأهلها، فأبوا عليها، إلا أن يكون الولاء لهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ابتاعيها، واشترطي لهم الولاء، وأعتقيها، فإنما الولاء لمن أعتق"، ثم قام، فخطب الناس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:"ما بال أقوام يشترطون شروطا ليس في كتاب الله؟ يقولون: أعتق يا فلان، والولاء لي، كتاب الله أحقّ، وشرط الله أوثق، وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط"، فخيّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم من زوجها، وكان عبدًا، فاختارت نفسها، قال عروة: لو كان حرًّا ما خيّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

37761، (

) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْب، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ - وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ - قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِم، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ قَضِيَّاتٍ: أَرَادَ أَهْلُهَا أَنْ يَبِيعُوهَا، وَيَشْتَرِطُوا وَلَاءَهَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "اشْتَرِيهَا، وَأَعْتِقِيهَا، فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ"، قَالَتْ: وَعَتَقَتْ، فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا، قَالَتْ: وَكَانَ النَّاسُ يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهَا، وَتُهْدِي لَنَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ لَكُمْ هَدِيَّة، فَكُلُوهُ").

ص: 546

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو مُعَاوِية) محمد بن خازم الضرير، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ) تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(أَبُوهُ) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصدّيق، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ قَضِيَّاتٍ) جمع قضيّة، من القضاء، وهو الحكم؛ أي: ثلاثة أحكام، وهو بمعنى قولها الآتي:"ثلاث سُنن".

قال القرطبيّ رحمه الله: تعني به أن هذه الثلاث هي أظهر ما في حديثها من القضايا والسُّنن، وإلا فقد تبيَّن أن فيه من ذلك العدد الكثير، حتى قد بلغت سننه إلى مائةٍ أو أكثر، وَيحْتَمِل أن يكون تخصيصها هذه الثلاث بالذكر؛ لكونها أصولًا لِمَا عداها مِمَّا تضمنه الحديث، أو لكونها أهمّ، والحاجة إليها أمسّ، والله أعلم.

فأحد القضيَّات الثلاث: عتقها، والثانية: تخييرها، والثالثة: أَكْلُ النبيّ صلى الله عليه وسلم مِمَّا تُصدِّقَ به عليها. انتهى

(1)

.

وفي رواية ربيعة، عن القاسم الآتية:"كان في بريرة ثلاثُ سُنن"، وفي حديث ابن عبّاس عند أحمد، وأبي داود:"قضَى فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم أربع قضيّات"، فذكر نحو حديث عائشة، وزاد:"وأمرها أن تعتدّ عدّة الحرّة"، أخرجه الدارقطنيّ.

قال في "الفتح": وهذه الزيادة لم تقع في حديث عائشة، فلذلك اقتَصَرَت على ثلاث، لكن أخرج ابن ماجه من طريق الثوريّ، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت:"أُمرت بَريرة أن تعتدّ بثلاث حِيَض"، وهذا مثلُ حديث ابن عبّاس في قوله:"تعتدّ عدّة الحرّة"، ويخالف ما وقع في رواية

(1)

"المفهم" 4/ 334.

ص: 547

أُخرى عن ابن عبّاس: "تعتدّ بحيضة"، وسيأتي البحث في عدّة المختلعة، وأن من قال: الخلع فسخٌ، قال: تعتدّ بحيضة، وهنا ليس اختيار العتيقة نفسها طلاقًا، فكان القياس أن تعتدّ بحيضة، لكن الحديث الذي أخرجه ابن ماجه على شرط الشيخين، بل هو في أعلى درجات الصحّة.

وقد أخرج أبو يعلى، والبيهقيّ من طريق أبي معشر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنهما:"أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم جعل عدّة بريرة عدّة المطلّقة"، وهو شاهدٌ قويّ؛ لأن أبا معشر، وإن كان فيه ضعفٌ، لكن يصلح في المتابعات.

وأخرج ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة، عن عثمان، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وآخرين:"أنّ الأمة إذا أُعتقت تحت العبد، فطلاقها طلاق عبد، وعدّتها عدّة حرّة".

وقد صنّف العلماء في قصّة بريرة تصانيف، وإنّ بعضهم أوصلها إلى أربعمائة فائدة، ولا يُخالف ذلك قول عائشة رضي الله عنهما:"ثلاث سُنن"؛ لأن مراد عائشة ما وقع من الأحكام فيها مقصودًا خاصّةً، لكن لمّا كان كلّ حكم منها يشتمل على تقعيد قاعدة يَستنبط العالم الفَطِن منها فوائد جمّة وقع التكثير من هذه الحيثيّة، وانضمّ إلى ذلك ما وقع في سياق القصّة غير مقصود، فإن في ذلك أيضًا فوائد تؤخذ بطريق التنصيص، أو الاستنباط، أو اقتصر على الثلاث، أو الأربع؛ لكونها أظهر ما فيها، وما عداها إنما يؤخذ بطريق الاستنباط، أو لأنها أهمّ، والحاجة إليها أمسّ.

قال القاضي عياضٌ: معنى "ثلاث"، أو "أربع" أنها شُرعت في قصّتها، وما يظهر فيها مما سوى ذلك، فكان قد عُلم من غير قصّتها، وهذا أولى من قول من قال: ليس في كلام عائشة حصرٌ، ومفهوم العدد ليس بحجّة، وما أشبه ذلك من الاعتذارات التي لا تدفع سؤال: ما الحكمة في الاقتصار على ذلك؟ قاله في "الفتح"

(1)

.

ثم ذكرت إحدى القضيّات الثلاث، وهي الولاء لمن أَعتَق بقولها:

(أَرَادَ أَهْلُهَا أَنْ يَبِيعُوهَا، ويَشْتَرِطُوا وَلَاءَهَا) أي: لهم (فَذَكَرْتُ ذَلِكَ

(1)

"الفتح" 10/ 508 - 509.

ص: 548

لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"اشْتَرِيهَا، وَأَعْتِقِيهَا، فَإنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ") قد تقدّم البحث في هذا مستوفًى.

وأشارت إلى القضيّة الثانية، وهي ثبوت الخيار للأمة إذا أُعتقت بقولها:

(قَالَتْ) عائشة رضي الله عنهما (وَعَتَقَتْ) بالبناء للفاعل، من باب ضَرَبَ (فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: بين البقاء تحت زوجها، وعدم البقاء (فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا) وفي رواية الأسود عن عائشة:"فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخيّرها من زوجها، قالت: لو أعطاني كذا وكذا ما أقمتُ عنده، فاختارت نفسها". وفي رواية عند البخاري: "فخُيّرت بين أن تقرّ تحت زوجها، أو تُفارقه". و"تقرّ" بفتح القاف، وتشديد الراء؛ أي: تدوم، وفي رواية للدارقطنيّ من طريق أبان بن صالح، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لبريرة: "اذهبي فقد عَتَقَ بُضْعُك".

وقال القرطبيّ رحمه الله: قولها: "وعتقت فخيّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختارت نفسها"، هذه الرواية فيها إجمال وإطلاق، وقد زال إجمالها، وتقيَّد إطلاقها بالروايتين المذكورتين بعدها، فإن فيهما: أن بريرة كان لها زوج حين أعتقت، وأن زوجها كان عبدًا، ومقتضى هذا الحديث بقيوده مجمع عليه؛ وهو: أن الأمة ذات الزوج العبد إذا أُعتِقت مخيرةٌ في الرِّضا بالبقاء مع زوجها أو مفارقته؛ لشرف الحرّية الذي حصل لها على زوجها، ولدفع مضرَّة المعرَّة اللاحقة لها بمُلك العبد لها، ولَمَّا كان هذا راجعًا لحقها، لا لحق الله تعالى: خيّرها الرسول صلى الله عليه وسلم في أن تأخذ بحقها فتفارقه، أو تسقطه؛ فترضى بالمقام معه، وعلى هذا: فلو كان زوجها حرًّا لم يكن لها خيار للمساواة بينهما، ولنفي الضرر اللاحق بها، وهذا مذهب جمهور العلماء.

وقد شذَّ أبو حنيفة، فأثبت لها الخيار، وإن كان زوجها حرًّا؛ متمسِّكًا بما قال الحكم: إن زوج بريرة كان حرًّا، وكذلك قال الأسود، وكلاهما لا يصح، قال البخاري: إن قول الحكم مرسل، وقول الأسود منقطع، قال: وقول ابن عباس: "كان عبدًا" أصح، وكذلك رواه جماعة عن يزيد بن رُومان، عن عروة، عن عائشة: أنه كان عبدًا، وهو الصحيح عنها.

وقد تمسَّك أيضًا أبو حنيفة بما تخيَّله من أن علَّة تخيير بريرة كونها كانت

ص: 549

مجبورة على النكاح، فلما عتقت ملكت نفسها، وهو مطالب بدليل اعتبار هذه العلَّة، وقد يتمسَّكون في ذلك بزيادة في حديث بريرة غير ثابتة فيه، ولا مشهورة، وهي: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لبريرة: "ملكت نفسك فاختاري"، ولو سلّمنا صحتها، لكن لا نسلم أن الفاء هنا للتعليل، بل هي لمجرد العطف، سلَّمنا أنها ظاهرة فيه، لكن عندنا الإجماع على عدم اعتبار تلك العلَّة في ولاية الإجبار على الأصاغر، وذلك: أنهم يلزمهم ما عُقد عليهم في حال صغرهم ذكرانًا كانوا أو إناثًا إذا زال حَجرهم، واستقلوا لأنفسهم، ولا خيار يثبت بالإجماع. لا يقال: بينهما فرق، وهو: أن جبر الأمة للرقّ، وجبر الحرّة للصغر؛ لأنا نقول: ذلك الفرق صوري، خَلِيّ عن المناسبة؛ إذ الكل ولاية إجبار، وقد ارتفع في الصورتين، فيلزم تساويهما في الخيار فيهما، أو في عدمه، والله أعلم.

وقد خرَّج البخاري حديث بريرة هذا عن ابن عباس فقال فيه: إن زوج بريرة كان عبدًا، يقال له: مغيث، كأني أنظر إليه خلفها يطوف يبكي، ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لو راجعتيه"، قالت: يا رسول الله! تأمرني؟ قال: "إنما أشفع"، قالت: فلا حاجة، وزاد عليه أبو داود: وأمرها أن تعتدّ، وزاد الدارقطني: عدّة الحرَّة، وخرَّجه أبو داود من حديث عائشة، فقال: إن بريرة عتقت وهي تحت مغيث - عبد لآل أبي أحمد - فخيَّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:"إن قَرِبَكِ فلا خيار لك".

وهذه الطرق فيها أبواب من الفقه زيادة على ما ذكره مسلم.

فمنها: جواز إظهار الرجل محبة زوجته، وجواز التذلل والرغبة والبكاء بسبب ذلك؛ إذ لم ينكر النبيّ صلى الله عليه وسلم على مغيث شيئًا من ذلك، ولا نبَّهَهُ عليه.

وفيه: جواز عرض الاستشفاع، والتلطف فيه، وتنزّل الرجل الكبير للمشفوع عنده؛ وإن كان نازل القدر.

وفيه: ما يدلُّ على فقه بريرة حيث فرّقت بين الأمر والاستشفاع، وأن أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم كان محمولًا عندهم على الوجوب، بحيث لا يُرَدُّ، ولا يُخَالَف.

وفيه: النصوص: على أن الزوج كان عبدًا.

وفيه: ما يدلُّ على أن تمكين المخيَّرة من نفسها طائعة يُبْطل خيارها،

ص: 550

ويفهم منه أن كل من له الخيار في شيء فتصرف فيه تصرُّف الْمُلاك مختارًا، إنه قد أسقط خياره.

وفيه: جواز تصريح المرأة بكراهة الزوج.

وفيه: ما يدلُّ على أن نفس اختيارها لنفسها كافٍ في وقوع الطلاق؛ إذا لم تصرّح بلفظ طلاق، ولا غيره، لكن حالها دلَّ على ذلك، فاكتفي به، ووقع الطلاق عليها، وحينئذ أمرها أن تعتدَّ عدَّة الحرَّة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب.

ثم أشارت إلى القضيّة الثالثة، وهي حلّ ما تُصدّق به عليها إذا أهدته للنبيّ صلى الله عليه وسلم، بقولها:

(قَالَتْ: وَكَانَ النَّاسُ يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهَا) أي: على بريرة (وَتُهْدِي لَنَا) بضمّ أوله، من الإهداء رباعيًّا (فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية ربيعة الآتية:"وأُهدي لها لحم، فدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والْبُرْمة على النار، فدعا بطعام، فأُتي بخبز وأُدْم من أُدْم البيت، فقال: ألم أر بُرْمة على النار، فيها لحمٌ؟ فقالوا: بلى يا رسول الله، ذلك لحم تُصُدّق به على بريرة، فكرهنا أن نُطعمك منه، فقال: هو عليها صدقة، وهو لنا منها هديةٌ".

وفي رواية عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه الآتية:"وأهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحمٌ، فقالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: هذا تُصُدِّق به على بريرة"، قال في "الفتح": ويُجمع بين الروايتين بأنه لَمّا سأل عنه أُتي به، وقيل له ذلك.

ووقع في رواية عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة عند البخاريّ في "الهبة":"فاُهدي لها لحم، فقيل: هذا تُصدّق به على بَرِيرة"، فإن كان الضمير لبريرة، فكأنه أطلق على الصدقة عليها هديّة لها، وإن كان لعائشة فلأن بَريرة لما تصدّقوا عليها باللحم أهدت منه لعائشة، ويؤيّده ما وقع في رواية أسامة بن زيد، عن القاسم عند أحمد، وابن ماجه:"ودخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والْمِرْجل يَفور بلحم، فقال: من أين لك هذا؟ قلت: أهلله لنا بريرة، وتُصُدّق به عليها"، وعند أحمد، ومسلم من طريق أبي معاوية، عن

(1)

"المفهم" 4/ 334 - 337.

ص: 551

هشام بن عروة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة:"وكان الناس يتصدّقون عليها، فتُهدي لنا". انتهى.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ لَكلمْ هَدِيَّةٌ، فَكُلُوهُ") فيه دليل على أن تحريم الصدقة على الغنيّ، والهاشميّ ليس لعينها، بل لصفتها، فإنه يجوز للمتصدَّق عليه أن يتصرّف في ما تُصُدّق به عليه كيفما شاء، فيجوز له البيع، والهبة، بعدما دخل في ملكه، فيجوز لكل من أهدى إليه أن يأكله.

ومثل هذه الواقعة ما أخرجه الشيخان عن أم عطيّة الأنصاريّة رضي الله عنها قال: "دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم على عائشة، فقال: هل عندكم شيء؟ فقالت: لا، إلا شيء بعثتْ به نُسيبة إلينا من الشاة التي بعثتَ بها من الصدقة، فقال: إنها بلغت مَحِلّها".

قال صاحب تكملة فتح الملهم": وهذا إذا دخل الشي في ملك الواهب، أما إذا لم يدخل في ملكه فلا يسعه أن يهبه لغيره، ولا يحلّ لذلك الغير أن يأخذه منه، فبطل بذلك ما استدلّ به بعض جهلة عصرنا على جواز قبول الهدي من آكل الربا، فإن الربا لا يدخل في ملكه، فكيف يصحّ هبته؟ فليُتنبّه. انتهى

(1)

، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم بالصواب.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تخريجه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3777]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدثنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِم، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ؛ أنَّهَا اشْتَرَتْ بَرِيرَةَ مِنْ أُناسٍ، مِنَ الأنصَار، وَاشْتَرَطُواَ الْوَلَاءَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْوَلَاءُ لِمَنْ وَليَ النِّعْمَةَ"، وَخَيرَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا، وَأَهْدَتْ لِعَائِشَةَ لَحْمًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ صَنَعْتُم لَنَا مِنْ هَذَا اللَّحْمِ"، قَالَتْ عَائِشَةُ: تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فَقَالَ: "هُوَ لَهَا صَدَقَة، وَلنَا هَدِيَّةٌ").

(1)

"تكملة فتح الملهم" 1/ 290.

ص: 552

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(حُسَيْنُ بْنُ عَلِي) الْجُعفيّ القارئ، تقدّم قريبًا.

2 -

(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثقفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(سِمَاكُ) بن حرب بن أوس بن خالد البكريّ، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوقٌ، تغيّر بآخره [4](ت 123)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (الْوَلَاءُ لِمَنْ وَليَ النِّعْمَةَ) معناه: أن الولاء لمن أَعْتَق؛ لأن ولاية النعمة التي يستحقّ بها الميراث لا تكون إلا بالعتق، وفي رواية للبخاريّ في "الفرائض":"الولاء لمن أعطى الْوَرِق، وولي النعمة"؛ أي: لمن أَعتق بعد إعطاء الثمن، عَبّر عن الثمن بالورق، وهو الفضّة؛ لغلبته في الأثمان.

وقال في "الفتح": معنى قوله: "أعطى الوَرِق"؛ أي: الثمن، وإنما عَبّر بالورق؛ لأنه الغالب، ومعنى قوله:"وولي النعمة": أعتق، ومطابقته لقوله:"الولاء لمن أعتق" أن صحة العتق تستدعي سبق مُلك، والمُلك يستدعي ثبوت العِوَض.

قال ابن بطال: هذا الحديث يقتضي أن الولاء لكل مُعْتِق، ذكرًا كان، أو أنثى، وهو مجمع عليه، وأما جَرّ الولاء، فقال الأبهريّ: ليس بين الفقهاء اختلاف أنه ليس للنساء من الولاء إلا ما أعتقن، أو أولاد من أعتقن، إلا ما جاء عن مسروق أنه قال: لا يختص الذكور بولاء من أعتق آباؤهم، بل الذكور والإناث فيه سواء، كالميراث، ونَقَل ابن المنذر عن طاوس مثله، وعليه اقتصر سحنون فيما نقله ابن التين.

وتُعُقِّب الحصر الذي ذكره الأبهريّ تبعًا لسحنون وغيره بأنه يَرِد عليه ولد الإناث من ولد من أعتقن، قال: والعبارة السالمة أن يقال: إلا ما أعتقن، أو جرّه إليهنّ من أعتقن، بولادة، أو عِتْقٍ؛ احترازًا ممن لها ولد من زنا، أو كانت ملاعنةً، أو كان زوجها عبدًا، فإن ولاء ولد هؤلاء كلهنّ لمعتق الأم.

والحجة للجمهور اتفاق الصحابة، ومن حيث النظر أن المرأة لا تستوعب المال بالفرض الذي هو آكد من التعصيب، فاختص بالولاء من يستوعب المال، وهو الذكر، وإنما ورثن من عتقن؛ لأنه عن مباشرة، لا عن جَرّ الإرث.

ص: 553

واستُدِلّ بقوله: "الولاء لمن أعطى الْوَرِق" على من قال فيمن أعتق عن غيره بوصية من المعتق عنه: إن الولاء للمعتِق؛ عملًا بعموم قوله: "الولاء لمن أعتق"، وموضع الدلالة منه قوله:"الولاء لمن أعطى الورق"، فدلّ على أن المراد بقوله:"لمن أَعْتق" لمن كان من عُتِق في ملكه حين العتق، لا لمن باشر العتق فقط. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3778]

(

) - (حَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِم، قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ، يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ؛ أنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ لِلْعِتْق، فَاشْتَرَطُوا وَلَاءَهَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "اشْتَرِيهَا، وَأَعْتِقِيهَا، فَإنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ"، وَأُهْدِيَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَحْمٌ، فَقَالُوا لِلنَّبِي صلى الله عليه وسلم: هَذا تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فَقَالَ: "هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ لَنَا هَدِيَّةٌ"، وَخُيِّرَتْ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: وَكَانَ زَوْجُهَا حُرًّا، قَالَ شُعْبَةُ: ثُمَّ سَألتُهُ عَن زَوْجِهَا، فَقَالَ: لَا أَدْرِي).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلهم ذُكروا في الباب، وفيما قبله.

وقوله: (وَكَانَ زَوْجُهَا حُرًّا، قَالَ شُعْبَةُ: ثمَّ سَألتُهُ عَنْ زَوْجِهَا، فَقَالَ: لَا أَدْرِي) المسئول هو عبد الرحمن بن القاسم، وفي رواية البخاريّ عن محمد بن بشار، عن غندر، عن شعبة، قال عبد الرحمن: زوجها حرّ، أو عبدٌ، قال شعبة: سألت عبد الرحمن عن زوجها، قال: لا أدري أحرّ، أم عبد؟ وفي رواية النسائيّ عن محمد بن إسماعيل، عن يحيى بن أبي بكير، عن شعبة، عن عبد الرحمن:"وكان زوجها عبدًا، ثم قال بعد ذلك: ما أدري".

وكل هذا يدلّ على أن عبد الرحمن كان متردّدًا، فمرّةً يقول: حرّ، ومرّةً يقول: عبد، ومرّةً يقول: لا أدري، وقد تقدّم أن المحفوظ أنه كان عبدًا، كما رواية الأكثرين، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"الفتح" 12/ 48 "كتاب الفرائض".

ص: 554

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3779]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، بِهَذَا الإسْنَادِ نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيُّ) أبو عثمان الملقّب أبا الْجَوزاء، ثقة [11](ت 246)(م ت س) تقدم في "الإيمان" 65/ 369.

2 -

(أَبُو دَاوُدَ) سليمان بن داود بن الجارود الطيالسيّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 204) خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.

و"شعبة" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية أبي داود، عن شعبة هذه ساقها أبو عوانة في "مسنده" 3/ 229 فقال:

(4769)

- حدّثنا يونس بن حبيب، قثنا أبو داود، قثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة؛ أنها أرادت أن تشتري بريرة، فتعتقها، فأراد مواليها أن يشترطوا الولاء، فذكرت عائشة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اشتريها، وأعتقيها، فإنما الولاء لمن أعتق"، وأُتِي بلحم، فقال:"ما هذا؟ " فقالت: هذا أَهدت لنا بريرة، تُصُدّق به عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هو عليها صدقة، ولنا هدية"، وخُيِّرت وكان زوجها حرًّا، قال: ثم سألته بعد ذلك، فقال: ما أدري، أحر هو أم عبدٌ؟ قال شعبة: فقلت لسماك: إني أَتَّقي أن أسأله عن الإسناد، فسله أنت، وكان في حلقة، فقال له سماك بعدما حدّث: أحدثك أبوك عن عائشة؟ فقال له عبد الرحمن: نعم، قال شعبة: قال لي سماك: قد استوثقته لك. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[3780]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي هِشَامٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُغيرَةُ بْنُ سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيُّ أَبُو هِشَامٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثنا عُبَيْدُ الله، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشةَ، قَالَتْ: كَانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ عَبْدًا".

ص: 555

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(مُغِيرَةُ بْنُ سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيُّ أبُو هِشَامٍ) البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [9](ت 200)(خت م د س ق) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

[تنبيه]: وقع في معظم نسخ "صحيح مسلم" هنا غلط، حيث كتبوا الواو قبل "أبو هشام"، ولفظه:"حدّثنا مغيرة بن سلمة المخزوميّ، وأبو هشام"، وهو غلط فاحش، والصواب "أبو هشام" بدون عاطف؛ لأنه كنية مغيرة بن سلمة، وهكذا وقع على الصواب في النسخة الهنديّة، و"تحفة الأشراف"

(1)

.

2 -

(وُهَيْبُ) بن خالد الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، تغيّر بآخره قليلًا [7](ت 165) أو بعدها، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.

3 -

(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر العمريّ المدنيّ، تقدّم قبل باب.

4 -

(يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ) المدنيّ، مولى آل الزبير، ثقة [5](ت 130)(ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 57/ 1948.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

والحديث من أفراد المصنّف، أخرجه هنا [3/ 3780](1504)، و (النسائيّ) في "الطلاق"(6/ 165) و"الكبرى"(3/ 366)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 230)، و (ابن را هويه) في "مسنده"(2/ 246)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 221)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3781]

(

) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أنسٍ، عَنْ رَبيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهَا قَالَتْ: كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ سُنَنٍ: خُيِّرَتْ عَلَى زَوْجِهَا حِينَ عَتَقَتْ، وَأُهْدِي لَهَا لَحْمٌ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْبُرمَةُ عَلَى النَّار، فَدَعَا بِطَعَامٍ، فَأُتِيَ بِخُبْزٍ، وَأُدْمٍ، مِنْ أُدُمِ الْبَيْت، فَقَالَ: (ألَمْ أَرَ بُرْمَةً عَلَى النَّار، فِيهَا لَحْمٌ؟ "، فَقَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ الله، ذَلِكَ لَحْمٌ، تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فَكَرِهْنَا أَنْ

(1)

راجع: "النسخة الهنديّة" 1/ 494، و"تحفة الأشراف" 11/ 622.

ص: 556

نُطْعِمَكَ مِنْهُ، فَقَالَ:"هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ مِنْهَا لنَا هَدِيَّةٌ"، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا:"إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(رَبيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ) التيميّ مولاهم، أبو عثمان المدنيّ، واسم أبيه فَرُّوخ، ثقةٌ فقيهٌ مشهور [5](ت 136) على الصحيح (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 11/ 1652.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.

وقولها: (كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ سُننٍ) هو بمعنى قوله في الرواية السابقة: "ثلاث قضيّات".

وقولها: (خُيِّرَتْ عَلَى زَوْجِهَا إلخ) هذه الأُولى من السنن الثلاث.

وقولها: (وَأُهْدِيَ لَهَا لَحْمٌ) إلخ هذه هي ثاني السنن.

وقولها: (وَالْبُرْمَةُ عَلَى النَّارِ) الواو للحال، والجملة في محلّ نصب على الحال، و"الْبُرْمة" بضمّ الموحّدة، وسكون الراء: القِدْرُ، جمعه بُرَم، مثلُ غرفة وغُرَف، وبِرَام، ككِتاب، وفي رواية النسائيّ:"والبُرمة تفور بلحم".

وقولها: (وَأُدْمٍ، مِنْ أُدُمِ الْبَيْتِ) لأول بضمّ، فسكون، مفرد، ويجمع على آدام، كقُفْل وأقفال، والثاني بضمّتين، جمع إدام، ككتاب وكُتُب، ويجوز تسكين داله للتخفيف، وهو ما يُؤدَم به مائعًا كان، أو جامدًا.

وقال السنديّ في "شرح النسائيّ" في "المجمع": "الأُدْمُ" ككُتْبٍ في كُتُبٍ، فظاهره أنه بالضمّتين جمع، نعم يجوز السكون في كلّ ما كان بضمّتين، وعلى هذا فالظاهر أن الأول بضمّ، فسكون مفردٌ، والثاني بضمّتين جمعٌ، ومعنى "أُدْم البيت": الأُدْمُ التي توجد في البيوت غالبًا؛ كالخلّ، والعسل، والتمر. انتهى

(1)

.

وقوله: ("إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ") هذه هي السُّنة الثالثة، والحديث تقدّم تمام البحث فيه قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"شرح السنديّ على النسائيّ" 6/ 162.

ص: 557

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3782]

(1505) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، حَدَّثَنِي سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أَرَادَتْ عَائِشَةُ أَنْ تَشْتَرِيَ جَارِيَةً تُعْتِقُهَا، فَأبى أَهْلُهَا إِلا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْوَلَاءُ، فَذَكرَتْ ذَلِكَ لِرَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "لَا يَمْنَعُكِ ذَلِك، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلهم تقدّموا في هذا الباب، وقبل ثلاثة أبواب، و"خالد بن مخلد" هو: الْقَطَوانيّ، والحديث من أفراد المصنّف، وقد تقدّم شرحه في حديث ابن عمر، عن عائشة رضي الله عنها المذكور أول الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(4) - (بابُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَهِبَتِهِ)

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3783]

(1506) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِي، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ؛ أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلَاء، وَعَنْ هِبَتِهِ. قَالَ مُسْلِمٌ: النَّاسُ كُلُّهُمْ عِيَالٌ عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ في هَذَا الْحَدِيثِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(يَحْيىَ بْنُ يَحْيىَ التَّمِيمِيُّ) النيسابوريّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) المدنيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ) العدويّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، مولى ابن عمر، ثقةٌ [4](ت 127)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.

4 -

(ابْنُ عُمَرَ) عبد الله رضي الله عنهما المتوفّى سنة (3 أو 74)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

ص: 558

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رُباعيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة.

4 -

(ومنها): أن فيه ابن عمرَ رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة روى (2630) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما، وفي رواية الإسماعيلي، من طريق أحمد بن سنان، عن عبد الرحمن بن مهديّ، عن شعبة وسفيان، عن ابن دينار: سمعت ابن عمر، وفي مسند الطيالسيّ، عن شعبة: قلت لعبد الله بن دينار: أنت سمعت هذا من ابن عمر؟ قال: نعم سأله ابنه عنه، وذكره أبو عوانة عن بهز بن أسد، عن شعبة: قلت لابن دينار: أنت سمعته من ابن عمر؟ قال: نعم وسأله ابنه حمزة عنه، وكذا وقع في رواية عفان، عن شعبة، عند أبي نعيم، وأخرجه من وجه آخر؛ أن شعبة قال: قلت لابن دينار: الله لقد سمعت ابن عمر يقول هذا؟ فيحلف له، وقيل لابن عيينة: إن " شعبة يستحلف عبد الله بن دينار، قال: لكنا لم نستحلفه، سمعته منه مرارًا، رواه الحميديّ في مسنده عن سفيان، وأخرجه الدارقطنيّ في "غرائب مالك" من طريق الحسن بن زياد اللؤلؤيّ، عن مالك، عن ابن دينار، عن حمزة بن عبد الله بن عمر؛ أنه سأل أباه عن شراء الولاء؟ فذكر الحديث، فهذا ظاهره أن ابن دينار لم يسمعه من ابن عمر، وليس كذلك، قاله في "الفتح"

(1)

.

(أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلَاء، وَعَنْ هِبَتِهِ) قال الخطّابيّ رحمه الله: قال ابن الأعرابيّ، محمد بن زياد

(2)

: كانت العرب تبيع ولاء مواليها:

(1)

"الفتح" 15/ 483 - 484.

(2)

بدل من "ابن الأعرابيّ"؛ لأنه اسمه.

ص: 559

فَبَاعُوهُ مَمْلُوكًا وَبَاعُهُ مُعْتَقًا

فَلَيْسَ لَهُ حَتَّى الْمَمَاتِ خَلَاصُ

فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وهذا كالإجماع من أهل العلم، إلا أنه قد رُوي عن ميمونة لأنه كانت وهبت ولاء مواليها من العبّاس، أو من ابن عباس رضي الله عنهما، قال: وسمعت أبا الوليد حسّان بن محمد يذكر أن الذي وهبته ميمونة من الولاء، كان ولاء سابية، وولاء السابية قد اختلف فيه أهل العلم. انتهى

(1)

.

وقال السنديّ رحمه الله في "شرح النسائيّ": ليس المراد به المال بعد موت المعتَق بالفتح، وانتقاله إلى المعتِق بالكسر، بل المراد هو السبب الذي بين المعتِق، والمعتَق الذي هو سبب لانتقال هذا المال. انتهى.

(قَالَ مُسْلِمٌ): ابن الحجّاج، صاحب الكتاب:(النَّاسُ) المراد بهم رواة هذا الحديث (كُلَّهُمْ عِيَالٌ عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ) معناه أنه انفرد بروايته عن ابن عمر رضي الله عنهما، فلم يشاركه فيه أحد من أصحاب ابن عمر رضي الله عنهما.

وهذا الذي قاله مسلم: قاله غيره من العلماء أيضًا، فقال في "الفتح": وقد اشتَهَر هذا الحديث عن عبد الله بن دينار، حتى قال مسلم لَمّا أخرجه في "صحيحه": الناس في هذا الحديث عيال عليه، وقال الترمذي بعد تخريجه: حسن صحيح، لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن دينار، رواه عنه سعيد، وسفيان، ومالك، ويُرْوَى عن شعبة أنه قال: وَدِدْتُ أن عبد الله بن دينار، لما حَدّث بهذا الحديث، أَذِنَ لي حتى كنت أقوم إليه، فأقبّل رأسه، قال الترمذيّ: وروى يحيى بن سليم، عن عبيد الله بن عمر، عن عبد الله بن دينار.

قال الحافظ: وصل رواية يحيى بن سليم ابن ماجه، ولم ينفرد به يحيى بن سليم، فقد تابعه أبو ضمرة، أنس بن عياض، ويحيى بن سعيد الأمويّ، كلاهما عن عبيد الله بن عمر، أخرجه أبو عوانة، في "صحيحه" من طريقهما، لكن قَرَن كل منهما نافعًا بعبد الله بن دينار، وأخرجه ابن حبان في "الثقات" في ترجمة أحمد بن أبي أوفى، وساقه من طريقه عن شعبة، عن عبد الله بن دينار، وعمرو بن دينار جميعًا، عن ابن عمر، وقال: عمرو بن دينار غريب.

(1)

"معالم السنن" 4/ 187.

ص: 560

وقد اعتنى أبو نعيم الأصبهانيّ، بجمع طرقه، عن عبد الله بن دينار، فأورده عن خمسة وثلاثين نفسًا، ممن حَدَّث به عن عبد الله بن دينار، منهم من الأكابر: يحيى بن سعيد الأنصاري، وموسى بن عقبة، ويزيد بن الهاد، وعبيد الله العمريّ، وهؤلاء من صغار التابعين، وممن دونهم: مِسْعَر، والحسن بن صالح بن حيّ، وورقاء، وأيوب بن موسى، وعبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، وعبد العزيز بن مسلم، وأبو أويس، وممن لم يقع له ابن جريج، وهو عند أبي عوانة، وسليمان بن بلال، وهو عند مسلم، وأحمد بن حازم المغافريّ، في "جزء الهرويّ" من طريق الطبرانيّ.

وقال ابن العربيّ في "شرح الترمذيّ": تفرد بهذا الحديث عبد الله بن دينار، وهو من الدرجة الثانية من الخبر؛ لأنه لم يذكر لفظ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكأنه نقل معنى قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنما الولاء لمن أعتق".

قال الحافظ: ويؤيده أن ابن عمر روى هذا الحديث عن عائشة، في قصة بريرة، كما مضى في "العتق"، لكن جاءت عنه صيغة الحديث من وجه آخر، أخرجه النسائيّ، وأبو عوانة، من طريق الليث، عن يحيى بن أيوب، عن مالك، ولفظه:"سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم، ينهى عن بيع الولاء، وعن هبته".

ووقع في رواية محمد بن أبي سليمان، بلفظ:"الولاء لا يباع، ولا يوهب"، وفي رواية عتبان بن عبيد، عن شعبة مثله، ذكره أبو نعيم، وزاد محمد بن سليمان في السند:"عن ابن عمر، عن عمر"، فوَهِمَ، أخرجه الدارقطنيّ أيضًا، وضعّفه.

واتّفق جميع من ذكرنا على هذا اللفظ، وخالفهم أبو يوسف القاضي، فرواه عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، بلفظ:"الولاء لُحمة كلحمة النسب"، أخرجه الشافعيّ، ومن طريقه الحاكم، ثم البيهقيّ، وأدخل بشر بن الوليد بين أبي يوسف، وبين ابن دينار عبيد الله بن عمر، أخرجه أبو يعلى في "مسنده" عنه، وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" عن أبي يعلى، وأخرجه أبو نعيم من طريق عبد الله بن جعفر بن أعين، عن بشر، فزاد في المتن:"لا يباع، ولا يوهب"، ومن طريق عبد الله بن نافع، عن عبد الله بن دينار:"إنما الولاء نسب، لا يصح بيعه، ولا هبته"، والمحفوظ في هذا ما أخرجه عبد الرزاق،

ص: 561

عن الثوري، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيِّب، موقوفًا عليه:"الولاء لُحمة كلحمة النسب"، وكذا ما أخرجه البزار، والطبرانيّ، من طريق سليمان بن عليّ بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن جدّه، رفعه:"الولاء ليس بمنتقل، ولا متحوِّل"، وفي سنده المغيرة بن جميل، وهو مجهول، نعم عن ابن عباس، من قوله:"الولاء لمن أعتق، لا يجوز بيعه، ولا هبته". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 3783 و 3784](1506)، و (البخاريّ) في "العتق"(2535)، و (أبو داود) في "الفرائض"(2919)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1236) و"الولاء والهبة"(2126)، و (النسائيّ) في "البيوع"(4659 و 4660 و 4661) وفي "الكبرى"(6253 و 6254)، و (مالك) في "الموطإ"(1522)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1885)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 72)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 79 و 107)، و (الدارميّ) في "سننه"(2459 و 3026)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4948)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(13625)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 233)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 245)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(1/ 116)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 238 و 239)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 292) و"الصغرى"(9/ 301) و"المعرفة"(7/ 205 - 206)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2226)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان حكم بيع الولاء، وهو المنع، قال النوويّ رحمه الله: فيه تحريم بيع الولاء وهبته، وأنهما لا يصحّان، وأنه لا ينتقل الولاء عن مستحقّه،

(1)

"الفتح" 15/ 483 - 485 "كتاب الفرائض" رقم (6756).

ص: 562

بل هو لُحمة كلحمة النسب، وبهذا قال جماهير العلماء من السلف، والخلف، وأجاز بعض السلف نقله، ولعلهم لم يبلغهم الحديث. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): ما قاله ابن بطال رحمه الله: أجمع العلماء على أنه لا يجوز تحويل النسب، فإذا كان حكم الولاء حكم النسب فكما لا ينتقل النسب لا ينتقل الولاء، وكانوا في الجاهلية ينقلون الولاء بالبيع وغيره فنهى الشرع عن ذلك

(2)

.

3 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: إنما لم يجز بيع الولاء، ولا هبته؛ للنهي عن ذلك، ولأنه أمر وجوديّ، لا يتأتّى الانفكاك عنه كالنسب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"الولاء لُحمة كلُحمة النسب"، فكما لا تنتقل الأبوّة، والجدودة، كذلك لا ينتقل الولاء، قال: غير أنه يصحّ في الولاء جرّ ما يترتّب عليه الميراث، ومثاله أن يتزوّج عبدٌ مُعتقةً، فيولد له منها ولدٌ، فيكون حرًّا بحرّية أمه، ويكون ولاؤه لمواليها، ما دام أبوه عبدًا، فلو أعتقه سيّده عاد ولاؤه لمعتِق أبيه بالاتفاق. انتهى

(3)

.

قال الحافظ بعد أن ذكر كلام القرطبيّ هذا ما نصّه: وهذا لا يقدح في الأصل المذكور: أن الولاء لحمة كلحمة النسب؛ لأن التشبيه لا يستلزم التسوية من كل وجه. انتهى

(4)

.

[تنبيه]: قال القرطبيّ رحمه الله: للولاء أحكام خاصّة ثبتت بالسنّة:

[منها]: أنه لا يَرِث به إلا العصبات الذكور، ولا مدخل للنساء فيه، إلا فيما أعتقن، أو أعتق من أعتقن.

[ومنها]: أن لا يُورث إلا بالكِبَر، فلا يستحقّ البطن الثاني منه شيئًا ما بقي من البطن الأول شيء، وتفصيل ذلك في الفروع، وقد حُكي عن بعض السلف أن الولاء ينتقل، ولعله إنما يعني به الجرّ. انتهى

(5)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"شرح مسلم" 10/ 387.

(2)

"الفتح" 15/ 485.

(3)

"المفهم" 4/ 339.

(4)

"الفتح" 15/ 485.

(5)

"المفهم" 4/ 339.

ص: 563

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم بيع الولاء:

قال العلامة ابن قُدامة رحمه الله: ولا يصح بيع الولاء، ولا هبته، ولا أن يأذن لمولاه، فيوالي من شاء، رُوي ذلك عن عمر، وعليّ، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم، وبه قال سعيد بن المسيِّب، وطاوس، وإياس بن معاوية، والزهريّ، ومالك، والشافعيّ، وأبو حنيفة، وأصحابه، وكَرِه جابر بن عبد الله بيع الولاء، قال سعيد: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: قال عبد الله: "إنما الولاء كالنسب، أفيبيع الرجل نسبه؟ "، وقال: حدّثنا سفيان، عن عمرو بن دينار: أن ميمونة وهبت ولاء سليمان بن يسار لابن عباس، وكان مكاتَبًا، وروي أن ميمونة وهبت ولاء مواليها للعباس، وولاؤهم اليوم لهم، وأن عروة ابتاع ولاء طهمان، لورثة مصعب بن الزبير، وقال ابن جريج: قلت لعطاء: أذنتُ لمولاي أن يوالي من شاء، فيجوز؟ قال: نعم.

واحتجّ الأولون بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء، وعن وهبته، وقال:"الولاء لُحْمة كلحمة النسب"، وقال:"لعن الله من تولى غير مواليه"، ولأنه معنى يورث به فلا ينتقل كالقرابة، وفعل هؤلاء شاذّ يخالف قول الجمهور، وتردّه السنة، فلا يعوّل عليه.

قال: ولا ينتقل الولاء عن المعتِق بموته، ولا يرثه ورثته، وإنما يرثون المال به، مع بقائه للمعتِق، هذا قول الجمهور، ورُوي نحو ذلك عن عمر، وعليّ، وزيد، وابن مسعود، وأُبيّ بن كعب، وابن عمر، وأبي مسعود البدريّ، وأسامة بن زيد، وبه قال عطاء، وطاوس، وسالم بن عبد الله، والحسن، وابن سيرين، والشعبيّ، والزهريّ، والنخعيّ، وقتادة، وأبو الزناد، وابن نشيط، ومالك، والثوريّ، والشافعيّ، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وداود، وشذَّ شُرَيح، وقال: الولاء كالمال يورث عن المعتِق، فمن ملك شيئًا حياته، فهو لورثته، ورواه حنبل، ومحمد بن الحكم، عن أحمد، وغَلَّطهما أبو بكر، وهو كما قال، فإن رواية الجماعة عن أحمد، مثل قول الجماعة، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم:"الولاء للمعتق"، وقوله:"الولاء لحمة كلحمة النسب"، والنسب لا يورَّث، وإنما يُورَث به، ولأنه معنى يُورَث به، فلا ينتقل كسائر الأسباب، والله

ص: 564

تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قال ابن عبد البرّ رحمه الله: اتفق الجماعة على العمل بهذا الحديث، إلا ما رُوي عن ميمونة لأنها وهبت ولاء سليمان بن يسار لابن عباس رضي الله عنه، ورَوَى عبد الرزاق عن ابن جريج، عن عطاء: يجوز للسيد أن يأذن لعبده أن يوالي من شاء.

وقال ابن بطال وغيره: جاء عن عثمان جواز بيع الولاء، وكذا عن عروة، وجاء عن ميمونة جواز هبة الولاء، وكذا عن ابن عباس، ولعلهم لم يبلغهم الحديث.

قال الحافظ: قد أنكر ذلك ابن مسعود في زمن عثمان، فأخرج عبد الرزاق عنه: أنه كان يقول: أيبيع أحدكم نسبه؟ ومن طريق عليّ: الولاء شعبة من النسب، ومن طريق جابر أنه أنكر بيع الولاء وهبته، ومن طريق عطاء أن ابن عمر كان ينكره، ومن طريق عطاء، عن ابن عباس: لا يجوز، وسنده صحيح، ومن ثَمّ فَصّلوا في النقل عن ابن عباس بين البيع والهبة.

وقال ابن العربيّ: معنى: "الولاء لحمة كلحمة النسب" أن الله أخرجه بالحرمة إلى النسب حكمًا، كما أن الأب أخرجه بالنطفة إلى الوجود حسًّا؛ لأن العبد كان كالمعدوم في حق الأحكام، لا يَقضي ولا يَلي ولا يَشهد، فأخرجه سيده بالحرية إلى وجود هذه الأحكام من عدمها، فلما شابه حكم النسب أُنيط بالمعتِق، فلذلك جاء:"إنما الولاء لمن أعتق"، وأُلحق برتبة النسب، فنُهِي عن بيعه وهبته. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما تقدّم من الحجج أن الصواب هو ما عليه الجمهور، من أنه لا يجوز بيع الولاء، ولا هبته، وأنه لا ينتقل عن المعتِق بموته إلى غيره؛ للأدلّة الصحيحة التي تقدّم بيانها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"المغني" لابن قُدامة رحمه الله 9/ 219 - 220.

(2)

"الفتح" 15/ 485 "كتاب الفرائض" رقم (6756).

ص: 565

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3784]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثنا ابْنُ عُيَيْنَةَ (ح) وَحَدَّثنا يَحْيَى بْنُ أيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالُوًا: حَدَّثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثنا عَبْدُ الْوَهَّاب، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ (ح) وَحَدَّثنا ابْنُ رَافِعٍ، حَدَّثنا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، أَخْبَرَنَا الضَّحَّاكُ - يَعْنى ابْنَ عُثْمَانَ - كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِه، غَيْرَ أَنَّ الثَّقَفِئ لَيْسَ فِي حَدِيثِهِ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ إِلَّا الْبَيْعُ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْهِبَةَ).

رجال هذا الإسناد: عشرون:

1 -

(ابْنُ عُيَيْنَةَ) سفيان، تقدّم قريبًا.

2 -

(يَحْيى بْنُ أيُّوبَ) المقابريّ البغداديّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(ابْنُ حُجْرٍ) عليّ بن حجر السعديّ المروزيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ) الثوريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

6 -

(الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ) الْحِزاميّ، أبو عثمان المدني، صدوقٌ يَهِمُ [7](م 4) تقدم في "الحيض" 16/ 774.

والباقون تقدّموا في الباب، وفي الأبواب الثلاثة قبله.

وقوله: (كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ) يعني أن هؤلاء الستة، وهم: سفيان بن عيينة، وإسماعيل بن جعفر، وسفيان بن سعيد الثوريّ، وشعبة، وعبيد الله بن عمر العمريّ، والضحّاك بن عثمان رووا هذا الحديث عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّ الثَّقَفِيَّ إلخ) هو عبد الله بن عبد المجيد الثقفيّ البصريّ، روى هذا الحديث عن عبيد الله العمريّ بلفظ:"نهى عن بيع الولاء"، ولم يذكر النهي عن هبته.

ص: 566

[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن دينار، ساقها أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنّفه" 6/ 299 فقال:

(31608)

- حدّثنا ابن عيينة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء، وعن هبته". انتهى.

وأما رواية إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، فقد ساقها النسائيّ في "الكبرى" 4/ 89 فقال:

(6415)

- أخبرنا عليّ بن حُجْر بن إياس المروزيّ، عن إسماعيل - يعني ابن جعفر - عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء، وعن هبته". انتهى.

وأما رواية سفيان الثوريّ، عن عبد الله بن دينار، فقد ساقها البخاريّ في "صحيحه" 6/ 2482 فقال:

(6375)

- حدّثنا أبو نعيم، حدّثنا سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:"نَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء، وعن هبته". انتهى.

وأما رواية شعبة، عن عبد الله بن دينار، فقد ساقها البخاريّ أيضًا 2/ 896 فقال:

(2398)

- حدّثنا أبو الوليد، حدّثنا شعبة، قال: أخبرني عبد الله بن دينار، سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء، وعن هبته". انتهى.

وأما رواية عبد الوهّاب الثقفيّ، عن عُبيد الله بن عمر، عن عبد الله بن دينار، بحذف لفظ الهبة، فلم أجد من ساقها بتمامها، وإنما ساقها النسائيّ بذكر الهبة، فقال في "الكبرى" 4/ 51:

(6253)

- أخبرنا إسماعيل بن مسعود، قال: حدّثنا خالد، قال: حدّثنا عبيد الله، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله رضي الله عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن بيع الولاء، وعن هبته". انتهى.

وأما رواية الضحّاك بن عثمان، عن عبد الله بن دينار، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرحع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 567

(5) - (بَابُ تَحْرِيمِ تَوَلِّي الْعَتِيقِ غَيْرَ مَوَالِيهِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أول الكتاب قال:

[3785]

(1507) - (وَحَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدثنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزبَيْرِ؛ أنهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: كَتَبَ النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى كُلِّ بَطْنٍ عُقُولَهُ، ثُمَّ كَتَبَ: "أنهُ لَا يَحِل لِمُسْلِمٍ أَنْ يَتَوَالَى مَوْلَى رَجُلٍ مُسْلِم بِغَيْرِ إِذْنِهِ"، ثُمَّ أخْبِرْتُ أنَّهُ لَعَنَ في صحِيفَتِهِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعاني، تقدّم قبل بابين.

3 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، تقدّم أيضًا قبل بابين.

4 -

(أَبُو الزبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، صدوقٌ يُدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

5 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حَرَام رضي الله عنه المتوفّى بعد السبعين (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له ابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالتحديث، والإخبار، والسماع من أوله إلى آخره.

4 -

(ومنها): أن فيه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.

ص: 568

شرح الحديث:

(عنْ أبي الزُّبَيْرِ؛ أنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: كَتَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) أي: أثبت، وأوجب، والمراد: أمر بكتابة ذلك (عَلَى كُلّ بَطْنٍ) - بفتح الموحدة، وسكون الطاء المهملة، آخره نون -: هو دون القبيلة، مؤنّث، د ان أُريد الحيّ، فمذكّر، والجمع بُطُون، وَأَبْطَنٌ. أفاده في "المصباح"

(1)

.

[فائدة]: قال بعضهم: طبقات النسب سبع: الشَّعْبُ، والقبيلة، والعِمارة، والبطن، والفخذ، والفَصيلة، بوزن قَبيلة، والْعَشِيرة، وكلّ واحدة تدخل فيما قبلها، فالقبائل تحت الشُّعُوب، والعمائر تحت القبائل، والبطون تحت العمائر، والأفخاذ تحت البطون، والفصائل تحت الأفخاذ، والعشائر تحت الفصائل، فخُزَيمة شَعْب، وكنانة قبيلة، وقريش عِمارة، وقُصيّ بطنٌ، وعبد مناف فخذ، وبنو هاشم فَصِيلةٌ، والعبّاس عشيرة، وليس بعد العشيرة حيّ يُوصَف، وسُمي الشَّعْب شَعبًا لتشعّب القبائل منه، ذكره سليمان بن عمر المعروف بالجمل في "حاشيته على الجلالين"

(2)

.

وقال ابن منظور: قال الشيخ ابن بَرّيّ: الصحيح في هذا ما رتّبه الزبير بن بكّار، وهو الشَّعْب، ثم القبيلة، ثم العِمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة، قال أبو أُسامة: هذه الطبقات على ترتيب خَلْق الإنسان، فالشَّعب أعظمها، مشتقّ من شَعْب الرأس، ثم القبيلة من قَبِيلة الرأس؛ لاجتماعها، ثم العِمارة، وهي الصدر، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة، وهي الساق. انتهى

(3)

.

وقال أبو عبد الله القرطبيّ في "تفسيره": وحَكَى أبو عبيد، عن ابن الكلبيّ، عن أبيه: الشَّعْب أكبر من القبيلة، ثم الفصيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، وقيل: الشعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة، ثم العَشِيرة، وقد نظمها بعض الأدباء، فقال [من الخفيف]:

(1)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 52.

(2)

راجع: "حاشية الجمل" في تفسير "سورة الحجرات" 4/ 185.

(3)

"لسان العرب" 1/ 500 - 501.

ص: 569

اقْصِدِ الشَّعْبَ فَهْوَ أَكْثَرُ حَيٍّ

عَدَدًا فِي الْحِوَاءِ ثُمَّ الْقَبِيلَهْ

ثُمَّ تَتْلُوهَا الْعِمَارَةُ ثُمَّ الْـ

ـــبَطْنُ وَالْفَخْذُ بَعْدَهَا وَالْفَصِيلَهْ

ثُمَّ مِنْ بَعْدِهَا الْعَشِيرَةُ لَكِنْ .... هِيَ فِي جَنْبِ مَا ذَكَرْنَاهُ قَلِيلَهْ

وقال آخر [من البسيط]:

قَبِيلَةٌ قَبْلَهَا شَعْبٌ وَبَعْدَهُمَا .... عِمَارَةٌ ثُمَّ بَطْنٌ تِلْوُهُ فَخِذُ

وَلَيْسَ يُؤوِي الْفَتَى إِلَّا فَصِيلَتُهُ

وَلَا سَدَادَ لِسَهْمٍ مَا لَهُ قُذَذَ

انتهى

(1)

.

(عُقُولَهُ) بالنصب مفعول "كتب"، والهاء ضمير البطن، ذكّره باعتبار الحيّ، كما سبق آنفًا.

والعُقُول - بضم العين المهملة -: الديات، واحدها عَقْل - بفتح، فسكون -؛ كفلس وفُلوس، ومعناه: أن الدية في قتل الخطإ، وعمد الخطإ، وهو شبه العمد، تجب على العاقلة، وهم العصبات، سواء الآباء، والأبناء، وإن علوا، أو سفلوا، أفاده الثوويّ.

وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله ما حاصله: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا هاجر إلى المدينة، واستقرّ أمره فيها، آخى بين المهاجرين والأنصار، وصالح من كان فيها من اليهود، وميّز القبائل، بعضها من بعض، وضمّ البطون بعضها إلى بعض فيما ينوبهم من الحقوق، والغرامات، وكان بينهم دماء، ودياتٌ بسبب الحروب العظيمة التي كانت بينهم قبل الإسلام، فرفع تعالى كلَّ ذلك عنهم، وألّف بين قلوبهم ببركة الإسلام، وبركة النبيّ صلى الله عليه وسلم، حتى صاروا كما قال الله تعالى:{وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} الآية [آل عمران: 103]. انتهى

(2)

.

(ثُمَّ كَتَبَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم ("أَنَّهُ) الضمير للشأن، وهو الضمير الذي تفسّره الجملة بعده، كما قال ابن مالك في "الكافية الشافية":

وَمُضْمَرُ الشَّأنِ ضَمِيرٌ فُسِّرَا

بِجُمْلَةٍ كَـ"إِنَّهُ زيدٌ سَرَى"

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" في تفسير "سورة الحجرات" 16/ 345.

(2)

"المفهم" 4/ 340.

ص: 570

(لَا يَحِلُّ) - بكسر الحاء المهملة - مضارع حَلّ، من باب ضرب: ضدُّ حَرُم (لِمُسْلِمٍ أَنْ يَتَوَالَى مَوْلَى رَجُلٍ مُسْلِمٍ) يعني أنه لا يحلّ لرجل مسلم أن يُحْدث ولاءً مع من أعتقه غيره من المسلمين؛ لأن الولاء لُحْمَةٌ كلُحْمة النسب، ولا يثبت شرعًا إلا للمعتِقِ.

وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا يقتضي تحريم أن ينسُب أحدٌ مولى رجل لنفسه، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي بعده يقتضي تحريم نسبة المولى لغير مُعتِقِه، وكلاهما محرّم هنا، كما هو محرّم في النسب، وقد سوّى النبيّ صلى الله عليه وسلم بينهما في الرَّدْع، والوعيد، فقال:"من ادّعَى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه، فالجنّة عليه حرام". انتهى

(1)

.

(بِغَيْرِ إِذْنِهِ") أي: بغير إذن سيّده، قال القرطبيّ رحمه الله: دليل خطابه يدلّ على أن السيّد إذا أذِن في ذلك جاز، كما قد ذهب إليه بعض الناس، وليس بصحيح، والجمهور على منع ذلك، وإن أذن السيّد؛ لأن السيّد إذا أذن في ذلك بِعوض، فهو المبايعة للولاء المنهيّ عنها، أو ما في معناه، وإن كان بغير عوض، فهي هبة الولاء، وما معناها، ولا يجوز واحد منهما، وإنما جرى ذكر الإذن فيه؛ لأن أكثر ما يقع من ذلك، إنما يكون بغير إذن السادة، فلا دليل خطاب لمثل هذا اللفظ، وقد بيّنّا في أصول الفقه أن ما يدُلّ على جهة النطق مُرجّحٌ على ما يدلّ على جهة المفهوم. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله ما معناه: قد احتجّ قوم بقوله: "بغير إذنه" على جواز التولّي بإذن مواليه، والصحيح الذي عليه الجمهور أنه لا يجوز، وإن أذِنوا، كما لا يجوز الانتساب إلى غير أبيه، وإن أذِن أبوه فيه، وحملوا التقييد في الحديث على الغالب؛ لأن غالب ما يقع هذا بغير إذن الموالي، فلا يكون له مفهوم يُعمل به، ونظيره قوله تعالى:{وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} الآية [النساء: 23]، وقوله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} الآية [الأنعام: 151] وغير ذلك من الآيات التي قُيّد فيها للغالب، وليس لها مفهوم يُعمل به. انتهى

(3)

.

(1)

"المفهم" 4/ 340.

(2)

"المفهم" 4/ 341.

(3)

"شرح النوويّ" 10/ 149.

ص: 571

(ثُمَّ أُخْبِرْتُ) بالبناء للمفعول، وفيه أنه منقطع؛ لأنه لم يذكر من حدّثه، لكن يأتي في حديث عليّ رضي الله عنه أنه مكتوب في صحيفته، ويقوّيه أيضًا حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي بعده (أنَّهُ لَعَنَ فِي صَحِيفَتِهِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ) أي: ما ذُكر من تولي مولى رجل مسلم بغير إذنه.

ولفظ أبي عوانة: "وحُدِّثت أن في الصحيفة: وعليه لعنة الله".

ثم إن هذا يَحْتَمِل أن يكون من قول ابن جُريج، أو من قول أبي الزبير، وقد خرَّج الحديث الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" 3/ 342 فقال: من طريق ابن لَهِيعة، قال: حدثنا أبو الزبير، قال: سألت جابرًا عن الرجل يتولى مولى الرجل بغير إذنه، فقال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل بطن عقولهم، ثم كَتَبَ أنه لا يَحل أن يتولى مولى رجل مسلم بغير إذنه.

وأخرج من طريقه أيضًا قال: حدّثنا أبو الزبير، عن جابر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَعَن في صحيفته مَن فَعَل ذلك. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 3785](1507)، و (النسائيّ) في "القسامة"(4830) و"الكبرى"(7033)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(9/ 6)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 321 و 342 و 349)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 239)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4/ 160)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(7/ 272 و 15/ 243)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 107) و"الصغرى"(7/ 117)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وجوب الدية على العاقلة.

2 -

(ومنها): تحريم موالاة غير الموالي؛ لأن الولاء لُحمة كلُحمة النسب، لا يجوز نقله من شخص إلى شخص آخر، لا بالبيع، وبالهبة.

ص: 572

3 -

(ومنها): أن الحكم لا يختلف لو أَذِن له المولى؛ لأن التقييد خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3786]

(1508) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ - يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيّ - عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ تَوَلَّى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيه، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله، وَالْمَلَائِكَة، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ عَدْلُ، وَلَا صَرْف").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ) المدنيّ، نزيل الإسكندريّة، ثقةٌ [8](ت 181)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 35/ 245.

والباقون تقدّموا قبل باب.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ)"من" شرطيّة (تَوَلَّى قَوْمًا) أي: انتمى إلى ولاء قوم غير معتقه، وقوله:(بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ) تقدّم أن هذا ليس قيدًا، وإنما ذُكر على الغالب، فلا يجوز أن يتولى غير مواليه، وإن أذنوا له (فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ) اللعنة في الأصل: الطرد، والإبعاد، فلعنة الله تعالى هي إبعاده الملعون عن رحمته، وإحلاله وَبيل عقوبته، (وَ) لعنة (الْمَلَائِكَةِ) زاد في الرواية التالية:"والناس أجمعين"، ومعنى لعنة هؤلاء: دعاؤهم عليه بأن يُبعده الله عن رحمته، وذمّهم له، وطرده عنهم (لَا يُقْبَلُ) بالبناء للمفعول (مِنْهُ عَدْلٌ، وَلَا صَرْفٌ") في الرواية التالية: "لا يُقبل منه يوم القيامة عدلٌ، ولا صرفٌ"، قال ابن منظور رحمه الله: الصرف: الحيلة، ومنه التصرّف في الأمور، والعدل: الفداءُ، وقيل: الصرف: التطوّع، والعدل: الفرض، وقيل: الصرف: التوبة، والعدل: الفدية، وقيل: الصرف: الوزن، والعدل: الكيل، وقيل: الصرف: القيمة، والعدل: المثل، وقيل: الصرف: الميل، والعدل:

ص: 573

الاستقامة. انتهى باختصار

(1)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 3786 و 3787 و 3788](1508)، و (أبو داود) في "الأدب"(5114)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 398 و 417 و 450)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 241)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3787]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِي الْجُعْفِي، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ تَوَلَّى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيه، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله، وَالْمَلَائِكَة، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَدْلٌ، وَلَا صَرْفٌ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلهم تقدّموا في الباب، وقبل باب، غير سليمان، وهو الأعمش، فتقدّم قبل خمسة أبواب.

[تنبيه]: هذا الحديث تقدّم في "الحجّ" برقم [3331](1371) بهذا الإسناد، ولفظه:"المدينة حَرَمٌ، فمن أحدث فيها حَدَثًا، أو آوى محدثًا، فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، لا يُقبل منه يوم القيامة عدلٌ، صرفٌ"، ثم ساقه عن أبي بكر بن النضر بن أبي النضر، عن أبي النضر، عن عبيد الله الأشجعيّ، عن سفيان الثوريّ، عن الأعمش، وقال: بهذا الإسناد مثله، ولم يقل:"يوم القيامة"، وزاد:"وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، لا يُقبل منه يوم القيامة عدلٌ، ولا صرفٌ".

(1)

"لسان العرب" 9/ 190 - 191.

ص: 574

وقد أخرجه أبو عوانة في "مسنده" 3/ 241 مطوّلًا من طريق زائدة، فقال:

(4818)

- حدّثنا أبو الأزهر، ومحمد بن شاذان، وجعفر الصائغ، قالوا: ثنا معاوية بن عمرو، عن زائدة، عن سليمان، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من تولى قومًا بغير إذن مواليه، فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، لا يُقبل منه يوم القيامة عدلٌ ولا صرفٌ، والمدينة حرم، فمن أحدث فيها حَدَثًا، أو آوى محدثًا، فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، لا يُقبل منه يوم القيامة صرفٌ، ولا عدلٌ، وذمة المسلمين واحدةٌ، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلمًا، فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، لا يَقبل الله منه يوم القيامة عدلًا، ولا صرفًا". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3788]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ دِينَارٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنِ الأَعْمَش، بِهَذَا الإِسْنَاد، غَيْرَ أنَّهُ قَالَ: "وَمَنْ وَالَى غَيْرَ مَوَالِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ دِينَارٍ) البغداديّ، أبو إسحاق التمّار، ثقةٌ [10](ت 232) من أفراد المصنّف تقدم في "الإيمان" 41/ 272.

2 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى) بن أبي المختار باذام الْعَبْسيّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقة يتشيّع [9](ت 213)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

3 -

(شَيْبَانُ) بن عبد الرحمن التميميّ النحويّ، أبو معاوية البصريّ، ثم الكوفيّ، ثقةٌ، صاحب كتاب [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

و"الأعمش" ذُكر قبله.

[تنبيهان]: (الأول): قال الحافظ أبو عليّ الْجَيّانيّ رحمه الله في "تقييده": وفي "العتق" في "باب من تولّى قومًا بغير إذن مواليه" ذكر فيه حديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من تولّى قومًا بغير إذن مواليه، فعليه لعنة الله".

ص: 575

ثم عقَّب بعده: حدّثنا إبراهيم بن دينار، قال: نا عُبيد الله بن موسى، نا شيبان - يعني النحويَّ أبا معاوية -.

وفي نسخة ابن ماهان: حدّثنا إبراهيم، نا عُبيد الله، نا سفيان، عن الأعمش، جَعَل سفيان بدل شيبان، والصواب شيبان.

ومثله في "المناقب" قال مسلم

(1)

: حدّثنا القاسم بن زكريا، نا عبيد الله بن موسى، عن شيبان، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن أبي الأحوص: أتيت أبا موسى

الحديث في مناقب عبد الله بن مسعود، وليس عندهم في هذا الموضع خلاف. انتهى كلام الجيّانيّ رحمه الله

(2)

.

(الثاني): رواية شيبان، عن الأعمش هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل الى المؤلّف رحمه الله أول الكتاب قال:

[3789]

(1370)

(3)

- (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيةَ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِي، عَنْ أَبِيه، قَالَ: خَطَبَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِب، فَقَالَ: مَنْ زَعَمَ أَن عِنْدَنَا شَيْئًا نَقْرَأهُ إلا كِتَابَ الله، وَهَذِهِ الصَّحِيفَةَ - قَالَ: وصَحِيفَةٌ مُعَلَّقَةٌ فِي قِرَابِ سَيْفِهِ - فَقَدْ كَذَبَ، فِيهَا أَسْنَانُ الإِبِل، وَأَشْيَاءُ مِنَ الْجِرَاحَات، وَفيهَا قَالَ النبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله، وَالْمَلَائِكَة، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا، وَلَا عَدْلًا، وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، وَمَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيه، أَوِ انْتَمَى اِلَى غَيْرِ مَوَالِيه، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله، وَالْمَلَائِكَة، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا، وَلَا عَدْلًا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ) هو: ابن يزيد بن شَرِيك الكوفي، ثقةٌ عابدٌ، يرسل، ويدلّس [5](ت 92)(ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 406.

(1)

بعد رقم (2461) ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله.

(2)

"تقييد المهمل" 3/ 858.

(3)

هذا الرقم مكرر، فتنبّه.

ص: 576

2 -

(أَبُوهُ) يزيد بن شَريك بن طارق التيميّ الكوفيّ، ثقةٌ، يقال: أدرك الجاهليّة [2] مات في خلافة عبد الملك (ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 406.

3 -

(عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ) رضي الله عنه المتوفّى سنة (40)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

والباقون تقدّموا في الباب، وقبل باب، والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم في "باب فضل المدينة" برقم [81/ 3319](1370) وقد استوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: (مَنْ زَعَمَ أَن عِنْدَنَا شَيْئًا نَقْرَأُهُ إلخ) هذا تصريح من عليّ رضي الله عنه بإبطال ما تزعمه الرافضة والشيعة، ويخترعونه من قولهم: إنّ عليًّا رضي الله عنه أوصى إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم بأمور كثيرة من أسرار العلم، وقواعد الدين، وكنوز الشريعة، وأنه صلى الله عليه وسلم خَصّ أهل البيت بما لم يطلع عليه غيرهم، وهذه دعاوي باطلة، واختراعات فاسدة، لا أصل لها، ويكفي في إبطالها قول عليّ رضي الله عنه

(1)

.

وقوله: (فِي قِرَابِ سَيْفِهِ) القِراب بالكسر: هو الغِلاف الذي يُجعل فيه السيف بغِمده.

وقوله: (فِيهَا أَسنانُ الإِبِلِ) أي: في تلك الصحيفة بيان أسنان الإبل التي تُعطى في دية القتيل.

وقوله: (وَأَشْيَاءُ مِنَ الْجِرَاحَاتِ) أي: الجراحات التي تكون في بدن الإنسان بسبب الاعتداء عليه، فيجب فيها القصاص، أو الدية.

وقوله: (مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ) اسما جبلين، وقد تقدّم في "فضل المدينة" بيان اختلاف العلماء في هذين الجبلين، وأن كثيرًا من الشراح أنكروا وجودهما بالمدينة، وقدمت هناك أن الصواب أن ما وقع في "صحيح مسلم" بلفظ:"المدينةُ حَرَمٌ ما بين عَيْر وثور" رواية صحيحة؛ لأن المحقّقين أثبتوا وجود جبلين مسمّيين بهذين الاسمين في المدينة، فلا يضرّ عدم معرفة كثير ممن قصّر في البحث والتتبّع لهما؛ فإن من حفظ حجة على من لم يحفظ، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

وقوله: (فَمَنْ أَحْدَثَ) أي: فعل (فِيهَا) أي: في المدينة (حَدَثًا) بفتحتين؛

(1)

"شرح النوويّ" 9/ 143.

ص: 577

أي: منكرًا، أو بدعة، وهي ما خالف الكتاب والسنّة، وقال العينيّ رحمه الله: هو الأمر الحادث الذي ليس بمعتاد، ولا معروف في السنّة. انتهى. (أَوْ آوَى) أي: ضمّ، وحَمَى، ومكّن، وأجار (مُحْدِثًا) بكسر الدال، وفتحها على الفاعل والمفعول، فمعنى الكسر: من نصر جانيًا، وآواه، وأجاره من خصمه، وحال بينه وبين أن يقتصّ منه، ومعنى الفتح: هو الأمر المبتدَع نفسه، ويكون معنى إيوائه: الرضا به، فإنه إذا رضي ببدعته، وأقرّه عليها، ولم يُنكرها، فقد آواه، قاله العينيّ، وقال القاري: بكسر على الرواية الصحيحة؛ أي: مبتدعًا، وقيل؛ أي: جانيًا بأن يحول بينه وبين خصمه أن يقتصّ منه، ويُروى بفتح الدال؛ أي: أمرًا مبتَدَعًا، وإيواؤه الرضا به، والصبر عليه. انتهى.

وقوله: (وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ) أي: عهدهم وأمانهم (وَاحِدَة) أي: كالشيء الواحد، لا يختلف باختلاف مراتب الناس، فلا يجوز لأعلى الناس أن ينقض ما عقدهم أدناهم.

وحاصل المعنى: أن أمان المسلمين للكافر صحيح، فإذا أَمَّته واحدٌ من المسلمين حَرُم على غيره التعرض له ما دام في أمان المسلم، وللأمان شروط معروفة.

وقوله: (يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ) أي: يتولاها، ويلي أمرها أدنى المسلمين مرتبة، والمعنى أن ذمة المسلمين واحدة، سواءً صدرت من واحد، أو أكثر، شريفٍ، أو وضيعٍ، فإذا أَمَّن أحد من المسلمين كافرًا، وأعطاه ذمة لم يكن لأحد نقضه، فيستوي في ذلك الرجلُ، والمرأةُ، والحرّ، والعبد؛ لأن المسلمين كنفس واحدة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(6) - (بَابُ فَضْلِ الْعِتْقِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3790]

(1509) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعِيدٍ - وَهُوَ ابْنُ أَبِي هِنْدٍ - حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي

ص: 578

حَكِيم، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَرْجَانَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مؤْمِنَةً، أَعْتَقَ اللهُ بِكُلِّ إِرْبٍ مِنْهَا إِرْبًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ) أبو موسى البصريّ الزَّمِنُ، ثقة ثبت [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

2 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ إمامٌ قُدوة، من كبار [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ) الفزاريّ مولاهم، أبو بكر المدنيّ، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [6] مات سنة بضع و (140)(ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 31/ 1825.

4 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ) القرشيّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ [6].

رَوَى عن سعيد بن المسيِّب، والقاسم بن محمد، وعَبيدة بن سفيان الحضرميّ، وغيرهم.

وروى عنه مالك، وابن إسحاق، وإسماعيل بن جعفر المدنيّ، وأبو الأسود يتيم عروة، وغيرهم، ورَوَى عنه يحيى بن سعيد الأنصاريّ، وهو من أقرانه.

قال الدارميّ، عن يحيى بن معين: ثقةٌ، وقال إسحاق بن منصور عنه: صالحٌ، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: يُكتَب حديثه، وكان عاملًا لعمر بن عبد العزيز، وقال ابن سعد: تُوُفّي سنة (130)، وكان قليل الحديث، ونقل ابن شاهين في "الثقات" عن أحمد بن صالح، قال: إسماعيل بن أبي حَكِيم عن عَبِيدة بن سفيان، هذا من أثبت أسانيد أهل المدينة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: هو أخو إسحاق، وقال الْبَرْقيّ، وابن وضاح: ثقةٌ، وقال ابن عبد البرّ في "التمهيد": كان فاضلًا ثقة، وهو حجة فيما رَوَى عنه جماعة أهل العلم.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1509) وحديث (1933):"كلّ ذي ناب من السباع، فأكله حرام".

ص: 579

5 -

(سَعِيدُ ابْنُ مَرْجَانَةَ) - بفتح الميم، وإسكان الراء، بعدها جيم - هو ابن عبد الله على الصحيح، ومَرْجانة أمه، أبو عثمان الحجازيّ، وزعم الذهليّ أنه ابن يسار، ثقةٌ فاضلٌ [3] مات قبل المائة بثلاث سنين (خ م خد ت س) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 26/ 1775.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

وشرح الحديث يأتي في الحديث الرابع - إن شاء الله تعالى -.

وقوله: (بِكُلِّ إِرْبٍ مِنْهَا إِرْبًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ)"الإرب" بكسر الهمزة، وإسكان الراء: هو العضو، بضمّ العين، وكسرها، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3791]

(

) - (وَحَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُطَرِّفٍ أَبِي غَسَّانَ الْمَدَنيِّ، عَنْ زيدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَلِيُّ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ سَعِيدِ ابْنِ مَرْجَانَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً أَعْتَقَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ مِنَ النَّار، حَتى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ) بالتصغير الهاشميّ مولاهم الْخُوَارَزْميّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](239)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.

2 -

(الْوَليدُ بْنُ مُسْلِمٍ) القرشيّ مولاهم، أبو العبّاس الدمشقيّ، ثقةٌ لكنه كثير التدليس والتسوية [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ أبُو غَسَّانَ الْمَدَنِيُّ) نزيل عَسْقلان، ثقةٌ [7] مات بعد (160)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 52/ 1525.

4 -

(زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ) العدويّ مولى عمر رضي الله عنه، أبو عبد الله، أو أبو أُسامة المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ، يرسل [3](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.

5 -

(عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنِ) بن على بن أبي طالب زين العابدين، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 151.

ص: 580

فقية فاضل مشهورٌ [3](ت 93) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 30/ 1818.

والباقيان ذُكرا قبله، وشرح الحديث يأتي بعدُ.

وقوله: (حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ)"حتى" هنا عاطفة؛ لوجود شروط العطف بها، كما قال في "الخلاصة":

بَعْضًا بِـ "حَتَّى" اعْطِفْ عَلَى كُلٍّ وَلَا

يَكُونُ إِلَّا غَايَةَ الَّذِي تَلَا

فيكون "فرجَه" منصوبًا عطفًا على "عُضوًا"؛ أي: حتى يُعتق فرجه بفرجه.

قيل: إنما خصّ الفرج بالذِّكر؛ لأنه محل أكبر الكبائر بعد الشرك، وقتل النفس، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله! أيّ الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندًّا، وقد خلقك، قلت: ثمّ أيّ؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك، قلت: ثمّ أيّ؟ قال: أن تزاني حليلة جارك"، متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3792]

(

) - (وَحَدَّثنَا قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنَا لَيْثٌ، عَنِ ابْنِ الْهَاد، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ سَعِيدِ ابْنِ مَرْجَانَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً، أَعْتَقَ اللهُ بِكُل عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّار، حَتَّى يُعْتِقَ فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ البغلانيّ، ثقة ثبت [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(لَيْثُ) بن سعد الإمام المصريّ الفقيه الثقة الثبت الحجة [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

3 -

(ابْنُ الْهَادِ) هو: يزيد بن عبد الله بن أُسامة بن الهاد الليثيّ، أبو عبد الله المدني، ثقة مكثرٌ [5](ت 139)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.

4 -

(عُمَرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنِ) بن عليّ بن أبي طالب الهاشميّ المدنيّ الأصغر، صدوقٌ فاضل [7].

ص: 581

رَوَى عن أبيه، وابن أخيه جعفر بن محمد بن عليّ، وسعيد بن مَرْجانة، وأرسل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وروى عنه ابناه: عليّ ومحمد، وابن أخيه حسين بن زيد بن عليّ، وابن إسحاق، ويزيد بن الهاد، والفضيل بن مرزوق، ومحمد بن عبيد الله بن أبي رافع، وغيرهم.

ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: أنا مصعبٌ، قال: قيل لعمر بن عليّ: هل فيكم أهلَ البيت إنسان مفترَضٌ طاعته؟ قال: لا والله، وقال عقبة بن بَشِير الأسديّ: كان عمر بن عليّ بن حسين يُفَضَّل، وكان كثير العبادة والاجتهاد، وكان أخوه أبو جعفر يُكرمه، ويرفع من منزلته، قال ابن حبان في "الثقات": يخطئ.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف وأبو داود في "المراسيل"، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

والباقيان ذُكرا قبله، وشرح الحديث يأتي بعده، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3793]

(

) - (وَحَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثنَا عَاصِمٌ - وَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ الْعُمَرِيُّ - حَدَّثنَا وَاقِدٌ - يَعْني أَخَاهُ - حَدَّثَني سَعِيدُ ابْنُ مَرْجَانَةَ - صَاحِبُ عَلِيُّ بْنِ حُسَيْنٍ - قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا، اسْتَنْقَذَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ". قَالَ: فَانْطَلَقْتُ حِينَ سَمِعْتُ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَذَكَرْتُهُ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْن، فَأَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ قَدْ أَعْطَاهُ بِهِ ابْنُ جَعْفَرٍ عَشْرَةَ الآفِ دِرْهَمٍ، أَوْ أَلْفَ دِينَارٍ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ) بن المبارك الساميّ الباهليّ البصريّ، صدوقٌ [10](ت 244)(م 4) تقدم في "الجمحة" 6/ 1972.

2 -

(بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ) بن لاحق الرَّقَاشيّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبت عابدٌ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.

ص: 582

3 -

(عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعُمَرِيُّ) هو: عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب العمريّ العدويّ المدنيّ، ثقةٌ [7](ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 122.

4 -

(وَاقِدُ) بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب، أخو عاصم العدويّ المدنيّ، ثقةٌ [6](خ م د س) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.

والباقون ذُكروا قبله.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، وواقد، كما أسلفته آنفًا.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، من عاصم، والباقيان بصريّان.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث والسماع من أوله إلى آخره.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية الأخ عن أخيه.

6 -

(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.

شرح الحديث:

عن عاصم بْنِ مُحَمَّدٍ الْعُمَرِيِّ أنه قال: (حَدَّثَنَا وَاقِدٌ) أي: ابن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر، أخو عاصم الذي رَوَى عنه، كما بيّنه بقوله:(يَعْنِي أَخَاهُ) والعناية من بعض الرواة، وَيحتَمل أن يكونَ المصنّفَ، أو شيخه (حَدَّثَنِي سَعِيدُ ابْنُ مَرْجَانَةَ) تقدّم أنه بفتح الميم، وسكون الراء، بعدها جيم، وهي أمه، واسم أبيه عبد الله، ويكنى سعيدٌ أبا عثمان، وقوله:(صَاحِبُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْن) بن الحسين بن علي بن أبي طالب الملقّب زينَ العابدين، وكان سعيد هذا منقطعًا إليه، فعُرِف بصحبته، قال في "الفتح": ووَهِم من زعم أنه سعيد بن يسار أبو الْحُبَاب، فإنه غيره عند الجمهور، وليس لسعيد ابن مَرْجانة عند مسلم إلا حديثان فقط، كما أسلفتهما في ترجمته، وقال الحافظ: وليس له في البخاريّ غير هذا الحديث، وقد ذكره ابن حبان في التابعين، وأثبت روايته عن أبي هريرة رضي الله عنه، ثم غَفَلَ فذكره في أتباع التابعين، وقال: لم يسمع من أبي هريرة. انتهى، وقد قال هنا: قال لي أبو هريرة، ووقع التصريح بسماعه منه عند

ص: 583

مسلم، والنسائيّ، وغيرهما، فانتفى ما زعمه ابن حبان. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

(قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا امْرِئٍ)"أيّما" اسم شرط، و"أعتق" فعل شرطها، وجوابها:"استنقذ الله"، وقوله:(مُسْلِمٍ) هكذا قيّده في رواية المصنّف في الموضعين، والنسائيّ، وفي رواية البخاريّ:"أيُّما رجل أعتق امرءًا مسلمًا" قيّد الثاني، دون الأول (أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا، اسْتَنْقَذَ اللهُ) أي: خلّصه، والتاء والسين للمبالغة، يقال: أنقذه من الشرّ: إذا خلّصه منه، فَنَقِذَ نَقَذًا، من باب تَعِبَ: تخلّص، والنَّقَذُ بفتحتين: ما أنقذته، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(2)

.

وقال المجد رحمه الله: النَّقْذُ - بفتح، فسكون -: التخليص، والتنجيةُ، كالإنقاذ، والتنقيذ، والاستنقاذ، والتنفذ، والسلامةُ، وبالتحريك: ما أنقذته، ومصدر نَقِذَ، كفَرِح: نجا. انتهى

(3)

.

(بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ") وفي الرواية السابقة: "أعتق الله بكلّ عضو منها عضوًا من أعضائه من النار، حتى فرجه بفرجه"، وللنسائيّ من حديث كعب بن مُرّة:"وأيما امرئ مسلم أعتق امرأتين مسلمتين، كانتا فِكاكه من النار، عظمين منهما بعظم، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة، كانت فِكاكها من النار"، إسناده صحيح، ومثله للترمذيّ من حديث أبي أمامة، وللطبرانيّ من حديث عبد الرحمن بن عوف، ورجاله ثقات، قاله في "الفتح"

(4)

.

(قَالَ) وفي رواية البخاريّ: "قال ابن مَرْجانة"، وهو موصول بالإسناد المذكور (فَانْطَلَقْتُ) وفي رواية البخاريّ:"فانطلقت به" أي: بالحديث (حِينَ سَمِعْتُ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (فَذَكَرْتُهُ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ) أي: زين العابدين رحمه الله، زاد أحمد، وأبو عوانة من طريق إسماعيل بن أبي حكيم، عن سعيد ابن مَرْجانة: "فقال عليّ بن الحسين: أنت سمعت هذا من أبي هريرة؟

(1)

"الفتح" 6/ 336 "كتاب العتق" رقم (2517).

(2)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 620.

(3)

"القاموس المحيط" 1/ 360.

(4)

"الفتح" 6/ 336.

ص: 584

فقال: نعم " (فَأَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ) اسم هذا العبد مُطَرِّف، وقع ذلك في رواية إسماعيل بن أبي حكيم المذكورة عند أحمد، وأبي غوانة، وأبي نعيم في "مستخرجيهما" على مسلم، قاله في "الفتح".

(قَدْ أَعْطَاهُ بِهِ) أي: في مقابلة ذلك العبد (ابْنُ جَعْفَرٍ) هو: عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، الهاشميّ، أحد الأجواد، وُلد بأرض الحبشة، وهو صحابيّ، وهو ابن عم والد عليّ بن الحسين، وكانت وفاته سنة ثمانين من الهجرة، وهو ابن ثمانين سنةً، تقدّمت ترجمته في "الحيض" 19/ 780.

قال في "الفتح": ومات سعيد ابن مَرْجانة سنة سبع وتسعين، ومات عليّ بن الحسين قبله بثلاث، أو أربع، وروايته عنه من رواية الأقران. انتهى

(1)

.

(عَشْرَةَ آلافِ دِرْهَمٍ، أَوْ ألفَ دِينَارٍ) شكّ من الراوي، وفيه إشارة إلى أن الدينار إذ ذاك كان بعشرة دراهم، وقد رواه الإسماعيليّ من رواية عاصم بن عليّ، فقال:"عشرة آلاف درهم"، بغير شك

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [3790 و 3791 و 3792 و 3793](1509)، و (البخاريّ) في "العتق"(2517) و"كفّارات الأيمان"(6715)، و (الترمذيّ) في "الأيمان"(1541)، و (النسائيّ) في "الكبرى لما في "العتق" (4874 و 4875 و 4876)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" (3/ 118)، و (أحمد) في "مسنده" (2/ 420 و 422 و 429 و 430 و 447 و 525)، و (أبو عوانة) في "مسنده" (3/ 242 - 243)، و (ابن الجارود) في "المنتقى" (968)، و (ابن حبّان) في "صحيحه" (4308)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار" (724)، و (البيهقيّ) في "الكبرى" (10/ 271 - 272) و"المعرفة" (5/ 97)، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 6/ 337.

(2)

"الفتح" 6/ 337.

ص: 585

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل العتق، وأنه من أفضل الأعمال، ومما يحصل به: العتق من النار، ودخول الجنة.

2 -

(ومنها): بيان استحباب عتق كامل الأعضاء، فلا يكون خَصِيًّا، ولا فاقد غيره من الأعضاء، وفي الخصيّ وغيره أيضًا الفضل العظيم، لكن الكامل أولى، وأفضله أعلاه ثمنًا، وأنفسه، كما سبق بيانه في أول الكتاب، في "كتاب الإيمان" في حديث:"أَيُّ الرقاب أفضل؟ "، وقد رَوَى أبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وغيرهم، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي أمامة وغيره من الصحابة رضي الله عنهم، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أيما امرئ مسلم أعتق امرأ مسلمًا، كان فِكاكه من النار، يجزي كلُّ عضو منها عضوًا منه، وأيما امرئ مسلم أعتق امرأتين مسلمتين، كانتا فِكاكه من النار، يجزي كل عضو منهما عضوًا منه، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة، كانت فِكاكها من النار، يجزئ كل عضو منه عضوًا منها"، قال الترمذيّ: هذا حديث حسنٌ صحيحٌ، قال هو وغيره: وهذا الحديث دليل على أن عتق العبد أفضل من عتق الأمة.

قال القاضي عياض: واختَلَف العلماء أيما أفضل، عتق الإناث، أم عتق الذكور؟ فقال بعضهم: الإناث أفضل؛ لأنها إذا عَتَقَت كان ولدها حرًّا، سواء تزوجها حرّ، أو عبدٌ، وقال آخرون: عتق الذكور أفضل؛ لهذا الحديث، ولما في الذَّكر من المعاني العامة المنفعة التي لا توجد في الإنات، من الشهادة، والقضاء، والجهاد، وغير ذلك، مما يختص بالرجال، إما شرعًا، وإما عادةً، ولأن من الإماء من لا ترغب في العتق، وتَضِيع به، بخلاف العبيد، قال النوويّ: وهذا القول هو الصحيح.

3 -

(ومنها): أنه يستفاد من تقييد الرقبة بكونها مسلمة أن هذا الفضل الخاصّ إنما هو في عتق المسلمة، وأما غير المسلمة ففيه أيضًا فضل بلا خلاف، ولكن دون فضل المؤمنة، ولهذا أجمعوا على أنه يُشترط في عتق كفارة القتل كونها مؤمنة، وحَكَى القاضي عياض عن مالك أن الأغلى ثمنًا أفضل، وإن كان كافرًا، وخالفه غير واحد من أصحابه، وغيرهم، قال:

ص: 586

وهذا أصحّ

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: فيه ما يدل على أن هذا الفضل العظيم إنما هو في عتق المؤمن، ولا خلاف في جواز عتق الكافر تطوّعًا، فلو كان الكافر أغلى ثمنًا، فرُوي عن مالك: أنه أفضل من المؤمن القليل الثمن؛ تمسكًا بحديث أبي ذر رضي الله عنه، وخالفه في ذلك أكثر أهل العلم؛ نظرًا إلى حرمة المسلم، وإلى ما يحصل منه من المنافع الدينية، كالشهادات، والجهاد، والمعونة على إقامة الدين، وهو الأصح، والله تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

4 -

(ومنها): ما قاله في "الفتح": إن في قوله: "أعتق الله بكل عضو منه عضوًا" إشارةً إلى أنه لا ينبغي أن يكون في الرقبة نقصان؛ ليحصل الاستيعاب، وأشار الخطابيّ إلى أنه يُغتفر النقص المجبور بمنفعة؛ كالخصيّ مثلًا إذا كان يُنتفع به فيما لا يُنتفع بالفحل، قال الحافظ: وما قاله في مقام المنع، وقد استنكره النوويّ وغيره، وقال: لا شك أن في عتق الخصيّ، وكل ناقص فضيلة، لكن الكامل أولى، وقال ابن الْمُنيِّر: فيه إشارة إلى أنه ينبغي في الرقبة التي تكون للكفارة أن تكون مؤمنة؛ لأن الكفارة مُنقذة من النار، فينبغي أن لا تقع إلا بمنقذة من النار. انتهى

(3)

.

5 -

(ومنها): أنه استَشْكَل ابن العربيّ قوله: "فرجه بفرجه"؛ لأن الفرج لا يتعلق به ذنب يوجب له النار، إلا الزنا، فإن حُمِل على ما يتعاطاه من الصغائر؛ كالمفاخذة، لم يُشكل عتقه من النار بالعتق، وإلا فالزنا كبيرة لا تُكَفَّر إلا بالتوبة، ثم قال: فَيَحْتَمِل أن يكون المراد أن العتق يُرَجّح عند الموازنة، بحيث يكون مرجِّحًا لحسنات المعتق ترجيحًا يوازي سيئة الزنا. انتهى.

قال الحافظ: ولا اختصاص لذلك بالفرج، بل يأتي في غيره من الأعضاء، مما آثاره فيه، كاليد في الغصب مثلًا، والله أعلم. انتهى

(4)

.

6 -

(ومنها): ما كان عليه السلف من الحرص على فعل الخير، والمبادرة

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 151 - 152.

(2)

"المفهم" 4/ 343.

(3)

"الفتح" 6/ 337.

(4)

"الفتح" 6/ 337 "كتاب العتق" رقم (2517).

ص: 587

إذا سمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه عليّ بن الحسين: من حبّه للخير، حيث بادر في عتق عبده الذي أعطي به ثمنًا غاليًا، فاختار ما عند الله على متعة الدنيا الفانية، فرحمه الله ما أشدّ حرصه على الجنّة، وأقوى زهده، في الدنيا، {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} [الأعلى: 17]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(7) - (بَابُ فَضْلِ عِتْقِ الْوَالِدِ)

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أول الكتاب قال:

[3794]

(1510) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبيِ هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا، إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا، فَيَشْتَرِيَهُ، فَيُعْتِقَهُ"، وَهي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: "وَلَدٌ وَالِدَهُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي، والبابين قبله.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَجْزِي) بفتح أوله، من الجزاء الذي هو بمعنى المجازاة؛ أي: لا يكافئ (وَلَدٌ وَالِدًا) أي: إحسان والد، يعني أنه لا يقوم بما له عليه من الحقوق حتى يفعل معه ذلك (إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ) أي: يصادفه (مَمْلُوكًا) منصوب على الحال من المفعول (فَيَشْتَرِيَهُ، فَيُعْتِقَهُ") بضمّ أوله، من الإعتاق رباعيًّا، وظاهره أنه لا يَعتِق عليه بمجرد الملك، بل حتى يعتقه هو، وإليه ذهب أهل الظاهر، وقالوا: لا يَعتق أحدٌ من القرابة بنفس الملك، ولا يلزم ذلك فيهم، بل إن أراد أن يُعتق فحسن، وخالفهم في ذلك جمهور علماء الأمصار، غير أنهم في تفصيل ذلك مختلفون،

ص: 588

وسيأتي تفصيل مذاهبهم في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى -.

وقال في "المرقاة": قال القاضي رحمه الله: ذهب بعض أهل الظاهر إلى أن الأب لا يَعتق على ولده إذا تملّكه، وإلا لم يصح ترتيب الإعتاق على الشراء، والجمهور على أنه يَعتق بمجرد التملك من غير أن يُنشئ فيه عتقًا، وأن قوله:"فيُعتقه" معناه: فيعتقه بالشراء، لا بإنشاء عتق، والترتيب باعتبار الحكم دون الإنشاء، وفي "شرح السنة" قالوا: إذا اشترى الرجل أحدًا من آبائه، وأمهاته، أو أحدًا من أولاده، وأولاد أولاده، أو ملكه بسبب آخر يَعتِق عليه، من غير أن ينشئ فيه عتقًا.

قال المظهر: فعلى هذا الفاء في "فيُعتقه" للسببية، يعني فيعتقه بسبب شرائه، ولا يحتاج إلى قوله: أعتقتك بعد الشراء، بل عَتَق بنفس الشراء، ومن ذهب أنه لا يَعتق بسبب الشراء، يجعل الفاء في "فيعتقه" للتعقيب، لا للسببية، وإذا صحّ الشراء أثبت الملك، والملك يفيد التصرف.

قال الطيبيّ رحمه الله: هذا وأمثاله مما لا يَشفي الغليل؛ لأن الأبوة تقتضي المالكية، كما سبق في حديث عمرو بن شعيب:"أنت ومالك لوالدك"، وقوله تعالى:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة: 233]، والشراء من مقدمات الملك، والعتق من مقتضياته، كما تقرر في علم الأصول أن من قال: أعتق عبدك عني يقتضي تمليكه إياه، ثم إعتاقه عنه، فالجمع بينهما جمع بين المتنافيين، فالحديث من باب التعليق بالمحال؛ للمبالغة، والمعنى لا يَجزي ولد والده، إلا أن يملكه، فيُعتقه، وهو محال، فالمجازاة محال، كما في قوله تعالى جل جلاله:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22]، يعني إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه، فلا يحل لكم غيره، وذلك غير ممكن، والغرض المبالغة في تحريمه، وسدّ الطريق إلى إباحته، كما يُعَلَّق بالمحال، ويجوز أن تكون الفاء كما في قوله تعالى جل شانه:{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] إذا جُعِلت التوبةُ نفسَ القتل. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَفي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: "وَلَدٌ وَالِدَهُ") أشار به إلى بيان

(1)

"مرقاة المفاتيح" 6/ 510.

ص: 589

اختلاف شيخيه: ابن أبي شيبة، وزهير، فقال زهير:"لا يَجزي ولدٌ والدًا"، وقال ابن أبي شيبة:"لا يجزي ولدٌ والده"، بضمير الوليد، ولا فرق بينهما من حيث المعنى، وإنما هذا من ورع المصنّف رحمه الله وشدة احتياطه في مراعاة ألفاظ شيوخه، والعناية بأدائها، كما سمعها؛ أداء للأمانة العلميّة، وإحرازًا لفضل ما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "نضّر الله امرءًا سمع منا حديثًا، فحفظه حتى يبلّغه غيره

" الحديث، وهو حديث صحيح، أخرجه الترمذيّ، وغيره، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 3794 و 3795](1510)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(10)، و (أبو داود) في "الأدب"(5137)، و (الترمذيّ) في "البرّ"(1906)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(3/ 173)، و (ابن ماجه) في "الأَدب"(3659)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2405)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 539)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 230 و 263 و 376 و 445)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 294)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(424)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 244)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(3/ 281 و 6/ 272 و 8/ 260 و 284)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 109)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 289) و"الصغرى"(9/ 295) و"المعرفة"(7/ 503)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2425)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم من ملك والديه، أو أقاربه:

قال النوويّ رحمه الله: اختلفوا في عتق الأقارب إذا مُلِكوا، فقال أهل الظاهر: لا يَعتق أحدٌ منهم بمجرد الملك، سواء الوالد والولد، وغيرهما، بل لا بدّ من إنشاء عتق، واحتجوا بمفهوم هذا الحديث، وقال جماهير العلماء: يَحصل العتق في الآباء، والأمهات، والأجداد، والجدات، وإن عَلَوا،

ص: 590

وعَلَوْنَ، وفي الأبناء، والبنات، وأولادهم، الذكور، والإناث، وإن سَفَلُوا، بمجرد الملك، سواء المسلم والكافر، والقريب والبعيد، والوارث وغيره، ومختصره أنه يَعتق عمود النسب بكل حال، واختلفوا فيما وراء عمودي النسب، فقال الشافعيّ وأصحابه: لا يَعتق غيرهما بالملك، لا الإخوة، ولا غيرهم.

وقال مالك: يَعتق الإخوة أيضًا، وعنه رواية: أنه يَعتق جميع ذوي الأرحام المحرّمة، ورواية ثالثة كمذهب الشافعيّ.

وقال أبو حنيفة: يعتق جميع ذوي الأرحام المحرّمة.

وتأويل الجمهور الحديث المذكور على أنه لما تسبب في شراء الذي يترتب عليه عتقه أضيف العتق إليه، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: ذهب مالك فيما حكاه ابن خوازمنداد إلى أن الذي يَعتق بالملك عمودا النسب علوًّا وسفلًا خاصة، وبه قال الشافعيّ، ومشهور مذهب مالك عمودا النسب، والجناحان، وهما الإخوة، وذكر ابن القصَّار عن مالك: ذوو الأرحام المحرمة، وبه قال أبو حنيفة.

ومتعلق الظاهرية من الحديث ليس بصحيح؛ لأن الله تعالى قد أوجب علينا الإحسان للأبوين، كما قال تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]، فقد سوَّى بين عبادته وبين الإحسان للأبوين في الوجوب، وليس من الإحسان أن يبقى والده في ملكه، فإذًا يجب عتقه، إما لأجل الملك؛ عملًا بالحديث، أو لأجل الإحسان؛ عملًا بالآية، والظاهرية لجهلهم بمقاصد الشرع تركوا العمل بكل واحد منهما للتمسك بظاهرٍ لم يحيطوا بمعناه.

ومعنى الحديث عند الجمهور: أنَّ الولد لَمَّا تسبب إلى عتق أبيه باشترائه إيَّاه: نسب الشرع العتق إليه نسبة الإيقاع منه، ودل على صحة هذا التأويل فهم معنى الحديث والتنزيل.

وأما اختلاف العلماء فيمن يعتق بالملك، فوجه القول الأول والثاني:

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 153.

ص: 591

إلحاق القرابة القريبة المحرمة بالأب المنصوص عليه في الحديث، ولا أقرب للرجل من أبيه؛ فيحمل على الأب، والأخ يقاربه في ذلك؛ لأنه يُدْلِي بالأبوَّة، فإنه يقول: أنا ابن أبيه.

وأما القول الثالث: فمتعلقه الحديث الثابت في ذلك؛ الذي خرَّجه أبو داود، والترمذيّ من طرق متعددة، وأحسن طرقه: ما خرَّجه النسائيّ في كتابه من حديث ضمرة، عن سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن مَلَك ذا رَحِم محرم، فقد عتق".

قال القرطبيّ: وهذا الحديث ثابت بنقل العدل عن العدل، ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بعلة توجب تركه، غير أن بعضهم قال: تفرد به ضمرة، وهذا لا يُلتفت إليه؛ لأن ضمرة عدل، ثقة، وانفراد الثقة بالحديث لا يضره على ما مهَّدناه في الأصول، فلا ينبني أن يعدل عن هذا الحديث، بل: يجب العمل به لصحته سندًا، ولشهادة الكتاب له معنى، وذلك: أن الله عز وجل قد قال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36]، وليس من الإحسان إلى الأبوين، ولا للقرابة استرقاقهم، فإن نفس الاسترقاق، وبقاء اليد على المسترق إذلال له وإهانة، ولذلك فسخنا على النصرانيّ شراءه للمسلم على رواية، ولم نُبق ملكه عليه في الأخرى، وإذا ثبت أن بقاء الملك إذلال، وإهانة؛ وجبت إزالته ورفعه عن الآباء والقرابة؛ لأنه نقيض الإحسان؛ الذي أمر الله به.

فإن قيل: فهذا يلزم في القرابات كلّهم وإن بَعُدوا؛ قلنا: هذا يلزم من مطلق القرآن، لكن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد خصَّ بعض القرابات بقوله:"من ملك ذا رحم محرم"، فوصفه بالمحرمية، فمن ليس كذلك لا تتضمنه الآية، ولا الحديث، والله أعلم.

قال: ثم حيث قلنا بوجوب العتق، فهل بنفس الملك، أو يوقف ذلك على حكم الحاكم؟ قولان عندنا، والأول أولى؛ لظاهر الحديث، ولأنه قد جاء من حديث الحسن عن سمرة:"من ملك ذا رحم محرم فهو حر"، وهذا اللفظ يكاد أن يكون نصًّا في الفرض، ولأن بقاء الأب تحت يد الملك إلى أن ينظر الحاكم؛ فيه إذلال يناقض الإحسان المأمور به، فيجب وقوع العتق مقارنًا للملك، وإنما صار إلى إبقائه على الحكم في القول الثاني للاختلاف الذي في أصل المسألة.

ص: 592

قال بعض الأصحاب: فإذا حكم الحاكم بذلك وجب التنفيذ، وارتفع الخلاف.

وهذا ليس بشيء؛ لأنه يلزم منه إيقاف مقتضيات الأدلة على نظر الحكَّام وحكمهم، وهذا باطل بالإجماع، ولأنه ترك للدليل لما ليس بدليل، فإن حكم الحاكم ليس بدليل، بل الذي يستند إليه حكمه هو الدليل، فإن اقتضى دليله وجوب العتق بنفس الملك؛ فقد حصل المطلوب، وإن اقتضى دليله إيقاف العتق على الحكم؛ فإما إلى حكمه، وهو دَوْرٌ، وإمَّا إلى حكم غيره ويتسلسل. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن الأرجح هو ما ذهب إليه القائلون بوقوع العتق بنفس الملك، ولا يحتاج إلى أن يُعتق باللفظ؛ لصحّة حديث:"من ملك ذا رحم محرم فهو حرّ"، وفي لفظ:"فقد عتق"، رواه أحمد، وأصحاب السنن، وهو حديث صحيح.

والحاصل أن الحقّ أن من ملك والديه، أو ذوي أرحامه المحرّمة يَعتقون عليه بنفس ملكه، ولا يحتاج إلى إنشاء العتق باللفظ؛ لما ذُكر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3795]

(

) - (وَحَدثنَاهُ أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، كُلُّهُمْ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سُهَيْلٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ، وَقَالُوا:"وَلَدُ وَالِدَهُ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أبُو أَحْمَدَ الزبَيْرِيُّ) محمد بن عبد الله بن الزبير الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 314.

والباقون تقدّموا قريبًا، و"سفيان" هو: الثوريّ.

(1)

"المفهم" 4/ 344 - 346.

ص: 593

[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ، عن سهيل هذه ساقها أبو عوانة في "مسنده" 3/ 244 فقال:

(4832)

- حدّثنا الحسن بن أبي الربيع، قثنا عبد الرزاق، قال: أنبا الثوري (ح) وحدّثنا أبو العباس الغزيّ، قثنا الفريابي (ح) وحدّثنا أبو أمية، قثنا يعلى بن عبيد قالا: ثنا سفيان الثوريّ، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَجزي ولد والده، إلا أن يجده مملوكًا، فيشتريه، فيعتقه". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

* * *

ص: 594

‌21 - (كتاب البيوع)

(اعلم): أنه جرت عادة أكثر المؤلّفين في الفقه والحديث أنهم يذكرون البيوع بعد النكاح وتوابعه، وذلك لأنهم يبدأون بالعبادات المحضة، فيذكرون الصلاة، والصوم، والزكاة، والحجّ، ثم يأتون بما فيه شأن من العبادة، وشأن من المعاملة، وذلك هو النكاح، ثم يذكرون ما يتعلّق به من الطلاق، واللعان، وما يشابهه من العتق، ثم يذكرون المعاملات المحضة، ويبدأونها بالبيوع؛ لأنها أكثر المعاملات وقوعًا، وأعظمها فائدةً

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذه الترجمة:

(المسألة الأولى): في بيان معنى البيع لغةً، وشرعًا:

(اعلم): أن "البيع" لغةً: مقابلة شيء بشيء، قال الشاعر [من البسيط]:

مَا بِعْتُكُمْ مُهْجَتِي إِلَّا بِوَصْلِكُمُ

وَلَا أُسَلِّهَا إِلَّا يَدًا بِيَدِ

فَإنْ وَفَيْتُمْ بِمَا قُلْتُمْ وَفَيْتُ أَنَا

وإنْ غَدَرْتُمْ فَإِنَّ الرَّهْنَ تَحْتَ يَدِي

وشرعًا: مقابلة مال بمال على وجه مخصوص، قاله في "الإقناع"

(2)

.

و"البيوع": جمع بيع، وإنما جُمع، وإن كان المصدر لا يُجمع، ولا يُثنّى؛ نظرًا إلى أنواعه، و"البيع" في الأصل مصدر باعه يبيعه بيعًا، ومَبِيعًا، فهو بائعٌ، وبَيّعٌ، وأباعه بالألف لغة، قاله ابن القطّاع، والبيع من الأضداد، مثل الشراء، يقال كلّ منهما لكلّ منهما، فمن استعمال البيع بمعنى الشراء، قول الشاعر [من الكامل]:

(1)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 1/ 300.

(2)

راجع: "الإقناع في حلّ أبي شُجاع" للشيخ محمد الشربيني الخطيب 3/ 3 - 4 مع الحاشية "تحفة الحبيب على شرح الخطيب" للبجيرميّ.

ص: 595

إِنَّ الشَّبَابَ لَرَابِحٌ مَنْ بَاعَهُ

وَالشَّيْبُ لَيْس لِبَائِعِهِ تِجَارُ

يعني من اشتراه، ومن استعمال الشراء بمعنى البيع قوله تعالى:{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} الآية [يوسف: 20]؛ أي: باعوه، ويُطلق على كلّ من المتعاقدين أنه بائعٌ، ولكن إذا أطلق البائع، فالمتبادر إلى الذهن باذل السلعة، ويطلق البيع أيضًا على المبيع، فيقال: بيعٌ جيّد، وبعت زيدًا الدارَ، يتعدّى إلى مفعولين، وكثر الاقتصار على الثاني؛ لأنه المقصود بالإسناد، ولهذا تتمّ به الفائدة، نحو بعت الدار، ويجوز الاقتصار على الأول، عند عدم اللبس، نحو بعت الأميرَ؛ لأن الأمير لا يكون مملوكًا يُباع، وقد تدخل "من" على المفعول الأول على وجه التأكيد، فيقال: بعت من زيد الدارَ، كما يقال: كتمته الحديثَ، وكتمتُ منه الحديث، وربّما دخلت اللام مكان "من"، فيقال: بعتك الشيء، وبعته لك، فاللام زائدة زيادتَها في قوله تعالى:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} الآية [الحج: 26]، والأصل بوّأنا إبراهيم، وابتاع زيد الدار بمعنى اشتراها، وابتاعها لغيره: اشتراها له، وباع عليه القاضي؛ أي: من غير رضاه، والمبتاعُ مَبِيعٌ على النقص، ومبيُوعٌ على التمام، مثلُ مَخِيط، ومَخْيُوط.

والأصل في البيع مبادلة مال بمال؛ لقولهم: بيْعٌ رابحٌ، وبيعٌ خاسرٌ، وذلك حقيقة في وصف الأعيان، لكنه أُطلق على العقد مجازًا؛ لأنه سبب التمليك، والتملّك، وقولهم: صحّ البيع، أو بطل، ونحوُهُ؛ أي: صيغة البيع، لكن لَمّا حُذف المضاف، واقيم المضاف إليه مُقامه، وهو مذكرٌ أُسند الفعل إليه بلفظ التذكير.

والْبَيْعة: الصَّفْقة على إيجاب البيع، وجمعها بَيْعَات بالسكون، وتُحرّك في لغة هُذيل، كما بيضة وبيْضَات، وتُطلق أيضًا على المبايعة والطاعة، ومنه "أيمان البيعة"، وهي التي رتّبها الحجّاج، مشتملةً على أمور مغلّظة، من طلاق، وعتق، وصوم، ونحو ذلك، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قال الأزهريّ: تقول العرب: بِعْتُ بمعنى بِعْتُ ما كنت ملكته، وبِعْتُ بمعنى اشتريته، قال: وكذلك شريت بالمعنيين، قال: وكل

(1)

"المصباح المنير" 1/ 69.

ص: 596

واحد بيع، وبائعٌ؛ لأن الثمن والمثمَن

(1)

كل منهما مبيع، وكذا قال ابن قُتيبة: يقال: بعت الشيءَ: بمعنى بعته، وبمعنى اشتريته، وشَرَيتُ الشيءَ: بمعنى اشتريته، وبمعنى بعته، وكذا قاله آخرون، من أهل اللغة، ويقال: بعته، وابتعته، فهو مَبِيع، ومَبْيُوعٌ، قال الجوهريّ: كما يقال: مَخِيط ومَخْيُوطٌ، قال الخليل: المحذوف من مَبِيع واو مفعول؛ لأنها زائدة، فهي أولى بالحذف، وقال الأخفش: المحذوف عين الكلمة، قال المازريّ: كلاهما حسن، وقول الأخفش أقيس، والابتياع: الاشتراء، وتبايعا، وبايعته، ويقال: استبعته؛ أي: سألته البيع، وأبعت الشيءَ؛ أي: عَرَضته للبيع، وبِيعَ الشيءُ بكسر الباء، وضمها، وبُوع لغة فيه، وكذلك القول في قِيلَ، وكِيلَ. انتهى

(2)

.

وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: البيع في اللغة مصدر باع كذا بكذا؛ أي: دفع مُعَوَّضًا، وأخذ عِوَضًا منه، وهو يقتضي بائعًا، وهو المالك، أو من يتنزّل منزلته، ومُبتاعًا، وهو الذي يبذل الثمن، ومَبِيعًا، وهو الْمُثْمَن، وهو الذي يُبذل في مقابلة الثمن، وعلى هذا فأركان البيع أربعة: البائع، والمبتاع، والثمن، والْمُثْمَن، وكلّ واحد من هذه يتعلّق النظر فيها بشروط، ومسائل، ستراها إن شاء الله تعالى.

والمعاوضة عند العرب تختلف بحسب اختلاف ما يُضاف إليه، فإن كان أحد العوضين في مقابلة الرقبة سُمّي بيعًا، وإن كان في مقابلة منفعة رقبة، فإن كانت منفعة بُضع سُمّي نكاحًا، وإن كانت منفعة غيرها سُمّي إجارة. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": والبيوع جمع بيع، وجُمِع لاختلاف أنواعه، والبيع: نقل ملك إلى الغير بثمن، والشراء قبوله، ويطلق كل منهما على الآخر، وأجمع المسلمون على جواز البيع، والحكمةُ تقتضيه؛ لأن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه غالبًا، وصاحبه قد لا يبذله له، ففي تشريع البيع، وسيلة إلى بلوغ الغرض، من غير حرج.

(1)

اسم مفعول من أثمن الشيءَ: إذا باعه بثمن، فهو مُثْمَن بالفتح، راجع:"المصباح المنير" 1/ 84.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 153 - 154.

(3)

"المفهم" 4/ 360.

ص: 597

قال: والأصل في جواز البيع قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} الآية [البقرة: 275]، وللعلماء في هذه الآية أقوال: أصحها أنه عامّ مخصوص، فإن اللفظ لفظ عموم، يتناول كل بيع، فيقتضي إباحة الجميع، لكن قد مَنَع الشارع بيوعًا أخرى، وحرّمها، فهو عام في الإباحة، مخصوص بما لا يدل الدليل على منعه، وقيل: عام أريد به الخصوص، وقيل: مجملٌ، بَيّنَتْه السنة، وكل هذه الأقوال تقتضي أن المفرد المحلى بالألف واللام يعمّ، والقول الرابع: أن اللام في {الْبَيْعَ} للعهد، وإنها نزلت بعد أن أباح الشرع بيوعًا، وحرم بيوعًا، فأريد بقوله:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} أي: الذي أحله الشرع من قبلُ، ومباحث الشافعيّ وغيره، تدلّ على أن البيوع الفاسدة، تسمى بيعًا، وإن كانت لا يقع بها الحنث؛ لبناء الأيمان على العرف، قال: وقوله عز وجل: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} الآية [البقرة: 282] تدلّ على إباحة التجارة في البيوع الحالّة، ويدلّ أول الآية - يعني آية المداينة - في البيوع المؤجلة. انتهى من "الفتح" بتصرّف

(1)

.

وقال الإمام ابن قُدامة رحمه الله: البيع مبادلة المال بالمال، تمليكًا وتملُّكًا، واشتقاقه من الباع؛ لأن كل واحد من المتعاقدين يَمُدّ باعه للأخذ والإعطاء، ويَحْتَمِل أن كل واحد منهما كان يبايع صاحبه؛ أي: يصافحه عند البيع، ولذلك سُمّي البيع صفقة، وقال بعض أصحابنا: هو الإيجاب والقبول، إذ تضمَّن عينين للتمليك، وهو حدّ قاصر؛ لخروج بيع المعاطاة منه، ودخول عقوب سوى البيع فيه.

والبيع جائز بالكتاب، والسنة، والإجماع، أما الكتاب، فقول الله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} الآية [البقرة: 275]،، وقوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} الآية [البقرة: 282]، وقوله تعالى:{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} الآية [النساء: 29] وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} الآية، وروى البخاري، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كانت عُكاظ، ومَجَنَّةُ، وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية، فلما كان الإسلام تأثموا فيه،

(1)

راجع: "الفتح" 5/ 499.

ص: 598

فأُنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]، يعني في مواسم الحج، وعن الزبير نحوه.

وأما السنة فقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "البَيِّعَان بالخيار، ما لم يتفرقا"، متفق عليه، وروى رِفاعة رضي الله عنه، أنه خرج مع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المصلى، فرأى الناس يتبايعون، فقال:"يا معشر التجار"، فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفعوا أعناقهم، وأبصارهم إليه، فقال:"إن التجار يبعثون يوم القيامة فُجّارًا، إلا من بَرّ، وصَدَقَ"، قال الترمذيّ: هذا حديث حسن صحيحٌ.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا نقل ابن قُدامة تصحيح الترمذي، وأقرّه، وليس الأمر كذلك، بل الحديث ضعيف؛ لأن في سنده إسماعيل بن عبيد بن رفاعة: لم يرو عنه غير عبد الله بن عثمان بن خُثيم، فهو مجهول عين، وقال في "التقريب": مقبول من السادسة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

قال: وروى أبو سعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"التاجر الصدوق الأمين، مع النبيين، والصديقين، والشهداء"، قال الترمذي: هذا حديث حسن

(1)

، في أحاديث كثيرة سوى هذه.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا نقل ابن قُدامة تحسين الترمذيّ، وأقرّه، وليس الأمر كذلك، بل الحديث ضعيف؛ لأن فيه انقطاعًا؛ لأن الحسن البصريّ لم يسمع من أبي سعيد الخدريّ، كما في ترجمته من "تهذيب التهذيب" 1/ 389 - 390، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

قال: وأجمع المسلمون على جواز البيع في الجملة، "والحكمة تقتضيه؛ لأن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه، وصاحبه لا يبذله بغير عوض، ففي شرع البيع، وتجويزه شرع طريق إلى وصول كل واحد منهما إلى غرضه، ودفع حاجته. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله

(2)

.

وقال البدر العينيّ رحمه الله: ثم للبيع تفسيرٌ لغةً، وشرعًا، وركنٌ، وشرطٌ، ومحلٌّ، وحُكْمٌ، وحِكْمة، أما تفسيره لغة، فمطلق المبادلة، وهو ضدّ الشراء، والبيع الشراء أيضًا، باعه الشيء، وباعه منه جميعًا فيهما، وابتاع الشيء:

(1)

بل هو ضعيف.

(2)

"المغني" لابن قُدامة 4/ 3.

ص: 599

اشتراه، وأباعه: عرّضه للبيع، وأما تفسيره شرعًا، فهو مبادلة المال بالمال على سبيل التراضي، وأما ركنه، فالإيجاب والقبول.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: كون الإيجاب والقبول ركنًا للبيع فيه نظر، والصحيح أنهما ليسا ركنًا له، كما سيأتي قريبًا، إن شاء الله تعالى.

قال: وأما شرطه، فأهليّة المتعاقدين، وأما محلّه فهو المال؛ لأنه يُنبئ عنه شرعًا، وأما حُكمه، فهو ثبوت الملك للمشتري في المبيع، وللبائع في الثمن، إذا كان تامًّا، وعند الإجازة إذا كان موقوفًا، وأما حِكمته، فهي كثيرةٌ:(منها): اتساع أمور المعاش والبقاء.

(ومنها): إطفاء نار المنازعات، والنهب، والسرقة، والطرّ، والخيانات، والحيل المكروهة.

(ومنها): بقاء نظام المعاش، وبقاء العالم؛ لأن المحتاج يميل إلى ما في يد غيره، فبغير المعاملة، يفضي إلى التقاتل، والتنازع، وفناء العالم، واختلال نظام المعاش، وغير ذلك.

وثبوته بالكتاب؛ لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، والسنّة، وهي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بُعث والناس يتعاملون، فأقرّهم عليه، والإجماع منعقد على شرعيّته. انتهى كلام العينيّ رحمه الله باختصار

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): قال ابن قُدامة رحمه الله: البيع على ضربين:

(أحدهما): الإيجاب والقبول، فالإيجاب أن يقول: بعتك، أو ملّكتك، أو لفظ يدل عليهما، والقبول أن يقول، اشتريت، أو قبلت، ونحوهما، فإن تقدم القبول على الإيجاب، بلفظ الماضي، فقال: ابتعت منك، فقال: بعتك صح؛ لأن لفظ الإيجاب والقبول وُجد منهما، على وجه تحصل منه الدلالة، على تراضيهما به، فصح كما لو تقدم الإيجاب، وإن تقدم بلفظ الطلب، فقال: بعني ثوبك، فقال: بعتك، ففيه روايتان: إحداهما: يصح كذلك، وهو قول مالك، والشافعيّ، والثانية: لا يصح، وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه لو تأخر عن

(1)

راجع: "عمدة القاري" 9/ 237 - 238.

ص: 600

الإيجاب، لم يصح به البيع، فلم يصح إذا تقدم، كلفظ الاستفهام، ولأنه عَقْدٌ عَرِيَ عن القبول، فلم ينعقد، كما لو لم يطلب، وحَكَى أبو الخطاب، فيما إذا تقدم بلفظ الماضي روايتين أيضًا، فأما إن تقدم بلفظ الاستفهام، مثل أن يقول: أتبيعني ثوبك بكذا؟ فيقول: بعتك لم يصح بحال، نص عليه أحمد، وبه يقول أبو حنيفة، والشافعيّ، ولا نعلم عن غيرهم خلافهم؛ لأن ذلك ليس بقبول، ولا استدعاء.

(الضرب الثاني): المعاطاة، مثل أن يقول: أعطني بهذا الدينار خبزًا، فيعطيه ما يرضيه، أو يقول: خذ هذا الثوب بدينار، فيأخذه، فهذا بيع صحيح، نصّ عليه أحمد، فيمن قال لخباز: كيف تبيع الخبز؟ قال: كذا بدرهم، قال: زنه، وتصدق به، فإذا وزنه، فهو عليه، وقول مالك نحوٌ من هذا، فإنه قال: يقع البيع بما يعتقده الناس بيعًا، وقال بعض الحنفية: يصح في خسائس الأشياء، وحُكي عن القاضي مثل هذا، قال: يصح في الأشياء اليسيرة، دون الكبيرة، ومذهب الشافعيّ رحمه الله، أن البيع لا يصح إلا بالإيجاب والقبول، وذهب بعض أصحابه إلى مثل قولنا، ولنا أن الله أحل البيع، ولم يبيّن كيفيته، فوجب الرجوع فيه إلى العرف، كما رجع إليه في القبض والإحراز والتفرق، والمسلمون في أسواقهم، وبياعاتهم على ذلك، ولأن البيع كان موجودًا بينهم، معلومًا عندهم، وإنما عَلّق الشرع عليه أحكامًا، وأبقاه على ما كان، فلا يجوز تغييره بالرأي والتحكم، ولم يُنقَل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه، مع كثرة وقوع البيع بينهم، استعمال الإيجاب والقبول، ولو استعملوا ذلك في بياعاتهم، لنُقل نقلًا شائعًا، ولو كان ذلك شرطًا، لوجب نقله، ولم يتصور منهم إهماله، والغفلة عن نقله، ولأن البيع مما تعم به البلوى، فلو اشترط له الإيجاب والقبول، لبيّنه صلى الله عليه وسلم، بيانًا عامًّا، ولم يُخْفِ حكمه؛ لأنه يفضي إلى وقوع النقود الفاسدة كثيرًا، وأكلهم المال بالباطل، ولم يُنقل ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه فيما علمناه، ولأن الناس يتبايعون في أسواقهم بالمعاطاة، في كل عصر، ولم يُنقل إنكاره قَبْلَ مخالفينا، فكان ذلك إجماعًا، وكذلك الحكم في الإيجاب والقبول في الهبة، والهدية، والصدقة، ولم يُنقل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه، استعمال ذلك فيه، وقد أُهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ص: 601

من الحبشة وغيرها، وكان الناس يتحرّون بهداياهم يوم عائشة، متفق عليه.

ورَوَى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أُتي بطعام، سأل عنه أهدية أم صدقة؟ فإن قيل: صدقة، قال لأصحابه: كلوا، ولم يأكل، وإن قيل: هدية ضرب بيده، وأكل معهم.

وفي حديث سلمان رضي الله عنه، حين جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بتمر، فقال: هذا شيء من الصدقة، رأيتك أنت وأصحابك أحق الناس به، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه:"كلوا" ولم يأكل، ثم أتاه ثانية بتمر، فقال: رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذا شيء أهديته لك، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"بسم الله"، وأكل، ولم يُنقل قبول، ولا أمر بإيجاب، وإنما سأل ليَعلَم هل هو صدقة، أو هدية؟ وفي أكثر الأخبار لم ينقل إيجاب، ولا قبول، وليس إلا المعاطاة، والتفرقُ عن تراض يدل على صحته، ولو كان الإيجاب والقبول شرطًا في هذه العقود، لشقّ ذلك، ولكانت أكثر عقود المسلمين فاسدة، وأكثر أموالهم محرمة، ولأن الإيجاب والقبول، إنما يرادان للدلالة على التراضي، فإذا وُجد ما يدل عليه، من المساومة، والتعاطي، قام مقامهما، وأجزأ عنهما؛ لعدم التعبد فيه. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي حقّقه العلّامة ابن قُدامة رحمه الله، من عدم اشتراط الإيجاب والقبول في العقود؛ كالبيع، والهبة، والصدقة، ونحوها؛ لعدم ثبوته عن الشارع الحكيم هو الحقّ، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم بالصواب.

(1) - (بَابُ إِبْطَالِ بَيْعِ الْمُلَامَسَة، وَالْمُنَابَذَةِ)

وبالسند المتّصل الى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3796]

(1511) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِي، قَالَ: قَرَأتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنِ الأَعْرَج، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْمُلَامَسَة، وَالْمُنَابَذَةِ").

(1)

"المغني" لابن قدامة 4/ 4 - 5.

ص: 602

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيى بْنُ يَحْيى التَّمِيمِيُّ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم قريبًا.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ) - بفتح الحاء المهملة، وتشديد الموحّدة - ابن مُنقذ الأنصاريّ المدنيّ، ثقة فقيه [4](ت 121)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 150.

4 -

(الأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرمُز، أبو داود المدنيّ، ثقة ثبت فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، تقدّم في الحديث الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بثقات المدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيين عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة أكثر من روى الحديث في دهره، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنِ الأَعْرَجِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ ببلادنا، وذكر القاضي عياض أنه وقع في نسخهم من طريق عبد الغافر الفارسيّ: مالك، عن نافع، عن محمد بن يحيى بن حَبَّان، بزيادة نافع، قال: وهو غلط، وليس لنافع ذكرٌ في هذا الحديث، ولم يذكر مالك في "الموطإ" نافعًا في هذا الحديث. انتهى

(1)

.

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نَهَى عَنِ الْمُلَامَسَةِ) مفاعلة، مصدر لامس، ولا يكون إلا بين اثنين، وأصلها من لَمَسَ الشيءَ بيده، قال

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 155.

ص: 603

الفيّوميّ رحمه الله: لَمَسَهُ لَمْسًا، من بابي قَتَلَ، وضرب: أفضى إليه باليد، هكذا فسَّروه، وَلامَسَهُ مُلَامَسَة، ولمَاسًا، قال ابن دريد: أصل اللَّمْس باليد؛ لِيُعْرَف مسّ الشيء، ثم كَثُر ذلك حتى صار اللمس لكل طالب، قال: ولَمَسْتُ: مَسِسْتُ، وكل مَاش لَامِسْ، وقال الفارابيّ أيضًا: اللَّمْسُ: المسّ، وفي "التهذيب" عن ابن الأعرابيّ: اللَّمْسُ يكون مسّ الشيء، وقال في باب الميم: المَسُّ مَسُّكَ الشيءَ بيدك، وقال الجوهريّ: اللَّمْسُ: المس باليد، وإذا كان اللَّمْسُ هو المسّ فكيف يُفَرِّق الفقهاء بينهما في لمس الخنثى، ويقولون: لأنه لا يخلو عن لَمْسٍ، أو مَسّ؟ ونَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الملامسة، وهو أن يقول: إذا لمستَ ثوبي، ولَمَستُ ثوبَك فقد وجب البيع بيننا بكذا، وعلَّلوه بأنه غرر، وقولهم: لا يَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ؛ أي: ليس فيه مَنَعَةٌ. انتهى.

وسيأتي تفسيره في الحديث الرابع - إن شاء الله تعالى - والمراد أن يُجعل العقد لمس المبيع، ويكون ذلك قاطعًا للخيار عند البيع، أو قاطعًا للخيار بعد البيع، أو قاطعًا لكلّ خيار، أقوال، سيأتي تحقيقها (وَالْمُنَابَذَةِ) مفاعلة، فهو مصدر نابذ، من النبذ، وهو الرمي، وسيأتي تفسيره أيضًا في الحديث الرابع، والمراد أن يُجعل العقد نبذَ المبيع، كسابقه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 3796 و 3797 و 3798 و 3799 و 3800](1511)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(368)"مواقيت الصلاة"(584) و"البيوع"(2145 و 2146) و"اللباس"(5821)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1310)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 259 و 260 و 261) و"الكبرى"(4/ 15)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 144)، و (مالك) في "الموطّإ"(1371)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(14989)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 43)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 419 و 476 و 480)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"

ص: 604

(4975)

، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 258)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 341) و"الصغرى"(5/ 163) و"المعرفة"(4/ 379)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2101)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم بيع الملامسة؛ لما فيها من الغرر.

2 -

(ومنها): تحريم بيع المنابذة؛ لما ذُكر أيضًا.

3 -

(ومنها): حرص الشارع على إبعاد ما يكون سببًا للمنافرة، والمشاحنة، من أنواع التعامل التي كانت بين الناس، في أيام الجاهلية، ومنها بيع الملامسة، والمنابذة، وبيع الحصاة، وكلّ بيع يؤدّي إلى الغرر، حتى لا يكون بين المسلمين ما كان في أهل الجاهليّة، من التدابر، والتقاطع، والتخاذل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3797]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزِّنَاد، عَنِ الأَعْرَج، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى الْعدنيّ، نزيل مكة، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان المدني، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي.

[تنبيه]: رواية أبي الزناد، عن الأعرج هذه ساقها مقرونًا بمحمد بن يحيى بن حبّان، فقال:

(2039)

- حدّثنا إسماعيل، قال: حدّثني مالك، عن محمد بن يحيى بن حَبّان، وعن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الملامسة، والمنابذة". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 605

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3798]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو أُسَامَةَ (ح) وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثنَا أَبِي (ح) وَحَدّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّاب، كُلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصمٍ، عَنْ أَبى هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن خُبيب بن يساف الأنصاريّ، أبو الحارث المدنيّ، ثقة [4](ت 132)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

2 -

(حَفْصُ بْنُ عَاصِمِ) بن عمر بن الخطّاب الْعمريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

والباقون تقدّموا قريبًا، و"أبو أسامة" هو: حمّاد بن أسامة، و"عبد الوهّاب" هو: ابن عبد المجيد الثقفيّ، و"عبيد الله بن عمر" هو: العُمَريّ.

[تنبيه]: رواية عبد الله بن نُمير، وأبي أسامة، كلاهما عن عبيد الله بن عمر، ساقها أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنّفه" 4/ 476 فقال:

(22275)

- حدّثنا

(1)

أبو بكر، قال: حدّثنا أبو أسامة، وابن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن خُبيب بن عبد الرحمن، عن حفص عاصم، عن أبي هريرة:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن المنابذة، والملامسة". انتهى.

وأما رواية عبد الوهّاب الثقفيّ، عن عبيد الله بن عمر، فقد ساقها البخاريّ في "صحيحه"، فقال:

(5481)

- حدّثني محمد بن بشار، حدّثنا عبد الوهاب، حدّثنا عبيد الله، عن خُبيب، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "نَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الملامسة، والمنابذة، وعن صلاتين بعد الفجر حتى ترتفع الشمس، وبعد العصر حتى تغيب، وأن يحتبي بالثوب الواحد، ليس على فرجه منه شيء بينه

(1)

قائل "حدّثنا

إلخ" هو الراوي عن ابن أبي شيبة، فتنبّه.

ص: 606

وبين السماء، وأن يَشتَمِل الصماء". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3799]

(

) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنا يَعْقُوبُ - يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم تقدّموا قريبًا، و"يعقوب بن عبد الرحمن" هو: القاريّ، المدنيّ، ثم الإسكندرانيّ.

[تنبيه]: رواية سُهيل بن أبي صالح، عن أبيه، ساقها أبو عوانة في "مسنده" (3/ 258) فقال:

(4879)

- حدّثنا أبو أمية، قثنا

(1)

محمد بن جَهْضَم، قثنا إسماعيل بن جعفر، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الملامسة، والمنابذة، والمحاقلة، والمزابنة". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[3800]

(

) - (وَحَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ مِينَاءَ؛ أنَّهُ سَمِعَهُ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة، أنَّهُ قَالَ: نُهِيَ

(2)

عَنْ بَيْعَتَيْنِ: الْمُلَامَسَة، وَالْمُنَابَذَة، أَمَّا الْمُلَامَسَةُ فَاَنْ يَلْمِسُ كلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَوْبَ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ تَأَمُّلٍ، وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ يَنْبِذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَوْبَهُ إِلَى الآخَر، وَلَمْ يَنْظُرْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إِلَى ثَوْبِ صَاحِبِهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ) الأثرم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.

(1)

"قوله: "قثنا" في الموضعين مختصرة من "قال: حدّثنا"، فتنبّه.

(2)

وفي نسخة: "نَهَى" بالبناء للفاعل.

ص: 607

2 -

(عَطَاءُ بْنُ مِينَاءَ) - بكسر الميم - أبو معاذ المدنيّ، وقيل: البصريّ، صدوقٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 77/ 398.

والباقون تقدّموا قريبًا.

لطائف هذا الإسناد:

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه مسلسل بالتحديث، والإخبار، والسماع، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ عَطَاءِ بْنِ مِينَاءَ) بكسر الميم، وإسكان التحتانيّة، والمدّ - غير منصرف (أنَّهُ) أي: عمرو بن دينار (سَمِعَهُ) أي: عطاء بن ميناء (يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أنَّهُ قَالَ: نُهِيَ) بالبناء للمفعول، وفي بعض النسخ بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير يعود إلى مقدّر، وهو "رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وقد صرّح به في رواية النسائيّ من طريق ابن المسيِّب، ولفظه: "نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الملامسة

" (عَنْ بَيْعَتَيْنِ) تثنية بيعة، بالفتح، وهي المرّة من البيع، كما قال في "الخلاصة":

وَفَعْلَةٌ لِمَرَّةٍ كَـ"جَلْسَهْ"

وَفِعْلَة لِهَيْئَةٍ كَـ"جِلْسَهْ"

وقوله: (الْمُلَامَسَة، وَالْمُنَابَدَةِ) بالجرّ على البدليّة، ويجوز الرفع خبرًا لمحذوف؛ أي هما: الملامسة، والمنابذة، والنصب مفعولًا لفعل مقدّر؛ أي: أعني (أمَّا الْمُلَامَسَةُ فَأَنْ يَلْمِسَ)"أن"بالفتح، هي المصدريّة (كُلُّ وَاحِدٍ) بالرفع على الفاعليّة (مِنْهُمَا)؛ أي: من المتبايعين (ثَوْبَ صَاحِبِهِ) بنصب "ثوبَ" على المفعوليّة (بِغَيْرِ تَأَمّلٍ) مصدر تأمّل الشيءَ: إذا تدبّره، وهو إعادتك النظر فيه مرّةً بعد أخرى حتى تعرفه، قاله الفيّوميّ

(1)

، والمراد أنه لم ينظر، ولم يفكّر في هذا الثوب هل فيه عيبٌ أم لا؟ وفي رواية ابن المسيِّب المذكور:"والملامسة أن يتبايع الرجل بالثوبين تحت الليل، يلمَس كلّ رجل منهما ثوب صاحبه بيده"، وفي حديث أبي سعيد الآتي بعده: "والملامسة لمس الرجل ثوب الآخر

(1)

"المصباح المنير" 1/ 23.

ص: 608

بيده بالليل، أو بالنهار، ولا يَقْلِبُهُ إلا بذلك" (وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ يَنْبِذَ) بكسر الموحّدة، من باب ضرب؛ أي: يُلقي (كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَوْبَهُ إِلَى الآخَر، وَلَمْ يَنْظُرْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إِلَى ثَوْبِ صَاحِبِهِ) وفي حديث أبي سعيد: "والمنابذة أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه، وينبذ الآخر إليه ثوبه، ويكون ذلك بيعهما، من غير نظر، ولا تراض"؛ أي: بلا تأمل ورضًا بعد التأمل.

وفي رواية حفص بن عاصم، عن أبي هريرة:"وزعم أَنّ الملامسة أن يقول الرجل للرجل: أبيعك ثوبي بثوبك، ولا ينظر واحد منهما إلى ثوب الآخر، ولكن يَلْمُسُه لمسًا، والمنابذة أن يقول: أَنبِذُ ما معي، وتَنبِذُ ما معك، ليشتري كل واحد منهما من الآخر، ولا يَدرِي كل واحد منهما، كم مع الآخر؟ ونحو من هذا الوصف".

قال الحافظ رحمه الله: وهذا التفسير الذي في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أقعد بلفظ الملامسة والمنابذة؛ لأنها مفاعلة، فتستدعي وجود الفعل من الجانبين.

قال: واختَلَف العلماء في تفسير الملامسة، على ثلاث صور، وهي أوجه للشافعية: "

[أصحها]: أن يأتي بثوب مَطْوِيّ، أو في ظلمة، فيَلمِسَهُ المستام، فيقول له صاحب الثوب: بِعْتَكَه بكذا، بشرط أن يقوم لَمْسُك مقام نظرك، ولا خيار لك، إذا رأيته، وهذا موافق للتفسيرين اللذين في الحديث.

[الثاني]: أن يَجعلا نفس اللمس بيعًا، بغير صيغة زائدة.

[الثالث]: أن يَجعلا اللمس شرطًا في قطع خيار المجلس وغيره، والبيعُ على التأويلات كلها باطل، ومأخذ الأول عدم شرط رؤية المبيع، واشتراط نفي الخيار، ومأخذ الثاني اشتراط نفي الصيغة، في عقد البيع، فيؤخذ منه بطلان بيع المعاطاة مطلقًا، لكن من أجاز المعاطاة قيّدها بالمحقّرات، أو بما جرت فيه العادة بالمعاطاة، وأما الملامسة، والمنابذة عند من يستعملهما، فلا يخصهما بذلك، فعلى هذا يجتمع بيع المعاطاة مع الملامسة والمنابذة، في بيع صور المعاطاة، فلمن يجيز بيع المعاطاة أن يخص النهي في بعض صور الملامسة والمنابذة، عما جرت العادة فيه بالمعاطاة، وعلى هذا يُحمل قول الرافعي: إن الأئمة أجروا في بيع الملامسة والمنابذة الخلاف الذي في المعاطاة، والله أعلم.

ص: 609

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تقدّم في أوائل البيوع أن اشتراط الصيغة في العقد، قول لا يؤيّده دليلٌ، فلا يُلتفت إليه، ثم إن تفسير الملامسة بهذا التفسير الثاني غير صحيح؛ لأنه بعيد عن التفسير المذكور في الحديث، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

قال: ومأخذ الثالث شرط نفي خيار المجلس، وهذه الأقوال، هي التي اقتصر عليها الفقهاء، ويخرج مما ذكرناه من طريق الحديث زيادة على ذلك.

وأما المنابذة، فاختلفوا فيها أيضًا على ثلاثة أقوال، وهي أوجه للشافعية:

[أصحها]: أن يَجعلا نفس النبذ بيعًا، كما تقدم في الملامسة، وهو الموافق للتفسير في الحديث المذكور.

[والثاني]: أن يجعلا النبذ بيعًا بغير صيغة.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد عرفت ما فيه فيما ذكرته آنفًا.

[والثالث]: أن يجعلا النبذ قاطعًا للخيار، واختلفوا في تفسير النبذ، فقيل: هو طرح الثوب، كما وقع تفسيره في الحديث المذكور، وقيل: هو نبذ الحصاة، والصحيح أنه غيره، وقد روى مسلم النهي عن بيع الحصاة، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الباب التالي، والله تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تخريجه في الحديث الأول في الباب.

[تنبيه]: قال في "الفتح": حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه البخاريّ عنه من طُرُق، ثالثها طريق حفص بن عاصم، عنه، وهو في "مواقيت الصلاة"، ولم يذكر في شيء من طُرُقه عنه تفسير المنابذة والملامسة، وقد وقع تفسيرهما في رواية مسلم، والنسائيّ، وظاهر الطرق كلها أن التفسير من الحديث المرفوع، لكن وقع في رواية النسائيّ ما يشعر بأنه من كلام من دون النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولفظه: وزعم أن الملامسة أن يقول إلخ، فالأقرب أن يكون ذلك من كلام الصحابيّ؛

ص: 610

لبُعد أن يعبِّر الصحابيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بلفظ "زَعَمَ"، ولوقوع التفسير في حديث أبي سعيد الخدريّ من قوله أيضًا. انتهى

(1)

.

(المسألة الثانية): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تفسير الملامسة، والمنابذة.

2 -

(ومنها): ما قيل: إنه يُستدلّ بقوله: "لمس الثوب، لا ينظر إليه" على بطلان بيع الغائب، وهو قول الشافعيّ في الجديد، وعن أبي حنيفة: يصح مطلقًا، ويثبت الخيار إذا رآه، وحُكي عن مالك، والشافعي أيضًا، وعن مالك: يصح إن وصفه، والا فلا، وهو قول الشافعيّ في القديم، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وأهل الظاهر، واختاره البغويّ، والرويانيّ من الشافعية، وإن اختلفوا في تفاصيله، ويؤيده قوله، في رواية أبي عوانة بلفظ:"لا ينظرون إليها، ولا يخبرون عنها"، وفي الاستدلال لذلك وفاقًا، وخلافًا طول، قاله في "الفتح"

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الاستدلال بهذا الحديث على بطلان بيع الغائب فيه نظر لا يخفى، فإن الغائب يُعْلَم بالوصف، فإن لم يتّفق مع الوصف يكون له الخيار، بخلاف الملامسة، فإنه لا يُخبره بما فيه، ولا يأذن له أن ينظر بنفسه، قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله في "شرح العمدة"، لَمّا ذكر الاستدلال به على بطلان بيع الغائب: ومن يشترط الوصف في بيع الأعيان الغائبة لا يكون الحديث دليلًا عليه؛ لأنه لم يذكر وصفًا.

وذكر أبو محمد بن حزم رحمه الله أن الشافعيّة استدلّوا على منع الغائب بنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، وعن الملامسة، والمنابذة، قال: ولا حجة لهم فيه؛ لأن بيع الغائب إذا وُصف عن رؤية، وخبرة، ومعرفة، قد صحّ ملكه لَمّا اشترى، فأين الغرر؟ قال: ومما يبطله أنه لم يزل المسلمون يتبايعون الضياع بالصفة، وهي في البلاد البعيدة، وقد باع عثمان بنَ عمر رضي الله عنهم مالًا لعثمان بخيبر بمال لابن عمر بوادي القرى. انتهى.

(1)

"الفتح" 5/ 616 "البيوع" رقم (2146).

(2)

"الفتح" 5/ 615.

ص: 611

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله ابن حزم رحمه الله من صحّة بيع الغائب بالوصف هو الحقّ، وقد تعقّب وليّ الدين كلام ابن حزم هذا، بما هو دفاع بَحْت عن مذهبه، تركت ذكره لكونه خَلْفًا، فتبصّر بالدليل السديد، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم.

3 -

(ومنها): ما قيل أيضًا: إنه يُستَدلّ به على بطلان بيع الأعمى مطلقًا، وهو قول معظم الشافعية، حتى من أجاز منهم بيع الغائب؛ لكون الأعمى لا يراه بعد ذلك، فيكون كبيع الغائب، مع اشتراط نفي الخيار.

وقيل: يصح إذا وصفه له غيره، وبه قال مالك، وأحمد، وعن أبي حنيفة يصح مطلقًا، على تفاصيل عندهم أيضًا، قاله في "الفتح" أيضًا

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الأرجح عندي ما ذهب إليه مالك، وأحمد، وأبو حنيفة، من جواز بيع الأعمى، وشرائه، إذا وُصف المتاع له، لأن حكمه في المعاملات كحكم غيره ممن يُبصِر، دون فرق، وليس نصّ، ولا إجماع يميّزه عنهم، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3801]

(1512) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى - وَاللَّفْظُ لِحَرْمَلَةَ - قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْب، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، أَنَّ أَبا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ: نَهَانَا

(2)

رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعَتَيْن، وَلبْسَتَيْنِ: نَهَى عَنِ الْمُلَامَسَة، وَالْمُنَابَذَةِ فِي الْبَيْع، وَالْمُلَامَسَةُ لَمْسُ الرَّجُلِ ثَوْبَ الآخَرِ بِيَدِهِ بِاللَّيْلِ أَوْ بِالنَّهَار، وَلَا يَقْلِبُهُ إِلَّا بِذَلِكَ، وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ يَنْبِذَ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ بِثَوْبِه، وينْبِذَ الآخَرُ إِلَيْهِ ثَوْبَهُ، ويكُونُ ذَلِكَ بَيْعَهُمَا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ

(3)

، وَلَا تَرَاضٍ).

(1)

"الفتح" 5/ 615.

(2)

وفي نسخة: "نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم".

(3)

وفي نسخة: "عن غير نظر".

ص: 612

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) الزهريّ المدنيّ، ثقة [3](ت 104)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.

2 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سِنَان الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (3 أو 4 أو 65)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.

والباقون تقدّموا قريبًا، و"أبو الطاهر" هو: أحمد بن عمرو بن عبد الله بن السَّرْح، و"يونس" هو: ابن يزيد الأيليّ.

وقوله: (نَهَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي بعض النسخ: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم

إلخ".

وقوله: (عَنْ بَيْعَتَيْنِ) بفتح أوله، والمراد به المرّة من البيع، قاله وليّ الدين رحمه الله

(1)

، وقال في "الفتح": بفتح الموحّدة، ويجوز كسرها على إرادة الهيئة. انتهى

(2)

، وقال السنديّ رحمه الله: المشهور فتح الباء، والأقرب الكسر على الهيئة. انتهى.

وقوله: (وَلبْسَتَيْنِ) بكسر اللام؛ لأنه للهيئة والحالة، كما تقدّم قول ابن مالك:

..................

وَفِعْلَةٌ لِهَيْئَةٍ كَـ "جِلْسَهْ"

وقال القاضي عياض في "المشارق": ورُوي بضمّ اللام على اسم الفعل، والأول هنا أوجه، وقال في "النهاية": هي بكسر اللام: الهيئةُ والحالة، ورُوي بالضمّ على المصدر، والأول الوجه. انتهى

(3)

.

[تنبيه]: لم يذكر المصنّف رحمه الله في هذا الحديث بيان اللِّبستين، وهما اشتمال الصمّاء، والاحتباء بثوب واحد، ليس على فرجه منه شيء.

أما "اشتمال الصماء": فهو بالصاد المهملة، والمد، قال أهل اللغة: هو

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 6/ 100.

(2)

"الفتح" 2/ 28.

(3)

"النهاية" 4/ 226، و"طرح التثريب" 6/ 99 - 100.

ص: 613

أن يُخَلِّل جسده بالثوب، لا يرفع منه جانبًا، ولا يُبقي ما يُخرج منه يده، قال ابن قتيبة: سميت صماء؛ لأنه يَسُدُّ المنافذ كلها، فتصير كالصخرة الصماء، التي ليس فها خرق.

وقال الفقهاء: هو أن يلتحف بالثوب، ثم يرفعه من أحد جانبيه، فيضعه على منكبه، فيصير فرجه باديًا، قال النووي: فعلى تفسير أهل اللغة، يكون مكروهًا؛ لئلا يَعرِض له حاجة، فيتعسر عليه إخراج يده، فيَلحقه الضرر، وعلى تفسير الفقهاء يحرم، لأجل انكشاف العورة.

قال الحافظ: ظاهر سياق البخاريّ، من رواية يونس، في "اللباس": أن التفسير المذكور فيها مرفوع، وهو موافق لما قال الفقهاء، ولفظه:"والصماء أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه، فيبدو أحد شقيه"، وعلى تقدير أن يكون موقوفًا، فهو حجة على الصحيح؛ لأنه تفسير من الراوي، لا يخالف ظاهر الخبر.

وأما "الاحتباء": فهو أن يَقْعُد على أَلْيَتيه، وينصب ساقيه، ويَلُفّ عليه ثوبًا، ويقال له الْحَبْوَة، وكانت من شأن العرب، وفسّرها في رواية يونس المذكورة بنحو ذلك، أفاده في "الفتح"

(1)

.

وقال ولي الدين رحمه الله: الاحتباء بالمد هو أن يقعُد الإنسان على أليته، وينصب ساقيه، ويحتوي عليهما بثوب، أو نحوه، أو بيده، وهذه الْقِعْدة يقال لها: الِحبوة، بضم الحاء وكسرها، وكان هذا الاحتباء عادة للعرب في مجالسهم، فنُهِيَ عنه إذا أدّى إلى انكشاف العورة، بأن يكون عليه ثوب واحد قصير، فإذا قعد على هذه الهيئة انكشفت عورته، ولو كان عليه ثياب كثيرة، وكلها قصيرة، بحيث تنكشف عورته، إذا جلس هكذا كان حرامًا أيضًا، وذِكْرُ الثوب الواحد في الحديث خرج مخرج الغالب في أن الانكشاف إنما يكون مع الثوب الواحد دون الثياب الكثيرة، وكشف العورة حرام بحضور الناس، وكذا في الخلوة على الأصحّ إذا كان لغير حاجة، واقتصر في الحديث على ذكر الفرج؛ لفحشه، ونبّه به على ما سواه من العورة، وقد تعلّق به من ذهب إلى أن العورة السوأتان فقط.

(1)

"الفتح" 2/ 28 "كتاب الصلاة" رقم 369.

ص: 614

وكَرِهَ الصلاة محتبيًا ابن سيرين، وأجازها الحسن، والنخعيّ، وعروة، وسعيد بن المسيِّب، وعُبيد بن عُمير، وكان سعيد بن جبير يصلي محتبيًا، فإذا أراد أن يركع حَلّ حبوته، ثم قام، وركع. وصلى التطوع محتبيًا: عطاء، وعمر بن عبد العزيز. انتهى

(1)

.

وقوله: (مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ) وفي بعض النسخ: "عن غير نظر"، بـ "عن" بدل "من"، وتمام شرح الحديث يُعلم من شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه قبله.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 3801 و 3802](1512)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2144 و 2147) و"اللباس"(5820 و 5822) و"الاستئذان"(6284)، و (أبو داود) في "البيوع"(3377 و 3378 و 3379)، و (النسائيّ) في "البيع"(7/ 260 و 261 و 8/ 210) و"الكبرى"(4/ 16)، و (ابن ماجه) في "التجارات"(2170)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(8/ 227)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 43)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 6 و 66 و 95)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 253)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(592)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 265)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 256)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4976)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 341) و"المعرفة"(4/ 380)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): قال في "الفتح": حديث أبي سعيد رضي الله عنه اختُلِف فيه على الزهريّ، فرواه معمر، وسفيان، وابن أبي حفصة، وعبد الله بن بُدَيل، وغيرهم عنه، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد.

ورواه عُقيل، ويونس، وصالح بن كيسان، وابن جريج، عن الزهريّ، عن عامر بن سعد، عن أبي سعيد.

وروى ابن جريج بعضه، عن الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي

(1)

"طرح التثريب" 6/ 103 - 104.

ص: 615

سعيد، وهو محمول عند البخاريّ على أنها كلها عند الزهريّ، واقتصر مسلم على طريق عامر بن سعد وحده، وأعرض عما سواها، وقد خالفهم كلَّهم الزُّبيديّ، فرواه عن الزهريّ، عن سعيد، عن أبي هريرة، وخالفهم أيضًا جعفر بن بُرْقان، فرواه عن الزهريّ، عن سالم، عن أبيه، وزاد في آخره:"وهي بيوع كانوا يتبايعون بها في الجاهلية"، أخرجهما النسائيّ، وخَطّأ رواية جعفر. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3802]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرَّقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

2 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

3 -

(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجة [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

4 -

(صالِحُ) بن كيسان الغفاريّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [4](ت بعد 30 أو 140)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

5 -

(ابنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري، الإمام الحجَّة الحافظ الشهير، رأس [4](ت 125) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 348.

[تنبيه]: رواية صالح بن كيسان، عن الزهريّ هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "المجتبى" 7/ 261 فقال:

(1)

"الفتح" 5/ 615.

ص: 616

(4514)

- أخبرنا أبو داود، قال: حدّثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدّثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب؛ أن عامر بن سعد أخبره؛ أن أبا سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الملامسة - والملامسةُ لمسُ الثوب، لا ينظر إليه - وعن المنابذة - والمنابذةُ طرح الرجل ثوبه إلى الرجل قبل أن يقلبه - انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(2) - (بَابُ بُطْلَانِ بَيْعِ الْحَصَاة، وَالْبَيْعِ الَّذِي فِيهِ غَرَزٌ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3803]

(1513) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ الله، حَدَّثَنِي أَبُو الزِّنَاد، عَنِ الأَعْرَج، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْحَصَاة، وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ) الأوديّ الكوفيّ، ثقةٌ فقيةٌ عابدٌ [8](ت 192)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

2 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، تقدّم قبل بابين.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه، كما سبق غير مرّة، وفيه ثلاثة من التابعين المدنيين روى بعضهم عن بعض، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ) - بفتح الحاء المهملة -: واحدة الحصى، قيل: هو من إضافة المصدر إلى نوعه، وليس من إضافة المصدر إلى مفعوله، وصفته أن يقول البائع للمشتري: ارم هذه الحصاة، فأيُّ ثوب تقع عليه، فعليك بكذا، أو أن يبيعه من أرضه ما

ص: 617

انتهى إليه رمي الحصاة، أو أن يقول له: إذا نبذتُ إليك الحصاة، فقد وجب البيع، والكلّ فاسد؛ لأنه من بيوع الجاهليّة، وكلها غرر؛ لما فيها من الجهالة

(1)

، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى -.

(وَ) نَهَى أيضًا (عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ) - بفتحتين -: هو الخَطَر، قيل: هو أيضًا من إضافة المصدر إلى نوعه، من غرّ يغُرُّ بالضمّ، من باب قعد، قيل: هو ما كان له ظاهر يغرّ المشتري، وباطنٌ مجهول، وقيل: بيع الغرر: ما كان على غير عُهدة، ولا ثقةٍ، وتدخل فيه البيوع التي لا يحيط بكنهها المتبايعان، من كلّ مجهول

(2)

، وقيل: هو البيع المشتمل على غَرَرٍ مقصود، كبيع الأجِنّة، والسمك في الماء، والطير في الهواء، وما أشبه ذلك، فأما الغرر اليسير الذي ليس بمقصود، فلم يتناوله هذا النهي، كما سيأتي تحقيقه في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 3803](1513)، و (أبو داود) في "البيوع"(3376)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1230)، و (النسائئ) في "البيوع"(7/ 262) و"الكبرى"(4/ 17)، و (ابن ماجه) في "التجارات"(2194)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 250 و 376 و 436 و 439 و 496)، و (الدارميّ) في "سننه"(2441 و 2450)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(2194)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4951 و 4977)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 100)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 258)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(3/ 15 و 16)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 338)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2103)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في بيان أقوال أهل العلم في بيع الحصاة:

قال النوويّ رحمه الله: أما بيع الحصاة، ففيه ثلاث تأويلات:

(1)

راجع: "النهاية" لابن الأثير 1/ 398.

(2)

راجع: "النهاية" 3/ 355.

ص: 618

[أحدها]: أن يقول: بعتك من هذه الأثواب، ما وقعت عليه الحصاة التي أرميها، أو بعتك من هذه الأرض من هنا، الى ما انتهت إليه هذه الحصاة.

[والثاني]: أن يقول: بعتك على أنك بالخيار، إلى أن أرمي بهذه الحصاة.

[والثالث]: أن يجعلا نفس الرمي بالحصاة بيعًا، فيقول: إذا رميت هذا الثوب بالحصاة، فهو مبيع منك بكذا. انتهى

(1)

.

وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: اختُلف فيه على أقوال:

[أوّلها]: أن يبيعه من أرضه قدرَ ما انتهت إليه رَميَةُ الحصاة.

[وثانيها]: أيُّ ثوب وقعت عليه الحصاة، فهو المبيع.

[وثالثها]: أن يقبض على الحصى، فيقول: ما خرج كان لي بعدده دراهم، أو دنانير.

[ورابعها]: أيُّ زمن وقعت الحصاة من يده وجب البيع، فهذا إيقافُ لزوم على زمن مجهول، وهذه كلّها فاسدةٌ؛ لما تضمّنته من الخطر، والجهل، وأكل المال بالباطل. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في بيان أقوال أهل العلم في بيع الغرر:

قال النوويّ رحمه الله: وأما النهي عن بيع الغرر، فهو أصل عظيم، من أصول "كتاب البيوع"، ولهذا قدّمه مسلم، ويدخل فيه مسائل كثيرة، غير منحصرة؛ كبيع الآبق، والمعدوم، والمجهول، وما لا يُقْدَر على تسليمه، وما لم يتم ملك البائع عليه، وبيع السمك في الماء الكثير، واللبن في الضرع، وبيع الحمل في البطن، وبيع بعض الصُّبْرَة مبهمًا، وبيع ثوب من أثواب، وشاة من شياه، ونظائر ذلك، وكل هذا بيعه باطل؛ لأنه غرر من غير حاجة؛ وقد يُحتَمَل بعضُ الغرر بيعًا، إذا دعت إليه حاجة، كالجهل بأساس الدار، وكما إذا باع الشاة الحامل، والتي في ضرعها لبن، فإنه يصح البيع؛ لأن الأساس تابع للظاهر من الدار، ولأن الحاجة تدعو إليه، فإنه لا يمكن رؤيته، وكذا القول

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 156.

(2)

"المفهم" 4/ 362.

ص: 619

في حمل الشاة ولبنها، وكذلك أجمع المسلمون على جواز أشياء فيها غرر حقير، منها: أنهم أجمعوا على صحة بيع الْجُبّة المحشوة، وإن لم يُر حشوها، ولو بِيعَ حشوها بإنفراده لم يجز، وأجمعوا على جواز إجارة الدار، والدابة، والثوب، ونحو ذلك شهرًا، مع أن الشهر، قد يكون ثلاثين يومًا، وقد يكون تسعة وعشرين، وأجمعوا على جواز دخول الحمّام بالأجرة، مع اختلاف الناس في استعمالهم الماء، وفي قدر مكثهم، وأجمعوا على جواز الشرب من السقاء بالعوض، مع جهالة قدر المشروب، واختلاف عادة الشاربين، وعكس هذا.

وأجمعوا على بطلان بيع الأَجِنّة في البطون، والطير في الهواء.

قال العلماء: مدارُ البطلان بسبب الغرر، والصحةِ مع وجوده، على ما ذكرناه، وهو أنه إن دعت حاجة إلى ارتكاب الغرر، ولا يمكن الاحتراز عنه، إلا بمشقة، وكان الغرر حقيرًا، جاز البيع، وإلا فلا، وما وقع في بعض مسائل الباب، من اختلاف العلماء في صحة البيع فيها، وفساده؛ كبيع العين الغائبة، مبنيّ على هذه القاعدة، فبعضهم يَرَى أن الغرر حقير، فيجعله كالمعدوم، فيصح البيع، وبعضهم يراه ليس بحقير، فيبطل البيع، والله أعلم.

قال: واعلم: أن بيع الملامسة، وبيع المنابذة، وبيع حَبَل الْحَبَلة، وبيع الحصاة، وعَسْبَ الفحل، وأشباهها، من البيوع التي جاء فيها نصوص خاصة، هي داخلة في النهي عن بيع الغرر، ولكن أُفردت بالذكر، ونُهي عنها؛ لكونها من بياعات الجاهلية المشهورة، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: هو البيع المشتمل على غَرَرٍ مقصود، كبيع الأجِنّة، والسمك في الماء، والطير في الهواء، وما أشبه ذلك، فأما الغرر اليسير الذي ليس بمقصود، فلم يتناوله هذا النهي؛ لإجماع المسلمين على جواز إجارة العبد، والدار مشاهرةً، ومساناةً، مع جواز الموت، وهدم الدار قبل ذلك، وعلى جواز إجارة الدخول في الْحَمّام، مع تفاوت الناس فيما يتناولون من الماء، وفي قدر الْمُقام فيه، وكذلك الشرب من السقاء، مع اختلاف أحوال الناس في قدر المشروب، وأيضًا، فإن كلَّ بيع لا بدّ فيه من نوع من الغرر،

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 156 - 157.

ص: 620

لكنه لَمّا كان يسيرًا، غير مقصود، لم يلتفت الشرع إليه. ولَمّا انقسم الغرر على هذين الضربين، فما تبيّن أنه من الضرب الأول مُنع، وما كان من الضرب الثاني، أُجيز، وما أشكل أمره، اختُلف فيه، من أيّ القسمين هو، فيُلحقَ به. انتهى

(1)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله: وأما الغرر، فالأصل في ذلك أن الله تعالى حرّم في كتابه أكل أموالنا بالباطل، وهذا يعمّ كلّ ما يؤكل بالباطل، والنبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر، والغرر هو المجهول العاقبة، فمن أنواعه: بيع حَبَل الحَبَلة، وبيع الملاقيح، وبيع المضامين، وبيع الثمار قبل بدوّ صلاحها، وبيع الملامسة، والمنابذة، ونحو ذلك، من أنواعه، وصوره. والغرر ثلاثة أنواع: بيع المعدوم؛ كحبَل الحبَلة، وبيع المعجوز عن تسليمه؛ كالجمل الشارد، وبيع المجهول المطلق، أو المجهول الجنس، أو المجهول القدر.

وقال أيضًا: رخّص الشارع فيما تدعو الحاجة إليه من الغرر؛ كبيع العقار بأساسه، والحيوان الحامل، والثمرة بعد بُدُوّ صلاحها، وبيع ما المقصود منه مغيّب في الأرض؛ كالبصل، والفجل، ونحوهما قبل قلعه، وتختلف مشارب الفقهاء في هذا، فأبو حنيفة، والشافعيّ أشدّ الناس قولًا في الغرر، وأصول الشافعيّ المحرّمة أكثر من أصول أبي حنيفة، أما مالك، فمذهبه أحسن المذاهب في هذا، فإنه يجوّز بيع هذه الأشياء، وجميع ما تدعو الحاجة إليه، أو يَقِلّ غرره، فيجوز بيع المقاثي جملة، وبيع المغيّبات في الأرض؛ كالجزر، والفجل، والبصل، ونحو ذلك، وأحمد قريب منه في ذلك، والناس محتاجون إلى هذه البيوع، والشارع لا يُحرّم ما يحتاج الناس إليه من البيع؛ لأجل نوع من الغرر، وهذا أصحّ الأقوال، وعليه يدلّ غالب معاملات السلف، ولا يستقيم أمر الناس في معاشهم إلا به، وكلّ من شدّد في تحريم ما يعتقده غررًا، فإنه لا بدّ أن يضطرّ إلى إجازة ما حرّمه اللهُ، فإما أن يخرج عن مذهبه الذي يقلّده في هذه المسألة، وإما أن يحتال، ومفسدة التحريم لا تزول بالحيلة. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله

(2)

.

(1)

"المفهم" 4/ 362.

(2)

"مجموع الفتاوى" 29/ 227 و 486.

ص: 621

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله شيخ الإسلام رحمه الله من ترجيح مذهب مالك في جواز ما تدعو الحاجة إليه من الأشياء التي فيها نوع من الغرر هو الأرجح؛ لقوّة مدركه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): مما يتعلّق بالغرر ما يسمّى الآن بالتأمين التجاريّ، فأذكر هنا آراء العلماء من المعاصرين:

وتعريفه: هو عقدٌ يُلزِم أحد الطرفين، وهو المؤمّن - بالكسر - أن يؤدّي إلى الطرف الآخر، وهو المؤمّن له - بالفتح - عِوَضًا مادّيًّا، يُتّفق عليه، يُدفع عند وقوع الخطر، وتحقّق الخسارة المبيّنة في العقد، وذلك نظير رسم، يسمّى "قسط التأمين"، يدفعه المؤّمَّن له حسبما ينصّ عليه عقد التأمين، إذًا فالمتعاقدان هما: المؤَمِّن، شركةٌ، أو هيئةٌ، والمؤمَّن له، دافع أقساط التأمين.

قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: التأمين مخالف للشريعة الإسلاميّة؛ لما يشتمل عليه من أمور، هي: غرر، وجهالة، ومخاطرة، مما يكون من قِبَل أكل أموال الناس بالباطل، ويشبه الميسر؛ لأنه يستلزم المقامرة، وبالجملة فكلّ من تأمل هذا العقد وجده لا ينطبق على شيء من العقود الشرعيّة، ولا عبرة بتراضي الطرفين، ولكن العبرة بتراضيهما، إذا كانت معاملتهما قائمة على أساس من العدالة الشرعيّة.

قرار هيئة كبار العلماء:

أصدر مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعوديّة قرارًا عن التأمين التجاريّ برقم 55 وتاريخ 4/ 1397/4 هـ مطوّلًا، لا يتّسع المقام لنقله كله، بل نكتفي بنقل فقرات منه، فمن أراده فليرجع إليه، جاء فيه ما يلي:

1 -

عقد التأمين التجاريّ من عقود المعاوضات الماليّة الاجتماعيّة المشتملة على الغرر الفاحش، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر.

2 -

هو ضرب من ضروب المقامرة؛ لما فيه من المخاطرة في معاوضات ماليّة، ومن الْغُرْم بلا جهناية، ومن الْغُنْم بلا مقابل، أو مقابل غير مكافئ.

3 -

من الرهان المحرّم الذي لم يُبَحْ منه إلا ما فيه نصرة للإسلام، وقد

ص: 622

حصر النبيّ صلى الله عليه وسلم الرهان في الخفّ، والحافر، والنصل، وليس التأمين من ذلك. انتهى ملخصًا.

وأما مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظّمة المؤتمر الإسلاميّ، فأصدر قرارًا برقم 2 في دورته الثانية بجُدّة في 10/ 6/ 1406 هـ جاء فيه:

إن عقد التأمين التجاريّ ذي القسط الثابت الذي تتعامل به شركات التأمين التجاريّ عقدٌ فيه غرر كبير، مفسد للعقد، ولذا فهو حرام شرعًا.

أما مجلس المجمع الفقهيّ بمكة المكرّمة، فأصدر قرارًا برقم 5 الذي جاء فيه ما يلي:

بعد الدراسة الوافية، وتداول الرأي في ذلك قرر مجلس المجمع الفقهيّ بالإجماع عدا فضيلة الشيخ مصطفى الزرقاء تحريم التأمين التجاريّ بجميع أنواعه، سواء كان على النفس، أو البضائع التجاريّة، أو غير ذلك.

فهذه هي المجامع العلميّة الفقهيّة الشرعيّة، حرّمت التأمين التجاريّ؛ لأنه باب كبير من أبواب الغرر.

والمجالس الثلاثة كلها أجازت البديل الشرعيّ، وهو "التأمين التعاونيّ"، فعبارة مجمع الفقه الإسلاميّ من منظّمة المؤتمر الإسلاميّ هي:

إن العقد البديل الذي يحترم أصول التعامل الإسلاميّ، هو عقد التأمين التعاونيّ القائم على أساس التبرّع والتعاون.

وقالت هيئة كبار العلماء في قرارها رقم (51) في 4/ 1397/4 هـ: إن التأمين التعاونيّ من عقود التبرّعات التي يقصد بها أصالة التعاون على تفتيت الأخطار، والاشتراك في تحمّل المسؤوليّة عند نزول الكوارث، وذلك عن طريق إسهام أشخاص بمبالغ نقديّة، تُخَصّص لتعويض من يُصيبه ضرر، وإمكان الاكتفاء به عن التأمين التجاريّ. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي أصدرته المجالس المذكورة من القرار بتحريم التأمين التجاريّ دون التأمين التعاونيّ هو الذي لا يظهر لي غيره، ولا يتّجه عندي سواه، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 623

(3) - (بَابُ تَحْرِيمِ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله: أوّل الكتاب قال:

[3804]

(1514) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الله، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم تقدّموا قريبًا، وشرح الحديث يأتي في الذي بعده.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3805]

(

) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى - وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ - قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى - وَهُوَ الْقَطَّانُ - عَنْ عُبَيْدِ الله، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَبَايَعُونَ لَحْمَ الْجَزُورِ إِلَى حَبَلِ الْحَبَلَة، وَحَبَلُ الْحَبَلَةِ أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ، ثُمَّ تَحْمِلَ الَّتِي نُتِجَتْ، فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم تقدّموا في السند الماضي، والباب الذي قبله.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما في الرواية الأولى (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ) - بفتحتين في الكلمتين - ومعناه: محبول المحبولة في الحال على أنهما مصدران أريد بهما المفعول، والتاء في الثاني للإشارة إلى الأنوثة.

قال الفيّوميّ رحمه الله: حَبِلَتِ المرأةُ، وكلُّ بهيمة تَلِدُ حَبَلًا، من باب تَعِبَ: إذا حَمَلت بالولد، فهي حُبْلَى، وشاةٌ حُبْلَى، وسِنَّوْرةٌ حُبْلَى، والجمعُ: حُبْلَيَاتٌ، على لفظها، وحَبَالَى، وحَبَلُ الْحَبَلَة، بفتح الجميع: وَلَدُ الولدِ الذي في بطن الناقة، وغيرها، وكانت الجاهلية تبيع أولاد ما في بطون الحوامل، فنَهَى الشرع عن بيع حَبَلِ الْحَبَلَة، وعن بيع المضامين، والملاقيح، وقال أبو عبيد: حَبَلُ الْحَبَلة: ولد الجنين الذي في بطن الناقة، ولهذا قيل: الْحَبَلة

ص: 624

بالهاء؛ لأنها أنثى، فإذا وَلَدت، فولَدُها حَبَلٌ بغير هاء، وقال بعضهم: الْحَبَل مختصّ بالآدميات، وأما غير الآدميات من البهائم والشجر، فيقال فيه: حَمْلٌ بالميم. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "حَبَل الْحَبَلَة" - بفتح المهملة والموحدة، وقيل: في الأول بسكون الموحدة، وغلّطه عياض، وهو مصدر حَبِلت تَحْبَل حَبَلًا، والْحَبَلة: جمع حابل، مثل ظَلَمة وظالم، وكَتَبَة وكاتب، والهاء فيه للمبالغة، وقيل: للإشعار بالأنوثة، وقد ندر فيه امرأة حابلة، فالهاء فيه للتأنيث، وقيل: الْحَبَلَة مصدر يُسَمَّى به المحبول، قال أبو عبيد: لا يقال لشيء من الحيوان حَبِلَت إلا الآدميات، إلا ما ورد في هذا الحديث، وأثبته صاحب "المحكم" قولًا، فقال: اختُلِف أهي للإناث عامًّة، أم للآدميات خاصّة؟ وأنشد في التعميم قول الشاعر [من مشطور الرجز]:

أَوْ ذِيخَةٌ حُبْلَى مُجِحٌّ مُقْرِبُ

وفي ذلك تعقّب على نقل النوويّ

(2)

اتفاق أهل اللغة على التخصيص

(3)

.

وفي الرواية الثانية (قَالَ) موضّحًا لمعنى حَبَل الْحَبَلة (كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ)؛ أي: الذين كانوا قبل الإسلام (يَتَبَايَعُونَ) ظاهر هذه الرواية أن هذا التفسير لابن عمر رضي الله عنهما، ووقع في رواية البخاريّ:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حَبَل الْحَبَلة"، وكان بيعًا يتبايعه أهل الجاهليّة

إلخ، فقال في "الفتح": كذا وقع هذا التفسير في "الموطإ" متّصِلًا بالحديث، قال الإسماعيليّ: وهو مدرج، يعني أن التفسير من كلام نافع، وكذا ذكر الخطيب في "المدرج"، وسيأتي في آخر "السلم" عن موسى بن إسماعيل التبوذكيّ، عن جُويرية التصريح بأن نافعًا هو الذي فسَّره، لكن لا يلزم من كون نافع فسّره لجويرية، أن لا يكون ذلك التفسير مما حمله عن مولاه ابن عمر، فسيأتي في أيام الجاهلية من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر - هي رواية مسلم هنا - قال: كان أهل الجاهلية يتبايعون لحم الجزور إلى حَبَل الْحَبَلة، وحَبَل الحبَلة أن تُنْتَج

(1)

"المصباح المنير" 1/ 119.

(2)

راجع: "شرح النوويّ" 10/ 156.

(3)

"الفتح" 5/ 609 - 610.

ص: 625

الناقة ما في بطنها، ثم تَحْمِل التي نتجت فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فظاهر هذا السياق أن هذا التفسير من كلام ابن عمر، ولهذا جزم ابن عبد البرّ بأنه من تفسير ابن عمر، وقد أخرجه مسلم من رواية الليث - يعني الرواية التي قبل هذه - والترمذيّ، والنسائيّ من رواية أيوب، كلاهما عن نافع، بدون التفسير، وأخرجه أحمد، والنسائيّ، وابن ماجه، من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عمر بدون التفسير أيضًا. انتهى

(1)

.

(لَحْمَ الْجَزُورِ) - بفتح الجيم، وضمّ الزاي -: هو البعير ذكرًا كان أو أنثى، إلا أن لفظه مؤنث، تقول: هذه الجزور، وان أردت ذكرًا، فَيَحْتَمِل أن يكون ذِكْرُه في الحديث قيدًا فيما كان أهل الجاهلية يفعلونه، فلا يتبايعون هذا البيع إلا في الجزور، أو لحم الجزور، وَيحْتَمِل أن يكون ذُكِر على سبيل المثال، وأما في الحكم فلا فرق بين الجزور وغيرها في ذلك، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال الفيّوميّ: الْجَزُور من الإبل خاصّةً، يقع على الذكر والأنثى، والْجمع: جُزُرٌ، مثلُ رَسُول ورُسُلٍ، ويُجمع أيضًا على جُزُرَات، ثمّ على جزائر، ولفظ الْجَزور أُنثى، يقال: رَعَت الجَزُور، قاله ابن الأنباريّ، وزاد الصغانيّ: وقيل: الْجَزور: الناقة التي تُنحَر، وجزرت الْجَزور وغيرها، من باب قَتَل: نَحْرتُها، والفاعل جَزّار، والْحِرفة: الْجِزارة بالكسر، والْمَجزَرُ: موضع الْجَزْر، مثلُ جَعْفَر، وربّما دخلته الهاء، فقيل: مَجْزَرَةٌ. انتهى

(3)

.

(إِلَى حَبَلِ الْحَبَلَة، وَحَبَلُ الْحَبَلَةِ أَنْ تُنْتَجَ) - بضم أوله، وفتح ثالثه -؛ أي: تَلِد ولدًا وقوله: (النَّاقَةُ) مرفوع على الفاعليّة، وهذا الفعل وقع في لغة العرب على صيغة الفعل المسند إلى المفعول، وهو حرف نادر، قاله في "الفتح".

وقال المجد رحمه الله: نُتِجَت الناقة، كعُنِيَ نِتاجًا، وأُنتِجَتْ، وقد نَتَجَهَا أهلُها، وأَنْتَجَتِ الفرسُ: حان نِتاجُها، فهي نَتُوجٌ، لا مُنْتِجٌ. انتهى

(4)

.

(1)

"الفتح" 5/ 611 "كتاب البيوع" رقم (2143).

(2)

"الفتح" 5/ 611.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 98.

(4)

"القاموس المحيط" 1/ 209.

ص: 626

وقال الفيّوميّ رحمه الله: النِّتَاج بالكسر: اسم يَشْمَل وضع البهائم من الغنم، وغيرها، وإذا وَلِيَ الإنسانُ ناقةً، أو شاةً ماخضًا حتى تضع قيل: نَتَجَها نَتْجًا، من باب ضرب، فالإنسان كالقابلة؛ لأنه يتلقى الولد، ويُصلِح من شأنه، فهو ناتج، والبهيمة منتوجة، والولد نَتِيجةٌ، والأصل في الفعل أن يتعدى إلى مفعولين، فيقالُ: نَتَجَها ولدًا؛ لأنه بمعنى وَلَّدها ولدًا، وعليه قوله [من الوافر]:

هُمُ نَتَجُوكَ تَحْتَ اللَّيْلِ سَقْبًا

ويُبنَى الفعل للصفعول، فيُحذَف الفاعل، ويقام المفعول الأول مُقامه، ويقال: نُتِجَت الناقة ولدًا: إذا وضعته، ونُتِجت الغنمُ أربعين سَخْلَةً، وعليه قول زهير [من الطويل]:

فَتُنْتَجْ لَكُمْ غِلْمَانَ أَشْأَمَ كُلُّهُمْ

ويجوز حذف المفعول الثاني اقتصارًا؛ لفهم المعنى، فيقالُ: نُتِجَت الشاةُ، كما يقال: أُعْطِي زيدٌ، ويجوز إقامة المفعول الثاني مُقام الفاعل، وحذف المفعول الأول؛ لفهم المعنى، فيقالُ: نُتِج الولدُ، ونُتِجت السَّخْلةُ؛ أي: وُلِدت، كما يقال: أُعطِي درهم، وقد يقال: نَتَجَت الناقةُ ولدًا، بالبناء للفاعل، على معنى وَلَدت، أو حَمَلت، قال السَّرَقُسْطيّ: نَتَجَ الرجلُ الحاملَ: وَضَعَت عنده، ونَتَجَتَ هي أيضًا: حَمَلَت لغةٌ قليلةٌ، وأَنْتَجَتِ الفرسُ، وذو الحافر، بالألف: استبان حَمْلُها، فهي نَتُوجٌ. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ تَحْمِلَ الَّتِي نُتِجَتْ) بالبناء للمفعول أيضًا، يعني تحمل المولودة، وفي رواية البخاريّ:"ثمّ تُنْتَج التي في بطنها"؛ أي: ثم تعيش المولودة حتى تكبر، ثم تَلِد، قال في "الفتح": وهذا القدر زائد على رواية عبيد الله بن عمر، فإنه اقتصر على قوله:"ثم تَحْمِل التي في بطنها"، ورواية جويرية أخصر منهما، ولفظه:"أن تُنْتَج الناقة ما في بطنها"، وبظاهر هذه الرواية قال سعيد بن المسيِّب، فيما رواه عنه مالك، وقال به مالك، والشافعيّ، وجماعة، وهو أن يبيع بثمن إلى أن يولد ولدُ الناقة، وسيأتي تمام البحث في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى -.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 591 - 592.

ص: 627

(فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ)؛ أي: نهى صلى الله عليه وسلم أصحابه عن البيع المذكور؛ لكونه من بيوع الجاهليّة المشتملة على الجهالة والغرر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانيه): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 3804 و 3805](1514)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2143) و"السلم"(2256) و"المناقب"(3843)، و (أبو داود) في "البيوع"(3380)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1229)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 293 - 294) و"الكبرى"(4/ 41 - 42)، و (ابن ماجه) في "التجارات"(2197)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 653 - 654)، و (الحميديّ) في "مسنده"(3/ 302)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 51 و 5/ 2 و 10 و 63 و 80 و 108)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(591)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4946 و 4947)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 259)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(8/ 73)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 22)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 186)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 340) و"الصغرى"(5/ 173) و"المعرفة"(4/ 378 - 379) و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2107)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في تفسير "حَبَلِ الْحَبَلَة":

قال النوويّ رحمه الله: اختلف العلماء، في المراد بالنهي عن بيع حبل الحبلة، فقال جماعة: هو البيع بثمن مؤجل إلى أن تلد الناقة، ويلد ولدها، وقد ذكر مسلم في هذا الحديث هذا التفسير، عن ابن عمر، وبه قال مالك، والشافعيّ، ومن تابعهم.

وقال آخرون: هو بيع ولد الناقة الحامل في الحال، وهذا تفسير أبي عبيدة، معمر بن المثنى، وصاحبه: أبي عبيد، القاسم بن سَلّام، وآخرين، من أهل اللغة، وبه قال أحمد بن حنبل، وإسحاق ابن راهويه، وهذا أقرب إلى اللغة، لكن الراوي هو ابن عمر، وقد فسره بالتفسير الأول، وهو أعرف،

ص: 628

ومذهب الشافعيّ، ومحققي الأصوليين؛ أن تفسير الراوي مقدم إذا لم يخالف الظاهر.

وهذا البيع باطل على التفسيرين: أما الأول، فلأنه بيع بثمن إلى أجل مجهول، والأجل يأخذ قسطًا من الثمن، وأما الثاني فلأنه بيع معدوم، ومجهول، وغير مملوك للبائع، وغير مقدور على تسليمه، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما فسّر به الأولون للنهي عن بيع حَبَل الْحَبَلة بأنه بيع الشيء بثمن مؤجّل إلى هذا الأجل، هو الأرجح؛ لموافقته تفسير الراوي؛ لأنه أعلم بتفسير ما رَوَى، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

وقال في "الفتح" بعد ذكر رواية جويرية المذكورة بلفظ: "أن تُنتج الناقة ما في بطنها" ما حاصله: وبظاهر هذه الرواية قال سعيد بن المسيِّب، فيما رواه عنه مالك، وقال به مالك، والشافعيّ، وجماعة، وهو أن يبيع بثمن إلى أن يولد ولدُ الناقة، وقال بعضهم: أن يبيع بثمن إلى أن تَحمل الدابة، وتلد، وَيَحمل ولدها، وبه جزم أبو إسحاق في "التنبيه"، فلم يشترط وضع حمل الولد، كرواية مالك، قال: ولم أر مَن صرح بما اقتضته رواية جويرية، وهو الوضع فقط، وهو في الحكم مثل الذي قبله، والمنع في الصور الثلاث للجهالة في الأجل، ومن حقه على هذا التفسير أن يذكر في السَّلَم.

وقال أبو عبيدة، وأبو عبيد، وأحمد، وإسحاق، وابن حبيب المالكيّ، وأكثر أهل اللغة، وبه جزم الترمذيّ: هو بيع ولد نتاج الدابة، والمنع في هذا من جهة أنه بيع معدوم، ومجهول، وغير مقدور على تسليمه، فيدخل في بيوع الغرر، ولذلك صدّر البخاريّ بذكر الغرر في الترجمة، لكنه أشار إلى التفسير الأول بإيراد الحديث في "كتاب السَّلَم" أيضًا، ورجَّح الأول؛ لكونه موافقًا للحديث، وإن كان كلام أهل اللغة موافقًا للثاني، لكن قد روى الإمام أحمد من طريق ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر ما يوافق الثاني، ولفظه:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر"، قال: إن أهل الجاهلية كانوا يتبايعون ذلك

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 157 - 158.

ص: 629

البيع، يبتاع الرجل بالشارف حَبَل الْحَبَلة، فنهوا عن ذلك. وقال ابن التين: محصَّل الخلاف: هل المراد البيع إلى أجل، أو بيع الجنين؟ وعلى الأول: هل المراد بالأجل ولادة الأم، أو ولادة ولدها؟ وعلى الثاني: هل المراد بيع الجنين الأول، أو بيع جنين الجنين؟ فصارت أربعة أقوال. انتهى.

وحكى صاحب "المحكم" قولًا آخر: إنه بيع ما في بطون الأنعام، وهو أيضًا من بيوع الغرر، لكن هذا إنما فَسَّر به سعيد بن المسيِّب كما رواه مالك في "الموطإ" بيعَ المضامين، وفسَّر به غيره بيع الملاقيح. واتفقت هذه الأقوال على اختلافها على أن المراد بالحبلة جمع حابل، أو حابلة من الحيوان، إلا ما حكاه صاحب "المحكم" وغيره عن ابن كيسان أن المراد بالحبلة: الكرمة، وأن النهي عن بيع حبلها؛ أي: حملها قبل أن تبلغ، كما نَهَى عن بيع ثمر النخلة قبل أن تُزْهِي، وعلى هذا فالحبلة بإسكان الموحدة، وهو خلاف ما ثبتت به الروايات، لكن حُكي في الكرمة فتح الباء، وادَّعَى السهيليّ تفرد ابن كيسان به، وليس كذلك، فقد حكاه ابن السِّكِّيت في كتاب الألفاظ، ونقله القرطبيّ في "المفهم" عن أبي العباس المبرد، والهاء على هذا للمبالغة وجهًا واحدًا. انتهى

(1)

.

والحافظ وليّ الدين رحمه الله: فَسَّر في الحديث البيع المنهيّ عنه بأن يبيع شيئًا إلى أن تُنْتَج الناقة، ثم تُنتَج التي في بطنها، هكذا في رواية مالك، وفي رواية عبيد الله بن عمر عند الشيخين:"كان الجاهلية يتبايعون لحم الجزور إلى حبل الحبلة، وحبل الحبلة أن تُنتَج الناقة، ثم تَحْمِل التي نُتجت"، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فاعتبر في هذه الرواية حَمْل الثانية دون نتاجها، وهو الذي ذكره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في "التنبيه"، فقال: وهو أن يبيع بثمن إلى أن تَحمِل هذه الناقة، وتَلِد، ويَحمل ولدها.

قال ابن عبد البرّ: قد جاء تفسير هذا الحديث كما ترى في سياقته، وان لم يكن تفسيره مرفوعًا، فهذا من قول ابن عمر، وحسبك به. انتهى.

وبهذا التفسير أخذ مالك، والشافعيّ، وهو محكيّ عن سعيد بن

(1)

"الفتح" 5/ 611 - 612 "كتاب البيوع" رقم (2143).

ص: 630

المسيِّب، فهذا أحد الأقوال في تفسيره، وهو أصحها؛ لموافقة الحديث.

[والقول الثاني]: أنه بيع نتاج النتاج، وهو الذي فسره به أبو عبيدة معمر بن المثنى، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وابن عُلَيّة، وأحمد بن حنبل، وإسحاق ابن راهويه، وابن حبيب من المالكية، والترمذيّ في "جامعه"، وأبو بكر بن الأنباريّ، والجوهري في "الصحاح"، وقال النوويّ في "شرح مسلم": وهذا أقرب إلى اللغة، لكن الراوي هو ابن عمر رضي الله عنهما وقد فسره بالتفسير الأول، وهو أعرف، ومذهب الشافعيّ ومحققي الأصوليين أن تفسير الراوي مقدَّم إذا لم يخالف الظاهر. انتهى.

[والقول الثالث]: أنه بيع ما في بطون الأنعام، صَدَّر به صاحب "المحكم" كلامه، فقال: هو أن يباع ما في بطن الناقة، قال الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ": وهذا ضعيف، إنما هذا بيع المضامين، كما فسره به سعيد بن المسيِّب، وفرّق بينه وبين حبل الحبلة، كما رواه مالك في "الموطإ" عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب؛ أنه قال: لا ربا في الحيوان، وإنما نُهِي من الحيوان عن ثلاث: عن المضامين، والملاقيح، وحبل الحبلة، فالمضامين ما في بطون إناث الإبل، والملاقيح ما في ظهور الجمال، وحبل الحبلة بيع كان أهل الجاهلية يتبايعونه، كان الرجل منهم يبتاع الجزور إلى أن تُنْتَج الناقة، ثم يُنْتَج الذي في بطنها.

قال وليّ الدين: المشهور في الملاقيح والمضامين عكس ما فسَّره به سعيد بن المسيِّب، فالملاقيح ما في البطون، والمضامين ما في الظهور.

[والقول الرابع]: أن الحبلة هنا شجرة العنب، وأن المراد به بيع العنب قبل أن يبدو صلاحه، حكاه صاحب "المحكم" أيضًا، فقال: وقيل: معنى حبل الحبلة: حمل الكرمة قبل أن تبلغ، وجعل حملها قبل أن تبلغ حبلًا، وهذا كما نُهِي عن بيع تمر النخل قبل أن يُزْهِي. انتهى.

وهذان القولان الأخيران غريبان.

قال: والبيع المذكور بالتفاسير الثلاثة الأولى متَّفقٌ على بطلانه، أما الأول فلأنه بيع بثمن إلى أجل مجهول، والأجل يأخذ قسطًا من الثمن، وأما الثاني فلأنه بيع معدوم، ومجهول، وغير مملوك للبائع، وغير مقدور على

ص: 631

تسليمه، وأما الثالث فلبعض هذه المعاني، وأما الرابع فإن فيه تفصيلًا سيأتي بيانه في حديث النهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ.

قال الجامع عفا الله عنه: قد أسلفت أن أرجح التفاسير ما ذُكر في الحديث، وهو بيع الشيء بثمن مؤجّل إلى هذا الأجل، وهو تفسير ابن عمر رضي الله عنهما الراوي للحديث، وهو أعلم بتفسير ما روى، وقد تقدّم أنه ارتضاه مالك، والشافعيّ - رحمهما الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(4) - (بَابُ تَحْرِيمِ بَيْعِ الرَّجُلِ عَلَى بَيْعِ أَخِيه، وَسَوْمِهِ عَلَى سَوْمِه، وَتَحْرِيمِ النَّجْش، وَتَحْرِيمِ التَّصْرِيَةِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3806]

(

) - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا يَبعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

تقدّموا في الباب الماضي، ومالك تقدّم قبل بابين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (243) من رباعيّات الكتاب.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ") وفي رواية يحيى التالية: "لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خِطبة أخيه، إلا أن يأذن له"، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"لا يَسُمِ المسلم على سَوْم أخيه".

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 6/ 59 - 60.

ص: 632

أما البيع على بيع أخيه فمثاله أن يقول لمن اشترى شيئًا في مدة الخيار: افسَخْ هذا البيع، وأنا أبيعك مثله بأرخص من ثمنه، أو أجود منه بثمنه، ونحو ذلك، وهذا حرام، ويحرم أيضًا الشراء على شراء أخيه، وهو أن يقول للبائع في مدة الخيار: افسَخْ هذا البيع، وأنا أشتريه منك بأكثر من هذا الثمن، ونحو هذا، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الأولى - إن شاء الله تعالى -، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تخريجه في "كتاب النكاح" برقم [6/ 3455](1412)، وأذكر هنا المسائل المتعلّقة بالبيع فقط، فأقول:

(المسألة الأولى): في أقوال أهل العلم في معنى بيع الرجل على بيع أخيه، وحكمه:

قال النوويّ رحمه الله، ما حاصله: معنى "بيع الرجل على بيع أخيه": هو أن يقول لمن اشترى شيئًا في مدة الخيار: افسَخْ هذا البيع، وأنا أبيعك مثله، بأرخصَ من ثمنه، أو أجود منه بثمنه، ونحو ذلك، وهذا حرام، ويحرم أيضًا الشراء على شراء أخيه، وهو أن يقول للبائع، في مدة الخيار: افسخ هذا البيع، وأنا أشتريه منك، بأكثر من هذا الثمن، ونحو هذا.

قال: وأجمع العلماء على منع البيع على بيع أخيه، والشراء على شرائه، والسوم على سومه، فلو خالف، وعَقَد فهو عاص، وينعقد البيع، هذا مذهب الشافعيّ، وأبي حنيفة وآخرين. وقال داود: لا ينعقد، وعن مالك روايتان، كالمذهبين، وجمهورهم على إباحة البيع والشراء، فيمن يزيد، وقال الشافعيّ: كرهه بعض السلف. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال ابن قُدامة رحمه الله: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يبع بعضكم على بيع بعض": أن الرجلين إذا تبايعا، فجاء آخر إلى المشتري في مدة الخيار، فقال: أنا أبيعك مثل هذه السلعة، دون هذا الثمن، أو أبيعك خيرًا منها بثمنها، أو دونه، أو عرض عليه سلعة، رغب فيها المشتري، ففسخ البيع، واشترى هذه، فهذا غير جائز؛ لنهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عنه، ولِمَا فيه من الإضرار بالمسلم، والإفساد عليه،

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 158 - 159.

ص: 633

وكذلك إن اشترى على شراء أخيه، وهو أن يجيء إلى البائع، قبل لزوم العقد، فيدفع في المبيع أكثر من الثمن، الذي اشتُري به، فهو محرّم أيضا؛ لأنه في معنى المنهيّ عنه، ولأن الشراء يسمى بيعًا، فيدخل في النهي، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم، نهى أن يخطب على خطبة أخيه، وهو في معنى الخاطب.

فإن خالف، وعقد فالبيع باطل؛ لأنه منهيّ عنه، والنهي يقتضي الفساد.

قال: ويَحْتَمِل أنه صحيح؛ لأن المحرَّم هو عرض سلعته على المشتري، أو قوله الذي فَسَخَ البيع من أجله، وذلك سابق على البيع، ولأنه إذا صح الفسخ الذي حصل به الضرر، فالبيع المحصِّل للمصلحة أولى، ولأن النهي لحق آدميّ، فأشبه بيع النجش، وهذا مذهب الشافعيّ. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن الأرجح هو القول ببطلان البيع؛ لأن النهي يقتضي الفساد، إلا إذا صرفه صارف إلى غيره؛ كبيع المصرّاة، وتلقّي الجلب، على ما سيأتي بيانه، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): قال القاضي ابن كجّ من الشافعيّة: تحريم البيع على بيع أخيه أن لا يكون المشتري مغبونًا غبنًا مُفْرطأ، فإن كان فله أن يُعرّفه، ويبيع على بيعه؛ لأنه ضرب من النصيحة، قال النوويّ: هذا الشرط انفرد به ابن كجّ، وهو خلاف ظاهر إطلاق الحديث، والمختار أنه ليس بشرط، والله أعلم. قال وليّ الدين رحمه الله: ووافقه ابن حزم، فقال: وأما من رأى المساوم، أو البائع لا يريد الرجوع إلى القيمة، لكن يريد غبن صاحبه بغير علمه، فهذا فرض عليه نصيحة المسلم، فقد خرج عن هذا النهي بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الدِّين النصيحة". انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله ابن كج، ووافقه عليه ابن حزم هو الذي لا يتّجه عندي غيره؛ لوضوح حجّته، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"المغني" 6/ 305 - 306.

ص: 634

(المسألة الثالثة): محلّ التحريم ما لم يأذن البائع في البيع على بيعه، فإن أذن في ذلك ارتفع التحريم على الصحيح، وقد ورد التصريح في الرواية التالية عند مسلم من طريق يحيى القطّان، عن عبيد الله، عن نافع:"لا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، إلا أن يأذن له".

قال في "الفتح": قوله: "إلا أن يأذن له" يَحْتَمِل أن يكون استثناء من الحكمين، كما هو قاعدة الشافعيّ، وَيحْتَمِل أن يختصّ بالأخير، ويؤيّد الثاني رواية البخاريّ في "النكاح" من طريق ابن جريج، عن نافع، بلفظ:"نهى أن يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه، حتى يترك الخاطب قبله، أو يأذن له الخاطب"، ومن ثم نشأ خلافٌ للشافعيّة: هل يختصّ ذلك بالنكاح، أو يلتحق به البيع في ذلك؟ والصحيح عدم الفرق. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عدم الفرق هو الذي يظهر لي؛ لأن النهي كان لحقّه، فإذا أذن فقد زال المانع، ويؤيّد ذلك ما رواه النسائيّ بلفظ:"لا يبيع الرجل على بيع أخيه، حتى يبتاع، أو يَذَرَ"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): ظاهر قوله: "على بيع أخيه" اختصاص ذلك بالمسلم، وبه قال الأوزاعيّ، وأبو عبيد ابن حربويه، من الشافعيّة، وأصرح من ذلك ما يأتي للمصنّف من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:"لا يسوم المسلم على سوم المسلم"، وقال الجمهور: لا فرق في ذلك بين المسلم والذميّ، وذِكْر الأخ خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له، أفاده في "الفتح"

(2)

.

وقال وليّ الدين رحمه الله: - بعدما ذكر خلاف أبي عبيد المذكور -: والصحيح خلافه؛ لأن هذا خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له، وقال ابن عبد البرّ: أجمع الفقهاء على أنه لا يجوز دخول المسلم على الذميّ في سومه، إلا الأوزاعي وحده، فإنه قال: لا بأس به. انتهى

(3)

.

(1)

"الفتح" 5/ 87.

(2)

"الفتح" 5/ 88.

(3)

راجع: "طرح التثريب" 6/ 71.

ص: 635

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله الجمهور هو الأحوط، فتأمل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3807]

(

) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى - وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ - قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ الله، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَبعِ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيه، وَلَا يَخْطبْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيه، إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلهم تقدّموا في السند الماضي، وقبله، وكذا تقدّم شرح الحديث، وبيان مسائله في الحديث الماضي، وفي "كتاب النكاح" أيضًا، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف: رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3808]

(1515) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثنا إِسْمَاعِيلُ - وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ - عَنِ الْعَلَاء، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَسُمِ الْمُسْلِمُ عَلَى سَوْمِ الْمُسْلِمِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلهم تقدّموا، و"يحيى بن أيوب" هو: المقابريّ البغداديّ، و"ابن حُجْر" هو: عليّ بن حُجر المروزيّ، و"العلاء" هو: ابن عبد الرحمن بن يعقوب الْحُرقيّ المدنيّ.

وقوله: (لَا يَسُمِ الْمُسْلِمُ عَلَى سَوْمِ الْمُسْلِمِ) هكذا في نسخة "شرح الأبّي"، ووقع في بعض النسخ:"على سوم أخيه".

فقوله: "يَسُم" بفتح حرف المضارعة، وضمّ السين المهملة، قال الفيّوميّ رحمه الله: سام البائعُ السلعةَ سَوْمًا من باب قال: عرضها للبيع، وسامها المشتري، واستامها: طلب بيعها، ومنه:"لا يسوم أحدكم على سوم أخيه"؛

ص: 636

أي: لا يشتر، ويجوز حمله على البائع أيضًا، وصورته أن يَعْرِضَ رجلٌ على المشتري سلعته بثمن، فيقول آخر: عندي مثلها بأقلّ من هذا الثمن، فيكون النهي عامًّا في البائع والمشتري، وقد تزاد الباء في المفعول، فيقال: سمتُ به، والتساوُم بين اثنين أن يَعْرِض البائع السلعة بثمن، ويطلبها صاحبه بثمن دون الأول، وساومته سِوَامًا، وتساومنا، واستام عَلَيَّ السلعةَ؛ أي: استام على سَوْمِي. انتهى كلام الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (عَلَى سَوْمِ الْمُسْلِمِ) تقدّم أن الجمهور على أن تقييده بالمسلم خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له، فليس لمسلم أن يسوم على سوم الذميّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 3804 و 3809](1515)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 411 و 457 و 512 و 529)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 4)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4048)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 396)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 345)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في أقوال أهل العلم في معنى السَّوْم على سَوْم أخيه، وحكمه:

قال النوويّ رحمه الله، ما حاصله: معنى "سوم الرجل على سوم أخيه"، هو أن يكون، قد اتفق مالك السلعة، والراغب فيها على البيع، ولم يعقداه، فيقول الآخر للبائع: أنا أشتريه، وهذا حرام بعد استقرار الثمن، وأما السوم في السلعة التي تباع فيمن يزيد، فليس بحرام. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": قال العلماء: البيع على البيع حرام، وكذلك الشراء

(1)

"المصباح المنير" 1/ 297.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 159.

ص: 637

على الشراء، وهو أن يقول لمن اشترى سلعة، في زمن الخيار: افسَخْ لأبيعك بأنقص، أو يقول للبائع: افسخ لأشتري منك بأزيد، وهو مجمع عليه.

وأما السوم، فصورته أن يأخذ شيئًا ليشتريه، فيقول له: رُدّه لأبيعك خيرًا منه بثمنه، أو مثله بأرخص، أو يقول للمالك: استَرِدَّه لأشتريه منك بأكثر، ومحله بعد استقرار الثمن، وركون أحدهما إلى الآخر، فإن كان ذلك صريحًا، فلا خلاف في التحريم، وإن كان ظاهرًا ففيه وجهان للشافعية.

ونقل ابن حزم اشتراط الركون عن مالك، وقال: إن لفظ الحديث لا يدل عليه.

وتُعقِّب بأنه لا بد من أمر مبيِّن لموضع التحريم في السوم؛ لأن السوم في السلعة التي تباع فيمن يزيد، لا يحرم اتفاقًا، كما نقله ابن عبد البر، فتعين أن السوم المحرم ما وقع فيه قدر زائد على ذلك.

وقد استثنى بعض الشافعية، من تحريم البيع والسوم على الآخر، ما إذا لم يكن المشترى مغبونًا غبنًا فاحشًا، وبه قال ابن حزم، واحتج بحديث:"الدينُ النصيحة"، لكن لم تنحصر النصيحة في البيع والسوم، فله أن يُعَرّفه أن قيمتها كذا، وأنك إن بعتها بكذا مغبون، من غير أن يزيد فيها، فيجمع بذلك بين المصلحتين.

وذهب الجمهور إلى صحة البيع المذكور، مع تأثيم فاعله، وعند المالكية، والحنابلة في فساده روايتان، وبه جزم أهل الظاهر. والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه المالكية، والحنابلة، وأهل الظاهر من فساد البيع هو الأرجح عندي؛ لأن النهي للتحريم، وهو يقتضي الفساد، إلا لصارف؛ كبيع المصرّاة على ما يأتي، ولم يوجد هنا صارف، فتبصرّ، والله تعالى أعلم.

وقال ابن قُدامة رحمه الله، ما حاصله: سوم الرجل على سوم أخيه: لا يخلو من أربعة أقسام:

(1)

"الفتح" 5/ 88.

ص: 638

[أحدها]: أن يوجد من البائع تصريح بالرضا بالبيع، فهذا يحرِّم السوم على غير ذلك المشتري، وهو الذي تناوله النهي.

[الثاني]: أن يَظهر منه ما يدل على عدم الرضا، فلا يحرم السوم؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، باع فيمن يزيد، قال: وهذا أيضا إجماع المسلمين، يبيعون في أسواقهم بالمزايدة.

[الثالث]: أن لا يوجد منه ما يدل على الرضا، ولا على عدمه، فلا يجوز له السوم أيضًا، ولا الزيادة؛ استدلالًا بحديث فاطمة بنت قيس، حين ذكرت للنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أن معاوية، وأبا جهم خطباها، فأمرها أن تنكح أسامة، وقد نهى عن الخطبة على خطبة أخيه، كما نهى عن السوم على سوم أخيه، فما أبيح في أحدهما، أبيح في الآخر.

[الرابع]: أن يظهر منه ما يدل على الرضا، من غير تصريح، فقال القاضي: لا تحرم المساومة، وذكر أن أحمد نصّ عليه في الخِطبة، استدلالًا بحديث فاطمة، ولأن الأصل إباحة السوم، والخطبة، فَحَرُمَ منع ما وجد فيه التصريح بالرضا، وما عداه يبقى على الأصل، ولو قيل بالتحريم ههنا: لكان وجهًا حسنًا، فإن النهي عامّ، خرجت منه الصور المخصوصة بأدلتها، فتبقى هذه الصورة على مقتضى العموم، ولأنه وجد منه دليل الرضا، فأشبه ما لو صرح به، ولا يضر اختلاف الدليل بعد التساوي في الدلالة، وليس في حديث فاطمة ما يدل على الرضا؛ لأنها جاءت مستشيرة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك دليلًا على الرضا، فكيف ترضى، وقد نهاها النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"لا تفوتينا بنفسك"؟ فلم تكن تفعل شيئًا قبل مراجعة النبيّ صلى الله عليه وسلم، والحكم في الفساد كالحكم في البيع على بيع أخيه، في الموضع الذي حكمنا بالتحريم فيه. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: إن ما قاله القاضي من أنه لا تَحْرُم المساومة في هذه الصورة هو الأقرب؛ لظهور حجته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"المغني" 6/ 306 - 308.

ص: 639

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3809]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَد، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْعَلَاء، وَسُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِمَا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (ح) وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَد، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (ح) وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيٍّ - وَهُوَ ابْنُ ثَابِتٍ - عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:"أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَسْتَامَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ"، وَفِي رِوَايَةِ الدَّوْرَقِيِّ:"عَلَى سِيمَةِ أَخِيه").

رجال هذه الأسانيد: أربعة عشر:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ) النُّكريّ البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10]

(ت 246)(م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 67.

2 -

(عَبْدُ الصَّمَدِ) بن عبد الوارث الْعَنبريّ التّنُّوريّ، أبو سهل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ في شعبة [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.

3 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) العنبريّ البصريّ، ثقة حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

4 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ العنبريّ البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

5 -

(عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ) الأنصاريّ الكوفيّ، ثقةٌ، رُمي بالتشيّع [4](ت 116)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 244.

6 -

(أَبُو حَازِمٍ) سلمان الأشجعيّ الكوفيّ، ثقةٌ [3](ت 100)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.

والباقون تقدّموا قريبًا.

وقوله: (عَنْ أَبِيهِمَا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ: "عن أبيهما"، وهو مشكل؛ لأن العلاء هو ابن عبد الرحمن، وسهيلًا هو ابن أبي صالح، وليس بأخ له، فلا يقال:"عن أبيهما" بكسر الباء، بل كان حقه أن يقول:"عن أبويهما"، وينبغي أن يعتبر الموجود في النسخ "عن أبَيهما" بفتح

ص: 640

الباء الموحدة، ويكون تثنية "أَبٍ" على لغة من قال: هذان أبان، ورأيت أبيَنْ، فثنّاه بالألف والنون، وبالياء والنون، وقد سبق مثله في "كتاب النكاح"، وأوضحناه هناك.

قال القاضي: الرواية فيه عند جميع شيوخنا بكسر الباء، قال: وليس هو بصواب؛ لأنهما ليسا أخوين، قال: ووقع في بعض الروايات: "عن أبويهما"، وهو الصواب، قال: وقال بعضهم في الأول: لعله عن أبيهما، بفتح الباء. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الحاصل أنه يتعيّن أن يُقرأ "عن أَبَيهما" بفتح الباء على أنه تثنية "أب" على لغة النقص، ولا يُقرأ بكسرها؛ لأن المعنى عليه أن العلاء، وسهيلًا أخوان، وهذا غلط فاحشٌ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (نَهَى أَنْ يَسْتَامَ الرَّجُلُ

إلخ)؛ أي: يشتري، ووزنه استفعل؛ أي: استدعى من البائع أن يُخبره بسوم السلعة؛ أي: بثمنها.

وقوله: (عَلَى سِيمَةِ أَخِيه) بكسر السين، وإسكان الياء، لغة في السَّوْم، ذكره الجوهريّ وغيره من أهل اللغة، قال الجوهريّ: يقال: سُمْتُك بعيرك سِيمةً حسنةً، وإنه لغالي السِّيمة. انتهى

(2)

.

قال الجامع: الظاهر أن السِّمة بالكسر للهيئة، كما تفيده عبارة "الصحاح" المذكورة، وقال القرطبيّ: يقال: سامه بسلعة كذا يسومه سَوْمًا، والمرّة منه سَوْمة، وقد يُكسر ما قبل الواو، فتنقلب ياء، فيقال: سِيمة، كما جاء هنا. انتهى

(3)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3810]

(

) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَاد، عَنِ الأَعْرَج، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يُتَلَقَّى الرُّكْبَانُ لِبَيْعٍ

(4)

، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا يَبعْ حَاضِرٌ

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 159 - 160.

(2)

"الصحاح" 4/ 1587.

(3)

"المفهم" 4/ 364.

(4)

وفي نسخة: "للبيع".

ص: 641

لِبَادٍ، وَلَا تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالْغَنَمَ، فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا، فَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهم ذُكروا في الباب، وقبل باب.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يُتَلَقَّى الرُّكْبَان) ببناء الفعل للمجهول، و"الركبان" مرفوع على أنه نائب الفاعل؛ أي: لا تُستقبل القافلة الجالبة للطعام قبل أن تقدّم الأسواق، وذِكْرُ الركبان خرج مخرج الغالب في أن من يجلب الطعام يكونون عددًا رُكبانًا، ولا مفهوم له، بل لو كان الجالب عددًا مُشاةً، أو واحدًا راكبًا أو ماشيًا لم يَختلف الحكم

(1)

.

وقوله: (لِبَيْعٍ) وفي نسخة "للبيع"، يشمل البيع لهم، والبيع منهم، ويُفهم منه اشتراط قصد ذلك بالتلقّي، فلو تلقّى الركبان أحدٌ للسلام، أو الفرجة، أو خرج لحاجته، فوجدهم، فبايعهم، هل يتناوله النهي؟ فيه احتمال، فمن نظر إلى المعنى لم يفترق عنده الحكم بذلك، وهو الأصح عند الشافعية، وشرط بعض الشافعية في النهي أن يبتدئ المتلقي، فيطلبَ من الجالب البيع، فلو ابتدأ الجالب بطلب البيع، فاشترى منه المتلقي، لم يدخل في النهي، وذكر إمام الحرمين في صورة التلقي المحرم: أن يكذب في سعر البلد، ويشتري منهم بأقل من ثمن المثل، وذكر المتوليّ فيها أن يخبرهم بكثرة المؤنة عليهم في الدخول، وذكر أبو إسحاق الشيرازيّ أن يخبرهم بكساد ما معهم؛ ليغبنهم، وقد يؤخذ من هذه التقييدات إثبات الخيار لمن وقعت له، ولو لم يكن هناك تَلَقٍّ، لكن صرح الشافعية أن كون إخباره كذبًا ليس شرطًا؛ لثبوت الخيار، وإنما يثبت له الخيار إذا ظهر الغبن، فهو المعتبر وجودًا وعدمًا، قاله في "الفتح"

(2)

، وسيأتي تمام البحث في الباب التالي - إن شاء الله تعالى -.

(1)

راجع: "الفتح" 5/ 638 رقم (2162).

(2)

"الفتح" 5/ 638.

ص: 642

(وَلَا يَبعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ) تقدّم شرحه في الحديث الماضي.

(وَلَا تَنَاجَشُوا)؛ أي: لا تفعلوا النَّجْشَ، وهو بنون مفتوحة، ثم جيم ساكنة، ثم شين معجمة: أن يزيد في ثمن السلعة، لا لرغبة فيها، بل لِيَخْدَعَ غيره، وَيغُرّه ليزيد، ويشتريها، وهذا حرام بالإجماع، والبيع صحيح، والإثم مختصّ بالناجش، إن لم يعلم به البائع، فإن واطأه على ذلك أَثِمَا جميعًا، ولا خيار للمشتري، إن لم يكن من البائع مواطأةٌ، وكذا إن كانت في الأصح؛ لأنه قصّر في الاغترار، وسيأتي تمام البحث فيه بعد حديث - إن شاء الله تعالى -.

(وَلَا يَبعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ) المراد به أن يَقْدَم غريب من البادية، أو من بلد آخر بمتاع تعُمّ الحاجة إليه؛ ليبيعه بسعر يومه، فيقول له البلديّ: اتركه عندي؛ لأبيعه على التدريج بأعلى، وسيأتي تمام البحث فيه بعد باب - إن شاء الله تعالى -.

(وَلَا تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالْغَنَمَ) هو بضم التاء، وفتح الصاد، ونصب "الإبلَ"، من التصرية، وهي الجمع، يقال: صَرَّى يُصَرِّي تصريةً، وصَرّاها يُصَرِّيها تصريةً، فهي مُصَرَّاةٌ، كغَشّاها يُغَشِّيها تغشيةً، فهي مُغَشَّاةٌ، وزَكَّاها يُزَكِّيها تزكيةً، فهي مُزَكَّاةٌ.

قال القاضي عياض: ورَوَيناه في غير "صحيح مسلم" عن بعضهم: "لا تَصُرُّوا" بفتح التاء، وضم الصاد، من الصَّرِّ، قال: وعن بعضهم: "لا تُصَرُّ الإبلُ"، بضم التاء، من "تُصَرُّ"، بغير واو بعد الراء، وبرفع "الإبلُ"، على ما لم يُسَمَّ فاعله، من الصَّرِّ أيضًا، وهو ربط أخلافها، والأول هو الصواب المشهور.

ومعناه: لا تجمعوا اللبن في ضرعها، عند إرادة بيعها، حتى يَعْظُم ضرعها، فيَظُنَّ المشتري أن كثرة لبنها عادةٌ لها مستمرةٌ، ومنه قول العرب: صَرَّيتُ الماءَ في الحوض؛ أي: جمعته، وصَرَّى الماءَ في ظهره؛ أي: حبسه، فلم يتزوج.

قال الخطابيّ: اختَلَف العلماء، وأهل اللغة في تفسير المصرَّاة، وفي اشتقاقها، فقال الشافعيّ: التصرية: أن يَرْبِط أخلاف الناقة، أو الشاة، وَيتْرُك

ص: 643

حَلْبها اليومين والثلاثة، حتى يجتمع لبنها، فيزيد مشتريها في ثمنها بسبب ذلك؛ لظنه أنه عادة لها.

وقال أبو عبيد: هو من صَرَّى اللبنَ في ضرعها؛ أي: حَقَنَه فيه، وأصل التصرية: حبس الماء، قال أبو عبيد: ولو كانت من الربط لكانت مصرورة، أو مُصَرَّرةً.

قال الخطابيّ: وقول أبي عبيد حسنٌ، وقول الشافعيّ صحيحٌ، قال: والعرب تَصُرُّ ضروع المحلوبات، واستَدَلَّ لصحة قول الشافعيّ بقول العرب: لا يَحْسُن الكَرّ، إنما يَحسُن الحلب، والصَّرّ، وبقول مالك بن نُويرة [من الطويل]:

فَقُلْتُ لِقَوْمِي هَذِهِ صَدَقَاتُكُمْ

مُصَرَّرَةً أَخْلَافُهَا لَمْ تُجَرَّدِ

قال: وَيحْتَمِل أن أصل المصرَّاة: مَصْرُورة، أُبدلت إحدى الراءين ألفًا، كقوله تعالى:{وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 10]؛ أي: دَسَّسَها، كرهوا اجتماع ثلاثة أحرف من جنس

(1)

.

وقال في "الفتح" بعد ذكر الاختلافين السابقين في ضبط "تُصرّوا" ما حاصله: والأول - يعني ضبطه كزكّى يُزكي - أصح؛ لأنه من صَرَّيتُ اللبن في الضرع: إذا جمعته، وليس من صَرَرتُ الشيءَ: إذا ربطته؛ إذ لو كان منه، لقيل: مصرورة، أو مُصَرَّرَة، ولم يُقَل: مُصَرّاة، على أنه قد سُمع الأمران في كلام العرب، قال الأغلب العجليّ [من الرجز]:

رَأَتْ غُلَامًا قَدْ صَرَى فِي فِقْرَتِهْ

مَاءَ الشَّبَابِ عُنْفُوَانَ شِرَّتِهْ

وقال مالك بن نويرة [من الطويل]:

فَقُلْتُ لِقَوْمِي هَذِهِ صَدَقَاتُكُمْ

مُصَرَّرَةً أَخْلَافُهَا لمْ تُجرَّدِ

وضبطه بعضهم بضم أوله، وفتح ثانيه، لكن بغير واو، على البناء للمجهول، والمشهور الأول. انتهى

(2)

.

[واعلم]: أن التصرية حرامٌ، سواءٌ تصرية الناقة، والبقرة، والشاة، والجارية، والفرس، والأتان، وغيرها؛ لأنه غَشّ، وخِدَاعٌ، وبيعها صحيحٌ،

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 161 - 162.

(2)

راجع: "الفتح" 5/ 617 - 618.

ص: 644

مع أنه حرام، وللمشتري الخيار في إمساكها، وردّها، وسنوضحه بعد بابين - إن شاء الله تعالى - وفيه دليل على تحريم التدليس في كل شيء، وأن البيع من ذلك ينعقد، وأدق التدليس بالفعل حرام؛ كالتدليس بالقول، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (الْإِبِلَ، وَالْغَنَمَ) لم يذكر البقر؛ لغلبتهما عندهم، وإلا فحكمها كحكمهما سواء، خلافًا لداود الظاهريّ، قاله في "الفتح".

وقال وليّ الدين: الظاهر أن ذكر الغنم والإبل، دون غيرهما خرج مخرج الغالب فيما كانت العرب تصرّيه، وتبيعه، تدليسًا، وغشًّا، فإن البقر قليل ببلادهم، وغير الأنعام لا يُقصد لبنها غالبًا، فلم يكونوا يُصَرُّون غير الإبل والغنم، وما خرج مخرج الغالب لا مفهوم له، كيف وهو مفهوم لقب، وليس حجةً عند الجمهور.

وروى الترمذيّ، من رواية محمد بن زياد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"من اشترى مُصَرّاةً"، وهو يتناول كلّ مصرّاة، لكن في "صحيح مسلم"، وغيره من رواية محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"من اشترى شاةً مصرّاةً"، فصرّح بذكر الموصوف، وقد صرّح الشافعيّة بأن تحريم التصرية عامّ في كلّ مصرّاة، سواء في ذلك الأنعام، وغيرها، مما هو مأكول اللحم، وغير مأكول اللحم مما يحلّ بيعه، وأما ثبوت الخيار، وردّ الصاع، فسيأتي ذكره بعد بابين - إن شاء الله تعالى - انتهى

(2)

.

(فَمَنِ ابْتَاعَهَا)؛ أي: اشترى المصرّاة (بَعْدَ ذَلِكَ)؛ أي: بعد التصرية، وفي الرواية الآتية بعد بابين: "من ابتاع شاةً مصرّاة، فهو بالخيار ثلاثة أيام

"، والصحيح أن ابتداء هذه المدة، من وقت بيان التصرية، وهو قول الحنابلة، وعند الشافعية: أنها من حين العقد، وقيل: من التفرّق، ويلزم عليه أن يكون لغرر أوسع من الثلاث، في بعض الصور، وهو ما إذا تأخر ظهور التصرية، إلى آخر الثلاث، ويلزم عليه أيضًا أن تُحسَب المدة قبل التمكن من الفسخ، وذلك يُفَوِّت مقصود التوسع بالمدة.

(1)

راجع: "شرح النوويّ" 10/ 16 - 162.

(2)

"طرح التثريب" 6/ 77 - 78.

ص: 645

(فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ) أي: أحسن الرأيين، وقوله:(بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا) بضمّ اللام، وكسرها، من بابي نصر، وضرب

(1)

، وظاهره؛ أن الخيار لا يثبت، إلا بعد الحلب، والجمهور على أنه إذا علم بالتصرية، ثبت له الخيار، ولو لم يَحلُب، لكن لما كانت التصرية، لا تُعرف غالبًا إلا بعد الحلب، ذُكِر قيدًا في ثبوت الخيار، فلو ظهرت التصرية بغير الحلب، فالخيار ثابت.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال في "الفتح"، ولكن الذي يظهر لي أن الخيار إنما يثبت بعد الحلب؛ لظاهر النصّ، والله تعالى أعلم.

ثم بيّن النظرين بقوله: (فَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا)؛ أي: أبقاها على ملكه، وهو يقتضي صحة بيع المصرّاة، وإثبات الخيار للمشتري، فلو اطلع على عيب، بعد رضاه بالتصرية، فردّها، هل يلزم الصاع؟ فيه خلاف، والأصح عند الشافعية وجوب الرد، ونقلوا نص الشافعيّ على أنه لا يردّ، وعند المالكية قولان.

(وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا) ظاهره اشتراط الفور، وقياسًا على سائر العيوب، لكن الرواية التي فيها: أن له الخيار ثلاثة أيام، مقدمة على هذا الإطلاق، ونقل أبو حامد، والروياني، فيه نص الشافعيّ، وهو قول الأكثر، وأجاب من صحح الأول، بأن هذه الرواية، محمولة على ما إذا لم يَعلَم أنها مصرّاة، إلا في الثلاث؛ لكون الغالب أنها لا تُعلَم فيما دون ذلك، قال ابن دقيق العيد: والثاني أرجح؛ لأن حكم التصرية، قد خالف القياس في أصل الحكم؛ لأجل النص، فيطّرد ذلك، وبتبع في جميع موارده.

قال الحافظ: ويؤيده أن في بعض روايات أحمد، والطحاويّ، من طريق ابن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"فهو بأحد النظرين، بالخيار إلى أن يحوزها، أو يردها"، وسيأتي. انتهى.

(وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ) بنصب "صاعًا" عطفًا على الضمير في "ردّها"، قال في "الفتح": ويجوز أن تكون الواو بمعنى "مع"، ويستفاد منه فورية الصاع مع الردّ، ويجوز أن يكون مفعولًا معه، ويَعكُر عليه قول جمهور النحاة: إن شرط المفعول معه أن يكون فاعلًا. انتهى

(2)

.

(1)

راجع: "القاموس" 1/ 57.

(2)

"الفتح" 5/ 619.

ص: 646

[فإن قيل]: التعبير بالرد في المصراة واضح، فما معنى التعبير بالرد في الصاع؟

[فالجواب]: أنه مثل قول الشاعر:

عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدَا

أي: علفتها تبنًا، وسقيتها ماء باردًا، أو يُجعَل "علفتها" مجازًا عن فعل شامل للأمرين؛ أي: ناولتها، فيُحمل الرد في الحديث على نحو هذا التأويل.

واستُدِلّ به على وجوب ردّ الصاع مع الشاة، إذا اختار فسخ البيع، فلو كان اللبن باقيًا، ولم يتغير، فأراد ردّه، هل يلزم البائع قبوله؟ فيه وجهان: أصحهما لا؛ لذهاب طراوته، ولاختلاطه بما تجدد عند المبتاع، والتنصيص على التمر، يقتضي تعيينه كما سيأتي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 3810 و 3811 و 3812](1515)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2148 و 2150 و 2151)، و (أبو داود) في "البيوع"(3443 و 3444 و 3445 و 3446)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1252 و 1304)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 253 و 254 و 256) و"الكبرى"(4/ 11)، و (ابن ماجه) في "التجارات"(2172 و 2174 و 2175)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 683)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 142)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(14858 و 14861 و 14862)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 292 و 259 و 273 و 386 و 410 و 420 و 430 و 463 و 469 و 481)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 251)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4970)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 262)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(4/ 17 و 18 و 19)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(7/ 249)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 144 و 208 و 230)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(3/ 74)، و (البيهقيّ) في "الكبرى" (5/ 318 و 319

ص: 647

و 320) و"الصغرى"(5/ 118) و"المعرفة"(6/ 175)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2092)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان النهي عن تلقّي الركبان، وسيأتي تمام البحث فيه في الباب التالي - إن شاء الله تعالى -.

2 -

(ومنها): بيان تحريم البيع على بيع أخيه، وقد تقدّم تمام البحث فيه في شرح حديث ابن عمر رضي الله عنهما الماضي.

3 -

(ومنها): تحريم التناجش، وسيأتي تمام البحث فيه بعد حديثين - إن شاء الله تعالى -.

4 -

(ومنها): بيان النهي عن بيع الحاضر للبادي، وسيأتي تمام البحث فيه بعد باب - إن شاء الله تعالى -.

5 -

(ومنها): بيان تحريم تصرية الإبل والغنم، وأن من اشترى المصرّاة بالخيار بعد حلبها، فإن شاء أمسكها، وإن شاء ردّها مع صاع تمر، وسيأتي تمام البحث فيه بعد بابين - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3811]

(

) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيٍّ - وَهُوَ ابْنُ ثَابِتٍ - عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ التَّلَقِّي لِلرُّكْبَان، وَأَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَأَنْ تَسْأَلَ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا، وَعَنِ النَّجْش، وَالتَّصْرِيَة، وَأَنْ يَسْتَامَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلهم تقدّموا قبل حديث، وكذا شرح الحديث، وما يتعلّق به.

وقوله: (وَأَنْ تَسْأَلَ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا) قيل: هو نهي للمخطوبة عن أن تسأل الخاطب طلاق زوجته، وللمرأة أيضًا أن تسأل طلاق ضرّتها، والمراد من الأخت: الأخت في الدين، وفي التعبير باسم الأخت تشنيع لفعلها، وتأكيد لنهيها عن ذلك، وتحريض لها على تركه، وكذا التعبير باسم الأخ في الذي

ص: 648

قبله، وقد تقدّم تمام البحث في هذا في "كتاب النكاح"[6/ 3459](1413)، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3812]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ (ح) وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَد، حَدَّثَنَا أَبِي، قَالُوا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ بِهَذَا الإِسْنَاد، فِي حَدِيثِ غُنْدَرٍ، وَوَهْبٍ:"نُهِيَ"، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الصَّمَدِ:"أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى" بِمِثْلِ حَدِيثِ مُعَاذٍ، عَنْ شُعْبَةَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ) هو: محمد بن أحمد بن نافع العبديّ، أبو بكر البصريّ، صدوق، من صًغار [10] مات بعد (240)(م ت س) تقدم في "الإيمان" 12/ 158.

2 -

(غُنْدَرٌ) محمد بن جعفر، تقدّم قريبًا.

3 -

(وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ) بن حازم، أبو عبد الأزديّ البصريّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 315.

4 -

(عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ) بن عبد الوارث، أبو عبيدة البصريّ، صدوقٌ [11](ت 252)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 49/ 311.

والباقون ذُكروا قبل حديثين.

وقوله: (قَالُوا جَمِيعًا)؛ أي: الثلاثة: غندر، ووهب بن جرير، وعبد الصمد بن عبد الوارث.

[تنبيه]: لم أجد من ساق روايات هؤلاء الثلاثة بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وقوله: (فِي حَدِيثِ غُنْدَرٍ، وَوَهْبٍ: "نُهِيَ

إلخ) أشار به إلى غندرًا ووهب بن جرير رويا عن شعبة بلفظ "نُهي" بالبناء للمفعول، فأبهما الفاعل، وأما عبد الصمد، فرواه بلفط "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى" مبنيًّا للفاعل، فأسند النهي إليه صلى الله عليه وسلم صريحًا؛ كرواية معاذ السابقة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 649

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3813]

(1516) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ النَّجْشِ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وقد تقدّم السند نفسه أول الباب، وهو من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (244) من رباعيّات الكتاب.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ النَّجْشِ) قال النوويّ رحمه الله: - بنون مفتوحة، ثم جيم ساكنة، ثم شين معجمة -: هو أن يزيد في ثمن السلعة، لا لرغبة فيها، بل ليخدَع غيره، وَيغُرَّه ليزيد، ويشتريها.

وأصل النجش: الاستثارة، ومنه نَجَشت الصيد أَنجُشُه بضم الجيم، نَجْشًا: إذا استثرته، سُمِّي الناجش في السلعة ناجشًا؛ لأنه يُثير الرغبة فيها، ويرفع ثمنها. وقال ابن قتيبة: أصل النجش: الْخَتْلُ، وهو الخداع، ومنه قيل للصائد: ناجش؛ لأنه يَختِل الصيد، ويختال له، وكلُّ من استثار شيئًا، فهو ناجش. وقال الهروي: قال أبو بكر: النجش المدح، والإطراء، وعلى هذا معنى الحديث: لا يمدح أحدكم السلعة، ويزيد في ثمنها بلا رغبة، والصحيح الأول. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح" بعد ذكر ما تقدّم، ما نصّه: ويقع ذلك بمواطأة البائع، فيشتركان في الإثم، ويقع ذلك بغير علم البائع، فيختص بذلك الناجش، وقد يختص به البائع، كمن يخبِر بأنه اشترى سلعة بأكثر، مما اشتراها به؛ ليغر غيره بذلك. انتهى

(2)

.

وقال وليّ الدين رحمه الله: فسّره أصحابنا الشافعيّة بأن يزيد في ثمن السلعة، لا لرغبة فيها، بل ليخدع غيره، ويغرّه؛ ليزيد، ويشتريها، وكذا فسّره به الحنفيّة، والمالكيّة، والحنابلة، كما رأيته في "الهداية"، وكتاب ابن الحاجب،

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 159.

(2)

"الفتح" 5/ 607.

ص: 650

و"المحرّر" لابن تيميّة، وعبارة "الهداية": هو أن يزيد في الثمن، ولا يريد الشراء، ليرغّب غيره، وعبارة ابن الحاجب: هو أن يزيد ليغُرّ، وعبارة صاحب "المحرّر": إن النجش مزايدة من لا يريد الشراء، تغريرًا له، وقيّد الترمذيّ ذلك في "جامعه" بأن تكون الزيادة بأكثر مما يسوى، وكذا قيّده ابن عبد البرّ، وابن العربيّ بأن تكون الزيادة فوق ثمنها، وقال ابن العربيّ: إنه لو زاد فيها حتى ينتهي إلى قيمتها، فهو مأجور بذلك، وكذا ذكر هذا التقييد ابن الرفعة من متأخري الشافعيّة. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 3813](1516)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2142) و"الحيل"(6963)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 258) و"الكبرى"(4/ 13)، و (ابن ماجه) في "التجارات"(2173)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 684)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 145)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 63 و 108 و 156)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4968)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 171)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 272)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 343) و"الصغرى"(5/ 177) و"المعرفة"(4/ 382)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2097)، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال وليّ الدين رحمه الله: هذا الحديث اتّفق عليه الشيخان، والنسائيّ، وابن ماجه من طريق مالك، ورواه النسائيّ أيضًا من رواية كثير بن فَرْقد، كلاهما عن نافع، وقال ابن عبد البرّ: هكذا رواه جماعة أصحاب مالك، وزاد فيه القعنبيّ: قال: وأحسبه قال: "وأن تُتلقّى السِّلَعُ حتى يُهبط بها الأسواق"، ولم يذكر غيره هذه الزيادة، ورواه يعقوب بن إسماعيل بن محمد،

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 6/ 61.

ص: 651

قاضي المدائن، قال: أنا يحيى بن موسى، أنا عبد الله بن نافع، حدثني مالك، عن نافع، عن ابن عمر:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن التحبير، قال: والتحبير أن يمدح الرجل سلعته بما ليس فيها"، قال ابن عبد البرّ: هكذا قال: التحبير، وفسّره، ولم يتابع على هذا اللفظ، وإنما المعروف:"النجش". انتهى

(1)

.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم النَّجْش:

قال النوويّ رحمه الله: النجش حرام بالإجماع، والبيع صحيح، والإثم مختص بالناجش، إن لم يعلم به البائع، فإن واطأه على ذلك، أثما جميعًا، ولا خيار للمشتري، إن لم يكن من البائع مواطأة، وكذا إن كانت في الأصح؛ لأنه قصّر في الاغترار، وعن مالك رواية: أن البيع باطل، وجعل النهي عنه مقتضيًا للفساد. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله الإمام مالك: من بطلان البيع هو الأرجح عندي؛ لظهور حجته، فتأمله، والله تعالى أعلم.

وقال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب النَّجْش، ومن قال: لا يجوز ذلك البيع، وقال ابن أبي أوفى رضي الله عنه: "الناجش آكل ربًا، خائنٌ"، وهو خِداع باطلٌ، لا يحلّ، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "الخديعة في النار"، و"من عمل عملًا ليس عليه أمرنا، فهو ردّ"، ثم أورد حديث ابن عمر رضي الله عنهما المذكور هنا.

قال في "الفتح": قوله: "ومن قال: لا يجوز ذلك البيع": كأنه يشير إلى ما أخرجه عبد الرزاق، من طريق عمر بن عبد العزيز، أن عاملًا له، باع سبيًا، فقال له: لولا أني كنت أزيد، فأنفقه لكان كاسدًا، فقال له عمر: هذا نجش، لا يحل، فبعث مناديًا ينادي أن البيع مردود، وأن البيع لا يحل.

قال ابن بطال: أجمع العلماء على أن الناجش عاص بفعله، واختلفوا في البيع، إذا وقع على ذلك، ونقل ابن المنذر، عن طائفة من أهل الحديث، فساد ذلك البيع، وهو قول أهل الظاهر، ورواية عن مالك، وهو المشهور عند الحنابلة، إذا كان ذلك بمواطأة البائع، أو صنعه، والمشهور عند المالكية في

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 6/ 61.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 159.

ص: 652

مثل ذلك، ثبوت الخيار، وهو وجه للشافعية، قياسًا على المصرّاة، والأصح عندهم صحة البيع، مع الإثم، وهو قول الحنفية.

وقال الرافعي: أطلق الشافعيّ في المختصر تعصية الناجش، وشَرَط في تعصية من باع على بيع أخيه، أن يكون عالمًا بالنهي، وأجاب الشارحون، بأن النجش خديعة، وتحريم الخديعة واضح لكل أحد، وإن لم يعلم هذا الحديث بخصوصه، بخلاف البيع على بيع أخيه، فقد لا يشترك فيه كل أحد.

واستَشْكَل الرافعي الفرق بأن البيع على بيع أخيه إضرار، والإضرار يشترك في عِلم تحريمه كل أحد، قال: فالوجه تخصيص المعصية في الموضعين بمن علم التحريم. انتهى.

وقد حكى البيهقيّ في "المعرفة"، و"السنن" عن الشافعي تخصيص المعصية في النجش أيضًا بمن أُعلم النهي، فظهر أن ما قاله الرافعي بحثًا منصوص، ولفظ الشافعيّ: النجشُ أن يَحضُر الرجلُ السلعةَ، تُباع، فيُعطِي بها الشيءَ، وهو لا يريد شراءها؛ ليقتدي به السُّوّام، فيعطون بها أكثر مما كانوا يُعْطُون، لو لم يسمعوا سومه، فمن نجش فهو عاص بالنجش، إن كان عالِمًا بالنهي، والبيع جائز لا يفسده معصية رجل نَجَش عليه. انتهى.

قال: وقد اتفق أكثر العلماء، على تفسير النجش في الشرع بما تقدم، وقيّد ابن عبد البر، وابن العربيّ، وابن حزم التحريم، بأن تكون الزيادة المذكورة فوق ثمن المثل، قال ابن العربيّ: فلو أن رجلًا رأى سلعة رجل، تباع بدون قيمتها، فزاد فيها؛ لتنتهي إلى قيمتها، لم يكن ناجشًا عاصيًا، بل يؤجر على ذلك بنيّته، وقد وافقه على ذلك بعض المتأخرين من الشافعية، وفيه نظر؛ إذ لم تتعيّن النصيحة في أن يُوهم أنه يريد الشراء، وليس من غرضه، بل غرضه أن يزيد على من يريد الشراء، أكثر مما يريد أن يشتري به، فللذي يريد النصيحة مندوحة عن ذلك، بأن يُعلم البائع بأن قيمة سلعتك أكثر من ذلك، ثم هو باختياره بعد ذلك.

ويَحْتَمِل أن لا يتعين عليه إعلامه بذلك حتى يسأله؛ لحديث: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض، فإذا استَنصَحَ أحدكم أخاه، فلينصحه"،

ص: 653

رواه مسلم، والله أعلم. انتهى

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول ببطلان البيع بالنجش كما هو ظاهر مذهب البخاريّ، وجماعة من أهل الحديث، وأهل الظاهر، هو الأظهر؛ لظاهر النهي؛ إذ هو يقتضي الفساد، إلا لصارف، كما في بيع المصرّاة، وتلقّي الجلب، ولم يوجد في نهي النجش صارف، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(5) - (بَابُ تَحْرِيمِ تَلَقِّي الْجَلَبِ)

بفتحتين فَعَلٌ، بمعنى مفعول: وهو ما يُجلَب من بلد إلى بلد آخر، أفاده الفيّوميّ

(2)

.

وقال المجد رحمه الله: جَلَبَه يَجْلُبه، من بابي ضرب، ونصر، جَلْبًا - بالسكون -، وجَلَبًا - بفتحتين - واجتلبه: ساقه من موضع إلى آخر، فجَلَبَ هو، وانجلب، واستجلبه: طَلَب أن يُجلَبَ له، و"الْجَلَبُ" محرّكةً: ما جُلِب من خيل، أو غيرها؛ كالْجَلِيبة، والْجَلُوبة، جمعه أجلابٌ. انتهى ببعض إيضاح

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن مما سبق من أن الجلب هنا بفتحتين، فقول بعضهم: هو بفتح اللام، وسكونها، لا وجه له؛ لأن جواز الوجهين في المصدر، لا في الجلَب بمعنى المجلوب، فتنبّه.

وَيحْتَمل أن يكون الْجَلَب بفتحتين بمعنى القوم الجالبين للسِّلَع، فقد قال في "اللسان": والْجَلَب - أي: بفتحتين - والأجلاب - أي: بالفتح -: الذين يَجلُبون الإبل، والغنم للبيع، والْجَلَبُ: ما جُلِب من خيل، وإبل، ومتاع. انتهى

(4)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 5/ 607 - 608.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 104.

(3)

"القاموس المحيط" 1/ 47.

(4)

"لسان العرب" 1/ 268.

ص: 654

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3814]

(1517) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى - يَعْنِي ابْنَ سَعِيدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، كُلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ الله، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ:"أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ تُتَلَقَّى السِّلَعُ، حَتَّى تَبْلُغَ الأَسْوَاقَ"، وَهَذَا لَفْظُ ابْنِ نُمَيْرٍ، وَقَالَ الآخَرَانِ:"إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ التَّلَقِّي").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ) هو: يحيى بن زكريّاء بن أبي زائدة الْهَمْدانيّ، أبو سعيد الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 3 أو 184) وله (93) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 121.

والباقون كلّهم ذكروا في الباب، والأبواب الثلاثة قبله.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ تُتَلَقَّى السِّلَعُ) ببناء الفعل للمفعول، و"السلع" مرفوع على أنه نائب الفاعل، وهو بفتح السين المهملة، وفتح اللام: جمع سِلْعة، بكسر، فسكون، كسِدْرة، وسِدَر، وهي البضاعة، (حَتَّى تَبْلُغَ) بالبناء للفاعل، وقوله:(الأَسْوَاقَ) منصوب على المفعوليّة، وَيحْتَمِلُ بناء الفعل للمفعول، و"الأسواقُ" نائب فاعله، فتنبّه.

وقوله: (وَهَذَا لَفْظُ ابْنِ نُمَيْرٍ) يعني أن اللفظ المذكور لشيخه محمد بن عبد الله بن نُمير، وقوله:(وَقَالَ الآخَرَانِ) يعني أن شيخيه: ابن أبي شيبة، وابن المثنّى روياه بلفظ:(إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ التَّلَقِّي) وَيحْتَمِل أن يكون المراد بابن نمير هو عبدَ الله بن نمير، والد محمد، وبالآخران ابن أبي زائدة، ويحيى بن سعيد القطّان، والله تعالى أعلم.

ومعنى قوله: "نَهَى عَنِ التَّلَقِّي" أي: تلقّي الركبان، وفي حديث عبد الله الآتي:"أنه نهى عن تلقّي الْبُيُوع"، وفي رواية ابن سيرين، عن أبي هريرة الآتية:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُتلقّى الجلَبُ"، وفي رواية ابن سيرين أيضًا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تلقّوا الْجَلَبَ، فمن تلقّاه، فاشترى منه، فإذا أتى سيّده السوق فهو بالخيار".

ص: 655

قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: فسّر أصحابنا - يعني الشافعيّة - تلقّي الركبان بأن يتلقّى طائفةً يحملون طعامًا إلى البلد، فيشتريه منهم، قبل قدومهم البلد، ومعرفة سعره، ومقتضى هذا التفسير أن التلقّي لشراء غير الطعام، ليس حكمه كذلك، ولم أر هذا التقييد في كلام غيرهم. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: التقييد المذكور مما لا دليل عليه، فالصواب المنع مطلقًا؛ لظاهر النصّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

والشرط في التحريم - كما قالوا - أن يعلم النهي عن التلقّي، وهذا شرط في سائر المناهي، وروى سحنون عن ابن القاسم أنه يؤدّب، إلا أن يُعذر بالجهل، وروى عيسى بن دينار، عن ابن القاسم أنه يؤدب إذا كان معتادًا لذلك، واختلفوا في قصد التلقّي، فلو لم يقصده، بل خرج لشغل، فاشترى منهم، ففي تحريمه خلاف عند الشافعيّة، والمالكيّة، والأصحّ عند الشافعيّة تحريمه؛ لوجود المعنى، وهو الحقّ.

وقال وليّ الدين رحمه الله: وشرط بعض أصحابنا للتحريم شرطًا آخر، وهو أن يبتدئ المتلقّي القافلةَ بطلب الشراء منهم، فلو ابتدؤوه، فالتمسوا منه الشراء منهم، وهم عالمون بسعر البلد، أو غير عالمين، فجعلوه على الخلاف فيما لو بان أن الشراء بسعر البلد، أو أكثر، والأصحّ أنه لا خيار في هذه الصورة. انتهى.

وقال في "الفتح": وظاهر الحديث منع التلقّي مطلقًا، سواء كان قريبًا، أم بعيدًا، وسواء كان لأجل الشراء منهم، أم لا. انتهى. وسيأتي تمام البحث فيه قريبًا - إن شاء الله تعالى -.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 3814 و 3815](1517)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2142 و 2159) و"الحيل"(6963)، و (أبو داود) في "البيوع"(3436)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 258) و"الكبرى"(4/ 13)، و (ابن ماجه)

ص: 656

في "التجارات"(2173)، و (مالك) في "الموطّإ"(1392)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 298)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 7 و 63)، و (الدارميّ) في "سننه"(2454)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4959)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 263)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 347)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2092)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم تلقّي الركبان:

ذهب مالك، والشافعيّ، وأحمد، والجمهور إلى تحريمه، وذهب أبو حنيفة، والأوزاعيّ إلى جوازه، إذا لم يضرّ بالناس، فإن أضرّ كُره، كذا حكاه النوويّ، وقال: والصحيح الأول؛ للنهي الصريح.

قال وليّ الدين رحمه الله: والذي في كتب الحنفيّة الكراهة في حالتين:

[إحداهما]: أن يضرّ بأهل البلد.

[والثانية]: أن يلبّس السعر على الواردين، فإن أراد النوويّ ضرر أهل البلد، فَيَرِدُ عليه الحالة الثانية، وإن أراد مطلق الناس، تناول الصورتين، ثم إن الكراهة عند بعضهم للتحريم، فإن أرادوا ذلك هنا كان مذهبهم موافقًا لمذهب الجمهور، لكن قال ابن حزم: إن أبا حنيفة كرهه، إن أضرّ بأهل البلد، دون أن يحظره، قال: وما نعلم أحدًا قاله قبله، وحكى ابن حزم عن مالك أنه لا يجوز فعله للتجارة، ولا بأس به لابتياع القوت من الطعام، والأضحية، قال: ولا نعلمه عن أحد قبل مالك. انتهى

(1)

.

وقال ابن قُدامة رحمه الله: وكره التلقّي أكثر أهل العلم، منهم: عمر بن عبد العزيز، ومالك، والليث، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وإسحاق، وحكي عن أبي حنيفة، أنه لم ير بذلك بأسًا، وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تُتَّبع. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما ذُكر أن الجمهور على تحريم تلقّي الركبان، وهو الحقّ؛ للأحاديث الصحيحة المذكورة في هذا الباب وغيرها، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في بطلان البيع بالتلقّي:

(1)

"طرح التثريب" 6/ 64 - 65.

(2)

"المغني" 6/ 312.

ص: 657

قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: واختلفوا، في أن البيع هل يبطل، أم لا؟ فقال الشافعيّ، وأحمد: لا يبطل، فإن النهي لا يرجع إلى نفس العقد، ولا يُخلّ هذا الفعل بشيء من أركانه، وشرائطه، وإنما هو لأجل الإضرار بالركبان، وذلك لا يقدح في نفس البيع.

وقال آخرون: يبطل؛ لأن النهي يقتضي الفساد، وحكاه الشيخ تقيّ الدين في "شرح العمدة" عن غير الشافعيّ من العلماء، وهذه الصيغة، لا عموم فيها، وليس المراد أن جميع العلماء غير الشافعيّ قائلون بالبطلان، وإن كانت العبارة توهم ذلك، وهذا قول في مذهب مالك، حكاه سحنون عن غير ابن القاسم، وقال ابن خويز منداد: البيع صحيح على قول الجميع، وإنما الخلاف في أن المشتري لا يفوز بالسلعة، ويشركه فيها أهل الأسواق، ولا خيار للبائع، أو أن البائع بالخيار.

قال ابن عبد البرّ: ما حكاه ابن خويز منداد عن الجميع في جواز البيع هو الصحيح، لا ما حكاه سحنون عن غير ابن القاسم أنه يُفسخ البيع، قال: وكان ابن حبيب يذهب إلى فسخ البيع في ذلك، فإن لم يوجد، عُرضت السلعة على أهل السوق، واشتركوا فيها، إن أحبّوا، وإن أبوها رُدّت على مبتاعها. انتهى

(1)

.

وقال الإمام ابن قُدامة رحمه الله: فإن خالف، وتلقى الركبان، واشترى منهم، فالبيع صحيح، في قول الجميع، وقاله ابن عبد البر رحمه الله وحُكي عن أحمد، رواية أخرى: أن البيع فاسد؛ لظاهر النهي، والأول أصح؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه، روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه، واشترى منه، فإذا أتى السوق، فهو بالخيار"، رواه مسلم، والخيار لا يكون إلا في عقد صحيح؛ ولأن النهي لا لمعنى في البيع، بل يعود إلى ضرب من الخديعة، يمكن استدراكها بإثبات الخيار، فأشبه بيع المصرّاة، وفارق بيع الحاضر للبادي، فإنه لا يمكن استدراكه بالخيار؛ إذ ليس الضرر عليه، إنما هو على المسلمين. انتهى

(2)

.

(1)

"طرح التثريب" 6/ 65.

(2)

"المغني" 6/ 313.

ص: 658

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بهذا أن الجمهور على أن البيع صحيح، وهو الحقّ؛ لأن الشارع خيّر البائع، بين إمضاء البيع، وفسخه، وإنما يكون الخيار بينهما في عقد صحيح، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في معنى الخيار الذي ثبت في هذه المسألة:

قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: قال الشافعيّة: لا خيار للبائع قبل أن يَقْدَم، وَيعْلَم السعرَ، فإذا قَدِم، فإن كان الشراء بأرخص من سعر البلد، ثبت له الخيار، سواء أخبر المتلقّي بالسعر كاذبًا، أم لم يُخبر، وإن كان الشراء بسعر البلد، أو أكثر، فوجهان:

[أصحهما] عندهم: أنه لا خيار له؛ لعدم الغبن.

[والثاني]: ثبوته؛ لإطلاق الحديث، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"فمن تلقّاه، فاشترى منه، فإذا أتى سيّده السوق، فهو بالخيار".

وقال الحنابلة أيضًا بثبوت الخيار، لكنهم قيّدوه بأن يُغبن بما لا يُغبن به عادةً، واختلفوا في تقديره، فقدّره بعضهم بالثلث، وبعضهم بالسدس.

واختلف المالكيّة القائلون بأن البيع لا يبطل على قولين:

[أحدهما]: أن السلعة تُعرض على أهل السلع في السوق، فيشتركون فيها بذلك الثمن، بلا زيادة، فإن لم يوجد لها سوقٌ، عُرضت على الناس في المصر، فيشتركون فيها، إن أحبّوا، فإن نقصت عن ذلك الثمن، لزمت المشتري، قاله ابن القاسم، وأصبغ.

[والثاني]: يفوز بها المشتري، وقال الليث بن سعد: إن كان بائعها لم يذهب رُدّت إليه، حتى تباع في السوق، وإن كان قد ذهب، ارتُجعت منه، وبيعت في السوق، ودُفع إليه ثمنها. انتهى

(1)

.

وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله بعد أن ذكر ما تقدّم في المسألة السابقة من الخلاف -: فإذا تقرر هذا، فللبائع الخيار، إذا علم أنه قد غُبِن، وقال أصحاب

(1)

"طرح التثريب" 6/ 65 - 66.

ص: 659

الرأي: لا خيار له، وقد روينا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا، ولا قول لأحد مع قوله.

وظاهر المذهب، أنه لا خيار له إلا مع الغبن؛ لأنه إنما ثبت لأجل الخديعة، ودفع الضرر، ولا ضرر مع عدم الغبن، وهذا ظاهر مذهب الشافعي، ويُحْمَل إطلاق الحديث في إثبات الخيار، على هذا، لِعِلْمنا بمعناه ومراده؛ لأنه معنى يتعلق الخيار بمثله، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل له الخيار، إذا أتى السوق، فيُفهَم منه أنه أشار إلى معرفته بالغبن في السوق، ولولا ذلك لكان الخيار له، من حين البيع، قال: وينبغي أن يتقيد الغبن المثبت للخيار بما يخرج عن العادة؛ لأن ما دون ذلك لا ينضبط.

وقال أصحاب مالك: إنما نُهي عن تلقي الركبان؛ لما يفوت به من الرفق لأهل السوق؛ لئلا يُقطع عنهم ما له جلسوا، من ابتغاء فضل الله تعالى، قال ابن القاسم: فإن تلقاها مُتَلَقّ، فاشتراها، عُرِضت على أهل السوق، فيشتركون فيها، وقال الليث بن سعد: تباع في السوق، وهذا مخالف لمدلول الحديث، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم، جعل الخيار للبائع، إذا دخل السوق، ولم يجعلوا له خيارًا، وجَعْلُ النبيّ صلى الله عليه وسلم الخيار له، يدل على أن النهي عن تلقي الركبان؛ لحقّه، لا لحقّ غيره، ولأن الجالس في السوق، كالمتلقي في أن كل واحد منهما، مبتغ لفضل الله تعالى، فلا يليق بالحكمة فسخ عقد أحدهما، وإلحاق الضرر به، دفعًا للضرر عن مثله، وليس رعاية حق الجالس، أولى من رعاية حق المتلقي، ولا يمكن اشتراك أهل السوق كلهم في سلعته، فلا يُعَرَّجُ على مثل هذا، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي حقّقه ابن قدامة رحمه الله في الردّ على أصحاب مالك، والليث فيما قالوه؛ لمخالفته صريح الحديث، حسنٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): فيما ذكره أهل العلم في سبب النهي عن التلقّي المذكور:

(1)

"المغني" 6/ 313 - 314.

ص: 660

قال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: وسبب التحريم إزالة الضرر عن الجالب، وصيانته ممن يخدعه، قال الإمام، أبو عبد الله المازريّ:

[فإن قيل]: المنع من بيع الحاضر للبادي سببه الرفق بأهل البلد، واحتُمِل فيه غبن البادي، والمنع من التلقي أن لا يُغبَن البادي، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"فإذا أتى سيدُهُ السوقَ، فهو بالخيار".

[فالجواب]: أن الشرع ينظر في مثل هذه المسائل، إلى مصلحة الناس، والمصلحة تقتضي أن يُنظَر للجماعة على الواحد، لا للواحد على الواحد، فلما كان البادي، إذا باع بنفسه، انتفع جميع أهل السوق، واشتروا رخيصًا، فانتفع به جميع سكان البلد، نظر الشرع لأهل البلد على البادي، ولما كان في التلقي، إنما ينتفع المتلقي خاصة، وهو واحد في قُبالة واحد، لم يكن في إباحة التلقي مصلحة، لا سيما وينضاف إلى ذلك علة ثانية، وهي لحوق الضرر بأهل السوق، في انفراد المتلقي عنهم بالرخص، وقطع الموادّ عنهم، وهم أكثر من المتلقي، فنظر الشرع لهم عليه، فلا تناقض بين المسألتين، بل هما متفقتان في الحكمة، والمصلحة، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: واختلف في وجه النهي عن التلقّي، فقيل: ذلك لحقّ الله تعالى، وعلى هذا، فيُفسخ البيع أبدًا، وقال به بعض أصحابنا، وهذا إنما يليق بأصول أهل الظاهر. والجمهور: على أنه لحق الآدميّ؛ لِمَا يدخل عليه من الضرر، ثم اختلفوا فيمن يرجع إليه هذا الضرر، فقال الشافعيّ: هو البائع، فيدخل عليه ضرر الغبن، وعلى هذا، فلو وقع لم يُفسخ، ويكون صاحبه بالخيار، وعلى هذا يدلّ ظاهر الحديث، فإنه قال فيه:"إذا أتى سيّده السوق، فهو بالخيار". وقال مالك: بل هم أهل السوق بما يدخل عليهم من غلاء السلع، ومقصود الشرع الرفقُ بأهل الحاضرة، كما قد قال:"دع الناس يرزق الله بعضهم من بعض"، وكأن مالكًا لم تبلغه هذه الزيادة، أو لم تثبت عنده أنها من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعلى قول مالك فلا يُفسخ، ولكن يخيّر أهل السوق، فإن لم يكن سوقٌ، فأهل المصر بالخيار، وهل يدخل المتلقّي معه، أو

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 162 - 163.

ص: 661

لا؟ قولان، سبب المنع عقوبته بنقيض قصده، وقد أجاز أبو حنيفة، والأوزاعيّ التلقّي إلا أن يضرّ بالناس، فيكره، وهذه الأحاديث حجةٌ عليهما. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما سبق أن الصواب ما قاله الشافعيّ رحمه الله من أن النهي لحقّ البائع، وأن له الخيار؛ لموافقته للنصّ الصحيح الصريح:"فإذا أتى سيّده السوق، فهو بالخيار"، فإنه يدلّ على أن البائع هو سبب النهي، وأن البيع إذا أجازه جاز، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): في اختلاف أهل العلم: هل يُقدّر النهي عن التلقّي بمسافة، أم لا؟

قال وليّ الدين العراقيّ رحمه الله: ظاهر الحديث أنه لا فرق في النهي عن التلقّي بين أن تكون المسافة التي يُتلقّى إليها قريبة، أو بعيدة، وهو الذي يقتضيه إطلاق أصحابنا، وغيرهم، وقيّد المالكيّة محل النهي بحدّ مخصوص، واختلفوا في ذلك الحدّ، فقال بعضهم: ميل، وقال بعضهم: فرسخان، وقال بعضهم: يومان، وهو معنى ما رواه أبو قرّة، عن مالك أنه قال: إني لأكره تلقي السلع، وأن يُبلغ به أربعة برود. انتهى. فإن زادت المسافة على ذلك لم تدخل تحت النهي، وقيل لمالك: أرأيت إن كان ذلك على رأس ستة أميال؟ فقال: لا بأس بذلك، وكأن ذلك جاز على طريقته في أن النظر لأهل البلد، وإنما تتشوّف أطماعهم لمن قرُب منهم، وأما البعيد، فلا تشوّف لهم إليه، ولعلّ النظر في تحديد القرب للعرف.

وحكى ابن حزم عن سفيان الثوريّ أنه منهيّ عنه إذا كان بحيث لا تقصر الصلاة إليه، فإن تلقّاها بحيث تقصر الصلاة، فصاعدًا، فلا بأس بذلك. انتهى

(2)

.

وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: وقد اختلف أصحابنا - يعني المالكيّة - في مسافة منع التلقّي، فقيل: يومان، وقيل: ستة أميال، وقيل: قرب المصر، قلت: هذه التحديدات متعارضةٌ، لا معنى لها؛ إذ لا توقيف، وإنما محلّ المنع

(1)

"المفهم" 4/ 366 - 367.

(2)

"طرح التثريب" 6/ 67 - 68.

ص: 662

أن ينفرد المتلقّي بالقادم خارج السوق بحيث لا يعرف ذلك أهل السوق غالبًا، وعلى هذا، فيكون ذلك في القريب والبعيد، حتى يصحّ قول بعض أصحابنا: لو تلقّى الجلب في أطراف البلد، أو أقاصيه، لكان تلقّيًا منهيًّا عنه، وهو الصحيح؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى عن تلقّي السلع حتى تورد الأسواق، فلو لم يكن للسلعة سوقٌ، فلا يخرج إليها؛ لأنه التلقّي المنهيّ عنه، غير أنه يجوز أن يشتري في أطراف البلد؛ لأن البلد كلّه سوقها. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما سبق أن الصواب هو ما عليه الجمهور من أن التلقيّ حرام مطلقًا، سواء كانت المسافة قريبة، أم بعيدة، إذا كان خارج السوق؛ لإطلاق النصوص في ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة): عقد الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" بابًا لمنتهى التلقّي، فقال:"باب منتهى التلقّي"، ثم أورد فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما:"كنّا نتلقّى الركبان، فنشتري منهم الطعام، فنهانا النبيّ صلى الله عليه وسلم أن نبيعه، حتى نبلغ به سوق الطعام"، وحديثه:"كانوا يتبايعون الطعام في أعلى السوق، فيبيعونه في مكانه، فنهاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه في مكانه، حتى ينقلوه"، فبيّن بالرواية الثانية أن التلقّي كان إلى أعلى السوق من غير خروج عن البلد، فإن خرج منها، وقع في التلقّي المنهيّ عنه.

قال وليّ الدين: وكلام أصحابنا يوافق هذا، حيث قالوا في تعريفه الذي قدّمت ذكره:"قبل قدومهم البلد"، والمعنى فيه أنهم إذا قدموا البلد أمكنهم معرفة السعر، وطلب الحظّ لأنفسهم، فإن لم يفعلوا ذلك، فهو بتقصيرهم، وأما قبل دخول البلد، فإنهم لا يعرفون السعر، ولو أمكنهم تعرّفه، فنادرٌ، لا يترتّب عليه حكم.

وذكر ابن بطّال أن ما كان خارجًا عن السوق في الحاضرة، أو قريبًا منها بحيث يجد من يسأله عن سعرها أنه لا يجوز الشراء هنالك؛ لأنه داخل في

(1)

"المفهم" 4/ 366.

ص: 663

معنى التلقّي، وأما الموضع البعيد الذي لا يقدر فيه على ذلك، فيجوز فيه البيع، وليس بتلقّ.

قال مالك: وأكره أن يشتري في نواحي المصر حتى يهبط به السوق.

قال ابن المنذر: وبلغني هذا القول عن أحمد، وإسحاق أنهما نهيا عن التلقّي خارج السوق، ورخّصا في ذلك في أعلى السوق إلى آخر كلامه، فردّ تبويب البخاري إلى مذهبه، والمعنى الذي ذكره في أنه إذا وجد من يسأله عن السعر كان الشراء حرامًا، وإن لم يجد من يسأله عن السعر، كان جائزًا غير ملائم، والذي يقتضيه النظر عكسه، والله أعلم.

وحَكَى ابن عبد البرّ عن الليث بن سعد أنه قال: أكره تلقي السلع، وشراءها في الطريق، أو على بابك، حتى تقف السلعة في سوقها التي تباع فيها، قال: وإن كان على بابه، أو في طريقه، فمزت به سلعة، يريد صاحبها سوق تلك السلعة، فلا بأس أن يشتريها، إذا لم يقصد التلقّي، إنما التلقّي أن يقصد لذلك. انتهى

(1)

.

وذكر ابن حزم أن حديث ابن عمر هذا استدلّ به من أجاز التلقّي، قال: ولا حجة لهم فيه؛ لستّة أوجه:

[أحدها]: أن المحتجّين به هم القائلون بأن الصحابيّ إذا روى خبرًا، ثم خالفه، فقوله حجة في ردّ الخبر، وقد صحّ عن ابن عمر الفتيا بترك التلقّي.

[ثانيها]: أنه لا كراهة عندهم في بيع الطعام حيث ابتاعه.

[ثالثها]: أن معنى قوله: "فنهانا أن نبيعه": أن نبتاعه.

[رابعها]: أن هذا منسوخ بالنهي.

[خامسها]: أنه محمول على أن البائعين أجازوا البيع.

[سادسها]: ما قدّمته من أن الرواية الأخرى بيّنت أن التلقّى كان إلى أعلى السوق من غير خروج عنه. انتهى من "المحلّى" باختصار

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن مما سبق أنه لا يحلّ لأحد تلقي الجلب، سواء خرج لذلك، أو كان ساكنًا في طريق الجالبين، وسواء بَعُدَ

(1)

"طرح التثريب" 6/ 68 - 69.

(2)

"المحلى" 8/ 451.

ص: 664

موضع تلقّيه أم قرب؛ لإطلاق النصّوص، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[3815]

(

) - (وَحَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْر، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون السمين البغداديّ، صدوقٌ ربما وَهِم [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الْكَوْسج المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(ح م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

3 -

(ابْنُ مَهْدِيٍّ) هو: عبد الرَّحمن العنبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ إمام الجرح والتعديل [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 388.

والباقون ذكروا قبله.

[تنبيه]: رواية عبد الرَّحمن بن مهديّ، عن مالك لَمْ أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3816]

(1518) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْن مُبَارَكٍ، عَنِ التَّيْمِيّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الله، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنْ تَلَقِّي الْبُيُوعِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْن أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي، ثقةٌ ثبتٌ [10] تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مُبَارَكٍ) المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ إمام حجة، جُمعت فيه خصال الخير [8](ت ا 18)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 32.

3 -

(التَّيْمِيُّ) سليمان بن طرخان، أبو المعتمر البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4](ت 143)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

ص: 665

4 -

(أَبُو عُثْمَانَ) النهديّ، عبد الرَّحمن بن ملّ بن عمرو الكوفيّ، ثم البصريّ، مخضرم ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ، من كبار [2](ت 95) أو بعدها، وعاش مائة وثلاثين، أو أكثر (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

5 -

(عَبْدُ اللهِ) بن مسعود الصحابيّ الشهير المتوفى سنة (32)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.

وقوله: (نَهَى عَنْ تَلَقِّي الْبُيُوعِ) بضمّ الموحدة: جمع بيع، بمعنى المبيع، وهو أن يتلقى السلعة الواردة لمحلّ بيعها قبل وصولها له، وهو يقتضي أن النهي المطلق عن تلقي الجلّب مقيّد بما إذا كان التلقي لأجل المبايعة

(1)

، أما إذا لغير ذلك، كأن يتلقاهم للسلام، أو لغيره من الأغراض، فلا نهي، فتنبّه.

ثم إن هذا النهي، للتحريم لكنه يصح البيع، ويكون للجالب الخيار، كما أسلفنا تحقيقه في حديث ابن عمر رضي الله عنهما المذكور قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

[تنبيه]: أخرج البخاريّ: حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا بزيادة في أوله، فقال: حدّثنا مسدّد، حدّثنا معتمر، قال: سمعت أبي يقول: حدّثنا أبو عثمان، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:"من اشترى شاة مُحَفّلًة، فردّها، فليرُدّ معها صاعًا من تمر، ونهى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن تُلَقَّى البيوع".

قال في "الفتح": هكذا رواه الأكثر، عن معتمر بن سليمان، موقوفًا، وأخرجه الإسماعيليّ من طريق عبيد الله بن معاذ، عن معتمر، مرفوعًا، وذكر أن رفعه غلظ، ورواه أكثر أصحاب سليمان عنه كما هنا، حديثُ الْمُحَفَّلة موقوف، من كلام ابن مسعود، وحديث النهي عن التلقي مرفوع، وخالفهم أبو خالد الأحمر، عن سليمان التيميّ، فرواه بهذا الإسناد مرفوعًا، أخرجه الإسماعيليّ، وأشار إلى وهمه أيضًا. انتهى

(2)

.

(1)

راجع: "الفتح" 5/ 638.

(2)

"الفتح" 5/ 627.

ص: 666

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 3816](1518)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2149 و 2164)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1220)، و (ابن ماجة) في "التجارات"(2180)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(14880)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(399 و 2180)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 430)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4958)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 264)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 319 و 348)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3817]

(1519) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُتَلَقَّى الْجَلَبُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هُشَيْمُ) بن بَشِير السلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ، كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7](ت 183)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

2 -

(هِشَامُ) بن حسّان الأزديّ الْقُرْدوسيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ، من أثبت الناس في ابن سيرين [6](ت 7 أو 148)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

3 -

(ابْنُ سِيرِينَ) هو: محمد الأنصاريّ، أبو بكر بن أبي عمرة البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه عابد [3](ت 110)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" ج 1 ص 358.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (أَنْ يُتَلَقَّى الْجَلَبُ) ببناء الفعل للمفعول، و"الْجَلَب" بفتحتين بمعنى المجلوب، أو بمعنى القوم الجالبين، كما أسلفت تحقيقه؛ أي: نهى صلى الله عليه وسلم عن الخروج للقاء القادمين من خارج البلد إليه بالسِّلَع، وشرائها منهم قبل أن تبلغ الأسواق، وقد تقدّم تمام البحث فيه في شرح حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 3817 و 3818](1519)، و (الترمذيّ) في

ص: 667

"البيوع"(3/ 524)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 403)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 262)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(6/ 263)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 463)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[3818]

(

) - (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي هِشَامٌ الْقُرْدُوسِيُّ، عَنِ ابْنِ ميرِينَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَلَقَّوُا الْجَلَبَ، فَمَنْ تَلَقَّاهُ، فَاشْتَرَى مِنْهُ، فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ السُّوقَ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، نزيل مكة، ثقةٌ [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

2 -

(هِشَامُ بْنُ سُلَيْمَانَ) بن عكرمة بن خالد المخزوميّ المكيّ، صدوق

(1)

[8](خت م ق) تقدم في "الحج" 23/ 2989.

3 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريجٍ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (هِشَامٌ الْقُرْدُوسِيُّ) هو هشام بن حسَّان المذكور في السند الماضي، و"الْقردوسيّ" بضمّ القاف والدال، واسكان الراء، بينهما منسوب إلى القراديس قبيلهّ معروفة، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله في "اللباب": الْقرْدوسيّ - بضم القاف، وسكون الراء، وضم الدال المهملة، وبعد الواو سين مهملة - هذه النسبة إلى القَرَاديس، بطن من الأزد، نزلوا البصرة، فنسبت المحلة إليهم، وقُردوس بطن

(1)

في "التقريب": مقبول، وفيه نظر؛ لأنه روى عنه ثلاثة، وأخرج له البخاريّ متابعة، وكذا أخرج له م مسلم، ولم يتكلّم أحد في روايته عن ابن جريجٍ، وقال العقيليّ: في روايته عن غير ابن جريج وَهَم. راجع: "تت" 4/ 271 - 272.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 163.

ص: 668

من دوس، وهو قُردوس بن الحارث بن مالك بن فَهْم بن غانم بن دوس.

والمنتسب إلى قراديس الأزد أبو الحسن مُعَلَّى بن زياد القردوسيّ البصريّ، يروي عن الحسن وغيره، روى عنه هشام بن حسان.

وأما من ينسب إلى المحلة فأبو عبد الله هشام بن حسان القردوسيّ، كان من العباد والصالحين البكائين، مولى العتيك، يروي عن عطاء، والحسن، وغيرهما، روى عنه يحيى بن راشد، وأهل البصرة، وتُوُفِّي في مُسْتَهَلِّ صفر سنة سبع أو ثمان وأربعين ومائة، وعبد الله بن حسان القردوسيّ البصريّ، أخو هشام، يروي عن كثير مولاهم، روى عنه موسى بن إسماعيل، كذا ذكر السمعانيّ رحمه الله.

ثم تعقّبه ابن الأثير، فقال: هكذا قال السمعانيّ: القراديس بطن من الأزد، ثم قال: وقُردوس بطن من دوس، ولعله قد ظنّ أن قُردوس الأزد غير قردوس دوس، أو حيث رأى في أحدهما قراديس، وفي الآخر قردوسًا ظنهما اثنين، وهما واحد، ودوس من الأزد، وهو دوس بن عبدنان بن عبد الله بن زهران بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد. انتهى

(1)

.

وقوله: ("لَا تَلَقَّوُا) بفتح التاء، واللام، والقاف المشدّدة، أصله لا تتلقّوا، حُذفت منه إحدى التاءين للتخفيف، كما في {نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14] و {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} [القدر: 4]، و {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)} [عبس: 6]، قال في "الخلاصة":

وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ

فِيهِ عَلَى تَا كـ "تَبَيَّنُ الْعِبَرْ"

و"لا" ناهية، ولذا جُزم الفعل بعدها، بحذف نون الرفع.

وقوله: (الْجَلَبَ) بفتحتين منصوب على المفعوليّة، وقد تقدَّم أنه بمعنى المجلوب، أو بمعنى القوم الجالبين؛ أي: لا تخرجوا للقاء الرِّفاق القادمة بالسِّلَع، فتبُّشروها قبل أن تبلغ السوق.

وقوله: (فَمَنْ تَلَقَّاهُ)؛ أي: الجلب، بمعنى الشيء المجلوب، أو الجالبين.

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 204 - 205.

ص: 669

وقوله: (فَاشْتَرَى مِنْهُ)؛ أي: من الجلب.

وقوله: (فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ السُّوقَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ) المراد بالسيّد المالك، صاحب الجلَب، والمعنى: أن صاحب المتاع إذا أتى السوق، وعَرَف السعر، فهو بالخيار في استرداد متاعه، فإن شاء أمضى البيع، وإن شاء أبطله، وأخذ متاعه، وتقدّم تمام البحث في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(6) - (بَابُ تَحْرِيمِ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي)

[3819]

(1520) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْب، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، يَبلُغُ بِهِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَبعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ"، وَقَالَ زُهَيْرٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَبيِعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الواسطيّ، ثم الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

2 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير البغداديّ، نزيل الرَّقَّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

3 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، ثم البغداديّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

4 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة بن أبي عمران الهلاليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ، الثقة الحافظ الفقيه الإمام الحجة، من كبار [8](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 383.

5 -

(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب، أبو بكر

ص: 670

المدنيّ الإمام الحافظ المثبت الحجة الفقيه المشهور [4](ت 125) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 348.

6 -

(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) بن حزن بن أبي وهب المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ الإمام الفقيه الحجة المثبت المشهور [3](ت 95) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.

7 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، وقوله:(يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) أي: يبلغ بهذا الحديث إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنه رفعه إليه، وهو من كلام ابن المسيِّب، وإنما عدل عن الصيغ المعروفة للرفع، مثل"سمعت"، أو "حدّثني"، أو "أخبرني"، أو "عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "، إلى ما هذا؛ لشكّه في صيغة الرفع بعينها، هل هي "سمعت"، أو نحو ذلك، أو طلبًا للتخفيف، أو لغير ذلك مما ذكرته في "شرحي" على "ألفية الحديث"

(1)

. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم " (لَا يَبعْ حَاضَرٌ لِبَادٍ") " ثم إن قوله: "يبلغ به النبيّ صلى الله عليه وسلم

إلخ" لشيخيه: ابن أبي شيبة، وعمرو الناقد، وأما زهير بن حرب، فلم يقل ذلك، كما أشار إليه بقوله: (وَقَالَ زُهَيْرٌ) هو ابن حرب شيخه الثالث، وقوله: (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) مقول "قال" محكيّ؛ لقصد لفظه، يعني أن زهير بن حرب لَمْ يقل: "يبلغ به النبيّ صلى الله عليه وسلم "، وإنما قال: "عن النبيّ صلى الله عليه وسلم " (أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ) هو المقيم بالبلد (لِبَادٍ) هو البدويّ، ومعناه على ما فسّره به الشافعيّة، والحنبليّة: أن يَقْدَم غريبٌ، بدويًّا كان، أو قرويًّا بسلعته إلى البلد، يريد بيعها بسعر الوقت؛ ليرجع إلى وطنه، فيأتيه بلديّ، فيقول: ضَعْ متاعك عندي، لأبيعه على التدريج بأغلى من هذا السعر، فلم يعتدّوا الحكم بالبادي، وجعلوه منوطًا بمن ليس من أهل البلد، سواء كان باديًا، أو حاضرًا؛ لأنَّ المعنى في إضرار أهل البلد يتناول الصورتين، وذِكْرُ البادي مثالٌ، لا قيدٌ، وجعله مالك قيدًا، فحكى ابن عبد البرّ أنه قيل له: مَنْ أهل البادية؟ قال: أهل العمود، قيل له: القرى المسكونة التي لا يفارقها أهلها

(1)

راجع: "إسعاف ذوي الوطر" 1/ 128.

ص: 671

في نواحي المدينة، يَقْدَم بعضهم بالسلع، فيبيعها لهم أهل المدينة؟ قال: نعم، إنما معنى الحديث أهل العمود.

وحكى ابن عبد البرّ أيضًا عن مالك أنه قال: تفسير ذلك أهل البادية، وأهل القري، فأما أهل المدائن، من أهل الريف، فإنه ليس بالبيع لهم بأس، ممن يرى أنه يعرف السوم، إلَّا من كان منهم يشبه أهل البادية، فإني لا أحبّ أن يبيع لهم حاضر، قال: وبه قال ابن حبيب، قال: والبادي الذي لا يبيع لهم الحاضر هم أهل العمود، وأهل البوادي، والبراري، مثل الأعراب، قال: وجاء النهي في ذلك؛ إرادةَ أن يُصيب الناس ثمرتهم، ثم ذكر حديث جابر رضي الله عنه الآتي بعد حديث:"لا يبيع حاضر لباد، دَعُوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض"، قال: فأما أهل القرى الذين يعرفون أثمان سلعتهم، وأسواقها، فلم يُعْنَوا بهذا الحديث.

وحكى ابن عبد البرّ أيضًا، عن ابن القاسم أنه قال: ثم قال - يعني مالكًا - بعد ذلك: ولا يبيع مصريّ لمدنيّ، ولا مدنيّ لمصريّ، ولكن يشير عليه.

وحكى ابن الحاجب في "مختصره" الخلاف في ذلك عن مالك، فقال: وفي "الموطّإ" يحمله على أهل العمود؛ لجهلهم بالأسعار، وقيل: بعمومه؛ لقوله: ولا يبيع مدنيّ لمصريّ، ولا مصريّ لمدنيّ. انتهى.

وفسّر الحنفيّة بيع الحاضر للبادي بصورة أخرى، وهي أن يبيع الحضريّ شيئًا مما يَحتاج إليه أهل الحضر لأهل البادية؛ لطلب زيادة السعر، فقال صاحب "الهداية" بعد ذكره هذا الحديث: وهذا إذا كان أهل البلد في قحط، وعوز، وهو يبيع من أهل البدو؛ طمعًا في الثمن الغالي؛ لما فيه من الإضرار بهم، أما إذا لَمْ يكن كذلك، فلا بأس به؛ لانعدام الضرر. انتهى.

قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: ويردّ حمل الحديث على هذه الصورة قول ابن عبّاس رضي الله عنهما - لَمّا سئِل عن تفسيره -: لا يكون له سِمْسَارًا، والحديثُ الذي رواه أبو داود من طريق ابن إسحاق، عن سالم المكيّ؛ أن أعرابيًّا حدّثه أنه قدم بجلوبة له، على عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فنزل على طلحة بن عُبيد الله، فقال: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع حاضرٌ لباد، ولكن اذهب إلى السوق، فانظر من

ص: 672

يبايعك، فشاورني حتى آمرك، وأنهاك. انتهى

(1)

.

وقال ابن قدامة رحمه الله: بيع الحاضر للباد: هو أن يخرج الحضريّ، إلى البادي، وقد جلب السلعة، فيُعَرِّفه السعر، ويقول: أنا أبيع لك، فنهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال:"دعوا الناس، يرزق الله بعضهم من بعض"، والبادي ههنا: من يدخل البلدة، من غير أهلها، سواء كان بدويًّا، أو من قرية، أو بلدة أخرى، نَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم الحاضر، أن يبيع له، قال ابن عباس رضي الله عنهما:"نَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم، أن تُتَلَقَّى الركبان، وأن يبيع حاضر لباد"، قال: فقلت لابن عباس: ما قوله: "حاضر لباد"؟ قال: لا يكون له سمسارًا. متَّفقٌ عليه.

وعن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يبيع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض"، رواه مسلم، وروى مثله ابنُ عمر، وأبو هريرة، وأنس رضي الله عنه.

والمعنى في ذلك: أنه متى تُرك البدويّ، يبيع سلعته، اشتراها الناس برخص، ويوسع عليهم السعر، فإذا تولى الحاضر بيعها، وامتنع من بيعها، إلَّا بسعر البلد، ضاق على أهل البلد، وقد أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم، في تعليله إلى هذا المعنى. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما ذُكر أن أقرب التفاسير لبيع الحاضر للبادي، هو الذي فسّر به الشافعيّة، والحنبليّة؛ لأنه الموافق لإطلاق الحديث.

وحاصله أن يَقْدَم غريب بدويًّا كان، أو قرويّا بسلعة إلى البلد يريد بيعها بسعر الوقت؛ ليرجع إلى وطنه، فيأتيه بلديّ، فيطلب منه أن يضع سلعته عنده، حتى يتربّص بها غلاء السعر، فيبيعها، فهذا ممنوع؛ لإضراره باهل البلد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

(1)

"طرح التثريب" 6/ 72 - 76.

(2)

"المغني" 4/ 150.

ص: 673

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تخريجه في "كتاب النِّكَاح" برقم [6/ 3459](1413) فقد ساقه هناك مطوّلًا، فراجعه تستفد

(1)

، وبالله تعالى التوفيق.

(المسألة الثانية): في اختلاف أهل العلم في النهي عن بيع الحاضر للبادي:

ذهب مالك، والشافعيّ، وأحمد، والأكثرون إلى أنه للتحريم، وذهب بعضهم إلى أنه للتنزيه، وذهبت طائفة إلى جوازه؛ لحديث:"الدين النصيحة"، وقالوا: حديث النهي عن بيع الحاضر للبادي منسوخ، وحُكي ذلك عن عطاء، ومجاهد، وأبي حنيفة.

وردّه الجمهور بأن النهي الذي هنا خاصّ، فيُقدّم على عموم الأمر بالنصيحة، ويكون هذا كالمستثنى منها، قال النوويّ: والصحيح الأول، ولا يُقبل النسخ، ولا كراهة التنزيه بمجرّد الدعوي، وقال القفّال من الشافعيّة: والإثم على البلديّ، دون البدويّ. ذكره وليّ الدين رحمه الله

(2)

.

وقال ابن قُدامة رحمه الله: وممن كَرِه بيع الحاضر للبادي: طلحة بن عبيد الله، وابن عمر، وأبو هريرة، وأنس، وعمر بن عبد العزيز، ومالك، والليث، والشافعيّ، ونقل أبو إسحاق بن شاقلا، في جملة سماعاته؛ أن الحسن بن عليّ المصريّ، سأل أحمد عن بيع حاضر لباد؛ فقال: لا بأس به، فقال له: فالخبر الذي جاء بالنهي؛ قال: كان ذلك مرّة، فظاهرُ هذا صحة البيع، وأن

(1)

ونصّه هناك:

[3459]

(1413) - وحدّثني عمرو الناقد، وزهير بن حرب، وابن أبي عمر، قال زهير: حدّثنا سفيان بن عيينة، عن الزهريّ، عن سعيد، عن أبي هريرة:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أن يبيع حاضر لباد، أو يتناجشوا، أو يخطب الرجل على خطبة أخيه، أو يبيع على بيع أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها؛ لتكتفئ ما في إنائها، أو ما في صحفتها"، زاد عمرو في روايته:"ولا يسم الرجل على سوم أخيه". انتهى.

(2)

"طرح التثريب" 6/ 72.

ص: 674

النهي اختص بأول الإسلام، لِمَا كان عليهم من الضيق في ذلك، وهذا قول مجاهد، وأبي حنيفة، وأصحابه، والمذهبُ: الأول؛ لعموم النهي، وما يثبت في حقهم، يثبت في حقنا، ما لَمْ يقم على اختصاصهم به دليل. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بهذا أن الصواب قول الجمهور، وهو أن بيع الحاضر للبادي حرام مطلقًا؛ لعموم الأدلّة، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): فيما ذكره العلماء من الشروط لتحريم بيع الحاضر للبادي:

قال ابن قدامة رحمه الله: ظاهر كلام الخرقيّ أنه يحرم بثلاثة شروط:

[أحدهما]: أن يكون الحاضر قصد البادي، ليتولى البيع له.

[والثاني]: أدن يكون البادي جاهلًا بالسعر؛ لقوله: فيعرّفه السعر، ولا يكون التعريف إلَّا لجاهل، وقد قال أحمد، في رواية أبي طالب: إذا كان البادي، عارفًا بالسعر لَمْ يحرم.

[والثالث]: أن يكون قد جلب السلع للبيع؛ لقوله: وقد جلب السلع، والجالب هو الذي يأتي بالسلع ليبيعها، وذكر القاضي شرطين، آخرين:

[أحدهما]: أن يكون مريدًا لبيعها بسعر يومها.

[الثاني]: أن يكون بالناس حاجة إلى متاعه، وضيق في تأخير بيعه.

وقال أصحاب الشافعي: إنما يحرم بشروط أربعة، وهي ما ذكرنا، إلَّا حاجة الناس إلى متاعه، فمتى اختلّ منها شرط، لَمْ يحرم البيع. انتهى

(2)

.

وقال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: قال أصحابنا - يعني الشافعيّة -: إنما يحرم بشروط:

[أحدها]: أن يكون عالِمًا بالنهي فيه، وهذا شرط يعمّ جميع المناهي.

[والثاني]: أن يكون المتاع المجلوب مما تعمّ الحاجة إليه؛ كالأطعمة، ونحوها، فأما ما لا يحتاج إليه إلَّا نادرًا، فلا يدخل في النهي.

[والثالث]: أن يظهر ببيع ذلك المتاع سعة في البلد، فإن لَمْ يظهر لكبر

(1)

"المغني" 6/ 309 - 310.

(2)

"المغني" 6/ 309 - 310.

ص: 675

البلد، أو قلّة ما معه، أو لعموم وجوده، ورخص السعر، فوجهان: أوفقهما للحديث التحريم.

[والرابع]: أن يَعرِض الحضريّ ذلك على البدويّ، ويدعوه إليه، أما إذا التمس البدويّ منه بيعه تدريجيًّا، أو قصد الإقامة في البلد لبيع ذلك، فسأل البدويّ تفويضه إليه، فلا بأس به؛ لأنه لَمْ يضرّ بالناس، ولا سبيل إلى منع المالك منه.

ولو أن البدويّ استشار البلديّ فيما فيه حظّه، فهل يرشده إلى الادّخار، أو البيع على التدريج؟ وجهان، حكى القاضي ابن كجّ، عن أبي الطيّب بن سلمة، وأبي إسحاق المروزيّ أنه يجب عليه إرشاده إليه؛ أداءً للنصيحة، وعن أبي حفص ابن الوكيل: أنه لا يرشده إليه؛ توسيعًا على الناس، وكذا اعتبر الحنابلة هذه الشروط، وعبارة ابن تيميّة في "المحرّر": وبيع الحاضر للبادي منهيّ عنه بخمسة شروط: أن يحضر البادي لبيع شيء بسعر يومه، وهو جاهلٌ بسعره، وبالناس إليه حاجةٌ، ويقصده الحاضر.

وقال مالك في البدويّ يَقْدَمُ، فيسأل الحاضر عن السعر: أكره له أن يُخبره، وقال أيضًا: لا أرى أن يبيع مصريّ لمدنيّ، ولا مدنيّ لمصريّ، ولكن يُشير عليه، وقال أيضًا: لا يبيع أهل القرى لأهل البادية سِلَعَهم، قيل له: فإن بعث بالسلعة إلى أخ له من أهل القري، لَمْ يقدم معه سلعته؟ قال: لا ينبغي له ذلك، حكى ذلك كله عنه ابن عبد البرّ، ثم حكى عن ابن حبيب أنه قال: لا يبعث البدويّ إلى الحضريّ بمتاع يبيعه له، ولا يُشير عليه في البيع، إن قدم عليه، ثم حكى عن الليث بن سعد أنه قال: لا يشير الحاضر على البادي؛ لأنه إذا أشار عليه، فقد باع له؛ لأنَّ من شأن أهل البادية أن يرخصوا إلى أهل الحضر؛ لقلّة معرفتهم بالسوق.

وقال الأوزاعيّ: لا يبيع حاضر لباد، ولكن لا بأس أن يُخبره بالسعر.

وقال الشيخ تقيّ الدين ابن دقيق العيد في "شرح العمدة": [واعلم]: أن أكثر هذه الإحكام تدور بين اتّباع المعنى، واتّباع اللفظ، ولكن ينبغي أن يُنظر في المعنى إلى الظهور والخفاء، فحيث يظهر ظهورًا كثيرًا، فلا بأس باتّباعه،

ص: 676

وتخصيص النصّ به، أو تعميمه على قواعد القياس، وحيث يخفي، أو لا يظهر ظهورًا قويًّا، فاتباع اللفظ أولى.

وأما ما ذكره في اشتراط أن يلتمس البدويّ ذلك، فلا يقوى؛ لعدم ظهور دلالة اللفظ عليه، وعدم ظهور المعنى فيه، فإن المذكور الذي علّل به النهي، لا يفترق الحال فيه، بين سؤال البلديّ وعدمه ظاهرًا.

وأما اشتراط أن يكون الطعام مما تدعو الحاجة إليه، فمتوسّط في الظهور وعدمه؛ لاحتمال أن يراعى مجرّد ربح الناس على ما أشعر به التعليل، من قوله:"دعوا الناس، يرزق الله بعضهم من بعض".

وأما اشتراط أن يظهر لذلك المتاع المجلوب سعة في البلد، فكذلك أيضًا؛ أي: أنه متوسّط في الظهور؛ لما ذكرناه، من احتمال أن يكون المقصود مجرّد تقريب الربح، والرزق على أهل البلد. وهذه الشروط منها ما يقوم الدليل الشرعيّ عليه؛ كشرطنا العلم بالنهي، ولا إشكال فيها، ومنها ما يؤخذ باستنباط المعنى، فيخرّج على قاعدة أصولتة، وهي أن النصّ إذا استُنبط منه معنى يعود عليه بالتخصيص، هل يصحّ، أم لا؟ انتهى.

وقال الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ": جواز الإشارة عليه هو الصواب؛ لأنه إنما نُهي عن البيع له، وليسس فيه بيع له، وقد أُمر بنصحه في بعض طرق هذا الحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"وإذا استنصح أحدكم أخاه، فلينصح له". انتهى، وبه قال ابن حزم، ذكره في "الطرح"

(1)

.

وقال ابن قُدامة رحمه الله: وأما إن أشار الحاضر على البادي، من غير أن يباشر البيع له، فقد رخص فيه طلحة بن عبيد الله، والأوزاعي، وابن المنذر، وكرهه مالك، والليث، وقول الصحابي حجة ما لَمْ يثبت خلافه. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول بجواز الإشارة عليه، إذا استشاره هو الأرجح؛ لعدم تناول النصّ له، مع أن النصيحة له واجبة عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"طرح التثريب" 6/ 73 - 75.

(2)

"المغني" 6/ 311.

ص: 677

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في بطلان بيع الحاضر للبادي، إذا وُجدت الشروط المذكورة:

قال ابن قدامة رحمه الله: وإن اجتمعت هذه الشروط، فالبيع حرام، وقد صرّح الخرقي ببطلانه، ونصّ عليه أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد، قال: سألت أحمد عن الرجل الحضري، ببيع للبدوي؟ فقال: أكره ذلك، وأَرُدُّ البيع في ذلك، وعن أحمد رواية أخرى: أن البيع صحيح، وهو مذهب الشافعيّ؛ لكون النهي لمعنى في غير المنهي عنه، ولنا إنه منهي عنه، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه. انتهى كلام ابن قدامة رحمه الله.

وقال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: لو خالف الحاضر، وباع للبادي، حيث منعناه منه، كان البيع صحيحًا، عند الشافعيّ، وطائفة؛ لجمعه الأركان، والشرائط، والخلل في غيره، واختلف المالكيّة في ذلك، فقال بعضهم بالصحّة، وبعضهم بالبطلان، ما لَمْ يَفُت، والقولان عن ابن القاسم، وممن قال بالبطلان: ابن حبيب، وابن حزم الظاهريّ، وقال سحنون: وقال لي غير ابن القاسم: إنه يردّ البيع. وعن أحمد في ذلك روايتان، ومستند البطلان اقتضاء النهي الفساد، قال أصحابنا، وغيرهم: ولا خيار للمشتري، وروى سحنون، عن ابن القاسم أنه يؤدّب الحاضر إذا باع للبادي، وروى عيسى عنه إن كان معتادًا لذلك، وروى عن ابن وهب أنه لا يؤدّب، سواء كان عالمًا، أو جاهلًا. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: إن القول ببطلان البيع هو الأرجح؛ لأنَّ النهي يقتضي الفساد، ولم يوجد في النصّ ما يصرفه عنه، كما وُجد في بيع المصرّاة، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"فمن ابتاع مصرّاة، فهو بخير النظرين" الحديث، فإن تخييره البائع يصرف النهي فيه عن اقتضائه الفساد، فافهم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في الشراء لأهل البدو:

قال الإمام ابن قُدامة رحمه الله: فأما الشراء لهم، فيصح عند أحمد، وهو

(1)

"طرح التثريب" 6/ 75.

ص: 678

قول الحسن، وكرهت طائفة الشراء لهم، كما كرهت البيع، يُروَى عن أنس رضي الله عنه، قال: كان يقال: هي كلمة جامعة، يقول:"لا تبيعنّ له شيئًا، ولا تبتاعنّ له شيئًا"، وعن مالك في ذلك روايتان، ووجه القول الأول، أن النهي غير متناول للشراء بلفظه، ولا هو في معناه، فإن النهي عن البيع؛ للرفق بأهل الحضر؛ ليتسع عليهم السعر، ويزول عنهم الضرر، وليس ذلك في الشراء لهم، إذ لا يتضررون؛ لعدم الغبن للبادين، بل هو دفع الضرر عنهم، والخَلْق في نظر الشارع على السواء، فكما شَرَع ما يدفع الضرر عن أهل الحضر، لا يلزم أن يلزم أهل البدو الضرر. انتهى

(1)

.

وقال وليّ الدين رحمه الله: أما شراء الحاضر للبادي، فاختلف فيه قول مالك، فمرّة منعه، ومرّة قال: لا بأس به، وقال ابن حبيب: الشراء للبادي مثل البيع، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يبيع بعضكم على بيع بعض"، إنما هو لا يشتري أحدكم على شراء بعض، قال: فلا يجوز للحضريّ أن يشتري للبدويّ، ولا أن يبيع له، وبه قال ابن حزم الظاهريّ، وقد عرفت الردّ عليه في حمل البيع في ذلك الحديث على الشراء قريبًا، ولم يتعرّض أصحابنا لمنع شراء الحاضر للبادي. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول بجواز الشراء هو الأرجح؛ إذ الظاهر عدم تناول قوله: "ولا يبع حاضر لباد" للشراء هنا؛ لأنَّ علّة منع البيع هو التوسعة لأهل المدينة ببيع سلعته بسعر يومه، وهذا لا يوجد في الشراء، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): بوّب الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" بقوله: هل يبيع الحاضر للبادي بغير أجر، وهل يُعينه، أو ينصحه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا استنصح أحدكم أخاه، فلينصح له"، قال: ورخّص فيه عطاء، ثم روى حديث جرير رضي الله عنه:"بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على شهادة أن لا إله إلَّا الله، وأن محمدًا رسول الله، والسمع والطاعة، والنصح لكلّ مسلم"، ثم روى حديث ابن عباس رضي الله عنهما:"لا يبيع حاضر لباد"، فقيل لابن عباس: ما قوله: "لا يبيع

(1)

"المغني" 6/ 311.

(2)

"طرح التثريب" 6/ 75.

ص: 679

حاضر لباد؟ "، قال: "لا يكون له سمسارًا"، ثم بوّب"من كره أن يبيع حاضر لباد بأجر"، وروى فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد"، قال: وبه قال ابن عبّاس، ثم بوّب: "لا يبيع حاضر لباد بالسمسرة" قال: وكره ابن سيرين، وإبراهيم للبائع والمشتري، وقال إبراهيم: إن العرب تقول: بع لي ثوبًا، وهي تعني الشراء، ثم روى حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "لا يبيع حاضر لباد".

وقال ابن بطّال: أراد البخاريّ أن يُجيز بيع الحاضر للبادي بغير أجر، ويمنعه إذا كان باجر، واستدلّ على ذلك بقول ابن عبّاس: لا يكون له سمسارًا، فكأنه أجاز ذلك لغير السمسار، إذا كان من طريق النصح، قال: ولم يراع الفقهاء في السمسار أجرًا، ولا غيره، والناس في هذا على قولين: فمن كره بيع الحاضر للبادي كرهه بأجر، وبغير أجر، ومن أجازه أجازه بأجر، وبغير أجر. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي القول بتحريم بيع الحاضر للبادي مطلقًا - كما هو مذهب الجمهور - هو الأرجح؛ لأطلاق النصوص الواردة فيه، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3820]

(1521) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيه، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُتَلَقَّى الرُّكبَانُ، وَأَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، قَالَ: فَقُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا قَوْلُهُ: حَاضِرٌ لِبَادٍ؟ قَالَ: لَا يَكُنْ لَهُ سِمْسَارًا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكِسّيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(عَبْدُ الرَّزاقِ) بن همّام، تقدّم أيضًا قريبًا.

(1)

"طرح التثريب" 6/ 75 - 76.

ص: 680

4 -

(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(ابْنُ طَاوُسٍ) عبد الله، أبو محمد اليمانيّ، ثقةٌ فاضلٌ عابدٌ [6](ت 132)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

6 -

(أَبُوهُ) طاوس بن كيسان، أبو عبد الرَّحمن اليمانيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ [3](ت 106) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

7 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما المتوفى سنة (68)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124، وشرح الحديث يُعلم مما سبق.

وقوله: (أَنْ تُتَلَقَّى الرُّكْبَانُ) ببناء الفعل للمفعول، و"الركبان" مرفوع على أنه نائب الفاعل.

وقوله: (لَا يَكُنْ لَهُ سِمْسَارًا) بمهملتين، الأولى مكسورة، قال في "الفتح": هو في الأصل الْقَيِّم بالأمر، والحافظ له، ثم استُعْمِل في مُتَوَلِّي البيع والشراء لغيره. انتهى

(1)

.

وقال في "اللسان": السِّمْسَارُ: الذي يبيع البُرّ للناس، وقال الليث: السِّمْسار: فارسيّة معرَّبةٌ، والجمع السَّماسِرة، قال: وقيل: السِّمسار: القيّم بالأمر الحافظ له، وهو في البيع اسم للذي يدخل بين البائع والمشتري، متوسّطًا لإمضاء البيع، والسَّمْسَرةُ البيع والشراء. انتهى باختصار

(2)

.

وقال في "المشارق": قوله: "لا يكون سمسارًا"؛ أي: دلالًا، وأصل السمسار: القَيِّم بالأمر الحافظ له، ثم استعمل في متولي البيع والشراء لغيره، قال ابن سِيده: وأصله فارسيّ، وهي السَّمْسَرة، وأنشد الجوهريّ في "الصحاح" للراجز [من الرجز]:

قَدْ وَكَّلَتْنِي طَلَّتِي

(3)

بِالسَّمْسَرَهْ

وَأَيْقَظَتْنِي لِطُلُوعِ الزَّهَرَهْ

وقال في "الفتح": وفي هذا التفسير تعقُّب على من فسر الحاضر بالبادي: بأن المراد نهي الحاضر أن يبيع للبادي في زمن الغلاء شيئًا يَحتاج إليه أهل

(1)

"الفتح" 5/ 633.

(2)

"لسان العرب" 4/ 380 - 381.

(3)

الطلّة: تطلق على الزوجة، وعلى الخمرة اللذيذة، وعلى النعمة. راجع:"لسان العرب" 11/ 406.

ص: 681

البلد، فهذا مذكور في كتب الحنفية. انتهى

(1)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 3820](1521)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2158 و 2163) و"الإجارة"(2274)، و (أبو داود) في "البيوع"(3439)، و (النسائيّ) في "البيوع "(7/ 257)، و"الكبرى"(6091)، و (ابن ماجة) في "التجارات"(2177)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(8/ 199)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 454)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 368)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 264 و 273)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 347)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[3821]

(1522) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْر، عَن جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَبعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ، دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ"، غَيْرَ أَنَّ في رِوَايَةِ يَحْيَى

(2)

: "يُرْزَقُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيميُّ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ) هو: أحمد بن عبد الله بن يونس التميميّ الكوفيّ، نُسب لجدّه، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [10](ت 227) وهو ابن (94) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

3 -

(أَبُو خَيْثَمَةَ) هو زهير المذكور في السند الثاني، وهو زهير بن معاوية بن حُديج الجعفيّ الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 2 أو 3 أو 174)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.

(1)

"الفتح" 5/ 633.

(2)

وفي نسخة: "غير أن رواية يحيى" بحذف كلمة "في".

ص: 682

4 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، تقدّم قريبًا.

5 -

(جَابِرُ) بن عبد الله الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (245) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ)"دَعُوا" أمر بمعنى اتركوا، و"يرزق" مرفوع على الاستئناف المفيد للتعليل، فكأنه قال: دعوهم؛ لأنَّ الله تعالى يرزق بعضهم من بعض، وَيجوز أن يكون مجزومًا على أنَّه جواب الأمر.

والمعنى: اتركوا الناس يتعاملون فيما بينهم، ولا تتدخّلوا في شؤونهم، فإن الله تعالى يرزق المشتري من البائع، ويرزق البائع من المشتري، فلا يحل لأحد التدخل بينهما، فإن البائع إذا ورد من خارج المدينة ببضاعته؛ ليبيعها بما يراه من السعر، فاشتراه منه أهل البلد بما هو مناسب لهم، فقد حصل رزق بعضهم من بعض، وإذا تدخّل غيرهما في ذلك، بأن قال بعض أهل البلد للبائع: إن بضاعتك هذه سيكون لها ثمن أغلى مما تريده الآن، فلتضعها عندي، حتى أنتظر غلاء السعر، فأبيعها لك، فقد أَدخل على أهل المدينة ضررًا بذلك، فلذلك نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال:"لا يبع حاضر لباد"، والله تعالى أعلم.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى) وفي نسخة: "غير أن رواية يحيى" بحذف كلمة "في".

وقوله: ("يُرْزَقُ") أي: ببناء الفعل للمفعول، يعني يحيى بن يحيى رواه مبنيًّا للمفعول، وأما أحمد بن يونس، فقد رواه بلفظ:"يرزق الله بعضهم من بعض"، بالبناء للفاعل، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 3821 و 3822](1522)، و (أبو داود) في

ص: 683

"البيوع"(3442)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1223)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 256) و"الكبرى"(4/ 12)، و (ابن ماجة) في "التجارات"(2176)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(8/ 200)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 173)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 346)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 241)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 543)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 307 و 312 و 386 و 392)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 273 و 275)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4/ 123)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 347) و"الصغرى"(5/ 179) و"المعرفة"(4/ 388)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[3822]

(

) - (حَدَّثَنَا أَ"بو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِيِ الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، وهو أيضًا من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (246) من رباعيّات الكتاب.

[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة، عن أبي الزبير ساقها الترمذيّ في "جامعه" 3/ 526 فقال:

(1223)

حدّثنا نصر بن عليّ، وأحمد بن منيع قالا: حدّثنا سفيان بن عيينة، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يبيع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض"، وقال: حديث حسنٌ صحيح.

وأخرجه الإمام أحمد في "مسنده" مصرّحًا بسماع أبي الزبير عن جابر 3/ 307 فقال:

(14330)

- حدَّثنا عبد الله

(1)

، حدّثني أبي، ثنا سفيان بن عيينة، ثنا أبو الزبير، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يبيع

(1)

هو ابن الإمام أحمد، راوي المسند عنه، فتنبّه.

ص: 684

حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3823]

(1523) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: نُهِينَا أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ أَوْ أَبَاهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يُونُسُ) بن عُبيد بن دينار العبديّ، أبو عبيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ وَرِعٌ [51](ت 139) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.

2 -

(أنسُ بْنُ مَالِكٍ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب، وما قبله.

وقوله: (نُهِينَا

إلخ) هكذا رواية ابن سيرين بإبهام الناهي، وقد أخرج الحديث النسائيّ من طريق يونس بن عُبيد عن الحسن البصريّ، عن أنس رضي الله عنه بلفظ:"أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع حاضر لباد، وإن كان أباه، أو أخاه"، قال الحافظ رحمه الله: فعُلم بهذه الرواية أن الناهي المبهم في الرواية الأولى هو النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو يقوّي المذهب الصحيح أن لقول الصحابيّ:"نهينا عن كذا" حكم الرفع، وأنه في قوّة قوله:"قال النبيّ صلى الله عليه وسلم". انتهى

(1)

.

وقوله: (وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ أَوْ أَبَاهُ) ولفظ النسائيّ: "وإن كان أباه، وأخاه"؛ أي: وإن كان الذي يبيع لأجله أقرب الناس إليه، وإنما جعله غاية؛ تأكيدًا للنهي، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 3823 و 3824](1523)، و (البخاريّ) في

(1)

"الفتح" 5/ 636 رقم (2161).

ص: 685

"البيوع"(2161)، و (أبو داود) في "البيوع"(3440)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 256) و"الكبرى"(4/ 12)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(8/ 199)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 347 و 7/ 324)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5/ 226)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 274)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 10)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 346)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[3824]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَنَسٍ (ع) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُعَاذٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: نُهِينَا عَنْ أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(ابْنُ عَوْنٍ) هو: عبد الله بن عون بن أرطبان البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب، و"معاذ": هو ابن معاذ بن نصر البصريّ، والحديث تقدّم البحث فيه في الذي قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(7) - (بَابُ حُكْمِ بَيْعِ الْمُصَرَّاةِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3825]

(1524) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اشْتَرَى شَاةً مُصَرَّاةً، فَلْيَنْقَلِبْ بِهَا، فَلْيَحْلُبْهَا، فَإِنْ رَضِيَ حِلَابَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِلَّا رَدَّهَا، وَمَعَهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ").

ص: 686

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) الْقَعْنبيّ الحارثيّ، أبو عبد الرَّحمن البصريّ، مدنيّ الأصل، وقد سكنها مدّةً، ثقةٌ عابدٌ، من صغار [9](ت 221)(خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 17/ 617.

2 -

(دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ) الفرّاء الدبّاغ القرشيّ مولاهم، أبو سليمان المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [5] مات في خلافة أبي جعفر (خت م 4) تقدم في "الصلاة" 42/ 1084.

3 -

(مُوسَى بْنُ يَسَارٍ) المطّلبي مولاهم المدنيّ، عم محمد بن إسحاق، صاحب المغازي، ثقةٌ [4].

رَوَى عن أبي هريرة، وعنه ابن أخيه محمد بن إسحاق بن يسار، وعبد الرَّحمن ابن الغَسِيل، وعبيد الله بن عمر العُمَريّ، وأبو معشر، وداود بن قيس الفرّاء، وعثمان بن واقد المدنيون.

قال عباس، عن ابن معين: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له البخاريّ في التعاليق، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1524)، وحديث (1663): "إذا صَنع لأحدكم خادمه طعامه

".

4 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه به تقدّم في الباب الماضي، والسند مسلسلٌ بالمدنيين، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اشْتَرَى شَاةَ مُصَرَّاةً) أي: محبوسة لبنها، أيامًا، فلم تُحلب، قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": والمصرّاة: التي صُرّي لبنها، وحُقِن فيه، وجُمع، فلم يُحلَب أيامًا، وأصل التصرية حبس الماء، يقال منه: صَرّيتُ الماء: إذا حبسته. انتهى.

وقال الإمام النسائيّ رحمه الله في "سننه": التصرية: أن يُربط أخلاف الناقة، أو الشاة - أي: ضروعها - وتترك من الحلب يومين، والثلاثة حتى يجتمع لها لبن، فيزيد مشتريها في قيمتها؛ لِمَا يرى من كثرة لبنها. انتهى.

ص: 687

(فَلْيَنْقَلِبْ)؛ أي: فليرجع (بِهَا)؛ أي: بالمصرّاة إلى بيته (فَلْيَحْلُبْهَا) بضمّ اللام، وكسرها

(1)

، من بابي نصر، وضرب. (فَإِنْ رَضِيَ حِلَابَهَا) بكسر أوله؛ أي: محلوبها، وهو اللبن، قال في "القاموس": الْحَلْبُ - أي: بسكون اللام - ويُحرَّك: استخراج ما في الضرع من اللبن، كالْحِلاب بالكسر، والاحتلاب، يَحْلُبُ - بضمّ اللام - وَيحْلِبُ - بكسرها - والْمِحْلَبُ، والْحِلابُ بكسرهما: إناء يُحْلَبُ فيه. انتهى

(2)

، فأطلق الحلاب هنا، وأراد المحلوب، من إطلاق المصدر على المفعول.

(أَمْسَكَهَا)؛ أي: أمسك المصرّاة لنفسه، ولا يردّها إلى صاحبها (وَإِلَّا) أي: وإن لَمْ يرضها، بل سخطها (رَدَّهَما) وقوله:(وَمَعَهَا صَاعٌ) مبتدأ وخبره، الجملة حالية من المفعول، وقوله:(مِنْ تَمْرٍ) بيان للصاع. وفي رواية البخاريّ من طريق ثابت مولى عبد الرَّحمن بن زيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"وإن سخطها، ففي حَلْبتها صاع تمر".

قال في "الفتح": قوله: "وفي حلبتها" - بسكون اللام -، على أنَّه اسم للفعل، ويجوز الفتح، على إرادة المحلوب، وظاهره أن التمر مقابل للحلبة، وزعم ابن حزم أن التمر في مقابلة الحلب، لا في مقابلة اللبن؛ لأنَّ الحلبة حقيقة في الحلب، مجاز في اللبن، والحمل على الحقيقة أولي، فلذلك قال: يجب رد التمر واللبن معًا، وشَذَّ بذلك عن الجمهور.

وظاهره أيضًا أن صاع التمر، في مقابل المصرّاة، سواء كانت واحدة، أو أكثر؛ لقوله:"من اشترى غنمًا" ثم قال: "ففي حلبتها صاع من تمر"، ونقله ابن عبد البرّ عمن استعمل الحديث، وابن بطال عن أكثر العلماء، وابن قُدامة عن الشافعيّة، والحنابلة، وعن أكثر المالكيّة: يردّ عن كلّ واحدة صاعًا حتى قال المازريّ: من المستبشع أن يغرَّم متلف لبن ألف شاة، كما يغرم متلف لبن شاة واحدة.

وأجيب بأنّ ذلك مغتفر بالنسبة إلى ما تقدّم من أن الحكمة في اعتبار الصاع قطع النزاع، فجُعل حدًّا يُرجع إليه عند التخاصم، فاستوى القليل

(1)

راجع: "القاموس" مادّة: "حَلَبَ".

(2)

"القاموس المحيط" 1/ 57.

ص: 688

والكثير، ومن المعلوم أن لبن الشاة الواحدة، أو الناقة الواحدة، يختلف اختلافًا متباينًا، ومع ذلك فالمعتبر الصاع، سواء قلّ اللبن، أم كثُر، فكذلك هو معتبرٌ، سواء قلّت المصرّاة، أو كثُرت، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

، والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تخريجه قبل بابين، وأذكر هنا ما لَمْ يتقدّم من المسائل، فأقول:

(المسألة الأولى): في فوائده:

1 -

(منها): ما قاله الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: هذا الحديث أصل في النهي عن الغشّ، وأصل في ثبوت الخيار لمن دُلّس عليه بعيب، وأصل في أنه لا يَفسُد أصل البيع، وأصل في أن مدة الخيار ثلاثة أيام، وأصل في تحريم التصرية، وثبوت الخيار بها. انتهى.

وقد روى أحمد، وابن ماجة عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا:"بيع المحفّلات خِلابة، ولا تحل الخلابة لمسلم"، وفي إسناده ضعيف، وقد رواه ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، موقوفًا، بإسناد صحيح.

وروى ابن أبي شيبة، من طريق قيس بن أبي حازم، قال: كان يقال: التصرية خِلابة. وإسناده صحيح، قاله في "الفتح"

(2)

.

2 -

(ومنها): أن بيع المصرّاة صحيحٌ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن رضيها أمسكها"، وهو مجمع عليه، وأنه يثبت للمشتري الخيار، إذا علم بالتصرية، وبه قال الجمهور، وخالف فيه أبو حنيفة، فقال: لا يردّها، بل يرجع بنقصان العيب، وسيأتي الردّ عليه.

3 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: إن العقد المنهيّ عنه المحرّم، إذا كان لأجل الآدميّ، لَمْ يدلُّ على الفساد، ولا يُفسخ به العقد، ألا ترى أن التصرية غشّ، محرّم، ثم إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يفسخ به العقد، لكن جعل للمشتري الخيار؟ انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله القرطبيّ فيه نظر لا يخفي، بل

(1)

"الفتح" 5/ 628 - 629.

(2)

"الفتح" 5/ 626.

(3)

"المفهم" 4/ 372.

ص: 689

الحقّ أن المنهيّ عنه المحرّم فاسد؛ لأنَّ النهي يقتضي الفساد، إلَّا ما خصّه الشرع، من مسألة المصرّاة، وتلقي الجلب، ونحو ذلك، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

4 -

(ومنها): ما قاله أيضًا: إن الغرر بالفعل معتبر شرعًا؛ لأنه صار كالتصريح باشتراط نفي العيب، ولا يختلف في الغرر الفعليّ، وإنما اختُلف في الغرر بالقول، هل هو معتبر، أم لا؟ فيه قولان.

[فرع]: لو كان الضرع كثير اللحم، فظنّه المشتري لبنًا، لَمْ يجب له الخيار؛ إذ لا غرور، ولا تدليس، لا بالفعل، ولا بالقول

(1)

.

5 -

(ومنها): أن التصرية عيب يوجب الخيار، وهو حجة على أبي حنيفة، ومحمد بن الحسن، حيث قالا: إن التصرية ليست بعيب، ولا توجب خيارًا، وقد رُوي عن أبي حنيفة أنَّها عيب توجب الأرش، وقال زفر من أصحابه: يردّ صاعًا من تمر، أو نصف صاع من برّ

(2)

.

6 -

(ومنها): أن بيع الخيار موضوعٌ لتمام البيع، واستقراره، لا للفسخ، وهو أحد القولين عند المالكيّة، وقيل: هو موضوع للفسخ، قال القرطبيّ: والأول أولى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن شاء أمسكها"، والإمساك: استدامة التمسّك لِمَا قد ثبتٌ وجوده، كما قال صلى الله عليه وسلم لغيلان:"أمسك أربعًا، وفارق سائرهنّ"؛ أي استدم حكم العقود السابقة. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): أشار الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" إلى أنه اختُلف في قوله: "وصاعًا من تمر"، فرواه بعضهم:"وصاعًا من طعام"، فقال بعد إيراد هذا الحديث من طريق جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، ما نصّه: ويُذكَر عن أبي صالح، ومجاهد، والوليد بن رَبَاح، وموسى بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"صاع تمر"، وقال بعضهم، عن ابن سيرين:"صاعًا من طعام، وهو بالخيار ثلاثًا"، وقال بعضهم عن ابن سيرين:"صاعًا من تمر"، ولم يذكر "ثلاثًا"، والتمر أكثر. انتهى.

(1)

"المفهم" 4/ 372.

(2)

"المفهم" 4/ 373.

ص: 690

وقد بيّن ما أشار إليه الحافظ في "الفتح"، فقال: قوله: "ويذكر عن أبي صالح، ومجاهد، والوليد بن رباح، وموسى بن يسار

إلخ": يعني أن أبا صالح، ومَن بعده وقع في رواياتهم، تعيين التمر:

فأما رواية أبي صالح، فوصلها أحمد، ومسلم، من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، بلفظ:"من ابتاع شاة مصرّاة، فهو فيها بالخيار، ثلاثة أيام، فإن شاء أمسكها، وإن شاء ردّها، وردّ معها صاعًا من تمر".

وأما رواية مجاهد، فوصلها البزار، قال مغلطاي: لَمْ أرها إلَّا عنده، قال الحافظ: قد وصلها أيضًا الطبراني في "الأوسط" من طريق محمد بن مسلم الطائفي، عن ابن أبي نَجيح، والدارقطنيُّ من طريق الليث بن أبي سليم، كلاهما عن مجاهد، وأولُ رواية ليث:"لا تبيعوا المصراة، من الإبل، والغنم" الحديث، وليث ضعيف، وفي محمد بن مسلم أيضًا لين. وأما رواية الوليد بن رَباح، وهو - بفتح الراء، وبالموحدة -، فوصلها أحمد بن منيع، في "مسنده" بلفظ:"من اشترى مصرّاة، فليردّ معها صاعًا من تمر".

وأما رواية موسى بن يسار، وهو - بالتحتانية، والمهملة - فوصلها مسلم بلفظ:"من اشترى شاة مصرّاة، فلينقلب بها، فليحلبها، فإن رضي بها أمسكها، وإلا ردّها، ومعها صاع من تمر"، وسياقه يقتضي الفورية.

وقوله: "وقال بعضهم، عن ابن سيرين: صاعًا من طعام، وهو بالخيار ثلاثًا"، وقال بعضهم، عن ابن سيرين:"صاعًا من تمر"، ولم يذكر "ثلاثًا":

أما رواية من رواه بلفظ "الطعام"، و"الثلاث"، فوصلها مسلم

(1)

، والترمذيّ، من طريق قُرَّة بن خالد، عنه، بلفظ:"من اشترى مصرّاة، فهو بالخيار ثلاثة أيام، فإن ردّها، ردّ معها صاعًا من طعام، لا سمراء"، وأخرجه أبو داود، من طريق حماد بن سلمة، عن هشام، وحبيب، وأيوب، عن ابن سيرين نحوه.

وأما رواية من رواه بلفظ التمر، دون ذكر الثلاث، فوصلها أحمد، من طريق معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، بلفظ: "من اشترى شاة مصرّاة، فإنه

(1)

هي الرواية التي نحن في شرحها.

ص: 691

يحلبها، فإن رضيها أخذها، وإلا رَدّها وردّ معها صاعًا من تمر"، وقد رواه سفيان، عن أيوب، فذكر الثلاث، أخرجه مسلم

(1)

من طريقه، بلفظ:"من اشترى شاة مصراه، فهو بخير النظرين، ثلاثة أيام، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردّها، وصاعًا من تمر، لا سمراء".

قال: ورواه بعضهم عن ابن سيرين بذكر الطعام، ولم يقل: ثلاثًا، أخرجه أحمد، والطحاوي، من طريق عون، عن ابن سيرين، وخِلاس بن عمرو، كلاهما عن أبي هريرة، بلفظ:"من اشترى لِقحة مصراة، أو شاة مصراة، فحلبها، فهو بأحد النظرين، بالخيار إلى أن يحوزها، أو يردها، وإناء من طعام".

قال الحافظ: فحصلنا عن ابن سيرين على أربع روايات، ذكر التمر والثلاث، وذكر التمر، بدون الثلاث، والطعام بدل التمر كذلك.

والذي يظهر في الجمع بينها، أن من زاد الثلاث، معه زيادة علم، وهو حافظ، ويُحْمَل الأمر فيمن لَمْ يذكرها، على أنَّه لَمْ يحفظها، أو اختصرها، وتُحْمَل الرواية التي فيها الطعام على التمر.

وقد روى الطحاوي، من طريق أيوب، عن ابن سيرين أن المراد بالسمراء الحنطة الشامية. وروى ابن أبي شيبة، وأبو عوانة من طريق هشام بن حسان، عن ابن سيرين:"لا سمراء"؛ يعني الحنطة.

وروى ابن المنذر من طريق ابن عون، عن ابن سيرين؛ أنه سمع أبا هريرة، يقول:"لا سمراء": تمر ليس ببر.

فهذه الروايات تبيّن أن المراد بالطعام التمر، ولمّا كان المتبادر إلى الذهن، أن المراد بالطعام القَمْح، نفاه بقوله:"لا سمراء"، لكن يعكُر على هذا الجمع، ما رواه البزار، من طريق أشعث بن عبد الملك، عن ابن سيرين، بلفظ:"إن ردّها ردّها، ومعها صاع من برّ، لا سمراء"، وهذا يقتضي أن المنفي في قوله:"لا سمراء"، حنطة مخصوصة، وهي الحنطة الشامية، فيكون المثبت قوله:"من طعام"؛ أي: من قمح.

(1)

هي الرواية التالية هنا.

ص: 692

قال: ويَحتمل أن يكون راويه رواه بالمعني، الذي ظنه مساويًا، وذلك أن المتبادر من الطعام البر، فظن الراوي أنه البر، فعبّر به.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن الحكم على هذه الرواية بلفظ: "صاعًا من برّ"المخالفة للروايات الكثيرة بالشذوذ ليس ببعيد، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

قال: وإنما أطلق لفظ الطعام على التمر؛ لأنه كان غالب قوت أهل المدينة، فهذا طريق الجمع، بين مختلف الروايات، عن ابن سيرين في ذلك.

قال: لكن يعكُر على هذا، ما رواه أحمد، في سناد صحيح، عن عبد الرَّحمن بن أبي ليلى، عن رجل من الصحابة، نحو حديث الباب، وفيه:"فإن ردّها ردّ معها صاعًا من طعام، أو صاعًا من تمر"، فإن ظاهره يقتضي التخيير، بين التمر والطعام، وأن الطعام غير التمر. ويَحْتَمِل أن تكون "أو" شكًّا من الراوي، لا تخييرًا.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الاحتمال أولى ما توجّه به هذه الرواية، فتأمله بإمعان.

قال: وإذا وقع الاحتمال في هذه الروايات، لَمْ يصح الاستدلال بشيء منها، فَيُرجَع إلى الروايات التي لَمْ يختلف فيها، وهي التمر، فهي الراجحة، كما أشار إليه البخاريّ.

وأما ما أخرجه أبو داود، من حديث ابن عمر، بلفظ:"إن ردها رد معها مثل، أو مثلي لبنها قَمْحًا"، ففي إسناده ضعف، وقد قال ابن قدامة: إنه متروك الظاهر بالاتفاق. وقوله: "والتمر أكثر"؛ أي: أن الروايات الناصة على التمر أكثر عددًا، من الروايات التي لَمْ تنص عليه، أو أبدلته بذكر الطعام، فقد رواه بذكر التمر غير من تقدم ذكره، ثابت بن عياض عند البخاريّ، وهمام بن منبه عند مسلم

(1)

، وعكرمة، وأبو إسحاق عند الطحاويّ، ومحمد بن زياد، عند الترمذيّ، والشعبيّ عند أحمد، وابن خزيمة، كلهم عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وأما رواية من رواه بذكر الإناء، فيفسرها رواية من رواه بذكر الصاع، وقد تقدم ضبطه في الزكاة. انتهى

(2)

.

(1)

هي الرواية الأخيرة في هذا الباب.

(2)

الفتح" 5/ 619 - 621.

ص: 693

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن الأرجح رواية من رواه:

"وصاعًا من تمر"، وأن رواية من رواه:"وصاعًا من طعام" يردّ إلى معنى الأولي، فالمراد بالطعام هو التمر، وإنما أطلق لفظ الطعام على التمر؛ لأنه كان غالب قوت أهل المدينة، كما تقدّم في كلام الحافظ رحمه الله، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم من اشترى مصرّاة:

ذهب عامّة أهل العلم إلى أن من اشترى مصرّاة من بهيمة الأنعام، لَمْ يَعلم تصريتها، ثم علم، فله الخيار في الرد والإمساك، رُوي ذلك عن ابن مسعود، وابن عمر، وأبي هريرة، وأنس رضي الله عنهم، وإليه ذهب مالك، وابن أبي ليلي، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو يوسف.

وذهب أبو حنيفة، ومحمد، إلى أنه لا خيار له؛ لأنَّ ذلك ليس بعيب، بدليل أنَّها لو لَمْ تكن مصرّاة، فوجدها أقلّ لبنًا من أمثالها، لَمْ يملك ردها، والتدليس بما ليس بعيب، لا يُثبت الخيار، كما لو علفها فانتفخ بطنها، فظن المشتري أنَّها حامل.

واحتجّ الأولون بحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"لا تصرّوا الإبل، والغنم، فمن ابتاعها بعدُ، فإنه بخير النظرين بعد أن يحتلبها، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردّها وصاعًا من تمر"، متَّفقٌ عليه.

قال ابن قُدامة رحمه الله: ولأن هذا تدليس بما يختلف الثمن باختلافه، فوجب به الرد، كما لو كانت شمطاء، فسوّد شعرها، وقياسهم يبطل بتسويد الشعر، فإن بياضه ليس بعيب كالكِبَر، وإذا دلسه ثبتٌ له الخيار، وأما انتفاخ البطن، فقد يكون من الأكل والشرب، فلا معنى لحمله على الحمل، ثم إن هذا القياس مخالف للنص، واتباع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب من غيره. أفاده في "المغني"

(1)

.

وقال في "الفتح": وقد أخذ بظاهر هذا الحديث جمهور أهل العلم، وأفتى به ابن مسعود، وأبو هريرة، ولا مخالف لهما من الصحابة، وقال به من

(1)

راجع: "المغني" 6/ 216 - 217.

ص: 694

التابعين، ومَن بعدهم مَن لا يحصى عدده، ولم يفرقوا بين أن يكون اللبن الذي احتُلِب قليلًا، أو كثيرًا، ولا بين أن يكون التمر قوت تلك البلد، أم لا.

وخالف في أصل المسألة أكثر الحنفية، وفي فروعها آخرون، أما الحنفية، فقالوا: لا يُرَدّ بعيب التصرية، ولا يجب ردّ صاع من التمر، وخالفهم زفر، فقال بقول الجمهور، إلَّا أنه قال: يتخير بين صاع تمر، أو نصف صاع برّ، وكذا قال ابن أبي ليلى، وأبو يوسف في رواية، إلَّا إنهما قالا: لا يتعين صاع التمر، بل قيمته، وفي رواية عن مالك، وبعض الشافعية كذلك، لكن قالوا: يتعين قوت البلد؛ قياسًا على زكاة الفطر، وحكى البغوي أن لا خلاف في المذهب، أنهما لو تراضيا بغير التمر، من قوت، أو غيره كفي، وأثبت ابن كجّ الخلاف في ذلك، وحكى الماوردي وجهين، فيما إذا عجز عن التمر، هل تلزمه قيمته ببلده، أو بأقرب البلاد التي فيها التمر إليه؟ وبالثاني قال الحنابلة.

واعتذر الحنفية عن الأخذ بحديث المصراة، بأعذار شَتَّي، فمنهم من طعن في الحديث؛ لكونه من رواية أبي هريرة، ولم يكن كابن مسعود، وغيره، من فقهاء الصحابة، فلا يؤخذ بما رواه مخالفًا للقياس الجليّ، وهو كلام آذى قائله به نفسه، وفي حكايته غِنًى عن تكلف الرد عليه، وقد ترك أبو حنيفة القياسَ الجليّ لرواية أبي هريرة رضي الله عنه وأمثاله، كما في الوضوء بنبيذ التمر، ومن القهقهة في الصلاة، وغير ذلك، قال الحافظ: وأظن أن لهذه النكتة أورد البخاريّ حديث ابن مسعود، عقب حديث أبي هريرة، إشارةً منه، إلى أن ابن مسعود قد أفتى بوفق حديث أبي هريرة، فلولا أن خبر أبي هريرة في ذلك ثابت، لما خالف ابن مسعود القياس الجليّ في ذلك.

وقال ابن السمعانيّ في "الاصطلام": التعرض إلى جانب الصحابة، علامة على خذلان فاعله، بل هو بدعة وضلالة، وقد اختص أبو هريرة بمزيد من الحفظ؛ لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني الذي أخرجه البخاريّ في "كتاب العلم"، وفي أول "البيوع" أيضًا: وفيه قوله: "إن إخواني من المهاجرين، كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا" الحديث، ثم مع ذلك، لَمْ ينفرد أبو هريرة، برواية هذا الأصل، فقد أخرجه أبو داود، من حديث ابن عمر، وأخرجه الطبراني من وجه

ص: 695

آخر عنه، وأبو يعلى من حديث أنسا، وأخرجه البيهقيّ في "الخلافيات" من حديث عمرو بن عوف المزنيّ، وأخرجه أحمد، من رواية رجل من الصحابة، لَمْ يُسَم.

وقال ابن عبد البر: هذا الحديث مجمع على صحته، وثبوته من جهة النقل، واعتلّ من لَمْ يأخذ به بأشياء، لا حقيقة لها.

ومنهم من قال: هو حديث مضطرب؛ لذكر التمر فيه تارة، والقمح أخرى، واللبن أخرى، واعتباره بالصاع تارة، وبالمثل أو المثلين تارة، وبالاناء أخرى.

والجواب أن الطرق الصحيحة، لا اختلاف فيها، كما تقدم، والضعيف لا يُعِلّ الصحيح.

ومنهم من قال: هو معارض لعموم القرآن، كقوله تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} الآية [النحل: 126].

وأجيب بأنه من ضمان المتلفات، لا العقوبات، والمتلفات تضمن بالمثل، وبغير المثل.

ومنهم من قال: هو منسوخ.

وتُعُقّب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، ولا دلالة على النسخ مع مدعيه؛ لأنهم اختلفوا في الناسخ، فقيل: حديث النهي عن بيع الدَّين بالدَّين، وهو حديث أخرجه ابن ماجة وغيره، من حديث ابن عمر، ووجه الدلالة منه؛ أن لبن المصرّاة، يصير دَينًا في ذمة المشتري، فماذا أُلزم بصاع من تمر، نسيئةً صار دَينًا بدَين، وهذا جواب الطحاويّ.

وتُعُقِّب بأن الحديث ضعيف، باتفاق المحدثين، وعلى التنزّل، فالتمر إنما شُرع في مقابل الحلب، سواء كان اللبن موجودًا، أو غير موجود، فلم يتعيّن في كونه من الدَّين بالدَّين. وقيل: ناسخه حديث: "الخراجُ بالضمان"، وهو حديث أخرجه أصحاب "السنن" عن عائشة رضي الله عنها، وجهة الدلالة منه؛ أن اللبن فضلة من فضلات الشاة، ولو هلكت لكان من ضمان المشتري، فكذلك فضلاتها، تكون له، فكيف يُغَرَّم بدلها للبائع؟ حكاه الطحاوي أيضًا.

وتُعُقّب بأن حديث المصرّاة أصح منه باتفاق، فكيف يُقَدّم المرجوح على

ص: 696

الراجح؟ ودعوى كونه بعده، لا دليل عليها، وعلى التنزل، فالمشتري لَمْ يؤمر بغرامة ما حدَث في ملكه، بل بغرامة اللبن الذي ورد عليه العقد، ولم يدخل في العقد، فليس بين الحديثين على هذا تعارض.

وقيل: ناسخه الأحاديث الواردة في رفع العقوبة بالمال، وقد كانت مشروعة قبل ذلك، كما في حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه، في مانع الزكاة:"فإنا آخذوها وشطر ماله"، وحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه في الذي يَسرِق من الجرين، "يُغَرَّم مثليه"، وكلاهما في "السنن"، وهذا جواب عيسى بن أبان، فحديث المصرّاة من هذا القبيل، وهي كلها منسوخة.

وتَعَقّبه الطحاويّ بأن التصرية، إنما وجدت من البائع، فلو كان من ذلك الباب للزمه التغريم، والفرض أن حديث المصرّاة، يقتضي تغريم المشترى فافترقا.

ومنهم من قال: ناسخه حديث: "البيعان بالخيار، ما لَمْ يتفرقا"، وهذا جواب محمد بن شجاع، ووجه الدلالة منه، أن الفرقة تقطع الخيار، فثبت أن لا خيار بعدها، إلَّا لمن استثناه الشارع بقوله:"إلَّا بيع الخيار".

وتعقبه الطحاويّ بأن الخيار الذي في المصراة، من خيار الرد بالعيب، وخيار الرد بالعيب لا تقطعه الفرقة.

ومن الغريب أنهم لا يقولون بخيار المجلس، ثم يحتجون به فيما لَمْ يرد فيه.

ومنهم من قال: هو خبر واحد، لا يفيد إلَّا الظن، وهو مخالف لقياس الأصول، المقطوع به، فلا يلزم العمل به.

وتُعُقّب بأن التوقف في خبر الواحد، إنما هو في مخالفة الأصول، لا في مخالفة قياس الأصول، وهذا الخبر إنما خالف قياس الأصول، بدليل أن الأصول: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، والكتاب والسنة في الحقيقة، هما الأصل، والآخران مردودان إليهما، فالسنة أصل، والقياس فرع، فكيف يردّ الأصل بالفرع؟ بل الحديث الصحيح أصل بنفسه، فكيف يقال: إن الأصل يخالف نفسه؟ وعلى تقدير التسليم بكون قياس الأصول، يفيد القطع، وخبر الواحد لا يفيد إلَّا الظن، فتناوُل الأصلِ لمحلّ هذا الخبر الواحد، غير مقطوع به؛ لجواز استثناء محله من ذلك الأصل.

ص: 697

قال ابن دقيق العيد: وهذا أقوى متمسَّك به، في الردّ على هذا المقام.

وقال ابن السمعانيّ: متى ثبتٌ الخبر صار أصلًا من الأصول، ولا يُحتاج إلى عرضه على أصل آخر؛ لأنه إن وافقه فذاك، وإن خالفه فلا يجوز رد أحدهما؛ لأنه رد للخبر بالقياس، وهو مردود باتفاق، فإن السنة مقدمة على القياس بلا خلاف، إلى أن قال: والأولى عندي في هذه المسألة، تسليم الأقيسة، لكنها ليست لازمة؛ لأنَّ السنة الثابتة مقدمة عليها، والله تعالى أعلم.

وعلى تقدير التنزل، فلا نسلّم أنه مخالف لقياس الأصول؛ لأنَّ الذي ادَّعَوه عليه من المخالفة، بيّنوها بأوجه:

[أحدهما]: أن المعلوم من الأصول، أن ضمان المثليات بالمثل، والمتقومات بالقيمة، وههنا إن كان اللبن مثليأ، فليضمن باللبن، وإن كان متقومًا، فليضمن بأحد النقدين، وقد وقع هنا مضمونًا بالتمر، فخالف الأصل.

[والجواب]: منع الحصر، فإن الحرّ يُضمن في ديته بالإبل، وليست مثلًا، ولا قيمةً، وأيضًا فضمان المثل ليس مطّردًا، فقد يُضمن المثل بالقيمة، إذا تعذرت المماثلة، كمن أتلف شاة لبونًا، كان عليه قيمتها، ولا يجعل بإزاء لبنها لبنًا آخر؛ لتعذر المماثلة.

[ثانيها]: أن القواعد تقتضي، أن يكون المضمون مُقَدَّر الضمان بقدر التالف، وذلك مختلف، وقد قدّرنا هنا بمقدار واحد، وهو الصاع، فخرج عن القياس.

[والجواب]: منع التعميم في المضمونات؛ كالموضِحة، فأرشها مُقَدَّر، مع اختلافها بالكبر والصغر، والغرةِ مقدرة في الجنين، مع اختلافه، والحكمة في ذلك، أن كلّ ما يقع فيه التنازع، فليقدّر بشيء معين؛ لقطع التشاجر، وتُقدَّم هذه المصلحة على تلك القاعدة، فإن اللبن الحادث بعد العقد، اختلط باللبن الموجود وقت العقد، فلم يُعرف مقداره حتى يوجب نظيره على المشتري، ولو عُرف مقداره، فوُكل إلى تقديرهما، أو تقدير أحدهما، لأفضى إلى النزاع والخصام، فقطع الشارع النزاع والخصام، وقدّره بحد لا يتعديانه؛ فصلًا للخصومة، وكان تقديره بالتمر أقرب الأشياء إلى اللبن، فإنه كان قوتهم إذ ذاك؛ كاللبن وهو مكيل كاللبن، ومقتات، فاشتركا في كون كلّ واحد منهما

ص: 698

مطعومًا، مقتاتًا، مكيلَا واشتركا أيضًا في أن كلًّا منهما يُقتات به بغير صنعة، ولا علاه.

[ثالثها]: أن اللبن التالف، إن كان موجودًا عند العقد، فقد ذهب جزء من المعقود عليه، من أصل الخلقة، وذلك مانع من الرد، فقد حدث على ملك المشتري، فلا يضمنه، وإن كان مختلطًا، فما كان منه موجودًا عند العقد، وما كان حادثًا لَمْ يجب ضمانه.

[والجواب]: أن يقال: إنما يمتنع الرد بالنقص، إذا لَمْ يكن لاستعلام العيب، وإلا فلا يمتنع، وهنا كذلك.

[رابعها]: أنه خالف الأصول، في جعل الخيار فيه ثلاثًا، مع أن خيار العيب، لا يقدّر بالثلاث، وكذا خيار المجلس عند من يقول به، وخيار الرؤية عند من يثبته.

[والجواب]: بأن حكم المصرّاة انفرد بأصله عن ممائلة، فلا يُستغرب أن ينفرد بوصف زائد على غيره، والحكمة فيه أن هذه المدة هي التي يتبيَّن بها لبن الخلقة، من اللبن المجتمع بالتدليس غالبًا، فشُرعت لاستعلام العيب، جخلاف خيار الرؤية والعيب، فلا يتوقف على مدة، وأما خيار المجلس، فليس لاستعلام العيب، فظهر الفرق بين الخيار في المصراة، وغيرها.

[خامسها]: أنه يلزم من الأخذ به، الجمع بين العوض والمعوَّض، فيما إذا كانت قيمة الشاة صاعًا من تمر، فإنها ترجع إليه من الصاع الذي هو مقدار ثمنها.

[والجواب]: أن التمر عوض عن اللبن، لا عن الشاة، فلا يلزم ما ذكروه.

[سادسها]: أنه مخالف لقاعدة الربا، فيما إذا اشترى شاة بصاع، فإذا استرد معها صاعًا، فقد استرجع الصاع الذي هو الثمن، فيكون قد باع شاة وصاعًا بصاع.

[والجواب]: أن الربا إنما يُعتبر في العقود، لا الفسوخ، بدليل أنهما لو تبايعا ذهبًا بفضة، لَمْ يجز أن يتفرقا قبل القبض، فلو تقايلا في هذا العقد بعينه، جاز التفرق قبل القبض.

ص: 699

[سابعها]: أنه يلزم منه ضمان الأعيان مع بقائها، فيما إذا كان اللبن موجودًا، والأعيان لا تضمن بالبدل، إلَّا مع فواتها، كالمغصوب.

[والجواب]: أن اللبن، وإن كان موجودًا، لكنه تعذر رده؛ لاختلاطه باللبن الحادث بعد العقد، وتعذر تمييزه، فأشبه السابق، بعد الغصب، فإنه يضمن قيمته مع بقاء عينه؛ لتعذر الرد.

[ثامنها]: أنه يلزم منه إثبات الرد بغير عيب، ولا شرط، أما الشرط فلم يوجد، وأما العيب فنقصان اللبن، لو كان عيبًا لثبت به الرد، من غير تصرية.

[والجواب]: أن الخيار يثبت بالتدليس، كمن باع رَحًى دائرة، بما جمعه لها بغير علم المشتري، فإذا اطلع عليه المشتري، كان له الرد، وأيضًا فالمشتري لَمّا رأى ضرعًا، مملوءًا لبنًا، ظن أنه عادة لها، فكأنّ البائع شرط له ذلك، فتبيَّن الأمر بخلافه، فثبت له الرد؛ لفقد الشرط المعنويّ؛ لأنَّ البائع يُظهر صفة المبيع تارة بقوله، وتارة بفعله، فإذا أظهر المشتريَ على صفة، فبان الأمر بخلافها، كان قد دلّس عليه، فشرع له الخيار، وهذا هو محض القياس، ومقتضى العدل، فإن المشتري إنما بذل ماله؛ بناء على الصفة التي أظهرها له البائع، وقد أثبت الشارع الخيار للركبان، إذا تُلُقُّوا، واشتُرِيَ منهم قبل أن يَهبِطوا إلى السوق، ويعلموا السعر، وليس هناك عيب، ولا خُلْف في شرط، ولكن لِمَا فيه من الغش والتدليس.

(ومنهم): من قال: الحديث صحيح، لا اضطراب فيه، ولا علة، ولا نسخ، وإنما هو محمول على سورة مخصوصة، وهو ما إذا اشترى شاة، بشرط أنَّها تحلب مثلًا خمسة أرطال، وشرط فيها الخيار، فالشرط فاسد، فإن اتفقا على إسقاطه في مدة الخيار، صح العقد، وإن لَمْ يتفقا بطل العقد، ووجب ردّ الصاع من التمر؛ لأنه كان قيمة اللبن يومئذ. وتُعُقّب بأن الحديث ظاهر في تعليق الحكم بالتصرية، وما ذكره هذا القائل، يقتضي تعليقه بفساد الشرط، سواء وُجدت التصرية، أم لا؟ فهو تأويل مُتعَسَّف، وأيضًا فلفظ الحديث لفظ عموم، وما ادّعوه على تقدير تسليمه، فرد من أفراد ذلك العموم، فيحتاج من ادعى قصر العموم عليه الدليلَ على ذلك، ولا وجود له. انتهى ما في

ص: 700

"الفتح"

(1)

بطوله، وهو بحث نفيسٌ جدًّا.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بهذا كلّه أن الحقّ هو ما عليه الجمهور من ثبوت الخيار بسبب التصرية، كما نصّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف العلماء في ردّ بدل اللبن:

ذهب كلّ من جوّز رد المصرّاة بعيب التصرية إلى أنه إذا علم التصرية، واختار الرد بعد أن حلبها، لزمه رد بدل اللبن، وهو مقدَّر في الشرع بصاع من تمر، كما في الحديث الصحيح المذكور في الباب، ولا فرق في ذلك بين الغنم، والإبل، وغيرهما مما أُلحق بهما، ولا بين أن يكون اللبن قليلًا، أو كثيرًا، ولا بين أن يكون التمر قوت البلد، أم لا. وهذا مذهب مالك، والشافعيّ، والليث، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي ثور.

وذهب مالك، وبعض الشافعية، إلى أن الواجب صاع، من غالب قوت البلد؛ لأنَّ في بعض طرق الحديث:"وردّ معها صاعًا من طعام"، وفي بعضها:"وردّ معها مثل أو مثلي لبنها قَمْحًا"، فجمع بين الأحاديث، وجعل تنصيصه على التمر؛ لأنه غالب قوت البلد في المدينة، ونص على القَمْح؛ لأنه غالب قوت بلد آخر.

وقال أبو يوسف: يردّ قيمة اللبن؛ لأنه ضمان متلف، فكان مقدرًا بقيمته، كسائر المتلفات، وحكي ذلك عن ابن أبي ليلى، وحكي عن زفر: أنه يردّ صاعًا من تمر، أو نصف صاع من بر، بناءً على قولهم في الفطرة، والكفارة.

وحجة الأولين الحديث الصحيح المذكور، وهو المعتمد عليه في هذه المسألة، وقد نصّ فيه على التمر، فقال:"إن شاء ردّها وصاعًا من تمر"، وفي لفظ:"من اشترى غنمًا مصراة، فاحتلبها، فإن رضيها أمسكها، وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر"، وفي لفظ:"وردّ صاعًا من تمر، لا سمراء"، وفي

(1)

"الفتح" 5/ 621 - 626.

ص: 701

لفظ: "طعامًا، لا سمراء": يعني لا يردّ قَمْحًا، والمراد بالطعام ها هنا التمر؛ لأنه مطلق في أحد الحديثين، مقيد في الآخر في قضية واحدة، والمطلق فيما هذا سبيله يحمل على المقيد، وحديث ابن عمر، مُطَّرح الظاهر بالإتفاق، إذ لا قائل بإيجاب مثل لبنها، أو مثلي لبنها قَمْحًا، ثم قد شك فيه الراوي، وخالفته الأحاديث الصحاح، فلا يعوّل عليه.

وقياس أبي يوسف مخالف للنص، فلا يلتفت إليه، ولا يبعد أن يقدّر الشرع بدل هذا المتلف، قطعًا للخصومة، ودفعًا للتنازع، كما قدّر بدل الآدمي، ودية أطرافه، ولا يمكن حمل الحديث، على أنَّ الصاع كان قيمة اللبن، فلذلك أوجبه؛ لوجوه ثلاثة:

[أحدها]: أن القيمة هي الأثمان، لا التمر.

[الثماني]: أنه أوجب في المصراة من الإبل، والغنم جميعًا، صاعًا من تمر، مع اختلاف لبنها.

[الثالث]: أن لفظه للعموم، فيتناول كلّ مصرّاة، ولا يتفق أن تكون قيمة لبن كلّ مصراة صاعًا، وإن أمكن أن يكون كذلك، فيتعين إيجاب الصاع؛ لأنه القيمة التي عيّن الشارع إيجابها، فلا يجوز أن يعدل عنها.

وإذ قدمت هذا، فإنه يجب أن يكون الصاع من التمر جيدًا، غير معيب؛ لأنه واجب بإطلاق الشارع، فينصرف إلى ما ذكوناه، كالصاع الواجب في الفطرة، ولا يجب أن يكون من الأجود، بل يجوز أن يكون من أدنى ما يقع عليه اسم الجيد، ولا فرق بين أن تكون قيمة التمر، مثل قيمة لبن الشاة، أو أقلّ، أو أكثر، نص عليه أحمد، وليس هذا جمعًا بين البدل والمبدَل؛ لأنَّ التمر بدل اللبن، قدّره الشرع به، كما قدّر في يدي العبد قيمته، وفي يديه ورجليه قيمته مرتين، مع بقاء العبد على ملك سيده.

وإن عُدم التمر في موضعه، فعليه قيمته في الموضع الذي وقع عليه العقد؛ لأنه بمثابة عين أتلفها، فيجب عليه قيمتها، أفاده في "المغني"

(1)

، وهو بحثّ جيّدٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"المغني" لابن قدامة رحمه الله 6/ 217 - 219.

ص: 702

(المسألة الخامسة): قال ابن قُدامة رحمه الله: إن علم بالتصرية قبل حلبها، مثل أن أقر به البائع، أو شهد به من تُقبل شهادته، فله ردّها، ولا شيء معها؛ لأنَّ التمر إنما وجب بدلًا للبن المحتلب، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من اشترى غنمًا مصراة، فاحتلبها، فإن رضيها أمسكها، وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر"، ولم يأخذ لها لبنًا ها هنا، فلم يلزمه ردّ شيء معها، وهذا قول مالك، قال ابن عبد البر: هذا ما لا خلاف فيه.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: فيه أن الخلاف موجود، فقد قال في "الفتح": فيه وجه للشافعية، ويرجح أنه لا يثبت، رواية عكرمة، عن أبي هريرة، في هذا الحديث عند الطحاويّ، فإن لفظه:"من اشترى مُصَرّاة، ولم يعلم أنَّها مصراة" الحديث. انتهى.

قال الجامع: لكن الحديث ضعيف؛ لأنَّ في إسناده ابن لَهِيعة، فظهر بهذا أن الصحيح أنه يثبت له الخيار، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

قال ابن قدامة: وأما لو احتلبها، وترك اللبن بحاله، ثم ردّها ردّ لبنها، ولا يلزمه أيضًا بشيء؛ لأنَّ المبيع إذا كان موجودًا، فردّه لَمْ يلزمه بدله، فإن أبي البائع قبوله، وطلب التمر، لَمْ يكن له ذلك، إذا كان بحاله لَمْ يتغير، وقيل: لا يلزمه قبوله؛ لظاهر الخبر، ولأنه قد نقص بالحلب، وكونه في الضرع أحفظ له، ولنا إنه قَدِر على ردّ المبدَل، فلم يلزمه البدل؛ كسائر المبدلات مع

أَبدالها، والحديث المراد به التمر، حالة عدم اللبن؛ لقوله:"ففي حلبتها صاع من تمر"، ولمَا ذكرنا من المعنى، وقولهم: إن الضرع أحفظ له لا يصح؛ لأنه لا يمكن إبقاؤه في الضرع على الدوام، وبقاؤه يضر بالحيوان.

وإن كان اللبن قد تغيَّر ففيه وجهان: أحدهما لا يلزمه قبوله، وهذا قول مالك؛ للخبر، ولأنه قد نقص بالحموضة، فأشبه ما لو أتلفه، والثاني يلزمه قبوله؛ لأنَّ النقص حصل بإسلام المبيع، وبتغرير البائع، وتسليطه على حلبه، فلم يمنع الرد كلبن غير المصراة. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في ثبوت التصرية في البقرة:

ذهب الجمهور إلى أنه لا فرق في التصرية، بين الشاة، والناقة، والبقرة،

ص: 703

وشذ داود، فقال: لا يثبت الخيار بتصرية البقرة؛ لأنَّ الحديث: "لا تصروا الإبل والغنم"، فدل على أنَّ ما عداهما بخلافهما، ولأن الحكم ثبت فيهما بالنص، والقياس لا تثبت به الإحكام، واحتجّ الجمهور بعموم قوله:"من اشترى مصراة، فهو بالخيار ثلاثة أيام"، وفي حديث ابن عمر:"من ابتاع مُحَفَّلة"، ولم يفصل، ولأنه تصرية بلبن من بهيمة الأنعام، فأشبه الإبل والغنم، والخبر فيه تنبيه على تصرية البقر؛ لأنَّ لبنها أغزر، وأكثر نفعًا، وقولهم: إن الأحكام لا تثبت بالقياس ممنوع، ثم هو ههنا ثبتٌ بالتنبيه، وهو حجة عند الجميع، قاله في "المغني"

(1)

، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم مصرّاة غير بهيمة الأنعام:

قال ابن قدامة رحمه الله: فإن اشترى مصرَّاة من غير بهيمة الأنعام، كالأمة، والأتان، والفرس، ففيه وجهان:

[أحدهما]: يثبت له الخيار، اختاره ابن عقيل، وهو ظاهر مذهب الشافعيّ؛ لعموم قوله:"من اشترى مصراة"، و"من اشترى محفَّلة"، ولأنه تصرية بما يختلف الثمن به، فأثبت الخيار، كتصرية بهيمة الأنعام، وذلك أن لبن الآدمية يراد للرضاع، ويرغب فيها ظئرًا، ويُحَسِّن ثديها، ولذلك لو اشترط كثرة لبنها، فبان بخلافه، مَلَك الفسخ، ولو لَمْ يكن مقصودًا لَمَا ثبتٌ باشتراطه، ولا ملك الفسخ بعدمه، ولأن الأتان والفرس يرادان لولدهما.

[والثاني]: لا يثبت به الخيار؛ لأنَّ لبنها لا يعتاض عنه في العادة، ولا يُقصد قصد لبن بهيمة الأنعام، والخبر ورد في بهيمة الأنعام، ولا يصح القياس عليه؛ لأنَّ قصد لبن بهيمة الأنعام أكثر، واللفظ العام أريد به الخاص، بدليل أنه أمر في ردّها بصاع من تمر، ولا يجب في لبن غيرها، ولأنه ورد عامًا وخاصًا في قضية واحدة، فيحمل العام على الخاص، ويكون المراد بالعام في أحد الحديثين الخاصَّ في الحديث الآخر.

(1)

"المغني" 6/ 221 - 222.

ص: 704

وعلى الوجه الأول، إذا ردها لَمْ يلزم بدل لبنها، ولا يردّ معها شيئًا؛ لأنَّ هذا اللبن لا يباع عادة، ولا يعاوض عنه. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي القول الثاني - وهو عدم ثبوت الخيار في غير بهيمة الأنعام - أرجح؛ لظهور حجته، فتأمله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة): قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: [إن قلت]: قوله: "بعد أن يحلبها" يقتضي أنه لا يثبت الخيار إلَّا بعد الحلب، مع أنه ثابتٌ قبله، إذا علم التصرية.

[قلت]: قال الشيخ تقيّ الدين في "شرح العمدة": جوابه أنه يقتضي إثبات الخيار في هذين الأمرين المعنيين، أعني الإمساك والرّدّ مع الصاع، وهذا إنما يكون بعد الحلب؛ لتوقّف هذين المعنيين على الحلب؛ لأنَّ الصاع عوضٌ عن اللبن، ومن ضرورة ذلك الحلب. انتهى.

قال وليّ الدين: وقد يجاب عنه بأن التصرية لا تُعرف غالبًا إلَّا بالحلب؛ لأنه إذا حلب أَوّلًا لبنًا غزيرًا، ثم حلب ثانيًا لبنًا قليلًا، عُرف حينئذ ذلك، فعبّر بالحلب عن معرفة التصرية؛ لأنه ملازم له غالبًا، والله أعلم. انتهى

(1)

، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة التاسعة): في اختلاف أهل العلم في الردّ، هل هو على الفور، أم لا؟

ذهب بعضهم إلى أنه على الفور؛ كسائر العيوب، وصححه البغويّ، والرافعيّ، والنوويّ؛ لظاهر قوله:"وإن كرهها ردّها".

وذهب بعضهم إلى أنه يمتدّ إلى ثلاثة أيام؛ لقوله: "فهو بالخيار ثلاثة أيام"، وصوّبه ابن دقيق العيد في "شرح العمدة"، وهو الصحيح، وحُكي عن نصّ الشافعيّ، وقال ابن المنذر: إنه مذهب الشافعيّ، وهو مذهب الحنابلة، وجواب الأولين عن هذه الرواية بحملها على ما إذا لَمْ يعلم أنَّها مصرّاة إلَّا في ثلاثة أيام؛ لأنَّ الغالب أنه لا يُعلم فيما دون ذلك، فإنه إذا نقص لبنها في اليوم

(1)

"طرح التثريب" 6/ 78.

ص: 705

الثاني عن الأول، احتَمَل كون النقص لعارض، من سوء مرعاها في ذلك اليوم، أو غير ذلك، فإذا استمرّ كذلك ثلاثة أيام، عُلم أنَّها مصرّاة، مما لا يُلتفت إليه؛ لكونه خلاف الظاهر، والله تعالى أعلم.

ثم اختلف القائلون بامتداد الخيار ثلاثة أيام في ابتدائها، وللشافعيّة في ذلك وجهان:

[أحدهما]: أن ابتداءها من العقد.

[الثاني]: أنه من التفرّق، وشبّهوا الوجهين بالوجهين في خيار الشرط، ومقتضى ذلك أن الراجح أن ابتداءها من العقد، وقال الحنابلة: إن ابتداءها من حين تبيّنت التصرية، قاله في "الطرح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الحنابلة هو الأرجح عندي؛ لموافقته لظاهر الحديث، حيث رتّب ثبوت الخيار بما بعد الحلب، وهو معنى تبيّن التصرية، فافهم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة العاشرة): قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: رتّب الشافعيّة على القول بامتداد الخيار ثلاثة أيام فروعًا:

[منها]: أنه لو عرف التصرية قبل ثلاثة أيام امتدّ الخيار إلى آخر الثلاثة فقط.

[ومنها]: أنه لو عَرَف التصرية في آخر الثلاثة، أو بعدها، فلا خيار على القول بأن مدّته ثلاثة أيام؛ لامتناع مجاوزة الثلاثة.

[ومنها]: أنه لو اشترى عالمًا بالتصرية، ثبتٌ له الخيار ثلاثة أيام، وأما على القول بأنه على الفور، فلا يختلف الحكم في الفرعين الأولين، ولا خيار في الثالث؛ كسائر العيوب. قال وليّ الدين رحمه الله: وفيما ذكره أصحابنا في هذه الفروع نظرٌ، والظاهر أن الشارع إنما اعتبر المدّة من حين معرفة سبب الخيار، وإلا كان يلزم أن يكون الفور متَّصلًا بالعقد، ولو لَمْ يعلم به لخيف أنه إذا تأخّر علمه به عن العقد، فات الخيار، وهذا لا يمكن القول به، ويلزم على ما ذكروه أن يكون الفور أوسع من ثلاث في الفرع الثاني، وهو بعيد، ويلزم عليه

(1)

"طرح التثريب" 6/ 79.

ص: 706

أيضًا أن تُحسب المدّة قبل التمكن من الفسخ، وذلك يفوّت مقصود التوسيع بالمدّة، ويؤدّي إلى نقصانها فيما إذا لَمْ يعلم به إلَّا بعد مضيّ بعضها، وهذا مما يقوّي مذهب الحنابلة في ذلك، وهو عندي أظهر، وأوفق للحديث، وللمعني، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الحافظ وليّ الدين رحمه الله، من ترجيح مذهب الحنابلة؛ لموافقته ظاهر النصّ، إنصاف منه رحمه الله، ويا ليت جميع أتباع المذاهب سلكوا هذا المسلك؛ فإنه عَيْنُ اتّباع الحقّ، والحقّ أحقّ أن يتّبع، لكننا نرى العجب العجاب، حينما يبذل متأخروهم - إلَّا من عصمه الله - قصارى جهدهم في الدفاع عن مذهبهم، إذا خالف النصوص بالتأويلات الزائفة، والتكلّفات الباردة، - كما أسلفنا آنفًا عن الحنفيّة في ردّهم حديث المصرّاة - فإنّا لله وإنا إليه راجعون.

فيا أيها المسلم الحريص على دينه، اتبع الحقّ، فكن غيورًا على النصوص، وابْذُل جهدك في الدفاع عنها، وإن أدّى ذلك إلى مخالفة رأي إمامك، فإنك مسؤول عن الكتاب والسنّة، لا عن آراء الرجال، وآراؤهم إنما تُطلَب للاستعانة بها على فهمهما فقط، فأيّ استعانة إذا خالفتهما؟

وبالجملة فليس هناك أحد أوجب الله اتباعه، وأناط الهدى والفلاح به، إلَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الله سبحانه وتعالى:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، وقال سبحانه وتعالى:{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]، كما قال تعالى:{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] اللَّهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الحادية عشرة): أن ظاهره أنه لا خيار فيما إذا لَمْ يقصد البائع التصرية، بل ترك الحلب، ناسيًا، أو لشغل عرض له، أو تصرّت هي بنفسها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن التصرية لأجل البيع، ثم ذكر أن من اشترى ما هو بهذه الصفة تخيّر، وهذه الصورة المذكورة لَمْ يقع فيها تصرية لأجل البيع، وبهذا جزم

(1)

"طرح التثريب" 6/ 79.

ص: 707

الغزاليّ، وتبعه عبد الغفّار القزوينيّ في "الحاوي الصغير"، وحَكَى البغويّ فيها وجهين، وصحح ثبوت الخيار لحصول الضرر للمشتري، وإن لَمْ يقصد البائع التدليس، قاله في "الطرح".

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما صححه البغويّ أرجح؛ نظرًا لتضرّر المشتري، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية عشرة): ظاهر الحديث أنه إذا تبيّن للمشتري التصرية، لكن درّ اللبن علي الحدّ الذي أشعرت به التصرية، واستمرّ كذلك، ثبتٌ له الخيار؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أطلق ثبوت الخيار، ولم يفصّل، لكن تغيّر الحال عما كان عليه، وصيرورتها ذات لبن غزير بعد أن لَمْ تكن كذلك قبل التصرية سورة نادرة، فيظهر أنَّها مرادة من العموم، فلا. خيار فيها، وفي المسألة وجهان للشافعيّة، قال وليّ الدين: وينبغي بناؤهما على أنَّ الفرع النادر هل يدخل في العموم، أم لا؟ والصحيح في الأصول دخوله، لكن شبّه أصحابنا الوجهين بالوجهين فيما إذا لَمْ يعرف العيب القديم إلَّا بعد زواله، وبالقولين فيما لو عتقت الأمة تحت عبد، ولم تعلم عتقها حتى عتق العبد، ومقتضى التشبيه تصحيح أنه لا خيار له، كما هو الصحيح في تينك الصورتين. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عدم ثبوت الخيار هو الذي يظهر لي؛ لأنه إنما شُرع دفعًا للضرر، وقد زال، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة عشرة): قال وليّ الدين رحمه الله: أخذ أصحابنا من ثبوت الخيار في المصرّاة ثبوت الخيار في كلّ موضع حصل فيه تدليسٌ، وتغرير من البائع، كما لو حبس ماء القناة، أو الرحى، ثم أرسله عند البيع، أو الإجارة، فظنّ المشتري كثرته، ثم تبيّن له الحال، أو حمّر وجه الجارية، أو سوّد شعرها، أو جعّده، أو أرسل الزنبور على وجهها، فظنها المشتري سمينة، ثم بان خلافه، فله الخيار في هذه الصور كلّها.

وحكى أصحابنا خلافًا فيما لو لطّخ ثوب العبد بمداد، أو ألبسه ثوب الكتّاب، أو الخبّازين، وخيّل كونه كاتبًا، أو خبّازًا، فبان خلافه، أو أكثر علف البهيمة، حتى انتفخ بطنها، فظنها المشتري حاملًا، أو أرسل الزنبور على

ص: 708

ضرعها، فانتفخ، فظنها لبونًا، والأصحّ في هذه الصور أنه لا خيار؛ لتقصير المشتري، وأثبت المالكيّة الخيار في تلطيخ الثوب بالمداد. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي القول بثبوت الخيار في هذه الصور كلها أظهر؛ لأنَّ الغرر بها لا يقلّ عن الغرر بالتصرية، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3826]

(

) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ - يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيّ - عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنِ ابْتَاعَ شَاةً مُصَرَّاةً فَهُوَ فِيهَا بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا، وَرَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم تقدّموا قريبًا، وأصل الحديث متّفقٌ عليه، كما سبق تخريجه، وأما بهذا السياق فهو من أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3827]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَبَلَةَ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ - يَعْنِي الْعَقَدِيَّ - حَدثنَا قُرَّةُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنِ اشْتَرَى شَاةً مُصَرَّاةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أيَّامٍ، فَإِنْ رَدَّهَا رَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، لَا سَمْرَاءَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَبَلَةَ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ) هو: محمد بن عمرو بن عبّاد بن جبَلَة بن أبي رَوَّاد الْعَتَكيّ، أبو جعفر البصريّ، صدوقٌ [11](ت 234)(م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 348.

2 -

(أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ) عبد الملك بن عمرو الْقَيسيّ البصريّ، ثقةٌ [9](ت 4 أو 205)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.

ص: 709

3 -

(قُرَّةُ) بن خالد السَّدُوسيّ البصريّ، ثقةٌ ضابطٌ [6](ت 155)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 126.

4 -

(مُحَمَّدُ) بن سيرين، تقدّم في الباب الماضي.

و"أبو هريرة رضي الله عنه" ذُكر قبله.

وقوله: (صَاعًا مِنْ طَعَام) قال وليّ الدين رحمه الله: يَحْتَمِل أن يريد بالطعام فيه: التمر، بدليل الرواية الأخرى، وعلى هذا مشى البيهقيّ، فقال: المراد بالطعام المذكور فيه التمر، واستدلّ على ذلك بالرواية الأخرى.

ويَحْتَمِل أن يريد مطلق الطعام، ثم أخرج منه السمراء، وخرج ما هو أدون منها، من الأقوات، والخُضَر للأمر بالتمر، كما في الرواية الأخرى، وهذا الاحتمال يعود في المعنى للذي قبله، لكنه يخالفه في التقدير. انتهى

(1)

.

وقوله: (لَا سَمْرَاءَ) قال القرطبيّ: هو معطوف على "صاعًا"، وهمزته للتأنيث، فلذلك لَمْ يُصرف، و"السمراء": قَمْحة الشام، و"البيضاء": قَمحة مصر، وقيل: البيضاء: الشعير، و"السمراء: الْقَمْح مطلقًا، وإنما نفاها تخفيفًا، ورفعًا للحرج. انتهى

(2)

.

وقال وليّ الدين رحمه الله: فيه تنصيص على أنَّ السمراء، وهي القَمْح لا تجزئ في هذا، وإنما نصّ عليه، دون غيره؛ لِفَهْم غيره من طريق الأولي، فإنه أغلى الأقوات، وأنفسها، فإذا لَمْ يجزيء، فغيره أولى بذلك. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: ذهب الشافعيّ، وأكثر العلماء إلى أنه لا يجوز فيها إلَّا الصَّاع من التمر، وقال الداوديّ: الطعام المذكور هنا هو التمر، وذهب مالك إلى أن التمر إنما ذُكر في الحديث؛ لأنه أغلب قوتهم، فيخرج الغالب من قوت بلده؛ قَمْحًا، أو شعيرًا، أو تمرًا؛ متمسكًا بعموم قوله:"طعام"؛ فإنَّه يَعُمّ التمر وغيره، ومستأنسًا بأن الشرع قد اعتبر نحو هذا في الدِّيات، ففرض على أهل الإبل إبلًا، وعلى أهل الذهب الذهب، وعلى أهل الورق الورق، وكذلك فعل في زكاة الفطر، وقد رُوي عن مالك رواية شاذَّة أنه يخرج فيها

(1)

"طرح التثريب" 6/ 88.

(2)

"المفهم" 4/ 375.

(3)

"طرح التثريب" 6/ 88.

ص: 710

مكيلة ما حلب من اللبن تمرًا، أو قيمته، وقد تقدَّم قول أبي حنيفة وزُفر، وقال أبو يوسف وابن أبي ليلى: يُخرج القيمة بالغة ما بلغت، وأحسن هذه الأقوال مشهور مذهب مالك؛ لما ذكرناه، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: بل أحسن الأقوال هو الذي تقدّم عن الشافعيّ، وأكثر العلماء أنه لا يجوز إلَّا الصاع من التمر؛ لأنه الذي نصّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يُعدل عنه إلَّا بدليل، فتبصّر، والله تعالى وليّ التوفيق.

والحديث بهذا اللفظ من أفراد المصنّف، وقد سبق تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3828]

(

) - (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اشْتَرَى شَاةً مُصَرَّاةً، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْن، إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ، لَا سَمْرَاءَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السَّخْتِيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حجةٌ فقيه عابدٌ [5](ت 131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 305.

والباقون ذُكروا في الباب، والبابين قبله، و"ابن أبي عمر" هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ المكيّ، و"سفيان" هو: ابن عيينة، و"محمد" هو: ابن سيرين.

والحديث بهذا اللفظ من أفراد المصنّف، وقد سبق تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3829]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّاب، عَنْ أَيُّوبَ، بِهَذَا الإِسْنَاد، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنِ اشْتَرَى مِنَ الْغَنَمِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ").

(1)

"المفهم" 4/ 374.

ص: 711

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(عَبْدُ الْوَهَّابِ) بن عبد المجيد الثقفيّ، تقدّم قريبًا.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية عبد الْوَهَّاب، عن أيوب هذه لَمْ أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[3830]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا مَا أَحَدُكُمُ اشْتَرَى لِقْحَةً مُصَرَّاةً، أَوْ شَاةً مُصَرَّاةً، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْن، بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا، إِمَّا هِيَ، وَإِلَّا فَلْيَرُدَّهَا، وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعِ) النيسابوريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهِ) بن كامل، أبو عُقبة الصنعانيّ، ثقةٌ [4](ت 132)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي.

شرح الحديث:

(عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهِ) أنه (قَالَ: هَذَا) إشارة إلى مجموع أحاديث رواها همَّام عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهي الأحاديث المجموعة في "صحيفة همّام"، فقوله:"هذا" مبتدأ خبره قوله: (مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ) همّام (أَحَادِيثَ) وعددها (138) حديثًا، وقوله:(مِنْهَا) خبر مقدّم لقوله: (وَقَالَ) أي: أبو هريرة رضي الله عنه (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) فقوله: "وقال إلخ" مبتدأ مؤخّر محكيّ؛ لقصد لفظه، وقوله:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" مقول "وقال"("إِذَا مَا) زائدة بعد "إذا"، قال ابن هشام الأنصاريّ رحمه الله في "مغنيه": وتزاد "ما" بعد أداة الشرط جازمةً كانت، نحو:{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} الآية [النساء: 78]، ونحو:{وَإِمَّا تَخَافَنَّ} [الأنفال: 58]، أو غير جازمة، نحو: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا

ص: 712

شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ} [فصلت: 20]، وبين المتبوع وتابعه في نحو:{مَثَلًا مَا بَعُوضَةً} [البقرة: 26]. انتهى

(1)

، وقال شيخنا عبد الباسط المناسيّ رحمه الله في نظمه:

وَزِيدَ بَعْدَ أَدَوَاتٍ تَجْزِمُ

"إِمَّا تَخَافَنَّ" وَأَيْضًا يُحْكَمُ

بَعْدَ أدَاةِ الشَّرْطِ غَيْرَ جَازِمِ

وَبَيْنَنَ تَابِعٍ وَمَتْبُوعٍ نُمِي

كـ "مَثَلًا" يَلِيهِ "مَا بَعُوضَةُ"

بَالنَّصْبِ رَاوِي الرَّفْعِ فِيهَا رُؤبَةُ

(2)

(أَحَدُكُمُ اشْتَرَى لِقْحَةً) بكسر اللام، وتُفتح، قال الفيّوميّ رحمه الله: اللِّقْحة بالكسر: الناقة ذات لبنٍ، والفتح لغة، والجمع لِقَحٌ، مثلُ سِدْرَةٍ وسِدَرٍ، أو مثلُ قَصْعَةٍ وقِصَعٍ، واللَّقُوح بفتح اللام، مثلُ اللِّقْحَة، والجمع لِقَاحٌ، مثلُ قَلُوصٍ وقِلاصٍ. انتهى

(3)

. (مُصَرَّاةً) هي التي صُرّي لبنها في ضوعها؛ أي: جُمِع وحُبس حتى يظن من يشتريها أنَّها كثيرة اللبن (أَوْ شَاةً) الظاهر أن "أو" هنا للتنويع، لا للشكّ (مُصرَّاةً، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْن، بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا) تقدّم أنه بضمّ اللام، وكسرها، من بابي نصر، وضرب (إِمَّا هِيَ) بكسر الهمزة، هي حرف تفصيل؛ أي: إنما أن يمسك هذه المصرّاة إن رضيها (وَإِلَّا) هي "إن" الشرطيّة أدغمت في "لا" النافية؛ أي: وإن يمسكها؛ لعدم رضاه بها (فَلْيَرُدَّهَا) أي: المصرّاة (وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ") بنصب "صاعًا" عطفًا على الضمير المنصوب، وَيحْتَمل أن تكون الواو معيّة، فـ "صاعًا" منصوب على أنَّه مفعول معه.

وفي رواية البخاريّ من طريق ثابت مولى عبد الرَّحمن بن زيد؛ أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اشترى غَنَمًا مصرّاةً، فاحتلبها، فإن رضيها أمسكها، وإن سخطها، ففي حَلْبتها صاع من تمر".

قال في "الفتح": قوله: "من اشترى غَنَمًا مُصَرّاة، فاحتلبها" ظاهره أن صاع التمر متوقف على الحلب.

وقوله: "ففي حلبتها صاع من تمر" ظاهره أن صاع التمر في مقابل

(1)

"مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 601/ 1.

(2)

أي قرأ رؤبة برفع "بعوضةٌ"، وعليه فـ "ما" موصولة، و"بعوضة" خبر لمحذوف، والجملة صلة "ما"، أي الذي هو بعوضة، راجع:"المغني" 1/ 601 - 602.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 556.

ص: 713

المصرّاة سواء كانت واحدةً، أو أكثر؛ لقوله:"من اشترى غنمًا"، ثم قال:"ففي حلبتها صاع من تمر"، ونقله ابن عبد البر عمن استَعْمَل الحديثَ، وابن بطال عن أكثر العلماء، وابن قُدامة عن الشافعية والحنابلة.

وعن أكثر المالكية: يرُدّ عن كلّ واحدة صاعًا، حتى قال المازريّ: من المُستَبشَع أن يُغَرَّم مُتْلِف لبن ألف شاة كما يُغَرَّم متلف لبن شاة واحدة.

وأجيب بأن ذلك مغتفر بالنسبة إلى ما تقدم من أن الحكمة في اعتبار الصاع قطع النزاع، فجُعِل حدًّا يُرْجَع إليه عند التخاصم، فاستوى القليل والكثير، ومن المعلوم أن لبن الشاة الواحدة، أو الناقة الواحدة يَختَلِف اختلافًا متباينًا، ومع ذلك فالمعتبر الصاع، سواء قَلّ اللبن، أم كثر، فكذلك هو معتبر، سواء قلّت المصرّاة، أو كثرت، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

،

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة عليّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة:

قد انتهيتُ من كتابة الجزء السادس والعشرين من "شرح صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحرَ المحيطَ الثَّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" والمؤذّن يؤذّن لصلاة المغرب يوم الأربعاء، وهو يوم عاشوراء المبارك العاشر من شهر الله المحرّم الحرام (10/ 1/ 1430 هـ الموافق 7 يناير 2009 م).

أسأل الله العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم لي ولكلِّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رءوف رحيم.

وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية [الأعراف: 43].

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 182].

(1)

"الفتح" 5/ 627 - 628.

ص: 714

"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام على النبيّ ورحمة الله وبركاته".

ويليه - إن شاء الله تعالى - الجزء السابع والعشرون مفتتحًا بـ (8) - (بَابُ بُطْلَانِ بَيْعِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ) رقم الحديث [3831](1525).

"سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".

ص: 715