المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم ليلة الخميس الحادي عشر من شهر الله - البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج - جـ ٢٧

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

ليلة الخميس الحادي عشر من شهر الله المحرّم 11/ 1/ 1430 هـ أول الجزء السابع والعشرين من شرح صحيح الإمام مسلم المسمّى "البحر المحيط الثجّاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" رحمه الله تعالى.

(8) - (بَابُ بُطْلَانِ بَيْعِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ)

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3831]

(1525) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ، وَقُتَيْبَةُ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ"، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، أبو زكريّاء النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](226)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ زيدِ) بن درهم، أبو إسماعيل البصريّ، ثقة ثبث فقية [8](ت 179)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

3 -

(أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتكِي) سليمان بن داود الزهرانيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م دس) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.

4 -

(قُتَيْبَةُ) بن سعيد الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

5 -

(عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ) الأثرم الْجُمَحيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقة ثبتٌ [4](226)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.

ص: 5

6 -

(طَاوُسُ) بن كيسان الْحَمْيَريّ مولاهم، أبو عبد الرحمن اليمانيّ، ثقةٌ فقية فاضل [3](ت 106) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

7 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما المتوفّى سنة (68)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ فرق بينهم بالتحويل؛ لاختلاف صيغتي الأداء، حيث قال يحيى:"حدثنا حماد بن زيد"، فنسبه إلى أبيه، وقال أبو الربيع، وقتيبة:"حدثنا حماد" فأهملاه.

2 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: عمرو، عن طاوس.

3 -

(ومنها): أن فيه ابن عبّاس رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والمشهورين بالفتوى من الصحابة رضي الله عنهم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنِ ابْتَاعَ)؛ أي: اشترى، و"من" شرطيّة جوابها "فلا يبعه" (طَعَامًا) بالفتح: اسم لما يؤكل، قال الفيّوميّ رحمه الله: وإذا أطلق أهل الحجاز الطعام عَنَوا به البُرّ خاصّةً، وفي العرف: الطعام: اسم لما يؤكل، مثلُ الشراب: اسم لما يُشرب، وجمعه أَطْعِمةٌ. انتهى

(1)

. (فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ") وفي الرواية الآتية: "حتى يقبضه"، وفيها زيادة معنًى؛ لأنه قد يستوفيه بالكيل بأن يكيله البائع، ولا يُقبِضه للمشتري، بل يَحبسه عنده لينقُده الثمن مثلًا، ويُستفاد منه أنه لو استوفى المبيع المفصول من البائع، وأبقاه في منزل البائع، لا يكون قبضًا شرعيًّا حتى ينقله المشتري إلى مكان لا اختصاص للبائع به، كما نُقل عن الشافعيّ رحمه الله، أفاده في "الفتح"

(2)

.

وقال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: قوله: "حتى يستوفيه"، وقوله:"حتى يقبضه" بمعنى واحد، فإن الاستيفاء هو القبض، كما دلّت عليه الرواية

(1)

"المصباح المنير" 2/ 373.

(2)

"الفتح" 5/ 599.

ص: 6

الأخرى، والقبض في المنقولات يكون بالنقل، والمراد بالنقل تحويله إلى مكان، لا يختصّ بالبائع، أو يختصّ بالبائع بإذنه. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله ولي الدين رحمه الله من أن الاستيفاء والقبض بمعنى واحد أظهر مما سبق في عبارة "الفتح" من الفرق بينهما، فتأمله، والله تعالى أعلم.

(قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (وَأَحْسِبُ) بكسر السين المهملة، وفتحها، قال الفيّوميّ رحمه الله: وحَسِبتُ زيدًا قائمًا أَحْسَبُهُ، من باب تَعِبَ في لغة جميع العرب، إلا بني كنانة، فإنهم يكسرون المضارع مع كسر الماضي أيضًا، على غير قياس، حِسْبانًا، بمعنى ظننت. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: حَسِب بمعنى ظَنّ من الأفعال التي سُمع فتح عينها على القياس، وكسرها على الشذوذ، وقد ذكرها ابن مالك في "لاميّته" حيث قال:

وَجْهَانِ فِيهِ مِنِ احْسِبْ مَعْ وَغِرْتَ وَحِرْ

تَ انْعِمْ بَئِسْتَ يَئستَ إِوْلِهْ يَبِسْ وَهِلَا

وَفِقْتَ مَعْ وَرِيَ الْمُخُّ احْوِهَا

.....................................

وزاد الشارح محمد بن عمر اليمنيّ رحمه الله عليها، فقال:

وَمِثْلُ يَحْسَبُ ذِي الْوَجْهَيْنِ مِنْ فَعِلَا

يَلِغْ يَبِقْ تَحِمُ الْحُبْلَى اشْتَهَتْ أُكُلَا

(كُلَّ شَيْءٍ مِثْلَهُ) بنصب "كلَّ" على أنه المفعول الأول لـ "أحسب"، و"مثله" هو المفعول الثاني.

ومعنى كلام ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا: أن الحديث، وإن نصّ على الطعام، إلا أن غير الطعام يُلحق به، وهذا من تفقّهه رضي الله عنه، وقد مال ابن المنذر رحمه الله إلى اختصاص ذلك بالطعام، واحتجّ باتفاقهم على أن من اشترى عبدًا، فاعتقه قبل قبضه أن عتقه جائزٌ، قال: فالبيع كذلك.

وتُعُقّب بالفارق، وهو تشوّف الشارع إلى العتق، وسيأتي ترجيح إطلاق المنع في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"طرح التثريب" 5/ 1555.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 134.

ص: 7

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى: حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 3831 و 3832 و 3833 و 3834](1525)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2132 و 2135)، و (أبو داود) في "البيوع"(3497)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1291)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 285) و"الكبرى"(4/ 36)، و (ابن ماجه) في "التجارات"(2227)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 142)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2602)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(14211)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 368 - 369)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 270 و 369)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4980)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(606)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(10871 و 10872 و 10873 و 10874 و 10875 و 10876 و 10877 و 10878)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 281)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 312 - 313) و"المعرفة"(4/ 346)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2089)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في النهي عن بيع الطعام قبل القبض:

اختلفوا في هذه المسألة على سبعة أقوال:

(القول الأول): اختصاص ذلك بالمطعومات، كما هو مقتضى الحديث، فأما غيره، فيجوز بيعه قبل قبضه، وهذا مذهب مالك، وحَكَى عنه ابن عبد البرّ استثناء أمرين من المطعوم يجوز بيعهما قبل القبض:

[أحدهما]: الماء، وحكى ابن حزم عنه في الماء روايتين.

[الأمر الثاني]: الطعام المشترى جزافًا، فالمشهور من مذهب مالك جواز بيعه قبل القبض، وبه قال الأوزاعيّ، ثم قال: ولا أعلم أحدًا تابع مالكًا من جماعة فقهاء الأمصار على تفرقته بين ما اشتُري جِزافًا من الطعام، وبين ما اشتُري منه كيلًا إلا الأوزاعيّ، فإنه قال: من اشترى طعامًا جزافًا، فهلك قبل القبض فهو من المشتري، وإن اشتراه مكايلةً، فهو من البائع، وهو نصّ قول

ص: 8

مالك، وقد قال الأوزاعيّ: من اشترى ثمرة لم يجز له بيعها قبل القبض، وهذا تناقض، ثم استدلّ ابن عبد البرّ لمالك برواية القاسم، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نهى أن يبيع أحدٌ طعامًا اشتراه بكيل حتى يستوفيه"، قال: فقوله: "بكيل" دليل على أن ما خالفه بخلافه.

وتُعُقّب بان الروايات الآتية في نهي الَّذِين يبتاعون الطعام جزافًا عن بيعه حتى ينقلوه من مكانه صريحٌ في الرّدّ على من جوّز بيع الطعام قبل قبضه، إذا كان اشتراه جزافًا، والله تعالى أعلم.

(القول الثاني): اختصاص ذلك بالمطعوم، سواء اشتُري جزافًا، أو مقدّرًا بكيل، أو وزن، أو غيرهما، وبه قال بعض المالكيّة، وحكاه عن مالك، واختاره أبو بكر الوقار، وصححه أبو عمرو ابن الحاجب، وحكاه ابن عبد البرّ عن أحمد، وأبي ثور، قال: وهو الصحيح عندي؛ لثبوت الخبر بذلك، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعمل أصحابه، وعليه جمهور أهل العلم، قال: وحجّتهم عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "من ابتاع طعامًا"، لم يقل: جزافًا، ولا كيلًا، بل ثبت عنه فيمن ابتاع طعامًا جزافًا أن لا يبيعه حتى ينقله، ويقبضه، قال: وضعّفوا الزيادة في قوله: "طعامًا بكيل".

(القول الثالث): اختصاص ذلك بما اشتُري مقدّرًا بكيل، أو وزن، أو ذرع، أو عدد، سواء كان مطعومًا، أم لا؟ فإن اشتُري بغير تقدير جاز بيعه قبل قبضه، وهذا هو المشهور عن أحمد، كما قال الشيخ مجد الدين ابن تيميّة في "المحرّر"، وقال ابن عبد البرّ: رُوي عن عثمان بن عفّان، وسعيد بن المسيّب، والحسن البصريّ، والحكم بن عُتيبة، وحمّاد بن أبي سُليمان، وبه قال إسحاق ابن راهويه، ورُوي عن أحمد بن حنبل، والأول أصحّ عنه. انتهى، والمعتمد في ذلك قول ابن تيميّة، فإنه أعرف بمذهبه.

قال ابن عبد البرّ: وحجتهم أن الطعام المنصوص عليه أصله الكيل، أو الوزن، فكلّ مكيل، أو موزون، فذلك حكمه.

وتُعُقّب بأن النهي الوارد عن بيع المشترَى جزافًا قبل قبضه يردّ هذا، كما تقدّم بيانه.

ص: 9

وعن أحمد رواية أخرى: أن صبر المكيل والموزون خاصّة كبيعهما كيلًا، ووزنًا.

(القول الرابح): طردُ ذلك في جميع الأشياء، المطعوم، وغيره، والمقدّر، وغيره، فلا يجوز بيعها قبل قبضها، إلا العقار، وبهذا قال أبو حنيفة، وأبو يوسف.

(القول الخامس): منعُ المبيع قبل القبض مطلقًا، حتى في العقار، وبهذا قال الشافعيّ، ومحمد بن الحسن، وهو روايةٌ عن أحمد، وحكاه ابن عبد البرّ عن عبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم، وسفيان الثوريّ، وسفيان بن عُيينة، ويدلّ لذلك أن ابن عبّاس رضي الله عنهما، لَمّا روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "أنه نهى عن بيع الطعام حتى يُستوفَى"، قال: ولا أحسب كلّ شيء إلا مثله، رواه الأئمة الستّة، وهذا لفظ البخاريّ، ولفظ مسلم:"وأحسب كلّ شيء مثله"، وفي لفظ:"وأحسب كلّ شيء بمنزلة الطعام"، وفي لفظ له:"حتى يكتاله"، وكذلك قال جابر رضي الله عنه؛ أي: أن غير الطعام مثله، قال ابن عبد البرّ: فدلّ على أنهما فَهِما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم المراد والمغزى.

وعن حكيم بن حِزام رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله إني أشتري بيوعًا، فما يحلّ لي منها، وما يحرم؟ قال:"إذا اشتريت بيعًا، فلا تبعه حتى تقبضه"، رواه النسائيّ باختلاف في إسناده، ومتنه، وصححه ابن حزم، وقال ابن عبد البرّ: هذا الإسناد، وإن كان فيه مقالٌ، ففيه لهذا المذهب استظهار.

وروى أبو داود وغيره عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحلّ بيعٌ وسلف، ولا بيع ما لم يُضْمَن، ولا بيع ما ليس عندك"، وهو حديث صحيح، وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أنه نهى أن تباع السِّلَعُ حيث تُشترى حتى يحوزها الذي اشتراها إلى رحله"، رواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، لكن فيه عنعنة ابن إسحاق.

فهذه الأحاديث حجة لهذا المذهب، وللذي قبله إلا أن صاحب المذهب الذي قبله استثنى من ذلك العقار؛ لانتفاء الغرر فيه، فإن الهلاك فيه نادر بخلاف غيره.

(القول السادس): جواز البيع قبل القبض مطلقًا في كلّ شيء، وبهذا قال

ص: 10

عثمان البتّيّ، قال ابن عبد البرّ: هذا قول مردود بالسنّة، والحجة المجمعة على الطعام فقط، وأظنّه لم يبلغه الحديث، ومثل هذا لا يُلتفت إليه.

وقال النوويّ: وحكاه المازريّ، والقاضي عياض، ولم يحكه الأكثرون، بل نقلوا الإجماع على بطلان بيع الطعام المبيع قبل قبضه، قالوا: وإنما الخلاف فيما سواه، فهو شاذّ متروك. قال وليّ الدين: وحكاه ابن حزم عن عطاء بن أبي رباح.

(القول السابعٍ): منع البيع قبل القبض في القَمْح مطلقًا، وفي غيره إن ملكه بالشراء خاصّة، ويُعتبر أيضًا في القمح خاصَّة مع القبض، وهو إطلاق اليد عليه، وعدم الحيلولة بينه وبين أن ينقله عن موضعه الذي هو فيه إلى مكان آخر، فإن اشتراه بكيل لم يحلّ له بيعه حتى يكتاله، فإذا اكتاله حلّ له بيعه، وإن لم ينقله عن موضعه، وبهذا قال ابن حزم الظاهريّ، وتمسّك في القَمْح بحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما:"أما الذي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُباع حتى يُقبض، فهو الطعام"، وقال: فهذا تخصيص للطعام في البيع خاصّة، وعموم له بأيّ وجه مُلك، واسم الطعام في اللغة لا يُطلق إلا على القَمْح وحده، وإنما يُطلق على غيره بإضافة، وتمسّك في غير القَمْح بحديث حكيم بن حزام رضي الله عنه المتقدّم، وقال: هذا عموم لكلّ بيع، ولكلّ ابتياع، والمذكور في حديثي ابن عمر، وابن عبّاس رضي الله عنهما بعض ما في حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه، فهو أعمّ، ثم حكى مثل قوله عن ابن عبّاس، وجابر، والحسن، وابن شُبْرُمة رضي الله عنهم، هكذا ذكر هذه الأقوال وليّ الدين رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أرجح الأقوال هو القول الخامس، وهو منع البيع قبل القبض، مطلقًا، حتى في العقار، فهو أرجح؛ لثبوت النصوص بذلك:

(فمنها): ما أخرجه النسائيّ من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحلّ سلَفٌ، وبيعٌ، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يُضمَن"، وهو حديث صحيحٌ، فمعنى "ربح ما لم يُضْمَن" هو ربح مبيع اشتراه،

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 5/ 1555 - 1558.

ص: 11

فباعه، قبل أن ينتقل من ضمان البائع، وهو يعمّ كل شيء، الطعام، وسائر المنقولات، وغيرها.

(ومنها): حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه الذي أخرجه أحمد في "مسنده" بلفظ: "إذا اشتريت بيعًا، فلا تبعه حتى تقبضه"، فهو وإن كان في سنده راو مبهم، إلا أنه يشهد له حديث ابن عمرو المذكور.

(ومنها): ما أخرجه أبو داود، والحاكم، وابن حبّان، وصحّحاه، من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه بلفظ:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السِّلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجّار إلى رحالهم"، فهو وإن كان فيه محمد بن إسحاق، وقد عنعنه، لكنه يشهد له ما تقدّم، فهذه الأحاديث كما رأيت صالحة للحجيّة، ولا سيّما حديث عبد الله بن عَمْرو رضي الله عنهما، فإنه بمفرده كاف للحجيّة، وأيضًا قول ابن عبّاس رضي الله عنهما فيما يأتي:"وأً حسب أن كل شيء بمنزلة الطعام"، وفي رواية البخاريّ:"ولا أحسب كل شيء إلا مثله".

والحاصل أن أرجح الأقوال هو القول الخامس، وهو مذهب الشافعيّ رحمه الله وجماعة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في التصرّف في المبيع قبل القبض بغير البيع:

اختلفوا في ذلك على أربعة أقوال:

(القول الأول): قصر المنع على البيع، وتجويز غيره من التصرّفات قبل القبض، قاله ابن حزم، قال: والشركة، والتولية، والإقالة كلّها بيوعٌ مبتدأة لا يجوز في شيء منها إلا ما يجوز في سائر البيوع.

(القول الثاني): أن سائر التصرّفات في المنع قبل القبض كالبيع، قال وليّ الدين: وهذا هو الذي فهمته من مذهب الحنابلة؛ لإطلاق ابن تيميّة في "المحرّر" التصرّف من غير استثناء شيء منه.

(القول الثالث): طرد المنع في كلّ معاوضة فيها حقّ توفية، من كيل، أو شبهه بخلاف القرض، والهبة، والصدقة، وهذا مذهب مالك، وأرخص في الإقالة، والتولية، والشركة مع كونها معاوضات فيها حق توفية، قال ابن حزم: واحتجّوا بما رويناه من طريق عبد الرزّاق، قال ابن جريج: أخبرني ربيعة بن

ص: 12

أبي عبد الرحمن؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حديثًا مستفيضًا في المدينة: "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه، وششوفيه، إلا أن يُشَرِّك فيه، أو يوليه، أو يقيله"، وقال مالك: إن أهل العلم اجتمع رأيهم على أنه لا بأس بالشركة، والإقالة، والتولية في الطعام وغيره - يعني قبل القبض - قال ابن حزم؛ ما نعلم رُوي هذا إلا عن ربيعة، وطاوس فقط، وقوله عن الحسن في التولية، قد جاء عنه خلافها، قال ابن حزم: وخبر ربيعة مرسل، ولو استفاضَ عن أصل صحيح، لكان الزهريّ أولى بأن يعرف ذلك من ربيعة، والزهريّ مخالف له في ذلك، قال: التولية بيع في الطعام وغيره، ثم ذكر عن الحسن أنه قال: ليس له أن يولّيه حتى يقبضه، فقيل له: أبرأيك تقوله؟ قال: لا، ولكن أخذناه عن سلفنا، وأصحابنا، قال ابن حزم: سلف الحسن هم الصحابة، أدرك منهم خمسمائة وأكثر، وأصحابه أكابر التابعين، فلو أقدم امرؤ على دعوى الإجماع هنا لكان أصحّ من الإجماع الذي ذكره مالك.

(القول الرابع): المنع من سائر التصرّفات؛ كالبيع، إلا العتق، والاستيلاد، والتزويج، والقسمة، هذا حاصل الفتوى في مذهب الشافعيّ، مع الخلاف في أكثر الصور، وأما الوقف، فقال المتولّي في "التتمّة": إن قلنا: إن الوقف يفتقر إلى القبول، فهو كالبيع، وإلا فهو كالإعتاق، وبه قطع الماورديّ في "الحاوي"، وقال: يصير قابضًا، حتى لو لم يرفع البائع يده عنه، صار مضمونًا عليه بالقيمة، فمن قصر المنع على البيع، اقتصر على مورد النصّ، ومن عدّاه إلى غيره، فبالقياس، وذلك متوقّفٌ على فهم العلّة في ذلك، ووجودها في الفرع المقيس، والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأرجح القول الأول، وهو قصر النهي على البيع فقط؛ عملًا بظواهر النصوص، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في بيع ما مُلك بغير البيع قبل القبض:

قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: والذي في الحديث المنع فيما مُلك بالبيع، وهو ساكت عما مُلك بغيره، وللعلماء في ذلك خلاف أيضًا:

ص: 13

قال الشافعيّة: يلتحق بالمملوك بالبيع ما كان في معناه، وهو ما كان مضمونًا على من هو في يده بعقد معاوضة؛ كالأجرة، والعوض المصالح عليه عن المال، وكذا الصداق؛ بناءً على أنه مضمون على الزوج ضمان عقد، وهو الأظهر، أما ما ليس مضمونًا على من هو تحت يده، كالوديعة، والإرث، أو مضمونًا ضمان يد، وهو المضمون بالقيمة، كالمستام، ونحوه، فيجوز بيعه قبل القبض؛ لتمام الملك فيه، ومذهب أحمد نحوه، قال ابن تيميّة في "المحرّر": وكلّ عين مُلكت بنكاح، أو خُلع، أو صلح عن دم عمدًا، أو عتق، فهي كالبيع في ذلك كله، لكن يجب بتلفها مثلها، إن كانت مثليّة، وإلا فقيمتها، ولا فسخ لعقدها بحال، فأما ما مُلك بإرث، أو وصيّة من مكيل، أو غيره، فالتصرّف فيه قبل قبضه جائزٌ.

وفرّق ابن حزم في ذلك بين القَمْح وغيره، فقال في القَمْح: إنه بأيّ وجه مَلَكه لا يحلّ له بيعه قبل قبضه، وقال في غيره: متى مَلَكه بغير البيع فله بيعه قبل قبضه. انتهى

(1)

.

وقال ابن قُدامة رحمه الله: وكل عوض مُلك بعقد ينفسخ بهلاكه قبل القبض، لم يجز التصرف فيه قبل قبضه، كالذي ذكرنا، والأجرة، وبدل الصلح، إذا كانا من المكيل، أو الموزون، أو المعدود، وما لا ينفسخ العقد بهلاكه، جاز التصرف فيه قبل قبضه؛ كعوض الخلع، والعتق على مال، وبدل الصلح عن دم العمد، وأرش الجناية، وقيمة المتلف؛ لأن الْمُطْلِق للتصرف الملكُ، وقد وُجد، لكن ما يتوهم فيه غررُ الانفساخِ بهلاك المعقود عليه، لم يجز بناء عقد آخر عليه تحرزًا من الغرر، وما لا يتوهم فيه ذلك الغرر انتفى المانع، فجاز العقد عليه، وهذا قول أبي حنيفة، والمهر كذلك عند القاضي، وهو قول أبي حنيفة؛ لأن العقد لا ينفسخ بهلاكه، وقال الشافعي: لا يجوز التصرف فيه قبل قبضه، ووافقه أبو الخطاب في غير المتعين؛ لأنه يخشى رجوعه بانتقاض سببه بالردة قبل الدخول، أو انفساخه بسبب من جهة المرأة، أو نصفه بالطلاق، أو انفساخه بسبب من غير جهتها، وكذلك قال الشافعي في عوض الخلع، وهذا التعليل باطل بما بعد القبض، فإن قبضه لا يمنع الرجوع فيه قبل الدخول.

(1)

"طرح التثريب" 5/ 1559.

ص: 14

وأما ما مُلك بإرث، أو وصية، أو غنيمة، وتعيّن ملكه فيه، فإنه يجوز له التصرف فيه بالبيع وغيره قبل قبضه؛ لأنه غير مضمون بعقد معاوضة، فهو كالمبيع المقبوض، وهذا مذهب أبي حنيفة، والشافعي، ولا أعلم عن غيرهم خلافهم، وإن كان لإنسان في يد غيره وديعة، أو عارية، أو مضاربة، أو جعله وكيلًا فيه جاز له بيعه ممن هو في يده ومن غيره؛ لأنه عين مال مقدور على تسليمها، لا يخشى انفساخ الملك فيها، فجاز بيعها كالتي في يده، وإن كان غصبًا جاز بيعه ممن هو في يده؛ لأنه مقبوض معه فاشبه بيع العارية ممن هي في يده، وأما بيعه لغيره فإن كان عاجزًا عن استنقاذه، أو ظن أنه عاجز لم يصح شراؤه له؛ لأنه معجوز عن تسليمه إليه، فأشبه بيع الآبق والشارد، وإن ظن أنه قادر على استنقاذه ممن هو في يده صح البيع؛ لإمكان قبضه، فإن عجز عن استنقاذه فله الخيار بين الفسخ والإمضاء؛ لأن العقد صح؛ لكونه مظنون القدرة على قبضه، ويثبت له الفسخ للعجز عن القبض، فأشبه ما لو باعه فرسًا، فشردت قبل تسليمها، أو غائبًا بالصفة، فعجز عن تسليمه. انتهى

(1)

، وهو بحث نفيس، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في أقوال أهل العلم في تفسير القبض:

قال ابن قُدامة رحمه الله: وقَبْض كل شيء بحسبه، فإن كان مكيلًا أو موزونًا، بِيع كيلًا أو وزنًا، فقبضه بكيله ووزنه، وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: التخليةُ في ذلك قبض، وقد رَوى أبو الخطاب، عن أحمد رواية أخرى: أن القبض في كل شيء بالتخلية مع التمييز؛ لأنه خَلَّى بينه وبين المبيع من غير حائل، فكان قبضًا له كالعقار.

ولنا ما رَوَى أبو هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا بعت فكِلْ، وإذا ابتعت فاكتل"، رواه البخاريّ، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أنه نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان: صاع البائع، وصاع المشتري"، رواه ابن ماجه

(2)

،

(1)

"المغني" 6/ 191 - 192.

(2)

رواه ابن ماجه في "سننه"(2/ 750) وفي إسناده محمد بن أبي ليلى، سيئ الحفظ، وحسّن الحديث الشيخ الألبانيّ رحمه الله.

ص: 15

وهذا فيما بيع كيلًا، وإن بيع جزافًا فقبضه نقله؛ لأن ابن عمر قال:"كانوا يُضرَبون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا اشتروا طعامًا جِزافًا، أن يبيعوه في مكانه، حتى يحوّلوه"، وفي لفظ:"كنا نبتاع الطعام جِزافًا، فبُعِثَ علينا من يأمرنا بانتقاله من مكانه، الذي ابتعناه إلى مكان سواه، قبل أن نبيعه"، وفي لفظ:"كنا نشتري الطعام من الركبان جِزافًا، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله"، رواهنّ مسلم.

وهذا يبين أن الكيل إنما وجب فيما بيع بالكيل، وقد دل على ذلك أيضًا قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا سميت الكيل فكِل"

(1)

، رواه الأثرم.

وإن كان المبيع دراهم أو دنانير، فقبضُها باليد، وإن كان ثيابًا باليد فقبضها نقلها، وإن كان حيوانًا فقبضه تمشيته من مكانه، وإن كان مما لا يُنقل ويحوّل، فقبضه التخلية بينه وبين مشتريه، لا حائل دونه، وقد ذكره الْخِرَقي في "باب الرهن" فقال: إن كان مما ينقل فقبضه أخذه إياه من راهنه منقولًا، وإن كان لا ينقل فقبضه تخلية راهنه بينه وبين مرتهنه، لا حائل دونه، ولأن القبض مطلق في الشرع، فيجب الرجوع فيه إلى العرف؛ كالإحراز، والتفرق، والعادة في قبض هذه الأشياء ما ذكرنا. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله

(2)

، وهو بحث نفيس جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): في بيان مَن عليه أجرة الكيل، والوزن:

قال ابن قُدامة رحمه الله: وأجرة الكيّال والوزّان، في المكيل والموزون على البائع؛ لأن عليه تقبيضَ المبيع للمشتري، والقبض لا يحصل إلا بذلك، فكان على البائع، كما أن على بائع الثمرة سقيَهَا، وكذلك أجرة الذي يَعُدّ المعدودات، وأما نقل المنقولات وما أشبهه، فهو على المشتري؛ لأنه لا يتعلق به حقُّ توفية، نَصّ عليه أحمد رحمه الله.

(1)

رواه ابن ماجه (2/ 750) وفي سنده عبد الله بن لَهِيعة، لكنه من رواية عبد الله بن يزيد المقرئ، وهو ممن روى عنه قبل اختلاطه، ولذا صحح الحديث الشيخ الألبانيّ رحمه الله.

(2)

"المغني" 6/ 188.

ص: 16

قال: ويصحّ القبض قبل نقد الثمن وبعده، باختيار البائع، وبغير اختياره؛ لأنه ليس للبائع حبس المبيع على قبض الثمن، ولأن التسليم من مقتضيات العقد، فمتى وُجد بعده وقع موقعه كقبض الثمن. انتهى كلام ابن قدامة رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3832]

(

) - (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ (ح) وَحَدُّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ - وَهُوَ الثَّوْرِيُّ - كِلَاهُمَا عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، نزيل مكة، ثقةٌ [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

2 -

(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ) بن موسى الضَّبّيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ [10](ت 245)(م 4) تقدم في "الإيمان" 1/ 103.

3 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة بن أبي عمران الهلاليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ، ثقة حافظٌ حجة إمام فقيه، من رؤوس [8](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.

4 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الْعَبْسيّ الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظ، له تصانيف [10](ت 235)(خ م دس ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

5 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء بن كُريب الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة [10](247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

6 -

(وَكِيعُ) بن الْجَرّاح بن مَلِيح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 6 أو 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

7 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد بن حبيب الثَّوْرِيُّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ

(1)

"المغني" 6/ 188.

ص: 17

فقيهٌ عابدٌ إمام حجة، وربّما دلّس، من رؤوس [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

و"عمرو بن دينار" ذُكر قبله.

وقوله: (كِلَاهُمَا

إلخ)؛ يعني أن كلّا من سفيان بن عيينة، وسفيان الثوريّ رويا هذا الحديث عن عمرو بن دينار.

[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه".

(2028)

- حدّثنا عليّ بن عبد الله، حدّثنا سفيان، قال: الذي حفظناه من عمرو بن دينار سمع طاوسًا يقول: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: أما الذي نهى عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم فهو الطعام أن يباع حتى يُقْبَض، قال ابن عباس:"ولا أَحْسِبُ كلَّ شيء إلا مثله". انتهى.

وأما رواية سفيان الثوريّ، فقد ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" (1/ 270) فقال:

(2438)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا عبد الرزاق، ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "من اشترى طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه"، قال ابن عباس: وأَحْسَبُ كلَّ شيء بمنزلة الطعام. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3833]

(

) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِع، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثنا، وَقَالَ الآخَرَانِ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيه، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ"، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه الْحَنظليّ، أبو محمد المروزيّ، نزيل نيسابور، ثقةٌ حافظٌ إمام حجةٌ [10](238)(خ م دت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القشيريّ مولاهم، أبو عبد الله النيسابوريّ، ثقةٌ

ص: 18

حافظٌ عابدٌ [11](ت 245)(خ م دت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

3 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدِ) بن نصر الْكِسّيّ، أبو محمد، قيل: اسمه عبد الحميد، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

4 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام بن نافع الْحَمْيريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظ مصنّف، شهيرٌ، عَمِيَ، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

5 -

(مَعْمَرُ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

6 -

(ابْنُ طَاوُسٍ) عبد الله بن طاوس بن كيسان، أبو محمد اليمانيّ، ثقة فاضلٌ عابدٌ [6](ت 132)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

والباقيان ذُكرا قبل حديثين.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى قبل حديثين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3834]

(

) - (حَدَّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْب، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثنا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيه، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَكْتَالَهُ"، فَقُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: لِمَ؟ فَقَالَ: ألَا تَرَاهُمْ يَتَبَايَعُونَ بِالذَّهَب، وَالطَّعَامُ مُرْجَأٌ؟ وَلَمْ يَقُلْ أَبُو كُرَيْبٍ: مُرْجَأٌ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

وكلّهم ذُكروا قبله، و"سفيان" هو الثوريّ.

وقوله: (حَتَّى يَكْتَالَهُ) قال الفيّوميّ رحمه الله: اكتلتُ منه، وعليه: إذا أخذت، وتولّيت الكيل بنفسك، يقال: كال الدافعُ، واكتال الآخذ. قال: كِلْتُ زيدًا الطعامَ كَيْلًا، من باب باع يتعدّى إلى مفعولين، وتَدخُلُ اللام على المفعول الأول، فيقال: كِلتُ له الطعامَ، والاسم: الْكِيلة بالكسر. انتهى بتصرّف

(1)

.

(1)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 546.

ص: 19

فقوله: "حتى يكتاله" كنايةٌ عن القبض، أو لكون القبض عادةً يكون بالكيل، فهو بمعنى الرواية السابقة:"حتى يقبضه".

وقوله: (فَفُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: لِمَ؟)؛ أي: لأيّ شيء نُهي عن بيع الطعام حتى يكتاله؟

وقوله: (وَالطَّعَامُ مُرْجَأٌ)؛ أي: مؤخَّر، ويجوز همز "مرجأ"، وترك همزه، ووقع في كتاب الخطابيّ بتشديد الجيم بغير همز، وهو للمبالغة، قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الشوكانيّ رحمه الله ما معناه: أنه إذا باعه المشتري قبل القبض، وتأخر المبيع في يد البائع، فكأنه باع دراهم بدراهم، ويبيّن ذلك ما في رواية مسلم، عن ابن عباس؛ أنه قال لما سأله طاوس:"ألا تراهم يبتاعون بالذهب، والطعام مرجأ"، وذلك لأنه إذا اشترى طعامًا بمائة دينار، ودفعها للبائع، ولم يقبض منه الطعام، ثم باع الطعام إلى آخر بمائة وعشرين مثلًا، فكأنه اشترى بذهبه ذهبًا أكثر منه. انتهى المقصود منه

(2)

.

وقال الخطّابيّ رحمه الله: قوله: "والطعام مرجأ"؛ أي: غائبٌ مُؤجَّلٌ في ذمة البائع، يقال رَجَّيتُ الشيءَ، وأرجاته: إذا أخرته، ومن هذا قوله:{وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} [التوبة: 106].

وتفسير ذلك أن يُسْلِف نَقْدًا في طعام، ثم يبيعه بنقد قبل أن يقبضه، فيفسد البيع؛ لأن ملكه لا يستقرّ، ولا يتكامل إلا بالقبض، وقد نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يُضْمَن، فإذا كان الطعام الذي يبيعه مرجأً؛ أي: مؤخَّرًا عن ملكه، ومضمونًا على غيره، لم يجز بيعه؛ لأنهما إنما تبايعا ذَهَبًا ليس بإزائه في الحقيقة طعامٌ.

وبيان هذا في حديث له آخر، ثم أخرج بسنده عن القاسم بن محمد قال: سألت ابن عباس، فقلت: كنا نُسلف في السيائب، فنبيعها قبل أن نستوفيها، فقال: ذاك بيع ورِق بورق.

يريد أن البيع لم يقع على الثياب الذي هو مضمون على غيره، وإنما

(1)

"الفتح" 5/ 596 - 597.

(2)

راجع: "نيل الأوطار" 5/ 259.

ص: 20

تقابل الثمنان، فصار بيع ورق بورق، وبيعُ الورق بالورق لا يجوز إلا سواءً بسواءٍ يدًا بيد، والمعنيان جميعًا ها هنا عَدَم، فبطل البيع، فإن كان المشتري إنما باعه من البائع نفسه قبل أن يقبضه كان في الفساد مثل الأول، أو أشدّ، وكان حينئذٍ بيع ورق بورق لا غير، فإن أقاله فبطل عنه الطعام، وصار عليه ذهب تبايعا بعدُ بالذهب ما شاءا، وتقابضا قبل أن يتفرقا، والإقالة فسخ، وليس ببيع. انتهى كلام الخطّابيّ رحمه الله

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفَى قبل حديثين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3835]

(1526) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتى يَسْتَوْفِيَهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ) أبو عبد الرحمن البصريّ، مدنيّ الأصل، وقد سكنها مدّةً، ثقةٌ عابدٌ، من صغار [9](ت 221)(خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 17/ 617.

2 -

(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة الفقيه المجتهد الحجّة، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

3 -

(نَافِعٌ) مولى ابن عمر، أبو عبد المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه مشهور [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

4 -

(ابْنُ عُمَرَ) عبد الله الصحابيّ الشهير رضي الله عنهما المتوفّى سنة (3 أو 47)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

و"يحيى بن يحيى" ذُكر في الباب، والسند من رباعيّات المصنّف رحمه الله،

(1)

"غريب الحديث للخطابي" 2/ 456 - 457.

ص: 21

كلاحقه، وهو (247) من رباعيّات الكتاب، وأما شرح الحديث فواضحٌ يُعلم مما سبق في شرح حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 3835 و 3836 و 3837 و 3838 و 3839 و 3840 و 3841](1526 و 1527)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2124 و 2126 و 2131 و 2133 و 2136 و 2137 و 2166 و 2167) و"الحدود"(6852)، و (أبو داود) في "البيوع"(3492 و 3493 و 3494 و 3495 و 3498)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 285) و"الكبرى"(4/ 35)، و (ابن ماجه) في "التجارات"(2226 و 2229)، و (مالك) في "الموطإ"(1335 و 1336)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 142)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 366)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 56 و 2/ 63)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 252 و 253)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4979 و 4981 و 4986)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 23 و 37)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 173)، و (البزّار) في "مسنده"(1/ 265)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(13097 و 13098) و"الأوسط"(9/ 11)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 279 و 281)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 300 و 314) و"المعرفة"(4/ 346)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2078)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3836]

(1527) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كُنَّا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَبْتَاعُ الطَّعَامَ، فَيَبْعَثُ عَلَيْنَا مَنْ يَأْمُرُنَا بِانْتِقَالِهِ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي ابْتَعْنَاهُ فِيهِ إِلَى مَكَانٍ سِوَاهُ قَبْلَ أَنْ نَبِيعَهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلّهم ذُكروا قبله، والسند من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقه، وهو (248) من رباعيّات الكتاب.

ص: 22

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما؛ أنه (قَالَ: "كُنَّا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، نَبْتَاعُ

الطَّعَامَ) أي: جزافًا، بدليل الروايات الآتية.

قال ابن حزم: جمهور الرواة عن مالك لهذا الحديث في "الموطّإ" وغيره ذكروا فيه عنه الجزاف، كما ذكره عبيد الله، عن نافع، والزهريّ عن سالم، وإنما أسقط ذكره القعنبيّ، ويحيى فقط، توهّمًا فيه؛ لأنه خبر واحد. انتهى.

وتعقّبه وليّ الدين، فقال: وفيه نظر، فقد قال ابن عبد البرّ: لم يُختَلف على مالك فيه، ولم يقل: جزافًا. انتهى

(1)

.

والحاصل أن ذكر الجزاف ثابت في غير رواية مالك، فسيأتي من رواية عبيد الله، عن نافع، والزهريّ، عن سالم، والله تعالى أعلم.

(فَيَبْعَثُ عَلَيْنَا) بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويَحْتَمِل أن يكون مبنيًّا للمفعول، والنائب عن الفاعل قوله:(مَنْ يَأْمُرُنَا بِانْتِقَالِهِ) هكذا رواية المصنّف وكذا هو عند النسائيّ، وهو مشكلٌ؛ لأن "انتقل" لازم، وإنما المتعدّي نَقَلَ الثلاثيّ، قال في "المصباح": نَقَلتُهُ نقلًا، من باب قتل: حوّلته من موضع إلى موضع، وانتقل: تحوّل، والاسم النُّقلة، ونقّلته بالتشديد مبالغةٌ وتكثيرٌ. انتهى.

وقال في "القاموس": نَقَله: حوّله، فانتقل، والنُّقْلةُ بالضمّ: الانتقال. انتهى، ولعلّه أطلق الانتقال على النقل مجازًا، من إطلاق المسبَّب على السبب، والله تعالى أعلم.

(مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي ابْتَعْنَا فِيهِ)؛ أي: اشتريناه (إِلَى مَكَانٍ سِوَاهُ)؛ أي: غير مكان الشراء (قَبْلَ أَنْ نَبِيعَهُ)؛ أي: ليتمّ القبض على آكد الوجوه.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تخريجه في الحديث الماضي، ونتكلّم الآن على ما بقي من المسائل مما يتعلّق به.

(المسألة الأولى): في فوائده:

1 -

(منها): بيان حُكْم ما يُشتَرَى من الطعام جِزافًا قبل نقله من مكانه،

(1)

"طرح التثريب" 5/ 1552.

ص: 23

وهو المنع، فلا يجوز أن يبيعه إلا بعد قبضه، ونقله من محل الشراء إلى محلّ آخر، وفيه خلاف للعلماء، سيأتي تحقيقه في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى -.

2 -

(ومنها): أن فيه جوازَ بيع الصُّبرة جِزافًا، سواءٌ عَلِم البائع قدرها، أم لم يعلم، وعن مالك: التفرقة، فلو علم لم يصح، وسيأتي تحقيق ذلك في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

3 -

(ومنها): أن فيه مشروعيةَ تأديب من يتعاطى العقود الفاسدة؛ لقوله في الرواية الآتية: "رأيت الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ابتاعوا الطعام جِزَافًا يُضرَبون في أن يبيعوه في مكانهم، وذلك حتى يؤووه إلى رحالهم".

4 -

(ومنها): إقامة الإمام على الناس من يراعي أحوالهم في ذلك.

5 -

(ومنها): ما قاله السيوطيّ رحمه الله: هذا أصل في إقامة المحتسب على أهل السوق.

6 -

(ومنها): أن هذا أصلٌ في ضرب المحتسب أهل الأسواق إذا خالفوا الحكم الشرعيّ في مبايعتهم، ومعاملاتهم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): في اختلاف أهل العلم في جواز بيع الصُّبْرة

(1)

جِزَافًا

(2)

:

قال ابن قُدامة رحمه الله، ما حاصله: يجوز بيع الصُّبْرة جِزَافًا، مع جهل البائع والمشتري بقدرها، وبهذا قال أبو حنيفة، والشافعيّ، ولا نعلم فيه خلافًا، وقد نَصّ عليه أحمد، ودلّ عليه قول ابن عمر:"كنا نشتري الطعام من الركبان جزافًا، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن نبيعه حتى ننقله من مكانه"، مُتّفقٌ عليه، ولأنه معلوم بالرؤية، فصح بيعه كالثياب والحيوان، ولا يضرّ عدم

(1)

قال في "المصباح"(1/ 231): "الصُّبْرَةُ" من الطعام: جمعها صُبَرٌ، مثلُ غُرْفة وغُرَف، وعن ابن دُريد: اشتريت الشيءَ صُبْرَةً: أي بلا كيل ولا وزن. انتهى.

(2)

"الجزاف" مثلّث الجيم: الحدس في البيع والشراء، وسيأتي البحث فيه مستوفًى في الحديث الرابع - إن شاء الله تعالى -.

ص: 24

مشاهدة باطن الصبرة، فإن ذلك يشق؛ لكون الحَبِّ بعضه على بعض، ولا يمكن بسطها حبة حبة، ولأن الحَبّ تتساوى أجزاؤه في الظاهر، فاكتُفي برؤية ظاهره بخلاف الثوب، فإن نشره لا يَشُقّ، ولم تختلف أجزاؤه، ولا يحتاج إلى معرفة قدرها مع المشاهدة؛ لأنه عَلِمَ ما اشترى بأبلغ الطرق، وهو الرؤية، وكذلك لو قال: بعتك نصف هذه الصبرة، أو ثلثها، أو جزءًا منها معلومًا جاز؛ لأن ما جاز بيع جملته جاز بيع بعضه؛ كالحيوان، ولأن جملتها معلومة بالمشاهدة، فكذلك جزؤها، قال ابن عقيل: ولا يصح هذا، إلا أن تكون الصبرة متساوية الأجزاء، فإن كانت مختلفة، مثل صبرة بَقّال القرية لم يصح، ويَحْتَمِل أن يصح؛ لأنه يشتري منها جزءًا مشاعًا، فيستحق من جيدها ورديئها بقسطه.

ولا فرق بين الأثمان والْمُثْمَنات في صحة بيعها جزافًا، وقال مالك: لا يجوز في الأثمان؛ لأن لها خطرًا، ولا يشق وزنها ولا عددها، فأشبه الرقيق والثياب، ولنا أنه معلوم بالمشاهدة، فأشبه المثمنات، والنقرةَ والْحَلْيَ، ويبطل بذلك ما قاله، أما الرقيق فإنه يجوز بيعهم إذا شاهدهم، ولم يَعُدّهم، وكذلك الثياب إذا نشرها، ورأى جميع أجزائها. انتهى كلام ابن قدامة رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم بيع ما اشتُري جِزَافًا قبل نقله من مكانه:

قال ابن قُدامة رحمه الله: إذا اشترى الصُّبْرة جِزَافًا، لم يجز له بيعها حتى ينقلها، نصّ عليه أحمد في رواية الأثرم، وعنه رواية أخرى: له بيعها قبل نقلها، اختارها القاضي، وهو مذهب مالك؛ لأنه مبيع متعيّن لا يحتاج إلى حق توفية، فأشبه الثوب الحاضر، ولنا قول ابن عمر رضي الله عنهما:"كنا نشتري الطعام من الركبان جِزافًا، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه"، وعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"من ابتاع طعامًا، فلا يبعه حتى يستوفيه"، متّفقٌ عليه، مع ما ذكرنا من الأخبار، ورَوَى الأثرم بإسناده عن عُبيد بن حنين، قال: قدم زيتٌ، من

(1)

"المغني" 6/ 201 - 202.

ص: 25

الشام فاشتريت منه أبعرة، وفرغت من شرائها، فقام إليّ رجل، فأربحني فيها ربحًا، فبسطت يدي لأبايعه، فإذا رجل ياخذني من خلفي، فنظرت فإذا زيد بن ثابت رضي الله عنه، فقال: لا تبعه حتى تنقله إلى رحلك؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك.

فإذا تقرر هذا، فإن قَبْضَها نَقْلُها، كما جاء في الخبر، ولأن القبض لو لم يعيَّن في الشرع، لوجب رده إلى العرف، كما قلنا في الإحياء، والإحراز، والعادةُ في قبض الصبرة النقل. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى منه: قد تبيّن بما ذُكر أن الصواب منع بيع المشترى جزافًا، حتى يتمّ القبض بنقله من مكانه إلى مكان آخر؛ لصحّة الأحاديث بذلك، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: لا يحل لبائع الصبرة أن يَغُشها بأن يجعلها على دَكّة، أو رَبْوَة، أو حجر ينقصها، أو يجعل الرديء في باطنها، أو المبلول، ونحو ذلك؛ لما رَوَى أبو هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرّ على صبرة من طعام، فأدخل يده، فنالت أصابعه بللًا، فقال:"يا صاحب الطعام ما هذا؟ " قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال:"أفلا جعلته فوق الطعام، حتى يراه الناس؟ "، ثم قال:"من غشنا فليس منا"، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

فإذا وُجد ذلك ولم يكن المشتري علم به، فله الخيار بين الفسخ وأخذ تفاوت ما بينهما؛ لأنه عيب، وإن بان تحتها حُفْرة، أو بان باطنها خيرًا من ظاهرها، فلا خيار للمشتري؛ لأنه زيادة له، وإن علم البائع ذلك، فلا خيار له؛ لأنه دخل على بصيرة به، وإن لم يكن علم فله الفسخ، كما لو باع بعشرين درهمًا، فَوَزَنها بصَنْجَة، ثم وجد الصنجة زائدة، كان له الرجوع، وكذلك لو باع بمكيال، ثم وجده زائدًا، وَيحتَمِل أنه لا خيار له؛ لأن الظاهر أنه باع ما يعلم، فلا يثبت له الفسخ بالاحتمال، قاله ابن قُدامة رحمه الله

(2)

، وهو بحث نفيس، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"المغني" 6/ 201 - 202.

(2)

"المغني" 6/ 203.

ص: 26

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3837]

(1526) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ الله، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنِ اشْتَرَى طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ"، قَالَ: وَكُنَّا نَشْتَرِي الطَّعَامَ مِنَ الرُّكْبَانِ جِزَافًا، فَنَهَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَبِيعَهُ حَتَّى نَنْقُلَهُ مِنْ مَكَانِهِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القُرشيّ الكوفيّ، قاضي الْمَوْصِل، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

3 -

(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سُنّيّ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

4 -

(عُبَيْدُ اللهِ) بن عُمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب العمريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [5] مات سنة بضع و (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

والباقون ذكروا قبله.

وقوله: "جِزافًا": قال المجد رحمه الله: "الْجِزَاف"، و"الْجِزَافَةُ" - مثلّثتين، و"الْمُجَازفة" الْحَدْسُ في البيع والشراء، مُعَرَّبُ "كزاف"، وبيعٌ جزافٌ - مثلّثةً، وجَزِيفٌ، كأمير. انتهى

(1)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: "الْجَزْفُ" و"الجِزاف": المجهول القدر، مكيلًا كان، أو موزونًا. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الجزاف": بيع الشيء، لا يُعلم كيله، ولا وزنه، وهو اسم من جازف مُجازفةً، من باب قاتل، والْجُزاف - بالضمّ - خارجٌ عن

(1)

"القاموس المحيط" 3/ 123.

(2)

"النهاية" 1/ 269.

ص: 27

القياس، وهو فارسيّ تعريب "كُزاف"، ومن ثمّ قيل: أصل الكلمة دَخِيلٌ في العربيّة، قال ابن القطّاع: جَزَف في الكيل جَزْفًا: أكثر منه، ومنه الجِزاف، والمجازفة في البيع، وهو المساهلة، والكلمة دَخِيلة في العربيّة، ويؤيّده قول ابن فارس: الْجَزْفُ: الأخذُ بكثرة، كلمة فارسيّة، ويقال لمن يُرسل كلامه إرسالًا من غير قانون: جازف في كلامه، فاقيم نَهْجُ الصواب مُقام الكيل، والوزن. انتهى

(1)

.

وقد ترجم الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" بقوله: "باب من رأى إذا اشترى طعامًا جزافًا أن لا يبيعه حتى يؤويه إلى رحله، والأدب في ذلك".

قال في "الفتح": أي تعزير من يبيعه قبل أن يؤويه إلى رحله، ذَكَر فيه حديث ابن عمر في ذلك - يعني المذكور في الباب - وهو ظاهر فيما ترجم له، وبه قال الجمهور، لكنهم لم يخصوه بالجزاف، ولا قيدوه بالإيواء إلى الرحال، أما الأول، فلما ثبت من النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، فدخل فيه المكيل، وورد التنصيص على المكيل من وجه آخر عن ابن عمر، مرفوعًا، أخرجه أبو داود، وأما الثاني؛ فلأن الأيواء إلى الرحال، خرج مخرج الغالب، وفي بعض طرق حديث ابن عمر عند مسلم، والنسائيّ:"كنا نبتاع الطعام، فيَبعَث إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مَن يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه، إلى مكان سواه، قبل أن نبيعه".

وفرّق مالك في المشهور عنه، بين الجزاف والمكيل، فأجاز بيع الجزاف قبل قبضه، وبه قال الأوزاعيّ، وإسحاق، واحتُجّ لهم بأن الْجِزَاف مَرْئيّ، فتكفي فيه التخلية، والاستيفاء إنما يكون في مكيل أو موزون.

وقد رَوَى أحمد من حديث ابن عمر مرفوعًا: "من اشترى طعامًا بكيل، أو وزن فلا يَبِعْه حتى يقبضه"، ورواه أبو داود، والنسائيّ، بلفظ:"نُهِيَ أن يبيع أحد طعامًا اشتراه بكيل حتى يستوفيه"، والدارقطنيّ من حديث جابر:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يَجرِي فيه الصاعان: صاع البائع، والمشتري"، ونحوه للبزار من حديث أبي هريرة بإسناد حسن.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 99.

ص: 28

وفي ذلك دلالة على اشتراط القبض في المكيل بالكيل، وفي الموزون بالوزن، فمن اشترى شيئًا مكايلة، أو موازنة، فقبَضه جزافًا فقبْضه فاسد، وكذا لو اشترى مكايلةً، فقبَضه موازنةً، وبالعكس.

ومن اشترى مكايلةً، وقبَضه، ثم باعه لغيره لم يجز تسليمه بالكيل الأول، حتى يكيله على من اشتراه ثانيًا، وبذلك كلّه قال الجمهور.

وقال عطاء: يجوز بيعه بالكيل الأول مطلقًا، وقيل: إن باعه بنقد جاز بالكيل الأول، وإن باعه بنسيئة لم يجز بالأول، والأحاديث المذكورة تردّ عليه.

وفي الحديث مشروعية تأديب من يتعاطى العقود الفاسدة، وإقامة الإمام على الناس من يراعي أحوالهم في ذلك. انتهى ما في "الفتح"

(1)

، وهو بحث مفيدُ.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3838]

(1526) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ؛ أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنِ اشْتَرَى طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ، وَيَقْبِضَهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبِ) بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ الفقيه، ثقة حافظٌ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

3 -

(عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب المدنيّ، نزيل عَسْقَلان، ثقةٌ [6] مات قبل (150)(خ م دس) تقدم في "الإيمان" 31/ 233.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (وَيَقْبِضَهُ) عطف تفسير لـ "يستوفيه"، فقد بيّن أن معنى استيفاء المبيع قبضه.

(1)

"الفتح" 5/ 599 - 600.

ص: 29

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديثين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3839]

(

) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَقَالَ عَلِيُّ: حَدَّثنا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ؛ أنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميمي النيسابوري، ثقة ثبت [10] تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

2 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) السعديّ الْمَرْوزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244) وقد قارب المائة (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

3 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسماعيل المدنيّ القارئ، ثقةٌ ثبتٌ [8](180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ) الْعَدويّ مولى ابن عمر، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ [4](127)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.

و"ابن عمر رضي الله عنهما " ذُكر قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3840]

(1527) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّهُمْ كَانُوا يُضْرَبُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اشْتَرَوْا طَعَامًا جِزَافًا، أَنْ يَبِيعُوهُ فِي مَكَانِهِ حَتَّى يُحَوِّلُوهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ الأَعْلَى) بن عبد الأعلى السّاميّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.

ص: 30

2 -

(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم ابن شهاب، أبو بكر المدنيّ الإمام الحجة الفقيه الحافظ الشهير، من رؤوس [4](ت 125)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.

3 -

(سَالِمُ) بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدويّ، أبو عمر المدنيّ الفقيه، ثقةٌ ثبتٌ عابد فاضل، من كبار [3](ت 106)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 1624.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (أَنَّهُمْ كَانُوا يُضْرَبُونَ إلخ) بالبناء للمجهول، ويُستفاد منه جواز تأديب من خالف الأمر الشرعيّ، فتعاطى العقود الفاسدة بالضرب، ومشروعيّة إقامة المحتسب في الأسواق. قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال النوويّ: هذا دليلٌ على أن وليّ الأمر يعزّر من تعاطى بيعًا فاسدًا، ويعزّره بالضرب وغيره، مما يراه من العقوبات في البدن على ما تقرّر في كتب الفقه، انتهى

(2)

.

وقوله: (أَنْ يَبِيعُوهُ فِي مَكَانِهِ)؛ أي: كراهية أن يبيعوه في مكانه، أو لئلا يبيعوه فيه، ففيه حذف "لا"، كما في قوله تعالى:{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176].

وقوله: (حَتَّى يُحَوِّلُوهُ)؛ أي: إلى مكان آخر.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، فلا تغفل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3841]

(

) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَني سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ؛ أَن أَباهُ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ النَّاسَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا ابْتَاعُوا الطَّعَامَ جِزَافًا، يُضْرَبُونَ فِي أَنْ يَبِيعُوهُ فِي مَكَانِهِمْ، وَذَلِكَ حَتَّى يُئْوُوهُ إِلَى رِحَالِهِمْ، قَالَ ابْنُ شِهَاب: وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يَشْتَرِي الطَّعَامَ جِزَافًا، فَيَحمِلُهُ إِلَى أَهْلِهِ).

(1)

"الفتح" 14/ 155 "كتاب الحدود" رقم 6853.

(2)

شرح النوويّ" 10/ 170 - 171.

ص: 31

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يُونُسُ) بن يزيد بن أبي النِّجَاد الأمويّ مولاهم، أبو يزيد الأيليّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (فِي أَنْ يَبِيعُوهُ فِي مَكَانِهِمْ)"في" هنا سببيّة، كما في حديث: "دخلت امرأة النار في هرّة حبستها

"؛ أي: إنما يُضربون بسبب بيعهم ذلك الطعام في مكان شرائهم إياه.

وقوله: (حَتَّى يُئْوُوهُ) بضمّ أوله مضارع آوى، وأصله أأوى، كأكرم، قال المجد رحمه الله: أَوَيتُ منزلي، وإليه أُوُيًّا بالضمّ، ويكسر، وأَوَّيتُ تأويةَ، وتأوّيتُ، واتَّوَيتُ، وائتويتُ: نزلته بنفسي، وسكنته، وأَوَيته، وأَوّيتُهُ، وآويته: أنزلته، والمأْوَى - بفتح الواو - والْمَأوِي - بكسرها - والمأواة: المكان. انتهى

(1)

.

وقوله: (إِلَى رِحَالِهِمْ) بكسر الراء: جمع رَحْل بفتح، فسكون، وهو المنزل.

قال القرطبيّ رحمه الله: في الحديث دليل لمن سوَّى بين الجزاف في المكيل من الطعام في المنع من بيع ذلك حتى يقبض، ورأى أن قبض الجزاف نقلُه، وبه قال الكوفيون، والشافعيّ، وأبو ثور، وأحمد، وداود، وهو على أصولهم في منعه في كل شيء إلا ما استُثْنِي حسب ما تقدم، وحَمَل مالك رحمه الله هذه الأحاديث على الأولى والأحبِّ، فلو باع الجزاف قبل نقله جاز؛ لأنه بنفس تمام العقد، والتخلية بينه وبين المشتري صار في ضمانه، ولدليل الخطاب في قوله صلى الله عليه وسلم:"من ابتاع طعامًا بكيل"، وما في معناه، وإلى جواز ذلك صار البتِّيّ، وسعيد بن المسيِّب، والحسن، والحكم، والأوزاعيّ، وإسحاق على أصولهم.

[فرع]: ألحق مالك رحمه الله ببيع الطعام قبل قبضه سائر عقود المعاوضات كلّها، فمن حصل له طعام بوجه معاوضة؛ كأخذه في صلح من دم، أو مهر، فلا يجوز له بيعه قبل قبضه. واستثنى من ذلك الشركة والتولية، والإقالة، وقد روي عنه منعه في الشركة، ووافقه الشافعيّ، وأبو حنيفة في الإقالة خاصة.

(1)

"القاموس المحيط" 4/ 301.

ص: 32

قال القرطبيّ: والذي أوجب استثناء هذه الأربعة العقود عند مالك أنها عقود؛ المقصود بها المعروف، والرِّفق، لا المشاحّة، والمكايسة، فأشبهت القرض، وأولى من هذا مرسلان صحيحان، مشهوران:

أحدهما: قال سعيد بن المسيِّب في حديث ذكره - كأنَّه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا بأس بالتولية، والإقالة، والشرك في الطعام قبل أن يُسْتَوفَى"، ذكره أبو داود

(1)

، وقال: هذا قول أهل المدينة.

وذكر عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرني ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديثًا مستفاضًا بالمدينة قال:"من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه، ويستوفيه إلا أن يشرك فيه، أو يوليه، أو يقيله".

قال القرطبيّ: وينبغي للشافعيّ، وأبي حنيفة أن يعملا بهذين المرسلين، أما الشافعيّ فقد نصَّ على أنه يعمل بمراسيل سعيد، وأما أبو حنيفة: فانه يعمل بالمراسيل مطلقًا، كمالك. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3842]

(1528) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا زيدُ بْنُ حُبَابٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنِ اشْتَرَى طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَكْتَالَهُ"، وَفي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: "مَنِ ابْتَاعَ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ) الْعُكليّ، أبو الحسين الكوفيّ، خراسانيّ الأصل، صدوقٌ يُخطئ في حديث الثوريّ [9](ت 203)(م 4) تقدم في "الطهارة" 6/ 560.

2 -

(الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ) بن عبد الله بن خالد بن حِزَام الأسديّ الْحِزَاميّ، أبو عثمان المدنيّ، صدوقٌ يَهِم [7](م 4) تقدم في "الحيض" 16/ 774.

(1)

أي في "مراسيله" برقم (198).

(2)

"المفهم" 4/ 377 - 379.

ص: 33

3 -

(بُكَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الأَشَجِّ) المخزوميّ مولاهم، أبو عبد الله، أو أبو يوسف المدنيّ، نزيل مصر، ثقة [5](ت 120)(ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.

4 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ) الهلاليّ مولى ميمونة، أو أم سلمة المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ، أحد الفقهاء السبعة، من كبار [3] مات بعد المائة، وقيل: قبلها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 489.

والباقون ذُكروا في الباب، وشرح الحديث يُعلم مما سبق.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 3842 و 3843](1528)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 329 و 337)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 283)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3843]

(

) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْحَارِثِ الْمَخْزُومِيُّ، حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّهُ قَالَ لِمَرْوَانَ: أَحْلَلْتَ بَيْعَ الرِّبَا، فَقَالَ مَرْوَانُ: مَا فَعَلْتُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَحْلَلْتَ بَيْعَ الصِّكَاك، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يُسْتَوْفَى، قَالَ: فَخَطَبَ مَرْوَانُ النَّاسَ، فَنَهَى

(1)

عَنْ بَيْعِهَا، قَالَ سُلَيْمَانُ: فَنَظَرْتُ إِلَى حَرَسٍ يَأْخُذُونَهَا مِنْ أَيْدِي النَّاسِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ الْحَارِثِ الْمَخْزُومِيُّ) أبو محمد المكيّ، ثقة [8](م 4) تقدم في "الإيمان" 23/ 201.

والباقون ذُكروا في الباب.

(1)

وفي نسخة: "فنهاهم".

ص: 34

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّهُ قَالَ لِمَرْوَانَ) بن الحكم بن أبي العاص بن أُميّة، أبو عبد الملك الأمويّ المدنيّ، وَلِي الخلافة في آخر سنة أربع وستين، ولا تثبت له صحبة، بل هو من الطبقة الثانية، تقدّمت ترجمته في "الصيام" 13/ 2589، والظاهر أن كلام أبي هريرة رضي الله عنه هذا كان في أيام إمرة مروان على المدينة قبل أن يتولّى الخلافة، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا إنكار من أبي هريرة رضي الله عنه على مروان، وتغليظ، وهو نصٌّ في أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يُفتي على الأمراء وغيرهم، وهو ردٌّ على من جَهِل حال أبي هريرة، وقال: إنه لم يكن مفتيًا، وهو قول باطل بما يوجد له من الفتاوى، وبالمعلوم من حاله؛ وذلك: أنَّه كان من أحفظ الناس لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألزم الناس للنبيّ صلى الله عليه وسلم ولخدمته حضرًا، وسفرًا، وأغزرهم علمًا. انتهى

(1)

.

(أَحْلَلْتَ بَيْعَ الرِّبَا، فَقَالَ مَرْوَانُ: مَا فَعَلْتُ)؛ أي: ما أحللت بيع الربا (فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَحْلَلْتَ بَيْعَ الصِّكَاكِ) قال الأبيّ رحمه الله: المعنى: أحللت بيع طعام الصكاك، لا يعني الصكاك نفسها، وفيه أن الترك فعلٌ؛ لأنه لم يُحلل، وإنما ترك النهي، وهو إغلاظ في الإنكار، وهو يدلّ على أن أبا هريرة رضي الله عنه كان مفتيًا على الأمراء وغيرهم. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "لأنه لم يُحلل

إلخ" فيه نظر، فقد جاء التصريح بإحلاله، فقد أخرج أبو عوانة، والبيهقيّ بإسناد صحيح، عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة أنه دخل على مروان بن الحكم، وهو بالمدينة، وكان مروان قد أحلّ بيع الصكوك التي بالآجال قبل أن تُسْتَوْفَى، فقال له أبو هريرة رضي الله عنه: أحللت الربا بيع الطعام قبل أن يُستوفَى، وأشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من ابتاع طعامًا فلا يبيعه حتى يستوفيه"، فردّ مروان بن الحكم ذلك البيع. انتهى.

وقال النوويّ رحمه الله: الصِّكاك: جمع صَكّ، وهو الورقة المكتوبة بدَين، ويُجمع أيضًا على صكوك، والمراد هنا الورقة التي تخرج من وليّ الأمر بالرزق

(1)

"المفهم" 4/ 379 - 380.

(2)

"شرح الأبيّ" 4/ 193.

ص: 35

لمستحقه، بأن يكتب فيها للإنسان كذا وكذا، من طعام أو غيره، فيبيع صاحبها ذلك لإنسان قبل أن يقبضه.

وقد اختَلَف العلماء في ذلك، والأصح عند أصحابنا وغيرهم: جواز بيعها، والثاني: منعها، فمن منعها أخذ بظاهر قول أبي هريرة رضي الله عنه، وبحجته، ومن أجازها تأول قضية أبي هريرة، على أن المشتري ممن خرج له الصك باعه لثالث قبل أن يقبضه المشتري، فكان النهي عن البيع الثاني، لا عن الأول؛ لأن الذي خرجت له مالك لذلك مُلكًا مستقرًّا، وليس هو بمشتر، فلا يمتنع بيعه قبل القبض، كما لا يمتنع بيعه ما ورثه قبل قبضه، قال القاضي عياض بعد أن تأوله على نحو ما ذكرته: وكانوا يتبايعونها، ثم يبيعها المشترون قبل قبضها، فنهوا عن ذلك، قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فردّه عليه، وقال: لا تبع طعامًا ابتعته حتى تستوفيه. انتهى.

هذا تمام الحديث في "الموطإ"، وكذا جاء الحديث مفسَّرًا في "الموطإ" أن صكوكًا خرجت للناس في زمن مروان بطعام، فتبايع الناس تلك الصكوك، قبل أن يستوفوها، وفي "الموطإ"، ما هو أبين من هذا، وهو أن حكيم بن حزام رضي الله عنه ابتاع طعامًا أَمر به عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه، فباع حكيم الطعام الذي اشتراه قبل قبضه، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "الصكاك": هي التواقيع السُّلطانية بالأرزاق، وهذا البيع الذي أنكره أبو هريرة رضي الله عنه للصُّكوك إنما هو بيع من اشتراه ممن رُزِقه، لا بيع مَن رُزِقه؛ لأن الذي رُزقه وصل إليه الطعام على جهة العطاء، لا المعاوضة.

ودليل ذلك ما ذكره مالك في "الموطأ"، قال: إن صكوك الجار خرجت للناس في زمن مروان من طعام الجار، فتبايع الناس تلك الصكوك بينهم قبل أن يستوفوها، وذكر الحديث في "الموطأ" أيضًا: أن حكيم بن حزام ابتاع طعامًا أمر به عمر للناس، فباع حكيم الطعام قبل أن يستوفيه، فبلغ ذلك عمر، فردَّه، وقال: لا تبع طعامًا ابتعته قبل أن تستوفيه.

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 171 - 172.

ص: 36

[فإن قيل]: فما في "الموطأ" يدل على فسخ البيعين: بيع المعطى له، وبيع المشتري منه؛ إذ فيه: أن مروان بعث الْحَرَس لينتزعوا الصكوك من أيدي الناس، ولم يفرّق.

فالجواب ما قد بيّنه بتمام الحديث، حيث قال: ويردُّونها إلى من ابتاعها، وكذلك فَعَل عمر بحكيم، فإنه ردَّ الطعام عليه؛ لأنه هو الذي كان اشتراه من الذي أُعطيه، فباعه قبل أن يستوفيه كما قد نصَّ عليه فيه.

والجار موضع معروف بالسَّاحل

(1)

كان يجتمع فيه الطعام فيُرزَقُ الناس منه

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى ضه: هذا التأويل الذي ذكره النوويّ، والقرطبيّ وغيرهما لأثر أبي هريرة رضي الله عنه المذكور حسنٌ جدًّا.

وحاصله أن النهي إنما هو لمن اشترى ممن خرجت له الصكوك أن يبيعها قبل أن يقبضها، لا أن أصحاب الصكوك يُمنعون من بيع صكوكهم؛ لأنها ملكهم المستقرّ، لا تحتاج إلى قبض، كما إذا ملكه بإرث، أو وصيّة، أو نحو ذلك، فتأمله، ويوضّح هذا قصّة حكيم بن حزام رضي الله عنه المذكورة، فتأمله، والله تعالى أعلم.

(وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يُسْتَوْفَى) بالبناء للمفعول؛ أي: حتى يقبضه المشتري من بائعه، ويحوزه في ملكه (قَالَ) سليمان بن يسار:(فَخَطَبَ مَرْوَانُ النَّاسَ، فَنَهَى) وفي بعض النسخ: "فنهاهم"(عَنْ بَيْعِهَا، قَالَ سُلَيْمَانُ) بن يسار: (فَنَظَرْتُ إِلَى حَرَسٍ) بفتحتين: أعوان السلطان، قال الفيّوميّ رحمه الله: حَرَسَهُ يَحْرُسه، من باب قتل: حَفِظَهُ، والاسم الْحِرَاسةُ، فهو حارسٌ، والجمع: حَرَسٌ، وحُرّاسٌ، مثلُ خادم وخَدَمٍ وخُدَّام، وحَرَسُ السلطان أعوانه، جُعل عَلَمًا على الجمع لهذه الحالة المخصوصة، ولا يُستعمل له واحد من لفظه، ولهذا نُسب إلى الجمع، فقيل: حَرَسيّ، ولو جُعِل الْحَرَسُ

(1)

"الجار" بتخفيف الراء: مدينة على ساحل بحر القلزم - الأحمر - بينها وبين المدينة النبويّة يوم وليلة. انتهى. "معجم البلدان"(2/ 92).

(2)

"المفهم" 4/ 380 - 381.

ص: 37

هنا جمع حارس لقيل: حارسيّ، قالوا: ولا يقال: حارسيّ إلا إذا ذُهب به إلى معنى الحراسة دون الجنس. انتهى

(1)

. (يَأْخُدُونَهَا) أي: تلك الصكاك (مِنْ أَيْدِي النَّاسِ) أي: الذين اشتروها ممن اشتراها ممن رُزقها، وليس المراد أنهم يأخذونها من أيدي أصحاب الصكاك الذين خرجت لهم من ولاة الأمور، فإنه كما سبق تحقيقه يجوز لهم بيعها، فتنبّه.

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله في "الاستذكار": مالك، عن نافع؛ أن حكيم بن حزام ابتاع طعامًا أمر به عمر بن الخطاب للناس، فباع حكيم الطعام قبل أن يستوفيه، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فردّه عليه، وقال: لا تبع طعامًا ابتعته حتى تستوفيه.

قال: ورَوَى هذا الحديث معمر، عن أيوب، عن نافع: أن حكيم بن حزام كان يشتري الأرزاق في زمن عمر بن الخطاب، فنهاه عمر أن يبيعها حتى يقبضها.

مالك؛ أنه بلغه أن صكوكًا خرجت للناس في زمان مروان بن الحكم من طعام الجار، فتبايع الناس تلك الصكوك بينهم قبل أن يستوفوها، فدخل زيد بن ثابت، ورجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على مروان بن الحكم، فقالا: أتحل بيع الربا يا مروان؟ فقال: أعوذ بالله، وما ذاك؟ فقالا: هذه الصكوك تبايعها الناس، ثم باعوها قبل أن يستوفوها، فبعث مروان الْحَرَسَ يَتْبعونها ينزعونها من أيدي الناس، ويردّونها إلى أهلها.

قال أبو عمر: قد روَى ابنُ عيينة وغيره، عن الزهريّ، عن عبد الله بن عمرو؛ أنه كان لا يرى ببيع الصكوك إذا خرجت بأسًا، ويكره لمن اشتراها أن يبيعها حتى يقبضها، وعن معمر، عن الزهريّ، عن زيد بن ثابت مثله. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الأرجح في تأويل النهي عن بيع الصكاك هو بيع من اشترى تلك الصكاك عن أهلها قبل أن يقبض الطعام، لا بيع أصحاب الصكاك صكاكهم، فإنه جائز، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 129.

ص: 38

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 3831] و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 283 - 284)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 31)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3844]

(1529) - (حَدَّثنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا رَوْحٌ، حَدَّثنا ابْنُ جُرَيْجٍ، حَدَّثَني أَبُو الزُّبَيْرِ؛ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا ابْتَعْتَ طَعَامًا فَلَا تَبِعْهُ حَتى تَسْتَوْفِيَهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(رَوْحٌ) بن عُبادة القيسيّ، أبو محمد البصريّ، ثقة فاضلٌ، له تصانيف [9](ت 5 أو 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 476.

2 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم، أبو الوليد، وأبو خالدًا لمكيّ، ثقة فقيه، فاضل، يدلّس، ويرسل [6](ت 150) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

3 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ يدلّس [4](126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

4 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ السَّلَميّ رضي الله عنهما المتوفّى بعد السبعين (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

و"إسحاق بن إبراهيم" هو: ابن راهويه ذُكر قبله، وشرح الحديث يُعلم مما سبق.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

ص: 39

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 3844](1529)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 279)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 312)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(9) - (بَابُ تَحْرِيمِ بَيْعِ صُبْرَةِ التَّمْرِ الْمَجْهُولَةِ الْقَدْرِ بِتَمْرٍ)

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3845]

(1530) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ؛ أَنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الصُّبْرَةِ مِنَ التَّمْرِ لَا يُعْلَمُ مَكِيلَتُهَا بِالْكَيْلِ الْمُسَمَّى مِنَ التَّمْرِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ) المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م دس ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله، أبو محمد القرسيّ مولاهم، المصريّ الفقيه، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

والباقون ذُكروا في السند الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فقد تفرد به هو، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمكيين، غير شيخه، وابن وهب، فمصريّان، وأنه مسلسلٌ بالتحديث، والإخبار والسماع من أوله إلى آخره، وكذا الإسناد التالي.

ص: 40

4 -

(ومنها): أن فيه جابرًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

عن ابن جريجٍ (أَنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: "نَهَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ بَيْعِ الصُّبْرَةِ) - بضم الصاد المهملة، وسكون الموحّدة -: جمعها صُبَرٌ، - بضم، ففتح - كغُرْفة وغُرَف: هي الطعام المجتمع، كالكُومة، يقال: اشتريتُ الشيءَ صُبْرةً؛ أي: بلا كيل، ولا وزن، أفاده الفيّوميّ

(1)

.

وقوله: (مِنَ التَّمْرِ) بيان لـ"الصُّبْرة"، وقوله:(لَا يُعْلَمُ) بالبناء للمفعول، ونائب فاعله "مكيلها"، والجملة حال من "الصبرة"، أو نعت لها، على تقدير "أل" جنسيّة، على حدّ قول الشاعر [من الكامل]:

وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي

فَمَضيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لَا يَعْنِينِي

وقوله: (مَكِيلُهَا) بفتح الميم: مصدر كال، يقال: كال الطعام يكيله كَيلًا، ومَكِيلًا ومَكَالًا، واكتاله بمعئى، والاسم الكِيلة بالكسر، قاله في "القاموس"

(2)

، والمراد هنا أنه لا يُعلم مقدار كيل تلك الصُّبْرة.

وقال الشوكانيّ رحمه الله: قوله: "لا يُعلم مكيلها" صفة كاشفة للصُّبْرة؛ لأنه لا يقال لها: صُبرة، إلا إذا كانت مجهولة الكيل. انتهى

(3)

.

وقوله: (بِالْكَيْلِ) متعلّقٌ بـ "بيع"، والباء للمقابلة (الْمُسَمَّى مِنَ التَّمْرِ) قال النوويّ رحمه الله: هذا تصريحٌ بتحريم بيع التمر بالتمر حتى يُعلم المماثلة، قال العلماء: لأنّ الجهل بالمماثلة في هذا الباب كحقيقة المفاضلة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إلا سواءً بسواءٍ"، ولم يحصُل تحقّق المساواة مع الجهل، وحكم الحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، وسائر الرِّبويّات إذا بِيع بعضها ببعض حكم التمر بالتمر. انتهى

(4)

.

(1)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 331.

(2)

"القاموس المحيط" 4/ 48.

(3)

"نيل الأوطار" 5/ 208.

(4)

"شرح النوويّ" 10/ 172.

ص: 41

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله النوويّ من أن حكم الحنطة، والشعير، وسائر الربويات، حكم التمر قد جاء منصوصًا عليه فيما رواه النسائيّ في "سننه" بإسناد صحيح، عن أبي الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تباع الصبرة من الطعام بالكيل بالصبرة من الطعام، ولا الصبرة من الطعام المسمى من الطعام المسمى". انتهى

(1)

.

فالطعام، وإن أطلقه أهل الحجاز على البُرّ خاصّة - كما قال الأزهريّ - إلا أنه في العرف: اسم لما يُؤكل، مثل الشراب: اسم لما يُشرب، أفاده الفيّوميّ، وقال ابن منظور: الطعام: اسم جامعٌ لكلّ ما يؤكل، وقال ابن الأثير: الطعام عامّ في كلّ ما يُقتات، من الحنطة، والشعير، والتمر، وغير ذلك. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسالت الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 3845 و 3846](1530)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 269 و 270) و"الكبرى"(4/ 22)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 145)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 44)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 155)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 286)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 291 و 308) و"الصغرى"(5/ 94) و"المعرفة"(4/ 339)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان حكم بيع الصُّبْرة المجهولة المقدار بالمعلوم المقدار، وهو التحريم.

(1)

"السنن الكبرى" للنسائيّ (4/ 23) رقم (6139).

ص: 42

2 -

(ومنها): أنه يدلّ على أنه لا يجوز أن يباع جنس بجنسه، وأحدهما مجهول المقدار؛ لأن العلم بالتساوي مع اتّفاق الجنس شرط، لا يجوز البيع بدونه، ولا شكّ أن الجهل بكلا البدلين، أو بأحدهما فقط، مظِنّة للزيادة والنقصان، وما كان مظنّةً للحرام وجب تجنّبه، وتجنّب هذه المظنّة إنما يكون بكيل المكيل، ووزن الموزون من كلّ من البدلين. قاله الشوكانيّ رحمه الله

(1)

.

3 -

(ومنها): أنه يدلّ بمفهومه على أنه لو باع الصبرة بغير جنسها لجاز، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3846]

(

) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُريجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ؛ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِه، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ مِنَ التَّمْرِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وهم المذكورون قبل حديث.

[تنبيه]: رواية روح بن عبادة، عن ابن جريج هذه ساقها البيهقيّ في "الكبرى"، إلا أن في روايته ذكر "من التمر" في آخر الحديث، فقال (5/ 308):

وأنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، ثنا إبراهيم بن عبد الله السعديّ، أنا رَوح بن عُبادة، ثنا ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير؛ أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الصُّبْرة من التمر، لا يُعْلم مَكِيلها بالكيل المسمى من التمر". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"نيل الأوطار" 5/ 208.

ص: 43

(10) - (بَابُ ثُبُوتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3847]

(1531) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْبَيِّعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِه، مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، إِلا بَيْعَ الْخِيَارِ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلهم تقدّموا قبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (249) من رباعيات الكتاب، وهو أصحّ الأسانيد مطلقًا، كما نُقِلَ ذلك عن الإمام البخاريّ رحمه الله، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْبَيِّعَانِ) - بفتح الموحّدة، وتشديد المثنّاة التحتانيّة المكسورة -؛ أي: البائع والمشتري، وتسمية المشتري بائعًا جائز كما سبق، ووقع أيضًا بلفظ:"المتبايعان"، وقال وليّ الدين رحمه الله: قوله: "المتبايعان" كذا في أكثر الروايات، وفي بعضها:"البيّعان"، وكلاهما في "الصحيحين"، ولم يَرِد في شيء من طرقه فيما أعلم:"البائعان"، وإن كان استعمال لفظ البائع أغلب، وقد استُعمل في اللغة الأمران، كما في ضَيِّقٍ، وضائق، وَصَيِّنٍ، وصائن، واقتصروا على فيعل في ألفاظ محصورة؛ كطيّب، وسيّيء، وميّتٍ، وكيّسٍ، وريّض، وليّن، وهيّن، وقالوا: بان بمعنى بَعُد، فهو بائنٌ، وبمعنى ظهر، فهو بيّنٌ، وقام ببُدْنه، فهو قائمٌ، وقام بالأمر، وعلى اليتيم، فهو قَيّمٌ، ففرّقوا بينهما بحسب المعنى. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "البيعان" بتشديد التحتانية، والْبَيِّع بمعنى البائع؛

(1)

"طرح التثريب" 6/ 148.

ص: 44

كضَيِّق وضائق، وصَيِّن وصائن، وليس كبَيِّن وبائن، فإنهما متغايران؛ كقَيِّم وقائم، واستعمال الْبَيِّع في المشتري إما على سبيل التغليب، أو لأن كلًّا منهما بائع. انتهى

(1)

.

(كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ)؛ أي: في إمضاء البيع (عَلَى صَاحِبِه، مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا) - بتقديم التاء على الفاء - قال وليّ الدين رحمه الله: كذا في أكثر الروايات، وفي بعضها "يَفْتَرِقا" بتقديم الفاء، وبالتخفيف، وهو عند النسائيّ من غير وجه، وكذا هو عند مسلم من حديث حكيم بن حِزَام، وحَكَى ثعلب عن ابن الأعرابيّ، عن الْمُفَضَّل أنه قال: يفترقان بالكلام، ويتفرقان بالأبدان.

وأنكره القاضي أبو بكر بن العربيّ، وقال: لا يشهد له القرآن، ولا يعضده الاشتقاق، قال الله تعالى:{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)} [البينة: 4]، فذكر التفرق فيما ذكر فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم الافتراق في قوله:"افترقت اليهود والنصارى على ثنتين وسبعين فرقةً، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة".

قال وليّ الدين: التفرق الذي في الآية، والافتراق الذي في الخبر، لا يمتنع أن يراد بهما الأبدان؛ لأنه لازم لاختلاف العقائد غالبًا، فإن من خالف شخصًا في عقيدته، هَجَرَه، ولم يساكنه غالبًا، وبتقدير أن يراد به الأقوال، فلا يطابق مَنْ أَوَّل هذا الحديث على الافتراق بالأقوال، كما سنحكيه؛ لأن أقوال أولئك المختلفين متفرقة، ولا يطابق شيء منها الآخر، وأما هنا فإن قولي البائعين متوافقان، لا يخالف أحدهما الآخر، فإنه لو خالفه لم يصحّ البيع، والله أعلم. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": قوله: "ما لم يتفرقا"، في رواية النسائيّ:"يفترقا" بتقديم الفاء، ونَقَلَ ثعلب عن المفضل بن سلمة: افترقا بالكلام، وتفرّقا بالأبدان، وردّه ابن العربيّ بقوله تعالى:{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} ، فإنه ظاهر في التفرق بالكلام؛ لأنه بالاعتقاد، وأجيب بأنه من لازمه في الغالب؛

(1)

"الفتح" 5/ 562.

(2)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 6/ 148.

ص: 45

لأن من خالف آخر في عقيدته كان مستدعيًا لمفارقته إياه ببدنه، ولا يخفى ضعف هذا الجواب، والحقّ حمل كلام المفضل على الاستعمال بالحقيقة، وإنما استُعْمِل أحدهما في موضع الآخر اتساعًا. انتهى

(1)

.

(إِلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ) أي: فلا يحتاج إلى التفرّق، وفي رواية:"إلا أن يكون البيع كان عن خيار، فإن كان البيع عن خيار، فقد وجب البيع"، وفي رواية:"أو يقول أحدهما للآخر: اختر".

وقد اختلف العلماء في المراد بقوله: "إلا بيع الخيار"، فقال الجمهور، وبه جزم الشافعيّ: هو استثناء من امتداد الخيار إلى التفرق، والمراد أنهما إن اختارا إمضاء البيع قبل التفرق، لزم البيع حينئذ، وبطل اعتبار التفرق، فالتقدير: إلا البيع الذي جرى فيه التخاير.

قال النووي: اتفق أصحابنا على ترجيح هذا التأويل، وأبطل كثير منهم ما سواه، وغَلَّطُوا قائله. انتهى.

ورواية الليث الآتية بعد حديث ظاهرة جدًّا في ترجيحه.

وقيل: هو استثناء من انقطاع الخيار بالتفرق، وقيل: المراد بقوله: "أو يُخيّر أحدهما الآخر"؛ أي: فيشترط الخيار مدة معينة، فلا ينقضي الخيار بالتفرق، بل يبقى حتى تمضي المدة، حكاه ابن عبد البر، عن أبي ثور، ورجح الأول، بأنه أقل في الإضمار، وتُعَمنه رواية النسائيّ، من طريق إسماعيل، قيل: هو ابن أمية، وقيل: غيره، عن نافع، بلفظ:"إلا أن يكون البيع، كان عن خيار، فإن كان البيع عن خيار، وجب البيع".

وقيل: هو استثناء من إثبات خيار المجلس، والمعنى: أو يخيّر أحدهما الآخر، فيختار في خيار المجلس، فينتفي الخيار، وهذا أضعف الاحتمالات.

وقيل: قوله: "إلا أن يكون بيع خيار"؛ أي: هما بالخيار، ما لم يتفرقا، إلا أن يتخايرا، ولو قبل التفرق، وإلا أن يكون البيع بشرط الخيار، ولو بعد التفرق، وهو قول يجمع التأويلين الأولين، ويؤيده رواية عبد الرزاق، عن سفيان، بلفظ:"إلا بيع الخيار، أو يقول لصاحبه: اختر"، إن حملنا "أو" على

(1)

"الفتح" 5/ 562.

ص: 46

التقسيم، لا على الشك، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: اختُلف في قوله: "إلا بيع الخيار" على أقوال:

[أحدها]: أنه استثناء من امتداد الخيار إلى التفرّق، والمراد ببيع الخيار أن يتخايرا في المجلس، ويختارا إمضاء البيع، فيلزم بنفس الخيار، ولا يدوم إلى التفرّق، ويدلّ لهذا قوله في رواية أيوب السختيانيّ، وهي في "الصحيح":"ما لم يتفرّقا، أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر"، وربّما قال:"أو يكون بيع الخيار"، فلما وَضَع قوله:"أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر"، موضع "بيع الخيار"، دلّ على أنه بمعناه، ويدلّ لذلك قوله في رواية أخرى:"ما لم يتفرّقا، أو يختارا"، وكذا قوله في رواية أخرى:"ما لم يتفرقا، وكانا جميعًا، أو يخيّر أحدهما الآخر".

وقد رجّح الشافعيّ رحمه الله هذا المعنى، فقال فيما رواه البيهقيّ في "المعرفة": واحتَمَل قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إلا بيع الخيار" معنيين:

[أظهرهما]: عند أهل العلم باللسان، وأولاهما بمعنى السنّة، والاستدلال بها، والقياس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ جعل الخيار للمتبايعين، والمتبايعان اللذان عقدا البيع، حتى يتفرّقا، إلا بيع الخيار، فإن الخيار إذا كان لا ينقطع بعد عقد البيع في السنّة حتى يتفرّقا، وتفرّقهما هو أن يتفرقا عن مُقامهما الذي تبايعا فيه، كان بالتفرّق، أو بالتخيير، وكان موجودًا في اللسان، والقياس إذا كان البيع يجب بشيء بعد البيع، وهو الفراق أن يجب بالثاني بعد البيع، فيكون إذا خيّر أحدهما صاحبه بعد البيع، كان الاختيار تحديد شيء يوجبه، كما كان التفرّق تحديد شيء يوجبه، ولو لم يكن فيه سنّة تبيّنه بمثل ما ذهبت إليه كان ما وصفنا أولى المعنيين أن يؤخذ به؛ لما وصفت من القياس، مع أن سفيان بن عيينة أخبرنا عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، قال: خيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا بعد البيع، فقال الرجل: عمَّرك الله، ممن أنت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"امرؤ من قريش"، قال: فكان أبي يحلف ما كان الخيار إلا بعد البيع، قال الشافعيّ:

(1)

"الفتح" 5/ 572.

ص: 47

وبهذا نقول، وكذا حكاه الترمذيّ عن الشافعيّ، وغيره، وحكاه ابن المنذر عن الثوريّ، والأوزاعيّ، وابن عيينة، وعبيد الله بن الحسن العنبريّ، والشافعيّ، وإسحاق ابن راهويه.

وقال النوويّ في "شرح مسلم": اتّفق أصحابنا على ترجيح هذا القول، وأبطل كثير منهم ما سواه، وغلّطوا قائله.

وممن رجحه من المحدّثين البيهقيّ، ثم بسط دلائله، وبيّن ضعف ما يعارضها.

[القول الثاني]: أنه استثناء من انقطاع الخيار بالتفرّق، والمراد إلا بيعًا شُرِط فيه خيار الشرط، ثلاثة أيام، أو دونها، فلا ينقضي الخيار فيه بالتفرّق، بل يبقى حتى تنقضي المدّة المشروطة، حكى ابن عبد البرّ هذا عن الشافعيّ، وأبي ثور، وجماعة.

[القول الثالث]: أنه استثناء من إثبات الخيار، والمعنى: إلا بيعًا شُرِط فيه نفي خيار المجلس، فيلزم البيع، ولا يكون فيه خيار. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يترجح عندي هو القول الأول الذي رجحه الشافعيّ رحمه الله؛ لقوة حجته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 3847 و 3848 و 3849 و 3850 و 3851](1531)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2107 و 2109 و 2111 و 2112 و 2113)، و (أبو داود) في "البيوع"(3454)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1245)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 248 و 250) و"الكبرى"(7/ 7 و 8 و 9)، و (ابن ماجه) في "التجارات"(2181)، (ومالك) في "الموطّإ"(1374)، و (الشافعيّ)

(1)

"طرح التثريب" 6/ 156 - 157.

ص: 48

في "مسنده"(1/ 137 و 219)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(14265)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 124)، و (الحميديّ) في "مسنده"(655)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 56 و 2/ 4 و 54 و 73 و 54)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4913)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(12/ 448) و"الأوسط"(6/ 93) و"الصغير"(2/ 92)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 192)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 243)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(617)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 266 و 267 و 268)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(13/ 254)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 269) و"المعرفة"(4/ 273 و 281)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(8/ 39)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ثبوت الخيار للمتبايعين.

2 -

(ومنها): جواز البيع بشرط الخيار.

3 -

(ومنها): ثبوت خيار المجلس في البيع، وهو قول الجمهور، وسيأتي تحقيق الخلاف فيه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

4 -

(ومنها): بيان عِظَم ما جاءت به الشريعة الغرّاء، حيث تكفّلت مصالح العباد في كلّ شؤون حياتهم، فشرعت التروّي في أبواب كثيرة من أبواب المعاملات؛ كباب البيع، فمثلًا شرعت الخيار في هذا الباب لكلّ من المتبايعين، حتى لا يقع واحد منهما في ندم لا يمكنه تلافيه، فإنه إذا أتيح له وقت واسع يتروّى فيه، ويفكّر فيما يؤول إليه أمره، يَسْلَم من هذا الندم، ويُقدِم على هذا الفعل، وهو على بصيرة من أمره، والعكس بالعكس، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم خيار المجلس:

ذهب الجمهور، من السلف، والخلف إلى ثبوته، وممن قال به عليّ بن أبي طالب، وابن عمر، وابن عبّاس، وأبو هريرة، وأبو برزة الأسلميّ، وطاوس، وسعيد بن المسيّب، وعطاء، وشُريح القاضي، والحسن البصريّ، والشعبيّ، والزهريّ، وابن جريج، والأوزاعيّ، وابن أبي ذئب، والليث بن سعد، وسفيان بن عيينة، والشافعيّ، ويحيى القطّان، وعبد الرحمن بن مهديّ،

ص: 49

وعبيد الله بن الحسن العنبريّ، وسوّار القاضي، ومسلم بن خالد الزنجيّ، وابن المبارك، وعليّ بن المدينيّ، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، وأبو عبيد، والبخاري، وسائر المحدّثين، وآخرون، وقال به من المالكيّة: عبد الملك بن حبيب.

وذهب مالك، وأبو حنيفة، وأصحابهما إلى إنكار خيار المجلس، وقالوا: إنه يلزم البيع بنفس الإيجاب والقبول، وبه قال إبراهيم النخعيّ، واختُلف في ذلك عن ربيعة، وسفيان الثوريّ، قال ابن حزم: ما نعلم لهم من التابعين سلفًا، إلا إبراهيم وحده، ورواية مكذوبة عن شريح، والصحيح عنه موافقة الحقّ، وكذا قال ابن عبد البرّ: لا أعلم أحدًا ردّه غير هذين الاثنين، إلا ما رُوي عن إبراهيم النخعيّ. انتهى، هكذا ذكره ولي الدين رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح" في شرح هذا الحديث: وفيه دليل على إثبات خيار المجلس، وقد مضى قبلُ بباب أن ابن عمر، حمله على التفرق بالأبدان، وكذلك أبو برزة الأسلميّ، ولا يُعرف لهما مخالف من الصحابة، وخالف في ذلك إبراهيم النخعيّ، فروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عنه: قال: البيع جائز، وإن لم يتفرقا، ورواه سعيد بن منصور عنه، بلفظ: إذا وجبت الصفقة، فلا خيار، وبذلك قال المالكية، إلا ابن حبيب، والحنفية كلهم، قال ابن حزم: لا نعلم لهم سلفًا، إلا إبراهيم وحده.

وقد ذهبوا في الجواب عن هذا الحديث فِرَقًا:

فمنهم من ردّه؛ لكونه معارضًا لما هو أقوى منه.

ورُدّ بأنه لا يوجد ما هو أقوى، بل ولا ما يساويه.

ومنهم من صححه، ولكن أوّله على غير ظاهره، وهؤلاء المأوّلون على أقوال، نلخّصها فيا يلي:

[أحدهما]: قالت طائفة منهم: هو منسوخ، بحديث:"المسلمون على شروطهم"، والخيار بعد لزوم العقد، يفسد الشرط، وبحديث التحالف عند اختلاف المتبايعين؛ لأنه يقتضي الحاجة إلى اليمين، وذلك يستلزم لزوم العقد،

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 6/ 149.

ص: 50

ولو ثبت الخيار، لكان كافيًا في رفع العقد. وبقوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} الآية [البقرة: 282]، والإشهاد إن وقع بعد التفرق، لم يطابق الأمر، وإن وقع قبل التفرق، لم يصادف محلًّا.

ولا حجة في شيء من ذلك؛ لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، والجمع بين الدليلين مهما أمكن، لا يصار معه إلى الترجيح، والجمع هنا ممكن بين الأدلة المذكورة، بغير تعسف، ولا تكلف.

[ثانيها]: قال بعضهم: هو من رواية مالك، وقد عمل بخلافه، فَدَلّ على أنه عارضه ما هو أقوى منه، والراوي إذا عمل بخلاف ما رَوَى، دلّ على وَهْن المرويّ عنده.

وتُعُقِّب بأن مالكًا لم يتفرد به، فقد رواه غيره، وعَمِل به، وهم أكثر عددًا، روايةً، وعملًا، وقد خص كثير من محققي أهل الأصول الخلاف المشهور، فيما إذا عمل الراوي بخلاف ما روى بالصحابة، دون من جاء بعدهم، ومن قاعدتهم: أن الراوي أعلمُ بما روى، وابن عمر هو راوي الخبر، وكان يفارق إذا باع ببَدنه، فاتباعه أولى من غيره.

[ثالثها]: قالت طائفة: هو معارض بعمل أهل المدينة، ونقل ابن التين عن أشهب، بأنه مخالف لعمل أهل مكة أيضًا.

وتُعُقّب بأنه قال به ابن عمر، ثم سعيد بن المسيِّب، ثم الزهريّ، ثم ابن أبي ذئب، كما مضى، وهؤلاء من أكابر علماء أهل المدينة، في أعصارهم، ولا يُحفَظ عن أحد من علماء المدينة القول بخلافه، سوى عن ربيعة، وأما أهل مكة، فلا يُعرف عن أحد منهم القول بخلافه، فقد سبق عن عطاء، وطاوس، وغيرهما من أهل مكة.

وقد اشتد إنكار ابن عبد البر، وابن العربيّ على من زعم من المالكية؛ أن مالكًا ترك العمل به؛ لكون عمل أهل المدينة على خلافه.

وأيضًا فإن إجماعهم على تقدير صحته ليس حجة، قال الشيخ تقيّ الدين ابن دقيق العيد رضي الله عنهما في "شرح العمدة": الحقّ الذي لا شكّ فيه أن إجماعهم لا يكون حجة فيما طريقه الاجتهاد والنظر؛ لأن الدليل العاصم للأمة من الخطإ في الاجتهاد لا يتناول بعضهم، ولا مستند للعصمة سواه، وكيف يمكن أن

ص: 51

يقال: بأن من كان بالمدينة من الصحابة يُقبل خلافه ما دام مقيمًا بها، فإذا خرج عنها لم يقبل خلافه، هذا محال، فإن قبول قوله باعتبار صفات قائمة به، حيث حلّ، وقد خرج منها عليّ رضي الله عنه، وهو أفضل أهل زمانه بإجماع أهل السنّة، وقال أقوالًا بالعراق، كيف يمكن أن تُهْدَر إذا خالفها أهل المدينة، وهو كان رأسهم؟ وكذلك ابن مسعود رضي الله عنه، ومحلّه من العلم معلوم، وغيرهما قد خرجوا، وقالوا أقوالًا، على أن بعض الناس يقولون: إن المسائل المختلف فيها خارج المدينة، مختلف فيها بالمدينة، وادّعى العموم في ذلك. انتهى

(1)

.

وقال ابن العربيّ: إنما لم يأخذ به مالك؛ لأن وقت التفرق غير معلوم، فأشبه بيوع الغرر، كالملامسة.

وتُعُقّب بأنه يقول بخيار الشرط، ولا يَحُدّه بوقت معين، وما ادّعاه من الغرر موجود فيه، وبان الغرر في خيار المجلس معدوم؛ لأن كلًّا منهما متمكن من إمضاء البيع، أو فسخه بالقول، أو بالفعل، فلا غرر.

(رابعها): قالت طائفة: هو خبر واحد، فلا يُعمل به إلا فيما تعمّ به البلوي.

ورُدّ بأنه مشهور، فيُعْمَل به كما ادعَوا نظير ذلك في خبر القهقهة في الصلاة، وإيجاب الوتر.

(خامسها): قال آخرون: هو مخالف للقياس الجليّ، في إلحاق ما قبل التفرق بما بعده. وتعقب بأن القياس مع النصّ فاسد الاعتبار.

(سادسها): قال آخرون: التفرق بالأبدان محمول على الاستحباب، تحسينًا للمعاملة مع المسلم، لا على الوجوب.

(سابعها): قال آخرون: هو محمول على الاحتياط؛ للخروج من الخلاف، وهذا والذي قبله على خلاف الظاهر، ولا يُعدل عن الظاهر إلا بدليل، ولا يوجد.

(ثامنها): قالت طائفة: المراد بالتفرق في الحديث، التفرق بالكلام، كما في عقد النكاح، والإجارة، والعتق.

(1)

"طرح التثريب" 6/ 150.

ص: 52

وتُعُقّب بأنه قياس مع ظهور الفارق؛ لأن البيع يُنقل فيه ملك رقبة المبيع، ومنفعته، بخلاف ما ذُكر.

وقال ابن حزم: سواء قلنا: التفرق بالكلام، أو بالأبدان، فإن خيار المجلس بهذا الحديث ثابت، أما حيث قلنا: التفرق بالأبدان فواضح، وحيث قلنا: بالكلام فواضح أيضًا؛ لأن قول أحد المتبايعين مثلًا: بعتكه بعشرة، وقول الآخر: بل بعشرين مثلًا، افتراق في الكلام بلا شك، بخلاف ما لو قال: اشتريته بعشرة، فإنهما حينئذ متوافقان، فيتعين ثبوت الخيار لهما حين يتفقان، لا حين يتفرقان، وهو المدَّعَى.

(تاسعها): قيل: المراد بالمتبايعين المتساومان.

ورُدّ بأنه مجاز، والحمل على الحقيقة، أو ما يقرُب منها أولى.

واحتجّ الطحاويّ بآيات، وأحاديث، استُعِمل فيها المجاز، وقال: من أنكر استعمال لفظ البائع في السائم، فقد غفل عن اتساع اللغة.

وتُعُقّب بأنه لا يلزم من استعمال المجاز في موضع، طرده في كل موضع، فالأصل من الإطلاق الحقيقة، حتى يقوم الدليل على خلافه.

وقالوا أيضًا: وقت التفرق في الحديث، هو ما بين قول البائع: بعتك هذا بكذا، وبين قول المشتري: اشتريت، قالوا: فالمشتري بالخيار في قوله: اشتريت، أو تركه، والبائع بالخيار إلى أن يوجب المشتري، وهكذا حكاه الطحاويّ عن عيسى بن أبان منهم، وحكاه ابن خويزمنداد عن مالك، قال عيسى بن أبان: وفائدته تظهر فيما لو تفرقا قبل القبول، فإن القبول يتعذر.

وتُعُقّب بأن تسميتهما متبايعين، قبل تمام العقد مجاز أيضًا، فأجيب بأن تسميتهما متبايعين بعد تمام العقد مجاز أيضًا؛ لأن اسم الفاعل في الحال حقيقة، وفيما عداه مجاز، فلو كان الخيار بعد انعقاد البيع، لكان لغير البيّعين، والحديث يردّه، فتعيّن حمل التفرق على الكلام.

وأجيب: بأنه إذا تعذر الحمل على الحقيقة، تعيّن المجاز، وإذا تعارض المجازان، فالأقرب إلى الحقيقة أولى، وأيضًا فالمتبايعان، لا يكونان متبايعين حقيقة، إلا في حين تعاقدهما، لكن عقدهما لا يتم إلا بأحد أمرين: إما بإبرام العقد، أو التفرق على ظاهر الخبر، فصحّ أنهما متعاقدان ما داما في مجلس

ص: 53

العقد، فعلى هذا تسميتهما متبايعين حقيقة، بخلاف حمل المتبايعين على المتساومين، فإنه مجاز باتفاق.

(عاشرها): قالت طائفة: التفرق يقع بالأقوال، كقوله تعالى:{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} الآية [النساء: 130].

وأجيب: بأنه سُمي بذلك لكونه يفضي إلى التفرق بالأبدان. قال البيضاويّ: ومن نفى خيار المجلس، ارتكب مجازين: بحمله التفرق على الأقوال، وحمله المتبايعين على المتساومين، وأيضًا فكلام الشارع يصان عن الحمل عليه؛ لأنه يصير تقديره أن المتساومين إن شاءا عقدا البيع، وإن شاءا لم يعقداه، وهو تحصيل الحاصل؛ لأن كل أحد يعرف ذلك، ويقال لمن زعم أن التفرق بالكلام: ما هو الكلام الذي يقع به التفرق، أهو الكلام الذي وقع به العقد، أم غيره؟ فإن كان غيره فما هو؟ فليس بين المتعاقدين كلام غيره، وإن كان هو ذلك الكلام بعينه، لزم أن يكون الكلام الذي اتّفقا عليه، وتم بيعهما به، هو الكلامَ الذي افترقا به، وانفسخ بيعهما به، وهذا في غاية الفساد.

(حادي عشرها): قال آخرون: العمل بظاهر الحديث متعذر، فيتعيّن تأويله، وبيان تعذره أن المتبايعين، إن اتفقا في الفسخ، أو الإمضاء، لم يثبت لواحد منهما على الآخر خيار، دوان اختلفا فالجمع بين الفسخ والإمضاء جمع بين النقيضين، وهو مستحيل.

وأجيب: بان المراد أن لكل منهما الخيار في الفسخ، وأما الإمضاء، فلا احتياج إلى اختياره، فإنه مقتضى العقد، والحال يفضي إليه مع السكوت، بخلاف الفسخ.

(ثاني عشرها): قال آخرون: حديث ابن عمر هذا، وحكيم بن حزام، معارَض بحديث عبد الله بن عمرو، وذلك فيما أخرجه أبو داود وغيره، من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، مرفوعًا:"الْبَيِّعَان بالخيار، ما لم يتفرقا، إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارق صاحبه، خشية أن يستقيله".

قال ابن العربيّ: ظاهر هذه الزيادة، مخالف لأول الحديث في الظاهر،

ص: 54

فإن تأولوا الاستقالة فيه على الفسخ، تأولنا الخيار فيه على الاستقالة، وإذا تعارض التأويلان، فُزِع إلى الترجيح، والقياس في جانبنا، فيرجح.

وتُعُقّب: بأن حمل الاستقالة على الفسخ، أوضح من حمل الخيار على الاستقالة؛ لأنه لو كان المراد حقيقة الاستقالة، لم تمنعه من المفارقة، لأنها لا تختص بمجلس العقد، وقد أثبت في أول الحديث الخيار، ومَدَّه إلى غاية التفرق، ومن المعلوم أن من له الخيار، لا يحتاج إلى الاستقالة، فتعيّن حملها على الفسخ، وعلى ذلك حمله الترمذيّ وغيره، من العلماء، فقالوا: معناه: لا يحل له أن يفارقه بعد البيع، خشية أن يختار فسخ البيع؛ لأن العرب تقول: استقلت ما فات عني، إذا استدركته، فالمراد بالاستقالة، فسخ النادم منهما للبيع، وحملوا نفي الحل على الكراهة؛ لأنه لا يليق بالمروءة، وحسن معاشرة المسلم، لا أَنَّ اختيار الفسخ حرام.

قال ابن حزم: احتجاجهم بحديث عمرو بن شعيب، على التفرق بالكلام، لقوله فيه:"خشية أن يستقيله"؛ لكون الاستقالة لا تكون إلا بعد تمام البيع، وصحةُ انتقال الملك، يستلزم أن يكون الخبر المذكور، لا فائدة له؛ لأنه يلزم من حمل التفرق على القول، إباحة المفارقة، خشي أن يستقيله، أو لم يخش.

(ثالث عشرها): قال بعضهم: التفرق بالأبدان في الصرف، قبل القبض يبطل العقد، فكيف يُثبت العقد ما يبطله؟

وتُعُقّب باختلاف الجهة، وبالمعارضة بنظيره، وذلك أن النقد، وترك الأجل شرطٌ لصحة الصرف، وهو يُفسد السَّلَم عندهم.

واحتَجَّ بعضهم بحديث ابن عمر الآتي بعد بابين في قصة البكر الصعب

(1)

(1)

قصّة البكر هو ما أخرجه البخاريّ: في "صحيحه"(2116) من طريق عمرو بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في سفر، فكنت على بكر صعب لعمر، فكان يغلبني فيتقدم أمام القوم، فيزجره عمر ويردّه، ثم يتقدم، فيزجره عمر ويردّه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعمر:"بعنيه"، قال: هو لك يا رسول الله، قال:"بعنيه"، فباعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"هو لك يا عبد الله بن عمر، تصنع به ما شئت". انتهى.

ص: 55

وسيأتي توجيهه وجوابه

(1)

.

واحتجّ الطحاويّ بقول ابن عمر رضي الله عنه: ما أدركت الصفقة، حيًّا مجموعًا، فهو من مال المبتاع.

وتُعقب بأنهم يخالفونه، أما الحنفية، فقالوا: هو من مال البائع، ما لم يره المبتاع، أو ينقله. والمالكية قالوا: إن كان غائبًا غيبة بعيدة، فهو من البائع، وأنه لا حجة فيه؛ لأن الصفقة فيه محمولة على البيع الذي انبرم، لا على ما لم ينبرم، جمعًا بين كلاميه.

(رابع عشرها): قال بعضهم: معنى قوله: "حتى يتفرقا"؛ أي: حتى يتوافقا، يقال للقوم: على ماذا تفارقتم؛ أي: على ماذا اتفقتم.

وتُعُقّب بما ورد في بقية حديث ابن عمر في جميع طرقه، ولا سيما في طريق الليث الآتية بعد حديث.

(خامس عشرها): قال بعضهم: حديث "البيعان بالخيار" جاء بالفاظ مختلفة، فهو مضطرب، لا يُحتجّ به.

وتُعُقّب بأن الجمع بين ما اختلف من ألفاظه، ممكن بغير تكلف، ولا تعسف، فلا يضره الاختلاف، وشرط المضطرب أن يتعذر الجمع بين مختلف ألفاظه، وليس هذا الحديث من ذلك.

(سادس عشرها): قال بعضهم: لا يتعين حمل الخيار في هذا الحديث على خيار الفسخ، فلعله أريد به خيار الشراء، أو خيار الزيادة في الثمن، أو المثمن.

(1)

جوابه أنه قد بيّن ذلك بالأحاديث السابقة المصرّحة بخيار المجلس، والجمع بين الحديثين ممكن، بأن يكون بعد العقد فارقه عمر، بأن تقدّمه، أو تأخّر عنه مثلًا، ثم وهب، وليس في الحديث ما يُثبت ذلك، ولا ما ينفيه، فلا معنى للاحتجاج بهذه الواقعة العينيّة في إبطال ما دلّت عليه الأحاديث المصرّحة، من إثبات خيار المجلس، فإنها إن كانت متقدمة على حديث "البيعان بالخيار"، فحديث "البيعان" قاض عليها، وإن كانت متأخرة عنه حُمِل على أنه صلى الله عليه وسلم اكتفى بالبيان السابق، واستفيد منه أن المشتري إذا تصرف في المبيع، ولم ينكر البائع كان ذلك قاطعًا لخيار البائع، كما فهمه البخاريّ، والله أعلم. انتهى. "الفتح" 5/ 575.

ص: 56

وأجيب بأن المعهود في كلامه صلى الله عليه وسلم، حيث يُطلق الخيار إرادة خيار الفسخ، كما في حديث المصرّاة، وكما في حديث الذي يُخدَع في البيوع، وأيضًا فإذا ثبت أن المراد بالمتبايعين المتعاقدان، فبعد صدور العقد، لا خيار في الشراء، ولا في الثمن.

(سابع عشرها): تمسّك بعضهم في ردّ ذلك بالعمومات، مثل قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} الآية [المائدة: 1] قالوا: وفي الخيار إبطال الوفاء بالعقد، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم:"من ابتاع طعامًا، فلا يبعه حتى يستوفيه"، قالوا: فقد أباح بيعه بعد قبضه، ولو كان قبل التفرّق.

وأجيب بأن هذا مسلك ضعيف؛ لأن العمومات لا تردّ بها النصوص الخاصّة، وإنما يُقضى للخاصّ على العامّ

(1)

.

(ثامن عشرها): حَكَى ابن السمعاني في "الاصطلام" عن بعض الحنفية، قال: البيع عقد مشروع بوصف، وحكم، فوصفه اللزوم، وحكمه الملك، وقد تم البيع بالعقد، فوجب أن يتم بوصفه وحكمه، فأما تأخير ذلك، إلى أن يفترقا فليس عليه دليل؛ لأن السبب إذا تم يفيد حكمه، ولا ينتفي إلا بعارض، ومن ادّعاه فعليه البيان.

وأجاب أن البيع سبب للإيقاع في الندم، والندم يحوج إلى النظر، فأثبت الشارع خيار المجلس، نظرًا للمتعاقدين؛ ليسلما من الندم، ودليله خيار الرؤية عندهم، وخيار الشرط عندنا، قال: ولو لزم العقد بوصفه وحكمه، لَمَا شُرعت الإقالة، لكنها شُرعت نظرًا للمتعاقدين، إلا أنها شرعت لاستدراك ندم، ينفرد به أحدهما، فلم تجب، وخيار المجلس شرع لاستدراك ندم، يشتركان فيه، فوجب. انتهى ما في "الفتح" بتصرّف

(2)

.

وقال الحافظ وليّ الدين رحمه الله بعد إيراد نحو ما تقدّم من الأقوال، ما حاصله: وقد ظهر بما بسطناه أنه ليمس لهم متعلّق صحيح في ردّ هذا الحديث، ولذلك قال ابن عبد البر: أَكْثَرَ المتأخّرون من المالكية، والحنفية من الاحتجاج

(1)

"طرح التثريب" 6/ 153 - 154.

(2)

راجع: "الفتح" 5/ 57 - 60.

ص: 57

لمذهبنا، في رد هذا الحديث، بما يطول ذكره، وأكثره تشغيب، لا يُحصَل منه على شيء لازم لا مدفع له.

وقال النوويّ في "شرح مسلم": الأحاديث الصحيحة ترُدّ عليهم، وليس لهم عليها جواب صحيح، فالصواب ثبوته، كما قاله الجمهور.

وانتصر ابن العربيّ في ذلك لمذهبه بما لا يقبله منصف، ولا يرتضيه لنفسه عاقل، فقال: الذي قصد مالك هو أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا جعل العاقدين بالخيار بعد تمام البيع، ما لم يتفرّقا، ولم يكن لفرقتهما، وانفصال أحدهما عن الآخر وقتٌ معلوم، ولا غاية معروفة، إلا أن يقوما، أو يقوم أحدهما على مذهب، وهذه جهالة يقف معها انعقاد البيع، فيصير من باب بيع المنابذة، والملامسة، بأن يقول: إذا لمسته، فقد وجب البيع، وإذا نبذته، أو نبذت الحصاة، فقد وجب البيع، وهذه الصفة مقطوع بفسادها في العقد، فلم يتحصّل المراد من الحديث مفهومًا، وإن فسّره ابن عمر راويه بفعله، وقيامه عن المجلس، ليجب البيع، فإنما فسّره بما يثبت الجهالة فيه، فيدخل تحت النهي عن الغرر، كما يوجبه النهي عن الملامسة، والمنابذة، وليس من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا تفسيره، وإنما هو من فهم ابن عمر، وأصل الترجيح الذي هو قضيّة الأصول أن يقدّم المقطوع به على المظنون، والأكثر رواةً على الأقلّ، فهذا هو الذي قصده مالك، مما لا يدركه إلا مثله، ولا يتفطّن له أحد قبله، ولا بعده، وهو إمام الأئمة، غير مدافع له في ذلك. انتهى.

وهو عجيب، أيُتَمَعْقَلُ على الشارع، ويقال له: هذا الذي حكمت به غرر، وقد نهيت عن الغرر، فلا نقبل هذا الحكم، ونتمسّك بقاعدة النهي عن الغرر، وأيّ غرر في ثبوت الخيار، رفقًا بالمتعاقدين؛ لاستدراك ندم، وهذا المخالف يُثبت خيار الشرط، على ما فيه من الغرر بزعمه، وحديث خيار المجلس أصحّ منه، ويعتبر التفرّق في إبطاله للبيع، إذا وُجد قبل التقابض في الصرف، ولا يرى تعليق ذلك بالتفرّق بالأبدان غررًا، مبطلًا للعقد، ثم بتقدير أن يكون فيه غررٌ، فقد أباح الشارع الغرر في مواضع معروفة؛ كالسلم، والإجارة، والحوالة، وغيرها، ثم بتقدير أن يكون لحكمة اقتضت ذلك، بل ولو لم يظهر لنا حكمته، فإنه يجب علينا الأخذ به تعبّدًا، والمسلك الذي نفاه

ص: 58

عن إمامه أقلّ مفسدة من الذي سلكه، فإن ذاك تقديم للإجماع في اعتقاده، إن صحّ على خبر الواحد، وأما ما سلكه ففيه ردّ السنن بالرأي، وذلك قبيحٌ بالعلماء. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لقد أجاد الحافظ وليّ الدين رحمه الله في هذا الردّ على ابن العربيّ، فإن ما ذهب إليه الجمهور هو الحقّ، والانتصار للحقّ هو الواجب على العلماء.

والحاصل أنه قد اتّضح بما سبق من إيراد أدلّة الفريقين أن الحقّ هو ما عليه الجمهور، من إثبات خيار المجلس؛ لوضوح أدلّته، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، فإنه حجة البليد، ومُتمسّك العنيد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): لم يُذكر في الحديث للتفرق ضابطٌ، فيكون مرجعه إلى العرف، وقد كان ابن عمر، راوي الحديث، إذا اشترى شيئًا يعجبه فارق صاحبه، وفي رواية: إذا ابتاع بيعًا، وهو قاعد، قام ليجب له، وفي رواية: كان إذا بايع رجلًا، فأراد أن لا يقيله قام، فمشى هُنيّة، ثم رجع إليه. قال وليّ الدين: قال أصحابنا - يعني الشافعيّة -: ما عدّه الناس تفرّقًا، لزم به العقد، فلو كانا في دار صغيرة، فالتفرق أن يخرج أحدهما منها، أو يصعد السطح، وكذا لو كانا في مسجد صغير، أو سفينة صغيرة، فالتفرّق أن يخرج أحدهما منها، فإن كانت الدار كبيرة، حصل التفرّق بأن يخرج أحدهما من البيت إلى الصحن، أو من الصحن إلى بيت، أو صفّة، وإن كانا في صحراء، أو سوق، فإذا ولّى أحدهما ظهره، ومشى قليلًا، حصل التفرّق على الصحيح، وقال الإصطخريّ: يشترط أن يبعد عن صاحبه، بحيث لو كلّمه على العادة من غير رفع صوت لم يسمع كلامه، ولا يحصل التفرّق بأن يُرخَى بينهما سترٌ، أو يُشقّ نهرٌ، وهل يحصل ببناء جدار بينهما؟ فيه وجهان، أصحّهما لا، وصحن الدار، والبيت الواحد إذا تفاحش اتساعهما كالصحراء، فلو تناديا متباعدين، وتبايعا، فلا شكّ في صحّة البيع، ثم قال إمام الحرمين: يَحْتَمِل أن لا يقال: لا خيار

(1)

"طرح التثريب" 6/ 154 - 155.

ص: 59

لهما؛ لأن التفرّق الطارئ يقطع الخيار، فالمقارن يمنع ثبوته، ويَحتمل أن يقال: يثبت ما داما في موضعهما، وبهذا قطع المتولّي، ثم إذا فارق أحدهما موضعه بطل خياره، وهل يبطل خيار الآخر، أم يدوم إلى أن يفارق مكانه؟ فيه احتمالان للإمام، قال النوويّ: الأصحّ ثبوت الخيار، وأنه متى فارق أحدهما موضعه، بطل خيار الآخر.

وحكى ابن عبد البرّ عن الأوزاعيّ، قال: حدّ التفرقة أن يتوارى كلّ واحد منهما عن صاحبه، وهو قول أهل الشام، قال: وقال الليث بن سعد: التفرّق أن يقوم أحدهما. انتهى

(1)

.

وقال ابن حزم رحمه الله في "المحلّى": فإن تبايعا في بيت، فخرج أحدهما عن البيت، أو دخل حنية في البيت، فقد تفرّقا، وتمّ البيع، أو تبايعا في حنية، فخرج أحدهم إلى البيت، فقد تفرّقا، وتمّ البيع، فلو تبايعا في صحن دار، فدخل أحدهما البيت، فقد تفرّقا، وتمّ البيع، فلو تبايعا في دار، أو خُصّ، فخرج أحدهما إلى الطريق، أو تبايعا في طريق، فدخل أحدهما دارًا، أو خصًّا، فقد تفرّقا، وتمّ البيع، فإن تبايعا في سفينة، فدخل أحدهما البليج، أو الخزانة، أو مضى إلى الفندقوق، أو صعِد الصاري، فقد تفرّقا، وتمَّ البيع، وكذلك لو تبايعا في أحد هذه المواضع، فخرج أحدهما إلى السفينة، فقد تمّ البيع، إذ تفرّقا، فإن تبايعا في دكّان، فزال أحدهما إلى دكان آخر، أو خرج إلى الطريق، فقد تمّ البيع، وتفرّقا، ولو تبايعا في الطريق، فدخل أحدهما الدكان، فقد تمّ البيع، وتفرّقا، فلو تبايعا في سفر، أو في فضاء، فإنهما لا يفترقان إلا بأن يصير بينهما حاجز يسمّى تفريقًا في اللغة، أو بأن يغيب عن بصره في الرفقة، أو خلف ربوة، أو خلف شجرة، أو في حفرة، وإنما يُرعَى ما يُسمّى في اللغة تفريقًا فقط، وبالله تعالى التوفيق. انتهى كلام ابن حزم رحمه الله

(2)

، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"طرح التثريب" 6/ 155 - 156.

(2)

"المحلى" 8/ 366 - 367.

ص: 60

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3848]

(

) - (حَدَّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثنا يَحْيَى، وَهُوَ الْقَطَّانُ (ح) وَحَدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ (ح) وَحَدَّثنا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثنا أَبِي، كلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ الله، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيع، وَأبو كَامِلٍ، قَالَا: حَدَّثنَا حَمَّاد - وَهُوَ ابْنُ زيدٍ - جَمِيعًا عَنْ أيُّوبَ، عَنْ نَافِع، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (ح) وَحَدَّثنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَا: حَدّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّاب، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، أَخْبَرَنَا الضَّحَّاكُ، كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ حَدِيثِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِع).

رجال هذا الإسناد: اثنان وعشرون:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ الزَّمِنُ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

2 -

(يَحْيَى) بن سعيد الْقَطَّانُ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ ناقد حجة إمامٌ، من كبار [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) الْعَبْديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.

4 -

(إِسْمَاعِيلُ) بن إبراهيم بن مقسم، وهو ابن عُليّة المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

5 -

(أَبُو الرَّبِيعِ) سليمان بن داود الْعَتكيّ الزهرانيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.

6 -

(أَبُو كَامِلٍ) فضيل بن حسين الْجَحْدريّ البصريّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 2237)(خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

7 -

(أيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السَّخْتِيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه عابدٌ [5](131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.

ص: 61

8 -

(عَبْدُ الْوَهَّابِ) بن عبد المجيد الثقفيّ البصريّ، ثقةٌ [8](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

9 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ) بن قيس الأنصاريّ، أبو سعيد البصريّ، ثقة ثبت [5](ت 144)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.

10 -

(ابْنُ أبِي فُدَيْكٍ) محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فُديك الديليّ مولاهم، أبو إسماعيل البصريّ، صدوقٌ، من صغار [8](ت 200)(ع) تقدم في "الحيض" 16/ 775.

والباقون كلّهم ذُكروا في الباب، والبابين قبله.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ) يعني كلًّا من يحيى القطّان، ومحمد بن بشر، وعبد الله بن نمير.

وقوله: (جَمِيعًا عَنْ أيُّوبَ) يعني إسماعيل ابن عُليّة، وحماد بن زيد.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ) يعني يحيى بن سعيد الأنصاري، والضحّاك بن عثمان.

[تنبيه]: أما رواية يحيى القطّان، عن عبيد الله بن عمر، فقد ساقها النسائيّ في "المجتبى" (7/ 248) فقال:

(4466)

- أخبرنا عمرو بن عليّ، قال: حدّثنا يحيى، عن عبيد الله، قال: حدّثني نافع، عن ابن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الْبَيِّعان بالخيار ما لم يفترقا، أو يكون خيارًا". انتهى.

وأما رواية إسماعيل ابن عُليّة، عن أيوب، فقد ساقها النسائيّ في "الكبرى" (4/ 8) فقال:

(6062)

- أخبرنا زياد بن أيوب، قال: حدّثنا ابن عُليّة، قال: أنبأنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْبَيِّعان بالخيار حتى يتفرقا، أو يكون بيع خيار"، وربما قال نافع: أو يقول أحدهما للآخر: "اختر". انتهى.

وأما رواية حماد بن زيد، عن أيوب، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(2003)

- حدّثنا أبو النعمان، حدّثنا حماد بن زيد، حدّثنا أيوب، عن

ص: 62

نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر"، وربما قال:"أو يكون بيع خيار". انتهى.

وأما رواية عبد الوهّاب الثقفيّ، عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ، فقد ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى" (4/ 8) فقال:

(6065)

- أخبرنا عمرو بن عليّ، قال: حدّثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: سمعت نافعًا يحدّث عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أن المتبايعين بالخيار في بيعهما، ما لم يفترقا، إلا أن يكون البيع خيارًا، قال نافع: وكان عبد الله بن عمر إذا اشترى شيئًا يعجبه، فارق صاحبه. انتهى.

وأما رواية محمد بن بشر، وعبد الله بن نمير، كلاهما عن عبيد الله العمريّ، فلم أر من ساقهما، وكذلك رواية الضحّاك بن عثمان، عن نافع، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3849]

(

) - (حَدثنَا قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: "إِذَا تبَايَعَ الرَّجُلَان، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَار، مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَكَانَا جَمِيعًا، أَوْ يُخَيِّرْ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، فَإنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، فَتَبَايَعَا

(1)

عَلَى ذَلِكَ، فَفَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ، وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تبَايَعَا، وَلَمْ يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْبَيْعَ، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(اللَّيْثُ) بن سعد بن عبد الرحمن الفهميّ مولاهم، أبو الحارث المصرفي، ثقةٌ ثبتٌ فقيه إمام حجة مشهور [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

(1)

وفي نسخة: "فتفرّقا".

ص: 63

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ) بن المهاجر التُّجيبيّ مولاهم المصريّ، ثقة ثبت [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (250) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (إِذَا تبَايَعَ الرَّجُلَان، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَار، مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا)؛ أي: فينقطع الخيار.

وقوله: (وَكَانَا جَمِيعًا) تأكيد لقوله: "ما لم يتفرّقا".

وقوله: (أَوْ يُخَيِّرْ أَحَدُهُمَا الآخَرَ)؛ أي: فينقطع الخيار، وقال النوويّ رحمه الله: معنى قوله: "أو يُخيِّر أحدهما الآخر" أن يقول له: اختر إمضاءَ البيع، فإذا اختار وجب البيع؛ أي: لزم، وانبرم، فإن خيَّر أحدهما الآخر، فسكت لم ينقطع خيار الساكت، وفي انقطاع خيار القائل وجهان لأصحابنا: أصحهما الانقطاع؛ لظاهر لفظ الحديث. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: قوله: "يُخَيِّر" مجزوم عطفًا على "يتفرّقا"، وَيحتمل أن يكون منصوبًا بـ "أن" مضمرة وجوبًا بعد "أو" التي بمعنى "إلا"، كما قال في "الخلاصة":

كَذَاكَ بَعْدَ "أَوْ" إِذَا يَصْلُحُ فِي

مَوْضِعِهَا "حَتَّى" أَوِ "الَّا""أَنْ" خَفِي

يعني أن الفعل يُنصب بـ "أن" مضمرة وجوبًا بعد "أو" التي بمعنى "حتى"، أو "إلا"، فالأول إذا كان الفعل الذي قبلها ينقضي شيئًا، فشيئًا، والثاني إن لم يكن كذلك، فالأول كقول الشاعر [من الطويل]:

لأَسْتَسْهِلَنَّ الصَّعْبَ أَوْ أُدْرِكَ الْمُنَى

فَمَا انْقَادَتِ الآمَالُ إِلَّا لِصَابِرِ

والثاني كقوله [من الطويل]:

وَكُنْتُ إِذَا غَمَزْتُ قَنَاةَ قَوْم

كَسَرْتُ كُعُوبَهَا أَوْ تَسْتَقِيمَا

[تنبيه آخر]: وقع في النسخ قوله: "أو يُخيّر" مرفوعًا بضبط القلم، ولا وجه له، بل إما مجزوم، أو منصوب، كما أسلفت تحقيقه، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 174 - 175.

ص: 64

وقوله: (فَتبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ) وفي بعض النسخ: "فتفرّقا على ذلك".

وقوله: (فتبايَعَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ)؛ أي: وبطل الخيار.

وقوله: (وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تبَايَعَا، وَلَمْ يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْبَيْعَ)؛ أي: لم يفسخه.

وقوله: (فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ)؛ أي: بعد التفرّق، قال في "الفتح": وهذا ظاهر جدًّا في انفساخ البيع بفسخ أحدهما، قال الخطابيّ: هذا أوضح شيء في ثبوت خيار المجلس، وهو مبطل لكل تأويل مخالف لظاهر الحديث، وكذلك قوله في آخره:"وإن تفرقا بعد أن تبايعا" فيه البيان الواضح أن التفرّق بالبدن هو القاطع للخيار، ولو كان معناه التفرق بالقول لخلا الخديث عن فائدة. انتهى.

وقد أقدم الداوديّ على ردّ هذا الحديث المتَّفَق على صحته بما لا يُقْبَل منه، فقال: قول الليث في هذا الحديث: "وكانا جميعًا

إلخ" ليس بمحفوظ؛ لأن مقام الليث في نافع ليس كمقام مالك ونظرائه. انتهى.

وهو رَدٌّ لما اتَّفَق الأئمة على ثبوته بغير مستند، وأيُّ لوم على مَن روى الحديث مُفَسِّرًا لأحد مُحْتَمِلاته، حافظًا من ذلك ما لم يحفظه غيره؟ مع وقوع تعدد المجلس، فهو محمول على أن شيخهم حدّثهم به تارةً مُفَسَّرًا، وتارةً مختصرًا. انتهى ما في "الفتح"

(1)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق بيان مسائله قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3850]

(

) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ - قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ - عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَمْلَى عَلَيَّ نَافِعٌ، سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذُا تَبَايَعَ الْمُتَبَايِعَانِ

(1)

"الفتح" 5/ 571 - 572.

ص: 65

بِالْبَيْع، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مِنْ بَيْعِه، مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ يَكُونَ بَيْعُهُمَا عَنْ خِيَارٍ، فَإذَا كَانَ بَيْعُهُمَا عَنْ خِيَارٍ

(1)

، فَقَدْ وَجَبَ"، زَادَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ فِي رِوَايَتِهِ: قَالَ نَافِعٌ: فَكَانَ إِذَا بَايَعَ رَجُلًا، فَأرَادَ أَنْ لَا يُقِيلَهُ، قَامَ فَمَشَى هُنَيَّةً، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلهم تقدّموا في الباب، والبابين قبله.

وقوله: (أَمْلَى عَلَيَّ نَافِعٌ)؛ أي: ألقى عليّ، فكتبته، قال الفيّوميّ رحمه الله: وأمللت الكتاب على الكاتب إملالًا: ألقيته عليه، وأمليته عليه إملاءً، والأولى لغة الحجاز، وبني أسد، والثانية لغة تميم، وقيس، وجاء الكتاب العزيز بهما، قال عز وجل:{وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} الآية [البقرة: 282]، وقال:{فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5]. انتهى.

وقال المجد في "القاموس": وأملّه: قال له: فكتب عنه. انتهى.

وقوله: (أَوْ يَكونَ بَيْعُهُمَا) بنصب "يكونَ" بـ"أن" مضمرةً، كما سبق في الحديث الماضي، وليس معطوفًا على "يتفرّقا"، وإلا لَجُزم، فتنبّه.

وقوله: (عَنْ خِيَارٍ) وفي بعض النسخ: "على خيار" في الموضعين.

وقوله: (قَالَ نَافِعٌ) هو موصول بالإسناد المذكور.

وقوله: (فَكَانَ إِذَا بَايَعَ رَجُلًا

إلخ) فاعل "كان" ضمير ابن عمر، ولفظ البخاريّ: "قال نافع: وكان ابن عمر

إلخ"، وقد ذكره النسائيّ أيضًا من طريق يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن نافع، وهو ظاهر في أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يذهب إلى أن التفرّق المذكور بالأبدان، كما سبق بيانه، والحديث دليل في ثبوت الخيار لكلّ من المتبايعين ما داما في المجلس. أفاده في "الفتح"

(2)

.

وقوله: (فَأرَادَ أَنْ لَا يُقِيلَهُ) بضمّ أوله، من الإقالة، أو بفتحه، من الْقيل،

(1)

وفي نسخة: "على خيار" في الموضعين.

(2)

راجع: "الفتح" 5/ 562.

ص: 66

بوزن البيع، وهي مفاسخة البيع، قال ابن الأثير رحمه الله: يقال: أقاله يُقيله إقالةً، وتقايلا: إذا فسخا البيع، وعاد المبيع إلى مالكه، والثمن إلى المشتري، إذا كان قد نَدِمَ أحدهما، أو كلاهما، وتكون الإقالة في البيعة والعهد. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: أقال الله عَثْرته: إذا رفعه من سقوطه، ومنه الإقالة في البيع؛ لأنها رفع العقد، وقاله قَيْلًا، من باب باع لغةٌ، واستقاله البيع، فأقاله. انتهى

(2)

.

وقال المجد رحمه الله: وقِلْتُهُ البيعَ بالكسر، وأقلته: فسخته، واستقاله: طلب إليه أن يقيله، وتقايل الْبَيِّعان، وأقال الله عثرتك، وأقالكها. انتهى

(3)

.

وقوله: (قَامَ فَمَشَى هُنَيَّةً)؛ أي: قام ابن عمر رضي الله عنهما من مجلسه، فمشى قليلًا، حتى يفارقه، فيثبت البيع، ولا يفسخ عليه.

وقوله: (هُنَيَّةً)؛ أي: قليلًا، وهي بضم أوله تصغير هَنَةٍ، قال القرطبيّ رحمه الله: هي كلمة يُعبّر بها عن كلّ شيء قليل. انتهى

(4)

.

وقال النوويّ: رحمه الله: قوله: (فمشى هنية) هكذا هو في بعض الأصول "هُنَيَّةً" بتشديد الياء غير مهموز، وفي بعضها "هُنيهةً" بتخفيف الياء، وزيادة هاء؛ أي: شيئًا يسيرًا. انتهى.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الْهَنُ": خفيف النون كناية عن كلّ اسم جنس، والأنثى هَنَةٌ، ولامها محذوفةٌ، ففي لغة هي هاءٌ، فيصغر على هُنَيْهة، ومنه يقال: مَكَثَ هُنَيهةً؛ أي: ساعةً لطيفةً، وفي لغة هي واوٌ، فيُصغر في المؤنّث على هُنَيهة، والهمزة خطأ؛ إذ لا وجه له، وجمعها هَنَوات، وربّما جُمعت هَنَاتٍ على لفظها، مثلُ عِدَاتٍ. انتهى

(5)

.

وقوله: (ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ)؛ أي: عاد ابن عمر إلى الشخص الذي بايعه.

وقال النوويّ: قوله: "فأراد أن لا يُقيله"؛ أي: لا يفسخ البيع، وفي هذا دليل على أن التفرق بالأبدان، كما فسره ابن عمر الراوي، وفيه رَدٌّ على تأويل

(1)

"النهاية" 4/ 134.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 521.

(3)

"القاموس المحيط" 4/ 43.

(4)

"المفهم" 4/ 384.

(5)

"المصباح المنير" 2/ 641.

ص: 67

من تأول التفرق على أنه التفرق بالقول، وهو لفظ البيع. انتهى

(1)

.

وفي رواية النسائيّ: "قال نافع: فكان عبد الله إذا اشترى شيئًا يُعجبه، فارق صاحبه"؛ أي: خوفًا من أن يردّ البيع عليه بما لَهُ من الخيار، قال السنديّ رحمه الله: فانظر إلى ما فَهِم عبد الله من الحديث، وهو راويه، هل هو الذي يقول المثبت للخيار في المجلس، أم هو الذي يقول النافي له؟ انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أراد السنديّ رحمه الله بهذا الكلام الإشارة إلى تأييد قول من يقول: إن المراد بالحديث إثبات خيار المجلس، حيث إن راوي الحديث رضي الله عنه فَهِم منه هذا المعنى، وعَمِل به، حيث كان يفارق صاحبه الذي باع له؛ لئلا يفسخ البيع بناء على أن له خيار المجلس، فلما فارقه تمّ البيع، ولا يستطيع أن يفسخ، وهذا إنصاف من السنديّ رحمه الله مخالفًا لمذهبه الحنفيّ القائل: إن التفرّق هو التفرّق بالأقوال، لا بالأبدان؛ لوضوح دليله، وهكذا ينبغي للعالم أن يكون مع الدليل، لا مع آراء الرجال، كما فعل من قدّمنا قوله، ممن ردّ ما دلّ عليه ظاهر هذا الحديث بتأويلات سخيفة، قاتل الله التعصّب، والله المستعان على من خالف ظواهر الأدلّة بتأويلات مُبْتَذَلَة.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل الى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3851]

(

) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَيحْيىَ بْنُ أيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرُونَ: حَدَّثنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ؛ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ بَيِّعَيْنِ لَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتى يَتَفَرَّقَا، إِلَّا بَيْعُ الْخِيَارِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أيُّوبَ) المقابريّ، أبو زكريّاء البغداديّ، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 234) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 175.

ص: 68

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف، وهو (251) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (كُلُّ بَيِّعَيْنِ) تقدّم أن الْبيِّع بتشديد التحتانية: هو البائع.

وقوله: (لَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَفَرَّقَا)؛ أي: ليس بينهما بيع لازم

(1)

.

وقوله: (إِلَّا بَيْعُ الْخِيَارِ)؛ أي: فيلزم باشتراطه، كما تقدّم البحث فيه، وظاهره حصر لزوم البيع في التفرّق، أو في خيار الشرط، والمعنى: أن البيع عقد جائزٌ، فإذا وُجد أحد هذين الأمرين كان لازمًا، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إلا بيع الخيار" معناه على مذهب الشافعي: أن خيار المجلس لا أثر له مع وجود خيار الشرط، فلو تفرَّقا مع اشتراط خيار الثلاث لم يجب البيع بنفس التفرُّق، بل بمضي مدة الخيار المشترط، ويكون هذا الاستثناء من قوله:"لا بيع بينهما"، وهو استثناء موجب من منفيّ، فكأنه قال: كلُّ بيِّعَين فلا حُكم لبيعهما ما داما في مجلسهما إلا بيع الخيار المشترط، فحكمه باق إلى مدته، وإن افترقا بالأبدان.

قال: ويمكن تنزيله على مذهب مالك على هذا النحو، غير أن التفرُّق يُحْمَل على التفرُّق بالأقوال، ويكون البيّعان بمعنى المتساومين، غير أن الاستثناء يكون منقطعًا؛ لأن المتبايعين بالخيار الشرطيّ ليسا متساومين، بل متعاقدين، فيكون تقديره: لكن بيع الخيار يلزم حكمه بانقضاء مدته. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم أن ما ذهب إليه الشافعيّ رحمه الله هو الصحيح الموافق لظواهر الحديث، فتبصّر.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 175 - 176.

(2)

"الفتح" 5/ 573.

(3)

"المفهم" 4/ 383 - 384.

ص: 69

(11) - (بَابُ الصِّدْقِ في الْبَيْع، وَالْبَيَانِ)

أي صِدْقِ البائع في إخبار المشتري مثلًا، وبيان العيب إن كان في السلعة، وصِدْقِ المشتري في قدر الثمن مثلًا، وبيان العيب إن كان في الثمن، ويَحْتَمِل أن يكون الصدق والبيان بمعنى واحد، وذِكْرُ أحدهما تأكيد للآخر

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل الى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3852]

(1532) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنى، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ (ح) وَحَدّثنَا عَمْرُو بْنُ عَليٍّ، حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَا: حَدثنَا شُعْبَةُ، عَنْ قتَالَةَ، عَنْ أبي الْخَلِيل، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِث، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإنْ صَدَقَا، وَبَيَّنا بُورِكَ لَهُمَا في بَيْعِهِمَا، وَإنْ كَذَبَا، وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(عَمْرُو بْن عَلِيٍّ) بن بَحْر بن كَنِيز، أبو حفص الفلّاس الصيرفيّ الباهليّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 249)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 38.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) بن حسّان الْعَنْبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ ناقد [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج بن الورد الْعَتَكيّ مولاهم، أبو بِسْطام الواسطيّ، ثم البصريّ، ثقةٌ حافظٌ متقنٌ، عابدٌ، أمير المؤمنين في الحديث [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.

4 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رأس [4](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

5 -

(أَبُو الخَلِيلِ) صالح بن أبي مريم الضُّبَعيّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [6](ع) تقدم في "الرضاع" 5/ 3591.

(1)

راجع: "الفتح" 5/ 566.

ص: 70

6 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ الْحَارِثِ) بن نوفل القرشيّ الهاشميّ، أبو محمد المدنيّ، أمير البصرة، له رؤية، ولأبيه وجدّه صحبة، أجمعوا على توثيقه [2](99) عن (84) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 96/ 516.

7 -

(حَكِيمُ بْنُ حِزَامِ) بن خُويلد بن أسد بن عبد العُزَّى الأسديّ، أبو خالد المكيّ، أخو خديجة، أم المؤمنين رضي الله عنهما أسلم يوم الفتح، وصَحِب، وله (74) سنةً، ثم عاش إلى سنة (54) أو بعدها، وكان عالمًا بالنسب (ع) تقدم في "الإيمان" 58/ 330.

والباقيان ذُكرا في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سباعيّات المصنف رحمه الله، وله فيه إسنادان فرّق بينهما بالتحويل.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير عبد الله بن الحارث، فمدنيّ، وحكيم، فمكيّ.

4 -

(ومنها): أن رواية قتادة، عن أبي الخليل من رواية الأكابر عن الأصاغر؛ لأن قتادة من الطبقة الرابعة، وهو من السادسة، وأما ما قاله في "الفتح" من أن قتادة وشيخه تابعيّان، ففيه نظر لا يخفى، فتنبّه.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه ممن وُلد في جوف الكعبة، كما بيّنه مسلم في آخر الحديث، ولا يُعرف هذا لغيره جاهليّةً، ولا إسلامًا، وهو من الصحابة الذين عاشوا (120) سنة، ستين في الجاهليّة، وستّين في الإسلام، وإلى هذا أشار السيوطيّ رحمه الله تعالى في "ألفية الحديث"، حيث قال:

وَعِدَّةٌ مِنَ الصِّحَابِ وَصَلُوا

عِشْرِينَ بَعْدَ مِائَةٍ تُكَمَّلُوا

سِتُّون فِي الإِسْلَامِ حَسَّانٌ يَلِي

حُوَيْطِبٌ مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلِ

ثُمَّ حَكِيمٌ حَمْنَنٌ سَعِيدُ

وَآخَرُونَ مُطْلَق سَعِيدُ

عَاصِمُ سَعْدٌ نَوْفَلٌ مُنْتَجِعُ

لَجْلَاجُ أَوْسٌ وَعَدِيٌّ نَافِعُ

نَابِغَةٌ ثُمَّةَ حَسَّانُ انْفَرَدْ

أَنْ عَاشَ ذَا أَبٌ وَجَدُّهُ وَجَدّ

ص: 71

ثُمَّ حَكِيمٌ مُفْرَدٌ بِأنْ وُلدْ

بِكَعْبَةٍ وَمَا لِغَيْرِهِ عُهِد

والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ) وفي رواية للبخاريّ: "عن قتادة، قال: سمعت أبا الخليل (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ) قال في "الفتح": هو ابن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، ولم يُنسَب في شيء من طرُق حديثه في "الصحيحين"، لكن وقع لأحمد من طريق سعيد، عن قتادة: عبد الله بن الحارث الهاشميّ، ورواه ابن خزيمة، والإسماعيليّ عنه من وجه آخر، عن شعبة، فقال: عن قتادة: سمعت أبا الخليل، يحدّث عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، وعبد الله هذا مذكور في الصحابة؛ لأنه وُلد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأُتي به، فحَنَّكه، وهو معدود من حيث الرواية في كبار التابعين، وقتادة، وشيخه تابعيّان أيضًا

(1)

، وليس له في البخاريّ سوى هذا الحديث، وحديث آخر عن العباس في قصة أبي طالب. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: وليس لعبد الله بن الحارث هذا عند مسلم إلا نحو ستة أحاديث، كما أسلفته في ترجمته في "الإيمان" 96/ 516.

(عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَام) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا) وفي رواية للبخاريّ: "ما لم يفترقا"، وفي رواية سليمان بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر، وعن عطاء، عن ابن عباس، مرفوعًا:"ما لم يفارقه صاحبه، فإن فارقه فلا خيار له"، وقد اختَلَف القائلون بأن المراد أن يتفرقا بالأبدان، هل للتفرق المذكور حدٌّ ينتهي إليه؟ والمشهور الراجح من مذهب العلماء في ذلك أنه موكول إلى العُرْف، فكل ما عُدَّ في العرف تفرقًا حُكِم به، وما لا فلا، قاله في "الفتح"

(2)

، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفّى قريبًا.

(فَإِنْ صَدَقَا، وَبَيَّنَا)؛ أي: صدق البائع في إخبار المشتري مثلًا، وبيّن

(1)

هذا فيه نظر؛ لأن أبا الخليل لم يلق صحابيًّا، ولذا جعله في "التقريب" من الطبقة السادسة، فتأمل.

(2)

"الفتح" 5/ 566.

ص: 72

العيب، إن كان في السلعة، وصدق المشتري في قدر الثمن مثلًا، وبيّن العيب، إن كان في الثمن.

ويَحْتَمِل أن يكون الصدق والبيان بمعنى واحدٍ، وذِكرُ أحدهما تأكيد للآخر، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فإن صدقا، وبيّنا"؛ أي: إن صدقا في الإخبار عن الثمن والمثمون فيما يباع مرابحةً، وبيّنا ما فيها من العيوب. انتهى

(2)

.

(بُورِكَ فِي بَيْعِهِمَا) فعل مبنيّ للمفعول، ونائب فاعله الجارّ والمجرور؛ أي: بورك في الثمن بالنماء، وفي المثمون بدوام الانتفاع به

(3)

.

(وَإِنْ كَذَبَا، وَكَتَمَا مُحِقَتْ) بالبناء للمفعول؛ أي: أُذهبت بركته، وهي زيادته، ونماؤه، وهو من المحق، يقال: مَحَقَه مَحْقًا، من باب نفع: نقصه، وأذهب منه البركة، وقيل: هو ذَهَاب الشيء كلّه، حتّى لا يُرَى له أثرٌ، ومنه قوله تعالى:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} الآية [البقرة: 276]، وانمحق الهلال لثلاث ليال في آخر الشهر، لا يكاد يُرى لخفائه، والاسم الْمِحَاق بالضمّ، والكسرُ لغة، قاله الفيّوميّ رحمه الله.

وقوله (بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا") بالرفع على أنه نائب فاعل "مُحِقت"، قال في "الفتح": يَحْتَمِل أن يكون على ظاهره، وأن شؤم التدليس، والكذب وقع في ذلك العقد، فمَحَقَ بركته، وإن كان الصادق مأجورًا، والكاذب مأزورًا، ويَحْتَمِل أن يكون ذلك مختصًّا بمن وقع منه التدليس، والعيب، دون الآخر، ورجّحه ابن أبي جمرة. انتهى

(4)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(1)

"الفتح" 5/ 566.

(2)

"المفهم" 4/ 384 - 385.

(3)

"المفهم" 4/ 385.

(4)

"الفتح" 5/ 566.

ص: 73

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 3852 و 3853](1532)، و (البخاريّ) في "البيوع"(1940 و 2079 و 2082 و 2108 و 2110)، و (أبو داود) في "البيوع"(300)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1167)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 244 و 247) و"الكبرى"(4/ 5)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 154 - 155)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1316)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 124)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 402 و 403 و 434)، و (الدارميّ) في "سننه"(2435)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(3115 و 3116 و 3117 و 3118 و 3119)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4904)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 269)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 269) و"المعرفة"(4/ 275)، و (البغويّ) في شرح السنّة" (2051)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وجوب الصدق في البيع والشراء، وذلك لا يكون إلا بصدق كلّ واحد منهما فيما يُخبر به من المبيع، أو الثمن، وبيان ما فيهما من عيوب، فلا يجوز لمسلم أن يبيع سلعة مَعِيبة، إلا إذا بيّن ما فيها من العيب، ومثله المشتري.

2 -

(ومنها): حصول البركة للمتبايعين إذا حصل منهما الشرط، وهو الصدق، والتبيين، ومحقها إن وُجد ضدّهما، وهو الكذب، والكتم، وهل تحصل البركة لأحدهما، إذا وُجد المشروط، دون الآخر؟ ظاهر الحديث يقتضيه، ويَحْتَمِل أن يعود شؤم أحدهما على الآخر، بأن تُنزع البركة من المبيع، إذا وُجد الكذب، أو الكتم من كلّ واحد منهما، وإن كان الأجر ثابتًا للصادق المبيّن، والوزر حاصلٌ للكاذب الكاتم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الاحتمال الأول هو الظاهر؛ لظاهر الحديث، وقد تقدّم قريبًا أن ابن أبي جمرة رحمه الله تعالى رجّحه، والله تعالى أعلم.

3 -

(ومنها): أن الدنيا لا يتمّ حصولها إلا بالعمل الصالح، وأن شؤم المعاصي يَذهب بخير الدنيا والآخرة.

ص: 74

4 -

(ومنها): بيان فضل الصدق، والحثّ عليه، وأنه سبب لبركة كسب العبد.

5 -

(ومنها): ذمّ الكذب، والحثّ على تركه، وأنه سبب لذهاب البركة من كسب العبد.

6 -

(ومنها): بيان أن عمل الآخرة يُحَصّل خيري الدنيا والآخرة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل الى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3853]

(

) - (حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ أَبِي التَّيَّاح، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ الْحَارِث، يُحَدِّثُ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ). قالَ مُسْلِمُ بن الحَجَّاج: وُلدَ حَكِيمُ بن حِزَامٍ في جَوْفِ الكَعْبَة، وعاشَ مائِةً وعِشْرينَ سنةً.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هَمَّامُ) بن يحيى بن دينار الْعَوذيّ، أبو عبد الله، أو أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [7](ت 4 أو 165)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

2 -

(أبو التَّيَّاحِ) يزيد بن حُميد الضُّبَعيّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت 128)(ع) تقدم في "الطهارة" 27/ 659.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية أبي التيّاح، عن أبي الخليل هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وقوله: (قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاج) صاحب الكتاب: (وُلِدَ) بالبناء للمفعول (حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ) رضي الله عنه (فِي جَوْفِ الكَعْبَةِ) أي: داخل الكعبة، وذلك أن أمه دخلت الكعبة في نسوة من قريش، وهي حاملٌ، فأخذها الطلق، فولدته فيها، وذلك قبل عام الفيل بثلاث عشرة سنةً، وليس له في ذلك مشارك، لا في جاهليّة، ولا في إسلام، وما في "المستدرك" من أن عليًّا رضي الله عنه وُلد في الكعبة ضعيف

(1)

، وإلى ذلك أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفية الحديث" حيث قال:

(1)

راجع: "إسعاف الوطر" شرحي على "ألفيّة الأثر" للسيوطيّ 2/ 453.

ص: 75

ثُمَّ حَكِيمٌ مُفْرَدٌ بِأنْ وُلدْ

بكَعْبَةٍ وَمَا لِغَيْرِهِ عُهِدْ

وقوله: (وَعَاشَ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً)؛ أَي: إن حكيمًا رضي الله عنه عاش من العمر مائة وعشرين سنةً، وتقدّم أنه ممن عاش ستين في الجاهليّة، وستّين في الإسلام، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجعِ والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(12) - (بَابُ مَنْ يُخْدَع في الْبَيْعِ)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "يُخْدَعُ" بالبناء للمفعول، و"الْخَدِيعَةُ" بفتح الخاء المعجمة، وكسر الدال المهملة: اسم من الْخَدْع - بفتح، فسكون -، قال المجد في "القاموس": خَدَعه، كمنعه خَدْعًا، ويُكسر: خَتَلَهُ، وأراد به المكروه من حيث لا يَعلَم، كاختدعه، فانخدع، والاسم الخديعة، و"الحرب خِدعة"، مثلّثة، وكهُمَزَة، ورُوي بهنّ جميعًا؛ أي: تنقضي بخدعة. انتهى.

وترجم الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" بقوله: "باب ما يكره من الْخِدَاع في البيع"، فقال في "الفتح": كأنه أشار بهذه الترجمة إلى أن الخداع في البيع مكروه ولكنه لا يفسخ البيع، إلا إن شَرَط المشتري الخيار على ما تُشعِر به القصة المذكورة في الحديث. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3854]

(1533) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَيَحْيَى بْنُ أيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرُونَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ؛ أنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: ذَكَرَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ يُخْدَع فِي الْبُيُوع، فَفَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ بَايَعْتَ فَقُلْ لَا خِلَابَةَ"، فَكَانَ إِذَا بَايَعَ يَقُولُ: لَا خِيَابَةَ).

(1)

"الفتح" 5/ 578.

ص: 76

رجالا هذا الإسناد: سبعة:

وهو الإسناد المذكور قبل حديثين، ومن لطائفه أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (252) من رباعيّات الكتاب.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ) العدويّ المدنيّ، مولى ابن عمر (أنَّهُ سمِعَ ابْنَ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما (يَقُولُ: ذَكَرَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية أحمد، من طريق محمد بن إسحاق: حدّثني نافع، عن ابن عمر، كان رجل من الأنصار، زاد ابن الجارود في "المنتقى" من طريق سفيان، عن نافع؛ أنه حَبَّان بن مُنقِذ، وهو - بفتح المهملة، والموحدة الثقيلة - ورواه الدارقطنيّ، من طريق عبد الأعلى، والبيهقيّ من طريق يونس بن بكير، كلاهما عن ابن إسحاق به، وزاد فيه: قال ابن إسحاق: فحدّثني محمد بن يحيى بن حَبّان، قال: هو جدّي مُنقذ بن عمرو، وكذلك رواه ابن منده، من وجه آخر، عن ابن إسحاق، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال النوويّ في "شرحه": هو حبّان - بفتح الحاء، وبالباء الموحّدة - ابن منقذ بن عمرو الأنصاريّ، والد يحيى، وواسع ابني حَبّان، شَهِدَ أُحدًا، وقيل: بل هو والده منقذ بن عمرو، وكان قد بلغ مائة وثلاثين سنة، وكان قد شُجّ في بعض مغازيه مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض الحصون بحجر، فأصابته في رأسه مأمومة، فتغيّر بها لسانه، وعقله، لكن لم يخرج عن التمييز، وذكر الدارقطنيّ أنه كان ضريرًا. انتهى

(2)

.

(أنَّهُ) الرجل المذكور (يُخْدَعُ) بالبناء للمفعول، وفي رواية ابن إسحاق:"فشكا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ما يلقى من الغبن"(فِي الْبُيُوعِ) أي: في حال مبايعته للناس، وقد بَيَّن ابن إسحاق في روايته المذكورة سبب شكواه، وهو ما يَلقَى من الغبن، وقد أخرجه أحمد، وأصحاب السنن، وابن حبان، والحاكم من حديث أنس رضي الله عنه، ولفظه: "أن رجلًا كان في عُقدته ضعف، كان يبايع، وأن

(1)

"الفتح" 5/ 578.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 177.

ص: 77

أهله أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا نبيّ الله احْجُرْ عليه، فدعاه نبي الله صلى الله عليه وسلم، فنهاه، فقال: يا نبيّ الله لا أصبر عن البيع، قال: إذا بايعتَ، فقل: لا خلابة".

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ بَايَعْتَ)"من" موصولة، أو شرطيّة، والعائد محذوف؛ أي: الشخص الذي عقدت معه البيع (فَقُلْ) له وقت العقد (لَا خِلَابَةَ") - بكسر الخاء المعجمة، وتخفيف اللام -؛ أي: لا خَدِيعة، و"لا" لنفي الجنس؛ أي: لا خديعة في الدين؛ لأن الدين النصيحة.

زاد ابن إسحاق، في رواية يونس بن بكير، وعبد الأعلى عنه:"ثم أنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها، ثلاث ليال، فإن رضيتَ فأمسك، وإن سخطتَ، فاردد"، فبقي حتى أدرك زمان عثمان، وهو ابن مائة وثلاثين سنة، فكثر الناس في زمن عثمان، وكان إذا اشترى شيئًا، فقيل له: إنك غُبِنتَ فيه، رجع به، فيَشهَد له الرجلُ، من الصحابة بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قد جعله بالخيار ثلاثًا، فيردّ له دراهمه.

قال العلماء: لقّنه النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا القول؛ ليتلفظ به عند البيع، فيَطّلع به صاحبه على أنه ليس من ذوي البصائر، في معرفة السِّلَع، ومقادير القيمة، فيَرَى له كما يرى لنفسه؛ لِمَا تقرر من حَضّ المتبايعين على أداء النصيحة، كما تقدم في قوله صلى الله عليه وسلم، في حديث حكيم بن حزام:"فإن صدقا وبيّنا، بورك لهما في بيعهما" الحديث.

(فَكَانَ إذَا بَايَعَ يَقُولُ: لَا خِيَابَةَ) أي: لا خديعة، ومنه قولهم: إذا لم تَغْلِبْ فاخلُب

(1)

.

قال النوويّ رحمه الله: هو بياء مثناة تحتُ، بدل اللام، هكذا هو في جميع النسخ، قال القاضي: ورواه بعضهم: "لا خيانة" بالنون، قال: وهو تصحيف، قال: ووقع في بعض الروايات في غير مسلم: "خذابة" بالذال المعجمة، والصواب الأول، وكان الرجل ألثغ، فكان يقولها هكذا، ولا يمكنه أن يقول:"لا خلابة"، ومعنى "لا خلابة": لا خديعة؛ أي: لا تحلّ لك خديعتي، ولا يلزمني خديعتك. انتهى

(2)

.

(1)

"المفهم" 4/ 385.

(2)

"شرح النووي" 10/ 177.

ص: 78

ونقل في "الفتح" في "كتاب الحيل" عن المهلّب، أنه قال: معنى قوله: "لا خلابة": لا تخلُبوني؛ أي: لا تَخدَعوني، فإن ذلك لا يحل، قال الحافظ: والذي يظهر أنه وارد مورد الشرط: أي إن ظهر في العقد خداع، فهو غير صحيح، كأنه قال: بشرط أن لا يكون فيه خديعة، أو قال: لا تلزمني خديعتك، قال المهلب: ولا يدخل في الخداع المحرم الثناءُ على السلعة، والإطناب في مدحها، فإنه متجاوز عنه، ولا يَنتقض به البيع. انتهى

(1)

.

وقال الشوكانيّ رحمه الله في "النيل": اختَلَف العلماء في هذا الشرط، هل كان خاصًّا بهذا الرجل، أم يدخل فيه جميع من شرط هذا الشرط؟ فعند أحمد، ومالك في رواية عنه أنه يثبت الردّ لكل من شرط هذا الشرط، ويُثبتون الرد بالغبن لمن لم يعرف قيمة السلع. وأجيب بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما جعل لهذا الرجل الخيار للضَّعف الذي كان في عقله، كما في حديث أنس رضي الله عنه، فلا يُلحق به إلا من كان مثله في ذلك بشرط أن يقول هذه المقالة، ولهذا رُوي أنه كان إذا غُبن يشهد له رجل من الصحابة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد جعله بالخيار ثلاثًا، فيرجع في ذلك، وبهذا يتبيّن أنه لا يصحّ الاستدلال بمثل هذه القصّة على ثبوت الخيار لكلّ مغبون، دران كان صحيح العقل، ولا على ثبوت الخيار لمن كان ضعيف. العقل إذا غُبن، ولم يقل هذه المقالة، وهذا مذهب الجمهور، وهو الحقّ. انتهى ملخّصًا.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أنّ ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله من إثبات خيار الغَبْنِ هو الأرجح، كما سيأتي قريبًا - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 3854 و 3855](1533)، و (البخاريّ) في

(1)

"الفتح" 14/ 353 - 354.

ص: 79

"البيوع"(2117) و"الاستقراض"(2407) و"الخصومات"(2414) و"الحيل"(6964)، و (أبو داود) في "البيوع"(2500)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 252) و"الكبرى"(4/ 10)، و (ابن ماجه) في "التجارات"(2/ 789)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 685)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(15337)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 256)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 306)، و"مسنده"(2/ 95)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 292)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 44 و 61 و 72 و 80 و 84 و 107 و 116)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5051 و 5052)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(12/ 334)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(3/ 54 - 55)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 270 و 271)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 26)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 146)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 242)، و (البيهقيّ) في "الصغرى"(5/ 25) و"المعرفة"(4/ 365)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2052)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان حكم الخديعة في البيع، وهو أنها لا تجوز.

2 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به لأحمد، وأحد قولي مالك؛ أنه يُرَدّ بالغبن الفاحش، لمن لم يَعرف قيمة السلعة.

وتعقب بأنه صلى الله عليه وسلم، إنما جعل له الخيار لضعف عقله، ولو كان الغبن يُملك به الفسخ، لما احتاج إلى شرط الخيار.

وقال ابن العربيّ: يَحْتَمِل أن الخديعة في قصة هذا الرجل كانت في العيب، أو في الكذب، أو في الثمن، أو في الغبن، فلا يُحتج بها في مسألة الغبن بخصوصها، وليست قصة عامة، وإنما هي خاصة في واقعة عين، فيُحْتَجّ بها في حق من كان بصفة الرجل، قال: وأما ما رُوي عن عمر، أنه كُلِّم في البيع، فقال: ما أجد لكم شيئًا أوسع، مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لحبان بن منقذ، ثلاثة أيام، فمداره على ابن لهيعة، وهو ضعيف. انتهى.

قال الحافظ: وهو كما قال، أخرجه الطبرانيّ، والدارقطنيّ، وغيرهما من طريقه، لكن الاحتمالات التي ذكرها، قد تعيّنت بالرواية التي صُرّح بها، بأنه كان يُغبن في البيوع.

ص: 80

3 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن أمد الخيار المشترط ثلاثة أيام، من غير زيادة؛ لأنه حُكْم ورد على خلاف الأصل، فيُقتصر به على أقصى ما ورد فيه، ويؤيده جعل الخيار في الْمُصَرّاة ثلاثة أيام، واعتبار الثلاث في غير موضع.

وأغرب بعض المالكية، فقال: إنما قصره على ثلاث؛ لأن معظم بيعه كان في الرقيق. وهذا يحتاج إلى دليل، ولا يكفي فيه مجرد الاحتمال.

4 -

(ومنها): أنه استُدلّ به على أن من قال عند العقد: لا خلابة، أنه يصير في تلك الصفقة بالخيار، سواء وَجَدَ فيه عيبًا، أو غبنًا، أم لا، وبالغ ابن حزم في جموده، فقال: لو قال: لا خديعة، أو لا غشّ، أو ما أشبه ذلك، لم يكن له الخيار، حتى يقول: لا خلابة.

ومن أسهل ما يُردّ به عليه، أنه ثبت في "صحيح مسلم" أنه كان يقول: لا خيابة - بالتحتانية، بدل اللام، وبالذال المعجمة بدل اللام أيضًا -، وكأنه كان لا يفصح باللام؛ للثغة لسانه، ومع ذلك لم يتغير الحكم في حقه، عند أحد من الصحابة، الذين كانوا يشهدون له، بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، جعله بالخيار، فدل على أنهم اكتفوا في ذلك بالمعنى.

5 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن الكبير لا يُحجر عليه، ولو تبين سفهه؛ لما تقدّم في حديث أنس رضي الله عنه؛ أن أهله أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول اللهُ احجُر عليه، فدعاه، فنهاه عن البيع، فقال: لا أصبر عنه، فقال:"إذا بايعت، فقل: لا خلابة".

وتُعُقّب بأنه لو كان الحَجر على الكبير لا يصح، لأنكر عليهم، وأما كونه لم يحجر عليه، فلا يدل على منع الحجر على السفيه.

6 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على جواز البيع، بشرط الخيار، وعلى جواز شرط الخيار للمشتري وحده.

7 -

(ومنها): أن فيه ما كان أهل ذلك العصر عليه، من الرجوع إلى الحقّ، وقبول خبر الواحد، في الحقوق وغيرها. قاله في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"الفتح" 5/ 579 - 580.

ص: 81

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في مشروعيّة خيار الغبن:

قال النوويّ رحمه الله: اختلف العلماء في هذا الحديث، فجعله بعضهم خاصًّا في حقّه، وأن المغابنة بين المتبايعين لازمة، ولا خيار للمغبون بسببها، سواء قلّت، أو كثُرت، وهذا مذهب الشافعيّ، وأبي حنيفة، وآخرين، وهي أصحّ الروايتين عن مالك، وقال البغداديّون من المالكيّة: للمغبون الخيار لهذا الحديث، بشرط أن يبلغ الغبن ثلث القيمة، فإن كان دونه فلا، والصحيح الأول؛ لأنه لم يثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أثبت له الخيار، وإنما قال له: قل: "لا خلابة"؛ أي: لا خديعة، ولا يلزم من هذا ثبوت الخيار، ولأنه لو ثبت، أو أثبت له الخيار، كانت قضيّة عين، لا عموم لها، فلا ينفذ منه إلى غيره إلا بدليل. انتهى. "شرح مسلم" 10/ 171.

وقال ابن قُدامة رحمه الله في "المغني": ويثبت الخيار في البيع للغبن في مواضع:

[أحدها]: تلقي الركبان، إذا تلقاهم، فاشترى منهم، وباعهم، وغبنهم.

[الثاني]: بيع النجش، وقد سبق بيان حكم هذين الغبنين قريبًا.

[الثالث]: المسترسِل إذا غُبن غبنًا يخرج عن العادة، فله الخيار بين الفسخ والإمضاء، وبهذا قال مالك، وقال ابن أبي موسى: وقد قيل: قد لزمه البيع، وليس له فسخه، وهذا مذهب أبي حنيفة، والشافعيّ؛ لأن نقصان قيمة السلعة مع سلامتها، لا يمنع لزوم العقد، كبيع غير المسترسل، وكالغبن اليسير.

قال: ولنا أنه غبن حصل لجهله بالمبيع، فأثبت الخيار كالغبن في تلقي الركبان، فأما غير المسترسل، فإنه دخل على بصيرة بالغبن، فهو كالعالم بالعيب، وكذا لو استعجل، فَجَهِل ما لو تثبّت لَعَلِمه، لم يكن له خيار؛ لأنه انبنى على تقصيره وتفريطه، والمسترسل: هو الجاهل بقيمة السلعة، ولا يُحسِن المبايعة، قال أحمد: المسترسل: الذي لا يحسن أن يُماكِس، وفي لفظ: الذي لا يماكس، فكأنه استرسل إلى البائع، فأخذ ما أعطاه، من غير مماكسة، ولا معرفة بغبنه، فأما العالم بذلك، والذي لو توقف لعرف، إذا استعجل في الحال، فغُبِن فلا خيار لهما، ولا تحديد للغبن في المنصوص عن أحمد،

ص: 82

وحَدَّه أبو بكر في "التنبيه"، وابن أبي موسى في "الإرشاد" بالثلث، وهو قول مالك؛ لأن الثلث كثير، بدليل قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"والثلث كثير"، وقيل: بالسدس، وقيل: ما لا يتغابن الناس به في العادة؛ لأن ما لا يَرِدُ الشرع بتحديده، يُرجَع فيه إلى العرف. انتهى كلام ابن قدامة.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه أحمد رحمه الله من إثبات الخيار في الغبن للمسترسل هو الظاهر؛ لأن الشارع أثبت الخيار في مواضع كثيرة، من مواضع الغرر، مثل تلقّي الركبان، والمصرّاة، والنجش، وغيرها، فدلّ ذلك على أن ما كان بمعناها مثلها في الحكم، وهو الغبن، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في مشروعيّة الحجر على السفيه:

قال الإمام الترمذيّ رحمه الله - بعد أن أخرج الحديث -، ما نصّه: والعمل على هذا الحديث عند بعض أهل العلم، وقالوا: الحجر على الرجل الحرّ في البيع والشراء، إذا كان ضعيف العقل، وهو قول أحمد، وإسحاق، ولم ير بعضهم أن يُحجر على الحرّ البالغ. انتهى.

وقال البغويّ رحمه الله: قد يَحتجّ بهذا الحديث من لا يرى الحجر على الحرّ البالغ، ولو جاز الحَجْر لمنعه النبيّ صلى الله عليه وسلم من البيع حين عَلِم ضعف عقله، وكثرة غبنه.

وذهب أكثر أهل العلم إلى أن الحرّ البالغ إذا كان مفسدًا لماله سفيهًا يُحجر عليه، وهو قول عليّ، وعثمان، والزبير، وبه قال الشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، حتى قال الشافعيّ: لو كان فاسقًا يُحجر عليه، وإن كان غير مفسد لماله. انتهى.

وحجة الأولين هذا الحديث، ووجهه أن أهل ذلك الرجل لما طلبوا منه صلى الله عليه وسلم الحجر عليه، لم ينكر عليهم، بل منعه من البيع، إلا أنه لمّا رأى أنه لا يترك ذلك، عَلَّمَهُ أن يقول:"لا خلابة".

واحتجّ المانعون أيضًا بهذا الحديث، ووجهه أنه صلى الله عليه وسلم لم يحجر عليه، فلو كان الحجر جائزًا لحجر عليه.

ص: 83

وتُعقّب بأنه حجر عليه، لكنه لمّا رأى أنه لا ينفع الحجر فيه، لكونه لا يترك البيع علّمه ما يرفع عنه الضرر، إن لحقه، كما مرّ آنفًا، والحاصل أن دلالة الحديث على ما قاله الأولون واضحة، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): قال الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه "إعلام الموقّعين عن ربّ العالمين": أحدث بعض المتاخرين حِيَلًا، لم يصح. القول بها عن أحد من الأئمة، ومن عَرَف سيرة الشافعيّ، وفضله، عَلِم أنه لم يكن يأمر بفعل الحيل، التي تبنى على الخداع، وإن كان يُجري العقود على ظاهرها، ولا ينظر إلى قصد العاقد، إذا خالف لفظه، فحاشاه أن يُبيح للناس المكر والخديعة، فإن الفرق بين إجراء العقد على ظاهره، فلا يعتبر القصد في العقد، وبين تجويز عقد، قد عُلم بناؤه على المكر، مع العلم بأن باطنه بخلاف ظاهره ظاهر، ومن نسب حِل الثاني إلى الشافعي، فهو خصمه عند الله، فإن الذي جوّزه بمنزلة الحاكم يُجري الحكم على ظاهره، في عدالة الشهود، فيحكم بظاهر عدالتهم، وإن كانوا في الباطن شهود زور، وكذا في مسألة الْعِينَة، إنما جوّز أن يبيع السلعة ممن يشتريها، جريًا منه على أن ظاهر عقود المسلمين سلامتها من المكز والخديعة، ولم يجوّز قط أن المتعاقدين يتواطآن على ألف، بألف ومائتين، ثم يُحضران سلعة، تُحلل الربا، ولا سيما إن لم يقصد البائع بيعها، ولا المشتري شراءها، ويتأكد ذلك، إذا كانت ليست ملكًا للبائع، كان يكون عنده سلعة لغيره، فيوقع العقد، وَيدَّعي أنها ملكه، ويصدقه المشتري، فيوقعان العقد على الأكثر، ثم يستعيدها البائع بالأقل، ويترتب الأكثر في ذمة المشتري في الظاهر، ولو عَلِمَ الذي جَوَّز ذلك بذلك، لبادر إلى إنكاره؛ لأن لازم المذهب ليس بمذهب، فقد يذكر العالم الشيء، ولا يستحضر لازمه، حتى إذا عرفه أنكره، وأطال في ذلك جِدًّا، وهذا ملخصه:

قال الحافظ: والتحقيق أنه لا يلزم من الاثم في العقد بطلانه، في ظاهر الحكم، فالشافعية يجوّزون العقود على ظاهرها، ويقولون مع ذلك: إنّ من عَمِلَ الحيل بالمكر والخديعة، يأثم في الباطن، وبهذا يحصل الانفصال عن

ص: 84

إشكاله. والله أعلم. انتهى "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا عجيب من مثل الحافظ، فأين الانفصال الذي زعمه؟ وبأيّ دليل انفصل عما أورده الإمام ابن القيّم رحمه الله، من هذا الكلام المفصّل الذي إذا سمعه من أنصف لا يتأخّر عن الاعتراف به، واعتقاد صحّته، وأنه لا مفرّ عن القول به؟ فهذه الحيل التي ذكرها، لا نعتقد أحدًا ممن له علم بالكتاب والسنة يُجيزها، فإن عُثر على أن بعض أهل العلم قالوا بجوازها، فيُعتذر عنهم بما اعتذر به هو، وذلك أنهم جوّزوا نوعًا منها إجمالًا، ولو استُفصلوا بجميع لوازم المسألة، لبادروا بالإنكار، فضلًا عن القول بجوازها، وهذا هو الذي ندين الله تعالى به في حقّ علماء الإسلام، فإن هذه الحيل هي التي دخل بها تحريف الأديان السابقة، فكان أحبارهم يحتالون في مخالفة ما في كتابهم، من التكاليف، فيجيزون للعوامّ ما هو حرام صرف، فيشترون بذلك عرض الدنيا الفانية، كما ذمّهم الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز، فقال عز وجل:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)} [آل عمران: 187]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3855]

(

) - (حَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا وَكِيعٌ، حَدَّثنَا سُفْيَانُ (ح) وَحَدّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، بِهَذَا الإسْنَادِ مِثْلَهُ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِهِمَا:"فَكَانَ إِذَا بَايَعَ يَقُولُ: لَا خِيَابَةَ".

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغُندر، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ صحيح الكتاب [9](3 أو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

والباقون ذُكروا في الباب، والباب السابق، وقبله بثلاثة أبواب.

(1)

14/ 353 - 354.

ص: 85

[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ، عن عبد الله بن دينار، ساقها الإمام أحمد في "مسنده"، (2/ 61) فقال:

(5271)

- حدّثنا عبد الله

(1)

، ثنا أبي، ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني أُخْدَع في البيع، فقال:"إذا بعت فقل: لا خلابة". انتهى.

وأما رواية شعبة، عن عبد الله بن دينار، فساقها الإمام أحمد أيضًا في "مسنده" (2/ 44) فقال:

(5036)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن عبد الله بن دينار، سمعت ابن عمر قال: كان رجل من قريش يُغْبَن في البيع، فذَكَرَ ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"قل: لا خِلابة". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(13) - (بَابُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا)

(2)

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3856]

(1534) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ").

قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم هذا الإسناد بعينه قبل بابين، وهو من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (253) من رباعيّات الكتاب.

(1)

هو ابن الإمام أحمد، راوي "المسند" عنه.

(2)

هكذا ترجم القرطبيّ رحمه الله، وهو الأنسب بظاهر أحاديث الباب، وأما ما ترجم به النوويّ وغيره بـ "باب النهي عن بيع الثمار قبل بدوّ صلاحها بغير شرط القطع"، ففيه نظر؛ لأنه يكون تقييدًا للحديث بالمذهب، وهذا لا يليق بمن يشرح كتب الأحاديث، فالأولى أن تطلق التراجم إلا إذا جاء نصّ من الحديث يقتضي التقييد، فتنبّه.

ص: 86

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى) ذكر الإمام البخاريّ رحمه الله سبب هذا النهي، فقال في "صحيحه": وقال الليث، عن أبي الزناد: كان عروة بن الزبير، يحدِّث عن سهل بن أبي حثمة الأنصاريّ، من بني حارثة؛ أنه حدّثه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال: كان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتبايعون الثمار، فإذا جَدَّ الناسُ وحضر تقاضيهم، قال المبتاع: إنه أصاب الثمرَ الدُّمَان

(1)

، أصابه مِرَاضٌ، أصابه قُشَام - عاهات، يحتجّون بها - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لَمّا كثرت عنده الخصومة في ذلك:"فإِمَّا لا، فلا تتبايعوا حتى يبدو صلاح الثمر"، كالمشُورة

(2)

، يشير بها؛ لكثرة خصومتهم. انتهى.

قال في "الفتح": قال الداوديّ الشارح: قول زيد بن ثابت: "كالمشُورة يشير بها عليهم"، تأويل من بعض نقلة الحديث، وعلى تقدير أن يكون من قول زيد بن ثابت، فلعل ذلك كان في أول الأمر، ثم ورد الجزم بالنهي، كما بيّنه حديث ابن عمر وغيره. انتهى

(3)

.

(عَنْ بَيْعِ الثمَرِ) - بفتحتين -، والثَّمَرَةُ مثله، فالأول مذكّرٌ، ويُجمع على ثِمار، مثلُ جَبَل وجِبال، ثم يُجمع الثمارُ على ثُمُر مثلُ كتاب وكُتُب، ثم يُجمع على أثمار، مثلُ عُنُق وأَعناق، والثاني مؤنّث، والجمع ثَمَرَات، مثلُ قَصَبَة وقَصَبَات، والثمر: هو الْحَمْلُ الذي تُخرجه الشجرة، سواء أُكل، أو لا، فيقال: ثَمَر الأَراك، وثمر الْعَوْسَج، وثمرُ الدَّوْم، وهو الْمُقْلُ، كما يُقال: ثمر النخل، وثمر العِنَب. قال الأزهريّ: وأثمر الشجرُ: أطلع ثمره أوّلَ ما يُخرجه،

(1)

"الدُّمان" بفتح الدال، وضمّها: فساد الطلع، وتعفّنه، و"المِراض": بكسر الميم، وضمها: داء يقع في الثمرة، فتهلك، و"الْقُشام" بضمّ القاف، ومعجمة مخفّفة: أن يقص ثمر النخل قبل أن يصير بَلْحًا، وقيل: هو أكّالٌ يقع في الثمر.

(2)

"المشورة" بضمّ الشين المعجمة، وسكون الواو، أو بسكون الشين، وفتح الواو، لغتان، فعلى الأول فهي فَعُولة، وعلى الثاني، فهي مَفْعَلَةٌ، وزعم الحريريّ أن الإسكان من لحن العامّة، وليس كذلك، فقد أثبتها في "الجامع"، و "الصحاح"، و"المحكم"، وغيرها. أفاده في "الفتح" 5/ 670.

(3)

"الفتح" 5/ 672 - 673.

ص: 87

فهو مُثْمِرٌ، ومن هنا قيل لِمَا لا نفع فيه: ليس له ثَمَرَة، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

(حَتَّى يَبْدُوَ)؛ أي: يَظهَر، وهو بلا همز، قال النوويّ رحمه الله: ومما ينبغي أن يُنبّه عليه ما يقع في كثير من كتب المحدّثين، وغيرهم "حتى يبدوا" بالألف في الخطّ، وهو خطأ، والصواب حذفها من مثل هذا للناصب، وإنما اختلفوا في إثباتها إذا لم يكن ناصبٌ، مثل زيدٌ يبدو، والاختيار حذفها أيضًا، ويقع مثله في "حتّى يزهو"، وصوابه حذف الألف كما ذُكر. انتهى

(2)

.

(صَلَاحُهَا) سيأتي أن ابن عمر رضي الله عنهما قيل له: ما صلاحه؟ قال: تذهب عاهته، و"العاهة": الآفة، وقال أيضًا:"يبدو صلاحه: حمرته، وصفرته"، والمراد به أن تُؤمن فيها العاهة، وتغلب السلامة، فَيَثِقَ المشتري بحصولها، بخلاف ما قبل بدوّ الصلاح، فإنه بصدد الغرر.

وقال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: قال أصحابنا: بدوّ الصلاح بظهور النّضج، ومبادئ الحلاوة، وزوال العُفُوصة، أو الحموضة المفرطتين، وذلك فيما لا يتلوّن بأن يتموّه، ويَلين، وفيما يتلوّن بأن يَحمرّ، أو يصفرّ، أو يسودّ، قالوا: وهذه الأوصاف، وإن عُرف بها بدوّ الصلاح، فليس واحد منها شرطًا فيه؛ لأن القثّاء لا يُتصوّر فيه شيء منها، بل يُستطاب أكله صغيرًا وكبيرًا، وإنما بدوّ صلاحه أن يكبر، بحيث يُجنى في الغالب، ويؤكل، وإنما يؤكل الصغير على الندور، وكذا الزرع لا يُتصوّر فيه شيء منها باشتداد الحبّ.

وقال البغويّ: بيع أوراق التوت قبل تناهيها لا يجوز إلا بشرط القطع، وبعده يجوز مطلقًا، وبشرط القطع.

والعبارة الشاملة أن يُقال: بدوّ الصلاح في هذه الأشياء صيرورتها إلى الصفة التي تُطلب غالبًا لكونها على تلك الصفة. انتهى

(3)

.

وقوله: (نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ)؛ أي: المشتري، قال ولي الدين رحمه الله: تأكيد لما فيه من بيان أن البيع، وإن كان فيه مصلحة الإنسان، فليس له أن يرتكب المنهيّ عنه فيه، ويقول: أسقطتُ حقّي من اعتبار المصلحة، فإن المنع

(1)

"المصباح المنير" 1/ 84.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 178.

(3)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 6/ 129.

ص: 88

لمصلحة المشتري؛ لأن الثمار قبل بُدُوّ الصلاح مُعَرَّضةٌ لطوارئ العاهات عليها، فإذا طرأ عليها شيء منها حصل الإجحاف للمشتري في الثمن الذي بذله، فنهى الشرع المشتري، كما نهى البائع، وكانه قطع بذلك النزاع، والتخاصم. انتهى. "طرح التثريب" ببعض تصرّف.

وقال في "الفتح": أما البائع؛ فلئلا يأكل مال أخيه بالباطل، وأما المشتري؛ فلئلا يَضِيع ماله، وشماعد البائع على الباطل، وفيه أيضًا قطع النزاع والتخاصم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 3856 و 3857 و 3858 و 3859 و 3860 و 3861 و 3862 و 3863 و 3864](1534 و 1535)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1486) و"البيوع"(2171 و 2173 و 2184 و 2188 و 2193 و 2194 و 2205) و"المساقاة"(2380)، و (أبو داود) في "البيوع"(3367 و 3368)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1226 و 1227)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 262) و"الكبرى"(4/ 17)، و (ابن ماجه) في "التجارات"(2214)، و (مالك) في "الموطّإ"(1303)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 148)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(14315)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 431 و 432)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 7 و 56 و 63 و 77 و 123)، و (الدارميّ) في "سننه"(2442)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4989 و 4991)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(2/ 22 و 23)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 287 و 288 و 289)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3/ 400)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 99 و 300) و"الصغرى"(5/ 88) و"المعرفة"(4/ 32)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في هذا الحديث النهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، وهذا يشتمل ثلاثة أوجه:

[أحدها]: بيعها بشرط القطع، وهذا صحيح، وقد حكى غير واحد

ص: 89

الإجماع عليه، منهم النوويّ، فخصّ النهي بالإجماع، لكن ذهب ابن حزم إلى منع البيع في هذه الصورة أيضًا، قال: وممن منع بيع الثمرة مطلقًا، لا بشرط القطع، ولا بغيره: سفيان الثوريّ، وابن أبي ليلى. انتهى، وهذا يقدح في دعوى الإجماع.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: رجّح النسائيّ القول بجواز البيع بشرط القطع، حيث قال:"شراء الثمار قبل أن يبدو صلاحها، على أن يقطعها، ولا يتركها إلى أوان إدراكها"، والله تعالى أعلم.

قال وليّ الدين: قال أصحابنا: فلو شَرَط القطع، ثم لم يقطع، فالبيع باق على صحّته، ويُلزمه البائع بالقطع، فإن تراضيا على إبقائه جاز، قالوا: وإنما يجوز البيع بشرط القطع، إذا كان المقطوع منتفعًا به، فإن لم تكن فيه منفعة؛ كالجوز، والكُمثرى، لم يصحّ بيعه بشرط القطع.

[الحالة الثانية]: بيعها بشرط التبقية، وهذا باطل بالإجماع؛ لأنه ربّما تَلِفت الثمرة قبل إدراكها، فيكون البائع قد أكل مال أخيه بالباطل، كما جاءت به الأحاديث، فإذا شُرط القطع، فقد انتفى هذا الضرر، وعلّله الحنفيّة بأنه شرط لا يقتضيه العقد، وهو شُغل ملك الغير، وبأنه جمع بين صفقتين، وهو إعارة، أو إجارة في بيع.

[الحالة الثالثة]: بيعها مطلقًا، من غير شرط قطع، ولا تبقية، ومقتضى الحديث في هذه الحالة البطلان، وبه قال الشافعيّ، وأحمد، وجمهور العلماء، من السلف، والخلف، وذهب أبو حنيفة إلى الصحّة، وعن مالك قولان، كالمذهبين.

وأجاب الحنفيّة عن هذا الحديث بجوابين:

(أحدهما): أن المراد به بيع الثمار قبل أن توجد، وتُخلق، فهو كالحديث الوارد في النهي عن بيع السنين.

وردّ عليهم بأن هذا مخالف لتفسير الصحابي بدوّ الصلاح في الحديث بأنه صفرته، وحمرته، وبأنه صلاحه للأكل منه، وبأنه ذهاب عاهته، وبان ذلك عند طلوع الثُّريَّا؛ أي: مقارنته للفجر.

ورُوي عن عطاء، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا: "إذا طلع النجم صباحًا

ص: 90

رُفعت العاهات عن أهل البلد، والنجم: الثريّا"، والمراد - كما قال بعضهم -: في الحجاز خاصّة؛ لشدّة حرّه.

قال البيهقيّ رحمه الله في "المعرفة": وقد حمل بعض من يدّعي تسوية الأخبار على مذهبه هذه الأخبار على بيع الثمار قبل أن تكون، واستدلّ عليه بما رَوَينا عن نهيه عن بيع السنين، وما ورد في معناه، وقد عرفنا بتلك الأخبار نهيه عن بيع الثمار قبل أن تكون، وعرفنا بهذه الأخبار نهيه عن بيعها مطلقًا، إذا كانت ما لم يبدُ فيها الصلاح، ألا تراه علّق المنع بغاية توجد بعد أن تكون الثمار بمدّة، فقال:"حتى تزهو"، وقال في حديث جابر رضي الله عنه:"حتى تُشْقِح، قيل: وما تُشقح؟ قال: تحمارّ، أو تصفارّ، ويؤكل منها"، وقال في رواية أخرى، عن جابر:"حتى تَطِيب".

وفي ذلك دلالة على أن حكم الثمار بعد بُدُوّ الصلاح فيها في البيع خلاف حكمها قبل أن يبدو الصلاح فيها، فيجوز بيعها بعد بُدُوّ الصلاح فيها مطلقًا، ولا يجوز قبله إلا بشرط القطع. انتهى

(1)

.

(الجواب الثاني): أن النهي فيها ليس للتحريم، وإنما هو على سبيل التنزيه، والأدب، والمشُورة عليهم؛ لكثرة ما كانوا يختصمون إليه فيه.

وهذا مردود عليهم بأن الأصل في النهي التحريم، حتى يصرفه عن ذلك صارفٌ.

وقد وافق بعضُ الحنفيّة الجمهور على بطلان البيع قبل بدوّ الصلاح من غير شرط؛ اتّباعًا للحديث، وإليه ذهب قاضي خان، أفاده وليّ الدين رحمه الله

(2)

.

وقال القرطبي رحمه الله: وهل ذلك النهي محمول على ظاهره من التحريم، وهو مذهب الجمهور، أو على الكراهة، وهو مذهب أبي حنيفة؟ وعليه فلو وقع بيع الثمرة قبل أن يبدو صلاحها، فسخه الجمهور، وصححه أبو حنيفة، إذا ظهرت الثمرة، وبناه على أصله في ردّ أخبار الآحاد للقياس، والصحيح مذهب الجمهور؛ للتمسّك بظاهر النهي، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"أرأيت إن منع الله الثمرة، بم يأكل أحدكم مالَ أخيه بغير حقّ؟ "، وهذا يدل على أن بيعها قبل بدوّ صلاحها

(1)

"المعرفة" 4/ 323 - 324.

(2)

"طرح التثريب" 6/ 125 - 127.

ص: 91

من أكل المال بالباطل؛ ولأنه غرر، وبيع الغرر مُحرّم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه رحمه الله هذا الذي قاله القرطبي: من ترجيح مذهب الجمهور في تحريم بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وبطلان البيع فيه، هو الحقّ الذي يجب التمسّك به، ورفض ما عداه مما يعارض النصوص الصحيحة الصريحة لمخالفتها القياس؛ لأن القياس في مقابلة النصّ باطلٌ، ولقد أجاد من قال، وأحسن في المقال [من الوافر]:

إِذَا جَالَتْ خُيُولُ النَّصِّ يَوْمًا

تُجَارِي فِي مَيَادِينِ الْكِفَاحِ

غَدَتْ شُبَهُ الْقِيَاسِيِّينَ صَرْعَى

تَطِيرُ رُؤُوسُهُنَّ مَعَ الرِّيَاحِ

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): قال وليّ الدين رحمه الله: حمل الفقهاء من المذاهب الأربعة المنع من بيع الثمرة قبل بدوّ الصلاح على ما إذا باعها مفردة عن الأشجار، فإن باعها مع الأشجار صحّ مطلقًا، من غير شرط القطع، بل قال أصحابنا: لا يجوز شرط القطع في هذه الصورة، وأنكر ذلك ابن حزم، وأبشع في إنكاره، وهو مردود، والحق ما قاله الجمهور، وأيّ معنى للقطع، والأشجار ليست باقية للبائع، بل هي مبيعة للمشتري؟ انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): مقتضى قوله: "حتى يبدو صلاحها": جواز بيعها بعد بُدُوّ الصلاح مطلقًا، سواء اشترط الإبقاء، أم لم يشترط؛ لأن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها، وقد جعل النهي ممتدًا إلى غاية بدوّ الصلاح.

وإلى الفرق بين ما قبل ظهور الصلاح، وبعده، ذهب الجمهور، وعن أبي حنيفة: إنما يصح بيعها في هذه الحالة، حيث لا يشترط الإبقاء، فإن شرطه لم يصح البيع، وحَكَى النوويّ عنه أنه أوجب شرط القطع، في هذه الصورة.

وتُعُقّب بأن الذي صرح به أصحاب أبي حنيفة، أنه صحح البيع حالة الإطلاق، قبل بدو الصلاح وبعده، وأبطله بشرط الإبقاء قبله وبعده، وأهل

(1)

"المفهم" 4/ 388.

ص: 92

مذهبه أعرف به من غيرهم، قاله في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): اختلف السلف في قوله: "حتى يبدو صلاحها"، هل المراد به جنس الثمار، حتى لو بدا الصلاح في بستان، من البلد مثلًا، جاز بيع ثمرة جميع البساتين، وإن لم يبد الصلاح فيها، أو لا بدّ من بدوّ الصلاح في كل بستان، على حِدَةٍ، أو لا بُدّ من بدو الصلاح في كل جنس على حدة، أو في كل شجرة على حدة؟ على أقوال:

[الأول]: قول الليث، وهو عند المالكية بشرط أن يكون الصلاح متلاحقًا.

[والثاني]: قول أحمد، وعنه رواية كالرابع.

[والثالث]: قول الشافعية، ويمكن أن يؤخذ ذلك من التعبير ببدوّ الصلاح؛ لأنه دالّ على الاكتفاء بمسمى الإزهاء، من غير اشتراط تكامله، فيؤخذ منه الاكتفاء، بزَهْو بعض الثمرة، وبزَهْو بعض الشجرة، مع حصول المعنى، وهو الأمن من العاهة، ولولا حصول المعنى، لكان تسميتها مُزهية بإزهاء بعضها، قد لا يكتفي به؛ لكونه على خلاف الحقيقة، وأيضًا فلو قيل بإزهاء الجميع؛ لأدّى إلى فساد الحائط، أو أكثره، وقد مَنّ الله تعالى بكون الثمار، لا تطيب دفعة واحدة؛ ليطول زمن التفكه بها، قاله في "الفتح"

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أرجح الأقوال ما ذهب إليه أحمد رحمه الله، وهو أنه لا بدّ من بُدُوِّ الصلاح في كل بستان على حِدَةٍ؛ لكونه أقرب لظاهر النصّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل الى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3857]

(

) - (حَدَّثنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثنَا أَبِي، حَدَّثنَا عُبَيْدُ الله، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

تقدّم هذا الإسناد أيضًا قبل بابين.

(1)

"الفتح" 5/ 671.

(2)

"الفتح" 5/ 671 - 672.

ص: 93

[تنبيه]: رواية عبيد الله بن عمر العمريّ، عن نافع هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل الى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3858]

(1535) - (وَحَدَّثَنى عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالَا: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ، عَنْ أيُّوبَ، عَنْ نَافِع، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتى يَزْهُوَ، وَعَنِ السُّنْبُلِ حَتى يَبْيَضَّ، وَيَأمَنَ الْعَاهَةَ، نَهَى

(1)

الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم تقدّموا قبل بابين، وإسماعيل هو ابن عُليّة، كما في "تحفة الأشراف"

(2)

، وليس بابن جعفر، فتنبّه.

وقوله: (نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ)؛ أي: بيع ثمارها التي عليها منفردة عنها.

وقوله: (حَتَّى يَزْهُوَ) قال النوويّ رحمه الله: هو بفتح الياء، كذا ضبطوه، وهو صحيح.

قال ابن الأعرابيّ: يقال: زها النخل يزهو: إذا ظهرت ثمرته، وأزهى يُزهي: إذا احمرّ، أو اصفرّ.

وقال الأصمعيّ: لا يقال في النخل: أزهى إنما يقال: زها، وحكاهما أبو زيد لغتين، وقال الخليل: أزهى النخلُ: بدا صلاحه.

وقال الخطابيّ: هكذا يُرْوَى "حتى يزهو"، قال: والصواب في العربية "حتى يُزهي"، والإزهاء في الثمر: أن يَحمرّ، أو يَصفرّ، وذلك علامة الصلاح فيها، ودليل خلاصها من الآفة.

وقال ابن الأثير: منهم من أنكر يُزهي، كما أن منهم من أنكر يَزهُو.

وقال الجوهريّ: الزَّهْوُ بفتح الزاي، وأهل الحجاز يقولون بضمها، وهو البسر الملَوَّن، يقال: إذا ظهرت الحمرة، أو الصفرة في النخل، فقد ظهر فيه الزهو، وقد زها النخل زَهْوًا، وأزهى لغة.

(1)

وفي نسخة: "ونهى".

(2)

راجع 5/ 353.

ص: 94

فهذه أقوال أهل العلم فيه، ويَحْصُل من مجموعها جواز ذلك كله، فالزيادة من الثقة مقبولة، وفي نَقَل شيئًا لم يعرفه غيره قبلناه إذا كان ثقة. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

وقوله: (وَعَنِ السُّنْبُلِ) قال الفيّوميّ رحمه الله: سُنْبُل الزرع: فُنْعُلٌ بضمّ الفاء والعين، الواحدة: سُنْبُلة، والسَّبَلُ مثله، الواحدة سَبَلَة، مثلُ قَصَب وقَصَبَة، وسَنْبَلَ الزرع: أخرج سُنبُله، وأسبل بالألف: أخرج سَبَلهُ. انتهى

(1)

.

وقال البيضاويّ في "تفسيره" عند قوله تعالى: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} الآية [البقرة: 261]: هي الشعبة التي تتفرعّ عن ساق الزرع. انتهى.

وقوله: (حَتَّى يَبْيَضَّ) بتشديد الضاد المعجمة: معناه: حتى يشتدّ حبّه، وهو بُدُوّ صلاحه.

قال النووي رحمه الله: فيه دليل لمذهب مالك، والكوفيين، وأكثر العلماء؛ أنه يجوز بيع السنبل المشتدّ، وأما مذهبنا - يعني الشافعيّة - ففيه تفصيل فإن كان السنبل شعيرًا، أو ذُرَةً، أو ما في معناهما مما تُرَى حَبّاته جاز بيعه، وإن كان حنطة ونحوها، مما تُستَر حبّاته بالقشور التي تزال بالدياس، ففيه قولان للشافعيّ رحمه الله: الجديد أنه لا يصحّ، وهو أصح قوليه، والقديم أنه يصحّ، وأما قبل الاشتداد فلا يصح بيع الزرع إلا بشرط القطع، كما ذكرنا، وإذا باع الزرع قبل الاشتداد مع الأرض بلا شرط جاز تبعًا للأرض، وكذا الثمر قبل بدوّ الصلاح، إذا بِيع مع الشجر جاز بلا شرط تبعًا، وكذا حكم البقول في الأرض لا يجوز بيعها في الأرض دون الأرض إلا بشرط القطع، وكذا لا يصحّ بيع البطيخ ونحوه قبل بدو صلاحه. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما ذهب إليه الجمهور، وهو القول القديم للشافعيّ، من جواز بيع السنبل المشتدّ مطلقًا هو الأرجح عندي؛ لظاهر هذا الحديث، والله تعالى أعلم.

وقوله: (وَيَأمَنَ الْعَاهَةَ) هي الآفة، تصيب الزرع، أو الثمر ونحوه، فتُفسده، قال العينيّ رحمه الله: وأصل عاهة عَوَهَةٌ، قُلبت الواو ألفًا؛ لتحركها،

(1)

"المصباح المنير" 1/ 265.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 182 - 183.

ص: 95

وانفتاح ما قبلها، يقال: عاه القوم، وأَعْوَهوا: إذا أصاب ثمارهم، وماشيتهم العاهة، ومادته عين، وواو، وهاء. انتهى

(1)

.

وفي رواية شعبة الآتية: "فقيل لابن عمر: ما صلاحه؟ قال: تذهب عاهته"؛ أي: آفته، وهو أن يصير إلى الصفة التي يُطْلَب كونه على تلك الصفة؛ كظهور النَضْج، ومبادي الحلاوة، وزوال العُفُوصة المفرطة، وذلك بأن يتموّه، ويلين، أو يتلوّن بالاحمرار، أو الاصفرار، أو الاسوداد، ونحوه، والمعنى الفارق بينهما أن الثمار بعد البُدُوّ تأمن من العاهات؛ لكبرها، وغلظ نواها، بخلافها قبله؛ لضعفها، فربما تَلِفت فلم يبق شيء في مقابلة الثمن، فكان ذلك من قبيل أكل المال بالباطل. أفاده في "العمدة"

(2)

.

وقال في موضع آخر: (ثم اعلم): أن بُدُوّ الصلاح متفاوت بتفاوت الأثمار، فبُدُوّ صلاح التين أن يطيب، وتوجد فيه الحلاوة، ويظهر السواد في أسوده، والبياض في أبيضه، وكذلك العنب الأسود بدوّ صلاحه أن يتحوّل إلى السواد، وأن ينحو أبيضه إلى البياض مع النَضْج، وكذلك الزيتون بدوّ صلاحه أن يتحوّل إلى السواد، وبدوّ صلاح القثاء والفقوص أن ينعقد، ويبلغ مبلغًا يوجد له طعم، وأما البطيخ فأن ينحو ناحية الاصفرار والطيب، وأما اللَّوْز فرَوَى أشهب، وابن نافع عن مالك؛ أنه يباع إذا بلغ في شجره قبل أن يطيب، فإنه لا يطيب حتى يُنْزَع، وأما الْجَزَر، واللِّفْت، والْفُجْل، والثَّوم، والبَصَل فبدوّ صلاحه إذا استقلّ ورقه، وتَمَّ، وانتُفِع به، ولم يكن في قلعه فساد، والبُرّ، والفول، والْجُلُبّان، والْحِمَّص، والعَدَس، إذا يبس، والياسمين، وسائر الأنوار أن يَفتح أكمامه، ويظهر نَوْره، والقصيل، والقصب، والقرطم إذا بلغ أنه يُرعَى دون فساد. انتهى

(3)

.

والحديث بهذا اللفظ من أفراد المصنّف، وقد مضى تمام البحث فيه قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"عمدة القاري" 9/ 83.

(2)

"عمدة القاري" 9/ 83.

(3)

"عمدة القاري" 11/ 298.

ص: 96

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3859]

(1534) - (حَدَّثَنى زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثنَا جَرِيرٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَبْتَاعُوا الثَّمَرَ

(1)

حَتى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ، وَتَذْهَبَ عَنْهُ الآفَةُ"، قَالَ: يَبْدُوَ صَلَاحُهُ: حُمْرَته، وَصُفْرَتُهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(يَحْيَى بْن سَعِيدِ) بن قيس الأنصاريّ، أبو سعيد المدنيّ القاضي، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت 144)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (لَا تَبْتَاعُوا الثَّمَرَ) وفي نسخة: "الثمرة"، وقد تقدّم أن الثمرة واحدة الثمر.

وقوله: (يَبْدُوَ صَلَاحُهُ: حُمْرَتُهُ، وَصُفْرَتُهُ) بنصب "يبدوَ" بضبط القلم، وهو من باب "تسمعَ بالمعيديّ خير من أن تراه"، بنصب "تسمع"، ومنه قول الشاعر [من الطويل]:

أَلَا أَيُّهَا الزَّاجِرِ أَحْضُرَ الْوَغَى

وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي

بنصب "أَحضُرَ"، وهذا النصب بتقدير "أن" المصدريّة، وهو شاذّ، كما قال في "الخلاصة":

وَشَذَّ حَذْفُ "أَنْ" وَنَصْبٌ فِي سِوَى

مَا مَرَّ فَاقْبَلْ مِنْهُ مَا عَدْلٌ رَوَى

هذا كلّه على رواية النصب، وأما إذا رفع الفعل، فالحذف جائز عند الأخفش، وجعل منه قوله تعالى:{أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} الآية [الزمر: 64] برفع "أعبُدُ"، ومنه "تسمعُ بالمعيديّ خيرٌ "برفع "تسمع"، ووافقه ابن مالك في "شرح التسهيل" حيث قال في قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الروم: 24] أنَّ {يُرِيكُمُ} صلة "أن" حُذفت، وبقي الفعل مرفوعًا،

(1)

وفي نسخة: "لا تبتاعوا الثمرة".

ص: 97

وهذا هو القياس؛ لأن الحرف عامل ضعيف، فحذفه يُبطل عمله. انتهى.

وذهب قوم إلى أن الحذف في غير ما مرّ سماعيّ مطلقًا، رُفع الفعل، أو نُصب، والصحيح الأول؛ لأنه وقع في أفصح الكلام في الآية المذكورة {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} ، فلا تُحمل الآية على الشذوذ، فتنبّه

(1)

.

والحاصل أن "يبدو صلاحه" مبتدأ، سواء رُفع، أم نُصب بتقدير "أن" وخبره قوله:"حمرته، وصفرته"؛ أي: بدوّ صلاحه كونه أحمر، وأصفر.

والحديث بهذا اللفظ من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم البحث عنه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل الى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3860]

(

) - (وَحَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَا: حَدَّثنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ يَحْيَى، بِهَذَا الإسْنَادِ: "حَتى يَبْدُوَ صَلَاحُهُا، لَمْ يَذْكُرْ

(2)

مَا بَعْدَهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلّهم تقدّموا قبل بابين.

وقوله: (لَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ) الفاعل ضمير عبد الوهّاب الثقفيّ، وفي بعض النسخ: و"لم يذكر" بالعاطف.

[تنبيه]: رواية عبد الوهّاب، عن يحيى بن سعيد الأنصاري هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3861]

(

) - (حَدَّثَنَا ابْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْك، أَخْبَرَنَا الضَّحَّاكُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ عَبْدِ الْوَهَّابِ).

(1)

راجع: "حاشية الخضريّ على شرح ابن عقيل على الخلاصة" 2/ 183 وقد أوّل الخضريّ كلام ابن مالك هذا، وهو تأويل غير مقبول؛ لأنه يؤدي إلى حمل الآية على وجه شاذّ، وهو باطلٌ، فتنبّه.

(2)

وفي نسخة: "ولم يذكر".

ص: 98

هذا الإسناد نفسه تقدّم قبل بابين، و"ابن أبي فُديك" هو: محمد بن إسماعيل بن مسلم، و"الضحّاك" هو: ابن عثمان الحِزَاميّ.

[تنبيه]: رواية الضحّاك بن عثمان، عن نافع هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3862]

(

) - (حَدَّثنَا سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، حَدَّثَني مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَعُبَيْدِ اللهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ) الْهَرويّ الأصل، ثم الْحَدَثانيّ، أبو محمد، صدوق في نفسه، إلا أنه عَمِي، فصار يتلقّن، من قدماء [10](ت 240) وله مائة سنة (م ت) تقدم في "المقدمة" 6/ 87.

2 -

(حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ) الْعُقيليّ، أبو عمر الصنعانيّ، نزيل عَسْقلان، ثقةٌ ربّما وَهِمَ [8](ت 181)(خ م مد س ق) تقدم في "الإيمان" 87/ 461.

3 -

(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عيّاش الأسديّ مولاهم، ثقةٌ فقيهٌ إمامٌ في المغازي [5](ت 141)(ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية موسى بن عُقبة، عن نافع هذه لم أجد أيضًا من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3863]

(

) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، ويحْيَى بْنُ أيُّوبَ، وَقتُيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرُونَ: حَدَّثنَا إِسْمَاعِيلُ - وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ؛ أنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ، قَالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَبِيعُوا الثَّمَرَ حَتى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ").

تقدّم هذا الإسناد بعينه في الباب الماضي، والحديث متّفقٌ عليه، وقد

ص: 99

سبق شرحه، وبيان مسائله في حديث أول الباب، فتنته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل الى المؤلف رحمه الله أوّل الكماب قال:

[3864]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَن، عَنْ سُفْيَانَ (ح) وَحَدَّثنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الله بْنِ دِينَارٍ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَزَادَ فِي حَدِيثِ شُعْبَةَ: فَقِيلَ لِابْنِ عُمَرَ: مَا صَلَاحُهُ؟ قَالَ: تَذْهَبُ عَاهَتُهُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلهم تقدّموا قريبًا.

وقوله: (فَقِيلَ لِابْنِ عُمَرَ

الخ) لم يُسمَّ السائل لابن عمر رضي الله عنهما.

[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ، عن عبد الله بن دينار هذه ساقها الخطيب البغداديّ في كتابه "الفصل للوصل المدرج"، فقال: وأما حديث سفيان الثوريّ، عن عبد الله بن دينار الذي اقتصر فيه على رواية المرفوع دون كلام عمر، فأخبرناه أبو الحسين علي بن يحيى بن جعفر إمام المسجد الجامع بأصبهان، نا أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبرانيّ، نا حفص بن عمر الرَّقيّ، نا قَبيصة بن عُقبة، قال سليمان: ونا محمد بن الحسن بن كيسان، نا أبو حذيفة، وأَخبرنا أبو الحسن عليّ بن أحمد بن عمر المقريّ، أنا أبو بكر أحمد بن سليمان بن الحسن النجاد، نا محمد بن غالب، نا أبو حذيفة قالا: سمعت ابن عمر يقول: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها. انتهى

(1)

.

وأما رواية شعبة، عن عبد الله بن دينار، فساقها أيضًا الخطيب البغداديّ في كتابه المذكور، فقال:

أخبرناه الحسن بن علي بن محمد التميميّ، أنا أحمد بن جعفر بن حمدان، نا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدّثني أبي، نا محمد بن جعفر،

(1)

"الفصل للوصل المدرج" 1/ 118 - 119.

ص: 100

وأخبرناه أبو بكر الْبَرْقانيّ، قال: قرأت على أبي بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيليّ: أخبركم محمد بن إسحاق بن خزيمة، ثنا أبو موسى محمد بن المثنى، قال: حدّثني محمد بن جعفر، نا شعبة، عن عبد الله بن دينار، قال: سمعت ابن عمر يقول - وفي حديث الْبَرْقانيّ - عن ابن عمر قال: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة، أو النخل، وقال البرقانيّ: الثمرة والنخل، حتى يبدو صلاحه، فقيل لابن عمر: ما صلاحه؟ قال: تذهب عاهته. انتهى

(1)

.

والمراد بالعاهة: الآفة التي تصيب الزرع، أو الثمر، ونحوه، فتفسده، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3865]

(1536) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزبَيْر، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: نَهَى - أَوْ نَهَانَا - رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَطِيبَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ) هو: أحمد بن عبد الله بن يونس، نُسب لجدّه، التميميّ الْيَربوعيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [10](ت 227) وهو ابن (94) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

2 -

(زُهَيْرٌ) هو أَبُو خَيْثَمة المذكور في السند الأول، وهو: زهير بن معاوية بن حُديج الْجُعفيّ الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 2 أو 3 أو 174)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.

و"يحيى" ذُكر قبله، والباقيان ذُكرا قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (254) من رباعيّات الكتاب.

[تنبيه آخر]: قال النوويّ رحمه الله: قوله في هذا الإسناد أوّلًا: "عن جابر" كان ينبغي له على مقتضى عادته، وقاعدته، وقاعدة غيره حذفه في الطريق

(1)

"الفصل للوصل المدرج " 1/ 117 - 118.

ص: 101

الأوّل، ويقتصر على أبي الزبير؛ لحصول الغرض به، لكنه أراد زيادة البيان والإيضاح، وقد سبق بيان مثل هذا غير مرة. انتهى

(1)

.

وقوله: "أَوْ نَهَانَا) "أو" للشك من الراوي.

وقوله: (حَتَّى يَطِيب) أي: يصلح للأكل، فهو بمعنى قوله في رواية عمرو بن دينار التالية:"حتى يبدو صلاحه"، وقوله في حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما الآتي:"حتى يأكل منه".

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا متفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [13/ 3865 و 3866](1536)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1487) و "البيوع "(2196) و "المساقاة"(2381)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنفه"(1/ 149)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 312 و 323 و 395)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4/ 123)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 387)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 289 و 308)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 309)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف: رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3866]

(

) - (حَدَّثَنَا أحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النوْفَلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَدُ بْنُ حَاتِمٍ - وَاللفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا رَوْحٌ، قَالَا: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ؛ أَنهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ الله، يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النوْفَلِيّ) أبو عثمان البصريّ، يلقّب أبا الْجَوْزاء، ثقةٌ [11](ت 246)(م ت س) تقدم في "الإيمان" 65/ 369.

(1)

"شرح النوويّ"10/ 179 - 180.

ص: 102

2 -

(أَبُو عَاصِمٍ) الضحّاك بن مَخْلَد الشيبانيّ النبيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 112)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

3 -

(مُحَمَدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون السمين البغداديّ، صدوقٌ فاضلٌ، ربّما وَهِمَ [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.

4 -

(رَوْحُ) بن عُبادة القيسيّ، تقدّم قريبًا.

5 -

(زَكَريَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ) المكيّ، ثقةٌ رُمي بالقدر [6](ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 130.

6 -

(عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ) الأثرم الْجُمحيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.

و"جابر رضي الله عنه" ذُكر قبله.

وقوله: (قَالَا: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ) ضمير "قالا" يعود إلى أبي عاصم النبيل، ورَوح بن عُبادة.

[تنبيه]: وقع في شرح النوويّ ما لفظه: "حدّثنا رَوْح، قال: أنبأنا زكريا بن إسحاق

إلخ " بإفراد "قال"، فقال النوويّ: هكذا يوجد في النسخ هذا وأمثاله، فينبغي أن يقرأ القارئ بعد روح: قالا: حدّثنا زكريا؛ لأن أبا عاصم ورَوحًا يرويان عن زكريا، فلو قال القارئ: قال: أنبأنا زكريا كان خطأً؛ لأنه يكون محدِّثًا عن روح وحده، وتاركًا لطريق أبي عاصم، ومثل هذا مما يُغْفَل عنه، فنبّهت عليه؛ لِيُتَفَطَّن لأشباهه، وينبغي أن يُكتَب هذا في الكتاب، فيقال: قالا: حدّثنا زكريا، وإن كانوا يحذفون لفظة "قال " إذا كان المحدِّث عنه واحدًا؛ لأنه لا يُلْبِس، بخلاف هذا.

فإن قال قائل: يجوز أن يقال هنا: قال: حدثنا زكريا، ويكون المراد: قال روح، ويدلّ عليه أنه قال: واللفظ له.

قلنا: هذا مُحْتَمِلٌ، ولكن الظاهر المختار ما ذكرناه أوّلًا؛ لأنه أكثر فائدةً؛ لئلا يكون تاركًا لرواية أبي عاصم، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث مفيدٌ.

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 180.

ص: 103

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفى في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3867]

(1537) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيّ، قَالَ: سَأَلتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ بَيْعِ النَّخْل، فَقَالَ: نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَأَكلَ مِنْهُ، أَوْ يُؤْكَلَ، وَحَتَّى يُوزَنَ، قَالَ: فَقُلْتُ: مَا يُوزَنُ؟ فَقَالَ رَجُلٌ عِنْدَهُ: حَتَّى يُحْزَرَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد المعروف ببندار البصريّ، ثقةٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة"2/ 2.

2 -

(عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ) بن عبد اللهَ بن طارق الْجَمَليّ المرادي، أبو عبد الله الكوفيّ الأعمى، ثقةٌ عابد، رُمي بالإرجاء [5](ت 118)(ع) تقدم في "الإيمان" 85/ 452.

3 -

(أَبُو الْبَخْتَرِيِّ) - بفتح الموحّدة، والمثنّاة، بينهما خاء معجمة ساكنة - سعيد بن فيروز بن أبي عمران الطائيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، فيه تشيّع قليلٌ، كثير الإرسال [3](ت 83)(ع) تقدم في "الصيام" 6/ 2529.

[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله في "شرحه": قوله: "عن أبي البختريّ" هو بفتح الباء الموحدة، وإسكان الخاء المعجمة، وفتح التاء المثناة فوقُ، واسمه سعيد بن عمران، ويقال: ابن أبي عمران، ويقال: ابن فَيْرُوز الكوفيّ الطائيّ مولاهم، قال هلال بن حَبَّان - بالمهملة، وبالموحدة -: كان من أفاضل أهل الكوفة، وقال حبيب بن أبي ثابت: الإمام الجليل، اجتَمَعْتُ أنا وسعيد بن جبير، وأبو البختريّ، وكان أبو البختريّ أعلمَنَا، وأفقهنا، قُتِل بالجماجم سنة ثلاث وثمانين، وقال ابن معين، وأبو حاتم، وأبو زرعة: ثقةٌ، وإنما ذكرت ما ذكرتُ فيه؛ لأن الحاكم أبا أحمد قال في كتابه "الأسماء والكنى": إن أبا البختريّ هذا ليس قويًّا عندهم، ولا يُقبَل قول الحاكم؛ لأنه جرح غير مفسَّر، والجرح إذا لم يُفَسَّر لا يُقبَل، وقد نَصَّ جماعات على أنه ثقةٌ، وقد سبق بيان

ص: 104

هذه القاعدة في أول الكتاب. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ، والله أعلم.

4 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما المتوفّى سنة (68)(ع) تقدّم في "الإيمان" 6/ 124.

والباقون ذُكروا في الباب والباب الماضي.

وقوله: (عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ) المراد بيع ثمر النحل، لا عينه؛ لأن بيع عين النخل جائز، ولو لم يظهر فيه ثمر.

[تنبيه]: قال الفيّوميّ رحمه الله: "النخل": اسم جمع، الواحدة نخلةٌ، وكل جَمْع بينه وبين واحده الهاء قال ابن السِّكِّيت: فاهل الحجاز يؤنّثون أكثره، فيقولون: هي التمر، وهي البُرّ، وهي النخل، وهي البقر، وأهل نجد وتميم يُذَكِّرون، فيقولون: نخلٌ كريمٌ، وكريمة، وكرائم، وفي التنزيل:{نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر: 20]، {نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7]، وأما النخيل بالياء فمؤنثة، قال أبو حاتم: لا اختلاف في ذلك. انتهى

(2)

.

وقوله: (حَتَّى يَأَكُلَ مِنْهُ، أَوْ يُؤْكَلَ

إلخ) "أو" للشكّ من الراوي، هل قال:"يأكل" بالبناء للفاعل، أو قال:"يؤكل" بالبناء للمفعول، والفاعل في الأول ضمير يعود إلى صاحبه، والنائب في الثاني الجارّ والمجرور.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "يأكل، أو يؤكل" معناه: حتى يصلح لأن يؤكل في الجملة، وليس المراد كمال أكله، بل ما ذكرناه، وذلك يكون عند بُدُوّ الصلاح.

قال: وأما تفسيره "يوزَنُ" بـ "يُحْزَر"، فظاهرٌ؛ لأن الْحَزْرَ طريق إلى معرفة قدره، وكذا الوزن.

وقوله: (وَحَتَّى يُوزَنَ) بالبناء للمفعول.

وقوله: (قَالَ: فَقُلْتُ: مَا يُوزَنُ؟) فاعل "قال" ضمير أبي البَخْتريّ، كما لا يخفى على من تأمله، فلا وجه لقول الحافظ رحمه الله

(3)

: لم أقف على اسمه، فتنبّه.

(1)

"شرح النوويّ"10/ 180 - 181.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 596 - 597.

(3)

راجع: "الفتح" 6/ 11.

ص: 105

وقوله: (فَقَالَ رَجُلٌ عِنْدَهُ) قال الحافظ: لم أقف على اسمه.

وقوله: (حتى يُحْزَر) هو بتقديم الزاي على الراء؛ أي: يُخْرَص، ووقع في بعض الأصول بتقديم الراء، وهو تصحيف، وإن كان يمكن تأويله لو صحّ. قاله النوويّ.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي وقع في بعض الأصول بلفظ "يُحرز" بتقديم الراء، وادّعى النوويّ تبعًا لعياض تصحيفه هو الذي وقع في معظم نسخ "صحيح البخاريّ"، قال الحافظ رحمه الله: وقوله: "حتى يُحْرز" بتقديم الراء على الزاي؛ أي: يُحْفَظَ ويُصان، وفي رواية الكشميهنيّ بتقديم الزاي على الراء؛ أي: يوزن، أو يُخْرَص، وفائدة ذلك معرفة كمية حقوق الفقراء قبل أن يَتصَرَّف فيه المالك، وصَوَّب عياض الأول، ولكن الثاني أليق بذكر الوزن، قال: ورأيته في رواية النسفيّ: "حتى يُحَرَّر" براءين الأولى ثقيلة، ولكنه رواه بالشك. انتهى

(1)

.

وقال العينيّ رحمه الله: الخرص، والأكل، والوزن كلها كنايات عن ظهور صلاحها. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: وهذا التفسير - يعني تفسير يوزن بيُحزر - عند العلماء، أو بعضهم في معنى المضاف إلى ابن عباس رضي الله عنه؛ لأنه أقر قائله عليه، ولم ينكره، وتقريره كقوله. انتهى

(3)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 3867](1537)، و (البخاريّ) في "السلم"(2246 و 2248 و 2250)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 293)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 341)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 290)، و (ابن الجعد)

(1)

"الفتح" 6/ 11.

(2)

"عمدة القاري"12/ 67.

(3)

"شرح النوويّ" 10/ 181.

ص: 106

في "مسنده" 1/ 36)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 301 و 6/ 24)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3868]

(1538) - (حَدَّثَني أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاء، حَدَّثنَا مُحَمَدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أبِيه، عَنِ ابْنِ أبِي نُعْمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَبْتَاعُوا الثِّمَارَ حَتى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) تقدّم قريبًا.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلِ) بن غَزْوان الضبيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ عارفٌ، رُمي بالتشيّع [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.

3 -

(أَبُوهُ) فُضيل بن غَزوان بن جرير الضبيّ مولاهم، أبو الفضل الكوفيّ، ثقةٌ، من كبار [7] مات بعد سنة (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 405.

4 -

(ابْنُ أَبِي نُعْمٍ) هو: عبد الرحمن بن أبي نُعْم - بضم النون، وسكون العين المهملة - البَجَليّ، أبو الحكم الكوفيّ، صدوقٌ عابدٌ [3] مات قبل المائة (ع) تقدم في "الزكاة" 45/ 2451.

[تنبيه]: من الغريب قول النوويّ رحمه الله: قوله: "عن ابن أبي نُعْم" اسمه دكين بن الفضيل، وشروح مسلم كلها ساكتة عنه. انتهى.

هذا عجيب من النوويّ، كيف قال: إن اسم أبي نُعم دُكين بن الفضيل، مع شُهرته بأنه عبد الرحمن بن أبي نُعم، وهو من رجال الكتب الستة، ولا يوجد في الكتب الستة من يُسمّى دكين بن الفضيل قطعًا، وقد صدق في قوله: وشروح مسلم كلها ساكتة عنه، فكيف لا تسكت عما ليس بصواب؟ إن هذا لهو العجب، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4، وشرح الحديث تقدّم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

ص: 107

أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 3868 و 3869](1538)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 261 و 363)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 292)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3869]

(1534) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ - وَاللَّفْظُ لَهُمَا - قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزهْرِيُّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ: أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ، وَعَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ؛ وَحَدَّثنا زيدُ بْنُ ثَابِتٍ؛ أَن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا، زَادَ ابْنُ نُمَيْرٍ فِي رِوَايَتِهِ: أَنْ تُبَاعَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلّهم تقدّموا قريبًا، و"ابن نُمير" هو: محمد بن عبد الله بن نُمير.

وقوله: (وَعَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتمْرِ) الأول بالثاء المثلّثة، والثاني بالتاء المثنّاة، ومعناه: بيع الرُّطَب بالتمر، وهو بمعنى المزابنة في الروايات الآتية.

وقوله: (قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَحَدَّثنا زيدُ بْنُ ثَابِتٍ) هو بالسند السابق، وليس معلّقًا، وسيأتي بإسناد مفرد من طريق نافع في الباب التالي - إن شاء الله تعالى -.

وقوله: (رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا) بالفتح: جمع عريّة، وسيأتي تفسيرها في الباب التالي أيضًا.

وقوله: (أَنْ تُباَعَ) الضمير للعَرَايا، ولفظ نافع:"رَخّص لصاحب العريّة أن يبيعها بخَرْصها من التمر"، وفي رواية:"رَخَّصَ في العريّة يأخذها أهل البيت بخَرْصها تمرًا، يأكلونها رُطَبًا".

والحديث متّفقٌ عليه، وسيأتي تمام البحث فيه في الباب التالي - إن شاء الله تعالى -.

ص: 108

وبالسند المتصل الى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3870]

(1538) - (وَحَدَّثَنِي أَبو الطَّاهِر، وَحَرْمَلَةُ - وَاللَّفْظُ لِحَرْمَلَةَ - قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَاب، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّب، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ أَن أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا تَبْتَاعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ، وَلَا تَبْتَاعُوا الثَّمَرَ بِالتَّمْرِ". قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَحَدَّثَني سَالِمُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ سَوَاءً).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) بن حَزْن المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، ثقةُ ثبتٌ فقيهٌ عابد، من كبار [3] مات بعد التسعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.

2 -

(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه مكثر [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.

والباقون كلّهم تقدّموا قريبًا.

وقوله: (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ

إلخ) موصول بالإسناد السابق، وليس معلّقًا، وقد سبق موصولًا من طريقً ابن عيينة، عن الزهريّ في الحديث الذي قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(14) - (بَابُ تَحْرِيمِ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ إلَّا فِي الْعَرَايَا)

قال الجامع عفا الله عنه: "العَرَايَا": بالفتح: جمع عَريّة، قال الفيّوميّ رحمه الله:"العريّة": النخلة يُعْرِيها صاحبها غيرَهُ ليأكل ثمرتها، فيَعْرُوها؛ أي: يأتيها، فَعِيلة بمعنى مفعولة، ودخلت الهاء عليها؛ لأنه ذُهِب بها مذهبَ الأسماء، مثلُ النَّطِيحة، والأكِيلة، فإذا جيء بها مع النخلة حُذفت الهاء، وقيل: نخلة عَرِيّ، كما يقال: امرأة قَتيلٌ، والجمع: العَرَايا. انتهى.

قال الجامع: وإلى قاعدة حذف الهاء من فَعِيل إن تبع موصوفه أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:

وَمِنْ فَعِيلٍ كَقَتِيلٍ إِنْ تَبِعْ

مَوْصُوفَهُ غَالِبًا التَّا تَمْتَنِعْ

ص: 109

وقال في "الفتح": هي عطيّة ثمر النخل، دون الرقبة، كان العرب في الجدب يتطوّع أهل النخل بذلك على من لا ثمر له، كما يتطوّع صاحب الشاة، أو الإبل بالْمَنِيحَة، وهي عطيّة اللبن، دون الرقبة، قال حسّان بن ثابت رضي الله عنه فيما ذكر ابن التين، وقال غيره: هي لسُوَيد بن الصَّامت الأنصاريّ [من الطويل]:

فَلَيْسَتْ بِسَنْهَاءَ وَلَا رُجَّبِيَّةِ

(1)

وَلَكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الْجَوَائِحِ

ومعنى "سنهاء": أن تَحمِل سنة دون سنة، والرّجّبية: التي تُدَعَّم حين تميل من الضعف. والعرية: فَعِيلة بمعنى مفعولة، أو فاعلة، يقال: عَرَى النخلَ - بفتح العين، والراء - بالتعدية يَعرُوها: إذا أفردها عن غيرها، بأن أعطاها لآخر، على سبيل الْمِنْحَة؛ ليأكل ثمرها، وتَبقَى رقبتها لمعطيها، ويقال: عَرِيت النخلُ - بفتح العين، وكسر الراء - تَعرَى على أنه قاصر، فكأنها عَرِيت عن حكم أخواتها، واستُثبتت بالعطية، واختلف في المراد بها شرعًا

(2)

، وسيأتي بيان ذلك في المسألة الرابعة في شرح حديث زيد بن ثابت التالي - إن شاء الله تعالى -.

وبالسند المتصل الى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3871]

(1539) - (وَحَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثنا حُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَاب، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ؛ أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ

(3)

، وَالْمُحَاقَلَة، وَالْمُزَابَنَةُ أَنْ يُبَاعَ ثَمَرُ النَّخْلِ بِالتَّمْر، وَالْمُحَاقَلَةُ أَنْ يُبَاعَ الزَّرْعُ بِالْقَمْح، وَاسْتِكْرَاءُ الأَرْضِ بِالْقَمْحِ.

قَالَ: وَأَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ الله، عَنْ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم؛ أنهُ قَالَ:"لَا تَبْتَاعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ، وَلَا تَبْتَاعُوا الثَّمَرَ بِالتمْرِ".

وَقَالَ سَالِمٌ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الله، عَنْ زيدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم؛ أَنهُ رَخَّصَ بَعْدَ ذَلِكَ في بَيْعِ الْعَرِيَّةِ بِالرَّطَب، أَوْ بِالتمْر، وَلَمْ يُرَخِّصْ في غَيْرِ ذَلِكَ).

(1)

قال في "اللسان": يروى "رُجبيّة" بضتم الراء، وتخفيف الجيم المفتوحة، وتشديدها. انتهى.

(2)

"الفتح" 5/ 662.

(3)

وفي نسخة: "نهى عن المزابنة".

ص: 110

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(حُجَيْنُ

(1)

بْنُ الْمُثَنَّى) أبو عُمير اليماميّ، سكن بغداد، وولي قضاء خُراسان، ثقةٌ [9](ت 205) تقدم في "الإيمان" 81/ 437.

2 -

(عُقَيْلُ) بن خالد أبو خالد الأمويّ مولاهم الأيليّ، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 133.

3 -

(زيدُ بْنُ ثَابِتِ) بن الضحّاك بن لوذان الأنصاريّ النجّاريّ، أبو سعيد، وأبو خارجة الصحابيّ المشهور، كتب الوحي، ومات سنة (5 أو 48) وقيل: بعد (50)(ع) تقدم في "الحيض" 22/ 793.

والباقون تقدّموا قريبًا، وشرح الحديث يأتي بعده.

وقوله: (وَقَالَ سَالِمٌ

إلخ) موصول بالإسناد المذكور، وليس معلّقًا، وقد أفرد حديث زيد هذا بعده من طريق نافع، عن ابن عمر، عنه، وأخرجه الترمذيّ من طريق محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، عن زيد بن ثابت؛ ولم يفصل حديث ابن عمر، من حديث زيد بن ثابت، وأشار الترمذيّ إلى أنه وَهِمَ فيه، والصواب التفصيل، ولفظ الترمذيّ: عن زيد بن ثابت، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن المحاقله، والمزابنة، إلا أنه قد أذِن لأهل العرايا أن يبيعوها بمثل خرصها.

قال الحافظ: ومراد الترمذيّ أن التصريح بالنهي عن المزابنة لم يَرِد في حديث زيد بن ثابت، وإنما رواه ابن عمر بغير واسطة، ورَوَى ابن عمر استثناء العرايا بواسطة زيد بن ثابت، فإن كانت رواية ابن إسحاق محفوظة احتَمَلَ أن يكون ابن عمر حَمَل الحديث كله عن زيد بن ثابت، وكان عنده بعضه بغير واسطة. انتهى.

وقوله: (رَخَّصَ بَعْدَ ذَلِكَ)؛ أي: بعد النهي عن بيع الثمر بالتمر.

وقوله: (فِي بَيْعِ الْعَرِية) قال في "الفتح": وهذا من أصرح ما ورد في الردّ على مَن حَمَل من الحنفية النهي عن بيع الثمر بالتمر على عمومه، ومَنَع أن يكون بيع العرايا مستثنى منه، وزعم أنهما حكمان مختلفان وردا في سياق

(1)

بضمّ الحاء المهملة، مصغّرًا، وآخره نون.

ص: 111

واحد، وكذلك مَن زعم منهم - كما حكاه ابن المنذر عنهم - أنّ بيع العرايا منسوخ بالنهي عن بيع الثمر بالتمر؛ لأن المنسوخ لا يكون بعد الناسخ. انتهى

(1)

.

وقوله: (بِالرُّطَب، أَوْ بِالتَّمْرِ) قال في "الفتح": كذا عند البخاريّ ومسلم من رواية عُقَيل، عن الزهريّ بلفظ "أو"، وهي مُحْتَملة أن تكون للتخيير، وأن تكون للشك، وأخرجه النسائيّ، والطبرانيّ، من طريق صالح بن كيسان، والبيهقيّ من طريق الأوزاعيّ، كلاهما عن الزهريّ، بلفظ:"بالرطب وبالتمر، ولم يرخص في غير ذلك"، هكذا ذكره بالواو، وهذا يؤيد كون "أو" بمعنى التخيير، لا الشكّ، بخلاف ما جزم به النوويّ، وكذلك أخرجه أبو داود، من طريق الزهريّ أيضًا، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، وإسناده صحيح، وليس هو اختلافًا على الزهريّ، فإن ابن وهب رواه عن يونس، عن الزهريّ بالإسنادين، أخرجهما النسائيّ، وفرّقهما.

وإذا ثبتت هذه الرواية كانت فيها حجة للوجه الصائر إلى جواز بيع الرطب المخروص على رؤوس النخل بالرطب المخروص أيضًا على الأرض، وهو رأي ابن خيران من الشافعية، وقيل: لا يجوز، وهو رأي الإصطخريّ، وصححه جماعة، وقيل: إن كانا نوعًا واحدًا لم يجز؛ إذ لا حاجة إليه، وإن كانا نوعين جاز، وهو رأي أبي إسحاق، وصححه ابن أبي عصرون، وهذا كله فيما إذا كان أحدهما على النخل، والآخر على الأرض، وقيل: ومثله ما إذا كانا معًا على النخل، وقيل: إن محله فيما إذا كانا نوعين، وفي ذلك فروع أخر يطول ذكرها، وصَرَّح الماورديّ بإلحاق البسر في ذلك بالرطب. انتهى

(2)

.

وقوله: (وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ) فيه أن الترخيص خاصّ في العرايا بالرطب، وبالتمر، وقد اختلف السلف هل يُلحق العنب، أو غيره بالرطب في العرايا؟ فقيل: لا، وهو قول أهل الظاهر، واختاره بعض الشافعيّة، منهم المحبّ الطبريّ. وقيل: يُلحق العنب خاصّة، وهو مشهور مذهب الشافعيّ، وقيل: يُلحق كل ما يُدّخر، وهو قول المالكيّة، وقيل: يُلحق كلّ ثمرة، وهو

(1)

"الفتح" 5/ 654.

(2)

"الفتح" 5/ 654 - 655.

ص: 112

مَنقول عن الشافعيّ أيضًا، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال ابن قُدامة رحمه الله: ولا يجوز بيع العرية في غير النخل، وهو اختيار ابن حامد، وقول الليث بن سعد، إلا أن يكون مما ثمرته لا يجري فيها الربا، فيجوز بيع رطبها بيابسها؛ لعدم جريان الربا فيها، ويَحْتَمِل أن يجوز في العنب والرطب دون غيرهما، وهو قول الشافعيّ؛ لأن العنب كالرطب، في وجوب الزكاة فيهما، وجواز خرصهما، وتوسيقهما، وكثرة تيبيسهما، واقتياتهما في بعض البلدان، والحاجة إلى أكل رطبهما، والتنصيص على الشيء يوجب ثبوت الحكم في مثله، ولا يجوز في غيرهما؛ لاختلافهما في أكثر هذه المعاني، فإنه لا يمكن خرصها؛ لتفرّقها في الأغصان، واستتارها بالأوراق، ولا يُقتات يابسها، فلا يحتاج إلى الشراء به.

وقال القاضي: يجوز في سائر الثمار، وهو قول مالك، والأوزاعيّ؛ قياسًا على ثمرة النخيل. ولنا ما روى الترمذي؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، نهى عن المزابنة: الثمر بالتمر، إلا أصحاب العرايا، فإنه قد أذن لهم، وعن بيع العنب بالزبيب، وكل ثمرة بِخِرْصها. وهذا حديث حسن، وهذا يدل على تخصيص العرية بالتمر، وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أنه رخّص بعد ذلك في بيع العرية بالرطب، أو بالتمر، ولم يرخص في غير ذلك، وعن ابن عمر، قال: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن المزابنة، والمزابنة: بيع ثمر النخل بالتمر كيلًا، وبيع العنب بالزبيب كيلًا، وعن كل ثمرة بخرصه، ولأن الأصل يقتضي تحريم بيع العرية، وإنما جازت في ثمرة النخيل رخصة، ولا يصح قياس غيرها عليها؛ لوجهين:

[أحدهما]: أن غيرها لا يساويها في كثرة الاقتيات بها، وسهولة خرصها، وكون الرخصة في الأصل لأهل المدينة، وإنما كانت حاجتهم إلى الرطب دون غيره.

[الثاني]: أن القياس لا يُعْمَل به، إذا خالف نَصًّا، وقياسهم يخالف نصوصًا غير مخصوصة، وإنما يجوز التخصيص بالقياس على المحل

(1)

5/ 655.

ص: 113

المخصوص، ونَهْيُ النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع العنب بالزبيب، لم يدخله تخصيص، فيقاسَ عليه، وكذلك سائر الثمار، والله أعلم. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بعدم إلحاق غير التمر بالتمر هو الأرجح عندي؛ لظهور أدلّته، عملًا بالنصّ؛ لأن الترخيص في ذلك على خلاف الأصل؛ لأن الأصل عدم جواز بيع الرطب بالتمر؛ لعدم تساويهما كيلًا، وهو المسمّى بالمزابنة الذي ورد النهي عنه، فما ثبتٌ على خلاف الأصل يُقتصر عليه، فلا يكون محلًّا للقياس، فتأمّل بإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب.

[تنبيه]: تكلّم الحافظ الرشيد العطّار رحمه الله في "غُرَر الفوائد"(1/ 278) على هذا السند، فقال: هذا من الأحاديث المرسلة، وهو حديث يَشتمل على ثلاثة أحاديث، اثنان مرسلان، والثالث متصل، أخرجه في "كتاب البيوع"، فقال فيه: وحدَّثني محمد بن رافع، ثنا حُجَين، ثم ساقه إلى آخره، ثمّ قال: هكذا أورده مسلم رحمه الله في كتابه.

[فإن قيل]: كيف اختار إخراج المراسيل في "صحيحه"، وليست من شرطه، ولا داخلة في رَسْمه؟.

[فالجواب]: أن مسلمًا رحمه الله من عادته أن يورد الحديث كما سمعه، وكان هذا الحديث عنده عن محمد بن رافع على هذه الصفة، فأورده كما سمعه منه، ولم يَحتَجّ بالمرسل الذي فيه، وإنما احتَجَّ بما في آخره من المسند، وهو حديث سالم، عن عبد الله، عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ بعد ذلك في بيع الْعَرِيّة

الحديث، فهذا القدر الذي احتَجَّ به مسلم منه.

[فإن قيل]: فقد كان يمكنه أن يقتصر على هذا المسند خاصّةً، وَيحذف ما فيه من المرسيل، ولا يطوِّل كتابه بما ليس من شرطه.

[قيل]: هذه مسألة اختَلَف العلماء فيها، فمنهم من أجاز تقطيع الحديث الواحد، وتفريقه في الأبواب، إذا كان مشتملًا على عِدّة أحكام، كل حكم منها مستقل بنفسه، غير مرتبط بغيره؛ كحديث جابر الطويل في الحجّ، ونحوه.

(1)

"المغني" 6/ 128 - 129.

ص: 114

ومنهم من منع ذلك، واختار إيراد الحديث كاملًا كما سمعه، والظاهر من مذهب مسلم: إيراد الحديث بكامله، من غير تقطيع له، ولا اختصار، إذا لم يقل فيه: مثل حديث فلان، أو نحوه، والله عز وجل أعلم.

[فإن قيل]: فهل يُسْنَد هذان المرسلان من وجه يصحّ؟

[قيل]: نعم، كلاهما مسند متصل في "الصحيح"، أما حديث سعيد بن المسيِّب، فقد أخرجه مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن حديث سعيد بن مِيناء، وأبي الزبير، كلاهما عن جابر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وأخرجه أيضًا هو، والبخاريّ من حديث عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فثبت اتصاله.

وأما حديث سالم فقد أخرجه مسلم من حديث ابن عيينة، عن الزهريّ، عن سالم، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه

(1)

.

وأخرجه البخاريّ في "صحيحه" متصلًا من الوجه الذي أورده مسلم مرسلًا، وهو ما أخبرنا الشيخ أبو عليّ ناصر بن عبد الله الفقيه بالحرم الشريف تُجاه الكعبة المعظمة، أنا أبو الحسن علي بن حميد بن عمار المقرئ بمكة شرّفها الله، أنا أبو مكتوم عيسى بن أبي ذرّ الهرويّ، أنا أبي، أنا عبد الله بن أحمد السرخسيّ، وابراهيم بن أحمد المستملي، ومحمد بن مكيّ الكشميهنيّ، قالوا: أنا محمد بن يوسف الفربريّ، أنا محمد بن إسماعيل البخاريّ (ح) وأخبرنا عاليًا أبو القاسم الخزرجيّ، واللفظ له، أنا محمد بن بركات السعيديّ، أخبرتنا كريمة، أنا أبو الهيثم الكشميهنيّ، أنا الفربريّ، أنا البخاريّ، ثنا يحيى بن بكير، ثنا الليث، عن عُقيل، عن ابن شهاب، أخبرني سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه، ولا تبيعوا الثمر بالتمر"، قال سالم: وأخبرني عبد الله، عن زيد بن ثابت؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ بعد ذلك في بيع العرية بالرطب، أو بالتمر، ولم يرخص في غيره. انتهى كلام الرشيد العطّار: رحمه الله، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(1)

تقدّم قبل حديث.

ص: 115

وبالسند المتّصل الى المؤلف: رحمه الله الكتاب قال:

[3872]

(

) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ؛ أَن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِصَاحِبِ الْعَرِيَّةِ أَنْ يَبِيعَهَا بِخَرْصِهَا مِنَ التَّمْرِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وقد تقدّم نفسه في الباب الماضي، وهو من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (255) من رباعيّات الكتاب.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (عَنْ زيدِ بْنِ ثَابِتٍ) رضي الله عنه (أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ) - بتشديد الخاء المعجمة - مبنيًّا للفاعل، من الترخيص، وفي لفظ للبخاريّ:"أرخص"، من الإرخاص، وهما بمعنى التسهيل في الأمر، والتيسير فيه، يقال: رخّص الشرع لنا في كذا ترخيصًا، وأرخص إرخاصًا: إذا يسّره، وسهّله، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

. (لِصَاحِبِ الْعَرِيَّةِ) فَعِيلة بمعنى مفعولة، كما تقدّم. (أنْ يَبِيعَهَا) أي: يبيع ثمرتها (بِخَرْصِهَا) بفتح الخاء المعجمة، وأشار ابن التين إلى جواز كسرها، وجزم ابن العربيّ بالكسر، وأنكر الفتح، وجوّزهما النوويّ، وقال: الفتح أشهر، قال: ومعناه: تقدير ما فيها إذا صار تمرًا، فمن فتح قال: هو مصدرٌ؛ أي: اسم للفعل، ومن كسر قال: هو اسم للشيء المخروص. انتهى. والخرص: هو التخمين، والْحَدْسُ، وسيأتي تمام البحث في تفسير العرايا في المسألة الآتية - إن شاء الله تعالى -.

وقوله: (مِنَ التَّمْرِ) بيان لـ"خرصها".

واستُدِلّ بأحاديث الباب على تحريم بيع الرطب باليابس منه، ولو تساويا في الكيل والوزن؛ لأن الاعتبار بالتساوي إنما يصح حالة الكمال، والرطبُ قد ينقص إذا جَفّ عن اليابس نقصًا لا يتقدر، وهو قول الجمهور، وعن أبي حنيفة الاكتفاء بالمساواة حالة الرطوبة، وخالفه صاحباه في ذلك؛ لصحة الأحاديث

(1)

"المصباح المنير"1/ 223 - 224.

ص: 116

الواردة في النهي عن ذلك، وأصرح من ذلك حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع الرُّطَب بالتمر، فقال:"أينقص الرُّطَب إذا جَفّ؟ " قالوا: نعم، قال:"فلا إذًا"، أخرجه مالك، وأصحاب "السنن"، وصححه الترمذيّ، وابن خزيمة، وابن حبّان، والحاكم، قاله في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [14/ 3871 و 3872 و 3873 و 3874 و 3875 و 3876 و 3877 و 3878 و 3879](1539)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2188) و"المساقاة"(2380)، و (الترمذيّ) في "البيوع) (1302)، و (النسائيّ) في "البيوع" (7/ 267) و"الكبرى" (4/ 21)، و (ابن ماجه) في "التجارات" (2269)، و (مالك) في "الموطّإ" (2/ 619 و 620)، و (الشافعيّ) في "مسنده" (2/ 150) وفي "الرسالة" فقرة (908)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه" (14486)، و (أحمد) في "مسنده" (5/ 182 و 188 و 190)، و (ابن حبّان) في "صحيحه" (5001)، و (الطبرانيّ) في "الكبير" (4764 و 4765 و 4766 و 4769 و 4770 و 4771 و 4772 و 4773)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار" (4/ 29)، و (أبو عوانة) في "مسنده" (3/ 293)، و (البيهقيّ) في "الكبرى" (5/ 309 و 310) و"المعرفة" (4/ 341)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن فيه الترخيصَ في العرايا، واستثناءها من المزابنة المنهيّ عنها.

2 -

(ومنها): أنه قال ابن الملقّن رحمه الله: يؤخذ من الحديث الرخصة في الرُّطَب، وإلحاق العنب به قياسًا، وقال المحامليّ، وابن الصبّاغ: نصًّا، وألحق

(1)

"الفتح" 5/ 654.

ص: 117

الماورديّ البسر أيضًا، وهل يتعدّى إلى غيرهما من الثمار؟ فيه قولان للشافعيّ، أصحّهما: المنع، والثاني: نعم؛ للحاجة، كما جوّز في العنب القياس. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم أن الأرجح عدم إلحاق غير التمر بالتمر؛ لقوّة حججه، فراجعه، وبالله تعالى التوفيق.

3 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه أيضًا أن الرخصة عاقة لجميع الأغنياء والفقراء حيث أطلق الرخصة من غير تقييد بأحد، وهو أصحّ قولي الشافعيّ، والثاني: أنه تختصّ بالفقراء؛ لأنهم سبب الرخصة، كما ذكره الشافعيّ في "الأمّ"، لكن بغير إسناد، وحكاه ابن دقيق العيد وجهًا، وتبع الفورانيّ في ذلك، ومثار الخلاف أن اللفظ العامّ إذا ورد على سبب خاصّ، هل يخصّصه، أو هو على عمومه؛ وفيه خلاف في كتب الأصول

(2)

، والأرجح أنه لا يخصص إلا بالقرينة، ومن أدلّته أنه لما نزلت آية:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] قال الرجل: ألي هذه يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: "بل لأمتي كلها"

(3)

، وهو حديث صحيح.

4 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه نظر الإمام لرعيّته، وفكره في مصالحهم، وما يحتاجون إليه من أمور دنياهم على وجه الشرع.

5 -

(ومنها): ما قال وليّ الدين رحمه الله: الرخصة وردت في بيع الرطب على رءوس النخل بالتمر على وجه الأرض، والبسر في معنى الرطب، كما صرَّح به الماوردي من الشافعيّة، ووردت رواية في بيعه برطب أيضًا، وهي في

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام "7/ 140.

(2)

راجع: "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" من هامشه 7/ 140 - 141.

(3)

حديث صحيح، أخرجه ابن ماجه في "سننه"، ولفظه: أن رجلًا أصاب من امرأة - يعني ما دون الفاحشة - فلا أدري ما بلغ، غير أنه دون الزنى، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فأنزل الله سبحانه وتعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)} [هود: 114]، فقال: يا رسول الله ألي هذه؟ قال: "لمن أخذ بها"، وفي لفظ:"هي لمن عَمِل بها من أمتي".

ص: 118

"الصحيحين"، وفي سنن أبي داود، والنسائيّ من حديث خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رَخَّص في العرايا بالتمر والرطب، فتمسك بذلك بعضهم على جواز بيع الرطب على النخل برطب على الأرض، أو على النخل، وسياتي تمام البحث فيه

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في تفسير العَرَايا:

قال الإمام البخاريّ رحمه الله: أباب تفسير العَرَايا،: وقال مالك: العَرِية أن يُعرِي الرجلُ الرجلَ النخلةَ، ثم يتأذى بدخوله عليه، فرخّص له أن يشتريها منه بتمر، وقال ابن إدريس: العرية، لا تكون إلا بالكيل من التمر، يدًا بيد، لا يكون بالْجِزاف، ومما يقويه: قول سهل بن أبي حَثْمة: "بالأوسق الموسقة"، وقال ابن إسحاق في حديثه، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: كانت العرايا، أن يُعري الرجل في ماله النخلة والنخلتين، وقال يزيد، عن سفيان بن حسين: العرايا نخل، كانت توهب للمساكين، فلا يستطيعون أن ينتظروا بها، فرُخِّص لهم أن يبيعوها بما شاؤوا من التمر.

ثم أخرج بسنده عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن زيد بن ثابت رضي الله عنهم؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رَخَّص في العرايا أن تباع بخرصها كيلًا، قال موسى بن عقبة: والعرايا نخلات معلومات، تأتيها فتشتريها. انتهى.

قال في "الفتح": قوله: وقال مالك: العرية أن يُعريَ الرجل الرجل النخلة؛ أي: يهبها له، أو يهب له ثمرها، ثم يتأذى بدخوله عليه، فرُخّص له؛ أي: للواهب أن يشتريها؛ أي: يشتري رُطَبَها منه؛ أي: من الموهوبة له بتمر؛ أي: يابس.

وهذا التعليق وصله ابن عبد البر من طريق ابن وهب، عن مالك. وروى الطحاويّ من طريق ابن نافع، عن مالك؛ أن العرية: النخلة للرجل في حائط غيره، وكانت العادة أنهم يَخرُجون بأهليهم في وقت الثمار إلى البساتين، فيَكرَه صاحب النخل الكثير، دخول الآخر عليه، فيقول له: أنا أعطيك بخرص نخلتك تمرًا، فرُخِّص له في ذلك.

(1)

"طرح التثريب" 6/ 139.

ص: 119

ومن شرط العرية عند مالك: أنها لا تكون بهذه المعاملة، إلا مع الْمُعرِي خاصة؛ لِمَا يدخل على المالك من الضرر، بدخول حائطه، أو ليدفع الضرر عن الآخر بقيام صاحب النخل بالسقي، والكُلَف، ومن شرطها أن يكون البيع بعد بُدُوّ الصلاح، وأن يكون بتمر مؤجل، وخالفه الشافعي في الشرط الأخير، فقال: يشترط التقابض.

وقوله: "وقال ابن إدريس: العرية لا تكون إلا بالكيل من التمر، يدًا بيد، ولا تكون بالجزاف"، ابن إدريس هذا رجح ابن التين أنه عبد الله الأوديّ الكوفيّ، وتردد ابن بطال، ثم السبكيّ، في "شرح المهذب"، وجزم المزيّ في "التهذيب" بأنه الشافعيّ، والذي في "الأم" للشافعيّ، وذكره عنه البيهقيّ، في "المعرفة" من طريق الربيع عنه، قال: العرايا أن يشتري الرجل ثمر النخلة، فأكثر بخرصه من التمر، بأن يُخرَص الرُّطَب، ثم يُقَدَّر كم ينقص إذا يبس؟ ثم يشتري بخرصه تمرًا، فإن تفرقا قبل أن يتقابضا، فسد البيع. انتهى.

وهذا وإن غاير ما علقه البخاريّ لفظًا، فهو يوافقه في المعنى؛ لأن محصلهما أن لا يكون جزافًا، ولا نسيئة.

قال الحافظ: وقد جاء عن الشافعيّ، بلفظ آخر، قرأته بخط أبي علي الصدفي بهامش نسخته، قال: لفظ الشافعيّ: ولا تباع العريّة بالتمر، إلا أن تُخرَص العريّة، كما يُخرص المعشّر، فيقال: فيها الآن كذا وكذا، من الرُّطَب، فإذا يبس كان كذا وكذا، فيَدفَع من التمر بكيله خرصًا، ويقبض النخلة بثمرها، قبل أن يتفرقا، فإن تفرقا قبل قبضها فسد.

قوله: "ومما يقويه"؛ أي: قول الشافعيّ بأن لا يكون جزافًا، قول سهل بن أبي حثمة:"بالأوسق الموسقة"، وقول سهل هذا أخرجه الطبريّ، من طريق الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، عن سهل موقوفًا، ولفظه:"لا يباع الثمر في رءوس النخل، بالأوساق الْمُوَسَّقَة، إلا أوسقًا: ثلاثة، أو أربعة، أو خمسة يأكلها الناس".

وما ذكره البخاريّ عن الشافعيّ، هو شرط العرية عند أصحابه، وضابط العرية عندهم: أنها بيع رُطَب، في نخل، يكون خرصه إذا صار تمرًا، أقل من خمسة أوسق، بنظيره في الكيل من التمر، مع التقابض في المجلس.

ص: 120

ثم إِنَّ صور العرية كثيرة:

[منها]: أن يقول الرجل لصاحب حائط: بعني ثمر نخلات بأعيانها، بخرصها من التمر، فيخرصها ويبيعه، ويقبض منه التمر، ويسلم إليه النخلات بالتخلية، فينتفع برطبها.

[ومنها]: أن يهب صاحبُ الحائط لرجل نخلات، أو ثمر نخلات معلومة من حائطه، ثم يتضرر بدخوله عليه، فيخرصها، ويشتري منه رطبها، بقدر خرصه بتمر، يعجله له.

[ومنها]: أن يهبه إياها، فيتضرر الموهوب له، بانتظار صيرورة الرطب تمرًا، ولا يحب أكلها رطبًا؛ لاحتياجه إلى التمر، فيبيع ذلك الرطب بخرصه من الواهب، أو من غيره، بتمر يأخذه معجلًا.

[ومنها]: أن يبيع الرجل ثمر حائطه، بعد بُدُوّ صلاحه، ويستثني منه نخلات معلومة، يُبقيها لنفسه، أو لعياله، وهي التي عُفي له عن خرصها في الصدقة، وسُمِّيت عرايا؛ لأنها أُعريت من أن تُخرَص في الصدقة، فرُخّص لأهل الحاجة، الذين لا نقد لهم، وعندهم فضول من تمر قُوْتهم، أن يبتاعوا بذلك التمر من رطب تلك النخلات بخرصها.

[ومما يطلق عليه اسم عَرِيّة]: أن يُعرِي رجلًا تمر نخلات، يُبِيح له أكلها، والتصرف فيها، وهذه هبة مخصوصة.

[ومنها]: أن يُعري عامل الصدقة لصاحب الحائط، من حائطه نخلات معلومة، لا يَخرُصها في الصدقة، وهاتان الصورتان من العرايا لا يبيع فيهما. ذكر ذلك كله في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم العَرَايا:

ذهب أكثر أهل العلم إلى إباحتها، منهم: مالك، وأهل المدينة، والأوزاعيّ، وأهل الشام، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر.

وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يحل بيعها؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع

(1)

"الفتح" 5/ 663 - 664.

ص: 121

المزابنة، والمزابنة بيع الثمر بالتمر"، متفق عليه، ولأنه يبيع الرطب بالتمر، من غير كيل في أحدهما فلم يجز، كما لو كان على وجه الأرض، أو فيما زاد على خمسة أوسق.

واحتجّ الجمهور بالحديث المتفق عليه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا، في خمسة أوسق، أو دون خمسة أوسق"، فقد رواه جماعة من الصحابة: أبو هريرة، وزيد بن ثابت، وسهل بن أبي حثمة، وغيرهم.

قال ابن قُدامة رحمه الله: خرّجه أئمة الحديث في كتبهم، وحديثهم في سياقه:"إلا العرايا"، كذلك في المتفق عليه، وهذه زيادة يجب الأخذ بها، ولو قُدِّرَ تعارضُ الحديثين وجب تقديم حديثنا؛ لخصوصه، جمعًا بين الحديثين، وعملًا بكلا النصين.

وقال ابن المنذر: الذي نهى عن المزابنة، هو الذي أرخص في العرايا، وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى، والقياس لا يُصار إليه مع النصّ، مع أن في الحديث أنه أرخص في العرايا، والرخصة استباحة المحظور، مع وجود السبب الحاظر، فلو منع وجود السبب من الاستباحة، لم يبق لنا رخصة بحال. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح" - بعد أن أورد صور العرايا المذكورة في المسألة السابقة -: وجميع هذه الصور صحيحة عند الشافعيّ، والجمهور، وقَصَر مالك العرية في البيع على الصورة الثانية، وقَصَرها أبو عبيد على الصورة الأخيرة، من صور البيع، وزاد أنه رُخّص لهم أن يأكلوا الرطب، ولا يشتروه لتجارة، ولا ادّخار.

ومنع أبو حنيفة صور البيع كلها، وقصر العرية على الهبة، وهو أن يُعرِي الرجل تمر نخلة من نخله، ولا يُسَلِّم ذلك له، ثم يبدو له في ارتجاع تلك الهبة، فرُخص له أن يحتبس ذلك، ويعطيه بقدر ما وهبه له من الرطب، بخرصه تمرًا، وحَمَله على ذلك أَخذُه بعموم النهي عن بيع الثمر بالتمر.

وتُعُقّب بالتصريح باستثناء العرايا، في حديث ابن عمر، كما تقدم، وفي

(1)

"المغني" 6/ 119 - 120.

ص: 122

حديث غيره. وحكى الطحاويّ عن عيسى بن أبان، من أصحابهم: أن معنى الرخصة، أن الذي وُهِبت له العرية لم يملكها؛ لأن الهبة لا تُملك إلا بالقبض، فلمّا جاز له أن يُعطي بدلها تمرًا، وهو لم يملك المبدَل منه، حتى يستحق البدل، كان ذلك مستثنى، وكان رخصة، وقال الطحاوي: بل معنى الرخصة فيه: أن المرء مأمور بإمضاء ما وعد به، ويعطي بدله، ولو لم يكن واجبًا عليه، فلما أُذن له أن يحبس ما وعد به، ويعطي بدلًا، ولا يكون في حكم من أَخلَف وعده، ظهر بذلك معنى الرخصة، واحتج لمذهبه بأشياء، تَدُلُّ على أن العرية العطية، ولا حجة في شيء منها؛ لأنه لا يلزم من كون أصل العرية العطية، أن لا تُطلق العرية شرعًا على صور أخرى.

قال ابن المنذر: الذي رَخّص في العرية، هو الذي نهى عن بيع الثمر بالتمر، في لفظ واحد، من رواية جماعة من الصحابة، قال: ونظير ذلك: الإذنُ في السَّلَم، مع قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تبع ما ليس عندك"، قال: فمن أجاز السلم، مع كونه مستثنى من بيع ما ليس عندك، ومنع العرية، مع كونها مستثناة من بيع الثمر بالتمر، فقد تناقض، وأما حملهم الرخصة على الهبة، فبعيد مع تصريح الحديث بالبيع، واستثناء العرايا منه، فلو كان المراد الهبة، لما استثنيت العرية من البيع، ولأنه عبّر بالرخصة، والرخصة لا تكون إلا بعد ممنوع، والمنع إنما كان في البيع، لا الهبة، وبأن الرخصة قُيِّدت بخمسة أوسق، أو ما دونها، والهبة لا تتقيد؛ لأنهم لم يفرقوا في الرجوع في الهبة، بين ذي رحم وغيره، وبأنه أَبُو كان الرجوع جائزًا، فليس إعطاؤه بالتمر بدل الرطب، بل هو تجديد هبة أخرى، فإن الرجوع لا يجوز، فلا يصح تأويلهم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن لك مما ذُكِر أن الحق هو ما عليه الجمهور من جواز بيع العرايا؛ لوضوح أدلّته، وتبين لك أيضًا أن التأويلات التي ذكرها الحنفيّة لأحاديث العرايا كلها باطلة؛ لمعارضتها النصوص الصريحة.

(1)

"الفتح" 5/ 664 - 665.

ص: 123

وإنْ تَعْجَب فعجبٌ ما أطال به صاحب، تكملة فتح الملهم" نفسه في شرحه مؤيّدًا مذهبه الحنفيّ، قاتل الله التعصّب، والله المستعان.

قال القرطبيّ رحمه الله بعد أن ذكر مذهب الحنفيّة في تأويل أحاديث العرايا، ما نصّه: وهذا المذهب إبطال لحديث العريّة من أصله، فيجب اطّراحه، وذلك أن حديث العريّة تضمّن أنه بيعٌ مرخّصٌ فيه في مقدار مخصوص، وأبو حنيفة يُلغي هذه القيود الشرعيّة. انتهى

(1)

.

والحاصل أن الواجب هو الأخذ بما دلّت عليه النصوص الصريحة الصحيحة، وإلغاء ما خالفها من الآراء، التي لا تعتمد إلا على الأدلة القياسيّة، ولقد تكرّر إنشاد قول القائل:

إِذَا جَالَتْ خُيُولُ النَّصِّ يَوْمًا

تُجَارِي فِي مَيَادِينِ الْكِفَاحِ

غَدَتْ شُبَهُ الْقِيَاسِيِّينَ صَرْعَى

تَطِيرُ رُؤُوسُهُنَ مَعَ الرِّيَاحِ

فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): أنه اختَلَف العلماء في أن هذه الرخصة هل يُقتَصَر بها على مورد النصّ، وهو النخل، أم يتعدى إلى غيره؟ على أقوال:

[أحدها]: اختصاصها بالنخل، وهذا قول الظاهرية، على قاعدتهم في ترك القياس.

[الثاني]: تعدّيها إلى العنب، بجامع ما اشتركا فيه من إمكان الخرص، فإن ثمرتهما متميزة مجموعة في عناقيدها، بخلاف سائر الثمار، فإنها متفرقة مستترة بالأوراق، لا يتأتى خرصها، وبهذا قال الشافعيّ.

[الثالث]: تعديها إلى كل ما ييبس ويُدَّخَر من الثمار، وهذا هو المشهور عند المالكية، وجعلوا ذلك علة الحكم في محل النصّ، وأناطوا الحكم به وجودًا وعدمًا، حتى قالوا: لو كان البسر مما لا يتتمر، والعنب مما لا يتزبب لم يجز شراء العرية منه بخرصها، بل يخرج عن محل الرخصة؛ لعدم العلة.

[الرابع]: تعدّيها إلى كل ثمرة مُدَّخَرة، وغير مُدَّخرة، وهذا قول محمد بن

(1)

"المفهم" 4/ 394.

ص: 124

الحسن، وهو قول عن الشافعيّ

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن الأرجح عدم إلحاق غير التمر بالتمر؛ لأن هذا الترخيص ورد على خلاف النصّ الوارد في النهي عن المزابنة؛ للضرورة، فيُقتصر ما عداه على الأصل، وهو منع المزابنة، وقد أسلفت تحقيق ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): في اختلاف أهل العلم القائلين بجواز بيع العرايا في مقدارها:

قال ابن قُدامة رحمه الله: لا تجوز العرايا في زيادة على خمسة أوسق، بغير خلاف نعلمه، وتجوز فيما دون خمسة أوسق، بغير خلاف بين القائلين بجوازها، فأما في خمسة أوسق، فلا يجوز عند الإمام أحمد رحمه الله، وبه قال ابن المنذر، والشافعيّ في أحد قوليه، وقال مالك، والشافعيّ في قول: يجوز، ورواه إسماعيل بن سعيد، عن أحمد؛ لأن في حديث زيد، وسهل أنه رَخّص في العرية مطلقًا، ثم استثنى ما زاد على الخمسة في حديث أبي هريرة، وشكّ في الخمسة، فاستثنى اليقين، وبقي المشكوك فيه على مقتضى الإباحة، ولنا أَنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، نهى عن المزابنة، والمزابنة بيع الرطب بالتمر، ثم أرخص في العرية، فيما دون خمسة أوسق، وشكّ في الخمسة، فيبقى على العموم في التحريم، ولأن العرية رخصة، بُنيت على خلاف النص والقياس يقينًا فيما دون الخمسة، والخمسة مشكوك فيها، فلا تثبت إباحتها مع الشك.

ورَوَى ابن المنذر بإسناده أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، رَخَّصَ في بيع العرية، في الوسق، والوسقين، والثلاثة، والأربعة، والتخصيص بهذا يدل على أنه لا تجوز الزيادة في العدد عليه، كما اتفقنا على أنه لا تجوز الزيادة على الخمسة؛ لتخصيصه إياها بالذكر.

وروى مسلم عن سهل؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رخص في بيع العرية النخلة، والنخلتين، ولأن خمسة الأوسق في حكم ما زاد عليها، بدليل وجوب الزكاة

(1)

"طرح التثريب" 6/ 140.

ص: 125

فيها، دون ما نقص عنها، ولأنها قدر تجب الزكاة فيه، فلم يجز بيعه عرية، كالزائد عليها.

فأما قولهم: أرخص في العرية مطلقًا، فلم يثبت أن الرخصة المطلقة سابقة على الرخصة المقيدة، ولا متأخرة عنها، بل الرخصة واحدة، رواها بعضهم مطلقة، وبعضهم مقيدة، فيجب حمل المطلق على المقيد، ويصير القيد المذكور في أحد الحديثين، كأنه مذكور في الآخر، ولذلك يقيد فيما زاد على الخمسة اتفاقًا. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه أحمد، وجماعة من تقديره بأقل من خمسة أوسق، هو الأرجح؛ لوضوح حجته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة): في اختلاف أهل العلم في أنه هل يجوز أن يشتري أكثر من خمسة فيما زاد على صفقة؟

قال ابن قدامة رحمه الله: لا يجوز أن يشتري أكثر من خمسة أوسق، فيما زاد على صفقة، سواء اشتراها من واحد، أو من جماعة، وقال الشافعي: يجوز للإنسان بيع جميع ثمر حائطه عرايا، من رجل واحد، ومن رجال في عقود متكررة؛ لعموم حديث زيد، وسهل، ولأن كل عقد جاز مرة، جاز أن يتكرر، كسائر البيوع.

ولنا أن النهي عن المزابنة عامّ، استُثنِيَ منه العرية، فيما دون خمسة أوسق، فما زاد يبقى على العموم في التحريم؛ ولأن ما لا يجوز عليه العقد مرة، إذا كان نوعًا واحدًا، لا يجوز في عقدين، كالذي على وجه الأرض، وكالجمع بين الأختين، فأما حديث سهل، فإنه مقيد بالنخلة والنخلتين، بدليل ما روينا، فيدل على تحريم الزيادة عليهما، ثم إن المطلق يُحْمَل على المقيد، كما في العقد الواحد. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه الحنبليّة من عدم جواز أكثر من خمسة أوسق مطلقًا هو الأرجح؛ لوضوح حجته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"المغني" 6/ 121 - 122.

ص: 126

(المسألة التاسعة): قال ابن قُدامة رحمه الله أيضًا: إن باع رجل عَرِيتين من رجلين، فيهما أكثر من خمسة أوسق جاز، وقال أبو بكر، والقاضي: لا يجوز؛ لِمَا ذكرنا في المشتري، ولنا أن الْمُغَلَّب في التجويز حاجة المشتري، بدليل ما رَوَى محمود بن لبيد، قال:"قلت لزيد بن ثابت: ما عراياكم هذه؟ فسمى رجالًا محتاجين من الأنصار، شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أن الرُّطَب يأتي، ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رطبًا يأكلونه، وعندهم فضول من التمر، فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر، الذي في أيديهم، يأكلونه رُطَبًا"، وإذا كان سبب الرخصة حاجة المشتري، لم تعتبر حاجة البائع إلى البيع، فلا يتقيد في حقه بخمسة أوسق، ولأننا لو اعتبرنا الحاجة من المشتري، وحاجة البائع إلى البيع، أفضى إلى أن لا يحصل الإرفاق؛ إذ لا يكاد يتفق وجود الحاجتين، فتسقط الرخصة، فإن قلنا: لا يجوز ذلك بطل العقد الثاني، وإن اشترى عريتين، أو باعهما، وفيهما أقل من خمسة أوسق جاز وجهًا واحدًا. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي القول الأول أرجح؛ لوضوح حجته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة العاشرة): أنه لا يشترط في بيع العرية، أن تكون موهوبة لبائعها، قال ابن قُدامة: هذا ظاهر كلام أصحابنا، وبه قال الشافعيّ، وظاهر قول الْخِرَقي أنه شرط، وقد روى الأثرم، قال: سمعت أحمد سئل عن تفسير العرايا؟ فقال: العريا أن يُعري الرجل الجار، أو القرابة للحاجة، أو المسكنة، فللمُعرَى أن يبيعها ممن شاء.

وقال مالك: بيع العرايا الجائز هو أن يُعري الرجلُ الرجلَ نخلات من حائطه، ثم يكره صاحب الحائط، دخول الرجل المعرَى؛ لأنه ربما كان مع أهله في الحائط، فيؤذيه دخول صاحبه عليه، فيجوز أن يشتريها منه.

واحتجوا بأن العرية في اللغة: هبة ثمرة النخيل عامًا، قال أبو عبيد: الإعراء أن يجعل الرجل للرجل ثمرة نخله عامَها ذلك، قال الشاعر الأنصاري، يَصِف النخل [من الطويل]:

(1)

"المغني" 6/ 122 - 123.

ص: 127

فَلَيْسَتْ بِسَنْهَاءَ وَلَا رُجَّبِيَّةٍ

وَلَكِنْ عَرَاَيَا فِي السِّنِينَ الْجَوَائِحِ

يقول: إنا نُعرِيها الناس، فتعيّن صرف اللفظ إلى موضوعه لغة، ومقتضاه في العربية ما لم يوجد ما يصرفه عن ذلك.

ولنا حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، وهو حجة على مالك، في تصريحه بجواز بيعها من غير الواهب، ولأنه أَبُو كان لحاجة الواهب، لما اختص بخمسة أوسق؛ لعدم اختصاص الحاجة بها، ولم يجز بيعها بالتمر؛ لأن الظاهر من حال صاحب الحائط، الذي له النخيل الكثير، يعريه الناس، أنه لا يعجز عن أداء ثمن العرية، - وفيه حجة على من اشترط كونها موهوبة لبائعها؛ لأن علة الرخصة حاجة المشتري إلى أكل الرطب، ولا ثمن معه، سوى التمر، فمتى وجد ذلك جاز البيع، ولأن اشتراط كونها موهوبة، مع اشتراط حاجة المشتري

إلى أكلها رُطَبًا، ولا ثمن معه، يفضي إلى سقوط الرخصة؛ إذ لا يكاد يتفق ذلك، ولأن ما جاز بيعه إذا كان موهوبًا، جاز وإن لم يكن موهوبًا، كسائر الأموال، وما جاز بيعه لواهبه، جاز لغيره، كسائر الأموال، وإنما سُمِّي عرية؛ لتعريه عن غيره وإفراده بالبيع. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن الأظهر عدم اشتراط كونها موهوبة للبائع؛ لوضوح مستنده، والله تعالى أعلم بالصواب، دماليه المرجع والمآب.

(المسألة الحادية عشرة): أنه إنما يجوز بيعها بخرصها من التمر، لا أقل منه، ولا أكثر، ويجب أن يكون التمر الذي يشتري به معلومًا بالكيل، ولا يجوز جِزافًا، قال ابن قُدامة: لا نعلم في هذا عند من أباح بيع العرايا اختلافًا؛ لما رَوَى زيد بن ثابت رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص في العرايا، أن تُباع بخرصها كيلًا"، متفق عليه، ولمسلم:"أن تؤخذ بمثل خرصها تمرًا، يأكلها أهلها رُطَبًا"، ولأن الأصل اعتبار الكيل من الطرفين، وسقط في أحدهما للتعذر، فيجب في الآخر بقضية الأصل، ولأن ترك الكيل من الطرفين، يُكثِرُ الغرر، وفي تركه من أحدهما يقلل الغرر، ولا يلزم من صحته مع قلة الغرر، صحته مع كثرته.

(1)

"المغني" 6/ 123 - 124.

ص: 128

ومعنى خرصها بمثلها من التمر: أن يُطيف الخارص بالعَرِيّة، فينظر كم يجيء منها تمرًا؛ فيشتريها المشتري بمثلها تمرًا، وبهذا قال الشافعيّ، ونقل حنبل عن أحمد أنه قال: يخرصها رُطَبًا، ويعطي تمرًا رُخصة، وهذا يَحْتَمِل الأول، ويَحْتَمِل أنه يشتريها بتمر، مثل الرطب الذي عليها؛ لأنه بيعٌ اشتُرطت المماثلة فيه، فاعتبرت حال البيع، كسائر البيوع، ولأن الأصل اعتبار المماثلة في الحال، وأن لا يباع الرُّطَب بالتمر، وخولف الأصل في بيع الرُّطَب بالتمر، فيبقَى فيما عداه على قضية الدليل، وقال القاضي: الأول أصح؛ لأنه يبنى على خرص الثمار في العُشرِ الصحيح، ثم خرصه تمرًا، ولأن المماثلة في بيع التمر بالتمر معتبرة حالة الادّخار، وبيع الرطب بمثله تمرًا يفضي إلى فوات ذلك.

فأما إن اشتراها بخرصها رطبًا لم يجز، وهذا أحد الوجوه لأصحاب الشافعيّ، والثاني: يجوز، والثالث: لا يجوز مع اتفاق النوع، ويجوز مع اختلافه، ووجه جوازه ما رَوَى الْجُوزَجاني عن أبي صالح، عن الليث، عن ابن شهاب، عن سالم، عن ابن عمر، عن زيد بن ثابت، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنه أرخص بعد ذلك في بيع العرية بالرطب، أو التمر، ولم يرخص في غير ذلك"، ولأنه إذا جاز بيع الرطب بالتمر، مع اختصاص أحدهما بالنقص في ثاني الحال، فلأن يجوز مع عدم ذلك أولى.

واحتجّ الأولون بما رَوَى مسلم بإسناده، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص في العرايا، أن تؤخذ بمثل خرصها تمرًا"، وعن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نَهَى عن بيع الثمر بالتمر، وقال:"ذلك الربا، تلك المزابنة"، إلا أنه رخص في العرية: النخلة، والنخلتين، يأخذها أهل البيت، بخرصها تمرًا، يأكلونها رُطُبًا، رواه مسلم، ولأنه مبيع يجب فيه مثله تمرًا، فلم يجز بيعه بمثله رطبًا، كالتمر الجافّ، ولأن من له رطب، فهو مستغن عن شراء الرطب بأكل ما عنده، وبيع العرايا يشترط فيه حاجة المشتري على ما أسلفناه، وحديث ابن عمر شك في الرطب والتمر، فلا يجوز العمل به مع الشك، سيّما وهذه الأحاديث تبيّنه، وتزيل الشك. انتهى كلام ابن

ص: 129

قُدامة رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية عشرة): يُشترط في بيع العرايا التقابض في المجلس، وهذا قول الشافعيّ، قال ابن قُدامة: ولا نعلم فيه مخالفًا؛ لأنه بيع تمر بتمر، فاعتبر فيه شروطه، إلا ما استثناه الشرع مما لا يمكن اعتباره في بيع العرايا، والقبض في كل واحد منهما على حسبه، ففي التمر اكتياله أو نقله، وفي الثمرة التخليةُ، وليس من شروطه حضور التمر عند النخيل، بل لو تبايعا بعد معرفة التمر والثمرة، ثم مضيا جميعًا إلى النخلة، فسلّمها إلى مشتريها، ثم مشيا إلى التمر فتسلّمه من مشتريها، أو تسلّم التمر، ثم مضيا إلى النخلة جميعًا، فسلمها إلى مشتريها، أو سلم النخلة، ثم مضيا إلى التمر، فتسلمه جاز؛ لأن التفرق لا يحصل قبل القبض.

إذا ثبت هذا، فإن بيع العَرِيّة يقع على وجهين:

[أحدهما]: أن يقول: بعتك ثمرة هذه النخلة بكذا وكذا، من التمر ويصفه.

[والثاني]: أن يكيل من التمر بقدر خرصها، ثم يقول: بعتك هذا بهذا، أو يقول: بعتك ثمرة هذه النخلة بهذا التمر، ونحو هذا، وإن باعه بمعيّن، فقَبضُهُ بنقله وأخذه، وإن باع بموصوف فقبضه باكتياله. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة عشرة): قال ابن قُدامة رحمه الله أنه لا يجوز بيع العريّة إلا لمحتاج إلى أكلها رُطَبًا، ولا يجوز بيعها لغنيّ، وهذا أحد قولي الشافعيّ، وأباحها في القول الآخر مطلقًا لكل أحد؛ لأن كل بيع جاز للمحتاج، جاز للغنيّ كسائر البياعات، ولأن حديث أبي هريرة، وسهل مطلقان.

قال: ولنا حديث زيد بن ثابت، حين سأله محمود بن لبيد: ما عراياكم هذه؟ فسمى رجالًا محتاجين من الأنصار، شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أن الرُّطَب يأتي، ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رُطَبًا يأكلونه، وعندهم فضول من

(1)

"المغني" 6/ 124 - 126.

ص: 130

التمر، فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر، يأكلونه رطبًا، ومتى خولف الأصل بشرط، لم تجز مخالفته بدون ذلك الشرط؛ ولأن ما أبيح للحاجة لم يبح مع عدمها، كالزكاة للمساكين، والترخصِ في السفر فعلى هذا، متى كان صاحبها غير محتاج إلى أكل الرطب، أو كان محتاجًا، ومعه من الثمن مما يشتري به العرية، لم يجز له شراؤها بالتمر، وسواء باعها لواهبها، تحرزًا من دخول صاحب العرية حائطه، كمذهب مالك، أو لغيره، فإنه لا يجوز. وقال ابن عقيل: يباح، ويحتمله كلام أحمد؛ لأن الحاجة وجدت من الجانبين، فجاز كما لو كان المشتري محتاجًا إلى أكلها، ولنا حديث زيد الذي ذكرناه، والرخصة لمعنى خاص، لا تثبت مع عدمه؛ ولأنه في حديث زيد، وسهل:"يأكلها أهلها رطبًا"، ولو جاز لتخليص الْمُعري لَمَا شرط ذلك.

فيشترط إذًا في بيع العرية شروط خمسة: أن يكون فيما دون خمسة أوسق، وبيعها بخرصها من التمر، وقبض ثمنها قبل التفرق، وحاجة المشتري إلى أكل الرطب، وأن لا يكون معه ما يشتري به سوى التمر، واشترط القاضي، وأبو بكر شرطًا سادسًا، وهو حاجة البائع إلى البيع، واشترط الخرقي كونها موهوبة لبائعها، واشترط أصحابنا لبقاء العقد أن يأكلها أهلها رطبًا، فإن تركها حتى تصير تمرًا، بطل العقد. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: اشتراط كون المشتري محتاجًا إلى أكلها رطبًا هو الظاهر؛ لِمَا تقدّم من رواية مسلم: "أن تؤخذ بمثل خرصها يأكلها أهلها رُطبًا"، وأما الحديث الذي ذكره ابن قُدامة عن زيد بن ثابت:"أن رجالًا من المحتاجين شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرطب يأتي إلخ"، فليس بثابت؛ إذ لم يوجد له سند، كما نقله الزيلعيّ في "نصب الراية"(4/ 13 - 14) عن صاحب "التنقيح"، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"المغني" 6/ 128.

ص: 131

وبالسند المتّصل الى المؤلّف: رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3873]

(

) - (وَحَدَّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ؛ أَنهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ يُحَدِّثُ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ حَدَّثَهُ؛ أَن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ فِي الْعَرِيةِ

(1)

يَأَخُدُهَا أَهْلُ الْبَيْتِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا، يَأَلُونَهَا رُطَبًا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو أيوب المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 177)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.

2 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ) الأنصاريّ المدنيّ، تقدّم في الباب الماضي.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (رَخَّصَ في الْعَرِيَّةِ) وفي بعض النسخ: "في بيع العريّة".

وقوله: (رَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ يَأَخُذُهَا أَهْلُ الْبَيْتِ

الخ) وفي الرواية الآتية: "قال يحيى: العريّة أن يشتري الرجل ثمر النخلات لطعام أهله رُطبًا بخرصها تمرًا".

وقال القرطبيّ رحمه الله: العريّة في اللغة - على ما نقله الجوهريّ -: النخلة يُعْرِيهَا صاحبها رجلًا محتاجًا، فيجعل ثمرها له عامًا، فيَعْرُوها؛ أي: يأتيها، وهي: فَعِيلة، بمعنى مفعولة. وإنما أدخلت فيها الهاء لأنها أفردت، فصارت في عداد الأسماء، كالنَّطِيحة، والأكيلة، ولو جئت بها مع النخلة؛ قلت: نخلةٌ عَرِيٌّ، وأنشد لسويد بن الصامت:

وَلَيْسَتْ بِسَنْهاءٍ ولا رُجَّبِيَّة

ولكن عَرَايَا في السِّنِين الْجَوائح

وقال غيره: هي فَعِيلة، بمعنى: فاعلة؛ أي: عَرِيت من ملك مُعْريها.

وقال غيرهما: عراه يعروه: إذا أتاه يطلب منه عرية، فأعراه؛ أي: أعطاه إياها، كما يقال: سألني فأسألته، وطلبني فأطلبته، فالعريَّة: اسم للنخلة المعطى ثمرها، فهي اسم لعطيَّة خاصة، وقد سَمَّت العرب عطايا خاصّة بأسماء

(1)

وفي نسخة: "في بيع العريّة".

ص: 132

خاصّة، كالمنيحة: لعطية الشاة لِلَّبن، والإفقار: لما رُكِب فقاره، والإخبال: لما ينتفع به من المال.

قال القرطبيّ: فقد حصل من نقل أهل اللغة: أن العرية عطية؛ لا بيعٌ، ولما ثبتٌ ذلك فسَّر مالك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، والأوزاعيّ العرية المذكورة في الحديث: بأنَّها إعطاء الرَّجل من جملة حائطه نخلة أو نخلتين عامًا، على ما تقتضيه اللغة، غير أنهم اختلفوا في شروط كثيرة، وأحكام متعددة، وحاصل مذهب مالك في العرية: أنها عطية ثمرة نخلة أو نخلات من حائط، فيجوز لمن أُعطيها أن يبيعها إذا بدا صلاحها من كل أحد بالعين، والعروض، ومن معطيها خاصة بخرصها تمرًا، وذلك بشروط:

أحدها: أن تكون أقل من خمسة أوسقٍ، وفي الخمسة خلاف.

وثانيها: أن تكون بخرصها من نوعها ويابسها نخلًا، وعنبًا، وفي غيرهما مما يوصق، ويدَّخَر للقوت، خلاف.

وثالثها: أن تقوَّم بالخرص عند الجداد.

ورابعها: أن يكون المشترَى جملتها، لا بعضها.

وخامسها: أن يكون بيعها عند طيبها، فلو باعها من الْمُعْرِي قبل ذلك على شرط القطع لم يجز، لتعدِّي محل الرُّخصة.

وأما الشافعيّ: فالعرية عنده: بيع الرُّطب في رؤوس النخل بتَمْر مُعَجَّل، فلم يُعَرِّج على اللغة المعروفة فيها، وكانه اعتمد في مذهبه على تفسير يحيى بن سعيد راوي الحديث، فإنه قال: العرية: أن يشتري الرجل ثمر النخلات لطعام أهله رطبًا بخرصها تمرًا، وهذا لا ينبغي أن يعوَّل عليه؛ لأن يحيى بن سعيد ليس صحابيًّا، فيقال: فهمه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا رفعه للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يثبت به عرف غالب شرعيّ حتى يرجِّحه على اللغة، وغايته: أن يكون رأيًا ليحيى، لا رواية له، ثم يعارضه تفسير ابن إسحاق، فإنه قال: العرايا: أن يهب الرجل للرجل النخلات، فيشقّ عليه أن يقوم عليها، فيبيعها بمثل خرصها، ثم هو عين المزابنة المنهيّ عنها، ووضع رخصة في موضع لا تُرهق إليه حاجة وَكِيدة، ولا تندفع بها مفسدة، فإن المشتري لها بالتمر متمكن من بيع تمره بعين أو عروض، ويشتري بذلك رطبًا، فإن قيل: قد يتعذَّر هذا، قيل: فأَجِز بيع الرُّطب

ص: 133

بالتمر؛ إذا كان الرطب لا على رؤوس النخل؛ إذ قد يتعذر بيع التمر على من هو عنده ممن يريد أن يشتري الرطب به، ولا يجوز ذلك، فلا يجوز تفسير العرية بما ذكر.

وأمَّا أبو حنيفة: فإنَّه فسَّر العرية بما إذا وهب رجل ثمر نخلة، أو نخلات، ولم يقبضها الموهوب له، فأراد الواهب أن يعطي الموهوب له تمرًا، ويتمسك بالثمرة، جاز له ذلك؛ إذ ليس من باب البيع، وإنما هو من باب الرجوع في الهبة؛ التي لم تجب بناء على أصله في أن الهبة لا تجب إلا بالقبض، وهذا المذهب إبطال لحديث العريّة من أصله فيجب إطّراحه، وذلك: أن حديث العرية تضمن أنه بيع مُرَخَّص فيه في مقدار مخصوص، وأبو حنيفة يلغي هذه القيود الشرعية. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وقال الحافظ رحمه الله بعد ذكر كلام القرطبيّ فيما قاله في الردّ على الشافعيّ، ما نضه: والشافعي أقعد باتباع أحاديث هذا الباب من غيره، فإنها ناطقة باستثناء العرايا من بيع المزابنة، وأما إلزامه الأخير فليس بلازم؛ لأنها رخصة وقعت مقيدةً بقيد، فيتبع القيد، وهو كون الرطب على رؤوس النخل، مع أن كثيرًا من الشافعية ذهبوا إلى إلحاق الرطب بعد القطع بالرطب على رؤوس النخل بالمعنى كما تقدم، والله أعلم.

قال: وكل ما ورد من تفسير العرايا في الأحاديث لا يخالفه الشافعيّ، فقد روى أبو داود من طريق عمرو بن الحارث، عن عبد ربه بن سعيد، وهو أخو يحيى بن سعيد، قال: العرية الرجل يُعْرِي الرجل النخلة، أو الرجلُ يستثني من ماله النخلة يأكلها رطبًا، فيبيعها تمرًا، وقال أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه": حدثنا وكيع، قال: سمعنا في تفسير العرية أنها النخلة يرثها الرجل، أو يشتريها في بستان الرجل.

وإنما يتجه الاعتراض على من تمسك بصورة من الصور الواردة في تفسير العرية، ومنع غيرها، وأما مَن عَمِل بها كلها ونظمها في ضابط يجمعها، فلا اعتراض عليه، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله.

(1)

"المفهم "4/ 392 - 394.

ص: 134

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما قاله الحافظ رحمه الله أن ما ذهب إليه الشافعيّ رحمه الله أولى من غيره، وهو أنه يعمل بكل ما دلّت به أحاديث العرايا، وقد تقدّمت صورها، فالعمل بكل الروايات أولى وأحقّ من إلغاء بعضها، فتأمل بالإنصاف، وأما مذهب إليه الحنفيّة من إلغاء أحاديث العريّة، ودفعهم لها بالتأويلات الباردة، والمتعسّفة، فيجب اطّراحه، كما قال القرطبيّ، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وقال القرطبيّ رحمه الله أيضًا: قوله: (رَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ يَأَخُذُهَا أَهْلُ الْبَيْتِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا، يَأكُلُونَهَا رُطَبًا) الخِرْصُ - بكسر الخاء - هو: اسم للمخروص، وبفتحها هو: المصدر، والرواية هنا: بالكسر، و"أهل البيت" - على مذهب مالك، ومن قال بقوله -: هم الْمُعْرُون، فيضمنون مقدار العرية، فيدفعون ذلك للمُعْرَى له تمرًا عند الجداد رفقًا به حيث كفي المؤن، وأعطي ما يقتات به. ويحصل من ذلك للمُعْرِي دفع ضرر تكرار دخول المعرى له إلى عريته لتعاهدها، وسقيها، واجتنانها، فظهر لمالك: أن العرية إنما رخص فيها لأنها من باب المعروف، والرفق، والتسهيل في فعل الخير، والمعونة عليه، وأما على مذهب الشافعيّ، فأهل البيت عنده هم: المشترون الذين يشترون الرطب بالتمر ليأكلوها رطبًا. فظهر له: أن الموجب لهذه الرخصة هو حاجة من له تمر لأكل الرطب، وقد ذكرنا آنفًا ضعف هذا المعنى. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد مرّ أنه لا ضعف فيما ذهب إليه الشافعيّ رحمه الله، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3874]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّاب، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيىَ بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: أَخْبَرَني نَافِعٌ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلهم تقدّموا في السند الماضي، وفي الباب الماضي، و"عبد الوهّاب" هو: ابن عبد المجيد الثقفيّ.

(1)

"المفهم" 4/ 394 - 395.

ص: 135

[تنبيه]: رواية عبد الوهّاب الثقفيّ، عن يحيى بن سعيد هذه ساقها أبو عوانة في "مسنده" (3/ 296) فقال:

(5047)

- حدّثنا إسماعيل القاضي، قثنا

(1)

عليّ بن المدينيّ، قثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى يقول: أخبرني نافع؛ أنه سمع ابن عمر حَدَّث أن زيد بن ثابت حدَّثه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ في العَرِيّة يأخذها أهل البيت بخرصها، ثم يأكلونها رُطَبًا. انتهى، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3875]

(

) - (وَحَدَّثناهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، غَيْرَ أنهُ قَالَ: وَالْعَرِيَّةُ النَّخْلَةُ تُجْعَلُ لِلْقَوْم، فَيَبِيعُونَهَا بِخَرْصِهَا تَمْرًا).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(هُشَيْمُ) بن بَشِير الواسطي، أبو معاوية بن أبي خازم، ثقةٌ ثبتٌ، كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7](ت 183)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (قَالَ: وَالْعَرِيَّةُ

الخ) فاعل "قال" ضمير يحيى بن سعيد الأنصاريّ، كما بيّنه في الرواية التالية، فتنبّه.

[تنبيه]: رواية هشيم، عن يحيى بن سعيد هذه ساقها البيهقيّ في "الكبرى" (5/ 310) فقال:

(10441)

- وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه، أنا إسماعيل بن قتيبة، ثنا يحيى بن يحيى، أنا هشيم، عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر، عن زيد بن ثابت، قال: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحها، ورَخَّصَ في العرايا، قال: والْعَرِيّة: النخلة تُجْعَل للقوم، يبيعونها بخرصها تمرًا. انتهى، والله تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: نقل أبو مسعود الدمشقيّ في "الأجوبة"(13) كلام

(1)

"قثنا" في الموضعين مختصر من "قال: حدّثنا"، فتنبّه.

ص: 136

الدارقطنيّ، حيث قال: وأخرج حديث هُشيم، عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عُمر، عن زيد بن ثابت في بيع الثمر حتى يبدو صلاحها، وبيع العرايا، ويقال: إن هُشيمًا وَهِمَ فيه، وأوّله عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن زيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في العرايا فقط.

قال أبو مسعود: أما حديث هُشيم، فقال: حدّثنا يحيى بن يحيى، حدّثنا هُشيم، عن يحيى بن سعيد بهذا الإسناد، ولم يزد على هذا، ومثله حديث عبد الوهّاب الثقفي، عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر، عن زيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في العرايا فقط، وألغى مسلم حديث الأول، والذي وَهِمَ فيه هُشيم، فلم يُخرجه، إنما أخرجه في عقب حديث زيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في العرايا، فلم يتأمّل عليّ بن عمر هذا، ولو تأمّله لم يَنسُب إلى الوهم فيه. انتهى كلام أبي مسعود رحمه الله.

قال الجامع عفا الله عنه: قد أجاد أبو مسعود الدمشقيّ رحمه الله في هذا التعقّب على الدارقطنيّ حيث اعترض على مسلم بما هو بريء منه، فإن صنيعه يدلّ على مهارته في علم الحديث، وقوّة فِطنته في علله حيث تفطّن لوهم هشيم، فذكر متابعته لسليمان بن بلال في أصل الحديث، كما تابعه الثقفيّ، ثم حذف محلّ الوهم، وهذا من جملة ما أشار إليه في أول كتابه بأنه يوضح علل الحديث كلما أتى عليها، فقد أوضح هنا حيث حذف ما وَهِمَ فيه هشيم من متن الحديث، وذكر ما لم يَهِم فيه، وهو الإسناد، وهذا هو غاية الحِذق، فللَّه درّه محدّثًا حافظًا، وناقدًا بصيرًا.

وقد سقتُ في التنبيه الأول حديث هُشيم مما أخرجه البيهقيّ في "الكبرى"، وفيه وهمه المذكور، كما قال الدارقطنيّ، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3876]

(

) - (وَحَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِر، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، حَدَّثَنِي زيدُ بْنُ ثَابِتٍ، أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا، قَالَ يَحْيَى: الْعَرِيَّةُ أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ ثَمَرَ النَّخَلَاتِ لِطَعَامِ أَهْلِهِ رُطَبًا بِخَرْصِهَا تَمْرًا).

ص: 137

رجال هذا الإسناد: ستة:

وهم المذكورون قبله، غير شيخه، والليث بن سعد، فتقدّما قبل ثلاثة أبواب.

والحديث متّفقٌ عليه، وشرحه يُعلم مما سبق، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3877]

(

) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ الله، حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ؛ أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ فِي الْعَرَايَا أَنْ تُباعَ بِخَرْصِهَا كَيْلًا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلهم ذُكروا في الباب، وقبله، و"ابن نُمير" هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، و"عُبيد الله" هو ابن عمر العمريّ.

وقوله: (أَنْ تُباعَ بِخَرْصِهَا) في تأويل المصدر بدل من "العرايا"؛ أي: في بيعها.

وقوله: (كَيْلًا) منصوب على التمييز.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3878]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ الله، بِهَذَا الإسْنَاد، وَقَالَ: أَنْ تُؤْخَذَ بِخَرْصِهَا).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

و"ابن المثنّى" هو: محمد، و"يحيى بن سعيد" هو: القطّان، و"عبيد الله" هو المذكور في السند الماضي.

والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم.

ص: 138

وبالسند المتصل الى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3879]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيع، وَأَبُو كَامِلٍ قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ (ح) وَحَدَّثَنِيهِ عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، كِلَاهُمَا عَنْ أَيُوبَ، عَنْ نَافِعٍ، بِهَذَا الإِسنَادِ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ في بَيْعِ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلهم تقدّموا قريبًا، و"أبو الربيع" هو: سليمان بن داود الزهرانيّ، و"أبو كامل" هو: فُضيل بن حسين الْجَحْدريّ، و"حماد" هو ابن زيد، و"إسماعيل" هو ابن عليّة

(1)

، و"أيوب" هو: السختيانيّ.

والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف: رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3880]

(1540) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ - يَعْني ابْنَ بِلَالٍ - عَنْ يَحْيَى - وَهُوَ ابْنُ سَعِيدٍ - عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ دَارِهِمْ، مِنْهُمْ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْر، وَقَالَ: "ذَلِكَ الرِّبَا، تِلْكَ الْمُزَابَنَةُ"، إِلَّا أنَّهُ رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ: النَّخْلَة، وَالنَّخْلَتَيْنِ يَأَخُذُهَا أَهْلُ الْبَيْتِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا، يَأَكُلُونَهَا رُطَبًا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ الله بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِي) تقدّم قريبًا.

2 -

(بُشَيْرُ بْنُ يَسَارِ)

(2)

الحارثيّ الأنصاريّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [3].

رَوَى عن أنس، وجابر، ورافع بن خَدِيج، وسهل بن أبي حَثْمة، وسُوَيد بن النعمان، ومُحَيِّصة بن مسعود، وغيرهم.

(1)

راجع: "تحفة الأشراف" 5/ 358.

(2)

"بُشَير" بضمّ الموحّدة، وفتح الشين، و"يسار" بالمثنّاة تحتُ، والسين المهملة.

ص: 139

وروى عنه ابنُ ابنه بُشَير بن عبد الله بن بُشَير بن يسار، وربيعة الرأي، وسعيد بن عُبيد الطائيّ، وابن إسحاق، ويحيى بن سعيد، وأبو الرَّحَّال عقبة بن عُبيد، وغيرهم.

قال ابن معين: ثقةٌ، وليس بأخي سليمان بن يسار، وقال ابن سعد: كان شيخًا كبيرًا فقيهًا، وكان قد أدرك عامة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قليل الحديث، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وكناه محمد بن إسحاق في روايته عنه: أبا كيسان، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1540) وكرره ثلاث مرّات، وحديث (1669): "كَبِّر الْكُبْرَ في السن

" الحديث، وكرّره أيضًا ثلاث مرّات.

3 -

(سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ)

(1)

واسمه عبد الله بن ساعدة، وقيل: عامر بن ساعدة، وكنية سهل: أبو يحيى، وقيل: أبو محمد الأنصاريّ الخزرجيّ، تُوفِّي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو ابن ثمان سنين، أخرج له الجماعة، ومات في خلافة معاوية رضي الله عنهما (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 57/ 1947.

و"سليمان بن بلال"، و"يحيى بن سعيد" الأنصاريّ ذُكرا في الباب قبل أحاديث.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه مسلسلٌ بالمدنيين، وشيخه وإن كان بصريًّا إلا أنه مدنيّ الأصل، وقد سكنها مدّةً، وأنه لا يوجد في الرّواة من اسمه بُشَير مصغّرًا إلا بُشَير بن يسار هذا، وبُشير بن كعب العدويّ البصريّ، وهو مخضرم تقدّم في "شرح المقدّمة".

وقد ذكر النوويّ رحمه الله جملًا من لطائف هذا الإسناد، ودونك عبارته:

قال رحمه الله: في هذا الإسناد أنواع من معارف علم الإسناد، وطُرَفه:

منها: أنه إسناد كله مدنيون، وهذا نادرٌ في صحيح مسلم، بخلاف الكوفيين، والبصريين، فإنه كثير، قدمنا في مواضع كثيرة من أوائل هذا الكتاب وبعدها بيانه.

(1)

بفتح الحاء المهملة، وإسكان الثاء المثلّثة.

ص: 140

ومنها: أن فيه ثلاثةً أنصاريين مدنيين، روى بعضهم عن بعض، وهذا نادر جدًّا، وهم: يحيى بن سعيد الأنصاريّ، وبُشَير، وسهل.

ومنها: قوله: سليمان - يعني ابن بلال - وقوله: يحيى - وهو ابن سعيد - وقد قدمنا في الفصول التي في أول الكتاب وبعدها بيان فائدة قوله: يعني، وقوله: وهو، وأن المراد أنه لم يقع في الرواية بيان نسبهما، بل اقتَصَر الراوي على قوله: سليمان، ويحيى، فأراد مسلم بيانه، ولا يجوز أن يقول: سليمان بن بلال، فإنه يزيد على ما سمعه من شيخه، فقال: يعني ابن بلال، فحصل البيان من غير زيادة منسوبة إلى شيخه.

ومنها: ما يتعلق بضبط الأسماء والأنساب، وهو بُشير بن يسار، وقد بيّناه، والقعنبيّ، وهو منسوب إلى جدّه، وهو عبد الله بن مسلمة بن قعنب.

ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعيّ، وهو يحيى، عن بُشَير، وهذا وإن كانت نظائره في الحديث كثيرة، فهو من معارفهم.

ومنها: قوله: عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم سهل بن أبي حثمة، فيه أنه إذا سمع من جماعة ثقات جاز أن يحذف بعضهم، ويروي عن بعض، وقد تقدم بيان هذا وتفصيله مبسوطًا في الفصول. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ بُشَيْرِ) مصغّرًا (ابْنِ يَسَارٍ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَاب رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ دَارِهِمْ) يعني من بني حارثة، والمراد بالدار: المحلّة

(2)

. (مِنْهُمْ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ) وفي رواية البخاريّ: "قال يحيى بن سعيد: سمعت بُشير بن يسار، قال: سمعت سهل بن أبي حثمة"، وفي الرواية الآتية بعد ثلاثة أحاديث:(أن رافع بن خَدِيج، وسهل بن أبي حَثْمة حدّثاه" (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الثَّمَرِ) أي: بيع الثمر، وهو بالثاء المثلّثة (بِالتَّمْرِ) بالتاء المثنّاة فوقُ (وَقَالَ: "ذَلِكَ)؛ أي: بيع الثمر بالتمر (الرِّبَا) بكسر الراء: الفضل والزيادة، وهو مقصور على الأشهر،

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 186.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 185.

ص: 141

ويُثنّى رِبَوان بالواو على الأصل، وقد يقال: رِبيان على التخفيف، وينسب إليه على لفظه، فيقال: رِبَويّ، وقال الْمُطَرِّزِيّ: الفتح في النسبة خطأ، أفاده الفيوميّ

(1)

.

والمعنى: أن هذا البيع هو من الربا الذي حرّمه الله تعالى بقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} الآية [البقرة: 275].

وقال أيضًا: (تِلْكَ)؛ أي: البيعة المذكورة (الْمُزَابَنَةُ")؛ أي: من البيع الذي يُسمّى بالمزابنة، وهو بيع الثمر بالتمر كيلًا، من الزبن، وهو الدفع، وسُمّي هذا البيع مزابنةً؛ لأنهم يتدافعون في مخاصمتهم بسببه؛ لكثرة الغرر والخطر، وسيأتي تمام البحث فيه - إن شاء الله تعالى -.

(إِلا أنَّهُ رَخَّصَ) وفي لفظ عند البخاريّ: "أرخص"(فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ)؛ أي: في بيع ثمر العريّة؛ لأن العريّة هي النخلة، ففيه حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مُقامه.

وقوله: (النَّخْلَة، وَالنَّخْلَتَيْنِ) بالجرّ بدل من "العريّة"، وقوله:(يَأَخُذُهَا أَهْلُ الْبَيْتِ) جملة في محلّ نصب على الحال.

قال القرطبيّ رحمه الله: أهل البيت على مذهب مالك، ومن قال بقوله: هم الْمُعْرُون، فيضمنون مقدار العرية، فيدفعون ذلك للمُعْرَى له تمرًا عند الجداد، رفقًا به حيث كُفِي المؤَنَ، وأُعطي ما يقتات به، ويحصل من ذلك للمُعْرِي دفع ضرر تكرار دخول المعرى له إلى عريته لتعاهدها، وسقيها، واجتنانها.

فظهر لمالك: أن العرية إنما رخص فيها لأنها من باب المعروف، والرفق، والتسهيل في فعل الخير، والمعونة عليه.

وأما على مذهب الشافعي: فأهل البيت عنده هم: المشترون الذين يشترون الرطب بالتمر ليأكلوها رطبًا، فظهر له: أن الموجب لهذه الرخصة هو حاجة من له تمر لأكل الرطب، وقد ذكرنا آنفًا ضعف هذا المعنى. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم أنه لا ضعف فيما ذهب إليه الشافعيّ: رحمه الله، فإنه قائل بما قاله مالك أيضًا، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(1)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 217.

(2)

"المفهم" 4/ 394 - 395.

ص: 142

(بِخَرْصِهَا) تقدّم بفتح الخاء المعجمة، وكسرها، فالفتح اسم للفعل، والكسر اسم للشيء المخروص، والخرص: هو التخمين والحدس، وقوله:(تَمْرًا) منصوب على التمييز (يَأَكُلُونَهَا رُطَبًا) منصوب على الحال

(1)

، وهو بضم الراء، وقال الكرمانيّ: ورُوي بفتحها، فهو متناول للعنب، وقال: أهل النخلة هم البائعون، لا المشتري، والآكل هو المشتري، لا البائع، ثم قال: قلت: الضمير في "يأكلها أهلها" راجع إلى الثمار التي يدل عليها الخرص، وأهل الثمار هم المشترون، وذِكْرُ الأكل ليس بقيد، بل هو لبيان الواقع، وعن أبي عبيد أنه شرطه، ذكره في "العمدة"

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [14/ 3880 و 3881 و 3882 و 3883 و 3884](1540)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2191) و"المساقاة"(2383 و 2384)، و (أبو داود) في "البيوع"(3363)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1303)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 268) و"الكبرى"(4/ 21)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 151)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 129)، و (الحميديّ) في "مسنده"(402)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 2)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5002)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 296)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 309 - 310) و"المعرفة"(4/ 343 و 344)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2072)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3881]

(

) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَصْحَابِ

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 7/ 139.

(2)

"عمدة القاري" 11/ 304.

ص: 143

رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّهُمْ قَالُوا: رَخَّصَ

(1)

رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم تقدّموا، بعضهم في الباب، وبعضهم قبل باب، و"ابن رُمح" هو: محمد، و"بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم"، تقدّم في السند الماضي أن منهم سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه، والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3882]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، جَمِيعًا عَنِ الثَّقَفِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي بُشَيْرُ بنُ يَسَارٍ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ دَاره؛ أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى، فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى، غَيْرَ أن إِسْحَاقَ، وَابْنَ الْمُثَنَّى جَعَلَا مَكَانَ الرِّبَا: الزَّبْنَ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ: الرِّبَا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، والباب الماضي، غير إسحاق بن راهويه، فتقدّم قريبًا، و"إسحاق بن إبراهيم " هو: ابن راهويه، و"ابن أبي عمر" هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، ثم المكيّ، و"الثقفيّ" هو: عبد الوهّاب بن عبد المجيد الثقفيّ.

وقوله: (فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ) قال النوويّ رحمه الله: الذاكر هو الثقفيّ الذي هو في درجة سليمان بن بلال، وإنما ذكرتُ هذا، وإن كان ظاهرًا؛ لأنه قد يُغْلَطُ فيه، بل قد غُلِط فيه. انتهى.

وقوله: (غَيْرَ أَن إِسْحَاقَ، وَابْنَ الْمُثَنَّى جَعَلَا مَكَانَ الرِّبَا: الزَّبْنَ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ: الرِّبَا) يعني أن ابن أبي عمر رفيق إسحاق، وابن المثنى قال في

(1)

وفي نسخة: "أرخص".

ص: 144

روايته: "ذلك الربا"، كما سبق في رواية سليمان بن بلال، وأما إسحاق، وابن المثنى فقالا:"ذلك الزَّبْنُ"، وهو بفتح الزاي، وإسكان الموحدة، وبعدها نون، وأصل الزَّبْن: الدفع، وسُمِّي هذا العقد مزابنةً؛ لأنهم يتدافعون في مخاصمتهم بسببه؛ لكثرة الغرر والخطر، قاله النوويّ: رحمه الله

(1)

.

[تنبيه]: رواية عبد الوهّاب الثقفيّ عن يحيى بن سعيد لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3883]

(

) - (وَحَدَّثنَاهُ عَمْرُو النَّاقِدُ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، عَنِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ حَدِيثِهِمْ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَمْرُو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرَّقَّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م دس) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي، و"ابن نمير" هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، و"يحيى بن سعيد" هو: الأنصاريّ.

[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد هذه ساقها ابن أبي شيبة في "مصنّفه" (4/ 506) فقال:

(22583)

- حدّثنا أبو بكر

(2)

، قال: حدّثنا ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن بُشَير بن يسار، عن سهل بن أبي حَثْمة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن بيع الثمر بالتمر، ورَخَّصَ في العرية أن تباع بخرصها، يأكلها أهلها رُطَبًا. انتهى.

[تنبيه آخر]: ساق الإمام البخاريّ رحمه الله رواية سفيان هذه في "صحيحه"، وفيها قصّة، فقال:

(1)

"شرح النووي"10/ 186 - 187.

(2)

هو ابن أبي شيبة، صاحب "المصنف"، وقائل:"حدّثنا" هو الراوي عنه.

ص: 145

(2191)

- حدّثنا عليّ بن عبد الله، حدّثنا سفيان، قال: قال يحيى بن سعيد: سمعت بُشيرًا قال: سمعت سهل بن أبي حثمة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن بيع الثمر بالتمر، ورَخَّص في العرية أن تباع بخرصها، يأكلها أهلها رُطَبًا، وقال سفيان مرةً أخرى: إلا أنه رَخَّص في العرية يبيعها أهلها بخرصها، يأكلونها رُطَبًا، قال: هو سواء، قال سفيان: فقلت ليحيى، وأنا غلام: إن أهل مكة يقولون: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ في بيع العرايا، فقال: وما يدري أهل مكة؛ قلت: إنهم يروونه عن جابر، فسكت، قال سفيان: إنما أردتُّ أن جابرًا من أهل المدينة، قيل لسفيان: وليس فيه: نَهَى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه؟ قال: لا. انتهى.

وقوله: "وقال سفيان مرة أخرى

إلخ" هو كلام عليّ بن عبد الله المدينيّ شيخ البخاريّ في السند، والغرض أن ابن عيينة حدثهم به مرتين على لفظين، والمعنى واحد، كما أشار إليه بقوله: "هو سواء"؛ أي: المعنى واحد.

وقوله: "قال سفيان"؛ أي: بالإسناد المذكور: فقلت ليحيى؛ أي: ابن سعيد لَمّا حدثه به.

وقوله: "وأنا غلام، جملة حالية، والغرض الإشارة إلى قِدَم طلبه، وتقدّم فِطْنته، وأنه كان في سنّ الصبا يناظر شيوخه، ويباحثهم.

وقوله: "رَخَّص لهم في بيع العرايا" محل الخلاف بين رواية يحيى بن سعيد، ورواية أهل مكة أن يحيى بن سعيد قيّد الرخصة في بيع العرايا بالْخَرْص، وأن يأكلها أهلها رُطَبًا، وأما ابن عيينة في روايته عن أهل مكة، فأطلق الرخصة في بيع العرايا، ولم يُقَيِّدها بشيء مما ذُكر.

وقوله: "قلت: إنهم يروونه عن جابر" في رواية أحمد في "مسنده، عن سفيان: قلت: أخبرهم عطاء؛ أنه سمع من جابر.

وقوله: "قال سفيان: إنما أردت

إلخ،؛ أي: الحامل لي على قولي ليحيى بن سعيد: إنهم يروونه عن جابر أن جابرًا من أهل المدينة، فيرجع الحديث إلى أهل المدينة، وكان ليحيى بن سعيد أن يقول له: وأهل المدينة رووا أيضًا فيه التقييد، فيُحْمَل المطلق على المقيد حتى يقوم الدليل على العمل بالإطلاق، والتقييدُ بالخرص زيادة حافظٌ، فتعيَّن المصير إليها، قال الحافظ:

ص: 146

وأما التقييد بالأكل فالذي يظهر أنه لبيان الواقع، لا أنه قيد، وعن أبي عبيد أنه شرطه.

وقوله: "أليس فيه"؛ أي: في الحديث المذكور: "نَهَى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه؟ " قال: لا؛ أي: ليس هو في حديث سهل بن أبي حثمة، وإن كان هو صحيحًا من رواية غيره، قال الحافظ: وقد حدّث به عبد الجبار بن العلاء، عن سفيان في حديث الباب بهذا اللفظ الذي نفاه سفيان، وحَكَى الإسماعيليّ عن ابن صاعد أنه أشار إلى أنه وَهِمَ فيه، فتعقّبه الحافظ، فقال: قد أخرجه النسائيّ عن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الزهريّ، عن سفيان كذلك، فظهر أن عبد الجبار لم ينفرد بذلك. انتهى ملخّصًا من الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3884]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَحَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ، قَالَا: حَدَّثنا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الْوَليدِ بْنِ كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي بُشَيْرُ بْنُ يَسَارٍ، مَوْلَى بَني حَارِثَةَ؛ أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، وَسَهْلَ بْنَ أَبِي حَثْمَةَ حَدَّثَاهُ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْمُزَابَنَةِ: الثَّمَرِ بِالتَّمْر، إِلَّا أَصْحَابَ الْعَرَايَا، فَإِنَّهُ قَدْ أَذِنَ لَهُمْ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.

2 -

(حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ) هو: الحسن بن عليّ بن محمد الهلاليّ، أبو عليّ الخلال، نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [11](ت 242)(خ م دت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

3 -

(أَبُو أُسَامَة) حمّاد بن أسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

4 -

(الْوَليدُ بْنُ كَثِيرٍ) المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، ثم الكوفيّ، صدوقٌ عارف بالمغازي، ورُمي برأي الخوارج [6](ع) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.

(1)

راجع: "الفتح" 5/ 661 - 662.

ص: 147

5 -

(رَافِعُ بْنُ خَدِيجِ) بن عديّ الحارثيّ الأوسيّ الأنصاريّ الصحابيّ الشهير، أول مشاهده أُحد، ثم الخندق، مات سنة (3 أو 74) وقيل: قبل ذلك (ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 489.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: "الثمر بالتمر" ولفظ النسائيّ: "بيعِ الثمر بالتمر"، وهو بالجرّ بدلٌ من "المزابنة"، أو عطفُ بيان له، ويجوز قطعه إلى الرفع بتقدير مبتدأ؛ أي: هو بيع الثمر، وإلى النصب بتقدير فعل؛ أي: أعني بيع الثمر.

والحديث متفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3885]

(1541) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَب، حَدَّثَنَا مَالِكٌ (ح) وَحَدَّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى - وَاللَّفْظُ لَهُ - قَالَ: قُلْتُ لِمَالِكٍ: حَدَّثَكَ دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْن، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ - مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا، فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، أَوْ فِي خَمْسَةِ؟ - يَشُكُّ دَاوُدُ - قَالَ: خَمْسَةٌ أَوْ دُونَ خَمْسَةٍ - قَالَ: نَعَمْ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(داود بن الْحُصين) الأمويّ مولاهم، أبو سليمان المدنيّ، ثقةٌ، إلا في عكرمة، ورُمِي برأي الخوارج [6](ت 135)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 19/ 1293.

6 -

(أَبُو سُفْيَانَ مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ) قيل: اسمه وهب، وقيل: قُزْمان، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 19/ 1293.

[تنبيه]: قال في "الفتح": أبو سفيان هذا مشهور بكنيته، حتى قال النوويّ، تبعًا لغيره: لا يُعْرَف اسمه، وسبقهم إلى ذلك أبو أحمد الحاكم، في "الكنى"، لكن حَكَى أبو داود في "السنن" في روايته لهذا الحديث، عن القعنبيّ شيخِهِ فيه؛ أن اسمه قُزْمان. وابن أبي أحمد - الذي نُسب إليه - هو: عبد الله بن أبي أحمد بن جَحْش الأسديّ، ابن أخي زينب بنت جَحْش، أم المؤمنين، وحَكَى الواقديّ: أن أبا سفيان، كان مولى لبني عبد الأشهل، وكان يجالس

ص: 148

عبد الله بن أبي أحمد، فنُسب إليه. انتهى

(1)

.

والباقون كلهم ذُكروا في الباب.

شرح الحديث:

عَن يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التميميّ النيسابوريّ؛ أنه (قَالَ: قُلْتُ لِمَالِكِ) بن أنس إمام دار الهجرة (حَدَّثَكَ) بتقدير أداة الاستفهام؛ أي: أحدّثك (دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ) بالتصغير الأمويّ مولاهم المدنيّ.

[تنبيه]: ذكر ابن التين تبعًا لغيره؛ أن داود بن الحصين تفرد بهذا الإسناد، قال: وما رواه عنه إلا مالك بن أنس، قاله في "الفتح"، والله تعالى أعلم.

(عَنْ أَبِي سُفْيَانَ - مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ) - بتشديد الخاء المعجمة - من الترخيص، ويقال فيه: أرخص، من الإرخاص، وهو التيسير، والتسهيل (فِي بَيْعِ الْعَرَايَا)؛ أي: بيع ثمارها (بِخَرْصِهَا) المشهور في كتب اللغة أنه بكسر، فسكون: اسم بمعنى المخروص؛ أي: القدر الذي يُعرف بالتخمين، وأما بفتح، فسكون: فهو مصدرٌ بمعنى التخمين. قال في "النهاية": خَرَصَ النخلة، والكرمة يخرُصها خَرْصًا؛ أي: من باب نصر -: إذا حَزَرَ ما عليها تمرًا، ومن العنب زبيبًا، فهو من الْخَرْص؛ أي: الظنّ؛ لأن الْحَزْرَ إنما هو تقدير بظنّ، والاسم: الْخِرْصُ بالكسر، يقال: كم خِرْصُ أرضك؟ وفاعل ذلك: الخارص. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ: الخِرص بكسر الخاء: هو اسم للمخروص، وبفتح الخاء هو: المصدر، والرواية هنا بالكسر. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وقد تقدّم إنكار ابن العربيّ الفتح، وجزمه بالكسر، لكن جوّز النوويّ الوجهين، وقال: الفتح أشهر، والظاهر أن الأشهر هنا بالكسر، عكس ما قاله النوويّ؛ لأنه المشهور في اللغة، والرواية، كما أشار إليه القرطبيّ آنفًا.

(1)

"الفتح" 5/ 655 - 656.

(2)

"النهاية" 2/ 22 - 23.

(3)

"المفهم" 4/ 394.

ص: 149

والحاصل أن المكسور اسم للمخروص، والمفتوح مصدر بمعنى التخمين، لكن لو أريد به المفعول، كالخلق بمعنى المخلوق لكان وجيهًا.

هذا كله إن جُعلت الباء في "بخرصها" للمقابلة، كما هو المتبادر الشائع، والمعنى: أنها تباع بقدر المخروص، وأما إذا كانت للسببيّة، فالخرص يكون مصدرًا بمعنى التخمين، أفاده السنديّ

(1)

، والله تعالى أعلم.

ومعنى الحديث أنه صلى الله عليه وسلم رخّص العرايا أن يُباع ثمرها بعد أن يُخرَص، ويُعرَف قدره بقدر ذلك من التمر، كما تقدّم البحث فيه مستوفًى.

قال ابن المنذر رحمه الله: ادّعى الكوفيون أن بيع العرايا منسوخ بنهيه صلى الله عليه وسلم، عن بيع الثمر بالتمر، وهذا مردود؛ لأن الذي رَوَى النهي عن بيع الثمر بالتمر، هو الذي رَوَى الرخصة في العرايا، فأثبت النهي والرخصة معًا.

ورواية سالم المذكورة في الباب الماضي، تدل على أن الرخصة في بيع العرايا، وقعت بعد النهي عن بيع الثمر بالتمر، ولفظه عن ابن عمر، مرفوعًا:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تبتاعوا الثمر حتّى يبدو صلاحه، ولا تبتاعوا الثمر بالتمر"، وقال سالم:"أخبرني عبد الله، عن زيد بن ثابت، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رخّص بعد ذلك في بيع العرية"، وهذا هو الذي يقتضيه لفظ الرخصة، فإنها تكون بعد المنع، وكذلك بقية الأحاديث، التي وقع فيها استثناء العرايا، بعد ذكر بيع الثمر بالتمر، وقد تقدم إيضاح ذلك كلّه، مطوّلًا، فلا تنس نصيبك، والله تعالى وليّ التوفيق.

(فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ) متعلّق بـ "رخّص"(أَوْ فِي خَمْسَةِ؟) بالكسر من غير تنوين؛ لنيّة لفظ المضاف إليه؛ أي: أو في خمسة أوسق، و"أو" هنا للشكّ، كما بيّنه بقوله:(يَشُكُّ دَاوُدُ) يعني أن داود بن الحصين شكّ، هل قال أبو سفيان:"فيما دون خمسة أوسق، أو قال: في خمسة أوسق"؟ وقوله: (قَالَ: خَمْسَةٌ أَوْ دُونَ خَمْسَةٍ) تفسير لشك داود؛ أي: قال أبو سفيان: هي خمسة، أو دون خمسة.

و"الأوسق": جمع وَسْق، بفتح، فسكون، ويُجمع على وُسُوق أيضًا،

(1)

"شرح السنديّ على النسائيّ" 7/ 267 - 268.

ص: 150

كفلس وأفلس، وفُلُوس، ويقال: الوسق بكسر الواو أيضًا، والجمع أَوْساقٌ، كحِمْل وأَحمال، قال ابن منظور رحمه الله: الوَسْق، والوِسْق - أي: بالفتح، والكسر -: مِكْيلة معلومة، وقيل: هو حِمْل بعير، وهو ستّون صاعًا بصاع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو خمسة أرطال وثلث، فالوسق على هذا الحساب: مائة وستّون مَنًا، قال الزجّاج: خمسة أوسق: هي خمسة وعشرون قَفِيزًا، قال: وهو قَفيزنا الذي يُسمّى الْمُعدّل، وكلُّ وسق بالْمُلَجّم ثلاثة أقفزة، قال: وستّون صاعًا أربعة وعشرون مَكُّوكًا بالْمُلَجّم، وذلك ثلاثة أَقْفِزة، وقال في "التهذيب": الوسق بالفتح: ستّون صاعًا، وهو ثلاثة وعشرون رِطلًا، عند أهل الحجاز، وأربعمائة وثمانون رطلًا عند أهل العراق على اختلافهم في مقدار الصاع والمدّ، والأصل في الوَسق: الْحَمْلُ، وكلُّ شيء وَسَقْته، فقد حَمَلته. انتهى كلام ابن منظور رحمه الله

(1)

.

[تنبيه]: قد عرفت مما سبق آنفًا أن الوسق ستون صاعًا بصاع النبيّ صلى الله عليه وسلم، والصاع النبويّ بالموازين المعاصرة على ما قدّره العلماء المتأخّرون هو 3000 (ثلاثة آلاف غرام)، فالخمسة الأوسق تكون ثلاثمائة صاع، فتكون الثلاثمائة الصاع 9000 (تسعة آلاف غرام). راجع ما كتبه الشيخ البسّام: في "شرح بلوغ المرام"

(2)

.

وقوله: (قَالَ: نَعَمْ) أي: قال مالك جوابًا عن سؤال يحيى: نعم حدّثني داود بن الحصين بهذا الحديث.

[تنبيه]: سؤال يحيى مالكًا هذا نوع من أنواع القراءة على الشيخ، فإذا قال الشيخ: نعم، فلا خلاف فيه، وإن لم يقل، ففيه اختلاف بين العلماء، والأصحّ جوازه، قال في "الفتح": وهذا التحمّل يُسمَّى عرض السماع، وكان مالك يختاره على التحديث من لفظه، واختَلَف أهل الحديث هل يُشترط أن يقول الشيخ:"نعم" أم لا؟ والصحيح أن سكوته يُنزّل منزلة إقراره إذا كان

(1)

"لسان العرب" 10/ 378 - 379.

(2)

"توضيح الأحكام، شرح بلوغ المرام" 3/ 45.

ص: 151

عارفًا، ولم يمنعه مانع، وإذا قال:"نعم" فهو أولى بلا نزاع. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: نظمت هذه المسألة بقولي:

اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا قَرَا عَلَى

شَيْخٍ وَقَدْ أَصْغَى إِلَيْهِ إِذْ تَلَا

وَهُوَ فَاهِمٌ وَغَيْرُ مُنْكِرِ

وَلَيْسَ مَانِعٌ لَهُ إِنْ يُنْكِرِ

فَذَا يُنَزَّلُ كَالاقْرَارِ

(2)

لَدَى

جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهْوَ الْمُقْتَدَى

وَبَعْضُهُمْ شَرَطَ قَوْلَهُ نَعَمْ

وَالْحَقُّ لَيْسَ وَاجِبًا فَيُلْتَزَمْ

والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 3885](1541)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2190)، و (أبو داود) في "البيوع"(3364)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1301)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 268) و"الكبرى"(4/ 21)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 620)، و (الشافعيّ) في "المسند"(2/ 151)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 237)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5006 و 5007)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(4/ 30)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(659)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 311)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2076)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): قال في "الفتح": وقد اعتَبَر من قال بجواز بيع العرايا بمفهوم هذا العدد، ومنعوا ما زاد عليه، واختلفوا في جواز الخمسة؛ لأجل الشكّ المذكور، والخلاف عند المالكية، والشافعية، والراجح عند المالكية: الجواز في الخمسة، فما دونها، وعند الشافعية الجواز فيما دون الخمسة، ولا يجوز في الخمسة، وهو قول الحنابلة، وأهل الظاهر.

(1)

"الفتح" 5/ 660.

(2)

بنقل حركة الهمزة إلى اللام، ودرجها.

ص: 152

فمأخذ المنع: أن الأصل التحريم، وبيع العرايا رخصة، فيؤخذ منه بما يتحقق منه الجواز، ويُلغى ما وقع فيه الشك.

وسبب الخلاف: أن النهي عن بيع المزابنة، هل ورد متقدمًا، ثم وقعت الرخصة في العرايا، أو النهي عن بيع المزابنة، وقع مقرونًا بالرخصة، في بيع العرايا؟ فعلى الأول لا يجوز في الخمسة؛ للشك في رفع التحريم، وعلى الثاني يجوز؛ للشك في قدر التحريم، ويُرَجِّح الأول روايةُ سالم المتقدّمة بلفظ:"رَخَّص بعد ذلك في بيع العريّة بالرطب أو بالتمر"، فإنها نصّ في كون الرخصة بعد النهي عن المزابنة.

واحتج بعض المالكية بأن لفظة "دون" صالحة لجميع ما تحت الخمسة، فلو عَمِلنا بها للزم رفع هذه الرخصة.

وتُعُقِّب بأن العمل بها ممكن، بأن يُحْمَل على أقل ما تَصْدُق عليه، وهو المفتى به في مذهب الشافعي، وقد روى الترمذيّ، حديث الباب من طريق زيد بن الْحُبَاب، عن مالك، بلفظ:"أرخص في بيع العرايا، فيما دون خمسة أوسق"، ولم يتردد في ذلك، وزعم المازريّ أن ابن المنذر ذهب إلى تحديد ذلك بأربعة أوسق؛ لوروده في حديث جابر من غير شك فيه، فتعيّن طرح الرواية التي وقع فيها الشك، والأخذ بالرواية المتيقنة، قال: وألزم المزنيُّ الشافعيَّ القولَ به. انتهى.

قال الحافظ: وفيما نقله نظر، أما ابن المنذر فليس في شيء من كتبه ما نقله عنه، وإنما فيه ترجيح القول الصائر إلى أن الخمسة لا تجوز، وإنما يجوز ما دونها، وهو الذي ألزم المزنيُّ أن يقول به الشافعيّ، كما هو بَيِّن من كلامه.

وقد حَكَى ابن عبد البر هذا القول عن قوم، قال: واحتجوا بحديث جابر، ثم قال: ولا خلاف بين الشافعيّ، ومالك، ومن اتبعهما في جواز العرايا في أكثر من أربعة أوسق، مما لم يبلغ خمسة أوسق، ولم يثبت عندهم حديث جابر.

قال الحافظ: حديث جابر الذي أشار إليه، أخرجه الشافعيّ، وأحمد، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، أخرجوه كلهم من طريق ابن إسحاق: حدّثني محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان، عن جابر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - حين أَذِن لأصحاب العرايا، أن يبيعوها بخرصها - يقول:"الوسق، والوسقين، والثلاثة، والأربع"، لفظ

ص: 153

أحمد، وترجم عليه ابن حبّان:"الاحتياط أن لا يزيد على أربعة أوسق"، وهذا الذي قاله يتعيّن المصير إليه، وأما جَعْله حَدًّا لا يجوز تجاوزه، فليس بالواضح.

واحتج بعضهم لمالك، بقول سهل بن أبي حثمة:"إن العريّة تكون ثلاثة أوسق، أو أربعة، أو خمسة"، ولا حجة فيه؛ لأنه موقوف.

ومن فروع هذه المسألة: ما لو زاد في صفقة على خمسة أوسق، فان البيع يبطل في الجميع.

وخرّج بعض الشافعية، من جواز تفريق الصفقة، أنه يجوز، وهو بعيد؛ لوضوح الفرق، ولو باع ما دون خمسة أوسق في صفقة، ثم باع مثلها البائع بعينه للمشتري بعينه في صفقة أخرى، جاز عند الشافعية، على الأصح، ومنعه أحمد، وأهل الظاهر، والله أعلم. انتهى

(1)

.

فال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأصحّ ترجيح عدم الجواز في خمسة أوسق، وإنما يجوز فيما دونها، كما هو مذهب الشافعيّة، والحنبليّة، وأهل الظاهر، وترجيح عدم الجواز أيضًا في أكثر من خمسة أوسق فيما إذا تفرّقت الصفقة، كما هو مذهب الحنبليّة، وأهل الظاهر؛ لقوّة حجته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(15) - (بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْمُزَابَنَةِ)

(2)

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3886]

(1542) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْمُزَابَنَة، وَالْمُزَابَنَةُ بَيْعُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ كَيْلًا، وَبَيْعُ الْكَرْمِ بِالزَّبِيبِ كَيْلًا).

(1)

"الفتح" 5/ 659 - 660.

(2)

هكذا ترجم القرطبيّ رحمه الله في "المفهم"، وهو الأولى، خلاف صنيع النوويّ ومن تبعه، فإنهم أدخلوا هذه الأحاديث تحت ترجمة "باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا"، فتنبّه.

ص: 154

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلّهم ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعئات المصنف رحمه الله، وهو (256) من رباعيّات الكتاب.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْمُزَابَنَةِ) - بميم مضمومة، وزاي، وباء موحّدة، ونون - مفاعلة من الزَّبْن - بفتح الزاي، وسكون الموحّدة -: وهو الدفع الشديد، ومنه سُمّيت الحرب الزَّبُون؛ لشدّة الدفع فيها، وقيل للبيع المخصوص: المزابنة؛ لأن كلّ واحد من المتبايعين يدفع صاحبه عن حقّه، أو لأن أحدهما إذا وقف على ما فيه من الغبن أراد دفع البيع بفسخه، وأراد الآخر دفعه عن هذه الإرادة بإمضاء البيع، هذا هو تفسير المزابنة لغةً، وأما التفسير الشرعيّ، فهو ما بيّنه بقوله:(وَالْمُزَابَنَةُ بَيْعُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ) الأول بالثاء المثلّثة، والثاني بالتاء المثناة الفوقانيّة، والمراد ثمر النخل؛ أي: رُطَبه، لا كلّ ثمر، إذ يجوز بيع الثمر من غير النخل بالتمر كيلًا؛ لجواز التفاضل فيه.

وقوله: (كَيْلًا) منصوب على التمييز.

(وَبَيْعُ الْكَرْمِ بِالزَّبِيبِ كَيْلًا) وفي الرواية التالية: "وبيع العنب بالزبيب كيلًا"، و"الكرم" - بفتح الكاف، وسكون الراء -: هو شجر العنب، والمراد منه هنا نفس العنب، كما أوضحته الروايةُ الثانية، والله تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 3886 و 3887 و 3888 و 3889 و 3890 و 3891 و 3892 و 3893](1542)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2171 و 2172 و 2185 و 2205)، و (أبو داود) في "البيوع"(3361)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 266)، و"الكبرى"(4/ 20)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 624)،

ص: 155

و (الشافعيّ) في "المسند"(2/ 153)، و"الرسالة" فقرة (906)، و (عبد الرزّاق) في "مصنفه"(14489)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4998 و 4999)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 299)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 307)، و"المعرفة"(4/ 337)، و (البغويّ) في "شرح السنة"(2069 و 2070)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان النهي عن بيع المزابنة.

2 -

(ومنها): بيان تفسير المزابنة، قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله:"المزابنة" - بضم الميم، وفتح الزاي، وبعد الألف باء موحدة مفتوحة، ثم نون - مشتقة من الزَّبْن، وهو المخاصمة والمدافعة، وقد فسرها في الحديث بأنها بيع الثمر بالتمر كيلًا، وبيع الكرم بالزبيب كيلًا، والثمر المذكور أولًا بفتح الثاء المثلثة والميم، والثاني بفتح التاء المثناة من فوقُ، وإسكان الميم، فالأول اسم له، وهو رُطَبٌ على رءوس النخل، والثاني اسم له بعد الجداد واليبس، وكذا في حديث أبي سعيد الخدريّ في "الصحيحين": والمزابنة اشتراء الثمر بالتمر على رءوس النخل، وكذا في حديث جابر، فإن كان هذا التفسير مرفوعًا، فلا إشكال في وجوب الأخذ به، وإن كان موقوفًا على هؤلاء الصحابة، فهم رواة الحديث، وأعرف بتفسيره من غيرهم، قال ابن عبد البرّ: ولا مخالف لهم علمته، بل قد أجمع العلماء على أن ذلك مزابنة، ولذلك أجمعوا على أن كل ما لا يجوز إلا مِثلًا بمثل أنه لا يجوز منه كيلٌ بِجِزاف، ولا جِزاف بجزاف؛ لأن في ذلك جهل المساواة، ولا يؤمَن مع ذلك التفاضل.

قال وليّ الدين: وحقيقتها الجامعة لأفرادها بيع الرُّطَب من الرِّبويّ باليابس منه، وفسّرها مالك رحمه الله بأعم من ذلك، وهو بيع مجهول بمعلوم من صنف ذلك، سواء كان مما يجوز فيه التفاضل أم لا، وجَعَله من باب المخاطرة والقمار، وأدخله في معنى المزابنة، فقال في "الموطإ": وتفسير المزابنة كلُّ شيء من الجزاف الذي لا يُعْلَم كيله، ولا وزنه، ولا عدده يباع بشيء مسمًّى من الكيل، أو الوزن، أو العدد، وذلك أن يقول الرجل للرجل يكون له الطعام الْمُصْبَر الذي لا يُعلم كيله من الحنطة والتمر، وما أشبه ذلك من الأطعمة، أو يكون للرجل السلعة من الحنطة، أو النوى، أو القَضْب، أو

ص: 156

العُصْفُر، أو الكُرْسُف، أو الكتان، أو الغزل، أو ما أشبه ذلك من السِّلَع، لا يُعلَم كيلُ شيء من ذلك، ولا وزنه، ولا عدده، فيقول الرجل لرب تلك السلعة: كِلْ سلعتك، أو مُرْ من يكيلها، أو زِنْ من ذلك ما يوزن، أو اعدُد من ذلك ما يُعَدّ، فما نقص من كذا وكذا صاعًا فعليّ غُرْمُه، وما زاد على ذلك فهو لي، أضمن ما نقص من ذلك الكيل، أو الوزن، أو العدد على أن يكون لي ما زاد، فليس ذلك بيعًا، ولكنه الغرر، والمخاطرة، والقمار.

ومن ذلك أيضًا أن يقول الرجل للرجل له الثوب: أضمن لك من ثوبك هذا كذا وكذا ظِهارةَ قلنسوةٍ قدر كل ظِهارة كذا وكذا، فما نقص من ذلك فعليّ غُرْمُه، وما زاد على ذلك فهو لي، ثم ذكر أمثلة أخرى، ثم قال: فهذا كله، وما أشبهه من الأشياء من المزابنة التي لا تجوز. انتهى تفسير مالك رحمه الله مع إسقاط بعضه اختصارًا

(1)

.

وفسَّر الشافعيّ رحمه الله المزابنة بأنه بيع ما حَرُم فيه التفاضل جَزَافًا بجزاف، أو معلومًا بجزاف، أو مع التساوي، ولكن أحدهما رطب ينقص إذا جَفّ، قال: وأما إذا قال: أضمن لك صُبْرتك هذه بعشرين صاعًا، فما زاد فلي، وما نقص فعليّ تمامها، فهذا من القمار، وليس من المزابنة.

قال ابن عبد البرّ رحمه الله: وما قدّمنا عن أبي سعيد الخدريّ، وابن عمر، وجابر في تفسير المزابنة يشهد لما قاله الشافعيّ، وهو الذي تدلّ عليه الآثار المرفوعة في ذلك، قال: ويشهد لقول مالك - والله أعلم - أصل معنى المزابنة في اللغة؛ لأنه لفظ مأخوذ من الزَّبْن، وهو المقامرة والدفع، والمغالبة، وفي معنى القمار: الزيادة والنقص أيضًا، حتى قال بعض أهل اللغة: إن القمر مُشتقّ من القمار؛ لزيادته ونقصانه، فالمزابنة والقمار والمخاطرة شيء واحد، يشبه أن يكون أصل اشتقاقها واحد، تقول العرب: حَرْبٌ زَبُونٌ؛ أي: ذات دفع، وقمار، ومغالبة، قال أبو الغول الطهويّ [من الوافر]:

فَوَارِسُ لَا يَمَلُّونَ الْمَنَايَا

إِذَا دَارَتْ رَحَى الْحَرْبِ الزَّبُونِ

(1)

راجع: "الموظأ" 2/ 625 - 626.

ص: 157

وقال أوس بن حجر

(1)

[من الطويل]:

وَمُسْتَعْجِبٍ مِمَّا رَأَى مَنْ أنَاتِنَا

وَلَوْ زَبَنَتْهُ الْحَرْبُ لَمْ يَتَرَمْرمِ

(2)

3 -

(ومنها): أن فيه حجةً للجمهور على تحريم بيع الرُّطْب من الربويّ باليابس منه، ولو تساوَيا في الكيل، أو الوزن، وهذا مدلول المزابنة كما تقدم، والمعنى فيه أن الاعتبار بالتساوي حالة الكمال، ولا يلزم من مساواة الرَّطْب له في حالة الرطوبة مساواته في حالة الجفاف؛ إذ ينقص بجفافه كثيرًا، وقد ينقص قليلًا، وهذا مذهب مالك، والشافعيّ، وأحمد، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وأكثر العلماء من السلف، وجَوَّز أبو حنيفة البيع في هذه الصورة مع التساوي، واكتفى بالمساواة حالة الرطوبة، وهذا الحديث حجة عليه، وقال النوويّ: اتَّفَقَ العلماء على تحريم بيع الرُّطَب بالتمر في غير العرايا، وأنه رِبًا، وعلى تحريم بيع العنب بالزبيب، وسواء عند جمهورهم كان الرُّطَب والعنب على الشجر، أو مقطوعًا، وقال أبو حنيفة: إن كان مقطوعًا جاز بيعه بمثله من اليابس.

قال وليّ الدين: ولم أر في كتب الحنفية تقييد ذلك عن أبي حنيفة رحمه الله بالمقطوعة. انتهى

(3)

.

4 -

(ومنها): أن قوله: "كيلًا" ليس تقيدًا للنهي بهذه الحالة، فإنه متى كان جِزافًا فلا كيل، بل كان أولى بالمنع، وكانه إنما قَيَّد بذلك لأنها صورة المبايعة التي كانوا يتعاملون بها، فلا مفهوم له؛ لخروجه على سبب، أو له مفهوم، لكنه مفهوم الموافقة؛ لأن المسكوت عنه أولى بالمنع من المنطوق.

5 -

(ومنها): بيان أن معيار التمر والزبيب الكيل، وهو كذلك، قاله وليّ الدين رحمه الله

(4)

.

6 -

(ومنها): تسمية العنب كَرْمًا، وقد ورد النهي عنه، وتبيّن بهذا الحديث جوازه، وأن ذلك النهي إنما هو للأدب والتنزيه، دون المنع والتحريم، قاله وليّ الدين رحمه الله.

(1)

هكذا في "لسان العرب"، وفي "التمهيد": وقال معاوية، فليُحرّر.

(2)

أي لم يحرك شفته بالكلام.

(3)

"طرح التثريب" 6/ 134 - 135.

(4)

"طرح التثريب" 6/ 135.

ص: 158

وقال في "الفتح": فيه: جواز تسمية العِنَب كَرْمًا، وقد ورد النهي عنه، فقد أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"لا تُسمُّوا العِنَب كَرْمًا"، وفي رواية:"ويقولون: الكرم، إنما الكرم قلب المؤمن".

ويُجمَع بينهما بحمل النهي على التنزيه، ويكون ذِكره هنا؛ لبيان الجواز، وهذا كله بناء على أن تفسير المزابنة، من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعلى تقدير كونه موقوفًا، فلا حجة على الجواز، فيُحْمَل النهي على حقيقته.

7 -

(ومنها): أنه اختَلَف السلف: هل يُلحق العنب أو غيره بالرُّطَب في العرايا؟ فقيل: لا، وهو قول أهل الظاهر، واختاره بعض الشافعية، منهم المحبّ الطبري. وقيل: يُلحق العنب خاصة، وهو مشهور مذهب الشافعيّ، وقيل: يُلْحَق كل ما يُدَّخَر، وهو قول المالكية، وقيل: يُلْحَق كل ثمرة، وهو منقول عن الشافعيّ، أيضًا، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفًى.

أفاده في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم ترجيح القول بعدم إلحاق غير التمر بالتمر؛ لقوة حجته، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3887]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدثنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثنَا عُبَيْدُ الله، عَنْ نَافِعٍ؛ أَنَّ عَبْدَ اللهِ أَخْبَرَهُ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْمُزَابَنَةِ: بَيْعِ ثَمَرِ النَّخْلِ بِالتَّمْرِ

(2)

كَيْلًا، وَبَيْعِ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ كَيْلًا، وَبَيْعِ الزَّرْعِ بِالْحِنْطَةِ كَيْلًا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرِ) بن الْفَرَافصة الْعَبْديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

(1)

"الفتح" 5/ 652.

(2)

وفي نسخة: "والمزابنة بيع ثمر النخل بالتمر".

ص: 159

وقوله: (بَيْعِ ثَمَرِ النَّخْلِ بِالتَّمْرِ) بجرّ "بيعِ" بدلًا من "المزابنة"، وفي بعض النسخ:"نهى عن المزابنة، والمزابنةُ بيعُ ثمر النخل بالتمر".

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3888]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ) هو: يحيى بن زكريّاء بن أبي زائدة الْهَمْدانيّ، أبو سعيد الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 3 أو 184) وله (90) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 121.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية يحيى بن أبي زائدة، عن عبيد الله هذه ساقها أبو عوانة في "مسنده" (3/ 298) فقال:

(5052)

- حدّثنا أبو داود السِّجْزيّ، قثنا

(1)

أبو بكر بن أبي شيبة، قثنا يحيى بن أبي زائدة، قثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن بيع الثمر بالتمر كيلًا، وعن بيع العنب بالزبيب كيلًا، وعن بيع الزرع بالحنطة كيلًا. انتهى.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب فال:

[3889]

(

) - (حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَحُسَيْنُ بْنُ عِيسَى، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُزَابَنَةِ، وَالْمُزَابَنَةُ بَيْعُ ثَمَرِ النَّخَلِ بِالتَّمْرِ كَيْلًا، وَبَيْعُ الزَّبِيبِ بِالْعِنَبِ

(2)

كَيْلًا، وَعَنْ كُلِّ ثَمَرٍ بِخَرْصِهِ).

(1)

قوله: "قتنا" في ثلاثة مواضع مختصر من "قال: حدّثنا"، فتنبّه.

(2)

وفي نسخة: "وبيع العنب بالزبيب".

ص: 160

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ مَعِينِ) بن عون الْغَطَفانيّ مولاهم، أبو زكرياء البغداديّ، ثقةٌ حافظ مشهورٌ، إمام الجرح والتعديل [10](ت 233) بالمدينة، وله بضع وسبعون سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 94.

2 -

(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن مروان الحمّال، أبو موسى البغداديّ البزاز، ثقةٌ [10](ت 243) وقد ناهز الثمانين (م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.

3 -

(حُسَيْنُ بْنُ عِيسَى) بن حُمران الطائيّ، أبو عليّ الْبِسطاميّ الْقُومَسيّ الدامغانيّ، سكن نيسابور، ومات بها، ثقةٌ

(1)

، صاحب حديث [10].

رَوَى عن ابن عيينة، وابن أبي فُديك، وأبي قتيبة، وأبي أسامة، وعبد الصمد بن عبد الوارث، وجعفر بن عون، وطبقتهم.

وروى عنه الجماعة، إلا الترمذيّ، وابن ماجه، وأبو العباس الأزهريّ، والحسين بن محمد القَبَّانيّ، وأبو حاتم، ويحيى الذُّهْليّ، وابن خزيمة، وغيرهم.

قال أبو حاتم: صدوق، وقال الحاكم: كان من كبار المحدثين، وثقاتهم، من أئمة أصحاب العربية، وقال النسائيّ في "الكنى"، وفي "أسماء شيوخه": ثقةٌ، وكذا قال الدارقطنيّ، وقال الإدريسيّ: وكان عالِمًا فاضلًا كثير الحديث.

وقال البخاريّ: مات سنة (247)، وكذا قال ابن حبان في "الثقات".

أخرج له البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

4 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمَّاد بن أسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201) وهو ابن ثمانين سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

والباقون ذُكروا قبله.

(1)

قال في "التقريب": صدوق. انتهى. والأَولى ما ذكرته، كما يظهر من ترجمته بعدُ، فتأمل.

ص: 161

وقوله: (وَعَنْ كُلِّ ثَمَرٍ بِخَرْصِهِ) بفتح الخاء المعجمة، وكسرها، كما مرّ توجيهه؛ أي: ونهى عن بيع كلّ ثمر بقدره من جنسه.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه قبل حديثين.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3890]

(

) - (حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، وَزُهَيْرُ بنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ - عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْمُزَابَنَة، وَالْمُزَابَنَةُ أَنْ يُبَاعَ مَا فِي رُءُوسِ النَّخْلِ بِتَمْرٍ بِكَيْلٍ مُسَمًّى، إِنْ زَادَ فَلِي، وَإِنْ نَقَصَ فَعَلَيَّ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم تقدّموا في البابين الماضيين، و "إسماعيل بن إبراهيم" هو: ابن عُليّة، و "أيوب" هو: السَّخْتيانيّ.

وقوله: (وَالْمُزَابَنَةُ أَنْ يُبَاعَ)"أن" مصدريّة، والمصدر المؤوّل خبر "المزابنةُ".

وقوله: (مَا فِي رُءُوسِ النَّخْلِ) أي: من الثمار، و"في" هنا بمعنى "على"، كما قوله تعالى:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71].

وقوله: (بِتَمْرٍ) متعلّقٌ بـ "يُباع"، والباء للمقابلة.

وقوله: (بِكَيْلٍ مُسَمًّى) أي: بكيل معيّن، وهو بدل من الجارّ والمجرور قبله بإعادة الجارّ.

وقوله: (إِنْ زَادَ فَلِي

إلخ) حال من نائب فاعل "يباع" بتقدير القول؛ أي: ببيعه قائلًا: إن زاد التمر المخروص على ما يساوي الكيل فهو لي، وإن نقص فعليّ بتشديد الياء؛ أي: عليّ غُرْمه لك.

وحاصل المعنى: أن البائع يقول للمشتري: إن زاد ما في رؤوس النخل في الكيل على التمر، فالزائد لي، وإن نقص عنه، فالخسارة عليّ.

قال في "الفتح": وهذا أصل المزابنة، وألحق الشافعيّ بذلك كل بيع مجهول بمجهول، أو بمعلوم من جنس يجري الربا في نقده، قال: وأما من

ص: 162

قال: أَضْمَنُ لك صبرتك هذه، بعشرين صاعًا مثلًا، فما زاد فلي، وما نقص فعليّ، فهو من القمار، وليس من المزابنة.

لكن فيه نظر؛ لأن هذا التفسير، قد سمّاه في هذا الحديث مزابنة.

قال الحافظ: فثبت أن من صور المزابنة أيضًا، هذه الصورة من القمار، ولا يلزم من كونها قمارًا، أن لا تسمى مزابنة.

ومن صور المزابنة أيضًا بيع الزرع بالحنطة كيلًا، كما رواه مسلم هنا.

وقال مالك: المزابنة كلُّ شيء من الجزاف، لا يُعلم كيله، ولا وزنه، ولا عدده، إذا بيع بشيء مسمى من الكيل وغيره، سواء كان من جنس يجري الربا في نقده أم لا، وسبب النهي عنه، ما يدخله من القمار والغرر، قال ابن عبد البر: نظر مالك إلى معنى المزابنة لغة، وهي المدافعة، ويدخل فيها القمار، والمخاطرة.

وفسَّر بعضهم المزابنة، بأنها بيع الثمر قبل بدو صلاحه، وهو خطأ، فالمغايرة بينهما ظاهرة، من أول حديث ابن عمر عند البخاريّ بلفظ:"لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه، ولا تبيعوا الثمر بالتمر"، فقد غاير بينهما.

وقيل: هي المزارعة على الجزء، وقيل غير ذلك، والذي تدل عليه الأحاديث في تفسيرها أولى.

والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3891]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو الرَّبِيع، وَأَبُو كَامِلٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلّهم تقدّموا في الباب الماضي، و"أبو الربيع" هو: سليمان بن داود الْعَتَكيّ، و"أبو كامل" هو: فُضيل بن حسين الْجَحْدريّ، و"حمّاد" هو: ابن زيد، و"أيوب" هو: السَّخْتيانيّ.

[تنبيه]: رواية حمّاد بن زيد، عن أيوب هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

ص: 163

(2064)

- حدّثنا أبو النعمان، حدّثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن المزابنة، قال: والمزابنة أن يبيع الثمر بكيل، إن زاد فلي، وإن نقص فعليّ.

قال

(1)

: وحدّثني زيد بن ثابت؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رَخَّص في العرايا بخرصها. انتهى، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3892]

(

) - (حَدَّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَني مُحَمَّدُ ابْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُزَابَنَةِ: أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَ حَائِطِهِ إِنْ كَانَتْ نَخْلًا بِتَمْرٍ كيْلًا، وَإِنْ كَانَ كَرْمًا أَنْ يَبِيعَهُ بِزَبِيبٍ كيْلًا، وَإِنْ كَانَ زَرْعًا أَنْ يَبِيعَهُ بِكَيْلِ طَعَامٍ، نَهَى عَنْ ذَلِكَ كُلِّه، وَفِي رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ: أَوْ كَانَ زَرْعًا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهم ذُكروا في الباب وقبله، وهو من رباعيّات المصنف رحمه الله، وهو (257) من رباعيَّات الكتاب، و"عبد الله" هو ابن عمر رضي الله عنهما.

وقوله: (أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَ حَائِطِهِ) في تأويل المصدر بدل من "المزابنة"، والحائط هنا معناه: البستان، ويُجمع على حوائط، وأما الحائط بمعنى الجدار، فيُجمع على حِيطان، أفاده الفيّوميّ

(2)

.

وقوله: (وَإِنْ كَانَ زَرْعًا أَنْ يَبِيعَهُ بِكَيْلِ طَعَامٍ) المراد إذا كان من جنسه، وإلا فلا منع، قال ابن بطال رحمه الله

(3)

: أجمع العلماء على أنه لا يجوز بيع الزرع قبل أن يُقْطَع بالطعام؛ لأنه بيع مجهول بمعلوم، وأما بيع رَطْب ذلك بيابسه بعد القطع، وإمكان المماثلة فالجمهور لا يجيزون بيع شيء من ذلك بجنسه، لا متفاضلًا، ولا متماثلًا. انتهى، وقد تقدم البحث في ذلك مستوفًى.

واحتَجَّ الطحاويّ لأبي حنيفة في جواز بيع الزرع الرَّطْب بالحبّ اليابس

(1)

القائل هو ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 154.

(3)

راجع: "شرح ابن بطال على البخاريّ" 6/ 326.

ص: 164

بأنهم أجمعوا على جواز بيع الرُّطَب بالرُّطَب مِثلًا بمثل، مع أن رطوبة أحدهما ليست كرطوبة الآخر، بل تختلف اختلافًا متباينًا.

وتُعُقّب بأنه قياس في مقابلة النصّ فهو فاسدٌ، وبأن الرُّطَب بالرُّطَب وإن تفاوت، لكنه نقصان يسير، فعُفِي عنه؛ لقلّته، بخلاف الرُّطَب بالتمر، فإن تفاوته تفاوت كثير، قاله في "الفتح".

والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3893]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو الطَّاهِر، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدثَنِي يُونُسُ (ح) وَحَدَّثَنَاهُ ابْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، أَخْبَرَنِي الضَّحَّاكُ (ح) وَحَدَّثَنِيهِ سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَ حَدِيثِهِمْ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

وكلّهم تقدّموا في البابين الماضيين، و"أبو الطاهر" هو: أحمد بن عمرو بن السَّرْح، و"ابن وهب" هو: عبد الله، و"يونس" هو: ابن يزيد الأيليّ، و"ابن رافع" هو: محمد، و"ابن أبي فُديك" هو: محمد بن إسماعيل بن مسلم، و"الضحّاك" هو: ابن عثمان الحِزاميّ، و"سُويد بن سعيد" هو: الْحَدَثانيّ، و"حفص بن ميسرة" هو: الْعُقيليّ.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ) ضمير الجماعة يعود إلى يونس، والضحّاك، وموسى بن عقبة.

وقوله: (نَحْوَ حَدِيثِهِمْ) ضمير الجماعة هنا يعود إلى مالك، وعُبيد الله، وأيوب، والليث بن سعد.

[تنبيه]: لم أجد من ساق روايات هؤلاء الثلاثة: يونس، والضحّاك، وموسى بن عُقبة، ثلاثتهم عن نافع، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 165

(16) - (بَابُ مَنْ بَاعَ نَخْلًا عَلَيْهَا ثَمَرٌ)

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3894]

(1543) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ، فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِع، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وقد تقدّم بنضه في الباب الماضي، وهو من رباعيّات المصنف رحمه الله، وهو (258) من رباعيّات الكتاب.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ بَاعَ نَخْلًا) أي: باع أصل النخل، دون ذكر الثمر، و "النخل": اسم جنس يُذكّر ويؤنّث، والجمع: نَخِيلٌ (قَدْ أُبِّرَتْ) بالبناء للمفعول، من التأبير، وهو التلقيح، يقال: أَبَرْتُ النخل آبُرُه أَبْرًا، بوزن أكلت الشيء آكله أكلًا، ويقال: أَبَّرْتُهُ بالتشديد أُؤَبِّره تأبيرًا، بوزن عَلَّمتُهُ أُعَلِّمه تعليمًا، والتأبير: التشقيق، والتلقيح، ومعناه: شَقُّ طلع النخلة الأنثى، ليُذَرّ فيه شيء من طلع النخلة الذكر، والحكم مستمرّ بمجرد التشقيق، ولو لم يَضَعْ فيه شيئًا، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: أَبَرْتُ النخلَ أَبْرًا، من بابي ضَرَبَ وقَتَلَ: لَقَّحته، وأَبَّرته تأبيرًا مبالغة وتكثيرٌ، والأبُورُ وزانُ رَسُول: ما يؤبّر به، والإبارُ وزانُ كتاب: النخلة التي يُؤبَّرُ بطلعها، وقيل: الإبار أيضًا مصدرٌ؛ كالقيام، والصيام، وتأبّر النخلُ: قَبِلَ أن يؤبّر، قال أبو حنيفة السِّجِستانيّ في "كتاب النخلة": إذا انشقّ الكافور قيل: شَقَّقَ النخلُ، وهو حين يؤبّر بالذَّكر، فيؤتى بشماريخه، فتُنفَضُ، فيطير غبارها، وهو طحين شَماريخ الْفُحَّالِ إلى شماريخ الأنثى، وذلك

(1)

"الفتح" 5/ 680.

ص: 166

هو التلقيح. انتهى

(1)

.

وقال ابن قُدامة رحمه الله أصل الإِبَار عند أهل العلم: التلقيح، قال ابن عبد البرّ: إلا أنه لا يكون حتى يتشقق الطلع، وتظهر الثمرة، فعُبِّر به عن ظهور الثمرة؛ للزومه منه، والحكم متعلق بالظهور، دون نفس التلقيح، بغير اختلاف بين العلماء، يقال: أَبَرْتُ النخلة بالتخفيف، والتشديد، فهي مُؤَبَّرة، ومأبورة، ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"خير المال سِكَّة مأبورة"

(2)

، والسكة: النخل المصفوف، وأَبَرت النخلة آبُرها أَبْرًا، وإِبارًا، وأَبَّرتها تأبيرًا، وتأبرت النخلةُ، وائتبرت، ومنه قول الشاعر [من الرجز]:

تَأَبَّرِي يَا خَيْرَةَ الْفَسِيلِ

إِذْ ضَنَّ أَهْلُ النَّخْلِ بِالْفُحُولِ

يقول: تلقّحي من غير تأبير.

وفسّر الخرقي المؤبَّر بما قد تشقق طلعه؛ لتعلق الحكم بذلك، دون نفس التأبير، قال القاضي: وقد يشقه الصَّعَّاد، فيظهر، وأيهما كان، فهو التأبير المراد ها هنا. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله بزيادة من "اللسان"

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: إِبَارُ النخل، وتأبيره: تلقيحه، وتذكيره، وهو: أن يجعل في النخلة فَحَّالة، وعند ذلك يثبت ثمرها بإذن الله تعالى، يقال: أَبَرْتُ النخلة، آبِرها بكسر الباء وضمها، فهي مأبورة. ومنه قولهم:"خير المال مهرة مأمورة، وسكَّة مأبورة"

(4)

.

ويقال: أَبَّرت النخلة - مشدَّدًا - تأبيرًا، وهي مؤبَّرة، كقوَّمت الشيء تقويمًا، وهو مقوَّم، ويقال: تأبَّر الفسيل: إذا قبل الإِبَار، قال الراجز:

تَأَبَّرِي يا خَيْرَةَ الفَسِيل

إِذْ ضَنَّ أهلُ النَّخل بالفُحُول

(1)

"المصباح المنير" 1/ 1.

(2)

أخرجه الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"(3/ 468)، والطبرانيّ في "المعجم الكبير"(7/ 107)، وهو حديث ضعيف، راجع:"ضعيف الجامع الصغير" للشيخ الألبانيّ رحمه الله (ص 429) رقم (2926).

(3)

راجع: "المغني" 6/ 130، و"لسان العرب" 4/ 3 - 4.

(4)

تقدّم أنه حديث ضعيف.

ص: 167

ويقال: ائتبرتُ؛ إذا سألت غيرك أن يأبُرَ لك نخلك، أو زرعك، قال الشاعر [من الرمل]:

وَليَ الأصل الذي في مثله

يُصلِح الآبِرُ زَرْعَ المؤتَبر

هذا إِبَار ثمر النخل، وإبارُ كل ثمر بحسب ما جرت العادة بإنه إذا فُعل به ثبت ثمره، وانعقد، ثم قد يعبَّر به عن ظهور الثمرة وعن انعقادها، وإن لم يُفْعَل فيها شيء، ومن هنا اختلف أصحابنا في إبار الزرع، هل هو ظهوره على الأرض، أو إفراكه؟

(1)

. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

.

(فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ) الذي أبرها، قال في "الفتح": قد استُدِلّ بمنطوقه، على أن من باع نخلًا، وعليها ثمرة مؤبرة، لم تدخل الثمرة في البيع، بل تستمرّ على ملك البائع، وبمفهومه على أنها، إذا كانت غير مؤبَّرة، تدخل في البيع، وتكون للمشتري، وبذلك قال جمهور العلماء، وخالفهم الأوزاعيّ، وأبو حنيفة، فقالا: تكون للبائع قبل التأبير وبعده، وعكس ابن أبي ليلى، فقال: تكون للمشتري مطلقًا، وهذا كله عند إطلاق بيع النخل، من غير تعرّض للثمرة، فإن شرطها المشتري، بأن قال: اشتريت النخل بثمرتها، كانت للمشتري، وإن شرطها البائع لنفسه قبل التأبير، كانت له، وخالف مالك، فقال: لا يجوز شرطها للبائع.

فالحاصل أنه يستفاد من منطوقه حكمان، ومن مفهومه حكمان:

أحدهما: بمفهوم الشرط، والآخر بمفهوم الاستثناء.

[تنبيه]: لا يشترط في التأبير أن يؤبّره أحدٌ، بل لو تأبر بنفسه لم يختلف الحكم، عند جميع القائلين به. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله بعد ذكر معنى التأبير، ما نصّه: وإذا تقرَّر هذا فظاهر هذا الحديث يقتضي بلفظه: أن الثمرة المأبورة لا تدخل مع أصولها إذا بيعت الأصول إلا بالشرط، ويقتضي دليل خطابه: أن غير المأبورة داخلة في البيع، وهو مذهب مالك، والشافعيّ، والليث، وذهب أبو حنيفة: إلى أن الثمرة للبائع

(1)

أي اشتداده وقوّته.

(2)

"المفهم" 4/ 397 - 398.

(3)

5/ 682.

ص: 168

قبل الإبار وبعده، وقال ابن أبي ليلى: الثمرة للمشتري قبل الإبار وبعده، وهذا القول مخالف للنص الصحيح، فلا يلتفت إليه، وأما أبو حنيفة فالخلاف معه مبنيّ على القول بدليل الخطاب، فهو ينفيه، وخصمه يثبته، والقول بدليل الخطاب في مثل هذا ظاهر؛ لأنه لو كان حكم غير المؤبَّر حكم المؤبَّر لكان تقييده بالشرط لغوًا لا فائدة له، فإن قيل: فائدته التنبيه بالأعلى على الأدنى، قيل له: ليس هذا بصحيح لغة ولا عرفًا، ومن جعل هذا بمنزلة قوله تعالى:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]، تعيّن أن يقال لفهمه: أُفّ، وتُفّ. انتهى

(1)

.

(إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ") المراد بالمبتاع المشتري، بقرينة الإشارة إلى البائع، بقوله:"من ابتاع"، وقد استُدِلّ بهذا الإطلاق، على أنه يصح اشتراط بعض الثمرة، كما يصح اشتراط جميعها، وكأنه قال: إلا أن يشترط المبتاع شيئًا من ذلك، وهذه هي النكتة في حذف المفعول، وانفرد ابن القاسم، فقال: لا يجوز له شرط بعضها، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "إلا أن يشترطه المبتاع" يعني أن الثمر المؤبَّر لا يدخل مع الأصول في البيع إلا بالشرط، وصحَّ اشتراطه؛ لأنه عينٌ موجودة، يحاط بها، أُمِن سقوطها غالبًا، بخلاف التي لم - تؤبَّر، إذ ليس سقوطها مأمونًا، فلم يتحقق لها وجود، فلا يجوز للبائع اشتراطها، ولا استثناؤها، لأنها كالجنين. هذا هو المشهور عندنا - يعني المالكيّة - وقيل: يجوز استثناؤها، وهو قول الشافعيّ، وخُرِّج هذا الخلاف على الخلاف في المسمى، هل هو مبقى على ملك البائع، أو هو مشترى من المشتري؟

[فرع]: لو اشترى النخل وبقي الثمر للبائع؛ جاز لمشتري الأصل شراء الثمرة. قبل طيبها على مشهور قول مالك. ويرى لها حكم التبعية؛ وإن أفردت بالعقد لضرورة تخليص الرقاب. وعنه في رواية: أنه لا يجوز. وبذلك قال الشافعيّ، والثوريّ، وأهل الظاهر، وفقهاء الحديث، وهذا هو الأظهر من أحاديث النهي عن بيع الثمار قبل بدوِّ صلاحها. انتهى كلام

(1)

"المفهم" 4/ 397 - 398.

(2)

"الفتح" 5/ 682.

ص: 169

القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

[تنبيه]: اختُلف في إسناد هذا الحديث على نافع، وسالم، قال الحافظ العراقيّ رحمه الله في "التقريب": عن نافع، عن ابن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من باع نخلًا، قد أُبّرت، فثمرتها للبائع، إلا أن يشترط المبتاع".

وعن سالم، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من باع عبدًا، وله مالٌ، فماله للبائع، إلا أن يشترط المبتاع، ومن باع نخلًا مؤبّرًا، فالثمرة للبائع، إلا أن يشترط المبتاع".

قال البيهقيّ: "هكذا رواه سالم، وخالفه نافع، فروى قصّة النخل عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقصّة العبد عن ابن عمر، عن عمر، قال مسلم، والنسائيّ، والدارقطنيّ: القول ما قال نافعٌ، وإن كان سالِمٌ أحفظ منه، وذكر الترمذيّ عن البخاريّ أن حديث سالم أصحّ، وذكر في "العلل" أنه سأل البخاريّ عنه؟ فكانه رأى الحديثين صحيحين، وأنه يُحتَمل عنهما جميعًا، ورواه النسائيّ من رواية نافع، ورفع القصّتين، ورواه أيضًا من رواية نافع، وسالم، عن ابن عمر، عن عمر، مرفوعًا بالقصّتين". انتهى.

قال وليّ الدين رحمه الله في "شرحه": أخرجه من الطريق الأولى الأئمّة الستّة، خلا الترمذيّ من هذا الوجه من طريق مالك، وأخرجه من الطريق الثانية الأئمة الستة، فرواه من هذا الوجه: مسلم، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، من طريق سفيان بن عيينة، وأخرجه الشيخان، والترمذيّ، وابن ماجه من حديث الليث بن سعد، وأخرجه مسلم فقط من رواية يونس بن يزيد، والنسائيّ، من رواية معمر، أربعتهم عن الزهريّ، عن سالم، عن أبيه.

(واعلم): أن قصّة العبد رواها نافع، عن ابن عمر، عن عمر من قوله،

(1)

"المفهم" 4/ 399.

ص: 170

كذا رَوَى عنه مالك في "الموطإ"، ومن طريقه أبو داود في "سننه".

قال ابن عبد البرّ: وهذا أحد الأربعة التي اختَلَف فيها سالمٌ ونافع عن ابن عمر.

وقال البيهقيّ: هكذا رواه سالم، وخالفه نافع، فروى قصّة النخل، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقصّة العبد عن ابن عمر، عن عمر، ثم رواه من طريق مالك كذلك، قال: وكذلك رواه أيوب السختيانيّ وغيره عن نافع. انتهى.

واختلف الأئمة في الأرجح من روايتي نافع وسالم على أقوال:

[أحدها]: ترجيح رواية نافع، روى البيهقيّ في "سننه" عن مسلم، والنسائيّ أنهما سُئلا عن اختلاف سالم ونافع في قصّة العبد؟ فقالا: القول ما قال نافع، وإن كان سالم أحفظ منه. وقال النوويّ في "شرح مسلم": أشار النسائيّ، والدارقطنيّ إلى ترجيح رواية نافع، وهذه إشارة مردودة.

[القول الثاني]: ترجيح رواية سالم، قال الترمذيّ في "جامعه": قال محمد بن إسماعيل: وحديث الزهريّ، عن سالم، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحّ، قال الحافظ العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذيّ": وسبقه إليه شيخه عليّ بن المدينيّ.

وقال ابن عبد البرّ في "التمهيد": إنه الصواب، فإنه كذلك رواه عبد الله بن دينار، عن ابن عمر برفع القصّتين معًا، وهذا مرجّح لرواية سالم.

[القول الثالث]: تصحيحهما معًا، قال الترمذيّ في "العلل": سألت محمدًا عن هذا الحديث، وقلت له: حديث الزهريّ، عن سالم، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من باع عبدًا"، وقال نافع، عن ابن عمر، عن عمر، أيّهما أصحّ؟ قال: إن نافعًا خالف سالمًا في أحاديث، وهذا من تلك الأحاديث، روى سالم، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال نافع، عن ابن عمر، عن عمر، كأنه رأى الحديثين صحيحين، وأنه يَحْتَمِل عنهما جميعًا.

قال العراقيّ في "شرح الترمذيّ": وليس بين ما نقله عنه في "الجامع"، وما نقله عنه في "العلل" اختلافٌ، فحكمه على الحديثين بالصحّة، لا ينافي حكمه في "الجامع" بأن حديث سالم أصحّ، بل صيغة "أفعل" تقتضي اشتراكهما في الصحّة.

ص: 171

قال وليّ الدين: المفهوم من كلام المحدّثين في مثل هذا، والمعروف من اصطلاحهم فيه أن المراد ترجيح الرواية التي قالوا: إنها أصحّ، والحكم للراجح، فتكون تلك الرواية شاذّة ضعيفة، والمرجّحة هي الصحيحة، وحينئذ فبين النقلين تناف، لكن المعتمد ما في "الجامع"؛ لأنه مقول بالجزم واليقين، بخلاف ما في "العلل"، فإنه على سبيل الظنّ والاحتمال، والله أعلم.

على أن ما في "العلل" هو الذي يمشي على طريقة الفقهاء؛ لعدم المنافاة، بأن يكون ابن عمر سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن أبيه، فرفعه تارةً، وسمعه كذلك سالمٌ، ووقفه تارة، وسمعه كذلك نافع.

وقال النوويّ في "شرح مسلم": لم تقع هذه الزيادة، - يعني قصّة العبد - في حديث نافع، عن ابن عمر، ولا يضرّ ذلك، فسالم ثقة، بل هو أجلّ من نافع، فزيادته مقبولة. انتهى.

قال وليّ الدين: وما ذكرته عن سالم، ونافع هو المشهور عنهما، ورُوي عن نافع رفع القصّتين، رواه النسائيّ - أي في "العتق، والشروط من الكبرى" - من رواية شعبة، عن عبد ربّه بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر، فذكر القصّتين، مرفوعتين، قال شعبة: فحدّثه بحديث أيوب، عن نافع، أنه حدّثني بالنخل، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، والمملوك عن عمر، فقال عبد ربّه: لا أعلمهما جميعًا، إلا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم قال مرّةً أخرى: فحدّث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يشكّ.

ورواه ابن ماجه من رواية شعبة أيضًا مختصرًا: "من باع نخلًا، ومن باع عبدًا"، جميعًا، ولم يذكر قصّة أيوب.

ورواه النسائيّ أيضًا - أي: في "العتق، والشروط من الكبرى" - من رواية محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، مرفوعًا بالقصّتين، وقال: هذا خطأ، والصواب حديث ليث بن سعد، وعبيد الله، وأيوب: أي: عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر بقصّة العبد خاصّة موقوفةً.

ورواه النسائيّ أيضًا من رواية سفيان بن حسين، عن الزهريّ، عن سالم، عن أبيه، عن عمر بالقصّتين، مرفوعًا، قال أبو الحجّاج المزيّ رحمه الله: المحفوظ

ص: 172

أنه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح": واختُلِف على نافع وسالم، في رفع ما عدا النخل، فرواه الزهري، عن سالم، عن أبيه، مرفوعًا في قصة النخل والعبد معًا، هكذا أخرجه الحفاظ عن الزهريّ، وخالفهم سفيان بن حسين، فزاد فيه ابن عمر، عن عمر، مرفوعًا لجميع الأحاديث، أخرجه النسائي - أي: في "العتق من الكبرى" -، وروى مالك، والليث، وأيوب، وعبيد الله بن عمر، وغيرهم، عن نافع، عن ابن عمر قصة النخل، وعن ابن عمر، عن عمر قصة العبد موقوفة، كذلك أخرجه أبو داود، من طريق مالك بالإسنادين معًا.

وجزم مسلم، والنسائيّ، والدارقطنيّ، بترجيح رواية نافع المفصّلة، على رواية سالم، ومال عليّ بن المدينيّ، والبخاريّ، وابن عبد البر، إلى ترجيح رواية سالم.

ورُوي عن نافع رفع القصتين، أخرجه النسائيّ - أي: في "العتق من الكبرى" - من طريق عبد ربه بن سعيد، عنه، وهو وَهَم، وقد رَوَى عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن نافع، قال: ما هو إلا عن عمر شأن العبد، وهذا لا يدفع قول من صحح الطريقين، وجوّز أن يكون الحديث عند نافع، عن ابن عمر على الوجهين. انتهى المقصود من "الفتح"

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد ذكرت الأحاديث الأربعة التي اختلف سالم، ونافع في رفعها ووقفها، في "ألفيّة العلل" حيث قلت:

أَشْهَرُ مَنْ رَوَى عَنِ ابْنِ عُمَرِ

ابْنُهُ سَالِمٌ وَنَافِعٌ دُرِي

وَاخْتَلَفَا فِي عَدَدٍ مِنَ الْخَبَرْ

فِي الرَّفْعِ وَالْوَقَفِ أَحَارَ مَنْ نَظَرْ

سُئِلَ أَحْمَدُ فَلَمْ يَقْضِ بِشَيْ

كَذَاكَ عَنْ يَحْيَى أَتَاكَ يَا أُخَيْ

وَمَالَ أَحْمَدُ لِوَقْفِ نَافِعِ

"فِيمَا سَقَتْ""مَنْ بَاعَ عَبْدًا" فَاسْمَعِ

وَالنَّسَئِيْ وَالدَّارَقُطْنِيْ رَجَّحَا

وَقْفَهُ فِي ثَلَاثَةٍ وَأَفْصَحَا

"فِيمَا سَقَتْ""مَنْ بَاعَ" ثُمَّ "تَخْرُجُ"

مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ نَارٌ تُزْعِجُ

وَبَعْضُهُمْ زَادَ حَدِيثَ "النَّاسُ

كَإِبِلٍ مِائَهْ" فَذَا مِقْيَاسُ

(1)

"طرح التثريب" 6/ 116 - 119.

(2)

"الفتح" 5/ 681.

ص: 173

وَبَعْضُهُمْ رَجَحَ قَوْلَ سَالِمِ

فِي رَفْعِهَا فَاحْفَظْهُ حِفْظَ فَاهِمِ

والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [16/ 3894 و 3895 و 3896 و 3897 و 3898 و 3899 و 3900](1543)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2204) و"المساقاة"(2379)، و (أبو داود) في "البيوع"(3433)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1244)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 297) و"الكبرى"(3/ 190 و 4/ 44)، و (ابن ماجه) في "التجارات"(2210)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 617 و 629)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 142)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(8/ 135 و 136)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 6 و 63 و 150)، و (الدارميّ) في "سننه"(2448)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 301 و 302 و 303)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 299)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 308 و 365 و 10/ 172)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 297 و 324 و 326) و "الصغرى"(5/ 84) و"المعرفة"(4/ 317)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيانُ أن من باع نخلًا قد أُئرت، فثمرتها له، إذا لم يشترط المشتري، وإلا فهي له.

2 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن المؤبَّر، يخالف في الحكم غير المؤبَّر، وقال الشافعية: لو باع نخلة، بعضها مؤئر، وبعضها غير مؤبّر، فالجميع للبائع، وإن باع نخلتين فكذلك يشترط اتحاد الصفقة، فإن أفرد فلكل حكمه، ويشترط كونهما في بستان واحد، فإن تعدد فلكل حكمه، ونصّ أحمد على أن الذي يؤبَّر للبائع، والذي لا يؤبر للمشتري، وجعل المالكية الحكم للأغلب.

3 -

(ومنها): جواز التأبير، وقد أخرج مسلم في "صحيحه" من طريق موسى بن طلحة، عن أبيه، قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم، على رءوس النخل، فقال:"ما يصنع هؤلاء؟ "، فقالوا: يُلَقِّحُونه، يجعلون الذَّكَرَ في الأنثى، فيلقح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما أظن يغني ذلك شيئًا"، قال: فأُخبروا

ص: 174

بذلك، فتركوه، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئًا، فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل".

وأخرج من طريق حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، وعن ثابت، عن أنس؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، مَرَّ بقوم، يُلَقِّحُون، فقال:"لو لم تفعلوا لصلح"، قال: فخرج شِيصًا، فمر بهم، فقال:"ما لنخلكم؟ "، قالوا: قلت: كذا وكذا، قال:"أنتم أعلم بأمر دنياكم".

4 -

(ومنها): أن الحكم المذكور مختص بإناث النخل، دون ذكره، وأما ذكوره فللبائع نظرًا إلى المعنى، ومن الشافعية من أخذ بظاهر التأبير، فلم يفرّق بين أنثى وذكر.

واختلفوا فيما لو باع نخلة، وبقيت ثمرتها له، ثم خرج طلع آخر من تلك النخلة، فقال ابن أبي هريرة: هو للمشتري؛ لأنه ليس للبائع، إلا ما وُجد دون ما لم يوجد، وقال الجمهور: هو للبائع؛ لكونه من ثمره المؤبرة دون غيرها.

5 -

(ومنها): أنه يستفاد منه أن الشرط الذي لا ينافي مقتضى العقد، لا يفسد البيع، فلا يدخل في النهي عن بيع وشرط.

6 -

(ومنها): أن الطحاويّ استَدَلَّ بهذا الحديث على جواز بيع الثمرة قبل بُدُوِّ صلاحها، واحتجّ به لمذهبه الذي حكيناه في ذلك، وقد تعقبه البيهقيّ وغيره، بأنه يَستَدِلُّ بالشيء في غير ما ورد فيه، حتى إذا جاء ما ورد فيه، استَدَلّ بغيره عليه كذلك، فيُستدلّ لجواز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بحديث التأبير، ولا يَعمَل بحديث التأبير، بل لا فرق عنده كما تقدم في البيع قبل التأبير وبعده، فإن الثمرة في ذلك للمشتري، سواء شَرَطها البائع لنفسه، أو لم يشترطها، والجمع بين حديث التأبير، وحديث النهي عن بيع الثمرة قبل بُدُوّ الصلاح سهل، بأن الثمرة في بيع النخل تابعة للنخل، وفي حديث النهي مستقلة، وهذا واضح جدًّا، ذكره في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"الفتح" 5/ 682 - 683.

ص: 175

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم فيمن باع نخلًا عليها ثمر:

قال ابن قُدامة رحمه الله: في هذه المسألة فصول ثلاثة:

[الأول]: أن البيع متى وقع على نخل مثمر، ولم يشترط الثمرة، وكانت الثمرة مؤبرة، فهي للبائع، وإن كانت غير مؤبرة، فهي للمشتري، وبهذا قال مالك، والليث، والشافعي. وقال ابن أبي ليلى: هي للمشتري في الحالين؛ لأنها متصلة بالأصل اتصال خلقة، فكانت تابعة له، كالأغصان، وقال أبو حنيفة، والأوزاعيّ: هي للبائع في الحالين؛ لأن هذا نماء له حَدٌّ، فلم يتبع أصله في البيع؛ كالزرع في الأرض.

واحتجّ الأولون بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "من ابتاع نخلًا بعد أن تؤبر، فثمرتها للذي باعها، إلا أن يشترط المبتاع"، متفق عليه، وهذا صريح في رَدّ قول ابن أبي ليلى، وحجة على أبي حنيفة، والأوزاعيّ، بمفهومه؛ لأنه جعل التأبير حدًّا لملك البائع للثمرة، فيكون ما قبله للمشتري، وإلا لم يكن حدًّا، ولا كان ذكر التأبير مفيدًا، ولأنه نماء كامن لظهوره غاية، فكان تابعًا لأصله قبل ظهوره، وغير تابع له بعد ظهوره؛ كالحمل في الحيوان، فأما الأغصان، فإنها تدخل في اسم النخل، وليس لانفصالها غاية، والزرع ليس من نماء الأرض، وإنما هو مُودَعٌ فيها.

[الثاني]: أنه متى اشترطها أحد المتبايعين، فهي له مُؤَبَّرة كانت، أو غير مؤبرة، البائع فيه والمشتري سواء، وقال مالك: إن اشترطها المشتري بعد التأبير جاز؛ لأنه بمنزلة شرائها مع أصلها، وإن اشترطها البائع قبل التأبير لم يجز؛ لأن اشتراطه لها بمنزلة شرائه لها قبل بُدُوّ صلاحها بشرط تركها.

قال: ولنا أنه استثنى بعض ما وقع عليه العقد، وهو معلوم، فصح كما لو باع حائطًا، واستثنى نخلة بعينها، ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"نَهَى عن الثنيا، إلا أن تُعلَم"، ولأنه أحد المتبايعين، فصحّ اشتراطه للثمرة كالمشتري، وقد ثبت الأصل بالاتفاق عليه، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"إلا أن يشترطها المبتاع"، ولو اشترط أحدهما جزءًا من الثمرة معلومًا، كان ذلك كاشتراط جميعها في الجواز، في قول جمهور الققهاء، وقول أشهب من أصحاب مالك. وقال ابن القاسم: لا يجوز اشتراط بعضها؛ لأن الخبر إنما ورد باشتراط جميعها.

ص: 176

قال: ولنا أن ما جاز اشتراط جميعه، جاز اشتراط بعضه، كمدة الخيار، وكذلك القول في ما إذا اشترط بعضه.

[الثالث]: أن الثمرة إذا بقيت للبائع، فله تركها في الشجر، إلى أوان الجذاذ، سواء استحقها بشرطه، أو بظهورها، وبه قال مالك، والشافعيّ، وقال أبو حنيفة: يلزمه قطعها، وتفريغ النخل منها؛ لأنه مبيع مشغول بملك البائع، فلزم نقله، وتفريغه، كما لو باع دارًا فيها طعام، أو قُماش له.

قال: ولنا أن النقل والتفريغ للمبيع على حسب العرف والعادة، كما لو باع دارًا، فيها طعام، لم يجب نقله إلا على حسب العادة في ذلك، وهو أن ينقله نهارًا، شيئًا بعد شيء، ولا يلزمه النقل ليلًا، ولا جَمْع دواب البلد لنقله، كذلك ههنا يُفَرّغ النخل من الثمرة في أوان تفريغها، وهو أوان جذاذها، وقياسه حجة لنا؛ لِمَا بيّناه.

إذا تقرر هذا، فالمرجع في جذّه إلى ما جرت به العادة، فإذا كان المبيع نخلًا، فحين تتناهى حلاوة ثمره، إلا أن يكون مما بُسره خير من رُطَبه، أو ما جرت العادة بأخذه بسرًا، فإنه يجذّه حين تَستحكم حلاوة بسره؛ لأن هذا هو العادة، فإذا استحكمت حلاوته، فعليه نقله، دوان قيل: بقاؤه في شجره خير له، وأَبقَى فعليه النقل؛ لأن العادة في النقل، قد حصلت، وليس له إبقاؤه بعد ذلك، وإن كان المبيع عنبًا، أو فاكهة سواه، فأخذه حين يتناهى إدراكه، وتستحكم حلاوته، ويُجذّ مثله، وهذا قول مالك، والشافعي. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3895]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ (ح) وَحَدثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثنا أَبِي، جَمِيعًا عَنْ عُبَيْدِ اللهِ (ح) وَحَدَّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدثَنَا عُبَيْدُ الله، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ

(1)

"المغني" 6/ 130 - 133.

ص: 177

عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَيُّمَا نَخْلٍ اشْتُرِيَ أُصُولُهَا، وَقَدْ أُبِّرَتْ، فَإِنَّ ثَمَرَهَا لِلَّذِي أَبَّرَهَا، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الَّذِي اشْتَرَاهَا").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

وكلّهم تقدّموا في البابين الماضيين، و"يحيى بن سعيد" هو: القطّان، و"ابن نُمير" هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، و"عبيد الله" هو: ابن عمر العُمريّ.

وقوله: (اشْتُريَ أُصُولُهَا) فعلٌ ونائب فاعله.

وقوله: (وَقَدْ أُبِّرَتْ) بالبناء للمفعول، والجملة حال من "نخل".

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3896]

(

) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أَيُّمَا امْرِئٍ أَبَّرَ نَخْلًا، ثُمَّ بَاعَ أَصْلَهَا، فَلِلَّذِي أَبَّرَ ثَمَرُ النَّخْل، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وقد تقدّم في الباب الماضي، وهو من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (259) من رباعيّات الكتاب.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3897]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو الرَّبِيع، وَأَبُو كَامِلٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ (ح) وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، كِلَاهُمَا عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلّهم تقدّموا في الباب الماضي، و"حمّاد" هو: ابن زيد، و"إسماعيل" هو: ابن عُليّة.

ص: 178

[تنبيه]: رواية حماد بن زيد، عن أيوب، ساقها أبو عوانة في "مسنده" (3/ 301) فقال:

(5063)

- حدّثنا الصغانيّ، قال: ثنا عبيد الله القواريريّ، قثنا حماد بن زيد، قثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ابتاع نخلًا، أو أرضًا قد أُبِّرت، فثمرتها للبائع، إلا أن يشترط المبتاع". انتهى.

وأما رواية إسماعيل ابن عُليّة، عن أيوب فقد ساقها الإمام أحمد في "مسنده" (2/ 6) فقال:

(4502)

- حدّثنا عبد الله

(1)

، حدّثني أبي، ثنا إسماعيل، أنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من باع نخلًا قد أُبِّرت، فثمرتها للبائع، إلا أن يشترط المبتاع". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل الى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3898]

(

) - (حَدَّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدثنا لَيْثٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنِ ابْتَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ، فَثَمَرَتُهَا لِلَّذِي بَاعَهَا، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ، وَمَنِ ابْتَاعَ عَبْدًا، فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلهم ذُكروا في الباب، غير "ابن شهاب"، و"سالم بن عبد الله"، فتقدّما قبل باب.

وقوله: (وَمَنِ ابْتَاعَ عَبْدًا) زاد في رواية البخاريّ وغيره: "وله مال"، والجملة في محلّ نصب صفة لـ"عبدًا"، قال السنديّ رحمه الله: قوله: "وله مالٌ": هي إضافة مجازيّةٌ، عند غالب العلماء، كإضافة الجلّ إلى الفرس؛ لأن العبد لا يملك، ولذلك أُضيف المال إلى البائع في قوله:"فماله للبائع"، ولا يمكن

(1)

هو ولد الإمام أحمد راوي "المسند" عنه، فتنبّه.

ص: 179

مثله مع كون الإضافة حقيقيّة في المحلّين، وقيل: المال للعبد، لكن للسيّد حقّ النزع منه. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول الثاني هو الحقّ عندي؛ كما سيأتي تمام البحث فيه في المسألة الثانية - إن شاء الله تعالى -.

وقوله أيضًا: "وَمَنْ ابْتَاعَ عَبْدًا" الجارية في ذلك كالعبد، وهذا متّفقٌ عليه، حتى من أهل الظاهر، وقال ابن حزم: لفظ العبد يقع في اللغة العربيّة على جنس العبد والإماء؛ لأن العرب تقول: عبد، وعبدة، والعبد اسم للجنس، كما تقول: الإنسان، والفرس، والحمار، ذكره وليّ الدين رحمه الله

(1)

.

(فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ) أي: المشتري.

[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله في "شرحه": قوله: (ومن ابتاع عبدًا

الخ) هكذا رَوَى هذا الحكم البخاريّ، ومسلم، من رواية سالم، عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنهما، ولم تقع هذه الزيادة في حديث نافع، عن ابن عمر، ولا يضرّ ذلك، فسالم ثقةٌ، بل هو أجلّ من نافع، فزيادته مقبولة، وقد أشار النسائيّ، والدارقطنيّ إلى ترجيح رواية نافع، وهذه إشارة مردودة. انتهى كلام النوويّ رحمه الله.

قال الجامع عفا الله عنه: قد أسلفت البحث في هذا مستوفًى في شرح حديث ابن عمر رضي الله عنهما المذكور أول الباب، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، والله تعالى وليّ التوفيق.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى بيان مسائله، وإنما أتكلّم هنا فيما يتعلّق بقوله: "وَمَنْ ابْتَاعَ عَبْدًا

إلخ"، وفيه مسألتان:

(المسألة الأولى): في اختلاف أهل العلم فيمن باع عبدًا، وله مالٌ:

قال النوويّ رحمه الله: في هذا الحديث دلالة لمالك، وقول الشافعيّ القديم: إن العبد إذا ملّكه سيده مالًا مَلَكَه، لكنه إذا باعه بعد ذلك كان ماله للبائع، إلا أن يشترط المشتري؛ لظاهر هذا الحديث، وقال الشافعيّ في الجديد، وأبو حنيفة: لا يملك العبد شيئًا أصلًا، وتأوّلا الحديث على أن المراد أن يكون في

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 6/ 124.

ص: 180

يد العبد شيء من مال السيد، فأضيف ذلك المال إلى العبد؛ للاختصاص، والانتفاع، لا للملك، كما يقال: جُلّ الدابة، وسَرْج الفرس، وإلا فإذا باع السيد العبد فذلك المال للبائع؛ لأنه مُلكه، إلا أن يشترطه المبتاع، فيصحّ؛ لأنه يكون قد باع شيئين: العبد، والمال الذي في يده، بثمن واحد، وذلك جائز، قالا: ويشترط الاحتراز من الربا، قال الشافعيّ: فإن كان المال دراهم، لم يجز بيع العبد وتلك الدراهم بدراهم، فكذا إن كان دنانير لم يجز بيعها بذهب، وإن كان حنطة لم يجز بيعها بحنطة.

وقال مالك: يجوز أن يشترط المشتري، وإن كان دراهم، والثمن دراهم، وكذلك في جميع الصور؛ لإطلاق الحديث، قال: وكأنه لا حصة للمال من الثمن. انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله: في الحديث دليل على صحة قولنا: إن العبد يملك، خلافًا للشافعيّ، وأبي حنيفة، حيث قالا: إنه لا يملك، وقد تقدَّم ذلك. ويلتحق بالبيع في هذا الحكم كل عقد معاوضةٍ؛ كالنكاح، والإجارة، فأما العتق فيتبع العبدَ فيه مالُهُ؛ لِمَا رواه أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق عبدًا، وله مال، فمال العبد له، إلا أن يشترط السَّيد"

(1)

، وقد رواه مالك في "الموطأ"

(2)

موقوفًا على ابن عمر رضي الله عنهما، ولا يضره الوقف، فإن المرفوع صحيح السند، وهذا الحديث حجة على أبي حنيفة، والشافعيّ، حيث قالا: إن المال في العتق للسيد، فأمَّا في الصدقة والهبة، فهل يتبعه ماله فيهما، أو لا؟ قولان، سببهما تردُّدهما بين البيع والعتق؛ إذ فيهما شَبَه من كل واحد منهما، وذلك: أن الهبة، والصدقة خروج من ملك إلى ملك، فأشبهت البيع، وخروج عن ملك بغير عوض، فأشبهت العتق، والأرجح: إلحاقها بالبيع، وقطعها عن العتق؛ لاختصاص العتق بمعنى لا يوجد في غيره، على ما قد أوضحه أصحابنا في كتبهم.

وأما الجناية: فالمال فيها تبع للرَّقبة، فينتقل بانتقالها؛ لأن العبد الجاني

(1)

رواه أحمد في "مسنده"(3962)، وابن ماجه (2529).

(2)

راجع: "الموطأ"(2/ 775).

ص: 181

إذا كان له مال فالجناية فيه، فإن وسع الجناية بقيت الرقبة لسيده، وإن لم يكن له مال؛ تعلَّقت برقبته، فكان الرقبة مرجع عند العدم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

وقال العلّامة ابن قُدامة رحمه الله: إذا باع السيّد عبده، أو جاريته، وله مال، ملّكه إياه مولاه، أو خصه به، فهو للبائع؛ لما رَوَى ابنُ عمر رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"من باع عبدًا، وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع"، متّفقٌ عليه، ولأن العبد، وماله للبائع، فإذا باع العبد، اختَصّ البيع به دون غيره، كما لو كان له عبدان، فباع أحدهما، وان اشترطه المبتاع، كان له للخبر، وروى ذلك نافع عن ابن عمر، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وقَضَى به شُرَيح، وبه قال عطاء، وطاوس، ومالك، والشافعيّ، وإسحاق، وقال الْخِرَقيّ: إذا كان قصده للعبد لا للمال، هذا منصوص أحمد، وهو قول الشافعيّ، وأبي ثور، وعثمان الْبَتّيّ، ومعناه أنه لا يقصد بالبيع شراء مال العبد، إنما يقصد بقاء المال لعبده، وإقراره في يده، فمتى كان كذلك صح اشتراطه، ودخل في البيع به، سواء كان المال معلومًا، أو مجهولًا، من جنس الثمن، أو من غيره، عينًا كان أو دينًا، وسواء كان مثل الثمن، أو أقل، أو أكثر، قال البتي: إذا باع عبدًا بألف درهم، ومعه ألف درهم، فالبيع جائز، إذا كانت رغبة المبتاع في العبد، لا في الدراهم، وذلك لأنه دخل في البيع تبعًا غير مقصود، فأشبه أساسات الحيطان، والتمويه بالذهب في السقوف، فأما إن كان المال مقصودًا بالشراء، جاز اشتراطه، إذا وجدت فيه شرائط البيع من العلم به، وأن لا يكون بينه وبين الثمن ربًا، كما يعتبر ذلك في العينين المبيعتين، لأنه مبيع مقصود، فأشبه ما لو ضَمّ إلى العبد عينًا أخرى وباعهما، وقال القاضي: هذا ينبني على كون العبد يملك، أو لا يملك، فإن قلنا: لا يملك فاشترط المشتري ما له صار مبيعًا معه، فاشتُرِط فيه ما يشترط في سائر المبيعات، وهذا مذهب أبي حنيفة، وإن قلنا: يملك احتُمِلت فيه الجهالةُ وغيرها، مما ذكرنا من قبلُ؛ لأنه تبع في البيع، لا أصل، فأشبه طيّ الآبار،

(1)

"المفهم" 4/ 399 - 400.

ص: 182

وهذا خلاف نصّ أحمد، وقولِ الخرقيّ؛ لأنهما جعلا الشرط الذي يختلف الحكم به، قصد المشتري دون غيره، وهو أصح إن شاء الله تعالى، واحتمال الجهالة فيه؛ لكونه غير مقصود كما ذكرنا؛ كاللبن في ضرع الشاة المبيعة، والحمل في بطنها، والصوف على ظهرها، وأشباه ذلك، فإنه مبيع، ويُحتَمَل فيه الجهالة وغيرها؛ لِمَا ذكرنا، وقد قيل: إن المال ليس بمبيع ههنا، وإنما استبقاء المشتري على ملك العبد، لا يزول عنه إلى البائع، وهو قريب من الأول. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: وفي هذا الحديث دليل للأصحّ عند الشافعيّة أنه إذا باع العبد، أو الجارية، وعليه ثيابه، لم تدخل في البيع، بل تكون للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع؛ لأنه مال في الجملة، وقال بعضهم: تدخل، وقال بعضهم: يدخل ساتر العورة فقط، والأصح أنه لا يدخل ساتر العورة ولا غيره؛ لظاهر هذا الحديث، ولأن اسم العبد لا يتناول الثياب. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(2)

، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثاية): في اختلاف أهل العلم، هل يملك العبد المال، أم لا؟

ذهب عامّة أهل العلم، إلى أنه لا يملك شيئًا، إذا لم يُمَلِّكه سيده، وقال أهل الظاهر: يملك؛ لدخوله في عموم قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} الآية [البقرة: 29]، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من باع عبدًا، وله مال"، فأضاف المال إليه بلام التمليك.

واحتجّ الأولون بقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} الآية [النحل: 75]، ولأن سيده يَملِك عينه ومنافعه، فما حصل بذلك يجب أن يكون لسيده كبهيمته، قال الموفّق: فأما إن ملّكه سيده شيئًا، ففيه روايتان:

(1)

"المغني" 6/ 257 - 258.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 191 - 192.

ص: 183

[إحداهما]: لا يملكه، وهو ظاهر قول الخرقيّ، فإنه قال: والسيد يُزَكّي عما في يد عبده؛ لأنه ملكه، وقال: والعبد لا يرث، ولا مال له، فيورث عنه، وهو اختيار أبي بكر، وقولُ أبي حنيفة، والثوريّ، وإسحاق، والشافعيّ في الجديد؛ لأنه مملوك، فلم يملك كالبهيمة. [والثانية]: يملك، قال الموفّق: وهي أصح عندي، وهو قول مالك، والشافعيّ في القديم؛ للآية، والخبر، ولأنه آدميّ حيّ، فمَلَك كالحرّ، ولأنه يملك في النكاح، فملك في المال كالحرّ، ولأنه يصح الإقرار له، فأشبه الحرّ، وما ذكروه تعليل بالمانع، ولا يثبت اعتباره، إلا أن يوجد المقتضي في الأصل، ولم يوجد في البهيمة ما يقتضي ثبوت الملك لها، وإنما انتفى ملكها؛ لعدم المقتضي له، لا لكونها مملوكة، وكونها مملوكة عديم الأثر، فإن سائر البهائم التي ليست مملوكة، من الصيود والوحوش، لا تملك، وكذلك الجمادات، وإذا بطل كون ما ذكروه مانعًا، وقد تحقق المقتضي، لزم ثبوت حكمه - والله أعلم. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ حسنٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3899]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، غير سفيان بن عيينة، فتقدّم قبل باب.

[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة، عن الزهريّ هذه ساقها النسائيّ في "المجتبى" (7/ 297) فقال:

(4636)

- أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنبأنا سفيان، عن الزهريّ، عن سالم، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من ابتاع نخلًا بعد أن تُؤَبَّر فثمرتها

(1)

"المغني" 6/ 259 - 260.

ص: 184

للبائع، إلا أن يشترط المبتاع، ومن باع عبدًا، وله مالٌ، فماله للبائع، إلا أن يشترط المبتاع". انتهى، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل الى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3900]

(

) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَني سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ أَبَاهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم ذُكروا في الباب والذي قبله، إلا "حرملة بن يحيى"، فتقدّم قبل بابين.

[تنبيه]: رواية يونس بن يزيد الأيليّ، عن ابن شهاب هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(17) - (بابُ النَّهْيِ عَنِ الْمُحَاقَلَة، وَالْمُخَابَرَة، وَالْمُعَاوَمَة، وَهُوَ بَيْعُ السِّنِينَ)

(1)

وبالسند المتصل الى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3901]

(1536) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالُوا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُحَاقَلَة، وَالْمُزَابَنَة، وَالْمُخَابَرَة، وَعَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ، وَلَا يُبَاعُ إِلَّا بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَم، إِلَّا الْعَرَايَا).

(1)

هكذا ترجم القرطبيّ رحمه الله، وهو الأليق، كما لا يخفى على من تأمله، خلاف ما ترجم به النوويّ ومن تبعه، فإنه تكرار لما سبق، فتنبّه.

ص: 185

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(ابْنِ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَطَاءُ) بن أبي رباح أسلم القرسيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، كثير الإرسال [3](ت 114)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.

3 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُحَاقَلَةِ) قال في "الفتح": قال أبو عبيد: المحاقلة: بيع الطعام في سنبله بالبرّ، مأخوذ من الحقل، وقال الليث: الحقل: الزرع إذا تشعّب من قبل أن يغلظ سُوقه، والمنهيّ عنه بيع الزرع قبل إدراكه، وقيل: بيع الثمرة قبل بدوّ صلاحها، وقيل: بيع ما في رؤوس النخل بالتمر، وعن مالك: هو كراء الأرض بالحنطة، أو بكيل طعام، أو إدام، والمشهور أن المحاقلة كراء الأرض ببعض ما تُنبت. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: هي: مفاعلة من الحقل، وهي المزارعة، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم للأنصار:"ما تصنعون بمحاقلكم؟ "، يعني: مزارعهم، وفي مثل العرب: لا تُنبت البقلةَ إلا الحقلةُ، وهي التي تسمى في العراق: القراح، وقال الليث: هي بيع الزرع قبل أن يغلظ، وقال أبو عبيد: هي بيع الطعام في سنبله بالبر، وقال قوم: هي المزارعة بالجزء مما تنبته الأرض، وسيأتي القول في كراء الأرض. انتهى.

وقال في موضع آخر بعد ذلك: قد تقدَّم القول في أصل اشتقاق المحاقلة، وقد فسَّرها هنا جابر بأنَّها بيع الزرع القائم بالحب كيلًا، وقال الجوهريّ في "الصحاح": المحاقلةُ: بيع الزرع في سنبله بالبرّ، وقد نُهِي عنه، قال: وهذا يرجع إلى المزابنة، كما قدمناه، وقد فَسَّرها غيره بأنها كراء الأرض

(1)

"الفتح" 5/ 684.

ص: 186

بما يخرج منها، وهو الذي صار إليه أصحابنا. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الْحَقْل: الأرض الْقَرَاحُ، وهي التي لا شجر بها، وقيل: هو الزرع إذا تشعّب ورقه، ومنه أُخذت المحاقله، وهي بيع الزرع في سُنبله بحنطة، وجمعه حُقُولٌ، مثلُ فَلْسٍ وفُلُوس. انتهى

(2)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: المحاقلة مختلف فيها، قيل: هي اكتراء الأرض بالحنطة، هكذا جاء مفسّرًا في الحديث، وهو الذي يسمّيه الزرّاعون: المحارثة، وقيل: هي المزارعة على نصيب معلوم؛ كالثلث، والربع، ونحوهما، وقيل: هي بيع الطعام في سنبله بالبرّ، وقيل: بيع الزرع قبل إدراكه، وإنما نُهي عنها؛ لأنها من المكيل، ولا يجوز فيه إذا كان من جنس واحد، إلا مِثلًا بمثل، ويدًا بيد، وهذا مجهولٌ، لا يُدرى أيهما أكثر. انتهى

(3)

.

(وَالْمُزَابَنَةِ) هي: بيع الرُّطَب في رؤوس النخل بالتمر، وأصله من الزَّبْن، وهو الدّفْعُ، كان كلّ واحد من المتبايعين يزبِنُ صاحبه عن حقّه بما يزداد منه، وإنما نُهي عنها؛ لِمَا يقع فيها من الغبن، والجهالة، قاله ابن الأثير رحمه الله

(4)

، وقد تقدّم تمام البحث فيها في بابها، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(وَالْمُخَابَرَةِ) قال ابن الأثير رحمه الله: قيل: هي المزارعة على نصيب معيّن؛ كالثلث، والربع، وغيرهما، والْخُبْرة: النصيب، وقيل: هو من الْخَبَار: الأرض الليّنة، وقيل: أصل المخابرة من خيبر؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقرّها في أيدي أهلها على النصف من محصولها، فقيل: خابرهم؛ أي: عاملهم في خيبر. انتهى

(5)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: فأمَّا المخابرة فمأخوذة من الخبرة - بضم الخاء - وهو النصيب، هكذا حكاه أهل اللغة، وأنشدوا عليه [من الطويل]:

إِذَا مَا جَعَلْتَ الشَّاةَ لِلنَّاسِ خُبْرَةً

فَشَأنَّكَ إِنِّي ذَاهِبٌ لِشُؤونِي

وقال ابن الأعرابي: أصل المخابرة مأخوذ من خيبر؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان قد أقرها في أيدي أهلها على النصيب منها، فقيل: خابرهم؛ أي: عاملهم في خيبر.

(1)

"المفهم" 4/ 391 - 392 و 401.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 144.

(3)

"النهاية" 1/ 416.

(4)

"النهاية" 2/ 294.

(5)

"النهاية" 2/ 7.

ص: 187

قال القرطبيّ: وعلى هذا فلا تكون المخابرة منهيًّا عنها، وقد ثبت النهي عنها فهي غيرها، والصحيح ما حكاه الجوهريّ وغيره: أن المخابرة هي المزارعة بجزء مما يخرج من الأرض، وهو: الخِبْر أيضًا - بالكسر - ويشهد له ما ذكرناه آنفًا عن اللغويين، وعلى هذا فيكون الفرق بين المحاقلة والمخابرة: أن المحاقلة كراء الأرض بما يخرج منها مطلقًا، والمخابرة: كراؤها بجزء مما يخرج منها؛ كثلث وربع، وقد قال بعض الناس: إنهما بمعنى واحد، والمشهور ما ذكرناه، وهو الأولى، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وأما المخابرة، فهي والمزارعة متقاربتان، وهما المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها من الزرع؛ كالثلث، والربع، وغير ذلك من الأجزاء المعلومة، لكن في المزارعة يكون البذر من مالك الأرض، وفي المخابرة يكون البذر من العامل، هكذا قاله جمهور أصحابنا، وهو ظاهر نصّ الشافعيّ، وقال بعض أصحابنا، وجماعة من أهل اللغة، وغيرهم: هما بمعنىً، قالوا: والمخابرة مشتقة من الْخَبِير، وهو الأَكَّار أي: الفَلّاح، هذا قول الجمهور، وقيل: مشتقة من الْخَبَار، وهي الأرض اللَّيِّنة، وقيل: من الْخُبْرة، وهي النصيب، وهي. بضم الخاء، وقال الجوهريّ: قال أبو عبيد: هي النصيب من سَمَك، أو لحم، يقال: تَخَبَّروا خُبْرَةً: إذا اشتَرَوَا شاةً، فذبحوها، واقتسموا لحمها، وقال ابن الأعرابيّ: مأخوذة من خيبر؛ لأن أول هذه المعاملة كان فيها، وفي صحة المزارعة والمخابرة خلاف مشهور للسلف، وسنوضحه في باب بعده - إن شاء الله تعالى. انتهى

(2)

.

(وَعَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ) تقدّم شرح هذه الجملة في بابها، وفي الرواية الآتية:"وَعن بَيْعِ الثَّمَرَة، حَتَّى تُطْعِمَ" بضمّ أوله مبنيًّا للفاعل، من الإطعام: يقال: أطعمت الشجرة بالألف: أدرك ثمرها

(3)

، والمعنى: حتى تصير صالحةً للأكل.

(1)

"المفهم" 4/ 401.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 192 - 193.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 373، و"القاموس المحيط" 4/ 144.

ص: 188

(وَلَا يُبَاعُ اِلا بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ) المراد أنها تباع بالعروض، وإنما خصّ الدينار والدرهم؛ لأنهما أكثر ما يتعامل به الناس، فتنبّه.

(إِلَّا الْعَرَايَا) قال النوويّ رحمه الله: معناه: لا يباع الرُّطَب بعد بُدُوّ صلاحه بتمر، بل يُباع بالدينار والدرهم وغيرهما، والممتنع إنما هو بيعه بالتمر إلا العرايا، فيجوز بيع الرُّطب فيها بالتمر بشرطه السابق في بابه. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "نهى عن بيع الثمرة حتى تطعم، ولا تباع إلا بالدراهم أو الدنانير إلا العرايا"؛ هذا المساق فيه تثبيجٌ

(2)

بالتقديم والتأخير، وذلك لا يجوز بالاتفاق، لا بهما، ولا بالعُروض إلا على شرط القطع، فيجوز بالعين، والعَرَض، فلا يصح أن يكون ذلك استثناء من بيع الثمرة بوجه، وإنما يصح رجوع الاستثناء للمحاقلة، والمخابرة، فإنها هي التي نهي عن بيعها إلا بالعين، كما يأتي بعد هذا في حديث رافع بن خديج رضي الله عنه حيث قال:"أما بالذهب والورِق فلا بأس به".

وقال: وقوله: "إلا العرايا" مستثنى من المزابنة، كما جاء في الحديث المتقدِّم، وترتيب هذا الحديث أن يقال: نَهَى عن المحاقلة، والمخابرة إلا بالدنانير أو الدراهم، وعن المزابنة إلا العرايا، وهذا واضح، والله أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لا حاجة إلى دعوى التقديم والتأخير، بل المعنى صحيح بدون ذلك، والاستثناء من بيع الثمر، وليس من المزابنة، نَهَى أولًا عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه، ومفهومه أنه يجوز بيعه بعد بدوّ صلاحه، ثم استثنى من هذا، فبيّن: لا يجوز بيعه بعد بدوّ الصلاح بجنسه، وإنما يباع بالدينار والدرهم، ثم استثنى من هذا الاستثناء العرايا، فإنه يجوز بيعها بجنسها؛ للحاجة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 193 - 194.

(2)

أي تخليط.

(3)

"المفهم" 4/ 402.

ص: 189

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 3901 و 3902 و 3903 و 3904 و 3905 و 3906 و 3907](1536)، (والبخاريّ) في "الزكاة"(1487) و"البيوع"(2196)، و (أبو داود) في "البيوع"(3370)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1290)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 263 - 264) و"الكبرى"(3/ 93 و 94 و 95 و 96 و 4/ 20 و 44)، و (ابن ماجه) في "التجارات"(2/ 762)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 246)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنفه"(7/ 129)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 320 و 361)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 406)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4992)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(6/ 269)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3/ 341)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 153)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(3/ 48)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 301)، و (البغويّ) في "شرح السنة"(2071)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم المحاقلة، وسيأتي في تفسير جابر رضي الله عنه أن يباع الحقل؛ أي: الزرع بكيل من الطعام معلوم.

2 -

(ومنها): بيان تحريم المزابنة، وياتي بعد حديث أنها بيع الرُّطَب في النخل بالتمر كيلًا.

3 -

(ومنها): بيان تحريم المخابرة أن الأرجح في معناها أنها كراء الأرض ببعض ما يخرج منها، وسيأتي تمام البحث في ذلك في الباب التالي - إن شاء الله تعالى -.

4 -

(ومنها): بيان تحريم بيع الثمر حتى يبدو صلاحه.

5 -

(ومنها): بيان أن الثمر لا يباع بعد بدوّ صلاحه بجنسه، وإنما يباع بالدينار والدرهم، ونحو ذلك، مما ليس من جنسه.

6 -

(ومنها): بيان جواز بيع العرايا بجنسها من التمر، وهو مستثنى من تحريم المزابنة؛ لحاجة الفقير، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 190

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3902]

(

) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَاصِمٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَأَبِي الزُّبَيْرِ؛ أَنَّهُمَا سَمِعَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكِسيّ، أبو محمد، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

2 -

(أَبُو عَاصِمٍ) الضحّاك بن مَخْلَد النبيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 212)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية أبي عاصم، عن ابن جريج هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3903]

(

) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ الْجَزَرِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْمُخَابَرَة، وَالْمُحَاقَلَة، وَالْمُزَابَنَة، وَعَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى تُطْعِمَ، وَلَا تُبَاعُ إِلَّا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِير، إِلَّا الْعَرَايَا، قَالَ عَطَاءٌ: فَسَّرَ لَنَا جَابِرٌ

(1)

قَالَ: أَمَّا الْمُخَابَرَةُ فَالأَرْضُ الْبَيْضَاءُ، يَدْفَعُهَا الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُل، فَيُنْفِقُ فِيهَا، ثُمَّ يَأْخُذُ مِنَ الثَّمَر، وَزَعَمَ أَنَّ الْمُزَابَنَةَ بَيْعُ الرُّطَبِ فِي النَّخْلِ بِالتمْرِ كيْلًا، وَالْمُحَاقَلَةُ في الزَّرْعِ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ، يَبِيعُ الزَّرْعَ الْقَائِمَ

(2)

بِالْحَبِّ كَيْلًا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ) ابن راهويه، تقدّم قبل بابين.

2 -

(مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ الْجَزَرِيُّ) أبو يحيى، ويقال: أبو خِداش، ويقال:

(1)

وفي نسخة: "فسّرها لنا جابر".

(2)

وفي نسخة: "بيع الزرع القائم".

ص: 191

أبو الحسين، ويقال: أبو خالد الحرّانيّ القرشيّ، صدوقٌ له أوهام، من كبار [9].

رَوَى عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ، وحَرِيز بن عثمان الرَّحَبيّ،

والأوزاعيّ، وابن جريج، ويونس بن أبي إسحاق، وإسرائيل بن يونس، وسعيد بن عبد العزيز، وغيرهم.

ورَوَى عنه أحمد بن حنبل، وإسحاق ابن راهويه، وأبو جعفر النُّفَيليّ، وابنا أبي شيبة، وعبد الحميد بن محمد بن الْمُستام، وأبو أمية عمرو بن هشام، وغيرهم.

قال الأثرم، عن أحمد: لا بأس به، وكان يَهِمُ، وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: ثقةٌ، وكذا قال أبو داود، ويعقوب بن سفيان، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال أحمد بن عليّ الأبّار: سألت عليّ بن ميمون عنه؟ فقال: كان قرشيًّا نِعْم الشيخ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الساجيّ: كان يَهِم، وقدَّم أحمد مسكينَ بن كثير عليه، وقال ابن سعد: حدّثنا عباد بن عمرو، حدّثنا مخلد بن يزيد، وكان فاضلًا، خيّرًا، كبير السنّ.

قال أبو جعفر النُّفَيليّ: مات سنة ثلاث وتسعين ومائة.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (حَتَّى تُطْعِمَ) بضمّ أوله، وكسر ثالثه، مبنيًّا للفاعل، أي: تُدْرك، وتكون صالحًا للأكل.

وقوله: (قَالَ عَطَاءٌ) هو ابن أبي رباح.

وقوله: (فَسَّرَ لَنَا جَابِرٌ) وفي بعض النسخ: فسّرها لنا جابر، وهو ابن عبد الله رضي الله عنهما.

وقوله: (فَالأَرْضُ الْبَيْضَاءُ) أي: التي لا زرع فيها، ولا شجر.

وقوله: (فَيُنْفِقُ فِيهَا) من الإنفاق، أي: يُخرج ماله في زرعها، واستثمارها.

ص: 192

وقوله: (ثُمَّ يَأْخُذُ مِنَ الثَّمَرِ) يعني أنه يجعل أجرته مما يخرج منها من الثمر.

وقوله: (وَزَعَمَ أَنَّ الْمُزَابَنَةَ

إلخ) الزعم هنا بمعنى القول المحقّق، وليس بالزعم الباطل؛ أي: قال جابر رضي الله عنه.

وقوله: (وَالْمُحَاقَلَةُ فِي الزَّرْع عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ) يعني أن معنى المحاقلة كمعنى المزابنة، لكن الفرق بينهما أَن المزابنة في النخل، والمحاقلة في الزرع، وهو أن يبيع ما على الزرع من الحبّ بكيل معلوم من الحبّ، وهو معنى قوله:"يبيع الزرع القائم بالحبّ كيلًا".

وقوله: (يَبِيعُ الزَّرْعَ الْقَائِمَ

إلخ) هو بتقدير "أن" المصدريّة؛ أي: أن يبيع الزرع

إلخ، وفي بعض النسخ: "بيعُ الزرع القائم

إلخ" بلفظ المصدر، خبر لمحذوف؛ أي: هو بيع الزرع

إلخ.

والحديث بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل الى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3904]

(

) - (حَدَّثَنَا إسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ، كِلَاهُمَا عَنْ زَكَرِيَّاءَ، قَالَ ابْنُ أَبِي خَلَفٍ: حَدَّثنا زَكَريَّاءُ بْنُ عَدِيٍّ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ الله، عَنْ زيدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ الْمَكِّيُّ، وَهُوَ جَالِسٌ عِنْدَ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْمُحَاقَلَة، وَالْمُزَابَنَة، وَالْمُخَابَرَة، وَأَنْ تُشْتَرَى النَّخْلُ حَتَّى تُشْقِهَ - وَالإِشْقَاهُ أَنْ يَحْمَرَّ، أَوْ يَصْفَرَّ، أَوْ يُؤْكَلَ مِنْهُ شَيْءٌ - وَالْمُحَاقَلَةُ أَنْ يُبَاعَ الْحَقْلُ بِكَيْلٍ مِنَ الطَّعَامِ مَعْلُومٍ، وَالْمُزَابَنَةُ أَنْ يُبَاعَ النَّخْلُ بِأَوْسَاقٍ مِنَ التَّمْر، وَالْمُخَابَرَةُ الثُّلُثُ وَالرُّبُعُ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ. قَالَ زَيْدٌ: قُلْتُ لِعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ: أَسَمِعْتَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَذْكُرُ هَذَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ) السلميّ، أبو عبد الله البغداديّ الْقَطِيعيّ، ثقةٌ [10](ت 237)(م د) تقدم في "الإيمان" 92/ 502.

2 -

(زَكَرِيَّاءُ بْنُ عَدِيِّ) بن الصَّلْت التيميّ مولاهم، أبو يحيى الكوفيّ،

ص: 193

نزيل بغداد، ثقةٌ حافظٌ جليلٌ، من كبار [10](ت 11 أو 212)(خ م مد ت س ق) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 88.

3 -

(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمرو بن أبي الوليد الرَّقيّ، أبو وهب الأسديّ، ثقةٌ فقيهٌ، ربّما وَهِمَ [8](ت 180) عن (80) سنةً (ع) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 96.

4 -

(زَيْدُ بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ) الْجَزَريّ، أبو أسامة أصله من الكوفة، ثمّ سكن الرُّها، ثقةٌ

(1)

[6](ت 119) وقيل غيره (ع) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 96.

5 -

(أَبُو الْوَليدِ الْمَكِّيُّ) هو: سعيد بن ميناء - بكسر الميم، والمدّ والقصر - مولى الْبَخْتريّ بن أبي ذُباب الحجازيّ المكيّ، أو المدنيّ، ثقةٌ [3](خ م د ت ق) تقدم في "الجنائز" 21/ 2207.

[تنبيه]: ذكر الحافظ أبو عليّ الجيّانيّ الغسّاني: في "تقييده" أن أبا الوليد الذي في هذا الإسناد هو سعيد بن ميناء، قال: وزعم الحاكم أبو عبد الله النيسابوريّ أن أبا الوليد المكيّ الذي في هذا الإسناد اسمه يسار بن عبد الرحمن، وقال مثل ذلك أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازيّ

(2)

.

وردّ ذلك أبو محمد عبد الغنيّ بن سعيد

(3)

، وقال: هذا وَهَمٌ، وهذه التسمية خطأ، وإنما هو سعيد بن ميناء الذي روى عنه أيوب السَّخْتيانيّ، وزيد بن أبي أُنيسة.

وقال البخاريّ في "تاريخه"

(4)

: سعيد بن ميناء أبو الوليد المكيّ، سمع جابر بن عبد الله، وأبا هريرة، روى عنه سَلِيم بن حبّان، وزيد بن أبي أُنيسة، وتابعه على ذلك مسلم بن الحجاج

(5)

.

وقال ابن أبي حاتم في كتابه

(6)

: يسار بن عبد الرحمن أبو الوليد، روى

(1)

قال في "التقريب": ثقة له أفراد. وقوله: له أفراد فيه نظر، فقد وثقه جل الأئمة، إلا ما روي عن أحمد، وهو بالنظر إلى توثيقهم على الإطلاق كلا شيء، فتأمله.

(2)

"الجرح والتعديل" 9/ 307.

(3)

"الأوهام التي في المدخل" ص 131.

(4)

"التاريخ الكبير" 3/ 512.

(5)

"الكنى والأسماء" 2/ 857.

(6)

"الجرح والتعديل" 9/ 307.

ص: 194

عن جابر بن عبد الله، روى عنه زيد بن أبي أُنيسة، ولا يتابع على هذا، ولعل الحاكم إنما نَقَل قوله من كتاب ابن أبي حاتم. انتهى كلام أبي عليّ الغسّانيّ رضي الله عنه

(1)

، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (وَهُوَ جَالِسٌ عِنْدَ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ) جملة حاليّة؛ أي: والحال أن أبا الوليد المكيّ حين حدّثنا بهذا الحديث جالس عند عطاء.

وقوله: (وَأَنْ تُشْتَرَى النَّخْلُ) فعل، ونائب فاعله، وأنّثه؛ لأن النخل اسم جمع يُفرّق بينه وبين واحده بالهاء، والغالب في مثله التأنيث، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفًى، فلا تنس نصيبك، والله تعالى وليّ التوفيق.

وقوله: (حَتَّى تُشْقِهَ) بضمّ أوله، من الإشقاه رباعيًّا، قال النوويّ رحمه الله: قوله: "حتّى تُشقه"، وفي رواية:"حتى تُشقح" بالحاء، وهو بضم التاء، وإسكان الشين فيهما، وتخفيف القاف، ومنهم من فتح الشين في "تشقه"، وهما جائزان: تشقه، وتشقح، ومعناهما واحد، ومنهم من أنكر "تشقه"، وقال: المعروف بالحاء، والصحيح جوازهما، وقيل: إن الهاء بدل من الحاء، كما قالوا: مَدَحَهُ، ومَدَهَهُ، وقد فَسَّر الراوي الإشقاه، والإشقاح بالاحمرار، والاصفرار، قال أهل اللغة: ولا يُشتَرط في ذلك حقيقة الاصفرار والاحمرار، بل ينطلق عليه هذا الاسم إذا تغير يسيرًا إلى الحمرة، أو الصفرة، قال الخطابيّ: الشُّقْحَةُ لون غير خالص الحمرة، أو الصفرة، بل هو تغيُّر إليهما في كُمُودة. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(2)

.

وقوله: (أَنْ يُبَاعَ الْحَقْلُ) بفتح الحاء المهملة، وسكون القاف: وهو الزرع.

وقوله: (بِأَوْسَاقٍ مِنَ التَّمْرِ) بفتح الهمزة: جمع وِسق بكسر الواو، كحِمْل وأحمال، ويقال له: وَسْق بفتح الواو، ويُجمع على وُسُوق، كفَلْس وفُلُوس، والوسق: ستون صاعًا بصاع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى، فلا تكن من الغافلين.

(1)

"تقييد المهمل" 3/ 859 - 860.

(2)

"شرح النوويّ"10/ 194 - 195.

ص: 195

وقوله: (وَالْمُخَابَرَةُ الثُّلُثُ وَالرُّبُعُ) أي: دفع الأرض البيضاء لمن يعمل فيها بثلث ما يخرج منها، أو ربعه، وهي المزارعة، وسيأتي تمام البحث فيها في الباب التالي - إن شاء الله تعالى -.

وقوله: (وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ) أي: أمثال الثلث والربع، كالنصف، والخمس.

وقوله: (قَالَ زَيْدٌ) هو: ابن أبي أُنيسة.

وقوله: (قُلْتُ لِعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ

إلخ) المعنى أن زيد بن أبي أُنيسة بعد أن سمع الحديث عن أبي الوليد المكي في مجلس عطاء بن أبي رباح سأل عطاء عن الحديث نفسه، هل سمعته عن جابر يذكر هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأجابه قائلًا: نعم، فصار لزيد في الحديث شيخان: أبو الوليد، وعطاء، كلاهما عن جابر رضي الله عنه.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أسمعت جابر بن عبد الله يذكر هذا

إلخ" تحتمل هذه الإشارة أن تكون عائدة إلى الحديث، وتفسيره المتقدّم، فيكون كلُّ ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويَحْتَمل أن تكون عائدة إلى الأمور التي نُهي عنها في صدر الحديث، لا إلى التفسير، وهو الأولى؛ لقول عطاء: فسّر لنا جابر، فذَكَر التفسير. انتهى

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل الى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3905]

(

) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ هَاشِمٍ، حَدَّثنا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُزَابَنَة، وَالْمُحَاقَلَة، وَالْمُخَابَرَة، وَعَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى تُشْقِحَ، قَالَ: قُلْتُ لِسَعِيدٍ: مَا تُشْقِحُ؟ قَالَ: تَحْمَارُّ، وَتَصْفَارُّ، وَيُؤْكَلُ مِنْهَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ هَاشِمِ) بن حيّان الْعبديّ، أبو عبد الرحمن الطُّوسيّ،

(1)

"المفهم" 4/ 403.

ص: 196

سكن نيسابور، ثقةٌ صاحب حديث، من صغار [10] مات سنة بضع و (250) من أفراد المصنّف تقدم في "الإيمان" 3/ 112.

2 -

(بَهْزُ) بن أسد الْعَمّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9] مات بعد المائتين، أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.

3 -

(سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ)

(1)

الْهُذليّ البصريّ، ثقةٌ [7](خ م د ت سي ق) تقدم في "الجنائز" 21/ 2207.

[تنبيه]: لا يوجد في الكتب الستّة من اسمه سَلِيم بفتح أوله، وكسر ثانيه إلا سَلِيم بن حيّان هذا، ومن عداه فَسُليم مصغّرًا، وإلى ذلك أشرت بقوله:

قُلْ نَجْلُ حَيَّانَ سَلِيمٌ يُفْتَحُ

مَعْ كَسْرِ ثَانِيِهِ بِهَذَا صَرَّحُوا

وَلَيْسَ يُوجَدُ بِهَذَا الضَّبْطِ فِي

كُتْبِ الأَئِمَّةِ سِوَاهُ فَاعْرِفِ

وَمَنْ عَدَاهُ كُلُّهُ سُلَيْمُ

مُصَغَّرًا فَاحْفَظْ عَدَاكَ الضَّيْمُ

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (حَتَّى تُشْقِحَ) - بضم أوله، من الإشقاح رباعيًّا، يقال: أشقح ثمر النخل إشقاحًا: إذا احمرّ، أو اصفَرّ، والاسم: الشُّقْحُ - بضم المعجمة، وسكون القاف، بعدها مهملة - وقد سبق في الرواية الماضية بلفظ:"حتى تُشْقِه"، بإبدال الحاء هاءً؛ لقربها منها

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: التشقيح، والتشقيه - بالحاء، والهاء - كما فسّره الراوي بقوله:"أن تحمرّ، وتصفرّ، ويؤكل منها"، وكذلك فسّره أهل اللغة، قالوا: يقال: أشقح النخلُ، وشَقَّحَ - مشدّدًا -: إذا أزهى، ويقال: أشقه النخل - بالهاء، فيُبدلون من الحاء هاء؛ لتقارب مخرجيهما. انتهى

(3)

.

وقوله: (قَالَ: قُلْتُ لِسَعِيدٍ) القائل هو سَلِيم بن حيّان، وسعيد هو ابن مِيناء.

قال في "الفتح" ما حاصله: وأخرج الحديث الإسماعيليّ من طريق

(1)

"سَليم" بفتح السين المهملة، وكسر اللام، و"حيّان" بفتح الحاء المهملة، وتشديد التحتانيّة.

(2)

"الفتح" 5/ 672.

(3)

"المفهم" 4/ 403.

ص: 197

عبد الرحمن بن مهديّ، عن سَلِيم بن حَيّان، فقال في روايته: "قلت لجابر: ما تُشقحُ

إلخ"، فظهر أن السائل عن ذلك هو سعيد، والذي فسره هو جابر.

قال: وقد أخرج مسلم الحديث من طريق زيد بن أبي أنيسة، عن أبي الوليد، عن جابر مطولًا، وفيه:"وأن يشتري النخل حتى يُشْقِه، والإشقاه أن يَحْمَرّ، أو يصفرّ، أو يؤكل منه شيء"، وفي آخره:"فقال زيد: فقلت لعطاء: أسمعت جابرًا يذكر هذا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ قال: نعم"، وهو يَحْتَمِل أن يكون مراده بقوله هذا جميع الحديث، فيدخل فيه التفسير، ويَحْتَمِل أن يكون مراده أصل الحديث، لا التفسير، فيكون التفسير من كلام الراوي، وقد ظهر من رواية ابن مهديّ أنه جابر، والله أعلم.

ومما يقوّي كونه مرفوعًا وقوع ذلك في حديث أنس أيضًا، وفيه دليل على أن المراد ببدوّ الصلاح قدر زائد على ظهور الثمرة، وسبب النهي عن ذلك خوف الغرر؛ لكثرة الجوائح فيها، وقد بئن ذلك في حديث أنس رضي الله عنه:"فإذا احمرّت، وأُكِل منها أُمنت العاهة عليها"؛ أي: غالبًا. انتهى.

وقوله: (تَحْمَارُّ، وَتَصْفَارُّ، وَيُؤْكَلُ مِنْهَا) قال الخطابيّ رحمه الله: لم يُرِد بذلك اللون الخالص من الصفرة والحمرة، وإنما أراد حمرةً، أو صفرةً بكمودة، فلذلك قال:"تحمارّ، وتصفارّ"، قال: ولو أراد اللون الخالص لقال: تَحْمَرّ، وتصفرّ.

وقال ابن التين: التشقيح تغيّر لونها إلى الصفرة والحمرة، فأراد بقوله:"تحمارّ، وتصفارّ" ظهور أوائل الحمرة والصفرة قبل أن تشبع، قال: وإنما يقال: تَفْعَالّ في اللون الغير المتمكن، إذا كان يتلون، وأنكر هذا بعض أهل اللغة، وقال: لا فرق بين تَحْمَرّ، وتَصْفَرّ، وتحمارّ، وتصفارّ.

ويَحْتَمِل أن يكون المراد: المبالغة في احمرارها واصفرارها، كما تقرر أن الزيادة تدل على التكثير والمبالغة. انتهى

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"الفتح" 5/ 672 - 673.

ص: 198

وبالسند المتّصل الى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3906]

(

) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، وَمُحَمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ - وَاللَّفْظُ لِعُبَيْدِ اللهِ - قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدِ بْنِ مِينَاءَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُحَاقَلَة، وَالْمُزَابَنَة، وَالْمُعَاوَمَة، وَالْمُخَابَرَةِ - قَالَ أحَدُهُمَا: بَيْعُ السِّنِينَ هِيَ الْمُعَاوَمَةُ - وَعَنِ الثُّنْيَا، وَرَخَّصَ في الْعَرَايَا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ) هو: عبيد الله بن عُمر بن ميسرة، أبو سعيد البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 235) وله (85) سنةً (خ م د س) تقدم في "المقدمة" 6/ 75.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ)

(1)

هو: محمد بن عُبيد بن حِسَاب

(2)

البصريّ، ثقةٌ [10](ت 238)(م د س) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

والباقون ذُكروا في الباب وما قبله، و"أيوب" هو: السّختيانيّ، و"أبو الزبير" هو: محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ.

وقوله: (وَالْمُعَاوَمَةِ) قال النوويّ رحمه الله: بيع المعاومة، وهو بيع السنين، معناه: أن يبيع ثمر الشجرة عامين، أو ثلاثة، أو أكثر، فيُسَمَّى بيع المعاومة، وبيع السنين، وهو باطل بالإجماع، نقل الإجماع فيه ابن المنذر وغيره؛ لهذه الأحاديث، ولأنه بيع غرر؛ لأنه بيع معدوم ومجهول غير مقدورٍ على تسليمه، وغير مملوك للعاقد. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: المعاومة: بيع الثمر أعوامًا، وهو المعبَّر عنه باللفظ الآخر: بيع السنين، ولا خلاف في تحريم بيعه؛ لكثرة الغَرَر والجهل. انتهى

(4)

.

(1)

بضمّ الغين المعجمة، وفتح الموحّدة.

(2)

بكسر الحاء، وتخفيف السين المهملتين.

(3)

"شرح النوويّ" 10/ 193.

(4)

"المفهم" 4/ 403.

ص: 199

وقوله: (قَالَ أَحَدُهُمَا: بَيْعُ السِّنِينَ هِيَ الْمُعَاوَمَةُ) هذا إشارة إلى أن أبا الزبير، وسعيد بن مِيناء اختلفا، فقال أحدهما:"والمعاومة"، وقال الآخر:"وبيع السنين".

[تنبيه]: ظاهر سياق المصنّف أن الغرض من قوله: "قال أحدهما

إلخ" بيان أن بيع السنين هي المعاومة، فيكون قوله: "بيعُ السنين" مبتدأ خبره جملة "هي المعاومة"، فكأنه يريد تفسير أحدهما بالآخر، وهو الذي يدلّ عليه ضبط "بيعُ" بالرفع بضبط القلم، وهذا يخالف ما يدلّ عليه سياق غيره، فقد أخرج الحديث أبو داود في "سننه" (3/ 262) فقال:

(3404)

- حدّثنا أحمد بن حنبل، ثنا إسماعيل (ح) وثنا مسدّد أن حمادًا وعبد الوارث حدّثاهم كلهم عن أيوب، عن أبي الزبير، قال عن حماد: وسعيد بن ميناء، ثم اتفقوا عن جابر بن عبد الله، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة، والمزابنة، والمخابرة، والمعاومة، قال عن حماد: وقال أحدهما: والمعاومة، وقال الآخر: بيع السنين، ثم اتفقوا: وعن الثنيا، ورَخّص في العرايا. انتهى.

وأخرجه ابن الجارود في "المنتقى"(1/ 153) من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي الزبير، وسعيد بن ميناء، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن المحاقلة، والمزابنة، والمخابرة، والمعاومة، وقال الآخر: بيع السنين، وعن الثنيا، ورَخص في العرايا. انتهى.

وأخرجه أيضًا البيهقيّ في "الكبرى"(5/ 336) ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن المحاقلة، والمزابنة، والمخابرة، والمعاومة، وقال الآخر: عن بيع السنين، وعن الثنيا، ورَخَّص في العرايا. انتهى.

فسياق هؤلاء صريح في أن الغرض من قوله: "قال أحدهما

إلخ" بيان الاختلاف الواقع بين أبي الزبير، وسعيد بن مِيناء، حيث رواه أحدهما بلفظ: "بيع السنين"، ورواه الآخر بلفظ: "المعاومة"، وليس الغرض تفسير بيع السنين بأنها هي المعاومة، خلاف ما يفيده لفظ المصنّف، فليُتأمل.

ويَحْتَمِل أن قوله: "بيع السنين" مجرورًا على الحكاية؛ أي: قال أحدهما: "بيع السنين" بدل قول الآخر "المعاومة"، وأما قوله:"هي المعاومة"

ص: 200

جملة مستأنفة بيّن بها معنى بيع السنين. هي المعاومة في الرواية الأخرى، وعلى هذا فيتّفق مع رواية هؤلاء، فتأمله.

ووقع في "مختصر القرطبيّ" بلفظ: "وفي رواية: بيع السنين عِوَضَ المعاومةِ"، وهذا إن لم يكن إصلاحًا من القرطبيّ، ففيه دلالة أن "هي" في قوله هنا:"هي المعاومة" مصحّفة عن لفظ "عوض"، والله تعالى أعلم بالصواب.

وقوله: (وَعَنِ الثُّنْيَا) - بضمّ الثاء المثلّثة، وإسكان النون، مقصورًا - بمعنى الاستثناء، قال الفيّوميّ رحمه الله:"والثُّنْيَا" - بضمّ الثاء مع الياء، و"الثَّنْوَى" بالفتح مع الواو: اسم من الاستثناء، وفي الحديث:"من استثنى فله ثنياه"

(1)

؛ أي: ما استثناه، والاسْتِثْنَاءُ: استفعال من ثَنَيت الشيءَ أَثْنِيهِ ثَنْيًا، من باب رَمَى: إذا عَطَفْته، ورددته، وثَنَيْتُهُ عن مراده: إذا صرفته عنه، وعلى هذا فَالاسْتِثْنَاءُ: صرف العامل عن تناول المستثنى، ويكون حقيقةً في المتصل، وفي المنفصل أيضًا؛ لأن "إلّا" هي التي عَدّت الفعل إلى الاسم، حتى نصبه، فكانت بمنزلة الهمزة في التعدية، والهمزةُ تعدّي الفعل إلى الجنس، وغير الجنس حقيقةً وفاقًا، فكذلك ما هو بمنزلتها. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "عن الثنيا": هي الاستثناء، والمراد: الاستثناء في البيع، وفي رواية الترمذيّ وغيره بإسناد صحيح:"نَهَى عن الثُّنْيا إلا أن يُعْلَم"، والثنيا المبطلة للبيع قوله: بعتك هذه الصبرةَ إلا بعضها، وهذه الأشجارَ أو الأغنام، أو الثياب، أو نحوها إلا بعضها، فلا يصح البيع؛ لأن المستثنى مجهول، فلو قال: بعتك هذه الأشجار إلا هذه الشجرة، أو هذه الشجرة إلا ربعها، أو الصبرة إلا ثلثها، أو بعتك بألف إلا درهمًا، وما أشبه ذلك من الثنيا المعلومة صح البيع باتفاق العلماء، ولو باع الصبرة إلا صاعًا منها، فالبيع باطل عند الشافعيّ، وأبي حنيفة، وصحح مالك أن يُستثنى منها ما لا يزيد على ثلثها، أما إذا باع ثمرة نخلات، فاستثنى من ثمرها عشرة آصع مثلًا للبائع،

(1)

حديث صحيح. أخرجه ابن ماجه في "سننه"(1/ 68) بلفظ: "من حلف، فقال: إن شاء الله، فله ثُنْياه".

(2)

"المصباح المنير" 1/ 85.

ص: 201

فمذهب الشافعيّ، وأبي حنيفة، والعلماء كافةً بطلان البيع، وقال مالك، وجماعة من علماء المدينة: يجوز ذلك ما لم يزد على قدر ثلث الثمرة. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: و"الثُّنْيَا" - بالضم والقصر، على وزن الكُبرى - هي: الاسم من الاستثناء، وكذلك: الثَّنوى - بفتح الثاء - على وزن: طَرْفَى، ذكر ذلك في "الصحاح"، قال الهرويّ: بيع الثُّنيا هو: أن يُستثنى من المبيع شيء مجهول، فيفسد البيع، وقال القتبي: هو أن يبيع شيئًا جزافًا ويستثني منه شيئًا.

قال القرطبيّ: والحاصل: أن الثنيا اسم جنس لما فيه استثناء، سواء كان ذلك من البائع، أو من المبتاع، فيكون الأصل في كل ذلك المنع؛ لأجل النَّهي، غير أن في ذلك تفصيلًا يظهر بصور:

الأولى: جائزة باتفاق، وهي: أن يستثني البائع نخلات معينات من حائط، قلَّت، أو كثرت؛ لأن البيع لم يقع عليهنّ، بل على ما عداهنّ.

الثانية: أن يستثني نخلات مجهولات، أو كيلًا مجهولًا من الثمرة؛ على أن يعيّن ذلك بعد البيع، فذلك ممنوع فاسد باتفاق؛ لتناول النهي له وللجهل بالمبيع والغرر.

الثالثة: أن يستثني من الثَّمر كيلًا معلومًا، فذهب الجمهور إلى أن ذلك لا يجوز منه قليل ولا كثير، ورأوا أن ذلك النهي متناول له؛ لما فيه من الجهالة، وذهب مالك في جماعة أهل المدينة إلى أن ذلك جائز فيما بينه وبين ثلث الثمرة، ولا يجوز زيادة على ذلك. ورأوا: أن خرص الثمرة وحَزْرها مما يُعرف مقدارها، وأن استثناء القليل منها لا يكثر فيه الغرر، والقليل من الغرر مغتفر في مواضع كثيرة من الشرع، وما دون الثلث قليل.

قال: وهذا تخصيص للعموم بالنظر.

الرابعة: أن يستثني جزءًا من الثمرة مشاعًا، فيجوز عند مالك وعامة أصحابه، قلَّ، أو كثر، وذهب عبد الملك: إلى أنَّه لا يجوز استثناء الأكثر،

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 195.

ص: 202

والخلاف في ذلك مبني على جواز استثناء أكثر من الأقل، وعدم جوازه، وقد بيّنا جوازه في أصول الفقه.

الخامسة: أن يقول البائع للمشتري: أبيعك هذا الشيء بكذا، على أنك إن جئتني بالثمن إلى أجَلِ كذا رددت عليك ملكك، فهذا فاسد للنهي عنه، ولأنه ذريعة للسَّلف الذي يجر نفعًا، ويفسخ ما لم يَفُتْ، فإن فات ضمن بالقيمة، ويُفيتُه ما يُفيت البيع الفاسد.

السادسة: أن يعقد المشتري على أنه إن لم يأت بالثمن إلى وقت كذا فلا بيع بينهما. فاختُلِف فيه، فبعضهم أبطل الشرط، وصحح العقد، ومنهم من ألزم قائله الشرط، وجعل للآخر الخيار، والوجهان مرويان عن مالك. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (وَرَخَّصَ فِي الْعَرَايَا) أي: في بيع ثمرها بخرصها من التمر، وقد تقدّم البحث فيها مستوفى في بابها، فراجعه، تستفد.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3907]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - وَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ - عَنْ أدوبَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِه، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَذْكُرُ: بَيْعُ السَّنِينَ هِيَ الْمُعَاوَمَةُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

كلهم ذُكروا في الباب، وقبل باب، و"أيوب" هو: السَّختيانيّ.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَذْكُرُ

إلخ) ضمير أنه، و"يَذْكُر" لإسماعيل ابن عُليّة.

[تنبيه]: رواية إسماعيل ابن عليّة، عن أيوب هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "المجتبى" (7/ 296):

(1)

"المفهم"(4/ 403 - 405).

ص: 203

(4634)

- أخبرنا عليّ بن حُجْر، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، وأخبرنا زياد بن أيوب، قال: حدّثنا ابن عُلَيَّة، قال: أنبأنا أيوب، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة، والمزابنة، والمخابرة، والمعاومة، والثُّنْيا، ورَخَّصَ في العرايا. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(18) - (بَابُ كِرَاءِ الأَرْضِ)

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3908]

(

) - (وَحَدَّثَنِي اِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيد، حَدَّثَنَا رَبَاحُ بْنُ أَبِي مَعْرُوفٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءً، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كِرَاءِ الأَرْض، وَعَنْ بَيْعِهَا السِّنِينَ، وَعَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتى يَطِيبَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورِ) بن بَهْرام الْكَوْسج التميميّ، أبو يعقوب المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

2 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ) الْحَنفيّ، أبو عليّ البصريّ صدوقٌ [9](ت 209)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 40/ 1451.

3 -

(رَبَاحُ بْنُ أَبِي مَعْرُوفِ) بن أبي سارة المكيّ، صدوقٌ له أوهامٌ [7](بخ م دس) تقدم في "الحج" 1/ 2802.

والباقيان ذُكرا في الباب.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) الأنصاريّ رضي الله عنهما أنه (قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ) أي: أُجرتها، والمراد: الكراء الذي يؤدّي إلى النزاع؛ لجهالته،

ص: 204

أو لاشتماله على شرط فاسد، على ما سيأتي البحث عنه مستوفًى في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى -.

(وَ) نهى صلى الله عليه وسلم أيضًا (عَنْ بَيْعِهَا) أي: بيع الأرض (السِّنِينَ) المراد منه بيع ما تحمله شجرة مخصوصة من الثمر إلى مدّة سنة، فأكثر، وبيع السنين هو المعاومة، كما سبق في الباب الماضي، وإنما نُهي عنه؛ لكونه غررًا؛ لأنه بيع ما لم يخلقه الله بعدُ

(1)

. (وَ) نهى صلى الله عليه وسلم أيضًا (عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَطِيبَ) أي: حتى يصلح للأكل، وهو بمعنى ما تقدّم:"حتى يبدو صلاحه".

والحديث بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله، وسيأتي تمام البحث فيه في الحديث الثالث - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3909]

(

) - (وَحَدَّثَني أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ - يَعْنِي ابْنَ زيدٍ - عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاق، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مَطَرٌ الْوَرَّاقُ) بن طَهْمان السلميّ مولاهم، أبو رجاء الْخراسانيّ، نزيل البصرة، صدوقٌ كثير الخطإ، وحديثه عن عطاء ضعيف [6](ت 125)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 1/ 103.

[فإن قلت]: كيف أخرج المصنّف لمطر، مع أنه متكلّم فيه، ولا سيّما في عطاء؟

[قلت]: إنما أخرج له متابعةً، فلا يضرّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب، و"أبو الربيع" هو: سليمان بن داود العتكي الزهرانيّ، و"أبو كامل" هو: فضيل بن حسين الْجَحْدريّ.

(1)

راجع: "جامع الأصول" لابن الأثير 1/ 481.

ص: 205

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى شرحه، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3910]

(

) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ - لَقَبُهُ عَارِمٌ، وَهُوَ أَبُو النُّعْمَانِ السَّدُوسِي - حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُون، حَدَّثَنَا مَطَرٌ الْوَرَّاقُ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، فَإِنْ لَمْ يَزْرَعْهَا فَلْيُزْرِعْهَا أَخَاهُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَدُ بْنُ الْفَضْلِ) لَقَبُهُ عَارِمٌ، أبُو النُّعْمَانِ السُّدُوسِيُّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ تغيّر بآخره، من صغار [9](ت 3 أو 124)(ع) تقدم في "الحج" 28/ 3013.

[تنبيه]: قوله: الَقَبُهُ عَارِمٌ) معنى العارم الشَّرِس الشِّرِّير، وهو من الأضداد، فإن محمد بن الفضل رجل صالح، بعيد من الشرّ، قال ابن الصلاح في "معرفة علوم الحديث": كان عارم عبدًا صالحًا بعيدًا من الحرام. انتهى.

2 -

(مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ) الأزديّ الْمِعْوَليّ، أبو يحيى البصريّ، ثقةٌ، من صغار [6](ت 172)(ع) تقدم في "الإيمان" 47/ 297.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله، وشرح الحديث يأتي بعده.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3911]

(

) - (حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا هِقْلٌ - يَعْني ابْنَ زِيَادٍ - عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، قَالَ: كَانَ لِرِجَالٍ

(1)

فُضُولُ أَرَضِينَ، مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ كَانَتْ لَهُ فَضْلُ أَرْضٍ فَلْيَزْرَعْهَا، أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ").

(1)

وفي نسخة: "لرجل".

ص: 206

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى) بن أبي زُهير الْقَنْطريّ، أبو صالح البغداديّ، ثقةٌ

(1)

[10](ت 232)(خت م مد س ق) تقدم في "الإيمان" 46/ 294.

2 -

(هِقْلُ بْنُ زِيادٍ) السَّكْسكيّ الدمشقيّ، نزيل بيروت، قيل: هِقْلٌ لقبٌ، واسمه محمد، أو عبد الله، وكان كاتب الأوزاعيّ، ثقة متقن [9](ت 179) أو بعدها (م 4) تقدم في "الصلاة" 44/ 1099.

3 -

(الأَوْزَاعِيُّ) عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو، أبو عمر الفقيه، ثقةٌ ثبتٌ إمام مشهور [7](ت 157)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

والباقيان ذُكرا قبله.

شرح الحديث:

(عَنْ عَطَاءٍ) وفي رواية ابن ماجه: عن الأوزاعيّ، حدّثني عطاء، سمعت جابرًا (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: كَانَ لِرِجَالٍ) وفي بعض النسخ: "لرجل" بالإفراد (فُضُولُ أَرَضِينَ)"فُضُول" بضمّ الفاء: جمع فَضْل، كفَلْس وفُلُوس، والفضل بمعنى الزائد، يقال: خذ الفضل؛ أي: الزيادة، وقوله:"أرضين" - بفتحتين: جمع أرض بسكون الراء؛ أي: أراض فاضلة عن قدر ما يحتاجون إليه للزراعة، وقوله:(مِنْ أَصحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بيان لـ "رجال"، وفي رواية للبخاريّ:"كانوا يزرعونها بالثلث، والربع، والنصف"، وللنسائيّ:"كان لأناس فُضُول أرَضين، يُكرونها بالنصف، والثلت، والربع"(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ) شرطيّة (كَانَتْ لَهُ فَضْلُ أَرْضٍ) أي: أرض زائدة على حاجته (فَلْيَزْرَعْهَا) بفتح حرف المضارعة، من باب فتح، ثلاثيًّا؛ أي: ليقم بزراعتها بنفسه (أَوْ لِيَمْنَحْهَا) بفتح النون، وكسرها؛ أي: ليجعلها مَنِيحة؛ أي: عطيّة، قال الفيّوميّ رحمه الله: الْمِنْحة بالكسر في الأصل: الشاة، أو الناقة يُعطيها صاحبها رجلًا يشرب لبنها، ثمّ يردّها إذا انقطعِ اللبن، ثم كَثُر استعماله حتى أُطلق على كلّ عطاء، ومنحته مَنْحًا، من باب نفعَ، وضَرَب: أعطيته، والاسم

(1)

هذا أولى من قوله في "التقريب": صدوق، فتنبّه.

ص: 207

الْمَنِيحة. انتهى

(1)

. (أَخَاهُ) المراد به المسلم، وإن كان أجنبيًّا عنه، كما قال الله عز وجل:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] وقال صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم

" الحديث (فَإِنْ أَبَى) أي: امتنع من زراعتها بنفسه؛ لعجزه، أو غير ذلك، وقيل: معناه: فإن أبي أخوه أن يقبل العارية.

وفي رواية عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء الآتية:"فإن لم يستطع أن يزرعها، وعجز عنها، فليمنحها أخاه المسلم، ولا يؤاجرها إيّاه"(فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ") أي: فلا يمنحها، ولا يُكريها.

وقد استُشكِل هذا بأن في إمساكها بغير زراعة تضييعًا لمنفعتها، فيكون من إضاعة المال، وقد ثبت النهي عنها.

وأجيب بحمل النهي عن إضاعة عين المال، أو منفعة لا تُخْلَف؛ لأن الأرض إذا تُرِكت بغير زرع لم تتعطل منفعتها، فإنها قد تُنبت من الكلإ، والحطب، والحشيش ما ينفع في الرعي وغيره، وعلى تقدير أن لا يحصل ذلك، فقد يكون تأخير الزرع عن الأرض إصلاحًا لها، فتُخلف في السنة التي تليها ما لعله فات في سنة الترك، وهذا كله إن حُمِل النهي عن الكراء على عمومه، فأما لو حُمل الكراء على ما كان مالوفًا لهم من الكراء بجزء مما يخرج منها، ولا سيما إذا كان غير معلوم، فلا يستلزم ذلك تعطيل الانتفاع بها في الزراعة، بل يُكريها بالذهب، أو الفضة، كما تقرر ذلك، قاله في "الفتح"

(2)

.

[تنبيه]: قد توسّع المصنّف رحمه الله في هذا الباب بجمع أحاديث المزارعة، فأجاد، وأفاد، فذكر: حديث جابر رضي الله عنه: "نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الارض، وعن بيعها السنين، وعن بيع الثمر حتى يطيب"، وفي رواية:"نهى عن كراء الأرض لا، وفي رواية: لامن كانت له أرض، فليَزرَعها، فإن لم يزرعها، فليُزرِعها أخاه"، وفي رواية:"من كانت له فضل أرض فليزرعها، أو ليَمنحها أخاه، فإن أبي فليُمسك أرضه"، وفي رواية:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ للأرض أجرٌ، أو حظّ"، وفي رواية: "من كانت له أرض فليَزرعها، فإن

(1)

"المصباح المنير" 2/ 580.

(2)

"الفتح" 6/ 144.

ص: 208

لم يستطع أن يزرعها، وعجز عنها فليمنحها أخاه المسلم، ولا يؤاجرها إياه"، وفي رواية: "من كانت له أرض فلْيَزرَعها، أو لِيُزْرِعها أخاه، ولا يُكْرِها"، وفي رواية: "نَهَى عن المخابرة"، وفي رواية: "من كان له فضل أرض، فلْيَزْرعها، أو ليُزرعها أخاه، ولا تبيعوها"، وفسّره الراوي بالكراء، وفي رواية: "من كانت له أرض فلْيَزَرعها، أو فلْيُحْرِثها أخاه، وإلا فليدَعْها"، وفي رواية: "كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نأخذ الأرض بالثلث، والربع بالماذيانات، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقال: من كانت له أرض فليَزْرعها، فإن لم يَزْرَعها فليمنحها أخاه، فإن لم يمنحها أخاه فليمسكها"، وفي رواية: "من كانت له أرض فليهبها، أو ليُعِرها"، وفي رواية: "نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الأرض البيضاء سنتين، أو ثلاثًا"، وفي رواية: "نهى عن بيع السنين"، وفي رواية: "من كانت له أرض، فليَزرعها، أو ليمنحها أخاه، فإن أبى فليُمسك أرضه"، وفي رواية: "سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهَى عن المزابنة، والحقول، وفسّره جابر بكراء الأرض"، ومثله من رواية أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، وفي رواية ابن عمر: "كنا نَكري أرضنا، ثم تركنا ذلك حين سمعنا حديث رافع بن خَدِيج"، وفي رواية عنه: "كنا لا نرى الْخَبْر بأسًا، حتى كان عام أول، فزعم رافع؛ أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عنه"، وفي رواية عن نافع؛ أن ابن عمر كان يُكري مزارعه على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي إمارة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وصدرًا من خلافة معاوية، ثم بلغه آخر خلافة معاوية أن رافع بن خديج يُحَدِّث فيها بنهي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فدخل عليه، وأنا معه، فسأله، فقال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن كراء المزارع، فتركها ابن عمر"، وفي رواية، عن حنظلة بن قيس، قال: "سألت رافع بن خَدِيج عن كراء الأرض بالذهب والورق؟ فقال: لا بأس به، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات، وأَقْبال الجداول، وأشياء من الزرع، فيَهْلِك هذا، وَيسْلَم هذا، وَيسْلَم هذا، وَيهْلِك هذا، فلم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زَجَر عنه، فأما شيء معلوم، مضمون، فلا بأس به".

وفي رواية: "كنا نُكْرِي الأرض على أن لنا هذه، ولهم هذه، فربما أَخْرَجت هذه، ولم تخرج هذه، فنهانا عن ذلك، وأما الورِق فلم ينهنا".

ص: 209

وفي رواية عن عبد الله بن مَعْقِل - بالعين المهملة، والقاف - قال: زعم ثابت - يعني ابن الضحاك - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن المزارعة، وأمر بالمؤاجرة، وقال: لا بأس به. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [18/ 3908 و 3909 و 3910 و 3911 و 3912 و 3913 و 3914 و 3915 و 3916 و 3917 و 3918 و 3919 و 3920 و 3921 و 3922 و 3923](1536)، و (البخاريّ) في "الحرث والمزارعة"(2340) و"الهبة"(2632)، و (أبو داود) في "البيوع"(3389)، و (النسائيّ) في "المزارعة"(7/ 36 و 37) و"الكبرى"(3/ 90 و 93 و 95 و 100 و 101 و 102 و 103 و 104 و 106)، و (ابن ماجه) في "الرهون"(2454)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(965)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 369) وفي "مسنده"(1/ 76)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 234 و 2/ 11 و 3/ 463 و 465 و 4/ 142)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5148 و 5188)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(4309) و"الأوسط"(6/ 192)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 320)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2035)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(3/ 36)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 130) و"الصغرى"(5/ 428)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده

(1)

:

1 -

(منها): بيان النهي عن كراء الأرض بالثلث والربع، وسيأتي اختلاف العلماء في المراد بالنهي المذكور في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

2 -

(ومنها): جواز حراثة الأرض، وزراعتها؛ بل ورد فيه من الفضل ما أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال

(1)

المراد فوائد أحاديث الباب كلها، كما أوردته في التنبيه الماضي، فتنبّه.

ص: 210

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم، يَغرِس غَرْسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة، إلا كان له به صدقة".

وأما الحديث الوارد في الذمّ وهو ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" من حديث أبي أمامة الباهليّ رضي الله عنه، قال - ورأى سِكَّة، وشيئًا من آلة الحرث - فقال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم، يقول:"لا يدخل هذا بيتَ قوم، إلا أدخله الله الذُّلُّ"، وفي رواية أبي نعيم في "المستخرج":"إلا أدخلوا على أنفسهم ذُلًّا، لا يَخرُج عنهم إلى يوم القيامة".

فمحمول على ما إذا شغله ذلك عن الجهاد في سبيل الله تعالى، والقيام بالواجبات، ولذلك قال الإمام البخاريّ رحمه الله في ترجمته لهذا الحديث - بعد ذكر "باب فضل الزرع والغرس" - ما نصّه:"باب ما يُحذَر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع، أو مجاوزة الحدّ الذي أُمر به". انتهى.

3 -

(ومنها): الحثّ على الإحسان بمنح الأرض لمن يحتاج إلى زراعتها، وقد عَمِل بهذا الصحابة رضي الله عنهم، كما ترجم البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" بقوله:"باب ما كان من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم يُواسي بعضهم بعضًا في الزراعة والثمر"، ثم أورد حديث رافع بن خّديج رضي الله عنه من طريق أبي النجاشيّ، عن رافع، عن عمه ظهير بن رافع رضي الله عنه الآتي قريبًا - إن شاء الله تعالى -.

4 -

(ومنها): حرص الشارع على الحثّ على التراحم، والتعاطف، وعدم طلب المقابل على الإحسان، والترغيب إلى ما فيه جلب المودّة والمحبّة، والترهيب عمّا يورث الشحناء، والبغضاء، والحقد، والحسد؛ فإن هذا هو سبب النهي عن المزارعة، كما بُيّن ذلك في بعض طرق حديث رافع رضي الله عنه، كما سيأتي للمصنّف عن حنظلة بن قيس الأنصاري، قال: سألت رافع بن خديج، عن كراء الأرض بالذهب والورق؟ فقال: لا بأس به، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، على الْمَاذْيَانَات، وأَقْبَال الجداول، وأشياء من الزرع، فيَهْلِك هذا، ويَسلَم هذا، وَيَسْلَم هذا، ويهلك هذا، فلم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم، مضمون، فلا بأس به.

5 -

(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من كمال إيمانهم، وتقديمهم أمر الشارع على هوى أنفسهم، وثقتهم بأن كلّ الخير مضمون فيما أمر الله سبحانه وتعالى به،

ص: 211

لا فيما يبدو لهم، ويظنون الخيريّة فيه، فقد قال هذا الصحابيّ الجليل رضي الله عنه:"نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا، وطواعية الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم أنفع لنا"، فبيّن أن النفع الظاهر للنفس لا يُعتمد عليه، بل الاعتماد على ما شرعه الله تعالى، فإن الخير كله مضمون فيه، وهذا هو واجب كلّ مسلم إذا سمع نهي الشارع أن يقول: سمعًا وطاعةً لله سبحانه وتعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ويعتقد أن الخير كلّه في ذلك، وإن كان يظهر له بادئ ذي بدء أنَّ ما نَهَى عنه كان نافعًا له، ورافقًا به، فإن الله سبحانه وتعالى أعلم بمصالح عباده منهم لأنفسهم، كما قال عز وجل:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة: 216]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم المزارعة:

قال النوويّ رحمه الله: اختَلَف العلماء في كراء الأرض، فقال طاوس، والحسن البصريّ: لا يجوز بكلّ حال، سواء أكراها بطعام، أو ذهب، أو فضة، أو بجزء من زرعها؛ لإطلاق حديث النهيّ عن كراء الأرض.

وقال الشافعيّ، وأبو حنيفة، وكثيرون: تجوز إجارتها بالذهب والفضة، وبالطعام والثياب، وسائر الأشياء، سواء كان من جنس ما يُزرَع فيها أم من غيره، ولكن لا تجوز إجارتها بجزء ما يَخرُج منها؛ كالثلث، والربع، وهي المخابرة، ولا يجوز أيضًا أن يشترط له زرع قطعة معينة.

وقال ربيعة: يجوز بالذهب والفضة فقط.

وقال مالك: يجوز بالذهب والفضة وغيرهما، إلا الطعام.

وقال أحمد، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وجماعة من المالكية، وآخرون: تجوز إجارتها بالذهب والفضة، وتجوز المزارعة بالثلث والربع وغيرهما، وبهذا قال ابن شُريح

(1)

، وابن خزيمة، والخطابيّ، وغيرهم من محققي الشافعيّة، وهو الراجح المختار، وسنوضحه في باب المساقاة - إن شاء الله تعالى -.

(1)

هكذا النسخة، والظاهر أنه مصحّف من ابن سُريج، بالسين المهملة، والجيم، فليُحرّر.

ص: 212

فأما طاوس والحسن، فقد ذكرنا حجتهما، وأما الشافعيّ، وموافقوه، فاعتمدوا بصريح رواية رافع بن خَدِيج، وثابت بن الضحاك السابقين، في جواز الإجارة بالذهب والفضة، ونحوهما، وتأولوا أحاديث النهي تأويلين:

[أحدهما]: حملها على إجارتها بما على الماذيانات، أو بزرع قطعة معينة، أو بالثلث والربع، ونحو ذلك، كما فسّره الرواة في هذه الأحاديث التي ذكرناها.

[والثاني]: حملها على كراهة التنزيه، والإرشاد إلى إعارتها، كما نَهَى عن بيع الغرر نَهي تنزيه

(1)

، بل يتواهبونه، ونحو ذلك، وهذان التأويلان لا بُدّ منهما، أو من أحدهما للجمع بين الأحاديث، وقد أشار إلى هذا التأويل الثاني البخاريّ وغيره، ومعناه عن ابن عباس رضي الله عنهما. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(2)

.

وقال ابن قُدامة رحمه الله: المزارعة جائزة في قول كثير من أهل العلم، قال البخاريّ: قال أبو جعفر: ما بالمدينة أهل بيت إلا ويزرعون على الثلث والربع، وزارع عليّ، وسعد، وابن مسعود، وعمر بن عبد العزيز، والقاسم، وعروة، وآل أبي بكر، وآل عليّ، وابن سيرين. وممن رأى ذلك سعيد بن المسيّب، وطاوش، وعبد الرحمن بن الأسود، وموسى بن طلحة، والزهريّ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وابنه، وأبو يوسف، ومحمد، وروي ذلك عن معاذ، والحسن، وعبد الرحمن بن يزيد، قال البخاريّ: وعامَل عمر الناس على أنه إن جاء عمر بالبذر من عنده، فله الشطر، وإن جاءوا بالبذر، فلهم كذا.

وكرهها عكرمة، ومجاهد، والنخعيّ، وأبو حنيفة. ورُوي عن ابن عبّاس الأمران جميعًا.

وأجازها الشافعيّ في الأرض بين النخيل، إذا كان بياض الأرض أقلّ، فإن كان أكثر فعلى وجهين، ومنعها في الأرض البيضاء؛ لما رَوَى رافع بن

(1)

قوله في بيع الغرر: "نهي تنزيه" فيه نظر، بل الصواب أنه نهي تحريم، كما مضى في محلّه، فتنبّه.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 198 - 199.

ص: 213

خديج رضي الله عنه، قال: كنّا نُخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر أن بعض عمومته أتاه، فقال: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر كان لنا نافعًا، وطواعية الله، ورسوله كرر أنفع لنا، قلنا: ما ذاك؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له أرضٌ، فليَزرَعها، ولا يُكريها بثلث، ولا بربع، ولا بطعام مسمّى"، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ما كنّا نرى بالمزارعة بأسًا حتى سمعت رافع بن خَديج يقول: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها. وقال جابر رضي الله عنه: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة.

وهذه كلها أحاديث صحاح متّفقٌ عليها، والمخابرة: المزارعة، واشتقاقها من الْخَبَار، وهي الأرض الليّنة، والْخَبير: الأَكّار، وقيل: المخابرة: معاملة أهل خيبر، وقد جاء حديث جابر رضي الله عنه مفسّرًا، فروى البخاريّ بإسناده عن جابر رضي الله عنه قال: كانوا يزرعونها بالثلث، والربع، والنصف، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من كانت له أرضٌ، فليزرعها، أو ليمنحها أخاه، فإن لم يفعل، فليُمسك أرضه". ورُوي تفسيرها عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، فقد رَوَى أبو داود بإسناده عن زيد رضي الله عنه قال: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة، قلت: وما المخابرة؟ قال: أن يأخذ الأرض بنصف، أو ثلث، أو ربع.

واحتجّ الأولون بما روى ابن عمر رضي الله عنهما، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرُج منها، من زرع، أو ثمر. متفق عليه، وقد رُوي ذلك عن ابن عبّاس، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم.

وقال أبو جعفر

(1)

: عامَل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بالشطر، ثم أبو بكر، ثم عمر، وعثمان، وعليّ رضي الله عنهم، ثم أهلوهم إلى اليوم، يُعطُون الثلث، والربع، وهذا أمر صحيحٌ، مشهور، عَمِل به رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، ثم خلفاؤه الراشدون حتى ماتوا، ثم أهلوهم من بعده.

فرَوَى البخاريّ عن ابن عمر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرُجُ منها، من زرع، أو ثمرٍ، فكان يُعطي أزواجه مائة وسق، ثمانون وسقًا تمرًا، وعشرون وسقًا شعيرًا، فَقَسَم عمر رضي الله عنه خيبر، فخيَّر أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يَقطع لهن من الأرض والماء، أو يُمضي لهنّ الأوسق، فمنهنّ من اختار الأرض،

(1)

الظاهر أنه ابن جرير الطبريّ، والله تعالى أعلم.

ص: 214

ومنهنّ من اختار الأوسق، فكانت عائشة رضي الله عنها اختارت الأرض.

ومثل هذا لا يجوز أن يُنسَخ؛ لأن النسخ إنما يكون في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما شيءٌ عَمِل به إلى أن مات، ثم عَمِل به خلفاؤه بعده، وأجمعت الصحابة رضي الله عنهم، وعَمِلوا به، ولم يُخالف فيه منهم أحد، فكيف يجوز نسخه؟ ومتى كان نسخه؟ فإن كان نُسخ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف عُمل به بعد نسخه؟ وكيف خَفِي نسخه؟ فلم يبلغ خلفاءه، مع اشتهار قصّة خيبر، وعَمَلهم فيها؟ فأين كان رواي النسخ حتى لم يذكروه، ولم يخبرهم به؟

فأما ما احتجّ به المانعون، فالجواب عن حديث رافع بن خديج رضي الله عنه من أربعة أوجه:

[أحدها]: أنه قد فُسّر المنهيّ عنه في حديثه بما لا يُختَلَفُ في فساده، فإنه قال: كنّا أكثر الأنصار حَقْلًا، فكنّا نُكري الأرض على أن لنا هذه، ولهم هذه، فربّما أخرجت هذه، ولم تُخرج هذه، فنهانا عن ذلك، فأما بالذهب والورق، فلم ينهنا. متّفقٌ عليه. وفي لفظ: فأما بشيء معلوم، مضمون، فلا بأس. وهذا خارجٌ عن محلّ الخلاف، فلا دليل فيه عليه، ولا تعارض بين الحديثين.

[الثاني]: أن خبره ورد في الكراء بثلث، أو ربع، والنزاع في المزارعة، ولم يدلّ حديثه عليها أصلًا، وحديثه الذي في المزارعة يُحمَل على الكراء أيضًا؛ لأن القصّة واحدةٌ، رُويت بألفاظ مختلفة، فيجب تفسير أحد اللفظين بما يوافق الآخر.

[الثالث]: أن أحاديث رافع رضي الله عنه مضطربة جدًّا، مختلفة اختلافًا كثيرًا، يوجب ترك العمل بها لو انفردت، فكيف يُقدّم على مثل حديثنا؟ قال الإمام أحمد: حديث رافع ألوان. وقال أيضًا: حديث رافع ضُرُوبٌ. وقال ابن المنذر: قد جاءت الأخبار عن رافع بعلل تدلّ على أن النهي كان لذلك، منها: الذي ذكرناه، ومنها: خَمْسٌ أخرى، وقد أنكره فقيهان من فقهاء الصحابة: زيد بن ثابت، وابن عبّاس رضي الله عنهم، قال زيد بن ثابت: أنا أعلم بذلك منه، وإنما سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلين قد اقتتلا، فقال:"إن كان هذا شأنكم، فلا تُكروا المزارع". رواه أبو داود، والأثرم.

ص: 215

وروى البخاريّ، عن عمرو بن دينار، قال: قلت لطاوس: لو تركت المخابرة، فإنهم يزعمون أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عنها، قال: إن أعلمهم - يعني ابن عبّاس - أخبرني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يَنْهَ عنها، ولكن قال:"أن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليها خَراجًا معلومًا".

ثم إن أحاديث رافع رضي الله عنه منها ما يُخالف الإجماع، وهو النهي عن كراء المزارع على الإطلاق، ومنها ما لا يُختَلَف في فساده، كما بيّنّاه، وتارة يُحدّث عن بعض عمومته، وتارة عن سماعه، وتارة عن ظُهير بن رافع رضي الله عنه، وإذا كانت أخبار رافع هكذا، وجب اطّراحها، واستعمال الأخبار الواردة في شأن خيبر الجارية مجرى التواتر التي لا اختلاف فيها، وبها عمل الخلفاء الراشدون، وغيرهم، فلا معنى لتركها بمثل هذه الأحاديث الواهية.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "الأحاديث الواهية" فيه نظر لا يخفى، فكيف تكون واهية، وقد أخرجها الشيخان في "صحيحيهما"، واعتمدا عليها؛ بل الصواب أنها صحيحة، ويجب تأويلها بما لا يتنافَى مع حديث شأن خيبر، وذلك هو التأويل الأول في كلام ابن قُدامة، وغير ذلك مما سنبيّنه - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم.

قال: [الجواب الرابع]: أنه لو قُدّر صحّة خبر رافع

(1)

، وامتنع تأويله، وتعذّر الجمع، لوجب حمله على أنه منسوخ؛ لأنه لا بدّ من نسخ أحد الخبرين، ويستحيل القول بنسخ حديث خيبر؛ لكونه معمولًا به من جهة النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى حين موته، ثم من بعده إلى عصر التابعين، فمتى كان نسخه؟

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: دعوى النسخ هنا غير صحيحة؛ لأن النسخ لا يُصار إليه إلا عند تعذّر العمل بالنصّين، وهنا لا يتعذّر، بل يُحْمَل على أحد المحامل التي ذكرها هو أو غيره، كما فعل هو هنا في حديث جابر، وزيد بن ثابت رضي الله عنهما حيث قال:

(1)

هذه عبارة سخيفة، كيف يقال: لو قُدْر إلخ مع كونه هو الواقع حقيقةً، لا تقديرًا؟ فقد أخرجه الشيخان في "صحيحيهما"، واعتدّاه، فيا للعجب لمثل هذا!!! إن هذا لهو العجب العجاب!!!.

ص: 216

وأما حديث جابر رضي الله عنه في النهي عن المخابرة، فيجب حمله على أحد الوجوه التي حُمل عليها خبر رافع، فإنه قد روى حديث خيبر أيضًا، فيجب الجمع بين حديثيه مهما أمكن، ثم لو حُمل على المزارعة لكان منسوخًا بقصّة خيبر؛ لاستحالة نسخها، كما ذكرنا، وكذلك القول في حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.

قال: فإن قال أصحاب الشافعيّ: تُحمَل أحاديثكم على الأرض التي بين النخيل، وأحاديث النهي على الأرض البيضاء؛ جمعًا بينهما.

قلنا: هذا بعيدٌ لوجوه خمسة:

[أحدها]: أنه يبعُدُ أن تكون بلدةٌ كبيرةٌ يأتي منها أربعون ألف وسق، ليس فيها أرض بيضاء، ويبعد أن يكون قد عامَلهم على بعض الأرض دون بعض، فينقل الرواة كلهم القصّة على العموم من غير تفصيل، مع الحاجة إليه.

[الثاني]: أن ما يذكرونه من التأويل لا دليل عليه، وما ذكرناه دلّ عليه بعض الروايات، وفسّره الراوي له بما ذكرناه، وليس معهم سوى الجمع بين الأحاديث، والجمع بينهما بحمل بعضها على ما فسّره راويه به أولى من التحكّم بما لا دليل عليه.

[الثالث]: أن قولهم يُفضي إلى تقييد كلّ واحد من الحديثين، وما ذكرناه حمل لأحدهما وحده.

[الرابع]: أن فيما ذكرناه موافقةَ عمل الخلفاء الراشدين، وأهليهم، وفقهاء الصحابة، وهم أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنّته، ومعانيها، وهو أولى من قول من خالفهم.

[الخامس]: أن ما ذهبنا إليه مُجمَعٌ عليه، فإن أبا جعفر

(1)

روى ذلك عن أهل كلّ بيت بالمدينة، وعن الخلفاء الأربعة، وأهليهم، وفقهاء الصحابة، واستمرار ذلك، وهذا مما لا يجوز خفاؤه، ولم يُنكره من الصحابة منكِر، فكان إجماعًا، وما رُوي في مخالفته، فقد بيّنّا فساده، فيكون هذا إجماعًا من الصحابة رضي الله عنهم، لا يسوغ لأحد خلافه.

(1)

تقدّم أن الظاهر أنه الطبري، والله أعلم.

ص: 217

والقياس يقتضيه، فإن الأرض عينٌ تُنمّى بالعمل فيها، فجازت المعاملة عليها ببعض نمائها؛ كالأثمان في المضاربة، والنخل في المساقاة، أو نقول: أرضٌ، فجازت المزارعة عليها؛ كالأرض بين النخيل، ولأن الحاجة داعيةٌ إلى المزارعة؛ لأن أصحاب الأرض قد لا يقدرون على زرعها، والعمل عليها، والأكَرَةُ يحتاجون إلى الزرع، ولا أَرْضَ لهم، فاقتضت حكمة الشرع جواز المزارعة، كما قلنا في المضاربة، والمساقاة، بل الحاجة ههنا آكد؛ لأن الحاجة إلى الزرع آكد منها إلى غيره؛ لكونه مُقتاتًا، ولكون الأرض لا يُنتفع بها إلا بالعمل عليها، بخلاف المال، ويدلّ على ذلك قول راوي حديثهم: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا، والشارع لا ينهى عن المنافع، وإنما ينهى عن المضارّ والمفاسد، فدلّ على غلط الراوي في النهي عنه، وحصول المنفعة فيما ظنّه منهيًّا عنه. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله ابن قُدامة رحمه الله تحقيق نفيسٌ، غير محاولته تضعيف حديث رافع بن خديج رضي الله عنه، فإنه غير مقبول، فإن الحديث صحيح، وقد اتفق الشيخان على تخريجه، والجمع بينه وبين حديث قصّة خيبر ممكنٌ، كما سبق في كلامه هو، فكيف يضعّفه؟

والحقّ أن الحديث صحيح، وأنه لا يعارض الحديث المذكور، كما قاله الحذّاق العارفون بعلل الأحاديث، وفقهها، فمن تأمّله، وجمع طرقه، واعتبر بعضها ببعض، وحمل مُجمَلها على مفسّرها، ومطلقها على مقيّدها على أن الذي نَهَى عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديثه كان أمرًا بيّن الفساد، وهي: المزارعة الظالمة الجائرة، فإنه رضي الله عنه قال:"كنا نُكري الأرض على أن لنا هذه، ولهم هذه، فربّما أخرجت هذه، ولم تخرج هذه"، وفي لفظ:"كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات، وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع"، وقال أيضًا:"ولم يكن لهم كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، وأما بشيء معلوم، مضمون، فلا بأس"، فهذا، وما أشبهه من حديثه من أبين ما فيه، وأصحّه، وأصرح ما فسّر به ما أجمله، أو أطلقه، أو اختصره في سائر رواياته، فالواجب أن تُحْمَلَ تلك المجملاتُ على المفسّر المبيّن، المتّفق عليه لفظًا، وحكمًا.

ص: 218

قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: قد جاءت الأخبار عن رافع بعلل تدلّ على أن النهي كان لتلك العلل.

وقال الإمام الليث بن سعد رحمه الله: الذي نَهَى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر إذا نظر إليه ذو البصيرة بالحلال والحرام عَلِمَ أنه لا يجوز.

وأيضًا فقد وقع في حديث جابر رضي الله عنه نحو ما وقع في حديث رافع، لكن الجواب هو الجواب المذكور، فقد وقع في بعض طرقه:"أنهم كانوا يختصون بأشياء من الزرع من القِصْرِيّ، ومن كذا، ومن كذا، فقال صلى الله عليه وسلم: من كان له أرض، فليَزْرَعها، أو ليمنعها أخاه"، فهذا مفسّر مبين ذُكر فيه سبب النهي، وأُطلق في غيره من الألفاظ، فينصرف مطلقها إلى هذا المقيّد المبيّن، وأن المراد بالنهي هو هذا النوع.

وقال الإمام البيهقيّ رحمه الله في "السنن الكبرى": "باب من أباح المزارعة بجزء معلوم مشاع، وحمل النهي عنها على التنزيه، أو على ما لو تضمّن العقد شرطًا فاسدًا"، ثم أورد الأحاديث، وأورد إنكار ابن عبّاس، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم على رافع بن خَدِيج، حيث قال ابن عبّاس رضي الله عنهما:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُحرّم المزارعة، ولكن أمر أن يرفُق الناس بعضهم من بعض".

وقال زيد بن ثابت رضي الله عنه: يغفر الله لرافع بن خَدِيج، أنا والله كنت أعلم بالحديث منه، إنما أتى رجلان من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد اقْتَتَلا، فقال:"إن كان هذا شأنَكم، فلا تُكروا المزارع"، فسمع قوله:"لا تُكروا المزارع".

قال البيهقيّ رحمه الله: زيد بن ثابت، وابن عبّاس رضي الله عنهما كأنهما أنكرا - والله أعلم - إطلاق النهي عن كراء المزارع، وعَنَى ابن عبّاس بما لم يُنه عنه من ذلك: كراءها بالذهب والفضّة، وبما لا غرر فيه، وقد قيّد بعض الرواة عن رافع الأنواع التي وقع النهي عنها، وبيّن علّة النهي، وهي ما يُخشى على الزرع من الهلاك، وذلك غرر في العوض، يوجب فساد العقد، قال: وقد روينا عن زيد بن ثابت ما يوافق رواية رافع بن خَديج وغيره، فدلّ أن ما أنكره غير ما أثبته، والله أعلم.

قال: ومن العلماء من حمل أخبار النهي على ما لو وقعت بشروط

ص: 219

فاسدة، نحو شرط الجداول، والماذْيَانات، وهي الأنهار، وهي ما كان يشترط على الزارع أن يزرعه على هذه الأنهار خاصّة لربّ المال، ونحو شرط القصارة، وهي ما بقي من الحبّ في السنبل بعدما يداس، ويقال: القِصْرِيّ، ونحو شرط ما يسقي الربيع، وهو النهر الصغير، فكانت هذه، وما أشبهها شروطًا شرطها ربّ المال لنفسه خاصّةً، سوى الشرط على النصف، والربع، والثلث، فيرى أن نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن المزارعة إنما كان لهذه الشروط؛ لأنها مجهولة، فإذا كانت الحصص معلومةً، نحو النصف، والثلث، والربع، وكانت الشروط الفاسدة معدومةً، كانت المزارعة جائزة، وإلى هذه ذهب أحمد بن حنبل، وأبو عُبيد، ومحمد بن إسحاق بن خُزيمة، وغيرهم من أهل الحديث، وإليه ذهب أبو يوسف، ومحمد بن الحسن من أصحاب الرأي - رحمهم الله تعالى - والأحاديث التي مضت في معاملة النبيّ صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر، أو زرع دليلٌ لهم في هذه المسألة.

وقال أيضًا: ومن ذهب إلى هذا زعم أن الأخبار التي ورد النهي فيها عن كرائها بالنصف، أو الئلث، أو الربع إنما هو لِمَا كانوا يُلحقون به من الشروط الفاسدة، فقصّر بعض الرواة بذكرها، وقد ذكرها بعضهم، والنهي يتعلّق بها دون غيرها. انتهى المقصود من كلام البيهقيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد أجاد البيهقي رحمه الله، وأفاد في كلامه المذكور.

والحاصل أن المزارعة جائزة، إلا ما كان فيها العوض مجهولًا، أو دخلت فيه الشروط الفاسدة، على ما فُصّل آنفًا.

فبهذا تتفق السنن المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتاكف، ويزول عنها الاضطراب المتوهّم، والاختلاف الذي يظهر في بادئ الرأي، ويظهر أن لكلّ منها وجهًا صحيحًا، ومَرَدًّا مَلِيحًا، وأن ما نَهَى عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم غير ما أباحه وفعله، وفعله أيضًا خلفاؤه الراشدون، وصحابته الأكرمون رضي الله عنهم، وهذا هو

(1)

راجع: "السنن الكبرى" للبيهقيّ 6/ 133 - 136.

ص: 220

الواجب، والواقع في نفس الأمر، ولله الحمد، والمنّة، وله الفضل والنعمة،

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3912]

(

) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، أَخْبَرَنَا الشَّيْبَانِيُّ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَخْنَس، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُؤْخَذَ لِلأَرْضِ

(1)

أَجْرٌ، أَوْ حَظٌّ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون السمين البغداديّ، مروزيّ الأصل، صدوقٌ فاضلٌ ربّما وَهِمَ [10](ت 5 أو 246)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.

2 -

(مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ الرَّازِيُّ) نزيل بغداد، أبو يعلى، ثقةٌ فقيهٌ سنّيٌّ، طُلب للقضاء، فامتنع، أخطأ من زعم أن أحمد رماه بالكذب [10](211)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 43.

3 -

(خَالِدُ) بن عبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد الطحّان الواسطيّ المزنيّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 407.

4 -

(الشَّيْبَانِيُّ) سليمان بن أبي سُليمان فيروز، أبو إسحاق الكوفيّ، ثقةٌ [5] مات في حدود (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 38/ 259.

5 -

(بُكَيْرُ بْنُ الأَخْنَسِ) السَّدُوسيّ، ويقال: الليثيّ، ثقةٌ [4](خ م د س ق) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 1/ 1575.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (أَنْ يُؤْخَذَ لِلأَرضِ) وفي نسخة: "على الأرض".

وقوله: (أَجْرٌ، أَوْ حَظٌّ) الظاهر أن "أو" هنا للشكّ من الواوي، والمراد بالحظّ هو الكراء.

والحديث بهذا اللفظ من أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

وفي نسخة: "على الأرض".

ص: 221

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3913]

(

) - (حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِك، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَزْرَعَهَا، وَعَجَزَ عَنْهَا فَلْيَمْنَحْهَا أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، وَلَا يُؤَاجِرْهَا إِيَّاهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، تقدّم قبل بابين.

2 -

(أبوه) عبد الله بن نُمير، تقدّم قريبًا.

3 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ) بن أبي سليمان ميسرة الْعَرْزميّ الكوفيّ، ثقة [5](ت 145)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (فَلْيَزْرَعْهَا) بفتح حرفْ المضارعة؛ أي: يزرعها بنفسه، لا بأجير يستأجره لزراعتها. وقوله:(وَلَا يُؤَاجِرْهَا إِيَّاهُ) أي: لا يُعط أخاه تلك الأرض بأجرة، وهذا النهي كما تقدّم محمول على التنزيه، إن كان بالثلث والربع، أو بأجرة معلومة، وإن كان بشروط فاسدة، كان يستثني صاحب الأرض بعض ما يخرج منها لنفسه، أو يدفعه بما على الماذيانات، أو السواقي، فعلى التحريم؛ لاشتماله على شروط فاسدة، مضرّة بأحد الجانبين.

والحديث بهذا اللفظ من أفراد المصنّف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3914]

(

) - (وَحَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، قَالَ: سَأَلَ سُلَيْمَان بْنُ مُوسَى عَطَاء، فَقَالَ: أَحَدَّثَكَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ؛ أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، أَوْ لِيُزْرِعْهَا أَخَاهُ، وَلَا يُكْرِهَا"؟ قَالَ: نَعَمْ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الأُبُليّ، أبو محمد، صدوقٌ يَهِمُ، ورُمي بالقدر، من صغار [9](ت 6 أو 235) وله بضع و (90) سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.

ص: 222

2 -

(هَمَّامُ) بن يحيى بن دينار الْعَوْذيّ، أبو عبد الله، أو أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [7](ت 4 أو 165)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

3 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى) الأمويّ مولاهم الدمشقيّ الأشدق، صدوقٌ فقيهٌ في حديثه بعض لين، وخُولط قبل موته بقليل [5](م 4)

(1)

تقدّم في "المقدّمة" 5/ 28.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (وَلَا يُكْرِهَا) بضمّ حرف المضارعة؛ أي: لا يأخذ عليها كراء؛ أي: أجرة.

والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3915]

(

) - (حَدَّثَنَا أبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرٍ؛ أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْمُخَابَرَةِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبله، غير عمرو، فتقدّم قريبًا، و"سفيان" هو: ابن عيينة، و"عمرو" هو: ابن دينار.

وقوله: (نَهَى عَنِ الْمُخَابَرَةِ) أي: المزارعة، وقد تقدّم أن جابرًا رضي الله عنه فسّر المخابرة بأنها الأرض البيضاء يدفعها الرجل إلى الرجل، فيُنفق فيها، ثم يأخذ من الثمر.

[تنبيه]: هذا الإسناد من رباعتات المصنف رحمه الله، وهو (260) من رباعيّات الكتاب.

(1)

[تنبيه]: سليمان بن موسى هذا لم يدخله أصحاب البرامج في رجال مسلم، وذلك تقليدًا منهم لصاحب "تهذيب الكمال" حيث نصّعلى أن مسلمًا أخرج له في "المقدّمة" فقط، وتبعه الحافظ في "التهذيب"، و"التقريب"، وهذا وهم، كما ترى فقد أخرج له هنا، وكنت قلّدتهما في ذلك في "شرح المقدّمة"، لكن تبيّن الصواب خلاف ذلك، فتنبّه، والله تعالى وليّ التوفيق.

ص: 223

والحديث بهذا اللفظ من أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3916]

(

) - (وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِر، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيد، حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: إِن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ كَانَ لَهُ فَضْلُ أَرْضٍ فَلْيَزْرَعْهَا، أَوْ لِيُزْرِعْهَا أَخَاهُ، وَلَا تَبِيعُوهَا"، فَقُلْتُ لِسَعِيدٍ: مَا قَوْلُهُ: وَلَا تَبِيعُوهَا

(1)

، يَعْنِي الْكِرَاءَ؟ قَالَ: نَعَمْ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: حجاج بن أبي يعقوب يوسف بن حجاج الثقفيّ البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 259)(م د) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

وقوله: (فَلْيَزْرَعْهَا، أَوْ لِيُزْرِعْهَا أَخَاهُ) الأول بفتح حرف المضارعة، من الزرع؛ أي: ليزرعها بنفسه، والثاني بضمها، من الإزراع؛ أي: ليجعلها مزرعة لأخيه، والمراد أنه يُعيره إياها بلا عوض، وهو معنى الرواية الأخرى:"فليَمنحها أخاه".

وقوله: (فَقُلْتُ لِسَعِيدٍ

إلخ) القائل هو سَليم بن حيّان، وسعيد هو: ابن مِيناء.

والحديث بهذا اللفظ من أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3917]

(

) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْر، عَنْ جَابِر، قَالَ: كنَّا نُخَابِرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَنُصِيبُ مِنَ الْقِصْرِيّ، وَمِنْ كَذَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، أَوْ فَلْيُحْرِثْهَا أَخَاهُ، وَإِلَّا فَلْيَدَعْهَا").

(1)

وفي نسخة: "فقلت لسعيد: ما ولا تبيعوها؟ ".

ص: 224

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وقد تقدّم نفسه قبل أربعة أبواب، و"أحمد بن يونس" هو: أحمد بن عبد الله بن يونس، نُسب لجدّه، و"زهير" هو: ابن معاوية بن حُدَيج.

[تنبيه]: هذا الإسناد من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (261) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (كُنَّا نُخَابِرُ) أي: نزارع.

وقوله: (فَنُصِيبُ مِنَ الْقِصْرِيِّ) قال النوويّ رحمه الله: هو بقاف مكسورة، ثم صاد مهملة ساكنة، ثم راء مكسورة، ثم ياء مشدّدة، على وزن الْقِبْطِيّ، هكذا ضبطناه، وكذا ضبطه الجمهور، وهو المشهور، قال القاضي: هكذا رويناه عن أكثرهم، وعن الطبريّ: بفتح القاف والراء، مقصور، وعن ابن الخزايرّ: بضم القاف مقصور، قال: والصواب الأول، وهو ما بَقِي من الْحَبّ في السنبل بعد الدِّيَاس، ويقال له: القُصَارة بضم القاف، وهذا الاسم أشهر من الْقِصْرِيّ. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "الْقِصْريّ" - بكسر القاف، وسكون الصاد المهملة - هي الرواية الصحيحة، وهو ما يبقى من الحبوب في سُنبله بعد الدوس، وهي لغة شاميّةٌ، قاله ابن دُريد، وقد قيّده بعضهم بفتح القاف مقصورًا، وبعضهم بضمّها مقصورًا. انتهى

(2)

.

وقال المجد رحمه الله: الْقِصْرَى، بالكسر، والْقَصَرُ، والْقَصَرَةُ محرّكتين، والْقُصْرَى، كبُشْرَى: ما يبقى في الْمُنْخُل بعد الانتخال، أو يَخْرُج من القتّ بعد الدَّوْسة الأولى، أو الْقِشْرة العليا من الحبّة. انتهى

(3)

.

والمراد من قوله: "فنُصيب من الْقِصْريّ، ومن كذا" على ما فسّره الزمخشري في "الفائق" أن ربّ الأرض كان يشترط على المزارع أن يزرع له خاصّةً ما تسقيه الجداول والربيع، وأن تكون له القصارة، فنُهي عن ذلك

(4)

.

ومما يؤيّد هذا التفسير ما أخرجه ابن ماجه في "سننه"، وأحمد في

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 199 - 201.

(2)

"المفهم" 4/ 410.

(3)

"القاموس المحيط" 2/ 118.

(4)

"الفائق" 2/ 352.

ص: 225

"مسنده"، وصححه ابن حبّان عن أسيد بن ظُهير، عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: كان أحدنا إذا استغنى عن أرضه أعطاها بالثلث، والربع، والنصف، واشترط ثلاث جداول والقُصارة، وما سقى الربيع، وما يسقي الربيع، وكان العيش إذ ذاك شديدًا، وكان يعمل فيها بالحديد، وبما شاء الله، ويصيب منها منفعةً، فأتانا رافع بن خَدِيج، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاكم عن أمر كان لكم نافعًا، وطاعة الله، وطاعة رسوله أنفع لكم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاكم عن الْحَقْل ويقول:"من استغنى عن أرضه، فليمنحها أخاه، أو ليَدَعْ"

(1)

.

فالمراد من إصابة الْقِصريّ اشتراط القُصارة، ومن قوله:"من كذا" اشتراط الجداول، والربيع

(2)

، والله تعالى أعلم.

وقوله: (أَوْ فَلْيُحْرِثْهَا أَخَاهُ) بضمّ حرف المضارعة، من الإحراث، وهو بمعنى قوله:"فليُزرعها".

وقوله: (وَاِلا)"إلّا" هي "إن" الشرطيّة، أُدغمت في "لا" النافية، وفعل الشرط محذوف؛ لدلالة ما قبله عليه، وإن لم يُحرثها.

وقوله: (فَلْيَدَعْهَا) أي: فيترك أرضه، يعني لا يؤاجرها أخاه.

والحديث بهذا اللفظ من أفراد المصنف رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكياب قال:

[3918]

(

) - (حَدَّثَنِي أبُو الطَاهِر، وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ وَهْبٍ - قَالَ ابْنُ عِيسَى: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ - حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ؛ أَنَّ أَبَا الزبَيْرِ الْمَكي حَدَّثَهُ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: كُنَّا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَأْخُدُ الأَرْضَ بِالثُّلُث، أَوِ الرُّبُعِ بِالْمَاذِيَانَات، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

حديث صحيح. أخرجه ابن ماجه 2/ 822، وأحمد 4/ 464، وابن حبان في "صحيحه" 11/ 606.

(2)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 1/ 453.

ص: 226

فِي ذَلِكَ، فَقَالَ:"مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، فَإِنْ لَمْ يَزْرَعْهَا فَلْيَمْنَحْهَا أَخَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَمْنَحْهَا أَخَاهُ فَلْيُمْسِكْهَا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى) بن حسّان المصريّ المعروف بابن التستريّ، صدوق، تُكُلم في بعض سماعاته، قال الخطيب: بلا حجة [10](ت 243)(خ م س ق) تقدم في "الإيمان" 8/ 134.

2 -

(هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ) أبو عبّاد، أو أبو سعد المدنيّ، صدوقٌ له أوهام، ورُمي بالتشيّع، من كبار [7](ت 160) أو قبلها (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 87/ 463.

والباقون ذُكروا في السند الماضي، وقبل بابين، و"أبو الطاهر" هو: أحمد بن عمرو بن عبد الله بن السرح، و"ابن وهب" هو: عبد الله.

وقوله: (نَأْخُذُ الأَرْضَ بِالثُّلُث، أَوِ الرُّبُعِ) يعني أنهم كانوا يأخذون الأرض من صاحبها مزارعةً على أن يعطوه ثلث ما يخرج منها، أو ربعه، ويشترط هو أيضًا لنفسه ما يخرج على الماذيانات، وهو شرط فاسد، ولذا نُهُوا عنه.

وقوله: (بِالْمَاذِيَانَاتِ) قال النوويّ رحمه الله: هي بذال معجمة مكسورة، ثم ياء مثناه تحتُ، ثم ألف، ثم نون، ثم ألف، ثم مثناة فوقُ - هذا هو المشهور، وحَكَى القاضي عن بعض الرواة فتح الذال في غير "صحيح مسلم"، وهي مسايل المياه، وقيل: ما يَنْبُت على حافتي مَسِيل الماء، وقيل: ما يَنْبُت حول السواقي، وهي لفظة مُعَرَّبة ليست عربية. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: الماذيانات معروفة بكسر الذال، وقد تُفتح، وليست عربيّةً، ولكنها سواديّةٌ، وهي مسايل الماء، والمراد بها هنا ما يَنبُت على شطوط الجداول، ومسايل الماء، وهو من باب تسمية الشيء باسم غيره إذا كان مجاورًا له، أو كان منه سبب. انتهى

(2)

.

وقال صاحب "التكملة": وقد ذكر جابر رضي الله عنه في هذا الحديث الثلث، والربع مع الماذيانات، فلعل أصحاب الأرضين كانوا يشترطون لأنفسهم ثلث

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 198.

(2)

"المفهم" 4/ 408.

ص: 227

جميع الخارج، أو ربعه بالإضافة إلى ما خرج بالماذيانات، ويَحْتَمل أن يكونوا يشترطون ثلث ما خرج بالماذيانات، أو ربعه، والكلّ فاسد؛ لما فيه من الغرر، والله أعلم. انتهى

(1)

.

والحديث بهذا السياق من أفراد المصنف رحمه الله، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3919]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنى، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَهَبْهَا، أَوْ لِيُعِرْهَا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل باب.

2 -

(يَحْيَى بْنُ حَمَّادِ) بن أبي زياد الشيبانيّ مولاهم البصريّ، خَتَنُ أبي عوانة، ثقةٌ عابدٌ، من صغار [9](ت 215) تقدم في "الإيمان" 41/ 272.

3 -

(أَبُو عَوَانَةَ) وضاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ البزّاز، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

4 -

(سُلَيْمَانَ) بن مِهْران الأعمش، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عارف بالقراءة، ورعٌ، لكنه يدلّس [5](ت 7 أو 148)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.

5 -

(أَبُو سُفْيَانَ) طلحة بن نافع الواسطيّ الإسكاف، نزيل مكة، صدوقٌ [4](ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

و"جابر" رضي الله عنه ذُكر قبله.

وقوله: (مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَهَبْهَا، أوْ لِيُعِرْهَا) الظاهر أن "أو" هنا للتنويع؛ أي: إن شاء يجعلها لأخيه هبةَ، يُملّكه رقبتها، وإن شاء يجعلها عارية تُردّ إليه.

ويَحْتَمل أن تكون للشكّ من الراوي في أيّ اللفظتين قال.

(1)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 1/ 454.

ص: 228

والحديث بهذا اللفظ من أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3920]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ حَجَّاجُ بْنُ الشَاعِر، حَدَّثَنَا أَبُو الْجَوَّاب، حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ رُزيقٍ، عَنِ الأَعْمَشِ بِهَدَا الْإِسْنَاد، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "فَلْيَزْرَعْهَا، أَوْ فَلْيُزْرِعْهَا رَجُلًا").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبُو الْجَوَّابِ) - بفتح الجيم، وتشديد الواو - الأحوص بن جَوّاب الضبيّ الكوفيّ، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [9](ت 211)(م دت س) تقدم في "الإيمان" 63/ 348.

2 -

(عَمَّارُ بْنُ رُزَيْقٍ) - بتقديم الراء مصغّرًا - الضبيّ، أو التميميّ، أبو الأحوص الكوفيّ، ثقة [7]

(1)

(159)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 63/ 348.

والباقيان ذكرا في الباب.

[تنبيه]: رواية عمّار بن رُزيق، عن الأعمش هذه ساقها أبو عوانة في "مسنده" (3/ 322) فقال:

(5159)

- حدّثنا محمد بن إسحاق الصغاني، قثنا أبو الجوّاب، قثنا عمّار بن رُزَيق، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له أرض، فليَزْرَعها، أو لِيُزْرعها رجلًا". انتهى، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3921]

(

) - (وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْب، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو - وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ - أَن بُكَيْرًا حَدَّثَهُ؛ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ حَدَّثَهُ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ؛ أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ كِرَاءِ الأَرْض، قَالَ بُكَيْرٌ: وَحَدَّثَني نَافِعٌ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: كُنَّا نُكْرِي أَرْضَنَا، ثُمَّ تَرَكْنَا ذَلِكَ حِينَ سَمِعْنَا حَدِيثَ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ).

(1)

جعله في "التقريب" من الثامنة، وقال: لا بأس به، والذي يظهر لي أنه من السابعة، وهو ثقة. راجع ترجمته في:"التهذيب"، والله تعالى أعلم.

ص: 229

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأيَلِيُّ) أبو جعفر نزيل مصر، ثقة فاضلٌ [10](ت 253) وله (83) سنةً (م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.

2 -

(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ حافظٌ فقية [7] مات قبل (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.

3 -

(بُكَيْرُ) بن عبد الله بن الأشجّ المخزوميّ مولاهم، أبو عبد الله المدنيّ، نزيل مصر، ثقةٌ [5](ت 120) أو قبلها (ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ) الماجشون التيميّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 106)(م د س) تقدم في "الإيمان" 4/ 555.

5 -

(النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ) الأنصاريّ الزرَقيّ، أبو سلمة المدنيّ، ثقةٌ [4](خ م ت س ق) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 484.

والباقيان ذُكرا في الباب.

وقوله: (نَهَى عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ) المراد به المزارعة، وهي المخابرة.

وقوله: (قَالَ بُكَيْرٌ

الخ) موصول بالسند السابق، وليس معلّقًا، فتنبّه.

وقوله: (نُكْرِي أرْضَنَا) بضمّ حرف المضارعة، من الإكراء بالمدّ، قال الفيّوميّ رحمه الله: الكِراء بالمدّ: الأجرة، وأكريته الدار وغيرها إكراءً، فاكتراها بمعنى: آجرتها، فاستأجرها. انتهى

(1)

.

والحديث بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3922]

(

) - (وَحَدثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الأَرْضِ الْبَيْضَاءِ سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلهم ذُكروا في الباب، وقبل باب.

(1)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 532.

ص: 230

[تنبيه]: هذا الإسناد من رباعيّات المصنف رحمه الله، وهو (262) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (عَنْ بَيْعِ الأَرْضِ الْبَيْضَاءِ) هي: التي لا غرس فيها، ولا زرع.

وقوله: (سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا) معناه أن يبيع ثمر نخلة، أو نخلات بأعيانها سنتين، أو ثلاثًا، وإنما نُهي عنه؛ لأنه باع شيئًا لا وجود له حال العقد.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3923]

(

) - (وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالُوا: حَدَّثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ الأَعْرَج، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَتِيقٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ سِنِينَ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ) أبو عثمان الْخُرَاسانيّ، نزيل مكة، ثقةٌ مصنّفٌ [10](ت 227) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 338.

2 -

(عَمْرٌو افَّماقِدُ) ابن محمد بن بُكير البغداديّ، نزيل الرّقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

3 -

(حُمَيْدٌ الأَعْرَجُ) ابن قيس القارئ المكيّ، ثقة [6](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "الحج" 10/ 2881.

4 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ عَتِيقٍ) ويقال: ابن عتيك - بالكاف - وهو وَهْمٌ، المدنيّ، صدوقٌ [4].

رَوَى عن جابر بن عبد الله، وابن الزبير، وعبد الله بن بابيه، وطلق بن حبيب.

ورَوَى عنه حميد بن قيس الأعرج، وزياد بن سعد، وابن جريج، وزياد بن إسماعيل.

ص: 231

قال النسائيّ: ثقةٌ، وقال البخاريّ: لا يصحّ حديثه

(1)

، وقال ابن عبد البرّ: لا يحتجّ بما تفرد به، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا برقم (1536)، وحديث (1554):"أمر بوضع الجوائح"، وحديث (2670):"هلك المتنطّعون، قالها ثلاثًا".

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

وقوله: (عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ) المراد به بيع ثمر النخلة، أو النخلات لمدة سنين معيّنة، كما أشار إليه في رواية ابن أبي شيبة بلفظ:"عن بيع الثمر سنين".

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3924]

(1544) - (حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَةَ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ) تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو تَوْبَةَ) الربيع بن نافع الْحَلَبيّ، نزيل طَرَسوس، ثقة حجة عابد [10](ت 241)(خ م د س ق) تقدم في "الحيض" 7/ 722.

3 -

(مُعَاوِيَةُ) بن سلّام بن أبي سلّام، أبو سلّام الدمشقيّ، وكان يسكن حِمْصَ، ثقةٌ [7] مات في حدود (170)(ع) تقدم في "الإيمان" 49/ 309.

4 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) صالح بن المتوكّل، أبو نصر البصريّ، ثمّ

(1)

الظاهر أن هذا الكلام قاله البخاريّ: بعد إيراد حديث معيّن، وليس تضعيفًا لجميع أحاديثه، فليُتأمل.

ص: 232

اليماميّ، ثقةٌ ثبتٌ، يدلّس ويُرسل [5](ت 132) أو قبل ذلك (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.

5 -

(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةُ فقيهٌ مكثرٌ [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.

6 -

(أبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4، وشرح الحديث تقدّم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا أخرجه المصنّف، وذكره البخاريّ تعليقًا، فقال: وقال الربيع بن نافع أبو توبة: حدثنا معاوية

إلخ.

[تنبيه]: اختُلف في إسناد هذا الحديث على يحيى بن أبي كثير، وكذا على شيخه أبي سلمة، وقد أطنب النسائيّ في جمع طرقه فراجعه

(1)

تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 3924](1544)، و (البخاريّ) في "الحرث والمزارعة"(2341) تعليقًا، و (النسائيّ) في "المزارعة"(7/ 138)، و (ابن ماجه) في "الرهون"(2/ 820)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3925]

(1536) - (وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ الْحُلْوَانِيُّ، حَدثَنَا أَبُو تَوْبَةَ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيةُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ؛ أن يَزِيدَ بْنَ نُعَيْمٍ أَخْبَرَهُ؛ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ أَخْبَرَهُ؛ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنِ الْمُزَابَنَة، وَالْحُقُول، فَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: الْمُزَابَنَةُ الثَّمَرُ بِالتَّمْر، وَالْحُقُولُ كِرَاءُ الأَرْضِ).

قال الجامع عفا الله عنه: كان الأولى تقديم حديث جابر رضي الله عنه هذا قبل حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ لما لا يخفى من الترتيب، فتأمل.

(1)

راجع: "المجتبى" 7/ 38 - 39، وراجع شرحي عليه:"ذخيرة العقبى" 31/ 137 - 143.

ص: 233

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَزِيدَ بْنَ نُعَيْمِ) بن هَزّال الأسلميّ الحجازيّ، ثقةٌ

(1)

[5].

رَوَى عن أبيه، وجدّه، ويقال: مرسل، وجابر، ويقال: لم يسمع منه، وسعيد بن المسيِّب.

وروى عنه زيد بن أسلم، وهو من أقرانه، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وهو أكبر منه، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، ويحيى بن أبي كثير، وهشام بن سعد، وعكرمة بن عمار.

ذكره ابن حبان في "الثقات".

قوله: "وجابر، ويقال: لم يسمع منه" هكذا قال الحافظ المزّيّ في "التهذيب"، وفي "تحفة الأشراف"، وتعقّبه الحافظ في "التهذيب"، فقال: حديثه عن جابر متصلٌ، ووقع التصريح به عند مسلم - يعني في هذا الحديث - وقال البخاريّ: سمع جابرًا. انتهى

(2)

.

فتبيّن أن دعوى عدم سماعه من جابر غير مقبولة؛ فقد اتّفق الشيخان على ذلك، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (وَالْحُقُولُ كِرَاءُ الأَرْضِ)"الحُقول": جمع حَقْل، كفلس وفُلُوس، وفسّره هنا بكراء الأرض، وقد تقدّم أنه يُطلق على معان، وقال ابن الأثير رحمه الله: الحقل: الْقَرَاح من الأرض، وهي الطيّبةُ التُّرْبة، الصالحةُ للزراعة، ومنه حَقَلَ يَحْقِل: إذا زرع، والمحاقل: مواضع الزراعة، كما أن المزارع مواضعها أيضًا، والمحاقلة: مفاعلة من ذلك. انتهى

(3)

.

(1)

فقوله في "التقريب": "مقبول" فيه نظر؛ فقد روى عنه جماعة، ووثقه ابن حبّان، وأخرج له مسلم، ولم يتكلّم فيه أحد بجرح، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

(2)

"تهذيب التهذيب" 11/ 320.

(3)

"جامع الأصول" لابن الأثير 11/ 32.

ص: 234

وقال المجد رحمه الله: "الْحَقْلُ": قَرَاحٌ طيّب، يُزرَع فيه، كالْحَقْلَة، ومنه: لا يُنبِتُ الْبَقْلةَ إلا الْحَقْلةُ، والزرعُ قد تشعَّبَ وَرَقُهُ، وظَهَرَ، وكَثُرَ، أو إذا استَجْمَع خُروج نباته، أو ما دام أخضر، وقد أحقل في الكلّ، والْمَحَاقل: الْمَزَارع، والْمُحاقلة: بيع الزرع قبل بُدُوّ صلاحه، أو بيعه في سنبله بالحنطة، أو المزارعة بالثلث، أو الربع، أو أقلّ، أو أكثر، أو اكتراء الأرض بالحنطة. انتهى

(1)

.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وشرحه تقدّم مستوفًى، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3926]

(1545) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ - يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيَّ - عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُحَاقَلَة، وَالْمُزَابَنَةِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب.

2 -

(يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ) المدنيّ، نزيل الإسكندريّة، ثقةٌ [8](ت 181)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 35/ 245.

3 -

(سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ) أبو يزيد المدنيّ، ثقةٌ، تغيّر بآخره [6](ت 138)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 161.

4 -

(أَبُوهُ) أبو صالح ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبت [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

و"أبو هريرة رضي الله عنه " ذُكر قبل حديث.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3927]

(1546) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْب، أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ؛ أَن أَبَا سُفْيَانَ مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ

(1)

"القاموس المحيط" 3/ 358 - 359.

ص: 235

أَخْبَرَهُ؛ أَنَّهُ سَمِعَ أبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُزَابَنَة، وَالْمُحَاقَلَة، وَالْمُزَابَنَةُ: اشْتِرَاءُ الثَّمَرِ في رُءُوسِ النَّخْل، وَالْمُحَاقَلَةُ كِرَاءُ الأَرْضِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سِنَان بن عُبيد الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (3 أو 4 أو 65)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل ثلاثة أبواب، وشرح الحديث تقدّم مستوفًى.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 3927](1546)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2186)، و (النسائيّ) في "المزارعة"(7/ 39)، و (ابن ماجه) في "الرهون"(2455)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 625)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 6 و 8 و 60 و 67)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 321)، و (أبو يعلى) في (مسنده" (2/ 407)، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: ذكر الإمام ابن عبد البرّ رحمه الله في "التمهيد" بعد إيراد حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، ما نصّه: قد جاء في هذا الحديث مع جَوْدة إسناده تفسير المزابنة، والمحاقلة، وأقل أحواله إن لم يكن التفسير مرفوعًا فهو من قول أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، وقد أجمعوا أن مَن رَوَى شيئًا وعَلِمَ مخرجه سُلِّم له في تأويله؛ لأنه أعلم به، وقد جاء عن عبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم في تفسير المزابنة نحوُ ذلك.

ورَوى ابنُ جريج قال: أخبرني موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن المزابنة، قال عبد الله بن عمر: والمزابنةُ أن يبيع الرجل ثمر حائطه بتمر كيلًا، إن كانت نخلًا، أو زبيبًا، إن كانت كرمًا، أو حنطةً، إن كانت زرعًا.

قال أبو عمر: هذا أبين شيء، وأوضحه في ذلك.

ص: 236

ورَوَى حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار؛ أن ابن عمر سئل عن رجل باع ثمر أرضه من رجل بمائة فَرَق يكيل له منها، فقال ابن عمر: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا، وهو المزابنة.

ورَوَى ابن عيينة، عن ابن جريح، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة، والمحاقلة، والمزابنة، وعن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه، وألا يباع إلا بالدنانير والدراهم، إلا العرايا، قال سفيان: المخابرة كراء الأرض بالحنطة، والمزابنة بيع ما في رؤوس النخل بالتمر، والمحافلة بيع السنبل من الزرع بالحبّ الْمُصَفَّى.

قال: فهؤلاء ثلاثة من الصحابة قد فسروا المزابنة بما تراه، ولا مخالف لهم علمته، بل قد أجمع العلماء على أن ذلك مزابنة، وكذلك أجمعوا على أن كل ما لا يجوز إلا مِثلًا بمثل أنه لا يجوز منه كيلٌ بجِزَاف، ولا جِزاف بجزاف؛ لأن في ذلك جهلَ المساواة، ولا يؤمَن مع ذلك المفاضلة، ولم يختلفوا أن بيع الكرم بالزبيب، والرطب بالتمر المعلَّق في رؤوس النخل، والزرع بالحنطة مزابنة، إلا أن بعضهم قد سمى بيع الحنطة بالزرع محاقلةً أيضًا. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ مفيدٌ، والله تعالى أعلم.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3928]

(1547) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ، قَالَ أَبُو الرَّبِيعِ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرٍو، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: كُنَّا لَا نَرَى بِالْخِبْرِ بَأْسًا، حَتَّى كَانَ عَامُ أَوَّلَ، فَزَعَمَ رَافِعٌ أَن نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهم ذُكروا في الباب، وقبل باب، و"أبو الربيع العتكيّ" هو: سليمان بن داود الزهرانيّ، و"عمرو" هو: ابن دينار.

(1)

"التمهيد" 2/ 313 - 314.

ص: 237

[تنبيه]: هذا الإسناد من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (263) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (كُنَّا لَا نَرَى بِالْخِبْرِ بَأْسًا)"الْخِبْر" قال النوويّ رحمه الله: ضبطناه بكسر الخاء، وفتحها، والكسر أفصح وأشهر، ولم يذكر الجوهريّ وآخرون من أهل اللغة غيره، وحكى القاضي عياض فيه الكسر والفتح والضمّ، ورجَّح الكسر، ثم الفتح، وهو بمعنى المخابرة. انتهى

(1)

.

وقوله: (حَتَّى كَانَ عَامُ أَوَّلَ) هكذا في النسخ مضبوطًا بضبط القلم برفع "عامُ"، وفتح "أولَ"، ووجهه أن "كان" هنا تامّة؛ أي: حتى جاء، و"عامُ" مرفوع على الفاعليّة، وهو مضاف إلى "أوّلَ"، وهو ممنوع من الصرف؛ للوصفيّة، ووزن الفعل.

ويَحْتَمِل أن تكون "كان" ناقصةً، واسمها مقدّرٌ؛ أي: حتى كان الزمن و"عامَ أول" منصوب على الخبريّة لها.

قال في "العمدة": قوله: "عام أول" بالصرف، وعدم الصرف؛ لأنه إما أفعل، أو فوعل، ويجوز بناؤه على الضم، وهذه الاضافة من إضافة الموصوف إلى صفته، وأصله عامًا أولَ. انتهى

(2)

.

ومعنى "عامُ أولَ": قبل عامنا هذا، ووقع عند النسائيّ بلفظ:"عامَ الأولِ"، بتعريف الثاني.

قال في "القاموس"، و"شرحه": إذا جعلتَ "أوّلًا"

(3)

صفة منعته من

(1)

شرح النوويّ" 10/ 201 - 202.

(2)

"عمدة القاري" 13/ 94.

(3)

وقد بسط في بيان اشتقاق لفظ "أوّل" وتصاريفه في "القاموس" و"شرحه"، أحببت إيراده؛ تكميلًا للفائدة، قال: والأول: ضد الآخر، وفي أصله أربعة أقوال: هل هو أوأل، على أفعل، أو فَوْعَلٌ، أو ووأل، بواوين، أو فَعْأل؟ وصحح أقوام أوأل؛ لجمعه على أوائل، وله ثلاثة استعمالات، أو أربعة، وفي "العُباب": أصله أوأل، على أفعل، مهموز الأوسط، قُلبت الهمزة واوًا، وأدغمت، يدلّ على ذلك قولهم: هذا أول منك، وجمعه: الأوائل، والأَوَالي أيضًا على القلب، وفي "التهذيب": قال بعض النحويين: أما قولهم: أوائل بالهمز، فاصله أواول، ولكن لما اكتنفت الألف واوان، ووَليت الأخيرةُ منهما الطرفَ، فضعفت، وكانت الكلمة =

ص: 238

الصرف، وإلا صرفته، تقول: لَقِيته عامًا أَوَّلَ، ممنوعًا من الصرف، قال ابن سِيدَهْ: أُجري مُجرى الاسم، فجاء بغير ألف ولام، ولقيته عامًا أَوَّلًا، مصروفًا، قال ابن السِّكِّيت: ولا تقل: عامَ الأَوَّل، وقال غيره: هو قليل. قال أبو زيد: يقال: لقِيتُهُ عامَ الأوّل، ويومَ الأوّل، بجرّ آخره، وهو كقولك: أتيتُ مسجدَ الجامع، قال الأزهريّ: وهذا من إضافة الشيء إلى نفسه، وحكاه ابن الأعرابيّ أيضًا، وتقول: ما رأيته مذْ عامٌ أوَّلُ، ومذ عامٌ أولَ، ترفعه على الوصف لعام، كأنه قال: أولُ من عامنا، وتنصبه على الظرف، كأنه قال: مذ عامٍ قبلَ عامنا، وإذا قلت: ابدأ به أوّلُ تضم على الغاية، كفعلته قبلُ، وفي "الصحاح": كقولك: افعله قبلُ، وقال ابن سيده: وأما قولهم: ابدأ بهذا أولُ، فإنما يريدون أولَ من كذا، ولكنه حُذِفَ؛ لكثرته في كلامهم، وبُنِي على الحركة؛ لأنه من المتمكن الذي جُعِل في موضع بمنزلة غير المتمكن، وإن أظهرتَ المحذوف، قلتَ: فعلته أولّ كلِّ شيء بالنصب، كما تقول: قبلَ فعلك، وتقول: ما رأيته مذ أمس، فإن لم تره يومًا قبل أمس، قلتَ: ما رأيته مذ أولَ من أمس، فإن لم تره مذ يومين قبل أمسِ قلت: ما رأيته مذ أولَ من أولَ من أمس، ولا تجاوز ذلك، كذا هو نص "الصحاح"، و"العُباب"

= جمعًا، والجمع مستثقل، قُلبت الأخيرة منهما همزةً، وقلبوه، فقالوا: الأَوَالي، وفي "العباب"، و"الصحاح": وقال قوم: أصل الأوّل وَوْوْلٌ على فوعل، فقُلبت الواو الأولى همزةً، وإنما لم يُجمع على أوَاوِل؛ لاستثقالهم اجتماع واوين، بينهما ألف الجمع، وإن شئت قلت في جمعه: الأولون، قال أبو ذؤيب [من المتقارب]:

أَدَانَ وَأَنْبَاهُ الأَوَّلُونَ

بِأنَّ الْمُدَانَ مَلِيٌّ وَفِيُّ

وهي: الأولى، وقوله تعالى:{تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} قال الزجاج: قيل من لدن آدم إلى زمن نوح عليه السلام وقيل: منذ زمن نوح إلى زمن إدريس عليه السلام وقيل: منذ زمن عيسى إلى زمن محمد - صلى الله تعالى عليهما وسلم - قال: وهذا أجود الأقوال. انتهى.

وجمع "أولى": أوَلٌ، كصُرَدٍ، مثل أخرى وأُخَر، وكذلك لجماعة الرجال من حيث التأنيث. انتهى. "القاموس" مع شرحه "تاج العروس" 8/ 150 - 151 بالاختصار.

ص: 239

بالحرف. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: إضافة عام إلى الأول من إضافة الشيء إلى نفسه، كما تقدّم في قول الأزهريّ، وهو ممنوع، فلا بدّ من تأويله، بتقدير مضاف؛ أي: عام الزمن الأول، كما يقدّر في مثل قولك: أتيت مسجد الجامع بالإضافة؛ أي: مسجد المكان الجامع، وإلى هذا أشار ابن مالك في "الخلاصة" حيث قال:

وَلَا يُضَافُ اسْمٌ لِمَا بِهِ اتَّحَدْ

مَعْنًى وَأَوِّلْ مُوهِمًا إِذَا وَرَدْ

والحديث بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3929]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ (ح) وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ دِينَارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - وَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ - عَنْ أَيُّوبَ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، كُلُّهُمْ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، بِهَذا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ: فَتَرَكْنَاهُ مِنْ أَجْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ دِينَارٍ) أبو إسحاق التمّار البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 232) من أفراد المصنّف تقدم في "الإيمان" 41/ 272.

2 -

(وَكِيعُ) بن الْجَرّاح بن مَلِيح الرؤاسيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكر بعضهم في الباب، وبعضهم قبله، و"سفيان" الأول هو: ابن عيينة، والثاني هو: الثوريّ، و"أيوب" هو: السختيانيّ، و"إسحاق بن إبراهيم" هو: ابن راهويه.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ) أي: كلّ هؤلاء الثلاثة: سفيان بن عيينة، وأيوب السختيانيّ، وسفيان الثوريّ رووه عن عمرو بن دينار.

(1)

"القاموس" مع شرحه "تاج العروس" 8/ 150 - 151.

ص: 240

[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار ساقها الحميديّ في "مسنده" (1/ 198) فقال:

(405)

- حدّثنا الحميديّ، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا عمرو بن دينار، قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: كنا نخابر، ولا نرى بذلك بأسًا، حتى زعم رافع بن خديج؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عنه، فتركنا ذلك من أجل قوله. انتهى.

وأما رواية أيوب السَّخْتيانيّ، عن عمرو بن دينار، فساقها أبو عوانة في "مسنده" (3/ 314) فقال:

(5123)

- حدّثنا الصغانيّ، قثنا زهير بن حرب، قثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: أخبرنا أيوب، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت ابن عمر يقول: كنا لا نرى بالْخَبْر بأسًا، حتى زعم رافع بن خَدِيج عامَ أوّلَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عنها. انتهى.

وأما رواية سفيان الثوريّ، عن عمرو بن دينار، فساقها النسائيّ في "المجتبى" (7/ 48) فقال:

(3917)

- أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك، قال: أنبأنا وكيع، قال: حدّثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت ابن عمر يقول: كنا نخابر، ولا نرى بذلك بأسًا، حتى زعم رافع بن خَدِيج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن المخابرة. انتهى، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3930]

(

) - (وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي الْخَلِيل، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَقَدْ مَنَعَنَا رَافِعْ نَفْعَ أَرْضِنَا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو الْخَلِيلِ) صالح بن أبي مريم الضُّبَعيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(مُجَاهِدُ) بن جَبْر المخزوميّ مولاهم، أبو الحجّاج المكيّ، ثقةٌ إمام في التفسير وغيره [3](ت 1 أو 2 أو 3 أو 104) وله (83) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.

ص: 241

والباقون ذُكروا قبله، و"إسماعيل" هو: ابن عُليّة، و"أيوب" هو: السَّختيانيّ.

وقوله: (لَقَدْ مَنَعَنَا رَافِعٌ نَفْعَ أَرْضِنَا) هذا فيه دلالة على أن ابن عمر رضي الله عنهما لم يكن يعتقد النهي عن المزارعة على الإطلاق تشريعًا عامًّا، وإلا لنَسب المنع إلى الشريعة، وإنما يريد: أني تركت نفع أرضي لمجرد قول رافع على سبيل الاحتياط.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3931]

(

) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ؛ أَن ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُكْرِي مَزَارِعَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي إِمَارَةِ أَبِي بَكْر، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ، حَتَّى بَلَغَهُ فِي آخِرِ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ؛ أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ يُحَدِّثُ فِيهَا بِنَهْيِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَدَخَلَ عَلَيْه، وَأَنَا مَعَهُ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارع، فَتَرَكَهَا ابْنُ عُمَرَ بَعْدُ، وَكَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْهَا بَعْدُ قَالَ: زَعَمَ رَافِعُ ابْنُ خَدِيج أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ) الْعَيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (كَانَ يُكْرِي مَزَارِعَهُ) بضم حرف المضارعة، من الإكراء؛ أي: يزارع فيها.

وقوله: (حَتَّى بَلَغَهُ فِي آخِرِ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ) وفي رواية ابن ماجه: عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يُكري أرضه، فأتاه إنسان، فأخبره عن رافع، فذكره.

وقوله: (وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ) قال في "الفتح": وإنما لم يذكر ابن عمر خلافة عليّ رضي الله عنهم؛ لأنه لم يبايعه؛ لوقوع الاختلاف عليه، كما هو مشهور

ص: 242

في صحيح الأخبار، وكان رأى أنه لا يبايع لمن لم يجتمع عليه الناس، ولهذا لم يبايع أيضًا لابن الزبير، ولا لعبد الملك في حال اختلافهما، وبايع ليزيد بن معاوية، ثم لعبد الملك بن مروان بعد قتل ابن الزبير، أو لعل في تلك المدة - أعني مدة خلافة عليّ - لم يؤاجر أرضه، فلم يذكرها لذلك. انتهى

(1)

.

وقال بعضهم: ثم هذا مما يدلّ على وجوب التأويل في حديث رافع؛ لأن من العجيب أن لا يعلم مثل ابن عمر حكم المزارعة طوال صحبته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين، مع اشتغاله بها، وشدّة تمسّكه بأحكام الشرع، وأن لا يعلم حرمته طوال هذه المدّة غير رافع بن خديج من الصحابة الكبار، فلو كانت المزارعة ممنوعة مطلقًا لعلمه هؤلاء بيقين، فظهر أن العموم الظاهر من أحاديث رافع محمول على خصوص بعض الواقعات التي كانوا يتعارفونها. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: أما تأويل عموم حديث رافع رضي الله عنه فمما لا شكّ فيه، وأما وأن لا يعلمه غير رافع، فغير صحيح، فقد علمه غيره من الصحابة؛ كجابر بن عبد الله، وأبي هريرة رضي الله عنه، ولذا قال في "الفتح": وقد استظهر البخاريّ لحديث رافع بحديث جابر، وأبي هريرة رضي الله عنهما رادًّا على من زعم أن حديث رافع فردٌ، وأنه مضطربٌ، وأشار إلى صحة الطريقين عنه، حيث رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد رَوَى عن عمه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأشار إلى أن روايته بغير واسطة مقتصرة على النهي عن كراء الأرض، وروايته عن عمه مُفَسِّرة للمراد، وهو ما بيّنه ابن عباس رضي الله عنهما في روايته، من إرادة الرفق والتفضُّل، وأن النهي عن ذلك ليس للتحريم. انتهى

(3)

.

(حَتَّى بَلَغَهُ فِي آخِرِ خِلَافَه مُعَاوِيةَ) وكان آخر خلافة معاوية في سنة ستين من الهجرة، قاله في "الفتح"

(4)

.

والحاصل أن حديث رافع رضي الله عنه صحيح بالطريقين، وتأويله واضح، وهو

(1)

"الفتح" 6/ 145 "كتاب الحرث والمزارعة" رقم (2343).

(2)

"تكملة فتح الملهم" 1/ 457.

(3)

"الفتح" 6/ 146.

(4)

6/ 145.

ص: 243

أن النهي محمول على ما إذا تضمّن شرطًا فاسدًا، كان يشترط المالك ما على الماذيانات، أو على السواقي، أو نحو ذلك، وأما إذا خلا عن ذلك فجائز، وإن كان الأولى أن يمنح الأرض بلا مقابل، كما قال في حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما:"لأن يمنح الرجل أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليها أجرًا معلومًا"، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث رافع بن خَدِيج رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 3931 و 3932 و 3933 و 3934 و 3935 و 3936 و 3937] (

)، و (البخاريّ) في" الإجارات"(2285) و"الحرث والمزارعة"(2343)، و (النسائي) في "المزارعة"(7/ 46 و 47) و"الكبرى"(3/ 102)، و (ابن ماجه) في "الرهون"(2453)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 611)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 6 و 64 و 3/ 464 و 465 و 4/ 140)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 316)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(4/ 244)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 128 و 129)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3932]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيع، وَأَبُو كَامِل، قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ (ح) وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، كِلَاهُمَا عَنْ أَيُّوبَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ، وَزَادَ في حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ: فَالَ: فتَرَكَهَا ابْنُ عُمَرَ بَعْدَ ذَلِكَ، فكَانَ لَا يُكْرِيهَا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: رواية حماد بن زيد، عن أيوب ساقها أبو عوانة في "مسنده" (3/ 316) فقال:

(5133)

- حدّثنا الصغانيّ، قثنا عارم، قثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، قال: كان ابن عمر يُكري مزارعه على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وصدرًا من إمارة معاوية، فأتاه رجل، فقال: إن رافع بن

ص: 244

خَدِيج يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن كراء المزارعة، فانطلق إلى رافع، وانطلقت معه، فسأله، فقال: ما الذي بلغني عنك، تذكر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في كراء المزارعة؟ قال: نعم نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء المزارعة، قال: فكان عبد الله بعد ذلك إذا سئل عن كراء المزارعة قال: زعم رافع بن خَدِيج أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عنه. انتهى.

وأما رواية إسماعيل ابن عُليّة، عن أيوب، فقد ساقها الإمام أحمد في "مسنده" (4/ 140) فقال:

(17295)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: أنا أيوب، عن نافع؛ أن ابن عمر بلغه أن رافعًا يحدّث في ذلك بنهيٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه، وأنا معه، فسأله، فقال: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء المزارع، فتركها ابن عمر، فكان لا يكريها، فكان إذا سئل يقول؛ زعم ابن خَديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن كراء المزارع. انتهى، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3933]

(

) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ الله، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: ذَهَبْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ اِلَى رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، حَتَّى أتاهُ بِالْبَلَاط، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارعِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل باب، و"ابن نُمير" هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، و"عبيد الله" هو: ابن عُمر الْعُمَريّ.

وقوله: (حَتَّى أَتَاهُ بِالْبَلَاطِ) بفتح الموحّدة: مكان معروف بالمدينة، مبَلَّط بالحجارة، وهو بقرب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: "البلاط" ضرب من الحجارة تُفرش به الأرض، ثمّ سُمّي المكان بَلاطًا؛ اتساعًا، وهو موضع معروف بالمدينة، تكرّر ذكره في الحديث. انتهى

(2)

.

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 202 - 203.

(2)

"النهاية" 1/ 152.

ص: 245

وقال ابن منظور رحمه الله: "البَلاط" بالفتح: الحجارة المفروشة في الدار وغيرها، قال الشاعر [من الرجز]:

هَذَا مَقَامِي لَكِ حَتَّى تَنْضَحِي

رِيًّا وَتَجْتَازِي بَلَاطَ الأَبْطَحِ

وأنشد ابن بَزيّ لأبي داود الإياديّ [من الخفيف]:

وَلَقَدْ كَانَ ذَا كَتَائِبَ خُضْرٍ

وَبَلَاطِ يُشَادُ بِالآجُرُونِ

ويقال: دارٌ مُبَلَّطَةٌ بآجرّ، أو حجارة، ويقال: بَلَطْتُ الدار، فهي مَبْلُوطَةٌ: إذا فَرَشتها بآجرّ، أو حجارة. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3934]

(

) - (وَحَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي خَلَفٍ، وَحَجَاجُ بْنُ الشَاعِر، قَالَا: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ عَدِيٍّ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ زيدٍ، عَنِ الْحَكَم، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّهُ أَتَى رَافِعًا، فَذَكَرَ هَدَا الْحَدِيثَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(الْحَكَمُ) بن عُتيبة الْكِنْديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فيه، ربّما دلّس [5](ت 113) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي، والذي قبله، و"ابن أبي خَلَف" هو: محمد بن أحمد بن أبي خَلَف، و"زيد" هو: ابن أبي أُنيسة.

[تنبيه]: رواية الحكم عن نافع هذه ساقها أبو عوانة في "مسنده"(3/ 317) فقال:

(5135)

- حدّثنا محمد بن عليّ بن ميمون الرقّيّ، قثنا عبد الله بن جعفر (ح) وحدّثنا الصغاني، قثنا على بن معبد، قالا: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة، عن الحكم، عن نافع، عن ابن عمر، قال نافع: أتى عبد الله رافعًا، فقال له عبد الله: أنت سمعت نبيّ الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن ذلك؟ قال: نعم، كل ذلك يقول ابن عمر عن مزارعة وكرائها، فيقول رافع: نعم، فقال ابن عمر: ما كنا نَرَى بها بأسًا لولا ما ذَكَر. انتهى، والله تعالى أعلم.

(1)

"لسان العرب" 7/ 264.

ص: 246

[3935]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدثَنَا حُسَيْن - يَعْنِي ابْنَ حَسَنِ بْنِ يَسَارٍ - حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ؛ أَن ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَأْجُرُ الأَرْضَ

(1)

، قَالَ: فَنبِّئَ حَدِيثًا عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - قَالَ - فَانْطَلَقَ بِي مَعَهُ إِلَيْهِ - قَالَ - فَذَكَرَ عَنْ بَعْضِ عُمُومَتِه، ذَكَرَ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنْ كِرَاءِ الأَرْض، قَالَ: فَتَرَكَهُ ابْنُ عُمَرَ، فَلَمْ يَأْجُرْهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حُسَيْنُ بْنُ حَسَنِ بْنِ يَسَارٍ) أبو عبد الله البصريّ، يقال: إنه من آل مالك بن يسار، ثقةٌ [8](ت 188)(خ م س) تقدم في "الحج" 62/ 3201.

2 -

(ابْنُ عَوْنٍ) هو: عبد الله بن عون بن أرطبان، أبو عون البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [5](ت 150) على الصحيح (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 303.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (كَانَ يَأْجُرُ الأَرْضَ) أي: يُزارع فيها، وفي بعض النسخ:"يؤاجر"، قال الفيّوميّ رحمه الله: أَجَرَهُ الله أَجْرًا، من باب قَتَل، ومن باب ضَرَب لغة بني كعب، وآجَرَه بالمدّ لغة ثالثة: إذا أثابه، وأَجَرْتُ الدارَ، والعبدَ باللغات الثلاث، قال الزمخشريّ: وآجَرْتُ الدارَ على أفعلتُ، فأنا مؤجِرٌ، ولا يقال: مُؤَاجِرٌ، فهو خطأ، ويقال: آجَرْتُهُ مُؤَاجَرَةً، مثلُ عاملته معاملةً، وعاقدته معاقدةً، ولأن ما كان من فَاعَل في معنى المعاملة؛ كالمشاركة، والمزارعة، إنما يتعدى لمفعول واحد، ومُؤَاجَرَةُ الأجير من ذلك، فَآجَرْتُ الدارَ، والعبدَ، من أفعل، لا من فاعل، ومنهم من يقول: آجَرْتُ الدارَ على فاعل، فيقول: آجَرْتُهُ مُؤَاجَرَةً، واقتصر الأزهريّ على آجَرْتُهُ، فهو مُؤجَرٌ، وقال الأخفش: ومن العرب من يقول: آجَرْتُهُ، فهو مُوجَرٌ، في تقدير: أفعلْتُ، فهو مُفْعَل، وبعضهم يقول: فهو مُؤَاجَرٌ، في تقدير: فاعلته، ويتعدى إلى مفعولين، فيقال: آجَرْتُ زيدًا الدارَ، وآجَرْتُ الدارَ زيدًا على القلب، مثلُ أعطيت زيدًا درهمًا، وأعطيت درهمًا زيدًا، ويقال: آجَرْتُ من زيدٍ الدارَ؛ للتوكيد

(2)

، كما يقال: بعت زيدًا

(1)

وفي نسخة: "كان يؤاجر الأرض".

(2)

أي زيدت "من" لأجل التوكيد.

ص: 247

الدارَ، وبعتُ من زيد الدارَ، والأُجْرَةُ: الكراء، والجمع أُجَرٌ، مثل غرْفة وغُرَف، وربما جُمعت أُجُرَات، بضم الجيم، وفتحها، ويُستعمل الأَجْرُ بمعنى الإِجَارَة، وبمعنى الأُجْرَة، وجمعه أُجُورٌ، مثل فَلْس وفُلُوس، وأعطيته إِجَارَتَهُ بكسر الهمزة؛ أي: أُجْرَتَهُ، وبعضهم يقول: أُجَارَتَه، بضم الهمزة؛ لأنها هي العُمالة، فتضمها، كما تضمها، واسْتَأْجَرْتُ العبدَ: اتخذته أَجِيرًا، ويكون الأجِيرُ بمعنى فاعل، مثلُ نَدِيم، وجَلِيس، وجمعه أُجَرَاء، مثلُ شَرِيف وشُرَفاء. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: وقع في شرح النوويّ رحمه الله، ما نصّه: قوله: (عن نافع؛ أن ابن عمر كان يأخذ الأرض، فنُبِّيء حديثًا عن رافع بن خَديج) فذكروا في آخره: "فتركه ابن عمر، ولم يأخذه"، هكذا هو في كثير من النسخ "يأخذ" بالخاء والذال، من الأخذ، وفي كثير منها:"يَأْجُرُ" بالجيم المضمومة، والراء، في الموضعين، قال القاضي، وصاحب "المطالع": هذا هو المعروف لجمهور رواة "صحيح مسلم"، قال صاحب "المطالع": والأول تصحيف، وفي بعض النسخ:"يؤاجر"، وهذا صحيح. انتهى

(2)

.

وقوله: (فَنُبِّئَ حَدِيثًا عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: أخبره مخبر بحديث عن رافع رضي الله عنه، وفي الرواية الآتية: "كان يُكري أرضيه، حتى بلغه أن رافع بن خديج الأنصاريّ كان ينهى عن كراء الأرض

"، وفي رواية ابن ماجه عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان يُكري أرضه، فأتاه إنسان، فأخبره عن رافع

".

وقوله: (فَذَكَرَ عَنْ بَعْضِ عُمُومَتِهِ) وفي الرواية الآتية بعد حديث: "سمعت عَمَّيَّ - بالتثنية - وكانا شهدا بدرًا

"، اسم أحدهما ظُهير بن رافع، والثاني: مُظْهِر، وقيل: مُهَير، وسيأتي تمام البحث فيه هناك - إن شاء الله تعالى -.

[تنبيه]: "العمومة": جمع العَمّ، قال في "القاموس"، و"شرحه": الْعَمّ: أخو الأب، جمعه أعمامٌ، وعُمُومٌ، وعُمُومةٌ، قال سيبويه: أدخلوا فيه الهاء؛ لتحقيق التأنيث، ونظيره الفُحولة، والْبُعُولة، وأَعُمٌّ، وجمع جمعه: أَعْمُمُون،

(1)

"المصباح المنير" 1/ 506.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 203.

ص: 248

وهي عَمّةٌ، والمصدر: الْعُمومة، بالضمّ، كالأبوّة، والْخُؤُولة. انتهى

(1)

.

وقوله: (ذَكَرَ فِيهِ عَنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) فاعل "ذَكَرَ" ضمير بعض عمومته، وضمير "فيه" يعود إيجار الأرض، بمعنى المزارعة؛ أي: ذكر في شأن إيجار الأرض.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3936]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَقَالَ: فَحَدَّثَهُ عَنْ بَعْضِ عُمُومَتِه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) السلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقةٌ متقنٌ عابد [9](ت 206) وقد قارب التسعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 45.

والباقيان ذُكرا في الباب.

[تنبيه]: رواية يزيد بن هارون، عن ابن عون هذه ساقها أبو عوانة في "مسنده (3/ 317) فقال:

(5138)

- حدّثنا الدقيقيّ، وعمار بن رَجاء، قالا: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنبا ابن عون، عن نافع؛ أن ابن عمر كان يأخذ كراء الأرض، فبلغه عن رافع بن خَديج حديثٌ، فأخذ بيدي، فانطلقت إلى رافع بن خديج، فحدّثه عن بعض عمومته؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن كراء الأرض، فتركه ابن عمر بعدُ. انتهى، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3937]

(

) - (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ؛ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُكْرِي أَرَضِيه، حَتَّى بَلَغَهُ أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ الأنصَارِيَّ كَانَ يَنْهَى عَنْ كِرَاءِ الأَرْض، فَلَقِيَهُ عَبْدُ الله، فَقَالَ: يَا ابْنَ خَدِيجٍ، مَاذَا تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي كِرَاءِ الأَرْضِ؟ قَالَ رَافِعُ بْنُ

(1)

"القاموس" مع شرحه "تاج العروس" 8/ 409.

ص: 249

خَدِيجٍ لِعَبْدِ الله: سَمِعْتُ عَمَّيَّ - وَكَانَا قَدْ شَهِدَا بَدْرًا - يُحَدِّثَانِ أَهْلَ الدَّارِ؛ أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ. قَالَ عَبْدُ الله: لَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ فِي عَهْدِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَن الأَرْضَ تُكْرَى، ثُمَّ خَشِيَ عَبْدُ اللهِ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحْدَثَ في ذَلِكَ شَيْئًا، لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ، فتَرَكَ كِرَاءَ الأَرْضِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ) الْفَهميّ مولاهم، أبو عبد الله المصريّ، ثقةٌ [11](ت 248)(م دس) تقدم في "الإيمان"26/ 211.

2 -

(أَبُوهُ) شعيب بن الليث بن سعد الْفَهميّ مولاهم، أبو عبد الملك المصري؛ ثقةٌ نبيل فقية، من كبار [10](ت 199)(م دس) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.

والباقون تقدّموا قبل ثلاثة أبواب، و"رافع" ذُكر في السند الماضي.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ شِهَاب؛ أنهُ قَالَ: أخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ الله؛ أَن عَبْدَ الله بْنَ عُمَرَ) بن الخظاب رضي الله عنهما (كَانَ يُكْرِي أَرَضِيهِ) قال النوويّ رحمه الله: كذا في بعض النسخ: "أَرَضِيهِ" بفتح الراء، وكسر الضاد، على الجمع، وفي بعضها:"أَرْضَهُ" على الأفراد، وكلاهما صحيح. انتهى

(1)

. (حَتَّى بَلَغَهُ أَن رَافِعَ بْنَ خَدِيج الأنصَارِيَّ كَانَ يَنْهَى عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ) أي: آخذا من النبي صلى الله عليه وسلم.

[تنبيه]: لم يصرّح سالم في هذه الرواية سماعه من رافع، وقد صرّح بذلك في رواية النسائيّ في "الكبرى"، فقد أخرجه من طريق مالك، عن الزهريّ؛ أن سالم بن عبد الله أخبره، وسأله عن كراء المزارع، فقال: أخبرنا رافع بن خَدِيج أن عمّيه، وكانا شهدا بدرًا أخبراه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن كراء المزارع، فترك عبد الله كراءها، وكان يُكريها قبل ذلك.

(فَلَقِيَهُ عَبْدُ الله) بن عمر رضي الله عنهما (فَقَالَ: يَا ابْنَ خَدِيج، مَاذَا تُحَدِّثُ عَنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي كِرَاءِ الأَرْضِ؟ قَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ لِعَبْدِ اللهِ) بن عمر جوابًا

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 203.

ص: 250

عن سؤاله (سَمِعْتُ عَمَّيَّ) بصيغة التثنية، أحدهما ظُهير بن رافع، كما يأتي في رواية أبي النجاشيّ، والآخر قال الكاباذيّ: لم أقف على اسمه، وذَكَر غيره أن اسمه مُظَهَّر - بضمّ الميم، وفتح الظاء، وتشديد الهاء المكسورة، وضبطه عبد الغنيّ، وابن ماكولا، هكذا زعم بعض من صنّف في المبهمات. قال الحافظ: ورأيت في "الصحابة" لأبي القاسم البغويّ، ولأبي عليّ بن السكن من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن يعلى بن حكيم، عن سليمان بن يسار، عن رافع بن خديج:"أن بعض عمومته"، قال سعيد: زعم قتادة أن اسمه مُهَيْر، فذكر الحديث، فهذا أولى أن يُعتمد، وهو بوزن أخيه ظُهير، كلاهما بالتصغير. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَكَانَا قَدْ شَهِدَا بَدْرًا) أنكر هذا الدمياطي، وقال: إنما شَهِدا أُحُدًا، واعتَمَد على ابن سعد في ذلك، قال الحافظ: ومن أثبت شهودهما أثبتُ ممن نفاه. انتهى

(2)

.

(يُحَدِّثَانِ أَهْلَ الدَّارِ) أي: أهل القرية (أَن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ كِرَاءِ الأَرْض، قَالَ عَبْدُ اللهِ: لَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ فِي عَهْدِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم أَن الأَرْضَ تُكْرَى، ثُمَّ خَشِيَ عَبْدُ الله أَنْ يَكُونَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَحْدَثَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا) أي: من النهي (لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ، فتَرَكَ كِرَاءَ الأَرْضِ)؛ أي: تورّعًا، واحتياطًا.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(19) - (بَابُ كِرَاءِ الأَرْضِ بِالطَّعَامِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3938]

(1548) - (وَحَدَّثَنِي عَلِي بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، ويعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - وَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ - عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ

(1)

"الفتح" 6/ 147 "كتاب الحرث والمزارعة" رقم (2346 - 2347).

(2)

"الفتح" 9/ 70 "كتاب المغازي" رقم (4012 - 4013).

ص: 251

حَكِيمٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ رَافِع بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: كُنَّا نُحَاقِلُ الأَرْضَ

(1)

عَلَى عَهْدِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَنُكْرِيهَا بِالثُّلُث، وَالرُّبُع، وَالطعَامِ الْمُسَمَّى، فَجَاءَنَا ذَاتَ يَوْمٍ رَجُلٌ مِنْ عُمُومَتي، فَقَالَ: نَهَانَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَنَا نَافِعًا، وَطَوَاعِيَةُ الله وَرَسُولِهِ أنْفَعُ لَنَا، نَهَانَا أَنْ نُحَاقِلَ بِالأَرْض، فَنُكْرِيَهَا عَلَى الثُّلُث، وَالرُّبُع، وَالطعَامِ الْمُسَمَّى، وَأَمَرَ رَبَّ الأَرْضِ أَنْ يَزْرَعَهَا، أَوْ يُزْرِعَهَا، وَكَرِهَ كِرَاءَهَا، وَمَا سِوَى ذَلِكَ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن كثير الْعَبْديّ مولاهم، أبو يوسف البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 252) وله (96) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 209، وهو أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة.

2 -

(يَعْلَى بْنُ حَكِيمٍ) الثقفي مولاهم المكيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ [6](خ م دس ق) تقدم في "النكاح" 5/ 3449.

3 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ) الهلاليّ مولاهم المدنيّ الفقيه، تقدّم قريبًا.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

شرح الحديث:

(عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: كُنَّا نُحَاقِلُ الْأَرْضَ) وفي نسخة: "نحاقل بالأرض"؛ أي: نتعامل فيها بالمزارعة (عَلَى عَهْدِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَنكْرِيهَا) بضمّ أوله من الإكراء (بِالثُّلُث، وَالرُّبُع) الوا وبمعنى "أو"؛ أي: بأن تكون أُجْرتها ثلث ما يخرج منها، أو ربعه (وَالطعَامِ الْمُسَمَّى) الواو أيضًا بمعنى "أو"؛ أي: بأن يكون طعام معيّن مقداره أجرة لها (فَجَاءَ ذَاتَ يَوْم رَجُلٌ مِنْ عُمُومَتِي) تقدّم أنه ظُهير بن رأفع الأنصاريّ الأوسيّ رضي الله عنه (فَقَالَ: نَهَاَنَا) ولفظ النسائيّ: "نهاني"(رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَمْرٍ كَانَ لنا نَافِعًا) أي: حسبما يظنّه عوامٌ الناس، والا فالواقع أنه ضارّ لهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يُحرّم إلا ما فيه ضرّ

(1)

وفي نسخة: "نحاقل بالأرض".

ص: 252

عاجل، أو آجل، وإلى هذا أشار ذلك الصحابيّ رضي الله عنه:(وَطَوَاعِيَةُ الله) سبحانه وتعالى (وَرَسُولهِ) صلى الله عليه وسلم، و"الطواعية" على وزن الكَرَاهية: بمعنى الطاعة، كما في "القاموس". يقال: أطاعه إطاعة؛ أي: انقاد له، وطاعه طوعًا، من باب قال، وبعضهم يُعدّيه بالحرف، فيقول: طاع له، وفي لغة من بابي باع، وخاف، والطاعة اسم منه، والفاعل من الرباعيّ مُطيع، ومن الثلاثيّ طائع، وطيِّعٌ، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

(أنْفَعُ لَنَا) أي: أكثر نفعًا لنا من النفع الذي نظنّه في هذه المعاملة (نَهَانَا أنْ نُحَاقِلَ بِالْأَرْضِ) جملة "نهانا إلخ" جملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، وهو ما وقع جوابًا لسؤال مقدّر، كأن سائلًا قال له: وما الذي نهاكم صلى الله عليه وسلم عنه؟ فأجاب بقوله: "نهانا أن نحاقل بالأرض"(فَنُكْريَهَا بِالثُّلُث، وَالرُّبُع، وَالطَّعَامِ الْمُسَمَّى) وقوله (وَأَمَرَ) عطف على "نهانا"(رَبَّ الأَرْضِ) أي: صاحبها، وفيه إطلاق لفظ الرب، مضافًا على غير الله تعالى، قال الفيّوميّ: الربُّ يُطلق على الله تبارك وتعالى، معرَّفًا بالألف واللام، ومضافًا، ويُطلق على مالك الشيء الذي لا يعقل، مضافًا إليه، فيقال: ربّ الذين، وربّ المال، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في ضالّة الإبل؛ "حتى يلقاها ربّها"، وقد استُعمل بمعنى السيّد، مضافًا إلى العاقل أيضًا، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"حتّى تلد الأمة ربّتها"، وفي رواية:"ربّها"، وفي

التنزيل حكايةً عن يوسف عليه السلام: {أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} الآية [يوسف: 41]. قالوا: ولا يجوز استعماله بالألف واللام للمخلوق بمعنى المالك؛ لأن اللام للعموم، والمخلوق لا يملك جميع المخلوقات، وربّما جاء باللام عوضًا عن الإضافة، إذا كان بمعنى السيّد، قال الحارث بن حِلزَة [من الخفيف]:

فَهُوَ الرَّبُّ وَالشَّهِيدُ عَلَى يَوْ

مِ الْحِيَارَينِ

(2)

وَالْبَلَاءُ بَلَاءُ

وبعضهم يمنع أن يقال: هذا ربّ العبد، وأن يقول العبد: هذا ربّي، وقوله صلى الله عليه وسلم:"حتّى تلد الأمة ربّها"، حجّةٌ عليه. انتهى

(3)

.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 380.

(2)

"الْحِيَاران" اسم موضع، قاله في "اللسان".

(3)

"المصباح المنير"1/ 214.

ص: 253

(أَنْ يَزْرَعَهَا) بفتح أوله مبنيًّا للفاعل؛ أي: يزرع أرضه بنفسه (أَوْ يُزْرِعَهَا) بضمّ أوله مبنيًّا للمفعول؛ أي: يُعطيها لغيره لِينتفع بزراعتها (وَكَرِهَ كِرَاءَهَا) الظاهر أنه الكراء المذكور، من الثلث، والربع، والطعام المسمّى، فيكون عطفه على ما قبله للتاكيد، وقوله:(وَمَا سِوَى ذَلِكَ) يَحْتَمِل أن يكون معطوفًا على ما قبله، فيكون المعنى: وكره المذكور، وغير ذلك، مما يُفسدُ العقدَ، كان يؤاجره على الماذيانات، وأقبال الجداول، كما يأتي في الباب التالي:"كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤاجرون على الماذيانات، وأقبال الجداول، فيسلم هذا، ويَهلك هذا، ويسلم هذا، ويهلك هذا، فلم يكن للناس كراءٌ إلا هذا، فلذلك زجر عنه".

ويَحْتَمِل أن يكون "ما سوى ذلك" مبتدأ خبره محذوف، تقديره: جائزٌ، يعني أن ما سوى ما ذُكر من الثلث، والربع، والطعام المسمّى، جائز أن يكون أجرة للأرض، وذلك مثل الدراهم، والدنانير المسمّى، فيكون بمعنى قول رافع رضي الله عنه في الباب التالي، لَمّا سئل عن كرائها بالدينار والدرهم، قال:"أما بالذهب والورِق، فلا باس به"، وبمعنى قوله الآتي أيضًا:"فأما شيء معلوم، مضمون، فلا بأس به"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث رافع بن خَدِيج، عن رجل من عمومته رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 3938 و 3939 و 3940 و 3941 و 3942 و 3943](1548)، و (البخاريّ) في "الحرث والمزارعة"(2339 و 2346 و 2347)، و (أبو داود) في "البيوع والإجارات"(3395 و 3396)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 41 - 42)، و"الكبرى"(3/ 97)، و (ابن ماجه) في "الرهون"(2465)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 465 و 4/ 169)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(4/ 248)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 315)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 131)، والله تعالى أعلم.

ص: 254

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3939]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، قَالَ: كتَبَ إِلَيَّ يَعْلَى بْنُ حَكِيمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ يُحَدِّثُ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: كُنَّا نُحَاقِلُ بِالأَرْض، فَنكْرِيهَا عَلَى الثُّلُث، وَالرُّبُع، ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم ذُكروا في الباب وقبله.

[تنبيه]: قوله: (كَتَبَ إِلَيَّ يَعْلَى بْنُ حَكِيمٍ) هذا أحد طرق تحمّل الحديث الثمانية، وهي: السماع، والقراءة، ويُسمّى العرضَ، والإجازة، والمناولة، والكتابة، والإعلام، والوصيّة، والوجادة، وتفاصيلها مذكورة في كتب "مصطلح الحديث".

وصورة الكتابة: أن يكتب الشيخ مسموعه لحاضر، أو غائب بخطّه، أو يأمر من يكتب له، وهي ضربان:

[إحداهما]: مقرونة بالإجازة، كان يقول: أجزتك ما كتبت لك، أو نحوه من العبارة، وهذه في الصحّة والقوّة، كالمناولة المقرونة بالإجازة.

[الثانية]: مجرّدة عن الإجازة، وهذه منع الرواية بها قوم، منهم: القاضي أبو الحسن الماورديّ الشافعيّ في الحاوي، والآمدي، وابن القظان. وأجازها كثيرون من المتقدّمين، والمتأخرين، منهم: أيوب السختيانيّ - كما بيّنه في هذا الحديث - ومنصور، والليث، وابن سعد، وابن أبي سَبْرة، وغير واحد من الشافعيّة، وأصحاب الأصول، وهو الصحيح المشهور بين أهل الحديث، ويوجد في مصنفاتهم كثيرًا: كتَبَ إليّ فلان، قال: حدثنا فلان، والمراد به هذا، وهو معمول به عندهم، معدود في الموصول من الحديث، دون المنقطع؛ لأشعاره بمعنى الإجازة، بل قال السمعانيّ: هي أقوى من الإجازة، قال السيوطيّ: وهو المختار، بل وأقوى من أكثر صور المناولة، وفي "صحيح البخاريّ" في "الأيمان والنذور": "وكتب إليّ محمد بن بشار

"، وليس فيه بالمكاتبة عن شيوخه غيره، وفيه، وفي "صحيح مسلم" أحاديث كثيرة بالمكاتبة في أثناء السند.

ص: 255

وقال البيهقيّ في "المدخل"، ما معناه: في هذا الباب آثار كثيرة عن التابعين، فمن بعدهم، وكُتُبُ النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى عُمّاله بالأحكام شاهدة لقولهم

(1)

.

والحاصل أن المكاتبة بالحديث من الطرق الصحيحة المتّصلة، تجوز الرواية، والعمل بها، والله تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: رواية حمّاد بن زيد، عن أيوب السختيانيّ هذه ساقها البيهقيّ في "الكبرى" (6/ 131) فقال:

(11495)

- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أحمد بن محمد الكرابيسيّ، ثنا أبو عبد الله محمد بن نصر المروزيّ، ثنا يحيى بن يحيى، ثنا حمّاد بن زيد، عن أيوب، قال: كَتَب إليّ يعلى بن حكيم، عن سليمان بن يسار، عن رافع بن خَدِيج، قال: كنا نُحاقل بالأرض، فنُكريها على الثلث، والربع، والطعامِ المسمَّى، ولم يكن يومئذ ذهب، ولا فضةُ نكريها بالأرض، فما شَعَرت يومًا إذ لقيني بعض عمومتي، فقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا، وطواعية رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفع لنا، وأنفع، كنا نُحاقل بالأرض، فنكريها على الثلث، والربع، والطعام المسمَّى، فنهانا عن ذلك، وأمر رب الأرض أن يَزْرَعَها، أو يُزْرِعَها، وكَرِهَ كراءها، وما سوى ذلك.

قال البيهقيّ رحمه الله: وأراد بالطعام المسمى ما يَخْرُج من تلك الأرض، وذلك بيِّن في بعض الروايات عن رافع، وكَرِه كراءها، يعني بذلك، وما في معناه. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3940]

(

) - (وَحَدَّثنا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ (ح) وَحَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى (ح) وَحَدَّثَنَا إسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ، كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ أَبي عَرُوبَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ) بن عربيّ البصريّ، ثقةٌ [10](ت 248) أو بعدها (م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.

(1)

راجع: "تدريب الراوي" 2/ 55 - 57.

ص: 256

2 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.

3 -

(عَمْرُو بْنُ عَلِيُّ) الفلّاس البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 249)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 38 من شيوخ الجماعة بلا واسطة.

4 -

(عَبْدُ الأَعْلَى) بن عبد الأعلى الساميّ البصريّ، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.

5 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هو: ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.

6 -

(عَبْدَةُ) بن سليمان الكلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [8](ت 187) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 339.

7 -

(ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ) هو: سعيد اليشكريّ، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ له تصانيف، لكنه كثير التدليس، واختلط [6](ت 6 أو 157)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

و"يعلى بن حكيم" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية سعيد بن أبي عروبة، عن يعلى بن حكيم، ساقها النسائيّ في "المجتبى" (7/ 42) فقال:

(3897)

- أخبرنا إسماعيل بن مسعود، قال: حدّثنا خالد بن الحارث، عن سعيد، عن يعلى بن حكيم، عن سليمان بن يسار؛ أن رافع بن خَديج قال: كنا نحاقل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزعم أن بعض عمومته أتاه، فقال: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا، قلنا: وما ذاك؟ قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "من كانت له أرض فليَزْرَعها، أو لِيُزْرِعها أخاه، ولا يُكاريها بثلث، ولا ربع، ولا طعام مسمّى". انتهى، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله الكتاب قال:

[3941]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو الطَّاهِر، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَني جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ بِهَذَا الْإِسْنَاد، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَقُلْ: عَنْ بَعْضِ عُمُومَتِهِ).

ص: 257

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(جَرِيرُ بْنُ حَازِمِ) بن زيد الأزديّ، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ [6](ت 170)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 81.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

[تنبيه]: رواية جرير بن حازم، عن يعلى بن حكيم هذه لم أر من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3942]

(

) - (حَدَّثَنِي إسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أخْبَرَنَا؛ أَبُو مُسْهِرٍ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنِي أبو عَمْرٍو الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ أَبِي النَّجَاشِيِّ مَوْلَى رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ رَافِعٍ؛ أن ظُهَيْرَ بْنَ رَافِعٍ - وَهُوَ عَمُّهُ - قَالَ: أتانِي ظُهَيْرٌ، فَقَالَ: لَقَدْ نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ أَمْرٍ كَانَ بِنَا رَافِقًا، فَقُلْتُ: وَمَا ذَاكَ؟ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ حَقٌّ، فَالَ: سَأَلنِي: "كَيْفَ تَصْنَعُونَ بِمَحَافِلِكُمْ؟ "، فَفُلْتُ: نُؤَاجِرُهَا يَا رَسُولَ اللهِ عَلَى الرَّبِيع، أَوِ الأَوْسُقِ مِنَ التَّمْر، أَوِ الشَّعِير، فَقالَ: (فَلَا تَفْعَلُوا، ازْرَعُوهَا، أَوْ أَزْرِعُوهَا، أَوْ أَمْسِكُوهَا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو مُسْهِرٍ) عبد الأعلى بن مُسهر بن عبد الأعلى بن مسلم الْغَسّانيّ الدمشقيّ، ثقةٌ فاضل، من كبار [10].

رَوَى عن سعيد بن عبد العزيز، وإسماعيل بن عبد الله بن سماعة، وصدقة بن خالد، ويحيى بن حمزة الحضرمي، ومالك بن أنس، ومحمد بن حرب الخولانيّ، وغيرهم.

ورَوَى عنه البخاريّ في "كتاب الأدب"، أو بلغه عنه، ورَوَى له هو والباقون بواسطة محمد بن يوسف الْبِيكَنديّ، وإسحاق بن منصور الكوسج، ومحمد بن إسحاق الصغانيّ، ومحمد بن محمود بن خالد، وعبد السلام بن عتيق، وغيرهم.

قال أحمد: كان عندكم ثلاثةٌ أصحابُ حديث: مروان، والوليد، وأبو مسهر، وقال أبو داود: سمعت أحمد يقول: رحم الله أبا مسهر، ما كان أثبته،

ص: 258

وجعل يُطريه، وقال أحمد بن أبي الحواريّ، عن ابن معين: ما رأيت منذ خرجت من بلادي أحدًا أشبه بالمشيخة من أبي مسهر، والذي يُحدّث في البلد، وفيها من هو أولى منه أحمق، وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو حاتم، والعجليّ: ثقةٌ، وقال محمد بن عثمان التنوخيّ: ما بالشام مثل أبي مسهر، وذكره فقال: كان من أحفظ الناس، قال: فحكيت له قول ابن معين، فقال: صدوق، وقال فياض بن زهير، عن ابن معين: من ثبّته أبو مسهر من الشاميين فهو ثبتٌ، وقال مروان بن محمد: كان سعيد بن عبد العزيز يُجلس أبا مسهر معه في صدر المجلس، وقال أبو حاتم: ما رأيت فيمن كتبنا عنه أفصح منه، ولا رأيت أحدًا في كورة أعظم قدرًا، ولا أجلّ عند أهل العلم من أبي مسهر بدمشق، وقال أبو حاتم: ثقةٌ، وقال الحاكم أبو أحمد: كان عالِمًا بالمغازي، وأيام الناس، وقال ابن حبان في "الثقات": كان ابن معين يُفَخِّم من أمره، وقال أيضًا: كان من الحفاظ المتقنين، وأهل الورع في الدين، وقال أيضًا: كان إمام أهل الشام في الحفظ والإتقان، ممن عُني بأنساب أهل بلده وأنبائهم، وإليه كان يرجع أهل الشام في الجرح والعدالة لشيوخهم، وقال الخليليّ: ثقةٌ حافظٌ إمام متفق عليه، وقال الحاكم: إمام ثقةٌ، وقال ابن وضاح: كان ثقةً فاضلًا.

وقال أبو داود: كان من ثقات الناس، لقد كان من الإسلام بمكان، حُمِل على المحنة، فأبى، وحُمل على السيف، فمدّ رأسه، وَردّ السيف، فأبى أن يجيب، فلما رأوا ذلك منه حُمِل إلى السجن فمات، وقال أبو سعيد: كان راويةً لسعيد بن عبد العزيز وغيره، وكان أُشخِص من دمشق إلى المأمون في المحنة، فسئل عن القرآن، فقال: كلام الله، فدعا له بالسيف ليُضْرَب عنقه، فلما رأى ذلك قال: مخلوق، فأمر بإشخاصه إلى بغداد، فحُبس بها، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى مات في رجب سنة (218)، وذُكر أن المأمون قال له: لو قلتها قبل أن أدعو بالسيف لأكرمتك، ولكنك تخرج الآن فتقول: قلتها فرَقًا من السيف.

وقال دُحَيم: وُلد سنة (114)، وكذا قال غير واحد في تاريخ مولده ووفاته.

ص: 259

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا برقم (1548)، وحديث (1975): "أصلح هذا اللحم، قال: فأصلحته

"، وحديث (2577): "يا عبادي إني حرّمتُ الظلم على نفسي

".

2 -

(يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ) بن واقد الْحَضْرميّ، أبو عبد الرحمن الدمشقيّ القاضي، ثقةٌ رُمي بالقدر [8](ت 183) على الصحيح، وله (80) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 294.

3 -

(أَبُو النَّجَاشِيُّ مَوْلَى رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ) عطاء بن صُهَيب الأنصاريّ، ثقةٌ [4](خ م س ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 34/ 1417.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.

شرح الحديث:

(عَنْ أبِي النَّجَاشِيِّ) - بنون، وجيم خفيفة، وبعد الألف معجمة، ثم ياء ثقيلة - عطاء بن صُهيب، ووقع في رواية ابن ماجه من وجه آخر إلى الأوزاعيّ:"حدّثني أبو النجاشيّ"(مَوْلَى رَافِعِ بْنِ خَدِيج، عَنْ رَافِع) بن خَدِيج رضي الله عنه، وفي رواية البخاريّ:"سمعت رافع بن خَدِيج بن رافع"، وأخرجه البيهقيّ من وجه آخر، عن الأوزاعيّ: حدّثني أبو النجاشيّ، قال: صَحِبت رافع بن خَدِيج ست سنين، ويأتي عند المصنف في الرواية التالية: عن عكرمة بن عمّار، عن أبي النجاشيّ، عن رافع، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يقل:"عن عمه ظُهير"، وفي رواية حنظلة بن قيس، عن رافع: حدّثني عماي، قال الحافظ رحمه الله: وهو مما يقوي رواية الأوزاعيّ

(1)

.

(أَنَّ ظُهَيْرَ بْنَ رَافِعٍ - وَهُوَ عَمُّهُ - قَالَ: أتانِي ظُهَيْرٌ) قال النوويّ: رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ، وهو صحيح، وتقديره: عن رافع أن ظُهيرًا عمه حدّثه بحديث، قال رافع في بيان ذلك الحديث: أتاني ظُهير، فقال: لقد نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا التقدير دلّ عليه فحوى الكلام، ووقع في بعض النسخ:"أنبأني" بدل "أتاني"، والصواب المنتظم:"أتاني"، من الإتيان. انتهى

(2)

.

(1)

"الفتح "6/ 143.

(2)

"شرح النوويّ"10/ 205.

ص: 260

(قالَ) ظُهير: (لَقَدْ نَهَى) وفي رواية البخاريّ: "لقد نهانا"(رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) يأتي في آخر الحديث ذكر صيغة النهي، حيث قال:"فلا تفعلوا"، وبها يُعرف المراد بالأمر الرافق، قاله في "الفتح"

(1)

. (عَنْ أَمْرٍ كَانَ بِنَا رَافِقًا) أي: ذا رفق (فَقُلْتُ: وَمَا ذَاكَ؟ مَا) موصولة مبتدأ، خبره "فهو حقّ"؛ أي: الأمر الذي قاله صلى الله عليه وسلم فهو حق، لا ما يزعم الناس أنه رافق (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ حَقٌّ) فيه ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الخضوع لأمر ألله تعالى، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وإيثاره على جميع مصالحهم، سواء عرفوا حكمة ذلك الأمر، أم لم يعرفوه، وكذلك ينبغي أن يكون كل مسلم؛ لأن المصالح الكاملة لا يعرفها إلا الله تعالى، كما قال عز وجل:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة: 216].

(قَالَ) ظهير: (سَأَلنِي كَيْفَ تَصْنَعُونَ بِمَحَاقِلِكُمْ؟) أي: بمزارعكم، والحَقْلُ: الزرع، وقيل: ما دام أخضر، والمحاقلة: المزارعة بجزء مما يَخْرُج، وقيل: هو بيع الزرع بالحنطة، وقيل غير ذلك، كما تقدم (فَقُلْتُ: نُؤَاجِرُهَا يَا رَسُولَ اللهِ عَلَى الرَّبِيعِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في معظم النسخ: "الرَّبِيع"، وهو الساقية، والنهر الصغير، وحَكَى القاضي عن رواية ابن ماهان:"الرُّبع" بضم الراء، وبحذف الياء، وهو أيضًا صحيح. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": قوله: "على الرَّبِيع" - بفتح الراء، وكسر الموحدة - وهي موافقة لرواية:"على الأربعاء"، فإن الأربعاء جمع رَبِيع، وهو النهر الصغير، وفي رواية المستملي:"الرُّبَيِّع" بالتصغير، ووقع للكشميهنيّ:"على الرُّبُع" بضمتين، وهي موافقة لحديث جابر بلفظ:"كانوا يزرعونها بالثلث، والربع، والنصف"، لكن المشهور في حديث رافع الأول، والمعنى: أنهم كانوا يُكرون الأرض، ويَشترطون لأنفسهم ما يَنْبُت على الأنهار، قاله في "الفتح"

(3)

.

(أَوِ الأَوْسُقِ) جمع وَسْق بفتح الواو، كفلس وأفلُس، ويجوز بكسر الواو،

(1)

"الفتح" 6/ 143.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 205.

(3)

"الفتح" 6/ 143 - 144.

ص: 261

ويُجمع على أوساق، كحِمْل وأحمال، وهو ستون صاعًا بصاع النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما تقدّم بيانه، وقوله:(مِنَ التَّمْر، أَوِ الشَّعِيرِ) بيان للأوسُق (قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("فَلَا تَفْعَلُوا) أي: لا تواجروها على هذه الصفة، وقوله: (ازْرَعُوهَا

إلخ) فعل أمر من زرع ثلاثيًّا، والجملة مستانفة استئنافًا بيانيًا، وهو ما وقع جوابًا عن سؤال مقدّر، فكأنهم قالوا له: ما نفعل فيها؟ فأجابهم بقوله: "ازرعوها"؛ أي: بأنفسكم لأنفسكم (أَوْ أَزْرِعُوهَا) بقطع الهمزة، أمر من أزرع رباعيًّا؛ أي: ادفعوها لمن يزرعها لنفسه من إخوانكم.

وقال في "الفتح": قوله: "ازرَعُوها" أو أَزْرِعوها" الأول بكسر الألف، وهي ألف وصل، والراء مفتوحة، والثاني بالف قطع، والراء مكسورة، و"أو" للتخيير، لا للشك، والمراد: ازْرَعُوها أنتم، أو أعطوها لغيركم يزرعها بغير أجرة، وهو الموافق لقوله في حديث جابر: "أو ليمنحها". انتهى

(1)

.

(أَوْ أَمْسِكُوهَا") أي: إن لم تفعلوا الأمرين، فأمسكوا محاقلكم؛ أي: اتركوها معطَّلةً.

زاد في رواية البخاريّ: "قال رافعٌ: قلتُ: سمعًا وطاعةً".

والحديث متفق عليه، وقد تقدّم تخريجه، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف: رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3943]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي النَّجَاشِيُّ، عَنْ رَافِعٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا، وَلَمْ يَدْكُرْ عَنْ عَمِّهِ ظُهَيْرٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْن مَهْدِيٍّ) تقدّم قريبًا.

3 -

(عِكْرِمَه بْنُ عَمَّارٍ) العجليّ، أبو عمّار اليماميّ، بصريّ الأصل، ثقةٌ،

(1)

"الفتح" 6/ 144.

ص: 262

إلا في روايته عن يحيى بن أبي كثير، فضعيف؛ لاضطرابه فيه [5] مات قُبيل الستين ومائة (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية عكرمة بن عمّار، عن أبي النجاشيّ هذه ساقها الإمام أحمد في "مسنده" (4/ 141) فقال:

(17306)

- حدّثنا عبد الله

(1)

، حدّثني أبي، ثنا هاشم بن القاسم، قال: ثنا عكرمة، عن أبي النجاشيّ مولى رافع بن خَدِيج، قال: سألت رافعًا عن كراء الأرض، قلت: إن لي أرضًا أُكريها، فقال رافع: لا تُكْرِها بشيء، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من كانت له أرض فَلْيَزْرعها، فإن لم يَزْرَعها فليُزْرِعها أخاه، فإن لم يفعل فلْيَدَعْها"، فقلت له: أرأيت إن تركته وأرضي، فإن زرعها، ثم بَعَثَ إليّ من التبن؟ قال: لا تأخذ منها شيئًا، ولا تبنًا، قلت: إني لم أشارطه، إنما أهدى إليّ شيئًا؟ قال: لا تأخذ منه شيئًا. انتهى.

[تنبيه آخر]: رواية عكرمة هذه صريحة في كون الحديث من مسند رافع بن خَدِيج رضي الله عنه، كما أشار إليه المصنّف، وهي خلافة رواية الأوزاعي، كما تقدّم، فإنه جعله من مسند ظُهير عمّ رافع، وقد تقدّم عن الحافظ الإشارة إلى ترجيح رواية الأوزاعيّ، بأن حنظلة بن قيس تابعه عليه، والذي يظهر لي أن كلتا الروايتين صحيحتان؛ لأن عكرمة لم ينفرد، بل تابعه عليه يحيى بن أبي كثير، وقد أخرج روايته النسائيّ، فالظاهر أن يُحمل على أنه صلى الله عليه وسلم خاطب كلًّا من رافع، وعمّه ظُهير بذلك، ولا مانع من ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(20) - (بَابُ كِرَاءِ الأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3944]

(1547) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ؛ أنَّهُ سَأَل رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ عَنْ

(1)

هو ولد الإمام أحمد راوي "المسند" عنه.

ص: 263

كِرَاءِ الأَرْض، فَقَالَ: نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ كِرَاءِ الأَرْض، قَالَ: فَقُلْتُ: أَبِالذَّهَب، وَالْوَرِقِ؟ فَقَالَ: أمَّا بِالذهَب، وَالْوَرِقِ فَلَا بَأَسَ بِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم قبل باب.

2 -

(رَبِيعَةُ بْنُ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ) فرُّوخ التيميّ مولاهم، أبو عثمان المدنيّ المعروف بربيعة الرأي، ثقةٌ فقية مشهور، كانوا يتّقونه لموضع الرأي [5](ت 136)(ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 11/ 1652.

3 -

(حَنْظَلَةُ بْنُ قَيْسِ) بن عمرو بن حِصْن بن خَلْدة الزُّرَقيّ المدنيّ، ثقةٌ [2] وقيل: له رؤية.

رَوَى عن عمر، وعثمان، وأبي الْيَسَر، ورافع بن خَدِيج، وابن الزبير، وغيرهم.

ورَوَى عنه ربيعة، ويحمص بن سعيد الأنصاريّ، والزهريّ، وغيرهم.

قال ابن سعد، عن الواقديّ: كان ثقةٌ قليل الحديث، وحَكَى عن الزهريّ: ما رأيت من الأنصار أحزم، ولا أجود رأيًا من حنظلة بن قيس، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: رَأَى عمر، وعثمان، وذكره ابن عبد البر في "الصحابة" جانحًا لقول الواقديّ: إنه وُلد على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، كرّره ثلاث مرّات.

والباقيان ذُكرا في الباب الماضي، وشرح الحديث يأتي في الحديث التالي - إن شاء الله تعالى -.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3945]

(

) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعيُّ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَن، حَدَّثَنِي حَنْظَلَةُ بْنُ قَيْسٍ الأنصَارِيُّ، قَالَ: سَأَلتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِق، فَقَالَ: لَا بَأَسَ بِه، إِنَّمَا كَانَ النَّاسُ يُؤَاجِرُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ

(1)

، وَأَقْبَالِ

(1)

وفي نسخة: "بما على الماذيانات".

ص: 264

الْجَدَاوِل، وَأَشْيَاءَ مِنَ الزَّرْع، فَيَهْلِكُ هَذَا، وَيَسْلَمُ هَذَا، ويَسْلَمُ هَذَا، ويهْلِكُ هَذَا، فَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاءٌ إِلا هَذَا، فَلِذَلِكَ زُجِرَ عَنْهُ، فَأَمَّا شَيءٌ مَعْلُومٌ، مَضْمُونٌ، فَلَا بَأْسَ بِهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقةٌ مأمونٌ [8] (ت 187) وقيل:(191)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

والباقون ذُكروا في السند الماضي، والباب الماضي، و"إسحاق" هو: ابن راهويه.

شرح الحديث:

(عَنْ رَبِيعَةَ بْن أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ) المعروف بربيعة الرأي؛ أنه (حَدَّثَنِي حَنْظَلَةُ بْنُ قَيْسٍ الأَنصَارِيُّ) الزُّرَقيّ (قَالَ: سَأَلتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ) رضي الله عنه (عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ) أي: عن حكم مؤاجرتها (بِالذَّهَبِ وَالْوَرِق، فَقَالَ) رافع: (لَا بَأَسَ بِهِ) أي: لا حرج، ولا إثم فيه (إِنَّمَا كَانَ النَّاسُ يُؤَاجِرُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ) وفي بعض النسخ:"بما على الماذيانات"؛ أي: على مسائيل الماء، وقد تقدّم ضبطها، والاختلاف في معناها، فلا تنس. (وَأقبَالِ الْجَدَاوِلِ) بفتح الهمزة: جمع قُبُل بضمّتين: وهو ما أقبل من كلّ شيء، والمراد به هنا: أوائل الجداول، ورؤوسها، وما يَنْبُت عليها من العشب، وقيل: جمع قَبَل بفتحتين، وهو الكلأ في مواضع من الأرض، كذا في "مجمع البحار"

(1)

.

و"الجداول": جمع جَدْول، وهو النهر الصغير؛ كالساقية (وَأَشيَاءَ مِنَ الزَّرْعِ) كأن يستثني ما على الربيع، وهو الساقية الصغيرة، وجمعه أربعاء؛ كنبيّ وأنبياء، ورِبْعان؛ كصبيّ وصِبْيان.

وفي رواية النسائيّ: "عن رافع بن خَديج، قال: حدّثني عَمِّي أنهم كانوا يُكرون الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يَنْبُتُ على الأربعاء، وشيء من الزرع، يَستثني صاحب الأرض، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

(1)

"تكملة فتح الملهم" 1/ 461.

ص: 265

قال النوويّ: رحمه الله: معنى هذه الألفاظ أنهم كانوا يدفعون الأرض إلى من يزرعها ببذر من عنده، على أن يكون لمالك الأرض ما يَنْبُت على الماذيانات، وأقبال الجداول، أو هذه القطعة، والباقي للعامل، فنُهُوا عن ذلك؛ لما فيه من الغرر، فربما هلك هذا، دون ذاك، وعكسه. انتهى

(1)

.

(فَيَهْلِكُ هَذَا) النوع (وَيَسْلَمُ هَذَا، وَيَسْلَمُ هَذَا، وَيَهْلِكُ هَذَا، فَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاء إِلَّا هَذَا، فَلِذَلِكَ زُجِرَ عَنْهُ) بالبناء للمفعول؛ أي: نُهي عنه، وهذا الحديث حديث مفسَّر، قد أوضح سبب النهي، فهو صريح في أن النهي لم يكن عامًّا لكلّ أنواع المزارعة، وإنما كان مخصوصًا بهذه الصور، وما شابهها، مما يُشترط فيها الشروط الفاسدة، فتفسد المزارعة؛ للضرر اللاحق لأحد الجانبين، والله تعالى أعلم.

(فَأَمَّا شَيءٌ مَعْلُومٌ) أي: فأما إذا كان شيءٌ معلوم المقدار؛ أي: ليس مجهولًا (مَضْمُونٌ) أي: يلزم ضمانه لمن شُرط، وذلك كان يكون الأجر دنانير، أو دراهم مسماة، يضمنها المستأجر لصاحب الأرض أجرة على أرضه (فَلَا بَأَسَ بِهِ) أي: فلا حرج في ذلك؛ لأنه لا يؤدّي إلى غرر، ولا يلحقه ضرر.

وقال في "الفتح" عند قوله: "فقال رافع: ليس بها بأس بالدينار والدرهم"، ما نصّه: يَحْتَمِل أن يكون ذلك قاله رافع باجتهاده، ويَحْتَمِل أن يكون عَلِمَ ذلك بطريق التنصيص على جوازه، أو عَلِم أن النهي عن كراء الأرض ليس على إطلاقه، بل بما إذا كان بشيء مجهول، ونحو ذلك، فاستَنْبَط من ذلك جواز الكراء بالذهب والفضة، ويُرَجِّح كونه مرفوعًا ما أخرجه أبو داود، والنسائيّ بإسناد صحيح، من طريق سعيد بن المسيِّب، عن رافع بن خَدِيج، قال:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة، والمزابنة، وقال: إنما يَزْرَع ثلاثة: رجلٌ له أرض، ورجلٌ مُنِحَ أرضًا، ورجلٌ اكتَرَى أرضًا بذهب، أو فضة"، لكن بَيَّن النسائيّ من وجه آخر أن المرفوع منه النهي عن المحاقلة، والمزابنة، وأن بقيته مُدْرَجٌ من كلام سعيد بن المسيِّب، وقد رواه مالك في

(1)

"شرح النوويّ"10/ 198.

ص: 266

"الموطإ"، والشافعيّ عنه، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيِّب. انتهى

(1)

.

وقال البخاريّ في "صحيحه": وقال الليث بن سعد رحمه الله: وكان الذي نُهي من ذلك ما لو نظر فيه ذَوُو الفهم بالحلال والحرام لم يجيزوه؛ لِمَا فيه من المخاطرة. انتهى.

وقال في "الفتح" معلّقًا على كلام الليث، ما نصّه: وقوله: "المخاطرة"؛ أي: الإشراف على الهلاك، وكلام الليث هذا موافق لما عليه الجمهور، من حمل النهي عن كراء الأرض على الوجه المفضي إلى الغرر والجهالة، لا عن كرائها مطلقًا، حتى بالذهب والفضة، ثم اختَلَف الجمهور في جواز كرائها بجزء مما يخرج منها، فمَن قال بالجواز حَمَل أحاديث النهي على التنزيه، وعليه يدل قول ابن عباس بحيث قال:"ولكن أراد أن يَرفُق بعضهم ببعض"، ومن لم يُجز إجارتها بجزء مما يَخرُج منها قال: النهي عن كرائها محمول على ما إذا اشتَرَط صاحب الأرض ناحية منها، أو شَرَط ما يَنبُتُ على النهر لصاحب الأرض؛ لِمَا في كل ذلك من الغرر والجهالة.

وقال مالك: النهي محمول على ما إذا وقع كراؤها بالطعام أو التمر؛ لئلا يصير من بيع الطعام بالطعام، قال ابن المنذر: ينبغي أن يُحْمَل ما قاله مالك على ما إذا كان الْمُكْرَى به من الطعام جزءًا مما يَخْرُج منها، فأما إذا اكتراها بطعام معلوم في ذمة المكتري، أو بطعام حاضر يَقبِضه المالك، فلا مانع من الجواز، والله أعلم. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن جمهور العلماء على جواز المزارعة، إذا خلت من الشروط الفاسدة، كما بُيِّنت في هذا الحديث، وأما الأحاديث الدالّة على النهي عن المزارعة مطلقًا، فمحمولة على هذا النوع، أو تكون محمولة على الندب والاستحباب، والحثّ على الخير، كما دلّ عليه حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما المذكور، وبهذا يجتمع ما تعارض ظاهرًا من أحاديث هذه المزارعة، فتبصّر، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(1)

"الفتح" 6/ 148 "كتاب الحرث والمزارعة" رقم (2346 - 2347).

(2)

"الفتح" 6/ 148 - 149 "كتاب الحرث والمزارعة" رقم (2346 - 2347).

ص: 267

مسألتان تتعلّقان بهدا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث رافع بن خَدِيج رضي الله عنه هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [20/ 3944 و 3945 و 3946 و 3947](1547)، و (البخاريّ) في "الحرث والمزارعة"(2327 و 2332) و"الشروط"(2722)، و (أبو داود) في "المزارعة"(3392 و 3393)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 44) و"الكبرى"(3/ 98)، و (ابن ماجه) في "الرهون"(2458)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 142)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 132) و"الصغرى"(5/ 425) و"المعرفة"(4/ 514)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلف: رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3946]

(

) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو الناقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ حَنْظَلَةَ الزُّرَقِيِّ؛ أنهُ سَمِعَ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ يَقُولُ: كُنَّا أَكثَرَ الأنصَارِ حَقْلًا - قَالَ - كُنَّا نُكرِي الأَرْضَ عَلَى أَن لَنَا هَذِه، ولَهُمْ هَذِه، فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِه، وَلَمْ تُخْرِجْ هَذِه، فنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، وَأمَّا الْوَرِقُ فَلَمْ يَنْهَنَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهم ذُكروا في الباب، وقبل باب، غير "يحيى بن سعيد" وهو: الأنصاريّ، فتقدّم قبل خمسة أبواب.

وقوله: (كُنَّا أَكثَرَ الأنصَارِ حَقْلًا) نُصِبَ على التمييز، وهو بفتح الحاء المهملة، وسكون القاف: الأرض الْقَراح، وهي التي لا شجر بها، وقيل: هو الزرع إذا تشعَّب ورَقه، ومنه أُخذت المحاقلة، وهي بيع الزرع في سُنبله بحنطة، جمعه حُقُول، كفلس وفلوس، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (وَأمَّا الْوَرِقُ فَلَمْ يَنْهَنَا) يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينههم عن الاكتراء بالوَرِق، بكسر الراء؛ أي: بالدراهم.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 144.

ص: 268

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تمام البحث فيه في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3947]

(

) - (حَدثنَا أَبُو الرَّبِيع، حَدَّثنَا حَمَاد (ح) وَحَدَّثنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، جَمِيعًا عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، بِهَذَا الإسْنَادِ نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهم تقدّموا في السند الماضي، وفي البابين الماضيين، و"أبو الربيع" هو: سليمان بن داود الْعَتَكيّ الزهرانيّ، و"حمّاد" هو: ابن زيد.

[تنبيه]: رواية يزيد بن هارون، عن يحيى بن سعيد هذه ساقها البيهقيّ في "الكبرى" (6/ 132) فقال:

(11503)

- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، ثنا إبراهيم بن عبد الله السعديّ، أنبأ يزيد بن هارون، ثنا يحيى بن سعيد؛ أن حنظلة بن قيس الأنصاريّ أخبره؛ أنه سمع رافع بن خَدِيج يقول: كنا أكثر أهل المدينة مُزْدَرَعًا، وكنا نُكري الأرض بالناحية منها، تُسَمَّى لسيد الأرض، فربما يصاب ذلك، وتصاب الأرض، وربما يَسْلَم ذلك، وتسلم الأرض، قال: فنُهينا عن ذلك، فأما الذهب والورق فلم يكن في ذلك الزمان. انتهى.

ومعنى قوله: "فلم يكن في ذلك الزمان" يعني أنه لا يُكرَى بهما، ولا يُتعامل بهما في المزارعة، وليس المراد نفي وجودهما في ذلك الزمان، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(21) - (بَابٌ في الْمُزَارَعَةِ وَالْمُؤَاجَرَةِ)

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3948]

(1549) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيادٍ (ح) وَحَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، كِلَاهُمَا عَنِ الشَّيْبَانِيِّ،

ص: 269

عَنْ عَبْدِ الله بْنِ السَّائِب، قَالَ: سَأَلتُ عَبْدَ الله بْنَ مَعْقِلٍ عَنِ الْمُزَارَعَةِ؟ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي ثَابِتُ بْنُ الضَّحَّاكِ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْمُزَارَعَة، وَفي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: نَهَى عَنْهَا، وَقَالَ: سَأَلتُ ابْنَ مَعْقِلٍ: وَلَمْ يُسَمِّ عَبْدَ الله).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ) الْعَبْديّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [8](ت 176)، أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

3 -

(أبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل بابين.

4 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ، قاضي الموصل، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة"2/ 6.

5 -

(الشَّيْبَانِيُّ) سليمان بن أبي سليمان فيروز، أبو إسحاق الكوفيّ، ثقةٌ [5] مات في حدود (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 38/ 259.

6 -

(عَبْدُ الله بْنُ السَّائِبِ) الْكِنديّ، ويقال: الشيبانيّ الكوفيّ، ثقةٌ [6].

رَوَى عن أبيه، وزاذان الكنديّ، وعبد الله بن مَعْقِل بن مُقَرِّن، وعبد الله بن قتادة المحاربي، الكوفيّ، وعن أبي هريرة، أو عن رجل عنه.

وروى عنه الأعمش، وأبو إسحاق الشيبانيّ، والعَوَّام بن حَوْشب، وأبو سِنَان ضِرَار بن مُرَّة، وسفيان الثوريّ، وغيرهم.

قال ابن معين، وأبو حاتم، والنسائي: ثقةٌ، وقال أحمد بن حنبل: سمع منه الثوريّ ثلاثة أحاديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ووثقه العجليّ، ومحمد بن عبد الله بن نُمَير، وغيرهما.

تفرّد به المصنّف، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وكرّره مرّتين، وله عند النسائيّ حديث في تبليغه صلى الله عليه وسلم أمته.

7 -

(عَبْدُ الله بْنُ مَعْقِلٍ) - بفتح أوله، وسكون العين المهملة، بعدها قاف - ابن مُقَرِّن المزنيّ، أبو الوليد الكوفيّ، ثقةٌ، من كبار [3](ت 188)(ع) تقدم في "الزكاة" 20/ 2347.

8 -

(ثَابِتُ بْنُ الضَّحَّاكِ) بن خليفة الأشهليّ الصحابيّ المشهور، مات رضي الله عنه سنة (64)(ع) تقدم في "الإيمان" 49/ 309.

ص: 270

وقوله: (نَهَى عَنِ الْمُزَارَعَةِ) تقدّم أن المراد بالمزارعة المنهيّ عنها هي التي اشتملت على الشروط الفاسدة، كان يشترط صاحب الأرض لنفسه ما على الماذيانات، أو الساقية، أو نحو ذلك، مما فيه غرر، وضرر، وأما إذا كانت بشيء معلوم، كدنانير، ودراهيم معيّنة، أو بجزء معلوم، كالثلث، والربع، والنصف، فلا منع في ذلك؛ لما يأتي بعد باب، من أن النبيّ صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على نصف ما يخرج منها، ولما يدلّ عليه قوله في الرواية التالية:"وأمر بالمؤاجرة"، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ثابت بن الضحّاك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف: رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [21/ 3948 و 3949](1549)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 33)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 326)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3949]

(

) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ السَّائِب، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عَبْدِ الله بْنِ مَعْقِلٍ، فَسَأَلنَاهُ عَنِ الْمُزَارَعَةِ؟ فَقَالَ: زَعَمَ ثَابِث أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْمُزَارَعَة، وَأَمَرَ بِالْمُؤَاجَرَة، وَقَالَ: "لَا بَأَسَ بِهَا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الْكَوْسج، تقدّم قبل باب.

2 -

(يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ) الشيبانيّ، خَتَنُ أبي عوانة، تقدّم قبل بابين.

3 -

(أَوبو عَوَانَةَ) الوضّاح بن عبد الله اليشكريّ، تقدّم أيضًا قبل بابين.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (نَهَى عَنِ الْمُزَارَعَة، وَأَمرَ بِالْمُؤَاجَرَةِ) بالهمز، ويُبْدَل، قال الطيبيّ: رحمه الله: التعريف فيهما للعهد، فالمعني بالمزارعة: ما عُلِمَ عدم جوازه، وبالمؤاجرة عكسُ ذلك.

ص: 271

قال الجامع عفا الله عنه: أراد الطيبيّ رحمه الله أن المراد بالنهي عن المزارعة هي المزارعة التي تشتمل على الشروط الفاسدة، كما تقدّم بيانه مستوفى، وبالمؤاجرة هي مؤاجرة الأرض بالأجرة المعلومة، من الدنانير والدراهيم، والجزء المعلوم، مما يؤدي إلى غرر، وإلحاق ضرر، والله تعالى أعلم.

وقوله: (وَقَالَ: لَا بَأَسَ بِهَا) أي: قال ثابت: لا بأس؛ أي: بالمؤاجرة المعروفة، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(22) - (بَابٌ: فِيمَنْ رَأَى أَن النَّهْيَ عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الإرْشَادِ إِلَى الأفضَلِ)

(1)

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3950]

(1550) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا حَمَادُ بْنُ زيدٍ، عَمْرٍو؛ أَن مُجَاهِدًا قَالَ لِطَاوُسٍ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى ابْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، فَاسْمَعْ الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ - فَانْتَهَرَهُ، قَالَ: إِني وَاللهِ لَوْ أعْلَمُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهُ مَا فَعَلْتُهُ، وَلَكِنْ حَدَّثَنِي مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُمْ - يَعْني عَبَّاسٍ - أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لأَنْ يَمْنَحَ الرَّجُلُ أَخَاهُ أَرْضَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ يَأَخُذَ عَلَيْهَا خَرْجًا مَعْلُومًا").

رجال الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيىَ بْنُ يَحْيىَ) التميميّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(حَمَادُ بْنُ زيدٍ) تقدّم قبل باب.

3 -

(عَمْرُو) بن دينار، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(طَاوُسُ) بن كيسان تقدّم قريبًا.

(1)

هكذا ترجم القرطبيّ رحمه الله، وترجم النووي، وغيره:"بَابُ الأرْضِ تُمْنَحُ"، والأولى أوضح، وأولى، والله تعالى أعلم.

ص: 272

5 -

(ابْنُ عَبّاسٍ) رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قريبًا.

شرح الحديث:

(عَنْ عَمْرِو) بن دينار (أَن مُجَاهِدًا) هو ابن جَبر أبو الحجّاج المخزوميّ، تقدّم قريبًا (قَالَ لِطَاوُسِ) بن كيسان (انْطَلِقْ) أي: اذهب (بِنَا إِلَى ابْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ) لم يُسمَّ، ولكن لا يضرّ ذلك بصحّة؛ لأنه في المتن، وليس في الإسناد، وإنما نبّهت عليه، وإن كان واضحًا؛ لأن بعض من لم يمارس هذا الفنّ ربّما يستشكل ذلك، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.

وفي رواية النسائيّ: (عَنْ عَمْرِو بْن دِينَارٍ قَالَ: كَانَ طَاوُس يَكْرَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ أَرْضَهُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّة، وَلَا يَرَى بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ بَأسًا، فقال له مجاهد: اذهب بنا إلى ابن رافع بن خَديج

).

ولعل طاوسًا حَمَل النهي على المؤاجرة بالذهب والفضّة، وأباح بالثلث والربع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها.

ثم إن الظاهر أن مجاهدًا إنما قال له ذلك؛ لئلا يتعامل بالمزارعة؛ لأنه كان يُزارع، ومجاهد لا يرى ذلك، فأراد أن يقيم عليه الحجة في ذلك بما يسمعه من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه بواسطة ابنه.

وهذا الذي رواه عمرو بن دينار مما جرى لمجاهد مع طاوس وقع له مثله معه، كما سيأتي في الرواية التالية.

(فَاسْمَعْ مِنْهُ الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أي: الحديث الذي يحدّث به عن أبيه، عنه صلى الله عليه وسلم في النهي عن المخابرة، فإن المشهور في معنى المخابرة أنها المعاملة على الأرض ببعض ما يخرُج منها، فتدخل في النهي الصورة التي يتعامل بها طاوس، فأراد أن يَسْمَع الحديث، فيترك تلك المعاملة، والله تعالى أعلم.

وقال النووي رحمه الله: "قوله: "فاسمع منه" رُوي بوصل الهمزة مجزومًا على الأمر، وبقطعها مرفوعًا على الخبر، وكلاهما صحيح، والأول أجود. انتهى

(1)

.

(1)

"شرح النوويّ"10/ 207.

ص: 273

(قَالَ) عمرو بن دينار: (فَانْتَهَرَهُ) أي: زجر طاوس مجاهدًا عما طلب منه (قَالَ) طاوس: (إِني وَاللهِ لَوْ أَعْلَمُ أَن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهُ) أي: عن هذا التعامل الذي أتعامله أنا في مؤاجرة الأرض (مَا فَعَلْتُهُ) هذا دليلٌ على أن طاوسًا لم يصدّق بحديث النهي عن المخابرة على إطلاقه، وذلك لأنه يعتقد أن ابن عباس رضي الله عنهما أعلم من رافع بن خديج رضي الله عنه، فرافع، وإن كان سمع ذلك إلا أنه أجراه على ظاهره، وابن عبّاس حمله على التنزيه، وهو أعلم منه، فيقدّم ما قاله، وقد سبق أن رافعًا رضي الله عنه أيضًا قائل بهذا، على ما يدلّ عليه بعض رواياته، فقد تقدّم أن حنظلة بن قيس سأله عن كراء الأرض بالذهب والورِق، فقال: لا بأس به، والله تعالى أعلم.

(وَلَكِنْ حَدَّثَنِي مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُمْ) أي: من رافع بن خديج، وممن حدّث بمثل حديثه وقوله:(يَعْني ابْنَ عَبَّاسٍ) العناية من بعض الرواة، ولم يتبيّن لي من هو؟ (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَأَنْ يَمْنَّح) بفتح اللام؛ لأنها لام ابتداء، و"يمنح" بفتح النون، وكسرها؛ أي: يُعطي، قال الفيّوميّ: الْمِنْحَةُ بالكسر في الأصل: الشاة، أو الناقة، يُعطيها صاحبها رجلًا، يشرب لبنها، ثم يردّها إذا انقطع اللبن، ثم كثُر استعماله حتى أُطلق على كلّ عطاء، ومَنَحْتُهُ مَنْحًا، من بابي نفع، وضرب: أعطيتُهُ، والاسم الْمَنِيحَةُ. انتهى.

والمصدر الْمُؤَوَّل مبتدأ، خبره قوله:"خير له"، فهو نظير قوله تعالى:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184].

(الرَّجُلُ أَخَاهُ أرْضَهُ) فـ "الرجل" مرفوع على الفاعليّة لـ "يمنح"، وقوله:"أخاه" مفعول أول له، و"أرضه" مفعوله الثاني (خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأَخُذَ عَلَيْهَا خَرْجًا مَعْلُومًا") بفتح الخاء المعجمة، وسكون الراء؛ أي: أُجرة، قال الفيّوميّ: الْخَرَاج، والْخَرْجُ: ما يَحصُلُ من غلّة الأرض، ولذا أطلق على الجزية. انتهى.

والمعنى: أن إعطاءه الأرض لأخيه، لينتفع بها بدون عِوَضِ أعظم أجرًا عند الله تعالى من أخذه أجرًا معلومًا عليها، والله تعالى أعلم بالصواب.

ص: 274

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [22/ 3950 و 3951 و 3952 و 3953 و 3954](1550)، و (البخاريّ) في "المزارعة"(2330 و 2342) و"الهبة"(2634)، و (أبو داود) في "البيوع"(3389)، و (الترمذيّ) في "الأحكام"(1385)، و (النسائيّ) في "المزارعة"(7/ 36) و"الكبرى"(3/ 92)، و (ابن ماجه) في "الأحكام"(2456 و 2457 و 2462 و 2464)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 340)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(8/ 98)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 236)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 281)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(4/ 265 و 11/ 13)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 133)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): جواز المزارعة، لقول ابن عبّاس رضي الله عنهما، كما في رواية الشيخين:"إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَنْهَ عنه"؛ أي: لم يحرّمه، كما صرّح الترمذيّ به في روايته.

2 -

(ومنها): استحباب المواساة بمنح الأرض لمن لا يجدها بدون عوض؛ لقوله صلى الله عليه وسلم "لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه إلخ".

3 -

(ومنها): أنه يدلّ على أن طاوسًا يرى ابن عبّاس رضي الله عنهما أعلم من رافع بن خَدِيج رضي الله عنه، وهو كذلك، فإنه كان يلقّب بالحبر والبحر؛ لسعة علمه بسبب دعوة النبيّ صلى الله عليه وسلم، بقوله:"اللَّهم فقّهه في الدين، وعلّمه التأويل"، كما رواه أحمد في "مسنده"، وقد بُيّن سببُ ذلك فيما رواه الشيخان عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم، أتى الخلاء، فوضعت له وَضُوءًا، فلما خرج، قال:"من وضع هذا؟ "، قالوا: ابن عباس، قال:"اللَّهم فقّهه في الدين". وفي رواية ابن ماجه في "سننه": قال: ضمّني رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، وقال:"اللَّهم علّمه الحكمة، وتأويل الكتاب".

4 -

(ومنها): ما كان عليه السلف من التباحث في المسائل الفقهيّة، واحتجاج بعضهم على بعض؛ إرادة التوصّل إلى ظهور الحقّ، لا لحبّ المحمدة، والتعالي على الأقران، والله تعالى أعلم بالصواب.

ص: 275

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3951]

(

) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، وَابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ طَاوُسٍ؛ أنَّهُ كَانَ يُخَابِرُ، قَالَ عَمْرُو: فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَن، لَوْ تَرَكْتَ هَذِهِ الْمُخَابَرَةَ، فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْمُخَابَرَة، فَقَالَ: أَيْ عَمْرُو، أَخْبَرَنِي أَعْلَمُهُمْ بِذَلِكَ - يَعْني ابْنَ عَبَّاسٍ - أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْهَ عَنْهَا، إِنَّمَا قَالَ: "يَمْنَحُ أَحَدُكُمْ أخَاهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأُخُذَ عَلَيْهَا خَرْجًا مَعْلُومًا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم قبل باب.

3 -

(ابْنُ طَاوُسٍ) هو: عبد الله بن طاوس، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (لَمْ يَنْهَ عَنْهَا) أي: عن المخابرة - أي: المزارعة بجزء مما يخرُج من الأرض، ولم يُرِد ابن عباس بذلك نفي الرواية المثبتة للنهي مطلقًا، وإنما أراد أن النهي الوارد عنه ليس على حقيقته، وإنما هو على الأولويّة. وقيل: المراد أنه لم ينه عن العقد الصحيح، وإنما نهى عن الشرط الفاسد، لكن قد وقع في رواية الترمذيّ:"أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُحرّم المزارعة"، فيقوّي التأويل الأول، أفاده في "الفتح"

(1)

.

وقوله: ("يَمْنَحُ) بتقدير حرف مصدريّ؛ أي: أن يمنح، وهو كقوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} الآية [الروم: 24]، ومنهم قولهم:"تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه".

وقوله: (خَرْجًا مَعْلُومًا) أي: أجرة، زاد ابن ماجه، والإسماعيليّ، عن طاوس:"وإن معاذ بن جبل أقرّ الناس عليها عندنا"، يعني باليمن.

والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 6/ 130.

ص: 276

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3952]

(

) - (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا الثقَفِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ (ح) وَحَدَّثَنَا؛ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ (ح) وَحَدَّثَني عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ شُعْبَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ حَدِيثِهِمْ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى) السِّينانيّ، أبو عبد الله المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 192)(ع) تقدم في "الجنائز" 26/ 2236.

2 -

(شَرِيكُ) بن عبد الله النخعيّ الكوفيّ القاضي، أبو عبد الله، صدوق يُخطيء كثيرًا، وتغيّر منذ ولي القضاء بالكوفة، وكان عادلًا فاضلًا عابدًا شديدًا على أهل البِدَع (خت م 4) تقدم في "الصلاة" 36/ 1030.

والباقون كلّهم تقدّموا قريبًا، و"الثقفيّ" هو: عبد الوهّاب بن عبد المجيد، و"أيوب" هو: السَّختيانيّ، و"سفيان" هو: الثوريّ.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ) أي: كلّ هؤلاء الأربعة، وهم: أيوب السختيانيّ، وسفيان الثوريّ، وابن جُريج، وشعبة رووا هذا الحديث عن عمرو بن دينار بسنده المذكور.

وقوله: (نَحْوَ حَدِيثِهِمْ) هكذا النسخ بضمير الجماعة، وهو يرجع إلى حماد بن زيد، وسفيان بن عيينة في الإسنادين السابقين، وهو جائز على قول من يرى أقل الجمع اثنين، وهو الصحيح، كما أوضحته في "التحفة المرضيّة"، و"شرحها".

[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ، عن عمرو، ساقها ابن ماجه في "سننه" (2/ 823) فقال:

(2464)

- حدثنا أبو بكر بن خَلّاد الباهليّ، ومحمد بن إسماعيل، قالا: ثنا وكيع، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، قال: قال ابن عباس:

ص: 277

إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يمنح أحدكم أخاه الأرض خير له من أن يأخذ خراجًا معلومًا". انتهى.

وأما رواية ابن جريج، عن عمرو، فقد ساقها أيضًا ابن ماجه رضي الله عنه في "سننه" (2/ 821) فقال:

(2456)

- حدثنا محمد بن رُمح، أنا الليث بن سعد، عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس؛ أنه لَمّا سَمِع إكثار الناس في كراء الأرض قال: سبحان الله، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أَلَا مَنَحَها أحدكم أخاه"، ولم ينه عن كرائها. انتهى.

وأما روايتا أيوب، وشعبة كلاهما عن عمرو بن دينار، فلم أر من ساقهما، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3953]

(

) - (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ - قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيه، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أن النّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لأَنْ يَمْنَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ أرْضَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا كَذَا وَكَذَا". لِشَيْءٍ مَعْلُوم، قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْحَقْلُ

(1)

، وَهُوَ بِلِسَانِ الأنصَارِ الْمُحَاقَلَةُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلهم تقدّموا قريبًا.

وقوله: (لِشَيْءٍ مَعْلُومٍ) تفسير من بعض الرواة لكناية "كذا وكذا".

وقوله: (هُوَ الْحَقْلُ) وفي بعض النسخ: "لهو الحقل"، يعني أن إكراء الأرض بشيء معيّن هو الحق المعبّر عنه في ألسنة الأنصار بالمحاقلة.

والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم.

(1)

وفي نسخة: "لهو الحقل".

ص: 278

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3954]

(

) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِّيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ الله بْنُ عَمْرٍو، عَنْ زيدِ بْنِ أبِي أنيْسَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ أَبِي زيدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ، فَإِنَّهُ أنْ يَمْنَحَهَا

(1)

أَخَاهُ خَيْرٌ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَبْدُ الله بْنُ عَبدِ الرَّحْمَنِ الدِّارِمِيُّ) أبو محمد السَّمَرْقَنديّ، صاحب "المسند"، ثقةُ حافظٌ، متقن، فاضلٌ [11](ت 255)(م دت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.

2 -

(عَبْدُ الله بْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِّيُّ) أبو عبد الرحمن القرشيّ مولاهم، ثقةٌ تغيّر بآخره، ولم يفحش اختلاطه [10].

رَوَى عن عبيد الله بن عمرو، وأبي المليح الحسن بن عمر الرقيّ، وعبد العزيز الدَّراوَرْديّ، ومعتمر بن سليمان، وموسى بن أعين، وغيرهم.

وروى عنه أحمد بن إبراهيم الدَّوْرقيّ، وأبو الأزهر النيسابوريّ، وإسماعيل بن عبد الله الرقيّ، وعلي بن الحسين الرقيّ، والدارميّ، وعمرو الناقد، وغيرهم.

قال أبو حاتم: ثقةٌ، وهو أحب إلي من عليّ بن معبد الذي كان بمصر، وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال النسائيّ: ليس به بأس قبل أن يتغير، ووثقه العجليّ.

وقال هلال بن العلاء: ذهب بصره سنة (216) وتغيّر سنة (218) ومات سنة (220)، وكذا أرّخ وفاته أبو داود وغيره، وكذا قال ابن حبان في "الثقات"، لكن لم يذكر تاريخ عماه، وقال: لم يكن اختلاطه فاحشًا، وربما خالف.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (1550) و (1723) و (2040) و (2946).

(1)

وفي نسخة: "إن منحها".

ص: 279

3 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو) بن أبي الوليد الأسديّ الجزريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(زيدُ بْنُ أَبِي أنيْسَةَ) تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

5 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ أَبو زيدٍ) هو: عبد الملك بن ميسر الهلاليّ، أبو زيد العامريّ الكوفيّ الزّرّاد، ثقةٌ [4].

رَوَى عن ابن عمر، وأبي الطُّفيل، وزيد بن وهب، وطاووس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، وغيرهم.

وروى عنه شعبة، ومِسْعَر، ومنصور بن المعتمر، وزيد بن أبي أنيسة، وسليمان بن بلال، وموسى بن مسلم الصغير، وغيرهم.

قال ابن معين، وابن خِرَاش، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: ثقةٌ صدوق، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد: هو مولى هلال بن عامر، وكان ثقةً كثير الحديث، تُوُفّي زمن خالد بن عبد الله، يعني القسريّ، وقال العجليّ، وابن نُمير: كوفيّ ثقةٌ، وذكره البخاريّ في "الأوسط" فيمن مات في العشر الثاني من المائة الثانية.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (1550) و (2071) و (2883).

[تنبيه]: وقع في النسخ التي بين يديّ كلها هنا غلط في هذا الاسم، فوقع في بعضها:"عن عبد الملك بن زيد"، وفي بعضها:"عن عبد الملك بن أبي زيد"، وكلاهما غلط، والصواب:"عن عبد الملك أبي زيد"، فابو زيد كنية عبد الملك، وأما أبوه، فاسمه ميسرة، كما مرّ آنفًا، وقد بيّن ذلك الحافظ المزّيّ: رحمه الله في "تحفته"

(1)

، فتنبّه.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (فَإِنَّهُ أَنْ يَمْنَحَهَا أَخَاهُ خَيْرٌ) ضمير "فإنه" للشأن، و"أن يمنحها" في تأويل المصدر مبتدأ، خبره "خيرٌ"، و"أخاه" مفعول أول لـ "يمنح"، والثاني قوله:"ها" مقدّمًا.

(1)

راجع: "تحفة الأشراف" 4/ 422.

ص: 280

ووقعَ في بعض النسخ: "أن منحها" بصيغة الماضي.

وَيحْتَمل أن تكون "إن " فيهما بالكسر، وهي شرطيّة، و"يمنحها"، أو "منحها" فعل الشرط، و"خير" خبر لمحذوف مع الفاء الرابطة؛ أي: فهو خير له، والجملة جواب الشرط.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(23) - (بَابُ الْمُسَاقَاة، وَالْمُعَامَلَةِ بِجُزْءٍ مِنَ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ)

هكذا في بعض النسخ، وفي بعضها:"كتاب المساقاة، والمزارعة"، ولا وجه له، فإن معظم الأحاديث الآتية إلى "كتاب الفرائض" متعلّق بالبيوع، وإنما أدخل أحاديث المساقاة، والمزارعة بينهما؛ لمناسبة رآه، فالمناسب هنا "باب المساقاة

إلخ"، فتأمله، والله تعالى أعلم.

و"المساقاة": مفاعلة من السقي، وهي أن يعامل إنسانًا على شجرة؛ ليتعهّدها بالسقي، والتربية، على أن ما رزق الله تعالى من الثمر يكون بينهما بجزء معيّن، وكذا المزارعة في الأراضي.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "المساقاة": مأخوذة من السقي، وأصلها: تعاهد الأشجار بالماء، ثم قد صارت عبارة - بحكم العرف - عن العمل في الأشجار بما يُصلحها من سقي، وإِبَارٍ، وجِدَاد، وغير ذلك من العمل الذي تَصْلُح به الثمرة على جزء مسمى، يأخذه العامل من الثمرة.

وقد اختلف العلماء في حكمها، ومحلها، ووقتها، فأما حكمها: فالجواز عند مالك، والشافعيّ، وابن أبي ليلى، وكثير من الكوفيين، تمسّكًا بهذه الأحاديث المذكورة في هذا الباب، وبقياسها على القِرَاض، وهو متّفقٌ عليه؛ لأنها في معناه، ومنعها أبو حنيفة، وزفر من أصحابه لِمَا فيها من الغرر؛ ولأنها من باب: بيع الثمر قبل طيبه، وهو منهي عنه كما تقدَّم، وحَمَل أحاديث مساقاة خيبر على أن أهلها كانوا عبيدًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فما أخذ فهو له، وما أبقى فهو له، وهذا بناه على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم فتحها عنوة، وهذا غير مُسَلّم له، فإن خيبر

ص: 281

كانت قرى كثيرة؛ فمنها ما فُتح عنوة، ومنها ما فُتح صلحًا؛ كذلك رواه مالك ومن تابعه، وهو قول ابن عقبة، ولو سُلِّم: أنه فتحها عنوة فلا نُسلّم أن السيد يجوز له أن يعامل عبده بالرِّبا، ولا أن يعاقده عقدًا فاسدًا بغرر أو مجهول، وقد نصَّ في هذه: أنه عاقدهم عليها، وشرط عليهم، وشرطوا عليه، ولا يجوز أن يُحْمَل ذلك على أنه انتزاع مال من أيديهم، لا لغةً، ولا عرفًا، فبطل ما قالوه.

وأما محلها: فمنعها داود في كل شيء إلا في النخل، والشافعي إلا في النخل، والكرم. وأجازها مالك في سائر الشجر؛ إذا احتاج للمساقاة، والمشهور عندنا - أي: المالكيّة -: منعها في الزرع إلا إذا عجز عنه أهله.

فأمَّا داود: فقصرها على محل ورودها، وأما الشافعيّ: فبناه على أنها رخصة، ولا تتعدى الرخص، لكنه قد ألحق بالنخيل الكرم، مع أنه ليس فيه حديث صحيح، فإن كان ثبتٌ عنده به نقل فقد صح له المشي على ذلك الأصل، وإن لم يثبت ذلك فليزمه مذهب داود، والإلحاق كما ذهب إليه مالك، لأن الشجر كله في معنى النخيل، من حيث إنه يحتاج إلى علاج، وعمل، وسقي إلى انتهاء الثمرة، وهي أصول قائمة ثابتة يدوم أمرها، وتدوم الحاجة إلى القيام عليها، ومن هنا فارقت الزرع القائم، فإن ألغينا هذا القيد؛ جازت فيه المساقاة على ما تقدَّم، والله تعالى أعلم.

وأما وقت انعقادها: فعند الشافعيّ ما لم تظهر الثمرة؛ لأنها إذا ظهرت فقد ملكها رب النخل، فإذا دفع جزءها في مقابلة العمل؛ فقد باع الثمرة قبل بدوِّ صلاحها، وعند مالك: ما لم تطب، وإن كانت قد ظهرت، وعنه في ذلك بعد الطيب قولان، وأصلها في ذلك: أن القراض، والمساقاة، عقدان مستثنيان من الإجارة المجهولة؛ للحاجة إلى ذلك، وللرفق الحاصل لرب المال والعامل؛ إذ ليس كل من له مال يحسن القيام عليه ولا العمل فيه، ثم من الناس من يحسن العمل ولا مال له، فاقتضت حكمة الشرع أن يرفق بكل واحد منهما على ما تيسّر غالبًا، ولمّا ظهر له ذلك طرد المعنى، فحيث دعت الحاجة إلى ذلك أعملها، وعلى هذا فتجوز المساقاة في النخل بعد الطيب، وفي الزرع

ص: 282

إذا عجز عنه أهله، والله أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3955]

(1551) - (حَدَّثَنَا أحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ - وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ - قَالَا: حَدثنا يَحْيَى - وَهُوَ الْقَطَّانُ - عَنْ عُبَيْدِ الله، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَامَلَ أهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، مِنْ ثَمَرٍ، أوْ زَرْعٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ) هو: أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيبانيّ، أبو عبد الله المروزيّ، نزيل بغداد، أحد الأئمة، ثقةٌ حافظٌ فقيه حجة، رأس [10](ت 241) وله (77) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 80/ 427.

والباقون تقدّموا قريبًا، و"عبيد الله" هو: ابن عمر العمريّ، وشرح الحديث، ومسائله تأتي في الحديث التالي - إن شاء الله تعالى -.

وبالسند المتصل إلى المؤلف: رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3956]

(

) - (وَحَدَّثَنى عَليُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، حَدثنَا عَليُّ - وَهُوَ ابْنُ مُسْهِرٍ - أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ الله، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْ ثَمَرٍ، أَوْ زَرْعٍ، فَكَانَ يُعْطي أَزْوَاجَهُ كَل سَنَةٍ مِائَةَ وَسْقٍ، ثَمَانِينَ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ، وَعِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ شَعِيرٍ، فَلَمَّا وَليَ عُمَرُ قَسَمَ خَيْبَرَ، خَيرَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقْطِعَ لَهُنَّ الأَرْضَ وَالْمَاءَ، أَوْ يَضْمَنَ لَهُنَّ الأَوْسَاقَ كُلَّ عَامٍ، فَاخْتَلَفْنَ، فَمِنْهُن مَنِ اخْتَارَ الأَرْضَ وَالْمَاء، وَمِنْهُن مَنِ اخْتَارَ الأَوْسَاقَ كلَّ عَامٍ، فَكَانَتْ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ مِمَّنِ اخْتَارَتَا الأَرْضَ وَالْمَاءَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ) المروزيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(عَليُّ بْنُ مُسْهِرٍ) تقدّم قبل باب.

والباقون ذُكروا قبله.

(1)

"المفهم" 4/ 413 - 414.

ص: 283

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ) وفي الرواية الماضية: "عامل أهل خيبر"(بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ) بالبناء للفاعل أي: بنصف الخارج منها، فشطر كل شيء: نصفه، قاله الفيّوميّ.

وفي الرواية الآتية من طريق محمد بن عبد الرحمن، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنه دفع إلى يهود خيبر، نخل خيبر، وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم شطر ثمرها".

قال القرطبيّ رحمه الله: يعني به النفقة فيما تحتاج الثمرة إليه، من نفقة الأجراء، والدّوابّ، والعلوفة، والآلات، والأجر في العزاق، والجداد، وغير ذلك مما يذهب بذهاب المساقاة، وأما ما يبقى بعدها، كبناء حائط، أو حفر بئر، أو نحوه، فلا يلزم العامل. انتهى

(1)

.

وقوله: (مِنْ ثَمَرٍ، أَوْ زَرْعٍ) بيان لـ"ما يخرُج".

قال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "من ثمر أو زرع"؛ بإثبات لفظ: "أو" التي للتنويع، أو بمعنى: الواو، كما قال في الرواية الأخرى:"على نصف ما يخرج منها من الثمر والزرع"؛ بغير ألف.

قال: وظاهر هذا الحديث: أن أرض خيبر -. أعني: بياضها - كان كثيرًا، وأنه كان مقصودًا له صلى الله عليه وسلم ولهم، وأنه ضم المساقاة في الأصول وكراء الأرض بما يخرج منها في عقد واحد.

وتمسَّك به من قال: يجوز كراء الأرض بجزء مما تنبت، كما تقدم، ويتمسَّك به أيضًا من يجوِّز أن يضم إلى المساقاة عقد غيرها.

قال: والجمهور على ترك هذا الظاهر؛ لِمَا تقدَّم في منع كراء الأرض بجزء مما يخرج منها. وإذا منع ذلك منفردًا للغرر والرِّبا؛ كان أحرى، وأولى أن يمنع إذا اجتمع مع غيره مما يكثر فيه الغرر، ولمّا كان ذلك حمل الجمهور هذا على أحد محملين:

فأمَّا مالك فقال: إن بياض خيبر كان قليلًا تابعًا للأصول بين أضعاف

(1)

"المفهم" 4/ 418.

ص: 284

السواد، فجاز ذلك فيه لتبعية الأصول، وشرط في الجواز اتفاق البياض والأصول في الجزء، فلو اختلفا في الجزء لم يجز لزوال التبعية.

وقال غيره: يجوز أن يكون الذين ساقوا غير الذين زارعوا، وتكون مزارعته لمن زارعه منهم على الوجه الجائز فيها، ثم إن الراوي نقل ذلك جملة، ولم يفصّل كيف وقعت المزارعة، ولا من الذين ساقوا من الذين زورعوا. انتهى

(1)

.

(فَكَانَ) صلى الله عليه وسلم (يُعْطِي أَزْوَاجَهُ كل سنَةٍ) بنصب "كلَّ" على الظرفيّة و"يُعطي"، وقوله:(مِائَةَ وَسْقٍ) منصوب على أنه مفعول ثان لـ"يُعطي"، والأول "أزواجه"، وقوله:(ثَمَانِينَ وَسْقًا) بنصب "ثمانين" على البدليّة من "مائة وسق"، وتقدَّم أن الوسق، بفتح الواو وكسرها: ستون صاعًا بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، أو حِمْلُ بعير، وقوله:(مِنْ تَمْرٍ) بيان للوسق (وَعِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ شَعِيرٍ) قال القرطبيّ رحمه الله: يريد صلى الله عليه وسلم بقسمته بينهن أن لا تطالبه واحدة منهن بنفقة تلك السنة، وهذا - والله أعلم - كان بعد أن كان أزواجه طالبنه بالنفقة، وأكثرن عليه، كما تقدَّم في "كتاب النكاح"، ويدلّ هذا على أن ادّخار ما يحتاج الإنسان إليه، ويُعِدّه للحاجات المتوقعة في الاستقبال ليس قادحًا في التوكل، ولا منقصًا منه. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "وعشرين وسقًا من شعير" قال العلماء: هذا دليل على أن البياض الذي كان بخيبر الذي هو موضع الزرع أقل من الشجر.

قال: وفي هذه الأحاديث دليل لمذهب الشافعيّ، وموافقيه أن الأرض التي تُفتح عنوةً تُقْسَم بين الغانمين الذين افتتحوها، كما تقسم بينهم الغنيمة المنقولة بالإجماع؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قسم خيبر بينهم، وقال مالك، وأصحابه: يَقِفها الإمام على المسلمين، كما فعل عمر رضي الله عنه في أرض سواد العراق، وقال أبو حنيفة، والكوفيون: يتخير الإمام بحسب المصلحة في قسمتها، أو تركها في أيدي من كانت لهم بخراج يوظفه عليها، وتصير ملكًا لهم، كأرض

(1)

"المفهم" 4/ 415.

(2)

"المفهم" 4/ 416.

ص: 285

الصلح. انتهى

(1)

.

(فَلَمَّا وَليَ) بفتح الواو، وكسر اللام، وَيحْتَمل أن يكون بضمّ الواو، وتشديد اللام، مبنيًّا للمفعول (عُمَرُ) بن الخطاب رضي الله عنه (قَسَمَ خَيْبَرَ) أي: بعد أن أجلى اليهود منها، وإنما أجلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه اليهود والنصارى من الحجاز؛ لأنهم لم يكن لهم عهد من النبي صلى الله عليه وسلم على بقائهم بالحجاز دائمًا، بل ذلك كان موقوفًا على مشيئته، ولَمّا عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم عند موته بإخراجهم من جزيرة العرب، وانتهت النوبة إلى عمر، أخرجهم من الحجاز إلى تيماء، وأريحاء، على ما يأتي - إن شاء الله تعالى -

(2)

.

[تنبيه]: كان قَسْمُ عمر رضي الله عنه لخيبر بين من كان له سهم منها، وقال القرطبي، وتبعه الأبيّ، وغيره: قسم سهم النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي كان له بخيبر الذي وقفه النبيّ صلى الله عليه وسلم لمؤونة عياله وعامله، وهذا غير صحيح، بل الأول هو الصواب، وهو الذي شرح عليه النوويّ رحمه الله، ونصّه: يعني قسمها بين المستحقّين، وسلّم إليهم نفس الأرض حين أخذها من اليهود حين أخرجهم منها. انتهى.

وقد أخرج الحديث ابن حبّان في "صحيحه" مطوّلًا، ودونك نصّه:

(5199)

- أخبرنا خالد بن النضر بن عمرو القرشيّ أبو يزيد المعدل بالبصرة، قال: حدثنا عبد الواحد بن غياث، قال: حدّثنا حماد بن سلمة، قال: أخبرنا عبيد الله بن عمر فيما يحسب أبو سلمة، عن نافع، عن ابن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم، فغَلَب على الأرض والزرع والنخل، فصالحوه على أن يُجْلَوا منها، ولهم ما حَمَلت ركابهم، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء، ويخرجون منها، فاشترط عليهم أن لا يكتموا، ولا يُغَيِّبوا شيئًا، فإن فعلوا فلا ذمة لهم، ولا عصمة، فغيّبوا مَسْكًا فيه مال، وحليّ لحييّ بن أخطب، كان احتمله معه إلى خيبر حين أُجليت النضير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعم حييّ:"ما فعل مسك حييّ الذي جاء به من النضير؟ " فقال: أذهبته النفقات والحروب، فقال صلى الله عليه وسلم: "العهد قريب، والمال

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 211 - 212.

(2)

"المفهم" 4/ 416.

ص: 286

أكثر من ذلك"، فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير بن العوّام، فمسّه بعذاب، وقد كان حييّ قبل ذلك قد دخل خربة، فقال: قد رأيت حييًا يطوف في خربة ها هنا، فذهبوا، فطافوا، فوجدوا المسك في خربة، فقَتَل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابني أبي حُقَيق، وأحدهما زوج صفية بنت حييّ بن أخطب، وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم، وذراريهم، وقسم أموالهم؛ للنكث الذي نكثوه، وأراد أن يُجليهم منها، فقالوا: يا محمد دعنا، نكون في هذه الأرض نصلحها، ونقوم عليها، ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها، فكانوا لا يتفرغون أن يقوموا، فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع، ونخل، وشيء، ما بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان عبد الله بن رواحة يأتيهم كلَّ عام يخرصها عليهم، ثم يُضَمِّنهم الشطر، قال: فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدّة خَرْصه، وأرادوا أن يَرْشُوه، فقال: يا أعداء الله أتطعموني السُّحْت؟ والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إليّ، ولأنتم أبغض إليّ من عِدّتكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم، وحبي إياه، على أن لا أعدل عليكم، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.

قال: ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيني صفية خُضْرة، فقال:"يا صفية ما هذه الخضرة؟ " فقالت: كان رأسي في حجر ابن أبي حُقَيق، وأنا نائمة، فرأيت كأن قمرًا وقع في حجري، فأخبرته بذلك، فلطمني، وقال: تَمَنَّين ملك يثرب، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبغض الناس إليّ، قَتَل زوجي، وأبي، وأخي، فما زال يعتذر إليّ، ويقول:"إن أباك ألَبَّ عليَّ العرب، وفَعَل، وفَعَل"، حتى ذهب ذلك من نفسي.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي كل امرأة من نسائه ثمانين وَسْقًا من تمرٍ كلَّ عام، وعشرين وسقًا من شعير.

فلما كان زمن عمر بن الخطاب غَشُّوا المسلمين، وألقوا ابن عمر من فوق بيت، فقال عمر بن الخطاب: من كان له سهم من خيبر فليحضر، حتى نقسمها بينهم، فقسمها عمر بينهم، فقال رئيسهم: لا تخرجنا دَعْنا نكون فيها، كما أقرّنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، فقال عمر لرئيسهم: أتراه سقط عني قول

ص: 287

رسول الله صلى الله عليه وسلم لك: "كيف بك إذا أفضت بك راحلتك نحو الشام يومًا، ثم يومًا"؟.

وقسمها عمر بين من كان شهد خيبر من أهل الحديبية. انتهى

(1)

.

فبهذا تبيّن أن الذي قسمه عمر رضي الله عنه ليس سهم النبيّ - صلى الله عليه وسل - فقط، بل أسهم الغانمين كلّهم، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

(خَيَّرَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) هكذا وقع في النسخ، "خَيَّرَ" بدون عاطف، فيكون بدلًا من "قسم"، وفي رواية البخاريّ: "وقسم عمر خيبر، فخيّر أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم (أَنْ يُقْطِعَ لَهُنَّ) بضمّ حرف المضارعة، من الإقطاع رباعيًّا، قال الفيّوميّ رحمه الله: وأَقْطَعَ الإمامُ الْجُندَ البلدَ إقطاعًا: جَعَلَ لهم غَلَّتها رِزْقًا، واستقطعته: سألته الإقطاعَ، واسم ذلك الشيء الذي يُقْطَعُ قَطِيعَة. انتهى

(2)

.

وقوله: (الأَرْضَ وَالْمَاءَ) منصوب على المفعوليّة لـ" يُقطع"(أَوْ يَضْمَنَ) بفتح حرف المضارعة، مضارع ضَمِنَ، كتَعِبَ، يقال: ضَمِنتُ المالَ، وبه ضَمَانًا، فأنا ضامنٌ، وضَمِينٌ: التَزَمته، ويتعدّى بالتضعيف، فيقال: ضَمَّنته المالَ: ألزمته إياه، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(3)

. (لَهُنَّ الأَوْسَاقَ) بالفتح: جمع وَسْقٍ، وهو مفعول "يَضْمَنَ"، وتقدّم معناه قريبًا، وقوله:(كُلَّ عَامٍ) منصوب على الظرفيّة لـ "يَضْمَنَ"(فَاخْتَلَفْنَ) أي: في قبول هذا التخيير، ثمّ بيّن وجه اختلافهنّ بقوله:(فَمِنْهُنَّ مَنِ اخْتَارَ الأَرْضَ وَالْمَاءَ، وَمِنْهُنَّ مَنِ اخْتَارَ الأَوْسَاقَ كُلَّ عَامٍ، فَكَانَتْ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ) رضي الله عنهما (مِمَّنِ اخْتَارَتَا الأَرْضَ وَالْمَاءَ) قال القرطبيّ رحمه الله: وإنما خيّر عمر رضي الله عنه أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم بين إقطاع الأرض، وبين ضمان الأوساق مبالغةً في صيانتهن، وكفايتهن التبذل في تحصيل ذلك، فسلك معهنّ ما يطيب قلوبهن ويصونهن، ولم يكن هذا الإقطاع لمن اختاره منهنّ إقطاع تمليك؛ لأنه لو كان ذلك منه لكان تغييرًا لِمَا فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد قال عمر لعليّ والعباس رضي الله عنهم: لا أغيّر من أمره شيئًا، إني أخاف إن غيّرت من أمرها شيئًا أن أزيغ، وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ما تركت بعد نفقة عيالي، ومؤونة عاملي فهو صدقة"، ووقف

(1)

"الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 11/ 607 - 609.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 509.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 364.

ص: 288

الأرض لذلك، وإنما كان ذلك إقطاع اغتلال، وذلك أنه قسم عدد الأوساق المائة على عدد أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، فمن اختارت الأوساق ضمنها لها، ومن اختارت النخل أقطعها قدر ذلك؛ لتتصرف فيها تصرف المستغل، لا المالك. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [23/ 3955 و 3956 و 3957 و 3958 و 3959 و 3960](1551)، و"البخاريّ) في "الإجارة" (2286) و"المزارعة" (2328 و 2329 و 2331 و 2338) و"الشركة" (2499) و"الشروط" (2720) و"فرض الخمس" (3152) و"المغازي" (4248)، و (أبو داود) في "الخراج" (3008) و"البيوع" (3408 و 3409)، و (الترمذيّ) في "الأحكام" (1383)، و (النسائيّ) في "المزارعة" (7/ 53) و"الكبرى" (3/ 108)، و (ابن ماجه) في "الرهون" (2467)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" (1/ 178 و 184)، و (أحمد) في "مسنده" (2/ 17 و 22 و 37)، و (الدارميّ) في "سننه" (2614)، و (ابن الجارود) في "المنتقى" (1/ 166 و 177)، و (أبو عوانة) في "مسنده" (3/ 309 و 310)، و (الطبرانيّ) في "الصغير" (1/ 56)، و (ابن حبّان) في "صحيحه" (5199)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار" (4/ 113) و"مشكل الآثار" (3/ 282)، و (الدارقطنيّ) في "سننه" (3/ 137)، و (البيهقيّ) في "الكبرى" (6/ 113 و 115) و"دلائل النبوّة" (4/ 234)، و (البغويّ) في "شرح السنّة" (2177)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز المزارعة، قال في "الفتح": هذا الحديث عمدة من أجاز المزارعة، والمخابرة؛ لتقرير النبيّ صلى الله عليه وسلم لذلك، واستمراره على عهد

(1)

"المفهم" 4/ 450.

ص: 289

أبي بكر رضي الله عنه إلى أن أجلاهم عمر رضي الله عنه. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "من ثمر، أو زرع" يَحتَجّ به الشافعيّ، وموافقوه، وهم الأكثرون في جواز المزارعة؛ تبعًا للمساقاة، وإن كانت المزارعة عندهم لا تجوز منفردة، فتجوز تبعًا للمساقاة، فيساقيه على النخل، ويزارعه على الأرض، كما جرى في خيبر.

وقال مالك: لا تجوز المزارعة، لا منفردةً، ولا تبعًا، إلا ما كان من الأرض بين الشجر.

وقال أبو حنيفة، وزفر: المزارعة، والمساقاة فاسدتان، سواء جمعهما، أو فرّقهما، ولو عُقِدتا فسختا.

وقال ابن أبي ليلى، وأبو يوسف، ومحمد، وسائر الكوفيين، وفقهاء المحدثين، وأحمد، وابن خزيمة، وابن شريح

(2)

وآخرون: تجوز المساقاة، والمزارعة، مجتمعتين، وتجوز كل واحدة منهما منفردةً، وهذا هو الظاهر المختار؛ لحديث خيبر، ولا يُقبَل دعوى كون المزارعة في خيبر إنما جازت تبعًا للمساقاة، بل جازت مستقلةً، ولأن المعنى المجوِّز للمساقاة موجود في المزارعة؛ قياسًا على القِراض، فإنه جائز بالإجماع، وهو كالمزارعة في كل شيء، ولأن المسلمين في جميع الأمصار والأعصار مستمرون على العمل بالمزارعة.

وأما الأحاديث السابقة في النهي عن المخابرة، فسبق الجواب عنها، وأنها محمولة على ما إذا شَرَطا لكل واحد قطعة معيَّنة من الأرض، وقد صَنَّف ابن خزيمة كتابًا في جواز المزارعة، واستقصَى فيه، وأجاد وأجاب عن الأحاديث التي جاءت بالنهي. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

2 -

(ومنها): بيان جواز المساقاة، وبه قال مالك، والثوريُّ، والليث، والشافعيُّ، وأحمد، وجميع فقهاء المحدثين، وأهل الظاهر، وجماهير

(1)

"الفتح" 6/ 126.

(2)

كذا في النسخة، ولعله: وابن سُريج، بالسين المهملة، والجيم، فليُحّزر.

ص: 290

العلماء، وقال أبو حنيفة: لا يجوز، وتأوَّل هذه الأحاديثَ على أن خيبر فُتِحت عَنْوَةً، وكان أهلها عَبيدًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أخذه فهو له، وما تركه فهو له.

واحتَجَّ الجمهور بظواهر هذه الأحاديث، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"أُقِرُّكم ما أقركم الله"، وهذا حديث صريح في أنهم لم يكونوا عَبيدًا.

قال القاضي عياض رحمه الله: وقد اختلفوا في خيبر، هل فُتِحت عَنْوَةً، أو صلحًا، أو بجلاء أهلها عنها بغير قتال، أو بعضها صلحًا، وبعضها عنوةً، وبعضها جلا عنه أهله، أو بعضها صلحًا، وبعضها عنوةً؛ قال: وهذا أصح الأقوال، وهي رواية مالك، ومن تابعه، وبه قال ابن عيينة، قال: وفي كلّ قول أثر مرويّ، وفي رواية لمسلم؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر أراد إخراج اليهود منها، وكانت الأرض حين ظهر عليها لله، ولرسوله، وللمسلمين، وهذا يدل لمن قال: عنوةً؛ إذ حق المسلمين إنما هو في العنوة، وظاهرُ قول من قال: صلحًا أنهم صولحوا على كون الأرض للمسلمين، والله أعلم.

واختلفوا فيما تجوز عليه المساقاة من الأشجار، فقال داود: يجوز على النخل خاصةً، وقال الشافعي: على النخل، والعنب خاصةً، وقال مالك: تجوز على جميع الأشجار، وهو قول للشافعيّ، فأما داود، فرآها رخصةً، فلم يتعد فيه المنصوص عليه، وأما الشافعيّ، فوافق داود في كونها رخصةً، لكن قال: حكم العنب حكم النخل في معظم الأبواب، وأما مالك، فقال: سبب الجواز الحاجة والمصلحة، وهذا يشمل الجميع، فيقاس عليه، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما ذهب إليه مالك: من شمول الرخصة لجميع الأشجار هو الأرجح؛ لرواية: "بشطر ما يخرج منها، من نخل وشجر"، وفي رواية:"على أن لهم الشطر، من كلّ زرع، ونخل، وشجر"، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

وقال في "الفتح": استُدلّ بالحديث على جواز المساقاة في النخل،

(1)

"شرح مسلم" 10/ 209.

ص: 291

والكرْم، وجميع الشجر الذي من شأنه أن يُثمر بجزء معلوم، يُجعل للعامل من الثمرة، وبه قال الجمهور، وخصّه الشافعيّ في الجديد بالنخل والكرم، وألحق المُقْل بالنخل لِشَبَهِهِ به، وخصّه داود بالنخل.

وقال أبو حنيفة، وزفر: لا يجوز بحال؛ لأنها إجارة بثمرة معدومة، أو مجهولة.

وأجاب من جوّزه بأنه عقد على عمل في المال ببعض نمائه، فهو كالمضاربة؛ لأن المضارب يعمل في المال بجزء من نمائه، وهو معدوم، ومجهول، وقد صح عقد الإجارة، مع أن المنافع معدومة، فكذلك هنا، وأيضًا فالقياس في إبطال نصّ، أو إجماع مردود.

وأجاب بعضهم عن قصّة خيبر بأنها فُتحت صُلحًا، وأُقِرّوا على أن الأرض مُلكهم بشرط أن يُعطوا نصف الثمرة، فكان ذلك يؤخذ بحق الجزية، فلا يدل على جواز المساقاة.

وتُعُقب بأن معظم خيبر فتح عنوة، وبأن كثيرًا منها قُسم بين الغانمين، وبأن عمر رضي الله عنه أجلاهم منها، فلو كانت الأرض مُلكهم ما أجلاهم عنها. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): أنه استَدَلّ به من أجاز المساقاة في جميع الثمار - وهو المذهب الراجح -؛ لأن في بعض طرقه: "بشطر ما يخرُج منها من نخل، وشجر"، وفي رواية حماد بن سلمة، عن عبيد الله بن عمر في حديث الباب:"على أن لهم الشطر من كلّ زرع، ونخل، وشجر"، وهو عند البيهقيّ من هذا الوجه.

4 -

(ومنها): أن قوله: "بشطر ما يخرج" يدلّ على أنه لا تجوز المزارعة، والمساقاة، إلا على جزء معلوم، لا مجهول، قال النوويّ رحمه الله: فيه بيان الجزء المساقَى عليه، من نصف، أو ربع، أو غيرهما، من الأجزاء المعلومة، فلا يجوز على مجهول، كقوله: على أن لك بعض الثمر، واتَّفَق المجوّزون للمساقاة على جوازها بما اتَّفَقَ المتعاقدان عليه، من قليل، أو

(1)

"الفتح" 6/ 127.

ص: 292

كثير. انتهى

(1)

5 -

(ومنها): أنه يدل على جواز كون البذر، من أحد المتعاقدين، إما صاحب الأرض، أو العامل؛ لعدم تقييده بشيء من ذلك في هذا النصّ.

واحتَجَّ من منع كونه من العامل بأن العامل حينئذ كأنه باع البذر من صاحب الأرض بمجهول من الطعام نسيئةً، وهو لا يجوز.

وأُجيب بأنه مستثنى من النهي عن بيع الطعام بالطعام نسيئة، جمعًا بين الحديثين، وهو أولى من إلغاء أحدهما.

6 -

(ومنها): أنه يدلّ على جواز دفع النخل مساقاة، والأرض مزارعة من غير ذكر سنين معلومة، فيكون للمالك أن يُخرج العامل متى شاء، وعلى ذلك ترجم الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

17 -

"باب إذا قال ربّ الأرض: أُقرّك ما أقرّك الله، ولم يذكر أجلًا معلومًا، فهما على تراضيهما"، ثم أخرج بسنده من طريق موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر؛ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أجلى اليهود والنصارى، من أرض الحجاز، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لَمّا ظهر على خيبر، أراد إخراج اليهود منها، وكانت الأرض حين ظهر عليها، لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وللمسلمين، وأراد إخراج اليهود منها، فسألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليُقِرَّهم بها؛ أن يَكْفُوا عملها، ولهم نصف الثمر، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نُقِرُّكم بها على ذلك، ما شئنا"، فَقَرُّوا بها، حتى أجلاهم عمر، إلى تَيْمَاء، وأريحاء.

وقد أجاز ذلك من أجاز المخابرة، والمزارعة.

وقال أبو ثور: إذا أطلقا حُمل على سنة واحدة، وعن مالك: إذا قال: ساقَيْتُك كلّ سنة بكذا جاز، ولو لم يذكر أمدًا، وحَمَل قصّة خيبر على ذلك

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول الأول هو الأرجح؛ لظاهر النصّ المذكور، والحمل الذي ذكره مالك: رحمه الله فيه بُعْدٌ، فتأمّل، والله تعالى أعلم.

7 -

(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: في الحديث دليل لمالك على قوله: إن بياض خيبر كان تابعًا لسوادها، ألا ترى: أن الشعير خمس، والتمر أربعة

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 210.

(2)

راجع: "الفتح" 6/ 126 - 127.

ص: 293

أخماس؛ ولذلك صحَّ أن يدخل في المساقاة بالشرط، ولكن بشرط اتفاق الجزء كما تقدَّم، وقد استحب مالك أن يلغيه للعامل رفقًا به، وإحسانًا إليه. انتهى

(1)

.

8 -

(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله أيضًا: هذا الحديث وغيره دليل على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان قسم أرض خيبر على خمسة أخماس، على قسم الغنائم، وكذلك قال الشافعي، وهو مقتضى عموم قوله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية [الأنفال: 41]، ومالك وأصحابه يرون إيقاف الأرض للمسلمين ممن حضر وغاب، وممن يأتي بعدُ، تمسكًا بفعل عمر رضي الله عنه في أرض العراق والشام ومصر، فإنه أقرها، ولم يقسمها، واحتَجّ بقوله تعالى؛ {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10]، وتأول عطفه على قوله:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8]، وذهب الكوفيون إلى تخيير الإمام في قسمتها، أو إقرارها بأيدي أهلها، وتوظيف الخراج عليها، وتصييرها ملكًا لهم كارض الصلح.

[فإن قيل]: فكيف يُرفع فعل النبي صلى الله عليه وسلم وعمله بمقتضى عموم الآية بقول عمر وفعله؟

[فالجواب]: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فهم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن الذي فعله في قسم خيبر ليس على جهة التحتم الذي لا يجوز غيره، وإنما هو أحد الوجهين الجائزين، غير أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ظهر له أن الأولى قسمتها في ذلك الوقت؛ لشدَّة حاجة أولئك الغانمين، ولما كان زمن عمر رضي الله عنه اتسعت أموال المسلمين؛ لكثرة الفتوحات عليهم، فرأى أن إيقافها لمصالح المسلمين أولى من قسمتها، وتابعه على ذلك أهل عصره، ولم يخالفه أحد من الصحابة، فصار كالإجماع على صحة ما فعل وجوازه، وعند هذا يظهر أن الأولى قول الكوفيين؛ الذي هو التخيير؛ لأنه جمع بين الأمرين، وهو الذي فهمه عمر رضي الله عنه قطعًا، ولذلك قال عمر رضي الله عنه فيما رواه عنه مالك: لولا أن أترك آخر الناس لا شيء لهم ما افتتح المسلمون قرية إلا قسمتها سهمانًا، كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

"المفهم" 4/ 418.

ص: 294

خيبر سهمانًا، فلم يُخْبِر بنسخ فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا بتخصيصه بهم، فلم يبق إلا ما ذكرناه، غير أن الكوفيين زادوا على فعل عمر، فإن عمر إنما وقفها على مصالح المسلمين، ولم يملّكها لأهل الصلح، وهم قالوا: للإمام أن يملّكها أهل الصلح، وأما من لم يسلك هذه الطريقة فيلزمه: إما نسخ فعل النبي صلى الله عليه وسلم بفعل عمر رضي الله عنه، وهو باطل قطعًا، وإما نسبة عمر رضي الله عنه، ومن كان معه من الصحابة إلى الخطأ، حيث فعلوا ما لا يجوز، وهو باطل قطعًا، وقد استمر العمل بين الأمة بعد ذلك الصدر على استمرار وقف تلك الأراضي التي وقف عمر رضي الله عنه إلى الآن، ولم يتعرضنَّ أحد إلى نقضها، ولا إلى تغييرها عما وضعها عليه عمر - فيما علمتُ - حتى اليوم، فتطابق إجماع السابقين واللاحقين، ولم يلتفت إلى من خالفهم من المتأخرين. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3957]

(

) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ الله، حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَن عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا خَرَجَ مِنْهَا، مِنْ زَرْعٍ أَوْ ثَمَرٍ، وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ: فَكَانَتْ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ مِمَّنِ اخْتَارَتَا الأَرْضَ وَالْمَاءَ، وَقَالَ: خَيَّرَ أَزْوَاجَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقْطِعَ لَهُنَّ الأَرْضَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَاء).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ إلخ) فاعل "اقتصَّ" ضمير عبد الله بن نُمير، وكذا فاعل:"ولم يذكر"، وفاعل "قال" من قوله:"وقال: خيّر إلخ".

(1)

"المفهم" 4/ 418 - 420.

ص: 295

[تنبيه]: رواية عبد الله بن نُمير، عن عبيد الله هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" 2/ 22 فقال:

(4732)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا ابن نمير، ثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما خرج من زرع، أو تمر، فكان يعطي أزواجه كل عام مائة وسق: ثمانين وسقًا من تمر، وعشرين وسقًا من شعير، فلما قام عمر بن الخطاب قسَم خيبر، فخيَّر أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يُقطع لهن من الأرض، أو يَضْمَن لهنّ الوسوق، كلَّ عام، فاختلفوا، فمنهم من اختار أن يُقْطِع لها الأرض، ومنهم من اختار الوسوق، وكانت حفصة وعائشة ممن اختار الوسوق. انتهى، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3958]

(

) - (وَحَدَّثَني أَبُو الطَّاهِر، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي أسَامَةُ بْنُ زيدٍ اللَّيْثِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمَّا افْتُتِحَتْ خَيْبَرُ سَألتْ يَهُودُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقِرَّهُمْ فِيهَا عَلَى أَنْ يَعْمَلُوا عَلَى نِصْفِ مَا خَرَجَ مِنْهَا مِنَ الثَّمَرِ وَالزَّرْع، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أقِرُّكُمْ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا"، ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ، وَابْنِ مُسْهِرٍ، عَنْ عُبَيْدِ الله، وَزَادَ فِيهِ: وَكَانَ الثَّمَرُ يُقْسَمُ عَلَى السُّهْمَانِ مِنْ نِصْفِ خَيْبَرَ، فَيَأَخُذُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الْخُمُسَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أُسَامَة بْنُ زيدٍ اللَّيْثِيُّ) مولاهم، أبو زيد المدنيّ، صدوقٌ يهم [7](ت 153)(خت م 4) تقدم في "الصلاة" 42/ 1085.

والباقون بعضهم ذُكر قبله، وبعضهم تقدّم قريبًا، و"أبو الطاهر" هو: أحمد بن عمرو بن عبد الله بن السرح، و"ابن وهب" هو: عبد الله.

وقوله: ("أُقِرُّكُمْ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا") وفي رواية "الموطإ": "أقِرّكم ما أقرَّكم الله"، قال العلماء: وهو عائد إلى مُدّة العهد، والمراد: إنما نُمَكِّنكم من الْمُقام في خيبر ما شئنا، ثم نُخرجكم إذا شئنا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان عازمًا على إخراج الكفار من جزيرة العرب، كما أَمَر به في آخر عمره، وكما دَلَّ عليه هذا الحديث وغيره.

ص: 296

واحتَجَّ أهل الظاهر بهذا على جواز المساقاة مدة مجهولة، وقال الجمهور: لا تجوز المساقاة إلا إلى مدة معلومة، كالإجارة، وتأولوا الحديث على ما ذكرناه، وقيل: جاز ذلك في أول الإسلام خاصة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وقيل: معناه أن لنا إخراجكم بعد انقضاء المدة المسماة، وكانت سُميت مدةٌ، ويكون المراد بيان أن المساقاة ليست بعقد دائم؛ كالبيع، والنكاح، بل بعد انقضاء المدة تنقضي المساقاة، فإن شئنا عقدنا عقدًا آخر، وإن شئنا أخرجناكم، وقال أبو ثور: إذا أطلقا المساقاة اقتضى ذلك سنة واحدة، ذكره النوويّ

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن ما ذهب إليه أهل الظاهر، من جواز المساقاة بلا تعيين المدّة هو الأرجح، لموافقته لظاهر هذا الحديث، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"نقرّكم ما شئنا"، ولم يعيّن المدّة، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

وقوله: (ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ إلخ) فاعل "ساق" ضمير ابن وهب، وكذا فاعل "وزاد فيه".

وقوله: (وَكَانَ الثَّمَرُ يُقْسَمُ عَلَى السُّهْمَانِ إلخ) المراد أن أراضي خيبر كانت قد قُسمت على الغانمين حسب سهمانهم، وصار لكلّ واحد منهم سهم معلوم، وكانت المعاملة مع أهل خيبر برضًا منهم، فلما كان نصف ثمر خيبر يأتي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يَقسِمها على أصحاب السهام، ويأخذ منها الخمس لبيت المال، كما هو حكم كلّ غنيمة

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: هذا يدلّ على أن خيبر فُتحت عنوة؛ لأن السهمان كانت للغانمين.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم أن الأصحّ أن بعضها فتح عنوةً، وبعضها فُتح صلحًا، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (فَيَأَخُذُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الْخُمُسَ) أي: يدفعه إلى مستحقه، وهم الأصناف الخمسة المذكورة في قوله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} الآية [الأنفال: 41]، فيأخذ لنفسه خُمسًا واحدًا من الْخَمْس،

(1)

"شرح النووي" 10/ 211.

(2)

"تكملة فتح الملهم" 1/ 470.

ص: 297

ويَصرف الأخماس الباقية من الخمس إلى الأصناف الأربعة الباقين.

واعلم أن هذه المعاملة مع أهل خيبر كانت برضى الغانمين، وأهل السهمان، وقد اقتَسَم أهل السهمان سُهمانهم، وصار لكلّ واحد منهم سهم معلوم، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

[تنبيه]: رواية أسامة بن زيد، عن نافع هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" 3/ 311 فقال:

(5107)

- حدّثنا الربيع بن سليمان، وعيسى بن أحمد، ويونس بن عبد الأعلى في "المغازي" قالوا: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني أسامة بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لَمّا افتُتِحَت خيبرُ سألت يهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرّهم فيها، على أن يعملوا على نصف ما أخرج الله منها، من الثمر والزرع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أقرُّكم فيها على ذلك ما شئنا"، فكانوا كذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وطائفة من إمارة عمر، وكان الثمر يُقْسَم على السُّهْمان من نصف خيبر، فيأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس. انتهى.

وساقه أيضًا أبو داود في "سننه" مطوّلًا 3/ 158 فقال:

(3008)

- حدّثنا سليمان بن داود الْمَهْريّ، أخبرنا ابن وهب، أخبرني أسامة بن زيد الليثيّ، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، قال: لَمّا افتُتِحَت خيبرُ سألت يهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرَّهم على أن يعملوا على النصف، مما خرج منها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أُقِرُّكم فيها على ذلك ما شئنا"، فكانوا على ذلك، وكان التمر يُقْسَم على السُّهْمان من نصف خيبر، ويأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعم كل امرأة من أزواجه من الخمس مائة وسق تمرًا، وعشرين وسقًا شعيرًا، فلما أراد عمر إخراج اليهود، أرسل إلى أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال لهنّ: من أحب منكنّ أن أَقْسِم لها نخلًا نخرصها مائة وسق، فيكون لها أصلها، وأرضها، وماؤها، ومن الزرع مزرعة خرص عشرين وسقًا فعلنا، ومن أحب أن نَعْزِل الذي لها في الخمس كما هو فعلنا. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 212.

ص: 298

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3959]

(

) - (وَحَدثَنَا ابْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أنَّهُ دَفَعَ إِلَى يَهُودِ خَيْبَرَ نَخْلَ خَيْبَرَ، وَأَرْضَهَا، عَلَى أَنْ يَعْتَمِلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَلِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم شَطْرُ ثَمَرِهَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ رُمْحٍ) هو: محمد بن رُمح بن المهاجر، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(اللَّيْثُ) بن سعد الإمام المصريّ الشهير، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن غَنَج - بفتح الغين المعجمة، والنون، بعدها جيم - ويقال: ابن يزيد بن غَنَج المدنيّ، نزيل مصر، مقبول [7].

رَوَى عن نافع مولى ابن عمر، وروى عنه الليث بن سعد، قال الميموني، عن أحمد: شيخ مقارِب الحديث، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، لا أعلم أحدًا رَوَى عنه غير الليث، وقال أبو داود: ابن غنَج رجل من أهل المدينة، كان بمصر، رَوَى عنه الليث نحو ستين حديثًا، وقال ابن حبان في "الثقات": حدّث عن نافع بنسخة مستقيمة.

أخرج له المصنف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (عَلَى أَنْ يَعْتَمِلُوهَما مِنْ أَمْوَالِهِمْ) أي: يعملوا فيها بأنفسهم، قال المجد رحمه الله: واعْتَمَل: عَمِلَ بنفسه. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: هذا بيان لوظيفة عامل المساقاة، وهو أنّ عليه كلَّ ما يُحتاج إليه في إصلاح الثمر، واستزادته، مما يتكرر كلَّ سنة؛ كالسقي، وتنقية

(1)

"القاموس المحيط" 4/ 21.

ص: 299

الأنهار، وإصلاح منابت الشجر، وتلقيحه، وتنحية الحشيش، والقُضبان عنه، وحفظ الثمرة، وجِذاذها، ونحو ذلك، وأما ما يُقصَد به حفظ الأصل، ولا يتكرر كلَّ سنة؛ كبناء الحيطان، وحفر الأنهار، فعلى المالك. انتهى

(1)

.

وظاهر الحديث أن البذر والبقر والعمل كلّها كانت من قِبل اليهود، والأرض وحدها من قِبَل المسلمين، فدلّ على جواز هذه الصورة من المزارعة

(2)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أول الكتاب قال:

[3960]

(

) - (وَحَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَإسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ رَافِعٍ - قالَا: حَدَّثنَا عبْدُ الرَّزَّاق، أخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْج، حَدَّثَنى مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِع، عنِ ابْنِ عُمَرَ؛ أَن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أجْلَى اليَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَرْضِ الْحِجَاز، وَأنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا ظَهَرَ عَلَى خَيْبَرَ أرَادَ إخْرَاجَ الْيَهُودِ مِنْهَا، وَكَانَتِ الأَرْضُ حِينَ ظُهِرَ عَلَيْهَا للهِ وَلرَسُوله، وَللْمُسْلِمِينَ، فَأَرَادَ إخْرَاجَ الْيَهُودِ مِنْهَا، فَسَأَلتِ الْيَهُودُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقِرَّهُمْ بِهَا عَلَى أَنْ يَكْفُوا عَمَلَهَا، وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمَر، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا"، فَقَرُّوا بِهَا حَتَّى أجْلَاهُمْ عُمَرُ إلَى تَيْمَاء وَأَرِيحَاءَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ، أبو عبد الله، ثقةٌ حافظٌ، عابدٌ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

2 -

(إسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورِ) بن بَهْرام الْكَوسج التميميّ، أبو يعقوب المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

3 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، أبو بكر، ثقة حافظٌ مصنّف، عَمِي في آخره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211) وله (85) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

4 -

(ابْنُ جُريجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم،

(1)

"شرح النووي" 10/ 211.

(2)

"تكملة فتح الملهم" 1/ 470.

ص: 300

أبو خالد، وأبو الوليد المكيّ، ثقةٌ فقيه فاضلٌ يُدلّس ويرسل [6](ت 150 أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

5 -

(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عيّاش الأسديّ مولاهم، المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ إمام في المغازي [5](ت 141) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.

والباقيان ذُكرا قبله.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن له فيه شيخين، قرن بينهما؛ لاتحادهما في كيفيّة التحمّل والأداء.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، كما أسلفته آنفًا.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

4 -

(ومنها): أن صحابيّه أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، ومن المشهورين بالفتوى، والمتشدّدين في اتباع الآثار رضي الله عنه.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه (أَجْلَى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى) أي: أخرجهم، قال الفيّوميّ رحمه الله: جَلَوْتُ عن البلد جَلاءً بالفتح والمدّ: خرجتُ، وأَجْلَيْتُ مثله، ويُستعمَل الثلاثيّ والرباعيّ متعديين أيضًا، فيقال: جَلَوْتُهُ، وأجْلَيْتُهُ، والفاعل من الثلاثيّ جَال، مثلُ قاضٍ، والجماعة جَالِيَةٌ، ومنه قيل لأهل الذمة الذين أجلاهم عمر رضي الله عنه عن جزيرة العرب: جَالِيَةٌ، ثم نُقِلت الجَالِيَةُ إلى الجزية التي أخذَتْ منهم، ثم استُعمِلت في كلّ جزية تؤخذ، وإن لم يكن صاحبها جَلا عن وطنه، فيقال: استُعْمِل فلان على الجَالِيَة، والجمع الجَوَالِي، وأَجْلَى القومُ عن القتيل: تفرّقوا عنه، بالألف لا غير، قاله ابن فارس، وقال الفارابيّ أيضًا: أَجْلَوا عن القتيل: انفرجوا وأَجْلَوا منزلهم: إذا تركوه من خوف، يتعدى بنفسه، فإن كان لغير خوف تعدى بالحرف، وقيل: أجْلَوا عن منزلهم، وتَجَلَّى الشيءُ: انكشف. انتهى

(1)

.

(مِنْ أرْضِ الْحِجَازِ) قال في "الفتح": الحجاز هي ما يَفصل بين نجد

(1)

"المصباح المنير" 1/ 106 - 107.

ص: 301

وتهامة، قال الواقديّ: ما بين وجرة وغمس الطائف: نجد، وما كان من وراء وجرة إلى البحر: تهامة. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: يقال: سُمّي الحجاز حجزًا؛ لأنه فَصَل بين نجد والسَّرَاة، وقيل: بين الْغَوْر والشأم، وقيل: لأنه احتُجِز بالجبال. انتهى

(2)

.

وقال في "العمدة": قال الواقديّ: الحجاز من المدينة إلى تبوك، ومن المدينة إلى طريق الكوفة، ومن وراء ذلك إلى مشارق

(3)

أرض البصرة فهو نجد، وما بين العراق وبين وجرة وعمرة الطائف: نجد، وما كان من وراء وجرة إلى البحر فهو تهامة، وما كان بين تهامة ونجد فهو حجاز، وإنما سُمِّي حجازًا؛ لأنه يَحجُز بين تهامة ونجد. انتهى

(4)

.

(وَأنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا ظَهَرَ) أي: غلب، فالظهور هنا بمعنى الغلبة؛ لتعدّيه بـ "على"، والفعل مبنيّ للمعلوم (عَلَى خَيْبَرَ أرَادَ إِخْرَاجَ الْيَهُودِ مِنْهَا) وقوله:(وَكَانَتِ الأَرْضُ) علة لإرادته إخراجهم (حِينَ ظُهِرَ عَلَيْهَا) بضمّ الظاء، مبنيًّا للمفعول؛ أي: حين غَلَب عليها المسلمون (لِلَّهِ وَلرَسُوله، وَللْمُسْلِمِينَ) هذا صريحٌ في أن الأرض لم تبق مملوكة لليهود بعدما غلب عليها المسلمون، بل قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الغانمين، فأصبحت مملوكة لهم، والمراد من كونها مملوكة لله، ولرسوله أن بعض أسهمها صارت إلى بيت المال.

وتفصيل ذلك ما أخرجه أبو داود في "سننه" في "كتاب الخراج" عن يحيى بن زكريا، عن يحيى بن سعيد، عن بُشَير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة، قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر نصفين: نصفًا لنوائبه، ونصفًا بين المسلمين، قسمها بينهم على ثمانية عشر سهمًا. انتهى.

قال صاحب "التنقيح": إسناده جيِّد، ويحيى بن زكريا هو ابن أبي زائدة، وهو أحد الثقات. انتهى.

ثم أخرجه أبو داود عن محمد بن فُضيل، عن يحيى بن سعيد، عن

(1)

"الفتح" 6/ 141.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 122.

(3)

هكذا النسخة بالقاف، ولعله "مشارف" بالفاء، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.

(4)

"عمدة القاري" 12/ 179.

ص: 302

بُشير بن يسار، عن رجال من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمَّا ظهر على خيبر، قسمها على ستة وثلاثين سهمًا، جَمَعَ كلُّ سهم مائة سهم، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين النصف من ذلك، وعَزَل النصف الباقي لمن نزل به من الوفود، والأمور، ونوائب الناس. انتهى.

ثم أخرجه عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن بُشَير بن يسار؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمّا أفاء الله عليه خيبر قسمها ستة وثلاثين سهمًا جَمْعًا، فعَزَل للمسلمين الشطر ثمانية عشر سهمًا يَجْمَع كلُّ سهم مائةً، والنبيّ صلى الله عليه وسلم معهم، له سهم كسهم أحدهم، وعَزَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سهمًا، وهو الشطر لنوائبه، وما ينزل به من أمر المسلمين، فكان ذلك الوَطِيح، والْكَتيبة، والسلالم، وتوابعها، فلما صارت الأموال بيد النبيّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين، لم يكن لهم عمال يكفونهم عملها، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود، فعاملهم. انتهى.

وزاد أبو عبيد في "كتاب الأموال"، فعاملهم على نصف ما يخرج منها، فلم يزل على ذلك حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، حتى كان عمر، فكثُر العمال في المسلمين، وقَوُوا على العمل، فأجلى عمر اليهود إلى الشام، وقسم الأموال بين المسلمين إلى اليوم. انتهى.

وبُشَير بن يسار تابعيّ ثقة، يروي عن أنس وغيره، يروي هذا الخبر عنه يحيى بن سعيد، وقد اختُلِف عليه فيه، فبعض أصحاب يحيى يقول فيه: عن بُشير، عن سهل بن أبي حثمة، وبعضهم يقول: عن رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يرسله، والله أعلم، ذكره الزيلعيّ رحمه الله في "نصب الراية"

(1)

.

[فإن قلت]: وقع في رواية للبخاريّ ما يخالف هذه الرواية، ولفظه:"وكانت الأرض لَمّا ظُهِر عليها لليهود، وللرسول، وللمسلمين"، فإنه يدلّ على أن اليهود لهم مشاركة في الأرض مع المسلمين، فكيف الجمع؟

[قلت]: أجاب المهلَّب: بأنه يُجمَع بين الروايتين بأن تُحْمَل رواية الباب

(1)

"نصب الراية" 3/ 397.

ص: 303

على الحال التي آل إليها الأمر بعد الصلح، ورواية البخاريّ على الحال التي كانت قبله، وذلك أن خيبر فُتح بعضها صلحًا، وبعضها عَنْوَةً، فالذي فُتح عنوةً كان جميعه لله، ولرسوله، وللمسلمين، والذي فُتح صلحًا كان لليهود، ثم صار للمسلمين بعقد الصلح، أفاده في "الفتح"

(1)

.

(فَأرَادَ إخْرَاجَ الْيَهُودِ مِنْهَا، فَسَأَلتِ الْيَهُودُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقرَّهُمْ بِهَا عَلَى أَنْ يَكْفُوا) بفتح حرف المضارعة، وسكون الكاف، وتخفيف الفاء، من كفى يكفي، كرمى يرمي، يقال: كفاه مؤنته يكفيه كفايةً: إذا تولّاها بنفسه، وأغنى غيره عنها، وهو يتعدّى إلى مفعولين، وقد حُذف هنا أحدهما، وتقديره: على أن يكفوا المسلمين عملها، يعني يُغنوهم عنه

(2)

. (عَمَلَهَا) أي: العمل في أراضيها بالزراعة، وفي أشجارها بالسقي والاستثمار (وَلَهُمْ) أي: لليهود (نِصْفُ الثَّمَر، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نُقِرُّكُمْ) بضمّ أوله، من الإقرار؛ أي: نثبتكم (بِهَا) أي: بخيبر (عَلَى ذَلِكَ) أي: على الشرط الذي اشترطتموه من كفاية العمل فيها (مَا شِئْنَا")"ما" مصدريّة ظرفيّة؛ أي: مدّة مشيئتنا، وفي رواية للبخاريّ:"نُقرّكم ما أقرّكم الله، والمراد بقوله: "ما أقرّكم الله": ما قدّر الله أنّا نترككم فيها، فإذا شئنا، فأخرجناكم تبيّن أن الله قدَّر إخراجكم، قاله في "الفتح"

(3)

.

وقد استدلّ بهذا القائلون بجواز المساقاة والمزارعة إلى مدّة مجهولة، وهو المذهب الراجع، وإليه ذهب البخاريّ، فقد قال في "صحيحه":"بابٌ إذا قال ربّ الأرض: أُقرّك ما أقرّك الله، ولم يذكر أجلًا معلومًا، فهما على تراضيهما"، ثمّ أورد هذا الحديث مستدلًّا به، وهو استدلال واضح، والله تعالى أعلم.

وقال في "الفتح": وفيه جواز الخيار في المساقاة للمالك لا إلى أمد، وأجاب من لم يجزه باحتمال أن المدّة كانت مذكورة، ولم تُنقَل، أو لم تُذكر،

(1)

"الفتح" 6/ 141.

(2)

راجع: "فتح الملهم" 1/ 471، و"القاموس المحيط" 4/ 383.

(3)

"الفتح" 6/ 618.

ص: 304

لكن عُيِّنت كلَّ سنة بكذا، أو أن أهل خيبر صاروا عبيدًا للمسلمين، ومعاملة السيد لعبده لا يشترط فيها ما يشترط في الأجنبيّ. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى بُعْدُ كلّ هذه الاحتمالات، فالقول الأول هو الأرجح، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

(فَقَرُّوا) بفتح القاف، وتشديد الراء، من القرار؛ أي: استقرّت اليهود، ومكثت (بِهَا) أي: بخيبر (حَتَّى أَجْلَاهُمْ) أي: أخرجهم، والإجلاء: الإخراج عن المال، والوطن على وجه الإزعاج والكراهة

(1)

. (عُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله عنه في خلافته، وقد أخرج البخاريّ رحمه الله سبب إخراجه لهم، فقال:

(2730)

- حدّثنا أبو أحمد، حدّثنا محمد بن يحيى أبو غسان الكنانيّ، أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لَمّا فَدَعَ

(2)

أهل خيبر عبدَ الله بن عمر، قام عمر خطيبًا، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عامل يهود خيبر على أموالهم، وقال:"نُقِرُّكم ما أقرّكم الله"، وإن عبد الله بن عمر خرج إلى ماله هناك، فعُدِي عليه من الليل، ففُدِعت يداه ورجلاه، وليس لنا هناك عدوّ غيرهم، هم عدوّنا، وتُهْمَتُنا، وقد رأيت إجلاءهم، فلما أَجْمَع عمر على ذلك، أتاه أحد بني أبي الْحُقَيق، فقال: يا أمير المؤمنين أتخرجنا، وقد أقرّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعاملنا على الأموال، وشرط ذلك لنا؟ فقال عمر: أظننت أني نَسِيتُ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف بك إذا أُخرجت من خيبر، تَعْدُو بك قلوصك ليلة بعد ليلة؟ " فقال: كانت هذه هُزَيلة من أبي القاسم، قال: كَذَبتَ يا عدوّ الله، فأجلاهم عمر، وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمر مالًا، وإبلًا، وعُروضًا، من أقتاب، وحبال، وغير ذلك. انتهى.

وقال في "الفتح" بعد أن ذكر السبب المذكور: وهذا لا يقتضي حصر السبب في إجلاء عمر إياهم، وقد وقع لي فيه سببان آخران:

أحدهما: رواه الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة، قال: ما زال

(1)

(الفتح" 6/ 619)"كتاب الشروط" رقم (2730).

(2)

الَفَدْع: ميل في المفاصل كلها، كان المفاصل قد زالت عن مواضعها، وأكثر ما يكون في الأرساغ، قاله في "عمدة القاري" 13/ 305.

ص: 305

عمر حتى وجد الثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يجتمع بجزيرة العرب دينان"، فقال: من كان له من أهل الكتابين عهد، فليأت به، أُنفذه له، وإلا فإني مُجْليكم، فأجلاهم. أخرجه ابن أبي شيبة وغيره.

ثانيهما: رواه عمر بن شَبَّة في "أخبار المدينة" من طريق عثمان بن محمد الأخنسيّ قال: لما كَثُر العيال - أي: الْخَدَم - في أيدي المسلمين، وقَوُوا على العمل في الأرض أجلاهم عمر.

ويَحْتَمِل أن يكون كلٌّ من هذه الأشياء جزءَ علةٍ في إخراجهم. انتهى

(1)

.

وفي قوله: "وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمر إلخ" دليل على أن أرض خيبر كانت مملوكة للمسلمين دون اليهود؛ لأنها لو كانت لهم لأعطاهم عمر رضي الله عنه قيمتها كما أعطاهم قيمة ثمرهم.

وأجاب العينيّ بأنه يجوز أنه ما أعطاهم زمان الإجلاء، وأعطاهم بعد ذلك. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله العينيّ تعسّف، لا يخفى على منصف، فتبصّر، وبالله تعالى التوفيق.

(إِلَى تَيْمَاءَ) بفتح المثنّاة، وسكون التحتانيّة، والمدّ (وَأَرِيحَاءَ) بفتح الهمزة، وكسر الراء، بعدها تحتانيّة ساكنة، ثم مهملة، وبالمدّ أيضًا: هما موضعان مشهوران بقرب بلاد طيّء على البحر، في أول طريق الشام من المدينة.

وذكر ياقوت في "معجم البلدان": أن تيماء بين الشام ووادي القرى، على طريق حاجّ الشام ودمشق، وذكر أيضًا أنها تسمّى تيماء اليهوديّ؛ لأن حِصن السموءل بن عاديا اليهوديّ مشرفٌ عليها

(3)

.

وذكر أن أريحا بالقصر، قال: وقد رواه بعضهم بالخاء المعجمة لغة عبرانيّة، وهي مدينة الجبّارين في الغور من أرض الأردنّ بالشام، بينها وبين بيت المقدس يوم للفارس، في جبال صعبة المسلك، سُمّيت - فيما قيل -

(1)

"الفتح" 6/ 619 "كتاب الشروط" رقم (2730).

(2)

"عمدة القاري" 5/ 724.

(3)

"معجم البلدان" 2/ 67.

ص: 306

بأريحا بن لمك

(1)

بن أرفخشذ بن سام بن نوح. انتهى

(2)

.

وقد ذكر البلاذريّ في "الفتوح": أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا غَلَبَ على وادي القُرَى بَلَغ ذلك أهل تيماء، فصالحوه على الجزية، وأقرَّهم ببلدهم، قاله في "الفتح"

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: تيماء وأريحاء: هما ممدودتان، وهما قريتان معروفتان، وفي هذا دليل على أن مراد النبيّ صلى الله عليه وسلم بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب إخراجهم من بعضها، وهو الحجاز خاصَّةً؛ لأن تيماء من جزيرة العرب، لكنها ليست من الحجاز. انتهى.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى بيان مسائله في ثاني أحاديث الباب [3956]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(24) - (بَابُ فَضْلِ الْغَرْسِ وَالزَّرْعِ)

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3961]

(1552) - (حَدَّثنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثنَا أَبي، حَدَّثنَا عَبْدُ الْمَلِك، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ فَرْسًا، إِلَّا كانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةً، وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَة، وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ مِنْهُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَتِ الطَّيْرُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَة، وَلَا يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ) بن أبي سليمان ميسرة الْعَرْزميّ الكوفيّ، ثقةٌ [5](ت 145)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.

(1)

وقع في النسخة: ابن مالك، وهو غلط، فتنبّه.

(2)

"معجم البلدان" 1/ 165.

(3)

"الفتح" 6/ 142.

ص: 307

2 -

(عَطَاءُ) بن أبي رَبَاح أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، كثير الإرسال [3](ت 114)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.

3 -

(جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ السَّلميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بعد السبعين، وهو ابن (94) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

والباقيان تقدّما في الباب الماضي.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ) بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قَالَ: (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ)"ما" نافيةٌ، و"من" زائدة، كما قال في "الخلاصة":

وَزِيدَ فِي نَفْيٍ وَشِبْهِهِ فَجَرْ

نَكِرَةً كـ"مَا لِبَاغٍ مِنْ مَفَرْ"

وقوله: "ما من مسلم" أخرج الكافر؛ لأنه رَتَّبَ على ذلك كون ما أُكل منه يكون له صدقةً، والمراد بالصدقة الثواب في الآخرة، وذلك يختصّ بالمسلم، نعم ما أُكل من زرع الكافر يثاب عليه في الدنيا، كما ثبت من حديث أنس رضي الله عنه عند مسلم، وأما من قال: إنه يُخَفَّف عنه بذلك من عذاب الآخرة، فيحتاج إلى دليل، ولا يبعد أن يقع ذلك لمن لم يُرزَق في الدنيا، وفَقَد العافية، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: إنما خَصَّ المسلم بالذكر؛ لأنه ينوي عند الغرس غالبًا أن يتقوَّى بثمر ذلك الغرس المسلمون على عبادة الله تعالى، ولأن المسلم هو الذي يحصل له ثواب، وأما الكافر فلا يحصل له بما يفعله من الخيرات ثواب، وغايته أن يُخَفَّف العذاب عنه، وقد يُطْعَم في الدنيا، ويعطى بذلك؛ كما تقدَّم في "كتاب الإيمان".

ويعني بالصدقة هنا: ثواب صدقة مضاعفًا، كما قال تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261]. انتهى

(2)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "ما من مسلم يغرس غرسًا" قال المظهر: بأيّ

(1)

"الفتح" 6/ 111.

(2)

"المفهم" 4/ 421.

ص: 308

سبب يؤكل مال الرجل يحصل له الثواب، قال الطيبيّ: نكّر "مسلمًا"، وأوقعه في سياق النفي، وزاد "من" الاستغراقيّة، وخصّ الغرس والزرع، وعمّ الحيوان؛ ليدلّ على سبيل الكناية الإيمائيّة على أن أيّ مسلم، سواء كان حرًّا، أو عبدًا، مطيعًا، أو عاصيًا يعمل أيّ عَمَل من المباح ينتفع بما عمله أي حيوان كان يرجع نفعه إليه، ويثاب عليه.

[حكاية]: رُوي أن رجلًا مرّ بأبي الدرداء رحمه الله، وهو يغرس جَوزةً، فقال: أتغرس هذه، وأنت شيخ كبير تموت غدًا، أو بعد غد، وهي لا تُطعم إلا في كذا وكذا عامًا؟ فقال له: وما عليّ أن يكون لي أجرها، ويأكل منها غيري.

[حكاية أخرى]: ذكر أبو الوفاء البغداديّ في "كتاب المقامات" أنه مرّ أنوشروان على شيخ يغرس شجرة الزيتون، فقال له: ليس هذا أوان غرسك شجرة الزيتون، وهو شجر بطيء الإثمار، وأنت شيخ هَرِمٌ.

فأجاب: غَرَس من قبلنا وأكلنا، ونغرس ليأكل من بعدنا، فقال أنوشروان:"زه"؛ أي: أحسنت، وكان إذا قال:"زه" يُعطى من قيلت له أربعة آلاف درهم، فقال: أيها الملك كيف تتعجب من غراسي، واستبطاء ثمره؟ فما أسرع ما أثمرت، فقال:"زه"، فزيد أربعة آلاف أخرى، فقال: أيها الملك كلّ شجرة تثمر في العام مرّةً، وقد أثمرت شجرتي في ساعة مرّتين، فقال:"زه"، فزيد مثلها، ومضى أنوشروان، وقال: إن وقفنا عليه لم يكفه ما في خزائننا. ذكره الطيبيّ رحمه الله

(1)

.

(يَغْرِسُ غَرْسًا) بفتح أوله، وكسر ثالثه، يقال: غَرَسْتُ الشجرةَ غَرْسًا، من باب ضَرَب، فالشجر مغروسٌ، ويُطلق عليه أيضًا: غَرْسٌ، وغِرَاسٌ بالكسر، فِعالٌ بمعنى مفعول، مثلُ كتاب، وبساط، ومهادٍ، بمعنى مكتوب، ومبسوطٍ، وممهود، وهذا زمنُ الْغِرَاس، كما يقال: زمن الْحِصَاد بالكسر، قاله الفيّوميّ

(2)

.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1548.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 445.

ص: 309

فال الجامع عفا الله عنه: يُستفاد مما ذكره الفيّوميّ: أن "غَرْسًا" هنا يَحْتَمِل أن يكون مفعولًا مطلقًا؛ لأنه مصدر، وأن يكون مفعولًا به؛ لأنه بمعنى مغروس، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(إلَّا كَانَ مَا أُكِلَ) بالبناء للمفعول (مِنْهُ) أي: من ذلك الغرس (لَهُ) أي: للمسلم (صَدَقَةً) بالنصب على الخبريّة لـ"كان"، يعني أنه يحصل للغارس ثواب التصدّق بالمأكول، قيل: هذا إذا لم يضمنه الآكل، لكن ظاهر النص مطلقٌ، فليُتأمّل (وَمَا سُرِقَ) بالبناء للمفعول أيضًا (مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ) يَحْتَمِل أن يكون بالرفع على أنه خبر و"ما"، ويَحْتَمِل نصبه عطفًا على "صدقةً"، وعلى هذا فـ"ما" تكون معطوفة على "ما" التي هي اسم "كان"، فيكون من عطف المعمولين على معمولي عامل واحد، وهو جائز بلا خلاف، كما هو معروف في محلّه من كتب النحو، فتنبّه.

والمعنى: أنه يحصل للغارس مثل ثواب التصدّق بالمسروق، وليس المعنى أن يكون المأخوذ ملكًا للآخذ، كما تُصُدّق به عليه.

(وَمَا) موصولة مبتدأ (أَكَلَ السَّبُعُ) بضمّ الموحّدة، وتُسكّن تخفيفًا، قال الفيّوميّ رحمه الله: والسَّبُعُ بضم الباء: معروف، واسكان الباء لغةٌ، حكاها الأخفش وغيره، وهي الفاشية عند العامّة، ولهذا قال الصغانيّ: السَّبُعُ، والسَّبْعُ لغتان، وقرئ بالإسكان في قوله تعالى:{وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} [المائدة: 3]، وهو مرويّ عن الحسن البصريّ، وطلحة بن سليمان، وأبي حَيْوَة، ورواه بعضهم عن عبد الله بن كثير أحدِ السبعة، ويجْمَع في لغة الضمّ على سِبَاعٍ، مثلُ رَجُلٍ ورِجَالٍ، لا جمع له غير ذلك على هذه اللغة، قال الصغانيّ: وجمعه على لغة السكون في أدنى العدد أَسْبُعٌ، مثل فَلْس وأَفْلُسٍ، وهذا كما خُفِّف ضَبْعٌ، وجُمِع على أَضْبُع، ومن أمثالهم:"أَخَذَهُ أَخْذَ السَّبْعَةِ" بالسكون، قال ابن السِّكِّيت: الأصل بالضم، لكن أُسكنت تخفيفًا، والسَّبْعَةُ: اللَّبُؤَة

(1)

، وهي أشدّ جَراءة من السبع، وتصغيرها: سُبَيْعَةٌ، وبها سميت المرأة، ويقع السَّبُعُ على كلّ ما له نابٌ يَعْدُو به، ويَفْتَرس؛ كالذئب، والفهد، والنَّمِر، وأما الثعلب فليس بسبعٍ، وإن كان له

(1)

اللبُؤة بضم الباء: الأنثى من الأسد.

ص: 310

ناب؛ لأنه لا يعدو به، ولا يفترس، وكذلك الضبع، قاله الأزهريّ، وأرض مَسْبَعَةٌ بفتح الأول والثالث: كثيرة السِّبَاعِ. انتهى

(1)

.

(مِنْهُ) أي: من ذلك الغرس، وقوله:(فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ) خبر "ما"، وكذا إعراب ما بعده (وَمَا أُكَلَتِ) بالبناء للفاعل (الطَّيْرُ) جمع طائر، وقيل: هو مفرد، قال الفيّوميّ رحمه الله: الطَّائِرُ على صيغة اسم الفاعل من طَارَ يَطِيرُ طَيَرَانًا، وهو له في الجوّ كمشي الحيوان في الأرض، ويُعَدَّى بالهمزة، والتضعيف، فيقال: طَيَّرْتُهُ، وأَطرْتُهُ، وجمع الطَّائِرِ: طَيْرٌ، مثلُ صَاحِبٍ وصَحْبٍ، ورَاكِب ورَكْبٍ، وجمع الطَّيْرِ: طُيُور، وأَطْيَارٌ، وقال أبو عبيدة، وقطرب: ويقع الطير على الواحد والجمع، وقال ابن الأنبارفي: الطَّيْرُ جماعة، وتأنيثها أكثر من التذكير، ولا يقال للواحد: طَيْرٌ، بل طَائِرٌ، وقلّما يقال للأنثى: طَائِرَةٌ. انتهى

(2)

.

(فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَلَا يَرْزَؤُهُ) بفتح أوله، وثالثه، مضارع رزأ، بِراء، ثم زاي، ثم همزة، من باب فتح، وعَلِم؛ أي: ينقصه، ويأخذ منه، قال المجد رحمه الله: رَزَأَهُ مالَهُ، كَجَعَلَهُ، وعَلِمَهُ، رُزْءًا بالضم: أصابَ منه شيئًا، كَارْتَزَأَهُ مَالَهُ، ورَزَأَهُ رُزْءًا، ومَرْزِئَةً: أصاب منه خَيْرًا، والشَّيءَ: نَقَصَهُ،

والرَّزِيئَةُ: المُصِيبَةُ، كالرُّزْء، والمَرْزِئَة، جمعه: أرْزَاءٌ، ورَزَايَا، وما رَزِئتُهُ بالكسر: ما نَقَصْتُهُ، وارْتَزَأَ: انْتَقَص. انتهى

(3)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الرَّزِّيَةُ: المصيبة، والجمع: رَزَايَا، وأصلها الهمز، يقال: رَزَأتَهُ تَرْزَؤُهُ، مهموزٌ، بفتحتين، والاسم: الرُّزْءُ، مثالُ قُفْل، ورَزَأتُهُ أنا: إذا أصبته بمصيبة، وقد يُخَفَّف، فيقال: رَزيتُهُ أَرْزَاهُ. انتهى

(4)

.

(أَحَدٌ إلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَة) هكذا في النسخ مرفوعًا بضبط القلم، فتكون "كان" على هذا تامَّةً، كما قال الحريريّ رحمه الله في "ملحة الإعراب":

وإنْ تَقُلْ يَا قَوْمُ قَدْ كَانَ الْمَطَرْ

فَلَسْتَ تَحْتَاجُ لَهَا إِلَى خَبَرْ

وقال ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة":

(1)

"المصباح المنير" 1/ 264.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 382.

(3)

"القاموس المحيط" 1/ 16.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 226.

ص: 311

...........

وَذُو تَمَامٍ مَا بِرَفْعٍ يَكْتَفِي

والمعنى هنا: إلا حصل له ثواب صدقة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [24/ 3961 و 3962 و 3963 و 3964 و 3965](1552)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(10/ 456)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(5/ 93)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 536)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 347)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 331)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(25/ 100 و 101)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4/ 149)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 311 و 455)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 137) و"المعرفة"(4/ 518)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل الغرس والزرع، والحضّ على عمارة الأرض، قال النوويّ رحمه الله: في هذه الأحاديث فضيلة الغرس، وفضيلة الزرع، وأن أجر فاعلي ذلك مستمرّ ما دام الغِراس والزرع، وما تولّد منه إلى يوم القيامة. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): أنه يُستَنْبَط منه اتخاذ الضَّيْعة، والقيام عليها، وفيه فساد قول من أنكر ذلك، من المتزهِّدة، ويحْمَل ما ورد من التنفير عن ذلك على ما إذا شَغَلَ عن أمر الدين، فمنه حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا:"لا تتخذوا الضَّيْعة فترغبوا في الدنيا"، الحديث.

قال القرطبيّ: وفيه دليل على أن الغِراس، واتخاذ الضياع مباح، وغير قادح في الزهد، وقد فعله كثير من الصحابة، وقد ذهب قوم من المتزهدة إلى

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 213.

ص: 312

أن ذلك مكروه وقادح، ولعلّهم تمسكوا في ذلك بما قد خرَّجه الترمذيّ من قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تتخذوا الضيعة، فتركنوا إلى الدنيا"، خرَّجه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وقال فيه: حديث حسن.

والجواب: أن هذا النهي محمول على الاستكثار من الضياع، والانصراف إليها بالقلب الذي يُفضي بصاحبه إلى الركون للدنيا، فأما إذا اتخذها غير مستكثر، وقفَل منها، وكانت له كفافًا وعفافًا فهي مباحة، غير قادحة في الزهد، وسبيلها كسبيل المال الذي استثناه النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"إلا من أخذه بحقه، ووضعه في حقه" رواه مسلم، فأمَّا لو غرس، أو اتخذ الضيعة ناويًا بذلك معونة المسلمين، وثواب ما يؤكل ويتلف له منها، ويفعل بذلك معروفًا، فذلك من أفضل الأعمال، وأكرم الأحوال، ولا بُعْد في أن يقال: إن أَجْرَ ذلك يعود عليه أبدًا دائمًا، وإن مات وانتقلت إلى غيره، ولولا الإكثار لذكرنا فيمن اتخذ الضياع من الفضلاء، والصحابة جملة من صحيح الأخبار. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله، وهو بحث مفيد، والله تعالى أعلم.

3 -

(ومنها): أن مقتضى ما في الرواية الآتية بلفظ: "إلا كان له صدقةً إلى يوم القيامة" أن أجر ذلك يستمرّ ما دام الغرس، أو الزرع مأكولًا منه، ولو مات زارعه، أو غارسه، ولو انتقل ملكه إلى غيره.

4 -

(ومنها): أن الثواب المترتِّب على أفعال البرّ في الآخرة يختص بالمسلم دون الكافر؛ لأن القُرَب إنما تصح من المسلم، فإن تصدق الكافر، أو بَنَى قَنْطَرة للمارة، أو شيئًا من وجوه البر لم يكن له أجر في الآخرة، وورد في حديث آخر أنه يُطْعَم في الدنيا بذلك، ويجازى به مِنْ دَفْع مكروه عنه، ولا يُدَّخَر له شيء منه في الآخرة.

[فإن قلت]: قال صلى الله عليه وسلم في بعض طرق هذا الحديث: "ما من عبد"، وهو يتناول المسلم والكافر.

[أجيب]: بأنه يُحمَل المطلق على المقيد، قاله في "العمدة"

(1)

.

5 -

(ومنها): أن المرأة تدخل في قوله: "ما من مسلم"؛ لأن هذا اللفظ

(1)

"عمدة القاري" 12/ 155.

ص: 313

من الجنس الذي إذا كان الخطاب به يدخل فيه المرأة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يُرد بهذا اللفظ أن المسلمة إذا فعلت هذا الفعل لم يكن لها هذا الثواب، بل المسلمة في هذا الفعل في استحقاق الثواب مثل المسلم سواءً.

6 -

(ومنها): حصول الأجر للغارس والزارع، وإن لم يقصدا ذلك، حتى لو غَرَس، وباعه، أو زرع وباعه، كان له بذلك صدقة؛ لتوسعته على الناس في أقواتهم، كما ورد الأجر للجالب، وإن كان يفعله للتجارة والاكتساب

(1)

.

7 -

(ومنها): أن ظاهر الحديث أن الأجر يحصل لمتعاطي الزرع أو الغرس، ولو كان مُلكه لغيره؛ لأنه أضافه إلى أم مبشر، ثم سألها عمن غرسه، قال الطيبيّ: نَكر مسلمًا، وأوقعه في سياق النفي، وزاد "مِن" الاستغراقية، وعَمّ الحيوان؛ ليدل على سبيل الكناية على أن أيّ مسلم، كان حرًّا، أو عبدًا، مطيعًا، أو عاصيًا، يعمل أيّ عمل من المباح ينتفع بما عمله أيّ حيوان كان يرجع نفعه إليه، ويثاب عليه.

8 -

(ومنها): أن فيه جوازَ نسبة الزرع إلى الآدميّ، وقد ورد في المنع منه حديثٌ غيرُ قويّ، أخرجه ابن أبي حاتم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "لا يقل أحدكم: زَرَعْتُ، ولكن ليقل: حَرَثت، ألم تسمع لقول الله تعالى:{أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)} [الواقعة: 64]، ورجاله ثقات، إلا أن مسلم بن أبي مسلم الجرميّ قال فيه ابن حبان: ربما أخطأ، ورَوَى عبد بن حميد من طريق أبي عبد الرحمن السُّلَميّ مثله من قوله، غير مرفوع.

9 -

(ومنها): ما قاله ابن أبي جمرة: يدخل الغارس في عموم قوله: "إنسان"، فإن فضل الله واسع.

قال: وفيه التنويه بقدر المؤمن، وأنه يحصل له الأجر، وإن لم يقصد إليه عينًا.

قال: وفيه الترغيب في التصرف على لسان المعلِّم، والحضّ على التزام طريق المصلحين، والإرشاد إلى ترك المقاصد الفاسدة، والترغيب في المقاصد الصالحة الداعية إلى تكثير الثواب، وأن تعاطي الأسباب التي اقتضتها الحكمة

(1)

"عمدة القاري" 12/ 155.

ص: 314

الربانية من عمارة هذه الدار، لا ينافي العبادة، ولا طريق الزهد، ولا التوكل.

قال: وفيه التحريض على تعلم السنّة؛؛ ليعلم المرء ما له من الخير، فيرغبَ فيه؛ لأن مثل هذا الفضل المذكور في الغرس لا يُدْرَك إلا من طريق السنّة.

قال: وفيه إشارة إلى أن المرء قد يَصِل إليه من الشر ما لم يَعْمَل به، ولا قصد إليه، فيحذر من ذلك؛ لأنه لما جاز حصول هذا الخير بهذا الطريق، جاز حصول مقابله. انتهى كلام ابن أبي جمرة رحمه الله ملخصًا، نقله في "الفتح"

(1)

.

10 -

(ومنها): أن المهلَّب استَنْبَط منه أن من زرع في أرض غيره كان الزرع للزارع، وعليه لرب الأرض أجرة مثلها، قال الحافظ: وفي أخذ هذا الحكم من هذا الحديث بُعْدٌ انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في أفضل المكاسب:

قال النوويّ رحمه الله: قد اختلف العلماء في أطيب المكاسب، وأفضلها، فقيل: التجارة، وقيل: الصَّنعة باليد، وقيل: الزرا عة، وهو الصحيح. انتهى.

وقال في "شرح المهذب": قال الماورديّ: أصول المكاسب الزراعة، والتجارة، والصَّنعة، وأيها أطيب؟ فيه ثلاثة مذاهب للناس: أشبهها بمذهب الشافعيّ أن التجارة أطيب، قال: والأشبه عندي أن الزراعة أطيب؛ لأنها أقرب إلى التوكل، وذكر الشاشيّ، وصاحب "البيان"، وآخرون نحو ما ذكره الماورديّ وأخذه عنه.

قال النوويّ: في "صحيح البخاريّ" عن المقدام بن معديكرب رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبيّ الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده"، فالصواب ما نصّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عمل اليد، فإن كان زرعًا، فهو أطيب المكاسب وأفضلها؛ لأنه عمل يده، ولأن فيه توكلًا كما ذكره الماورديّ، وقال: لأن فيه

(1)

راجع: "الفتح" 13/ 557 "كتاب الأدب" رقم (6012).

(2)

"الفتح" 6/ 112.

ص: 315

نفعًا عامًّا للمسلمين، والدواب، ولأنه لا بُدّ في العادة أن يؤكل منه بغير عوض، فيحصل له أجره، وإن لم يكن ممن يعمل بيده، بل يعمل له غلمانه، وأجراؤه فاكتسابه بالزراعة أفضل؛ لِمَا ذكرناه. ثم أورد الأحاديث التي أوردها مسلم في هذا الباب

(1)

.

وقال في "الفتح": قال الماورديّ: أصول المكاسب: الزراعة، والتجارة، والصَّنعة، والأشبه بمذهب الشافعيّ أن أطيبها التجارة، قال: والأرجح عندي أن أطيبها الزراعة؛ لأنها أقرب إلى التوكل.

وتعقبه النوويّ بحديث المقدام الذي تقدّم، وأن الصواب أن أطيب الكسب ما كان بعمل اليد، قال: فإن كان زرّاعًا فهو أطيب المكاسب؛ لِمَا يشتمل عليه من كونه عمل اليد، ولمَا فيه من التوكل، ولما فيه من النفع العامّ للآدميّ وللدواب، ولأنه لا بدّ فيه في العادة أن يؤكل منه بغير عوض.

قال الحافظ: وفوق ذلك من عمل اليد ما يُكتسب من أموال الكفار بالجهاد، وهو مكسب النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهو أشرف المكاسب؛ لما فيه من إعلاء كلمة الله تعالى، وخِذلان كلمة أعدائه، والنفع الأخرويّ.

قال: ومن لم يعمل بيده فالزراعة في حقه أفضل؛ لما ذكرنا.

قال الحافظ: وهو مبنيّ على ما بَحث فيه من النفع المتعدي، ولم ينحصر النفع المتعدي في الزراعة، بل كل ما يُعمل باليد فنفعه متعدّ؛ لما فيه من تهيئة أسباب ما يحتاج الناس إليه، والحقّ أن ذلك مختلف المراتب، وقد يَختلف باختلاف الأحوال، والأشخاص، والعلم عند الله تعالى.

قال ابن المنذر رحمه الله: إنما يَفْضُل عملُ اليد سائرَ المكاسب إذا نصح العامل، كما جاء مصرَّحًا به في حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

قال الحافظ: ومن شرطه أن لا يعتقد أن الرزق من الكسب، بل من الله تعالى بهذه الواسطة، ومِن فَضْل العمل باليد الشغلُ بالأمر المباح عن البطالة واللهو، وكسر النفس بذلك، والتعفف عن ذِلَّة السؤال، والحاجة إلى الغير.

(1)

راجع: "المجموع شرح المهذّب" 9/ 54.

ص: 316

انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

وقال في "العمدة": واختُلف في أفضل المكاسب، فقال النوويّ: أفضلها الزراعة، وقيل: أفضلها الكسب باليد، وهي الصَّنعة، وقيل: أفضلها التجارة، وأكثر الأحاديث تدلّ على أفضلية الكسب باليد، وروى الحاكم في "المستدرك" من حديث أبي بردة، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الكسب أطيب؟ قال: "عَمَلُ الرجل بيده، وكل بيع مبرور"، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد

(2)

.

وقد يقال: هذا أطيب من حيث الحلّ، وذاك أفضل من حيث الانتفاع العامّ، فهو نفع متعدّ إلى غيره، وإذا كان كذلك فينبغي أن يَختلف الحال في ذلك باختلاف حاجة الناس، فحيث كان الناس محتاجين إلى الأقوات أكثر كانت الزراعة أفضل؛ للتوسعة على الناس، وحيث كانوا محتاجين إلى المتجر؛ لانقطاع الطرق كانت التجارة أفضل، وحيث كانوا محتاجين إلى الصنائع أشدّ كانت الصنعة أفضل، وهذا حسن. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: إن أفضل المكاسب هو الذي نصّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عمل اليد، فإن كان زرعًا، فهو أطيب المكاسب وأفضلها؛ لأنه عمل يده، وهذا ما رجحه النوويّ في كلامه السابق، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3962]

(

) - (حَدَّثنَا قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرٍ؛ أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى أُمِّ مُبَشِّرٍ الأنصَارِيَّة، فِي نَخْلٍ لَهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ غَرَسَ هَذَا النَّخْلَ، أَمُسْلِمٌ أَمْ كَافِرٌ؟ "، فَقَالَتْ: بَلْ مُسْلِمٌ، فَقَالَ:"لَا يَغرِسُ مُسْلِمٌ غَرْسًا، وَلَا يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلَ مِنْهُ إِنْسَان، وَلَا دَابَّةٌ، وَلَا شَيءٌ، إِلَّا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةٌ").

(1)

"الفتح" 5/ 525 - 526 "كتاب البيوع" رقم (2070 - 2075).

(2)

هو صحيح كما قال.

(3)

"عمدة القاري" 12/ 155.

ص: 317

رجال هدا الإسناد: خمسة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوق يُدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

والباقون ذُكروا قبله، وقبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (264) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (دَخَلَ عَلَى أُمِّ مُبَشَّرٍ الأنصَارِيّة) قال الحافظ أبو عليّ الجيّانيّ رحمه الله بعد أن ساق حديث مسلم هذا بلفظ: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل على أمّ بشر الأنصاريّة"، ما نصّه: هكذا في رواية أبي العلاء بن ماهان: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل على أم بشر"، وكذلك فِي حديث الليث بن سعد في ديوان "مسنده".

وعند أبي أحمد الجلوديّ عن جابر رضي الله عنه قال: "دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم على أم مبشّر"، وفي النسخة عن أبي سعيد السجزيّ، وأبي العبّاس الرازيّ:"دخل على أم معبد، أو أم مبشّر" على الشكّ، وكذلك كان في نسخة شيخنا أبي العبّاس الدلائيّ:"أم معبد، أو أم مبشّر" على الشك، والمحفوظ في حديث الليث بن سعد:"أمّ بشر"، حدّثنا حَكَم بن محمد، نا أبو بكر بن إسماعيل، نا محمد بن زبان، قال: أنا محمد بن رُمح، قال: أنا الليث، عن أبي الزبير، عن جابر؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل على أم بشر الأنصاريّة في نخل لها، فقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من غَرَس هذا النخل؟ أمسلم، أم كافر؟ فقالت: مسلم، فقال: "لا يغرس مسلم غرسًا، ولا يزرع زرعًا، فيأكل منه إنسان، ولا دابّة، ولا شيء، إلا كانت له صدقةً".

ذكر مسلم من حديث ابن جُريج، عن أبي الزبير، عن جابر قال: أخبرتني أم مبشّر أنها سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: "لا يدخل النار من أصحاب الشجرة أحدٌ"

(1)

.

(1)

أخرجه مسلم في "كتاب فضائل الصحابة" برقم (2496) رقم محمد فؤاد، ولفظه:"لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها".

ص: 318

وقال لنا أبو عمر النمريّ: أم مبشّر الأنصاريّة امرأة زيد بن حارثة، يقال: إنها أم بشر بنت البراء بن مَعْرُور، وكانت من كبار الصحابة، روى عنها جابر بن عبد الله أحاديث. انتهى كلام أبي عليّ الجيّانيّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "تهذيب التهذيب": أم مبشر الأنصارية امرأة زيد بن حارثة، رَوَت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن حفصة بنت عمر، على خلاف في ذلك، وعنها جابر بن عبد الله الأنصاريّ، ومحمد بن عبد الرحمن بن خلاد الأنصاريّ، ومجاهد بن جبر، يقال: مرسل.

قال الحافظ: زعم الدمياطيّ أن اسمها جُهينة بنت صيفيّ بن صخر، وإنها زوجة البراء بن معرور، أم ولديه بشر ومبشر، قال: وخَلَفَ عليها بعده زيد بن حارثة، كذا قال.

وقد ذكر أبو جعفر الطبريّ، وأبو عليّ بن السكن: أن اسم أم بشر بن البراء خُليدة بنت قيس بن ثابت بن مالك الأشجعية، وقال ابن عبد البرّ: أم بشر بنت البراء بن معرور، ويقال لها: أم مبشر، اسمها خُليدة، كذا قال، وكأنه أراد أن يكتب أم بشر بن البراء، ولعله من طغيان القلم، وقد اعترض عليه ابن فتحون، وذكر خليفة بن خياط أن للبراء بن معرور بنتًا تسمى أم قيس، فالله تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: حاصل ما سبق أن أبا عليّ الجيّاني رحمه الله ذكر أن الصواب في رواية الليث، عن أبي الزبير، عن جابر؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل على أم بِشْر، وليس على أم مبشّر، لكن النسخ التي بين يديّ كلها متّفقة على أم مبشّر، وقد سبق في كلام ابن عبد البرّ وغيره أنها يقال لها: أم مبشر، وأم بشر، فالظاهر أنهما كنيتان لها، وكذا أم معبد في الرواية الآتية، إلا أن الذي صوّبه الجيّانيّ أن رواية الليث: أم بشر، لا أم مبشّر، واحتجّ على ذلك بأنه الذي ثبت في كتاب الليث بن سعد، يكون هو المعتمدَ، فتأمل، والله تعالى أعلم بالصواب.

وقوله: (وَلَا دَابَّةٌ) إن كان مأخوذًا من دَبَّ على الأرض فهو مِنْ عطفِ

(1)

"تقييد المهمل" 1/ 863 - 862.

(2)

"تهذيب التهذيب" 4/ 701.

ص: 319

العامّ على الخاصّ، وإن كان المراد به الدابة في العرف، فهو من عطف جنس على جنس، وهو الظاهر هنا، قاله في "الفتح"

(1)

.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3963]

(

) - (وَحَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَابْنُ أَبِي خَلَفٍ، قَالَا: حَدَّثنا رَوْحٌ، حَدَّثنا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبو الزُّبَيْرِ؛ أنهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ الله، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَغْرِسُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ غَرْسًا

(2)

، وَلَا زَرْعًا، فَيَأْكُلَ مِنْهُ سَبُعٌ، أَوْ طَائِرٌ، أَوْ شَيءٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ فِيهِ أَجْرٌ"، وَقَالَ ابْنُ أَبِي خَلَفٍ: طَائِرٌ شَيْءٌ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون، تقدّم قريبًا.

2 -

(ابْنُ أَبِي خَلَفٍ) هو: محمد بن أحمد بن أبي خلف، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(رَوْحُ) بن عُبادة بن العلاء القيسيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، له تصانيف [9](ت 5 أو 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 476.

4 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم في الباب الماضي.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (غَرْسًا) وفي نسخة: "غِرَاسًا" بالكسر، وتقدّم أنه الشيء المغروس.

وقوله: (وَلَا زَرْعًا) عَطْفُه على ما قبله عطفُ مغاير؛ لأن الزرع غير الغرس.

وقوله: (فَيَأْكُلَ مِنْهُ) بالنصب بـ"أن" مضمرة بعد الفاء السببيّة في جواب النفي، كما قال في "الخلاصة":

(1)

"الفتح" 13/ 556 - 557 "كتاب الأدب" رقم (600 - 613).

(2)

وفي نسخة: "غِرَاسًا".

ص: 320

وَبَعْدَ فَا جَوَابِ نَفْيٍ أَوْ طَلَبْ

مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهُ حَتْمٌ نَصَبْ

وقوله: (أَوْ طَائِرٌ، أَو شَيءٌ)"أو" هنا للتنويع، لا للشكّ، وعطف "شيء" على ما قبله من عطف العامّ على الخاصّ.

وقوله: (وَقَالَ ابْنُ أَبِي خَلَفٍ: طَائِرٌ شَيءٌ) يعني شيخه ابن خلف لم يذكر العاطف، وعليه يكون "شيء" بدلًا من "طائرٌ"، فتنبّه.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وتقدّم تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3964]

(

) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ؛ أنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: دَخَلَ النَّبِيُ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُمِّ مَعْبَدٍ حَائِطًا، فَقَالَ: "يَا أمّ مَعْبَدٍ مَنْ غَرَسَ هَذَا النَّخْلَ، أَمُسْلِمٌ، أَمْ كَافِرٌ؟ "، فَقَالَتْ: بَلْ مُسْلِمٌ، قَالَ: "فَلَا يَغرِسُ الْمُسْلِمُ غَرْسًا، فَيَأْكلَ مِنْهُ إِنْسَانٌ، وَلَا دَابَّة، وَلَا طَيْرٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْن إِبْرَاهِيمَ) الرباطيّ الأشقر، أبو عبد الله المروزيّ، نزيل نيسابور، ثقةٌ حافظٌ [11].

رَوَى عن أبي أحمد الزبيريّ، وأبي داود الطيالسيّ، والنضر بن شُميل، ووهب بن جرير بن حازم، وروح بن عبادة، وغيرهم.

ورَوَى عنه الجماعة، سوى ابن ماجه، وابن خزيمة، والسراج، والقبانيّ، وإبراهيم بن أبي طالب، وجماعة.

قال النسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن خِرَاش: ثقة ثقة، وقال الخطيب: ورد بغداد في أيام أحمد، وجالس بها العلماء، وذاكرهم، وكان ثقةً فَهِمًا، عالِمًا، فاضلًا. وقال أبو حاتم الرازيّ: أدركته، ولم أكتب عنه، وكَتَبَ إليّ بأحاديث، وكان يتولى على الرباطات، وقال الخليليّ في "الإرشاد": ثقةٌ عالمٌ حافظٌ متقنٌ، وقال أبو عليّ الحافظ: كان والله من الأئمة المقتدى بهم، وقال محمد بن عبد السلام: لم أر بعد إسحاق بن إبراهيم مثله.

ص: 321

مات في المحرم سنة (246) بقُومَس.

روى عنه البخاريّ، والمصنف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

2 -

(زَكَرِيَّاءُ بْنُ إسْحَاقَ) المكيّ، ثقةٌ رُمي بالقدر [6](ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 130.

3 -

(عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ) الأثرم الجمحيّ، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 216)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: انتقد الحافظ أبو مسعود الدمشقيّ رحمه الله هذا الإسناد، فقال: هكذا هذا الإسناد أيضًا عند أبي الأزهر

(1)

، يعني عن روح بن عُبادة، عن زكريّا بن إسحاق، عن عمر، عن جابر، قال: والمشهور: عن زكريّا، عن أبي الزبير، عن جابر، لا عن عمرو بن دينار. انتهى

(2)

.

وقوله: (إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) قال في "العمدة": [فإن قلت]: قوله: "إلى يوم القيامة" هل يريد به أن أجره لا ينقطع إلى يوم القيامة، وإن فَنِي الزرع والغراس، أو يريد ما بقي ذلك الزرع والغراس منتَفعًا به، وإن بقي إلى يوم القيامة؟

[قلت]: الظاهر أن المراد الثاني، وزاد النوويّ أن ما يولد من الغراس والزرع كذلك، فقال: فيه أن أجر فاعل ذلك مستمرّ ما دام الغِراس والزرع، وما تولّد منه إلى يوم القيامة. انتهى

(3)

.

والحديث من أفراد المصنف كلدهُ، كما سبق بيانه، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3956]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أبو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ (ح) وَحَدّثنَا أَبو كُرَيْبٍ، وَإسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَنْ أَبى مُعَاوِيَةَ (ح) وَحَدّثنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا عَمَارُ بْنُ مُحَمّدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا

(1)

أبو الأزهر هو أحمد بن الأزهر بن منيع النيسابوري المتوفّى سنة (263 هـ).

(2)

راجع: "تقييد المهمل" 3/ 863.

(3)

راجع: "عمدة القاري" 12/ 155.

ص: 322

ابْنُ فُضَيْلٍ، كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنِ الأَعْمَش، عَنْ أبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، زَادَ عَمْرٌو فِي رِوَايَتِهِ: عَنْ عَمَّارٍ، وَأبو كُرَيْبٍ في رِوَايَتِهِ: عَنْ أبِي مُعَاوِيةَ، فَقَالَا: عَنْ أمِّ مُبَشِّرٍ، وَفَي رِوَايَةِ ابْنِ فُضَيْلٍ: عَنِ امْرَأةِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَفي رِوَايَةِ إسْحَاقَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ قَالَ: رُبَّمَا قَالَ: عَنْ أمَّ مُبَشَرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَرُبَّمَا لَمْ يَقُلْ، وَكُلُّهُمْ قَالُوا: عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم، بِنَحْوِ حَدِيثِ عَطَاءٍ، وَأبي الزُّبَيْر، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ).

رجال هذا الإسناد: أحد عشر:

1 -

(حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ) بن طلق النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ تغيّر حفظه قليلًا [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.

2 -

(أبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قريبًا.

3 -

(أبو مُعَاوِيةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ أحفظ لحديث الأعمش، وقد يَهِم في حديث غيره، من كبار [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

4 -

(عَمَّارُ بْنُ مُحَمَّدٍ) الثوريّ، أبو اليقظان الكوفيّ، ابن أخت سفيان الثوريّ، سكن بغداد، صدوق، وكان يُخطئ، وكان عابدًا [8].

رَوَى عن خالد، والأعمش، ومنصور، وليث بن أبي سُليم، وعطاء بن السائب، وغيرهم.

وروى عنه أحمد بن حنبل، وأبو معمر القَطِيعيّ، وأبو كريب، وعمرو الناقد، ومحمد بن الصباح الجرجرائيّ، وعلي بن حجر، وغيرهم.

قال الدُّوريّ عن ابن معين: لم يكن به بأس، وقال يزيد بن الهيثم عن ابن معين: ليس به بأس، وأخوه سيف كذا، وعمار أكبرهما، وقال إبراهيم بن أبي داود عن ابن معين: ثقة، وقال أحمد بن عليّ الأبّار، عن علي بن حجر: كان ثبتًا ثقة، وعن أبي معمر القطيعيّ: ثقة، وقال البخاريّ: قال لي عمرو بن محمد: ثنا عمار بن محمد، وكان أوثق من سيف، وقال ابن أبي حاتم، عن الحسن بن عرفة: كنا لا نشك أنه من الأبدال، وقال الجوزجانيّ: عمار وسيف ليسا بالقويين في الحديث، وقال أبو حاتم: ليس به بأس، يُكتب حديثه.

وقال ابن سعد: تُوُفّي في المحرم سنة اثنتين وثمانين ومائة، وكان

ص: 323

ثقةً، وقال ابن حبان: ممن فَحُش خطؤه، وكثُر وَهْمُه، فاستحقّ الترك.

قال الجامع عفا الله عنه: قول ابن حبّان: "فاستحقّ الترك" مما تشدّد فيه في غير موضعه، فيستحقّ الترك، فقد علمت كلام الأئمة قبله، فلا تلتفت إليه.

أخرج له المصنّف، والترمذيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

5 -

(ابْنُ فُضَيْلٍ) هو: محمد الضبيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقة، رُمي بالتشيّع [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.

6 -

(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهران، تقدّم قريبًا.

7 -

(أَبو سُفْيَانَ) طلحة بن نافع، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا قريبًا.

وقوله: (كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنِ الأَعْمَشِ) يعني أن هؤلاء الأربعة: حفص بن غياث، وأبا معاوية، وعمّار بن محمد، ومحمد بن فضيل، رووه عن الأعمش إلخ.

وقوله: (زَادَ عَمْرٌو فِي رِوَايَتِهِ: عَنْ عَمَارٍ)"عمرو" هو: الناقد، و"عمار" هو: ابن محمد، يعني أن عمرًا الناقد زاد في روايته عن عمّار بن محمد بعد ذكر جابر، قوله:"عن أم مبشّر"، وكذا زاد أبو كريب في روايته عن أبي معاوية، فجعلاه من مسند أم مبشّر، لا من مسند جابر رضي الله عنه.

وقوله: (وَأَبُو كُرَيْبٍ فِي رِوَايَتِهِ: عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ) هكذا في بعض النسخ: "وأبو كريب"، وهو الصواب، ووقع في بعضها:"وأبو بكر" بدل و"أبو كريب"، وهو غلط، وهذا هو الذي وقع في شرح النوويّ رحمه الله، فقال النوويّ: قوله: "وأبو بكر في روايته عن أبي معاوية إلخ" هكذا وقع في نسخ مسلم، "وأبو بكر"، ووقع في بعضها:"وأبو كريب" بدل "أبي بكر" قال القاضي: قال بعضهم: الصواب أبو كريب؛ لأن أول الإسناد لأبي بكر بن أبي شيبة، عن حفص بن غِياث، ولأبي كريب، وإسحاق بن إبراهيم، عن أبي معاوية، فالراوي عن أبي معاوية هو أبو كريب، لا أبو بكر، وهذا واضح، وبَيِّنٌ، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 215.

ص: 324

وقوله: (وَفَي رِوَايَةِ ابْنِ فُضَيْلٍ إلخ) يعني أن في رواية محمد بن فُضيل، عن الأعمش قال:"عن امرأة زيد بن حارثة" بدل أمّ مبشّر، وهي هي، كما تقدّم.

وقوله: (وَهي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ إلخ) يعني أن في رواية إسحاق ابن راهويه، عن أبي معاوية قال:(قَالَ: رُبَّمَا قَالَ: عَنْ أُمِّ مُبَشرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَرُبَّمَا لَمْ يَقُلْ) يعني أنه ربما ذكر بعد جابر قوله: "عن أم مبشّر"، فجعله من مسندها، وربما لم يذكر ذلك، بل قال: عن جابر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجعله من مسنده.

وقوله: (وَكُلُّهُمْ قَالُوا: عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إلخ) يعني أن هؤلاء الذين اختلفوا هل الحديث من مسند أم مبشر، أو من مسند جابر؟ اتفقوا على رفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وخلاصة القول: أن هذا الحديث مما اختلف فيه الحفّاظ هل هو من مسند جابر رضي الله عنه، أو من مسند أم مبشّر رضي الله عنها، رواه عنها جابر رضي الله عنه؟ والظاهر أن كلا الطريقين صحيحان، ولعل جابرًا رضي الله عنه سمعه من أم مبشّر، ثم سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية هؤلاء الذين أشار مسلم إلى اختلافهم في جعل الحديث من مسند جابر، أو من مسند أم مبشّر، لم أجد من ساقها بتمامها كما أشار إليه، بل الذي وجدته من رواياتهم على خلاف ما أشار إليه، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3966]

(1553) - (حَدَّثنَا يَحْيى بْنُ يَحْيى، وَقتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَمُحَمّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ - وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى - قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أنس، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ، أَوْ إِنْسَان، أَوْ بَهِيمَة، إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَحْيى بْنُ يَحْيى) التميميّ، تقدّم قبل باب.

ص: 325

2 -

(مُحَمّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ) البصريّ، ثقة [10](ت 238)(م د س) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

3 -

(أبو عوَانَةَ) الوضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ، تقدّم قبل بابين.

4 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السّدُوسيّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ يُدلّس، رأس [4](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

5 -

(أنسُ) بن مالك بن النضر، أبو حمزة الصحابيّ الخادم الشهير، مات سنة (1 أو 2 أو 93) وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 2.

و"قُتيبة" ذُكر في الباب، وشرح الحديث تقدّم في حديث جابر رضي الله عنه.

وقوله: (فَيَأكُلُ مِنْهُ) الظاهر أنه بالنصب بـ"أن" مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببيّة، كما مرّ نظيره، لكن النسخ متّفقة على رفعه، فإن صحّ روايةً، فهو، وإلا فالأولى النصب، ووجه الرفع أن يُجعل من عطف الجملة على الجملة، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [24/ 3966 و 3967](1553)، و (البخاريّ) في "الحرث والمزارعة"(2320) و "الأدب"(6012)، و (الترمذيّ) في "جامعه"(3/ 666)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 267)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 147 و 228 و 243)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 333)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5/ 238)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 137)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3967]

(

) - (وَحَدّثنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثنَا مُسْلِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، حَدَّثنَا أبانُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثنَا قَتَادَةُ، حَدثنَا أنسُ بْنُ مَالِكٍ؛ أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ نَخْلًا لأُمِّ مُبَشِّرٍ - امْرَأةٍ مِنَ الأنصَارِ - فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ فَرَسَ هَذَا النَّخْلَ، أَمُسْلِمٌ، أَمْ كَافِرٌ؟ "، قَالُوا: مُسْلِمٌ، بِنَحْوِ حَدِيثهِمْ).

ص: 326

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) تقدّم قبل باب.

2 -

(مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهيمَ) الأزديّ الفراهيديّ مولاهم، أبو عمرو البصريّ الحافظ، ثقةٌ مأمونٌ مكثرٌ، من صغار [9](ت 222) وهو أكبر شيخ لأبي داود (ع).

رَوَى عن عبد السلام بن شداد، وجرير بن حازم، وأبان بن يزيد العطار، وأبي الأشهب العطارديّ، والأسود بن شيبان، وحماد بن سلمة، وغيرهم.

ورَوَى عنه البخاريّ، وأبو داود، وروى أبو داود أيضًا والباقون له بواسطة نصر بن عليّ الجهضميّ، ومحمد بن يحيى القطعيّ، وعبد بن حميد، والدارميّ، وأبو داود الحرانيّ، وأحمد بن الحسين بن خِرَاش، وحجاج بن الشاعر، وغيرهم.

قال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقة مأمونٌ، وقال نصر بن عليّ: سمعت مسلم بن إبراهيم يقول: قعدت مرةً أذاكر شعبة، عن خالد بن قيس، فقال: كدت تَلْقَى أبا هريرة، وقال العجليّ: كان ثقةً عَمِي بآخره، وقال الفضل بن سهل الأعرج: سمعت ابن معين يقدِّم مسلم بن إبراهيم على معاذ بن هشام، ويقول: لا أجعل رجلًا لم يرو إلا عن أبيه، كرجل روى عن الناس، وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: ثقة صدوق، وقال الآجريّ، عن أبي داود: كَتَب مسلم بن إبراهيم عن قريب من ألف شيخ، وقال أيضًا: ما رحل مسلم إلى أحد، وكان يحفظ حديث قرة وهشام وأبان العطار يَهُذُّهُ هَذًّا، وهو أحب إلينا من ابن كثير، كان ابن كثير لا يحفظ، وكانت فيه سلامة.

قال البخاريّ: مات سنة اثنتين وعشرين ومائتين، زاد غيره في صفر، وقال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث، ومات بالبصرة في صفر سنة اثنتين وعشرين، وقال ابن حبان في "الثقات": كان من المتقنين، وقال ابن قانع: بصريّ صالح.

روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (1553)، و (2188): "العين حق

" الحديث.

3 -

(أبانُ بْنُ يَزِيدَ) العطّار، أبو يزيد البصريّ، ثقةٌ له أفرادٌ [7] مات في حدود (160)(خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 1/ 540.

ص: 327

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ) الظاهر أن الضمير لشيوخه الثلاثة المذكورين في السند الماضي، وهم: يحيى بن يحيى، وقتيبة بن سعيد، ومحمد بن عبيد الغبري، يعني أن عبد بن حميد روى هذا الحديث بنحو رواية هؤلاء الثلاثة.

[تنبيه]: رواية أبان بن يزيد، عن قتادة هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" 3/ 192 فقال:

(13022)

- حدّثنا عبد الله

(1)

حدّثني أبي، ثنا بهز، وحدّثنا عفان قالا: ثنا أبان، ثنا قتادة، ثنا أنس بن مالك؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل نخلًا لأم مبشر امرأة من الأنصار، فقال:"من غَرَس هذا الغرس، أمسلم أم كافر؟ " قالوا: مسلم، قال:"لا يغرس مسلم غَرْسًا، فيأكلَ منه إنسانٌ، أو دابةٌ، أو طائرٌ، إلا كان له صدقةً". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(25) - (بَابُ وَضْعِ الْجَوَائِحِ)

(اعلم): أن "الجوائح" جمع جائحة، قال الفيّوميّ رحمه الله: الجائحة: الآفة، يقال: جاحت الآفةُ المالَ تَجُوحه جَوْحًا، من باب قال: إذا أهلكته، وتَجِيحه جِيَاحَةً لغةٌ، فهي جائحة، والجمع الجوائح، والمالُ مجوحٌ، ومَجِيحٌ، وأجاحته بالألف لغة ثالثة، فهو مجاحٌ، واجتاحت المالَ، مثلُ جاحَتْه، قال الشافعيّ: الجائحة: ما أذهب الثمر بأمر سماويّ، وفي حديثٍ:"أمر بوضع الجوائح": والمعنى: بوضع صدقات ذات الجوائح، يعني ما أُصيب من الثمار بآفة سماويّة، لا يؤخذ منه صدقة فيما بقي. انتهى.

وقال في "اللسان": الْجَوْحةُ، والجائحةُ: الشدّةُ، والنازلةُ العظيمة التي تجتاح المالَ من سنة، أو فتنة، وكلّ ما استأصله، فقد جاحه، واجتاحه، وجاح الله ماله، وأجاحه بمعنىً؛ أي: أهلكه بالجائحة، وقال الأزهريّ، عن

(1)

هو ابن الإمام أحمد راوي "المسند" عنه، فتنبّه.

ص: 328

أبي عُبيد: الجائحة: المصيبة تحُلّ بالرجل في ماله، فتجتاحه كلَّه، قال: والجائحة تكون بالبَرَد يقع من السماء، إذا عظُم حَجمه، فكثر ضرره، وتكون بالْبَرْد المحرِق، أو الحرّ المفرط، حتى يَبطُل الثمر. انتهى. باختصار.

[3968]

(1554) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْب، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ؛ أَن أبا الزُّبَيْرِ أخْبَرَهُ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ؛ أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا" (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ؛ أنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا، فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، فَلَا يَحِل لَكَ أَنْ تَأخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، بِمَ تَأخُذُ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ؟ ").

رجال هذا الإسنادين: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ) بن الزِّبْرقان المكيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ يَهِم [10](ت 234)(خ م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.

2 -

(أَبُو ضَمْرَةَ) أنس بن عياض الليثيّ المدنيّ، ثقة [8](ت 200) وله (96) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.

والباقون كلّهم تقدّموا في البابين الماضيين.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ جُرَيْج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكيّ (عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ (أنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ بعْتَ) وفي رواية ابن وهب السابقة: "إن بعت"، وقوله:(مِنْ أَخِيكَ) مفعولٌ أولُ لـ"بعتَ"، دخلت عليه "من" توكيدًا؛ لأنه يتعدّى بنفسه إلى مفعولين، قال الفيّوميّ رحمه الله: وبعتُ زيدًا الدار يتعدّى إلى مفعولين، قال: وقد تدخل "من" على المفعول الأول على وجه التوكيد، فيقال: بِعْتُ من زيد الدارَ، كما يقال: كتمته الحديثَ، وكتمت منه الحديثَ، وربّما دخلت اللام مكان "من"، فيقال: بعتك الشيءَ، وبعته لك، فاللام زائدة، زيادتها في قوله تعالى:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} الآية

ص: 329

[الحج: 26]، والأصل بوّأنا إبراهيمَ. انتهى

(1)

.

وقوله: (ثَمَرًا) هو المفعول الثاني لـ"بعتُ"(فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ) أي: أصابت ذلك الثمرَ آفةٌ، قال القرطبيّ رحمه الله: الجائحة ما اجتاحت المالَ، وأتلفته إتلافًا ظاهرًا؛ كالسيل، والمطر، والحرق، والسرق، وغلبة العدوّ، وغير ذلك، مما يكون إتلافه للمال ظاهرًا.

وقال أيضًا في موضع آخر: واختلف أصحابنا - يعني المالكيّة - في حدّها، فرُوي عن ابن القاسم أنها ما لا يمكن دفعه، وعلى هذا الخلاف، فلا يكون السارق جائحة، وكذا في كتاب محمد، وفي الكتاب: إنه جائحة، وقال مطرّفٌ، وابن الماجشون: الجائحة: ما أصاب الثمرة من السماء، من عَفَنٍ، أو برد، أو عطش، أو حرّ، أو كسر الشجر بما ليس بصنع آدميّ، والجيش ليس بجائحة، وفي رواية ابن القاسم: إنه جائحة. انتهى

(2)

.

وقال ابن قُدامة رحمه الله: الجائحة كل آفة، لا صُنع للآدمي فيها، كالريح، والبرد، والجراد، والعطش؛ لما روى الساجي بإسناده، عن جابر: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قضى في الجائحة، والجائحة تكون في البرد، والجراد، وفي الحبق، والسيل، وفي الريح. وهذا تفسير من الراوي لكلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيجب الرجوع إليه.

وأما ما كان بفعل آدمي، فقال القاضي: المشتري بالخيار، بين فسخ العقد، ومطالبة البائع بالثمن، وبين البقاء عليه، ومطالبة الجاني بالقيمة؛ لأنه أمكن الرجوع ببدله، بخلاف التالف بالجائحة. انتهى

(3)

.

(فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأخُذَ مِنْهُ) أي: من أخيك (شَيْئًا) هذا صريح في تحريم أخذه، فهو دليل واضح في وجوب وضع الجائحة، كما سيأتي تحقيقه قريبًا (بِمَ تَأخُذُ مَالَ أَخِيكَ) أي: في مقابلة الثمر الذي أصابته الجائحة.

وقوله: (بِغَيْرِ حَقٍّ؟ ") تأكيد للإنكار في أخذه، وذلك أن أخذه للثمن في مقابلة الثمر الهالك يكون أخذًا بغير حقّ؛ إذ لم يأخذ هو مقابله.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 69.

(2)

"المفهم" 4/ 426.

(3)

"المغني" 6/ 179.

ص: 330

وظاهره حرمة الأخذ، ووجوب وضع الجائحة، وبه يقول أحمد، وأصحاب الحديث، قالوا: وضع الجائحة لازم بقدر ما هلك.

وقال الخطّابيّ: هي لندب الوضع من طريق المعروف، والإحسان عند الفقهاء.

وقيل: هو محمول على ما هلك قبل تسليم المبيع إلى المشتري، فإنه في ضمان البائع، بخلاف ما هلك بعد التسليم؛ لأن المبيع قد خرج عن عُهْدة البائع بالتسليم إلى المشتري، فلا يلزمه ضمان ما يَعتريه بعده، واستُدلّ على ذلك بحديث أبي سعيد رضي الله عنه الآتي في الباب التالي؛ لأنه لو كانت الجوائح موضوعةً، لم يصر مديونًا بسببها، وسيأتي تمام البحث في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [25/ 3968 و 3969](1554)، و (أبو داود) في "البيوع"(3374 و 3470)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 264 و 265) و"الكبرى"(4/ 19)، و (ابن ماجه) في "التجارات"(2219)، و (أحمد) في "مسنده"(13908)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 252)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(639)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5034 و 5035)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 333)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(3/ 30 و 31)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 306)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان النهي عن أخذ شيء في مقابل ما أصابه الجوائح، من الثمار؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا".

2 -

(ومنها): بيان وجوب وضع الجائحة، وبه يقول بعض أهل العلم، وهو الراجح، كما سيأتي بيانه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

ص: 331

3 -

(ومنها): جواز بيع الثمار، ولا خلاف فيه في الجملة، وإنما الخلاف فيما إذا كان قبل بدوّ الصلاح، وقد تقدّم بيان ذلك مستوفًى قريبًا.

4 -

(ومنها): تحريم أخذ مال المسلم بغير حقّ، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم وضع الجائحة:

قال في "الفتح": استُدِلّ بهذا الحديث على وضع الجوائح في الثمر يُشتَرى بعد بُدُوّ صلاحه، ثم تصيبه جائحة، فقال مالك: يضع عنه الثلث، وقال أحمد، وأبو عبيد: يضع الجميع، وقال الشافعي، والليث، والكوفيون: لا يرجع على البائع بشيء، وقالوا: إنما ورد وضع الجائحة، فيما إذا بيعت الثمرة، قبل بُدُوّ صلاحها بغير شرط القطع، فيُحمَل مطلق الحديث، في رواية جابر، على ما قُيِّد به في حديث أنس، والله أعلم.

واستدلّ الطحاويّ، بحديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه الآتي في الباب التالي، قال: فلما لم يبطل دينُ الغرماء بذهاب الثمار، وفيهم باعتها، ولم يؤخذ الثمن منهم، دَلَّ على أن الأمر بوضع الجوائح، ليس على عمومه، والله تعالى أعلم. انتهى.

وقال ابن قُدامة رحمه الله: ما تهلكه الجائحة من الثمار، من ضمان البائع، وبهذا قال أكثر أهل المدينة، منهم: يحيى بن سعيد الأنصاريّ، ومالك، وأبو عبيد، وجماعة من أهل الحديث، وبه قال الشافعيّ في القديم.

وقال أبو حنيفة، والشافعيّ في الجديد: هو من ضمان المشتري؛ لما رُوي؛ أن امرأة أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن ابني اشترى ثمرة من فلان، فأذهبتها الجائحة، فسأله أن يضع عنه، فتألى أن لا يفعل، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"تألّى فلان أن لا يفعل خيرًا؟ "، ولو كان واجبًا لأجبره عليه، ولأن التخلية يتعلق بها جواز التصرف، فتعلّق بها الضمان؛ كالنقل، والتحويل، ولأنه لا يضمنه إذا أتلفه آدمي، كذلك لا يضمنه بإتلاف غيره.

ولنا ما رَوَى مسلم في "صحيحه" عن جابر رضي الله عنه؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح، وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بعت من أخيك ثمرًا، فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك، بغير حق؟ "، رواه مسلم، وأبو داود، ولفظه: "من باع ثمرًا، فأصابته جائحة، فلا يأخذ من

ص: 332

مال أخيه شيئًا، علام يأخذ أحدكم، من مال أخيه المسلم؟ "، وهذا صريح في الحكم، فلا يعدل عنه.

قال الشافعي: لم يثبت عندي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح، ولو ثبت لم أَعْدُهُ، ولو كنت قائلًا بوضعها، لوضعتها في القليل والكثير.

قلنا: الحديث ثابت، رواه الأئمة، منهم الإمام أحمد، ويحيى بن معين، وعليّ بن حرب، وغيرهم، عن ابن عيينة، عن حميد الأعرج، عن سليمان بن عتيق، عن جابر، ورواه مسلم في "صحيحه" وأبو داود في "سننه"، وابن ماجه، والنسائيّ، وغيرهم، ولا حجة لهم في حديثهم، فإن فعل الواجب خير، فإذا تألى أن لا يفعل الواجب، فقد تألى ألا يفعل خيرًا، فأما الإجبار فلا يفعله النبيّ صلى الله عليه وسلم، بمجرد قول المدَّعي، من غير إقرار من البائع، ولا حضور، ولأن التخلية ليست بقبض تام، بدليل ما لو تلفت بعطش، عند بعضهم، ولا يلزم من إباحة التصرف تمام القبض، بدليل المنافع في الإجارة، يباح التصرف فيها، ولو تلفت كانت من ضمان المؤجر، كذلك الثمرة، فإنها في شجرها كالمنافع قبل استيفائها، توجد حالًا فحالًا، وقياسهم يبطل بالتخلية في الإجارة. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله

(1)

.

وقد حقّق المسألة العلامة ابن القيّم رحمه الله في كتابه "إعلام الموقّعين"، فقال:

[المثال الرابع والأربعون]: ردّ السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في وضع الجوائح بأنها خلاف الأصول، كما في "صحيح مسلم" عن جابر رضي الله عنه يرفعه:"لو بعت من أخيك ثمرًا، فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك بغير حقّ؟ "، ورَوَى سفيان بن عيينة، عن حميد، عن سليمان، عن جابر رضي الله عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن بيع السنين، وأمر بوضع الجوائح"، فقالوا: هذه خلاف الأصول، فإن المشتري قد ملك الثمرة، وملك التصرف فيها، وتَمّ نقل الملك إليه، ولو ربح فيها كان الربح له، فكيف تكون من ضمان البائع؟

(1)

"المغني" 6/ 177 - 179.

ص: 333

وفي "صحيح مسلم" عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها، فكثُر دينه

الحديث.

وروى مالك عن أبي الرجال، عن أمه عمرة؛ أنه سمعها تقول: ابتاع رجل ثمر حائط في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم

الحديث.

قال: والجواب أن وضع الجوائح لا يخالف شيئًا من الأصول الصحيحة، بل هو مقتضى أصول الشريعة، ونحن - بحمد الله - نُبَيِّن هذا بمقامين: أما الأول فحديث وضع الجوائح لا يخالف كتابًا، ولا سنةً، ولا إجماعًا، وهو أصل بنفسه، فيجب قبوله، وأما ما ذكرتم من القياس فيكفي في فساده شهادة النصّ له بالإهدار، كيف وهو فاسد في نفسه؟ وهذا يتبين بالمقام الثاني، وهو أن وضع الجوائح كما هو موافق للسنة الصحيحة الصريحة، فهو مقتضى القياس الصحيح، فإن المشتري لم يتسلم الثمرة، ولم يقبضها القبض التامّ الذي يوجب نقل الضمان إليه، فإن قبض كل شيء بحسبه، وقبض الثمار إنما يكون عند كمال إدراكها شيئًا فشيئًا، فهو كقبض المنافع في الإجارة، وتسليم الشجرة إليه كتسليم العين المؤجرة من الأرض والعقار والحيوان، وعُلَقُ البائع لم تنقطع عن المبيع، فإن له سقي الأصل، وتعاهده، كما لم تنقطع عُلَق المؤجر عن العين المستاجرة، والمشتري لم يتسلم التسليم التائم كما لم يتسلم المستأجر التسليم التامّ، فإذا جاء أمر غالب اجتاح الثمرة من غير تفريط من المشتري، لم يحلّ للبائع إلزامه بثمن ما أتلفه الله صلى الله عليه وسلم منها قبل تمكنه من قبضها القبض المعتاد، وهذا معنى قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حقّ؟ "، فذكر الحكم، وهو قوله:"فلا يحل له أن يأخذ منه شيئًا"، وعلة الحكم وهو قوله: "أرأيت إن منع الله الثمرة

" إلى آخره، وهذا الحكم نصّ لا يَحْتمل التأويل، والتعليل وصف مناسب لا يقبل الإلغاء، ولا المعارضة، وقياس الأصول لا يقتضي غير ذلك، ولهذا لو تمكن من القبض المعتاد في وقته، ثم أخّره لتفريط منه، أو لانتظار غلاء السعر، كان التلف من ضمانه، ولم توضع عنه الجائحة.

وأما معارضة هذه السنة بحديث الذي أصيب في ثمار ابتاعها، فمن باب رَدّ المحكم بالمتشابه، فإنه ليس فيه أنه أصيب فيها بجائحة، فليس في الحديث

ص: 334

أنها كانت جائحة عامّة، بل لعله أصيب فيها بانحطاط سعرها، وإن قُدِّر أن المصيبة كانت جائحة، فليس في الحديث أنها كانت جائحة عامّة، بل لعلها جائحة خاصة؛ كسرقة اللصوص التي يمكن الاحتراز منها، ومثل هذا لا يكون جائحة تُسقط الثمنَ عن المشتري، بخلاف نَهْب الجيوش، والتلف بآفة سماوية، وإن قُدِّر أن الجائحة عامة، فليس في الحديث ما يبين أن التلف لم يكن بتفريطه في التأخير، ولو قُدِّر أن التلف لم يكن بتفريطه، فليس فيه أنه طلب الفسخ، وأن توضع عنه الجائحة، بل لعله رضي بالمبيع، ولم يطلب الوضع، والحقّ في ذلك له، إن شاء طلبه، وإن شاء تركه، فأين في الحديث أنه طلب ذلك، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم منع منه، ولا يتم الدليل إلا بثبوت المقدمتين، فكيف يعارض نصّ قوله الصحيح الصريح المحكم الذي لا يَحتَمِل غير معنى واحد، وهو نصّ فيه بهذا الحديث المتشابه.

ثم قوله فيه: "ليس لكم فيه إلا ذلك" دليل على أنه لم يبق لبائعي الثمار في ذمة المشتري غير ما أخذه، وعندكم المال كله في ذمته، فالحديث حجة عليكم.

وأما المعارضة بخبر مالك، فمن أبطل المعارضات، وأفسدها، فأين فيه أنه أصابته جائحة بوجه ما؟ وإنما فيه أنه عالجه، وأقام عليه حتى تبيّن له النقصان، ومثل هذا لا يكون سببًا لوضع الثمن، وبالله التوفيق. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد حقّق العلامة ابن القيّم رحمه الله هذا الموضوع، وبيّنه أتمّ بيان.

والحاصل أن أحاديث وضع الجائحة صحيحة واضحة الدلالة، فالأرجح القول بوجوب وضع الجائحة، وأما الاحتجاج بحديث أبي سعيد رضي الله عنه الآتي في الرجل الذي أصيب في الثمار التي ابتاعها، فيجاب عنه بجوابين:

[أحدهما]: أن أحاديث وضع الجائحة ذُكرت لبيان القاعدة، وحكمِها، وهذا الحديث واقعة عين، فتكون هي أولى منه.

(1)

"إعلام الموقّعين" 2/ 381 - 384.

ص: 335

[الثاني]: أنه يَحْتَمِل أن يكون اشتراؤه تلك الثمرة بعد تناهي طيبها، ودخول أوان جذاذها، فلا تحتاج إلى تبقية، ولا إلى سقي، فيكون المشتري مفرّطًا في تركها بعد ذلك على الشجر، فتكون من ضمانه، لا من ضمان البائع، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث:"ليس لكم إلا ذلك" فلو كانت الجوائح لا توضع، لكان لهم طلب بقيّة الدَّين، وجوابهم عن هذا بأن معناه: ليس لكم الآن إلا هذا، ولا يحلّ لكم مطالبته ما دام معسرًا، بل ينظر إلى ميسرة، خلاف الظاهر.

والحاصل أن وجوب وضع الجوائح هو الحقّ؛ لما ذكر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في مقدار الجوائح التي توضع:

قال ابن قُدامة رحمه الله: إنّ ظاهر المذهب؛ أنه لا فرق بين قليل الجائحة وكثيرها، إلا أنّ ما جرت العادة بتلف مثله؛ كالشيء اليسير، الذي لا ينضبط، فلا يلتفت إليه، قال أحمد: إني لا أقول في عشر ثمرات، ولا عشرين ثمرة، ولا أدري ما الثلث؟ ولكن إذا كانت جائحةً تُعرَفُ، الثلث، أو الربع، أو الخمس توضع.

وفيه رواية أخرى: أن ما كان دون الثلث، فهو من ضمان المشتري، وهو مذهب مالك، والشافعيّ في القديم؛ لأنه لا بُدَّ أن يأكل الطير منها، وتَنْثُرَ الريحُ، ويسقط منها، فلم يكن بدّ من ضابط واحد، فاصل بين ذلك، وبين الجائحة، والثلث قد رأينا الشرع اعتبره في مواضع، منها: الوصية، وعطايا المريض، وتساوي جراح المرأة وجراح الرجل إلى الثلث. قال الأثرم: قال أحمد: إنهم يستعملون الثلث في سبع عشرة مسألة، ولأن الثلث في حد الكثرة، وما دونه في حد القلة، بدليل قول النبيّ صلى الله عليه وسلم في الوصية:"الثلث، والثلث كثير"، متّفقٌ عليه، فيدل هذا على أنه آخِرُ حدّ الكثرة، فلهذا قدّر به.

ووجه الأول عموم الأحاديث، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح، وما دون الثلث داخل فيه، فيجب وضعه، ولأن هذه الثمرة لم يتم قبضها، فكان ما تَلِف منها من مال البائع، وإن كان قليلًا؛ كالتي على وجه الأرض، وما أكله،

ص: 336

أو سقط، لا يؤثر في العادة، ولا يسمى جائحة، فلا يدخل في الخبر، ولا يمكن التحرز منه، فهو معلوم الوجود بحكم العادة، فكأنه مشروط. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي القول بوضع الجائحة مطلقًا، سواء كان قليلًا، أو كثيرًا، إلا ما جرى العرف بالتسامح في تلف مثله، هو الأرجح؛ عملًا بإطلاق النصّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: قال ابن قُدامة: إذا ثبت هذا، فإنه إذا تلف شيء، له قدر خارج عن العادة، وُضِع من الثمن بقدر الذاهب، فإن تلف الجميع بطل العقد، ويرجع المشتري بجميع الثمن، وأما على الرواية الأخرى، فإنه يعتبر ثلث المبلغ، وقيل: ثلث القيمة، فإن تلف الجميع، أو أكثر من الثلث رجع بقيمة التالف كله من الثمن، وإذا اختلفا في الجائحة، أو قدر ما أُتْلِف، فالقول قول البائع؛ لأن الأصل السلامة، ولأنه غارم، والقول في الأصول قول الغارم

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3969]

(

) - (وَحَدَّثَنَا حَسَن الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، بِهَذَا الإسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(حَسَنٌ الْحُلْوَانيُّ) هو: الحسن بن عليّ بن محمد الخلّال، أبو عليّ، نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [11](ت 242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

2 -

(أَبُو عَاصِم) الضحّاك بن مَخْلَد الشيبانيّ النبيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 212) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

و"ابن جريج" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية أبي عاصم، عن ابن جريج هذه ساقها أبو عوانة في "مسنده" 3/ 333 فقال:

(1)

"المغني" 6/ 179 - 180.

ص: 337

وحدّثنا يزيد بن سنان، قثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن بعت من أخيك ثمرًا، فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مالًا من مال أخيك بغير حقّ؟ ". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3970]

(1555) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أنسٍ؛ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ ثَمَرِ النَّخْلِ حَتى تَزْهُوَ، فَقُلْنَا

(1)

لأَنس: مَا زَهْوُهَا؟ قالَ: تَحْمَرُّ، وَتَصْفَرُّ، أرَأيْتَكَ إِنْ مَنَعَ اللهُ الثَّمَرَةَ، بِمَ تَسْتَحِلُّ مَالَ أخِيكَ؟ ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أيُّوبَ) المقابريّ البغداديّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(إسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(حُمَيْد) بن أبي حميد الطويل، أبو عبيدة البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [5](ت 2 أو 143)(ع) تقدم في "الطهارة" 23/ 639.

والباقون تقدّموا في البابين الماضيين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (265) من رباعيّات الكتاب.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ) بن مالك رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ ثَمَرِ النَّخْلِ) أي: التي على رؤوسها (حَتى تَزْهُوَ) - بفتح أوله، من زهى يزهو، كغزا يغزو، وفي رواية للبخاريّ:"حتى تُزْهِيَ"، بضم أوله، من أزهى؛ أي: تحمرّ، أو تصفرّ، قال في "الفتح": قال الخطّابيّ: هذه الرواية هي الصواب، فلا يُقال في النخل: تَزْهُو، إنما يقال: تُزهي، لا غير، وأثبت غيره ما نفاه، فقال: زها: إذا طال، واكتمل، وأزهى: إذا احمرّ، واصفرّ. انتهى

(2)

.

(1)

وفي نسخة: "فقلت".

(2)

"الفتح" 5/ 675.

ص: 338

وقال المجد رحمه الله: زها النخلُ: طال، كأزهى، وزَهَى البُسْر: تلوّن، كأزهى، وزَهَّى. انتهى

(1)

.

وقال الفيوميّ رحمه الله: زها النخل يزهو زَهْوًا، والاسم الزُّهُوُّ بالضمّ: ظهرت الحمرة، والصُّفرة في ثمره، وقال أبو حاتم: وإنما يُسمّى زَهْوًا: إذا خَلَصَ لون الْبُسْرة في الحمرة، أو الصفرة، ومنهم من يقول: زها النخل: إذا نبت ثمره، وأزهى: إذا احمرّ، أو اصفرّ. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذكره المجد والفيّوميّ أن ما نفاه الخطّابيّ ثابت لغةً، وليس غلطًا، فيقال: زها النخل، وأزهى، وزهّى - بالتشديد -: إذا احمرّ، أو اصفرّ، والله تعالى أعلم.

(فَقُلْنَا) وفي بعض النسخ: "فقلتُ"، وبهذا يتبيّن أن السائل لأنس هو حميد، ومن معه (لأَنَسٍ) رضي الله عنه (مَا زَهْوُهَا؟) - بفتح الزاي، وسكون الهاء؛ أي: ما المراد بزهو النخل؟ وهذه الرواية صريحة في أن التفسير من أنس رضي الله عنه، وكذلك رواه أحمد عن يحيى القطّان، عن حميد، لكن قال:"قيل لأنس: ما تزهو؟ ".

ووقع في رواية النسائيّ من طريق عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك بلفظ:"قيل: يا رسول الله وما تُزهِي؟ قال: تحمرّ"، وهكذا أخرجه الطحاويّ من طريق يحيى بن أيوب، وأبو عوانة من طريق سليمان بن بلال كلاهما عن حُميد، وهذا ظاهر في الرفع.

ولا تعارض بين الروايتين؛ لأنه يجوز أن يرويه أنس رحمه الله مرفوعًا أحيانًا، ويُسْأل عنه أحيانًا فيفسّره، دون أن يرفعه، والله تعالى أعلم.

(قَالَ: تَحْمَرُّ، وَتَصْفَرُّ) يعني أنها لا تباع إلى أن يظهر احمرارها، واصفرارها.

وفيه دليل على أن المراد ببُدُوّ الصلاح، قدر زائد على ظهور الثمرة، وسبب النهي عن ذلك خوف الغرر؛ لكثرة الجوائح فيها، وقد بَيّن ذلك في حديث أنس المذكور هنا، فإذا احمرت، وأُكل منها، أَمِنت العاهة عليها، غالبًا، والله تعالى أعلم.

(1)

"القاموس المحيط" 4/ 340.

(2)

"المصباح" 1/ 258.

ص: 339

("أَرَأَيْتَكَ إِنْ مَنَعَ اللهُ الثَّمَرَةَ) أي: من الإدراك، وفي الرواية التالية:"إذا منع الله الثمرة". وقال القرطبيّ: أي إذا مَنَعَ تكاملها، وطِيبها؛ لأن الثمرة قد كانت موجودة، مُزهية حين البيع، كما قال في الرواية الأخرى:"إن لم يُثمرها الله" أي: لم يُكمل ثمرتها. انتهى

(1)

.

(بِمَ) أي: بأيّ وجه؛ أي: في مقابلة أيّ شيء (تَسْتَحِلُّ مَالَ أَخِيكَ؟ ") أي: الثمن الذي يدفعه في مقابلة هذه الثمرة التالفة، يعني أنه لو تَلِفَت الثمرة، لانتَفَى في مقابلتها العوضُ، فكيف تأكله بغير عوض؟ والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [25/ 3970 و 3971 و 3972](1555)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1488) و"البيوع"(2195 و 2197 و 2199 و 2208)، و (أبو داود) في "البيوع"(3271)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(6228)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 264)، و (ابن ماجه) في "التجارات"(2217)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 618)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 148 - 149)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 115)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4990)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(2/ 24)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(604)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 300 و 301) و"الصغرى"(5/ 86) و"المعرفة"(4/ 321)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2081)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أنه استُدِلّ به على وضع الجوائح في الثمر، يُشتَرى بعد بُدُوّ صلاحه، ثم تصيبه جائحة، وقد اختلف فيه العلماء، وقد مضى بيانه مستوفًى في شرح حديث جابر رضي الله عنه المذكور قبل هذا.

(1)

"المفهم" 4/ 426.

ص: 340

2 -

(ومنها): جواز بيع الثمار، ولا خلاف فيه في الجملة، وإنما الخلاف فيما إذا كان قبل بُدُوّ الصلاح، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى، وبالله تعالى التوفيق.

3 -

(ومنها): تحريم أخذ مال المسلم بغير حقّ.

4 -

(ومنها): أن هذا دليل على أن الحكم يُجرى على الغالب؛ لأن تطرُّق التلف إلى ما بدا صلاحه ممكن، وعدم التطرق إلى ما لم يبد صلاحه ممكن، فأنيط الحكم بالغالب في الحالتين، والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الرابعة): ظاهر رواية المصنّف هنا أن قوله: "أرأيت إن منع الله الثمرة إلخ" من تمام قول أنس رضي الله عنه، لكن الرواية الثالثة من طريق محمد بن عبّاد، عن الدراورديّ، عن حميد بلفظ:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: إن لم يُثمرها الله فبم يستحلّ أحدكم مال أخيه"، صريحة في كونه مرفوعًا، وكذا هو عند البخاريّ من طريق مالك، عن حميد، ولفظه:"فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟ "، فهذا صريح في الرفع.

قال في "الفتح": قوله: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرأيت إذا منع الله الثمرة" الحديث، هكذا صرح مالك، برفع هذه الجملة، وتابعه محمد بن عَبّاد، عن الدَّرَاوردي، عن حميد

(1)

، مقتصرًا على هذه الجملة الأخيرة، وجزم الدارقطني، وغير واحد، من الحفاظ، بأنه أخطأ فيه، وبذلك جزم ابن أبي حاتم في "العلل" عن أبيه، وأبي زرعة، والخطأ في رواية عبد العزيز، من محمد بن عباد، فقد رواه إبراهيم بن حمزة، عن الدراورديّ، كرواية إسماعيل بن جعفر - يعني المذكورة هنا -.

ورواه معتمر بن سليمان، وبشر بن المفضل، عن حميد، فقال فيه: قال: "أفرأيت" إلخ، قال: فلا أدري، أنس قال:"بم يستحل؟ "، أو حَدّث به عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أخرجه الخطيب، في "المدرج"، ورواه إسماعيل بن جعفر، عن حميد، فعطفه على كلام أنس، في تفسير قوله:"تُزهي"، وظاهره الوقف، وأخرجه الْجَوْزقيّ من طريق يزيد بن هارون، والخطيب من طريق أبي خالد

(1)

هي رواية مسلم الثالثة هنا.

ص: 341

الأحمر، كلاهما عن حميد، بلفظ: قال أنس: "أرأيت إن منع الله الثمرة" الحديث، ورواه ابن المبارك، وهشيم، كما تقدم آنفًا عن حميد، فلم يذكر هذا القدر المختلف فيه، وتابعهما جماعة من أصحاب حميد عنه، على ذلك.

قال الحافظ: وليس في جميع ما تقدم، ما يمنع أن يكون التفسير مرفوعًا؛ لأن مع الذي رفعه زيادة، على ما عند الذي وقفه، وليس في رواية الذي وقفه، ما ينفي قول من رفعه، وقد روى مسلم من طريق أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، ما يُقَوِّي رواية الرفع في حديث أنس رضي الله عنه، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو بعت من أخيك ثمرًا، فأصابته عاهة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك، بغير حق؟ ". انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو بحث نفيس جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3971]

(

) (حَدَّثَنِي أبو الطَّاهِر، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أخْبَرَنِي مَالِكٌ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيل، عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى تُزْهِيَ، قَالُوا: وَمَا تُزْهِي؟ قَالَ: تَحْمَرُّ، فَقَالَ: "إذَا مَنَعَ اللهُ الثّمَرَةَ، فَبِمَ تَسْتَحِلُّ مَالَ أَخِيكَ؟ ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب، وشرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الحديث الماضي، والله تعالى وليّ التوفيق.

[تنبيه]: انتقد الدارقطنيّ رحمه الله رواية مالك هذه، فقال: وقد خالف مالكًا جماعة، منهم إسماعيل بن جعفر، وابن المبارك، وهشيم، ومروان، ويزيد بن هارون، وغيرهم، قالوا فيه: قال أنس: "أرأيت إن منع الله الثمر

". انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: أراد الدارقطنيّ أن رفع قوله: "أرأيت إن منع الله

(1)

"التتبع" ص 271 بنسخة دراسة الشيخ ربيع المدخليّ.

ص: 342

الثمرة

" الحديث خطأ، والصواب أنه موقوف من قول أنس رضي الله عنه، ثم ظاهر كلامه يوهم أن مالكًا تفرّد برفعه، وليس كذلك، فقد تابعه يحيى بن أيوب، عن حميد، وسليمان بن بلال، عن حميد، ومحمد بن عبّاد، عن الدراورديّ، عن حميد.

فأما رواية يحيى بن أيوب، عن حميد، فأخرجها الطحاويّ في "معاني الآثار"

(1)

.

وأما رواية سليمان بن بلال، عن حميد، فأخرجها أبو عوانة في "مسنده" 3/ 334.

وأما رواية محمد بن عبّاد، عن الدراوديّ، عن حميد، فهي الرواية التالية عند مسلم.

فتبيّن بهذا أن مالكًا لم ينفرد برفعها، فالأرجح صحة الرفع، كما هو رأي الشيخين، حيث أخرجا رواية مالك في "صحيحيهما"، وإلى هذا مال ابن عبد البرّ

(2)

، والقاضي عياض

(3)

.

ومما يؤيّد هذا رواية جابر رضي الله عنه المتقدّمة الصريحة في الربع، حيث قال:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو بعت من أخيك ثمرًا، فأصابته جائحةٌ، فلا يحلّ لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك بغير حقّ؟ ".

والحاصل أن الحديث صحيح مرفوعًا بهذه الزيادة، والله تعالى أعلم.

[3972]

(

) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ؛ أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنْ لَمْ يُثْمِرْهَا اللهُ، فَبِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟ ").

(1)

"معاني الآثار" 4/ 24.

(2)

راجع: "التمهيد" 2/ 190 - 191.

(3)

راجع: "إكمال المعلم"(5/ 218)، فقد قال فيه معلّقًا على رواية جابر رضي الله عنه: وقوله: "إن بعت من أخيك ثمرًا، فأصابته جائحة، فلا يحلّ لك أن تأخذ منه شيئًا، بِمَ تأخذ مال أخيك بغير حقّ؟ " قال القاضي: وهذا يدل أن هذه اللفظة في الحديث الآخر: "أرأيت إن منع الله الثمرة" من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو بمعناه

وهذا الحديث الأول - يعني حديث جابر - يرفع الإشكال، ويصحّح رواية مالك. انتهى.

ص: 343

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَبْدُ الْعَزِيز بْنُ مُحَمّدِ) بن عُبيد الدّراورْديّ، أبو محمد الْجُهنيّ مولاهم المدنيّ، صدوقٌ كان يُحدّث من كُتب غيره، فيُخطئ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

والباقون ذُكروا في الباب، و"محمد بن عبّاد" بن الزِّبْرِقان ذُكر في حديث جابر أولَ الباب.

[تنبيه]: انتقد الدارقطنيّ رحمه الله هذه الرواية، فقال في "التتبّع": وهذا وَهِمَ فيه ابن عبّاد على الدراورديّ حين سمعه ابن عبّاد منه؛ لأن إبراهيم بن حمزة رواه عن الدراورديّ، عن حُميد، عن أنس:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى تزهو، قلنا لأنس: وما تزهو؟ قال: تحمرّ، قال: أرأيت إن منع الله الثمر، فبم يستحلّ مال أخيه؟ "، وهو الصواب، فأما ابن عبّاد، فإنه أسقط كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأتى بكلام أنس، ورفعه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو خطأ قبيحٌ. انتهى كلام الدارقطنيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم أن الأرجح صحة كون قوله: "أرأيت إن منع الله الثمر

إلخ " مرفوعًا، كما صححه الشيخان، فأخرجاه في "صحيحيهما"

(2)

، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

397 [3](1554) - (حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْحَكَم، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ دِينَارٍ، وَعَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ الْعَلَاءِ - وَاللَّفْظُ لِبِشْرٍ - قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ الأَعْرَج، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَتِيقٍ، عَنْ جَابِرٍ؛ أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِح، قَالَ أبو إِسْحَاقَ - وَهْوَ صاحِبُ مُسْلِم -: حَدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ سُفْيَانَ بِهَذَا).

(1)

"التتبّع" ص 270 بنسخة دراسة الشيخ ربيع المدخلي.

(2)

راجع ما كتبه الشيخ ربيع المدخلي في دراسته على: "التتبع" للدارقطنيّ، فقد أجاد، وأفاد.

ص: 344

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ) بن حبيب بن مِهْران الْعَبْديّ، أبو عبد الرحمن النيسابوريّ، ثقةٌ زاهدٌ فقيهٌ [10](ت 7 أو 238)(خ م س) تقدم في "المقدمة" 6/ 37.

2 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ دِينَارٍ) التمّار، أبو إسحاق البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 232)(م) تقدم في "الإيمان" 41/ 272.

3 -

(عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ الْعَلَاءِ) بن عبد الجبّار العطّار، أبو بكر البصريّ، مولى الأنصار، سكن مكة، لا بأس به، من صغار [10].

روى عن أبيه، وابن عيينة، وابن مهديّ، ومروان بن معاوية الفزاريّ، ووكيع، وأبي سعيد مولى بني هاشم، وبشر بن السريّ، وغيرهم.

وروى عنه مسلم، والترمذيّ، والنسائيّ، وروى النسائي أيضًا عن زكريا السِّجْزيّ، عنه، والحسن بن محمد بن الصباح الزعفرانيّ، وهو من أقرانه، وأبو حاتم، وابن خزيمة، وغيرهم.

قال سلمة بن شَبيب، عن أحمد: رأيته عند ابن عيينة حسن الأخذ، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال مرة: شيخٌ، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وقال مرةً: لا بأس به، وقال العجليّ: بصريّ ثقةٌ سكن مكة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان مُتقنًا، سمعت ابن خزيمة يقول: ما رأيت أسرع قراءة منه، ومن بُندار.

قال محمد بن إسحاق السرّاج: مات بمكة أول جمادى الأولى سنة (248).

تفرّد به المصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم (1554)، و (1935) وأعاده بعده، و (1969)، و (2026)، و (2067).

4 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم قبل بابين.

5 -

(حُمَيْدٌ الأَعْرَجُ) ابن قيس، أبو صفوان المكيّ القارئ، ثقةٌ [6](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "الحج" 10/ 2881.

6 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ عَتِيقٍ) المدنيّ، صدوقٌ [4](م د س ق) تقدم في "البيوع" 18/ 3923.

و"جابر رضي الله عنه" ذُكِر في الباب.

ص: 345

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه (أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أمرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ) ولفظ النسائيّ: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وَضَعَ الجوائح"، و"الجوائح" جمع جائحة: وهي الآفة، وتقدم البحث عنها في أول الباب، ومعنى قوله:"أمر بوضع الجوائح" أي: أمر بإسقاطها، وعدم المطالبة بها، يعني أن من اشترى ثمارًا، فأصابتها آفة سماويّة؛ كالبرد - بفتحتين -، والبرد - بفتح، فسكون - والحرّ الشديدين، والجراد، ونحو ذلك، من الآفات التي تَعْرِض للثمار، فإنه لا يحلّ للبائع أن يُطالَب بثمنها، وقد تقدّم بيان اختلاف العلماء في وضع الجوائح قريبًا، فلا تنسَ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وقوله: (قَالَ أَبُو إسْحَاقَ) هذا ملحق من تلاميذ أبي إسحاق الراوي الكتاب عن مسلم، وهو: إبراهيم بن محمد بن سفيان النيسابوريّ الفقيه الزاهد المتوفى في رجب سنة (308) وقد تقدّمت ترجمته في "المقدّمة" 6/ 73.

وقوله: (وَهْوَ صَاحِبُ مُسْلِم) يعني أنه تلميذه، وراوي هذا الكتاب عنه (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرِ) بنً الحكم العبديّ، أبو محمد النيسابوريّ، من صغار [10](ت 260) أو بعدها (خ م د ق) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 99، وهو ولد بشر بن الحكم شيخ مسلم المذكور قبله.

(عَنْ سُفْيَانَ) بن عيينة (بِهَذَا) الحديث، ومراد أبي إسحاق بهذا بيان أنه علا برجل، فصار في رواية هذا الحديث كشيخه مسلم، بينه وبين سفيان بن عيينة واحد فقط، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقد تقدّم في ترجمته عن إبراهيم بن أبي طالب أنه قال: سمعت عبد الرحمن بن بشر يقول: حَمَلني بشر بن الحكم على عاتقه في مجلس ابن عيينة، فقال: يا معشر أصحاب الحديث أنا بشر بن الحكم بن حبيب، سمع أبي الحكم بن حبيب من سفيان، وقد سمعت أنا منه، وحَدّثتُ عنه بخراسان،

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 218.

ص: 346

وهذا ابني عبد الرحمن قد سمع منه. انتهى

(1)

.

مسألتان كمعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [25/ 3973](1554)، و (أبو داود) في "البيوع"(3274)، و (النسائيّ) في "البيوع) (7/ 265)، و (الشافعيّ) في "مسنده" (1/ 145)، و (أحمد) في "مسنده" (3/ 309)، و (ابن الجارود) في "المنتقى" (3374)، و (الحاكم) في "المستدرك" (2/ 40 و 41)، و (ابن حبّان) في "صحيحه" (5031)، و (أبو عوانة) في "مسنده" (3/ 307 و 335 و 336)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار" (1/ 137)، و (الدارقطنيّ) في "سننه" (3/ 31)، و (البيهقيّ) في "الكبرى" (5/ 306) و"الصغرى" (5/ 90) و"المعرفة" (4/ 332 و 333)، و (البغويّ) في "شرح السنّة" (2083)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(26) - (بَابُ الْحَثِّ عَلَى وَضْعِ بَعْضِ الدَّيْنِ)

(2)

[3974]

(1556) - (حَدَّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنا لَيْثٌ، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ الله، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، قَالَ: أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: في ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا، فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ"، فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْه، فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاء دَيْنِه، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِغُرَمَائِهِ: "خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ").

(1)

"تهذيب التهذيب" 2/ 491.

(2)

هكذا ترجم القرطبيّ رحمه الله، وترجم النوويّ بـ"باب استحباب الوضع من الدين، وهما متقاربان.

ص: 347

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، تقدّم قبل باب.

2 -

(لَيْثُ) بن سعد الإمام المصريّ المشهور، تقدّم أيضًا قبل باب.

3 -

(بُكَيْرُ) بن عبد الله بن الأشجّ المدنيّ، نزيل مصر، ثقة [5](ت 120) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.

4 -

(عِيَاضُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن سَعْد بن أبي سَرْح القرشيّ العامريّ المكيّ، ثقة [3] تقدم في "الإيمان" 36/ 250.

5 -

(أبو سعيد الخدريّ) سعد بن مالك بن سنان رضي الله تعالى عنهما تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 485. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمصريين، غير الصحابيّ، فمدنيّ، وكلّ من قتيبة، وبُكير، وعياض، ممن دخل مصر أيضًا.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو سعيد رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1140) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: أُصِيبَ رَجُلٌ) قيل: هو معاذ بن جبل رضي الله عنه، قاله النوويّ، وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا الرجل هو معاذ بن جبل، وكان غرماؤه يهودَ، فكلمهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في أن يخفّفوا عنه، أو يُنظروه، فأبوا، فحكم النبيّ صلى الله عليه وسلم بما ذُكر، وظاهر هذا الحديث أن الجائحة أتت على كل الثمرة، حتى لم يَبْقَ له منها ما يباع عليه، فقد ثبتت عسرته، فحكمه الإنظار إلى الميسرة، كما قال الله تعالى

(1)

، فمن كان كذلك فلا يحبس مثله خلافًا لشريح؛ فإنه قال: يحبس أبدًا، ولا يلازَم، خلافًا لأبي حنيفة؛ فإنه قال: يلازَم

(1)

يعني قوله: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} الآية [البقرة: 280].

ص: 348

لإمكان أن يظهر له مال، ولا يكلَّف أن يكتسب، لا هو ولا مستولدته. وهذا كلّه مردود بنصّ القرآن، وبقوله صلى الله عليه وسلم لغرماء معاذ:"خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك"، ولا يجب أن يُتَصَدَّق عليه، ومن فعل ذلك، أو حضَّ عليه كان خيرًا له، وفيه ثواب كثير؛ لأنه سعى في تخليص ذمة المسلم من المطالبة المستقبلة، أو من الإثم اللاحق بتأخير الأداء عند الأمكان إن كان قد وقع ذلك، وفعل النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك بمعاذ ليتبيّن خصومه أنه ليس عنده شيء، ولتطيب قلوبهم بما أخذوا، فيسهل عليهم ترك ما بقي، وليخفف الدَّين عن معاذ، وليتشارك المتصدقون في أجر المعونة وثوابها، وليكون ذلك سُنَّة حسنةً.

وفيه ما يدلّ على نسخ بيع الجزء في الدَّين، كما كان في أول الإسلام، وعلى نسخه تدل الآية، والإجماع. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

[تنبيه]: قصّة معاذ رضي الله عنه المذكورة ساقها عبد الرزّاق في "مصنّفه" 8/ 268 فقال:

(15177)

- أخبرنا

(2)

عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن الزهريّ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه

(3)

، قال: كان معاذ بن جبل رجلًا سمحًا شابًّا جميلًا، من أفضل شباب قومه، وكان لا يُمسك شيئًا، فلم يزل يَدَّانُ حتى أَغْلَق ماله كلَّه من الدَّين، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم يطلب إليه أن يسأل غرماءه أن يضعوا له، فأبوا، فلو تركوا لأحد من أجل أحد تركوا لمعاذ بن جبل من أجل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فباع النبيّ صلى الله عليه وسلم كلَّ ماله في دَينه، حتى قام معاذ بغير شيء، حتى إذا كان عام فتح مكة بعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم على طائفة من اليمن أميرًا؛ لِيَجْبُره، فمكث معاذ باليمن، وكان أوّلَ من تجر في مال الله هو، ومكث حتى أصاب، وحتى قُبِض النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما قُبض، قال عمر لأبي بكر: أرسل إلى هذا الرجل، فدع له ما يعيشه، وخذ سائره منه، فقال أبو بكر: إنما بعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم ليجبره، ولست بآخذ منه شيئًا إلا أن يعطيني، فانطلق عمر إلى معاذ؛ إذ لم

(1)

"المفهم" 4/ 427.

(2)

قائل "أخبرنا" هو الراوي عن عبد الرزّاق، فتنبّه.

(3)

وهذا إسناد صحيح.

ص: 349

يطعه أبو بكر، فذكر ذلك عمر لمعاذ، فقال معاذ: إنما أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجبرني، ولست بفاعل، ثم لقي معاذٌ عمرَ، فقال: قد أطعتك، وأنا فاعل ما أمرتني به، إني أريت في المنام أني في حَوْمة ماء، قد خَشِيت الغرقَ، فخلَّصتني منه يا عمر، فأتى معاذ أبا بكر، فذكر ذلك له، وحَلَف له أنه لم يكتمه شيئًا حتى بَيَّن له سوطه، فقال أبو بكر: لا والله لا آخذه منك، قد وهبته لك، قال عمر: هذا حين طاب، وحَلَّ، قال: فخرج معاذ عند ذلك إلى الشام.

قال معمر

(1)

: فأخبرني رجل من قريش، قال: سمعت الزهري يقول: لما باع النَّبيّ صلى الله عليه وسلم مال معاذ أوقفه للناس، فقال:"من باع هذا شيئًا فهو باطل". انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: كون الرجل المبهم في هذا الحديث هو معاذ بن جبل رضي الله عنه محلّ نظر؛ فإن سياق القصّة بعيد عن سياق حديث الباب، فتأمل، والله تعالى أعلم.

(في عَهْدِ) أي: زمان (رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، في ثِمَارٍ) متعلِّق بـ "أُصيب"(ابْتَاعَهَا) أي: اشتراها، يعني أنه لحقه خسران، بسبب إصابة آفة ثمارًا اشتراها، ولم ينقُد ثمنها (فَكَثُرَ) بضم الثاء المثلّثة (دَيْنُهُ) أي فطالبه البائع بثمن تلك الثمرة، وكذا طالبه بقيّة غرمائه، وليس له مال يؤديه (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) لأصحابه، أو لقوم ذلك الرجل:("تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ) أي: على الرجل المدين {إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف: 88](فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ) فيه أن المسألة تحلّ لمثله (فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ) أي: ما تصدّقوا عليه (وَفَاءَ دَينِهِ) أي: لكثرته (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: لغرمائه: ("خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ) أي: مما تصدّق الناس عليه (وَلَيْسَ لَكُمْ اِلا ذَلِكَ") أي: إلا أخْذ ما وجدتم، والمعنى: أنه ليس لكم مطالبته بالباقي، بل الواجب عليكم مسامحته، أو إنظاره إلى الميسرة، كما قال عز وجل:{فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} الآية [البقرة: 280].

وقال السنديّ رحمه الله في حاشيته على النسائيّ": ظاهره أنه وضع الجائح، بمعنى أنه لا يؤخذ منه ما عجز عنه.

(1)

وهذا الإسناد فيه مبهم، وفيه إرسال أيضًا، فتنبّه.

ص: 350

ويَحْتَمِل أن المعنى: ليس لكم في الحال إلا ذلك؛ لوجوب الإنظار في غيره؛ لقوله تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} ، وحينئذ فلا وضع أصلًا، وبالجملة، فهذا الحديث دليل لمن يقول بعدم الوضع، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد عرفت فيما سبق أن هذا الحديث محمول على أنها تَلِفت بعد أوان الجذاذ، وتفريط المشتري في تركها بعد ذلك على الشجر، فإنها حينئذ تكون من ضمان المشتري، وليس له حقّ في الوضع، فلا يكون الحديث معارضًا لتلك الأحاديث الكثيرة الموجبة وضع الجوائح، وعلى تقدير عدم حمله على هذه الصورة، فتلك الأحاديث ترجّح عليه؛ لقوّتها، فتأمل بالإنصاف.

[تنبيه]: زاد النسائيّ رحمه الله في "السنن الكبرى" بعد إيراده حديث أبي سعيد رضي الله عنه هذا، ما نصّه: قال أبو عبد الرحمن: هذا أصلح من حديث سليمان بن عَتِيق. انتهى.

وأشار به إلى ما تقدَّم من الكلام في سليمان بن عتيق، فقد ضعّفه بعضهم، إلا أن مسلمًا أخرج له الحديث المذكور، وغيره، كما سبق بيانه، ويشهد لحديثه حديث أنس رضي الله عنه، وحديثًا جابر رضي الله عنه المذكوران في الباب الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [26/ 3974 و 3975](1556)، و (أبو داود) في "البيوع"(3469 و 3470)، و (التِّرمذيّ) في "الزكاة"(655)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 264 - 265 و 312) و "الكبرى"(4/ 19 و 55)، و (ابن ماجه) في "التجارات"(2219 و "الأحكام" (2356)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" (5/

(1)

"حاشية السنديّ على النسائيّ" 7/ 265 - 266.

ص: 351

13)، و (أحمد) في "مسند"(3/ 36 و 58)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 252)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5033)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(639)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 306)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 336)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 47)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(3/ 30 و 31)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 305 و 306 و 6/ 49 و 50) و "المعرفة"(4/ 306)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2135)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ما كان عليه النَّبيّ صلى الله عليه وسلم من الرأفة، والرحمة بأمته، حيث يهتمّ بتدبير شؤونهم، فيقوم بمساعدة الفقراء، والمحتاجين، إذا كان عنده شيء من المال، وإلا أمر أصحابه المياسير رضي الله عنهم أن يساعدوهم حتى يقضوا ديونهم، ويسدّوا حاجاتهم.

2 -

(ومنها): التعاون على البرّ، والتقوى، ومواساة المحتاج، ومن عليه دَين، والحثّ على الصدقة.

3 -

(ومنها): جواز المسألة لمن أصاب ماله جائحة، بقدر ما يؤدّي به دينه، ويسدّ حاجته.

4 -

(ومنها): أن المعسر لا تحلّ مطالبته، ولا ملازمته، ولا سَجْنه، وبه قال الشافعيّ، ومالك، وجمهور العلماء، وحكي عن شُريح حبسه حتى يقضي الدين، وإن كان قد ثبت إعساره، وعن أبي حنيفة: تجوز ملازمته.

5 -

(ومنها): أنه يسلّم إلى الغرماء جميع مال المفلس، ما لم يَقضِ دَينهم، ولا يُترك للمفلس سوى ثيابه، ونحوها. قاله النوويّ

(1)

.

6 -

(ومنها): ما قال القرطبي رحمه الله: قوله: "خذوا ما وجدتم" يدلُّ على أن المفلس يؤخذ منه كل ما يوجد ما له، ويُستثنى من ذلك ما كان من ضرورته، ورَوَى ابن نافع عن مالك: أنه لا يترك له إلا ما يواريه، والمشهور: أنه يترك له كسوته المعتادة، ما لم يكن فيها فضل، ولا يُنْزَع منه رداؤه، إن كان ذلك مُزريًا به؛ أي: منقصًا، وفي ترك كسوة زوجته، وبيع كتبه إن كان

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 217 - 218.

ص: 352

عالمًا خلاف، ولا يُترك له مسكن، ولا خاتم، ولا ثوب جُمْعَته، ما لم تقِلَّ قيمتها. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3975]

(

) - (حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَني عَمْرُو بْنُ الْحَارِث، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجّ، بِهَذَا الإسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى) بن ميسرة الصَّدَفيّ، أبو موسى المصريّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 264) وله (96) سنةً (م س ق) تقدم في "الإيمان" 75/ 393.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) تقدَّم في الباب الماضي.

3 -

(عَمْرُو بْنُ الْحارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقة حافظ فقيه [7] مات قبل (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.

و"بُكير بن الأشجّ" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية عمرو بن الحارث، عن بُكير بن الأشجّ هذه ساقها الحاكم في "المستدرك" 2/ 47 فقال:

(2275)

- حدّثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا بحر بن نصر الخولانيّ، حدّثنا عبد الله بن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن بُكير بن الأشج، عن عياض بن عبد الله، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها، فكثُر دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تصدقوا عليه"، فتصدقوا عليه، فلم يبلغ ذلك وفاءَ دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك"، هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه

(1)

. انتهى، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3976]

(1557) - (وَحَدَّثَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُويس، حَدَّثَنِي أَخِي، عَنْ سُلَيْمَانَ - وَهُوَ ابْنُ بِلَالٍ - عَنْ

(1)

فيه نظر لا يخفى، فقد أخرجه مسلم هنا، فتنبّه.

ص: 353

يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي الرِّجَالِ مُحَمَدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ أَنَّ أمهُ عَمْرَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَن، قَالَتْ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: سَمِعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صوْتَ خُصُومٍ بِالْبَاب، عَالِيَةً أَصْوَاتُهُمَا، وَإذَا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الآخَرَ، وَيَسْتَرْفِقُهُ فِي شَئ، وَهُوَ يَقُولُ: وَاللهِ لَا أفعَلُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمَا، فَقَالَ:"أينَ الْمُتَألي عَلَى اللهِ لَا يَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ؟ "، قَالَ: أنا يَا رَسُولَ الله، فَلَهُ أَيُ ذَلِكَ أَحَبٍّ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(غيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا) قال النوويّ رحمه الله: قال جماعة من الحفاظ: هذا أحد الأحاديث المقطوعة في "صحيح مسلم"، وهي اثنا عشر حديثًا، سبق بيانها في الفصول المذكورة في مقدمة هذا الشرح؛ لأن مسلمًا لم يذكر من سمع منه هذا الحديث.

قال القاضي عياض: إذا قال الراوي: حدّثني غير واحد، أو حدّثني الثقة، أو حدّثني بعض أصحابنا، ليس هو من المقطوع، ولا من المرسل، ولا من المعضل، عند أهل هذا الفنّ، بل هو من باب الرواية عن المجهول، وهذا الذي قاله القاضي هو الصواب، لكن كيف كان فلا يُحتجّ بهذا المتن من هذه الرواية، لو لم يثبت من طريق آخر، ولكن قد ثبت من طريق آخر، فقد رواه البخاري في "صحيحه" عن إسماعيل بن أبي أويس، ولعل مسلمًا أراد بقوله:"غيرُ واحد" البخاريّ وغيره، وقد حَدَّث مسلم عن إسماعيل هذا من غير واسطة، في "كتاب الحج"، وفي آخر "كتاب الجهاد"، وروى مسلم أيضًا عن أحمد بن يوسف الأزديّ، عن إسماعيل في "كتاب اللعان"، وفي "كتاب الفضائل"، والله أعلم. انتهى كلام النووي رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح": هذا الحديث أخرجه مسلم قال: حدّثنا غير واحد، عن إسماعيل بن أبي أويس، فعده بعضهم في المنقطع، والتحقيق أنه متصل في إسناده مبهم، وقد رواه عن إسماعيل أيضًا محمد بن يحيى الذهْليّ، أخرجه أبو عوانة، والإسماعيليّ، وغيرهما من طريقه، وأخرجه أبو عوانة أيضًا من طريق

(1)

"شرح النووي" 10/ 219.

ص: 354

إبراهيم بن الحسين الكسائيّ، وإسماعيل بن إسحاق القاضي، ورويناه في "المحامليّات" عن عبد الله بن شَبِيب، فيَحْتَمِل أن يُفَسر من أبهمه مسلم بهؤلاء، أو بعضِهم، ولم ينفرد به إسماعيل، بل تابعه أيوب بن سفيان، عن أبي بكر بن أبي أويس، أخرجه الإسماعيلي أيضًا، ولا انفرد به يحيى بن سعيد، فقد أخرجه ابن حبان من طريق عبد الرحمن بن أبي الرجال، عن أبيه. انتهى

(1)

.

2 -

(إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُويس) عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحيّ، أبو عبد الله المدنيّ، صدوق أخطأ في أحاديث من حفظه [10](ت 226)(خ م د ت ق) تقدم في "الحج" 17/ 2921.

3 -

(أَخُوهُ) عبد الحميد بن عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحيّ، أبو بكر بن أبي أُويس المدنيّ الأعشى، مشهور بكنيته كأبيه، ثقةٌ [9].

رَوَى عن أبيه، وعم جدّه الربيع بن مالك، وابن أبي ذئب، وابن عجلان، ومالك بن أنس، وسليمان بن بلال، والثوريّ، وهشام بن سعد، وغيرهم.

ورَوى عنه أخوه إسماعيل، وأيوب بن سليمان بن بلال، وإسحاق بن راهويه، ومحمد بن رافع، ومحمد بن سعد، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وغيرهم.

قال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: ثقة، وقال آخر، عن يحيى: ليس به بأسٌ، وقال الآجريّ: قدّمه أبو داود على إسماعيل تقديمًا شديدًا، وقال النسائيّ: ضعيفٌ، وقال الحاكم عن الدارقطنيّ: حجةٌ، وقال الأزديّ: وما أظنه ظن إلا أنه غيره، فإنه إنما أطلق ذلك في أبي بكر الأعشى، وهو هو، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات ببغداد سنة اثنتين ومائتين.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والتِّرمذيُّ، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

4 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) المدنيّ، تقدَّم قريبًا.

(1)

"الفتح" 6/ 587 "كتاب الصلح" رقم (2705).

ص: 355

5 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) الأنصاريّ، تقدَّم أيضًا قريبًا.

6 -

(أَبُو الرجالِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن حارثة بن النُّعمان الأنصاريّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ [5](خ م س ق) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 46/ 1890.

7 -

(أمهُ عَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن سعد بن زُرَارة الأنصاريّة المدنية، ثقة [3] ماتت قبل المائة، ويقال: بعدها (ع) تقدمت في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 417.

8 -

(عَائِشَةُ) بنت أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهما أم المؤمنين، أفقه النساء مطلقًا، وأفضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، إلا خديجة، ففيها خلاف شهير، ماتت سنة (57) على الصحيح (ع) تقدَّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه مسلسل بالمدنيين غير شيوخه المبهمين.

2 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: يحيى، وأبو الرجال، وأمه عمرة، ورواية الأولين من رواية الأقران؛ لأنهما من الطبقة الخامسة.

3 -

(ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) من الحديث.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي الرجَالِ) بكسر الراء، وتخفيف الجيم: لقبٌ بصورة الكنية؛ لُقّب بها؛ لأنه وُلد له عشرة من الذُكور، وبلغوا مبلغ الرجال، وهو من صغار التابعين، وكذا الراوي عنه، وقوله:(مُحَمَدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بالجرِّ بدل من "أبي الرجال"(أَن أُمَّهُ عَمْرَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) الأنصاريّة (قَالَتْ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها (تَقُولُ: سَمِعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَوْتَ خُصُوم) بالضمّ: جمع خَصْم بفتح، فسكون، قال الفيّوميّ رحمه الله: الْخَصْم: يقع على المفرد وغيره، والذكر والأنثى بلفظ واحد، وفي لغة يُطابِقُ في التثنية والجمع، ويُجمَع

ص: 356

على خُصُوم، وخِصَار، مثلُ بحر، وبُحور، وبِحَار. انتهى

(1)

. وقوله: (بِالْبَابِ) متعلّقٌ بحال مقدّر؛ أي: كونهما كائنين بالباب، والمراد: باب حُجرة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، وقوله:(عَالية أَصْوَاتهمَا) يجوز جر "عالية" صفة لـ "خصوم"، ونصبه على الحال، و "أصواتهما" مرفوع على الفاعليّة لعالية؛ لأنه اسم الفاعل يعمل عمل فعله، إذا اعتمد، وقد اعتمد هنا على الموصوف، قال في "الخلاصة":

كَفِعْلِهِ اسْمُ فَاعِل فِي الْعَمَلِ

إِنْ كَانَ عَنْ مُضِيِّهِ بِمَعْزِلِ

وَوَليَ اسْتِفْهَامًا أَوْ حَرْفَ نِدَا

أَوْ نَفْيًا أَوْ جَا صِفَةً أَوْ مُسْنَدَا

ويجوز رفع "عالية" خبرًا مقدّمًا لـ "أصواتهما"، والجملة حال، وإنما ثنى الضمير مع أنه يعود إلى الجمع باعتبار أنَّهما خصمان، أو على القول بأن أدنى الجمع اثنان.

ووقع في رواية البخاريّ بلفظ: "عاليةً أصواتهم"، فقال في "الفتح": قوله: "عالية أصواتهم" في رواية: "أصواتهما"، وكأنه جُمع باعتبار من حضر الخصومة، وثُنِّي باعتبار الخصمين، أو كأن التخاصم من الجانبين بين جماعة، فجُمِع، ثم ثُنِّي باعتبار جنس الخصم، وليس فيه حجة لمن جَوَّز صيغة الجمع بالاثنين كما زعم بعض الشراح. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "وليس فيه حجة إلخ" بلى فيه حجة ظاهرة، وقد حقّقت هذه المسألة في "التحفة المرضيّة"، و "شرحها"، ورجّحت القول بأن أدنى الجمع اثنان؛ لوضوح أدلّته، فراجعه تستفد

(2)

، وبالله تعالى التوفيق.

(وَإذَا أَحَدُهُمَا)"إذا" هنا فُجائيّةٌ، و "أحدهما" مبتدأ، خبره قوله:"يستوضع"، وإنما قال:"أحدهما" بتثنية الضمير؛ لِمَا قدّمناه من أنه باعتبار الخصمين.

(يَسْتَوْضِعُ الآخَرَ) أي: يطلب منه الوضيعة؛ أي: الحطيطة من الدَّين (ويسْتَرْفِقُهُ) أي: يطلب منه أن يرفق به في الاستيفاء، والمطالبة (فِي شَيْءٍ) أي: في حطّ شيء من الدين.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 171.

(2)

راجع: "المنحة الرضية شرح التحفة المرضيّة" 3/ 229 - 233.

ص: 357

وفي رواية ابن حبان: "دخلت امرأة على النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني ابتعت أنا وابني من فلان تمرًا، فأحصيناه، لا والذي أكرمك بالحقّ ما أحصينا منه إلا ما نأكله في بطوننا، أو نُطعمه مسكينًا، وجئنا نستوضعه ما نقصنا

" الحديث، فظهر بهذا أن المخاصمة وقعت بين البائع وبين المشتريَيْن، قال الحافظ رحمه الله: ولم أقف على تسمية واحد منهم، وأما تجويز بعض الشراح أن المتخاصمين هما المذكوران في الحديث الذي يليه - يعني قصّة كعب بن مالك وخصمه - ففيه بُعْدٌ؛ لتغاير القصتين، وعُرِف بهذه الزيادة أصل القصة. انتهى

(1)

.

(وَهُوَ) أي: الآخر (يَقُولُ: وَاللهِ لَا أفعَلُ) أي: أضع من دَيني شيئًا، ولا أرفق بك (فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمَا، فَقَالَ: "أينَ الْمُتَألِّي عَلَى اللهِ) - بضمّ الميم، وفتح المثناة، والهمزة، وتشديد اللام المكسورة - أي: الحالف المبالغ في اليمين، مأخوذٌ من الأَلِيّة - بفتح الهمزة، وكسر اللام، وتشديد التحتانية - وهي اليمين، قاله في "الفتح".

وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الأليّةُ": الحلِفُ، والجمع ألايا، مثلُ عَطِيّة وعطايا، قال الشاعر [من الطويل]:

قَلِيلُ الألَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ

فَإِنْ سَبَقَتْ مِنْهُ الأَلِيَّةُ بَرَّتِ

وآلى إيلاء، مثلُ أتى إيتاء: إذا حَلَفَ، فهو مُؤلٍ، وتألَّى، وائتلى كذلك. انتهى

(2)

.

وقوله: (لَا يَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ؟ ") بتقدير حرف مصدريّ؛ أي: أن لا يفعل المعروف، وهو في تأويل المصدر مجرور بحرف جرّ مقدّر؛ أي: على عدم فعل المعروف.

وفي رواية ابن حبان: "فقال: آلى أن لا يصنع خيرًا ثلاث مرات، فبلغ ذلك صاحب التمر".

(قَالَ: أنا يَا رَسولَ الله، فَلَهُ أَيُّ ذَلِكَ أَحَبَّ) أي: فلخصمي؛ أيُّ شيء من

(1)

راجع: "الفتح" 6/ 588 "كتاب الصلح" رقم (2705).

(2)

"المصباح المنير" 1/ 20.

ص: 358

الحط، أو الرفق أحبّ، وفي رواية ابن حبان:"فقال: إن شئت وضعتُ ما نقصوا، وإن شئت من رأس المال، فوضع ما نقصوا"، قال الحافظ رحمه الله: وهو يُشعِر بأن المراد بالوضع الحط من رأس المال، وبالرفق الاقتصار عليه، وترك الزيادة، لا كما زعم بعض الشراح أنه يريد بالرفق الإمهال. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [26/ 3976](1557)، و (البخاريّ) في "الصلح"(2705)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 621)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5032)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 337)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 305)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن فيه الحضَّ على الرفق بالغريم، والإحسان إليه بالوضع عنه.

2 -

(ومنها): جواز طلب الرفق في المطالبة والاستيفاء، وأنَّه لا بأس به، ولكن بشرط أن لا ينتهي إلى الإلحاح، وإهانة النفس، أو الإيذاء، ونحو ذلك، إلا من ضرورة. قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

3 -

(ومنها): الزجر عن الحلف على ترك فعل الخير، وإنكار ذلك، قال الداوديّ: إنما كَرِه ذلك؛ لكونه حلف على ترك أمر عسى أن يكون قد قدَّر اللهُ وقوعه، وعن المهلَّب نحوه، وتعقبه ابن التين بأنه لو كان كذلك لكره الحلف لمن حلف ليفعلنّ خيرًا، وليس كذلك، بل الذي يظهر أنه كره له قطع نفسه عن فعل الخير.

قال: ويشكل في هذا قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي قال: والله لا أزيد على

(1)

"الفتح" 6/ 588.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 220.

ص: 359

هذا، ولا أنقص منه:"أفلح إن صدق"، ولم ينكر عليه حلفه على ترك الزيادة، وهي من فعل الخير.

ويمكن الفرق بأنه في قصة الأعرابي كان في مقام الدعاء إلى الإسلام، والاستمالة إلى الدخول فيه، فكان يَحْرِص على ترك تحريضهم على ما فيه نوع مشقة مهما أمكن، بخلاف من تمكّن في الإسلام، فيَحُضُّه على الازدياد من نوافل الخير. انتهي

(1)

.

4 -

(ومنها): أنه ينبغي لمن حلف أن لا يفعل خيرًا أن يحنث، ويكفّر عن يمينه.

5 -

(ومنها): استحباب الشفاعة إلى أصحاب الحقوق، وقبول الشفاعة في الخير.

6 -

(ومنها): أن فيه سرعةَ فهم الصحابة لمراد الشارع، وطواعيتهم لما يشير به، وحرصهم على فعل الخير.

7 -

(ومنها): أن فيه الصفح عما يجري بين المتخاصمين من اللغط، ورفع الصوت عند الحاكم.

8 -

(ومنها): أن فيه جواز سؤال المدين الحطيطة من صاحب الدَّين خلافًا لمن كرهه من المالكية، واعتَلَّ بما فيه من تحمّل المنّة، وقال القرطبيّ: لعل من أطلق كراهته أراد أنه خلاف الأولى.

9 -

(ومنها): أن فيه هبةَ المجهول، كذا قال ابن التين، وفيه نظر؛ لما قدّمناه من رواية ابن حبان، قاله في "الفتح"

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3977]

(1558) - (حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ كعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ؛ أنهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْه، فِي عَهْدِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي

(1)

راجع: "الفتح" 6/ 588.

(2)

"الفتح" 6/ 588 - 589.

ص: 360

الْمَسْجِد، فَارْتَفَعَتْ أَصوَاتُهُمَا

(1)

حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ فِي بَيْتِه، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِه، وَنَادَى كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، فَقَالَ:"يَا كعْبُ"، فَقَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسولَ الله، فَأشَارَ

(2)

إِلَيْهِ بِيَدِهِ أَنْ ضَعِ الشَّطْرَ مِنْ دَيْنِكَ، قَالَ كَعْب: قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ الله، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"قُمْ فَاقْضِهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التّجيبيّ، تقدَّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْب) ذُكر قبل حديث.

3 -

(يُونُسُ) الأيليّ، تقدَّم قريبًا.

4 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهري، تقدَّم أيضًا قريبًا.

5 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ) الأنصاريّ المدنيّ، ثقةٌ، يقال: له رؤيةٌ [2](ت 7 أو 98)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 64/ 360.

6 -

(أَبُوهُ) كعب بن مالك بن أبي كعب الأنصاريّ السلَميّ المدنيّ الصحابيّ الشهير، وهو أحد الثلاثة الذين خُلِّفُوا، مات في خلافة عليّ رضي الله عنهما (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 13/ 1659.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخه، فقد تفرّد به هو والنسائيّ، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من الزهري.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والابن عن أبيه.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه هو أحد الثلاثة الذين نزلت فيهم آية: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} الآية [التوبة: 118]، رُوي له ثمانون حديثًا، والله تعالى أعلم.

(1)

وفي نسخة: "أصواتهم".

(2)

وفي نسخة: "قال: فأشار إليه".

ص: 361

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهري؛ أنه قال: (حَدثَنى عَبْدُ اللهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ) يقال: له رؤية (عَنْ أبِيهِ) كعب بن مالك رضي الله عنه (أنهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ) أي: طالب أن يقضيه، وفي الرواية التالية من طريق عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن كعب بن مالك؛ "أنه كان له مال على عبد الله بن أبي حَدْرد الأسلميّ، فلقيه، فلزمه، فتكلّما حتى ارتفعت أصواتهما

".

[تنبيه]: "ابن أبي حَدْرد" - بفتح الحاء المهملة، وسكون الدال المهملة، وفتح الراء، ثم دال مهملة - قال الجوهريّ وغيره: لم يأت من الأسماء على "فعلع" بتكرير العين غير حدرد. وهو عبد الله بن أبي حدرد، واسمه سلامة، وقيل: عُبيد بن عُمير بن أبي سلامة بن سعد بن شيبان بن الحارث بن قيس بن هوازن بن أسلم بن أفصى الأسلميّ، أبو محمد، له ولأبيه صحبة، وقال ابن منده: لا خلاف في صحبته، وقال ابن سعد: أول مشاهده الحديبية، ثم خيبر، مات سنة (71) عن (81) سنة، أفاده في "الإصابة"

(1)

.

وقوله: (دَيْنًا) منصوب على أنه مفعول ثان لـ "تقاضى"، والأول "ابنَ أبي حدرد"، وقوله:(كَانَ لَهُ عَلَيْهِ) جملة في محلّ نصب صفة لـ "دينًا"، وضمير "له" لكعب، و "عليه" لابن أبي حدرد، وفي رواية الطبرانيّ أنه كان أوقيّتين (في عَهْدِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: في زمانه (فِي الْمَسْجِدِ) النبويّ، وهو متعلّقٌ بـ "تقاضى" (فَارْتَفَعَتْ أصْوَاتُهُمَا) وفي بعض النسخ:"فارتفعت أصواتهم"(حتَّى سَمِعَهَ) أي: الأصوات، وفي رواية النسائيّ:"حتى سمعهما"(رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وقوله: (وَهُوَ فِي بَيْتِهِ) جملة حالية من "رسول الله صلى الله عليه وسلم "(فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: من حجرته، وفي رواية الأعرج، عن عبد الله بن كعب التالية:"فمرّ بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم " وظاهر الروايتين التخالف، وجمع بعضهم بينهما باحتمال أن يكون مرّ بهما أوّلًا، ثم إن كعبًا أشخص خصمه للمحاكمة، فسمعهما النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أيضًا، وهو في بيته، قال الحافظ: وفيه بُعد؛ لأن في الطريقين أنه صلى الله عليه وسلم أشار

(1)

راجع: "الإصابة" 6/ 52 - 54.

ص: 362

إلى كعب بالوضيعة، وأمر غريمه بالقضاء، فلو كان أمره بذلك تقدَّم لهما لَمَا احتاج إلى الإعادة، والأَولى فيما يظهر لي أن يُحمَل المرور على أمر معنويّ، لا حسّيّ. انتهى. (حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ) - بكسر المهملة، وسكون الجيم، وحكي فتح أوله - وهو الستر، وقيل: أحد طرفي الستر الْمُفَرج، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال المجد رحمه الله: "السِّجْفُ"، ويُكسر، وككتاب: السترُ، جمْعه سُجُوفٌ، وأَسْجافٌ، أو السَّجْف: السِّتران المقرونان بينهما فُرْجةٌ، أو كل بابٍ سُتِر بسترين مقرونين، فكلُّ شِقّ سَجْف، وسِجَافٌ، وأسجف السترَ: أرسله. انتهى

(2)

.

(وَنَادَى كعْبَ بْنَ مَالِكٍ، فَقَالَ: "يَا كَعْبُ"، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ الله، فَأشَارَ) وفي نسخة: "قال: فأشار"(إِلَيْهِ بِيَده أَنْ ضَعِ الشطْرَ مِنْ دَيْنِكَ) أي: نصفه، و "أن" هنا يَحْتَمل أن تكون مصدريّة، ويقدّر الجار قبلها؛ أي: بأن ضع، وَيحْتَمل أن تكون تفسيرية؛ أي: فرع، و "أن" التّفسيريّة هي التي تقع بعد جملة فيها معنى القول، دون حروفه، وتتأخر عنها جملة، وأن لا يدخل عليها جارّ، كما هو مبسوط في "مغني اللبيب" لابن هشام الأنصاريّ رحمه الله

(3)

.

وقال شيخنا المناسيّ رحمه الله في "نظمه":

وَثَالِثٌ

(4)

كـ "أَيْ" أَتَتْ مُفَسِّرَهْ

وَزُمْرَةُ الْكُوفَةِ فِيهَا مُنْكِرَهْ

وَشَرْطُهَا لِمُثْبِتٍ سَبْقُ الْجُمَلْ

وَبَعْدَهَا الْجُمَلُ مُطْلَقًا حَصَلْ

وَالْقَوْلُ مَعْنَاهُ بَدَا فِي السابِقَهْ

لَا لَفْظُهُ وَبَعْضُهُمْ قَدْ أَطْلَقَهْ

وَعَدَمُ الْخَافِضِ أَمَّا إِنْ قُرِنْ

بِهَا فَمَصْدَرِيةٌ عِنْدَ الْفَطِنْ

وفي رواية الأعرج التالية: "فقال: يا كعب، فأشار بيده، كأنه يقول: النصف، فأخذ نصفًا مما عليه، وترك نصفًا"(قَالَ كَعْب: قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ) وفي رواية للبخاريّ: "لقد فعلت"، وفيها مبالغة في امتثال الأمر (قالَ

(1)

"الفتح" 2/ 205 "كتاب الصلاة".

(2)

"القاموس المحيط" 3/ 150.

(3)

راجع: "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 74 - 75.

(4)

أي ثالث الأوجه من معاني "أن".

ص: 363

رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) لابن أبي حدرد ("قُمْ فَاقْضِهِ") فيه إشارة إلى أنه لا يُجمع بين الوضيعة والتأجيل.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "قم، فاقضه": أمر على جهة الوجوب؛ لأن ربّ الدَّين لَمّا أطاع بوضع ما وَضَع تعيّن على الْمِدْيان أن يقوم بما بقي عليه؛ لئلا يُجمَع على ربّ الدَّين وَضِيعةٌ ومَطْلٌ، وهكذا ينبغي أن يُبَتّ الأمرُ بين المتصالحين، فلا يُترك بينهما عُلقة ما أمكن. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث كعب بن مالك رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [26/ 3977 و 3978 و 3979](1558)، و (البخاريّ) في "المساجد"(457) و "الخصومات"(2418 و 2424) و "الصلح"(2706 و 2710)، و (أبو داود) في "الأقضية"(3595)، و (النسائيّ) في "آداب القضاة"(8/ 239 و 244) وفي "الكبرى"(3/ 476)، و (ابن ماجه) في "الأحكام"(2429)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 454 و 460 و 6/ 386 و 390)، و (الدارميّ) في "سننه"(2474)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5048)، و (الطبراني) في "الكبير"(19/ 126 و 127 و 128)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 338)، و (عبد بن حميد)(1/ 147)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 52)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2151)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان مشروعيّة الوضع من الدَّين.

2 -

(ومنها): جواز المخاصمة في المسجد في الحقوق، والمطالبة بالديون.

3 -

(ومنها): جواز ملازمة الغريم، والتقاضي منه.

(1)

"المفهم" 4/ 430.

ص: 364

4 -

(ومنها): إرخاء الستر على الباب للحاجة.

5 -

(ومنها): بيان جواز حكم الحاكم في داره، وهذا إذا لم يؤدّ إلى تضرّر الناس بضيق المكان، أو نحوه، وإلا فعليه أن يحكم في محلّ واسع.

6 -

(ومنها): جواز رفع الصوت في المسجد، وقد بوّب الإمام البخاريّ في "صحيحه":"باب رفع الصوت في المسجد"، ثم أخرج بسنده عن السائب بن يزيد، قال: كنت قائمًا في المسجد، فحصبني رجل، فنظرت، فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما، قال: من أنتما؟ أو: من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد، لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم أخرج حديث كعب بن مالك المذكور في الباب، قال في "الفتح": أشار بالترجمة إلى الخلاف في ذلك، فقد كرهه مالك مطلقًا، سواء كان في العلم، أم في غيره، وفرّق غيره بين ما يتعلّق بغرض دنيويّ، أو نفع دنيويّ، وبين ما لا فائدة فيه، وساق حديث عمر الدالّ على المنع، وحديث كعب الدال على عدمه، إشارة منه إلى أن المنع فيما لا منفعة فيه، وعدمه فيما تُلجئ الضرورة إليه، ووردت أحاديث في النهي عن رفع الصوت في المساجد، لكنها ضعيفة، أخرج ابن ماجه بعضها، فكأن البخاريّ أشار إليها

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وعلى تقدير صحتها تُحْمَل على ما إذا كان الصوت متفاحشًا، وفي غير مصلحة، وأحاديث الإباحة على ما كان للمصلحة، والله تعالى أعلم.

وقال في "الفتح" أيضًا في موضع آخر: قال المهلّب: لو كان رفع الصوت في المسجد لا يجوز لَمَا تركهما النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، ولبيّن لهما ذلك، قال الحافظ: ولمن منع أن يقول: لعله تقدَّم النهي عن ذلك، فاكتفى به، واقتصر على التوصّل بالطريق المؤدّية إلى ترك ذلك بالصلح المقتضي لترك المخاصمة الموجبة لرفع الصوت. انتهى.

(1)

ذكرت في "شرح النسائيّ" هنا اختلاف العلماء في حكم التقاضي في المسجد، فراجعه 39/ 319 رقم الحديث (5410).

ص: 365

7 -

(ومنها): أن الإشارة بمنزلة الكلام إذا فُهمت؛ لأنها دالّة على الكلام؛ كالحروف والأصوات، فتصحّ شهادة الأخرس، ويمينه، ولعانه، وعُقُوده، إذا فُهم ذلك عنه.

8 -

(ومنها): استحباب الشفاعة إلى صاحب الحقّ.

9 -

(ومنها): إشارة الحاكم بالصلح بين المتخاصمين، على جهة الإرشاد، وهنا وقع الصلح على الإقرار، وهو متّفق على جوازه، وأما الصلح عن الإنكار فأجازه أبو حنيفة، ومالك، وهو قول الحسن، وقال الشافعيّ: هو باطل، وبه قال ابن أبي ليلى.

10 -

(ومنها): قبول الشفاعة في غير معصية.

11 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النَّبيّ صلى الله عليه وسلم من الثقة بأصحابه، حيث أمر كعبًا رضي الله عنه بوضع النصف من الدَّين في الحالة التي اشتدّ غضبه فيها، ولا يفعل ذلك إلا من كان على ثقة من أصحابه بأنهم يُؤْثرون أمره على كلّ شيء، ويقدّمونه على غرض أنفسهم، فلذا لم يكن جواب كعب رضي الله عنه بعد هذه الشدّة إلا أن يقول:"قد فعلت يا رسول الله"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3978]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؛ أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أَخْبَرَهُ؛ أنَّهُ تَقَاضَى دَيْنًا لَهُ عَلَى ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ، بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدَّم قريبًا.

2 -

(عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ) بن فارس الْعَبديّ البصريّ، بخاريّ الأصل، ثقة [9](ت 209)(ع) تقدم في "الإيمان" 79/ 417.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية عثمان بن عُمر، عن يونس هذه ساقها البخاريّ في "صحيحه"، فقال:

ص: 366

(457)

- حدّثنا عبد الله بن محمد، قال: حدّثنا عثمان بن عمر، قال: أخبرنا يونس، عن الزهريّ، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن كعب؛ أنه تقاضى ابنَ أبي حدرد دينًا كان له عليه، في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرته، فنادى:"يا كعبُ"، قال: لبيك يا رسول الله، قال:"ضَع من دَينك هذا"، وأومأ إليه؛ أي: الشطر، قال: لقد فعلت يا رسول الله، قال:"قم، فاقضه". انتهى، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3979]

(

) - (قَالَ مُسْلِمٌ: وَرَوَى اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؛ أَنَّهُ كَانَ لَهُ مَالٌ عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الأَسْلَمِيَّ، فَلَقِيَهُ، فَلَزِمَهُ، فَتَكَلَّمَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا

(1)

، فَمَرَّ بِهِمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"يَا كَعْبُ"، فَأشَارَ بِيَدِه، كَأَنَّهُ يَقُولُ النِّصْفَ، فَأَخَدَ نِصْفًا مِمَّا عَلَيْه، وَتَرَكَ نِصْفًا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ) بن شُرَحبيل بن حَسَنَةَ الكِنديّ، أبو شُرَحْبيل المصريّ، ثقةٌ [5](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ) الأعرج، أبو داود المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (كَانَ لَهُ مَالٌ) تقدَّم أن في رواية الطبرانيّ أنه كان أوقيّتين.

وقوله: (حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا) وفي بعض النسخ: "حتى ارتفعت الأصوات".

وقوله: (فَمَرَّ بِهِمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) ظاهره يخالف ما تقدَّم أنه صلى الله عليه وسلم كان في حجرته، فسمع أصواتهما، وأوّله الحافظ بأن المراد من المرور في هذا

(1)

وفي نسخة: "حتى ارتفعت الأصوات".

ص: 367

الحديث المرور المعنويّ، يعتي علمه بهما، ولا يبعد أن يكون صلى الله عليه وسلم مرّ بهما أوّلًا، فلم يلتفت إليهما في أول الأمر حتى دخل حجرته، ثم لما ارتفعت أصواتهما كشف سَجْف حجرته، وقال ما قال

(1)

.

وقوله: (كَأنه يَقُولُ النِّصْفَ) بالنصب مفعولًا لمقدّر؛ أي: ضَع النصف.

[تنبيه]: ذكر الإمام مسلم رحمه الله هذه الرواية معلّقة، قال النوويّ رحمه الله: هذا أحد الأحاديث المقطوعة في "صحيح مسلم"، ويسَمَّى مُعَلَّقًا، وسبق في "التَّيمم" مثله بهذا الإسناد، وهذا الحديث المذكور هنا متصلٌ عن الليث، ورواه البخاريّ في "صحيحه" عن يحيى بن بُكير، عن الليث، عن جعفر بن ربيعة، بإسناده المذكور هنا، ورواه النسائيُّ عن الربيع بن سليمان، عن شعيب بن الليث، عن أبيه، عن جعفر بن ربيعة. انتهى

(2)

.

[تنبيه آخر]: هذا الحديث أخرجه البخاريّ في "صحيحه" متّصلًا من رواية الليث بن سعد، فقال:

(2292)

- حدّثنا يحيى بن بكير، حدّثنا الليث، حدّثني جعفر بن ربيعة، وقال غيره: حدّثني الليث، قال: حدّثني جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز، عن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاريّ، عن كعب بن مالك رضي الله عنه؛ أنه كان له على عبد الله بن أبي حدرد الأسلميّ دَينٌ، فلقيه، فلزمه، فتكلما حتى ارتفعت أصواتهما، فمرّ بهما النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"يا كعبُ"، وأشار بيده، كأنه يقول النصف، فأخذ نصف ما عليه، وترك نصفًا. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 1/ 493.

(2)

راجع ما تقدَّم في: "شرح المقدّمة" من كلام الحافظ رشيد الدين العطّار رحمه الله في هذا الإسناد 1/ 96.

ص: 368

(27) - بَابُ مَنْ أَدْرَكَ مَا بَاعَهُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، وَقَدْ أفلَسَ فَلَهُ الرجُوعُ فِيهِ)

قال الفيّوميّ رحمه الله: أفلس الرجل: كأنه صار إلى حالٍ ليس له فلوسٌ، كما يقال: أقهر: إذا صار إلى حال يُقْهَر عليه، وبعضهم يقول: صار ذا فُلُوس، بعد أن كان ذا دراهم، فهو مُفلِس، والجمع مَفَاليسُ، وحقيقته الانتقال من حالة الْيُسْر إلى حالة الْعُسْر، وفَلّسه القاضي تفليسًا: نادَى عليه، وشَهَرَه بين الناس بأنه صار مُفْلسًا، والفَلْسُ: الذي يُتعامَل به، جمْعه في القلّة: أَفْلُس، وفي الكثرة: فُلُوس. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": الْمُفْلِس شرعًا: من تزيد ديونه على موجوده، سُمّي مُفلِسًا؛ لأنه صار ذا فلوس، بعد أن كان ذا دراهم ودنانير، إشارة إلى أنه صار لا يملك إلا أدنى الأموال، وهي الفلوس، أو سُمي بذلك؛ لأنه يُمنَع التصرف، إلا في الشيء التافه، كالفلوس؛ لأنهم ما كانوا يتعاملون بها إلا في الأشياء الحقيرة، أو لأنه صار إلى حالة، لا يملك فيها فَلْسًا، فعلى هذا فالهمزة في أفلس للسلب. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله قوله: "أفلس الرجل": في اللغة: صار ذا فلوس، بعد أن كان ذا دنانير، كما يقال: أخبث الرجل؛ أي: صار أصحابه خُبَثاء، وأقطف الرجل: إذا صارت دابّته قَطُوفًا، والْمُفْلِس في عرف العرب: من لا مال له عينًا، ولا عَرَضًا، ولا غيره، ولذلك قال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم:"أتدرون من المفلس؟ "، قالوا ما هو المعروف عندهم، فأجابوه بقولهم: من لا درهم له، ولا متاع، رواه مسلم، وهو في عرف الشرع: عبارة عن مِدْيان، قَصَر ما بيده عن وفاء ما عليه من الديون، فطَلَب الغرماء أخذ ما بيده، وإذا كان كذلك، فللحاكم أن يَحْجُر عليه، ويمنعه من التصرّف فيما بيده، ويحصِّلُهُ، ويجمع الغرماء، فيقسمه عليهم، وهذا مذهب الجمهور، من الصحابة،

(1)

"المصباح المنير" 2/ 481.

(2)

"الفتح" 6/ 208.

ص: 369

وغيرهم. انتهى

(1)

.

وقال ابن قُدامة رحمه الله: المفلس هو الذي لا مال له، ولا ما يدفع به حاجته، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه:"أتدرون من المفلس؟ " قالوا: يا رسول الله، المفلس فينا من لا درهم له، ولا متاع، قال:"ليس ذلك المفلس، ولكن المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات، أمثال الجبال، ويأتي وقد ظلم هذا، ولطم هذا، وأخذ من عرض هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن بقي عليه شيء أُخِذ من سيئاتهم، فردّ عليه، ثم صُك له صَكّ إلى النار"، أخرجه مسلم بمعناه، فقولهم ذلك إخبار عن حقيقة المفلس، وقول النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:"ليس ذلك المفلس"، تَجَوُّز لم يُرِد به نفي الحقيقة، بل أراد أن فلس الآخرة أشدّ وأعظم، بحيث يصير مفلس الدنيا، بالنسبة إليه كالغنيّ، ونحو هذا قوله صلى الله عليه وسلم:"ليس الشديد بالصُّرَعَة، ولكن الشديد الذي يغلب نفسه عند الغضب"، متّفق عليه، وقولُهُ:"ليس السابق من سبق بعيرُهُ، وإنما السابق من غُفر له"

(2)

، وقوله:"ليس الغِنَى عن كثرة الغرض، إنما الغني غنى النفس"، متفق عليه، ومنه قول الشاعر [من الخفيف]:

لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ

إِنَّما الْمَيْتُ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ

وإنما سُمِّي هذا مُفلسًا؛ لأنه لا مال له إلا الفلوس، وهي أدنى أنواع المال، والمفلس في عُرف الفقهاء: من دينه أكثر من ماله، وخَرْجُهُ أكثر من دَخْلِه، وسَمَّوه مُفلسًا، وإن كان ذا مال؛ لأن ماله مُسْتَحَقُّ الصرف في جهة دَينه، فكأنه معدوم، وقد دل عليه تفسير النبي صلى الله عليه وسلم مُفْلِسَ الآخرة، فإنه أخبر أن له حسناتٍ، أمثالَ الجبال، لكنها كانت دون ما عليه، فقُسمت بين الغرماء، وبقي لا شيء له، ويجوز أن يكون سُمِّي بذلك لِمَا يؤول إليه، من عدم ماله

(1)

"المفهم" 4/ 430 - 431.

(2)

هذا ليس حديثًا مرفوعًا، بل هو من كلام عمر بن عبد العزيز رحمه الله، قال في خطبته يوم عرفة:"ليس السابق من سبق بعيره وفرسه، ولكن السابق من غفر له"، قال في "الفتح": أخذه من قوله صلى الله عليه وسلم لما سمع وراءه زجرًا شديدًا، وضربًا، وصوتًا للإبل:"أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البرّ ليس بالإيضاع".

ص: 370

بعد وفاء دينه، ويجوز أن يكون سُمِّي بذلك؛ لأنه يُمْنَع من التصرف في ماله، إلا الشيء التافه، الذي لا يعيش إلا به، كالفلوس ونحوها. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله

(1)

، وسيأتي بيان مذهب العلماء في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى -.

[تنبيه]: ترجم الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" بقوله: باب إذا وَجَد ماله عند مُفلس في البيع، والقرض، والوديعة، فهو أحقّ به، وقال الحسن: إذا أفلس، وتبيَّن، لم يَجُزْ عتقُهُ، ولا بيعُه، ولا شراؤه". انتهى.

قال في "الفتح": قوله: "في البيع": إشارة إلى ما ورد في بعض طرقه نصًّا.

وقوله: "والقرض": هو بالقياس عليه، أو لدخوله في عموم الخبر، وهو قول الشافعيِّ في آخرين، والمشهور عن المالكية التفرقة بين القرض والبيع.

وقوله: "والوديعة": هو بالإجماع، وقال ابن الْمُنَيِّر: أَدْخَلَ هذه الثلاثةَ، إما لأن الحديث مطلق، وإما لأنه وارد في البيع، والآخران أولى؛ لأن ملك الوديعة لم ينتقل، والمحافظة على وفاء من اصطنع بالقرض معروفًا مطلوب.

وقوله: "وقال الحسن: إذا أفلس إلخ": أما قوله: "وتبيّن"، فإشارة إلى أنه لا يمنع التصرف قبل حكم الحاكم، وأما العتق فمحله ما إذا أحاط الدين بماله، فلا ينفذ عتقه، ولا هبته، ولا سائر تبرعاته، وأما البيع والشراء، فالصحيح من قولي العلماء أنَّهما لا ينفذان أيضًا، إلا إذا وقع منه البيع لوفاء دين، وقال بعضهم: يوقف، وهو قول الشافعيّ، واختُلِف في إقراره، فالجمهور على قبوله، وكأن البخاريّ أشار بأثر الحسن إلى معارضة قول إبراهيم النخعيّ: بيع المحجور وابتياعه جائز.

وقوله: "وقال سعيد بن المسيِّب: قضى عثمان إلخ" أي: ابن عفان إلخ، وصله أبو عبيد في "كتاب الأموال"، والبيهقيّ بإسناد صحيح إلى سعيد، ولفظه:"أفلس مولى لأم حبيبة، فاختصم فيه إلى عثمان، فقضى"، فذكره،

(1)

"المغني" 6/ 536 - 537.

ص: 371

وقال فيه: "قبل أن يَبِين إفلاسُهُ" بدل قوله: "قبل أن يُفلس"، والباقي سواء. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3980]

(1559) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنِي أبو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ؛ أَن عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخْبَرَهُ؛ أَن أَبا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَام أَخْبَرَهُ؛ أَنَّهُ سَمِعَ أبا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ -: "مَنْ أدرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أفلَسَ - أوْ إِنْسَانٍ قَدْ أفلَسَ - فَهُوَ أَحَق بِهِ مِنْ غيْرِهِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ يُونُسَ) التميمى اليربوعيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة حافظ، من كبار [10](ت 227) وله (94) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

2 -

(زُهَيْرُ) بن معاوية بن حُديج الجعفيّ، أبو خيثمة الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقة ثبت [7](ت 2 أو 3 أو 174)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.

[تنبيه]: يوجد في معظم النسخ: "زُهير بن حرب"، وهو غلط فاحشٌ، والصَّواب ابن معاوية، فليُتنبّه.

3 -

(يَحْيىَ بنُ سَعِيدٍ) الأنصاريّ، تقدَّم في الباب الماضي.

4 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ) الأنصاريّ النجّاريّ المدنيّ القاضي، اسمه كنيته، وقيل: يُكنى أبا محمد، ثقةٌ عابد [5](ت 120) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 80/ 422.

5 -

(عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) بن مروان بن الحكم بن أبي العاص الأمويّ الخليفة الراشد [4](ت 101)(ع) تقدَّم في "المقدّمة" 6/ 46.

6 -

(أبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامِ) بن المغيرة المخزوميّ المدنيّ، قيل: اسمه محمد، وقيل: المغيرة، وقيل: أبو بكر اسمه،

(1)

"الفتح" 6/ 208 - 209.

ص: 372

وكنيته أبو عبد الرحمن، وقيل: اسمه كنيته، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [3](ت 94) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 210.

7 -

(أَبُو هُرَيرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات المدنيين، غير شيخه، وزهير، فكوفيّان.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث، والإخبار، والسماع من أوله إلى آخره.

5 -

(ومنها): أن فيه أربعة من التابعين المدنيين الأثبات روى بعضهم عن بعض: يحيى، عن أبي بكر بن حزم، عن عمر بن عبد العزيز، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، قال في "الفتح": وكلهم قد وَليَ القضاءَ، وكلهم سوى أبي بكر بن عبد الرحمن من طبقة واحدة. انتهى

(1)

.

6 -

(ومنها): أن فيه راويين اشتهرا بالكنية، ويقال: ليس لهما اسم غير النية: أبو بكر بن حزم، وأبو بكر بن عبد الرحمن.

7 -

(ومنها): أن فيه أبا بكر بن عبد الرحمن أحد الفقهاء السبعة، على بعض الأقوال.

8 -

(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه من المكثرين السبعة، وقد تقدَّم هذا كلّه غير مرّة، وإنما أعدته تذكيرًا، وتنبيهًا؛ لطول العهد به، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

عن أبي بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ؛ أنه (أَخْبَرَهُ؛ أنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وللبخاريّ: "أو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وهو شكّ من أحد رواته، قال الحافظ رحمه الله: وأظنه من زهير، فإنِّي لم أر في رواية أحد ممن رواه عن يحيى

(1)

"الفتح" 6/ 209.

ص: 373

مع كثرتهم فيه التصريح بالسماع، وهذا مشعر بأنه كان لا يرى الرواية بالمعنى أصلًا

(1)

.

(يَقُولُ: "مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ) استُدِلَّ به على أن شرط استحقاق صاحب المال دون غيره أن يجد ماله بعينه لم يتغير، ولم يتبدل، وإلا فإن تغيرت العين في ذاتها بالنقص مثلًا، أو في صفة من صفاتها فهي أسوة للغرماء، وأصرح منه رواية ابن أبي حسين، عن أبي بكر بن محمد بلفظ:"إذا وُجِدَ عنده المتاعُ، ولم يُفَرِّقه"، ووقع في رواية مالك، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث مرسلًا:"أيما رجل باع متاعًا، فأفلس الذي ابتاعه، ولم يقبض البائع من ثمنه شيئًا، فوجده بعينه، فهو أحق به"، فمفهومه أنه إذا قَبَضَ من ثمنه شيئًا كان أُسوة الغرماء، وبه صرح ابنُ شهاب فيما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عنه، وهذا وإن كان مرسلًا، فقد وصله عبد الرزاق في "مصنفه" عن مالك، لكن المشهور عن مالك إرساله، وكذا عن الزهري، وقد وصله الزبيديّ، عن الزهري، أخرجه أبو داود، وابن خزيمة، وابن الجارود، ولابن أبي شيبة، عن عمر بن عبد العزيز أحدِ رواة هذا الحديث، قال: قَضَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أحقّ به من الغرماء، إلا أن يكون اقتضى من ماله شيئًا، فهو أسوة الغرماء، وإليه يشير اختيار البخاري؛ لاستشهاده بأثر عثمان رضي الله عنه، وهو ما علّقه البخاريّ عن ابن المسيِّب، قال: قضى عثمان من اقتضى من حقّه قبل أن يُفلس فهو له، ومن عَرَف متاعه بعينه فهو أحقّ به،

(2)

وكذلك رواه عبد الرزاق، عن طاوس، وعطاء، صحيحًا، وبذلك قال جمهور من أخذ بعموم حديث الباب، إلا أن للشافعيّ قولًا هو الراجح في مذهبه؛ أن لا فرق بين تَغَيُّر السلعة، أو بقائها، ولا بين قبض بعض ثمنها، أو عدم قبض شيء منه

(1)

"الفتح" 6/ 209.

(2)

وصله أبو عبيد في "كتاب الأموال"، والبيهقي بإسناد صحيح إلى سعيد، ولفظه: "أَفْلَس مولى لأم حبيبة، فاختصم فيه إلى عثمان، فقضى

"، فذكره، وقال فيه: "قبل أن يبين إفلاسه" بدل قوله: "قبل أن يفلس"، والباقي سواء. انتهى. "الفتح" 6/ 209.

ص: 374

على التفاصيل المشروحة في كتب الفروع

(1)

.

(عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أفلَسَ، أَوْ إِنْسَانٍ قَدْ أفلَسَ) شكّ من الراوي أيضًا، وقوله:"قد أفلس" أي: تبيّن إفلاسه، يقال: أفلس الرجل: إذا صار إلى حال لا فلوس له، أو صار ذا فلس، بعد أن كان ذا دنانير، ودراهم، وحقيقته: الانتقال من اليسر إلى العسر، وقيل: المفلس: من لا عين له، ولا عَرَضَ، وشرعًا: من قصر ما بيده عما عليه من الديون، وقد تقدَّم في شرح الترجمة بأتمّ من هذا، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(فَهُوَ أَحَقُّ به) أي: بذلك الموجود عند الْمُفْلِسِ (مِنْ غيْرِهِ") أي: من سائر الناس، كائنًا من كان، وارثًا، أو غريمًا، وبهذا قال جمهور العلماء، وخالف الحنفية، فتأولوه؛ لكونه خبر واحد خالف الأصول؛ لأن السلعة صارت بالبيع ملكًا للمشتري، ومن ضمانه، واستحقاقُ البائع أخذَها منه نَقْضٌ لملكه، وحملوا الحديث على صورة، وهي ما إذا كان المتاع وديعةً، أو عاريةً، أو لقطةً.

وتُعُقِّب بأنه لو كان كذلك لم يُقَيَّد بالفَلْس، ولا جُعِل أحقّ بها؛ لِمَا يقتضيه صيغة أفعل من الاشتراك، وأيضًا فما ذكروه ينتقض بالشفعة.

وأيضًا فقد ورد التنصيص في حديث الباب على أنه في صورة المبيع، وذلك فيما رواه سفيان الثوريّ في "جامعه"، وأخرجه من طريقه ابن خزيمة، وابن حبان، وغيرهما، عن يحيى بن سعيد بهذا الإسناد، بلفظ:"إذا ابتاع الرجل سلعةً، ثم أَفْلَس، وهي عنده بعينها، فهو أحقّ بها من الغرماء"، ولابن حبان، من طريق هشام بن يحيى المخزوميّ، عن أبي هريرة، بلفظ:"إذا أفلَس الرجل، فوجد البائعُ سلعته"، والباقي مثله.

ولمسلم في رواية ابن أبي حسين الآتية: "إذا وجِد عنده المتاعُ أنه لصاحبه الذي باعه". وفي مرسل ابن أبي مليكة، عند عبد الرزاق:"من باع سلعةً من رجل، لم يَنْقُده، ثم أَفْلَس الرجل، فوجدها بعينها، فليأخذها من بين الغرماء".

(1)

"الفتح" 6/ 2 - 9.

ص: 375

وفي مرسل مالك المشار إليه: "أيما رجل باع متاعًا"، وكذا هو عند من قَدَّمنا أنه وصله.

فظهر أن الحديث وارد في صورة البيع، ويَلتحق به القرضُ، وسائرُ ما ذكر من بابِ أولى

(1)

.

وقال السنديّ رحمه الله: قوله: "فَهُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِهِ" أي: يجوز له أن يأخذه بعينه، ولا يكون مشتركًا بينه وبين سائر الغرماء، وبهذا يقول الجمهور، خلافًا للحنفيّة، فقالوا: إنه كالغرماء؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} الآية [البقرة: 280]. وَيحْمِلون الحديث على ما إذا أخذه على سوم الشراء مثلًا، أو على البيع بشرط الخيار للبائع؛ أي: إذا كان الخيار للبائع، والمشتري مُفلس، فالأنسب أن يختار الفسخ، وهو تأويل بعيد.

وقولهم: إن الله تعالى لم يَشْرَع للدائن عند الإفلاس إلا الانتظار.

فجوابه أن الانتظار فيما لا يوجد عند المفلس، ولا كلام فيه، وإنما الكلام فيما وُجد عند المفلس، ولا بُدّ أن الدائنين يأخذون ذلك الموجود عنده، والحديث يُبيّن أن الذي يأخذ هذا الموجود هو صاحب المتاع، ولا يُجعَل مقسومًا بين تمام الدائنين، وهذا لا يُخالف القرآن، ولا يقتضي القرآن خلافه، والله تعالى أعلم. انتهى كلام السنديّ رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا من السنديّ رحمه الله غاية الإنصاف، حيث لم يتكلّف في ترجيح مذهبه بما فيه تعسّف، كما فعله جُلّ الحنفيّة، ولا سيّما المتأخّرون، ويا ليت الحنفيّة كلهم كانوا مثله رحمه الله في نصرة الأحاديث، وترك التعصّب لمذهبهم، فالله تعالى المستعان على من خالف منهج السلف في نصر السنّة، وترك الآراء، نسأل الله تعالى أن يسلك بنا مسلكهم، إنه قريبٌ مجيب.

(1)

"الفتح" 6/ 210.

(2)

"شرح السنديّ على النسائيُّ" ص 311 - 312.

ص: 376

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [27/ 3980 و 3981 و 3982 و 3983 و 3984 و 3985](1559)، و (البخاريّ) في "الاستقراض"(2402)، و (أبو داود) في "البيوع"(3519 و 3522)، و (التِّرمذيّ) في "البيوع"(1262)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 311) و "الكبرى"(6272 و 6273)، و (ابن ماجه) في "الأحكام"(2358 و 2359 و 2360 و 2361)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 678)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 162)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(15160)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2507)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 35 و 36)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 228 و 247 و 249 و 258)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 162 و 163)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 262)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(630)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(2/ 336)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5036)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(3/ 30)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 44 و 45) و "الصغرى"(5/ 281 و 283) و "المعرفة"(4/ 447 و 448)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2133)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان حكم الرجل الذي اشترى سلعة، ثم أفلس، فوجد البائع متاعه بعينه، لم يتغيّر، وهو أنه أولى به من الغرماء الآخرين، وهو مذهب الجمهور، وهو الحقّ، كما سنحقّقه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

2 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على حلول الدَّين المؤجل بالفلس، من حيث إن صاحب الدَّين، أدرك متاعه بعينه، فيكون أحقّ به، ومن لوازم ذلك أن يجوز له المطالبة بالمؤجل، وهو قول الجمهور، لكن الراجح عند الشافعية؛ أن المؤجل لا يَحِلُّ بذلك؛ لأن الأجل حقّ مقصود له، فلا يفوت، ولا يخفى أن مذهب الجمهور هو الموافق لظاهر الحديث، فتبصّر.

ص: 377

3 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به أيضًا على أن لصاحب المتاع أن يأخذه، وهو الأصح من قولي العلماء، والقول الآخر يتوقف على حكم الحاكم، كما يتوقف ثبوت الفلس، والأول أرجح؛ لإطلاق النصّ.

4 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به أيضًا على فسخ البيع إذا امتنع المشتري من أداء الثمن، مع قدرته بِمَطْل، أو هَرَب، قياسًا على الفلس، بجامع تعذر الوصول إليه حالًا، والأصح من قولي العلماء؛ أنه لا يُفسخ.

5 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن الرجوع، إنما يقع في عين المتاع، دون زوائده المنفصلة؛ لأنها حَدَثت على ملك المشتري، وليست بمتاع البائع.

6 -

(ومنها): ما قالوا: إن من فروع المسألة: ما إذا أراد الغرماء، أو الورثة إعطاء صاحب السلعة الثمن، فقال مالك: يلزمه القبول، وقال الشافعيّ، وأحمد: لا يلزمه ذلك؛ لما فيه من الْمِنّة، ولأنه ربما ظهر غريم آخر، فزاحمه فيما أخذ، وأغرب ابن التين، فحَكَى عن الشافعيّ أنه قال: لا يجوز له ذلك، وليس له إلا سلعته، وَيلتحِق بالمبيع المؤجر، فيرجع مكتري الدابة، أو الدار، إلى عين دابته وداره، ونحو ذلك، وهذا هو الصحيح عند الشافعية، والمالكية، وإدراج الإجارة في هذا الحكم، متوقف على أن المنافع يُطلق عليها اسم المتاع، أو المال، أو يقال: اقتضى الحديث أن يكون أحقّ بالعين، ومن لوازم ذلك الرجوع في المنافع، فثبت بطريق اللزوم، قاله في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم فيمن وجد متاعه بعينه عند رجل أفلس:

قال النوويّ رحمه الله: اختَلَف العلماء فيمن اشترى سلعةً، فأفلس، أو مات قبل أن يؤدّي ثمنها، ولا وفاء عنده، وكانت السلعة باقيةً بحالها، فقال الشافعيّ، وطائفة: بائعها بالخيار، إن شاء تركها، وضارب مع الغرماء بثمنها، وإن شاء رجع فيها بعينها في صورة الإفلاس، والموت.

(1)

راجع: "الفتح" 6/ 211 - 212.

ص: 378

وقال أبو حنيفة: لا يجوز له الرجوع فيها، بل تتعيّن المضاربة، وقال مالك: يرجع في صورة الإفلاس، ويُضارب في الموت.

واحتجّ الشافعيّ بهذه الأحاديث مع حديثه في الموت في "سنن أبي داود"، وغيره، وتأوّلها أبو حنيفة تأويلات مردودة، وتعلّق بشيء يُروَى عن عليّ، وابن مسعود رضي الله عنهما، وليس بثابت عنهما. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقد اختَلَف العلماء في مُشتري السلعة إذا أفلس، أو مات، ولا وفاء عنده بثمنها، ووُجِدت، فقال الشافعيّ: صاحبها أحقّ بها في الفَلَس، والموت، وقال أبو حنيفة: صاحبها أسوة الغرماء فيها، وقال مالك: هو أحقّ بها في الْفَلَس، دون الموت. وسبب الخلاف معارضة الأصل الكلّيّ للأحاديث، وذلك أن الأصل أن الدين في ذمّة المفلس، والميت، وما بأيديهما محلٌّ للوفاء، فيشترك جميع الغرماء فيه بقدر رؤوس أموالهم، ولا فرق في هذا من أن تكون أعيان السِّلَع موجودةً، أو لا، إذ قد خرجت عن ملك بائعها، ووجبت أثمانها لهم في الذمّة بالإجماع، فلا يكون لهم إلا أثمانها، إن وُجدت، أو ما وُجد منها، فتمسّك أبو حنيفة بهذا، وردّ الأخبار بناءً على أصله في ردّ أخبار الآحاد عند معارضة القياس.

وأما الشافعيّ، ومالكٌ، فتمسّكا بالأخبار الواردة في الباب، وخصّصا بها تلك القاعدة، غير أن الشافعيّ تمسّك في التسوية بين الموت، والْفَلَس، بما رواه أبو داود من حديث أبي المعتمر، عن عمر بن خَلْد، قال: أتينا أبا هريرة رضي الله عنه في صاحب لنا، قد أفلس، فقال: لأقضينّ فيكم بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أفلس، أو مات، فوَجَد رجلٌ متاعه بعينه، فهو أحقّ به"، وبإلحاق الموت بالفلس؛ لأنه في معناه، ولم ينقدح بينهما فرقٌ مؤثّرٌ عنده.

وأما مالكٌ، فإنه فرّق بينهما، لما رواه عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيّما رجل باع متاعًا، فأفلس الذي ابتاعه، ولم يَقبِض من ثمنه شيئًا، فوجده بعينه، فهو أحقّ به، فإن مات الذي ابتاعه، فصاحب المتاع أسوة الغرماء"، وهذا مرسلٌ صحيحٌ، وقد أسنده أبو

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 222.

ص: 379

داود من حديث أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو طريقٌ صحيح، وفيه زيادة ألفاظ، نذكرها بعدُ - إن شاء الله تعالى - ومذهب مالك أولى؛ لأن حديثه أصحُّ من حديث الشافعيِّ؛ لأن أبا المعتمر مجهولٌ على ما ذكره أبو داود، وللفرق بين الْفَلَس والموت، وذلك أن ذمّة المفلس باقيةٌ، غير أنها انعابت، ويُمكن أن يزول ذلك العيب بالإيسار، فيجد الغرماء الذين لم يأخذوا من السلعة شيئًا ما يرجعون عليه، وليس كذلك في الموت، فإن ذمّة الميت قد انعدمت، فلا يرتجعون شيئًا، فافترقا، والله تعالى أعلم.

وقد تعسّف بعض الحنفيّة في تأويل أحاديث الإفلاس تأويلات، لا تقوم على أساس، ولا تتمشّى على لغة، ولا قياس، فلنُضرِبْ عن ذكرها؛ لوضوح فسادها. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي حقّقه القرطبيّ رحمه الله حسن جدًّا، وحاصله أن الحق هو ما ذهب إليه مالك، والشافعيّ - رحمهما الله تعالى - من أن مشتري السلعة إذا أفلس، ووُجدت السلعة بعينها، فالبائع أحقّ بها من سائر الغرماء؛ لصحّة حديث الباب، وأما ما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله من كونه أسوة للغرماء، فمجرّد قياس، في مقابلة النصّ، فيكون باطلًا، ثم إن ما ذهب إليه مالك من الفرق بين الإفلاس، والموت، فيكون في الإفلاس أحقّ من سائر الغرماء، وفي الموت أسوة لهم هو الأرجح؛ وذلك للفرق الذي ذُكر في الحديث الذي احتجّ به مالك، وهو حديث متّصلٌ صحيح، وأما الحديث الذي تمسّك به الشافعيّ في التسوية بين الإفلاس والموت، فلم يصحّ، كما تقدَّم، والله تعالى أعلم.

وقال في "الفتح": وحمله بعض الحنفية، على ما إذا أفلس المشتري، قبل أن يقبض السلعة. وتُعُقّب بقوله في حديث الباب:"عند رجل"، ولابن جان من طريق سفيان الثوريّ، عن يحيى بن سعيد:"ثم أفلس، وهي عنده"، وللبيهقي من طريق ابن شهاب، عن يحيى:"إذا أفلس الرجل، وعنده متاع"، فلو كان لم يقبضه ما نَصَّ في الخبر على أنه عنده، واعتذارهم بكونه خبرَ واحد

(1)

"المفهم" 4/ 432 - 433.

ص: 380

فيه نظر، فإنه مشهور من غير هذا الوجه، أخرجه ابن حبان من حديث ابن عمر، وإسناده صحيح، وأخرجه أحمد، وأبو داود من حديث سمرة، وإسناده حسن، وقضى به عثمان، وعمر بن عبد العزيز، كما مَضَى، وبدون هذا يخرج الخبر عن كونه فردًا غريبًا.

قال ابن المنذر رحمه الله: لا نعرف لعثمان رضي الله عنه في هذا مخالفًا من الصحابة.

وتُعُقّب بما رَوَى ابن أبي شيبة، عن عليّ رضي الله عنه أنه أسوة الغرماء.

وأجيب بأنه اختُلِف على عليّ رضي الله عنه في ذلك، بخلاف عثمان رضي الله عنه.

وقال القرطبيّ في "المفهم": تعسّف بعض الحنفية في تأويل هذا الحديث بتأويلات لا تقوم على أساس، وقال النووي: تأولوه بتأويلات ضعيفة مردودة. انتهى.

واختلف القائلون في صورةٍ، وهي: ما إذا مات، ووُجدت السلعة، فقال الشافعيّ: الحكم كذلك، وصاحب السلعة أحقّ بها من غيره، وقال مالك، وأحمد: هو أسوة الغرماء، واحتجّا بما في مرسل مالك:"وإن مات الذي ابتاعه، فصاحب المتاع فيه أسوة الغرماء"، وفرقوا بين الفلس والموت، بأن الميت خربت ذمته، فليس للغرماء محل يرجعون إليه، فاستووا في ذلك، بخلاف المفلس.

واحتَجَّ الشافعيّ بما رواه من طريق عُمَر بن خَلْدَة، قاضي المدينة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:"قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أَيُّما رجل مات، أو أفلس، فصاحب المتاع أحق بمتاعه، إذا وجده بعينه"، وهو حديث حسن، يُحْتَجّ بمثله، أخرجه أيضًا أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وصححه الحاكم، وزاد بعضهم في آخره:"إلا أن يترك صاحبه وفاء"، ورجحه الشافعيّ على المرسل، وقال: يَحْتَمِل أن يكون آخره من رأي أبي بكر بن عبد الرحمن؛ لأن الذين وصلوه عنه، لم يذكروا قضية الموت، وكذلك الذين رووا عن أبي هريرة وغيره، لم يذكروا ذلك، بل صرح ابن خَلْدة، عن أبي هريرة بالتسوية بين الإفلاس والموت، فتعيّن المصير إليه؛ لأنها زيادة من ثقة.

وجزم ابن العربي المالكي بأن الزيادة التي في مرسل مالك، من قول

ص: 381

الراوي، وجمع الشافعيّ أيضًا بين الحديثين، بحمل حديث ابن خَلْدة على ما إذا مات مفلسًا، وحديث أبي بكر بن عبد الرحمن، على ما إذا مات مليئًا، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في كلام الحافظ هذا نظر لا يخفى، فإن تحسينه حديث الشافعيّ، وترجيحه على حديث مالك ليس كما ينبغي؛ فإنَّه ضعيف، لأن في إسناده أبا المعتمر، وهو مجهول الحال، كما نصّ هو عليه في "التقريب"، وأما حديث مالك، وإن رواه هو في "الموطإ" مرسلًا، لكنَّه روي متّصلا في غيره، ولقد أجاد ابن القيِّم رحمه الله في "تهذيب السنن" في هذا البحث، ودونك نصّه:

وقد أعلّه الشافعيّ بأنه كالمدرج في حديث أبي هريرة رضي الله عنه يعني قوله: "فإن كان قضى من ثمنها شيئًا

إلى آخره - قال الشافعيّ في جواب من سأله: لِمَ لَمْ تأخذ بحديث أبي بكر بن عبد الرحمن هذا - يعني المرسل - فقال: الذي أخذتُ به أولى مِنْ قِبَل أن ما أخذتُ به موصولٌ يَجمع فيه النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بين الموت والإفلاس، وحديث ابن شهاب منقطع؛ ولو لم يخالفه غيره لم يكن مما يُثبته أهل الحديث، ولو لم يكن في تركه حجة إلا هذا انتفى لمن عرف الحديث تَرْكه من الوجهين، مع أن أبا بكر بن عبد الرحمن يروي عن أبي هريرة حديثه، ليس فيما روى ابن شهاب عنه مرسلًا، إن كان رواه كله، ولا أدري عمن رواه، ولعلّه روى أول الحديث، وقال برأيه آخره، وموجود في حديث أبي بكر، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: أنه انتهى فيه إلى قوله: فهو أحقّ به، وأشبه أن يكون ما زاد على هذا قولًا من أبي بكر، لا رواية. تمّ كلامه.

وقد روى الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن أبي بكر بن محمد بن حزم، عن عمر بن عبد العزيز، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، يرفعه:"أيّما رجل أفلس، ثم وجد رجلٌ سلعته عنده بعينها، فهو أولى بها من غيره"، قال الليث: بلغنا أن ابن شهاب قال: "أما من مات ممن أفلس، ثم وجد رجلٌ سلعته بعينها، فإنه أُسوةُ الغرماء"، يحدّث بذلك عن أبي

(1)

"الفتح" 6/ 210 - 211.

ص: 382

بكر بن عبد الرحمن، قال البيهقيّ: هكذا وجدته غير مرفوع إلى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في آخره، وفي ذلك كالدلالة على صحّة ما قال الشافعيّ، وقال غيره: هذا الحديث قد رواه عبد الرزاق، عن مالك، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عبد البرّ.

وقد رواه إسماعيل بن عيّاش، عن الزبيديّ، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومن هذه الطريق أخرجه أبو داود، والزبيديّ: هو محمد بن الوليد، شاميّ حمصيّ، وقد قال الإمام أحمد، ويحيى بن معين، وغيرهما: حديث إسماعيل بن عيّاش، عن الشاميين صحيح، فهذا الحديث على هذا صحيح، وقد رواه موسى بن عُقبة، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، ذكره ابن عبد البرّ.

فهؤلاء ثلاثةٌ وصلوه عن الزهري: مالك، في رواية عبد الرزّاق، وموسى بن عقبة، ومحمد بن الوليد، وكونه مدرجًا لا يثبت إلا بحجة، فإن الراوي لم يقل: قال فلان بعد ذكره المرفوع، وإنما هو ظنّ. وأما قول الليث: بلغنا أن ابن شهاب قال: "أما من مات" إلى آخره، فهو مع انقطاعه ليس بصريح في الإدراج، فإنه فسّر قوله بأنه رواية عن أبي بكر، لا رأي منه، ولم يقل: إن أبا بكر قاله من عنده، وإنما قال: يحدّث بذلك عن أبي بكر، والحديث صالح للرأي، والرواية، ولعلّه في الرواية أظهر.

وبالجملة فالإدراج بمثل هذا لا يثبُت، ولا يُعلّل به الحديث، والله أعلم. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله ابن القيّم من تصحيح الحديث الذي فيه الفرق بين الإفلاس والموت، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"أيما رجل باع متاعًا، فأفلس الذي ابتاعه، ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئًا، فوجد متاعه بعينه، فهو أحقّ به، وإن مات المشتري، فصاحب المتاع أسوة الغرماء"، هو الحقّ، فيُستفاد منه أن ما ذهب إليه مالك رحمه الله من التفرقة بين الإفلاس والموت

(1)

"تهذيب السنن" من هامش "عون المعبود" 9/ 434 - 436.

ص: 383

هو الصواب، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: ذكر ابن قُدامة رحمه الله أن استحقاق الرجوع في السلعة بخمس شرائط:

[أحدها]: أن تكون السلعة باقية بعينها، فلو تغيرت بأن تلف بعضها، لم يكن له الرجوع.

[الثاني]: أن لا يكون المبيع زاد زيادة متّصلةً؛ كالسِّمَن، والكِبَر، وتعلّم الصناعة، وإلا ففي الرجوع خلافٌ.

[الثالث]: أن لا يكون البائع قبض من ثمنها شيئًا، وإلا فلا رجوع؛ لقوله في الحديث:"ولم يكن قبض من ثمنها شيئًا".

[الرابع]: أن لا يتعلّق بها حقّ الغير، فإن رهنها المشتري، ثم أفلس، أو وهذا، لم يكن له الرجوع.

[الخامس]: أن يكون المفلس حيًّا، فإن مات فالبائع أسوة الغرماء.

وقد ذكر ابن قُدامة رحمه الله تفاصيل هذه الشروط، فمن أراد الاطلاع عليها، فليرجع إلى كتاب "المغني"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم فيما إذا تغيّرت السلعة:

قال ابن قُدامة رحمه الله، ما حاصله: إنما يستحقّ الرجوع في السلعة إذا كانت باقية بعينها، لم يَتلَف بعضها، فإن تلف جزء منها، كبعض أطراف العبد، أو ذهبت عينه، أو تلف بعض الثوب، أو انهدم بعض الدار، أو اشترى شجرًا مثمرًا، لم تظهر ثمرته، فتلفت الثمرة، أو نحو هذا لم يكن للبائع الرجوع، وكان أسوة الغرماء، وبهذا قال إسحاق، وقال مالك، والأوزاعيّ، والشافعيّ، والعنبريّ: له الرجوع في الباقي، ويضرب مع الغرماء بحصة التالف؛ لأنها عين يملك الرجوع في جميعها، فملك الرجوع في بعضها، كالذي له الخيار، وكالأب فيما وهب لولده.

(1)

راجع: "المغني" لابن قُدامة 6/ 543 - 591.

ص: 384

قال: ولنا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "من أدرك متاعه بعينه عند إنسان، قد أفلس، فهو أحق به"، فشرط أن يجده بعينه، ولم يجده بعينه، ولأنَّه إذا أدركه بعينه، حصل له بالرجوع فصل الخصومة، وانقطاع ما بينهما من المعاملة، بخلاف ما إذا وجد بعضه، ولا فرق بين أن يرضى بالموجود بجميع الثمن، أو يأخذه بقسطه من الثمن؛ لأنه فات شرط الرجوع. انتهى. من "المغني" باختصار

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه الحنبليّة، من عدم استحقاق الرجوع في حالة تغيّر شيء من السلعة هو الأرجح؛ عملًا بظاهر قوله:"بعينه"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في حكم الحجر على المفلس:

قال في "الفتح"، ما حاصله: ذهب الجمهور إلى أن من ظهر إفلاسه، فعلى الحاكم الحجر عليه في ماله، حتّى يبيعه عليه، ويَقسمه بين غرمائه على نسبة ديونهم، وخالف الحنفية، واحتجّوا بقصّة جابر رضي الله عنه، حيث قال في دين أبيه:"فلم يُعطهم الحائط، ولم يكسره لهم"، ولا حجة فيه؛ لأنه أخّر القسمة ليحضر، فتحصل البركة في الثمر بحضوره، فيحصل الخير للفريقين، وكذلك كان. انتهى

(2)

.

وقال في "المفهم"، ما حاصله: إذا قصر ما بيده عن وفاء ما عليه من الديون، فللحاكم أن يحجر عليه، ويمنعه من التصرّف فيما بيده، ويحصّله، ويجمع الغرماء، فيقسّمه عليهم، وهذا مذهب الجمهور، من الصحابة، وغيرهم؛ كعمر، وعثمان، وعليّ، وابن مسعود، وعروة بن الزبير، والأوزاعيّ، ومالك، والشافعيّ، وأحمد.

وقال النخعيّ، والحسن البصريّ، وأبو حنيفة: للحاكم أن يحجر عليه، ولا يمنعه من التصرّف في ماله، لكن يحبسه ليوفي ما عليه، وهو يبيع ما عنده، والحجة للجمهور على هؤلاء حديث تفليس معاذ رضي الله عنه الآتي، وقد قال الزهري: ادّان معاذ، فباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله حتى قضى دينه، وكذلك فعل

(1)

راجع: "المغني" 6/ 543.

(2)

"الفتح" 5/ 347.

ص: 385

عمر بن الخطّاب رضي الله عنه بالجهنيّ الذي قال فيه: "ألا إن أُسيفع جهينة رضي لِدِينه وأمانته أن يقال: سبق الحاجّ، ثم ادّان معرضًا، فمن كان له عليه دينٌ فليحضر، فإنا نبيع ماله"، ولم يخالفه أحدٌ، ثم يباع عليه كل ماله، وعقاره. وقال أبو حنيفة: لا يباع عليه عقاره، وقوله مخالفٌ للأدلّة التي ذكرناها، فإنها عامة لجميع الأموال، ولأن الدين حقّ ماليّ في ذمّته، فيباع عليه فيه عقاره، كما يباع في نفقة الزوجات، ولأن الْفَلَسَ معنى طارئ يوجب قسمة المال، فيباع فيه العقار كالموت. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وقال ابن قُدامة رحمه الله: ومتى لزم الإنسانَ ديون حالّة، لا يفي ماله بها، فسأل غرماؤه الحاكم الحجر عليه، لزمته إجابتهم، ويستحب أن يظهر الحجر عليه؛ لتُجتنب معاملته، فإذا حُجر عليه ثبت بذلك أربعة أحكام:

[أحدها]: تعلق حقوق الغرماء بعين ماله.

[والثاني]: منع تصرفه في عين ماله.

[والثالث]: أن من وَجَد عين ماله عنده، فهو أحق بها من سائر الغرماء، إذا وجدت الشروط.

[الرابع]: أن للحاكم بيع ماله وإيفاء الغرماء، والأصل في هذا ما رَوَى كعب بن مالك:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حجر على معاذ بن جبل، وباع ماله".

رواه الخلال بإسناده.

وعن عبد الرحمن بن كعب، قال: كان معاذ بن جبل رضي الله عنه من أفضل شباب قومه، ولم يكن يُمسك شيئًا، فلم يزل يَدّانُ حتى أَغرَق ماله في الدين، فكلم النَّبيّ صلى الله عليه وسلم غرماؤه، فلو تُرك أحد من أجل أحد، لتركوا معاذًا من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فباع لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله، حتى قام معاذ بغير شيء.

قال بعض أهل العلم: إنما لم يترك الغرماء لمعاذ حين كلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا يهودًا. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه الجمهور من جواز

(1)

"المفهم" 4/ 431 - 432.

(2)

"المغني" 6/ 537 - 538.

ص: 386

حجر الحاكم على المفلس، إن طلب ذلك غرماؤه هو الأرجح؛ لظهور أدلّته، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف: رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3981]

(

) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، جَمِيعًا عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أبُو الرَّبِيع، وَبَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثيُّ، قَالَا: حَدثَنَا حَمَّادٌ - يَعْنِي ابْنَ زَيْدٍ - (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثنَا عَبْدُ الْوَهَّاب، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَحَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، فِي هَذَا الإسْنَاد، بِمَعْنَى حَدِيثِ زُهَيْرٍ، وَقَالَ ابْنُ رُمْحٍ مِنْ بَيْنِهِمْ في رِوَايَتِهِ:"أَيُّمَا امْرِئٍ فُلِّسَ")

(1)

.

رجال هذا الإسناد: خمسة عشر:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدَّم قبل بابين.

2 -

(هُشَيْمُ) بن بشير الواسطي، تقدم قريبًا.

3 -

(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدَّم في الباب الماضي.

4 -

(مُحَمَدُ بْنُ رُمْحٍ) تقدَّم قبل بابين.

5 -

(اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ) تقدَّم أيضًا قبل بابين.

6 -

(أَبُو الرَّبِيعِ) سليمان بن داود الْعَتَكيّ الزهرانيّ، تقدَّم قريبًا.

7 -

(يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارثِيُّ) ابن عربيّ البصريّ، تقدَّم أيضًا قريبًا.

8 -

(حَمَادُ بْنُ زيد) تقدَّم أيضًا قريبًا.

9 -

(أبو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدَّم قبل بابين.

10 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدَّم قبل باب.

11 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثنَّى) تقدَّم قريبًا.

12 -

(عَبْدُ الْوَهَّابِ) بن عبد المجيد الثقفيّ البصريّ، تقدَّم أيضًا قريبًا.

13 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، تقدَّم قبل ثلاثة أبواب.

(1)

وفي نسخة: "أيما امرئ أفلس".

ص: 387

14 -

(حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ) تقدَّم قبل بابين.

و"يحيى بن سعيد" الأنصاريّ ذُكر قبله.

وقوله: (كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) أي: كلّ هؤلاء السبعة، وهم: هُشيم بن بشير، والليث بن سعد، وحمّاد بن زيد، وسفيان بن عيينة، وعبد الوهّاب الثقفي، ويحيى بن سعيد القطّان، وحفص بن غياث رووا هذا الحديث عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ بمعنى حديث زُهير بن معاوية المذكور قبله عنه.

وقوله: ("أَيُّمَا امْرِئٍ فُلِّسَ") بضم الفاء، وتشديد اللام المكسورة، مبنيًّا للمفعول، يقال: فَلَّسه القاضي تفليسًا: حكم عليه بالإفلاس، قاله المجد رحمه الله

(1)

.

وفي بعض النسخ: "أيما امرئ أفلس" بالهمزة رباعيًّا، وهو مبنيٌّ للفاعل، يقال: أفلس الرجل: إذا لم يبق له ما لم، كأنَّما صارت دراهمه فُلُوسًا، أو صار بحيث يقال: ليس معه فَلْسٌ، قاله المجد رحمه الله

(2)

.

وكلمة "ما" في "أيّما" زائدة؛ لزيادة الإبهام، و "امرئ" مجرور بالإضافة.

[تنبيه]: رواية هُشيم، عن يحيى الأنصاريّ، ساقها الإمام أحمد في "مسنده" 2/ 228 فقال:

(7124)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا هشيم، ثنا يحيى بن سعيد، عن أبي بكر بن محمد، يعني ابن عمرو بن حزم، عن عمر بن عبد العزيز، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وجد عين ماله عند رجل، قد أَفْلَس، فهو أحقّ ممن سواه". انتهى.

ورواية الليث بن سعد، عن يحيى الأنصاريّ، ساقها ابن ماجه في "سننه" 2/ 790 فقال:

(2358)

- وحدّثنا محمد بن رُمْح، أنبأنا الليث بن سعد، عن يحيى بن

(1)

راجع: "القاموس المحيط" 2/ 238.

(2)

راجع: "القاموس المحيط" 2/ 238.

ص: 388

سعيد، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمر بن عبد العزيز، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وَجَد متاعه بعينه عند رجل قد أَفْلَس، فهو أحقّ به من غيره". انتهى.

ورواية سفيان بن عيينة، عن يحيى الأنصاريّ، ساقها للإمام أحمد في "مسنده" 2/ 247 فقال:

(7366)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا سفيان، عن يحيى، عن أبي بكر، عن عمر بن عبد العزيز، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:"من وجد ماله عند رجل مُفْلِس، فهو أحقّ به". انتهى.

ورواية عبد الوهاب الثقفيّ، عن يحيى الأنصاريّ، ساقها الشافعيّ في "مسنده" 1/ 329 فقال:

أخبرنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفيّ؛ أنه سمع يحيى بن سعيد، يقول: أخبرني أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم؛ أن عمر بن عبد العزيز حدّثه؛ أن أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام حدّثه؛ أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أَفْلَسَ، فهو أحقّ به من غيره".

ورواية يحيى القطّان، عن يحيى الأنصاري ساقها الإمام أحمد أيضًا في "مسنده" 2/ 474 فقال:

(10135)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا يحيى، عن يحيى

(1)

، قال: حدّثني أبو بكر بن محمد، عن عمر بن عبد العزيز، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من وجد ماله بعينه عند رجل قد أَفْلَس، فهو أحقّ به". انتهى.

وأما رواية حماد بن زيد، وحفص بن غياث كلاهما عن يحيى الأنصاريّ، فلم أجد من ساقهما بتمامهما، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

يحيى الأول هو القطّان، والثاني هو الأنصاريّ.

ص: 389

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3982]

(

) - (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَثنَا هِشَامُ بْنُ سُلَيْمَانَ - وَهُوَ ابْنُ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ الْمَخْزُومِيُّ - عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، حَدَّثَني ابْنُ أَبِي حُسَيْنٍ؛ أَنَّ أبا بَكْرِ بْنَ مُحَمَدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أخْبَرَهُ؛ أن عمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَدَّثَهُ، عَنْ حَدِيثِ أبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في الرَّجُلِ الَّذي يُعْدِمُ إِذَا وُجِدَ عِنْدَهُ الْمَتَاعُ، وَلَمْ يُفَرِّقْهُ "أَنَّهُ لِصَاحِبِهِ الَّذي بَاعَهُ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، ثم المكيّ، تقدَّم قريبًا.

[تنبيه]: كون شيخ المصنف هنا هو ابن أبي عمر هو الصواب، ووقع عند بعضهم:"ابن نُمَير"، وهو غلط، قال القاضي عياض رحمه الله: "خرّج مسلم في هذا الباب: حدّثنا ابن أبي عمر، حدّثنا هشام بن سليمان، عن ابن جُريج

الحديث، هكذا في رواية أبي العلاء بن ماهان، والكسائيّ، وأما في رواية الْجُلُوديّ، فجعل "ابن نُمير" بدل "ابن أبي عمر، والصَّواب "ابن أبي عمر"، وقد تقدَّم في "كتاب الحجِّ" حديثان: أولهما: حدّثنا ابن أبي عمر، حدّثني هشام بن سليمان، أحدهما في حديث حفصة: "ما شأن الناس حلّوا

"، والثاني: حديث: "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم"، وفي "كتاب الأشربة" حديث آخر، رواه ابن أبي عمر، عن هشام بن سليمان، وابنُ أبي عمر هذا هو محمد بن يحيى الْعَدَنيّ، يُعَدّ في أهل مكة، وهشام بن سليمان مكيّ أيضًا. انتهى كلام عياض رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

2 -

(هِشَامُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ الْمَخْزُومِيُّ) صدوقٌ [8](خت م 4) تقدم في "الحج" 23/ 2989.

3 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج المكيّ، تقدَّم قبل باب.

(1)

"إكمال المعلم" 5/ 227، بزيادة شيء من "تقييد المهمل" للجيّانيّ 3/ 864.

ص: 390

4 -

(ابْنُ أَبِي حُسَيْنٍ) هو: عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حُسين بن الحارث بن عامر بن نوف النوفليّ المكيّ، ثقة عالم بالمناسك [5](ع) تقدم في "الحج" 36/ 3058.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (فِي الرَّجُلِ الَّذِي يُعْدِمُ) بضمّ أوله، وكسر ثالثه، من أعدم الرباعيّ، يقال: أعلم الرجل يُعدِم إعدامًا: إذا افتقر، فهو مُعدِم، وعَدِيم

(1)

.

وقوله: (إذَا وُجِدَ عِنْدَهُ الْمَتَاعُ) ببناء الفعل للمفعول.

وقوله: (وَلَمْ يُفَرِّقْهُ) أي: لم يتصرّف فيه بما يغيّره، أو لم يستهلكه ببيع، أو هبة، أو عتق، أو نحو ذلك.

والحديث بهذا اللفظ من أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3983]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَا: حَدثنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أنسٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا أفلَسَ الرَّجُلُ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ مَتَاعَهُ بِعَيْنِه، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدَّم قريبًا.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غندر، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ صحيح الكتاب [9](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

3 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) تقدَّم قريبًا.

4 -

(شُعْبَةُ) بن الحجاج الإمام الشهير، تقدَّم أيضًا قريبًا.

5 -

(قتَادَةُ) بن دِعامة السدُوسيّ البصريّ، تقدَّم قبل بابين.

6 -

(النَّضْرُ بْنُ أنسِ) بن مالك الأنصاريّ، أبو مالك البصريّ، ولد

(1)

راجع: "المصباح" 2/ 397.

ص: 391

الصحابيّ الجليل، ثقةٌ [3] مات سنة بضع و (100)(ع) تقدم في "العتق" 2/ 3767.

7 -

(بَشِيرُ بْنُ نَهِيكٍ)

(1)

السدُوسيّ، ويقال: السلوليّ، أبو الثعثاء البصريّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "العتق" 2/ 3767.

و"أبو هريرة رضي الله عنه" ذُكر قبله.

وقوله: (فَوَجَدَ الرَّجُلُ) بالتعريف، وليس هو الأول، على خلاف القاعدة أنه إذا أعيد المعرفة معرفة كان عين الأول، لكن القاعدة أغلبيّة، ونظير هذا قوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} الآية [المائدة: 48]، فإن {الْكِتَابَ} الثاني ليس هو الأول، وإلى القاعدة المذكورة أشار السيوطيّ رحمه الله في "عقود الْجُمان" حيث قال:

ثُمَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُشْتَهِرَهْ

إِذَا أَتَتْ نَكِرَةٌ مُكَرَّرَهْ

تَغَايَرَا وَإِنْ يُعَرَّفْ ثَانِ

تَوَافَقَا كَذَا الْمُعَرَّفَانِ

شَاهِدُهَا الَّذِي رَوَيْنَا مُسْنَدَا

"لَنْ يَغْلِبَ الْيُسْرَيْنِ عُسْرٌ" أَبَدًا

وَأَبْطَلَ السُّبْكِي ذِي بِأمْثِلَهْ

وَقَالَ ذِي قَاعِدَةٌ مُسْتَشْكَلَهْ

قال الجامع عفا الله عنه: قلت معقّبًا على الاستشكال المذكور:

قُلْتُ وَلَا اسْتِشْكَالَ إِذِ ذِي تُحْمَلُ

عَلَى الَّذِي يَغْلِبُ إِذْ تُسْتَعْمَلُ

أَوْ قُلْ إِذَا قَرِينَةٌ لَمْ تَقْتَرِنْ

فَإنْ بَدَتْ تَصْرِفُهَا فَلْتَسْتَبِنْ

والحديث من هذا الوجه من أفراد المصنّف رحمه الله، وتقدّم شرحه، وبيان مسائله في حديث أول الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[3984]

(

) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْب أَيْضًا، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أبي، كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ، بِهَذَا الإسْنَادِ مِثْلَهُ، وَقَالَا:"فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْغُرَمَاءِ").

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدَّم قبل ثلاثة أبواب.

(1)

بفتح النون، وكسر الهاء.

ص: 392

2 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن عُليّة، تقدَّم قريبًا.

3 -

(سَعِيدُ) بن أبي عروبة، تقدَّم أيضًا قريبًا.

4 -

(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدستوائيّ البصريّ، سكن اليمن، صدوقٌ ربَّما وَهِم [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

5 -

(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

و"قتادة" ذُكر قبله.

وقوله: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع نسخ بلادنا في الإسناد الأول: "شعبة" - بضم الشين المعجمة - وهو شعبة بن الحجاج، وفي الثاني:"سعيد" - بفتح السين المهملة - وهو سعيد بن أبي عروبة، وكذا نقله القاضي عن رواية الْجُلُودي، قال: ووقع في رواية ابن ماهان في الثاني: "شعبة" أيضًا بضم الشين المعجمة، قال: والصَّواب الأول. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: رواية سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، ساقها أبو عوانة في "مسنده" 3/ 340 فقال:

(5223)

- حدّثنا سعدان بن يزيد البزار، قثنا إسماعيل ابن علية، ويزيد بن هارون، قالا: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بَشِير بن نَهِيك، عن أبي هريرة، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من أَفْلَس، فأدْرَك رجل متاعه عنده بعينه، فهو أحقّ به من الغرماء". انتهى.

ورواية هشام الدّستوائيّ، عن قتادة، ساقها ابن أبي شيبة في "مصنّفه" 4/ 278 فقال:

(20100)

- حدّثنا وكيع، عن هشام الدستوائيّ، عن قتادة، عن بَشِير بن نَهِيك، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أفْلَس الرجلُ، فوجد الرجلُ سلعته قائمة بعينها، فهو أحقّ بها من الغرماء". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"إكمال المعلم" 5/ 227، و "شرح النووي" 10/ 223.

ص: 393

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3985]

(

) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ، وَحَجاجُ بْنُ الشَّاعِر، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ الْخُزَاعِي - قَالَ حجَّاج: مَنْصُورُ بْنُ سَلَمَةَ

(1)

- أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ خُثَيْم بْنِ عِرَاكٍ، عنْ أبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا أفلَسَ الرجُل، فَوَجَدَ الرَّجُلُ عِنْدَهُ سِلْعَتَهُ بِعَيْنِهَا، فَهُوَ أَحَقُّ بِها").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أبي خَلَفٍ) تقدَّم قبل بابين.

2 -

(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) تقدَّم قريبًا.

3 -

(أَبُو سَلَمَةَ الْخُزَاعِي مَنْصُورُ بْنُ سَلَمَةَ) بن عبد العزيز بن صالح البغداديّ، ثقة ثبت حافظ، من كبار [10].

رَوَى عن عبد الله بن عمر العُمَريّ، ويعقوب بن عبد الله الْعَميّ، وعبد الرحمن بن أبي الموال، ومالك، وسليمان بن بلال، وحماد بن سلمة، وغيرهم.

ورَوَى عنه أحمد بن حنبل، ومحمد بن أحمد بن أبي خلف، وحجاج بن الشاعر، ومحمد بن إسحاق الصغانيّ، ومحمد بن عبد الرحيم البزاز، وغيرهم.

قال أبو بكر الأعين، عن أحمد: أبو سلمة الخزاعي من متثبتي أهل بغداد، وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقة، قال: ولما رجعنا من عنده قال لي: إني كتبت اليوم عن كبش نَطّاح، وقال الدارقطنيّ: أحد الثقات الحفاظ الرفعاء الذين كانوا يُسألون عن الرجال، ويؤخذ بقوله فيهم، أَخَذ عنه أحمد، وابن معين، وغيرهما عِلْمَ ذلك، وقال ابن عديّ: لا بأس به، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال البخاريّ: يقال: مات سنة تسع، أو سبع ومائتين، بِطَرَسوس، وقال مُطَيَّن: مات سنة تسع، وقال مرةً: سنة عشرة، وفيها أرَّخه ابن سعد، وزاد:

(1)

وفي نسخة: "قال حجاج: حدّثنا منصور بن سلمة".

ص: 394

كان ثقةً سمع من غير واحد، وكان يَتَمَنَّع بالحديث، ثم حَدَّث أيامًا، ثم خرج إلى الثَّغْر، فمات سنة عشر.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود في "المراسيل"، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (1559)، و (2107)، و (1337)

(1)

.

4 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) المدنيّ، تقدَّم في الباب الماضي.

5 -

(خُثَيْمُ بْنُ عِرَاكِ) بن مالك الغفاريّ المدني، ثقة [6](خ م س) تقدم في "الزكاة" 3/ 2275.

6 -

(أَبُوهُ) عِراك بن مالك الغفاري الكناني المدنيّ، ثقة فاضل [3] مات في خلافة يزيد بن عبد الملك بعد المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.

و"أبو هريرة رضي الله عنه" ذُكر قبله.

وقوله: (قَالَ حجَّاجٌ: مَنْصُورُ بْنُ سَلَمَةَ) وفي بعض النسخ: "قال حجاج: حدّثنا منصور بن سلمة"، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في معظم نسخ بلادنا، وأصولهم المحقّقة:"قال حجاج: منصورُ بن سلمة"، ومعناه: أن أبا سلمة الخزاعيّ هذا اسمه منصور بن سلمة، فذكره محمد بن أحمد بن أبي خَلَف بكنيته، وذكره حجاج باسمه، وهذا صحيح.

وقال القاضي عياض رحمه الله: ذكر مسلم في الباب: حدّثنا محمد بن أحمد بن أبي خَلَف، وحجاج بن الشاعر، قالا: حدّثنا أبو سلمة الخزاعي، قال حجاج: حدّثنا منصور بن سلمة، كذا في أكثر نسخ مسلم، وكذا عند شيوخنا كلّهم، أما عند ابن عيسى: قال حجاج: هو منصور بن سلمة، وهو الصواب؛ لأن منصور بن سلمة اسم أبي سلمة الخزاعي، بيّنه حجاج في حديثه، وغير ذلك خطأ، إلا أن يُتأوّل قوله:"حدّثنا منصور بن سلمة" أن ابن أبي خَلَف وحده هو الذي كناه، فقد يُخَرَّج على هذا، إلا أنه بعيد بَعْد قوله:"قالا: حدّثنا أبو سلمة". انتهى كلام القاضي رحمه الله

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

هذا الرقم مكرر، تقدَّم في "كتاب الحج"، فتنبّه.

(2)

"إكمال المعلم" 5/ 228، و "شرح النوويّ" 10/ 223.

ص: 395

(28) - (بابُ فَضْلِ إِنْظَارِ الْمُعْسِر، وَالتَّجَاوُزِ عَنْهُ)

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3986]

(1560) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثنَا مَنْصُورٌ، عَنْ رِبْعيِّ بن حِرَاشٍ؛ أَن حُذَيْفَةَ حَدَّثَهُمْ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تلَقَّتِ الْمَلَائِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَقَالُوا: أَعمِلْتَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا، قَالُوا: تَذَكَّرْ، قَالَ: كُنْتُ أُدَايِنُ الناسَ، فَآمُرُ فِتْيَاني أَنْ يُنْظِرُوا الْمُعْسِرَ، وَيَتَجَوَّزُوا عَنِ الْمُوسِرِ. قَالَ: قَالَ اللهُ عز وجل: تَجَوَّزُوا عَنْهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مَنْصُورُ) بن المعتمر بن عبد الله السلميّ، أبو عتاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 132)(ع) 2/ 2 تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 296.

2 -

(رِبْعِيُّ بْنُ حِرَاشٍ) أبو مريم الْعَبْسيّ الكوفيّ، مخضرم ثقة عابد [2](ت 100) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

3 -

(حُذَيْفَةُ) بن اليمان، واسم اليمان حُسَيل، أو حِسْل بكسر، فسكون العبسيّ، حليف الأنصار الصحابيّ ابن الصحابيّ، من السابقين إلى الإسلام، مات سنة (36)(ع) تقدَّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 457.

والباقيان تقدما في الباب الماضي، و "زُهير" هو: ابن معاوية.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه مسلسلٌ بالكوفيين، ورجاله كلهم من رجال الجماعة، وفيه حذيفة رضي الله عنه صاحب سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي "صحيح مسلم":"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه بما كان وما يكون إلى أن تقوم الساعة".

شرح الحديث:

(عَنْ رِبْعِيِّ) بكسر الراء، وإسكان الموحّدة (ابْنِ حِرَاشٍ) بكسر الحاء المهملة، وآخره شين معجمة (أَنَّ حُذيْفَةَ) بن اليمان رضي الله عنهما (حَدَّثَهُمْ) أي: حدّث ربعيًّا ومن معه، وفي رواية نعيم بن أبي هند، عن ربعيّ التالية: "اجتَمَع حذيفة، وأبو مسعود، فقال حذيفة: رجل لقي ربه

" فذكر الحديث، وفي

ص: 396

آخره: "فقال أبو مسعود: هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم "(قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَلَقَّتِ الْمَلَائِكَةُ) أي: استَقبلت (رُوحَ رَجُلٍ) عند الموت، وفي رواية للبخاريّ في "باب ما ذكر عن بني إسرائيل":"إن رجلًا كان فيمن كان قبلكم أتاه الملك ليقبض روحه"(مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) أي: من الأمم السابقة (فَقَالُوا) أي: الملائكة (أَعَمِلْتَ) بكسر الميم (مِنَ الْخَيْرِ شَيئًا؟)(قَالَ) الرجل (لَا) أي: لم أعمل شيئًا، لا قليلًا ولا كثيرًا، وفي رواية عبد الملك بن عمير عند البخاريّ: "فقال: ما أعلم، قيل: انظر، قال: ما أعلم شيئًا، غير أني

" فذكره، وفي رواية شقيق، عن أبي مسعود الآتية هنا، رفعه: "حوسب رجل ممن كان قبلكم، فلم يوجد له من الخير شيء، إلا أنه كان يخالط الناس، وكان موسرًا"، وفي رواية سعد بن طارق: "أُتِي الله بعبد من عباده، آتاه الله مالًا، فقال له: ما عملت في الدنيا؟ قال: ولا يكتمون الله حديثًا، قال: يا رب آتيتني مالك، فكنتُ أبايع الناس، وكان من خُلُقي الجواز

" الحديث، وفي رواية ابن أبي عمر في هذا الحديث: "فيقول: يا رب ما عملت لك شيئًا أرجو به كثيرًا، إلا أنك كنت أعطيتني فضلًا من مال

"، فذكره.

قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فلم يوجد له شيء من الخير" هذا العموم مُخَصَّصٌ قطعًا بأنه كان مؤمنًا، ولولا ذلك لما تجاوز عنه، فـ:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية [النساء: 48]، وهل كان قائمًا بفرائض دِينه من الصلاة، والزكاة، وما أشبههما؟ هذا هو الأليق بحاله، فإن هذا الحديث يَشهد بأنه كان ممن وُقي شُحّ نفسه، وعلى هذا فيكون معنى هذا العموم أنه لم يوجد له شيء من النوافل إلا هذا.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "هذا هو الأليق بحاله" فيه نظر لا يخفى؛ لأنه ينافيه قوله: "لم يعمل خيرًا قط"، فالظاهر أن النفي على عمومه عدا الإيمان، فيكون المعنى أنه لم يعمل خيرًا زائدًا على الإيمان، والله تعالى أعلم.

قال: ويَحْتَمِل أن يكون له نوافل أخَرُ، غير أن هذا كان الأغلب عليه، فنودي به، وجُوزي عليه، ولم يذكر غيره اكتفاء بهذا.

ص: 397

قال الجامع: هذا الاحتمال أبعد من الذي قبله، فتأمّله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

قال: ويَحْتَمِل أن يكون المراد بالخير: المال، فيكون معناه أنه لم يوجد له فعل برّ في المال إلا ما ذُكر من إنظار المعسر. انتهى كلام القرطبيّ.

قال الجامع: هذا الاحتمال أيضًا مثل سابقه؛ لأنه لا دليل على هذا التخصيص، فتبصّر.

والحاصل أن الأظهر إجراؤه على عمومه، والله تعالى أعلم.

(قَالُوا: تَذَكَّرْ) أي: تفكر في أعمالك لعلك تجد فيها خيرًا (قَالَ) بعد تذكّره (كُنْتُ أُدَايِنُ الناسَ) أي: أعاملهم بالدين، فأبيع لهم بالنسيئة (فَآمرُ فِتْيَانِي) بكسر الفاء: جمع فَتًى، وهو الخادم، حرًّا كان، أو مملوكًا، قال الفيّوميّ رحمه الله: الفتى: العبد، وجمعه في القلة: فِتْية، وفي الكثرة: فِتْيان، والأمة: فَتاةٌ، وجمعها فتياتٌ، والأصل فيه أن يقال للشابّ الْحَدَث: فَتًى، ثم استُعير للعبد، وإن كان شيخًا مجازًا؛ تسميةً باسم ما كان عليه. انتهى

(1)

.

(أَنْ يُنْظِرُوا) بضمّ حرف المضارعة، من الإنظار رباعيًّا، وهو الإمهال، والتأخير، ويَحْتَمِل أن يكون بفتح أوله ثلاثيًّا، من باب نصر، وهو بمعناه، قال الفيّوميّ رحمه الله: أنظرت الدَّينَ بالألف: أخّرته، والنَّظِرةُ، مثلُ كَلِمَةٍ بالكسر: اسم منه، وفي التنزيل:{فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]؛ أي: فتأخير، ونَظَرته الدينَ ثلاثيًّا لغة. انتهى

(2)

.

(الْمُعْسِرَ) أي: الفقير، وقال القرطبي رحمه الله:"المعسر" هنا هو الذي يتعذّر عليه الأداء في وقت دون وقت، فندب الشرع إلى تأخيره إلى الوقت الذي يُمكّن له ما يؤدي، وأما المعسر بالإفلاس، فتحرم مطالبته إلى أن يتبيّن يساره، قال: والمال كلُّ ما يُتموّل، أو يتملّك، من عين، وعَرَض، وحيوان، وغير ذلك، ثم قد يخُصّه أهل مال بما يكون غالب أموالهم، فيقول أصحاب الإبل: المال الإبلُ، وأصحاب النخل: المال النخل، وهكذا. انتهى

(3)

.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 462.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 612.

(3)

"المفهم" 4/ 436.

ص: 398

[تنبيه]: قال في "الفتح": اختَلَفَ السلفُ في تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} الآية، فرَوَى الطبريّ وغيره من طريق إبراهيم النخعيّ، ومجاهد، وغيرهما أن الآية نزلت في دَين الرِّبا خاصةً، وعن عطاء أنها عامّة في دين الرِّبا وغيره، واختار الطبريّ أنها نزلت نصًّا في دين الرِّبا، وَيلتحق به سائر الديون؛ لحصول المعنى الجامع بينهما، فإذا أعسر المديون وجب إنظاره، ولا سبيل إلى ضربه، ولا إلى حبسه. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: قوله: "أن يُنظروا المعسر": قال ابن التين رحمه الله: رواية من روى "وأُنظِرُ الموسرَ" أولى من رواية من روى "وأُنظِرُ المعسرَ"؛ لأن إنظار المعسر واجب. انتهى.

وتعقّبه الحافظ، قائلًا: ولا يلزم من كونه واجبًا أن لا يؤجر صاحبه عليه، أو يُكفّر عنه بذلك من سيّئاته. انتهى

(2)

.

(وَيَتَجَوَّزُوا عَنِ الْمُوسِرِ) وفي الرواية الآتية: "وأتجاوز عن المعسور"، والمراد أن يتسامحوا في الاقتضاء، والاستيفاء، وقبول ما فيه نقص يسير، قال في "الفتح": يدخل في لفظ التجوّز: الإنظار، والوضيعة، وحسن التقاضي. انتهى

(3)

.

[تنبيه]: قال في "الفتح": اختَلَف العلماء في حدّ الموسر، فقيل: مَن عنده مؤنته، ومؤنة من تلزمه نفقته، وقال الثوريّ، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق: مَن عنده خمسون درهمًا، أو قيمتها من الذهب، فهو موسر، وقال الشافعيّ: قد يكون الشخص بالدرهم غنيًّا مع كسبه، وقد يكون بالألف فقيرًا مع ضعفه في نفسه، وكثرة عياله، وقيل: الموسر والمعسر يرجعان إلى العرف، فمن كان حاله بالنسبة إلى مثله يُعَدّ يسارًا، فهو موسر، وعكسه، وهذا هو المعتمد، وما قبله إنما هو في حدّ من تجوز له المسألة، والأخذ من الصدقة. انتهى

(4)

، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 5/ 533 "كتاب البيوع" رقم (2078).

(2)

"الفتح" 5/ 533 "كتاب البيوع" رقم (2077).

(3)

"الفتح" 5/ 534.

(4)

"الفتح" 5/ 531 "كتاب البيوع" رقم (2077).

ص: 399

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (قَالَ اللهُ رضي الله عنه) لملائكته (تَجَوَّزُوا عَنْهُ") أي: سامحوه فيما فرّط من عمله؛ جزاءَ تجوّزه عن عبادي، وفي رواية:"كنت أقبل الميسور، وأتجاوز عن المعسور"، وفي رواية:"كنت أُنظر المعسر، وأتجوز في السِّكّة، أو في النقد"، وفي رواية:"وكان من خُلُقي الجواز، فكنت أتيسر على الموسر، وأنظر المعسر".

قال النوويّ رحمه الله: فقوله: "فتياني" معناه: غلماني، كما صرح به في الرواية الأخرى، والتجاوز والتجوّز معناهما: المسامحة في الاقتضاء والاستيفاء، وقبول ما فيه نقص يسير، كما قال:"وأتجوّز في السكة"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث حذيفة رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [28/ 3986 و 3987 و 3988 و 3989](1560)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2077) و"الاستقراض"(2391) و"أحاديث الأنبياء"(3451)، و (ابن ماجه)(2420)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 118 و 5/ 395 و 399 و 407)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 324)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 346)، و (البيهقيّ) في "الصغرى"(5/ 205)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل إنظار المعسر، والوضع عنه إما كل الدَّين، وإما بعضه.

2 -

(ومنها): بيان أن شريعة من قبلنا شريعة لنا، إذا لم يَرِد في شرعنا ما يردّه، وهذا هو الصحيح من أقوال العلماء في المسألة، وهو مذهب البخاري، ومسلم، والنسائيّ، وغيرهم، حيث أوردوا هذا الحديث مستدلين به على ما ترجموا له.

3 -

(ومنها): بيان حسن المعاملة، والرفق في المطالبة.

ص: 400

4 -

(ومنها): فضل المسامحة في الاقتضاء، والاستيفاء، سواء كان من معسر أو موسر.

5 -

(ومنها): فضل الوضع من الدَّين، وأنه لا يُحتقَر شيء من أفعال الخير، فلعله سبب سعادة العبد، وسبب رحمة الله تعالى له.

6 -

(ومنها): أن اليسير من الحسنات إذا كان خالصًا لله، كفّر كثيرًا من السيّئات.

7 -

(ومنها): جواز توكيل العبيد، والإذن لهم في التصرّف.

8 -

(ومنها): أن الأجر يحصل لمن يأمر به، وإن لم يتولّ ذلك بنفسه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3987]

(

) - (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ حُجْرٍ - قَالَا: حَدَّثنا جَرِيرٌ، عَنِ الْمُغِيرَة، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، قَالَ: اجْتَمَعَ حُذَيْفَةُ، وَأَبُو مَسْعُودٍ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: "رَجُلٌ لَقِيَ رَبَّهُ، فَقَالَ: مَا عَمِلْتَ؟ قَالَ: مَا عَمِلْتُ مِنَ الْخَيْر، إِلا أَنِّي كُنْتُ رَجُلًا ذَا مَالٍ، فَكُنْتُ أُطَالِبُ بِهِ النَّاسَ، فَكُنْتُ أَقْبَلُ الْمَيْسُورَ، وَأتجَاوَزُ عَنِ الْمَعْسُور، فَقَالَ: تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي"، قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: هَكَذَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل باب.

3 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

4 -

(الْمُغِيرَةُ) بن مِقسم الضبيّ مولاهم، أبو هشام الكوفي الأعمى، ثقةٌ متقنٌ، إلا أنه يدلّس [6](ت 136)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.

5 -

(نُعَيْمُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ) النعمان بن أشيم الأشجعيّ، ثقةٌ رُمي بالنصب [4](ت 110)(خت م مد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 68/ 378.

6 -

(أَبُو مَسْعُودٍ) عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاريّ البدريّ الصحابيّ

ص: 401

الشهير، مات رضي الله عنه قبل الأربعين، وقيل: بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 458.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (فَقَالَ حُذَيْفَةُ: "رَجُلٌ لَقِيَ رَبَّهُ) ظاهر هذه الرواية أنها موقوفة على حذيفة رضي الله عنه، لكن الرواية السابقة، واللاحقة تبيّن أنها مرفوعة، فتنبّه.

وقوله: (فَقَالَ: مَا عَمِلْتَ؟)"ما" هذه استفهاميّة مبتدأ خبرها جملة "عملتَ" بتاء الخطاب؛ أي: أيَّ شيء عملتَ؟

وقوله: (قَالَ: مَا عَمِلْتُ مِنَ الْخَيْرِ)"ما" هذه نافية، و"عملتُ" بتاء المتكلّم؛ أي: لم أعمل من الخير شيئًا.

وقوله: (فَكُنْتُ أقبَلُ الْمَيْسُورَ، وَأتجَاوَزُ عَنِ الْمَعْسُورِ) أي: آخذ ما تيسّر، وأسامح بما تعسّر.

وقال القرطبي رحمه الله: رواية الجماعة: "أقبل" بالهمزة المفتوحة، وبالقاف ساكنةً، وبالباء الموحّدة المفتوحة، من القبول، و"الميسور": المتيسّر، ووقع لبعضهم بضمّ الهمزة، وكسر القاف، وياء تحتانيّة، من الإقالة، وفيه بُعْدٌ؛ لأنه لا يستقيم المعنى حتى يكون الميسور بمعنى الموسر، ولا يُعطيه قانون التصريف، ولا يَعْضِده نقل. انتهى

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3988]

(

) - (حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: (أَنَّ رَجُلًا مَاتَ، فَدَخَلَ الْجَنَّةَ، فَقِيلَ لَهُ: مَا كنْتَ تَعْمَلُ؟ قَالَ: فَإِمَّا ذَكَرَ، وَإِمَّا ذُكرَ، فَقَالَ: إِنَي كُنْتُ أُبَايعُ الناسَ، فَكُنْتُ أنظِرُ الْمُعْسِرَ، وَأتجَوَّزُ فِي السَّكَّة، أَوْ في النَّقْد، فَغُفِرَ لَهُ"، فَقَالَ أبُو مَسْعُودٍ: وَأنا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم).

(1)

"المفهم" 4/ 436.

ص: 402

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ) اللَّخْميّ الْفَرَسيّ الكوفيّ، ثقة فقية، تغيّر حفظه، وربما دلّس [3](ت 136) وله (103)(ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 296.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

وقوله: (مَا كُنْتَ تَعْمَلُ؟)"ما" استفهاميّة.

وقوله: (قَالَ: فَإمَّا ذَكَرَ، وَإِمَّا ذُكِّرَ) هذا شكّ من الراوي، في أن الرجل هل ذَكَر مسامحته بنفسه، أو ذَكَّرته الملائكة، فـ "ذَكَرَ" الأول مخفّف الكاف، مبنيًّا للفاعل؛ أي: تذكّر بنفسه ما عمله في الدنيا، و"ذُكِّر" الثاني بتشديد الكاف، مبنيًّا للمفعول؛ أي: ذَكّرته الملائكة.

وقوله: (وَأتجَوَّزُ فِي السِّكَّةِ) بكسر السين المهملة، وتشديد الكاف؛ أي: في الدنانير والدراهم المضروبة، قال في "النهاية": يُسمّى كلّ واحد منهما سِكّةً؛ لأنه طُبع بالحديدة، واسمها السِّكّة والسِّكّ. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: السِّكّة: حديدة منقوشة تُطبع بها الدراهم والدنانير، والجمع: سِكَكٌ، مثلُ سِدرة وسِدَرٍ. انتهى

(2)

.

وقوله: (أَوْ فِي النَّقْدِ) الظاهر أن "أو" هنا للشكّ من الراوي، و"النقد" بفتح، فسكون: تمييز الدراهم، قال الفيّوميّ: نقدتُ الدراهم نَقْدًا، من باب قَتَلَ، والفاعل ناقدٌ، والجمع نُقّاد، مثلُ كافر وكُفّار، وانتقدتُ كذلك: إذا نظرتَها؛ لتعرف جيّدها وزيفها. انتهى

(3)

.

والحديث متّفق عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3989]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبو خَالِدٍ الأَحْمَرُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ طَارِقٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: "أُتي اللهُ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ آتاهُ اللهُ مَالًا، فَقَالَ لَهُ: مَاذَا عَمِلْتَ فِي الدُّنْيَا - قَالَ: وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا -

(1)

"النهاية" 2/ 384.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 282، و"القاموس المحيط" 3/ 306.

(3)

"المصباح" 2/ 620.

ص: 403

قَالَ: يَا رَبِّ آتَيْتَني مَالَكَ، فَكُنْتُ أُبايعُ النَّاسَ، وَكَانَ مِنْ خُلُقِي الْجَوَازُ، فَكُنْتُ أتيَسَّرُ عَلَى الْمُوسِر، وَأُنظِرُ الْمُعْسِرَ، فَقَالَ اللهُ: أنَا أَحَق بِذَا مِنْكَ، تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي"، فَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ الْجُهَنِيُّ، وَأَبُو مَسْعُودٍ الأنصَارِيُّ: هَكَذَا سَمِعْنَاهُ مِنْ في رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ) عبد الله بن سعيد بن حُصين الْكِنديّ الكوفيّ، ثقة، من صغار [10](ت 257)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 17.

2 -

(أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ) سليمان بن حيّان الأزديّ الكوفيّ، صدوق يُخطئ [8](ت 190) أو قبلها، وله بضع وسبعون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.

3 -

(سَعْدُ بْنُ طَارِقٍ) أبو مالك الأشجعيّ الكوفيّ، ثقة [4] مات في حدود (140)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (أُتِيَ اللهُ

إلخ) ببناء الفعل للمفعول، و"الله" مرفوع على أنه النائب عن الفاعل؛ أي: جيء إليه سبحانه وتعالى.

وقوله: (آتَاهُ اللهُ) بمدّ الهمزة: أي أعطاه الله عز وجل.

وقوله: (قَالَ: وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا) فاعل "قال" الظاهر أنه ضمير حذيفة رضي الله عنه؛ أي: لا يستطيع أحد أن يكتم يوم القيامة شيئًا من أعماله، فإن كتم شهدت عليه جوارحه، كما سيأتي

(1)

.

وقوله: (مِنْ خُلُقِي الْجَوَازُ) بضمّ الخاء المعجمة، واللام؛ أي: من طبيعتي، وسجيّتي.

وقوله: (الجواز) أي: التساهل، والتسامح في البيع والشراء، كما بيّنه بقوله: (فَكُنْتُ أَتيَسَّرُ

إلخ) أي: أسهّل.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وكان من خلقي الجواز" أي: التجاوز عن

(1)

"المفهم" 4/ 436.

ص: 404

حقوقه، فإما من حلول الأجل، فيؤخره، وإما من استيفاء الحقّ، فيُسقط بعضه، أو يسامع في الزَّيف. أنتهى

(1)

.

وقوله: (وَأنظِرُ الْمُعْسِرَ) هكذا في هذه الرواية.

وقوله: (فَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ الْجُهَنِيُّ، وَأَبُو مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيُّ الخ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ: "فقال عقبة بن عامر وأبو مسعود"، قال الحفّاظ: هذا الحديث إنما هو محفوظ لأبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاريّ البدريّ وحده، وليس لعقبة بن عامر فيه رواية، قال الدارقطنيّ: والوَهَمُ في هذا الإسناد من أبي خالد الأحمر، قال: وصوابه: عقبة بن عمرو أبو مسعود الأنصاريّ، كذا رواه أصحاب أبي مالك سعد بن طارق، وتابعهم نعيم بن أبي هند، وعبد الملك بن عُمير، ومنصور، وغيرهم، عن رِبعيّ، عن حذيفة، فقالوا في آخر الحديث: فقال: عقبة بن عمرو أبو مسعود، وقد ذكر مسلم في هذا الباب حديث منصور، ونعيم، وعبد الملك، والله أعلم. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الصواب: "فقال عقبة بن عمرو أبو مسعود الأنصاريّ"، فيكون "أبو مسعود" بدلًا من عقبة بن عمرو، فليُتنبّه.

[تنبيه]: نقل الحافظ المزيّ رحمه الله في "تحفته": عن خَلَف قوله: عقبة بن عامر وَهَمٌ، لا أعلم أحدًا قاله غيره - يعني الأشجّ - والحديث إنما يُحفظ من حديث عقبة بن عمرو أبي مسعود. انتهى.

وتعقّب الحافظ في "النكت الظراف" قول المزّيّ: "يعني الأشجّ"، فقال: قد تابع الأشجّ إسحاق ابن راهويه، فأخرجه في "مسنده" عن أبي خالد الأحمر، وقال في روايته:"فقال عقبة بن عامر، وأبو مسعود"، هكذا بالواو العاطفة، وهكذا أخرجه أبو نعيم في "مستخرجه" على مسلم من طريق إسحاق، وقد قال الدارقطنيّ في "العلل": إن الوهم فيه من أبي خالد، فيمكن أن يستقيم كلامه بأن يكون الضمير في قوله: لا أعلم قاله غيره، يعني أبا خالد، لا

(1)

"المفهم" 4/ 436.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 225 - 227.

ص: 405

الأشجّ، كما فسّره المزَيّ. انتهى

(1)

.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وأخرجه أبو عوانة في "مسنده"(3/ 374)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3390]

(1561) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ - وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى - قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَفَالَ الآخَرُونَ: حَدَّثَنَا أبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "حُوسِبَ رَجُلْ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَيْءٌ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ، وَكَانَ مُوسِرًا، فَكَانَ يَأمُرُ غِلْمَانَهُ أَنْ يَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعْسِر، قَالَ: قَالَ اللهُ عز وجل: نَحْنُ أَحَق بِذَلِكَ مِنْهُ، تَجَاوَزُوا عَنْهُ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهران، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(شَقِيقُ) بن سلمة، أبو وائل الأسديّ الكوفيّ، مخضرم ثقةٌ [2](ت 82)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، وفيه أبو كريب أحد مشايخ الجماعة، بلا واسطة، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ مخضرم، وفيه أبو مسعود المشهور بالبدريّ؛ لسُكناه بدرًا على المشهور، أو لشهوده وقعة بدر على ما قاله البخاريّ، وهو الصحيح.

(1)

راجع: "تحفة الأشراف" مع "النكت الظراف" 3/ 25.

ص: 406

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ) عقبة بن عمرو الأنصاريّ البدريّ رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "حُوسِبَ) قيل: معناه: يحاسب يوم القيامة، وإنما أورده بصيغة الماضي؛ لتحقّق وقوعه، كما في قوله تعالى:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1].

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن كونه بمعنى الماضي لا بُعد فيه، بل هو الأولى؛ فقد يُعذّب عند خروج روحه، أو في قبره، وقد سبق قوله صلى الله عليه وسلم:"تلقت الملائكة روح رجل"، وقوله:"رجل لقي ربه، فقال: ما عملتَ؟ "، فكلّ هذا ظاهر أنه وقع في الدنيا قبل يوم القيامة، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

(رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) أي: من الأمم السابقة؛ كبني إسرائيل (فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَيْءٌ) قال الأبيّ رحمه الله: هذا عامّ مخصوص؛ لأن عنده الإيمان، ولذا يجوز العفو عنه:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، واللائق به أنه ممن قام بالفرائض؛ لأنه كان ممن وُقي شحّ نفسه، فالمعنى لم يوجد له من النوافل إلا هذا، ويَحْتَمِل أنه له نوافل أُخَر، لكن هذا غلب عليه، فلم يذكرها اكتفاءً بهذا، ويَحْتَمِل أن يكون المراد بالخير المال، فيكون المعنى أنه لم يوجد فعل برّ في المال إلا إنظار المعسر. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم أنه لا حاجة إلى هذه الاحتمالات التي فيها تكلّف ظاهر، بل ما دلّ عليه ظاهر النصّ، من أنه لا خير عنده أصلًا، إلا الإيمان هو الأولى والأظهر، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

(إِلَّا أنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ) أراد بمخالطتهم مخالطتهم بالتعامل معهم بالبيع والشراء (وَكَانَ مُوسِرًا) أي: غنيًّا (فَكَانَ يَأمُرُ غِلْمَانَهُ) بالكسر: جمع غلام؛ أي: خُدّامه (أَنْ يَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعْسِرِ) أي: الفقير، وفيه دليل على استحباب إذن السيّد لعبده في التجاوز (قَالَ: قَالَ اللهُ عز وجل: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ) أي: بالتجاوز (مِنْهُ) قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "نحن أحقّ بذلك منه" صدقٌ وحق؛ لأنه تعالى متفضّل ببذل ما لا يُستحقّ عليه، ومسقط بعفوه عن عبده ما يجب له من الحقوق عليه، ثم يتلافاه برحمته، فيُكرمه، ويقرّبه منه، وإليه، فله

(1)

"شرح الأبيّ" 4/ 244.

ص: 407

الحمد كِفَاءَ إنعامه، وله الشكر على إحسانه. انتهى

(1)

.

(تَجَاوَزُوا عَنْهُ") أمرٌ للملائكة الذين يحاسبونه في أعماله أن يسامحوه فيما فرّط فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي مسعود رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [28/ 3990](1561)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1307)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 546)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 120)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(293)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 374)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(17/ 537)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5047)، و (الحاكم) في "مستدركه"(2/ 29)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 356)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف: رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3991]

(1562) - (حَدَّثنَا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ مَنْصُورٌ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الزهْرِيَّ، وَقَالَ ابْنُ جَعْفَرٍ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ، وَهُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَاب، عَنِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي هُريرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كَانَ رَجُل يُدَايِنُ النَّاسَ، فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ: إِذَا أتيْتَ مُعْسِرًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، لَعَلَّ اللهَ يَتَجَاوَزُ عَئا، فَلَقِيَ اللهَ، فتَجَاوَزَ عَنْهُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِم) بشير التركيّ، أبو نصر البغداديّ الكاتب، ثقة [10](ت 235) وهو ابن (80) سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 38/ 255.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ زِيَادٍ) الْوَرَكانيّ، أبو عمران الْخُرَاسانيّ، نزيل بغداد، ثقة [10](ت 228)(م د س) تقدم في "الإيمان" 38/ 255.

(1)

"المفهم" 4/ 436.

ص: 408

3 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجةٌ [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

44 -

(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم، تقدّم قبل باب.

5 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ) بن مسعود الْهُذليّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 94)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه عبيد الله بن عبد الله أحد الفقهاء السبعة، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ) أي: يتعامل معهم بالدين، بأن يبيع لهم إلى أجل، وفي رواية النسائيّ:"إن رجلًا لم يعمل خيرًا قط، وكان يداين الناس".

(فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ) أي: لعبده، وفي رواية النسائيّ:"فيقول لرسوله: خذ ما تيسَّر، واترك ما عَسُر"(إِذَا أتيْتَ مُعْسِرًا) هو الذي لا يجد وفاء لدَينه (فَتَجَاوَزْ عَنْهُ) بنحو إنظار، وحسن تقاضٍ، والتجاوزُ: التسامح في التقاضي، وقبولُ ما فيه نقص يسير (لَعَلَّ اللهَ يَتَجَاوَزُ عَنَا) قال الطيبيّ رحمه الله: أراد القائل نفسه، لكن جمع الضمير إرادةَ أن يتجاوز عمن فعل هذا الفعل؛ ليدخل فيه دخولًا أوليًّا، ولهذا استُحبّ للداعي أن يَعُمّ في الدعاء، ولا يخصّ نفسه، لعلّ الله تعالى ببركتهم يستجيب دعاءه. انتهى

(1)

. (فَلَقِيَ اللهَ) في القبر، أو في القيامة (فَتَجَاوَزَ عَنْهُ) أي: غَفَر له ذنوبه، ولم يؤاخذه بها؛ لحسن ظنه، ورجائه أنه يعفو عنه، مع إفلاسه من الطاعات.

وفي الحديث بيان فضل إنظار المعسر، والوضع عنه، ولو لِمَا قَلّ، وأنه

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 7/ 2172.

ص: 409

مُكَفِّر للذنوب، وفضل المسامحة في الاقتضاء والاستيفاء، سواء عن الموسر، أو المعسر، وعدم احتقار شيء من أفعال الخير، وإن قَل، فلعلها تكون سببًا للرحمة والمغفرة، والله تعالى أعلم بالصواب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [29/ 3991 و 3992](1562)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2078) و"الأنبياء"(3480)، و (النسائيّ) في "البيوع"(4696 و 4697) و"الكبرى"(6293 و 6294)، و (الطيالسي) في "مسنده"(2514)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 465)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 332 و 239 و 361)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5042 و 5043 و 5046)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 33 و 34)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 343 و 344)، و (البيهقي) في "الكبرى"(5/ 356)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2139)، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3992]

(

) - حَدَّثَنِي

(1)

حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَاب؛ أَن عُبَيْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ حَدَّثَهُ؛ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلهم ذُكروا في الباب، وقبل باب.

[تنبيه]: رواية يونس، عن ابن شهاب هذه ساقها أبو عوانة في "مسنده" 3/ 343 فقال:

(5232)

- حدّثنا يونس بن عبد الأعلى، وبحر بن نصر الخولاني قالا: ثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن

(1)

وفي نسخة: "وحدّثني".

ص: 410

عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان رجل يداين الناس، فإذا أعسر المعسر، قال لفتاه: تجاوز عنه، لعل الله يتجاوز عئا، فلقي الله، فتجاوز الله عنه". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3993]

(1563) - (حَدَّثَنَا أَبْو الْهَيْثَمِ خَالِدُ بْنُ خِدَاشِ بْنِ عَجْلَانَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ، عَنْ أيُّوبَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ؛ أَن أَبَا قَتَادَةَ طَلَبَ غَرِيمًا لَهُ، فَتَوَارَى عَنْهُ، ثُمَّ وَجَدَهُ، فَقَالَ: إِني مُعْسِرٌ، فَقَالَ: الله؟ قَالَ: الله، قَالَ: فَإني سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَة، فَلْيُنَفس عَنْ مُعْسِرٍ، أَوْ يَضَعْ عَنْهُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو الْهَيْثمِ خَالِدُ بْنُ خِدَاشِ

(1)

بْنِ عَجْلَانَ) الْمُهَلَّبي مولاهم البصريّ، سكن بغداد، صدوق يُخطئ [10].

رَوَى عن حماد بن زيد، ومالك، ومهدي بن ميمون، وغيرهم.

وروى عنه مسلم، وروى له البخاريّ في "الأدب"، وأبو داود في "مسند مالك"، والنسائي بواسطة أبي قُدامة السرخسيّ، وهارون الحمال، والحسن بن إسحاق المروزيّ، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وأحمد بن حنبل، وغيرهم.

قال يحيى بن معين، وأبو حاتم، وصالح بن محمد البغداديّ: صدوقٌ، وقال ابن سعد: ثقةٌ، وقال يعقوب بن شيبة: كان ثقةَ صدوقًا، وقال ابن المدينيّ: ضعيف، وقال زكريا الساجيّ: فيه ضعف، وقال يحيى بن معين: قد كتبت عنه، ينفرد عن حماد بن زيد بأحاديث، وقال أبو داود: روى عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر حديث الغار، ورأيت سليمان بن حرب ينكره عليه، وقال أبو حاتم الرازيّ: سألت سليمان بن حرب عنه، فقال: صدوق، لا بأس به، كان يختلف معنا إلى حماد بن زيد، وأثنى عليه خيرًا.

قال مُطَيَّن وغيره: مات سنة (223)، وذكره ابن حبان في "الثقات"،

(1)

بكسر الخاء المعجمة، وتخفيف الدال، وآخره شين معجمة.

ص: 411

وقال: مات سنة (224)، وكذا أَرَّخه ابن قانع، وقال: ثقةٌ، وفي كتاب الساجيّ أيضًا: كان أحمد يَلْزَمه.

أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود في "مسند مالك"، والنسائي، وليس له عند المصنّف إلا هذا الحديث.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ زيدٍ) تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(أيُّوبُ) بن أبي تميمة السَّخْتياني، تقدّم قريبًا.

4 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) صالح بن المتوكّل، أبو نصر البصريّ، ثم اليماميّ، ثقة ثبتٌ يُدلس ويرسل [5](ت 132) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.

5 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبي قتَادَةَ) الأنصاريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 95)(ع) تقدم في "الطهارة" 18/ 619.

6 -

(أَبُو قَتَادَةَ) الأنصاريّ الحارث، وقيل: عمرو، وقيل: النعمان بن رِبْعيّ بن بُلْدُمة الأنصاريّ السَلَميّ الصحابيّ الشهير، شَهِد أُحُدًا، وما بعدها، ومات سنة (54)(ع) تقدم في "الطهارة" 18/ 619.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: أيوب، عن يحيى، عن عبد الله بن أبي قتادة، ورواية الأولين من رواية الأقران؛ لأنهما من الطبقة الخامسة، وفيه رواية الابن عن أبيه.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ؛ أَنَّ) أباه (أَبَا قَتَادَةَ) الأنصاريّ رضي الله عنه (طَلَبَ غَرِيمًا لَهُ) أي: مدينًا له، قال الفيّوميّ رحمه الله: وأُغْرِم بالشيء، بالبناء للمفعول: أولعَ به، فهو مُغرَمٌ، والْغَريمُ: المدين، وصاحب الدين أيضًا، وهو الخصم، مأخوذ من ذلك؛ لأنه يصير بإلحاحه على خصمه ملازمًا، والجمع: غُرماء، مثلُ كريم وكُرَماء. انتهى

(1)

. (فتَوَارَى عَنْهُ) أي: اختفى عن أبي قتادة؛ لئلا

(1)

"المصباح المنير" 2/ 446.

ص: 412

يلزمه (ثُمَّ وَجَدَهُ) بيّن الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" هذه القصّة، فقد أخرج الحديث مطوّلًا 5/ 308 فقال:

(22676)

حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا عفان، ثنا حماد - يعني ابن سلمة - أنا أبو جعفر الخطميّ، عن محمد بن كعب القُرَظيّ؛ أن أبا قتادة كان له على رجل دين، وكان يأتيه يتقاضاه، فيختبئ منه، فجاء ذات يوم، فخرج صبيّ، فسأله عنه، فقال: نعم هو في البيت، يأكل خَزِيرةً، فناداه: يا فلان اخرُج، فقد أُخبرت أنك ههنا، فخرج إليه، فقال: ما يُغَيِّبك عني؟ قال: إني معسر، وليس عندي، قال: آلله إنك معسر؟ قال: نعم، فبكى أبو قتادة، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَن نَفَّس عن غريمه، أو محا عنه، كان في ظل العرش يوم القيامة". انتهى.

(فَقَالَ) ذلك الغريم؟ معتذرًا إليه (إِنِّي مُعْسِرٌ) أي: فقير لا أستطيع دفع دينك إليك (فَقَالَ) أبو قتادة رضي الله عنه (اللهِ؟) هذا قسم سؤال؛ أي: أبالله، وباء القسم تُضمر كثيرًا مع "الله"، قال الرضيّ: وإذا حُذف حرف القسم الأصليّ - أعني الباء - فالمختار النصب بفعل القسم، ويختصّ لفظُ "الله" بجواز الجرّ مع حذف الجارّ بلا عوض، وقد يُعوّض من الجارّ فيها همزة الاستفهام، أو قطع همزة "الله" في الدرج. انتهى

(1)

.

(قَالَ) الرجل (الله) أي: والله أنا معسر (قَالَ: فَإِني سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ)"الْكُرَب" بضمّ الكاف، وفتح الراء: جمع كُرْبة بضمّ، فسكون، وهي الشدّة، والفاقة، وكرب يوم القيامة: شدائدها، وأهوالها (فَلْيُنَفسْ) بتشديد الفاء، من التنفيس، وأصله من النَفَس - بفتحتين - يقال: أنت في نَفَسٍ - يعني في سعة، فكأن من كان في كربة ضاقت عليه مداخل الأنفاس، فإذا فُرّج عنه فُسحت

(2)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: هو مستعار من نَفَس الهَوَاء الذي يردّه التنفّس إلى الجوف، فيُبرد من حرارته، ويُعَدِّلها، أو من نَفَس الريح الذي يتنسّمه، فيَستروح

(1)

من هامش نسخة المحقق محمد ذهني أفندي 5/ 33.

(2)

"تكملة فتح الملهم" 1/ 406.

ص: 413

إليه، أو من نَفَس الروضة: وهو طِيبُ روائحها، فيتفرّج به عنه، يقال: أنت في نَفَس من أمرك، واعْمَل وأنت في نفَس من عُمرك؛ أي: في سَعَة، وفُسْحة قبل المرَض، والْهَرَم، ونحوهما. انتهى

(1)

.

ومعنى "فليُنفس" هنا: فليمدّ، وليؤخّر المطالبة، وقيل: معناه: يُفرّج عنه، إما بإمهال، أو أداء، أو إبراء، أو وساطة، أو تأخير مطالبة، ونحوها (عَنْ مُعْسِرٍ) أي: فقير (أَوْ يَضَعْ عَنْهُ") بالجزم عطفًا على "يتنفّس"؛ أي: يحطّ بعض ديونه عن المعسر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي قتادة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [28/ 3993 و 3994](1563)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 546)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 300 و 308)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 97)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 340)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 356 - 357) و"المعرفة"(4/ 492)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل التنفيس عن المعسر بتأخير المطالبة إلى أن يتيسّر له القضاء.

2 -

(ومنها): بيان فضل وضع بعض الديون عن المدين.

3 -

(ومنها): الحثّ على التيسير، والترغيب فيه.

4 -

(ومنها): بيان فضل الصحابيّ الجليل أبي قتادة الأنصاريّ رضي الله عنه، وشدّة رأفته بالمساكين، فقد بكى لَمّا ذكر له المديون كونه معسرًا، وتذكّر ما سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم من فضل التنفيس عن الغريم، والمحو عنه، ففعل ذلك، كما سيأتي في رواية أبي عوانة.

(1)

"النهاية" 5/ 93.

ص: 414

وقد اتّفق مثل هذه القصّة لأبي اليسر الصحابيّ رضي الله عنه، فقد أخرج المصنّف، كما سيأتي في "كتاب الزهد والرقائق" عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، قال: خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحيّ من الأنصار، قبل أن يَهْلِكوا، فكان أول من لَقِينا أبا اليَسَر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه غلام له، معه ضِمَامة من صحف

(1)

، وعلى أبي اليسر بُرْدَة ومَعَافريّ

(2)

، وعلى غلامه بُرْدة ومَعَافريّ، فقال له أبي: يا عم إني أرى في وجهك سَفْعَةً

(3)

من غضب، قال: أَجَلْ، كان لي على فلان بن فلان الْحَرَاميّ مالٌ، فأتيت أهله، فسلمت، فقلت: ثَمَّ هو؟ قالوا: لا، فخرج على ابنٌ له جَفْرٌ

(4)

، فقلت: له أين أبوك؟ قال: سمع صوتك، فدخل أَرِيكة أمي

(5)

، فقلت: اخرُج إليَّ، فقد علمتُ أين أنت؟ فخرج، فقلت: ما حملك على أن اختبأت مني؟ قال: أنا والله أُحَدِّثك، ثم لا أَكْذِبك، خَشِيتُ والله أن أحدِّثك، فأَكْذِبك، وأن أَعِدَك، فأخْلِفك، وكنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنتُ والله معسرًا، قال: قلت: الله؟ قال: الله، قلت: الله؟ قال: الله، قلت: اللهِ؟ قال: الله، قال: فأتى بصحيفته، فمحاها بيده، فقال: إن وجدتَ قضاءً فأقضني، وإلا أنت في حِلّ، فأَشْهَدُ بَصَرُ عينيّ هاتين - وَوَضَع إصبعيه على عينيه - وسَمْعُ أذنيّ هاتين، ووعاه قلبي هذا - وأشار إلى مناط قلبه - رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول:"من أنظر معسرًا، أو وضع عنه، أظله الله في ظله". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3994]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو الطَّاهِر، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ أَبُوبَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ).

(1)

أي رزمة يضمّ بعضها إلى بعض.

(2)

"البردة": شملة مخطّطة، وقيل: كساء مربع فيه صفر، والمعافريّ: نوع من الثياب يُعمل بقرية تسمّى معافر.

(3)

أي تغيّر وعلامة.

(4)

مقارب البلوغ.

(5)

أي سريرها.

ص: 415

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن السرح المصريّ، تقدّم قبل بابين.

2 -

(جَرِيرُ بْنُ حَازِمِ) بن زيد بن عبد الله الأزديّ، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ، في حديثه عن قتادة ضعف [6](ت 170)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 81.

والباقيان ذُكرا في الإسنادين السابقين.

[تنبيه]: رواية جرير بن حازم، عن أيوب السختيانيّ هذه ساقها أبو عوانة في "مسنده" 3/ 344 فقال:

(5237)

- حدَّثنا يونس بن عبد الأعلى الصَّدَفيّ، قال: أنبا ابن وهب، قال: أخبرني جرير بن حازم، عن أيوب، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه؛ أنه كان يطلب بحقّ، فاختبأ منه، فقال: ما حملك على ذلك؟ قال: العُسْرة، فاستحلفه على ذلك، فحَلَف، فدعا بصَكَّة، ثم أعطاه إياه، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:"من أنسا معسرًا، أو وضع عنه، أنجاه الله من كُرَب يوم القيامة". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(29) - (بَابُ بَيَانِ حُكْمِ مَطْلِ الْغَنيِّ، وَالْحَوَالَة، وَقَبُولهَا)

(1)

" الْمَطْلُ" بفتح الميم، وسكون الطاء المهملة؛ أي: تسويفه بوعد الوفاء، يقال: مَطَلَهُ بدَينه مَطْلًا، من باب نصر: إذا سوّفه بوعد الوفاء مرّة بعد أخرى،

(1)

هذه الترجمة أولى من ترجمة النوويّ، حيث ترجموا على وفق مذهبه، فقال: "باب تحريم مطل الغنيّ، وصحّة الحوالة، واستحباب قبولها

إلخ"، فقوله: "واستحباب قبولها" هو مذهب الشافعي، ويرى غيره وجوب قبولها، وهو الأرجح، كما سيأتي.

وبالجملة أنه لا ينبغي لشارح كتاب من كتب الحديث أن يقيّد الترجمة بمذهبه، بل يجعله مطلقًا على ظاهر الحديث، ثم يرجّح في الشرح ما يراه راجحًا، وينبغي التنبّه لهذا، فإن كثيرًا من شرّاح "صحيح مسلم" يسلكون هذا المسلك، والله المستعان.

ص: 416

وماطله مِطالًا، من باب قاتل، والفاعل من الثلاثيّ ماطل، ومَطُولٌ مبالغة، كمطّال، ومن الرباعيّ مماطلٌ، وأصل "المطل": المدّ، يقال: مَطَلْت الحديدَةَ مَطْلًا: مددتها، وطوّلتها، وكلّ ممدود ممطول

(1)

.

و"الْحَوالة" - بفتح الحاء، وقد تُكسر -: مشتقة من التحويل، أو من الْحُئُول، تقول: حال عن العهد: إذا انتقل عنه حُئُولًا، وهي عند الفقهاء نقل دين من ذمة إلى ذمة، واختلفوا هل هي بيع دين بدين، رُخِّص فيه، فاستُثني من النهي عن بيع الدين بالدين، أو هي استيفاء؟ وقيل: هي عقد إرفاق مستقلّ، ويشترط في صحتها رضا المحيل، بلا خلاف، والمحتال عند الأكثر، والمحال عليه، عند بعض من شذّ، ويشترط أيضًا تماثل الحقين في الصفات، وأن يكون في شيء معلوم، ومنهم من خصها بالنقدين، ومنعها في الطعام؛ لأنه بيع طعام قبل أن يُسْتَوفَى، قاله في "الفتح"

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3995]

(1564) - (حَدَّثنَا يَحْيى بْنُ يَحْيى، قَالَ: قَرَأتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَاد، عَنِ الأَعْرَج، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَطْلُ الْغَنِيَّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُتْبعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتبعْ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان، تقدّم قبل بابين.

3 -

(الأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز المدنيّ، تقدّم أيضًا قبل بابين.

والباقيان تقدّما في الباب الماضي.

ومن لطائف هذا الإسناد: أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، والله تعالى أعلم.

(1)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 575.

(2)

"الفتح" 6/ 63.

ص: 417

شرح الحديث:

(عَنِ الأَعْرَجِ) عبد الرحمن بن هُرْمُز (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، قال في "الفتح": قد رواه همّام، عن أبي هريرة، ورواه ابن عمر، وجابر، مع أبي هريرة رضي الله عنه

(1)

. (أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَطْلُ الْغَنِي ظُلْمٌ) قال القرطبيّ رحمه الله: المطل: منع قضاء ما استُحِق أداؤه مع التمكن من ذلك، وطلبِ المستحقّ حقه، وهو الذي قال فيه في الحديث الآخر:"لَيّ الواجد يُحِلّ عرضه وعقوبته": أي: مطل الموسر المتمكن إذا طولب بالأداء ظلم للمستحق، يبيح من عرضه أن يقال فيه: فلان يَمْطُل الناسَ، ويحبس حقوقهم، ويبيح للإمام أدبه وتعزيره حتى يرتدع عن ذلك، حُكي معناه عن سفيان.

قال: و"الظلم": وضع الشيء في غير موضعه في أصل اللغة، وهو في الشرع محرَّم مذموم. ووجهه هنا: أنه وضع المنع موضع ما يجب عليه من البذل، فحاق به الذم والعقاب. والغني الذي أضيف المطل إليه هو الذي عليه الحقّ؛ بدليل قوله:"لَيُّ الواجد"، وهو الظاهر من الحديث والمراد منه، ولا يُلْتَفَت لقول من قال: إنه صاحب الحقّ، لبُعد المعنى، وعدم ما يدل عليه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

.

وفي رواية ابن عيينة، عن أبي الزناد، عند النسائيّ، وابن ماجه:"المطل ظلم الغنيّ"، والمعنى: أنه من الظلم، وأُطلق ذلك للمبالغة في التنفير عن المطل.

وقد رواه الْجَوْزقيّ من طريق همام، عن أبي هريرة، بلفظ:"إن من الظلم مطل الغنيّ"، وهو يفسِّر الذي قبله.

وأصل المطل: المدّ، قال ابن فارس: مَطَلتُ الحديدة أمطُلها مَطْلًا: إذا مددتها لتطول، وقال الأزهريّ: المطل المدافعة.

والمراد هنا تأخير ما استُحِقّ أداؤه بغير عذر، والغنيّ مختلف في تعريفه، ولكن المراد به هنا مَن قَدَر على الأداء، فأخّره، ولو كان فقيرًا، كما سيأتي البحث فيه.

(1)

"الفتح" 6/ 64.

(2)

"المفهم" 4/ 438 - 439.

ص: 418

وهل يَتَّصِف بالمطل مَن ليس القدر الذي استُحِق عليه حاضرًا عنده، لكنه قادر على تحصيله بالتكسب مثلًا؟ أَطْلَق أكثر الشافعية عدم الوجوب، وصرَّح بعضهم بالوجوب مطلقًا، وفَصَّل آخرون بين أن يكون أصل الدين وجب بسبب يَعْصِي به، فيجب، وإلا فلا.

وقوله: "مَطْلُ الغني" هو من إضافة المصدر للفاعل عند الجمهور، والمعنى: أنه يَحْرُم على الغنيّ القادر أن يَمْطُل بالدين بعد استحقاقه، بخلاف العاجز.

وقيل: هو من إضافة المصدر للمفعول، والمعنى: أنه يجب وفاء الدين، ولو كان مستَحِقّه غنيًّا، ولا يكون غناه سببًا لتأخير حقّه عنه، وإذا كان كذلك في حقّ الغنيّ، فهو في حقّ الفقير أولى، ولا يخفى بُعْدُ هذا التأويل، قاله في "الفتح"

(1)

.

(وَإِذَا أتْبعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَليءٍ فَلْيَتْبَعْ") المشهور في الرواية واللغة كما قال النوويّ إسكان المثناة في "اتْبع"، وفي "فَلْيَتْبَعْ"، وهو على البناء للمجهول، مثلُ: إذا اعْلِم فَلْيَعَلم، تقول: تَبِعت الرجل بحقي أتبعه، من باب فَرِحَ تَبَعًا وتبَاعَةً بالفتح: إذا طلبته.

وقال القرطبيّ رحمه الله: أما "أُتْبعَ" فبضم الهمزة، وسكون التاء، مبنيًّا لِمَا لم يُسَمَّ فاعله عند الجميع، وأما "فَلْيَتْبَع"، فالأكثر على التخفيف، وقيّده بعضهم بالتشديد، والأول أجود؛ لأن العرب تقول: تَبِعتُ الرَّجلَ بحقِّي، أَتْبَعه، تبَاعَةً: إذا طلبته به، فأنا له تبيع - كل ذلك بالتخفيف -، ومنه قوله تعالى:{ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} [الإسراء: 69]، ومعناه: إذا أحيل أحدكم فليحتل. انتهى

(2)

.

قال الحافظ: وما ادَّعاه من الاتفاق على "أُتْبعَ" يردُّه قول الخطابيّ: أن أكثر المحدثين يقولونه بتشديد التاء، والصواب التخفيف.

ومعنى قوله: "أُتْبعَ فَلْيَتْبَعْ"؛ أي: أُحيل فَلْيَحْتَلْ، وقد رواه بهذا اللفظ

(1)

"الفتح" 6/ 64 - 65 "كتاب الحوالة" رقم (2287).

(2)

"المفهم" 4/ 439.

ص: 419

أحمد، عن وكيع، عن سفيان الثوريّ، عن أبي الزناد، وأخرج البيهقيّ مثله، من طريق يعلى بن منصور، عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، وأشار إلى تفرد يعلى بذلك، ولم يتفرد به كما تراه، ورواه ابن ماجه من حديث ابن عمر بلفظ:"فإذا أُحلت على مليء فاتَّبِعه" وهذا بتشديد التاء بلا خلاف.

و"المليء" بالهمز مأخوذ من الملاء، يقال: مَلُؤ الرجل بضم اللام؛ أي: صار مليًّا، وقال الكرماني: الملي كالغنيّ لفظًا ومعنًى، فاقتضى أنه بغير همز، وليس كذلك، فقد قال الخطابيّ: إنه في الأصل بالهمز، ومن رواه بتركها فقد سَهَّله.

[تنبيه]: قال في "الفتح": ادّعَى الرافعيّ أن الأشهر في الروايات: "وإذا أُتبع" - يعني بالواو - وأنهما جملتان، لا تعلق لإحداهما بالأخرى، وزعم بعض المتأخرين أنه لم يَرِد إلا بالواو، وغَفَل عما في "صحيح البخاري"، فإنه بالفاء في جميع الروايات، وهو كالتوطئة، والعلة لقبول الحوالة؛ أي: إذا كان المطل ظلمًا، فليقبل من يُحتال بدَينه عليه، فإن المؤمن من شأنه أن يحترز عن الظلم، فلا يَمْطُل، نعم رواه مسلم بالواو، وكذا البخاريّ في الباب الذي بعده، لكن قال:"ومن أتبع". ومناسبة الجملة للتي قبلها؛ أنه لما دَل على أن مَطْل الغنيّ ظلم، عَقبَه بأنه ينبغي قبول الحوالة على المليء؛ لما في قبولها من دفع الظلم الحاصل بالمطل، فإنه قد تكون مطالبة المحال عليه سهلة على المحتال، دون المحيل، ففي قبول الحوالة إعانة على كفّه عن الظلم. انتهى

(1)

.

وقال القرطبي رحمه الله: وهذا الأمر - يعني قوله: "فليتبع" - عند الجمهور محمول على الندب؛ لأنه من باب المعروف والتيسير على المعسر، وقد حمله داود على الوجوب تمسَّكًا بظاهر الأمر، وهذا ليس بصحيح؛ لأن ملك الذمم كملك الأموال، وقد أجمعت الأمّة على أن الإنسان لا يُجْبَر على المعاوضة بشيء من ملكه بملك غيره، فكذلك الذمم، وأيضًا فإن نقل الحق من ذمة إلى ذمة تيسير على المعسر، وتنفيسٌ عنه، فلا يجب، وإنما هو من باب المعروف بالاتفاق.

(1)

"الفتح" 6/ 66.

ص: 420

قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي أن الصحيح كون الأمر للوجوب؛ لأنه لا صارف، وأن داود لم ينفرد به، بل قاله جماعة من السلف، وهو الأرجح في مذهب أحمد، فتنبّه.

قال القرطبيّ: وإذا تقرَّر ذلك فالحوالة معناها: تحويل الدَّين من ذمَّة إلى ذمَّة، وهي مستثناة من بيع الدَّين بالدَّين؛ لما فيها من الرِّفق، والمعروف، ولها شروط:

[فمنها]: أن تكون بدين، فإن لم تكن بدين لم تكن حوالة، لاستحالة حقيقتها إذ ذاك، وإنما تكون حمالة.

[ومنها]: رضا المحيل والمحال دون المحال عليه، وهو قول الجمهور خلافًا للإصطخريّ، فإنَّه اعتبره، وإطلاق الحديث حجَّة عليه، وقد اعتبره مالك إن قصد المحيل بذلك الإضرار بالمحال عليه، وهذا من باب دفع الضرر.

[ومنها]: أن يكون الدين المحال به حالًّا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "مطل الغني ظلم"، ولا يصح المطل، ولا يصدق الظلم إلا في حقّ من وجب عليه الأداء، فيمطل، ثم قال بعده:"فإذا أتبع أحدكم فليتبع"، فأفاد ذلك: أن الدَّين المحال به لا بُدَّ أن يكون حالًّا؛ لأنه إن لم يكن حالًّا كَثُرَ الغَرَرُ بتأجيل الدَّينين.

[ومنها]: أن يكون الدين المحال عليه من جنس المحال به؛ لأنه إن خالفه في نوعه خرج من باب المعروف إلى باب المبايعة، والمكايسة، فيكون بيع الدَّين بالدَّين المنهيّ عنه.

فإذا كملت شروطها برئت ذمة المحيل بانتقال الحق الذي كان عليه إلى ذمة المحال عليه، فلا يكون للمحال الرُّجوع على المحيل، وإن أفلس المحال عليه، أو مات، وهذا قول الجمهور.

وقد ذهب أبو حنيفة إلى رجوعه عليه، إن تعذر أخذ الدين من المحال عليه، والأول الصحيح؛ لأن الحوالة عقد معاوضة، فلا يرجع بطلب أحد العوضين بعد التسليم، كسائر عقود المعاوضات؛ ولأن ذمة المحيل قد برئت من الحق المحال به بنفس الحوالة، فلا تعود مشتغلةً به إلا بعقد آخر، ولا عقد، فلا شغل، غير أن مالكًا قال: إن غرَّ المحيل المحال بذمَّة المحال عليه كان له الرُّجوع على المحيل، وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه؛ لوضوحه.

ص: 421

انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأرلى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [29/ 3995 و 3996](1564)، و (البخاريّ) في "الحوالة"(2287 و 2288) و "الاستقراض"(2400)، و (أبو داود) في "البيوع"(3345)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1308)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 317) و"الكبرى"(4/ 59)، و (ابن ماجه) في "الأحكام"(2403)، و (مالك) في "الموطّإ"(1379)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(245)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(15356)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 79)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 379 - 380 و 465)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 338)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 348)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(4/ 8)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5053 و 5090)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 154)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(4/ 63)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1/ 386 و 11/ 188 و 229)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 70) و"الصغرى"(5/ 328) و"المعرفة"(4/ 456)، و (البغويّ) في "شرح السنة"(2152)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان حكم مَطْلِ الغنيّ، وهو التحريم، قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: يُسْتَدَلّ بتسمية المطل ظلمًا على إلزام الماطل بدفع الدين، والتوصل إلى ذلك بكل طريق، من إكراهه على الإعطاء، وأخْذه منه قهرًا، وحبسه وملازمته، فإن الأخذ على يد الظالم واجب، وهو كذلك، وحَكَى شريح، والرويانيّ من الشافعيّة وجهين في تقييد المحبوس إذا كان لَحُوحًا صَبُورًا على الحبس. انتهى

(2)

.

(1)

"المفهم" 4/ 440 - 441.

(2)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 6/ 163.

ص: 422

2 -

(ومنها): أن فيه الزجرَ عن الْمَطْل، واختُلِف هل يُعَدُّ فعله عمدًا كبيرة، أم لا؟ فالجمهور على أن فاعله يَفسُقُ، لكن هل يثبت فسقه بمطله مرة واحدة، أم لا؟ قال النوويّ: مقتضى مذهبنا اشتراط التكرار، وردّه السبكي في "شرح المنهاج" بأن مقتضى مذهبنا عدمه، واستَدلَّ بأن منع الحق بعد طلبه، وابتغاء العذر عن أدائه؛ كالغصب، والغصب كبيرة، وتسميته ظلمًا يُشعر بكونه كبيرة، والكبيرة لا يشترط فيها التكرر، نعم لا يحكم عليه بذلك، إلا بعد أن يظهر عدم عذره. انتهى.

واختلفوا هل يفسق بالتأخير، مع القدرة قبل الطلب، أم لا؟ فالذي يُشعر به حديث الباب التوقف على الطلب؛ لأن المطل يُشعر به، ويدخل في المطل كُل من لزمه حقّ؛ كالزوج لزوجته، والسيد لعبده، والحاكم لرعيته، وبالعكس.

3 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن العاجز عن الأداء، لا يدخل في الظلم، وهو بطريق المفهوم؛ لأن تعليق الحكم بصفة من صفات الذات، يدل على نفي الحكم عن الذات، عند انتفاء تلك الصفة، ومن لم يقل بالمفهوم، أجاب بأن العاجز لا يسمى ماطلًا.

4 -

(ومنها): أن الغنيّ الذي ماله غائب عنه، لا يدخل في الظلم، وهل هو مخصوص من عموم الغنيّ، أو ليس هو في الحكم بغنيّ؟ الأظهر الثاني؛ لأنه في تلك الحالة يجوز إعطاؤه من سهم الفقراء، من الزكاة، فلو كان في الحكم غنيًّا، لم يجز ذلك.

5 -

(ومنها): أنه استُنبط منه أن المعسر لا يحبس، ولا يطالب حتى يوسر، قال الشافعيّ: لو جازت مؤاخذته، لكان ظالمًا، والفرض أنه ليس بظالم؛ لعجزه، وقال بعض العلماء: له أن يحبسه، وقال آخرون: له أن يلازمه.

6 -

(ومنها): أنه استُدلّ به على أن الحوالة إذا صحت، ثم تعذر القبض بحدوث حادث، كموت، أو فَلَس

(1)

، لم يكن للمحتال الرجوع على المحيل؛ لأنه لو كان له الرجوع، لم يكن لاشتراط الغنى فائدة، فلما شُرطت عُلم أنه

(1)

"الفَلَس" بالتحريك: عدم النَّيْل. اهـ. "ق".

ص: 423

انتقل انتقالًا، لا رجوع له، كما لو عَوّضه عن دينه بعوض، ثم تَلِف العوض في يد صاحب الدين، فليس له رجوع، وقال الحنفية: يرجع عند التعذر، وشبّهوه بالضمان.

وقال في "الطرح": ظاهره انتقال الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، فإنه لولا ذلك لما قُيِّد الأمر بقبولها بكون المحال عليه مليئًا، فإنه لا ضرر حينئذ عليه في الحوالة على المعسر؛ لبقاء حقه في ذمة المحيل بحاله، وبهذا قال الأئمة الأربعة في الجملة، وقال زفر، والقاسم بن معين: لا يبرأ المحيل كالضمان، وقال عثمان الْبَتِّيّ: لا يبرأ إلا إن اشترط البراءة، وكانت الحوالة على موسر، أو على معسر، وأعلمه بإعساره، فإن لم يُعلمه بإعساره فلا براءة، ولو شرطها. انتهى.

7 -

(ومنها): أنه استُدلَ به على ملازمة المماطل، وإلزامه بدفع الدين، والتوصل إليه بكل طريق، وأخْذه منه قهرًا.

8 -

(ومنها): أن ظاهر الحديث يدلّ على أن المعتبر في صحة الحوالة رضا المحيل والمحتال فقط؛ لأنهما اللذان اعْتَبَر الشرع فعلهما، ذاك بالإحالة، وهذا بقبولها دون المحال عليه، فإنه لا ذكر له في الحديث، وبهذا قال مالك، وأحمد، وهو الأصح عند الشافعية، وذهب الإصطخريّ، والزبيريّ منهم إلى أنه يشترط رضاه أيضًا، فإنه أحد أركان الحوالة، فأشبه المحيل والمحتال، وبهذا قال أبو حنيفة، وذكر صاحب "الهداية" من الحنفية أن الحوالة تصحّ بدون رضا المحيل، وعَلَّله بأن التزام الدين من المحال عليه تصرف في حق نفسه، وهو لا يتضرر به، بل فيه نفعه؛ لأنه لم يرجع عليه إذا لم يكن بأمره. انتهى

(1)

.

9 -

(ومنها): أن فيه الإرشادَ إلى ترك الأسباب القاطعة لاجتماع القلوب؛ لأنه زَجَرَ عن المماطلة، وهي تؤدّي إلى ذلك

(2)

.

10 -

(ومنها): استَدَلَّ به ابن حزم على أنه لا تجوز الحوالة إلا على مليء، فلو أحاله على غير مليء فهو فاسد، وحقّه باق على المحيل كما كان، سواء دَرَى أنه غير مليء أم لا.

(1)

"طرح التثريب" 6/ 166.

(2)

راجع: "الفتح" 6/ 66 - 67.

ص: 424

قال وليّ الدين: وفيه نظر؛ فإنه لم يمنع في الحديث من الحوالة على غير المليء، وإنما أمر بقبول الحوالة على المليء، وسكت عن الحوالة على غيره، فلم يأمر بقبولها، ولم ينه عنه، بل الأمر فيها إلى خِيرة المحال، والله أعلم. انتهى

(1)

.

11 -

(ومنها): ما قاله وليّ الدين رحمه الله: لم يعتبر أصحابنا - يعني الشافعيّة - في صحة الحوالة اعترافَ المحال عليه، ولا قيام بيّنة عليه بذلك، بل صححوها مع جحوده، واعتبر مالك ثبوته بالإقرار فقط، واعتبر آخرون بثبوته ولو بالبيّنة، وإطلاق الحديث يدلّ على أنه لا يعتبر ثبوته، والله أعلم. انتهى

(2)

.

12 -

(ومنها): ما قاله وليّ الدين رحمه الله: الحكمة في الجمع بين هاتين الجملتين - يعني قوله: "مطلُ الغنيّ ظلم"، وقوله:"وإذا اتبع إلخ" - من وجهين:

[أحدهما]: وهو الأظهر أنه لما ذَكَر أن مطل الغني ظلم عَقَّبه بأنه ينبغي قبول الحوالة على المليء؛ لِمَا في قبولها من دفع الظلم الحاصل بالمطل، فإنه قد تكون مطالبة المحال عليه سهلة على المحتال دون المحيل، ففي قبول الحوالة عليه إعانة له على ترك الظلم.

[ثانيهما]: أنه عَقَّب كون مطل الغني ظلمًا بأنه ينبغي أن يحتال على المليء، فإنه لا ضرر عليه في ذلك؛ لأن الظاهر من حال المسلم الاحتراز عن الظلم، أو لأن المليء لا يتعذر استيفاء الحق منه عند الامتناع، بل يأخذه منه الحاكم قهرًا ويوفيه، فيحصل الغرض بقبول الحوالة من غير مفسدة بقاء الحقّ.

وأورد الشيخ ابن دقيق العيد رحمه الله في "شرح العمدة" لفظ الحديث: "فإذا أتبع أحدكم" بالفاء، وقال: في الحديث إشعار بان الأمر بقبول الحوالة على المليء مُعَلَّل بكون مطل الغني ظلمًا، ولعل السبب فيه فذكر هذين المعنيين اللذين ذكرتهما آنفًا في الوجه الثاني.

ثم قال: والمعنى الأول أرجح؛ لما فيه من بقاء معنى التعليل بكون

(1)

"طرح التثريب" 6/ 165.

(2)

"طرح التثريب" 6/ 167 - 168.

ص: 425

المطل ظلمًا، وعلى المعنى الثاني تكون العلة عدم تَوَاء الحقّ، لا الظلم. انتهى

وذكر الرافعيّ أن الأشهر في الرواية بالواو، ويروى بالفاء، قال: فعلى الأول هو مع قوله: "مطل الغني ظلم" جملتان، لا تعلق للثانية بالأولى، وعلى الثاني يجوز أن يكون المعنى أنه إذا كان المطل ظلمًا من الغني، فليقبل الحوالة عليه، فإن الظاهر أنه يتحرز عن الظلم، ولا يَمْطُل. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في معنى الحوالة، واشتقاقها:

قال في "الفتح": "الْحَوالة" - بفتح الحاء، وقد تُكسر -: مشتقة من التحويل، أو من الْحُئُول: تقول: حال عن العهد: إذا انتقل عنه حُئُولًا، وهي عند الفقهاء نقل دين من ذمة إلى ذمة. واختلفوا هل هي بيع دين بدين، رُخِّص فيه، فاستُثني من النهي عن بيع الدين بالدين، أو هي استيفاء؟ وقيل: هي عقد إرفاق مستقل، ويشترط في صحتها رضا المحيل، بلا خلاف، والمحتال عند الأكثر، والمحال عليه، عند بعض من شذّ، ويشترط أيضًا تماثل الحقين في الصفات، وأن يكون في شيء معلوم، ومنهم من خصها بالنقدين، ومنعها في الطعام؛ لأنه بيع طعام قبل أن يُسْتَوفَى. انتهى

(2)

.

وقال ابن قُدامة رحمه الله: الحوالة ثابتة بالسنة والإجماع، أما السنة، فما رَوَى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"مطلُ الغني ظلم، وإذا أُتبع أحدكم على مليء فليتبع" متفق عليه، وفي لفظ:"من أُحيل بحقه على مليء، فليحتل"، وأجمع أهل العلم على جواز الحوالة في الجملة.

واشتقاقها من تحويل الحقّ من ذمة إلى ذمة، وقد قيل: إنها بيع، فإن المحيل يشتري ما في ذمته بما له في ذمة المحال عليه، وجاز تأخير القبض رخصةً؛ لأنه موضوع على الرفق، فيدخلها خيار المجلس لذلك، والصحيح أنها عَقْدُ إرفاق، منفرد بنفسه، ليس بمحمول على غيره؛ لأنها لو كانت بيعًا، لما جازت؛ لكونها بيع دين بدين، ولما جاز التفرق قبل القبض؛ لأنه بيع مال

(1)

"طرح التثريب" 6/ 165.

(2)

"الفتح" 6/ 63.

ص: 426

الربا بجنسه، ولجازت بلفظ البيع، ولجازت بين جنسين؛ كالبيع كله، ولأن لفظها يشعر بالتحوّل، لا بالبيع، فعلى هذا لا يدخلها خيار، وتلزم بمجرد العقد، وهذا أشبه بكلام أحمد وأصوله.

ولا بد فيها من محيل، ومحتال عليه، ويشترط في صحتها رضى المحيل بلا خلاف، فإن الحق عليه، ولا يتعيّن عليه جهة قضائه، وأما المحتال، والمحال عليه، فلا يعتبر رضاهما على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم: "فليتبع"، هل هو للوجوب، أم للاستحباب؟:

قال في "الفتح"، ما حاصله: ذهب الجمهور إلى أنه للاستحباب، وَوَهِمَ من نقل فيه الإجماع، وقيل: هو أمر إباحة وإرشاد، وهو شاذّ، وحمله أكثر الحنابلة، وأبو ثور، وابن جرير، وأهل الظاهر على ظاهره، وعبارة الخرقيّ: ومن أُحيل بحقه على مليء، فواجب عليه أن يحتال. انتهى.

وقال ابن قُدامة رحمه الله عند شرح قول الخرقيّ المذكور، ما حاصله: والظاهر أن الخرقيّ أراد بالمليء ههنا القادر على الوفاء، غير الجاحد، ولا المماطل، قال: فإذا أحيل على من هذه صفته، لزم المحتال، والمحال عليه القبول، ولم يعتبر رضاهما، وقال أبو حنيفة: يعتبر رضاهما؛ لأنها معاوضة، فيعتبر الرضا من المتعاقدين، وقال مالك، والشافعي: يعتبر رضى المحتال؛ لأن حقه في ذمة المحيل، فلا يجوز نقله إلى غيرها بغير رضاه، كما لا يجوز أن يجبره على أن يأخذ بالدين عرضًا، فأما المحال عليه، فقال مالك: لا يعتبر رضاه، إلا أن يكون المحتال عدوه، وللشافعي في اعتبار رضائه قولان: أحدهما: يعتبر، وهو يحكى عن الزهري؛ لأنه أحد من تتم به الحوالة، فأشبه المحيل، والثاني: لا يعتبر؛ لأنه أقامه في القبض مقام نفسه، فلم يفتقر إلى رضى من عليه الحق، كالتوكيل.

قال: ولنا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع"، ولأن

(1)

"المغني" 7/ 56.

ص: 427

للمحيل أن يوفي الحق الذي عليه بنفسه، وبوكيله، وقد أقام المحال عليه مقام نفسه في التقبيض، فلزم المحال القبول، كما لو وكل رجلًا في إيفائه، وفارق ما إذا أراد أن يعطيه عما في ذمته عرضًا؛ لأنه يعطيه غير ما وجب له، فلم يلزمه قبوله. انتهى

(1)

.

فال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما قاله الحنابلة، وأبو ثور، وابن جرير، وأهل الظاهر من كون الأمر للوجوب، وأنه يجب على المحال القبول، إذا توافرت الشروط هو الأرجح؛ لأمْره صلى الله عليه وسلم بذلك، والأصل في الأمر الوجوب، إلا لصارف، ولا يوجد هنا صارف، من نصّ، ولا إجماع، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم، هل يرجع المحتال على المحيل بعد الحوالة، أم لا؟:

قال في "الفتح" رحمه الله ما حاصله: سئل قتادة، والحسن، عن رجل احتال على رجل، فأفلس؟ قالا: إن كان مليًّا يوم احتال عليه، فليس له أن يرجع، وقيّده أحمد بما إذا لم يعلم المحتال بإفلاس المحال عليه، وعن الْحَكَم: لا يرجع، إلا إذا مات المحال عليه، وعن الثوريّ يرجع بالموت، وأما بالفَلَس، فلا يرجع إلا بمحضر المحيل والمحال عليه، وقال أبو حنيفة: يرجع بالفَلَس مطلقًا، سواء عاش، أو مات، ولا يرجع بغير الفلس، وقال مالك: لا يرجع إلا إن غرّه، كأن علم فَلَس المحال عليه، ولم يُعلمه بذلك، وقال الحسن، وشريح، وزفر: الحوالة كالكفالة، فيرجع على أيهما شاء، وبه يشعر إدخال البخاريّ أبواب الكفالة، في كتاب الحوالة.

وذهب الجمهور إلى عدم الرجوع مطلقًا، واحتج الشافعي بأن معنى قول الرجل: أحلته، وأبرأني، حَوَّلت حقه عني، وأثبته على غيري، وذَكَر أن محمد بن الحسن احتجّ لقوله، بحديث عثمان؛ أنه قال في الحوالة، أو الكفالة: يرجع صاحبها، لا تَوَى؛ أي: لا هلاك على مسلم، قال: فسألته عن إسناده، فذكره عن رجل مجهول، عن آخَر معروف، لكنه منقطع بينه وبين

(1)

"المغني" 7/ 62 - 63.

ص: 428

عثمان، فبطل الاحتجاج به من أوجه، قال البيهقيّ: أشار الشافعيّ بذلك، إلى ما رواه شعبة، عن خُليد بن جعفر، عن معاوية بن قرة، عن عثمان، فالمجهول خُليد، والانقطاع بين معاوية بن قُرّة وعثمان، وليس الحديث مع ذلك مرفوعًا، وقد شك رأويه، هل هو في الحوالة، أو الكفالة؟ انتهى

(1)

.

وقال ابن قُدامة رحمه الله: فإذا اجتمعت شروط الحوالة، برِئت ذمّة المحيل في قول عامّة الفقهاء، إلا ما يروى عن الحسن؛ أنه كان لا يرى الحوالة براءة، إلا أن يبرئه، وعن زفر أنه قال: لا تَنْقُلُ الحقَّ، وأجراها مجرى الضمان، وليس بصحيح؛ لأن الحوالة مشتقة من تحويل الحق، بخلاف الضمان، فإنه مشتق من ضم ذمة إلى ذمة، فعُلِّقَ على كل واحد مقتضاه، وما دل عليه لفظه.

إذا ثبت أن الحق انتقل، فمتى رضي بها المحتال، ولم يشترط اليسار، لم يعد الحق إلى المحيل أبدًا، سواء أمكن استيفاء الحق، أو تعذر لمطل، أو فلَس، أو موت، أو غير ذلك، هذا ظاهر كلام الخرقيّ، وبه قال الليث، والشافعيّ، وأبو عبيد، وابن المنذر، وعن أحمد ما يدل على أنه إذا كان المحال عليه مفلسًا، ولم يعلم المحتال بذلك فله الرجوع، إلا أن يرضى بعد العلم، وبه قال جماعة من أصحابنا، ونحوه قول مالك؛ لأن الفلس عيب في المحال عليه، فكان له الرجوع، كما لو اشترى سلعة فوجدها معيبة، ولأن المحيل غرّه، فكان له الرجوع، كما لو دلّس المبيع، وقال شريح، والشعبي، والنخعي: متى أفلس، أو مات رجع على صاحبه، وقال أبو حنيفة: يرجع عليه في حالين: إذا مات المحال عليه مفلسًا، واذا جحده، وحلف عليه عند الحاكم، وقال أبو يوسف ومحمد: يرجع عليه في هاتين الحالتين، وإذا حُجر عليه لفلَس؛ لأنه رُوي عن عثمان أنه سئل عن رجل أحيل، فمات المحال عليه مفلسًا يرجع بحقه، لا تَوَى على مال امرئ مسلم، ولأنه عقد معاوضة، لم يسلم العوض فيه لأحد المتعاوضين، فكان له الفسخ، كما لو اعتاض بثوب فلم يسلم إليه.

قال: ولنا إن حَزْنًا جدّ سعيد بن المسيِّب، كان له على عليّ رضي الله عنه دَين، فأحاله به، فمات المحال عليه، فأخبره، فقال: اخترت علينا أبعدك الله.

(1)

"الفتح" 6/ 64.

ص: 429

فأبعده بمجرد احتياله، ولم يخبره أن له الرجوع، ولأنها براءة من دين، ليس فيها قبض ممن عليه، ولا ممن يدفع عنه، فلم يكن فيها رجوع، كما لو برأه من الدين، وحديث عثمان لم يصح، يرويه خالد بن جعفر، عن معاوية بن قرة، عن عثمان، ولم يصح سماعه منه، وقد روي أنه قال: في حوالة، أو كفالة، وهذا يوجب التوقف، ولا يصح، ولو صح كان قول عليّ مخالفًا له. وقولهم: إنه معاوضة، لا يصح؛ لأنه يفضي إلى بيع الدين بالدين، وهو منهي عنه، ويفارق المعاوضة بالثوب؛ لأَنَّ في ذلك قبضًا يقف استقرار العقد عليه، وههنا الحوالة بمنزلة القبض، وإلا كان بيع دين بدين. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه عامّة الفقهاء، وهو أن المحيل يبرأ بالحوالة، هو الأظهر؛ لظهور حجته، كما سبق، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3996]

(

) - (حَدَّثنَا إسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، أخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ (ح) وَحَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدثنا عَبْدُ الرَّزَّاق، قَالَا جَمِيعًا: حَدَّثنا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنبِّهٍ، عَنْ أَبِيِ هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السبيعي الكوفيّ، ثقة مأمون [8](ت 187 أو 191)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم قريبًا.

4 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم أيضًا قريبًا.

6 -

(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهِ) بن كامل الأبناويّ، أبو عقبة الصنعانيّ، ثقةٌ [4](ت 132)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

(1)

"المغني" 7/ 60 - 61.

ص: 430

[تنبيه]: رواية همّام بن منبّه، عن أبي هريرة رضي الله عنه هذه ساقها أبو عوانة في "مسنده" 3/ 348 فقال:

(5245)

- حدّثنا السلميّ، قثنا عبد الرزاق، قال: أنبا معمر، عن همام بن مُنَبِّه قال: هذا ما حدّثنا أبو هريرة، عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن من الظلم مَطْلَ الغنيّ، وإذا أُتْبِع أحدكم على مليء فَلْيَتْبَعْ". انتهى.

[خاتمة]: أخرج النسائيّ رحمه الله في "سننه": عن عمرو بن الشَّريد، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَيُّ الواجد يُحِلُّ عِرْضه، وعُقوبته"، وهو حديث حسنٌ، كما بيّنته في "شرح النسائيّ"

(1)

.

وقوله: "لَيُّ الْوَاجِدِ" بفتح اللام، وتشديد الياء؛ أي: مطله، يقال: لواه بدينه يَلْويه لَيًّا، من باب رمَى، ولَيّانًا: إذا مَطَلَه، و"الواجد" - بالجيم -: الموسر.

وقوله: "يُحِلُّ" بضمّ أوله، من الإحلال؛ أي: يُبيح للدائن.

و"العِرْض" - بكسر، فسكون -: هو جانب الرجل الذي يصونه من نفسه، وحَسَبه أن يُنتَقَصَ، ويُثْلَبَ، أو سَوَاءٌ كان في نفسه، أو سَلَفه، أو من يلزمه أمره، أو موضع المدح والذّمّ منه، أو ما يَفْتخِر به من حسَبِ وشَرَف، وقد يُراد به الآباء، والأجداد، قاله المجد في "القاموس".

والمعنى: أنه إذا مطل الغني عن قضاء دينه يَحِل للدائن أن يُغلّظ القول عليه، ويُشدّد في هتك عرضه، وحرمته، وكذا للقاضي أن يغلّظ عليه، ويحبسه تأديبًا له؛ لأنه ظالم، والظلم حرام، وإن قلّ

(2)

.

وقال أبو داود: قال ابن المبارك: "يُحلّ عِرضه": يُغَلَّظ له، و"عقوبته": يُحبس له. انتهى. وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: يُحِلّ عرضه بأن يقول: ظَلَمني، مَطَلني، و"عُقُوبته": الحبس، والتعزير. انتهى.

وقال ابن منظور؛ أي: لصاحب الدين: أن يذُمّ عرضه، ويَصِفه بسوء

(1)

راجع: "ذخيرة العقبى في شرح المجتبى" 35/ 294.

(2)

راجع: "عون المعبود" 10/ 56.

ص: 431

القضاء؛ لأنه ظالم له بعدما كان محرّمًا منه، لا يحلّ له اقتراضه، والطعن عليه، وقيل: عِرضه أن يُغْلِظَ له، وعُقُوبته: الحبس، وقيل: معناه: أنه يحلّ له شكايته منه، وقيل: معناه أن يقول: يا ظالم أنصِفني؛ لأنه إذا مَطَله، وهو غنيّ، فقد ظلمه. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(30) - (بَابُ تَحْرِيمِ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ الَّذِي يَكُونُ بِالْفَلَاة، وَيُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِرَعْيِ الْكَلإ، وَتَحْرِيمِ مَنْعِ بَذْلِه، وَتَحْرِيمِ بَيْعِ ضِرَابِ الْفَحْلِ)

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3997]

(1565) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، فَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.

2 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قريبًا.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، تقدّم قبل بابين.

5 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) تقدّم أيضًا قبل بابين.

6 -

(أَبُو الزبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تدرس، تقدّم قريبًا.

7 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قريبًا، وشرح الحديث يأتي بعده.

(1)

"لسان العرب" 7/ 171.

ص: 432

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3998]

(

) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ؛ أنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ الله، يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ ضِرَابِ الْجَمَل، وَعَنْ بَيْعِ الْمَاءِ وَالأَرْضِ لِتُحْرَثَ، فَعَنْ ذَلِكَ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ) القيسيّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الإسنادين الماضيين، ومن لطائف هذا الإسناد أنه مسلسلٌ بالتحديث، والإخبار، والسماع من أوله إلى آخره، فانتفت تهمة التدليس عن ابن جريج، وأبي الزبير.

شرح الحديث:

(عَن الزُّبَيْرِ) أَنَّهُ (سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ ضِرَابِ الْجَمَلِ) - بكسر الضاد المعجمة - أي: عن أخذ الكراء على ضِرابه، بل ينبغي لصاحب الفحل إعارته بلا كراء، فإن في المنع قطع النسل.

وقال ابن الأثير: ضِراب الجمل: نَزْوه على الأنثى، والمراد بالنهي ما يؤخذ عليه من الأجرة، لا عن نفس الضِّراب، وتقديره: نَهَى عن ثمن ضراب الجمل، كنهيه عن عَسْبِ الفحل؛ أي: عن ثمنه، يقال: ضَرَبَ الجملُ الناقةَ يَضرِبها: إذا نزا عليها، وأضرب فلانٌ ناقته؛ أي: أنزى الفحل عليها. انتهى

(1)

.

(وَعَنْ بَيْعِ الْمَاءِ) تقدّم في الرواية السابقة بلفظ: "عن بيع فضل الماء"، وهو الفاضل عن حاجته، وحاجة عياله، وماشيته، وزرعه.

قال ابن الأثير رحمه الله: هو أن يسقي الرجل أرضه، ثم يبقى من الماء بقيّة، لا يحتاج إليها، فلا يجوز له أن يبيعها، ولا يمنع منها أحدًا ينتفع بها، إذا لم يكن الماء ملكه، أو على قول من يرى أن الماء لا يُملك. انتهى

(2)

.

(1)

"النهاية" 3/ 79.

(2)

"النهاية" 3/ 455.

ص: 433

وقال الشوكانيّ رحمه الله: والظاهر أنه لا فرق بين الماء الكائن في أرض مباحة، أو في أرض مملوكة، وسواء كان للشُّرب، أو لغيره، وسواء كان لحاجة الماشية، أو الزرع، وسواء كان في فلاة، أو في غيرها.

وقال القرطبيّ رحمه الله: ظاهر هذا اللفظ النهي عن نفس بيع الماء الفاضل، الذي يُشْرَب، فإنه السابق إلى الفهم.

وقال النوويّ رحمه الله حاكيًا عن أصحاب الشافعيّ: إنه يجب بذل الماء في الفلاة، بشروط:

[أحدها]: أن لا يكون ماء آخر يُستغنَى به.

[الثاني]: أن يكون البذل لحاجة الماشية، لا لسقي الزرع.

[الثالث]: أن لا يكون مالكه محتاجًا إليه، ويؤيِّد ما ذكرنا من دلالة الحديثين على المنع، من بيع الماء على العموم، حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الشيخين، مرفوعًا، بلفظ:"لا يُمنَعُ فضل الماء؛ ليُمنَع به فضل الكلأ"، وذكره صاحب "جامع الأصول" بلفظ:"لا يباع فضل الماء"، وهو لفظ مسلم، ويؤيِّد المنع من البيع أيضًا: حديث: "الناس شركاء في ثلاث: في الماء، والكلإ، والنار".

وقد حُمِل الماء المذكور على ماء الفحل، وهو مع كونه خلاف الظاهر مردود بما في حديث جابر رضي الله عنه هذا بلفظ:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع فضل الماء، وعن منع ضِراب الفحل".

وقد خُصِّص من عموم حديثي المنع من البيع للماء، ما كان منه مُحرزًا في الآنية، فإنه يجوز بيعه قياسًا على جواز بيع الحطب، إذا أَحرزه الحاطب؛ لحديث الذي أمره صلى الله عليه وسلم بالاحتطاب؛ ليستغني به عن المسألة، وهو متفق عليه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد تقدم في "كتاب الزكاة"، وهذا القياس بعد تسليم صحته، إنما يصح على مذهب من جَوَّز التخصيص بالقياس، والخلاف في ذلك معروف في الأصول، ولكنه يُشكل على النهي عن بيع الماء على الإطلاق، ما ثبت في الحديث الصحيح من أن عثمان رضي الله عنه اشترى بئر رُومة، من اليهوديّ، وسَبّلها للمسلمين، بعد أن سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم، يقول:"من يشتري بئر رُومة؟ فيوسّع بها على المسلمين، وله الجنة"، وكان اليهوديّ يبيع ماءها،

ص: 434

الحديث، فإنه كما يدلّ على جواز بيع البئر نفسها، وكذلك العين بالقياس عليها، يدل على جواز بيع الماء؛ لتقريره صلى الله عليه وسلم لليهودي على البيع.

ويجاب بأن هذا كان في صدر الإسلام، وكانت شوكة اليهود في ذلك الوقت قوية، والنبي صلى الله عليه وسلم صالَحهم، في بادئ الأمر على ما كانوا عليه، ثم استقرّت الأحكام، وشَرَع لأمته تحريم بيع الماء، فلا يعارضه ذلك التقرير، وأيضًا الماء هنا دخل لبيع البئر، ولا نزاع في جواز ذلك. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ.

(وَالأَرْضِ لِتُحْرَثَ) أي: نَهَى عن كراء الأرض للزرع. قال النوويّ رحمه الله: قوله: "نَهَى عن بيع الأرض لتُحرث" معناه: نَهَى عن إجارتها للزرع، قال: والجمهور يجوّزون إجارتها بالدراهم، والثياب، ونحوها، ويتأوّلون النهي تأويلين:

[أحدهما]: أنه نَهْيُ تنزيه؛ ليعتادوا إعارتها، وإرفاق بعضهم بعضًا.

[والثاني]: أنه محمول على إجارتها على أن يكون لمالكها قطعة معيّنة من الزرع، وحمله القائلون بمنع المزارعة على إجارتها بجزءٍ مما يخرج منها. انتهى

(2)

.

وقد تقدّم تفصيل ما ذُكر كلّه في "أبواب المزارعة" مستوفًى، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: (فَعَنْ ذَلِكَ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) تأكيدٌ لما سبق من النهي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [30/ 3997 و 3998](1565)، و (النسائيّ) في

(1)

"نيل الأوطار" 5/ 155.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 229 - 230.

ص: 435

"البيوع"(7/ 306 و 310) و "الكبرى"(4/ 54)، و (ابن ماجه) في "الرهون"(2477)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 356)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 349)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4953)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 61)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(595)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 339 و 6/ 15)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم بيع فضل الماء.

2 -

(ومنها): وجوب بذل الماء مخانًا، من غير طلب عوض، وبه قال الجمهور، وحَكَى الخطابيّ عن قوم أنه تجب له القيمة مع وجوب ذلك، وهو مذهب ضعيف، والصواب الأول.

وقال القرطبيّ رحمه الله عند قوله: "نهى عن بيع فضل الماء": ظاهر هذا اللفظ النهي عن نفس بيع الماء الذي يشرب، فإنه السَّابق إلى الفهم، وقد حمله بعض العلماء على ماء الفحل. وفيه بُعْدٌ، لا سيما وقد قرنه في الحديث الآخر بالنهي عن ضراب الجمل، فدل على أنه ليس هو، فإنَّه كان يكون تكرارًا بلا فائدة.

وقد اختُلف في المسألتين. فأما بيع الماء: فالمسلمون مُجمعون على أن الإنسان إذا أخذ الماء من النيل مثلًا، فقد ملكه، وأن له بيعه. قال بعض مشايخنا: فيه خلاف شاذٌّ، لا يلتفت إليه.

وأما ماء الأنهار، والعيون، وآبار الفيافي، التي ليست بمملوكة: فالاتفاق حاصل على أن ذلك لا يجوز منعه، ولا بيعه، ولا يشك في تناول أحاديث النهي لذلك.

وأما فضل ماء في ملك: فهذا هو محل الخلاف، هل يُجْبر على بذل فضله لمن احتاجه، أو لا يُجبر؟ وإذا أجبر، فهل بالقيمة أو لا؟ قولان سببهما معارضة عموم النهي عن بيع فضل الماء لأصل الملكية، وقياس الماء على الطعام إذا احتاج إليه. والأرجح - إن شاء الله تعالى - حمل الخبر على عمومه، فيجب بذل الفضل بغير بذل قيمة، ويفرّق بينه وبين الطعام بكثرة الماء غالبًا، وعدم المشاحة فيه، وقلَّة الطعام غالبًا، ووجود المشاحة فيه. انتهى

ص: 436

كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

3 -

(ومنها): ما قاله وليّ الدين رحمه الله: إن لوجوب بذل الماء شروطًا مأخوذة من الحديث:

[أحدها]: أن يكون ذلك الماء فاضلًا عن حاجته، وهو صريح الحديث، فإن المنهيّ عنه منع الفضل، لا منع الأصل، ولذلك بوّب عليه البخاريّ في "صحيحه"، فقال: من قال: إن صاحب الماء أحقّ بالماء حتى يَرْوَى؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا يُمنع فضل الماء".

[الثاني]: أن يكون البذل للماشية، وسائر البهائم، ولا يجب عليه بذل الفاضل عن حاجته لزرع غيره على الصحيح عند الشافعيّة، وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه، وسفيان الثوريّ. وعن أحمد روايتان، وقال مالك: يجب عليه بذله للزرع أيضًا، إذا خشي عليه الهلاك، ولم يضرّ ذلك بصاحب الماء، واختلف أصحابه في أنه يستحقّ على ذلك عوضًا، أم لا؟ وحديث أبي هريرة رضي الله عنه:"لا يمنع فضل الماء ليُمنَع به الكلأ" حجة للأولين، فإنه لا يلزم من منع سقي الزرع به منع الكلإ، وهو المعنى الذي عُلّل به الحديث، وإنما يلزم ذلك في منع البهائم، ويدلّ لمالك، ومن وافقه حديث جابر رضي الله عنه هذا، فإنه منع عن بيع فضل الماء، ولم يقيّده بمنع فضل الكلإ، لكنه عند غيره محمول على الحديث الآخر.

[الثالث]: أن لا يجد صاحب الماشية ماء مباحًا، ويدلّ لهذا قوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"ليُمنع به الكلأ"، فإنه متى وجد ذلك لا يلزم من منع الماء منع الكلإ؛ للاستغناء عنه بذلك الماء المباح.

[الرابع]: أن يكون هناك كلأ يُرعى، فلو خلت تلك الأرض عن الكلإ فله المنع؛ لانتفاء العلّة المعتبرة في الحديث. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله

(2)

.

4 -

(ومنها): أنه استَدّلّ ابن حبيب المالكيّ على أن البئر إذا تهايأ فيها مالكاها لهذا يوم، ولهذا يومٌ، فاستغنى صاحب النوبة عن الماء في ذلك اليوم، إما بعد أن سقى زرعه، أو لم يسق؛ لعدم احتياجه لذلك، فلشريكه أن يستقي

(1)

"المفهم" 4/ 441.

(2)

"طرح التثريب" 6/ 180 - 181.

ص: 437

في غير نوبته؛ لأن هذا ماء قد فضل عنه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن منع فضل الماء، وخالفه في ذلك الأكثرون من المالكيّة وغيرهم، وقالوا: الأصل المنع من مال الغير بغير إذنه، إلا ما خرج بدليل، وهذه الصورة ليست الصورة التي ورد فيها الحديث المخصّص، قاله ولي الدين رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الأكثرون هو الظاهر عندي؛ لظهور حجته، والله تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): أخرج ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، من طريق ابن وهب، عن حيوة، عن أبي هانئ بن أبي سعيد مولى بني عفان، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تمنعوا فضل الماء، ولا تمنعوا الكلأ، فيَهزل المالُ، وتجوع العيال"، وفي هذه الرواية التصريح بالنهي عن بيع الكلأ، فيَحتَمِل أن تعود إلى الرواية المشهورة في النهي عن بيعه بالتسبب بأن يمنع الماء، فيكون سببًا لمنع الكلأ، ويَحْتَمِل أن لا يُؤَوَّل بذلك، بل تجعل على ظاهرها من النهي عن بيع الكلأ، وهو محمول على غير المملوك، وهو الكلأ النابت في الموات، فمنعه مجرد ظلم؛ إذ الناس فيه سواء، أما الكلأ النابت في أرضه المملوكة له بالإحياء، فمذهب الشافعيّة جواز بيعه، وفيه خلاف عند المالكية، صحح ابن العربي الجواز، وقال ابن القاسم ومطرف: يبيع ويمنع ما في مروجه وحماه من ملكه، ويباح ما فضل عنه مما في فحوصها من التور والعفاء، إلا أن يكتنفه زرعه فله منعهم؟ للضرر، وسوّى ابن الماجشون بينهما في بيعه، إلا ما فضل عنه من العفاء، وسوّى أشهب في منعه، وقال: هو كالماء الجاري، لا يحل منع ما فضل عنه، ولا بيعه، إلا أن يحرزه، ويحمله، فيبيعه، حَكَى هذا الخلاف ابن شاس، وابن الحاجب، وحكى ابن بطال عن الكوفيين، والشافعيّ أن صاحب الأرض لا يملك الكلأ حتى يأخذه، فيحوزه، وما حكاه عن الشافعيّ مردود.

وقوله: "فيهزل المال، وتجوع العيال" تعليل للنهي عن بيع الكلأ، فإنه يترتب عليه هُزال المال، وهو الماشية؛ إذ ليس كل أحد يقدر على العلف،

(1)

"طرح التثريب" 6/ 182.

ص: 438

فإذا مُنع رعي ماشيته في الكلأ هزلت، فينشأ عن ذلك قلة اللبن، أو فقده، فتجوع العيال الذين يقتاتون باللبن، وما ينشأ عنه من الجبن وغيره، ذكره وليّ الدين رحمه الله

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): رَوَى ابن ماجه رحمه الله بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث لا يُمْنَعْنَ: الماء، والكلأ، والنار".

وروى ابن ماجه أيضًا عن عبد الله بن سعيد، عن عبد الله بن خِرَاش بن حَوْشَب الشيبانيّ، عن العَوّام بن حَوْشَب، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون شركاء في ثلاث، في الماء، والكلأ، والنار، وثمنه حرام"، قال أبو سعيد: يعني الماء الجاري. قال وليّ الدين رحمه الله: والظاهر أن أبا سعيد هذا هو عبد الله بن سعيد شيخ ابن ماجه، وهو الأشجّ، وكان أحد الحفاظ، وهذا الإسناد ضعيف؛ لضعف عبد الله بن خِرَاش، وهو بكسر الخاء، وبالشين المعجمتين، وفي ترجمته أورده ابن عديّ في "الكامل".

ورَوَى أبو داود من رواية رجل من المهاجرين، من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم مرفوعًا:"المسلمون شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار".

قال الخطابيّ: هذا معناه الكلأ يَنبت في موات الأرض، يرعاه الناس، ليس لأحد أن يختص به دون أحد، ويحجزه عن غيره، وكان أهل الجاهلية إذا عَزّ الرجلُ منهم حَمَى بُقْعَةً من الأرض لماشيته ترعاها، يذود الناسَ عنها، فأبطل النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك، وجعل الناس فيه شركاء، يتعاورونه بينهم، فأما الكلأ إذا نبت في أرض مملوكة لمالك بعينه، فهو مال له ليس لأحد أن يَشْرَكه فيه إلا بإذنه.

قال: وقوله: "والنار" فسَّره بعض العلماء بالحجارة التي تُوري النار، فلا يُمنع أحد أن يأخذ منها حجرًا يَقْدَح به النار، فأما التي يوقدها الإنسان، فله أن يمنع غيره من أخذها، وقال بعضهم: له أن يمنع من يريد أن يأخذ منها جذوة من الحطب قد احترق، فصار جمرًا، وليس له أن يمنع من أراد أن

(1)

"طرح التثريب" 6/ 182 - 183.

ص: 439

يستصبح منها مصباحًا، أو يدني منها ضِغْثًا يُشعل بها؛ لأن ذلك لا ينقص من عينها شيئًا. انتهى.

وقال صاحب "العدة" من الشافعيّة: لو أضرم نارًا في حطب مباح بالصحراء، لم يكن له منع من ينتفع بتلك النار، فلو جمع الحطب ملكه، فإذا أضرم فيه النار، كان له منع غيره منها. انتهى.

وأما الماء فالمراد به هنا المياه المباحة النابعة في موضع لا يختص بأحد، ولا صنع للآدميين في إنباعها وإجرائها، كالفرات، وجيحون، والنيل، وسائر أودية العالم، والعيون في الجبال، وسيول الأمطار، فالناس فيها سواء، لكن من أخذ منها شيئًا في إناء، أو جعله في حوض ملكه، ولم يكن لغيره مزاحمته فيه.

وقوله في حديث ابن عباس: "وثمنه حرام" أي: المذكور فأعاد الضمير مفردًا، وإن تقدم ذكر ثلاث، وإنما كان ثمنه حرامًا؛ لأنه غير مملوك فلا يجوز بيعه، وحَمْلُ أبي سعيد وهو الأشجّ له على الجاري هو الغالب، فلو كان الماء المباح غير جار، كماء السيول الراكدة في المستنقعات، فحكمها كذلك، والله أعلم. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسُ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في حكم بيع ضِراب الْفَحْل:

قال النووي في "شرح مسلم": اختَلَف العلماء في إجارة الفحل وغيره من الدواب؛ للضراب، فقال الشافعيّ، وأبو حنيفة، وأبو ثور، وآخرون: استئجاره لذلك باطل، وحرام، ولا يُستَحَقُّ فيه عِوَضٌ، ولو أنزاه المستأجر لا يلزمه المسمى من أجره، ولا أجرة مثل، ولا شيء من الأموال، قالوا: لأنه غرر مجهول، وغير مقدور على تسليمه.

وقال جماعة من الصحابة، والتابعين، ومالك، وآخرون: يجوز استئجاره لضرب مدة معلومة، أو لضربات معلومة؛ لأن الحاجة تدعو اليه، وهي منفعة مقصودة، وحملوا النهي على التنزيه، والحثِّ على مكارم الأخلاق، كما حملوا

(1)

"طرح التثريب" 6/ 183 - 184.

ص: 440

عليه ما قرنه به من النهي عن إجارة الأرض، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله ما حاصله: بيع ماء الفحل لا يُختَلف في فساده إذا وقع بلفظ البيع، وأريد تحصيل العوض الذي هو حصول ماء الفحل في محلّ الرحم، وعَقُوق الأنثى، فإنه غررٌ، ومجهولٌ، وأما على معنى إجارة الفحل للطَّرْق أعوامًا معلومةً، أو إلى مدّة معلومة، فأجازه مالكٌ؛ لكمال شروط الإجارة، مع أن أخذ الأجرة على ذلك ليس من مكارم الأخلاق، ولا يفعله غالبًا إلا أولو الدناءة، ويكون هذا كله كالحجامة، وقد ذهب أبو حنيفة، والشافعيّ، وأبو ثور إلى منع ذلك جملة، والأرجح إن شاء الله تعالى ما صار إليه مالك؛ لِمَا ذكرناه، وبأنه قول جماعة من الصحابة، والتابعين على ما حكاه القاضي عياض. انتهى

(2)

.

وقال ابن قُدامة رحمه الله: إجارة الفحل للضِّراب حرام، وبه قال أبو حنيفة، والشافعيّ، وحُكي عن مالك جوازه، قال ابن عقيل: ويَحْتَمِل عندي الجواز؛ لأنه عقد على منافع الفحل ونزوه، وهذه منفعة مقصودة، والماء تابع، والغالب حصوله عقيب نزوه، فيكون كالعقد على الظئر؛ ليحصل اللبن في بطن الصبيّ.

وحجة الأولين ما رَوَى ابن عمر رضي الله عنهما: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع عَسْب الفحل"، رواه البخاريّ، وعن جابر رضي الله عنه قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ضراب الجمل"، رواه مسلم، ولأنه مما لا يُقدر على تسليمه، فأشبه إجارة الآبق، ولأن ذلك متعلق باختيار الفحل وشهوته، ولأن المقصود هو الماء، وهو مما لا يجوز إفراده بالعقد، وهو مجهول، وإجارة الظئر خولف فيه الأصل؛ لمصلحة بقاء الآدميّ، فلا يقاس عليه ما ليس مثله، فعلى هذا إذا أعطى أجرة لعسب الفحل، فهو حرام على الآخذ؛ لما ذكرناه، ولا يحرم على المعطي؛ لأنه بذل ماله لتحصيل مباح، يحتاج إليه، ولا يمتنع هذا كما في كسب الحجام، فإنه خبيث، وقد أعطى النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي حجمه، وكذلك أجرة الكسح، والصحابة أباحوا شراء المصاحف، وكرهوا بيعها، وإن أَعطى صاحب الفحل هدية، أو أكرمه من غير إجارة جاز، وبه قال الشافعيّ؛ لما روى

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 230.

(2)

"المفهم" 4/ 442 - 443.

ص: 441

أنس رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: "إذا كان إكرامًا فلا بأس"، ولأنه سبب مباح، فجاز أخذ الهدية عليه، كالحجامة.

وقال أحمد في رواية ابن القاسم: لا يأخذ، فقيل له: ألا يكون مثل الحجام، يُعطَى، وإن كان منهيًا عنه؟ فقال: لم يبلغنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أعطى في مثل هذا شيئًا، كما بلغنا في الحجام.

ووجهه أن ما منع أخذ الأجرة عليه منع قبول الهدية، كمهر البغيّ، وحلوان الكاهن، قال القاضي: هذا مقتضى النظر، لكن تُرك مقتضاه في الحجام، فيبقى فيما عداه على مقتضى القياس، والذي ذكرناه أرفق بالناس، وأوفق للقياس، وكلام أحمد يحمل على الورع، لا على التحريم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه الجمهور من تحريم بيع ضراب الفحل، هو الصواب؛ لظهور أدلّته، وأما لو أُكرم صاحب الفحل بهديّة من غير مشارطة، فلا مانع؛ لما أخرجه الترمذيّ، والنسائيّ، واللفظ للترمذيّ بإسناد صحيح من حديث أنس رضي الله عنه:"أن رجلًا من كلاب، سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، عن عَسْب الفحل؟ فنهاه، فقال: يا رسول الله، إنا نُطرِق الفحل فنُكرَم، فرخص له في الكرامة"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[3999]

(1566) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأتُ عَلَى مَالِكٍ (ح) وَحَدّثنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا لَيْث، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الزِّنَاد، عَنِ الأَعْرَج، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ الْكَلأُ").

رجالا هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(قتيْبَةُ) بن سعيد، تقدّم قبل بابين.

2 -

(اللَّيْثُ) بن سعد، تقدّم أيضًا قبل بابين.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

(1)

"المغني" 6/ 302 - 304.

ص: 442

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ) بضم حرف المضارعة، على البناء للمجهول، وبالرفع على أنه خبرٌ، و"لا" نافية، والمراد به مع ذلك النهي، وذكر عياض أنه في رواية أبي ذرّ بالجزم بلفظ النهي.

وقال وليّ الدين رحمه الله: قوله: "لا يُمْنَع" رُوي بالرفع على أنه خبر، وبالجزم على النهي، وقد رويناه بالوجهين في "صحيح البخاريّ"، فالجزم رواية الحافظ أبي ذرّ عبد بن أحمد الهرويّ، والرفع هو المشهور، وهو خبر اللفظ، نَهْيٌ من جهة المعنى، وقد دلّ على ذلك قوله في الرواية الأخرى، وهي في "الصحيحين":"لا تمنعوا" بلفظ النهي الصريح. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": المراد بالفضل ما زاد على الحاجة، ولأحمد من طريق عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"لا يُمنَع فضلُ ماء بعد أن يُستَغنَى عنه"، وهو محمول عند الجمهور على ماء البئر المحفورة في الأرض المملوكة، وكذلك في الموات إذا كان بقصد التملك، والصحيح عند الشافعية، ونَصَّ عليه في القديم وحرملةَ؛ أن الحافر يملك ماءها، وأما البئر المحفورة في الموات لقصد الارتفاق، لا التملك، فإن الحافر لا يملك ماءها، بل يكون أحقّ به إلى أن يرتحل، وفي الصورتين يجب عليه بذل ما يفضل عن حاجته، والمراد: حاجة نفسه وعياله وزرعه وماشيته، هذا هو الصحيح عند الشافعية، وخَصّ المالكية هذا الحكم بالموات، وقالوا في البئر التي في الملك: لا يجب عليه بذل فضلها، وأما الماء الْمُحْرَز في الإناء، فلا يجب بذل فضله لغير المضطرّ على الصحيح

(2)

.

وقوله: (فَضْلُ الْمَاءِ) فيه جواز بيع الماء لأن المنهي عنه منع الفضل، لا منع الأصل، وفيه أن محل النهي ما إذا لم يجد المأمور بالبذل له ماء غيره، والمراد تمكين أصحاب الماشية من الماء، ولم يقل أحد: إنه يجب على صاحب الماء مباشرة سقي ماشية غيره، مع قدرة المالك. (لِيُمْنَعَ بِهِ الْكلأُ")

(1)

"طرح التثريب" 6/ 179.

(2)

"الفتح" 6/ 157 - 158.

ص: 443

- بفتح الكاف واللام، بعدها همزة، مقصورًا -: هو النبات، رطبه ويابسه، والمعنى: أن يكون حول البئر كلأ ليس عنده ماء غيره، ولا يمكن أصحاب المواشي رعيه، إلا إذا تمكنوا من سقي بهائمهم من تلك البئر؛ لئلا يتضرروا بالعطش بعد الرعي، فيستلزم منعُهم من الماء، منعهم من الرعي، وإلى هذا التفسير ذهب الجمهور، وعلى هذا يختص البذل بمن له ماشية، ويلتحق به الرُّعاة، إذا احتاجوا إلى الشرب لأنهم إذا مُنعوا من الشرب، امتنعوا من الرعي هناك.

ويَحْتَمِل أن يقال: يمكنهم حمل الماء لأنفسهم؛ لقلة ما يحتاجون إليه منه، بخلاف البهائم، والصحيح الأول، ويلتحق بذلك الزرع عند مالك، والصحيح عند الشافعية، وبه قال الحنفية: الاختصاص بالماشية، وفرّق الشافعي فيما حكاه المزني عنه، بين المواشي، والزرع بأن الماشية ذات أرواح، يُخشى من عطشها موتها، بخلاف الزرع، وبهذا أجاب النوويّ وغيره.

واستُدلَّ لمالك بحديث جابر رضي الله عنه الماضي بلفظ: "نَهَى عن بيع فضل الماء"، لكنه مطلق، فيُحمَل على المقيد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وعلى هذا لو لم يكن هناك كلأ يُرعَى فلا مانع من المنع؛ لانتفاء العلة.

قال الخطابيّ: والنهي عند الجمهور للتنزيه، فيحتاج إلى دليل يوجب صرفه عن ظاهره، وظاهر الحديث أيضًا وجوب بذله مجانًا، وبه قال الجمهور، وقيل: لصاحبه طلب القيمة من المحتاج إليه، كما في إطعام المضطرّ.

وتُعُقّب بأنه يلزم منه جواز المنع، حالة امتناع المحتاج من بذل القيمة، ورُدَّ بمنع الملازمة، فيجوز أن يقال: يجب عليه البذل، وتترتب له القيمة في ذمة المبذول له، حتى يكون له أخذ القيمة منه متى أمكن ذلك، نعم في رواية لمسلم، من طريق هلال بن أبي ميمونة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة:"لا يباع فضل الماء"، فلو وجب له العوض، لجاز له البيع، والله أعلم.

واستَدَلّ ابن حبيب من المالكية، على أن البئر، إذا كانت بين مالكين، فيها ماء، فاستغنى أحدهما في نوبته، كان للآخر أن يسقى منها؛ لأنه ماء فضل عن حاجة صاحبه، وعموم الحديث يشهد له، وإن خالفه الجمهور.

واستدل به بعض المالكية، للقول بسد الذرائع؛ لأنه نَهَى عن منع الماء؛

ص: 444

لئلا يتذرع به إلى منع الكلأ، لكن ورد التصريح في بعض طرق حديث أبي هريرة بالنهي عن منع الكلإ، صححه ابن حبان من رواية أبي سعيد مولى بني غفار، عن أبي هريرة، بلفظ:"لا تمنعوا فضل الماء، ولا تمنعوا الكلأ، فيُهْزَلَ المالُ، وتجوع العيال".

والمراد بالكلإ هنا النابت في الموات، فإن الناس فيه سواء.

وروى ابن ماجه، من طريق سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"ثلاثة لا يُمنَعنَ: الماء، والكلأ، والنار"، وإسناده صحيح، قال الخطابي: معناه: الكلأ ينبت في موات الأرض، والماء الذي يجري في المواضع التي لا تختص بأحد، قيل: والمراد بالنار الحجارة التي تُوري النارَ، وقال غيره: المراد النار حقيقة، والمعنى: لا يُمنَعُ من يستصبح منها مصباحًا، أو يُدنِي منها ما يُشعله منها، وقيل: المراد ما إذا أَضرَم نارًا في حطب مباح بالصحراء، فليس له منع من ينتفع بها، بخلاف ما إذا أضرم في حطب يملكه نارًا، فله المنع، قاله في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [30/ 3999 و 4000 و 4001](1566)، و (البخاريّ) في "الأشربة"(2353 و 2354) و"الحيل"(6962)، و (أبو داود) في "البيوع"(3/ 277)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1272)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(3/ 470)، و (ابن ماجه) في "الرهون"(2478)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 744)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 153)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 244 و 273 و 309 و 482)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(596)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4954)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 350 و 351)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 131 و 175)، و (الحاكم) في "مستدركه"(2/ 70)،

(1)

"الفتح" 6/ 158 - 159.

ص: 445

و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 15 و 16 و 151 و 152) و"الصغرى"(5/ 455) و"المعرفة"(4/ 534 و 535)، و (البغويّ) في "شرح السنة"(1668)، وفوائد الحديث تقدّمت في شرح حديث جابر رضي الله عنه قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4000]

(

) - (وَحَدَّثَني أبُو الطاهِر، وَحَرْمَلَةُ - وَاللَّفْظُ لِحَرْمَلَةَ - أخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّب، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ أَن أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَمْنَعُوا فَضْلَ الْمَاءِ لِتَمْنَعُوا بِهِ الْكَلأَ")

(1)

.

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) بن حَزْن المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ ثبت فقيهٌ، من كبار [3] مات بعد التسعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.

2 -

(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدني، ثقةٌ فقيه مكثر [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة"جـ 2 ص 423.

والباقون تقدّموا قبل باب.

وقوله: ("لَا تَمْنَعُوا فَضْلَ الْمَاءِ لِتَمْنَعُوا بِهِ الْكَلأَ") وفي اللفظ التالي: "لا يباع فضل الماء؛ ليباع به الكلأ"، قال القرطبي رحمه الله: معناه - والله أعلم -: أن الإنسان السَّابق للماء الذي في الفيافي إذا منعه من الماشية، فقد منع الكلأ،

(1)

قال الجامع عفا الله عنه وعن والديه: هذا الحديث نهاية الألف الرابع، وقد انتهيت منه - بحمد الله تعالى وتوفيقه - بعد المغرب ليلة السبت 3/ 3/ 1430 هـ الموافق 28 فبراير 2009 م، وكانت المدّة التي بين نهاية الألف الثالث الماضي، ونهاية الألف الرابع هذا تسعة أشهر، وأربعة وعشرين يومًا، وذلك لأني انتهيت من الألف الثالث، ودخلت في الرابع 9/ 5/ 1429 هـ وهذا من عظيم فضل الله تعالى عليّ، وحسن توفيقه، الحمد لله رب العالمين، الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، مباركًا عليه، كما يحبّ ربنا ويرضي، سبحانك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك، وأتوب إليك.

ص: 446

وهو العشب الذي حول ذلك الماء من الرعي؛ لأن البهائم لا ترعى إلا بعد أن تشرب، وهذه اللام - وإن سَمَّاها النحويون لام كي - فهي لبيان العاقبة والمآل، كما قال تعالى:{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]، والكلام في حكم الكلأ وتفاصيله كالكلام في الماء، فتأمَّله.

وهذا الحديث يفيد النهي عن بيع الكلأ، وهو حجَّة لمالك في القول بسدِّ الذرائع، وقال أهل اللغة: الكلأ - مهموزًا ومقصورًا، مفتوح الكاف - هو: العشب والنبات، والأخضر منه يُسمَّى الرُّطْب - بضيم الراء، وسكون الطاء -، واليابس منه يُسَمَّى: الحشيش. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (لِتَمْنَعُوا بهِ الْكَلأ) قال أهل اللغة: الكلأ مقصور مهموز هو النبات، سواء كان رَطْبًا أَو يابسًا، وأما الحشيش الهشيم فهو مختص باليابس، وأما الخلا بفتح الخاء مقصور غير مهموز والعشب، فهو مختص بالرَّطْب، ويقال له أيضًا: الرُّطْب بضم الراء، وإسكان الطاء، قاله وليّ الدين رحمه الله

(2)

.

والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4001]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِي، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي زَيادُ بْنُ سَعْدٍ؛ أَن هِلَالَ بْنَ أسَامَةَ أَخْبَرَهُ؛ أَن أغَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ؛ أنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يُبَاعُ فَضْلُ الْمَاءِ لِيُبَاعَ بِهِ الْكَلأُ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيُّ) البصريّ الملقّب أبا الْجَوزاء، ثقة [11](ت 246)(م ت س) تقدم في "الإيمان" 65/ 369.

2 -

(أَبُو عَاصِمٍ الضحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ) النبيل، تقدّم قريبًا.

3 -

(زِيادُ بْنُ سَعْدِ) بن عبد الرحمن الْخُرَاسانيّ، نزيل مكة، ثم اليمن، ثقةٌ ثبت، من أثبت أصحاب الزهريّ [6](ع) تقدم في "الطهارة" 26/ 653.

(1)

"المفهم" 4/ 442.

(2)

"طرح التثريب" 6/ 181.

ص: 447

4 -

(هِلَالُ بْنُ أُسَامَةَ) هو: هلال بن عليّ بن أُسامة العامريّ المدنيّ، نُسب لجدّه، ثقةٌ [5] مات سنة بضع و (110)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 7/ 1204.

والباقون ذُكروا في الباب.

والحديث بهذا اللفظ من أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(31) - (بَابُ تَحْرِيمِ ثَمَنِ الْكَلْب، وَحُلْوَانِ الْكَاهِن، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَالنَّهْي عَنْ بَيْعِ السِّنَّوْرِ)

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4002]

(1567) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأنصَارِيِّ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم "نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْب، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم قبل باب.

2 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن الحارث بن هشام المخزوميّ المدنيّ تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(أَبُو مَسْعُودٍ الأنصَارِيُّ) عقبة بن عمرو البدريّ الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم قبل بابين.

والباقيان تقدّما في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، فنيسابوريّ، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أبو بكر بن عبد الرحمن اسمه كنيته، وهو أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، وقد تقدّموا غير

ص: 448

مرّة، وفيه أن صحابيّه يقال له: البدريّ؛ لسُكناه بدرًا، لا لشهوده غزوة بدر، وهذا هو المشهور، وقال البخاريّ: إنه شهد بدرًا، وهو الأصحّ.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ) عقبة بن عمرو بن ثعلبة رضي الله عنه (أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم "نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ) قال في "الفتح": ظاهر النهي تحريم بيعه، وهو عامّ في كل كلب، مُعَلَّمًا كان أو غيره، مما يجوز اقتناؤه أو لا يجوز، ومِن لازم ذلك أن لا قيمة على متلفه، وبذلك قال الجمهور، وهو الصحيح، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى -.

(وَمَهْرِ الْبَغِيِّ) هو ما تأخذه الزانية على الزنا، سماه مهرًا مجازًا، و"الْبَغِيّ" - بفتح الموحدة، وكسر الغين المعجمة، وتشديد التحتانية - وهو فَعِيلٌ بمعنى فاعلة، وجمع البغيّ بَغَايا، والْبِغاء - بكسر أوله -: الزنا والفجور، وأصل البِغاء الطلب، غير أنه أكثر ما يستعمل في الفساد، واستُدِلّ به على أن الأمة إذا أُكرهت على الزنا فلا مهر لها، وفي وجه للشافعية: يجب للسيد.

وأخرج البخاري في "صحيحه" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الإماء"، زاد في رواية أبي داود، من حديث رافع بن خَدِيج رضي الله عنه:"نَهَى عن كسب الأمة، حتى يُعْلَم من أين هو؟ "، فعُرِف بذلك النهي، والمراد به كسبها بالزنا، لا بالعمل المباح.

وقد رَوَى أبو داود أيضًا من حديث رِفاعة بن رافع، مرفوعًا:"نَهَى عن كسب الأمة، إلا ما عَمِلت بيدها، وقال هكذا بيده، نحو الغَزْل، والنَّفْش"، وهو بالفاء؛ أي: نتف الصوف، وقيل: المراد بكسب الأمة جميع كسبها، وهو من باب سدّ الذرائع؛ لأنها لا تؤمَن إذا الزمت بالكسب أن تكسب بفرجها، فالمعنى أن لا يُجَعل عليها خراج معلوم، تؤديه كلَّ يوم، أفاده في "الفتح"

(1)

.

(وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ")"الْحُلْوان" مصدر حَلَوته حُلْوانًا: إذا أعطيته، وأصله من الحلاوة، شُبّه بالشيء الحلو، من حيث إنه يأخذه سَهْلًا بلا كلفة، ولا

(1)

"الفتح" 6/ 721 "كتاب البيوع" رقم (2237).

ص: 449

مشقة، يقال: حلوته: إذا أطعمته الحلو، والحلوان أيضًا: الرِّشوة، والحلوان أيضًا: أخذ الرجل مهر ابنته لنفسه، وحلوان الكاهن حرام بالإجماع؛ لِمَا فيه من أخذ العوض على أمر باطل، وفي معناه التنجيم، والضرب بالحصى، وغير ذلك، مما يتعاناه العَرّافون من استطلاع الغيب

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وأما حلوان الكاهن: فهو ما يعطاه على كِهانته، يقال منه: حَلَوته حُلوانًا: إذا أعطيته، قال الهرويّ وغيره: أصله من الحلاوة، شُبِّه بالشيء الحلو، من حيث إنه يأخذه سهلًا بلا كُلْفة، ولا في مقابلة مشقّة، يقال: حَلَوته: إذا أطعمته الحلو، كما يقال: عَسَلته: إذا أطعمته العسل.

قال أبو عبيد: ويُطلَق الحلوان أيضًا على غير هذا، وهو أن يأخذ الرجل مهر ابنته لنفسه، وذلك عيب عند النساء، قالت امرأه تمدح زوجها: لا يأخذ الحلوان عن بناتنا

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي مسعود الأنصاريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [3/ 4002 و 4003](1567)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2237) و"الإجارة"(2282) و"الطلاق"(5346) و"الطبّ"(5761)، و (أبو داود) في "البيوع"(3481)، و (الترمذيّ) في "النكاح"(1133) و"البيوع"(1276) و"الطبّ"(2071)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 309) و"الكبرى"(4803 و 6262)، و (ابن ماجه) في "التجارات"(2159)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 656)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 139)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 243)، و (الحميديّ) في "مسنده"(450)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 118 و 119 و 120)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 255)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5157)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(17/ 726 و 727 و 728 و 729 و 730 و 731 و 732)، و (الدولابيّ) في "الكبرى"(1/ 54 و 55)، و (الطحاويّ)

(1)

"الفتح" 6/ 721.

(2)

"شرح النووي" 10/ 231 - 232.

ص: 450

في "شرح معاني الآثار"(4/ 51 و 52)، و (البيهقيّ) في "الطبري"(6/ 5 و 6)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2037)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم بيع الكلب:

قال النوويّ رحمه الله: وأما النهي عن ثمن الكلب، وكونه من شرّ الكسب، وكونه خبيثًا، فيدلّ على تحريم بيعه، وأنه لا يصح بيعه، ولا يحل ثمنه، ولا قيمةَ على مُتْلِفه، سواءٌ كان مُعَلَّمًا أم لا، وسواء كان مما يجوز اقتناؤه أم لا، وبهذا قال جماهير العلماء، منهم: أبو هريرة، والحسن البصريّ، وربيعة، والأوزاعيّ، والْحَكَم، وحماد، والشافعيّ، وأحمد، وداود، وابن المنذر، وغيرهم.

وقال أبو حنيفة: يصح بيع الكلاب التي فيها منفعة، وتجب القيمة على مُتلفها، وحَكَى ابن المنذر عن جابر، وعطاء، والنخعيّ جواز بيع كلب الصيد دون غيره، وعن مالك روايات: إحداها: لا يجوز بيعه، ولكن تجب القيمة على متلفه، والثانية: يصح بيعه، وتجب القيمة، والثالثة: لا يصحّ، ولا تجب القيمة على مُتْلِفه.

ودليل الجمهور هذه الأحاديث، وأما الأحاديث الواردة في النهي عن ثمن الكلب، إلا كلب صيد، وفي رواية إلا كلبًا ضاريًا، وأن عثمان غَرَّم إنسانًا ثمن كلب قتله عشرين بعيرًا، وعن ابن عمرو بن العاص التغريم في إتلافه، فكلها ضعيفة باتفاق أئمة الحديث، وقد أوضحتها في "شرح المهذب" في باب ما يجوز بيعه. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح" ما حاصله: ذهب الجمهور إلى تحريم بيع الكلب، وهو عامّ في كل كلب، مُعَلَّمًا كان أو غيره، مما يجوز اقتناؤه أو لا يجوز، ومن لازم ذلك أن لا قيمة على مُتْلِفه.

وقال مالك: لا يجوز بيعه، وتجب القيمة على مُتلِفِه، وعنه كالجمهور، وعنه كقول أبي حنيفة: يجوز، وتجب القيمة، وقال عطاء، والنخعيّ: يجوز بيعِ كلب الصيد دون غيره، ورَوَى أبو داود من حديث ابن عباس رضي الله عنه مرفوعًا:"نهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، وقال: إن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه ترابًا"، وإسناده صحيح، ورَوَى أيضًا بإسناد حسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه

(1)

"شرح النوويّ رحمه الله 10/ 232 - 233.

ص: 451

مرفوعًا: "لا يحل ثمن الكلب، ولا حُلوان الكاهن، ولا مَهْرُ البَغِيِّ"، والعلة في تحريم بيعه عند الشافعيّ نجاسته مطلقًا، وهي قائمة في المعَلَّم وغيره، وعلة المنع عند من لا يرى نجاسته النهي عن اتخاذه، والأمر بقتله، ولذلك خُصّ منه ما أذن في اتخاذه، ويدلّ عليه حديث جابر رضي الله عنه قال:"نَهَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، إلا كلب صيد"، أخرجه النسائيّ بإسناد رجاله ثقات، إلا أنه طُعِن في صحته، وقد وقع في حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند ابن أبي حاتم، بلفظ:"نَهَى عن ثمن الكلب، دوان كان ضاريًا"، يعني مما يصيد، وسنده ضعيف، قال أبو حاتم: هو منكر، وفي رواية لأحمد:"نَهَى عن ثمن الكلب، وقال: طُعْمة جاهلية"، ونحوه للطبرانيّ من حديث ميمونة بنت سعد.

وقال القرطبيّ: مشهور مذهب مالك جواز اتخاذ الكلب، وكراهيةُ بيعه، ولا يُفسَخ إن وقع، وكأنه لما لم يكن عنده نَجِسًا، وأُذِن في اتخاذه لمنافعه الجائزة، كان حكمه حكم جميع المبيعات، لكن الشرع نَهَى عن بيعه تنزيهًا؛ لأنه ليس من مكارم الأخلاق، قال: وأما تسويته في النهي بينه وبين مهر البغيّ، وحُلوان الكاهن، فمحمول على الكلب الذي لم يؤذن في اتخاذه، وعلى تقدير العموم في كل كلب، فالنهي في هذه الثلاثة في القدر المشترك من الكراهة أعمّ من التنزيه والتحريم؛ إذ كل واحد منهما منهيّ عنه، ثم تؤخذ خصوصية كل واحد منهما من دليل آخر، فإنّا عرفنا تحريم مهر البغيّ، وحُلوان الكاهن من الإجماع، لا من مجرد النهي، ولا يلزم من الاشتراك في العطف الاشتراك في جميع الوجوه؛ إذ قد يُعْطَف الأمر على النهي، والإيجاب على النفي. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا التفصيل الذي ذكره القرطبي محلّ نظر، بل الذي يترجّح عندي هو الذي عليه الجمهور، من تحريم بيع الكلب مطلقًا؛ لعموم النصّ، وعدم صحّة الاستثناء الذي في حديث جابر رضي الله عنه الذي أخرجه النسائيّ، ولفظه:"أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن ثمن السنّور، والكلب إلا كلب صيد"، فإنه حديث ضعيف، كما بيّنته في "شرح النسائيّ"

(2)

.

(1)

"المفهم" 4/ 444، و"الفتح" 6/ 719 - 720.

(2)

راجع: "ذخيرة العقبى" 35/ 140 - 141.

ص: 452

والحاصل أن ما ذهب إليه الجمهور هو الأصحّ، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في بيان ما جاء عن أهل العلم في الكاهن والعرّاف:

قال النوويّ رحمه الله: وقال البغويّ من أصحابنا - الشافعيّة - والقاضي عياض: أجمع المسلمون على تحريم حلوان الكاهن؛ لأنه عوض عن مُحَرَّم، ولأنه أكلُ المال بالباطل، وكذلك أجمعوا على تحريم اجرة المغنّية للغناء، والنائحة للنوح، وأما الذي جاء في غير "صحيح مسلم" من النهي عن كسب الإماء، فالمراد به كسبهنّ بالزنى وشبهه، لا بالغزل، والخياطة، ونحوهما. وقال الخطابى: قال ابن الأعرابي: ويقال: حلوان الكاهن الشنع، والصهميم، قال الخطابيّ: وحلوان العرّاف أيضًا حرام، قال: والفرق بين الكاهن والعراف؛ أن الكاهن إنما يتعاطى الأخبار عن الكائنات في مستقبل الزمان، ويَدَّعِي معرفة الأسرار، والعرّاف هو الذي يَدّعِي معرفة الشيء المسروق، ومكان الضالة، ونحوهما من الأمور، هكذا ذكره الخطابيّ في "معالم السنن" في "كتاب البيوع"، ثم ذكره في آخر الكتاب أبسط من هذا، فقال: إن الكاهن هو الذي يدّعي مطالعة علم الغيب، ويخبر الناس عن الكوائن، قال: وكان في العرب كهنة يَدَّعون أنهم يَعرفون كثيرًا من الأمور.

فمنهم من يزعم أن له رُفقاء من الجنّ، وتابعةً تُلْقِي إليه الأخبار، ومنهم من كان يَدَّعِي أنه يستدرك الأمور بفهم أُعطيه، وكان منهم من يُسَمَّى عَرّافًا، وهو الذي يزعم أنه يَعرف الأمور بمقدمات أسباب، يَستَدِلّ بها على مواقعها، كالشيء يُسْرَق، فيعرف المظنون به السرقةُ، وتُتَّهم المرأه بالريبة، فيَعْرِف مَن صاحبها؛ ونحو ذلك من الأمور، ومنهم من كان يُسَمِّي المنجِّم كاهنًا، قال: وحديث النهي عن إتيان الكهان يشتمل على النهي عن هؤلاء كلهم، وعلى النهي عن تصديقهم، والرجوع إلى قولهم.

ومنهم من كان يدعو الطبيب كاهنًا، وربما سَمَّوه عَرّافًا، فهذا غير داخل في النهي، هذا آخر كلام الخطابيّ.

وقال الإمام أبو الحسن الماورديّ من أصحابنا - الشافعيّة - في آخر كتابه "الأحكام السلطانية": وَيمنع المحتَسِب من يكتسب بالكهانة، واللهو، ويؤدِّب

ص: 453

عليه الآخذَ والمعطيَ. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": و"الكِهانة" بفتح الكاف، ويجوز كسرها: ادّعاءُ علم الغيب، كالإخبار بما سيقع في الأرض، مع الاستناد إلى سبب، والأصل فيه استراق الجنيّ السمع من كلام الملائكة، فيُلقيه في أُذُن الكاهن، والكاهنُ لفظ يُطلق على العَرّاف، والذي يضرب بالحصى، والمنَجِّم، ويُطلق على من يقوم بأمر آخر، ويسعى في قضاء حوائجه، وقال في "المحكم": الكاهن: القاضي بالغيب، وقال في "الجامع": العرب تسمي كل من آذن بشيء قبل وقوعه كاهنًا.

وقال الخطابيّ: الكَهَنَةُ قوم لهم أذهان حادّة، ونفوس شريرة، وطباع ناريّة، فألِفتهم الشياطين؛ لما بينهم من التناسب في هذه الأمور، ومساعدتهم بكل ما تَصِل قدرتهم إليه، وكانت الكهانة في الجاهلية فاشيةَ خصوصًا في العرب؛ لانقطاع النبوة فيهم، وهي على أصناف:

[منها]: ما يتلقونه من الجنّ، فإن الجنّ كانوا يصعدون إلى جهة السماء، فيركب بعضهم بعضًا إلى أن يدنو الأعلى بحيث يسمع الكلام، فيلقيه إلى الذي يليه، إلى أن يتلقاه من يُلقيه في أذن الكاهن، فيزيد فيه، فلما جاء الإسلام، ونزل القرآن حُرِست السماء من الشياطين، وأُرسلت عليهم الشهب، فبقي من استراقهم ما يتخطفه الأعلى، فيلقيه إلى الأسفل قبل أن يصيبه الشهاب، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)} [الصافات: 10]، وكانت إصابة الكهان قبل الإسلام كثيرة جدًّا، كما جاء في أخبار شِقٍّ، وسَطِيح، ونحوهما، وأما في الإسلام فقد نَدَر ذلك جدًّا، حتى كاد يَضْمَحِل، ولله الحمد.

[ثانيها]: ما يُخبر الجنيّ به من يواليه بما غاب عن غيره، مما لا يطلع عليه الإنسان غالبًا، أو يطلع عليه مَن قَرُب منه، لا مَنْ بَعُد.

[ثالثها]: ما يستند إلى ظنّ، وتخمين، وحَدْس، وهذا قد يجعل الله فيه لبعض الناس قوّة مع كثرة الكذب فيه.

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 231 - 232.

ص: 454

[رابعها]: ما يستند إلى التجربة والعادة، فيستدلّ على الحادث بما وقع قبل ذلك، ومن هذا القسم الأخير ما يضاهي السحر، وقد يَعتضِد بعضهم في ذلك بالزجر، والطَّرْق، والنجوم، وكل ذلك مذموم شرعًا، وورد في ذم الكهانة ما أخرجه أصحاب "السنن"، وصححه الحاكم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه رفعه:"من أتى كاهنًا، أو عَرّافًا، فصدّقه بما يقول، فقد كفر بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم"، وله شاهد من حديث جابر، وعمران بن حُصين، أخرجهما البزار بسندين جيدين، ولفظهما:"من أتى كاهنًا"، وأخرجه مسلم من حديث امرأة من أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن الرواة من سماها حفصة، بلفظ:"من أتى عَرّافًا"، وأخرجه أبو يعلى من حديث ابن مسعود، بسند جيِّد، لكن لم يصرح برفعه، ومثله لا يقال بالرأي، ولفظه:"من أتى عَرّافًا، أو ساحرًا، أو كاهنًا"، واتفقت ألفاظهم على الوعيد بلفظ حديث أبي هريرة، إلا حديث مسلم، فقال فيه:"لم يقبل لهما صلاة أربعين يومًا"، ووقع عند الطبرانيّ من حديث أنس بسند لَيِّن مرفوعًا، بلفظ:"من أتى كاهنًا فصدّقه بما يقول، فقد برئ مما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أتاه غير مصدِّق له، لم تُقبل صلاته أربعين يومًا".

والأحاديث الأوَلُ مع صحتها، وكثرتها أولى من هذا، والوعيد جاء تارة بعدم قبول الصلاة، وتارة بالتكفير، فيُحْمَل على حالين من الآتي أشار إلى ذلك القرطبيّ رحمه الله.

و"الْعَرّاف" - بفتح المهملة، وتشديد الراء -: من يستخرج الوقوف على الْمُغَيَّبات بضرب من فعل، أو قول. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4003]

(

) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَمُحَمّدُ بْنُ رُمْحٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ (ح) وَحَدّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، كِلَاهُمَا عَنِ الزهْرِيّ، بِهَذَا الإِسنادِ مِثْلَهُ، وَفي حَدِيثِ اللَّيْثِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ رُمْحٍ؛ أنَّهُ سَمِعَ أَبَا مَسْعُودٍ).

(1)

"الفتح" 13/ 189 - 191 "كتاب الطبّ" رقم (5762).

ص: 455

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم تقدّموا قبل ثلاثة أبواب.

[تنبيه]: رواية الليث عن الزهريّ، ساقها النسائيّ في "المجتبى" (7/ 189) فقال:

(4292)

- أخبرنا قتيبة، قال: حدّثنا الليث، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام؛ أنه سمع أبا مسعود عقبة، قال:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، ومهر البغيّ، وحلوان الكاهن". انتهى.

ورواية سفيان بن عيينة، عن الزهريّ، ساقها أبو داود في "سننه" 3/ 279 فقال:

(3481)

- حدّثنا قتيبة بن سعيد، ثنا سفيان، عن الزهريّ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي مسعود، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أنه نَهَى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4004]

(1568) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، قَالَ: سَمِعْتُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ، يُحَدِّثُ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "شَرُّ الْكَسْبِ مَهْرُ الْبَغِيّ، وَثَمَنُ الْكَلْب، وَكسْبُ الْحَجَّامِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) بن عبد الله الكنديّ الأعرج المدنيّ، ثقة ثبتٌ [5] مات في حدود (140)(خ م ت س) تقدم في "الصيام" 13/ 2594.

2 -

(السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ) بن سعيد بن ثُمامة الكنديّ، المعروف بابن أخت نمر، صحابيّ صغير حُجّ به في عام حجة الوداع، وهو ابن سبع سنين، مات سنة (91) أو قبل ذلك، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 17/ 1712.

3 -

(رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.

والباقيان تقدّما في الباب الماضي.

ص: 456

وقوله: ("شَرُّ الْكَسْب مَهْرُ الْبَغِيِّ") وفي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه عند البخاريّ: "نَهَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، عَن كَسْب الْإمَاء"، زَادَ أَبُو دَاوُدَ، مِنْ حَدِيث رَافِع بْن خَدِيجٍ:"نَهَى عَن كَسْب الْأَمَة، حَتَّى يُعْلَم مِنْ أَيْنَ هُوَ؟ "، فَعُرِفَ بِذَلِكَ النَّهْيُ، وَالْمُرَاد بِهِ كَسْبهَا بالزِّنَا، لَا بِالْعَمَلِ الْمُبَاح، وتقدّم تمام البحث فيه في شرح حديث أبي مسعود رضي الله عنه قبله.

وقوله: (وَكسْبُ الْحَجَّامِ") وفي حديث أبي جحيفة رضي الله عنه عند البخاريّ: "نهى عن ثَمَن الدَّم"، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَاد بِه، فَقِيلَ: أُجْرَة الْحِجَامَة، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى ظَاهِره، وَالْمُرَاد تَحْرِيم بَيْع الدَّم، كَمَا حُرِّمَ بَيْع الْمَيْتَة وَالْخِنْزِير، وَهُوَ حَرَام إِجْمَاعًا، أَعْنِي بَيْع الدَّم، وَأَخْذ ثَمَنه.

قال النوويّ رحمه الله: وأما كسب الحجام، وكونه خبيثًا، ومن شرّ الكسب، ففيه دليل لمن يقول بتحريمه

(1)

، وقد اختلف العلماء في كسب الحجام، والأرجح جوازه، وسيأتي تمام البحث فيه بعد باب - إن شاء الله تعالى -.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث رافع بن خَدِيج رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [31/ 4004 و 4005 و 4006 و 4007](1568)، و (أبو داود) في "البيوع"(3421)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1275)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 190) و"الكبرى"(3/ 111)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 140 و 141 و 4/ 464 و 465)، و (الدارميّ) في "سننه"(2621)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 355 - 356) و"الطبرانيّ) في "الكبير" (4/ 243)، و (البيهقيّ) في "الكبرى" (6/ 337)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4005]

(

) - (حَدثنَا إسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ قَارِظٍ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 233.

ص: 457

يَزِيدَ، حَدَّثَنِي رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، عَنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"ثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ، وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ، وَكسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(الْوَليدُ بْنُ مُسْلِمٍ) القرشيّ مولاهم، أبو العبّاس الدمشقيّ، ثقة، لكنه كثير التدليس والتسوية [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.

3 -

(الأَوْزَاعِيُّ) عبد الرحمن بن عمرو، ثقة فقيه فاضلٌ [7](ت 157)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

4 -

(يَحْيى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) تقدّم قبل بابين.

5 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ قَارِظٍ) هو: إبراهيم بن عبد الله بن قارظ، وقيل: عبد الله بن إبراهيم بن قارظ، ووهِمَ من زعم أنهما اثنان، صدوقٌ [3](م د ت س) تقدم في "الحيض" 22/ 794.

والباقيان ذُكرا قبله.

والحديث من أفراد المصنف أيضًا، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4006]

(

) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ يَحْيى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، بِهَذا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم قبل باب.

2 -

(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم أيضًا قبل باب.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية معمر عن يحيى بن أبي كثير هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" 4/ 141 فقال:

ص: 458

(17309)

- حدّثنا عبد الله

(1)

، حدّثني أبي، ثنا عبد الرزاق، قال: ثنا معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن إبراهيم عن عبد الله بن قارظ، عن السائب بن يزيد، عن رافع بن خَدِيج، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثمن الكلب خبيث، ومهر البغيّ خبيث، وكسب الحجام خبيث". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4007]

(

) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الله، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، حَدَّثنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، عَنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هكذا وقع في النسخ التي بين يديّ، "إسحاق بن إبراهيم"، وهو ابن راهويه، ووقع في "تحفة الأشراف"

(2)

: "إسحاق بن منصور"، وهو الْكَوْسَجُ.

وقد رواه النسائيّ في "الكبرى" عن إسحاق بن منصور، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، كما يأتي في التنبيه.

2 -

(النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ) المازنيّ، أبو الحسن النحويّ البصريّ، نزيل مرو، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 204) وله (82) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.

3 -

(هِشَامُ) بن أبي عبد الله سَنْبَر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبتٌ، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154) وله (78) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية هشام الدستوائيّ عن يحيى بن أبي كثير هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى" 3/ 113 فقال:

(1)

هو ولد الإمام أحمد راوي "المسند" عنه.

(2)

راجع: "تحفة الأشراف" 3/ 71.

ص: 459

(4686)

- حدّثنا إسحاق بن منصور، أخبرنا معاذ بن هشام، حدّثني أبي، عن يحيى بن أبي كثير، حدّثني عبد الله بن إبراهيم بن قارظ؛ أن السائب بن يزيد حدّثه؛ أن رافع بن خَدِيج حدّثه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"كسب الحجّام خبيث، ومهر البغيّ خبيث، وثمن الكلب خبيث". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4008]

(1569) - (حَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثنَا مَعْقِل، عَنْ أَبِي الزبَيْر، قَالَ: سَأَلتُ جَابِرًا عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْر، قَالَ: زَجَرَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سَلَمَةُ بْنُ شَبِيب) الْمِسْمَعيّ النيسابوريّ، نزيل مكة، ثقةٌ، من كبار [11] مات سنة بضع و (240)(م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 60.

2 -

(الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ) هو: الحسن بن محمد بن أعين الْحَرّانيّ، أبو عليّ، نُسب لجدّه، صدوقٌ [9](ت 210)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

3 -

(مَعْقِلُ) بن عُبيد الله الْعَبسئ مولاهم، أبو عبد الله الْجَزَريّ، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 166)(م د س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

والباقيان تقدّما في الباب الماضي.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي الزبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ أنه (قَالَ: سَأَلتُ جَابِرًا) رضي الله عنه (عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ) - بكسر السين المهملة، وتشديد النون، وسكون الواو، آخره راء -: الْهِرُّ، والأُنثى سِنَّوْرةٌ، قال ابن الأنباريّ: وهما قليل في كلام العرب، والأكثر أن يقال: هِرّ، وضَيْوَنٌ، والجمع: سَنَانير، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

. (قَالَ) جابر رضي الله عنه (زَجَرَ) أي: نهى (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ) أي: عن ثمن الكلب، والسّنّور، وسيأتي اختلاف العلماء في بيع السنّور في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى -.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 291.

ص: 460

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [31/ 4008](1569)، و (أبو داود) في "البيوع"(3479)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(3/ 577)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 309)، و (ابن ماجه) في "التجارات"(2161)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 296)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 349)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4940)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 53)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(3/ 295)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4/ 187)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 39)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 149)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 354 و 355)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(3/ 73)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 10) و"الصغرى"(5/ 212) و"المعرفة"(4/ 398)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم بيع السنّور:

قال النوويّ رحمه الله في "شرح المهذّب": بيع الهرّة الأهلية جائز بلا خلاف عندنا، إلا ما حكاه البغويّ في كتابه في شرح مختصر المزنيّ عن ابن القاصّ أنه قال: لا يجوز، وهذا شاذٌّ باطلٌ مردودٌ، والمشهور جوازه، وبه قال جماهير العلماء، نقله القاضي عياض عن الجمهور، وقال ابن المنذر: أجمعت الأمة على أن اتخاذه جائز، ورَخَّص في بيعه ابن عباس، وابن سيرين، والحكم، وحماد، ومالك، والثوريّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو حنيفة، وسائر أصحاب الرأي، قال: وكَرِهت طائفة بيعه، منهم أبو هريرة، ومجاهد، وطاووس، وجابر بن زيد، قال ابن المنذر: إن ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم النهي عن بيعه فبيعه باطل، وإلا فجائز، هذا كلام ابن المنذر.

واحتَجَّ من منعه بحديث أبي الزبير، قال: سألت جابرًا عن ثمن الكلب والسنور، فقال: زجر النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك. رواه مسلم.

قال: واحتَجّ أصحابنا - يعني الشافعيّة - بأنه طاهر، منتَفَع به، ووُجد فيه جميع شروط البيع بالخيار، فجاز بيعه، كالحمار، والبغل.

ص: 461

والجواب عن الحديث من وجهين:

أحدهما: جواب أبي العباس بن القاصّ، وأبي سلمان الخطابيّ، والقفال، وغيرهم؛ أن المراد الهرّة الوحشية، فلا يصح بيعها؛ لعدم الانتفاع بها، إلا على الوجه الضعيف القائل بجواز أكلها.

والثاني: أن المراد نهي تنزيه، والمراد النهي على العادة بتسامح الناس فيه، ويتعاورونه في العادة، فهذان الجوابان هما المعتمدان.

وأما ما ذكره الخطابيّ، وابن المنذر أن الحديث ضعيف، فغَلَطٌ منهما؛ لأن الحديث في "صحيح مسلم" بإسناد صحيح، وقول ابن المنذر: إنه لم يروه عن أبي الزبير، غير حماد بن سلمة، فغَلَظ أيضًا، فقد رواه مسلم في "صحيحه" من رواية مَعْقِل بن عبيد الله، عن أبي الزبير، فهذان ثقتان روياه عن أبي الزبير، وهو ثقة أيضًا، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الحديث صحيح بلا شكّ، فقد أخرجه مسلم في "صحيحه"، ولم ينفرد به حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، بل تابعه فيه مَعْقِل بن عبيد الله، كما هنا، ولم ينفرد به أبو الزبير، بل تابعه أبو سفيان طلحة بن نافع، عن جابر رضي الله عنه فقد أخرجه أبو داود والترمذيّ بإسناد صحيح، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر رضي الله عنه قال:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، والسّنّوْر".

فتبيّن بهذا أن الحقّ ما ذهب إليه أبو هريرة، وطاوس، ومجاهد، وجابر بن زيد من عدم جواز بيع الهرّة؛ لصحّة النهي الصريح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم عنه، وقد تقدّم عن ابن المنذر أنه قال: إن ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم النهي عن بيعه فبيعه باطل، فقد ثبت النهي، فالبيع باطل عند ابن المنذر أيضًا، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"المجموع شرح المهذّب" 9/ 217 - 216.

ص: 462

(32) - (بَابُ الأَمْرِ بِقَتْلِ الْكِلَاب، وَبَيَانِ نَسْخِه، وَبَيَانِ تَحْرِيمِ إقْتِنَائِهَا، إِلَّا لِصَيْدٍ، أَوْ زَرْعٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4009]

(1570) - (حَدَّثنَا يَحْيى بْنُ يَحْيى، قَالَ: قَرَأتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(يَحْيى بْنُ يَحْيى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.

3 -

(نَافِعٌ) مولى ابن عمر، تقدّم قريبًا.

4 -

(ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قريبًا.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (267) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، فنيسابوري، وهو أصح الأسانيد مطلقًا، كما نُقل عن الإمام البخاريّ رحمه الله، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنه (أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ) وفي رواية عبيد الله، عن نافع التالية:"أَمَر بقتل الكلاب، فأرسل في أقطار المدينة أن تُقْتَل"، وفي رواية إسماعيل بن أميّة، عن نافع: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بقتل الكلاب، فننبَعِثُ في المدينة وأطرافها، فلا نَدَعُ كلبًا إلا قتلناه، حتى إنا لنقتل كلب الْمُرَيَّة

(1)

من أهل البادية يتبعها"، وفي رواية عمرو بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بقتل الكلاب، إلا كلبَ صيد، أو كلب

(1)

تصغير المرأة.

ص: 463

غنم، أو ماشية، فقيل لابن عمر: إن أبا هريرة يقول: أو كلب زرع، فقال ابن عمر: إن لأبي هريرة زرعًا".

وفي حديث جابر رضي الله عنه: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، حتى إن المرأة تَقْدَم من البادية بكلبها، فتقتله، ثم نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلها، وقال: عليكم بالأسود البهيم، ذي النقطتين، فإنه شيطان".

وفي حديث عبد الله بن المغَفَّل رضي الله عنه: "قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، ثم قال: ما بالُهُمْ وبالُ الكلاب؟ ثم رَخَّص في كلب الصيد، وكلب الغنم"، وفي رواية له:"في كلب الغنم، والصيد، والزرع".

وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "من اقتنى كلبًا إلا كلب ماشية، أو ضارٍ، نَقَصَ من عمله كلَّ يوم قيراطان"، وفي رواية:"ينقص من أجره كل يوم قيراط".

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "من اقتنى كلبًا ليس بكلب صيد، ولا ماشية، ولا أرض، فإنه يَنْقُصُ من أجره قيراطان كلَّ يوم"، وفي رواية له:"انتقص من أجره كلَّ يوم قيراط".

وفي حديث سفيان بن أبي زُهير: "من اقتنى كلبًا لا يُغني عنه زرعًا، ولا ضرعًا نَقَصَ من عمله كلَّ يوم قيراط".

[تنبيه]: سبب أمره صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب هو ما سيأتي للمصنّف في "كتاب اللباس" من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في ساعة يأتيه فيها، فجاءت تلك الساعة، ولم يأته، وفي يده عصًا، فألقاها من يده، وقال:"ما يُخلف الله وعده، ولا رُسُله"، ثم التفت، فإذا جِرْوُ كلب تحت سريره، فقال:"يا عائشة متى دخل هذا الكلب ها هنا؟ "، فقالت: والله ما دَرَيت، فأمَر به، فأُخرج، فجاء جبريل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"واعدتني، فجلستُ لك، فلم تأت"، فقال: منعني الكلب الذي كان في بيتك، إنا لا ندخل بيتًا فيه كلب، ولا صورة".

وعن ميمونة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح يومًا واجمًا، فقالت ميمونة: يا رسول الله لقد استنكرتُ هيئتك منذ اليوم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن جبريل كان وعدني أن يلقاني الليلةَ، فلم يلقني، أَمَ والله ما أخلفني، قال: فظلَّ

ص: 464

رسول الله صلى الله عليه وسلم يومه ذلك على ذلك، ثم وقع في نفسه جِرْوُ كلب تحت فسطاط لنا، فأَمر به، فأُخرج، ثم أخذ بيده ماءً، فنضح مكانه، فلما أمسى لقيه جبريل، فقال له: قد كنت وعدتني أن تلقاني البارحة، قال: أجل، ولكنا لا ندخل بيتًا فيه كلب، ولا صورةٌ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، فأمر بقتل الكلاب، حتى إنه يأمر بقتل كلب الحائط الصغير، ويترك كلب الحائط الكبير. انتهى.

[تنبيه آخر]: قال القرطبيّ رحمه الله:: حديث ابن عمر رضي الله عنهما رُوي مطلقًا من غير استثناء، كما قال في رواية مالك

(1)

، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، وروي مقيَّدًا بالاستثناء المتَصل، كرواية عمرو بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب إلا كلب صيد، أو كلب غنم، أو ماشية، فيجب على هذا ردّ مطلق إحدى الروايتين إلى مقيَّدهما، فإن القضية واحدة، والرَّاوي لهما واحد، وما كان كذلك وجب فيه ذلك بالإجماع، كما بيَّنَّاه في أصول الفقه، وهذا واضح في حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

وعليه: فكلب الصيد، والماشية، لم يتناولهما قط عموم الأمر بقتل الكلاب؛ لاقتران استثنائهما من ذلك العموم.

وإلى الأخذ بهذا الحديث ذهب مالك، وأصحابه، وكثير من العلماء، فقالوا: بقتل الكلاب إلا ما استُثني منها، ولم يروا الأمر بقتل ما عدا المستثنى منسوخًا، بل محكمًا، وأما حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه فمقتضاه غير هذا، وذلك: أنَّه قال فيه: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، ثم قال:"ما بالهم وبال الكلاب"، ثم رَخَّص في كلب الصيد، وكلب الغنم، والزرع، ومقتضى هذا: أنَّه أمرهم بقتل جميع الكلاب من غير استثناء شيء منها، فبادروا، وقتلوا كل ما وجدوا منها، ثم بعد ذلك رخص فيما ذكر، فيكون هذا الترخيص من باب النسخ؛ لأن العموم قد استقرَّ، وبردَ، وعُمِل عليه، فرفعُ الحكم عن شيء مما تناوله نسخ لا تخصيص، وقد ذهب إلى هذا في هذا الحديث بعض العلماء،

(1)

قال الجامع: هذا بالنسبة لرواية مالك عند الشيخين، وإلا فقد أخرجه النسائيّ عن طريقه بلفظ:"أمر بقتل الكلاب، غيرَ ما استَثْنَى منها"، فتنبّه.

ص: 465

ونحو من حديث عبد الله بن المغفل حديث جابر بن عبد الله، قال: قد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، حتى إن المرأة تَقْدَم من البادية بكلبها، فنقتله، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلها فقال:"عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين؛ فإنه شيطان"، فمقتضاه: أن الأمر كان بقتل الكلاب عامًّا لجميعها، وأنه نُسخ عن في جميعها إلا الأسود، وقد ذهب إلى هذا بعض العلماء.

ولَمَّا اضطربت هذه الأحاديث المروية وجب عرضها على القواعد الأصولية، فنقول: إن حديث ابن عمر رضي الله عنهما ليس فيه أكثر من تخصيص عموم باستثناءٍ مقترنٍ به، وهو أكثر في تصرفات الشرع من نسخ العموم بكليته، وأيضًا: فإن هذه الكلاب المستثنيات الحاجةُ إليها شديدة، والمنفعة بها عامَّة وَكِيدة، فكيف يأمر بقتلها؟ هذا بعيد من مقاصد الشرع، فحديث ابن عمر رضي الله عنهما أولى، والله أعلم.

قال: والحاصل من هذه الأحاديث: أن قتل الكلاب غير المستثنيات مأمور به إذا أضرَّت بالمسلمين، فإن كثر ضررها وغلب، كان الأمر على الوجوب، وإن قل وندر، فأيُّ كلب أضرَّ وجب قتله، وما عداه جائز قتله؛ لأنه سَبُعٌ لا منفعة فيه، وأقل درجاته توقع الترويع، وأنه يُنقص من أجر مقتنيه كل يوم قيراطين، فأمَّا المرَوِّع منهن غير المؤذي، فقتله مندوب إليه، وأما الكلب الأسود ذو النقطتين: فلا بُدَّ من قتله للحديث المتقدِّم، وقلّما يُنتفَع بمثل تلك الصفة؛ لأنه إن كان شيطانًا على الحقيقة فهو ضرر محض، لا نفع فيه، وإن كان على التشبيه به، فإنما شبِّه به للمفسدة الحاصلة منه، فكيف يكون فيه منفعة؟! ولو قَدَّرنا فيه أنه ضارٍ، أو للماشية، لقُتِل؛ لنصّ النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم على قتله.

انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى -.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(1)

"المفهم" 4/ 448 - 450.

ص: 466

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [32/ 4009 و 4010 و 4011 و 4012](1570 و 1571)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3323)، و (أبو داود) في "الطهارة"(1/ 19)، و (الترمذيّ) في "الأحكام"(1488)، و (النسائيّ) في "الصيد والذبائح"(7/ 184 و 185) وفي "الكبرى"(1/ 78 و 3/ 147 و 148)، و (ابن ماجه) في "الصيد"(3202)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 969)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 142)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(19610)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 405 و 406)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 22 و 23 و 101 و 113 و 116 و 117)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 90)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 360 و 362)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 479)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5648)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 65)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 8 و 9) و"المعرفة"(4/ 395)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2778)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في قتل الكلاب:

قال النوويّ رحمه الله: أجمع العلماء على قتل الكَلْب الكَلِب، والكَلْب العَقُور، واختلفوا في قتل ما لا ضرر فيه، فقال إمام الحرمين من أصحابنا: أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أولًا بقتلها كلها، ثم نَسَخَ ذلك، ونَهَى عن قتلها إلا الأسود البهيم، ثم استقرّ الشرع على النهي عن قتل جميع الكلاب التي لا ضرر فيها، سواء الأسود وغيره، ويُستدلّ لما ذكره بحديث ابن المغفل رضي الله عنه.

وقال القاضي عياض: ذهب كثير من العلماء إلى الأخذ بالحديث في قتل الكلاب، إلا ما استُثْنِي من كلب الصيد وغيره، قال: وهذا مذهب مالك، وأصحابه، قال: واختلف القائلون بهذا، هل كلب الصيد ونحوه منسوخ من العموم الأول في الحكم بقتل الكلاب، وأن القتل كان عامًّا في الجميع، أم كان مخصوصًا بما سوى ذلك؟ قال: وذهب آخرون إلى جواز اتخاذ جميعها، ونسخ الأمر بقتلها، والنهي عن اقتنائها، إلا الأسود البهيم، قال القاضي: وعندي أن النهي أوّلًا كان نهيًا عامًّا عن اقتناء جميعها، وأمر بقتل جميعها، ثم نَهَى عن قتلها، ما سوى الأسود، ومنع الاقتناء في جميعها إلا كلب صيد، أو زرع، أو ماشية.

ص: 467

قال النوويّ: وهذا الذي قاله القاضي هو ظاهر الأحاديث، ويكون حديث ابن المغفَّل مخصوصًا بما سوى الأسود؛ لأنه عامّ، فيخص منه الأسود بالحديث الآخر، وأما اقتناء الكلاب فمذهبنا أنه يحرم اقتناء الكلب بغير حاجة، ويجوز اقتناؤه للصيد، وللزرع، وللماشية، وهل يجوز لحفظ الدُّور، والدُّرُوب، ونحوها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لظواهر الأحاديث، فإنها مصرِّحة بالنهي، إلا لزرع، أو صيد، أو ماشية، وأصحها: يجوز قياسًا على الثلاثة؛ عملًا بالعلة المفهومة من الأحاديث، وهي الحاجة، وهل يجوز اقتناء الْجِرو، وتربيته للصيد أو الزرع أو الماشية؟ فيه وجهان لأصحابنا، أصحهما جوازه. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله في كتابه "التمهيد": اختَلَفت الآثار في قتل الكلاب، واختَلَف العلماء في ذلك أيضًا:

فذهب جماعة من أهل العلم إلى الأمر بقتل الكلاب كلها، إلا ما ورد الحديث بإباحة اتخاذه منها للصيد، والماشية، وللزرع أيضًا، وقالوا: واجب قتل الكلاب كلها، إلا ما كان منها مخصوصًا بالحديث؛ امتثالًا لأمره صلى الله عليه وسلم، واحتجوا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما المذكور في الباب، وبحديث جابر أيضًا.

قال: ورُوي عن عبد الله بن جعفر أن أبا بكر رضي الله عنه أمر بقتل الكلاب، قال عبد الله: وكانت أمي تحته، وكان جِرْوٌ لي تحت السرير، فقلت له: يا أبي وكلبي أيضًا؟ فقال: لا تقتلوا كلب ابني، ثم أشار بإصبعه أن خذوه من تحت السرير، فأُخذ وأنا لا أدري، فقُتل.

ورَوَى حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع؛ أن ابن عمر رضي الله عنهما دخل أرضًا له، فرأى كلبًا، فَهَمّ أن يقع بِقَيِّم أرضه، فقال: إنه والله كلبٌ عابرٌ دخل الآن، قال: فأخذ الْمِسْحاة، وقال: حَرِّشوه عليّ، قال: فشحطه.

قوله: "فشحطه"؛ أي: قتله في أعجل شيء.

فهذا أبو بكر الصديق، وابن عمر رضي الله عنهما قد عَمِلا بقتل الكلاب بعد

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 235 - 236.

ص: 468

رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء نحو ذلك عن عمر، وعثمان، فصار ذلك سنةً معمولًا بها عند الخلفاء، لم يَنسخها عند مَن عَمِل بها شيء.

وإلى هذا ذهب مالك بن أنس، قال ابن وهب: سمعت مالكًا يقول في قتل الكلاب: لا أرى بأسًا أن يأمر الوالي بقتلها.

قال أبو عمر: ظاهر حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وحديث جابر يدلّ على قتل جميع الكلاب، ولكن الحديث في ذلك ليس على عمومه؛ لمَا قد بان في حديث ابن شهاب، عن مالك، عن سالم، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: فكانت الكلاب تُقْتَل، إلا كلب صيد، أو ماشية، ومثله حديث عبد الله بن مغفل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمَر بقتل الكلاب، ورَخَّص في كلب الزرع، والصيد.

وقال آخرون: أمْره صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب منسوخ بإباحته اتخاذ ما كان منها للماشية، والصيد، والزرع، واحتجّ قائلو هذه المقالة بحديث عبد الله بن الْمُغَفَّل رضي الله عنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، ثم قال: ما لي وللكلاب؟ ثم رَخَّص في كلب الصيد.

قالوا: ففي هذا الخبر أن كلب الصيد قد كان أَمَر بقتله، ثم أباح الانتفاع به، فارتفع القتل عنه، قالوا: ومعلوم أن كل ما يُنتفَع به جائزٌ اتخاذُهُ، ولا يجوز قتله إلا ما يؤكل، فَيُذَكَّى، ولا يُقتَل.

واحتجّوا أيضًا بحديث جابر رضي الله تعالى عنه: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى الله تعالى عليه وسلم بقتل الكلاب، قال: فكنّا نقتلها حتّى قال: إنها أمّة من الأمم، ثم نهى عن قتلها، وقال: عليكم بالأسود

" الحديث.

قال أبو عمر: حديث جابر لا حجّة فيه لمن أمر بقتل الكلاب، بل الحجة فيه لمن لم ير قتلها. قالوا: فهذا يدلّ على أن الإباحة في اتّخاذها وحبّه أن لا يُفنيها، كان بعد الأمر بقتلها. قالوا: وقد رخّص في كلب الصيد، ولم يخصّ أسود بهيمًا من غيره. وقد قالوا: إن الأسود البهيم من الكلاب أكثرها أذًى، وأبعدها من تعليم ما ينفع، ولذلك رُوي أن الكلب الأسود شيطان؛ أي: بعيد من المنافع، قريبٌ من المضرّة والأذى، وهذه أمورٌ لا تُدرك بنظر، ولا يوصل إليها بقياس، وإنما يُنتهى فيها إلى ما جاء عنه صلّى الله تعالى عليه وسلم.

ص: 469

قال أبو عمر: قد اضطربت ألفاظ الأحاديث في هذا المعنى، فمنها ما يدلّ على النسخ، ومنها ما يدلّ على الأمر بالقتل فيما عدا المستثنى.

قال: وذهب آخرون إلى أنه لا يجوز قتل شيء من الكلاب، إلا الكلب العقور، وقالوا: الأمر بقتل الكلاب منسوخ بنهيه صلّى الله تعالى عليه وسلم أن يُتّخذ شيء فيه الروح غَرَضًا، وبقوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: خمس من الدوابّ يُقتلن في الحلّ والحرم، فذكر منهن الكلب العقور، فخصّ العقور، دون غيره؛ لأن كلّ ما يَعقر المؤمن، ويؤذيه، ويُقدر عليه، فواجب قتله، وقد قيل: العقور ههنا الأسد، وما أشبهه من عقّارة سباع الوحش. واحتجّوا أيضًا بما أخرجه الشيخان من قصّة الرجل الذي سقى كلبًا يلهث من العطش، فشكر الله له ذلك، فغفر له، وبما أخرجاه أيضًا من قصّة المرأة البغيّة، نزعت موقها، فسقت كلبًا في يوم حارّ، يُطيف بركيّة، قد أدلع لسانه من العطش، فغُفر لها. قال أبو عمر: والذي أختاره أن لا يُقتل شيء من الكلاب، إذا لم تضرّ بأحد، ولم تعقر أحدًا لنهيه صلّى الله تعالى عليه وسلم أن يُتّخذ شيء فيه الروح غرضًا، ولِمَا ذكرنا له من حجة من اخترنا قوله.

قال: ومن الحجة أيضًا لِمَا ذهبنا إليه في أن الأمر بقتل الكلاب منسوخٌ، ترك قتلها في كلّ الأمصار، على اختلاف الأعصار بعد مالك رحمه الله، وفيهم العلماء، والفضلاء إلى آخر كلامه. انتهى المقصود من كلام ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الراجح عندي هو ما رجّحه الْقَاضِي عياض رحمه الله، من أَنَّ النَّهْي أَوَّلًا كَانَ نَهْيًا عَامًّا، عَن اقْتِنَاء جَمِيعهَا، وَأَمَرَ بِقَتْلِ جَمِيعهَا، ثُمَّ نَهَى عَن قَتْلهَا مَا سِوَى الْأَسْوَد، وَمَنَعَ الاقْتِنَاء فِي جَمِيعهَا، إِلَّا كَلْب صَيْد، أَوْ زَرْع، أَوْ مَاشِيَة، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْأَحَادِيث، وَيَكُون حَدِيث ابْن

(1)

"التمهيد" 14/ 224 - 235.

ص: 470

الْمُغَفَّل رضي الله عنه مَخْصُوصًا بِمَا سِوَى الْأَسْوَد؛ لِأَنَّهُ عَامّ، فَيَخُصّ مِنْهُ الْأَسْوَد بِالْحَدِيثِ الْآخَر.

والحاصل أن الأمر بقتل الكلاب منسوخٌ، وأن اقتناءها لا يجوز، إلا ما استثناه الشارع الحكيم، وهو ما تدعو إليه الحاجة، من الصيد، والماشية، والزرع، وهل يُلحق حفظ الدور ونحوها مما تشتدّ الحاجة إليه؟ الظاهر نعم، كما صححه النوويّ رحمه الله في كلامه السابق، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4010]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ الله، عَنْ نَافِع، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ الْكِلَاب، فَأَرْسَلَ في أقطَارِ الْمَدِينَةِ أَنْ تُقْتَلَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

3 -

(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر العمريّ، تقدّم قريبًا

(1)

.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (فَأَرْسَلَ فِي أَقْطَارِ الْمَدِينَةِ) بالفتح: جمع قُطر، بضمّ، فسكون، كقُفْل وأَقْقال: الجانب، والناحية

(2)

.

(1)

[تنبيه]: وقع في برنامج الحديث للكتب التسعة غلط في هذه الترجمة، فقد ترجموا لعبيد الله بن عمر بن الخطّاب، شقيق سالم بدل عبيد الله بن عمر العمريّ، وهو غلط فاحش، والصواب هنا عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب العمريّ، كما في "تحفة الأشراف" 5/ 454، فتنبّه، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(2)

راجع: "المصباح" 2/ 508.

ص: 471

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4011]

(

) - (وَحَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ - يَعْنِي ابْنَ الْمُفَضَّلِ - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - وَهُوَ ابْنُ أميَّةَ - عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِقَتْلِ الْكِلَاب، فَنَنْبَعِثُ فِي الْمَدِينَةِ وأَطْرَافِهَا، فَلَا نَدَعُ كَلْبًا إِلَّا قتَلْنَاهُ، حَتى إِنَّا لنَقْتُلُ كَلْبَ الْمُرَيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ يَتبعُهَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ) بن المبارك الساميّ الباهليّ البصريّ، صدوقٌ [10](ت 244)(م 4) تقدم في "الجمعة" 6/ 1972.

2 -

(بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ) بن لاحق الرّقاشيّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبت، عابدٌ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.

3 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ) بن عمرو بن سعيد بن العاص بن أُميّة الأمويّ، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 144) أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (فَتَنْبَعِثُ فِي الْمَدِينَةِ إلخ) أي: نثور، فننتشر، يقال: انبعث فلان لشأنه: إذا ثار، ومضى ذاهبًا لقضاء حاجته، قاله ابن الأثير رحمه الله

(1)

.

وقوله: (كَلْبَ الْمُرَيَّةِ) بضمّ الميم، وفتح الراء، وتشديد الياء التحتيّة: تصغير المرأة، والأصل: الْمُرَيْأة، وسيأتي في حديث جابر رضي الله عنه بلفظ: "حتى إن المرأة تَقْدَم من البادية بكلبها

" الحديث.

وقوله: (يَتبعُهَا) جملة حاليّة من "المريّة".

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"النهاية" 1/ 139.

ص: 472

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4012]

(1571) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَاب، إِلَّا كَلْبَ صَيْدٍ، أَوْ كَلْبَ غَنَمٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ، فَقِيلَ لِابْنِ عُمَرَ: إِنَّ أَبّا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: أَوْ كلْبَ زَرْعٍ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّ لأَبِي هُرَيْرَةَ زَرْعًا).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(حَمَّادُ بْنُ زيدٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(عَمْرُو بْنُ دينَارٍ) تقدّم قريبًا.

والباقيان ذُكرا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (268) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (أَمَرَ بِقَتْلِ الكِلَابِ) قال وليّ الدّين رحمه الله: فيه الأمر بقتل الكلاب، وهي على ثلاثة أقسام:

أحدها: الكلب العقور، والكَلِبُ قد أجمع العلماء على قتله.

الثاني: ما يباح اقتناؤه؛ للمنافع المتقدم ذكرها، وقد أجمعوا على منع قتله.

والثالث: ما عدا هذين القسمين، وقد اختلفوا فيه على أقوال:

أحدها: قتلها مطلقًا؛ تمسكًا بهذا الحديث، وهو مذهب مالك، وأصحابه، قال ابن عبد البرّ: قد عَمِل أبو بكر، وابن عمر رضي الله عنهما بقتل الكلاب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء نحو ذلك عن عمر، وعثمان، فصار ذلك سنةً معمولًا بها عند الخلفاء، لم ينسخها عند من عَمِل بها خبر.

القول الثاني: المنع من قتلها، وأنه منسوخ، ودلّ على ذلك إباحة اتخاذها؛ لمنافع، وفي "صحيح مسلم" وغيره عن عبد الله بن مُغَفَّل رضي الله عنه قال: أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، ثم قال:"ما بالهم، وبال الكلاب؟ " ثم

ص: 473

رَخَّص في كلب الصيد، وكلب الغنم، وفي رواية له: ورَخَّص في كلب الغنم، والصيد، والزرع، وهذا مذهب الشافعيّ، كما جزم به الرافعيّ في "الأطعمة"، والنوويّ في "البيع" من "شرح المهذَّب"، وزاد أنه لا خلاف فيه بين أصحابنا، قال: وممن صرّح به القاضي حسين، وإمام الحرمين، قال إمام الحرمين: الأمر بقتل الكلب الأسود وغيره كله منسوخ، فلا يحل قتل شيء منها اليوم، لا الأسود، ولا غيره، إلا الكَلْب العقور، لكن قال الرافعيّ في "الحج": إنَّ قتلها مكروه، وذكر النوويّ أن مراده كراهة التنزيه، وذكر الرافعيّ في "الغصب"، والنوويّ في "التيمم" أنها غير محترمة، وزعم شيخنا الإمام جمال الدين عبد الرحيم الإسنويّ أن مذهب الشافعيّ جواز قتلها، فالله أعلم.

واختار ابنُ عبد البرّ المنعَ من قتلها.

القول الثالث: أنها ممنوع من قتلها، إلا الأسود البهيم، واختار النوويّ في "شرح مسلم" هذا، ويدلّ له ما في "صحيح مسلم" عن جابر رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، حتى إن المرأة تَقْدَم من البادية بكلبها، فنقتله، ثم نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلها، وقال:"عليكم بالأسود البهيم، ذي الطفيتين، فإنه شيطان"، وقيل في معنى كونه شيطانًا: إنه بعيد من المنافع، قريب من المضرّة.، والأذى.

قال: واختُلِف في الأمر بقتل الكلاب المذكور في هذا الحديث، هل كان قبل نسخه عامًّا، أو مخصوصًا بما عدا المنتفَع به للصيد ونحوه، حكاه القاضي عياض، وقال: عندي أن النهي أوّلًا كان عامًّا عن اقتناء جميعها، وأمر بقتل جميعها، ثم نَهَى عن قتل ما سوى الأسود، ومنع الاقتناء في جميعها، إلا كلب صيد، أو زرع، أو ماشية، قال النوويّ: وهذا الذي قاله القاضي هو ظاهر الأحاديث، ويكون حديث ابن مُغَفَّل رضي الله عنه مخصوصًا بما عدا الأسود؛ لأنه عامّ، فيُخَصّ منه الأسود بالحديث الآخر.

وقال أيضًا: استُدِلّ بالأمر بقتل الكلاب على تحريم أكلها؛ لأن مباح

ص: 474

الأكل لا يجوز قتله عند القدرة عليه، وهذا هو المعروف من مذاهب العلماء.

انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله

(1)

.

وقوله: (إِلَّا كَلْبَ صيْدٍ، أَوْ كَلْبَ غَنَمٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ) وقال وليّ الدين رحمه الله: فيه تكرار، وهو من ذكر العامّ بعد الخاصّ؛ لأن الماشية أعمّ من الغنم، وإن كان الأكثر استعمالها في الغنم، وقد اقتصر الترمذيّ، والنسائيّ في روايتهما على الماشية. انتهى

(2)

.

والمعنى: إلا كلبًا يصطاد به الإنسان الصيد، أو كلبًا يحرُس له غنمه، أو دوابّه؛ لئلا يأكلها ذئبٌ، أو نحوه.

قال في "المنتقى شرح الموطّأ": قَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ: يُرِيدُ: كُل كَلْبٍ، اتُّخِذَ لِغَيْرِ صَيْدٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ، قَالَ مَالِكٌ: تُقْتَلُ الْكِلَابُ، مَا يُؤذِي مِنْهَا، وَمَا يَكُونُ فِي مَوْضِعٍ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهَا، كَالْفُسْطَاط، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ الْإحْسَانَ إلَيْهَا، حَالَ حَيَاتِهَا، وَأَنْ يُحْسِنَ قَتْلَتَهَا، وَلَا تُتَّخَذُ غَرَضًا، وَلَا تُقْتَلُ جُوعًا، وَلَا عَطَشًا. انتهى.

وقوله: (فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّ لأَبِي هُرَيْرَةَ زَرْعًا) وقال سالم في الرواية الأخرى: "وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: أو كلب حَرْث، وكان صاحب حرث"، قال العلماء: ليس هذا توهينًا لرواية أبي هريرة رضي الله عنه، ولا شكًّا فيها، بل معناه: أنه لما كان صاحبَ زرع، وحرث اعتنى بذلك، وحفظه، وأتقنه، والعادة أن المبتلى بشيء يتقنه ما لا يتقنه غيره، وَيتَعَرَّف من أحكامه ما لا يعرفه غيره، وقد ذكر مسلم هذه الزيادة، وهي اتخاذه للزرع من رواية عبد الله بن المغفَّل رضي الله عنه، ومن رواية سفيان بن أبي زهير رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذكرها أيضًا مسلم من رواية ابن الحكم، واسمه عبد الرحمن بن أبي نُعْم البجليّ

(3)

، عن ابن عمر رضي الله عنهما، فَيُحْتَمل أن ابن عمر رضي الله عنهما لَمّا سَمِعها من أبي هريرة رضي الله عنه، وتحققها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم رواها عنه بعد ذلك، وزادها في حديثه الذي كان يرويه بدونها.

(1)

"طرح التثريب" 6/ 31 - 33.

(2)

"طرح التثريب" 6/ 33.

(3)

سيأتي الكلام عليه قريبًا.

ص: 475

ويَحْتَمِل أنه تذكر في وقت أنه سمعها من النبيّ صلى الله عليه وسلم، فرواها، ونسيها في وقت، فتركها.

والحاصل أن أبا هريرة رضي الله عنه ليس منفردًا بهذه الزيادة، بل وافقه جماعة من الصحابة في روايتها، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولو انفرد بها لكانت مقبولة، مرضيّة، مُكَرَّمَة، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا.

[تنبيه]: مما يُتعجّب منه أن الحافظ رضي الله عنه ذكر في "الفتح" أن ابن عمر رضي الله عنهما ينكر على أبي هريرة رضي الله عنه في زيادة: "أَوْ كَلْبَ زَرْع"، واستند في ذلك إلى قول ابن عمر في رواية مسلم هذه:"إن لأبي هريرة رضي الله عنه زرعًا"، والغريب منه أنه كيف استدلّ بهذا، مع أنه لا يدلّ على الإنكار أصلًا، بل إنما يدلّ على التثبيت، كما ذكر الحافظ نفسه بعدُ بقوله:"ويقال: إن ابن عمر رضي الله عنهما أراد بذلك الإشارة إلى تثبيت رواية أبي هريرة رضي الله عنه "، إلى آخر كلامه.

وإنما قلت: بل يدلّ على التثبيت؛ لأن مسلمًا أخرج بعد هذا من طريق أبي الحكم، عن ابن عمر رضي الله عنهما بزيادة كلب الزرع، فهذا دليل واضحٌ على أن قول ابن عمر رضي الله عنهما:"إن لأبي هريرة زرعًا"، تثبيتٌ لحفظه، وليس إنكارًا، ولا طعنًا فيه، وقد أجاد النوويّ رحمه الله في كلامه السابق حيث حقّق وبيّن هذا، وعزاه إلى العلماء.

وممن أيّد هذا البيهقيّ رحمه الله حيث قال: وكأن ابن عمر رضي الله عنهما أخذه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الزرع، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم نفسه في كلب الماشية والصيد. انتهى

(2)

.

وممن أيّده أيضًا أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله في "المفهم" حيث قال: وقول ابن عمر رضي الله عنهما: "كان لأبي هريرة زرع" لا يَفْهَم منه أحد من العقلاء تُهْمَةً في حق أبي هريرة رضي الله عنه، وإنما أراد ابن عمر رضي الله عنهما أن أبا هريرة رضي الله عنه لما كان صاحب زرع، وكان محتاجًا لِمَا يحفظ به زرعه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأجابه بالاستثناء، فحصل له علم لم يكن عند ابن عمر، ولا عند غيره ممن لم يكن له اعتناء بذلك، ولا تهمهم. انتهى.

(1)

"شرح النوويّ"10/ 236.

(2)

"سنن البيهقي الكبرى" 6/ 9.

ص: 476

والحاصل أن زيادة "أو كلب زرع" زيادة صحيحة عن أبي هريرة رضي الله عنه، وعبد الله بن المغفّل، وسفيان بن أبي زُهير الشنئيّ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما نفسه رضي الله عنهم، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

قال القرطبيّ رحمه الله: وكلبُ الماشية المباح اتخاذه عند مالك هو: الذي يَسْرَحُ معها، لا الذي يحفظها في الدَّار من السُّرَّاق.

وكلبُ الزرع هو: الذي يحفظه من الوحوش بالليل والنهار، لا من السُّراق، وقد أجاز غير مالك اتخاذها لسُّرَّاق الماشية والزرع.

والكلب الضاري هو: المعلَّم للصيد؛ الذي قد ضَرِيَ به

(1)

. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن حمل كلب الماشية على إطلاقه، فيعمّ الحافظ عن السُرّاق وغيرهم - كما قاله العلماء غير مالك - هو الحقّ؛ لإطلاق الحديث في ذلك، فتأمل، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال صاحب "تكملة فتح الملهم": تمسّك بقول ابن عمر رضي الله عنهما هذا في أبي هريرة رضي الله عنه بعض ملاحدة عصرنا، وقالوا: إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يشكون في رواية غيرهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتّهمونهم - والعياذ بالله - بوضع الحديث وفق ما يحبّون، فلا حجّة في الأحاديث رأسًا، وقد اغترّ بهم بعض المنتمين إلى الإسلام أيضًا، فذكروا هذه الوقائع في كتبهم؛ طعنًا منهم في الأحاديث، وتعريضًا على الصحابة.

والحقّ أن قول ابن عمر رضي الله عنهما هذا ليس من الطعن في أبي هريرة رضي الله عنه في شيء

(3)

، وقد عرفت وجه صوابه في كلام النوويّ، والقرطبيّ المذكور آنفًا، فلا حاجة إلى تكراره، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتهوّر باتباع ذوي الاعتساف.

{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]، اللهم أرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين.

والحديث متّفق عليه دون ذكر الاستثناء، والقصّة، والله تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب.

(1)

أي اعتاده، واجترأ عليه.

(2)

"المفهم" 4/ 450 - 451.

(3)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 1/ 536 - 537.

ص: 477

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4013]

(1572) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ (ح) وَحَدَّثَنِي إسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَني أَبُو الزُّبَيْرِ؛ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ:"أَمرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ الْكلَاب، حَتَّى إن الْمَرْأةَ تَقْدَمُ مِنَ الْبَادِيَةِ بِكَلْبِهَا، فَنَقْتُلُهُ، ثمَّ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِهَا، وَقَالَ: (عَلَيْكُمْ بِالأَسْوَدِ الْبَهِيم، ذِي النُّقْطتيْن، فَإِنهُ شَيْطَانٌ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أبِي خَلَفٍ) تقدّم قريبًا.

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الْكَوسج، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون تقدّموا قبل باب، ومن لطائف هذا الإسناد أنه مسلسل بالتحديث، والإخبار، والسماع، من أوله إلى آخره.

شرح الحديث:

عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ (أنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْن عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنه (يَقُولُ: أمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ الْكِلَاب، حَتى إن الْمَرْأةَ تَقْدَمُ) بفتح الدال، من قَدِمَ قُدومًا؛ أي: تدخل البلد (مِنَ البَادِيَةِ بكَلْبِهَا) أي: معه (فَنَقْتُلُهُ، ثُمَّ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِهَا، وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: "عَلَيْكُمْ بِالأَسْوَدِ الْبَهِيم) بفتح الموحّدة، وكسر الهاء: هو الخالص السواد (ذِي النُّقْطَتَيْنِ) هما نقطتان معروفتان بيضاوان، فوق عينيه، وهذا مشاهد معروف، قاله النوويّ رحمه الله (فَإِنهُ شَيْطَانٌ") قال النوويّ رحمه الله: احتَجَّ به أحمد بن حنبل، وبعض أصحابنا في أنه لا يجوز صيد الكلب الأسود البهيم، ولا يَحِلّ إذا قتله؛ لأنه شيطان، وإنما حَلّ صيد الكلب، وقال الشافعيّ، ومالك، وجماهير العلماء: يَحِل صيد الكلب الأسود كغيره، وليس المراد بالحديث إخراجه عن جنس الكلاب، ولهذا لو وَلَغَ في إناء وغيره وجب غسله كما يُغْسل من ولوغ الكلب الأبيض. انتهى.

[تنبيه]: مما ورد في التشديد بقتل الكلاب ما أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" بإسناد صحيح عن سالم بن عبد الله، عن أبي رافع رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقتل الكلاب، فخرجت أقتلها، لا أرى كلبًا إلا قتلته، فإذا

ص: 478

كلب يدور ببيت، فذهبت لأقتله، فناداني إنسان من جوف البيت: يا عبد الله ما تريد أن تصنع؟ قال: قلت: أريد أن أقتل هذا الكلب، فقالت: إني امرأة مضيعة، وإن هذا الكلب يطرُد عني السبع، ويؤذنني بالجائي، فائت النبي صلى الله عليه وسلم، فاذكر ذلك له، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فأمرني بقتله.

وأخرج أحمد أيضًا عن أبي رافع أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "يا أبا رافع اقتل كل كلب بالمدينة"، قال: فوجدت نسوة من الأنصار بالصورين من البقيع، لهنّ كلب، فقلن: يا أبا رافع إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أغزى رجالنا، وإن هذا الكلب يمنعنا بعد الله، والله ما يستطيع أحد أن يأتينا حتى تقوم امرأة منا، فتحول بينه وبينه، فاذكره للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكره أبو رافع للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"يا أبا رافع اقتله، فإنما يمنعهنّ الله". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [32/ 4013](1572)، و (أبو داود) في "الصيد"(2846)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 406)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 333)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 361)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5651) و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 10)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4014]

(1573) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، سَمِعَ مُطَرِّفَ بْنَ عَبْدِ الله، عَنِ ابْنِ الْمُغَفَّلِ، قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ الْكِلَاب، ثُمَّ قَالَ: "مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلَابِ؟ "، ثُمَّ رَخَّصَ فِي كَلْبِ الصَّيْد، وَكَلْبِ الْغَنَمِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) الْعَنْبَريّ، أبو عمرو البصريّ، ثقة حافظ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

ص: 479

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان العنبريّ، أبو المثنّى البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(أَبُو التَّيَّاحِ) يزيد بن حُميد الضُّبَعيّ البصريّ، ثقة ثبتٌ [5](ت 128)(ع) تقدم في "الطهارة" 27/ 659.

5 -

(مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن الشَّخِّير العامريّ الْحَرَشيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ عابدٌ فاضلٌ [2](ت 95)(ع) تقدم في "الطهارة" 27/ 659.

6 -

(ابْنُ الْمُغَفلِ) هو: عبد الله بن المغفّل بن عُبيد بن نَهْم، أبو عبد الرحمن المزنيّ، صحابيّ بايع تحت الشجرة، ثم نزل البصرة، مات سنة (57) وقيل: بعد ذلك (ع) تقدم في "الطهارة" 27/ 659.

[تنبيه]: هذا الحديث بهذا الإسناد قد تقدّم في "كتاب الطهارة" برقم [27/ 659](280) وفيه زيادة، ولفظه: عَنِ ابْنِ الْمُغَفَّل، قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ الْكِلَاب، ثُمَّ قَالَ:"مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلَابِ؟ "، ثُمَّ رَخَّصَ فِي كَلْبِ الصَّيْد، وَكَلْب الْغَنَم، وَقَالَ:"إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الْإِنَاء، فَاغْسِلُوهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ فِي التُّرَابِ".

وقوله: (مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلَابِ) أي: ما حالهم وحالها؟ فـ "ما" استفهاميّة، وهو استفهام إنكار، وهو يَحْتَمل أن يكون إنكارًا لاقتنائهم، وهو ظاهر هذه الرواية، ويَحْتَمِل أن يكون إنكارًا لقتلهم، ويؤيّده رواية أبي نُعيم في "مستخرجه" 1/ 335 بلفظ:"ما بالي وبال الكلاب".

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "ما بالهم وبال الكلاب؟ " أي: ما شأنهم؛ أي: ليتركوها. انتهى

(1)

.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم تمام شرحه، وبيان مسائله في "الطهارة" بالرقم المذكور، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 237.

ص: 480

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4015]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ - يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ - (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيد، حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ (ح) وَحَدَّثنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ، بِهَذَا الإِسْنَاد، وَقَالَ ابْنُ حَاتِمٍ فِي حَدِيثِهِ عَنْ يَحْيَى: وَرَخَّصَ فِي كَلْبِ الْغَنَم، وَالصَّيْد، وَالزَّرْعِ).

رجال هذا الإسناد: أحد عشر:

1 -

(يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ) بن عربيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) الْهُجيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْوَليدِ) بن عبد الحميد القرشيّ الْبُسْريّ البصريّ، يُلقّب حمدان، ثقةٌ [10](ت 250) أو بعدها (خ م س ق) تقدم في "الإيمان" 40/ 268.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غندر، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

5 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

6 -

(وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ) بن حازم الأزديّ، أبو العباس البصريّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 315.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله، و"محمد بن حاتم" هو: ابن ميمون، و"يحيى بن سعيد" هو: القطّان.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ) الضمير للخمسة، وهم: خالد بن الحارث، ويحيى القطان، ومحمد بن جعفر، والنضر بن شُميل، ووهب بن جرير.

[تنبيه]: أما رواية خالد بن الحارث، ويحيى بن سعيد، ومحمد بن جعفر غندر، فقد تكلّمت عليها في "كتاب الطهارة" بما يكفي، فلا حاجة إلى إعادتها.

وأما رواية النضر بن شُميل، عن شعبة، فقد ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" 3/ 361 فقال:

ص: 481

(5316)

- وحدّثنا سعيد بن مسعود، قال: أنبا النضر بن شُمَيل، قال: أنبا شعبة، عن أبي التّيّاح، عن مُطَرِّف، عن عبد الله بن مُغَفَّل، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، ثم قال:"ما لهم وللكلاب؟ "، ورَخَّص في كلب الصيد، والغنم. انتهى.

وأما رواية وهب بن جرير، عن شعبة، فقد ساقها أيضًا أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" 3/ 361 فقال:

(5317)

- حدّثنا إبراهيم بن مرزوق، وأبو قلابة، قالا: ثنا وهب بن جرير، قثنا

(1)

شعبة، عن أبي التّيّاح، عن مُطَرِّف، عن عبد الله بن الْمُغَفَّل؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، ثم قال:"ما بالهم وبال الكلاب؟ "، ورَخَّص في كلب الصيد، والزرع، والغنم.

هذا لفظ أبي قلابة، وإبراهيم لم يذكر الزرع، ورواه جماعة، فلم يذكر الزرع إلا يحيى بن سعيد، عن شعبة، فإنه ذكر الزرع. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4016]

(1574) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا، إِلا كَلْبَ مَاشِيَةٍ، أَوْ ضَارِي، نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُل يَوْمٍ قِيرَاطَانِ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وهو السند المذكور أوّل الباب، وهو من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (269) من رباعيّات الكتاب.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا) أي: اتَّخذ، يقال: اقتنى الشيءَ: إذا اتّخذه للادّخار، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: اقتنى، واتّخذ، واكتسب كلّها بمعنى واحد.

(1)

مختصر من "قال: حدّثنا".

(2)

"الفتح" 12/ 433.

ص: 482

وقال الفيّوميّ رحمه الله: قَنَوْتُ الشيءَ أَقْنُوه قَنْوًا، من باب قتل، وقِنْوةً بالكسر: جمعتُهُ، واقتنيته: اتخذته لنفسي قِنْيةً، لا للتجارة، هكذا قيّدوه، وقال ابن السّكّيت: قَنَوتُ الغنمَ أقنوها، وقنيتها أَقنِيها: اتخذتها للقِنْية، وهو مالُ قِنْية، وقِنْوة، وقِنْيان بالكسر، والياء، وقُنْوان، بالضمّ، والواو، وأقناه: أعطاه، وأرضاه. انتهى

(1)

.

(إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ) قال الفيّوميّ رحمه الله: الماشية: المالُ من الإبل، والغنم، قاله ابن السّكّيت، وجماعة، وبعضهم يجعل البقر من الماشية. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وكلبُ الماشية المباحُ اتخاذه عند مالك هو الذي يُسرَح معها، لا الذي يحفظها في الدار من السُّرَاق، وكلب الزرع هو الذي يَحفظه من الوحوش بالليل والنهار، لا من السُّرّاق، وقد أجاز غير مالك اتّخاذها لسُرّاق الماشية والزرع. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله غير مالك رحمه الله من جواز اتّخاذها للسرّاق وغيره هو الراجح عندي؛ لإطلاق النّصوص، فإنه لم يخصّ نوعًا من الحفظ، بل أباح لحفظ هذه الأشياء مطلقًا، فتقييدها بنوع من الحفظ يحتاج إلى دليل، وقد تقدّم بيان هذا قريبًا، والله تعالى أعلم.

(أَوْ ضَارِي) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في معظم النسخ: "ضاري" بالياء، وفي بعضها:"ضاريًا"، بالألف، بعد الياء، منصوبًا، وفي الرواية الثانية:"من اقتنى كلبًا إلا كلب ضاريةٍ"، وذكر القاضي أن الأول رُوي:"ضاري" بالياء، و"ضَارٍ"، بحذفها، و"ضاريًا"، فأما "ضاريًا"، فهو ظاهر الإعراب، وأما "ضاري"، و"ضارٍ"، فهما مجروران على العطف على "ماشيةٍ"، ويكون من إضافة الموصوف إلى صفته، كماء البارد، ومسجد الجامع، ومنه قوله تعالى:{بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} [القصص: 44]، {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ} [يوسف: 109]، وسبق بيان هذا مرات، ويكون ثبوت الياء في "ضاري" على اللغة القليلة، في

(1)

"المصباح المنير" 2/ 517 - 518.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 574.

(3)

"المفهم" 4/ 450 - 451.

ص: 483

إثباتها في المنقوص، من غير ألف ولام، والمشهور حذفها، وإلى هذا أشار ابن مالك في "الخلاصة" بقوله رحمه الله:

وَحَذْفُ يَا الْمَنْقُوصِ ذِي التَّنْوِينِ مَا

لَمْ يُنْصَبَ اوْلَى مِنْ ثُبُوتِ فَاعْلَمَا

وَغَيْرُ ذِي التَّنْوِينِ بِالْعَكْسِ وَفِي

نَحْوِ "مُرِ" لُزُومُ رَدِّ الْيَا اقْتُفِي

قال: وقيل: إن لفظة "ضارِ" هنا صفة للرجل الصائد، صاحب الكلاب المعتاد للصيد، فسمّاه ضاريًا؛ استعارةً، كما في الرواية الأخرى:"إلا كلب ماشيةٍ، أو كلب صائد"، وأما رواية:"إلا كلبَ ضاريةٍ"، فقالوا: تقديره: إلا كلب ذي كلابِ ضاريةٍ، والضاري هو الْمُعَلَّمُ الصيد المعتادُ له، يقال منه: ضَرَى الكلبُ يَضْرِي، كشَرَى يَشْرِي ضَرًا، وضَرَاوَةَ، وأضراه صاحبه؛ أي: عَوَّده ذلك، وقد ضَرَى بالصيد: إذا لَهَجَ به، ومنه قول عمر رضي الله عنه: إن للّحمِ ضراوةً كضراوة الخمر، قال جماعة: معناه: إن له عادةَ يَنْزع إليها، كعادة الخمر، وقال الأزهريّ: معناه: إن لأهله عادةً في أكله، كعادة شارب الخمر في ملازمته، وكما أن من اعتاد الخمر لا يكاد يصبر عنها، كذا من اعتاد اللحم. انتهى

(1)

.

(نَقَصَ) يَحْتَمِل أن يكون مبنيًّا للفاعل، و"قيراطان" فاعله، وأن يكون مبنيًّا للمفعول، و"قيراطان" نائب فاعله، بناء على أنه جاء لازمًا، ومتعدّيًا، قال الفيّوميّ رحمه الله: نَقَصَ نَقْصًا، من باب قَتَلَ، ونُقصانًا، وانتَقَصَ: ذهب منه شيءٌ بعد تمامه، ونقصته يتعدّى، ولا يتعدَّى، هذه هي اللغة الفصيحة، وبها جاء القرآن في قوله تعالى:{نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد: 41]، وقوله:{غَيْرَ مَنْقُوصٍ} [هود: 109]، وفي لغة ضعيفة يتعدَّى بالهمزة والتضعيف، ولم يأت في كلام فصيح، ويتعدّى أيضًا بنفسه إلى مفعولين، فيقال: نقصتُ زيدًا حقَّه، وانتقصته مثله، ودرهمٌ ناقصٌ غير تامّ الوزن. انتهى

(2)

.

(مِنْ عَمَلِهِ) قال النوويّ رحمه الله،: معناه: من أجر عمله (كل يَوْم) منصوب على الظرفيّة، متعلّق بـ "نَقَصَ"، وقوله:(قِيرَاطَانِ") مرفوع على الفاعليَّة، كما مرّ آنفًا، قال النوويّ رحمه الله القيراط هنا مقدار معلوم عند الله تعالى، والمراد نقص

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 237 - 238.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 621.

ص: 484

جزء من أجزاء عمله. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: اختُلف في معنى قوله: "نقص من عمله كلّ يوم قيراطان"، وأقرب ما قيل في ذلك قولان:

[أحدهما]: أن جميع ما عَمِله من عَمَل ينقُص لمن اتّخذ ما نُهي عنه من الكلاب بإزاء كلّ يوم يُمسكه فيه جزءان من أجزاء ذلك العمل، وقيل: من عمل ذلك اليوم الذي يمسكه فيه، وذلك لترويع الكلب للمسلمين، وتشويشه عليهم بنُباحه، ومنع الملائكة من دخول البيت، ولنجاسته على ما يراه الشافعيّ.

[الثاني]: أن يُحبط من عمله كلّه عملان، أو من عَمَل يوم إمساكه على ما تقدّم، عقوبةً له على ما اقتحم من النهي.

قال: والقيراط: مَثَلٌ لمقدارٍ اللهُ أعلم به، وإن كان قد جرى العرف في بلاد يُعرف فيها القيراط، فإنه جزء من أربعة وعشرين جزءًا، ولم يكن هذا اللفظ غالبًا عند العرب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"تُفتح عليكم أرض يُذكر فيها القيراط، فإذا فتحتموها، فاستوصوا بها خيرًا"، رواه مسلم، يعني بذلك مصر. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [32/ 4016 و 4017 و 4018 و 4019 و 4020 و 4021 و 4022](1574)، و (البخاريّ) في "الذبائح والصيد"(5480 و 5481 و 5482)، و (الترمذي) في "الأحكام"(1487)، و (النسائيّ) في "الصيد والذبائح"(7/ 186 و 188) و"الكبرى"(3/ 149)، و (مالك) في "الموطإ"(1808)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 141)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(10/ 432)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 264 و 7/ 299)، و (الحميديّ)

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 238 - 241.

(2)

"المفهم" 4/ 451 - 452.

ص: 485

في "مسنده"(2/ 283)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 4 و 8 و 37 و 47 و 55 و 60 و 71 و 101 و 113 و 147 و 156)، و (الدارميّ) في "سننه"(4004)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 151) و"الكبير"(12/ 306)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 291 و 331 و 400 و 4013 و 10/ 206)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 359 و 363 و 364)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 809) و"الصغرى"(5/ 209) و "المعرفة"(4/ 394 و 395)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان شؤم اقتناء الكلب غير المأذون.

2 -

(ومنها): جواز اتخاذ الكلب لحفظ الماشية، وللصيد.

3 -

(ومنها): أن من اتّخذ كلبًا، لم يأذن به الشارع، مما سبق آنفًا، فقد جنى على نفسه، حيث يذهب عليه كلّ يوم قيراطان من عمله الصالح، فما أعظمه من خسارة، ولا حول ولا قوّة إلا بالله.

4 -

(ومنها): أن الْأصَحّ عَن الشافِعِيَّة إِبَاحَة اتِّخَاذ الْكِلَاب؛ لِحِفْظِ الدَّرْب، إِلْحَاقًا لِلْمَنْصُوصِ بِمَا فِي مَعْنَاهُ، كَمَا أشَارَ إِلَيْهِ ابْن عَبْد الْبَرّ.

5 -

(ومنها): أنهم اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَأْذُون فِي اتِّخَاذه، مَا لَمْ يَحْصُل الاتِّفَاق عَلَى قَتْله، وَهُوَ الْكَلْب الْعَقُور، وَأَمَّا غَيْر الْعَقُور، فَقَدْ اخْتُلِفَ هَلْ يَجُوز قَتْله مُطْلَقًا، أَمْ لَا؟

6 -

(ومنها): أنه اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَاز تَرْبِيَة الْجَرْو الصَّغِير؛ لِأَجْلِ الْمَنْفَعَة الَّتِي يَئُولُ أَمْره إِلَيْهَا إِذَا كَبِرَ، وَيَكُون الْقَصْد لِذَلِكَ قَائِمًا مَقَام وُجُود الْمَنْفَعَة بِه، كَمَا يَجُوز بَيْع مَا لَمْ يُنْتَفَع بِهِ فِي الْحَال؛ لِكَوْنِهِ يَنْتَفِع بِهِ فِي الْمَآل.

7 -

(ومنها): أنه اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى طَهَارَة الْكَلْب الْجَائِز اتِّخَاذه؛ لِأَنَّ فِي مُلَابَسَته مَعَ الاحْتِرَاز عَنهُ، مَشَقَّة شَدِيدَة، فَالْإذْن فِي اتِّخَاذه، إِذْن فِي مُكَمِّلَات مَقْصُوده، كَمَا أنَّ الْمَنْع مِنْ لَوَازِمه، مُنَاسِب لِلْمَنْعِ مِنْهُ.

قال الحافظ رحمه الله: وَهُوَ اسْتِدْلَال قَوِيّ، لَا يُعَارِضهُ إِلَّا عُمُوم الْخَبَر الْوَارِد فِي الْأمْر مِنْ غَسْل مَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْب، مِنْ غَيْر تَفْصِيل، وَتَخْصِيص الْعُمُوم غَيْر مُسْتَنْكَر، إِذَا سَوَّغَهُ الدَّلِيل.

ص: 486

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بطهارة الكلب هو الحقّ، ولا يلزم منه التعارض مع الأمر بغسل ولوغه؛ لأن ذلك لدليل خاصّ به، فتأمل، والله تعالى أعلم.

8 -

(ومنها): أن فِيه الْحَثَّ عَلَى تَكْثِير الْأَعْمَال الصَّالِحَة، وَالتَّحْذِيرَ مِنَ الْعَمَل بمَا يَنْقُصهَا، وَالتَّنْبيه عَلَى أَسْبَاب الزِّيَادَة فِيهَا، وَالنَّقْص مِنْهَا؛ لِتُجْتَنَب، أَوْ تُرْتَكَب.

9 -

(ومنها): أن فيه بَيَانَ لُطْف الله تَعَالَى بِخَلْقِه، فِي إِبَاحَة مَا لَهُمْ بِهِ نَفْع.

10 -

(ومنها): أنه صلى الله عليه وسلم بيّن لأمته كلّ ما يحتاجون إليه، من أُمُور مَعَاشهمْ، وَمَعَادهمْ.

11 -

(ومنها): أن فِيهِ تَرْجِيحَ الْمَصْلَحَة الرَّاجِحَة عَلَى الْمَفْسَدَة؛ لِوُقُوعِ اسْتِثْنَاء مَا يُنْتَفَع بِه، مِمَّا حَرُمَ اتِّخَاذه.

12 -

(منها): ما قَالَ الحافظ ابْن عَبْد الْبَرّ رحمه الله: فِي هَذَا الْحَدِيث إِبَاحَة اتِّخَاذ الْكِلَاب لِلصَّيْدِ وَالْمَاشِيَة، وَكَذَلِكَ الزرْع؛ لِأنَّهَا زِيادَة حَافِظ، وَكَرَاهَة اتِّخَاذهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ، إِلَّا أنَّهُ يَدْخُل فِي مَعْنَى الصَّيْد وَغَيْره، مِمَّا ذُكِرَ اتِّخَاذهَا لِجَلْبِ الْمَنَافِع، وَدَفْع الْمَضَارّ قِيَاسًا، فَتَمَحَضَّ كَرَاهَة اتِّخَاذهَا لِغَيْرِ حَاجَة؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْوِيع النَّاس، وَامْتِنَاع دُخُول الْمَلَائِكَة لِلْبَيْتِ الَّذِي هُمْ فِيه، قال: وَفي قَوْله: "نَقَصَ مِنْ عَمَله" - أي: مِنْ أَجْر عَمَله - مَا يُشِير إِلَى أَنَّ اتِّخَاذهَا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ اتِّخَاذه مُحَرَّمًا، امْتَنَعَ اتِّخَاذه عَلَى كُلّ حَال سَوَاء نَقَصَ الْأَجْرَ، أَوْ لَمْ يَنْقُص، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اتِّخَاذهَا مَكْرُوه، لَا حَرَام، قَالَ: وَوَجْه الْحَدِيث عِنْدِي أَنَّ الْمَعَانِي الْمُتَعَبَّد بِهَا فِي الْكِلَاب، مِنْ غَسْل الْإنَاء سَبْعًا، لَا يَكَاد يَقُوم بِهَا الْمُكَلَّف، وَلَا يَتَحَفَّظ مِنْهَا، فَرُبَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِ بِاتِّخَاذِهَا مَا يَنْقُص أَجْره مِنْ ذَلِكَ.

ويُرْوَى أَن الْمَنْصُور، سَأَلَ عَمْرو بْن عُبَيْد، عَن سَبَب هَذَا الْحَدِيث، فَلَمْ يَعْرِفهُ، فَقَالَ الْمَنْصُور: لِأَنَّهُ يَنْبَح الضَّيْف، ويُرَوِّع السَّائِل. انتهى.

وتعقّبه الحافظ رحمه الله فقال: مَا ادَّعَاهُ مِنْ عَدَم التَّحْرِيم، وَاسْتَنَدَ لَهُ بِمَا

ص: 487

ذَكَرَهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ، بَلْ يَحْتَمِل أَنْ تَكُون الْعُقُوبَة، تَقَع بِعَدَمِ التَّوْفِيق لِلْعَمَلِ بِمِقْدَارِ قِيرَاط، مِمَّا كَان يَعْمَلهُ مِنَ الْخَيْر، لَوْ لَمْ يَتَّخِذ الْكَلْب.

وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الاتِّخَاذ حَرَامًا، وَالْمُرَاد بِالنَّقْصِ أَنَّ الْإثْم الْحَاصِل بِاتِّخَاذِه، يُوَازِي قَدْر قِيرَاط، أَوْ قِيرَاطَيْنِ مِنْ أَجْر، فَيَنْقُص مِنْ ثَوَاب عَمَل الْمُتَّخِذ، قَدْر مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ مِنَ الْإثْم بِاتخَاذِه، وَهُوَ قِيرَاط، أَوْ قِيرَاطَان، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فيما قاله العلماء في سبب نقصان الأجر باقتناء الكلب:

قِيلَ: إن سَبَب النُّقْصَان امْتِنَاع الْمَلَائِكَة مِنْ دُخُول بَيْته، أَوْ مَا يَلْحَق الْمَارِّينَ مِنَ الْأَذَى، أَوْ لِأَنَّ بَعْضهَا شَيَاطِين، أَوْ عُقُوبَة لِمُخَالَفَةِ النَّهْي، أَوْ لِوُلُوغِهَا فِي الْأَوَاني عِنْد غَفْلَة صَاحِبهَا، فَرُبَّمَا يَتَنَجَّس الطَّاهِر مِنْهَا، فَإِذَا اسْتُعْمِلَ فِي الْعِبَادَة، لَمْ يَقَع مَوْقِع الطَّاهِر. وَقَالَ ابْن التين: الْمُرَاد أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَّخِذهُ، لَكَانَ عَمَله كَامِلًا، فَإذَا اقْتَنَاهُ نَقَص مِنْ ذَلِكَ الْعَمَل، وَلَا يَجُوز أَنْ يَنْقُص مِنْ عَمَل مَضَى، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ لَيْسَ عَمَله فِي الْكَمَال عَمَل مَنْ لَمْ يَتَّخِذهُ. انتهى.

وتعقّبه الحافظ رحمه الله فقال: وَمَا ادَّعَاهُ مِنْ عَدَم الْجَوَاز مُنَازَع فِيه، فَقَدْ حَكَى الرُّويَانِيُّ فِي "الْبَحْر" اخْتِلَافًا فِي الْأَجْر، هَلْ يَنْقُص مِنْ الْعَمَل الْمَاضِي، أَوْ الْمُسْتَقْبَل؟ وَفِي مُحَصَّل نُقْصَان الْقِيرَاطَيْن، فَقِيلَ: مِنْ عَمَل النَّهَار قِيرَاط، وَمِنْ عَمَل اللَّيْل آخَر. وَقِيلَ: مِنْ الْفَرْض قِيرَاط، وَمِنْ النَّفْل آخَر، وَفِي سَبَب النُقْصَان، يَعْنِي كَمَا تَقَدَّمَ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف العلماء في الجمع بين روايتي قيراط، وقيراطين:

اخْتَلَفُوا فِي اخْتِلَاف الرِّوَايَتَيْن، فِي الْقِيرَاطَيْنِ وَالْقِيرَاط، فَقِيلَ: الْحُكْم للزَّائِد؛ لِكَوْنِهِ حَفِظَ مَا لَمْ يَحْفَظهُ الْآخَر، أَوْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ أَوَّلًا بِنَقْص قِيرَاط وَاحِد، فَسَمِعَهُ الرَّاوِي الْأَوَّل، ثُمَّ أَخْبَرَ ثَانِيًا بِنَقْصِ قِيرَاطَيْن، فِي التَأكِيد فِي

ص: 488

التَّنْفِير مِنْ ذَلِكَ، فَسَمِعَهُ الرَّاوِي الثَّانِي. وَقِيلَ: يَنْزِل عَلَى حَالَيْنِ: فَنُقْصَان الْقِيرَاطَيْنِ بِاعْتِبَارِ كَثْرَة الْأَضْرَار بِاتِّخَاذِهَا، وَنَقْص الْقِيرَاط بِاعْتِبَارِ قِلَّته. وَقِيلَ: يَخْتَصّ نَقْص الْقِيرَاطَيْنِ بِمَنْ اتَّخَذَهَا بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَة خَاصَّة، وَالْقِيرَاط بِمَا عَدَاهَا. وَقِيلَ: يَلْتَحِق بِالْمَدِينَةِ فِي ذَلِكَ سَائِر الْمُدُن وَالْقُرَى، وَيَخْتَصّ الْقِيرَاط بِأَهْلِ الْبَوَادِي، وَهُوَ يَلْتَفِت إِلَى مَعْنَى كَثْرَة التَأَذِّي وَقِلَّته. وَكَذَا مَنْ قَالَ: يَحْتَمِل أَنْ يَكُون فِي نَوْعَيْنِ مِنَ الْكِلَاب: فَفِيمَا لَابسه آدمِيّ قِيرَاطَان، وَفِيمَا دُونه قِيرَاط. وَجَوَّزَ ابْن عَبْد الْبَرّ أَنْ يَكُون الْقِيرَاط الَّذِي يَنْقُص أَجْر إِحْسَانه إِلَيْهِ؛ لِأَنَهُ مِنْ جُمْلَة ذَوَات الْأَكْبَاد الرَّطْبَة، أَوْ الْحَرَّى، وَلَا يَخْفَى بُعْده، قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الاختلاق المذكور في تعيين نوع العمل الذي نقص منه القيراط، أو القيراطان، مما لا فائدة فيه، قال بعض المحقّقين: لا سبيل إلى تعيين هذا بالقياس، فإن مثله يتوقّف على السماع، ولم يوجد، فلسنا بحاجة إلى تعيين ذلك، ومقصود الشارع أن اقتناء الكلب بدون حاجة ينقص من عمل الشخص قيراطين كلّ يوم، فيجب أن يُحذر منه، وليس عندنا ما نتحقّق به قدر القيراطين، ولا تعيين أعمال ينقص منها ذلك القدر، فلا حاجة إلى الخوض في أمثال هذه المباحث، قال: ويُعجبني قول الأُبيّ رحمه الله: والله أعلم بمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذِكْر القيراط هنا تقدير لمقدار الله أعلم به، والمراد به نقص جزءٍ ما. انتهى

(2)

، وهو بحث مهمّ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب.

[تنبيه]: اخْتُلِفَ فِي الْقِيرَاطَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ هُنَا، هَلْ هُمَا كَالْقِيرَاطَيْنِ الْمَذْكُورينِ فِي الصَّلَاة عَلَى الْجِنَازَة، وَاتِّبَاعهَا؟ فَقِيلَ: بِالتَّسْوِيَةِ. وَقِيلَ: اللَّذَانِ فِي الْجِنَازَة مِنْ بَاب الْفَضْل، وَاللَّذَانِ هُنَا مِنْ بَاب الْعُقُوبَة، وَبَاب الْفَضْل أَوْسَع مِنْ غَيْره، قاله في "الفتح"

(3)

.

(1)

"الفتح" 6/ 116 - 117.

(2)

"تكملة فتح الملهم" 1/ 540.

(3)

"الفتح" 6/ 117.

ص: 489

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول الثاني هو الأشبه، فتأمله، والله تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: قال الشيخ وليّ الله الدهلويّ رحمه الله: السرّ في النهي عن اقتناء الكلب أنه يُشبه الشيطان بجبلّته؛ لأنه ديدنه لعبٌ وغضبٌ، واطّراح في النجاسات، وإيذاء للناس، ويقبل الإلهام من الشياطين، فرأى منهم صدودًا وتهاونًا، ولم يكن سبيل إلى النهي عنه بالكلّيّة؛ لضرورة الزرع، والماشية، والحراسة، والصيد، فعالج ذلك باشتراط أتمّ الطهارات

(1)

؛ أي: حيث أوجب غسل ما ولغ فيه بالتراب سبع مرّات.

وذكر الدميريّ رحمه الله في "حياة الحيوان" أن الجيفة أحبّ إلى الكلب من اللحم الغريض، ويأكل العَذِرة، ويرجع في قيئه

(2)

.

وذكر التهانويّ رحمه الله أن من عيوب الكلب أنه تعوزه الحميّة الجنسيّة، فإنه يعادي أبناء جنسه، وكلما كان في موضع، وجاء كلب فيه آخر طرده، ولم يتحمّله.

ثم إن الكلب تتبعه أمراض، وأدواء كثيرة، وفي لُعابه سميّة تضرّ بالإنسان، فالاجتناب عن اقتنائه إلا لحاجة فيه حِكَمٌ كثيرة، ذكر هذه الفوائد صاحب "تكملة فتح الملهم" رحمه الله

(3)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4017]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْب، وَابْنُ نُمَيْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا، إِلَّا كَلْبَ صَيْدٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ، نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ").

(1)

راجع: "حجة الله البالغة" 1/ 185 مبحث تطهير النجاسات.

(2)

"حياة الحيوان" 2/ 226.

(3)

"تكملة فتح الملهم" 1/ 541 - 542.

ص: 490

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة الصغير، تقدّم قريبًا.

2 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمَير، تقدّم قريبًا.

3 -

(سَالِمُ) بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدويّ، أبو عمر، أو أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبت فقيه عابدٌ فاضلٌ، من كبار [3](106)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 162.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله، و"سفيان" هو: ابن عُيينة.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4018]

(

) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، ويَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ - قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرُونَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - وَهْوَ ابْنُ جَعْفَرٍ - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ؛ أنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا، إِلَّا كلْبَ ضَارِيةٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ، نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أيُّوبَ) المقابريّ البغداديّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(ابْنُ حُجْرٍ) هو: عليّ بن حُجْر السعديّ المروزيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ) العدويّ مولى ابن عمر رضي الله عنهما، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ [4](ت 127)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

وقوله: (إِلَّا كَلْبَ ضَارِيةٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ) قال في "العمدة": قوله: "ضارية" من ضَرَى الكلبُ بالصيد ضَراوةً؛ أي: تَعَوَّد، وكان حقه أن يقال:"ضَارٍ"، ولكنه أُنِّث للتناسب للفظ "ماشية"، نحو "لا دَرَيتَ، ولا تَلَيْتَ"، وحقه تَلَوْت، وكذلك نحو الغَدَايا، والعَشَايا، وقيل: صفة للجماعة الصائدين أصحابِ

ص: 491

الكلاب المعتادة للصيد، فسُمُّوا ضاريةً؛ استعارةً. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح" في "كتاب الذبائح والصيد" عند قول البخاريّ: "باب من اقتنى كلبًا إلخ" ما نصّه: ذكر فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما في ذلك من ثلاثة طُرُق عنه، ووقع في الرواية الأولى:"ليس بكلب ماشية، أو ضارية"، وفي الثانية:"إلا كلبًا ضاريًا لصيد، أو كلب ماشية"، وفي الثالثة:"إلا كلب ماشية، أو ضاريًا"، فالرواية الثانية تفسر الأولى والثالثة، فالأولى إما للاستعارة على أن "ضاريًا" صفة للجماعة الضارين أصحابِ الكلاب المعتادة، الضارية على الصيد، يقال: ضَرَا على الصيد ضَرَاوَةً؛ أي: تَعَوّد ذلك، واستمرّ عليه، وضَرَا الكلبُ وأضراه صاحبه؛ أي: عَوَّده، وأغراه بالصيد، والجمع ضَوَارِ.

وإما للتناسب للفظ "ماشية"، مثل:"لا دريتَ، ولا تليت"، والأصل تلوت، والرواية الثالثة فيها حذف تقديره: أو كلبًا ضاريًا.

ووقع في الرواية الثانية في غير رواية أبي ذرّ: "إلا كلبَ ضاري"، بالإضافة، وهو من إضافة الموصوف إلى صفته، أو لفظ "ضاري" صفة للرجل الصائد؛ أي: إلا كلب رجل معتادِ للصيد، وثبوت الياء في الاسم المنقوص مع حذف الألف واللام منه لغة. انتهى

(2)

.

والحديث متّفق عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4019]

(

) - (حَدثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرُونَ: حَدثنَا إِسْمَاعِيلُ

(3)

، عَنْ مُحَمّدٍ - وَهُوَ ابْنُ أَبِي حَرْمَلَةَ - عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ الله، عَنْ أَبِيهِ؛ أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا، إِلا كَلْبَ مَاشِيَةٍ، أَوْ كَلْبَ صَيْدٍ، نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاط"، قَالَ عَبْدُ اللهِ: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: "أَوْ كَلْبَ حَرْثٍ").

(1)

"عمدة القاري" 21/ 98.

(2)

"الفتح" 13/ 433 - 434 " كتاب الذبائح والصيد" رقم (5480).

(3)

وفي نسخة: "حدّثنا إسماعيل، وهو ابن جعفر".

ص: 492

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَرْمَلَةَ) القرشيّ، أبو عبد الله المدني، مولى عبد الرحمن بن أبي سفيان بن حُويطِب، وقد يُنسب إليه، ثقةٌ [6] مات سنة بضع و (13)(خ م د ت س) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 54/ 1934.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (قَالَ عَبْدُ اللهِ: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَوْ كَلْبَ حَرْثٍ) عبد الله هو ابن عمر رضي الله عنهما، يعني أبا هريرة رضي الله عنه يزيد في روايته لهذا الحديث قوله:"أو كلب حرث"، وهذا من ابن عمر رضي الله عنهما ليس طعنًا، في أبي هريرة رضي الله عنه، وإنما هو إخبار بأنه حفظ ما لم يحفظه هو، ودليل ذلك أن ابن عمر رضي الله عنهما حدّث بها، كما سيأتي للمصنّف بعد حديثين، من طريق أبي الحكم، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ثم إن هذه الزيادة لم ينفرد بها أبو هريرة رضي الله عنه، بل رواها معه سفيان بن أبي زُهير الشنئيّ، كما سيأتي لمسلم في هذا الباب، وعبد الله بن مغفّل، كما هو عند الترمذيّ في "جامعه"

(1)

، وأحمد في "مسنده"

(2)

.

والحاصل أن زيادة "أو كلب حرث" صحيحة، لا غبار عليها، فتبصّر، ولا تلتفت لما يثيره الملحدون الطاعنون في السنة، من أن الصحابة كان بعضهم يكذّب بعضًا، ويطعن بعضهم في بعض، فإن هذا هم الضلال المبين، والزيغ المستبين، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8].

والحديث تقدّم البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4020]

(

) - (حَدَّثنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا، إِلَّا كَلْبَ ضَارٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ، نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ"، قَالَ سَالِمٌ: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ: "أَوْ كَلْبَ حَرْثٍ"، وَكَانَ صَاحِبَ حَرْثٍ).

(1)

راجع: "جامع الترمذيّ" 4/ 80.

(2)

راجع: "المسند" 5/ 56.

ص: 493

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(وَكيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قبل باب.

2 -

(حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ)

(1)

بن عبد الرحمن بن صفوان بن أُميّة الْجُمَحيّ المكيّ، ثقة حجة [6](ت 151)(ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 123.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله، و"إسحاق بن إبراهيم" هو: ابن راهويه.

وقوله: (قَالَ سَالِمٌ: وَكَانَ أبُو هُرَيْرَةَ إلخ) هذا لا يعارض ما سبق في الرواية التي قبله من أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قاله؛ لاحتمال أن يقوله كلّ منهما، فتأمل.

والحديث متّفق عليه، إلا قول سالم، وتقدّم البحث فيه مستوفّى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4021]

(

) - (حَدَّثنا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، حَدَّثنَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ الله، عَنْ أَبِيه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا أَهْلِ دَارٍ اتَّخَذُوا كَلْبًا، إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ، أَوْ كَلْبَ صَائِدٍ، نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِمْ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ) الهاشميّ مولاهم الْخُوَارَزْميّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 239)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.

2 -

(مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوَيةَ) بن الحارث بن أسماء الفزاريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل مكة، ثم دمشق، ثقة حافظٌ، كان يدلّس أسماء الشيوخ [8](ت 193)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 138.

3 -

(عُمَرُ بْنُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ) بن الخطّاب العمريّ المدنيّ، ضعيف [6](خت م د ت ق) تقدم في "النكاح" 22/ 3542.

[فإن قلت]: كيف أخرج مسلم: لعمر بن حمزة، وهو ضعيف؟

(1)

اسم أبي سفيان: الأسود، كما قاله في "تهذيب التهذيب" 1/ 505.

ص: 494

[قلت]: إنما أخرج له متابعة، فقد أخرجه في الإسنادين السابقين عن محمد بن أبي حرملة، وحنظلة بن أبي سفيان، كلاهما عن سالم، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

والباقيان ذُكرا قبله.

والحديث سبق البحث فيه مستوفّى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4022]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى - قَالَا: حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْحَكَم، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا، إِلا كَلْبَ زَرْعٍ، أَوْ غَنَمٍ، أَوْ صَيْدٍ، يَنْقصُ مِنْ أَجْرِهِ كُل يَوْمٍ قِيرَاط").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد المعروف ببندار، أبو بكر البصريّ، ثقة حافظٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

2 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدُوسيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(أَبُو الْحَكَمِ) عمران بن الحارث الْبَجَليّ

(1)

الكوفيّ، ثقةٌ [4].

رَوَى عن ابن عباس، وابن الزبير، وابن عمر رضي الله عنهم.

ورَوى عنه قتادة، وسلمة بن كُهيل، وحُصين بن عبد الرحمن.

قال أبو حاتم: صالح الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العجليّ: عمران بن الحارث كوفيّ، تابعيّ، ثقة عندهم.

أخرج له المصنّف، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

[تنبيه]: ذكر الحافظ في "التهذيب" في ترجمة أبي الحكم هذا، ما نصّه:

(1)

هكذا وقع نسبته بجليًّا في رواية أحمد في "المسند"، والبيهقيّ في "الكبرى"، والذي وقع في "التهذيبين"، و "التقريب"، و"تحفة الأشراف": أنه "سُلَميّ"، فليُنظر.

ص: 495

رَوَى له مسلم حديثًا واحدًا عن ابن عمر رضي الله عنهما فيمن اتَّخَذ كلبًا، ووقع في روايته "عن أبي الحكم" غير مُسَمًّى، ولا منسوب، وقد جزم النوويّ بأنه عبد الرحمن بن أبي نُعْم البجليّ، وجزم عبد الغنيّ بن سعيد بأن أبا الحكم الذي رَوَى عن ابن عمر، وعنه قتادة بَجَليّ، وأن الذي روَى عن ابن عباس، وعنه حُصين، وسلمة بن كُهيل سُلَميّ، وهذا مما يُقَوِّي قول النوويّ. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن كونه بجليًّا هو الصواب؛ لأنه هكذا نسبه الإمام أحمد في "مسنده" 2/ 27، وكذا البيهقي في "الكبرى" 6/ 9، وأما كونه عبد الرحمن بن أبي نُعم، كما ادّعاه النوويّ، فليس بجيّد، بل هو عمران بن الحارث، كما صرّح به البيهقيّ في "سننه" 6/ 9، وكذا المزّيّ في "تحفة الأشراف" 5/ 299، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

ثم رأيت في هذا كلامًا لولي الدين العراقي رحمه الله، ونصّه: وأبو الحكم هو عمران بن الحارث السُّلميّ، كما ذكره المزّيّ، وليس له عند مسلم سوى هذا الحديث، وذَكَر النوويّ أنه عبد الرحمن بن أبي نُعْم البجليّ، والأول أثبتُ. انتهى.

والحاصل أن أبا الحكم هذا هو عمران بن الحارث البجليّ، لا عبد الرحمن بن أبي نُعْم، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: روايات الإمام أحمد، والبيهقي لهذا الحديث:

قال الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" 2/ 27:

(4813)

- حدّثنا عبد الله

(1)

، حدّثني أبي، ثنا يزيد

(2)

؛ أنا همّام بن يحيى، عن قتادة، عن أبي الْحَكَم الْبَجَليّ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اتخذ كلبًا، غير كلب زرع، أو ضرع، أو صيد، نَقَصَ من عمله كلَّ يوم قيراط"، فقلت لابن عمر رضي الله عنهما: إن كان في دارٍ، وأنا له كارهٌ؟ قال: هو على ربّ الدار الذي يملكها. انتهى.

وقال البيهقيّ رحمه الله في "السنن الكبرى" 6/ 9: وقد رَوَى أبو الحكم

(1)

هو ولد الإمام راوي "المسند" عنه.

(2)

هو ابن هارون، كما سيأتي في رواية البيهقيّ.

ص: 496

عمران بن الحارث، عن ابن عمر رضي الله عنهما: كلب الزرع، وكأنه أخذه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الزرع، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَفْسِهِ في كلب الماشية والصيد.

(10812)

- أخبرنا أبو نصر محمد بن عليّ الفقيه، ثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن سلمة، ثنا محمد بن بشار، ومحمد بن المثنى، قالا: ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي الحكم، قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يحدِّث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من اتخذ كلبًا إلا كلب زرع، أو غنم، أو صيد، فإنه ينقص من أجره كلَّ يوم قيراط".

رواه مسلم في "الصحيح" عن محمد بن المثنى، ومحمد بن بشار.

(10813)

- أخبرنا أبو الحسين بن بشران، أنبأ أبو الحسن عليّ بن محمد المصريّ، ثنا مالك بن يحيى، ثنا يزيد بن هارون، أنبأ همّام، عن قتادة، عن أبي الحكم البجليّ، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اتخذ كلبًا، غير كلب زرع، ولا ضرع، فقد نَقَصَ من عمله كلَّ يوم قيراط"، فقلت لابن عمر رضي الله عنهما: إن كان في دارٍ، وأنا له كارهٌ؟ فقال: هو على رب الدار الذي يملكها. انتهى.

والباقون ذُكروا في الباب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4023]

(1575) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، وَحَرْمَلَةُ قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَاب، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا، لَيْسَ بِكَلْبِ صَيْدٍ، وَلَا مَاشِيَةٍ، وَلَا أرْضٍ، فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ قِيرَاطَانِ كُلَّ يَوْمٍ"، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ أَبِي الطَّاهِرِ: "وَلَا أَرْضٍ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وقد تقدّم بنصّه قبل باب، وشرح الحديث يُعلم مما سبق، فلا حاجة إلى إعادته.

وقوله: (وَلَا أَرْضٍ) هو بمعنى قوله الآتي: "إلا كلب حرث".

ص: 497

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [32/ 4023 و 4024 و 4025 و 4026 و 4027 و 4028](1575)، و (البخاريّ) في "الحرث والمزارعة"(2322) و"بدء الخلق"(3324)، و (أبو داود) في "الصيد"(2844)، و (الترمذيّ) في "الأحكام والعقائد"(1490)، و (النسائيّ) في "الصيد"(7/ 189) و"الكبرى"(3/ 148 و 149 و 150)، و (ابن ماجه) في "الصيد"(3204)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 969)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(10/ 432 و 433)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 409)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 267 و 345 و 425 و 473)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 124)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(12/ 469 و 471 و 473)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 363 و 364 و 365 و 366)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 251 و 6/ 10) و"الصغرى"(5/ 210) و"المعرفة"(4/ 395)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2777)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4024]

(

) - (حَدَّثنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أبِي سَلَمَةَ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اتَّخَدَ كَلْبًا، إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ، أَوْ صَيْدٍ، أَوْ زَرْعٍ، انْتَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ"، قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَذُكِرَ لِابْنِ عُمَرَ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: يَرْحَمُ اللهُ أَبَا هُرَيْرَةَ، كَانَ صاحِبَ زَرْعٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الْكِسّيّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف، تقدّم قبل باب.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله، و"عبد الرزّاق" هو: ابن همّام الصنعانيّ، و"معمر" هو: ابن راشد.

ص: 498

وقوله: (يَرْحَمُ اللهُ أَبَا هُرَيْرَةَ، كَانَ صَاحِبَ زَرْعٍ) هذا من ابن عمر رضي الله عنهما ليس توهيمًا، ولا إنكارًا على أبي هريرة رضي الله عنه، وإنما هو تثبيت له، كما سبق بيانه قريبًا، فتنبّه.

والحديث متّفق عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4025]

(

) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ الدَّسْتَوَائِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَمْسَكَ كَلْبًا، فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ، إِلَّا كَلْبَ حَرْثٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن عُليّة، تقدّم قريبًا.

2 -

(هِشَامٌ الدَّسْتَوَائيُّ) تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4026]

(

) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثنَا الأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَني يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَني أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن، حَدَّثَني أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ) بن عبد الرحمن الأمويّ مولاهم البصريّ، ثمّ الدمشقيّ، ثقةٌ رُمي بالإرجاء، من كبار [9](ت 189)(خ م د س ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 34/ 1418.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.

ص: 499

[تنبيه]: رواية الأوزاعيّ، عن يحيى بن أبي كثير هذه ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه" 2/ 1069 فقال:

(3204)

- حدّثنا هشام بن عمار، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا الأوزاعيّ، حدّثني يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اقتنى كلبًا، فإنه ينقص من عمله كلَّ يوم قيراط، إلا كلب حرث، أو ماشية". انتهى.

وساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" من طريق المصنّف 12/ 469 فقال: (5652) - أخبرنا عبد الله بن محمد الأزديّ، قال: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أخبرنا شعيب بن إسحاق، قال: حدّثني الأوزاعيّ، قال: حدّثنا يحيى بن أبي كثير، قال: حدّثني أبو سلمة، قال: حدّثني أبو هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من أمسك كلبًا نَقَصَ من عمله كلَّ يوم قيراط، إلا كلب حرث، أو ماشية". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4027]

(

) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا حَرْبٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أبِي كَثِيرٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ الْمُنْذِرِ) بن الجارود، أبو بكر البصريّ، صدوقٌ [11](ت 235)(م) من أفراد المصنّف، تقدّم في "الصيام" 21/ 2661.

2 -

(عَبْدُ الصَّمَدِ) بن عبد الوارث بن سعيد الْعَنبريّ مولاهم التّنّوريّ، أبو سهل البصريّ، ثقةٌ [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.

3 -

(حَرْبُ) بن شدّاد اليشكريّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ [7](ت 161)(خ م د ت س) تقدم في "الحج" 83/ 3339.

و"يحيى بن أبي كثير" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية حرب بن شدّاد، عن يحيى بن أبي كثير هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" 3/ 366 فقال:

(5338)

- حدّثنا أبو مقاتل سليمان بن محمد بن فضيل، قال: أنبا

ص: 500

عبد الله بن رجاء، قثنا

(1)

حرب، عن يحيى، قال: حدّثني أبو سلمة؛ أن أبا هريرة حدّثه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من أمسك كلبًا، فإنه يَنْقُصُ من عمله كلَّ يوم قيراط، إلا كلب حرث، أو ماشية". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4028]

(

) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ -يَعْنِي ابْنَ زِيَادٍ- عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سُمَيْعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو رَزِينٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اتَّخَذ كَلْبًا، لَيْسَ بِكَلْبِ صَيْدٍ، وَلَا غَنَمٍ، نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ) الْعَبديّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [8](ت 176) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ سُمَيْعٍ) الحنفيّ، أبو محمد الكوفيّ، بيّاع السّابَريّ

(2)

، صدوقٌ تُكُلِّم فيه لبدعة الخوارج [4].

رَوَى عن أنس، ومالك بن عُمير الحنفيّ، وأبي رَزِين، ومسلم البَطِين، وعبد الملك بن أعين، وغيرهم.

وروى عنه شعبة، والثوريّ، وإسرائيل، وأبو إسحاق الفزاريّ، وحفص بن غياث، وعبد الواحد بن زياد، وجماعة.

قال القطان: لم يكن به بأس في الحديث، وقال أحمد: ثقةٌ، وتركه زائدة؛ لمذهبه، وقال مرةً: صالحٌ، وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقة مأمون، وقال ابن أبي مريم عنه: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صدوق صالح، وقال النسائيّ: ليس به بأسٌ، وقال محمد بن حميد، عن جرير: كان يرى رأي الخوارج، كتبت عنه، ثم تركته، وقال أبو نعيم: إسماعيل بَيْهَسيّ، جاور

(1)

مختصر من "قال: حدّثنا"، فتنبّه.

(2)

بالسين المهملة، والموحّدة.

ص: 501

المسجد أربعين سنةً، لم يُرَ في جمعة، ولا جماعة، وقال ابن عديّ: حسن الحديث يمرّ حديثه، وهو عندي لا بأس به.

قال الحافظ: والْبَيْهَسيّة طائفة من الخوارج، يُنسَبون إلى أبي بَيْهَس -بموحّدة مفتوحة، بعدها مثناة من تحتُ ساكنة، وهاء مفتوحة، وسين مهملة- وهو رأس فرقة من طوائف الخوارج من الصفرية، وهو موافق لهم في وجوب الخروج على أئمة الجور، وكل من لا يعتقد مُعْتَقَدَهم عندهم كافر، لكن خالفهم بأنه يقول: إن صاحب الكبيرة لا يُكَفَّر إلا إذا رُفع إلى الإمام، فأقيم عليه الحدّ، فإنه حينئذ يُحكم بكفره.

وقال ابن عيينة: كان بَيْهَسيًّا، فلم أذهب إليه، ولم أقرَبه، وقال الأزديّ: كان مذموم الرأي، غير مرضيّ المذهب، يرى رأي الخوارج، فأما الحديث فلم يكن به بأس فيه، وقال الفَسَويّ: لا بأس به، وقال ابن نُمير، والعجليّ: ثقةٌ، وقال الحاكم: قرأت بخط أبي عمرو المستملي: سئل محمد بن يحيى عن إسماعيل بن سُميع، فقال: كان بيهسيًّا، كان ممن يُبغض عليًّا، قال: وسمعت أبا عليّ الحافظ يقول: كوفيّ قليل الحديث، ثقةٌ، وقال الآجريّ، عن أبي داود: ثقة، وقال هو وابن حبان في "الثقات": كان بيهسيًّا يرى رأي الخوارج، وكذا قال العقيليّ، وقال الساجيّ: كان مذمومًا في رأيه، وقال ابن سعد: كان ثقةً إن شاء الله، وقال البخاريّ: أما في الحديث فلم يكن به بأس.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1575)، وحديث (2986): "من سمّع سمّع الله به

" الحديث.

3 -

(أَبُو رَزِينٍ) مسعود بن مالك الأسديّ الكوفيّ، ثقةٌ فاضلٌ [2](ت 85)(بخ م 4) تقدم في "الطهارة" 26/ 650.

والباقيان ذُكرا في الباب.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 502

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4029]

(1576) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ؛ أَنَّ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ أَخْبَرَهُ؛ أَنَّهُ سَمِعَ سُفْيَانَ بْنَ أَبِي زُهَيْرٍ - وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ شَنُوءَةَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا، لَا يُغْنِي عَنْهُ زَرْعًا، وَلَا ضَرْعًا، نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ"، قَالَ: آنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: إِيْ وَرَبِّ هَذَا الْمَسْجِدِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ) هو: يزيد بن عبد الله بن خُصيفة بن عبد الله بن يزيد الكِنْديّ المدنيّ، نُسب لجدّه، ثقةٌ [5](ع) تقدم في "الصلاة" 31/ 1003.

2 -

(السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ) تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(سُفْيَانُ بْنُ أَبِي زُهَيْرٍ) الأزديّ الصحابيّ المدنيّ (خ م س ق) تقدم في "الحج" 87/ 3365.

والباقيان ذُكرا في الباب.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، وقد دخل المدينة، وفيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، فإن السائب صحابيّ صغير.

شرح الحديث:

(عَنْ يَزِيدَ) بن عبد الله (بْنِ خُصَيْفَةَ) بضمّ الخاء المعجمة، ثم صاد مهملة، ثُم فاء مصغّرًا؛ (أَنَّ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ) رضي الله عنه (أَخْبَرَهُ؛ أَنَّهُ سَمِعَ سُفْيَانَ بْنَ أَبِي زُهَيْرٍ) مصغّرًا، وفي الرواية التالية:"أَنَّهُ وَفَدَ عَلَيْهِمْ سُفْيَانُ بْنُ أَبِي زُهَيْرٍ الشَّنَئِيُّ"(وَهُوَ) أي: سفيان (رَجُلٌ مِنْ شَنُوءَةَ) وفي رواية البخاريّ: رجلٌ من أزد شنوءة"- بفتح الشين المعجمة، وضمّ النون، بعدها واو ساكنة، ثم همزة مفتوحة-، وهي قبيلة مشهورة، نُسبوا إلى شنوءة، واسمه الحارث بن كعب بن

ص: 503

عبد الله بن مالك بن النضر بن الأزد، قاله في "الفتح"

(1)

. (مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنِ اقْتَنَى) أي: اتّخذ (كَلْبًا، لَا يُغْنِي عَنْهُ زَرْعًا، وَلَا ضَرْعًا) المراد بالضرع: الماشية، كما في سائر الروايات، ومعناه: من اقتنى كلبًا لغير زرع، وماشية (نَقَصَ) بالبناء للفاعل (مِنْ عَمَلِهِ) أي: من ثواب عمله (كُلَّ يَوْمٍ) منصوب على الظرفيّة متعلّق بـ "نَقصَ"، وقوله:(قِيرَاطٌ) مرفوع على الفاعليّة لـ "نَقَصَ"، ويَحْتَمل أن يكون "نُقص" مبنيًّا للمفعول، فيكون "قيراطٌ" مرفوعًا على أنه نائب فاعله (قَالَ) السائب، وفي رواية البخاريّ:"قلتُ"، وفي رواية النسائيّ:"قلت: يا سفيان"(آنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟) فيه التثبّت في نقل الحديث (قَالَ) سفيان (إِيْ) بكسر الهمزة، وسكون الياء، بمعنى نعم، ولا تقع إلا قبل القسم، كما نصّ عليه ابن هشام الأنصاريّ في "مغنيه"

(2)

، وقوله:(وَرَبِّ هَذَا الْمَسْجِدِ) مجرور بواو القسم؛ أي: أقسم بربّ هذا المسجد، والظاهر أنه المسجد النبويّ؛ لأن كلًّا من سفيان والسائب مدنيّان، وفيه القسم للتوكيد، وإن كان السامع مصدَّقًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سفيان بن أبي زُهير رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [32/ 4029 و 4030](1576)، و (البخاريّ) في "الحرث والمزارعة"(2323) و"بدء الخلق"(3325)، و (النسائي) في "الصيد"(7/ 187) و"الكبرى"(3/ 149)، و (ابن ماجه) في "الصيد"(3206)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 969)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 264 و 7/ 299) وفي "مسنده"(2/ 280)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 219 و 220)، و (الدارميّ)

(1)

"الفتح" 6/ 117 "كتاب الحرث والمزارعة" رقم (2323).

(2)

"مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 159.

ص: 504

في "سننه"(2005)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 365)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(7/ 74)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(12/ 93)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 10) و"الصغرى"(5/ 210) و"المعرفة"(4/ 395)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4030]

(

) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ، أَخْبَرَنِي السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ؛ أَنَّهُ وَفَدَ عَلَيْهِمْ سُفْيَانُ بْنُ أَبِي زُهَيْرٍ الشَّنَئِيُّ، فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، و"إسماعيل" هو: ابن جعفر بن أبي كثير الأنصاريّ.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (الشَّنَئِيُّ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في معظم النسخ بشين معجمة، مفتوحة، ثم نون مفتوحة، ثم همزة مكسورة، منسوب إلى أزد شنوءة بشين مفتوحة، ثم نون مضمومة، ثم همزة ممدودة، ثم هاء، ووقع في بعض النسخ المعتمدة: الشَّنَوي بالواو، وهو صحيح، على إرادة التسهيل، ورواه بعض رواة البخاريّ: شَنُويّ بضمّ النون على الأصل. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: رواية إسماعيل بن جعفر، عن يزيد بن خُصيفة هذه ساقها النسائيّ في "المجتبى" 7/ 187.

(4285)

- أخبرنا عليّ بن حُجْر بن إياس بن مُقاتل بن مُشَمْرِج بن خالد السعديّ، عن إسماعيل، وهو بن جعفر، عن يزيد، وهو ابن خُصَيفة، قال: أخبرني السائب بن يزيد؛ أنه وَفَد عليهم سفيان بن أبي زُهير الشنائيّ، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اقتنى كلبًا، لا يُغني عنه زرعًا، ولا ضرعًا، نَقَصَ من

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 241.

ص: 505

عمله كلَّ يوم قيراط"، قلت: يا سفيان أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم وربّ هذا المسجد. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(33) - (بَابُ حِلِّ أُجْرَةِ الْحِجَامَةِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4031]

(1577) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا اِسْمَاعِيلُ -يَعْنُونَ ابْنَ جَعْفَرٍ- عَنْ حُمَيْدٍ، قَالَ: سُئِلَ أَنَسُ ابْنُ مَالِكٍ عَنْ كسْبِ الْحَجَّامِ، فَقَالَ: احْتَجَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ، فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعَيْنِ مِنْ طَعَامٍ، وَكَلَّمَ أَهْلَهُ، فَوَضَعُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ، وَقَالَ: "إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ، أَوْ هُوَ مِنْ أمْثَلِ دَوَائِكُمْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(حُمَيْدٌ) الطويل، أبو عبيدة البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [5](ت 2 أو 143)(ع) تقدم في "الطهارة" 23/ 639.

2 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في السند الماضي.

شرح الحديث:

(عَنْ حُمَيْدٍ) الطويل، واختُلف في اسم أبيه على عشرة أقوال، فقيل: تِير، وقيل: تيريه، وقيل غير ذلك (قَالَ: سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه، قال صاحب "التنبيه": لا أعرف السائل

(1)

. (عَنْ كَسْبِ الْحَجَّامِ) أي: عن حكم ما يأخذه الحجّام من الأجرة بمقابل حجامته (فَقَالَ) أنس رضي الله عنه (احْتَجَمَ) بالبناء للفاعل (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وقوله: (حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ) -بفتح الطاء المهملة،

(1)

"تنبيه المعلم" ص 262.

ص: 506

وسكون التحتانيّة، بعدها موحّدة- واسمه: نافع، على الصحيح، فقد رَوَى أحمد، وابن السكن، والطبرانيّ، من حديث مُحَيِّصة بن مسعود؛ أنه كان له غلام حجّام، يقال له: نافع أبو طيبة، فانطلق إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يسأله عن خراجه

الحديث.

وحَكَى ابن عبد البرّ في اسم أبي طيبة أنه دينار، ووَهَّموه في ذلك؛ لأن دينارًا الحجام تابعيّ، رَوَى عن أبي طيبة، لا أنه اسم أبي طيبة، أخرج حديثه ابن منده، من طريق بسام الحجّام، عن دينار الحجّام، عن أبي طيبة الحجّام، قال: حجمت النبيّ صلى الله عليه وسلم

الحديث، وبذلك جزم أبو أحمد الحاكم في "الكنى" أن دينارًا الحجام يروي عن أبي طيبة، لا أنه أبو طيبة نفسه، وذكر البغويّ في "الصحابة" بإسناد ضعيف أن اسم أبي طيبة: ميسرة، وأما العسكريّ، فقال: الصحيح أنه لا يُعرف اسمه، وذكر ابن الحذّاء في رجال "الموطإ" أنه عاش مائة وثلاثًا وأربعين سنةً، ذكره في "الفتح"

(1)

.

(فَأَمَرَ) صلى الله عليه وسلم (لَهُ) أي: لأبي طيبة (بِصَاعَيْنِ مِنْ طَعَامٍ) كذا في رواية المصنّف، ووقع في رواية البخاريّ من طريق شعبة، عن حميد الطويل:"وأمر له بصاع، أو صاعين، أو مدّ، أو مدّين"، فقال في "الفتح": قوله" "بصاع، أو صاعين، أو مدّ، أو مدّين" شكٌّ من شعبة، وقد تقدّم في رواية سفيان: "صاعًا، أو صاعين" على الشك أيضًا، ولم يتعرض لذكر المدّ، وقد تقدّم في "البيوع" من رواية مالك، عن حميد: "فأَمَر له بصاع من تمر"، ولم يشكّ، وأفاد تعيين ما في الصاع، وأخرج الترمذيّ، وابن ماجه من حديث عليّ رضي الله عنه قال: أمرني النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأعطيت الحجام أجره، فأفاد تعيين من باشر العطية، ولابن أبي شيبة من هذا الوجه: أنه صلى الله عليه وسلم قال للحجام: "كم خراجك؟ "، قال: صاعان، قال: فوضع عنه صاعًا، وكأن هذا هو السبب في الشكّ الماضي، وهذه الرواية تجمع الخلاف، وفي حديث ابن عمر عند ابن أبي شيبة أن خراجه كان ثلاثة آصع، وكذا لأبي يعلى، عن جابر، فإن صحّ جُمع بينهما بأنه كان صاعين وزيادة، فمن قال: صاعين ألغى الكسر، ومن قال ثلاثة جبره. انتهى.

(1)

"الفتح" 6/ 56 - 57 "كتاب الإجارة" رقم (2281).

ص: 507

قال الجامع عفا الله عنه: لا تنافي بين رواية المصنّف بلفظ الطعام، ورواية مالك بلفظ التمر؛ لإمكان أن يفسّر الطعام بالتمر، والله تعالى أعلم.

(وَكَلَّمَ أَهْلَهُ) وفي رواية للبخاريّ: "كلّم مواليه"، ومواليه: هم بنو حارثة، على الصحيح، ومولاه منهم: مُحَيِّصة بن مسعود - كما تقدّم من رواية أحمد، وابن السكن- وإنما جَمَع الموالي مجازًا، كما يقال: بنو فلان قتلوا رجلًا، ويكون القاتل منهم واحدًا، وأما ما وقع في حديث جابر أنه مولى بني بياضة، فهو وَهَمٌ، فإن مولى بني بياضة آخر، يقال له: أبو هند، قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد صرّح النوويّ في "شرحه" بأن أبا طيبة هذا عبد لبني بياضة، والظاهر أنه لا تنافي بين كونه مولى بني حارثة، ومولى بني بياضة؛ لأن كلًّا من بني حارثة وبني بياضة بطن من الأنصار، كما بيّنه ابن الأثير في "اللباب"، فلتراجعه

(2)

، والله تعالى أعلم.

(فَوَضَعُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ) أي: بعضه، فـ "من" تبعيضيّة، والخراج: غلّة العبد التي يؤذيها إلى مواليه من ماله في السنة

(3)

.

وقوله: (وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ) هو موصول بالإسناد السابق، وقد أخرجه النسائيّ مفردًا من طريق زياد بن سعد وغيره، عن حميد، عن أنس، بلفظ:"خيرُ ما تداويتم به الحجامة"، ومن طريق معتمر، عن حميد، بلفظ:"أفضلُ".

قال القرطبيّ رحمه الله: هذا الخطاب متوجّه لمن غلب عليه الدم، فإخراجه بالحجامة أولى، وأسلم من إخراجه بقطع العروق والفصاد، ويَحْتَمل أن يكون الذين قال لهم هذا كان الغالب عليهم هيجان الدم، فأرشدهم إلى إخراجه على الجملة بالحجامة؛ لِمَا ذكرناه من السلامة. انتهى

(4)

.

وقال في "الفتح": قال أهل المعرفة: الخطاب بذلك لأهل الحجاز، ومن كان في معناهم، من أهل البلاد الحارّة؛ لأن دماءهم رقيقة، وتميل إلى ظاهر

(1)

"الفتح" 6/ 57.

(2)

راجع: "اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 195.

(3)

راجع: "لسان العرب" 2/ 251.

(4)

"المفهم" 4/ 453.

ص: 508

الأبدان؛ لجذب الحرارة الخارجة لها إلى سطح البدن، ويؤخذ من هذا أن الخطاب أيضًا لغير الشيوخ؛ لقلّة الحرارة في أبدانهم، وقد أخرج الطبريّ بسند صحيح، عن ابن سيرين قال:"إذا بلغ الرجل أربعين سنةً لم يحتجم"، قال الطبريّ: وذلك أنه يصير من حينئذ في انتقاص من عمره، وانحلال من قُوَى جسده، فلا ينبغي أن يزيده وَهْيًا لإخراج الدم. انتهى.

وهو محمول على من لم تتعين حاجته إليه، وعلى من لم يَعْتَدْ به، وقد قال ابن سينا في أرجوزته:

وَمَنْ يَكُنْ تَعَوَّدَ الْفِصَادَهْ

فَلَا يَكُنْ يَقْطَعُ تِلْكَ الْعَادَهْ

ثم أشار إلى أنه يُقَلِّل ذلك بالتدريج إلى أن ينقطع جملةً في عشر الثمانين. انتهى

(1)

.

(أَوْ) للشكّ من الراوي (هُوَ مِنْ أَمْثَلِ) هو بمعنى أفضل، قال ابن الأثير رحمه الله: يقال: هذا أمثل من هذا؛ أي: أفضل، وأدنى إلى الخير، وأماثل الناس: خيارهم. انتهى

(2)

. (دَوَائِكُمْ")"ومن" يَحتمل أن تكون للبيان، وأن تكون للتبعيض، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [33/ 4031 و 4032 و 4033](1577)، و (البخاريّ) في "الإجارة"(2102 و 2210 و 2277 و 2281) و"الطبّ"(5696)، و (أبو داود) في "الإجارة"(3424)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1278)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 373 و 376)، و (مالك) في "الموطأ"(2/ 974)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 191)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 33 و 58)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 510)، و (أحمد) في "مسنده"

(1)

"الفتح" 13/ 84 "كتاب الطبّ" رقم (5696).

(2)

"النهاية" 4/ 296.

ص: 509

(3/ 100 و 107 و 182 و 282)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 2352)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 357)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6/ 403 و 456)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(412)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(1/ 496)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 339) و"المعرفة"(7/ 275)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): إباحة الحجامة، وأنها من أفضل الأدوية.

2 -

(ومنها): إباحة التداوي، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: وفي إباحة الحجامة، والتداوي بها إباحة التداوي بكل ما يُرْجَى نفعه، مما يؤلم، ومما لا يؤلم، وحسبك بلدغة النار، والكيّ، وقد قَطَع عروةُ ساقه معالجةً وتداويًا، وخوفًا أن يسري الداء إلى أكثر مما سَرَى. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": وقد اشتَمَل هذا الحديثُ على مشروعيّة الحجامة، والترغيب في المداواة بها، ولا سيّما لمن احتاج إليها، وعلى حكم كسب الحجّام. انتهى

(2)

.

3 -

(ومنها): إباحة أخذ الأجرة على المعالجة بالتطبب.

4 -

(ومنها): الشفاعة إلى أصحاب الحقوق والديون في أن يخففوا منها.

5 -

(ومنها): جواز مخارجة العبد برضاه، ورضاء سيده، وحقيقة المخارجة أن يقول السيد لعبده: تكتسب، وتعطيني من الكسب كلَّ يوم درهمًا مثلًا، والباقي لك، أو في كل أسبوع كذا وكذا، ويَشْتَرَط رضاهما

(3)

.

6 -

(ومنها): أن فيه استعمال العبد بغير إذن سيّده الخاصّ إذا كان قد تضمّن تمكينَه من العمل إذنُهُ العام

(4)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم أجر الحجّام:

قال النوويّ رحمه الله: اختَلَف العلماء في كسب الحجام، فقال الأكثرون من

(1)

"الاستذكار" 8/ 517.

(2)

"الفتح" 13/ 84.

(3)

"شرح النوويّ" 10/ 2412.

(4)

"الفتح" 6/ 56 "كتاب الإجارة" رقم (2280).

ص: 510

السلف والخلف: لا يحرم كسب الحجام، ولا يحرم أكله، لا على الحرّ، ولا على العبد، وهو المشهور من مذهب أحمد، وقال في رواية عنه، قال بها فقهاء المحدّثين: يحرم على الحرّ دون العبد، واعتمدوا على هذه الأحاديث وشِبْهها، واحتج الجمهور بحديث ابن عباس بأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام أجره، قالوا: ولو كان حرامًا لم يعطه، رواه البخاريّ ومسلم، وحملوا هذه الأحاديث التي في النهي على التنزيه، والارتفاع عن دني الأكساب، والحثّ على مكارم الأخلاق، ومعالي الأمور، ولو كان حرامًا لم يفرق فيه بين الحرّ والعبد، فإنه لا يجوز للرجل أن يُطعم عبده ما لا يحل. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": اختَلَف العلماء في هذه المسألة، فذَهَبَ الْجُمْهُور إِلَى أَنَّهُ حَلَال، وَاحْتَجُّوا بِحديث:"احتجم النبيّ صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره"، متّفقٌ عليه، فقد قال ابن عبّاس رضي الله عنهما:"احتجم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأعطى الحجام أجره، ولو عَلِم كراهيةً لم يُعطه"، رواه البخاريّ، وَقَالُوا: هُوَ كَسْب، فِيهِ دَنَاءَة، وَلَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، فَحمَلُوا الزَّجْر عَنهُ عَلَى التَّنْزِيه.

وَمِنْهُمْ مَن ادَّعَى النَّسْخ، وَأَنَّهُ كَانَ حَرَامًا، ثُمَّ أُبِيحَ، وَجَنَحَ إِلَى ذَلِكَ الطَّحَاوِيُّ، وَتُعُقّب بأن النَّسْخ لَا يَثْبُت بِالِاحْتِمَالِ.

وَذَهَبَ أَحْمَد، وَجَمَاعَة إِلَى الْفَرْق بَيْن الْحُرّ وَالْعَبْد، فَكَرِهُوا لِلْحُرِّ؛ الاحْتِرَاف بِالْحِجَامَةِ، وَيَحْرُم عَلَيْهِ الإِنْفَاق عَلَى نَفْسه مِنْهَا، وَيَجُوز لَهُ الْإنْفَاق عَلَى الرَّقِيق، وَالدَّوَابّ مِنْهَا، وَأَبَاحُوهَا لِلْعَبْدِ مُطْلَقًا، وَعُمْدَتهمْ حَدِيث مُحَيِّصَةَ؛ أنَّهُ سَأَلَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَن كَسْب الْحَجَّام؟ فَنَهَاهُ، فَذَكَر لَهُ الْحَاجَة، فَقَالَ:"اعْلِفْهُ نَوَاضِحك". أَخْرَجَهُ مَالِك، وَأَحْمَد، وَأَصْحَاب "السُّنَن"، وَرِجَاله ثِقَات.

وَذَكَرَ ابْن الْجَوْزِيّ

(2)

؛ أَنَّ أَجْر الْحَجَّام إِنَّمَا كُرِهَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْأَشْيَاء الَّتِي تَجِب لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِم إِعَانَة لَهُ، عِنْد الاحْتِيَاج لَهُ، فَمَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأخُذ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا. وَجَمَعَ ابْن الْعَرَبِيّ بَيْن قَوْله صلى الله عليه وسلم:"كَسْب الْحَجَّام خَبِيث"، وَبَيْن إِعْطَائِهِ الْحَجَّام أُجْرَته، بِأَنَّ مَحَلّ الْجَوَاز، مَا إِذَا كَانَتْ الْأُجْرَة

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 233.

(2)

"كشف المشكل" 1/ 437.

ص: 511

عَلَى عَمَل مَعْلُوم، وَيُحْمَل الزَّجْر عَلَى مَا إِذَا كَانَ عَلَى عَمَل مَجْهُول، ذكره في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه الجمهور من حمل النهي على التنزيه هو الأرجح؛ لما تقدّم عن ابن عبّاس رضي الله عنهما حيث قال: "احتجم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأعطى الحجام أجره، ولو عَلِم كراهية لم يُعطه"، وفي لفظ:"ولو كان حرامًا لم يُعطه"، ولحديث أنس رضي الله عنه:"وكلّم أهله، فوضعوا عنه من خراجه"، فإن فيه تقريره صلى الله عليه وسلم له على أخذ الأجرة من الحجامة، ودفعها خراجًا لمواليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4032]

(

) - (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ -يَعْنِي الْفَزَارِيَّ- عَنْ حُمَيْدٍ، قَالَ: سُئِلَ أَنَسُ عَنْ كَسْبِ الْحَجَّام، فَذَكَرَ بِمِثْلِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ، وَالْقُسْطُ الْبَحْرِيُّ، وَلَا تُعَذِّبُوا صِبْيَانَكُمْ بِالْغَمْزِ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(مَرْوَانُ الْفَزَارِيُّ) ابن معاوية الفزاريّ، تقدّم في الباب الماضي.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: هذا الإسناد من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (270) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (وَالْقُسْطُ الْبَحْرِيُّ) قال الفيّوميّ رحمه الله: "الْقُسط" بالضمّ: بَخُور معروفٌ، قال ابن فارس: عربيّ. انتهى

(2)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: "الْقُسط": ضربٌ من الطيب، وقيل: هو العُود،

(1)

"الفتح" 5/ 221 - 222 "كتاب الإجارة" رقم (2278).

(2)

"المصباح المنير" 2/ 503.

ص: 512

والقسط: عَقّارٌ معروف في الأدوية، طيّب الريح، تُبخّر به النُّفَسَاء والأطفال. انتهى

(1)

.

وقال أبو بكر ابن العربيّ رحمه الله: القسط نوعان: هنديّ، وهو أسود، وبَحْريّ، وهو أبيض، والهنديّ أشدّهما حرارةً. انتهى

(2)

.

وقال البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": باب السَّعوط بالقُسط الهنديّ، والبحريّ، وهو الكُستُ، مثلُ الكافور، والقافور، ومثلُ كُشطت، وقُشطت: نُزعت، وقرأ عبد الله: قُشطت. انتهى.

قال في في "الفتح": قوله: "وهو الكست" يعني أنه يقال: بالقاف، وبالكاف، ويقال: بالطاء، وبالمثناة، وذلك لقرب كلّ من المخرجين من الآخر، وعلى هذا يجوز أيضًا مع القاف بالمثناة، ومع الكاف بالطاء. انتهى

(3)

.

وقوله: (وَلَا تُعَذِّبُوا صِبْيَانَكُمْ بِالْغَمْزِ) - بغين معجمة مفتوحة، ثم ميم ساكنة، ثم زاي- معناه: لا تغمزوا حَلْق الصبيّ بسبب الْعُذرة، وهو وجع الحلق، بل داووه بالقُسط البحريّ، وهو العود الهنديّ

(4)

، قاله النوويّ

(5)

.

وفي رواية البخاريّ: "لا تعذبوا صبيانكم بالغمز من العُذْرة، وعليكم بالقسط".

و"الْعُذْرة" -بضم العين المهملة، وسكون الذال المعجمة-: وجع في الحلق يَعتري الصبيان غالبًا، وقيل: هي قُرحة تخرج بين الأذن والحلق، أو في الخرم الذي بين الأنف والحلق، قيل: سُمّيت بذلك؛ لأنها تخرج غالبًا عند طلوع العُذْرة، وهي خمسة كواكب تحت الشِّعرَى العَبور، ويقال لها أيضًا: العذارى، وطلوعها يقع وسط الحرّ.

(1)

"النهاية" 4/ 60.

(2)

راجع: "الفتح" 13/ 78.

(3)

"الفتح" 13/ 78 "كتاب الطبّ" رقم (5692).

(4)

هذا فيه نظر؛ إذ العود الهنديّ غير القسط البحريّ، كما تقدّم في كلام ابن العربيّ وغيره، فتنبّه.

(5)

"شرح النوويّ" 10/ 242 - 243.

ص: 513

وقال ابن الأثير: الغمز: هو أن تسقط اللهاةُ، فتُغمزَ باليد؛ أي: تُكبس. انتهى

(1)

.

وقال أيضًا: العُذْرَة بالضم: وجَعٌ في الحَلْق يَهيجُ من الدَّم، وقيل: هي قُرْحَة تخرُج في الخَرْم الذي بين الأنْف والحَلْق تَعْرِض للصِّبيانِ عند طُلُوع العُذْرَة، فتَعْمِد المرأةُ إلى خِرْقة، فتَفْتلها فَتْلًا شديدًا، وتُدْخِلُها في أنفِه، فتَطْعُنُ ذلك الموضع، فيتفجَّر منه دَمٌ أسودُ، ورُبَّما أقْرَحَه، وذلك الطَّعنُ يُسَمَّى الدَّغْر، يقال: عَذَرَتِ المرأةُ الصَّبيَّ: إذا غَمزَتْ حَلْقه من العُذْرة، أو فعلت به ذَلك، وكانوا بعد ذَلك يُعَلِّقُون عليه عِلاقًا كالعُوذَةِ، وقوله: عند طُلُوع العُذْرة، هي خمسة كَواكِب تَحْت الشِّعْرَى العَبُور، وتسمَّى العَذَارَى، وتطلع في وسَط الحرّ. انتهى

(2)

.

وقال الحافظ رحمه الله: وقد استُشكل معالجتها بالقُسط مع كونه حارًّا، والعُذرة إنما تَعْرِض في زمن الحرّ بالصبيان، وأمزجتهم حارّةٌ، ولا سيما وقطر الحجاز حارّ.

وأجيب بأن مادّة العذرة دم يغلب عليه البلغم، وفي القُسط تخفيف للرطوبة، وقد يكون نفعه في هذا الدواء بالخاصية، وأيضًا فالأدوية الحارّة قد تنفع في الأمراض الحارّة بالعرض كثيرًا، بل وبالذات أيضًا، وقد ذكر ابن سينا في معالجة سُعُوط اللهاة القُسطَ مع الشبّ اليمانيّ وغيره.

على أننا لو لم نجد شيئًا من التوجيهات، لكان أمر المعجزة خارجًا عن القواعد الطبية. انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4033]

(

) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ خِرَاشٍ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حُمَيْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: دَعَا النَّبِيٌّ غُلَامًا لَنَا حَجَّامًا، فَحَجَمَهُ، فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ، أَوْ مُدٍّ، أَوْ مُدَّيْنِ، وَكَلَّمَ فِيهِ، فَخُفِّفَ عَنْ ضَرِيبَتِهِ).

(1)

"النهاية" 3/ 385.

(2)

"النهاية في غريب الأثر" 3/ 424.

(3)

"الفتح" 13/ 80 "كتاب الطبّ" رقم (5692).

ص: 514

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ خِرَاشٍ) أبو جعفر البغداديّ، صدوقٌ [11](ت 242)(م ت) تقدم في "الإيمان" 42/ 280.

2 -

(شَبَابَةُ) بن سوّار المدائنيّ، خراسانيّ الأصل، يقال: اسمه مروان، مولى بني فَزَارة، ثقةٌ حافظٌ رُمي بالإرجاء [9](ت 4 أو 5 أو 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم في الباب الماضي.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غُلَامًا لنَا حَجَّامًا) هو أبو طيبة، كما تقدّم قبل حديث.

وقوله: (فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ، أَوْ مُدٍّ، أَوْ مُدَّيْنِ) شكّ من شعبة، كما قاله في "الفتح"

(1)

.

وقوله: (وَكَلَّمَ فِيهِ) لم يذكر المفعول، وقد ذكره قبل حديث، فقال:"فكلّم أهله"، وفي لفظ البخاريّ:"فكلّم مواليه"، ومواليه هم بنو حارثة على الصحيح، ومولاه منهم هو محيّصة بن مسعود، قاله في "الفتح"، وقال النوويّ: إنه عبد لبني بياضة

(2)

.

وقوله: (فَخُفِّفَ عَنْ ضَرِيبَتِهِ) -بفتح الضاد المعجمة، وكسر الراء- فعيلة بمعنى مفعولة، وهو ما يقدّره السيّد على عبده في كلّ يوم، وجمعها ضرائب، ويقال لها أيضًا: خراجٌ، كما تقدّم في الرواية السابقة، وغَلّة -بالغين المعجمة- وأَجْرٌ، وقد وقع جميع ذلك في الحديث، أفاده في "الفتح"

(3)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث عنه مستوفًى قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4034]

(1202) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا الْمَخْزُومِيُّ، كِلَاهُمَا عَنْ وُهَيْبٍ،

(1)

"الفتح" 6/ 57.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 242.

(3)

راجع: "الفتح" 6/ 54 "كتاب الإجارة" رقم (2277).

ص: 515

حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ، وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ، وَاسْتَعَطَ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ) الصفّار الباهليّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [10](ت 220)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 44.

2 -

(الْمَخْزُومِيُّ) المغيرة بن سلمة، أبو هشام البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [9](ت 200)(خت م د س ق) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

3 -

(وُهَيْبُ) بن خالد بن عجلان الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبت، لكنه تغيّر قليلًا بآخره [7](ت 165) أو قبلها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.

4 -

(ابْنُ طَاوُسٍ) عبد الله، أبو محمد اليمانيّ، ثقةٌ فاضلٌ عابدٌ [6](132)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

5 -

(أَبُوهُ) طاوس بن كيسان الْحِمْيريّ مولاهم، أبو عبد الرحمن اليمانيّ، ثقةٌ فقيةٌ فاضلٌ [3] (ت 106) وقيل: بعد ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

6 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما (ت 68)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

والباقيان تقدّما في الباب الماضي، و"إسحاق بن إبراهيم" هو: ابن راهويه.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ) بالبناء للفاعل؛ أي: طلب من يَحْجُمُهُ، يقال: حَجَمه الحاجم حَجْمًا، من باب قَتَلَ: شَرَطهُ، وهو حجّام أيضًا مبالغةً، واسم الصناعة: الْحِجَامة بالكسر، والقارورة: مِحْجَمةٌ بكسر أوله، والهاء تثبُت، وتُحذَف، والْمَحْجَم، مثلُ جعفر: موضع الحجامة، قاله الفيّوميّ

(1)

.

وفي "القاموس": الْحَجْمُ: المصّ، وحَجَمه يَحْجُمُهُ، من بابي ضرب،

(1)

"المصباح المنير" 1/ 123.

ص: 516

ونصر، والْحَجّام: الْمَصّاص. انتهى بتصرّف

(1)

.

(وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ) في الرواية التالية: "عبد لبني بياضة"، والظاهر أنه أبو طيبة المذكور في حديث أنس رضي الله عنه المتقدّم، قاله صاحب "التنبيه"

(2)

.

وزاد في الرواية التالية: "وكلّم سيّده، فخفَّف عنه من ضريبته، ولو كان سُحْتًا لم يُعطه النبيّ صلى الله عليه وسلم"، ورواية البخاريّ:"ولو عَلِم كراهيته لم يُعطه"، وهو ظاهر في الجواز، وفي لفظ عنده:"ولو كان حرامًا لم يُعطه"، قال الحافظ رحمه الله: وعُرف به أن المراد بالكراهة هنا كراهة التحريم، وكأن ابن عبّاس أشار بذلك إلى الردّ على من قال: إن كسب الحجّام حرام، وقد اختَلف العلماء في هذه المسألة، فذهب الجمهور إلى أنه حلالٌ، واحتجّوا بهذا الحديث، وقالوا: هو كسب فيه دناءة، وليس بمحرّم، فحملوا الزجر على التنزيه

(3)

، وقد مضى البحث في هذا مستوفًى في المسألة الرابعة في شرح حديث أنس رضي الله عنه المذكور أول الباب، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: (وَاسْتَعَطَ) أي: استَعمل السَّعُوط، وهو أن يستلقي على ظهره، ويجعل بين كتفيه ما يرفعهما لينحدر رأسه، ويقطر في أنفه ماء، أو دهنٌ، فيه دواءٌ مفرد، أو مركبٌ؛ ليتمكن بذلك من الوصول إلى دماغه؛ لاستخراج ما فيه من الداء بالعطاس، وأخرج الترمذيّ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما رفعه:"إن خير ما تداويتم به السَّعُوط"

(4)

، ذكره في "الفتح"

(5)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [33/ 4034 و 4035](1202)

(6)

، و (البخاريّ)

(1)

"القاموس المحيط" 4/ 93.

(2)

"تنبيه المعلم" ص 262.

(3)

راجع: "الفتح" 6/ 55 "كتاب الإجارة" رقم (2278).

(4)

حديث ضعيف.

(5)

"الفتح" 13/ 78.

(6)

هذا الرقم مكرّر، فتنبّه.

ص: 517

في "البيوع"(2103 و 2279) و"الإجارة"(2278) و"الطبّ"(5691)، و (أبو داود) في "البيوع"(3443)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 373)، و (ابن ماجه) في "الإجارات"(2162)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(19818)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 1026 و 10/ 29)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 241 و 250 و 316 و 324 و 327 و 333 و 351 و 365)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(11869 و 11896 و 11934 و 11954 و 12002 و 12846 و 12847 و 12848 و 12849 و 12850 و 12851 و 12852 و 12853 و 12854)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5150)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 129 و 130)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 405)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 337 و 338)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[4035]

(

) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ -وَاللَّفْظُ لِعَبْدٍ- قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: حَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَبْدٌ لِبَنِي بَيَاضَةَ، فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَجْرَهُ، وَكَلَّمَ سَيِّدَهُ، فَخَفَّفَ عَنْهُ مِنْ ضَرِيبَتِهِ، وَلَوْ كَانَ سُحْتًا لَمْ يُعْطِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَاصِمُ) بن سليمان الأحول البصريّ، ثقةٌ [4] مات بعد (140)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.

2 -

(الشَّعْبِيُّ) عامر بن شَرَاحيل، أبو عمرو الكوفيّ، ثقةٌ مشهورٌ فقيهٌ فاضلٌ [3] مات بعد المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.

وقوله: (ضَرِيبَتِهِ) بفتح أوله، وكسر ثانيه، هي الخراج، المذكور في الحديث الماضي، قال الجوهريّ رحمه الله: الضَّريبة: واحدة الضرائب التي تؤخذ في الأرصاد، والجزية، ونحوها، ومنه ضَريبة العبد، وهي غَلّته. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَلَوْ كَانَ سُحْتًا إلخ) بضمّتين، وإسكان الثاني تخفيف: هو كلّ

(1)

"الصحاح" ص 618.

ص: 518

مال حرام، لا يحلّ كسبه، ولا أكله، قاله الفيّوميّ

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تمام البحث فيه قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(34) - (بَابُ تَحْرِيمِ بَيْعِ الْخَمْرِ، وَالْمَيْتَةِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالأَصْنَامِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4036]

(1578) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى أَبُو هَمَّامٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ بِالْمَدِينَةِ، قَالَ:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُعَرِّضُ بِالْخَمْرِ، وَلَعَلَّ اللهَ سَيُنْزِلُ فِيهَا أَمْرًا، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلْيَبِعْهُ، وَلْيَنْتَفِعْ بِهِ"، قَالَ: فَمَا لَبِثْنَا إِلا يَسِيرًا حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم

(2)

: "إِنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْرَ، فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ هَذِهِ الآيَةُ، وَعِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلَا يَشْرَبْ، وَلَا يَبعْ"، قَالَ: فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ بِمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا فِي طَرِيقِ الْمَدِينَةِ، فَسَفَكُوهَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ) أبو سعيد البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 235)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 6/ 75.

2 -

(عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى أَبُو هَمَّام) الساميّ، أبو محمد البصريّ، وكان يغضب إذا قيل له: أبو هَمّام، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.

3 -

(سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ) ابن إياس، أبو مسعود البصريّ، ثقة، اختَلَط قبل موته بثلاث سنين [5](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 266.

[فإن قلت]: كيف أخرج مسلم للجريريّ، وهو مختلط، كما مرّ آنفًا؟

[قلت]: إنما أخرج له لأن عبد الأعلى ممن أخذ عنه قبل اختلاطه، وقد

(1)

"المصباح المنير" 1/ 267.

(2)

وفي نسخة: "وقال صلى الله عليه وسلم".

ص: 519

ذكرت الذين أخذوا عنه قبل الاختلاط في "عمدة المحتاط" حيث قلت:

كَذَا الْجُرَيْرِيُّ سَعِيدٌ اخْتَلَطْ

ثَلَاثَةٌ سِنِينَ حِفْظُهُ هَبَطْ

وَعَنْهُ شُعْبَةُ وُهَيْبٌ نَقَلَا

قَبْلُ وإِسْمَاعِيلُ سفْيَانُ تَلَا

وَمَعْمَرٌ وَعَبْدُ وَارِثٍ كَذَا

حَمَّادُ حَمَّادٌ وَبِشْرٌ قَدْ حَذَا

وَابْنُ عَيَيْنَةَ وَعَبْدُ الأَعْلَى

وَالثَّقَفِيْ وَابْنُ زُرَيعٍ أَعْلَى

و"إسماعيل" هو: ابن عُليّة، و"سفيان" هو: الثوريّ، و"حمّاد" الأول هو: ابن سلمة، والثاني هو: ابن زيد، و"بشر" هو: ابن المفضّل، و"الثقفيّ" بتخفيف الياء؛ للوزن، هو: عبد الوهّاب بن عبد المجيد، و"ابن زريع" هو: يزيد.

4 -

(أَبُو نَضْرَةَ) المنذر بن مالك بن قَطْعَة الْعَبْديّ الْعَوَفيّ البصريّ، ثقةٌ مشهور بكنيته [3](ت 8 أو 109)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

5 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (3 أو 4 أو 65) وقيل:(74)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين، سوى الصحابيّ، فمدنيّ، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أبو سعيد رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ بِالْمَدِينَةِ، قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُعَرِّضُ) بضمّ حرف المضارعة، وتشديد الراء المكسورة، من التعريض، وهو خلاف التصريح (بِالْخَمْرِ) أي: بتحريمها، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا التعريض، وهذا التوقّع إنما فَهِمه النبيّ صلى الله عليه وسلم من قوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} الآية [البقرة: 219]، ومن قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، وذلك

ص: 520

أنه لَمّا سمع أن فيهما إثمًا كبيرًا، وأن إثمهما أكبر من نفعهما، وأنه قد منع من الصلاة في حال السُّكْر، ظهر له أن هذا مناسبٌ للمنع منها، فتوقّع ذلك. انتهى

(1)

.

(وَلَعَلَّ اللهَ سَيُنْزِلُ فِيهَا أَمْرًا) يعني تحريمها (فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا) أي: من الخمر (شَيْءٌ فَلْيَبِعْهُ، وَلْيَنْتَفِعْ بِهِ) قال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليل على أن الخمر وبيعها كانا مباحين إباحةً متلقاة من الشرع؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرّر أصحابه عليها، وليس ذلك من باب البقاء على البراءة الأصلية؛ لأن إقراره دليلُ الجواز والإباحة، كما قررناه في الأصول.

وفيه دليلٌ على اغتنام فرصة المصالح المالية إذا عرضت، وعلى صيانة المال، وعلى بذل النصيحة والإشارة بأرجح ما يعلمه من الوجوه المصلحية. انتهى

(2)

.

(قَالَ) أبو سعيد رضي الله عنه (فَمَا) نافية (لَبِثْنَا) بكسر الموحّدة، من باب تَعِبَ؛ أي: لم نمكُث (إِلَّا يَسِيرًا) أي: وقتًا قليلًا (حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) وفي بعض النسخ: "حتى قال صلى الله عليه وسلم"("إِنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْرَ، فَمَنْ) شرطيّة (أَدْرَكَتْهُ) أي: من بلغته، وهو بصفات المكلَّفين، من العقل، والبلوغ (هَذِهِ الآيَةُ) يعني بالآية: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} الآية [المائدة: 90]، قاله القرطبيّ رحمه الله

(3)

. (وَعِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ) جملة في محلّ نصب على الحال (فَلَا يَشْرَبْ، وَلَا يَبِعْ") أي: لا يحلّ له أن يشرب الخمر، ولا أن يبيعها (قَالَ) أبو سعيد:(فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ) يقال: استَقبلتُ الشيءَ: إذا واجهته، فهو مُستَقبَلٌ بفتح الموحّدة، اسم مفعول

(4)

، والمعنى أنهم توجّهوا، وذهبوا (بِمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا) أي: من الخمر (فِي طَرِيقِ الْمَدِينَةِ، فَسَفَكُوهَا) أي: أراقوها، وصبّوها، يقال: سَفَكتُ الدمَ، والدمعَ، من باب ضرب، وفي لغة من باب قَتَلَ: أرقته، والفاعل: سافكٌ، وسَفّاكٌ مبالغة

(5)

.

(1)

"المفهم" 4/ 455.

(2)

المفهم" 4/ 455.

(3)

"المفهم" 4/ 456.

(4)

"المصباخ المنير" 2/ 488.

(5)

"المصباح المنير" 1/ 279.

ص: 521

قال القرطبيّ رحمه الله: وقد فهمت الصحابة رضي الله عنهم من نهيه صلى الله عليه وسلم عن الشرب والبيع أنها لا يُنتفع بها بوجه من الوجوه، ولذلك بادروا إلى إراقتها، وإتلافها، ولو كان فيها منفعة من المنافع الجائزة لنبَّه النبيّ صلى الله عليه وسلم عليها، كما نبَّه على ما في جلد الميتة من المنفعة؛ لَمّا قال:"هلَّا أخذتم إهابها فدبغتموه، فانتفعتم به" متّفقٌ عليه، وعلى هذا فلا يجوز تخليلها، ولا أن تعالج بالملح والسَّمك فيصنع منها الْمُرْي، وإلى مَنْع ذلك ذهب الجمهور: مالك، والشافعيّ، وأحمد، وغيرهم، وحُكي جواز تخليلها عن أبي حنيفة، والأوزاعيّ، والليث، وقد دلَّ على فساد هذا ما ذكرناه آنفًا، وما يأتي من نهيه عن اتخاذ الخمر خلًّا، وسيأتي مزيد بيان على هذا.

قال القاضي عياض رحمه الله: وفي هذا أيضًا: منع الانتفاع بها للتداوي، وغير ذلك من العطش عند عدم الماء، ولتجويز لقمة غُصّ بها، وهو قول مالك، والشافعيّ، وغيرهم.

وأجاز ذلك أبو حنيفة، وأحمد، وقاله بعض أصحابنا، ورُوي عن الشافعي: جوازه أيضًا إذا خاف التلف، وقاله أبو ثور.

قال: وإذا امتنع الانتفاع بها مطلقًا فلا يصحّ تملكها لمسلم، ولا تُقَرّ في يديه، بل تتلف عليه، ويجب ذلك عليه، ويتلفها الوصيّ على اليتيم.

وقد ذكر ابن خواز منداد من قدماء أصحابنا

(1)

العراقيين أنها تُملك، ونَزَع إلى ذلك بأنها يمكن أن يزال بها الغُصص، ويُطفأ بها الحريق، فتملك لذلك، وهذا نقلُ لا يُعرف لمالك، ولا يُلتفت لشيء مما قيل هنالك؛ لأنا لا نسلم جواز ذلك، على ما ذكرناه آنفًا فيمن غص بلقمة. ولو سلّمنا ذلك فلا يُلتفت إليه لِنُدوره، وعدم وقوعه، وإنما ذلك تجويز وهميّ، وتقدير ذهنيّ، فاعتباره وسواسٌ أعرض النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه عنه، ولم يلتفتوا إلى شيء منه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

يعني المالكيّة.

(2)

"المفهم" 4/ 456 - 457.

ص: 522

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله، ولم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [34/ 4036](1578)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 320)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 11)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم بيع الخمر، وهو مجمع عليه، قال النوويّ: والعلة فيها عند الشافعيّ وموافقيه كونها نجسة، أو ليس فيها منفعة مباحة مقصودة، فيُلْحَق بها جميع النجاسات، كالسرجين

(1)

، وذرق الحمام، وغيره، وكذلك يُلحق بها ما ليس فيه منفعة مقصودة، كالسباع التي لا تصلح للاصطياد، والحشرات، والحبة الواحدة من الحنطة، ونحو ذلك، فلا يجوز بيع أي من ذلك، وأما الحديث المشهور في كتب "السنن" عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله إذا حَرّم على قوم أكل شيء حَرَّم عليهم ثمنه"، فمحمول على ما المقصود منه الأكل، بخلاف ما المقصود منه غير ذلك؛ كالعبد، والبغل، والحمار الأهليّ، فإن أكلها حرام، وبيعها جائز بالاجماع. انتهى.

2 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على أن الأشياء قبل ورود الشرع لا تكليف فيها بتحريم ولا غيره، وفي المسألة خلاف مشهور للأصوليين:

الأصح: أنه لا حكم، ولا تكليف قبل ورود الشرع؛ لقوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].

والثاني: أن أصلها على التحريم، حتى يرد الشرع بغير ذلك.

والثالث: على الإباحة.

والرابع: على الوقف، وهذا الخلاف في غير التنفس ونحوه من

(1)

تقدّم في "كتاب الطهارة" أن الأرجح كون السرجين ونحوه طاهرًا، فتنبّه.

ص: 523

الضروريات التي لا يمكن الاستغناء عنها، فإنها ليست محرَّمة، بلا خلاف إلا على قول من يُجَوِّزتكليف ما لا يطاق.

3 -

(ومنها): أن فيه أيضًا بذلَ النصيحة للمسلمين في دينهم، ودنياهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نصحهم في تعجيل الانتفاع بها ما دامت حلالًا.

4 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: هذا الحديث دليل على تحريم تخليل الخمر، ووجوب المبادرة بإراقتها، وتحريم إمساكها، ولو جاز التخليل لبيّنه النبيّ صلى الله عليه وسلم لهم، ونهاهم عن إضاعتها، كما نصحهم وحثّهم على الانتفاع بها قبل تحريمها، حين توقّع نزول تحريمها، وكما نَبَّه أهلَ الشاة الميتة على دباغ جلدها، والانتفاع به.

قال: وممن قال بتحريم تخليلها، وأنها لا تَطْهُر بذلك: الشافعيّ، وأحمد، والثوريّ، ومالك في أصح الروايتين عنه، وجوّزه الأوزاعيّ، والليث، وأبو حنيفة، ومالك في رواية عنه.

وأما إذا انقلبت بنفسها خَلًّا فتطهُر عند جميعهم، إلا ما حُكي عن سحنون المالكيّ أنه قال: لا تَطهر. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4037]

(1579) - (حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَعْلَةَ -رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ-؛ أَنَّهُ جَاءَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِرِ-وَاللَّفْظُ لَهُ- أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَعْلَةَ السَّبَئِيِّ -مِنْ أَهْلِ مِصْرَ-؛ أَنَّهُ سَأَل عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَمَّا يُعْصَرُ مِنَ الْعِنَبِ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ رَجُلًا أَهْدَى لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَاوِيَةَ خَمْرٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"هَلْ عَلِمْتَ أَنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَهَا؟ "، قَالَ: لَا، فَسَارَّ إِنْسَانًا، فَقَالَ لَهُ

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 3.

ص: 524

رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بِمَ سَارَرْتَهُ؟ "، فَقَالَ: أَمَرْتُهُ بِبَيْعِهَا، فَقَالَ:"إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا"، قَالَ: فَفَتَحَ الْمَزَادَةَ حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهَا).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ) الْحَدثانيّ، هَرويّ الأصل، أبو محمد، صدوق في نفسه، إلا أنه عَمِي، فصار يتلقّن، من قدماء [10](ت 240) وله مائة سنة (م ت) تقدم في "المقدمة" 6/ 87.

2 -

(حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ) الْعُقيليّ، أبو عُمر الصنعانيّ، نزيل عَسْقلان، ثقةٌ، ربّما وَهِمَ [8](ت 181)(خ م مد س ق) تقدم في "الإيمان" 87/ 461.

3 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن السَّرْح المصريّ، تقدّم قبل باب.

4 -

(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله المصريّ، تقدّم أيضًا قبل باب.

5 -

(مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) إمام دار الهجرة، تقدّم أيضًا قبل باب.

6 -

(زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ) العدويّ مولى عمر بن الخطّاب، أبو عبد الله، أو أبو أسامة المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ، وكان يرسل [1](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.

7 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ وَعْلَةَ) المصريّ، صدوق [4](م 4) تقدم في "الحيض" 26/ 818.

8 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، تقدّم في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى.

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح.

(ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَعْلَةَ) بفتح الواو، وإسكان العين المهملة (السَّبَئِيِّ) بفتح السين المهملة، والموحّدة، بعدها همزة: نسبة إلى سبإ بن يشجب بن

ص: 525

يعرب بن قحطان

(1)

. (مِنْ أَهْلِ مِصْرَ) المدينة المعروفة، تذكّر، وتؤنّث، قاله الجوهريّ

(2)

، وقال الفيّومي: والمصر: كلُّ كُورة يُقسم فيها الفيءُ والصدقات، قاله ابن فارس، وهذه يجوز فيها التذكير، فتُصرف، والتأنيث، فتُمنع، والجمع أمصار. انتهى

(3)

. (أَنَّهُ سَأَل عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَاسٍ) رضي الله عنهما (عَمَّا يُعْصَرُ) بالبناء للمفعول، وقوله:(مِنَ الْعِنَبِ؟) بيان لـ "ما"، يعني أنه سأله عن حكم الشراب الذي يُعصر من العنب، هل هو حلال، أم لا؟

وفي رواية الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" 1/ 244 - من طريق فُليح بن سُليمان، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن وَعْلَة، قال: سألت ابن عباس، فقلت: إنا بأرض لنا بها الكُرُوم، وإن أكثر غَلَّاتها الخمر، فقال: قَدِم رجل من دَوْس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، براوية خمر، أهداها له، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هل علمت أن الله حرّمها بعدك؟ "، فأقبل صاحب الراوية، على إنسان معه فأمره، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"بماذا أمرته؟ "، قال: ببيعها، قال:"هل علمت أن الذي حرّم شربها، حرّم بيعها، وأكْلَ ثمنها؟ "، قال: فأمر بالمزادة، فأهريقت.

و 1/ 230 - من طريق محمد بن إسحاق، عن القعقاع بن حكيم، عن عبد الرحمن بن وَعْلة، قال: سألت ابن عباس، عن بيع الخمر، فقال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صديق من ثقيف، أو من دوس، فلقيه بمكة عام الفتح براوية خمر، يُهدِيها إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا أبا فلان أما علمت أن الله حرمها؟ " فأقبل الرجل على غلامه، فقال: اذهب فبعها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا أبا فلان، بماذا أمرته؟ " قال: أمرته أن يبيعها، قال:"إن الذي حرَّم شربها حرم بيعها"، فأَمر بها، فأُفرغت في البطحاء.

و 1/ 323 - 324 - من طريق عبد الرحمن بن إسحاق، عن زيد بن أسلم، عن ابن وعلة، عن ابن عباس؛ أن رجلًا خرج والخمر حلال، فأهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر، فأقبل بها يقتادها على بعير، حتى وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا، فقال:"ما هذا معك؟ " قال: راوية خمر أهديتها لك، الحديث، وفيه قال: فأمر بعَزَالي

(1)

راجع: "اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 426.

(2)

"الصحاح" ص 990.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 574.

ص: 526

المزادة ففُتحت، فخرجت في التراب، فنظرت إليها في البطحاء ما فيها شيء.

وفي رواية أبي يعلى في "مسنده" 4/ 353 عن عبد الرحمن بن وَعْلة قال: سألت ابن عباس عن بيع الخمر من أهل الذمة؟ فقال: أهدى رجل من ثقيف، أو من دوس لرسول الله صلى الله عليه وسلم راويةً عام الفتح، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصادقه في الجاهلية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله قد حرّمه"، فأصغى إلى غلام له معه، قال: اذهب بها إلى الْحَزَوَّرة قرية إلى جنب المدينة، فبعها، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما الذي أمرته؟ " قال: أمرته أن يبيعها، قال:"يا فلان إن الذي حَرَّم شربها حرَّم ثمنها"، فأَمَر بها، فأهريقت. انتهى.

(فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (إِنَّ رَجُلًا) تقدّم في رواية أحمد المذكورة أنه رجل من دوس، وفي رواية:"كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صديقٌ من ثقيف، أو من دوس"، وسيأتي في رواية أبي حنيفة أنه يكنى أبا عامر، وقال صاحب "التنبيه": هو تميم الداريّ، وقيل: رجل من ثقيف يُكنى أبا تمّام، قاله الخطيب، وقال ابن بشكوال: إن اسمه كيسان أبو نافع الدمشقيّ، كما في "موطّإ ابن وهب"، وفي "الصحابة" لابن رِشدين، وقيل: أبو عامر الثقفيّ، ذكره ابن بشكوال. انتهى

(1)

.

(أَهْدَى لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَاوِيَةَ خَمْرٍ) الراوية هنا معناها: الْمَزَادة، قال في "القاموس": الراوية: المزادة فيها الماء، والبعير، والبغل، والحمار، يُستقى عليه. انتهى.

وقال في "اللسان": قال ابن سِيده: والراوية هو البعير، أو البغل، أو الحمار الذي يُستقَى عليه الماء، والرجل المستقِي أيضًا، قال: والعامة تسمّي المزادة: راويةً، وذلك جائز على الاستعارة، والأصل الأول، قال أبو النجم [من الرجز]:

تَمْشِي مِنَ الرِّدَّةِ مَشْيَ الْحُفَّلِ

مَشْيَ الرَّوَايَا بِالْمَزَادِ الأَثْقَلِ

قال ابن بَرّيّ: شاهد الراوية للبعيرِ قول أبي طالب [من الطويل]:

وَيَنْهَضُ قَوْمٌ فِي الْحَدِيدِ إِلَيْكُمُ

نُهُوضَ الرَّوَايَا تَحْتَ ذَاتِ الصَّلَاصِلِ

فالروايا جمع راوية للبعير، وشاهد الراوية للمزادة قول عَمرو بن مِلْقَط:

(1)

"تنبيه المعلم" ص (263).

ص: 527

ذَاكَ سِنَانٌ مُحْلِبٌ نَصْرُهُ

كَالْجَمَلِ الأَوْطَفِ بِالرَّاوِيَهْ

انتهى.

(فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ عَلِمْتَ أَنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَهَا؟ "، قَالَ) الرجل: (لَا) أي: لم أعلم بذلك، قال النوويّ رحمه الله: لعلّ السؤال كان ليعرف حاله، فإن كان عالمًا بتحريمها، أنكر عليه هديّتها، وإمساكها، وحملها، وعزّره على ذلك، فلما أخبره أنه كان جاهلًا بذلك عَذَرَه، والظاهر أن هذه القضيّة كانت على قرب تحريم الخمر، قبل اشتهار ذلك. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: يدلّ على ذلك ما تقدّم في رواية أحمد: "هل علمت أن الله حرمها بعدك؟ "، وفي رواية:"أن رجلًا خرج والخمر حلال"، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم للمُهدِي راويةً: "هل عَلِمتَ أن الله حرّمها؟ "، وقول الْمُهدِي: لا، يدلّ على قرب عهد التحريم من زمن الإهداء، ثم إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بَيَّن له الحكم، ولم يوبّخه، ولم يذمّه؛ لأن الرجل كان متمسّكًا بالإباحة المتقدّمة، ولم يبلغه الناسخ، فكان دليلًا على أن الحكم لا يرتفع بوجود الناسخ، بل ببلوغه، كما قرّرناه في الأصول. انتهى

(2)

.

(فَسَارَّ إِنْسَانًا) لم يُعرف اسم ذلك الإنسان

(3)

، و"سارّ" من السّرّ الذي هو بمعنى الكلام الخفيّ، قال النوويّ رحمه الله: المسارِرُ الذي خاطبه النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الرجل الذي أهدى الراوية، كذا جاء مبيّنًا في غير هذه الرواية، وأنه رجلٌ من دوس، قال القاضي: وغَلِط بعض الشارحين، فظنّ أنه رجلٌ آخر. انتهى

(4)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تقدّم في روايات أحمد "أنه أقبل على غلامه، فقال: اذهب بها، فبعها"، وفي رواية:"فأقبل صاحب الراوية، على إنسان معه، فأمره" الحديث، وفي رواية:"فدعا رجلًا، فسارّه" الحديث.

فتبيّن بهذا كله أن الذي سارّ هو المهدي.

لكن ذكر محمد مرتضى الزبيديّ في "عقود الجواهر المنيفة في أدلة

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 4.

(2)

"المفهم" 4/ 457.

(3)

"تنبيه المعلم" ص 264.

(4)

"شرح النوويّ" 11/ 4.

ص: 528

مذهب الإمام أبي حنيفة" ص 225: عن أبي حنيفة، عن محمد بن قيس: أن رجلًا من ثقيف، يكنى أبا عامر، كان يُهدي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في كلّ عام راوية من خمر، فأهدى إليه في العام الذي حُرّمت الخمر راوية خمر، كما كان يُهديها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا عامر إن الله تعالى حرّم الخمر، فلا حاجة لنا في خمرك"، فقال رجلٌ: خذها، وبعها، واستعن بثمنها على حاجتك، قال: "إن الله تعالى حرّم شربها، وحرّم بيعها، وأكل ثمنها"، كذا رواه الحسن ابن زياد عنه

(1)

. انتهى.

فإن صحّ هذا

(2)

، يَحْتَمِل أن يكون في واقعة أخرى، أو يُحمل على أن الرجل أمره ببيعها، ثم سارّ هو غلامه بذلك، فنهاه النبيّ صلى الله عليه وسلم عنه، والله تعالى أعلم.

(فَقَالَ لَهُ) أي: لصاحب الراوية (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بِمَ سَارَرْتَهُ؟ ") أي: بأيّ شيء تحدّثت معه سرًّا؟ (فَقَالَ) صاحب الراوية: (أَمَرْتُهُ بِبَيْعِهَا، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا") قال القرطبيّ رحمه الله: "الذي" هنا كناية عن اسم الله تعالى، فكأنه قال: إن الله حرّم شربها، وحرّم بيعها، ويَحْتَمِل أن يكون معناه: إن الذي اقتضى تحريم شربها، اقتضى تحريم بيعها؛ إذ لا تُراد إلا للشرب، فإذا حُرّم الشرب لم يجز البيع؛ لأنه يكون من أَكْل المال بالباطل، وقد دلّ على صحة هذا قوله صلى الله عليه وسلم:"إن الله إذا حرّم على قوم شيئًا حرّم عليهم ثمنه"، يعني شيئًا يؤكل، أو يُشرب؛ لأن ذلك هو السبب الذي خرج عليه الحديث، ويُلحَق به كلّ محرّم نجس، لا منفعة فيه، واختُلف في جواز بيع ما فيه منفعة منها، كالأزبال، والعَذِرة، فحرّم ذلك الشافعيّ، ومالك، وجُلّ أصحابه، وأجاز ذلك الكوفيّون، والطبريّ، وذهب آخرون إلى إجازة ذلك للمشتري، دون البائع، ورأوا أن المشتري أعذر من البائع؛ لأنه مضطرّ إلى ذلك، رُوي ذلك

(1)

الحسن بن زياد اللؤلؤيّ، صاحب الإمام أبي حنيفة رأس في الفقه، ولكن كذّبه ابن معين، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وأبو داود، وقال الدارقطنيّ: متروك، وتكلم فيه غيرهم. راجع ترجمته في:"ميزان الاعتدال" 1/ 491.

(2)

كيف يصحّ وراويه الحسن بن زياد، وقد عرفت حاله؟، هيهات هيهات.

ص: 529

عن بعض المالكيّة، وهي قولة عن الشافعيّ. انتهى

(1)

.

(قَالَ: فَفَتَحَ الْمَزَادَةَ) وفي بعض النسخ: "ففتح المزاد" بدون هاء، قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع في أكثر النسخ "المزاد" بحذف الهاء في آخرها، وفي بعضها "المزادة" بالهاء، وقال في أول الحديث:"أَهْدَى راويةً"، وهي هي، قال أبو عبيد: هما بمعنًى، وقال ابن السِّكيت: إنما يقال لها: مزادة، وأما الراوية فاسم للبعير خاصّةً، والمختار قول أبي عبيد، وهذا الحديث يدلّ لأبي عبيد، فإنه سماها راويةً، ومزادةً، قالوا: سُمِّيت راويةً؛ لأنها تُروي صاحبها ومن معه، ومزادةً؛ لأنه يُتَزَوَّد فيها الماء في السفر وغيره، وقيل: لأنه يزاد فيها جلد ليتّسع. انتهى

(2)

.

(حَتَى ذَهَبَ مَما فِيهَا) غاية للفتح؛ أي: ففتح، وصبّ حتى فرغ ما في المزادة من الخمر، قال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليل على أن أواني الخمر إذا لم تكن مُضْراة

(3)

بالخمر؛ أنه يجوز استعمالها في غير الخمر إذا غُسلت، ألا ترى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه إبقاءها عنده، ولا أمره بشقها؟ ولو كانت نجسة لا يطهرها الغسل لأمَره بشقِّها؟ وتقطيعها، كما فعل أبو طلحة لَمَّا قال لأنس: قم إلى هذه الجرار فاكسرها. قال أنس: فقمت إلى مهراس لنا، فضربتها بأسفله حتى تكسرت. انتهى

(4)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: ولا أمره بشقّها، كذلك لم يأمره بغسلها، فمن أين أخذ القرطبيّ الغسل؟ فقوله: يجوز استعمالها في غير الخمر إذا غُسلت، يحتاج إلى دليل، فإن الحديث ساكت عن الغسل، كما سكت عن الشقّ، والتقطيع.

وقد أخرج الشيخان في "صحيحيهما" من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا رآهم أوقدوا نارًا كثيرة، قال: "ما هذه النار؟ على أي شيء

(1)

"المفهم" 4/ 457 - 458.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 4 - 5.

(3)

الضاري من الآنية: الذي ضري بالخمر: أي اشتدّ، فإذا جعل فيه النبيذ صار مسكرًا.

(4)

"المفهم" 4/ 460.

ص: 530

توقدون؟ "، قالوا: على حُمُر إنسية، فقال: "أهريقوا ما فيها، وكَسِّروها"، قال رجل: يا رسول الله، ألا نهريق ما فيها، ونغسلها؟ قال: "أو ذاك"، فقد أمر صلى الله عليه وسلم هنا بكسر الإناء، ثم رخّص لهم في غسلها، واستعمالها، فقد جاء نصّ ظاهر يدلّ على نجاسة تلك الآنية بسبب نجاسة الحمر الإنسيّة، وأما في مسألة الخمر، فلم يرد إلا إهراقها، ثم استعمال الإناء دون شقّ، أو غسل، وهذا دليل واضح في الفرق بين المسألتين، فتأمله حقّ التامل بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [34/ 4037 و 4038](1579)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 307 و 308) وفي "الكبرى"(4/ 52)، و (مالك) في "الموطإ"(1598)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 140 و 141)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 447)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 230 و 244 و 323 و 358)، و (الدارميّ) في "سننه"(2011)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4942 و 4944)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2590)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 369 و 5/ 108)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 11 و 12) و"الصغرى"(7/ 341) و"المعرفة"(6/ 431)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2042)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان حكم بيع الخمر، وهو التحريم، وهو مجمع عليه.

2 -

(ومنها): أن الإنسان إذا رأى من يفعل المنكر ينبغي له أن يسأله قبل الإنكار عليه، هل هو يعلم حكمه، أم لا؟

3 -

(ومنها): أن من ارتكب معصيةً جاهلًا تحريمها لا إثم عليه، ولا تعزير.

4 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على جواز سؤال الإنسان عن بعض أسرار الإنسان، فإن كان مما يجب كتمانه كتمه، وإلا فيذكره، قاله النوويّ رحمه الله،

ص: 531

وقال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليلٌ على أن العالم إذا خاف على أحد الوقوع فيما لا يجوز وجب عليه أن يستكشف عن ذلك الشيء حتى يتبيّن له وجهه، ولا يكون هذا من باب التجسّس، بل من باب النصيحة، والإرشاد.

5 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: إن فيه دليلًا لمذهب الشافعيّ، والجمهور أن أواني الخمر لا تُكسَر، ولا تُشقّ، بل يراق ما فيها، وعن مالك روايتان:

[إحداهما]: كالجمهور.

[والثانية]: يُكسر الإناء، ويُشقّ السقاء، وهذا ضعيفٌ، لا أصل له، وأما حديث أبي طلحة رضي الله عنه؛ أنهم كسروا الدِّنَانَ، فإنما فعلوا ذلك بأنفسهم، من غير أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم.

6 -

(ومنها): ما قاله ابن عبد البرّ رحمه الله: في هذا الحديث من الفقه أن ما يُعْصَر من العنب يسمى خمرًا في لسان العرب، لكن الاسم الشرعيّ لا يقع عليها، إلا أن تَغْلي، وتَرْمِي بالزَّبَد، ويُسكر كثيرها أو قليلها، وفي اللغة قد يُسمَّى العنب خمرًا؛ لكن الحكم يتعلق بالاسم الشرعيّ دون اللغويّ.

7 -

(ومنها): ما قاله أيضًا: إن النهي من قِبَل الله إذا ورد فحكمه التحريم، إلا أن يزيحه عن ذلك دليل يبيّن المراد منه، ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما علمت أن الله حرّمها"، ثم قال:"إن الذي حرّم شربها حرّم بيعها"، فأطلق عن الله تحريمها، ولا خلاف بين علماء المسلمين أن تحريمها إنما ورد في سورة المائدة بلفظ النهي في قوله عز وجل:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} -إلى- {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} -وإلى- {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90 - 91]، وهذه الآية نسخت كلَّ لفظ ورد بإباحتها نصًّا، أو دليلًا، فنسخت ما جرى من ذكرها في سورة البقرة، وسورة النساء، وسورة النحل

(1)

.

8 -

(ومنها): ما قاله أيضًا: في ذلك أيضًا دليل على تحريم بيع العذرات وسائر النجاسات، وما لا يحل أكله، ولهذا -والله أعلم- كره مالك بيع زِبْل الدوابّ، ورخص فيه ابن القاسم؛ لِمَا فيه من المنفعة، والقياس ما قاله مالك،

(1)

"التمهيد لابن عبد البرّ" 4/ 145.

ص: 532

وهو مذهب الشافعيّ، وظاهر هذا الحديث شاهد لصحة ذلك، قال: فلم أر وجهًا لذكر اختلاف الفقهاء في بيع السرجين والزَّبل ها هنا؛ لأن كل قول تعارضه السنة وتدفعه، ولا دليل عليه من مثلها، لا وجه له، قال الله عز وجل:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} الآية [الأحزاب: 36].

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم في كتاب الطهارة أن الأرجح من أقوال العلماء طهارة الزِّبل والسِرْجين، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

9 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على أن الإثم مرفوع عمن لم يَعْلَم. قال الله عز وجل {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، ومن أمكنه التعلم ولم يتعلم أثم، والله أعلم.

10 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على أن الخمر لا يجوز لأحد تخليلها، ولو جاز لأحد تخليلها ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لِيَدَع الرجل أن يفتح المزادتين حتى ذهب ما فيهما؛ لأن الخلّ مالٌ، وقد نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره أن يُخَلِّلها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"نِعْمَ الإدام الخلّ"، ولأنه صلى الله عليه وسلم أنصح الناس للناس، وأدلهم على قليل الخير وكثيره

(1)

.

11 -

(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: وقد فَهِمَ الجمهور من تحريم الخمر وبيعها، والمنع من الانتفاع بها، واستخباث الشرع لها، لإطلاق الرِّجس عليها، والأمر باجتنابها، الحكمَ بنجاستها.

وخالفهم في ذلك ربيعة وحده

(2)

من السلف فرأى: أنها طاهرة، وأن المحرَّم إنما هو شربها، وهو قولٌ شاذ يردُّه ما تقدَّم، وما كان يليق بأصول ربيعة، فإنه قد علم أن الشرع قد بالغ في ذم الخمر حتى لعنها وعَشَرةً بسببها، وأمر باجتنابها، وبالغ في الوعيد عليها. فمن المناسب بتصرفات الشرع الحكم بتنجيسها مبالغة في المباعدة عنها، وحماية لقربها.

فإن قيل: التنجيس حكم شرعي، ولا نصّ فيه، ولا يلزم من كون الشيء

(1)

"التمهيد لابن عبد البرّ" 4/ 146.

(2)

بل تابعه غيره، فقد حكي عن الليث بن سعد، والمزنيّ من أصحاب الشافعيّ، فتنبّه.

ص: 533

محرَّمًا أن يكون نجسًا؛ فكم من محرّم في الشرع ليس بنجس.

فالجواب: أنها وإن لم يكن فيها لفظٌ نصٌّ بالوضع الْمُتَّحِد، لكن فيها ما يدلُّ دلالة النصوصية بمجموع قرائن الآية ومساقها، ويَعْرفُ ذلك من تصفَّح الآية وتفهَّمها. ثم ينضاف إلى الآية جملة ما ذكرناه، فيحصل اليقين بالحكم بتنجيسها. ثم لو التزمنا ألا نحكم بحكم إلا حتى نجد فيه نصًّا لتعطلت الشريعة، فإن النصوص فيها قليل. وأيُّ نص يوجد على تنجيس البول، والعذرة، والدَّم، والميتة، وغير ذلك، ولا يوجد نصٌّ تنجيس شيء مما هنالك. وإنما هي الظواهر، والعمومات، والأقيسة.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: ولا يوجد نصّ على تنجيس شيء إلخ لا يخفى ما فيه من المجازفة، فقد جاءت نصوص كثيرة في نجاسة أشياء؛ كالبول، ودم الحيض والاستحاضة، والمذي، والميتة، وغير ذلك، فلتراجع النصوص الصحيحة الكثيرة لذلك.

قال: وقوله: لا يلزم من الحكم بالتحريم الحكم بالتنجيس. قلنا: لم نستدل بمجرد التحريم، بل بتحريم مستخبث شرعيّ يحرم شربه، وإن شئت أن تحرر قياسًا؛ قلت: مستخبث شرعًا، يحرم شربه، فيكون نجسًا؛ كالبول، والدَّم، وهذا هو الأولى بربيعة، فإنه الملقَّب بـ "ربيعة الرأي"، والله تعالى أعلم.

وقد استدل بعض من تابع ربيعة على عدم تنجيس الخمر، وهو سعيد بن الحداد القروي بسفك الخمر على طرق المدينة. قال: ولو كانت نجسة لما فعلوا ذلك، ولنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، كما نهى عن التخلَّي في الطرق.

والجواب: أن الصحابة رضي الله عنهم فعلت ذلك لضرورة الحال؛ لأنهم لم يكن لهم سُروبٌ، ولا آبارٌ يريقونها فيها؛ إذ الغالب من حالهم: أنهم لم تكن لهم كُنُف في بيوتهم. وقالت عائشة رضي الله عنها: إنهم كانوا يتقذرون من اتخاذ الكنف في البيوت، ونَقْلها إلى خارج المدينة فيه كلفة، ومشقة، ويلزم منه تأخير ما وجب على الفور، فالتحق صبّها في الطرق بالنجاسات التي لا تنفكُّ الطرق عنها، كأرواث الدواب، وأبوالها. وأيضًا، فإنها يمكن التحرُّز منها، فإن طرق المدينة كانت واسعة، ولم تكن الخمر من الكثرة، بحيث تصير نهرًا يعمّ الطريق كلّها،

ص: 534

بل إنما جرت في مواضع يسيرة يمكن التحرُّز عنها. هذا مع ما يحصل في ذلك

من فائدة شهرة إراقتها في طرق المدينة ليشيع العمل على مقتضى تحريمها من

إتلافها، وأنه لا ينتفع بها. ويتتابع الناس، ويتوافقوا على ذلك، والله أعلم.

انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: وبعد هذه المصاولات والمجاولات من القرطبيّ

لم يأتنا بشيء صريح من الأدلّة يُتمسّك به على نجاسة الخمر، لا من النصّ،

ولا من الإجماع، فإن المسألة مختلف فيها، كما سبق في كلامه، ولم ينفرد

ربيعة الرأي بالقول بطهارتها، فقد نُقِل عن الليث بن سعد، والمزنيّ من

أصحاب الشافعيّ، ونقله القاضي عياض عن سعيد بن الحذّاء، والهرويّ

(2)

،

فالحقّ أن القول بطهارتها هو الأشبه، كما مرّ قريبًا، فتبصّر بالإنصاف، ولا

تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم تخليل الخمر:

قال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: قد اختَلَف الفقهاء في تخليل

الخمر، فقال مالك فيما رَوَى عنه ابن القاسم، وابن وهب: لا يحلّ لمسلم أن

يخلل الخمر، ولكن يهريقها، فإن صارت خلًّا بغير علاج فهو حلالٌ، لا بأس

به، وهو قول الشافعيّ، وعبيد الله بن الحسن البصريّ، وأحمد بن حنبل.

ورَوَى أشهب عن مالك قال: إذا خَلَّل النصرانيّ خمرًا، فلا بأس بأكله،

وكذلك إن خللها مسلم، واستَغفَرَ الله، وهذه الرواية ذكرها ابن عبد الحكم في

كتابه، وقال ابن وهب: سمعت مالكًا يقول فيمن اشترى قِلالَ خَلّ، فوجد فيها

قُلّة خمر، قال: لا يجعل فيها شيئًا يُخلِّلها، قال: ولا يحل للمسلم أن يعالج

الخمر حتى يجعلها خلًّا، ولا يبيعها، ولكن يهرقها، فإن فات علاجها بعد أن

وُجدت خمرًا من غير علاج، فإنها حلالٌ لا بأس بها، إن شاء الله.

قال ابن وهب: وهو قول عمر بن الخطاب، والزهريّ، وربيعة.

وكان أبو حنيفة، والثوريُّ، والأوزاعيُّ، والليث بن سعيد: لا يرون بأسًا

بتخليل الخمر، وقال أبو حنيفة: إن طرح فيها السمك، والملح، فصارت

(1)

"المفهم" 4/ 458 - 460.

(2)

راجع: "إكمال المعلم" 5/ 252.

ص: 535

مُرّيًّا

(1)

، وتحولت عن حال الخمر جاز، وخالفه محمد بن الحسن في المري، وقال: لا يعالج الخمر بغير تحويلها إلى الخلّ وحده.

قال أبو عمر: الصحيح عندي في هذه المسألة ما قاله مالك في رواية ابن القاسم، وابن وهب عنه، والدليل على ذلك ما رواه الثوريّ، عن السّدّيّ، عن أبي هبيرة، عن أنس، قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي حجره يتيم، وكان عنده خمر له حين حُرِّمت، فقال: يا رسول الله نصنعها خلًّا؟ قال: "لا"، فصَبَّها حتى سأل الوادي.

وروى مُجالد، عن أبي الوَدَّاك، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: كان عندي خمر لأيتام، فلما نزل تحريم الخمر أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نهريقها.

ثم أخرج بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ أن أبا طلحة سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أيتام وَرِثُوا خمرًا، قال:"أهرقها"، قال: أفلا أجعلها خلًّا؟ قال: "لا"

(2)

.

ثم أخرج أيضًا عن أنس بن مالك، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر تُتخذ خلًّا؟ قال: "لا".

وأخرج عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: كان عندنا خمر ليتيم، فلما نزلت الآية التي في سورة المائدة، سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: إنها ليتيم، فقال:"أهريقوها".

ثم قال بعد أن ساق أحاديث في هذا المعنى: فهذه الآثار كلُّها تدل على أن من وَرِثَ خمرًا من المسلمين، وصارت بيده أهرقها، ولم يحبسها، ولا يخلّلها، وذلك دليل على فساد قول من قال: يخللها، فأما إذا تخللت من ذاتها بغير صنع آدميّ، فقد رُوي فيها عن عمر ما تَسْكُن النفس إليه، وقال به مالك، والشافعيّ، وأكثر فقهاء الحجاز.

قال: واحتَجّ العراقيون في تخليل الخمر بأبي الدرداء، وهو حديث يُرْوَى عن أبي إدريس الخولانيّ، عن أبي الدرداء، من وجه ليس بالقويّ أنه يأكل

(1)

"الْمُرّيّ": الذي يُؤتدم به، كأنه نسبة إلى الْمرّ، ويُسمّيه الناس الْكَامَخ، قاله في "المصباح" 2/ 568.

(2)

حديث صحيح، أخرجه أبو داود في "سننه" 3/ 326.

ص: 536

الْمُرّيّ الذي جُعِل فيه الخمر، ويقول: دبغته الخلّ والملح، وهذا ومثله لا حجة في شيء منه، إذا كان مخالفًا لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وذَكَر ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب قال: لا خير في خَلّ من خمر أُفسدت حتى يكون الله الذي أفسدها، قال: وحديث ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن القاسم بن محمد، عن أسلم مولى عمر بن الخطاب، عن عمر بن الخطاب قال: لا تؤكل خمر أُفسدت، ولا شيء منها، حتى يكون الله تولى إفسادها.

ورَوَى الحسن بن أبي الحسن، عن عثمان بن أبي العاص أن تاجرًا اشترى خمرًا، فأمره أن يصبها في دجلة، فقالوا: ألا تأمره أن يجعلها خَلًّا؟ فنهاه عن ذلك.

فهذا عمر بن الخطاب، وعثمان بن أبي العاص يخالفان أبا الدرداء في تخليل الخمر، وليس في أحد حجة مع السنة، وبالله التوفيق.

قال: وقد يَحْتَمِل أن يكون المنع من تخليلها كان في بدء الأمر عند نزول تحريمها؛ لئلا يُستدام حبسها بقرب العهد بشربها إرادة لقطع العادة في ذلك، وإذا كان هذا هكذا لم يكن في النهي عن تخليلها حينئذ، والأمرِ بإراقتها ما يمنع من أكلها إذا تخللت، ولم يُسئل عن خمر تخللت، فنَهَى عن ذلك، والله تعالى الموفِّق للصواب، لا شريك له. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من أقوال العلماء، وأدلّتهم في حكم تخليل الخمر؛ أن المذهب الصحيح هو ما ذهب إليه الجمهور من تحريم تخليلها؛ لوضوح حجته، واستنارة محجّته، وأما إذا تخلّلت بنفسها، فإنها حلال؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أكل الخلّ، وقال:"نعم الإدام الخلّ"

(2)

، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"التمهيد" 4/ 141 - 143.

(2)

حديث صحيح، أخرجه مسلم، وأحمد، وأصحاب "السنن".

ص: 537

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4038]

(

) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ ابْنُ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَعْلًةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو أيوب المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 177)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.

2 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) الأنصاريّ، أبو سعيد المدنيّ القاضي، ثقةٌ ثبثٌ [5](ت 144)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية يحيى بن سعيد، عن عبد الرحمن بن وَعْلة هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4039]

(1580) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتِ الآيَاتُ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَاقْتَرَأهُنَّ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ نَهَى عَنِ التَّجَارَةِ فِي الْخَمْرِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْب) تقدّم قبل باب.

2 -

(إِسْحَاق بْنُ إِبرَاهِيمَ) بن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ، وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

4 -

(مَنْصُورُ) بن المعتمر السّلميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبثٌ [6](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 296.

5 -

(أَبُو الضُّحَى) مُسلم بن صُبيح الْهَمدانيّ الكوفيّ العطّار، ثقةٌ فاضلٌ [4](ت 100)(ع) تقدم في "الطهارة" 22/ 635.

ص: 538

6 -

(مَسْرُوقُ) بن الأجدع بن مالك الهمدانيّ، أبو عائشة الكوفيّ، ثقة فقيةٌ عابد مخضرمٌ [2](ت 2 أو 63)(ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 227.

7 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّيات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخيه أيضًا، فالأول نسائيّ، ثم بغداديّ، والثاني مروزيّ، وعائشة رضي الله عنها، فمدنيّة.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم.

5 -

(ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210)، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها؛ أنها (قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتِ) بفتح أوله، وتخفيف الزاي مبنيًّا للفاعل (الآيَاتُ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ) وفي الرواية التالية:"لَمّا أُنزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا"، ببناء الفعل للمفعول، وفي رواية النسائيّ:"لَمَّا نَزَلَتْ آيَاتُ الرِّبَا"، والمراد: من أول آية الربا إلى آية الدَّين.

(خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: من بيته، زاد في الرواية التالية:"إلى المسجد"(فَاقْتَرَأَهُنَّ) افتعال من القراءة؛ أي: قرأ تلك الآيات (عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ نَهَى عَنِ التِّجَارَةِ فِي الْخَمْرِ) وفي الرواية التالية: "فحَرَّم التجارة في الخمر"؛ أي: تنبيهًا على أن الربا، والخمر في الحرمة سواء، وقال السيوطيّ في "حاشية أبي داود": جاء عن عائشة في بعض الروايات: لَمّا نزلت سورة البقرة، نزل تحريم الخمر، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فهذا يدلّ على أنه كان في الآيات المذكورة تحريم ذلك، وكأنه نُسخت تلاوته. انتهى

(1)

.

وقال القاضي عياض، وغيره: تحريم الخمر هو في سورة المائدة، وهي

(1)

راجع: "شرح السندي على النسائي" 7/ 308.

ص: 539

نزلت قبل آية الربا بمدّة طويلة، فإن آية الربا آخر ما نزل، أو من آخر ما نزل، فيَحْتَمِل أن يكون هذا النهي عن التجارة متأخّرًا عن تحريمها، ويَحْتَمِل أنه أخبر بتحريم التجارة حين حُرّمت الخمر، ثم أخبر به مرّةً أخرى بعد نزول آية الربا توكيدًا، ومبالغة في إشاعته، ولعله حضر المجلس من لم يكن بلغه تحريم التجارة فيها قبل ذلك، نقله النوويّ في "شرحه"

(1)

.

وقال الحافظ بعد ذكر القاضي عياض المذكور، ما نصّه: وَيحْتَمل أن يكون تحريم التجارة فيها تأخّر عن وقت تحريم عينها. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الاحتمال الذي ذكره الحافظ يُبعده - كما أفاده بعض المحقّقين-

(3)

ما تقدّم من قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن أدركته هذه الآية، وعنده منها شيء، فلا يشرب، ولا يبع"، فإنه صريح في وقوع تحريم الشرب والبيع معًا، وأيضًا أمره صلى الله عليه وسلم عند نزول الآية بإهراق خمر الأيتام دليل صريح في ذلك؛ إذ لو كان البيع جائزًا لَمَا أضاعوا أموالهم، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [34/ 4039 و 4040](1580)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(459) و"البيوع"(2084 و 2226) و"التفسير"(4540 و 4541 و 4542 و 4543)، و (أبو داود) في "البيوع"(3490 و 3491)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 308) و"الكبرى"(6/ 306)، و (ابن ماجه) في "الأشربة"(3382)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 199)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 46 و 100 و 127 و 186 و 190 و 278)، و (الدارميّ) في "سننه"(2456 و 2457)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 368)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 11)، والله تعالى أعلم.

(1)

شرح النوويّ " 11/ 5.

(2)

"الفتح" 2/ 208 "كتاب الصلاة" رقم (459).

(3)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 1/ 555.

ص: 540

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان حكم بيع الخمر، وهو التحريم.

2 -

(ومنها): التشديد في التجارة بالخمر، حيث قرنه الشارع بالربا المتوعّد عليه بقوله تعالى:{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية [البقرة: 279].

3 -

(ومنها): اهتمام الشارع بشأن الربا، والخمر حيث أشاعه في المسجد على المنبر تأكيدًا، وتشديدًا في تحريمه.

[فائدة]: قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "كتاب التفسير" من "صحيحه": "بابُ {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281]، ثم أخرج عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: آخر آية نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم آية الربا".

فقال في "الفتح": كذا ترجم المصنّف بقوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} ، وأخرج هذا الحديث بهذا اللفظ، ولعله أراد أن يَجمع بين قولي ابن عباس، فإنه جاء عنه ذلك من هذا الوجه، وجاء عنه من وجه آخر: "آخر آية نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} ، وأخرجه الطبريّ من طُرُق عنه، وكذا أخرجه من طُرُقِ جماعةٍ من التابعين، وزاد عن ابن جريج قال: يقولون: إنه مكث بعدها تسع ليال، ونحوه لابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، ورُوي عن غيره أقلُّ من ذلك، وأكثر، فقيل: إحدى وعشرين، وقيل: سبعًا.

وطريق الجمع بين هذين القولين أن هذه الآية هي ختام الآيات الْمُنَزَّلة في الربا؛ إذ هي معطوفة عليهنّ.

وأما ما سيأتي في آخر "سورة النساء" من حديث البراء: "آخر سورة نزلت براءة، وآخر آية نزلت {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176]، فيُجمع بينه وبين قول ابن عباس بأن الآيتين نزلتا جميعًا، فيصدُق أن كلًّا منهما آخر بالنسبة لِمَا عداهما.

ويَحْتَمِل أن تكون الآخرية في آية النساء مقيَّدةً بما يتعلق بالمواريث مثلًا، بخلاف آية البقرة، ويَحتَمِل عكسه، والأول أرجح؛ لِمَا في آية البقرة من الإشارة إلى معنى الوفاة المستلزمة لخاتمة النزول.

ص: 541

وحَكَى ابن عبد السلام أن النبيّ صلى الله عليه وسلم عاش بعد نزول الآية المذكورة أحدًا وعشرين يومًا، وقيل: سبعًا.

وأما ما ورد في {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} [النصر: 1]؛ أنها آخر سورة نزلت، مع ما ورد في سورة براءة أنها آخر سورة نزلت، فيُجمع بأن آخرية سورة النصر نزولها كاملةً بخلاف براءة

(1)

.

[تنبيهٍ]: المراد بالآخرية في الربا تأخر نزول الآيات المتعلقة به من سورة البقرة، وأما حكم تحريم الربا فنزوله سابق لذلك بمدة طويلة، على ما يدل عليه قوله تعالى في آل عمران في أثناء قصة أُحد:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} الآية [آل عمران: 130]. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4040]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، وَأبُو كُرَيْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ -وَاللَّفْظُ لأَبِي كُريْبٍ- قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا أُنْزِلَتِ الآيَاتُ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الرِّبَا -قَالَتْ- خَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَسْجِدِ، فَحَرَّمَ التِّجَارَةَ: فِي الْخَمْرِ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قريبًا.

3 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم قريبًا أيضًا.

4 -

(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله، و"مسلم" هو: أبو الضُّحَى المذكور في السند الماضي.

(1)

راجع: "الفتح" 11/ 134 "تفسير سورة النصر" رقم (4968).

(2)

"الفتح" 9/ 706 - 707 رقم (4544).

ص: 542

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الذي قبله، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4041]

(1581) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ؛ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ، وَهُوَ بِمَكَّةَ: "إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ، وَالْمَيْتَةِ، وَالْخِنْزِيرِ

(1)

، وَالأَصْنَامِ"، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ، فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ: "لَا، هُوَ حَرَامٌ"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: "قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ، إِنَّ اللهَ لَمَّا عز وجل حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا، أَجْمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ، فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(لَيْثُ) بن سعد الإمام المصريّ الشهير، تقدّم قبل بابين.

3 -

(يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبِ) سُويد، أبو رجاء المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ، يرسل [5](ت 128) وقد قارب الئمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

4 -

(عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ) تقدّم قريبًا.

5 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما، تقدّم قبل باب.

[تنبيه]: هذا الحديث مما اتّفق عليه الشيخان سندًا ومتنًا، فقد رواه البخاريّ عن قتيبة بهذا السند.

شرح الحديث:

(عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ) اسم أبيه: أسلم، وقد بَيَّنَ البخاريّ رحمه الله برواية علّقها أن يزيد بن أبي حبيب لم يسمعه من عطاء، وإنما كَتَب به إليه، ونصّه:

(1)

وفي نسخة: "ولحم الخنزير".

ص: 543

"وقال أبو عاصم: حدّثنا عبد الحميد

(1)

، حدّثنا يزيد، كتَب إليّ عطاء، سمعت جابرًا رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم". انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: وليزيد فيه إسناد آخر، ذكره أبو حاتم في "العلل" من طريق حاتم بن إسماعيل، عن عبد الحميد بن جعفر، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمرو بن الوليد بن عبدة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه؟ فقال: قد رواه محمد بن إسحاق، عن يزيد، عن عطاء، ويزيد لم يسمع من عطاء، ولا أعلم أحدًا من المصريين رواه عن يزيد متابعًا لعبد الحميد بن جعفر، فإن كان حفظه فهو صحيح؛ لأن محله الصدق.

قال الحافظ: قد اختُلف فيه على عبد الحميد، ورواية أبي عاصم عنه الموافقة لرواية غيره عن يزيد أرجح، فتكون رواية حاتم بن إسماعيل شاذّةً. انتهى

(2)

.

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما، في رواية أحمد، عن حجاج بن محمد، عن الليث، بسنده:"سمعت جابر بن عبد الله بمكة"(أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ، وَهُوَ بِمَكَّةَ) جملة حاليّة من "رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه بيان تاريخ ذلك في رمضان سنة ثمان من الهجرة، ويَحْتَمل أن يكون التحريم وقع قبل ذلك، ثم أعاده ليسمعه من لم يكن سمعه

(3)

.

("إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ) قال في "الفتح": هكذا وقع في "الصحيحين" بإسناد الفعل إلى ضمير الواحد، وكان الأصل: حَرَّما، فقال القرطبيّ رحمه الله: إنه صلى الله عليه وسلم تأدَّب، فلم يجمع بينه وبين اسم الله في ضمير الاثنين؛ لأنه من نوع ما رَدَّ به على الخطيب الذي قال:"ومن يعصهما"، كذا قال، ولم تتفق الرواة في هذا الحديث على ذلك، فإن في بعض طرقه في "الصحيح":"إن الله حَرَّم"، ليس فيه "ورسوله"، وفي رواية لابن مردويه من وجه آخر، عن الليث:"إن الله ورسوله حَرَّما"، وقد صح حديث أنس رضي الله عنه في النهي عن أكل الحمر الأهلية:"إن الله ورسوله ينهيانكم"، ووقع في رواية النسائيّ في هذا الحديث:

(1)

هو ابن جعفر الأنصاريّ المدنيّ المتوفى سنة (153 هـ).

(2)

"الفتح" 5/ 716.

(3)

"الفتح" 5/ 717.

ص: 544

"ينهاكم"، والتحقيق جواز الإفراد في مثل هذا، ووجهه الإشارة إلى أن أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم ناشئ عن أمر الله تعالى، وهو نحو قوله:{وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62]، والمختار في هذا أن الجملة الأولى حُذِفت لدلالة الثانية عليها، والتقدير عند سيبويه: والله أحقّ أن يرضوه، ورسوله أحقّ أن يرضوه، وهو كقول الشاعر:

نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا عِنْـ

ـدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ

وقيل: {أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} خبر عن الاسمين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم تابع لأمر الله سبحانه وتعالى

(1)

.

(بَيْعَ الْخَمْرِ) قال الفيّوميّ رحمه الله: الخَمْرُ: معروفة، تُذَكَّر، وتُؤنَّث، فيقال: هو الخَمْرُ، وهي الخَمْرُ، وقال الأصمعيّ: الخَمْرُ أنثى، وأنكر التذكير، ويجوز دخول الهاء، فيقال: الخَمْرَةُ، على أنها قطعة من الخَمْرِ، كما يقال: كُنّا في لحمةٍ، ونبيذةٍ، وعَسَلةٍ؛ أي في قطعة من كلّ شيء منها، ويُجْمَع الخَمْرُ على الخُمُورِ، مثل فَلْس وفُلُوس، ويقال: هي اسم لكلّ مسكر، خَامَرَ العقلَ؛ أي غطاه. انتهى

(2)

.

(وَالْمَيْتَةِ) -بفتح الميم- ما زالت عنه الحياة، لا بذكاة شرعية، والْمِيتة- بالكسر- الهيئةُ، وليست مرادةً هنا، ونَقَل ابن المنذر وغيره الإجماع على تحريم بيع الميتة، ويُسْتَثْنَى من ذلك السمك والجراد.

(وَالْخِنْزِيرِ) وفي بعض النسخ: "ولحم الخنزير"(وَالأَصْنَامِ) بالفتح: جمع صنم، قال الجوهريّ: هو الوثن

(3)

، وقال غيره: الوثن ما له جُثّة، والصنم ما كان مُصَوَّرًا، فبينهما عموم وخصوص وجهيّ، فمان كان مصورًا، فهو وثن وصنم

(4)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الصَّنَمُ يقال: هو الوثن المتَّخَذ من الحجارة، أو الخشب، ويُروَى عن ابن عباس رضي الله عنهما، ويقال: الصَّنَمُ: المتخَذ من الجواهر المعدنية التي تذوب، والوَثَنُ: هو المتخذ من حجر، أو خشب، وقال ابن

(1)

"الفتح" 5/ 717.

(2)

"المصباح" 1/ 181 - 182.

(3)

"الصحاح " ص 603.

(4)

"الفتح" 5/ 716.

ص: 545

فارس: الصَّنَمُ: ما يُتَّخَذ من خشب، أو نحاس، أو فضة. انتهى

(1)

.

(فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على تسمية القائل، وفي رواية عبد الحميد:"فقال رجلٌ"(أَرَأَيْتَ) بمعنى أخبِرنا (شُحُومَ الْمَيْتَةِ) جمع شَحْم، كفَلْس وفُلُوس (فَإِنَّهُ يُطْلَى) بالبناء للمفعول؛ أي: يُلطخ (بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ) ببناء الفعل للمفعول، يقال: دَهَنتُ الشعرَ وغيره، من باب قَتَل: إذا طليته، يعني أن تلك الشحوم تُطلى بها الجلود (وَيَسْتَصْبِحُ) بالبناء للفاعل (بِهَا النَّاسُ؟) أي ينوّرون بها مصابيحهم، فهل يَحِلّ لنا بها الانتفاع بالبيع وغيره؟ لِمَا ذُكِر من المنافع، فانها مقتضية لصحة ذلك (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَا، هُوَ حَرَامٌ")، الظاهر أن الضمير للانتفاع؛ أي الانتفاع بشحوم الميتة حرامٌ، وهذا قاله أكثر العلماء.

وقال في "الفتح": قوله: "هو حرامٌ" أي البيع حرامٌ، هكذا فسَّره بعض العلماء، كالشافعيّ، ومن اتبعه، ومنهم من حمل قوله:"هو حرام" على الانتفاع، فقال: يَحْرُم الانتفاع بها، وهو قول أكثر العلماء، فلا يُنتفَع من الميتة أصلًا عندهم، إلا ما خُصّ بالدليل، وهو الجلد المدبوغ، واختلفوا فيما يتنجس من الأشياء الطاهرة، فالجمهور على الجواز، وقال أحمد، وابن الماجشون: لا يُنتفَع بشيء من ذلك، واستدلّ الخطابيّ على جواز الانتفاع بإجماعهم على أن من ماتت له دابة ساغ له إطعامها لكلاب الصيد، فكذلك يسوغ دَهْنُ السفينة بشحم الميتة، ولا فرق. انتهى.

قال المجامع عفا الله عنه: القول بتحريم الانتفاع بشحوم الميتة مطلقًا هو الحقّ؛ لظاهر هذا الحديث، ولقوله صلى الله عليه وسلم في الفأرة إذا وقعت في السمن:"وإن كان مائعًا فلا تقربوه"، وهو حديث صحيح، والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: "قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ) أي طردهم، وأبعدهم من رحمته، وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "قاتل الله اليهود"؛ أي: قتلهم؛ كقوله تعالى: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4]، قاله الهروي، قال: وسبيل "فاعَلَ" أن يكون من اثنين، وربما يكون من واحد؛ كقوله: سافرت، وطارقت

(1)

"المصباح المنير" 1/ 349.

ص: 546

النعل، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لعنهم، وقد جاء ذلك مصرَّحًا به في الرواية الأخرى، وقال غيره: عاداهم. انتهى

(1)

.

(إِنَّ اللهَ سبحانه وتعالى لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ) بالبناء للفاعل، من التحريم (شُحُومَهَا، أَجْمَلُوهُ) بالهمزة لغة في جَمَلة بدونها، قال في "اللسان": جَمَله يَجْمُلُهُ جَمْلًا -من باب نصر- وأجمله: أذابه، واستَخرج دُهنًا، وجَمَلَ أفصح من أجمل. انتهى. (ثُمَّ بَاعُوهُ، فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ") قال في "الفتح": وسياقه مشعر بقوّة ما أوّله الأكثر

(2)

أن المراد بقوله: "هو حرام" البيع، لا الانتفاع، ورَوَى أحمد، والطبرانيّ من حديث ابن عمر، مرفوعًا:"الويلُ لبني إسرائيل، إنه لما حُرِّمت عليهم الشحوم باعوها، فأكلوا ثمنها، وكذلك ثمن الخمر عليكم حرام". انتهى

(3)

.

وأخرج أحمد من طريق عبد الحميد بن جعفر، عن يزيد بن أبي حبيب أن عطاءً كتب، يَذكُر أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح: "إن الله عز وجل ورسوله حَرّم بيع الخنازير، وبيع الميتة، وبيع الخمر، وبيع الأصنام"، وقال رجل: يا رسول الله ما ترى في شحوم الميتة، فإنها يُدْهَن بها السفن، والجلود، ويُسْتَصبَح بها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قاتل الله يهود، إن الله لمّا حرّم عليهم شحومها، أخذوه فجمّلوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه".

قال الحافظ: فظهر بهذه الرواية أن السؤال وقع عن بيع الشحوم

(4)

، وهو يؤيد ما قررناه، ويؤيده أيضًا ما أخرجه أبو داود، من وجه آخر، عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال، وهو عند الركن: "قاتل الله اليهود إن الله حرّم عليهم الشحوم،

(1)

"المفهم" 4/ 466.

(2)

تقدّم أن الأقوى هو الحمل على الانتفاع مطلقًا، فتنبّه.

(3)

"الفتح" 4/ 425.

(4)

هكذا قال في "الفتح"، والظاهر أن نسخة "المسند" عنده بلفظ:"فما ترى في بيع شحوم الميتة" بزيادة لفظة "بيع"، ونسخة "المسند" عندي ليس فيها "بيع"، فلا فرق بين هذه الرواية والروايات الأخرى، فتنبّه.

ص: 547

فباعوها، وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرَّم على قوم أكل شيء حَرَّم عليهم ثمنه".

قال جمهور العلماء: العلة في منع بيع الميتة، والخمر، والخنزير: النجاسة، فيتعدَّى ذلك إلى كل نجاسة، ولكن المشهور عند مالك طهارة الخنزير، والعلة في منع بيع الأصنام: عدم المنفعة المباحة، فعلى هذا إن كانت بحيث إذا كُسرت يُنتفع برُضاضها جاز بيعها، عند بعض العلماء من الشافعية، وغيرهم، والأكثر على المنع؛ حملًا للنهي على ظاهره، والظاهر أن النهي عن بيعها للمبالغة في التنفير عنها.

قال الجامع: ما قاله الأكثر من منع بيع الأصنام مطلقًا هو الأرجح؛ عملًا بظاهر النصّ، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

قال: ويَلتحق بها في الحكم الصُّلْبان التي تعظمها النصارى، ويحرم نحت جميع ذلك، وصُنعته، وأجمعوا على تحريم بيع الميتة، والخمر، والخنزير، إلا ما تقدمت الإشارة إليه في باب تحريم الخمر، ولذلك رَخَّص بعض العلماء في القليل من شعر الخنزير؛ للخرز، حكاه ابن المنذر عن الأوزاعيّ، وأبي يوسف، وبعض المالكية، فعلى هذا فيجوز بيعه، ويستثنى من الميتة عند بعض العلماء ما لا تَحُلّه الحياة؛ كالشعر، والصوف، والوبَر، فإنه طاهر، فيجوز بيعه، وهو قول أكثر المالكية، والحنفية، وزاد بعضهم: العظم، والسنّ، والقرن، والظِّلْف، وقال بنجاسة الشعور: الحسن، والليث، والأوزاعيّ، ولكنها تطهر عندهم بالغسل، وكأنها متنجسة عندهم بما يتعلق بها من رطوبات الميتة، لا نجسة العين، ونحوه قول ابن القاسم في عظم الفيل: إنه يطهر إذا سُلِق بالماء. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(1)

"الفتح" 5/ 718 - 719 "كتاب البيوع" رقم (2236).

ص: 548

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [34/ 4041 و 4042](1581)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2236) و"التفسير"(4633)، و (أبو داود) في "البيوع"(3486)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1297)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 177) و"الكبرى"(3/ 86 و 4/ 54)، و (ابن ماجه) في "التجارات"(2167)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 931)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 324 و 326)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 149)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 370)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 12 و 9/ 354) و"الصغرى"(8/ 367) و"المعرفة"(7/ 284)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم بيع هذه الأشياء المذكورة في هذا الحديث، قال النوويّ رحمه الله: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لا، هو حرام"، فمعناه: لا تبيعوها، فإن بيعها حرام، والضمير في "هو" يعود إلى البيع، لا إلى الانتفاع، هذا هو الصحيح عند الشافعيّ وأصحابه أنه يجوز الانتفاع بشحم الميتة في طلي السفن، والاستصباح بها، وغير ذلك، مما ليس بأكل، ولا في بدن الآدميّ، وبهذا قال أيضًا عطاء بن أبي رباح، ومحمد بن جرير الطبريّ.

وقال الجمهور: لا يجوز الانتفاع به في شيء أصلًا؛ لعموم النهي عن الانتفاع بالميتة، إلا ما خُصّ، وهو الجلد المدبوغ.

وأما الزيت والسمن ونحوهما من الأدهان التي أصابتها نجاسة، فهل يجوز الاستصباح بها ونحوه من الاستعمال في غير الأكل، وغير البدن، أو يُجعَل من الزيت صابون، أو يُطْعَمُ العسل المتنجس للنحل، أو يُطْعِم الميتة لكلابه، أو يُطْعِم الطعام النجس لدوابه؟ فيه خلاف بين السلف، والصحيح من مذهبنا جواز جميع ذلك، ونقله القاضي عياض عن مالك، وكثير من الصحابة، والشافعيّ، والثوريّ، وأبي حنيفة، وأصحابه، والليث بن سعد، قال: ورُوي نحوُه عن عليّ، وابن عمر، وأبي موسى، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر.

ص: 549

قال: وأجاز أبو حنيفة، وأصحابه، والليث، وغيرهم بيع الزيت النجس، إذا بَيَّنه.

وقال عبد الملك بن الماجشون، وأحمد بن حنبل، وأحمد بن صالح: لا يجوز الانتفاع بشيء من ذلك كلِّه في شيء من الأشياء، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال: قال العلماء: وفي عموم تحريم بيع الميتة أنه يحرم بيع جُثّة الكافر إذا قتلناه، وطلب الكفار شراءه، أو دفع عوض عنه، وقد جاء في الحديث أن نوفل بن عبد الله المخزوميّ قتله المسلمون يوم الخندق، فبذل الكفار في جسده عشرة آلاف درهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يأخذها، ودفعه إليهم، وذكر الترمذيّ حديثًا نحو هذا.

2 -

(ومنها): ما قاله القاضي عياض رحمه الله: تضمَّن هذا الحديث أن ما لا يحل أكله والانتفاع به لا يجوز بيعه، ولا يحل أكل ثمنه، كما في الشحوم المذكورة في الحديث، فاعتَرَضَ بعض اليهود والملاحدة بأن الابن إذا وَرِثَ من أبيه جارية كان الأب وطئها، فإنها تَحرُم على الابن، وَيحِلّ له بيعها بالإجماع، وأكل ثمنها، قال القاضي: وهذا تمويه على من لا علم عنده؛ لأن جارية الأب لم يحرم على الابن منها غير الاستمتاع على هذا الولد دون غيره من الناس، وَيحِلّ لهذا الابن الانتفاع بها في جميع الأشياء، سوى الاستمتاع، ويحل لغيره الاستمتاع وغيره، بخلاف الشحوم، فإنها محرَّمة المقصودِ منها، وهو الأكل منها على جميع اليهود، وكذلك شحوم الميتة محرَّمة الأكل على كل أحد، وكان ما عدا الأكل تابعًا له، بخلاف موطوأة الأب، والله أعلم. انتهى

(2)

.

3 -

(ومنها): تحريم استعمال شحوم الميتة في أيّ نوع من أنواع الاستعمال.

4 -

(ومنها): أن فيه إبطال كلّ حيلة، يُتوصّل بها إلى تحليل محرّم، وأنه لا يتغيّر حكمه بتغيّر هيئته، وتبدّل اسمه، فإن اليهود أذابوا الشحوم، حتى صارت وَدَكًا، وزال عنها اسم الشحم، ومع ذلك لُعِنوا.

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 7 - 8.

(2)

"إكمال المعلم" 5/ 256 - 257.

ص: 550

قال القاضي عياض رحمه الله: في هذا الحديث إبطال الحيَل، والحجة على من قال بها في إسقاط حدود الشرع من الكوفيين، وفيه الحجة لمالك في مراعاة الذرائع، وسدّ بابها. انتهى

(1)

.

5 -

(ومنها): أن من احتال في استعمال الأشياء المحرّمة، كان ملعونًا؛ لكونه سلك مسلك اليهود الذين لعنهم الله تعالى؛ لانتهاكهم ما حرّم الله تعالى بالاحتيال.

6 -

(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث يدلُّ على أن تحريم الخمر كان متقدِّمًا على فتح مكة، وقد سوَّى في هذا الحديث بين الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام، فلا يجوز بيع شيء مِمَّا يقال عليه خمرٌ، وقد قدّمنا، ويأتي: أن الخمر: كل شراب يُسكر من أيّ شيء كان، من عنب أو غيره، فيحرم بيع قليله وكثيره، وقد قلنا: إن تحريم نفعه مُعَلَّل بنجاسته، وأنه ليس فيه منفعة مسوِّغة شرعًا.

قال الجامع عفا الله عنه: تعليله بالنجاسة فيه نظر، وقد قدّمنا تحقيقه، فلا تنس، والله تعالى أعلم.

قال: وأما الميتة: فيحرم بيع جميع أجزائها، حتى عظمها، وقرنها، ولا يستثنى عندنا منها شيء إلا ما لا تَحُلُّهُ الحياة كالشعر، والصوف، والوبر، فإنه طاهر من الميتة، وينتزع من الحيوان في حال حياته وهو طاهر، وهو قول مالك، وأبي حنيفة. وزاد أبو حنيفة، وابن وهب من أصحابنا إلى ذلك: أن العظم من الفيل وغيره، والسن، والقرن، والظلف، كلها لا تَحُلُّها الحياة، فلا تنجس بالموت.

والجمهور على خلافهما في العظم، وما ذُكر معه، فإنها تَحُلُّها الحياة، وهو الصحيح، فإن العظم والسن يألم، ويُحَسُّ به الحرارة والبرودة، بخلاف الشعر، وهذا معلوم بالضرورة. فأمَّا أطراف القرون، والأظلاف، وأنياب الفيلة: فاختلف فيها، هل حكمها حكم أصولها فتنجس؟ أو حكمها حكم الشَّعر؟ على قولين.

(1)

"إكمال المعلم" 5/ 254.

ص: 551

وأمَّا الريش: فالشعري منه شعرٌ، وأسفله عظم. ومتوسطه؛ هل يلحق بأصله أو بأطرافه؟ فيه قولان لأصحابنا. وقد قال بنجاسة الشعر: الحسن البصري، والليث بن سعد، والأوزاعيّ، لكنها تطهر بالغسل عندهم، فكأنها عندهم نجسة بما يتعلق بها من رطوبات الميتة. وإلى نحو من هذا ذهب ابن القاسم في أنياب الفيل فقال: تطهر إن سُلِقَتْ بالماء.

وعن الشافعي في الشعور ثلاث روايات:

أحدها: أن الشعر ينجس بالموت.

والثانية: أنها طاهرة كقولنا.

والثالثة: أن شعر ابن آدم وحده طاهر، وأن ما عداه نجس.

وأمَّا جلود الميتة: فلا تباع قبل الدباغ، ولا ينتفع بها؛ لأنها كلحم الميتة، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تنتفعوا من الميتة بإهاب، ولا عصب"، وأما بعد الدِّباغ؛ فمشهور مذهب مالك: أنها لا تطهر بالدِّباغ، وإنما ينتفع بها، وهو مذهب جماعة من أهل العلم، وعلى هذا فلا يجوز بيعها، ولا الصلاة عليها، ولا بها، ولا ينتفع بها إلا في اليابسات دون المائعات، إلا في الماء وحده.

وذهب الجمهور من السَّلف، والخلف: إلى أنها تطهر طهارة مطلقة، وأنها يجوز بيعها، والصلاة عليها، وبها، وإليه ذهب الشافعي، ومالك في رواية ابن وهب، وهو الصحيح لقوله صلى الله عليه وسلم:"أيُّما إهاب دبغ فقد طهر"، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"دباغ الإهاب طهوره"، وغير ذلك. وكلها صحيح. ومما لا يجوز بيعه لأنه ميتة جسد الكافر، وقد أُعطي النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الخندق في جسد نوفل بن عبد الله المخزوميّ عشرة الآف درهم، فلم يأخذها، ودفعه إليهم، وقال:"لا حاجة لنا بجسده، ولا ثمنه".

وأمَّا الخنزير، وهو الحيوان المعروف البريُّ، ولا تَعْرِف العرب في البحر خنزيرًا، وقد سُئل مالك عن خنزير البحر؛ فقال: أنتم تسمونه خنزيرًا؟ أي: لا تسمِّيه العرب بذلك. وقد اتَّقاه مرة أخرى على جهة الورع، والله أعلم.

فأمَّا البريّ: فلا خلاف في تحريمه، وتحريم بيعه، وأنه لا تعمل الذكاة فيه، ومن هنا قال كافة العلماء: إن جلده لا يُطَهِّرهُ الدِّباغ، وإنما يُطَهِّرُ الدباغ جلد ما تعمل الذكاة فيه، وألحق الشافعي بالخنزير الكلب، فلا يطهر جلده

ص: 552

عنده، وقال الأوزاعيّ، وأبو ثور: إنما يُطَهِّرُ الدِّباغ جلد ما يؤكل لحمه. وقد أجاز مالك تذكية السِّباع والفيل لأخذ جلودها، وهذا إنما يتم على قوله بكراهة لحومها، وأما على ما قاله في "الموطأ" من أن السِّباع حرام: فلا تعمل الذكاة فيها، فلا تطهر جلودها بالدباغ، كالخنزير.

وقد شذَّ داود، وأبو يوسف فقالا: إنه يطهر بالدِّباغ جلدُ كل حيوان، حتى الخنزير، ومتمسكهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما إهاب دبغ فقد طهر"، ويعتضد أبو يوسف بقياس جلد الخنزير على جلد الميتة.

وينفصل للجمهور عنهما: بأن هذا العموم محمولٌ على نوع السبب الذي أخرجه، وهو ميتة ما تعمل الذكاة فيه، وبأن جلد الخنزير نادرٌ لا يخطر بالبال حالة الإطلاق، فلا يقصد بالعموم، كما قررناه في أصول الفقه.

وبأنه: لا يقال: إهاب إلا على جلد ما يؤكل لحمه، كما قاله النَّضْر بن شُمَيْل.

قال الجامع عفا الله عنه: الصحيح أن الإهاب اسم لكلّ جلد لم يُدبغ، سواء كان لمأكول اللحم، أو غيره، فتبصّر.

قال: وأمَّا القياس: فليس بصحيح؛ لوجود الفرق، وذلك: أن الأصل: ميتة ما تعمل الذَّكاة فيه، والفرع: ميتة ما لا تعمل الذكاة فيه. فكانت أغلظ، وأفحش، والله أعلم.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم في "كتاب الطهارة" أن الصحيح من أقوال أهل العلم أن الدباغ يُطهّر جلود الميتة كلها، الخنزير والكلب، وغيرهما، كما عزاه القرطبيّ هنا إلى داود، وأبي يوسف؛ لقوّة أدلته، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

قال: وأمَّا الأصنام: فهي الصور الْمُتَّخَذَةُ للعبادة، ولا خلاف في تحريم اتخاذها، وبيعها، وإنما يجب كسرها، وتغييرها، وكذلك كل صورة مجسدة، كانت صورة ما يعقل، أو ما لا يعقل، وأما ما كان رقمًا في ثوب أو بناءً في حائط، ففيه تفصيل سيأتي إن شاء الله تعالى.

وقوله -وقد سُئل عن بيع شحوم الميتة-: "لا، هو حرام"؛ نصٌّ في أنه يحرم بيعها؛ وإن كانت فيها منافع، وذلك: لأنها جزء من الميتة كاللحم، أو

ص: 553

هي كالشحم مع اللحم، فإنه عنه يكون، ولا يلزم من تحريم بيعها، والحكم بنجاستها، ألّا يجوز الانتفاع بها، لما قدّمناه. وهذا هو الذي يتمشى على مذهب مالك، فإنه قد أجاز الانتفاع بما ماتت فيه ميتة من المائعات؛ كالزيت، والسمن، والعسل، وغير ذلك، مع الحكم بنجاسته. فقال: يعمل من الزيت النجس الصابون، ويُستصبح به في غير المساجد، ويُعلف العسلُ النحلَ. ويطعم النجس الماشية، وإلى نحو ذلك ذهب الشافعيّ، والثوريّ، وأبو حنيفة. ورُوي عن عليّ وابن عمر رضي الله عنهما، وقد فَرَّق بعض أهل العلم بين شحوم الميتة، وبين ما ينجس بما وقعت فيه نجاسة، فقال: لا ينتفع بالشحوم؛ لأنها نجسة لعينها، بخلاف ما ينجس بما وقع فيه، فإنه ينتفع به؛ لأن نجاسته ليست لِعَينه، بل عارضة.

قال القرطبيّ: وهذا الفرق ليس بصحيح، فإن النجاسة حكم شرعيّ والأحكام الشرعية ليست صفات للأعيان، بل هي راجعة لقول الشارع: افعلوا، أو لا تفعلوا. كما قد حققناه في أصول الفقه. ولو سلّمنا لقلنا: إن النجاسة العينية قد اختلطت مع العارضة ولا مميّز، فحكمهما سواء.

فان قيل: فكيف يجوز أن يقال بجواز الانتفاع بشيء من ذلك، وفي الحديث الصحيح:"إذا وقعت الفأرة في السَّمن، فإن كان جامدًا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعًا فلا تقربوه"، والانتفاع بها قربان لها فلا يجوز؟! ثم في الانتفاع بها التلطخ بها عند مباشرتها، ولا يجوز التلطخ بالنجاسات شرعًا.

فالجواب: القول بموجب ما ذكر، فإن القرب المنهيّ عنه إنما هو الأكل؛ بدليل قوله في أول الحديث:"إن كان جامدًا فألقوها، وكلوه"، وفي بعض طرقه:"وكلوا سمنكم"، ثم قال بعد هذا:"وإن كان مائعًا فلا تقربوه"؛ أي: بأكل، وأيضًا: فقد قررنا في أصول الفقه أن الشرع إذا نهى عن شيء، وأوقع نهيه عليه، فإنما يعني بذلك النهي عما يراد ذلك الشيء له، وإن سكت عنه، كما قال تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]؛ أي بالوطء، وكقوله:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]؛ أي وطؤهن ومقدماته، وكذلك العرف إذا قال العربيّ: لا تقرب الماء؛ أي: لا تشربه، والخبز؛ أي: لا تأكله، وهذا معلوم. وأما النهي عن مباشرة النجاسات: فإنما يُحْمَل على

ص: 554

التحريم عند محاولة فعل الطهارةُ شرطٌ فيه؛ كالصلاة، ودخول المسجد، ونحو ذلك. وأما فيما لم يكن كذلك فلا يكون حرامًا بالاتفاق.

ثم اختلف القائلون بجواز الانتفاع بها، هل يجوز بيع ما يُنتفع به منها أو لا؟ على قولين؛ والصحيح: منع الجواز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "قاتل الله اليهود، نُهوا عن الشحم، فباعوه، وأكلوا ثمنه"، وفي بعض طرقه:"إن الله إذا حرَّم على قوم شيئًا حرَّم عليهم ثمنه". انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4042]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْن الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ -يَعْنِي أَبَا عَاصِمٍ- عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ عَطَاءٌ؛ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ، بِمِثْلِ حَدِيثِ اللَّيْثِ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، تقدّم قبل باب.

3 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة، تقدّم أيضًا قبل باب.

4 -

(عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرِ) بن عبد الله بن الحكم بن رافع الأنصاريّ المدنيّ، صدوق، رُمي بالقدر، وربّما وَهِمَ [6](153)(خت م 4) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 4/ 1195.

5 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل باب.

6 -

(أَبُو عَاصِم الضَّحَّاكُ) بن مخلد النبيل، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

والباقون ذُكروا قبله.

(1)

"المفهم" 4/ 461 - 466.

ص: 555

[تنبيه]: رواية عبد الحميد بن جعفر، عن يزيد بن أبي حبيب هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" 3/ 326 فقال:

(14535)

- ثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد، عن عبد الحميد بن جعفر، قال: أخبرني يزيد بن أبي حبيب؛ أن عطاءَ كتب يذكر أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عامَ الفتح: "إن الله عز وجل ورسوله حَرَّم بيع الخنازير، وبيع الميتة، وبيع الخمر، وبيع الأصنام"، وقال رجل: يا رسول الله، ما ترى في شحوم الميتة؟ فإنها يُدْهَن بها السُّفُنُ، والجلود، ويُستَصبَحُ بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قاتل الله يهودَ، إن الله لَمَّا حَرَّمَ عليهم شحومها، أخذوه، فجَمَلُوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4043]

(1582) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ -وَاللَّفْظُ لأَبِي بَكْرٍ- قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بَلَغَ عُمَرَ أنَّ سَمُرَةَ بَاعَ خَمْرًا، فَقَالَ: قَاتَلَ اللهُ سَمُرَةَ، أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، فَجَمَلُوهَا، فَبَاعُوهَا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم قبل باب.

2 -

(عَمْرُو) بن دينار، تقدّم أيضًا قبل باب.

3 -

(طَاوُسُ) بن كيسان الْحِمْيَريّ مولاهم، أبو محمد اليمانيّ، ثقةٌ فقيه فاضلٌ [3] (106) وقيل: بعد ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وصحابيّ، عن صحابيّ، وفيه ابن عباس رضي الله عنهما من المكثرين السبعة، والعبادلة الأربعة، وفيه عمر رضي الله عنه أحد الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم.

ص: 556

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: بَلَغَ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنه (أَنَّ سَمُرَةَ) بن جندب بن هلال الفَزَاريّ، حليف الأنصار، صحابيّ مشهور، مات رضي الله عنه بالبصرة سنة (58) تقدّمت ترجمته في "المقدمة" 1/ 1. (بَاعَ خَمْرًا) وفي رواية البخاريّ:"بلغَ عمر أن فلانًا باع خمرًا".

قال ابن الجوزيّ، والقرطبيّ رحمه الله وغيرهما: اختُلِفَ في كيفية بيع سمرة رضي الله عنه للخمر على ثلاثة أقوال:

[أحدهما]: أنه أخذها من أهل الكتاب عن قيمة الجزية، فباعها منهم، مُعتَقِدًا جواز ذلك، وهذا حكاه ابن الجوزيّ عن ابن ناصر، ورجّحه، وقال: كان ينبغي له أن يوليهم بيعها، فلا يدخل في محظور، وإن أخذ أثمانها منهم بعد ذلك؛ لأنه لم يتعاط محرَّمًا، ويكون شبيهًا بقصة بريرة حيث قال:"هو عليها صدقة، ولنا هدية".

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن هذا الوجه هو أرجح التأويلات، وأقربها؛ كما لا يخفى على من تأمله، والله تعالى أعلم.

[والثاني]: قال الخطابيّ: يجوز أن يكون باع العصير ممن يتخذه خمرًا، والعصير يسمى خمرًا، كما قد يُسَمَّى العنب به؛ لأنه يئول إليه، قاله الخطابيّ، قال: ولا يُظَنُّ بسمرة أنه باع عين الخمر بعد أن شاع تحريمها، وإنما باع العصير.

[والثالث]: أن يكون خَلَّل الخمر، وباعها، وكان عمر يعتقد أن ذلك لا يُحِلُّها، كما هو قول أكثر العلماء، واعتقد سمرة الجواز، كما تأوله غيره أنه يُحِلّ التخليل، ولا ينحصر الحِلّ في تخلُّلها بنفسها.

قال القرطبيّ تبعًا لابن الجوزيّ: والأشبه الأول.

قال الحافظ: ولا يتعيّن على الوجه الأول أخْذها عن الجزية، بل يَحْتَمَل أن تكون حصلت له عن غنيمة، أو غيرها.

وقد أبدى الإسماعيليّ في "المدخل" فيه احتمالًا آخر، وهو أن سمرة عَلِمَ تحريم الخمر، ولم يعلم تحريم بيعها، ولذلك اقتصر عمر على ذمه دون عقوبته، وهذا هو الظن به.

ص: 557

قال الحافظ: ولم أر في شيء من الأخبار أن سمرة كان واليًا لعمر على شيء من أعماله، إلا أن ابن الجوزيّ أطلق أنه كان واليًا على البصرة لعمر بن الخطاب، وهو وَهَمٌ، فإنما ولي سمرة على البصرة لزياد، وابنه عبيد الله بن زياد بعد عمر بدهر، وولاة البصرة لعمر قد ضُبِطُوا، وليس منهم سمرة.

ويَحْتَمِل أن يكون بعض أمرائها استَعْمَل سمرةَ على قبض الجزية. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي في توهيم ابن الجوزيّ فيما ذكره من كون سمرة واليًا لعمر رضي الله عنهما نظرٌ، وليس كونه واليًا لزياد وابنه أن يكون قبل ذلك واليًا لعمر رضي الله عنه، ولا يكون مجرّد عدم ذكره في ولاة عمر حجة في ذلك؛ لاحتمال أن يكونوا نسوه، فتأمل، والله تعالى أعلم. (فَقَالَ) عمر رضي الله عنه:(قَاتَلَ اللهُ سَمُرَةَ) رضي الله عنه (ألَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ) أي: أبعدهم من رحمته، وطردهم من رأفته (حُرِّمَتْ) بتشديد الراء مبنيًّا للمفعول (عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ) أي: أكلها، وإلا فلو حُرِّم عليهم بيعها لم يكن لهم حيلة فيما صنعوه من إذابتها (فَجَمَلُوهَما) -بفتح الجيم والميم-؛ أي: أذابوها، يقال: جمله يجمُله جَمْلًا، من باب نصر، وأجمله: إذا أذابه، واستخرج دهنه، وجَمَل ثلاثيًّا أفصح من أجمل رباعيًّا، والجميل الشحم المذاب

(2)

.

(فَبَاعُوهَا") أي: الشحوم المذابة من الخمر.

قال في "الفتح": ووجه تشبيه عمر رضي الله عنه بيع المسلمين الخمر ببيع اليهود المذاب من الشحم الاشتراك في النهي عن تناول كل منهما، لكن ليس كل ما حُرِّم تناوله حُرِّم بيعه، كالحمر الأهلية، وسباع الطير، فالظاهر أن اشتراكهما في كون كلٍّ منهما صار بالنهي عن تناوله نجسًا، هكذا حكاه ابن بطال عن الطبريّ، وأقرّه، وليس بواضح، بل كل ما حُرِّم تناوله حُرِّم بيعه، وتناول الحُمُر، والسباع، وغيرهما مما حُرِّم أكله، إنما يتأتى بعد ذبحه، وهو بالذبح

(1)

"الفتح" 5/ 700 - 701.

(2)

راجع: "لسان العرب" 11/ 127.

ص: 558

يصير ميتةً؛ لأنه لا ذكاة له، وإذا صار ميتة صار نجسًا، ولم يجز بيعه، فالإيراد

في الأصل غير وارد.

هذا قول الجمهور، وإن خالف في بعضه بعض الناس.

وأما قول بعضهم: الابن إذا وَرِث جارية أبيه حَرُم عليه وطؤها، وجاز له

بيعها، وأكْلُ ثمنها، فأجاب عياض عنه بأنه تمويه؛ لأنه لم يحرم عليه الانتفاع

بها مطلقًا، وإنما حَرُم عليه الاستمتاع بها؛ لأمر خارجيّ، والانتفاع بها لغيره

في الاستمتاع وغيره حلالٌ إذا ملكها، بخلاف الشحوم، فإن المقصود منها،

وهو الأكل كان محرَّمًا على اليهود في كل حال، وعلى كل شخص، فافترقا.

انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [34/ 4043 و 4044](1582)، و (البخاريّ) في

"البيوع"(2223) و"الأنبياء"(3460)، و (النسائيّ) في "الفرَع والعتيرة" (7/

177) و"الكبرى"(3/ 87 و 6/ 342)، و (ابن ماجه) في (3383)، و (الشافعيّ)

في "مسنده"(2/ 141)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(14854)، و (ابن أبي

شيبة) في "مصنّفه"(6/ 444)، و (الحميديّ) في "مسنده"(13)، و (أحمد) في

"مسنده"(1/ 25)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 115)، و (أبو عوانة) في "مسنده"

(3/ 471)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(577)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"

(6252 و 6253)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1/ 178)، و (البيهقيّ) في

"الكبرى"(8/ 286)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2041)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم بيع الخمر، وقد نَقَل ابن المنذر وغيره في ذلك

الإجماع، وشَذَّ من قال: يجوز بيعها، ويجوز بيع العنقود المستحيل باطنه

(1)

"الفتح" 5/ 701 - 702.

ص: 559

خمرًا، واختُلِف في علة ذلك، فقيل: لنجاستها، وقيل: لأنه ليس فيها منفعة مباحة مقصودة، وقيل: للمبالغة في التنفير عنها.

2 -

(ومنها): بيان جواز لعن العاصي المعيَّن، ولكن يَحْتَمِل أن يقال: إن قول عمر: قاتل الله سمرة لم يُرِد به ظاهره، بل هي كلمة تقولها العرب عند إرادة الزجر، فقالها في حقّه تغليظًا عليه.

3 -

(ومنها): أن فيه إقالةَ ذوي الهيآت زلاتهم؛ لأن عمر اكتَفَى بتلك الكلمة عن مزيد عقوبة ونحوها.

4 -

(ومنها): فيه إبطال الحيل، والوسائل إلى المحرَّمة.

5 -

(ومنها): أن الشيء إذا حُرِّم عينه حُرِّم ثمنه.

6 -

(ومنها): أنّ فيه دليلًا على أن بيع المسلم الخمر من الذميّ لا يجوز، وكذا توكيل المسلم الذميّ في بيع الخمر، وأما تحريم بيعها على أهل الذمة، فمبنيّ على الخلاف في خطاب الكافر بالفروع.

7 -

(ومنها): أن فيه استعمالَ القياس في الأشباه والنظائر.

8 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على تحريم بيع جثة الكافر إذا قتلناه، وأراد الكافر شراءه.

9 -

(ومنها): أنه استُدلّ به على منع بيع كل محرّم نجس، ولو كان فيه منفعة، كالسرقين، وأجاز ذلك الكوفيون، وذهب بعض المالكية إلى جواز ذلك للمشتري دون البائع؛ لاحتياج المشتري دونه، ذكر ذلك كلّه في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4044]

(

) - (حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ -يَعْنِي ابْنَ الْقَاسِمِ- عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

(1)

"الفتح" 5/ 701 - 702.

ص: 560

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ) العيشيّ، أبو بكر البصريّ، صدوقٌ [10](ت 231)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

2 -

(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) العيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت (182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

3 -

(رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ) التميميّ الْعَنبريّ، أبو غياث البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [6](ت 141)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

و"عمرو بن دينار" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية روح بن القاسم، عن عمرو بن دينار هذه ساقها أبو عوانة في "مسنده" 3/ 371 فقال:

(5357)

- حدّثنا عباس الدُّوريّ، قثنا

(1)

أبو أمية بن بسطام

(2)

، قثنا يزيد بن زُريع، عن رَوْح بن القاسم، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس، عن عمر بن الخطاب؛ أنه قال: قاتل الله فلانًا حين يبيع الخمر، أما والله لقد سمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في يهود:"حُرِّمت عليهم الشحوم، فجملوها، ثم باعوها". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4045]

(1583) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ؛ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ، حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمُ الشُّحُومَ، فَبَاعُوهَا، وَأَكَلُوا أثْمَانَهَا").

(1)

مختصر من " قال: حدّثنا".

(2)

كذا وقع في النسخة: "أبو أميّة بن بسطام"، والصواب "أميّة بن بسطام"، كما هو في "صحيح مسلم"، فتنبّه.

ص: 561

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم تقدّموا في الباب، وقبل باب، وكذا شرح الحديث، وفوائده قد تقدّمت في الأحاديث الماضية، فلا حاجة إلى إعادتها.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [34/ 4045 و 4046](1583)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2224)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 362 و 512)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 371 - 372)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4046]

(

) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَ عَلَيْهِمُ الشَّحْمُ، فَبَاعُوهُ، وَأَكَلُوا ثَمَنَهُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وقد تقدّموا قبل باب، وكذا شرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(35) - (بَابُ الرِّبَا)

الرِّبا في اللغة: الزيادة مطلقًا، يقال: ربا الشيءُ، يربو: إذا زاد، ومنه الحديث:"فلا والله ما أخذنا من لقمة إلا رَبَا من تحتها"، متّفقٌ عليه؛ يعني به الطَّعام الذي دعا فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم بالبركة.

ثم إن الشرع قد تصرَّف في هذا الإطلاق، فقصَرَه على بعض موارده، فمرَّة أطلقه على اكتساب الحرام كيفما كان، كما قال تعالى في اليهود:{وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161]، ولم يُرِد به الرِّبا الشرعيَّ الذي

ص: 562

حُكم بتحريمه علينا؛ وإنما أراد المال الحرام، كما قال تعالى:{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42]؛ يعني به المال الحرام من الرشا، ومما استحلوه من أموال الأميين حيث قالوا:{لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75]، وعلى هذا: فيدخل فيه النهي عن كل مال حرام بأيّ وجه اكتُسِب.

والربا الذي غلب عليه عُرْفُ الشرع: تحريم النَّساء، والتفاضل في النقود، وفي المطعومات، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى، قاله أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله في "المفهم"

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: الربا مقصور، وهو من ربا يربو، فيكتب بالألف، وتثنيته رِبوان، وأجاز الكوفيون كَتْبه، وتثنيته بالياء؛ لسبب الكسرة في أوله، وغَلَّطهم البصريون، قال العلماء: وقد كتبوه في المصحف بالواو، وقال الفراء: إنما كتبوه بالواو؛ لأن أهل الحجاز تعلموا الخط من أهل الْحِيرة، ولغتهم الربو، فعلّموهم صورة الخط على لغتهم، قال: وكذا قرأها أبو سماك العدويّ بالواو، وقرأ حمزة، والكسائيّ بالإمالة بسبب كسرة الراء، وقرأ الباقون بالتفخيم؛ لفتحة الياء، قال: ويجوز كتبه بالألف، والواو، والياء، وقال أهل اللغة: والرِّمَاء بالميم، والمدّ هو الربا، وكذلك الرُّبية بضم الراء، والتخفيف لغة في الربا، وأصل الربا: الزيادة، يقال: ربا الشيء يربو: إذا زاد، وأربى الرجل، وأربى عامل بالربا. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الربا: الفضل، والزيادة، وهو مصدر على الأشهر، ويُثنّى رِبَوَان بالواو على الأصل، وقد يقال: رِبيان على التخفيف، ويُنسب إليه على لفظه، فيقال: رِبويّ. قاله أبو عُبيد وغيره: وزاد الْمُطرِّزِيّ، فقال: الفتح في النسبة خطأ، وَرَبَا الشيءُ يربو: إذا زاد، وأربى الرجل بالألف: دخل في الربا. انتهى

(3)

.

وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في "تفسيره": والربا في اللغة: الزيادة

(1)

"المفهم" 4/ 472 - 473.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 8 - 9.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 217.

ص: 563

مطلقًا، يقال: ربا الشيء يربو: إذا زاد، ومنه حديثُ مسلمٍ:"فلا والله ما أخذنا من لقمة، إلا ربا من تحتها": يعني الطعام الذي دعا فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم بالبركة.

قال: وقياس كتابته بالياء؛ للكسرة في أوله، وقد كتبوه في القرآن بالواو. وقال أيضًا: اختلف النحاة في لفظ "الربا"، فقال البصريون: هو من ذوات الواو؛ لأنك تقول في تثنيته: ربوان، قاله سيبويه، وقال الكوفيون: يكتب بالياء، وتثنيته بالياء؛ لأجل الكسرة التي في أوله، قال الزجاج: ما رأيت خطأ أقبح من هذا، ولا أشنع، لا يكفيهم الخطأ في الخط، حتى يخطئوا في التثنية، وهم يقرءون:{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ ف} [الروم: 39]، قال محمد بن يزيد: كتب الربا في المصحف بالواو؛ فرقًا بينه وبين الزنا، وكان الربا أولى منه بالواو؛ لأنه من ربا يربو.

قال: ثم إن الشرع قد تصرف في هذا الإطلاق، فقصره على بعض موارده، فمرة أطلقه على كسب الحرام، كما قال الله تعالى في اليهود:{وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} الآية [النساء: 161]، ولم يرد به الربا الشرعيّ الذي حَكَم بتحريمه علينا، وإنما أراد المال الحرام، كما قال تعالى:{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42] يعني به المال الحرام، من الرشا، وما استحلوه من أموال الأميين، حيث قالوا:{لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75]، وعلى هذا فيدخل فيه النهي عن كل مال حرام، بأيّ وجه اكتُسب.

والربا الذي عليه عرف الشرع شيئان: تحريم النساء، والتفاضل في العقود، وفي المطعومات على ما نبينه، وغالبه ما كانت العرب تفعله، ومن قولها للغريم: أتقضي، أم تربي؟ فكان الغريم يزيد في عدد المال، ويصبر الطالب عليه، وهذا كله محرَّم باتفاق الأمة.

قال: أكثر البيوع الممنوعة، إنما تجد منعها لمعنى زيادة، إما في عين مال، وإما في منفعة لأحدهما، من تأخير، ونحوه، ومن البيوع ما ليس فيه معنى الزيادة، كبيع الثمرة قبل بُدُوّ صلاحها، وكالبيع ساعة النداء يوم الجمعة، فإن قيل لفاعلها: آكل الربا، فتجوُّز وتشبيه. انتهى كلام القرطبيّ

ص: 564

المفسّر رحمه الله

(1)

.

وقال ابن قُدامة رحمه الله: الربا في اللغة: هو الزيادة، قال الله تعالى:{فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الحج: 5]، وقال:{أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} [النحل: 92] أي: أكثر عددًا، يقال: أربى فلانٌ على فلان: إذا زاد عليه.

وهو في الشرع: الزيادة في أشياء مخصوصة، وهو محرَّم بالكتاب، والسنة، والإجماع.

أما الكتاب فقول الله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، وما بعدها من الآيات، وأما السنة فقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اجتنبوا السبع الموبقات"، قيل: يا رسول الله ما هي؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حَرَّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات"، متّفقٌ عليه، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه "لَعَن آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه"، مُتَّفق عليه، في أخبار سوى هذين كثيرة، وأجمعت الأمة على أن الربا محرَّم. انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4047]

(1584) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ""لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلهم تقدّموا في الباب الماضي، وقبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (271) من رباعيّات الكتاب.

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" 3/ 348.

(2)

"المغني" لابن قُدامة رحمه الله 4/ 25.

ص: 565

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا) ناهية، ولذا جُزم الفعل بعدها (تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ) يدخل في الذهب جميع أصنافه، من مضروب، ومنقوش، وجَيِّد، ور ديء، وصحيح، ومُكَسَّر، وحلي، وتِبْرٍ، وخالص، ومغشوش، ونقل النوويّ تبعًا لغيره في ذلك الإجماع

(1)

. (إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ) منصوب على الحال؛ أي: إلا متماثلين، وفي رواية أبي صالح السمّان، عن أبي سعيد الآتية:"إلا وزنًا بوزن، مِثلًا بمثل، سواءً بسواء"(وَلَا تُشِفُّوا) بضم حرف المضارعة، وكسر الشين المعجمة، وتشديد الفاء؛ أي: لا تُفَضِّلوا، وهو رباعيّ، من أشفّ، والشِفّ بالكسر: الزيادة، ويطلق على النقصان، فهو من الأضداد، يقال: شفّ الدرهم بفتح الشين يَشِفّ بكسرها: إذا زاد، وإذا نقص، وأشفّه غيره يُشِفّه

(2)

، ذكره النوويّ رحمه الله.

وقال الفيّوميّ: شفّ الشيءُ يَشِفّ شَفًّا، مثلُ حَمَلَ يَحْمِلُ حَمْلًا: إذا زاد، وقد يُستعمل في النقص أيضًا، فيكون من الأضداد، يقال: هذا يَشِفّ قليلًا؛ أي: ينقُص، وأشففتُ هذا على هذا؛ أي: فضّلتُ. انتهى

(3)

.

وقال التوربشتيّ: قوله: "ولا تُشفّوا" أي: لا تفضّلوا، والشِّفّ بالكسر: الفضل والربح، والشِّفّ أيضًا النقصان، وكلمة "على" هي الفارقة في هذا الحديث بين الزيادة والنقصان. انتهى

(4)

.

(بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ) الضمير للذهب؛ لأنه يجوز تأنيثه، قال الجوهريّ: الذهب معروف، وربّما أُنّث. انتهى.

وقال الفيّوميّ: الذَّهَبُ: معروف، ويُؤَنَّث، فيقال: هي الذَّهَبُ الحمراء، ويقال: إن التأنيث لغة الحجاز، وبها نزل القرآن، وقد يؤنث با لهاء، فيقال: ذَهَبَةٌ، وقال الأزهريّ: الذَّهَبُ مذكَّر، ولا يجوز تأنيثه، إلا أن يُجعل جمعًا لذَهَبَةٍ، والجمع: أَذْهَابٌ، مثل سبب وأسباب، وذُهْبَانٌ، مثل رُغْفَان، وأَذْهَبْتُهُ، بالألف: مَوَّهته بالذهب. انتهى

(5)

.

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 9.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 10.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 317 - 318.

(4)

"الكاشف عن حقائق السنن" 7/ 2127.

(5)

"المصباح المنير" 1/ 210.

ص: 566

(وَلَا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ) قال الفيّوميّ رحمه الله: الْوَرِق بكسر الراء، وتُسكّن تخفيفًا: النُّقْرة

(1)

المضروبةَ، ومنهم من يقول: النُّقْرة مضروبةً كانت، أو غير مضروبة، قال الفارابيّ: الْوَرِقُ: المال من الدراهم، ويُجمع على أوراق، والرِّقَةُ بوزن عِدَة مثلُ الورق

(2)

.

وقال الجوهريّ رحمه الله: الوَرْقُ: الدراهمُ المضروبة، وكذلك الرِقة، والهاء عوضٌ من الواو. وفي الحديث:"في الرِقَةِ رُبْعُ العُشْرِ"، ويجمع رِقينَ، مثل إرَةٍ وإرينَ. ومنه قولهم: إن الرِقينَ تغطِّي أَفْنَ الأَفينَ. وتقول في الرفع: هذه الرِقونَ. وفي الوَرْقِ ثلاث لغات حكاهنَّ الفراء: وَرِقٌ ووِرْقٌ ووَرْقٌ. ورجلٌ وَرَّاقٌ، وهو الذي يُوَرِّقُ ويكتب. ووَرَّاقٌ أيضًا: كثير الدراهم. قال الراجز:

جاريةٌ من ساكِني العِراقِ

تأكل من كِيسِ امريءٍ وَرَّاقِ

قال ابن الأعرابيّ؛ أي: كثير الورق والمال. انتهى

(3)

.

(إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ") بنون، وجيم وزاي؛ أي: مُؤَجَّلًا بحالّ، والمراد بالغائب أعمّ من المؤجل، كالغائب عن المجلس مطلقًا، مؤجلًا كان أو حالًّا، والناجز الحاضر.

قال ابن بطال: فيه حجة للشافعيّ في قوله: من كان له على رجل دراهم، ولآخر عليه دنانير لم يجز أن يقاصّ أحدهما الآخر بما له؛ لأنه يدخل في معنى بيع الذهب بالورق دَينًا؛ لأنه إذا لم يجز غائب بناجز، فأحرى أن لا يجوز غائب بغائب.

وأما الحديث الذي أخرجه أصحاب "السنن" عن ابن عمر، قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع، أبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم، وآخذ الدنانير، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال:"لا بأس به إذا كان بسعر يومه، ولم تفترقا وبينكما شيء"، فلا يدخل في بيع الذهب بالورق دينًا؛ لأن النهي بقبض الدراهم عن الدنانير لم يقصد إلى التأخير في الصرف، قاله

(1)

"النُّقْرة" بالضمّ: الفضّة.

(2)

راجع: "المصباح" 2/ 655.

(3)

"الصحاح في اللغة" 2/ 275.

ص: 567

ابن بطال

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثمانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [35/ 4047 و 4048 و 4049 و 4050](1584)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2176 و 2177)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(3/ 543)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 278 - 279) و"الكبرى"(4/ 30)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 632 و 633)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 157)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2181)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 4 و 9 و 53 و 61 و 73)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(649)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 517)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5016)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 375)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 276) و "الصغرى"(5/ 30) و"المعرفة"(4/ 287 و 288 و 289)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2061)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم الربا، وهو مجمع عليه.

2 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: وقد أجمع العلماء على تحريم بيع الذهب بالذهب، أو بالفضة مؤجلًا، وكذلك الحنطة بالحنطة، أو بالشعير، وكذلك كل شيئين اشتركا في علة الربا، أما إذا باع دينارًا بدينار، كلاهما في الذمّة، ثم أخرج كل واحد الدينار، أو بعث من أحضر له دينارًا من بيته، وتقابضا في المجلس فيجوز بلا خلاف عند أصحابنا؛ لأن الشرط أن لا يتفرقا بلا قبض، وقد حصل، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الرواية التي بعد هذه:"ولا تبيعوا شيئًا غائبًا منها بناجز، إلا يدًا بيد"، وأما قول القاضي عياض: اتَّفَق العلماء على أنه لا يجوز بيع أحدهما بالآخر، إذا كان أحدهما مؤجلًا، أو غاب عن

(1)

"شرح ابن بطّال على البخاريّ" 6/ 305.

ص: 568

المجلس فليس كما قال، فإن الشافعيّ وأصحابه وغيرهم متفقون على جواز الصُّوَر التي ذكرتها، والله أعلم. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): أنه استُدِلّ بقوله: "مثلًا بمثل" على بطلان البيع بقاعدة مُدّ عَجْوَة، وهو أن يبيع مُدَّ عَجْوة ودينارًا بدينارين مثلًا، وأصرح من ذلك في الاستدلال على المنع حديث فَضَالة بن عُبيد الآتي عند مسلم بعد بابين في ردّ البيع في القلادة التي فيها خَرَزٌ وذهب، حتى تُفَصَّل، وفي رواية أبي داود: فقلت: إنما أردت الحجارة، فقال:"لا حتى تميّز بينهما".

4 -

(ومنها): ما قاله ابن بطّال رحمه الله: في هذا الحديث حجة للشافعيّ في قوله: إن من كان له على رجل دراهم، ولذلك الرجل عليه دنانير فلا يجوز أن يقاصّ أحدهما ماله بما له عليه، وإن كان قد حَلّ أجلهما جميعًا؛ لأنه يدخل في معنى نهيه صلى الله عليه وسلم بيع الذهب بالورق دينًا؛ لأنه غائب بغائب، وإذا لم يجز غائب بناجز، فأحرى أن لا يجوز غائب بغائب، وأجاز ذلك مالك إذا كان قد حَلَّا جميعًا، فإن كانا إلى أجل لم يجز؛ لأنه يكون ذهب بفضة متأخرًا.

وقال أبو حنيفة: يجوز في الحالّ وغير الحالّ، والحجة لمالك في إجازته ذلك في الحال دون الأجل أنه إذا حلّ أجل الدين، واجتمع المتصارفان فإن الذمم تبرأ كالعين إذا لم يفترقا إلا وقد تفاضلا في صرفهما، والغائب لا يحل بيعه بناجز، ولا بغائب مثله، ومن حجته حديث ابن عمر أنه قال:"كنت أبيع الإبل بالبقيع أبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ بالدنانير، فسألت رسول الله عن ذلك فقال: "لا بأس به إذا كان بسعر يومكما، ولم تفترقا وبينكما شيء". رواه سماك بن حرب عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر.

وحجة من أجاز ذلك في الحال وغير الحال أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما لم يسأله عن الدين أحالّ هو أم مؤجل، دلّ ذلك على استواء الحكم فيهما، ولو كان بينهما فرق في الشريعة لوقفه عليه.

وأما تقاضي الدنانير من الدراهم، والدراهم من الدنانير من غير دين يكون على الآخر، فأجازه عمر بن الخطاب وابن عمر، وروي عن عطاء،

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 10 - 11.

ص: 569

وطاوس، والحسن، والقاسم، وبه قال مالك، والثوريّ، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وقال كثير منهم: إذا كان بسعر يومه، ورخّص فيه أبو حنيفة بسعر ذلك اليوم وبأغلى وأرخص، وكَرِه ذلك ابن عباس، وأبو سلمة، وابن شبرمة، وهو قول الليث، ورُوي عن طاوس قول ثالث: أنه كَرِه في البيع، وأجازه في القرض، وقال ابن المنذر: والقول الأول أولى؛ لحديث ابن عمر.

قال: ولا يدخل هذا في نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينًا؛ لأن الذي

يقتضي الدنانير من الدراهم لم يقصد إلى تأخير في الصرف، ولا نواه، ولا عَمِل عليه، فهذا الفرق بينهما. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): قال ابن قُدامة رحمه الله: الربا على ضربين: ربا الفضل، وربا النسيئة، وأجمع أهل العلم على تحريمهما، وقد كان في ربا الفضل اختلاف بين الصحابة، فحُكي عن ابن عباس، وأسامة بن زيد، وزيد بن أرقم، وابن الزبير رضي الله عنهم؛ أنهم قالوا: إنما الربا في النسيئة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ربا إلا في النسيئة"، رواه البخاريّ، والمشهور من ذلك قول ابن عباس، ثم إنه رجع إلى قول الجماعة، رَوَى ذلك الأثرم بإسناده، وقاله الترمذيّ، وابن المنذر، وغيرهم، وقال سعيد، بإسناده عن أبي صالح، قال: صحبت ابن عباس حتى مات، فوالله ما رجع عن الصرف، وعن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس قبل موته بعشرين ليلة عن الصرف؟ فلم ير به بأسًا، وكان يأمر به، والصحيح قول الجمهور؛ لحديث أبي سعيد الخدريّ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل، ولا تُشِفُّوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلًا بمثل، ولا تشفّوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا غائبًا بناجز"، ولحديث أبي سعيد رضي الله عنه أيضًا في قضة بلال رضي الله عنه المذكور في الباب، مُتّفقٌ عليهما، قال الترمذيّ رحمه الله: على حديث أبي سعيد رضي الله عنه العملُ عند أهل العلم، من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وقولُ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا ربا إلا في

(1)

"شرح ابن بطال على البخاريّ" 11/ 317.

ص: 570

النسيئة" محمول على الجنسين. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): قال ابن قُدامة رحمه الله أيضًا: وقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الربا أحاديث كثيرة، ومن أتمها ما رَوَى عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:"الذهب بالذهب مثلًا بمثل، والفضة بالفضة مثلًا بمثل، والتمر بالتمر مثلًا بمثل، والبُر بالبر مثلًا بمثل، والملح بالملح مثلًا بمثل، والشعير بالشعير مثلًا بمثل، فمن زاد، أو ازداد فقد أربى، بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدًا بيد، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم يدًا بيد، وبيعوا الشعير بالتمر، كيف شئتم يدًا بيد"، رواه مسلم.

فهذه الأعيان المنصوص عليها، يثبت الربا فيها بالنصّ، والإجماع، واختَلَف أهل العلم فيما سواها، فحُكي عن طاوس وقتادة: أنهما قصرا الربا عليها، وقالا: لا يجري في غيرها، وبه قال داود، ونُفاة القياس، وقالوا: ما عداها على أصل الإباحة؛ لقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} الآية [البقرة: 275]، واتفق القائلون بالقياس، على أن ثبوت الربا فيها بعلّة، وأنه يثبت في كل ما وُجدت فيه علتها؛ لأن القياس دليل شرعيّ، فيجب استخراج علة هذا الحكم، وإثباته في كل موضع وُجدت علّته فيه، وقول الله تعالى:{وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] يقتضي تحريم كل زيادة، إذ الربا في اللغة الزيادة، إلا ما أجمعنا على تخصيصه، وهذا يعارض ما ذكروه، ثم اتفق أهل العلم على أن ربا الفضل، لا يجري إلا في الجنس الواحد، إلا سعيد بن جبير، فإنه قال: كل شيئين يتقارب الانتفاع بهما، لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلًا؛ كالحنطة بالشعير، والتمر بالزبيب، والذُّرة بالدُّخْن؛ لأنهما يتقارب نفعهما، فجريا مجرى نوعي جنس واحد، وهذا يخالف قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"بيعوا الذهب بالفضة، كيف شئتم يدًا بيد، وبيعوا البر بالتمر، كيف شئتم"، فلا يُعَوَّل عليه، ثم يَبْطُل بالذهب بالفضة، فإنه يجوز التفاضل فيهما، مع تقاربهما، واتفق المعلِّلُون على أن علة الذهب والفضة واحدة، وعلّة الأعيان الأربعة واحدة، ثم اختلفوا في علة كل واحد منهما:

فرُوي عن أحمد في ذلك ثلاث روايات:

ص: 571

أشهرهنّ: أن علة الربا في الذهب والفضة كونه موزونَ جنسٍ، وعلةُ الأعيان الأربعة مكيلَ جنسٍ، نقلها عن أحمد الجماعة، وذكرها الخرقي، وابن موسى، وأكثر الأصحاب، وهو قول النخعيّ، والزهريّ، والثوريّ، وإسحاق، وأصحاب الرأي، فعلى هذه الرواية يجري الربا في كل مكيل، أو موزون بجنسه، مطعومًا كان، أو غير مطعوم؛ كالحبوب، والأشنان، والنُّورة، والقطن، والصوف، والكتّان، والوَرْس، والحنّاء، والعصفر، والحديد، والنحاس، ونحو ذلك، ولا يجري في مطعوم، لا يكال ولا يوزن؛ لما رَوَى ابنُ عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين، ولا الصاع بالصاعين، فإني أخاف عليكم الرَّمَاء"، وهو الربا، فقام إليه رجل، فقال: يا رسول الله، أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس، والنجيبة بالإبل، فقال:"لا بأس إذا كان يدًا بيد"، رواه الإمام أحمد في "المسند"، عن أبي جناب، عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنهما

(1)

.

وعن أنس رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "ما وُزن مثلًا بمثل، إذا كان نوعًا

واحدًا، وما كيل مثلًا بمثل، إذا كان نوعًا واحدًا"، رواه الدارقطنيّ

(2)

، رواه

عن ابن صاعد، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أحمد بن محمد بن أيوب، عن أبي بكر بن عياش، عن الربيع بن صَبِيح، عن الحسن، عن عبادة، وأنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال: لم يروه غير أبي بكر عن الربيع هكذا، وخالفه جماعة، فرووه عن الربيع، عن ابن سيرين، عن عبادة، وأنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، بلفظ غير هذا اللفظ.

وعن عمار: أنه قال: "العبد خير من العبدين، والثوب خير من الثوبين، فما كان يدًا بيد، فلا بأس به، إنما الربا في النساء، إلا ما كيل أو وزن"، ولأن قضية البيع المساواة، والمؤثر في تحقيقها الكيل والوزن والجنس، فإن

(1)

حديث ضعيف؛ لأن في سنده أبا جناب الكلبيّ يحيى بن أبي حيّة، ضعّفوه؛ لكثرة تدليسه، وأبو حيّة الكلبيّ مجهول.

(2)

في إسناده الربيع بن صَبِيح صدوقٌ سيّئ الحفظ، وأبو بكر بن عيّاش لَمّا كبر ساء حفظه.

ص: 572

الوزن أو الكيل، يُسَوّي بينهما صورة، والجنس يسوي بينهما معنى، فكانا علة، ووجدنا الزيادة في الكيل محرّمة، دون الزيادة في الطعم، بدليل بيع الثقيلة بالخفيفة، فإنه جائز إذا تساويا في الكيل.

[الرواية الثانية عن أحمد]: أن العلة في الأثمان الثمنية، وفيما عداها كونه مطعوم جنس، فيختص بالمطعومات، ويخرج منه ما عداها، قال أبو بكر: رَوَى ذلك عن أحمد جماعةٌ، ونحوَ هذا قال الشافعيّ، فإنه قال: العلة الطعم، والجنس شرط، والعلة في الذهب والفضة جوهرية الثمنية غالبًا، فيختص بالذهب والفضة؛ لِمَا رَوَى معمر بن عبد الله رضي الله عنه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلًا بمثل"، رواه مسلم، ولأن الطعم وصفُ شَرَفٍ؛ إذ به قوام الأبدان، والثمنية وصف شرف، إذ بها قوام الأموال، فيقتضي التعليل بهما، ولأنه لو كانت العلة في الأثمان الوزن، لم يجز إسلامهما في الموزونات؛ لأن أحد وصفي علة ربا الفضل يكفي في تحريم النساء.

[والرواية الثالثة عنه]: العلة فيما عدا الذهب والفضة، كونه مطعومَ جنسٍ، مكيلًا، أو موزونًا، فلا يجري الربا في مطعوم، لا يكال ولا يوزن؛ كالتفاح، والرمان، والخوخ، والبطيخ، والكُمَّثْرَى، والأترج، والسفرجل، والإِجّاص، والخيار، والجوز، والبيض، ولا فيما ليس بمطعوم؛ كالزعفران، والأشنان، والحديد، والرصاص، ونحوه، ويروى ذلك عن سعيد بن المسيِّب، وهو قديم قولي الشافعيّ؛ لِمَا رُوي عن سعيد بن المسيِّب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:"لا ربا إلا فيما كيل، أو وُزن مما يؤكل أو يشرب"، أخرجه الدارقطني، وقال: الصحيح أنه من قول سعيد، ومن رفعه فقد وَهِمَ، ولأن لكل واحد من هذه الأوصاف أثرًا، والحكم مقرون بجميعها في المنصوص عليه، فلا يجوز حذفه، ولأن الكيل والوزن والجنس، لا يقتضي وجوب المماثلة، وإنما أثره في تحقيقها في العلة ما يقتضي ثبوت الحكم، لا ما تحقق شرطه، والطعم بمجرده لا تتحقق المماثلة به؛ لعدم المعيار الشرعيّ فيه، وإنما تجب المماثلة في المعيار الشرعيّ، وهو الكيل والوزن، ولهذا وجبت المساواة في المكيل كيلًا، وفي الموزون وزنًا، فوجب أن يكون الطعم معتبرًا في المكيل والموزون، دون غيرهما.

ص: 573

والأحاديث الواردة في هذا الباب يجب الجمع بينها، وتقييد كل واحد منها بالآخر، فنَهيُ النبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام، إلا مثلًا بمثل، يتقيد بما فيه معيار شرعيّ، وهو الكيل والوزن، ونهيه عن بيع الصاع بالصاعين، يتقيد بالمطعوم المنهيّ عن التفاضل فيه.

وقال مالك رحمه الله: العلة القوت، أو ما يصلح به القوت، من جنس واحد من المدَّخَرات. وقال ربيعة: يجري الربا فيما تجب فيه الزكاة، دون غيره، وقال ابن سيرين: الجنس الواحد علة، وهذا القول لا يصح؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم، في بيع الفرس بالأفراس، والنجيبة بالإبل:"لا بأس به إذا كان يدًا بيد"

(1)

، ورُوي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ابتاع عبدًا بعبدين، رواه أبو داود، والترمذي، وقال: هو حديث حسن صحيح

(2)

.

وقول مالك يَنتقض بالحطب والإدام، يُستصلَح به القوت، ولا ربا فيه عنده، وتعليل ربيعة ينعكس بالملح، والعكس لازم عند اتحاد العلة.

والحاصل أن ما اجتمع فيه الكيل والوزن والطعم من جنس واحد، ففيه الربا رواية واحدة؛ كالأرز، والدُّخْن، والذرة، والقطنيات، والدهن، والخل، واللبن، واللحم ونحوه، وهذا قول أكثر أهل العلم، قال ابن المنذر: هذا قول علماء الأمصار، في القديم والحديث، سوى قتادة، فإنه بلغني أنه شَذّ عن جماعة الناس، فقصر تحريم التفاضل على ستة أشياء، وما انعدم فيه الكيل والوزن والطعم، واختلف جنسه فلا ربا فيه، رواية واحدة، وهو قول أكثر أهل العلم؛ كالتين، والنوى، والقَتّ، والماء، والطين الأرمني، فإنه يؤكل دواءً، فيكون موزونا مأكولًا، فهو إذًا من القسم الأول، وما عداه إنما يؤكل سَفَهًا، فجرى مجرى الرَّمْل، والحصى. وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة:"لا تأكلي الطين، فإنه يصفر اللون"

(3)

، وما وجد فيه الطعم وحده، أو الكيل أو

(1)

تقدّم قريبًا أنه حديث ضعيف، فلا تنسَ.

(2)

بل رواه مسلم في "صحيحه" برقم (1602).

(3)

قال ابن القيّم رحمه الله في "زاد المعاد"(4/ 337): وكلّ حديث في الطين، فإنه لا يصحّ، ولا أصل له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 574

الوزن من جنس واحد، ففيه روايتان، واختلف أهل العلم فيه، والأولى -إن شاء الله تعالى - حِلّه؛ إذ ليس في تحريمه دليل موثوق به، ولا معنى يُقَوِّي التمسك به، وهي مع ضعفها يعارض بعضها بعضًا، فوجب اطّراحها، أو الجمع بينها، والرجوع إلى أصل الحِل، الذي يقتضيه الكتاب والسنة والاعتبار.

ولا فرق في المطعومات، بين ما يؤكل قوتًا؛ كالأرز، والذرة، والدخن، أو أُدْمًا؛ كالقطنيات، واللبن، واللحم، أو تفكهًا؛ كالثمار، أو تداويًا؛ كالأهليلج، والسقمونيا، فإن الكل في باب الربا واحد. انتهى، كلام ابن قدامة رحمه الله

(1)

، وهو تحقيق نفيس، والله تعالى أعلم.

وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله: في تحريم التفاضل في الأصناف الستّة: الذهب، والفضّة، والحنطة، والشعير، والتمر، والملح، هل هو التماثل؟ وهو الكيل والوزن، أو هو الثمنيّة والطعم، أو هو الثمنيّة، والتماثل مع الطعم، والقوت، وما يصلحه؟ أو النهي غير معلّل، والحكم مقصور على مورد النصّ؟ على أقوال مشهورة:

[الأول]: مذهب أبي حنيفة، وأحمد في أشهر الروايات عنه.

[والثاني]: قول الشافعيّ، وأحمد في رواية.

[والثالث]: قول أحمد في رواية ثالثة، اختارها أبو محمد، وقول مالك قريب من هذا، وهذا القول أرجح من غيره.

[والرابع]: قول داود، وأصحابه، ويُروَى عن قتادة، ورجّح ابن عقيل هذا القول في "مفرداته"، وضعّف الأقوال المتقدّمة، وفيها قولٌ شاذّ: أن العلّة الماليّة، وهو مخالف للنصوص، ولإجماع السلف، والاتّحاد في الجنس شرط على كلّ قول من ربا الفضل.

قال: والأظهر أن علّة تحريم الربا في الدنانير والدراهم هو الثمنيّة، لا الوزن، كما قاله جمهور العلماء، ولا يحرم التفاضل في سائر الموزونات؛ كالرصاص، والحديد، والحرير، والقطن، والكتّان، ومما يدلّ على ذلك اتّفاق

(1)

"المغني" 6/ 53 - 58.

ص: 575

العلماء على جواز إسلام النقدين في الموزونات، وهذا بيع موزون بموزون إلى أجل، فلو كانت العلة الوزن لم يجُز هذا.

قال: والتعليل بالثمنيّة تعليل بوصف مناسب، فإن المقصود من الأثمان أن تكون معيارًا للأموال، يُتوسل بها إلى معرفة مقادير الأموال، ولا يقصد الانتفاع بعينها. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله باختصار

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي أشار إليه شيخ الإسلام رحمه الله في كلامه السابق من أن الربا يجري بين كلّ ما يصلح ثمنًا للأشياء، وكل ما يكال، أو يوزن من الطعم، أو القوت، إذا بيع بجنسه متفاضلًا، أو مثلًا بمثل من غير قبض في المجلس، هو الأرجح عندي؛ لقوّة مُدْرَكه، كما بيّنه رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): قال ابن قُدامة رحمه الله: الجيّد والرديء، والتبر والمضروب، والصحيح والمكسور، سواء في جواز البيع مع التماثل وتحريمه مع التفاضل، وهذا قول أكثر أهل العلم، منهم أبو حنيفة، والشافعيّ، وحُكي عن مالك جواز بيع المضروب بقيمته من جنسه، وأنكر أصحابه ذلك ونفوه عنه، وحَكَى بعض أصحابنا عن أحمد رواية لا يجوز بيع الصحاح بالمكسرة، ولأن للصناعة قيمة، بدليل حالة الإتلاف، فيصير كأنه ضم قيمة الصناعة إلى الذهب.

قال: ولنا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب مثلًا بمثل، والفضة بالفضة مثلًا بمثل"، وعن عبادة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الذهب بالذهب تبرها وعينها، والفضة بالفضة تبرها وعينها"، رواه أبو داود.

وروى مسلم عن أبي الأشعث؛ أن معاوية أمر ببيع آنية من فضة، في أعطيات الناس، فبلغ عبادة، فقال:"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينًا بعين، فمن زاد أو ازداد، فقد أربى".

وروى الأثرم عن عطاء بن يسار؛ أن معاوية، باع سقاية من ذهب، أو

(1)

"مجموع الفتاوى" 29/ 470 - 472.

ص: 576

ورق بأكثر من وزنها، فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينهى عن مثل هذا إلا مثلًا بمثل، ثم قَدِم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فذكر له ذلك، فكتب عمر إلى معاوية: لا تبع ذلك إلا مثلًا بمثل، وزنًا بوزن، ولأنهما تساويا في الوزن، فلا يؤثر اختلافهما في القيمة؛ كالجيد والرديء، فأما إن قال لصائغ: صغ لي خاتمًا وزنه درهم، وأعطيك مثل وزنه، وأجرتك درهمًا، فليس ذلك ببيع درهم بدرهمين، وقال أصحابنا: للصائغ أخذ الدرهمين: أحدهما في مقابلة الخاتم، والثاني أجرة له. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): قال ابن قُدامة رحمه الله أيضًا: لا خلاف في جواز التفاضل في الجنسين، نعلمه إلا عن سعيد بن جبير؛ أنه قال: ما يتقارب الانتفاع بهما لا يجوز التفاضل فيهما، وهذا يردّه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"بيعوا الذهب بالفضة، كيف شئتم يدًا بيد، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم يدًا بيد، وبيعوا الشعير بالشعير كيف شئتم يدًا بيد"، وفي لفظ:"إذا اختلفت هذه الأشياء فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدًا بيد". رواه مسلم، وأبو داود، ولأنهما جنسان، فجاز التفاضل فيهما، كما لو تباعدت منافعهما، ولا خلاف في إباحة التفاضل في الذهب بالفضة، مع تقارب منافعهما.

فأما النَّسَاء، فكل جنسين يجري فيهما الربا بعلّة واحدة؛ كالمكيل بالمكيل، والموزون بالموزون، والمطعوم بالمطعوم عند من يُعلل به، فإنه يحرم بيع أحدهما بالآخر نَساء بغير خلاف نعلمه، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم، يدًا بيد"، وفي لفظ:"لا بأس ببيع الذهب بالفضة، والفضةُ أكثرهما يدًا بيد، وأما نسيئة فلا، ولا بأس ببيع البر بالشعير، والشعيرُ أكثرهما يدًا بيد، وأما النسيئة فلا"، رواه داود، إلا أن يكون أحد العوضين ثمنًا، والآخر مثمَّنًا، فإنه يجوز النَّساء بينهما بغير خلاف؛ لأن الشرع أرخص في السلم، والأصل في رأس المال الدراهم والدنانير، فلو حُرِّم النَّساء ههنا لانْسَدَّ باب السَّلم في الموزونات في الغالب.

فأما إن اختلفت علتهما كالمكيل بالموزون، مثل بيع اللحم بالبر ففيهما روايتان:

ص: 577

[إحداهما]: يحرم النَّساء فيهما، وهو الذي ذكره الْخِرَقي ههنا؛ لأنهما مالان من أموال الربا، فحرِّم النساء فيهما؛ كالمكيل بالمكيل.

[والثانية]: يجوز النساء فيهما، وهو قول النخعيّ؛ لأنهما لم يجتمعا في أحد وَصْفَي علة ربا الفضل، فجاز النساء فيهما؛ كالثياب بالحيوان. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة): في البحث عن مسائل عصريّة، ابتُلي بها المسلمون في هذه الأعصار المتأخّرة، ينبغي أن نتكلّم فيها لمسيس الحاجة إليها، وهي أنواع، نلخّص ما تيسّر منها، وهي مما كتبه الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن آل بسّام رحمه الله في كتابه "الاختيارات الجلية" التي كتبها في هامش كتابه "نيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب"، فقد لخّصها، وأحسن في ذلك:

(فمنها): حكم الآمر بالشراء، وهو أن يتقدّم شخص إلى بنك أو غيره، فيطلب منه شراء سلعة معيّنة، أو سلعة موصوفة؛ ليشتريها البنك لنفسه، ثم يبيعها على الآمر بالشراء بثمن مؤجّل زائد على الثمن الذي اشتراها به، فهذه الصورة إن كان شراء الأول شراء صحيحًا بمعنى أن السلعة دخلت في ملكه، وتحمّل مسؤوليّة الشراء، وتبعات الملك، من تلف، أو خسارة إن قُدّر ذلك، وإن الآمر بالشراء لو عدل عن وعده بالشراء، للزمت المشتري الأول، فهذا بيع صحيحٌ في العقد الأول، وفي العقد الثاني.

وأما إن كان الشراء الأول صوريًّا فقط، فالمشتري الأول لم يشتر حقيقة، وإنما سلّم ثمن السلعة حاضرةً؛ ليربَح الزيادة المقابلة للأجل، فهذا ليس بيعًا، وإنما هو قرض جرّ نفعًا، وهو محرّم بالإجماع.

(ومنها): خيار الشرط الممنوع، وصورته أن يكون لرجل على آخر دينٌ، لا يستطيع وفاءه إلا ببيع عقاره الذي لا يرغب في بيعه حقيقةً، والدائن يريد استيفاء دينه، فيعمِد الدائن والمدين إلى بيع صوريّ، فيه خيار شرط صوريّ أيضًا، وذلك بأن يبيع المدين عقاره على الدائن، ويجعلان خيار شرط في البيع إلى أجل، فيقبض المشتري المبيع، وينتفع به بسكن، أو استثمار، ويتجمّد

(1)

"المغني" 6/ 61 - 63.

ص: 578

الدين مدّة الخيار، فهذا البيع، والخيار فيه ما هو إلا ربا الجاهليّة، وهذا يسمّيه الحنفيّة بيع الوفاء، ويجيزونه.

ولذا فإن المشتري لا يتحقّق غالبًا عن حال البيع، وإنما تحقّقه من أن قيمته لو بيع لغطّت الدين الذي على البائع، والمشتري قد يبيعه هذا البيع بنصف ثمنه؛ لِعِلْمه أنه ليس بيعًا حقيقةً.

(ومنها): ودائع البنوك:

الودائع البنكيّة قسمان:

[أحدهما]: ودائع بلا فائدة، وحالّة غير مؤجّلة، فهي طلب المودِع- بكسر الدال- وهذا ما يُسمّى بالحساب الجاري، فالبنك ملزَم بالسداد الفوريّ عند طلب صاحب النقود، فهذا في حقيقته عقد قرض، لا وديعة بمعناها الفقهيّ، وليس هو القرض الحسن، وإنما هو قرض مباح، فالغرض منه لصاحب المال حفظ نقوده بمؤسّسة أمينة، والسحب منه على طريقة منتظمة منضبطة، وغرض البنك من قبضه هو استثمار هذه الودائع لصالحه، وهذه صورة مباحة، لا محذور فيها، إلا أنه ينبغي للمودِع إذا وجد مصرفًا لا يتعاطى المعاملات الربويّة أن يؤثره بهذا القرض، ليُعينه على أعماله، ويشجّعه على نهجه، وإن لم يجد إلا بنكًا ربويًّا أودع عنده للحاجة.

[الثاني]: ودائع مؤجّلة بفائدة، وذلك بأن يضع صاحب النقود نقوده عند البنك بفائدة يتلقّاها مقابل استثمار البنك نقوده مدّة معلومة، قد حدّد البنك حسب نظامه مدّتها، وقدّر الفائدة المقابلة لأجلها، فهذه الفوائد هي عين الربا، وقد حرّمها علماء العصر، كما حرّمها أعضاء المجامع الفقهيّة التي منها:

1 -

مجمع البحوث الإسلاميّة في القاهرة.

2 -

مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربيّة السعوديّة.

3 -

مجلس المجمع الفقهي التابع لمؤتمر المنظّمة الإسلاميّة.

4 -

مجلس المجمع الفقهيّ التابع لرابطة العالم الإسلاميّ.

(ومنها): قروض البنوك:

صورتها أن يقرض المصرف، أو غيره شخصًا محتاجًا للقرض بفائدة

ص: 579

محدّدة معلومة، ويَخضع المقترض لنظام المصرف من حيث مدّة أجل القرض، ومن قدر الفائدة الذي يقدّرها المصرف.

والقرض نوعان:

[أحدهما]: القرض الاستهلاكيّ، ومعناه أن غرض المقترض هو سداد حاجته بهذا القرض لبناء مسكن، أو مهر زواج، أو شراء ما هو من ضروراته، أو حاجته.

[الثاني]: القرض الاستثماريّ، ومعناه أن يقصد المقترض استثمار نقود القرض في مشروع إنتاجيّ استثماريّ، وفي كلا الحالين يأخذ المصرف من المقترض فوائد مقابل أجل الدين، وبقاء النقود عند المقترض للاستفادة منها استهلاكًا، أو إنتاجًا.

والمجامع الفقهيّة، والمحقّقون من فقهاء العصر اعتبروا هذه الفوائد فوائد ربويّة في كلا القرضين محرّمة، وأن هذه صفقة جمعت بين ربا الفضل من حيث زيادة أحد العوضين عن الآخر، وربا النسيئة من حيث تأجيل الوفاء. وهذا هو القول المعتبر شرعًا الصحيح دليلًا وتعليلًا.

وحصل وَهمٌ لأفراد من كتّاب العصر، فقالوا: إن التحريم هو في الفوائد المأخوذة من المقترضين المستهلكين المحتاجين لهذا الغرض، أما المستقرضون للاستثمار فجائزٌ أخذ الفائدة منهم؛ لأنهم مستفيدون، منتجون لهذا القرض.

وهذا قولٌ مردود، رفضه العلماء، وردّوا عليه، واعتبروه من الأغلاط على الشرع، وأنه معارض لعموم النصوص التي حرّمت الربا بجميع أنواعه، وأشكاله، وصوره.

(ومنها): دفتر التوفير:

هذا النوع من أعمال البنوك يشبه "الحساب الجاري" من حيث عدم التقيّد بمدّة معيّنة للسحب من الرصيد، غير أنه يخضع لقيود لا يخضع لها الحساب الجاري، فنسبة السحب من دفاتر التوفير أقلّ من الحساب الجاري، ولذلك تستخدم البنوك من أرصدة هذه الدفاتير نسبة أكثر من الحسابات الجارية، وتدفع فوائد على هذه الأرصدة بشروط معيّنة.

ومعنى هذا أن البنك تنتقل إليه ملكيّة الأرصدة، يتصرّف فيها، ويستفيد

ص: 580

منها في عمليّات الإقراض، وفي مشروعاته المختلفة، ويتعهّد بردّ المثل للمودِعين -المقرضين- والمصرف ضامنٌ في جميع الحالات، وهذا في حقيقته عقد قرض، ثم تأتي الفوائد، وهي النسبة الزائدة على القرض مقابل الزمن الذي يستغرقه هذا القرض. وهذا هو الربا المحرّم.

(ومنها): خصم الأوراق التجاريّة:

الأوراق التجاريّة تتضمن التزامًا بدفع مبلغ من النقود، وتقبل التداول بطريق التظهير، ويقبلها العرف التجاريّ، ويُقصد بالخصم دفع البنك قيمة الورقة قبل ميعاد استحقاقها بعد خصم مبلغ معيّن بفائدة عن المدّة التي بين تاريخ الوفاء، وتاريخ ميعاد الاستحقاق، وبهذا يُعلم أن هذا الخصم عمليّة ربويّة.

(ومنها): السندات: صورة من صور عقد القرض، وذلك حينما يحتاج البنك مثلًا إلى مبلغ مائة مليون ريال، فيُصدر عشرة آلاف سند، قيمة كلّ سند مائة ألف ريال، ويُحدّد لها فائدة، فيُصبح البنك بهذا السند مدينًا بقيمة السند، والزيادة الربويّة، أما مشتري هذا السند فهو الدائن، فهذه من الصور الممنوعة.

(ومنها): الأسهم: السهم جزء من الشركة المساهمة، والمساهم فيها يملك أجزاء من الشركة بقدر أسهمه، والشركاء يشتركون في الْغُنْم والْغُرْم، كلّ بقدر ما يملك، والمساهم تارة يملك الأسهم من أجل استثمارها، وتارة يتّخذها للتجارة، فيبيع فيها ويشتري. والأسهم تكون حلالًا إذا أُسّست الشركة لأعمال مباحة، وتكون حرامًا إذا أسست لأعمال محرّمة، كتعاطيها الأعمال الربويّة، أو تكون شركة خمور، وغير ذلك.

(ومنها): شهادة الاستثمار: هي شهادة يُصدرها البنك لمدّة مؤجّلة محدّدة، فيشتريها الراغب فيها، وفوائدها مختلفة كثرةً وقلّةً، حسب طول المدّة وقصرها، والبنك يستلم ثمن الشهادة، فيستثمرها لمصلحته الخاصّة، أما استثمار مشتري الشهادة فهو الزيادة الربويّة التي يأخذها مقابل بقاء نقوده عند البنك، يستثمرها لمصلحته الخاصّة.

وإذا تأملنا هذه الشهادة وجدناها لا تخرج عن كونها عقد قرض بفائدة، فهي الربا المحرّم. وذلك لأنه لا يمكن تخريج النقود على أنها مؤجّرة عند البنك، ولا على أنها وديعة تحفظ بعينها عنده، أما إذا كانت شهادة الاستثمار

ص: 581

صادرة من مصرف إسلاميّ، فشهادة الاستثمار تعني وحدة استثمار، يقوم باستثمارها المصرف الإسلاميّ لصالح مالك هذه الوحدة على سبيل المضاربة، فهذه جائزة.

(ومنها): الحساب الجاري:

الحساب الجاري يُعتبر وديعةً تحت الطلب، فمن حقّ صاحبه أن يأخذ رصيده كلّه، أو جزءًا منه متى شاء، فإن البنك ملتزم بالسداد الفوريّ متى طلب المودع، وتسميته وديعةً اصطلاحٌ بنكيّ عرفيّ، وإلا فهو في حقيقة الأمر قرضٌ، وذلك أنه يختلف في أحكامه عن الوديعة، كما عرّفها الفقهاء، ويختلفان بأمور، منها:

1 -

أن المودَع -بفتح الدال- لا يجوز له الانتفاع بالوديعة، واستعمالها، وهذا البنك يتصرّف بالنقود التي وُضعت عنده.

2 -

إذا تلفت الوديعة بدون تعدّ، ولا تفريط من المودَع -بفتح الدال- لم يضمن، أما البنك لو حصل عليه كارثة أتلفت موجوداته، ولو بلا تفريط، فإنه ضامنٌ لما وضعه الناس عنده.

3 -

ملكيّة النقود انتقلت إلى البنك، بخلاف الوديعة، فملكيّتها باقية

بعينها لصاحبها.

(ومنها): السحب على المكشوف:

معنى السحب على المكشوف أن البنك يسمح أحيانًا لبعض عملائه أن يكتبوا شيكات يسحبون بموجبها أكثر مما لهم من رصيد في البنك، والبنك يصرف الشيك؛ لأنه يثق في عميله ثقة تامّةً، أو لأن عنده ضمانات أُخر للسداد، والبنك يقيّد عليه المبلغ الذي سحبه، ويقيّد عليه زيادة هي الفائدة الربوية، فالساحب أخذ من البنك قرضًا ربويًّا، وهذا ما أجمع علماء المسلمين على تحريمه؛ لأنه من الربا.

والحلّ لهذه المعاملة المحرّمة، وأمثالها هو تطبيق الشريعة الإسلاميّة في معاملاتنا كما نطبّقها في عباداتنا، والله تعالى وليّ التوفيق.

‌البديل الإسلاميّ من أعمال الربا:

الحلال بيّن، والحرام بيّن، ولكن المشكل هو في الأمور المشبَّهة التي لا

ص: 582

يعلمها كثير من الناس، فمن الحلال البيّن البيع، قال الله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، ومن الحرام البيّن الربا، قال تعالى:{وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، أما الأمور المشكلة المشبَّهة، فعلى علماء المسلمين أن يدرسوها دراسة دقيقة عميقة وافيةَ، فإذا اتّضح جانب الحلال أخذوا به، وإذا اتّضح جانب الحرام اجتنبوه، أما إذا أظلمت الأمور، واشتبهت، ولم تتضح، فعلينا أن نستبرئ لديننا وعرضنا، ولا نحوم حول الحمى، فنقع فيه، وحمى الله تعالى محارمه، والواجب على المسلمين أن يكون لهم شخصيّة مستقلّة في دينهم، ولا يكونوا إمّعةً لأنظمة بنوك، أنشأتها أفكار يهوديّة، ولا يهمها من الأعمال إلا جمع المال بأيّ طريق كان، وبأيّ وسيلة توصّل بها، وإنما واجب المسلمين من علماء، ورجال الاقتصاد أن يُخضعوا البنوك لاقتصاد إسلاميّ مستقلّ متميّز، والبديل الإسلاميّ ليس نظريّة من النظريّات، وإنما هو حقيقة ثابتة مدركة، فالإسلام عاش أزهى عصور اقتصاده قرونًا طويلة، بلغت شعوبه من الثروة الطائلة، والرفاهية والرخاء ما لم تبلغه دولة من الدول القديمة والجديدة، وها هي التجربة الثابتة في دولة باكستان التي أعلنت منع التعامل بنظام الفائدة الربويّة في جميع البنوك، فأصبحت تجربة ناجحة رائدة.

وإن من البدائل التي يقدّمها الإسلام المعاملاتِ الآتية:

1 -

باب السَّلَم الذي فتحه الإسلام في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} الآية [البقرة: 282]، وقال صلى الله عليه وسلم:"من أسلف في شيء، فليُسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم"، فبالسلم يستفيد البائع بتعجيل الثمن للقيام بلوازمه، ويستفيد المشتري لشرائه السلعة برخص.

2 -

بيع السلع بالتقسيط بآجال معلومة، وأقساط معلومة، فيستفيد البائع بزيادة الثمن في سلعته، ويستفيد المشتري بدفع الثمن بأقساط ميسّرة.

3 -

مشاركة البنك المستفيد المستثمر في نشاطه الاقتصاديّ، فالبنك يموّن المستثمر، ويقدّم له الخبرة، والتوجيه في مشروعه التجاريّ، أو الزراعيّ، أو الصناعيّ، والمستفيد يقوم بالعمل والجهد، ويكون رأس المال للبنك، أما الربح فهو بينهما على ما شرطاه.

ص: 583

4 -

إن من عنده مالٌ، فإنه يوظّف ماله في البنك على أساس الشركة مما يحصل من الربح في استثمار البنك له استثمارًا شرعيًّا، أو أن البنك يكون وكيلًا باستثمار المال، أما الربح الذي يحصل من استثمار البنك له، فكلّه لصاحب رأس المال.

5 -

شركة المضاربة: يكون من أحد الرجلين تقديم رأس المال، ويكون من الآخر العمل، فيعمل المضارب في المال، ويكون رأس المال لصاحبه، وأما الربح فهو شركة بينهما على حسب ما اتّفقا عليه.

6 -

يقوم البنك بمساعدة التجّار على توريد السلع، وذلك عن طريق فتح الاعتماد، فإن كان للعميل رصيد يغطّي ثمن السلعة كلّها، فالبنك في هذه الحال وسيط بأجر على وساطته فيما بين العميل والمصدر، وإن لم يكن للعميل رصيد يغطّي الثمن، فالمصرف يكون شريكًا في هذه الصفقة، ويتمّ بيع البضاعة لحساب الشريكين.

وهناك طرقٌ شرعيّة أخرى، يكون فيها الكفاية والبديل عن الربا الذي قال الله تعالى عنه:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} الآية [البقرة: 276]، وقال:{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية [البقرة: 279]، فالذي يجب على المسلمين: الابتعاد عنه، وأن يُخضعوا معاملاتهم للأحكام الشرعيّة، فإن الدين عند الله الإسلام، والإسلام ليس فقط عبادات، وإنما عادات، ومعاملات، وعبادات، فكلها جميعًا لا بدّ أن تكون خاضعة لأحكامه، ونظامه، والله تعالى وليّ التوفيق.

(اعلم): أن الأصل في المعاملات الإباحة، وأنه لا يحرم منها إلا ما حرّمه الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن من ادّعى تحريم تعامل، أو عقد، فعليه إقامة الدليل على حكم التحريم.

وهذه القاعدة مبنيّة على نصوص كثيرة من الكتاب والسنّة، كقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} الآية [البقرة: 29]، وكقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} الآية [الملك: 15]، والأحاديث في هذا الباب كثيرة مشهورة، ولكن هناك مسائل فيها

ص: 584

إشكالٌ، ويكثر السؤال عنها، أحببنا إيضاحها لمن يُشكل عليه حقيقتها، فمن تلك المشكلات أربع صور من المعاملات نذكرها، ونبيّن حكمها:

[الأولى]: مسألة التورّق، والتورّق هو أن يشتري الإنسان السلعة بثمن مؤجّل، لا لذات السلعة، وإنما ليبيعها على غير بائعها عليه، وينتفع بثمنها، والراجح من قولي العلماء جوازها؛ لأن الأصل في الشرع حلّ جميع المعاملات، وأنه لا يحرم منها إلا ما قام الدليل على تحريمه، وأنه لا يُعلم حجة شرعيّة تمنع من هذه المعاملة، بل عموم الحديث المتّفق عليه، من حديث أبي سعيد الخدريّ، وأبي هريرة رضي الله عنهما:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلًا على خيبر، فجاءه بتمر جَنيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكُلّ تمر خيبر هكذا؟ " قال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تفعل، بِعِ الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جَنيبًا" يدل على جوازها.

[الثانية]: البيع بالتقسيط، وهذا البيع من البيوع المنتشرة في عصرنا انتشارًا كبيرًا، وكثر التعامل به، واحتاج الناس إليه في شراء مراكبهم، وتأثيث منازلهم، والحصول على حاجاتهم، وضروراتهم، وصفته أن يشتري السلعة من التاجر بثمن مؤجّل مقسّط، زائد على ثمنها لو عُجّل حال الشراء، فيستفيد الطرفان -البائع والمشتري- فالبائع يستفيد الربح من الزيادة في الثمن، والمشتري يستفيد تسهيل دفع الثمن عليه أقساطًا معلومة الأجل والمقدار، فشرط حلّها العلم بالآجال، والعلم بقدر القسط الذي يَحُلّ في كل وقت، وهو بيع جائز، لا شبهة فيه، داخل تحت قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} الآية [البقرة: 282].

[الثالثة]: السُّفْتَجَة:

وهي أن يكتب الإنسان لمن دفع إليه مالًا على سبيل التمليك لكي يقبض بدلًا عنه في بلد آخر معيّن، والقصد منها تفادي أخطار الطريق بنقل المال عينًا، وفي هذه الطريقة مصلحة مشتركة للطرفين، وقد اختلف العلماء في حكمها، فمنعها الحنفيّة، والشافعيّة؛ لأنها عندهم من القرض الذي جرّ نفعًا، وأجازها الحنابلة، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيميّة؛ لأنهم يرونها حوالةً، والمنفعة الحاصلة منها لا تخصّ المقرض، بل ينتفع بها الطرفان، والأصل في

ص: 585

المعاملات الحلّ، ولا يوجد محذور شرعيّ يمنع منها، وهي مما اضطرّ الناس إليها في هذا العصر، والأخذ باليسر، من مقاصد الشريعة.

وكان عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما في مكة، وأخوه مصعب في العراق، فكان الرجل يسلّم نقوده عبد الله، فيرسل معه ورقةً إلى مصعب، فيسلّم الرجل مثل نقوده، ولم ينكر ذلك عليهما من عاصرهما من الصحابة رضي الله عنهم.

[الرابعة]: تحويلات البنوك، وصورته أن يستلم البنك نقود الرجل في بلد، ويُعطيه بها شيكًا ليستلمها في بلد آخر، وقد يكون التحويل من بنك لآخر في بلد واحد، وفائدة ذلك إذا كان التحويل بين بلدين أنه مخرج حينما تمنع دولة البلد المحال إليها دخول النقود إليها، أو تمنع الدولة المحال خروج النقود منها، أو يكون في نقلها خطر، وهي شبيهة بالسفتجة، إلا أن بينهما ثلاثةَ فروق

(1)

:

الأول: أن السفتجة لا بدّ أن تكون بين بلدين، وأما التحويل البنكيّ، فتارة يكون كذلك، وتارة يكون بين بنكين في بلد واحد.

الثاني: أن في السفتجة اتحاد جنس النقد المدفوع عند العقد، والمؤدّى عند الوفاء، وأما التحويل المصرفيّ، فلا يقتصر على هذا، فإن المصرف في أغلب الأحيان يأخذ النقود من جنس، ويكتب المصرف من جنس آخر، وهذه ليست قرضًا محضًا.

الثالث: أن السفتجة لا يؤخذ عليها أجر، أما المصرف فيتقاضى أجرًا يُسمّى عمولةً، والحنابلة، وشيخ الإسلام أجازوا السفتجة، والتحويل المصرفيّ إذا كانت العمولة بقدر أتعاب المصرف، فإنه لا يوجد مانع شرعيّ منها.

قال شيخ الإسلام: وإذا أقرضه دراهم ليستوفي منه في بلد آخر، مثل أن يكون المقترض له دراهم في ذلك البلد، وهو محتاج إلى دراهم في بلد المقرض، فيكتب المقترض ورقة إلى بلد المقترض، فقد اختلف العلماء في جوازه، والصحيح الجواز. انتهى، وكلامه يشمل السفتجة والتحويل المصرفيّ.

وقال الشيخ عبد العزيز ابن باز: إذا دعت الضرورة إلى التحويل عن

(1)

قال الجامع: هذه الفروق الثلاثة محلّ نظر؛ فإنها ليست واضحة، فتأملها.

ص: 586

طريق البنوك الربويّة، فلا حرج في ذلك، إن شاء اللهُ، ولا شكّ أن التحويل عن طريقها من الضرورات العامّة في هذا العصر، وهكذا الإيداع فيها للضرورة بدون الفائدة.

وكلام الشيخ ابن باز هنا ليس عن جواز التحويل، فهو جائز عنده، وإنما كلامه في التحويل عن طريق البنوك الربوية، والله أعلم. انتهى ما كتبه الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن آل بسام

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه البحوث التي ذكرها الشيخ البسّام رحمه الله بحوث نفيسة نافعة جدًّا ينبغي الاهتمام بها؛ لكثرة تداول هذه المعاملات في عصرنا الحاضر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4048]

(

) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ؛ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ: إِنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَأْثُرُ هَذَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم -فِي رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ- فَذَهَبَ عَبْدُ اللهِ وَنَافِعٌ مَعَهُ، -وَفِي حَدِيثِ ابْنِ رُمْحٍ - قَالَ نَافِعٌ: فَذَهَبَ عَبْدُ اللهِ، وَأَنَا مَعَهُ، وَاللَّيْثِيُّ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا أَخْبَرَنِي أَنَّكَ تُخْبِرُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَرِقِ بِالْوَرِقِ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَعَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَأَشَارَ أَبُو سَعِيدٍ بِإصْبَعَيْهِ

(2)

إِلَى عَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ، فَقَالَ: أَبْصَرَتْ عَيْنَايَ، وَسَمِعَتْ أُذُنَايَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، وَلَا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا شَيْئًا غَائِبًا مِنْهُ بِنَاجِزٍ، إِلَّا يَدًا بِيَدٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ) بن المهاجر التُّجِيبيّ المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

(1)

"الاختيارات الجلية" 3/ 88 - 96.

(2)

وفي نسخة: "بإصبعه".

ص: 587

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

وقوله: (قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ) هو عمرو بن ثابت الْعُتْوَاريّ

(1)

، كما بيّنه أبو عوانة في روايته الآتية.

وقوله: (يَأْثُرُ هَذَا إلخ) بضم الثاء المثلّثة، من بابي نصر، وضرب - كما في "القاموس"؛ أي: ينقله.

وقوله: (وَاللَّيْثِيُّ) معطوف على "أنا"؛ أي: وذهب معهما الرجل الليثيّ الذي أخبر ابنَ عمر رضي الله عنهما عن أبي سعيد رضي الله عنه هذا الحديث.

وقوله: (بِإصْبَعَيْهِ) وفي بعض النسخ: "بإصبعه" بالإفراد، وهي بكسر الهمزة، وفتح الموحّدة أفصح لغاتها، وهي عشرة: تثليث الهمزة، مع تثليث الموحّدة، والعاشرة: أُصبوع، بوزن أُسبوع.

وقوله: (أَبْصَرَتْ عَيْنَايَ، وَسَمِعَتْ أُذُنَايَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم)"رسول الله صلى الله عليه وسلم" منصوب على المفعوليّة لـ "أبصرت"، و"سمعت" على سبيل التنازع، كما قال في "الخلاصة":

إِنْ عَامِلَانِ اقْتَضَيَا فِي اسْمٍ عَمَلْ

قَبْلُ فَلِلْوَاحِدِ مِنْهُمَا الْعَمَلْ

وَالثَّانِ أَوْلَى عِنْدَ أَهْلِ الْبَصْرَهْ

وَاخْتَارَ عَكْسًا غَيْرُهُمْ ذَا أَسْرَهْ

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4049]

(

) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ -يَعْنِي ابْنَ حَازِمٍ- (ح) وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ، بِنَحْوِ حَدِيثِ اللَّيْثِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِ صلى الله عليه وسلم).

(1)

لا ينافي هذا كونه من بني ليث؛ لأن عُتْوَارة هو ابن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة، كما قاله في "اللباب" 2/ 103.

ص: 588

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الْحَبَطيّ، أبو محمد الأُبُلّيّ، صدوقٌ يَهِمُ، ورُمي بالقدر، من صغار [9](5 أو 236) وله بضع وتسعون سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.

2 -

(جَرِيرُ بْنُ حَازِمِ) بن زيد الأزديّ، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ، إلا في قتادة، ففيه ضعف [6](ت 170)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 81.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل بابين.

4 -

(عَبْدُ الْوَهَّابِ) بن عبد المجيد الثقفيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

5 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) الأنصاريّ، تقدّم في الباب الماضي.

6 -

(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ [9](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.

7 -

(ابْنُ عَوْنٍ) هو: عبد الله بن عون بن أَرْطبان، أبو عون البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [5](ت 150)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 303.

و"نافع" ذُكر، قبله.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ) أي: كلّ هؤلاء الثلاثة: جرير بن حازم، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وابن عون رووا هذا الحديث عن نافع، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

[تنبيه]: رواية جرير بن حازم، عن نافع هذه ساقها أبو عوانة في "مسنده" 3/ 376 فقال:

(5378)

- حدّثنا محمد بن حيويه، قثنا

(1)

حجاج بن منهال، قثنا جرير بن حازم، عن نافع، قال: حدَّث رجل ابنَ عمر بحديث عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأخذ الرجل بيد ابن عمر، فقال أبو سعيد: بَصُر عيني، وسَمِع أذني، قالها ثلاثًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول:"لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، إلا مثلًا بمثل، سواءً بسواء، ولا تُشِفُّوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها شيئًا غائبًا بناجز". انتهى.

(1)

قوله: "قثنا" في الموضعين مختصر من "قال: حدّثنا"، فتنبّه.

ص: 589

وأما رواية يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن نافع، فقد ساقها أيضًا أبو عوانة في "مسنده" 3/ 375 فقال:

(5377)

- حدّثنا محمد بن عبد الملك الواسطيّ، قثنا يزيد بن هارون، قال: أنبا يحيى بن سعيد؛ أن نافعًا أخبره؛ أن عمرو بن ثابت الْعُتْوَاريّ ذكر لعبد الله بن عمر؛ أنه سمع أبا سعيد الخدريّ، يحدّث أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، ليس بينهما فضل"، فمشى ابن عمر معه، ومعه نافع إلى أبي سعيد الخدريّ، حتى دخل عليه، فسأله عن الحديث، فقال أبو سعيد، وأشار بإصبعه إلى عينيه وأذنيه، فقال: بَصُر عيني، وسَمِع أذني رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، ليس بينهما فضل، ولا يباع عاجل بآجل". انتهى.

وأما رواية ابن عون، عن نافع، فقد ساقها النسائيّ في "المجتبى" 7/ 279 فقال:

(4571)

- أخبرنا حميد بن مَسْعَدة، وإسماعيل بن مسعود، قالا: حدّثنا يزيد، وهو ابن زُريع، قال: حدّثنا ابن عون، عن نافع، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: بَصُر عيني، وسَمِع أذني، من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر النهي عن الذهب بالذهب، والورق بالورق، إلا سواءً بسواء، مثلًا بمثل، ولا تبيعوا غائبًا بناجز، ولا تُشِفّوا أحدهما على الآخر. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4050]

(

) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ -يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيَّ -عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، وَلَا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ، إِلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ) المدنيّ، نزيل الإسكندريّة، ثقةٌ [8](ت 181)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 35/ 245.

ص: 590

2 -

(سُهَيْلُ) بن أبي صالح، أبو يزيد المدنيّ، ثقةٌ [6](ت 138)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 161.

3 -

(أَبُوهُ) أبو صالح ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

والباقيان ذُكرا في الباب.

وقوله: (إِلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ) قال النوويّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون الجمع بين هذه الألفاظ توكيدًا، ومبالغة في الإيضاح. انتهى

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4051]

(1585) - (حَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِرِ، وَهَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، وَأَحْمَدُ ابْنُ عِيسَى، قَالُوا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ يَقُولُ: إِنَّهُ سَمِعَ مَالِكَ بْنَ أَبِي عَامِرٍ، يُحَدِّثُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَبِيعُوا الدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ، وَلَا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ) أبو جعفر المصريّ، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253) وله (83) سنةً (م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.

2 -

(أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى) المعروف بابن التستريّ المصريّ، صدوقٌ تُكلم في بعض سماعاته بلا حجة [10](ت 243)(خ م س ق) تقدم في "الإيمان" 8/ 134.

3 -

(مَخْرَمَةُ) بن بُكير بن عبد الله، أبو الْمِسور المدنيّ، صدوقٌ، وروايته عن أبيه وجادة، وقيل: سمع منه قليلًا [7](ت 159)(بخ م د س) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.

4 -

(أَبُوهُ) بُكير بن عبد الله بن الأشجّ المخزوميّ مولاهم، أبو عبد الله، أو أبو يوسف المدنيّ، نزيل مصر، ثقةٌ [5](ت 120)(ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 11 - 12.

ص: 591

5 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ) الهلاليّ، مولى ميمونة، وقيل: أم سلمة المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ، فقيه، من كبار [3] مات بعد المائة، أو قبلها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 489.

6 -

(مَالِكُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ) الأصبحيّ، ثقةٌ، سمع من عمر رضي الله عنه[2](ت 74)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 109.

7 -

(عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ) بن أبي العاص بن أميّة بن عبد شمس الأمويّ، أمير المؤمنين، ذو النورين، أحد الخلفاء الراشدين، والعشرة المبشّرين، استُشهد في ذي الحجة سنة (35) وعمره ثمانون، قيل: أكثر، وقيل: أقلّ (ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.

والباقيان تقدّما في الباب الماضي، وشرح الحديث واضح، يُعلم مما سبق.

وقوله: (لَا تَبِيعُوا الدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ، وَلَا الدَّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ) قال أبو عمر ابن عبد البرّ رحمه الله: هذا لفظ مجمل تفسيره قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تُشِفّوا بعضها على بعض"، وقوله صلى الله عليه وسلم:"من زاد فقد أربى"، ولا أعلم خلافًا بين أئمة الأنصار بالحجاز، والعراق، وسائر الآفاق في أن الدينار لا يجوز بيعه بالدينارين، ولا بأكثر منه وزنًا، ولا الدرهم بالدرهمين، ولا بشيء من الزيادة عليه، إلا ما كان عليه أهل مكة قديمًا وحديثًا من إجازتهم التفاضل في ذلك، إذا كان يدًا بيد، أخذوا ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، فإنه كان يقول: لا بأس بالدرهم بالدرهمين، وإنما الربا في النسيئة؛ لِمَا رواه عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا ربا إلا في النسيئة".

قال أبو عمر: لم يتابع ابن عباس على تأويله في قوله في حديث أسامة هذا أحدٌ من الصحابة، ولا من التابعين، ولا مَنْ بَعْدَهم، من فقهاء المسلمين، إلا طائفة من المكيين أخذوا ذلك عنه، وعن أصحابه، وهم محجوجون بالسنّة الثابتة التي هي الحجة على من خالفها، وجَهِلها، وليس أحد بحجة عليها.

وقد رُوي عن ابن عباس أنه رجع عن ذلك، وقال: لا علم لي بذلك، إنما أسامة بن زيد أخبرني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إنما الربا في النسيئة".

ورَوَى معمر، عن عمرو بن دينار، عن أبي صالح، قال: لقي أبو سعيد

ص: 592

الخدريّ ابنَ عباس، فقال له: أرأيت ما تُفتي به الناس من الصرف، أشيء وجدته في كتاب الله، أم سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ولا في كليهما، وأنتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم به مني، ولكن أسامة بن زيد أخبرني أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"الربا في النسيئة".

قال أبو عمر: حديثه عن أسامة صحيح، ولكنه وضعه غير موضعه، وحمله على غير المعنى الذي له أَتَى.

ومعنى الحديث عند العلماء أنه خرج على جواب سائل سأل عن الذهب بالورق، أو البر بالتمر، أو نحو ذلك، مما هو جنسان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا ربا إلا في النسيئة"، فسمع أسامة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع سؤال السائل، فنقل ما سمع، والله أعلم.

والدليل على صحة هذا التأويل إجماع الناس ما عدا ابنَ عباس عليه، وما صح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما"، وقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تبيعوا الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، إلا مثلًا بمثل، يدًا بيد، ولا تُشفّوا بعضها على بعض"، رواه أبو سعيد الخدريّ وغيره، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

ثم أخرج أبو عمر بسنده عن أبي الجوزاء، قال: سمعت ابن عباس، وهو يأمر بالضرب

(1)

الدرهم بالدرهمين، والدينار بالدينارين، يدًا بيد، فقدِمت العراق، فابتليت الناس بذلك، ثم بلغني أنه نزل عن ذلك، فقدِمت مكة، فسألته، فقال: إنما كان ذلك رأيًا مني، وهذا أبو سعيد يحدث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بالنهي عنه.

ورَوى ابن عيينة، عن فُرات القزاز قال: دخلنا على سعيد بن جبير نعوده، فقال له عبد الملك بن ميسرة الزّرّاد: كان ابن عباس نزل عن الصرف، فقال سعيد: عهدي به قبل أن يموت بستة وثلاثين يومًا، وهو يقوله، وما رجع عنه.

(1)

كذا في النسخة، والظاهر أن الصواب "بالصرف"، فليُحرّر.

ص: 593

قال أبو عمر: رجع ابن عباس، أو لم يرجع، بالسنّة كفايةٌ عن قول كل أحد، ومن خالفها جهلًا بها رُدَّ إليها.

قال عمر بن الخطاب: رُدُّوا الجهالات إلى السنة. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله باختصار

(1)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عثمان بن عفّان رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [35/ 4051](1585)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 633)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 181)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 390)، و (البزّار) في "مسنده"(2/ 37)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 278) و"المعرفة"(4/ 291)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(36) - (بَابُ الصَّرْفِ، وَبَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ نَقْدًا)

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4052]

(1586) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ؛ أَنَّهُ قَال: أَقْبَلْتُ أَقُولُ: مَنْ يَصْطَرِفُ الدَّرَاهِمَ، فَقَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ، وَهُوَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أرِنَا ذَهَبَكَ، ثُمَّ ائْتِنَا إِذَا جَاءَ خَادِمُنَا نُعْطِكَ

(2)

وَرِقَكَ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: كَلَّا، وَاللهِ لَتُعْطِيَنَّهُ وَرِقَهُ، أَوْ لَتَرُدَّنَّ إِلَيْهِ ذَهَبَهُ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الْوَرِقُ بِالذَّهَبِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ").

(1)

الاستذكار 6/ 351 - 354.

(2)

وفي نسخة: "نعطيك".

ص: 594

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ) -بفتح المهملة، والمثلّثة- ابن سعد بن يربوع النَّصْريّ -بالنون- أبو سعيد المدنيّ، مختلف في صحبته، وهو ثقةٌ.

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وقيل: إنه رأى أبا بكر، وروى عن عمر، وعثمان، وعليّ، والعباس، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وأبي ذرّ.

وروى عنه الزهريّ، ومحمد بن عمرو بن عطاء، وعكرمة بن خالد، ومحمد بن جبير بن مطعم، وعبيد الله بن مِقْسم، وسلمة بن وَرْدان، وغيرهم.

ذكره ابن سعد في طبقة من أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورآه، ولم يحفظ عنه شيئًا، قال: ويقولون: إنه ركب الخيل في الجاهلية، قال: وكان قديمًا، ولكنه تأخر إسلامه، وقال البخاريّ: قال بعضهم: له صحبة، ولا تصحّ، وقال أبو حاتم، وابن معين: لا تصح له صحبة، وقال عُقيل عن الزهريّ: ذكرت لعروة حديث مالك بن أوس، فقال: صدوق، وقال ابن خِرَاش: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: من زعم أن له صحبةً، فقد وَهِمَ.

وأثبت له الصحبة أحمد بن صالح المصريّ، ذكره ابن عبد البر، وقال: إنه رَوَى عن العشرة، وقال أنس بن عياض، عن سلمة بن وَرْدان، عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: كنا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: "وجبت وجبت

" الحديث، ولكن سلمة ضعيف، وقال ابن منده: إن الصواب عن سلمة بن وردان، عن أنس بن مالك، وقال أبو القاسم البغويّ: يقال: إنه رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم تثبت له عنه رواية.

قال الواقديّ، وآخرون: مات سنة اثنتين وتسعين، وقال يحيى بن بكير مرة أخرى: مات سنة إحدى.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (1586)، و (1757) وأعاده بعده.

2 -

(عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) بن نُفيل القرشيّ العدويّ، أمير المؤمنين، جمّ المناقب، استُشهد في ذي الحجة سنة (23)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

والباقون تقدّموا في البابين الماضيين.

ص: 595

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان، فرّق بينهما بالتحويل؛ لاختلاف كيفيّة التحمّل والأداء؛ فقتيبة أخذه سماعًا، وابن رُمح قراءة، وكذا اختلافهما في اسم شيخهما بإدخال عليه، وعدمه.

2 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

3 -

(ومنها): أن صحابيّه ذو مناقب جمة، فهو أحد السابقين إلى الإسلام، وأحد الخلفاء الأربعة، والعشرة المبشّرين بالجنّة، ومن المحدّثين من هذه الأمة رضي الله عنه.

شرح الحديث:

(عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ) بفتحات (أَنَّهُ قَالَ: أَقْبَلْتُ أَقُولُ: مَنْ) استفهاميّة (يَصْطَرِفُ الدَّرَاهِمَ) أي: من يبيعها بمقابلة الذهب، وهو افتعال من الصرف، وفي رواية للبخاريّ "أنه التمس صرفًا بمائة دينار"، ورواية له:"أنه قال: من عنده صرف؟ "؛ أي: من عنده دراهم يُعَوِّضها بالدنانير؛ لأن الصرف بيع أحد النقدين بالآخر، يقال: صَرَفْتُ الذهب بالدراهم، من باب ضرب: إذا بعته، واسم الفاعل من هذا صيرفيّ، وصَيْرفٌ، وصرّافٌ للمبالغة، قال ابن فارس: الصرف فضل الدرهم في الجودة على الدرهم، ومنه اشتقاق الصيرفيّ، ذكره الفيّوميّ

(1)

.

وقال في "العمدة": قال العلماء: بيع الذهب بالفضة يُسَمَّى صرفًا؛ لصرفه عن مقتضى البياعات، من جواز التفرَّق قبل التقابض، وقيل: من صريفهما، وهو تصويتهما في الميزان، كما أن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة يُسَمَّى مُرَاطَلَةً. انتهى

(2)

.

(فَقَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ) أحد العشرة المبشّرين بالجنّة رضي الله عنهم، استُشهد يوم الْجَمَل سنة (36) تقدّمت ترجمته في "الإيمان" 2/ 109. وقوله:(وَهُوَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه جملة في محلّ نصب على الحال من "طلحة" (أَرِنَا ذَهَبَكَ،

(1)

"المصباح المنير" 1/ 338.

(2)

"عمدة القاري" 11/ 293.

ص: 596

ثُمَّ ائْتِنَا إِذَا جَاءَ خَادِمُنَا) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على تسمية الخازن الذي أشار إليه طلحة. انتهى

(1)

. (نُعْطيِكَ وَرِقَكَ)"نُعطيك" جواب "إذا" مرفوع، ولذا ثبتت الياء، ووقع في بعض النسخ:"نُعطك" بحذفها، ويوجّه على لغة الجزم بـ "إذا" الشرطيّة، وهو قليلٌ، كما في قول الشاعر [من الكامل]:

اسْتَغْنِ مَا أَغْنَاكَ رَبُّكَ بِالْغِنَى

وَإِذَا تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلِ

وفي رواية البخاريّ: "فدعاني طلحة بن عُبيد الله، فتراوضنا

(2)

، حتى اصطرف منّي، فأخذ الذهب يُقلّبها في يده، ثم قال: حتى يأتي خازني من الغابة، وعمر يسمع ذلك، فقال: والله لا تفارقه

" (فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه: (كَلَّا) أي: ارتدع وانزجر عما تقوله من تأخير العوض حتى يأتي خازنك (وَاللهِ لَتُعْطِيَنَّهُ وَرِقَهُ) بفتح الواو، وكسر الراء؛ أي: فضّته (أَوْ لَتَرُدَّنَّ إِلَيْهِ ذَهَبَهُ) ثم بيّن عمر رضي الله عنه متمسّكه في هذا الذي قاله لطلحة رضي الله عنه، بالفاء التعليليّة، فقال: (فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْوَرِقُ) بفتح الواو، وكسر الراء، وتُسكّن مع فتح الواو، وكسرها، تخفيفًا، وكَكَتف، وجَبَل، قال المجد رحمه الله:"الورق" مثلّثةً، وككَتِفٍ، وجبَل: الدراهم المضروبة، جمعها أوراق، ووِراقٌ. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": والوَرِق: الفضة، وهو بفتح الواو، وكسر الراء، وباسكانها على المشهور، ويجوز فتحهما، وقيل: بكسر الواو: المضروبة، وبفتحها: المال، والمراد هنا جميع أنواع الفضة، مضروبةً وغير مضروبة. انتهى

(4)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "الْوَرِقُ" -بكسر الراء-: الفضة، وهو اسم جنس معرَّف بالألف واللام الجنسيتين، فيتضمن ذلك الجنس كله، مسكوكه، ومصوغه، وتبره، ونقاره، وكذلك الذهب، فلا يجوز مصوغ بتبر إلا مثلًا بمثل، وكذلك جميع أنواعها، وليس له أن يستفضل قيمة الصنعة، ولا

(1)

"الفتح" 5/ 643.

(2)

أي تجارينا الكلام في قدر العوض بالزيادة والنقص.

(3)

"القاموس المحيط" ص 1393.

(4)

"الفتح" 5/ 643.

ص: 597

عُمالتها، وسيأتي لهذا مزيد بيان -إن شاء الله تعالى-

(1)

.

(بِالذَّهَبِ رِبًا) قال ابن عبد البرّ: لم يُخْتَلَف على مالك فيه، وحَمَله عنه الحفاظ، حتى رواه يحيى بن أبي كثير، عن الأوزاعيّ، عن مالك، وتابعه معمر، والليث، وغيرهما، وكذلك رواه الحفاظ عن ابن عيينة، وشذَّ أبو نعيم عنه، فقال:"الذهب بالذهب"، كذلك رواه ابن إسحاق، عن الزهريّ.

ويجوز في قوله: "الورق بالذهب" الرفعُ؛ أي: بيع الورق بالذهب، فحُذف المضاف للعلم به، أو المعنى: الورقُ يباع بالذهب، ويجوز النصب؛ أي: بيعوا الورق.

قال في "الفتح": والذهب: يُطلق على جميع أنواعه: المضروبة، وغيرها.

(إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ) قال القرطبيّ رحمه الله: الرواية المشهورة في "هاء": بالمد، وبهمز مفتوحة، وكذلك رويته، ومعناها: خذ. فكأنها اسم من أسماء الأفعال، كما تقول: هاؤم، وفيها أربع لغات:

[إحداهما]: ما تقدَّم، وفيها لغتان:

إحداهما: أنها تُقال للمذكر والمؤنث، والواحد والاثنين، والجمع، بلفظ واحد "هاء" من غير زيادة، قال السيرافيّ: كأنهم جعلوها صوتًا؛ كصَهْ، ومَهْ.

وثانيهما: أنها تُلْحَق بها العلامات المفرَّقة، فتقول للمذكر: هاءَ، وللمؤنث: هائي. وللاثنين: هاءا، وللجمع: هاؤوا؛ كالحال في: هاؤم، وفي: هَلُمّ.

[الثانية]: هَأْ، بالقصر والهمزة الساكنة، فتقول: هَأْ، كما تقول: خَفْ، وفيها اللغتان المتقدمتان، حكاها ثابت وغيره من أهل اللغة.

[الثالثة]: هاءِ بالمدّ، وكسر الهمزة، وهي للواحد، والاثنين، والجمع بلفظ واحد، غير أنهم زادوا ياءً مع المؤنث، فقالوا: هائي.

[الرابعة]: ها، بالقصر، وترك الهمز، حكاها بعض اللغويين، وأنكرها أكثرهم، وخُطِّئ من رواها من المحدِّثين كذلك.

(1)

"المفهم" 4/ 472.

ص: 598

وقد حُكيت لغة خامسة: هاءَكِ، بمدَّةٍ، وهمزة مفتوحة، وكاف خطاب مكسورة للمؤنث.

قال القرطبيّ: ولا بُعْد في أن يقال: إن "هاء" هذه هي اللغة الأولى، وإنما زادوا عليها كاف الخطاب المؤنث خاصة، فلا تكون خامسة.

ومعنى: "هاء وهاء": خذ وهات في هذه الحال من غير تراخ، كما قال:"يدًا بيد". انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "إلا هاء وهاء" بالمدّ فيهما، وفتح الهمزة، وقيل: بالكسر، وقيل: بالسكون، وحُكِي القصرُ بغير همز، وخطّأها الخطابيّ، وردّ عليه النوويّ، وقال: هي صحيحة، لكن قليلة، والمعنى: خُذْ، وهَاتِ، وحُكي هاكِ بزيادة كاف مكسورة، ويقال: هاءِ بكسر الهمزة، بمعنى هات، وبفتحها بمعنى خذ، بغير تنوين.

وقال ابن الأثير: هاءَ وهاءَ هو أن يقول كلُّ واحد من الْبَيِّعين: هاء، فيعطيه ما في يده، كالحديث الآخر:"إلا يدًا بيد"، يعني مقابضةً في المجلس، وقيل: معناه: خذ وأعط، قال: وغير الخطابيّ يجيز فيها السكون على حذف العوض، ويتنزل منزلة ها التي للتنبيه.

وقال ابن مالك: "ها" اسم فعل بمعنى خُذْ، وإن وقعت بعد "إلّا"، فيجب تقدير قولٍ قبله، يكون به محكيًّا، فكأنه قيل: ولا الذهب بالذهب إلا مقولًا عنده من المتبايعين: هاء وهاء، وقال الخليل: كلمةٌ تُستَعمل عند المناولة.

والمقصود من قوله: "هاء وهاء" أن يقول كل واحد من المتعاقدين لصاحبه: هاء، فيتقابضان في المجلس.

قال ابن مالك: حقُّها أن لا تقع بعد "إلّا"، كما لا يقع بعدها: خُذْ، قال: فالتقدير: لا تبيعوا الذهب بالورق إلا مقولًا بين المتعاقدين: هاء وهاء.

واستُدِلّ به على اشتراط التقابض في الصرف في المجلس، وهو قول أبي حنيفة، والشافعيّ، وعن مالك: لا يجوز الصرف إلا عند الإيجاب بالكلام،

(1)

"المفهم" 4/ 470 - 471.

ص: 599

ولو انتقلا من ذلك الموضع إلى آخر لم يصحّ تقابضهما، ومذهبه أنه لا يجوز عنده تراخي القبض في الصرف، سواء كانا في المجلس، أو تفرقا، وحَمَل قول عمر:"لا يفارقه" على الفور، حتى لو أخَّر الصيرفيّ القبض حتى يقوم إلى قَعْرِ دُكّانه، ثم يفتح صندوقه لَمَا جاز. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقد بالغ مالك رحمه الله في هذا، حتى منع المواعَدة على الصرف، والحوالة، والوكالة على عقد الصرف دون القبض، ومنع أن يعقد الصرف، ويقوم إلى قَعْرِ دكانه، ثم يفتح صندوقه، ويخرج ذهبه؛ بناءً على ما تقدَّم من أصله، وهذا هو الذي فهمه عمر رضي الله عنه عن الشرع حين قال:"وإن أنظرك إلى أن يَلِج بيته فلا تنظره، إني أخاف عليكم الربا"، وقال:"دَعُوا الربا والريبة". انتهى

(2)

.

(وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ)"الْبُرُّ" - بضم الموحّدة، ثم راء: من أسماء الحنطة، واحده: بُرّةٌ، والجمع: أبرار

(3)

، وقال الجوهريّ: البُرّ: جمع بُرّة، من الْقَمْح، ومَنَع سيبويه أن يُجمع الْبُرّ على أَبْرار، وجوّزه المبرّد قياسًا. انتهى

(4)

. (وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ) - بفتح أوله: معروف، وحُكِي جواز كسره، وقال الفيّوميّ: الشعير: حَبّ معروف، قال الزجّاج: وأهل نجد تؤنّثه، وغيرهم يذكّره، فيقال: هي الشعير، وهو الشعير. انتهى

(5)

.

وقال ابن منظور رحمه الله: الشعير: جنس من الحبوب معروفٌ، واحدته شعيرة، وبائعه شَعِيريّ، قال سيبويه: وليس مما بُني على فاعل، ولا فَعّال، كما يغلب في هذا النحو، وأما قول بعضهم: شِعِير، وبِعِيرٌ، ورِغِيفٌ، وما أشبه ذلك -يعني بكسر أولها وثانيها- لتقريب الصوت من الصوت -يعني للمناسبة- فلا يكون هذا إلا مع حروف الحلق. انتهى

(6)

.

(رِبًا إِلَّا هَماءَ وَهَماء) استُدِلّ بهذا على أن البرّ والشعير صنفان، وهو قول

(1)

"الفتح" 5/ 644.

(2)

"المفهم" 4/ 472.

(3)

راجع: "المصابيح" 1/ 43، و"القاموس" ص 94.

(4)

"الصحاح" ص 84.

(5)

"المصباح المنير" 1/ 315.

(6)

"لسان العرب" 4/ 410.

ص: 600

الجمهور، وخالف في ذلك مالك، والليث، والأوزاعيّ، فقالوا: هما صنف واحد، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: هذا دليل ظاهر في أن البر والشعير صنفان، وهو مذهب الشافعيّ، وأبي حنيفة، والثوريّ، وفقهاء المحدثين، وآخرين، وقال مالك، والليث، والأوزاعيّ، ومعظم علماء المدينة، والشام، من المتقدمين: إنهما صنف واحد، وهو محكيّ عن عمر، وسعيد، وغيرهما من السلف رضي الله عنهم، واتفقوا على أن الدُّخْن صنف، والذُّرة صنف، والأرز صنف، إلا الليث بن سعد، وابن وهب، فقالا: هذه الثلاثة صنف واحد. انتهى

(2)

.

(وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ) واحدته تمرة، وجمعه: تمرات، وتُمورٌ، وتُمران، قاله المجد رحمه الله

(3)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: التَّمْرُ من ثمر النخل؛ كالزبيب من العنب، وهو اليابس بإجماع أهل اللغة؛ لأنه يُتْرَك على النخل بعد إرطابه، حتى يَجِفّ، أو يقارب، ثم يُقْطَع، وُيتْرَك في الشمس حتى يَيْبَسَ، قال أبو حاتم: وربما جُدّت النخلةُ، وهي باسرة بعدما أَخَلَّتْ؛ ليُخَفَّف عنها، أو لخوف السرقة، فتترك حتى تكون تمرًا، الواحدة: تَمْرَةٌ، والجمع: تُمُورٌ، وتُمْرَانٌ، بالضمّ، والتَّمْرُ يُذَكَّر في لغة، ويُؤَنَّث في لغة، فيقال: هو التَّمْرُ، وهي التَّمْرُ، وتَمَرْتُ القومَ تَمْرًا، من باب ضَرَب: أطعمتهم التمر، ورجل تَامِرٌ، ولابِنٌ ذو تمر ولبن، قال ابن فارس: التَّامِرُ الذي عنده التمر، والتَّمَّارُ الذي يبيعه، وتَمَّرْتُهُ تَتْمِيرًا يَبَّسته، فَتَتَمَّرَ هو، وأَتْمَرَ الرُّطَبُ: حان له أن يصير تمرًا. انتهى

(4)

.

(رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ") قال النوويّ: قال العلماء: ومعناه: التقابض، ففيه اشتراط التقابض في بيع الربويّ بالربويّ إذا اتفقا في علة الربا، سواء اتَّفَق جنسهما، كذهب بذهب، أم اختَلَف، كذهب بفضة، ونبّه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بمختَلِف الجنس على متفقه، واستَدَلَّ أصحاب مالك بهذا على أنه يُشترط التقابض عقب العقد، حتى لو أخره عن العقد، وقبض في المجلس لا يصحّ

(1)

"الفتح" 5/ 644.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 13.

(3)

"القاموس" ص 160.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 76 - 77.

ص: 601

عندهم، ومذهب الشافعيّة صحة القبض في المجلس، وإن تأخر عن العقد يومًا أو أيامًا، وأكثر ما لم يتفرقا، وبه قال أبو حنيفة، وآخرون، وليس في هذا الحديث حجة لأصحاب مالك، وأما ما ذكره في هذا الحديث أن طلحة بن عبد الله رضي الله عنه أراد أن يصارف صاحب الذهب، فيأخذ الذهب، ويؤخر دفع الدراهم إلى مجيء الخادم، فإنما قاله؛ لأنه ظن جوازه، كسائر البياعات، وما كان بلغه حكم المسألة، فأبلغه إياه عمر رضي الله عنه، فترك المصارفة. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [36/ 4052 و 4053](1586)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2134 و 2170)، و (أبو داود) في "البيوع"(3/ 248)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1243)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 273) و"الكبرى"(4/ 25)، و (ابن ماجه) في "التجارات"(2259 و 2260)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 636 و 637)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 155 و 156)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(14541)، و (الحميديّ) في "مسنده"(12)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 99 و 100)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 24 و 35 و 45)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 258)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(651)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5013 و 5019)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1/ 139 و 184)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 377 و 378 و 379)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 283 - 284) و"الصغرى"(5/ 33) و"المعرفة"(4/ 2287)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم الربا في الأشياء المذكورة في هذا الحديث.

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 13.

ص: 602

2 -

(ومنها): أن فيه أن الكبير يلي البيع والشراء لنفسه، وإن كان له وكلاء وأعوان يكفونه.

3 -

(ومنها): أن فيه المماكسةَ في البيع، والمراوضة، وتقليب السلعة، وفائدته الأمن من الغبن.

4 -

(ومنها): أنّ من العلم ما يخفى على الرجل الكبير القدر، حتى يُذَكِّره غيره.

5 -

(ومنها): أن الإمام إذا سَمِع، أو رأى شيئًا لا يجوز: ينهى عنه، ويرشد إلى الحقّ.

6 -

(ومنها): أن من أفتى بحكم حَسُنَ أن يذكر دليله.

7 -

(ومنها): أن على الإمام أن يتفقد أحوال رعيته، ويهتمّ بمصالحهم.

8 -

(ومنها): أن فيه اليمينَ لتأكيد الخبر.

9 -

(ومنها): أن فيه الاحتجاج بخبر الواحد، والاحتجاج على من خالف في حكم من الأحكام التي في كتاب الله تعالى، أو حديث رسوله صلى الله عليه وسلم.

10 -

(ومنها): أن النسيئة لا تجوز في بيع الذهب بالورق، وإذا لم يجز فيهما مع تفاضلهما بالنسيئة، فأحرى أن لا يجوز في الذهب بالذهب، وهو جنس واحد، وكذا الورق بالورق، يعني إذا لم تكن رواية ابن إسحاق ومن تابعه محفوظةً، فيؤخذ الحكم من دليل الخطاب، وقد نَقَل ابن عبد البر وغيره الإجماع على هذا الحكم؛ أي: التسوية في المنع بين الذهب بالذهب، وبين الذهب بالورق، فيستغني حينئذ بذلك عن القياس، قاله في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4053]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ).

(1)

"الفتح" 5/ 644 - 645.

ص: 603

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهم تقدّموا قبل باب، و"إسحاق" هو: ابن راهويه.

[تنبيه]: رواية ابن عيينة، عن الزهريّ هذه ساقها النسائيّ في "المجتبى" 7/ 273 فقال:

(4558)

- أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: حدّثنا سفيان، عن الزهريّ، عن مالك بن أوس بن الْحَدَثان؛ أنه سَمِعَ عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالورق ربًا، إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا، إلا هاء وهاء، والبرّ بالبرّ ربًا، إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا، إلا هاء وهاء". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4054]

(1587) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، قَالَ: كُنْتُ بِالشَّامِ في حَلْقَةٍ فِيهَا مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ، فَجَاءَ أَبُو الأَشْعَثِ، قَالَ: قَالُوا: أَبُو الأَشْعَثِ أَبُو الأَشْعَثِ، فَجَلَسَ، فَقُلْتُ لَهُ: حَدِّثْ أَخَانَا حَدِيثَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: نَعَمْ، غَزَوْنَا غَزَاةً، وَعَلَى النَّاسِ مُعَاوِيَةُ، فَغَنِمْنَا غَنَائِمَ كَثِيرَةً، فَكَانَ فِيمَا غَنِمْنَا آنِيَةٌ مِنْ فِضَّةٍ، فَأَمَرَ مُعَاوِيَةُ رَجُلًا أَنْ يَبِيعَهَا فِي أَعْطِيَاتِ النَّاسِ، فَتَسَارَعَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ، فَبَلَغَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، فَقَامَ، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَهَبِ، وَالْفِضةِ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ، إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ، عَيْنًا بِعَيْنٍ، فَمَنْ زَادَ، أَوِ ازْدَادَ، فَقَدْ أَرْبَى. فَرَدَّ النَّاسُ مَا أَخَذُوا، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِبَةَ، فَقَامَ خَطِيبًا، فَقَالَ: ألَا مَا بَالُ رِجَالٍ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحَادِيثَ قَدْ كُنَّا نَشْهَدُهُ، وَنَصْحَبُهُ، فَلَمْ نَسْمَعْهَا مِنْهُ؟ فَقَامَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، فَأَعَادَ الْقِصَّةَ، ثُمَّ قَالَ: لَنُحَدِّثَنَّ بِمَا سَمِعْنَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنْ كَرِهَ مُعَاوِيَةُ، أَوْ قَالَ: وَإِنْ رَغِمَ، مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَصْحَبَهُ فِي جُنْدِهِ لَيْلَةً سَوْدَاءَ. قَالَ حَمَّادٌ هَذَا أَوْ نَحْوَهُ).

ص: 604

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ) تقدّم قبل باب.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السّختيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حجةٌ فقيه عابد [5](ت 131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.

4 -

(أَبُو قِلَابَةَ) عبد الله بن زيد بن عمرو الجرميّ البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، كثير الإرسال، فيه نصبٌ يسير [3](ت 104) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

5 -

(أَبُو الأَشْعَثِ) شَرَاحيل بن آدة، ويقال: إن آدة جدّ أبيه، وهو شَرَاحيل بن شُرَحْبيل بن كُليب بن آدة، ويقال: شَرَاحيل بن كُليب، ويقال: شَراحيل بن شَراحيل، ويقال: شُرَحبيل بن شُرَحبيل الصنعانيّ، وهو من صنعاء الشام، وقيل: من صنعاء اليمن، شَهِدَ فتح دمشق، ثقةٌ [2].

رَوَى عن شداد بن أوس، وثوبان، وأوس بن أوس الثقفيّ، وعبادة بن الصامت، وأبي هريرة، والنعمان بن بشير، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومرة بن كعب، أو كعب بن مرة، وأبي ثعلبة الْخُشَنيّ، وأبي أسماء الرَّحَبِيّ، وغيرهم.

ورَوَى عنه أبو قلابة الْجَرْميّ، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، ومسلم بن يسار المكيّ، وحسان بن عطية، وراشد بن داود، ويحيى بن الحارث الذِّمَاريّ، وغيرهم.

قال العجليّ: شاميّ تابعيّ ثقة، وذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل اليمن، وقال: كان ينزل دمشق، قال: وتُوُفّي زمن معاوية، وقال دُحيم: شَهِد فتح دمشق، وقال ابن معين: كان من الأبناء، سَكَن دمشق، وذكره ابن حبان في "الثقات"، فقال: شَرَاحيل بن شُرَحبيل بن كُليب بن آدة، قال: ومن قال: شَرَاحيل بن آدة فقد نسبه إلى جدّه، وقال ابن الجوزيّ: روايته عن ثوبان منقطعة، كذا قال.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، ومسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث، برقم (1587) وأعاده بعده، و (1709)، و (1955)، و (2568).

ص: 605

6 -

(عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ) بن قيس الأنصاريّ الْخَزْرجيّ، أبو الوليد المدنيّ، أحد النقباء، بدريّ مشهور، مات بالرملة سنة (34)، وله (72) سنةً، وقيل: عاش إلى خلافة معاوية، قال سعيد بن عُفير: كان طوله عشرة أشبار (ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سُداسيّات المصنف رحمه الله، وأن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه، وأبي الأشعث، فأخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، وأنه مسلسل بالبصريين إلى أبي قلابة، وأن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم، عن بعض.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي قِلَابَةَ) عبد الله بن زيد الْجَرْميّ؛ أنه (قَالَ: كُنْتُ بالشَّامِ) البلد المعروف، وهو بهمزة ساكنة، ويجوز تخفيفها، والنسبة إليه شأميّ، ويجوز شآم، بالمدّ، من غير ياء، مثلُ يمنيّ، وَيمانِ

(1)

. (فِي حَلْقَةٍ) بفتح الحاء المهَملة، وسكون اللام؛ أي: في جماعة اجتمعوا مستديرين (فِيهَا) أي: في تلك الحلقة (مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ) البصريّ، نزيل مكة، أبو عبد الله الفقيه، مولى بني أمية، وقيل: مولى طلحة، وقيل: مولى مُزَينة، ويقال له: مسلم سكرة، ومسلم المصبّح، ثقة عابد [4].

رَوَى عن أبيه، وابن عباس، وابن عمر، وأبي الأشعث الصنعانيّ، وحمران بن أبان، وأرسل عن عبادة بن الصامت، وغيرهم، ورَوَى عنه ابنه عبد الله، وثابت البنانيّ، ويعلى بن حكيم، ومحمد بن سيرين، وأيوب السختيانيّ، وأبو نضرة بن البختريّ، وقتادة، وصالح أبو الخليل، ومحمد بن واسع، وعمرو بن دينار، وأبان بن أبي عياش، وعدة. قال أبو طالب، عن أحمد: ثقة. وقال أبو داود، عن ابن معين: رجل صالح قديم. وقال العجليّ: تابعيّ ثقة، وقال الآجريّ، عن أبي داود: كان يقال له: مسلم الْمُصْبح؛ لأنه

(1)

"المصباح المنير" 1/ 328.

ص: 606

كان يُسْرِج المسجد، وقال: روى ابن سعد، عن ابن عون: كان مسلم بن يسار، لا يُفَضَّل عليه أحد في ذلك الزمان. وقال القطان: لم يسمع قتادة عنه، وقال ابن سعد: قالوا: كان ثقة فاضلًا عابدًا ورعًا، توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز، سنة مائة، أو إحدى ومائة، وقال خليفة ابن خياط: كان يُعَدُّ خامس خمسة، من فقهاء أهل البصرة، مات سنة مائة.

أخرج له أبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في "صحيح مسلم" ذكر هنا وفي "اللباس".

(فَجَاءَ أَبُو الأَشْعَثِ) شراحيل بن آدة الصنعانيّ (قَالَ) أبو قلابة: (قَالُوا) أي: الناس الحاضرون في الحلقة (أَبُو الأَشْعَثِ أَبُو الأَشْعَثِ)؛ أي: جاء أبو الأشعث، وإنما كرّروه تنويهًا بشأنه، وتعظيمًا له (فَجَلَسَ) أبو الأشعث، قال أبو قلابة:(فَقُلْتُ لَهُ)؛ أي: لأبي الأشعث (حَدِّثْ) أمر من التحديث (أَخَانَا) يريد مسلم بن يسار (حَدِيثَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ) رضي الله عنه (قَالَ) أبو الأشعث: (نَعَمْ) بفتحتين: حرف جواب، معناها هنا الوعد، قال الفيّوميّ رحمه الله: وقولهم في الجواب: "نَعَمْ" معناها: التَّصْدِيقُ، إن وقعت بعد الماضي، نحو هلِ قام زيد؟ والوَعْدُ إن وقعت بعد المستقبل، نحو هل تقوم؟ قال سيبويه: نعَمْ عِدَةٌ، وتصديق، قال ابن بَابِشَاذْ: يريد أنها عِدَةٌ في الاستفهام، وتصديق للإخبار، ولا يريد اجتماع الأمرين فيها في كلّ حال، قال النِّيليُّ: وهي تُبقي الكلام على ما هو عليه من إيجاب، أو نفي؛ لأنها وُضِعت لتصديق ما تقدَّم، من غير أن ترفع النَّفي وتبطله، فإذا قال القائل: ما جاء زيد، ولم يكن قد جاء، وقلت في جوابه: نَعَمْ كان التقدير: نعم ما جاء، فصدقت الكلام على نفيه، ولم تبطل النفي، كما تبطله "بَلَى"، وإن كان قد جاء، قلت في الجواب: بَلَى، والمعنى: قد جإء، فَنَعَمْ تُبقي النفي على حاله، ولا تبطله، وفي التنزيل:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]، ولو قالوا: نَعَمْ كان كفرًا؛ إذ معناه: نعم لست بربنا؛ لأنها لا تزيل النفي، بخلاف بَلَى، فإنها للإيجاب بعد النفي. انتهى كلام الفيّوميّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 614.

ص: 607

(غَزَوْنَا غَزَاة) بالفتح منصوب على المصدريّة، وأما بالضم فجمع غاز، ولا يناسب هنا (وَعَلَى النَّاسِ مُعَاوَيةُ) أي: أميرًا، لا خليفةً؛ فإن زمان خلافته متأخّر عن ذلك بكثير، قاله القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وهو: معاوية بن أبي سفيان الصحابيّ الشهير، توفّي رضي الله عنه في رجب سنة ستّين، وقد تقدّمت ترجمته في "الصلاة" 8/ 858.

(فَغَنِمْنَا) بكسر النون، من باب علم، يقال: غَنِمتُ الشيءَ أغنَمه غُنْمًا بالضمّ إذا أصبته غنيمةً (غَنَائِمَ) جمع غنيمة، وهي ما نِيل من أهل الشرك عَنْوةً، والحرب قائمة، أما ما نيل منهم بعد أن تضع الحرب أوزارها، فيُسمّى فيئًا

(2)

. (كَثِيرَةً، فَكَانَ فِيمَا غَنِمْنَا آنِيَةٌ) بالرفع على أنه اسم "كان" وخبرها الجارّ والمجرور قبله، وقوله:(مِنْ فِضَّةٍ) بيان لـ "ما غَنِمنا"(فَأَمَرَ مُعَاوِيةُ) رضي الله عنه (رَجُلًا) لم يُعرف اسمه

(3)

. (أَنْ يَبِيعَهَا فِي أَعْطِيَاتِ النَّاسِ) بفتح الهمزة، جمع أعطية، قال المجد رحمه الله: العطا، وقد يُمدّ: نولك السَّمْحَ، وما يُعطَى، كالعطيّة، جمعه أعطياة، وجمع جمعه أعطيات. انتهى

(4)

.

والمراد هنا ما يعطاه الجند من المال المرتّب لهم من الدولة شهريًّا، أو سنويًّا، يعني أنه أمر أن تباع آنية الفضة تلك بالدراهم نسيئة إلى أن يخرج عطاء المشتري، وفي رواية البيهقيّ من طريق خالد الحذّاء، عن أبي قلابة، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه شَهِد الناس يتبايعون آنية الذهب والفضّة إلى الأعطية.

قال القرطبيّ رحمه الله: هذا البيع لهذه الآنية كان بالذراهم، ولذلك أنكره عبادة بن الصامت رضي الله عنه، واستَدَلّ عليه بقوله:"الفضة بالفضة"، ولو كان بذهب أو عَرْض لَمَا كان للإنكار، ولا للاستدلال وجه. انتهى

(5)

.

(فَتَسَارَعَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ) أي: في شراء تلك الآنية بالدَّراهم، قال القرطبيّ: وهو يدلُّ على أقلية العلماء، وأن الأكثر الجهال، ألا ترى أن

(1)

"المفهم" 4/ 473.

(2)

راجع: "المصباح" 2/ 454 - 455.

(3)

راجع: "تنبيه المعلم"(ص 265).

(4)

"القاموس المحيط" ص 886.

(5)

"المفهم" 4/ 473.

ص: 608

معاوية رضي الله عنه قد جَهِل ذلك مع صحبته، وكونه من كُتَّاب الوحي، ويَحْتَمِل أن يقال: إن معاوية كان لا يرى ربا الفضل كابن عباس وغيره، والأول أظهر من مساق هذا الخبر، فتأمل نصَّه؛ فإنَّه صريح: في أن معاوية لم يكن علم بشيء من ذلك. انتهى

(1)

.

(فَبَلَغَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ) رضي الله عنه (فَقَامَ) عبادة (فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ) قال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليل على أنهما نوعان مختلفان؛ كمخالفة التمر للبُرِّ؛ وهو قول الشافعيّ، وأبي حنيفة، والثوريّ، وابن عُلّيَّة، وفقهاء أهل الحديث، وذهب مالك، والأوزاعيّ، والليث، ومعظم علماء المدينة، والشام إلى أنهما صنف واحد، وهو مرويّ عن عمر، وسعيد، وغيرهما من السَّلف متمسكين، بتقاربهما في المنبت، والمحصد، والمقصود؛ لأن كل واحد منهما في معنى الآخر، والاختلاف الذي بينهما إنما هو من باب مخالفة جيِّد الشيء لرديئه. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما ذهب إليه الأولون من أن البرّ والشعير صنفان، لا صنف واحد هو الأرجح عندي؛ بدليل العيان والمشاهدة، والله تعالى أعلم.

(وَالتَّمْرِ بالتمْرِ، وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ) بكسر، فسكون، يذكّر، ويؤنّث، قال الصغانيّ: والتأَنيث أكثر، واقتَصَر الزمخشريّ عليه، وقال ابن الأنباريّ: الملح مؤنّثةٌ، وتصغيرها مُليحة، والجمع: مِلاح بالكسر، مثلُ بِئر وبئار. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: لم يُختَلَف في جريان الربا في هذه الأصناف الستة، لكن هل تعلُّق حكم الرِّبا باسمائها أم بمعانيها؟ فأهل الظاهر قصروه على أسمائها، فلا يجري الرِّبا عندهم في غير هذه الأصناف الستة، وفقهاء الأمصار من الحجازيين وغيرهم رأوا: أن ذلك الحكم متعلق بمعانيها، وتمسَّكوا في

(1)

"المفهم" 4/ 473.

(2)

"المفهم" 4/ 474 - 475.

(3)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 578.

ص: 609

ذلك بما تقدَّم، وبأن الدقيق يجري فيه حكم الرِّبا بالاتفاق، ولا يصدق عليه اسم شيء من تلك الأصناف المذكورة في الحديث.

فإن قيل: دقيق كل صنف منها مردود إلى حَبِّه في حكمه.

قلنا: فهذا اعتراف بأن الحكم لم يتعلَّق بأسمائها، بل بمعانيها، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: مذهب الجمهور في كون حكم الربا يتعلّق بالمعاني، لا بالأسماء لا يخفى رجحانه؛ إذ حكمة النهي عن الربا والمعاملة الباطلة هو المحافظة على أموال الناس؛ لئلا يأكل بعضهم مال بعض بالباطل، وهذا المعنى متحقّق في كلّ ما أشبه هذه الأصناف المنصوص عليها.

والحاصل أن الله -سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ- ما حرّم الربا إلا لحفظ أموال الناس، فكل ما أدى إلى أكل أموالهم بالباطل يدخل في هذا المعنى، ولا يختصّ بالأصناف المنصوص عليها، فتأمل بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

قال: قد اختلفوا في تعيين ذلك المعنى، فقال أبو حنيفة: إن علة ذلك كونه مكيلًا أو موزونًا جنسًا، وذهب الشافعيّ في القديم: إلى أن المعنى: هو أنه مأكول مكيل، أو موزون جنسًا. وفي الجديد هو أنَّه مطعوم جنس، وحُكي عن ربيعة: أن العلة هي: كونه جنسًا تجب فيه الزكاة، واختلفت عبارات أصحابنا -المالكيّة- وأحسن ما في ذلك أنه هو كونه مقتاتًا، مدخرًا للعيش غالبًا جنسًا. ولبيان الأرجح من هذه العلل والفروع المبنية عليها علم الخلاف، وكتب الفروع. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم تحقيق القول في علة الربا، وترجيح الراجح قريبًا، فلا تغفل.

(إِلا سَوَاءً بِسَوَاءٍ) أي: إلا في حالة كونهما متساويين، ففيه النهي عن التفاضل (عَيْنًا بِعَيْنٍ) يعني معاينة، ومشاهدة، ففيه النهي عن بيع الغائب بالغائب، أو بالحاضر، وهذا معنى ما سبق بلفظ:"ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز".

(1)

"المفهم" 4/ 474.

(2)

"المفهم" 4/ 474.

ص: 610

(فَمَنْ زَادَ) أي: أعطى الزيادة، وقدّمه لأن الأمر باختياره أوّلًا (أَوِ ازْدَادَ) أي: أخذ الزيادة، قال الفيّوميّ رحمه الله: زَادَ الشيء يَزِيدُ زَيْدًا، وزَيادَةً، فهو زَائِدٌ، وزِدْتُهُ أنا، يُسْتَعْمَل لازمًا ومتعديًا، ويقال: فَعَل ذلك زِيادَةً على المصدر، ولا يقال: زَائِدَةٌ، فإنها اسم فاعل من زَادَتْ، وليست بوصف في الفعل، وازْدَادَ الشيءُ، مثلُ زَادَ، وازْدَدْتُ مالًا زِدْتُهُ لنفسي زِيادَةً على ما كان، واسْتَزَادَ الرجل طلب الزيادة، ولا مُسْتَزَادَ على ما فعلتَ؛ أي: لا مَزِيدَ، وفي الحديث:"مَنْ زَادَ، أَوْ ازْدَادَ، فَقَدْ أَرْبَى"، فقوله:"زَادَ"؛ أي: أَعْطَى الزيادةَ، أو ازْدَادَ؛ أي: أخذها، وفي حديثي أبي سعيد، وأبي هريرة رضي الله عنهما الآتيين بعده:"فمن زاد، أو اسْتَزَادَ"، والمعنى: أو سأل الزيادة، فأخذها، وعليه حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:"وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَني". انتهى

(1)

.

(فَقَدْ أَرْبَى) يقال: أربى الرجل بالألف: إذا دخل في الربا، والمراد أنه أكل الربا، فيدخل تحت الوعيد الوارد في آكل الربا، يعني أن الربا لا يتوقّف على أخذ الزيادة فقط، بل يتحقّق بإعطاء الزيادة أيضًا، فكلّ من المعطي والآخذ عاصٍ، وقال النوويّ رحمه الله: معناه: فَعَل الربا المحرّم، فدافع الزيادة، وآخذها عاصيان مربيان. انتهى

(2)

.

وقال القاري: "فقد أربى؛ أي: أوقع نفسه في الربا، وقال التوربشتيّ رحمه الله؛ أي: أتى الربا وتعاطاه، ومعنى اللفظ: أخذ أكثر مما أعطاه، من ربا الشيءُ يربو: إذا زاد، قال الطيبيّ رحمه الله: لعل الوجه أن يقال: أتى الفعلَ المحرَّمَ؛ لأن من اشترى الفضة عشرة مثاقيل بمثقال من ذهب، فالمشتري آخذ للزيادة، وليس بربا. انتهى

(3)

.

(فَرَدَّ النَّاسُ مَا أخَذُوا) أي: ما أخذوه من آنية الفضّة بسبب الشراء بالأجل، قال النوويّ: هذا دليل على أن البيع المذكور باطل (فَبَلَغَ ذَلِكَ) أي: ردّ الناس بيعهم بسبب ما حدّث به عبادة رضي الله عنه (مُعَاوِيةَ) رضي الله عنه (فَقَامَ خَطِيبًا، فَقَالَ: ألَا) أداة استفتاح وتنبيه (مَا) استفهاميّة (بَالُ) أي: حال (رِجَالٍ يَتَحَدَّثُونَ

(1)

"المصباح المنير" 1/ 261.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 13.

(3)

"مرقاة المفاتيح" 6/ 45.

ص: 611

عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحَادِيثَ قَدْ كنَّا نَشْهَدُهُ، وَنَصْحَبُهُ، فَلَمْ نَسْمَعْهَا مِنْهُ) قال السنديّ في "حاشية النسائيّ": قوله: "فقال: ما بال رجال

إلخ" استدلال بالنفي على ردّ الحديث الصحيح بعد ثبوته، مع اتّفاق العقلاء على بطلان الاستدلال بالنفي، وظهور بطلانه بأدنى نظر، بل بديهة، فهذا جراءة عظيمة يغفر الله لنا وله. انتهى كلام السنديّ

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وأنا أقول: سامح الله السنديّ في هذه الجراءة العظيمة على هذا الصحابيّ الجليل رضي الله عنه، ولو أن إمام مذهبه خالف الحديث الصحيح، لما استجاز أن يقول هذا الكلام في حقّه، بل يعتذر عنه باعذار، لا تُسْمِن، ولا تغني من جوع، فكيف استجاز هذا الكلام البَشِع على هذا الصحابيّ الجليل رضي الله عنه؟ بل الصواب أن مثل هذا كثيرًا ما يصدر عن غيره من الصحابة رضي الله عنهم، إذا سمعوا بعض الأحاديث التي كانوا يظنون أن حكم الشرع بخلافها، ظنًّا منهم أن الذي حدّث بها ربما يَهِم، وربما يحذف نسيانًا بعض القيود، أو الشروط التي ذكرها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فتنبيهًا على هذا يصدر منهم إنكارٌ، لا لردّ ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، فحاشا معاوية رضي الله عنه أن يُتّهم بمثل هذا، فقد أنكر عمر على عمّار رضي الله عنهما حديث التيمم للجنب، وأنكر على فاطمة بنت قيس رضي الله عنهما حديثها: ليس للمطلقة البائن نفقة، ولا سكنى، وأنكرت عائشة رضي الله عنها على ابن عمر وغيره أحاديث كثيرة، فالواجب علينا إذا سمعنا مثل هذا صدر عن الصحابة رضي الله عنهم أن نعتذر عنهم، ولا نطوّل ألستنا، بل نقول:{مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16]، والله تعالى المستعان على من تطاول على الصحابة الكرام رضي الله عنهم، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العزيز الحكيم.

وقال بعضهم: قوله: "فلم نسمعها منه" ظاهره أن معاوية رضي الله عنه لم يسمع هذا الحديث، ولا علمه، كما لم يعلمه في البداية عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عبّاس رضي الله عنهم، وقد أخرج مالك، وأحمد، والشافعيُّ، عن عطاء بن يسار: "أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب، أو ورق بأكثر من وزنها، فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلًا بمثل، فقال له

(1)

"حاشية السنديّ على النسائيّ" 7/ 276.

ص: 612

معاوية: ما أرى بمثل هذا بأسًا، فقال أبو الدرداء: مَن يَعذِرني من معاوية؛ أنا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويخبرني عن رأيه، لا أساكنك بأرض أنت بها، ثم قَدِمَ أبو الدرداء على عمر بن الخطاب، فذكر ذلك له، فكتب عمر بن الخطاب إلى معاوية أن لا تبيع ذلك، إلا مثلًا بمثل، وزنا بوزن".

قال ابن عبد البرّ رحمه الله: كان معاوية رضي الله عنه يذهب إلى أن النهي والتحريم إنما ورد من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدينار المضروب، والدرهم المضروب، لا في التبر من الذهب والفضة بالمضروب، ولا في المصوغ بالمضروب، وقيل: إن ذلك إنما كان منه في المصوغ خاصّة، والله أعلم، حتى وقع له مع عبادة ما ذُكر في هذا الباب، وقد سأل عن ذلك أبا سعيد بعد حين، فأخبره عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بتحريم التفاضل في الفضة بالفضة، والذهب بالذهب تبرهما وعينهما، وتبر كل واحد منهما بعينه، وإنما كان سؤاله أبا سعيد استثباتًا؛ لأنه كان يعتقد أن النهي إنما ورد في العين، ولم يكن -والله أعلم- عَلِمَ بالنهي حتى أعلمه غيره، وخفاءُ مثل هذا على مثله غير مُنكر؛ لأنه من علم الخاصّة، وذلك موجود لغير واحد من الصحابة رضي الله عنهم.

قال: ويَحْتَمِل أن يكون مذهبه كان كمذهب ابن عباس رضي الله عنهم، فقد كان ابن عباس، وهو بحر في العلم لا يرى بالدرهم بالدرهمين يدًا بيد بأسًا حتى صرفه عن ذلك أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه، فلا ينكر أن يخفى على معاوية ما خفي على ابن عباس رضي الله عنهم.

وقد روينا عن معاوية رضي الله عنه أنه كان يذهب إلى أن الربا في المضروب دون غيره، وهو شيء لا وجه له عند أحد من أهل العلم، وإذا كان ابن عباس وعمر قبله، وأبو بكر قبلهما يخفى عليهم ما يوجد عند غيرهم، ممن هو دونهم، فمعاوية أحرى أن يوجد عليه مثل ذلك مع أبي الدرداء رضي الله عنهما. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله باختصار

(1)

.

(1)

راجع: "التمهيد لابن عبد البر" 4/ 73 - 4/ 75.

ص: 613

وبمذهب معاوية رضي الله عنه هذا يقول ابن القيّم رحمه الله، فإنه يقول: إن المصوغ من الذهب والفضّة سلعة غير ربويّة، فيجوز بيعه بالتبر متفاضلًا ونسيئةً؛ لأن عمل الصياغة قد أخرجه من الأثمان، وأدخله في السلع المستعملة، ولهذا لم تجب عليه الزكاة عنده، وعند الشافعيّ، والجمهور على أن المصوغ، والتبر، والمسكوك سواء في حرمة التفاضل والنسيئة؛ لأن أحاديث التحريم عامّة لكل ذهب، وعمل الصياغة لا يخرجه عن كونه ذهبًا، ولذا أنكر أمثال أبي الدرداء، وعبادة بن الصامت، ثم مثل عمر بن الخطاب على معاوية رضي الله عنهم في هذا حتى كتب فيه عمر إلى معاوية، ونهاه عن مثل هذا البيع.

وأجاب ابن القيم عن قصّة عبادة رضي الله عنه بأن إنكاره على معاوية لم يكن بسبب أن بيع الآنية كان يستلزم الربا، وإنما كان من أجل أن استعمال آنية الفضة حرام، فبيعه لا يجوز من أجل حرمة استعمالها، لا بجنسه، ولا بغيره، ولا بالمساواة، ولا بالتفاضل.

عبارة ابن القيّم رحمه الله في كتابه "إعلام الموقعين"(2/ 159): وأما ربا الفضل فأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة، كالعرايا، فإن ما حُرِّم سدًّا للذريعة أخفّ مما حُرِّم تحريم المقاصد، وعلى هذا فالمصوغ، والحلية إن كانت صياغته محرَّمة، كالآنية حَرُم بيعه بجنسه، وغير جنسه، وبيع هذا هو الذي أنكره عبادة على معاوبة رضي الله عنهما، فانه يتضمن مقابلة الصياغة المحرَّمة بالأثمان، وهذا لا يجوز، كآلات الملاهي. انتهى.

وتعقّبه بعضهم بأن تأويله هذا غير سائغ بالنظر إلى حديث الباب، فإن عبادة رضي الله عنه لم يحتجّ على معاوية بحرمة استعمال الآنية، وإنما استدلّ بحديث حرمة الربا، فلولا أنه كان يقول بحرمة التفاضل والنسيئة في المصوغ؛ لَمَا ذكر هذا الحديث في هذا السياق، بل ذكر حديث تحريم استعمال الآنية من الفضة، وكذلك أبو الدرداء رضي الله عنه احتجّ على معاوية بحديث وجوب التماثل في الربويّات، ولم يذكر مسألة استعمال الإناء، ثم إن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه كتب إلى معاوية "أن لا يبيع مثل ذلك إلا مثلًا بمثل"، كما ورد في حديث "الموطّإ"، مما يدل صريحًا على أن الحرمة عند هؤلاء الصحابة كانت من

ص: 614

أجل فقدان التماثل، لا من جهة استعمال الإناء، فمذهب ابن القيّم رضي الله عنهم لا تساعده الأحاديث، ولا تعامل الصحابة، وتأويله بما ذكر تأويل تأباه ألفاظ الحديث، والنظر الصحيح جميعًا؛ لأن الإناء من الفضّة، وإن حرُم استعمالها، فلا يحرم بيعها وشراؤها بنيّة تخليص ما فيها من فضّة، واستعمالها في الحلي مثلًا.

فالحقّ الصريح أن هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقولون بالحرمة في كلّ ذهب وفضّة، سواء كانا مصوغين، أو مسكوكين، وخالفهم معاوية رضي الله عنه باجتهاده، ولكن قضاء عمر رضي الله عنه في الأخير كان بخلافه، والظاهر أن يكون معاوية رجع عن قوله بعد كتاب عمر رضي الله عنهما. انتهى

(1)

، وهو تحقيقٌ مفيد، والله تعالى أعلم.

(فَقَامَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ) رضي الله عنه (فَأَعَادَ الْقِصَّةَ، ثُمَّ قَالَ: لَنُحَدِّثَنَّ بِمَا سَمِعْنَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنْ كَرِهَ مُعَاوِيةُ، أَوْ) للشكّ من الراوي (قَالَ: وَإِنْ رَغِمَ) أي: ذَلّ، يقال: رَغِم، بكسر الغين المعجمة، وفتحها: بمعنى ذَلَّ، وصار كاللاصق بالرُّغام، وهو التراب، وفيه الاهتمام بتبليغ السنن، ونشر العلم، وإن كرهه من كَرِهه، وفيه القول بالحقّ، وإن كان المقول كبيرًا (مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَصْحَبَهُ) أي: في عدم مصاحبة معاوية (فِي جُنْدِهِ) أي: مع جنده (لَيْلَةً سَوْدَاءَ) أي: مظلمة.

وكان عبادة بن الصامت رضي الله عنه ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يخاف في الله لومة لائم، كما رواه قتادة في هذا الحديث عند النسائيّ في "سننه"، وكان عمر رضي الله عنه بعث ثلاثة من فقهاء الصحابة إلى الشام بطلب من يزيد بن أبي سفيان

(2)

، فأقام أبو الدرداء بدمشق، ومعاذ بفلسطين، وعبادة بحمص، ثم لَمّا

(1)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 1/ 595 - 596.

(2)

يزيد بن أبي سفيان بن حرب الأمويّ، أخو معاوية صحابيّ مشهور، أمّره عمر رضي الله عنهما على دمشق حتى مات بها سنة تسع عشرة من الهجرة بالطاعون. انتهى. "التقريب" ص 382.

ص: 615

مات معاذ رضي الله عنه انتقل عبادة إلى فلسطين، وأقام بها حتى تُوُفّي رضي الله عنه، وكان عبادة رضي الله عنه يبادر إلى الإنكار على المنكرات وفاء لبيعته، وكانت له مع معاوية رضي الله عنه أخبار سردها ابن عساكر في "تاريخه"، ومن جملتها هذا الحديث، وقد أخرجه ابن عساكر عن الحسن مرسلًا، ولفظه: عن الحسن قال: كان عبادة بن الصامت بالشام، فرأى آنية من فضّة يباع الإناء بمثلي ما فيه، أو نحو ذلك، فمشى إليهم عبادة، فقال: أيها الناس من عَرَفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني، فأنا عبادة بن الصامت، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس من مجالس الأنصار ليلة الخميس في رمضان، ولم يصم رمضان بعده، يقول:"الذهب بالذهب مثلًا بمثل، سواءً بسواء، وزنًا بوزن، يدًا بيد، فما زاد فهو ربا، والحنطة قفيز بقفيز، يدًا بيد، فما زاد فهو ربا، والتمر بالتمر، قفيز بقفيز، يدًا بيد، فما زاد فهو ربا"، قال: فتفرّق الناس عنه، فأتي معاوية، فأُخبر بذلك، فأرسل إلى عبادة، فأتاه، فقال له معاوية: لئن كنت صحبت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسمعت منه، لقد صَحِبناه، وسمعنا منه، فقال له عبادة: لقد صَحِبته، وسمعت منه، فقال له معاوية: فما هذا الحديث الذي تذكره؟ فأخبره به، فقال له معاوية: اسكت عن هذا الحديث، ولا تذكره، فقال له: بلى، وإن رَغِم أنف معاوية، ثم قال: فقال له معاوية: ما نجد شيئًا أبلغ فيما بيني وبين أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من الصفح عنهم. انتهى.

وهذه القصّة تدلّ على أن حديث ربا الفضل تكلّم به النبيّ صلى الله عليه وسلم في رمضان سنة عشر من الهجرة، والله أعلم

(1)

.

(قَالَ حَمَّادٌ) هو ابن زيد (هَذَا)؛ أي: هذا اللفظ الذي ساقه (أَوْ نَحْوَهُ)؛ أي: نحو هذا اللفظ، والقائل: "قال حمّاد

إلخ " هو عبيد الله بن عمر القواريريّ، شيخ المصنّف، وأشار بهذا إلى شكّه في نصّ حماد للحديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 1/ 596 - 597.

ص: 616

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه هذا من أفواد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [36/ 4054 و 4055 و 4056](1587)، و (أبو داود) في "البيوع"(3349 و 3350)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1240)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 273 و 274 و 276 و 278) و"الكبرى"(4/ 25 و 26 و 27 و 28 و 29)، و (ابن ماجه) في "التجارات"(2254)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 180)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 320 و 497)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 192)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 314 و 320)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 336)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 380 و 381 و 382 و 390)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(4/ 66)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5015)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(3/ 18)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 277 و 278 و 291) و" الصغرى"(5/ 34) و" المعرفة"(4/ 288 و 289 و 290)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم بيع هذه الأشياء بجنسها، إلا بالمماثلة، والتقابض في المجلس.

2 -

(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من المحافظة على الوفاء بما بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن أدّى ذلك إلى كراهة أميرهم، وذلك أن عبادة رضي الله عنه كان ممن بايع النبيّ صلى الله عليه وسلم أن لا ايخاف في الله لومة لائم، فلما أنكر عليه معاوية، لم يسكت، بل أعاد الحديث، وواجهه بما يكرهه، فقال: وإن رَغِم معاوية، قال القاضي عياض رحمه الله: فيه ما يجب مما أخذ الله على العلماء ليبيّنُنّه للناس، ولا يكتمونه، وليكوننّ قوامين بالقسط، شهداء لله، وإغلاظه في اللفظ لمعاوية؛ لمقابلته له على إنكاره تحريمه، مع تحققه حلم

ص: 617

معاوية، وصبره. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): الاهتمام بتبليغ السنن، ونشر العلم، وإن كرهه من كرهه.

4 -

(ومنها): القول بالحقّ، وإن كان المقول له كبيرًا.

5 -

(ومنها): جواز بيع هذه الأشياء بشرط المماثلة، والتقابض.

6 -

(ومنها): جواز التفاضل بينها إذا اختلفت الأجناس، بشرط التقابض في المجلس.

7 -

(ومنها): أن إعطاء الربا مثل أكله في الإثم.

8 -

(ومنها): أن فيه الردّ على من قال: إن البرّ والشعير جنس واحد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نصّ على جواز بيع البرّ بالشعير كيف شاءوا، وبهذا قال الشافعيّ، وأبو حنيفة، والثوريّ، وفقهاء المحدّثين، وآخرون، وقال مالك، والليث، والأوزاعيّ، ومعظم علماء المدينة، والشام من المتقدّمين: إنهما صنف واحد، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

9 -

(ومنها): ما قاله في "الكاشف": هذا الحديث هو العمدة في هذا الباب، عَدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أصولأ، وصَرّح بأحكامها، وشروطها التي تُعتبر في بيع بعضها ببعض جنسًا واحدًا، أو أجناسًا، وبيّن ما هو العلّة في كلّ واحد منها؛ لِيَتَوصّل المجتهد بالشاهد إلى الغائب، فإنه صلى الله عليه وسلم ذكر النقدين، والمطعومات الأربع؛ إيذانًا بأن علّة الربا هي النقديّة، أو الطعم، وإشعارًا بأن الربا إنما يكون في النوعين المذكورين، وهما النقد، أو المطعوم، وذكر من المطعومات الحبوب، وهي البرّ، والشعير، والتمر، والثمار، وهو الثمر، وما يُقصد مطعومًا لنفسه، وهو البرّ، والشعير، والتمر، أو لغيره، وهو الملح؛ ليُعلم أن الكلّ سواء في هذا الحكم.

وقسم التعامل في أموال الربا على ثلاثة أقسام:

[أحدها]: أن يباع شيء منها بجنسه المشارك له في علّة الربا؛ كبيع الحنطة بالحنطة، فشرط صلى الله عليه وسلم في هذا القسم ثلاثة أشياء: الأول: التماثل في

(1)

"إكمال المعلم" 5/ 269.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 16.

ص: 618

القدر بقوله: "مثلًا بمثل"، وأكّده بقوله:"سواءً بسواء"؛ لأن المماثلة أعمّ من أن تكون في القدر، بخلاف المساواة، والثاني، والثالث: الحلول والتقابض بقوله صلى الله عليه وسلم: "يدًا بيد"، فإنه دالّ على الشرطين جميعًا.

[وثانيها]: أن يُباع شيء منها بما ليس من جنسه، لكن يشاركه في العلّة؛ كبيع الحنطة بالشعير، فجوّز صلى الله عليه وسلم في هذا القسم التفاضل بقوله:"فإذا اختلفت الأجناس، فبيعوا كيف شئتم"، وشرط في هذا النوع أيضًا الشرطين الآخرين بقوله:"إذا كان يدًا بيد".

[وثالثها]: أن يباع شيء منها بما ليس من جنسه، ولا يشترك العوضان في علّة الربا، كبيع البرّ بالذهب، أو الفضّة، وصرّح صلى الله عليه وسلم بالقسمين؛ لأنهما المقصود بالبيان؛ لمخالفتهما سائر العقود في الشروط الثلاثة المذكورة، وسكت صلى الله عليه وسلم عن النوع الثالث؛ إما لأنه جارٍ على قياس سائر البياعات، فلا حاجة إلى البيان، وإما لأن أمره مدلول عليه على طريق المفهوم، فإن تقييد اعتبار الحلول والتقابض بالمشاركة في علّة الربا بين العوضين، وسواء كان مع اتّحاد الجنس، أو مع عدم اتّحاده بقوله:"إذا كان يدًا بيد"، وتقييد اعتبار المماثلة مع الشرطين المذكورين بالمشاركة في علّة الربا مع اتّحاد الجنس بقوله:"مثلًا بمثل، يدًا بيد" يدلّ على عدم اعتبار شيء من الشرائط الثلاثة فيما ليس كذلك. انتهى

(1)

، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4055]

(

) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، جَمِيعًا عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَيُّوبَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلهم تقدّموا في الباب، وفي الأبواب الثلاثة الماضية، و"إسحاق" هو: ابن راهويه، و"ابْنُ أَبِي عُمَرَ" هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 7/ 2125 - 2126.

ص: 619

[تنبيه]: رواية عبد الوهّاب الثقفيّ، عن أيوب هذه ساقها أبو عوانة في "مسنده" (3/ 381) فقال:

(5395)

- حدّثنا أبو زيد النميريّ عمر بن شبة، قثنا

(1)

عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفيّ، قثنا أيوب، يعني السختيانيّ، عن أبي قِلابة، عن أبي الأشعث، قال: كنا في غَزاة، فكان فيها معاوية، فأصبنا ذهبًا وفضةً، فأمر معاوية رجلًا أن يبيعها الناسَ بأعطياتهم، فسارع الناس فيها، فقام عُبادة بن الصامت، فنهاهم، فردّوها، فأتى الرجلُ معاوية، فشكا إليه عبادة، فقام معاوية خطيبًا، فقال: ما بال رجال يحدّثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث يَكْذِبون عليه فيها، لم نسمعها؟ فقام عبادة، فقال: والله لنحدّثن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كَرِه معاوية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الفضة بالفضة، ولا البرّ بالبرّ، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح، إلا مثلًا بمثل، سواءً بسواء، عينًا بعين". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4056]

(

) - (حَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَ اهِيمَ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ- قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الأَشْعَثِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الذهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضةِ، وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: ابن محمد بن بكير البغداديّ، نزيل الرقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

(1)

"قثنا" في الموضعين مختصر من "قال: حدّثنا".

ص: 620

2 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عابدٌ إمام حجة، من رؤوس [7](161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

4 -

(خَالِدُ الْحَذَّاءِ) هو ابن مِهران، أبو المنازل البصريّ، ثقةٌ حافظ، يرسل [5](ت 1 أو 142)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.

وقوله: (مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ) كلها منصوبة على الحال، والعامل متعلَّق قوله:"بالذهب"، وصاحبها الضمير المستكنّ فيه؛ أي: الذهب يباع بالذهب متماثلين مقبوضين يدًا بيد.

وقوله: (فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ، فَبيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ) قال القرطبيّ رحمه الله: إشارة إلى ما ذكره في الحديث من الَأصناف، ويُلْحَق بها ما في معناها على ما ذكرناه آنفًا، وينضاف إلى كل نوع منها ما في معناه، وما يقاربه، وما بَعُدَ عن ذلك كان صنفًا منفردًا بنفسه، ولذلك لم يختلف قول مالك: في أن الدُّخْنَ صنف منفرد، وكذلك الأرز، وهو قول كافة العلماء، والعَدَس عند أكثر المالكية صنف منفرد، وقال الشافعي: هو صنف من أصناف الحنطة، وقاله بعض أصحابنا، واختلف قول مالك في القطانيّ

(1)

، هل هي صنف واحد، أو أصناف؟ وقد ضَمّ مالك السَّلت إلى البر والشعير، وقال الشافعي: هو صنف منفرد بنفسه، وقال الليث: السَّلت، والدُّخْن، والذرة،

(1)

قال في "القاموس"(ص 1072): الْقُطْنيّة بالضمّ، وبالكسر: الثياب، وحُبُوب الأرض، أو ما سوى الحنطة، والشعير، والزبيب، والتمر، أو هي الحبوب التي تُطبخ. الشافعيّ: العدسُ، والْخُلْز، والفُول، والدُّجْرُ، والْحِمَّصُ، جمعه: الْقَطانيّ. انتهى.

وقال في "المصباح"(2/ 509) ما حاصله: يقال لما يُدّخر في البيت، من الحبوب، ويُقيم زمانًا: قِطنيّةٌ بكسر القاف على النسبة، وضمُّ القاف لغةٌ، وفي "التهذيب": الْقِطنيّةُ: اسم جامع للحبوب التي تُطبخ، وذلك مثلُ الْعَدَس، والباقلّاء، واللُّوبياء، والْحِمَّص، والأرز، والسِّمْسم، وليس الْقَمْح، والشعير من الْقَطانيّ. انتهى.

ص: 621

صنف واحد، وقاله ابن وهب، وسبب هذا الاختلاف اختلاف الشهادة بالتقارب في المقصود، والمحصد، والمنبت، فمن شهدت له عادة استعمال صنف في معنى صنف، وشابهه في شيء مما ذكرنا ألحقه به، ومن لم يحصل له ذلك لم يلحق، والأصل: أن ما اختلفت أسماؤه، ومقاصده أن يعدَّ أصنافًا مختلفة بدليل ظاهر الحديث المتقدِّم، والله أعلم. انتهى

(1)

.

والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4057]

(1584) - (حَدثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ الْعَبْدِيُّ، حَدثنَا أَبُو الْمُتَوَكلِ النَّاجِيُّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَمَنْ زَادَ، أَوِ اسْتَزَادَ، فَقَدْ أَرْبَى، الآخِدُ وَالْمُعْطِي فِيهِ سَوَاءٌ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ الْعَبْدِيُّ) أبو محمد البصريّ القاضي، ثقةٌ [6](م ت س) تقدم في "الطهارة" 15/ 602.

2 -

(أَبُو الْمُتَوَكلِ النَّاجِيُّ) عليّ بن داود، ويقال: دؤاد البصريّ، ثقةٌ [3](ت 108) أو قبل ذلك (ع) تقدم في "الطهارة" 15/ 602.

3 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك رضي الله عنهما، تقدّم قبل باب.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (مِثْلًا بمِثْلٍ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ على وجوب تحقيق المماثلة في بيع الرِّبَوِيّ بصنفه، وذلك لا يكون إلا بمعيار معلوم مقداره بالشَّرع، أو بالعادة وزنًا أو كيلًا، والأولى عند مالك: أن تجعل ذهبك في كفة، ويجعل ذهبه في كفة، فإذا استوى أخذ وأعطي، وكذلك يكون الكيل

(1)

"المفهم" 4/ 475.

ص: 622

واحدًا، ويجوز بصنجة واحدة؛ معلومة المقدار بالعادة أو بالتحقيق، ولا يجوز عند مالك، والشافعيّ في الصرف ولا غيره من البيوع أن يتعاملا بمعيار مجهول، يتفقان عليه؛ لجهل كل واحد منهما بما يصير إليه.

قال: وعلى هذا التعليل؛ فلا تجوز المراطلة المذكورة؛ لوجود الجهل المذكور. انتهى

(1)

.

وقوله: (فَمَنْ زَادَ، أَوِ اسْتَزَادَ، فَقَدْ أَرْبَى) أي: من بذل الزيادة، وطاع بها، ومن سألها، كل واحد منهما قد فعل الرِّبا، وهما سواء في الإثم؛ كما قال:(الآخد والمعطي فيه سواء)؛ أي: في فعل الْمُحَرَّم، وإثمه، وفي كتاب أبي داود:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن آكل الرِّبا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه"، وقال:"هم سواء"؛ أي: في استحقاق اللعنة والإثم

(2)

.

وقوله: (يَدًا بِيَدٍ) قال النوويّ رحمه الله: فيه حجة للعلماء كافّةً في وجوب التقابض، وإن اختلف الجنسان، وجوّز إسماعيل ابن عُليّة التفرّق عند اختلاف الجنس، وهو محجوج بالأحاديث، والإجماع، ولعله لم يبلغه الحديث، فلو بلغه لَمَا خالفه. انتهى

(3)

، وهو تحقيق نفيسٌ.

والحديث متّفقٌ عليه، وتمام شرحه واضح يُعلم مما مرّ، وقد تقدّم بيان مسائله في أول أحاديث الباب المذكور قبل باب، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4058]

(

) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ الرَّبَعِيُّ، حَدثنا أَبُو الْمُتَوَكلِ النَّاجِيُّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ"، فَذَكَرَ بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) أبو خالد الواسطيّ، ثقةٌ متقنٌ عابدٌ [9](ت 206) وقد قارب التسعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 45.

(1)

"المفهم" 4/ 475 - 476.

(2)

"المفهم" 4/ 475 - 476.

(3)

"شرح النوويّ" 11/ 14.

ص: 623

2 -

(سُلَيْمَانُ الرَّبَعِيُّ)

(1)

هو: ابن عليّ الأزديّ، أبو عكاشة البصريّ، ثقةٌ [4].

رَوَى عن أنس، وأبي المتوكل الناجئ، وأبي الجوزاء الرَّبَعيّ، وبكر بن عبد الله المزنيّ، والحسن البصريّ.

ورَوى عنه حماد بن زيد، وخالد بن الحارث، ووكيع، ورَوْح بن عُبادة، وابن المبارك، ويحيى القطان، ويزيد بن هارون، وغيرهم.

قال ابن معين: ثقة، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له المصنّف، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

والباقون ذُكروا في الإسنادين الماضيين.

[تنبيه]: رواية سليمان الربعيّ، عن أبي المتوكل هذه ساقها أبو عوانة في "مسنده" (3/ 382) فقال:

(5398)

- حدّثنا الدقيقيّ، وعيسى بن أحمد قالا: ثنا يزيد بن هارون، قثنا سليمان بن عليّ الرَّبَعِيّ، قثنا أبو المتوكل الناجيّ، عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، سواءً بسواء، مَن زاد، أو استزاد، فقد أربى، الآخذ والمعطي سواءٌ". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4059]

(1588) - (حَدَّثَنَا أَبُو كرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، وَوَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "التَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَمَنْ زَادَ، أَوِ اسْتَزَادَ، فَقَدْ أَرْبَى، إِلا مَا اخْتَلَفَتْ أَلْوَانُهُ").

(1)

بفتح الراء، والموحّدة: نسبة إلى بني ربيعة، قاله النوويّ.

ص: 624

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) تقدّم قبل باب.

2 -

(وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى) بن هلال الأسديّ، أبو القاسم، أو أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 244)(م 4) تقدم في "الطهارة" 12/ 587.

3 -

(ابْنُ فُضَيْلٍ) هو: محمد بن فضيل بن غَزْوَان الضبيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ رُمي بالتشيّع [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.

4 -

(أَبُوهُ) فُضيل بن غَزْوان بن جرير الضبيّ مولاهم، أبو الفضل الكوفيّ، ثقةٌ، من كبار [7] مات بعد (140) تقدم في "الإيمان" 78/ 405.

5 -

(أَبُو زُرْعَةَ) بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجليّ الكوفيّ، قيل: اسمه هَرِم، وقيل: عمرو، وقيل: عبد الله، وقيل غير ذلك، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 106.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4، وشرح الحديث واضح يُعلم مما سبق.

وقوله: (إِلَّا مَا اخْتَلَفَتْ أَلْوَانُهُ) يعني أجناسه، كما صُرّح به في الأحاديث الباقية، قاله النوويّ رحمه الله.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [36/ 4059 و 4060 و 4061 و 4062 و 4063](1588)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 273 و 278) و"الكبرى"(4/ 25)، و (ابن ماجه) في "التجارات"(2255)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 632)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 157) وفي "الرسالة" فقرة (759)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 232 و 261 و 379 و 437 و 485)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 492 و 11/ 31)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5012)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 382 و 383)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(4/ 69) و"مشكل

ص: 625

الآثار" (11/ 379)، و (البيهقيّ) في "الكبرى" (5/ 278)، و (البغويّ) في "شرح السنّة" (2058)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4060]

(

) - وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ، بِهَدَا الإِسْنَادِ، وَلَمْ يَذْكُرْ: يَدًا بِيَدٍ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ) عبد الله بن سعيد بن حُصين الْكِنْديّ الكوفيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 17.

2 -

(الْمُحَارِبِيُّ) عبد الرحمن بن محمد بن زياد الكوفيّ، لا بأس به، وكان يدلّس [9].

رَوَى عن إبراهيم بن مسلم الْهَجَريّ، وإسماعيل بن أبي خالد، وسلام الطويل] والأعمش، وفطر بن خليفة، وأبي إسحاق الشيبانيّ، وفضيل بن غزوان وغيرهم.

ورَوى عنه أحمد بن حنبل، وهنّاد بن السريّ، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو سعيد الأشجّ، ومحمد بن سلام البيكنديّ، وأبو كريب، وغيرهم.

قال ابن معين، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال النسائيّ أيضًا: ليس به بأس، وقال أبو حاتم: صدوق إذا حدَّث عن الثقات، ويروي عن المجهولين أحاديث منكرة، فيفسد حديثه، وقال محمود بن غيلان: قيل لوكيع: مات عبد الرحمن المحاربيّ، فقال: رحمه الله ما كان أحفظه لهذه الأحاديث الطوال، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الغلط، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال عثمان بن أبى شيبة: هو صدوق، ولكنه هو كذا مضطرب، وقال البزار، والدارقطنيّ: ثقة، وقال عثمان الدارميّ: سألت ابن معين عنه؟ فقال: ليس به بأس، قال عثمان، وعبد الرحمن: ليس بذاك، وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: بلغنا أنه كان يُدلِّس، ولا نعلمه من معمر، وقال عبد الله بن محمد، عن عاصم: حدثنا، فقال: لعله سمعه من سيف بن محمد، عن عاصم، يعني فدلّسه، وقال العجليّ: كان يُدلِّس؛ أنكر أحمد حديثه عن معمر، وقال العجليّ: لا بأس به، وقال الساجيّ: صدوقٌ يَهِمُ.

ص: 626

وقال البخاريّ عن محمود بن غيلان: مات سنة خمس وتسعين ومائة، وكذا أرّخه ابن سعد. أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

و"فضيل" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية المحاربيّ، عن فُضيل بن غزوان هذه ساقها أبو عوانة في (3/ 383) فقال:

(5401)

- حدّثنا الصغانيّ، قثنا معلى بن منصور، قثنا المحاربيّ، قثنا فُضيل بن غَزْوان، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والزبيب بالزبيب، والملح بالملح، مثلًا بمثل، إلا ما اختلفت ألوانه". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4561]

(

) - (حَدَّثنَا أَبُو كُرَيْبٍ، وَوَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي نُعْم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ، مِثْلًا بِمِثلٍ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَزْنًا بِوَزْنٍ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَمَنْ زَادَ، أَوِ اسْتَزَادَ فَهُوَ رِبًا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(ابْنُ أَبِي نُعْمٍ) -بضمّ النون، وسكون العين المهملة- هو: عبد الرحمن بن أبي نُعْمً البجليّ، أبو الحكم الكوفيّ، صدوق عابدٌ [3] مات قبل المائة (ع) تقدم في "الزكاة" 45/ 2451.

والباقون ذُكروا قبله.

والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى البحث فيه مستوفًى قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4062]

(

) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ، حَدَّثنَا سُلَيْمَانُ -يَعْنى ابْنَ بِلَالٍ- عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي تَمِيمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ لَا فَضْلَ بَيْنَهُمَا، وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ لَا فَضْلَ بَيْنَهُمَا").

ص: 627

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ) أبو عبد الرحمن البصريّ، مدنيّ الأصل، ثقةٌ عابدٌ، من صغار [9](ت 221)(ع)(خ م دت س) تقدم في "الطهارة" 17/ 617.

2 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) المدنيّ، تقدّم قبل باب.

3 -

(مُوسَى بْنُ أَبِي تَمِيمٍ) المدنيّ، ثقة [6].

رَوَى عن سعيد بن يسًار، عن أبي هريرة، في الصرف، وروى عنه مالك، وزهير بن محمد العنبريّ، وسليمان بن بلال.

قال أبو حاتم: ثقة، ليس به بأسٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

تفرّد به المصنّف، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

4 -

(سَعِيدُ بْنُ يَسَارٍ) أبو الْحُباب المدنيّ، ثقةٌ متقنٌ [3](ت 117) أو قبلها بسنة (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 5/ 1614.

وأبو هريرة" ذُكر قبله.

وقوله: (الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ

الخ): "الدينار": معروفٌ، والمشهور في الكتب أن أصله دِنّار بالتضعيف، فأُبدل حرفَ علّة للتخفيف، ولهذا يُردّ في الجمع إلى أصله، فيقال: دَنَانير، وبعضهم يقول: هو فِيعالٌ، وهو مردود بأنه لو كان كذلك لوُجدت الياء في الجمع، كما ثبتت في دِيماس ودَيَاميس، ودِيباج ودَيَابيج، وشبهه، والدينار وزنُ إحدى وسبعين شَعِيرة ونصفَ شعيرة تقريبًا، بناءً على أن الدانِق ثماني حبّات وخُمْسا حبّة، وإن قيل: الدانِقُ ثماني حبّات فالدينار ثمانٍ وستّون وأربعة أسباع حبّة. والدينار: هو المثقال، قاله الفيّويّ رحمه الله

(1)

.

وقال ابن منظور رحمه الله: الدينار فارسيّ مُعرّبٌ، وأصله دِنّارٌ بالتشديد، بدليل قولهم: دنانير، ودُنَينير، فقُلبت إحدى النونين ياء؛ لئلا يلتبس بالمصادر التي تجيء على فِعّال، كقوله تعالى:{وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28)} [النبأ: 28] إلا أن يكون بالهاء، فيُخرّج على أصله، مثلُ الصِّنّارة، والدِّنّامة

(2)

؛ لأنه مأمون

(1)

"المصباح المنير" 1/ 200.

(2)

"الصِّنّارة": بالكسر، وتشديد النون: الأذن، والرجُل السيّئ الْخُلُق، و"الدّنّامة" =

ص: 628

الآن من الالتباس، ولذلك جُمع على دنانير، ومثله قيراط، ودِيبَاجٌ، وأصله دِبّاجٌ، قال أبو منصور: دينارٌ، وقيراطٌ، ودِيباجٌ أصلها أعجميّةٌ، غير أن العرب تكلّمت بها قديمًا، فصارت عربيّةً. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ

إلخ) "الدّرهم" كمِنْبَر، ومِحراب، وزِبْرِج: معروف، جمعه: دراهمُ، ودراهيمُ، قاله في "القاموس".

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الدرهم الإسلاميّ: اسم للمضروب من الفضّة، وهو معرَّبٌ وَزْنه فِعْلَل، بكسر الفاء، وفتح اللام في اللغة المشهورة، وقد تُكسر هاؤه، فيقال: دِرْهِم؛ حملًا على الأوزان الغالبة، والدرهم ستّة دَوَانِقَ، والدرهم نصف دينار وخُمُسُهُ. انتهى.

والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى تمام البحث فيه قبل حديثين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4063]

(

) - (حَدَّثَنِيهِ أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقولُ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ أَبِي تَمِيمٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلّهم ذُكروا في الباب وقبله، و"أبو الطاهر" هو: أحمد بن عمرو بن عبد الله بن السرح المصريّ، و"ابن وهب" هو: عبد الله المصريّ.

[تنبيه]: رواية مالك، عن موسى بن أبي تميم هذه ساقها النسائيّ في "المجتبى" (7/ 278) فقال:

(4567)

- أخبرنا قتيبة بن سعيد، عن مالك، عن موسى بن أبي تميم، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

= بالكسر، وتشديد النون: القصيرة، والذرّة، قاله في "القاموس".

(1)

"لسان العرب" 4/ 292.

ص: 629

(37) - (بَابُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْوَرِقِ بِالذَّهَبِ دَيْنًا)

" الذهَب" التِّبْر، ويؤنّث، واحدته بهاء، جمعه أَذهابٌ، وذُهُوبٌ، وذُهْبانٌ بالضمّ. انتهى. وقال الفيّوميّ رحمه الله: الذهب معروفٌ، ويؤنّث، فيقال: هي الذهب الحمراء، ويقال: إن التأنيث لغة الحجاز، وبها نزل القرآن، وقد يؤنث بالهاء، فيقال: ذَهَبةٌ، وقال الأزهريّ: الذهب مذكّرٌ، ولا يجوز تأنيثه، إلا أن يُجعل جمعًا لذهبة، والجمع أَذهاب، مثلُ أسباب، وذُهْبانٌ، مثلُ رُغْفانٍ، وأذهبته بالألف: مَوَّهته بالذهب. قاله في "القاموس"، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4064]

(1589) - (حَدَّثَنَا مُحَمَدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ، قَالَ: بَاعَ شَرِيكٌ لِي وَرِقًا بِنَسِيئَةٍ اِلَى الْمَوْسِمِ، أَوْ إلَى الْحَجِّ، فَجَاءَ إِلَيَّ، فَأخْبَرَنِي، فَقُلْتُ: هَدَا أَمْرٌ لَا يَصْلُحُ، قَالَ: قَدْ بِعْتُهُ فِي السُّوقِ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ، فَأَتَيْتُ الْبَرَاء بْنَ عَازِبٍ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَنَحْنُ نَبِيعُ هَذَا الْبَيْعَ، فَقَالَ: "مَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَمَا كَانَ نَسِيئَةً فَهُوَ رِبًا"، وَائْتِ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ تِجَارَةً مِنِّي، فَأَتَيْتُهُ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ) تقدّم قريبًا.

2 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة) تقدّم قبل بابين.

3 -

(عَمْرُو) بن دينار، تقدّم أيضًا قبل بابين.

4 -

(أَبُو الْمِنْهَالِ) -بكسر الميم- عبد الرحمن بن مُطعم البُنَانيّ -بضم الباء، ونونين، الأولى خفيفة- البصريّ، نزيل مكة، ثقة [3](ع).

روى عن ابن عباس، والبراء وغيرهما، وروى عنه عمرو بن دينار، وحبيب بن أبي ثابت وغيرهما. وثقه أبو زرعة، وابن معين، وأبو حاتم والدارقطني، والعجلي وغيرهم. مات سنة ستة ومائة. وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط.

[تنبيه]: أبو المنهال المذكور في هذا الإسناد، غير أبي المنهال، صاحب

ص: 630

أبي برزة الأسلميّ رضي الله عنه المذكور في "كتاب الصلاة"(36/ 1036)"باب القراءة في الصبح"، فاسم هذا: عبد الرحمن بن مُطْعِم، واسم صاحب أبي برزة: سيّار بن سلَامة، أفاده في "الفتح"

(1)

.

5 -

(الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ) بن الحارث بن عديّ الأنصاريّ الأوسيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما المدنيّ، نزل الكوفة، مات سنة (72) تقدم في "الإيمان" 35/ 244.

6 -

(زيْدُ بْنُ أَرْقَمَ) بن زيد بن قيس الأنصاريّ الخزرجيّ، صحابيّ مشهور، نزل الكوفة، ومات بها سنة (6 أو 68) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 7/ 1208.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة غير شيخه، فإنه من أفراده، وأبي داود.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بثقات المكيين، غير شيخه، فبغداديّ، والصحابيّ، فكوفيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: عمرو، عن أبي المنهال، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أبِي الْمِنْهَالِ) عبد الرحمن بن مطعم البُنانيّ البصريّ، نزيل مكة؛ أنه (قَالَ: بَاعَ شَرِيكٌ لِي) لم يعرف اسمه

(2)

. (وَرِقًا) تقدّم ضبطه ككتف، وبفتح الواو، وكسرها مع سكون الراء، وهو الفضّة المضروبة، وقيل: المضروبة، وغيرها (بِنَسِيئَةٍ) أي: بتأخير، ولفظ البخاريّ في "المناقب":"باع شريك لي دراهم في السوق نسيئة".

و"النسيئة" -بفتح النون، وكسر السين المهملة-: فَعِيلة، من النَّسْأ، وهو التأخير، قال الفيّوميّ رحمه الله: والنسيء مهموزٌ على فَعِيل، ويجوز الإدغام؛ لأنه

(1)

"الفتح" 5/ 516 "كتاب البيوع" رقم 2061.

(2)

راجع: "تنبيه المعلم"(265).

ص: 631

زائد، وهو التأخير، والنسيئة على فعِيلة مثله، وهما اسمان، من نسأ الله أجله، من باب نَفَعَ، وأنسأه بالألف: إذا أخّره، ويتعدّى بالحرف أيضًا، فيقال: نَسَأَ اللهُ في أجله، وأنسأ فيه، ونساته البيعَ، وأنسأته فيه أيضًا، وأنسأته الدينَ: أخّرته. انتهى

(1)

.

وفي "اللسان": نَسَأ الشيءَ ينسؤه نَسْأَ، وأنسأه: أخره، فَعَلَ، وأفعلَ بمعنًى، والاسم النسيئة، والنسيء، ونسا الله في أجله، وأنسا أجله: أخّره، قال: والنَّسْءُ: التأخير يكون في العُمْرِ والدَّيْنِ. قال: ونَسَأَ الشيءَ: باعه بتأخير، والاسم: النسيئة، تقول: نسأته البيع، وأنساته، وبعته بنُسْأَةٍ، وبِعته بكُلأَةٍ، وبعته بنسيئة؛ أي: بتأخير. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: قال في "الفتح": البيع كلّه إما بالنقد، أو بالعرْضِ، حالًّا، أو مؤجّلًا، فهي أربعة أقسام: فبيع النقد إما بمثله، وهو المراطلة، أو بنقد غيره، وهو الصرف، وبيعُ الْعَرْضِ بنقد يُسمّى النقد ثمنًا، والعرضُ عِوَضًا، وبيعُ العرض بالعرض يُسمّى مقايضةً، والحلول في جميع ذلك جائز، وأما التأجيل، فإن كان النقد بالنقد مؤخّرًا، فلا يجوز، وإن كان العرض جاز، وإن كان العرض مؤخّرًا، فهو السَّلَم، وإن كانا مؤخّرين، فهو بيع الدَّين بالدين، وليس بجائز، إلا في الحوالة عند من يقول: إنها بيع. انتهى

(3)

.

(إِلَى الْمَوْسِمِ) -بفتح الميم، وسكون الواو، وكسر السين المهملة، آخره ميم-: مكان الاجتماع، فموسِم الحجّ: مُجْتَمَعه، ويقال: وَسَّمت توسيمًا: إذا شَهِده، أفاده المجد رحمه الله

(4)

.

وقال الجوهريّ رحمه الله: وموسِم الحاجّ: مَجْمَعهم، سُمّي بذلك؛ لأنه مَعْلَمٌ يُجْتَمَعُ إليه، وقول الشاعر:

حِيَاضُ عِرَاكٍ هَدَّمَتْهَا الْمَوَاسِمُ

(1)

"المصباح المنير" 2/ 604.

(2)

"لسان العرب" 1/ 166.

(3)

"الفتح" 5/ 650 "كتاب البيوع" رقم (2180).

(4)

"القاموس المحيط" ص 1399.

ص: 632

يريد: أهل المواسم، ويقال: أراد الإبل الموسومة، وَوَسَّمَ الناس توسيمًا: شَهِدُوا الموسِمَ، كما يقال في العيد: عَيَّدُوا. انتهى

(1)

.

وقوله: (أَوْ إِلَى الْحَجِّ)"أو" للشكّ من الراوي (فَجَاءَ) ذلك الشريك (إِلَيَّ، فَأَخْبَرَني) أي: بما فعله من بيع الورق نسيئة (فَقُلْتُ: هَذَا أَمْرٌ لَا يَصْلُحُ) وفي رواية للبخاريّ: "فقلت: سبحان اللهُ أيصلح هذا؟ "(قَالَ: قَدْ بِعْتُهُ فِي السُّوقِ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ) أي: فلو كان غير جائز لأنكر عليّ، وهذا ظن من ذلك الشريك أن عدم إنكار الناس عليه دليل على جوازه، وهو استدلال غير صحيح؛ لأنهم إنما لم ينكروا عليه؛ لعدم علمهم بالنهي عنه، كما علمه البراء وغيره، كما قال:(فَأَتَيْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ) رضي الله عنهما (فَسَأَلْتُهُ)؛ أي: عن حكم البيع الذي باعه شريكه (فَقَالَ) البراء رضي الله عنه (قَدِمَ) بكسر الدال (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ) أي: مهاجرًا من مكة (وَنَحْنُ نَبِيعُ هَذَا الْبَيْعَ) أي: بيع الدرهم بالدرهم نسيئة (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَا كَانَ)"ما" موصولة مبتدأ، خبره "فلا بأس به"، وقوله:(يَدًا بِيَدٍ) منصوب على الحال بتأويل مُقَابَضَة، كما قال في "الخلاصة":

وَيَكْثُرُ الْجُمُودُ فِي سِعْرٍ وَفِي

مُبْدِ تَأوُّلٍ بِلَا تَكَلُّفِ

كَـ "بِعْهُ مُدًّا بِكَذَا يَدَا بِيَدْ"

وَ"كَرَّ زَيْدٌ أَسدًا" أي: كَأَسَدْ

(فَلَا بَأْسَ بِهِ) أي: فلا حرج، ولا إثم فيه (وَمَا كَانَ نَسِيئَةً) أي؛ مؤخّرًا (فَهُوَ رِبًا") فيه إثبات ربا النسيئة، وهو محلّ إجماع (وَائْتِ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ) وفي رواية النسائيّ:"ثُمَّ قَالَ لِي: ائْتِ زيدَ بْنَ أَرْقَمَ"(فَإِنَّهُ أَعْظَمُ تِجَارَةً مِنِّي) وفي الرواية التالية: "فهو أعلم"، وفي رواية النسائيّ:"فإنه خيرٌ منّي، وأعلم"(فَأَتَيْتُهُ) أي: زيد بن أرقم رضي الله عنه (فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ) أي: مثل ما قال البراء رضي الله عنهما، وفي الرواية التالية:"فسألت زيدًا، فقال: سل البراء، فإنه أعلم مني، ثم قالا: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الورق بالذهب دينًا"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"الصحاح" ص 1139 - 1140.

ص: 633

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث البراء بن عازب، وزيد بن أرقم رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [37/ 4064 و 4065](1589)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2060 و 2061 و 2180 و 2181) و"الشركة، (2497 و 2498)، و"مناقب الأنصار" (3939 و 3940)، و (النسائيّ) في "البيوع" (7/ 280)، و"الكبرى" (4/ 31)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه" (8/ 118)، و (الحميديّ) في "مسنده" (727)، و (أحمد) في "مسنده" (4/ 289 و 368 و 371 و 372)، و (الطبرانيّ) في "الكبير" (1/ 176)، و (أبو عوانة) في "مسنده" (3/ 384 و 385)، و (الدارقطنيّ) في "سننه" (3/ 17)، و (البيهقيّ) في "الكبرى" (5/ 280)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان حكم بيع الفضة بالذهب نَسِيئةً، وهو التحريم.

2 -

(ومنها): أن فيه ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من التواضع، وإنصاف بعضهم بعضًا، ومعرفة أحدهم حقّ الآخر.

3 -

(ومنها): استظهار العالم في الفتيا بنظيره في العلم.

4 -

(ومنها): أن فيه جواز بيع الربويّات بعضها ببعض إذا كان يدًا بيد.

5 -

(ومنها): ما قيل: إنه يُستدلّ به على جواز تفريق الصفقة، فيصحّ الصحيح منها، ويبطل ما لا يصحّ.

قال الحافظ: وفيه نظر؛ لاحتمال أن يكون أشار إلى عقدين مختلفين، قال: ويؤيد هذا الاحتمال ما في رواية مسلم هذه، ونحوها للبخاريّ في "المناقب" عن أبي المنهال قال: "باع شريك لي دراهم في السوق نسيئةً إلى الموسم

"، فذكر الحديث، وفيه: "قَدِم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ، ونحن نتبايع هذا البيع، فقال: ما كان يدًا بيد فليس به بأس، وما كان نسيئة فلا يصلح"، فعلى هذا فمعنى قوله: "ما كان يدًا بيد فخذوه"؛ أي: ما وقع لكم فيه التقابض في المجلس فهو صحيح، فأمضوه، وما لم يقع لكم فيه التقابض فليس بصحيح،

ص: 634

فاتركوه، ولا يلزم من ذلك أن يكونا جميعًا في عقد واحد. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في اشتراط التقابض في الصرف قبل التفرّق:

قال ابن قُدامة رحمه الله: قال ابن المنذر رحمه الله: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم، على أن المتصارفين إذا افترقا، قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد، والأصل فيه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء"، وقوله صلى الله عليه وسلم:"بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدًا بيد"، و"نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دَينًا، ونهى أن يباع غائب منها بناجز"، وكلها أحاديث صحاح، ويجزئ القبض في المجلس وإن طال، ولو تماشيا مصطحبين إلى منزل أحدهما، أو إلى الصرّاف فتقابضا عنده جاز، وبهذا قال الشافعيّ، وقال مالك: لا خير في ذلك؛ لأنهما فارقا مجلسهما.

والأصحّ أنهما لم يفترقا قبل التقابض، فأشبه ما لو كانا في سفينة، تسير بهما، أو راكبين على دابة واحدة تمشي بهما، وقد دل على ذلك حديث أبي برزة الأسلميّ رضي الله عنه في قوله للذَين مشيا إليه من جانب العسكر: وما أراكما افترقتما.

وإن تفرقا قبل التقابض بطل الصرف؛ لفوات شرطه، وإن قبض البعض، ثم افترقا بطل فيما لم يقبض، وفيما يقابله من العوض، وهل يصح في المقبوض؟ على وجهين، بناء على تفريق الصفقة، ولو وكل أحدهما وكيلًا في القبض، فقبض الوكيل قبل تفرقهما جاز، وقام قبض وكيله مقام قبضه، سواء فارق الوكيل المجلس قبل القبض، أو لم يفارقه، وإن افترقا قبل قبض الوكيل بطل؛ لأن القبض في المجلس شرط، وقد فات، وإن تخايرا قبل القبضى في المجلس، لم يبطل العقد بذلك؛ لأنهما لم يفترقا قبل القبض، ويَحْتَمِل أن يبطل، إذا قلنا بلزوم العقد، وهو مذهب الشافعيّ؛ لأن العقد لم يبق فيه خيار قبل القبض، أشبه ما لو افترقا، والصحيح الأول؛ فإن الشرط التقابض في

(1)

"الفتح" 6/ 318 "كتاب الشركة" رقم (2497).

ص: 635

المجلس، وقد وُجد واشتراط التقابض قبل اللزوم، تحكّمٌ بغير دليل، ثم يبطل بما إذا تخايرا قبل الصرف، ثم اصطرفا، فإن الصرف يقع لازمًا صحيحًا قبل القبض، ثم يشترط القبض في المجلس. انتهى

(1)

ما ذكره ابن قُدامة رحمه الله، وهو بحث نفيس، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب فال:

[4065]

(

) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حَبِيبٍ؛ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا الْمِنْهَالِ يَقُولُ: سَأَلْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ عَنِ الصَّرْفِ؟ فَقَالَ: سَلْ زيدَ بْنَ أرْقَمَ، فَهُوَ أَعْلَمُ، فَسَأَلتُ زَيْدًا؟ فَقَالَ: سَلِ الْبَرَاءَ، فَإِنَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ قَالَا: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْوَرِقِ بِالذَّهَبِ دَيْنًا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان العنبريّ، أبو المثنّى البصريّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم قريبًا.

4 -

(حَبِيبُ) بن أبي ثابت قيس، ويقال: هند بن دينار الأسديّ مولاهم، أبو يحيى الكوفيّ، ثقة فقية جليل، لكنه كثير الأرسال والتدليس [3](ت 119)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 1/ 1.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (سَأَلْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ عَنِ الصَّرْفِ) أي: بيع الدراهم بالذهب، أو عكسه، وسُمّي به لصرفه عن مًقتضى البياعات من جواز التفاضل فيه، وقيل: من الصريف، وهو تصويتهما في الميزان، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقوله: (فَقَالَ: سَلْ زيدَ بْنَ أَرْقَمَ، فَهُوَ أَعْلَمُ) وفي رواية للبخاريّ: عن أبي المنهال قال: سألت البراء بن عازب، وزيد بن أرقم رضي الله عنهم عن الصرف،

(1)

"المغني" 6/ 112 - 113.

(2)

"الفتح" 5/ 650.

ص: 636

فكلّ واحد منهما يقول: هذا خير مني، فكلاهما يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينًا.

وفي رواية للبخاريّ أيضًا: عن أبي المنهال قال: سألت البراء بن عازب

وزيد بن أرقم عن الصرف، فقالا: كنا تاجرين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصرف، فقال:"إن كان يدأ بيد فلا بأس، وإن كان نَساءً فلا يصلح".

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4066]

(1590) - (حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْفِضَّةِ بِالْفِضةِ، وَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَشْتَرِيَ الْفِضَّةَ بِالذهَبِ كَيْفَ شِئْنَا، وَنَشْتَرِيَ الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْنَا، قَالَ: فَسَأَلَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَدًا بِيَدٍ؟ فَقَالَ: هَكَذَا سَمِعْتُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِي) سليمان بن داود الزهرانيّ البصرفي، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.

2 -

(عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ) بن عمر الكلابيّ مولاهم، أبو سهل الواسطيّ، ثقة [8](ت 185) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 439.

3 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ) الحضرميّ مولاهم البصريّ النحويّ، صدوق ربما أخطأ [5](ت 136)(ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 2/ 1586.

4 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ) الثقفيّ البصريّ، أول مولود في الإسلام بالبصرة، ثقةٌ [2](ت 96)(ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 266.

5 -

(أَبُوهُ) أبو بكرة نُفيع بن الحارث بن كَلَدَة الثقفيّ الصحابيّ الشهير، وقيل: اسمه مسروح، أسلم بالطائف، ثم نزل البصرة، ومات بها سنة (1 أو 52)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 481.

ص: 637

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخه، كما أسلفته آنفًا.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير عبَّاد، فواسطيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه.

5 -

(ومنها): أن فيه أبا بكرة ممن اشتهر بهذه الكنية، وهي لقب بصورة الكنية، لقّب بها لكونه نزل من حصن الطائف ببكرة البئر، فأسلم، وكنيته أبو عبد الرحمن. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

عَنْ عبد الرحمن بن أَبي بكرة (عَنْ أَبِيهِ) أبي بكرة نُفيع بن الحارث رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ)؛ أي: عن بيع الفضّة بالفضّة (وَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ)؛ أي: إلا متماثلين في الوزن (وَأَمَرَنَا أَنْ نَشْتَرِيَ الْفِضةَ بِالذَهَبِ، كَيْفَ شِئْنَا، وَنَشْتَرِيَ الذهَبَ بِالْفِضةِ كَيْفَ شِئْنَا)؛ أي: من حيث الكمّية، لا من حيث تأخير التقابض، فإنه من شرطه؛ لِمَا في الرواية الأخرى عن أبي بكرة بلفظ:"إلا عينًا بعين، سواء بسواء"، والعين خلاف الدَّين، قال في "التهذيب": العين: النقد، يقال: اشتريت بالدين، أو بالعين، ذكره الفيّوميّ.

(قَالَ: فَسَأَلَهُ رَجُلٌ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرف الرجل

(1)

؛ أي: سأل رجل أبا بكرة رضي الله عنه عن حكم المسألة (فَقَالَ: يَدًا بِيَدٍ؟) أي: أيجوز البيع والشراء إذا كان يدًا بيد؟ أي: بالمقابضة.

قال في "الفتح"

(2)

: واشتراط القبض في الصرف متّفقٌ عليه، وإنما وقع الاختلاف في التفاضل بين الجنس الواحد، واستُدلّ به على بيع الربويّات بعضها ببعض إذا كان يدًا بيد، وأصرح منه ما تقدّم عند مسلم من حديث

(1)

"تنبيه المعلم" ص 265.

(2)

راجع: "الفتح" 5/ 651.

ص: 638

عبادة بن الصامت رضي الله عنه بلفظ: "فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد".

(فَقَالَ) أبو بكرة رضي الله عنه (هَكَذَا سَمِعْتُ) كذا الرواية بدون ذكر المفعول؛ أي: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول هكذا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي بكرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [37/ 4066 و 4067](1590)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2175 و 2182)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 280 و 281) و"الكبرى"(4/ 32)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 38 و 49)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5014)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 383 و 384)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 282)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان حكم بيع الفضة بالذهب، وبالعكس، وهو الجواز وإن تفاضلا، لكن بشرط التقابض في المجلس.

2 -

(ومنها): وجوب التساوي في بيع الفضّة بالفضّة، والذهب بالذهب.

3 -

(ومنها): جواز بيع الربويّات بعضها ببعض، إذا كان يدًا بيد، وأصرح منه ما تقدّم عند مسلم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه بلفظ:"فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4067]

(

) - (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، عَنْ يَحْيَى -وَهُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ- عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ؛ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرَةَ أَخْبَرَهُ؛ أَن أَبَا بَكْرَةَ قَالَ: نَهَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِهِ).

ص: 639

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الْكَوْسج التميميّ، أبو يعقوب المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

2 -

(يَحْيَى بْنُ صَالِح) الْوُحاظيّ -بضمّ الواو، وتخفيف الحاء المهملة، ثم ظاء معجمة- أبو زكريا، ويقال: أبو صالح الحمصي، صدوقٌ، من أهل الرأي، من صغار [9].

رَوَى عن الحسن بن أيوب الحضرميّ، ومعاوية بن سلّام، وسليمان بن بلال، وسعيد بن بشير، ومالك بن أنس، ومحمد بن الحسن الشيبانيّ، وابن أبي الزناد، وإسحاق بن يحيى الكلبيّ، وسعيد بن عبد العزيز، وغيرهم.

ورَوَى عنه البخاريّ، ورَوَى هو والباقون، سوى النسائيّ، وأبو حاتم، وإسحاق بن منصور الكوسج، وموسى بن قُريش التميمي، وغيرهم.

قال أبو زرعة الدمشقيّ: لم يقل أحمد فيه إلا خيرًا، قال: وسألت يحيى بن معين عنه، فقال: ثقةُ، وقال مهنّا: سألت أحمد عنه، فقال: رأيته في جنازة أبي المغيرة، فجعل أبي يضعِّفه، قال أبي: أخبرني إنسان من أصحاب الحديث، قال: قال يحيى بن صالح: لو ترك أصحاب الحديث عشرة أحاديث، يعني هذه التي في الرؤية، قال أبي: كأنه نزع إلى رأي جهم، وقال أبو عوانة الإسفرائينيّ: كان حسن الحديث، ولكنه صاحب رأي، وهو عديل محمد بن الحسن إلى مكة، وقال أبو حاتم: صدوقٌ، وذكره ابن عديّ في جماعة من ثقات أهل الشام، وقال أحمد بن صالح: ثنا يحيى بن صالح بثلاثة عشر حديثًا عن مالك، ما وجدناه عند غيره، وقال العُقيليّ: حمصيّ جهميّ، ثم رَوَى عن إسحاق بن منصور، ثنا يحيى بن صالح، وقال: هو كذا وكذا، وقال يزيد بن عبد ربه: سمعت وكيعًا يقول ليحي بن صالح: يا أبا زكريا احذر الرأي، فإني سمعت أبا حنيفة يقول: البول في المسجد أحسن من بعض قياسهم، وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالحافظ عندهم، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال سليمان بن عبد الحميد البهرانيّ: سمعت أبا اليمان يقول: قَدِمَ الحسن بن موسى الأشيب علينا قاضيًا بحمص، فقال: دُلَّني على رجل ثقة موسر أستعين به على أمري، فقلت: لا أعرف أحدًا أوثق من يحيى بن صالح.

ص: 640

وقال الساجيّ: هو عندهم من أهل الصدق والأمانة، قال عبد الله بن أحمد: قال أبي: لم أكتب عنه؛ لأني رأيته في مسجد الجامع يسيء الصلاة، وقال الخليليّ: ثقةٌ، رَوَى عن الأئمة، وروى عن مالك حديثًا لا يتابع عليه، وهو عن مالك، عن الزهريّ، عن سالم، عن أبيه: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر يمشون عليه أمام الجنازة، قال الخليليّ: هذا منكر من حديث مالك، والمحفوظ من حديث ابن عيينة، وقيل: إن ابن عيينة أخطأ فيه.

قال البخاريّ وجماعة: مات سنة اثنتين وعشرين ومائتين، زاد يعقوب بن سفيان، وابن حبان: ومولده سنة سبع وأربعين ومائة، وقال ابن زَبْر: كان مولده سنة سبع وثلاثين، وذكر أبو زرعة الدمشقيّ أن يحيى أخبره: أن مولده سنة سبع وثلاثين ومائة.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط

(1)

، برقم (1590) و (1594) و (2051).

3 -

(مُعَاوِيةُ) بن سلّام بن أبي سلّام، أبو سلّام الدمشقيّ، وكان يسكن حمص، ثقةٌ [6] مات في حدود (170)(ع) تقدم في "الإيمان" 49/ 309.

4 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) صالح بن المتوكّل الطائيّ مولاهم، أبو نصر البصريّ، ثم اليماميّ، ثقة ثبتٌ، يدلّس ويرسل [5](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية يحيى بن أبي كثير، عن يحيى بن إسحاق هذه ساقها أبو عوانة في "مسنده" (3/ 383) فقال:

(5404)

- حدّثنا يزيد بن عبد الصمد الدمشقيّ، وإبراهيم بن أبي داود الأسديّ، وأبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقيئ، وعمران بن بكار الحمصيّ، قالوا: ثنا يحيى بن صالح الْوُحَاظيّ، قثنا معاوية بن سلام، عن

(1)

وفي "الزهرة": رَوَى عنه البخاريّ ثمانية أحاديث، هكذا قال في "تهذيب التهذيب"، والذي أثبته في برنامج الحديث أن له في "صحيح البخاريّ"(11) حديثًا، والله تعالى أعلم.

ص: 641

يحيى بن أبي كثير، عن يحيى بن أبي إسحاق؛ أن عبد الرحمن بن أبي بكرة أخبره؛ أن أبا بكرة قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيع الفضة بالفضة، إلا عينًا بعين، سواءً بسواء، ولا نبيع الذهب بالذهب، إلا عينًا بعين، سواءً بسواء، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم، والفضة بالذهب كيف شئتم، يدًا بيد". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(38) - (بَابُ بَيْعِ الْقِلَادَةِ فِيهَا خَرَزٌ وَذَهَبٌ بِالذَّهَبِ)

" القِلادة" بالكسر: ما جُعل في العنق، يكون للإنسان، والفرس، والكلب، والبَدَنة التي تُهدى، ونحوها، وقلّدتُ المرأةَ، فتقلّدت هي، قال ابن الأعرابيّ: قيل لأعرابيّ: ما تقول في نساء بني فلان؟ قال: قلائد الخيل؛ أي: هنّ كرامٌ، ولا يُقلّد من الخيل إلا سابقٌ كريم، قاله في "اللسان"

(1)

.

و"الْخَرَز" بخاء معجمة، فراء مفتوحتين، وآخره زاي، واحدته خرزة، مثل قصبة وقصب. قال في "اللسان": الْخَرَز بالتحريك: الذي يُنْظَمُ، الواحدة خَرَزة، وقال أيضًا: الخَرَز: فُصُوص من حجارة، واحدتها خَرَزَةٌ، وقيل: الْخَرَزُ: فصوص من جيّد الجوهر، ورديئه، من الحجارة، ونحوه. انتهى.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4068]

(1591) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو هَانِئ الْخَوْلَانِيُّ؛ أَنَّهُ سَمِعَ عُلَيَّ بْنَ رَبَاحٍ اللَّخْمِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ الأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ بِخَيْبَرَ بِقِلَادَةٍ فِيهَا خَرَزٌ وَذَهَبٌ، وَهِيَ مِنَ الْمَغَانِمِ، تُباَعُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالذهَبِ الَّذِي فِي الْقِلَادَةِ، فَنُزِعَ وَحْدَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو هَانِئٍ الْخَوْلَانِيُّ) حُميد بن هانئ المصريّ، وهو أكبر شيخ لابن

(1)

"لسان العرب" 3/ 366.

ص: 642

وهب، لا بأس به [5](142)(بخ م 4) تقدّم في "المقدّمة" 4/ 15.

2 -

(عُلَيُّ بْنُ رَبَاحٍ اللَّخْمِيُّ) أبو عبد الله المصريّ، والمشهور فيه التصغير، وكان يغضب منه، ثقةٌ، من صغار [3] مات سنة بضع و (110)(بخ م 4) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 42/ 1873.

3 -

(فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ الأَنْصَارِيُّ) الأوسئ، أول مشاهده أُحُدٌ، ثم نزل دمشق، وولي قضاءها، ومات سنة (58) وقيل: قبلها (بخ م 4) تقدم في "الجنائز" 29/ 2242.

والباقيان تقدّما قبل بابين.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمصريين، من أوله إلى آخره.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالتحديث، والإخبار، والسماع.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

عن أبي هَانِئٍ الْخَوْلَانِيِّ (أَنَّهُ سَمِعَ عُلَيَّ بْنَ رَبَاحٍ) قال النوويّ رحمه الله: هو بضمّ العين على المشهور، وقيل: بفتحها، وقيل: يقال بالوجهين، فالفتح اسم، والضمّ لقبٌ. انتهى

(1)

، وقوله:(اللَّخْمِيَّ) -بفتح اللام، وسكون الخاء المعجمة، بعدها ميم-: نسبة إلى لخم، أبي قبيلة، وهو: مالك بن عديّ بن الحارث بن مرّة بن أُدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، قاله في "اللباب"

(2)

.

(يَقُولُ: سَمِعْتُ فَضَالَةَ) - بفتح الفاء، وتخفيف الضاد المعجمة - (ابْنَ عُبَيْدٍ) -بصيغة التصغير- (الأنصَارِيَّ) رضي الله عنه (يَقُولُ: أُتِيَ) بالبناء للمفعول (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ بِخَيْبَرَ) جملة في محلّ نصب على الحال (بِقِلَادَةٍ) بكسر

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 17.

(2)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 275.

ص: 643

القاف: ما يُجعل في العنق (فِيهَا خَرَزٌ) بفتحتين: فصوص من حجارة، وقيل: فصوص من جيّد الجوهر ورديئه، من الحجارة ونحوه، واحدته خرزة، وتقدّم أول الباب (وَذَهَبٌ، وَهِيَ مِنَ الْمَغَانِمِ) جملة في محلّ نصب على الحال، وكذا قوله:(تُبَاعُ، فَأَمَرَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالذَّهَبِ الَّذِي فِي الْقِلَادَةِ، فَنُزِعَ وَحْدَهُ) أي: أُخرج من بين سائر الجواهر (ثُمَّ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ) يَحتمل الرفع، على الابتداء، والجارّ والمجرور خبره؛ أي: يباع بالذهب، ويَحْتَمِل النصب؛ أي: بيعوا الذهب بالذهب، وقوله:(وَزْنًا بِوَزْنٍ) منصوب على الحال؛ أي: موزونًا بوزنه، متماثلًا.

وفي الرواية التالية من طريق حَنَش الصنعانيّ، عن فَضَالة بن عُبيد، قال: اشتريت يوم خيبر قلادةً باثني عشر دينارًا، فيها ذهب وخَرَزٌ، ففصلتها، فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارًا، فذكرت ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"لا تباع حتى تُفَصَّلَ".

وفي رواية قال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنًا بوزن"، وفي أخرى قال:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذن إلا مثلًا بمثل".

قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: كان بيع هذه القلادة بعد قَسْم الغنيمة، وبعد أن صارت إلى فَضَالة في سهمه، كما قال في رواية حَنَش؛ ولأن الغنيمة لا يتصرف في بيع شيء منها إلا بعد القِسْمة.

وأمْره صلى الله عليه وسلم بتفصيل القِلادة وبيع الذهب على انفراده إنما كان؛ لأن المشتري أراد أن يشتريها بذهب؛ لقوله بعد هذا: "الذَّهب بالذَّهب وزنًا بوزن"، أو يكون قد وقع البيع بذهب، كما جاء في الرواية الأخرى التي قال فيها: إنه اشتراها باثني عشر دينار، ففصَّلها، فوجد فيها أكثر من اثني عشر دينارًا، ففسخ النبيّ صلى الله عليه وسلم البيع بقوله:"لا تباع حتى تُفَصَّل"؛ ووجه هذا المنع في هذه الصورة وجود المفاضلة بين الذهبين، فإنَّه إن كان مساويًا للآخر، فقد فضله من صار إليه الذهب، والعَرَضُ بالعَرَض، وإن لم يكن مساويًا فقد حصل التفاضل في عين أحد الذهبين، كما قال في رواية الاثني عشر دينارًا، وهذا قول الجمهور.

وقد شذَّ أبو حنيفة، ومن قال بقوله، وترك مضمون هذا الحديث فقال: إذا كان الذهب المنفرد أكثر من الذهب المضموم إليه السلعة جاز، بناء منه على جعل السِّلعة في مقابل الزائد من الذهب، واعتذر عن الحديث بأنه إنما

ص: 644

فسخ ذلك لأن الذهب المنفرد كان أقل، فلو كان أكثر جاز، وهذا التأويل فاسد بدليل الحديث الأول، فإنَّه صلى الله عليه وسلم لما رأى القلادة قد عُرِضت للبيع بالذهب أمر بتفصيلها، وبيَّن حكم القاعدة الكلية بقوله:"الذهب بالذهب وزنًا بوزن"، ولم يلتفت إلى التوزيع الذي قال به أبو حنيفة.

وقد غَفَل الطَّحاويّ في تأويل ذلك الحديث، حيث قال: إنما نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ لئلا يُغْبَن المسلمون في المغانم عمَّا ذكرناه من أن هذا البيع إنما كان بعد القسمة، ولو سلَّمنا أنها كانت قبل القِسْمة لكان عدوله صلى الله عليه وسلم عن ذلك المعنى إلى قوله:"الذهب بالذهب وزنًا بوزن" ضائعًا، لا معنى له؛ لأنه كان يلزم منه أن يعدل عن علَّة الحكم في وقت الحاجة إلى بيانه، وينطق بما ليس بعلَّة له ولا يُحتاج إليه، بالنسبة إليه في تلك الواقعة.

ومن الناس من زاد على أبي حنيفة في الشذوذ، وهو حمَّاد بن أبي سليمان، فقال: يجوز بيع الذَّهب بالذَّهب الذي معه السِّلعة مطلقًا، ولم يُفرِّق بين المنفردة والمضموم إليها السلعة في الأقل ولا الأكثر، وهذا طرح للحديث بالكلية، ولم يعرِّج على القاعدة الشرعية.

فأما لو باع القلادة التي فيها الذهب بفضة، فذلك هو البيع والصَّرف، ولا يجوز عند مالك؛ لاختلاف حكم البيع والصرف، وسدًّا للذريعة، وهذا ما لم يكن أحدهما تابعًا للآخر، فإن كان كذلك جاز إلغاءً للتَّبعيَّة، وقال أشهب: إنَّه يجوز البيع والصَّرف مطلقًا.

وكل ما ذكرناه إنَّما هو فيما يمكن تفصيله، فأمَّا ما لا يمكن ذلك فيه، إما لتعذره حِسًّا، أو لأنَّه يؤدي إلى إتلاف مالية، فذلك إمَّا أن يكون ممنوع الاتخاذ، فلا يجوز فيه إلا المصارفة على اعتبار التبعية على ما ذكرناه آنفًا. وأما ما يجوز اتخاذه؛ كالسَّيف، والمصحف، والخاتم، وحلي النساء: فيجوز عندنا بيع ذلك كلِّه، بخلاف ما فيه من العين؛ ناجزًا مطلقًا من غير فصل بين قليل ولا كثير؛ لأن ذلك إما صرف، وإما بيع، والتبع مُلغى. وإما بجنس ما فيه من العين: فيجوز إذا كان فيه من العين الثلث فدون؛ عند مالك، وجمهور أصحابه، وكافة العلماء إلغاءً للتبعية؛ ولأن ذلك قد يضطر إليه. ومنع ذلك الشافعي، وأحمد، وإسحاق، ومحمد بن عبد الحكم. وروي عن جماعة من

ص: 645

السلف؛ منهم: عمر، وابن عمر؛ اعتبارًا بوجود المفاضلة بين الذهبين، وأبو حنيفة، وحمَّاد على أصليهما المذكورين. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما ذهب إليه الشافعيّ، وأحمد، ومن معهما من منع بيع ما لا يمكن فصله، كغيره هو الأرجح؛ لعموم حديث فَضالة رضي الله عنه المذكور هنا، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث فضالة بن عُبيد رضي الله عنه من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [38/ 4068 و 4069 و 4070 و 4071 و 4072](1591)، و (أبو داود) في "البيوع"(3351 و 3352 و 3353)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1255)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 279) و"الكبرى"(4/ 30)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 19 و 21 و 22)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 386)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 74)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 293) و "المعرفة"(4/ 309)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان حكم بيع القلادة المشتملة على الذهب والخرز بالذهب، وهو التحريم إلا إذا فُصِّلَت، ومُيّزت، وعُلِمَ الوزنُ.

2 -

(ومنها): أنه لا يجوز بيع ذهب مع غيره بذهب، حتى يُفصل، فيباع الذهب بوزنه ذهبًا، ويباع الآخر بما أراد، وكذا لا تباع فضة مع غيرها بفضة، وكذا الحنطة مع غيرها بحنطة، والملح مع غيره بملح، وكذا سائر الربويات، بل لا بد من فصلها، وسواء كان الذهب في الصورة المذكورة أولًا قليلًا أو كثيرًا، وكذلك باقي الربويات، وهذا القول هو الراجح، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"المفهم" 4/ 477 - 479.

ص: 646

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم فيمن باع شيئًا مما فيه الربا بعضه ببعض، ومعهما، أو مع أحدهما من غير جنسه:

قال النوويّ رحمه الله: وهذه هي المسألة المشهورة في كتب الشافعيّ، وأصحابه وغيرهم، المعروفة بـ "مسألة مُدّ عَجْوَة"، وصورتها: باع مُدّ عَجْوة ودرهمًا، بمدّي عجوة، أو بدرهمين، لا يجوز؛ لهذا الحديث، وهذا منقول عن عمر بن الخطاب، وابنه رضي الله عنهما، وجماعة من السلف، وهو مذهب الشافعيّ، وأحمد، وإسحق، ومحمد بن عبد الحكم المالكيّ.

وقال أبو حنيفة، والثوريّ، والحسن بن صالح: يجوز بيعه بأكثر مما فيه من الذهب، ولا يجوز بمثله، ولا بدونه.

وقال مالك، وأصحابه، وآخرون: يجوز بيع السيف المحلَّى بذهب وغيره، مما هو في معناه، مما فيه ذهب، فيجوز بيعه بالذهب، إذا كان الذهب في المبيع تابعًا لغيره، وقدّرُوه بأن يكون الثلث، فما دونه.

وقال حماد بن أبي سليمان: يجوز بيعه بالذهب مطلقًا، سواء باعه بمثله من الذهب، أو أقلّ، أو أكثر، وهذا غلط، مخالف لصريح الحديث.

واحتَجّ أصحاب القول الأول بحديث القلادة، وأجابت الحنفية بأن الذهب كان فيها أكثر من اثني عشر دينارًا، وقد اشتراها باثني عشر دينارًا، قالوا: ونحن لا نجيز هذا، وإنما نجيز البيع إذا باعها، بذهب أكثر مما فيها، فيكون ما زاد من الذهب المنفرد، في مقابلة الخرز ونحوه، مما هو مع الذهب المبيع، فيصير كعقدين، وأجاب الطحاويّ، بأنه إنما نُهِي عنه؛ لأنه كان في بيع الغنائم؛ لئلا يُغبن المسلمون في بيعها، قال الشافعيّة: وهذان الجوابان ضعيفان، لا سيما جواب الطحاويّ، فإنه دعوى مجردة، قالوا: ودليل صحة قولنا، وفساد التأويلين؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"لا تُباع حتى تُفَصَّل"، وهذا صريح في اشتراط فصل أحدهما عن الآخر في البيع، وأنه لا فرق بين أن يكون الذهب المبيع قليلًا، أو كثيرًا، وأنه لا فرق بين بيع الغنائم وغيرها. انتهى كلام النوويّ رحمه الله ببعض تصرّف

(1)

.

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 18.

ص: 647

وقال ابن قُدامة رحمه الله في "المغني": وإن باع شيئًا فيه الربا، بعضه ببعض، ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسه، كمدّ ودرهم، بمدّ ودرهم، أو بمدّين أو بدرهمين، أو باع شيئًا مُحَلّى بجنس حليته، فهذه المسألة تُسمّى "مسألة مُدّ عَجْوَة"، والمذهب أنه لا يجوز ذلك، نَصّ على ذلك أحمد في مواضع كثيرة، وذكره قدماء الأصحاب، قال ابن أبي موسى في السيف الْمُحَلّى، والمِنطقة، والمراكب المحلاة بجنس ما عليها: لا يجوز قولًا واحدًا، ورُوي هذا عن سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وشُريح، وابن سيرين، وبه قال الشافعيّ، وإسحاق، وأبو ثور، وعن أحمد رواية أخرى، تدلّ على أنه يجوز، بشرط أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره، أو يكون مع كل واحد منهما من غير جنسه، فإن مُهَنّا نقل عن أحمد، في أن بيع الزُّبْد باللبن يجوز، إذا كان الزبد المنفرد أكثر من الزبد، الذي في اللبن. ورَوَى حرب، قال: قلت لأحمد: دفعتُ دينارًا كوفيًا ودرهمًا، وأخذت دينارًا شاميًّا، وزنهما سواء، لكن الكوفي أوضع؟ قال: لا يجوز إلا أن ينقص الدينار، فيعطيه بحسابه فضة. وكذلك روى عنه محمد بن أبي حرب الجرجرائيّ.

وروى الميمونيّ أنه سأله: لا يشتري السيف، والمنطقة حتى يفصلها؟ فقال: لا يشتريها حتى يفصلها، إلا أن هذا أهون من ذلك؛ لأنه قد يشتري أحد النوعين بالآخر يفصله، وفيه غير النوع الذي يشتري به، فإذا كان من فضل الثمن، إلا أن مَن ذهب إلى ظاهر القلادة لا يشتريه حتى يفصله، قيل له: فما تقول أنت؟ قال: هذا موضع نظر.

وقال أبو داود: سمعت أحمد، سئل عن الدراهم الْمُسَيَّبِيّة بعضها صفر، وبعضها فضة بالدراهم؟ قال: لا أقول فيه شيئًا، قال أبو بكر: روى هذه المسألة عن أبي عبد الله خمسة عشرة نفسًا، كلهم اتفقوا على أنه لا يجوز حتى يُفَصَّل، إلا الميمونيّ، ونقل مُهَنّا كلامًا آخر.

وقال حماد بن أبي سليمان، وأبو حنيفة: يجوز، هذا كله إذا كان المفرد أكثر من الذي معه غيره، أو كان مع كل واحد منهما من غير جنسه، وقال الحسن: لا بأس ببيع السيف المحلى بالفضة بالدراهم، وبه قال الشعبيّ، والنخعيّ.

ص: 648

واحتَجّ من أجاز ذلك، بأن العقد إذا أمكن حمله على الصحة، لم يُحمل على الفساد؛ لأنه لو اشترى لحمًا من قَصّاب جاز، مع احتمال كونه ميتة، ولكن وجب حمله على أنه مُذَكّى؛ تصحيحًا للعقد، ولو اشترى من إنسان شيئًا جاز، مع احتمال كونه غير ملكه، ولا إذن له في بيعه؛ تصحيحًا للعقد أيضًا، وقد أمكن التصحيح ههنا بجعل الجنس في مقابلة غير الجنس، أو جعل غير الجنس في مقابلة الزائد على المثل.

واحتجّ الأولون بحديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه المذكور في الباب، ولأن العقد إذا جمع عوضين مختلفي الجنس، وجب أن ينقسم أحدهما على الآخر على قدر قيمة الآخر في نفسه، فإذا اختلفت القيمة اختلف ما يأخذه من العوض، بيانه أنه إذا اشترى عبدين قيمة أحدهما مثل نصف قيمة الآخر بعشرة، كان ثمن أحدهما ثلثي العشرة والآخر ثلثها، فلو ردّ أحدهما بعيب ردّه بقسطه من الثمن، ولذلك إذا اشترى شِقْصًا وسيفًا بثمن أخذ الشفيع الشقص بقسطه من الثمن، فإذا فعلنا هذا فيمن باع درهما ومُدًّا، قيمته درهمان بمدّين قيمتهما ثلاثة، حصل الدرهم في مقابلة ثلثي مُدّ، والمدّ الذي مع الدرهم في مقابلة مدّ وثلث، فهذا إذا تفاوتت القيم، ومع التساوي يُجهَل ذلك؛ لأن التقويم ظنّ وتخمينٌ، والجهل بالتساوي كالعلم بعدمه، في باب الربا، ولذلك لم يجز بيع صبرة بصبرة بالظن والخرص.

وقولهم: يجب تصحيح العقد، ليس كذلك، بل يُحمل على ما يقتضيه من صحة وفساد، ولذلك لو باع بثمن، وأطلق وفي البلاد نقود بطل، ولم يُحمل على نقد أقرب البلاد إليه، أما إذا اشترى من إنسان شيئًا فإنه يصح؛ لأن الظاهر أنه ملكه؛ لأن اليد دليل الملك، وإذا باع لحمًا، فالظاهر أنه مُذَكّى؛ لأن المسلم في الظاهر لا يبيع الميتة. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر من الحجج أن الأرجح في "مسألة مدّ عجوة" هو المذهب الأول، وهو عدم الجواز؛ لِمَا ذُكر من الحجج، وأقواها حديث فَضَالة بن عُبيد رضي الله عنه المذكور في الباب، وتأويله بأنه

(1)

"المغني" 6/ 92 - 95.

ص: 649

للجهالة، غير صحيح؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نصّ على عدم الجواز حتى تُفَصّل، ثم يقابَل المثلُ بالمثل، لا بأزيد منه، فقال صلى الله عليه وسلم:"الذهب بالذهب وزنًا بوزن"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4069]

(

) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنَا لَيْثٌ، عَنْ أَبِي شُجَاعٍ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أبِي عِمْرَانَ، عَنْ حَنَشٍ الصَّنْعَانِيِّ، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ: اشتَرَيْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ قِلَادَةً بِاثْنَيِّ عَشَرَ دِينَارًا

(1)

، فِيهَا ذَهَبٌ وَخَرَزٌ، فَفَصَّلْتُهَا، فَوَجَدْتُ فِيهَا أكثَرَ مِنِ اثْنَيِّ عَشَرَ دِينَارًا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"لَا تُبَاعُ حَتَّى تُفَصَّلَ").

رجال هذا الحديث: ستة:

1 -

(أَبُو شُجَاعٍ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ) الْحِمْيريّ الْقِتْبانيّ -بكسر القاف، وسكون المثنّاة، بعدها موحّدة- الإسكندرانيّ، ثقةٌ عابدٌ [7].

رَوَى عن خالد بن أبي عمران، والحارث بن يزيد، ودَرّاج أبي السمح، والأعرج ويزيد بن حبيب، وغيرهم.

وروى عنه الليث، وابن المبارك، وأبو غسان المدنيّ، وأبو زُرارة القتبانيّ.

قال أحمد، وابن معين، وأبو زرعة، والنسائيّ: ثقة، وقال أبو داود: كان له شأن، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ونَقَل ابن خلفون أن ابن المدينيّ وثّقه، وقال حمزة الكنانيّ: ثقة مأمون، ولا نَعْلَم روى عنه غير الليث، وابن المبارك، ولم يرو عنه ابن وهب، مع أنه قَدِم بعد طلب ابن وهب للحديث.

قال الحافظ: ولعل ابن وهب ما شَعَرَ، أو تشاغل بما هو أهمّ منه. انتهى.

وقال ابن يونس: مات بالإسكندرية سنة أربع وخمسين ومائة، وكان من العبّاد المجتهدين، ثقة في الحديث.

(1)

وفي نسخة: "قلادةً، فيها اثنا عشر دينارًا".

ص: 650

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

2 -

(خَالِدُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ) التُّجيبيّ مولاهم، أبو عُمر التونسيّ، قاضي إفريقية -قال ابن حبان: واسم أبي عمران: زيد- صدوقٌ فقيهٌ [5].

رَوَى عن عبد الله بن عمر مرسلًا، وعن عبد الله بن الحارث بن جَزْء، وسالم بن عبد الله بن عمر، ونافع مولى ابن عمر، وحَنَش الصنعانيّ، وغيرهم.

وروى عنه يحيى بن سعيد الأنصاريّ، وعبيد الله بن أبي جعفر، والليث بن سعد، وأبو شجاع سعيد بن يزيد القِتْبانيّ، والليث بن سعد، وغيرهم.

قال ابن سعد: كان ثقةً إن شاء الله، وكان لا يدلس، وقال أبو حاتم: لا بأس به، وقال العجليّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو حاتم: لم يسمع من أبي أمامة.

وقال ابن يونس: كان فقيه أهل المغرب، ومفتي أهل مصر والمغرب، وكان يقال: إنه مستجاب الدعوة، توفي بأفريقية سنة (129)، قال: وقال ربيعة الأعرج: تُوُفّي بإفريقية سنة (125).

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

3 -

(حَنَشُ الصَّنْعَانِىُّ) هو: حنش بن عبد الله، ويقال: ابن عليّ بن عمرو بن حنظلة السبائيّ، أبو رِشْدين الصنعانيّ، من صنعاء دمشق، سكن إفريقية.

روى عن عليّ، وابن مسعود، ورُويفع بن ثابت، وفَضالة بن عُبيد، وأبي سعيد، وابن عباس، وكعب الأحبار، وغيرهم.

وروى عنه ابنه الحارث، وخالد بن أبي عمران، وبكر بن سوادة، وقيس بن الحجاج، وعامر بن يحيى الْمَعافريّ، وأبو مرزوق التجيبيّ، وغيرهم.

قال العجليّ، وأبو زرعة: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صالح، وقال ابن المدينيّ: حنش الذي روى عن فَضالة هو: حنش بن عليّ الصنعانيّ، وليس هو

ص: 651

حنش بن المعتمر الكنانيّ صاحب علىّ، ولا حنش بن ربيعة الذي صلى خلف علىّ، ولا حنش صاحب التيميّ.

وقال ابن يونس: كان مع علىّ بالكوفة، وقَدِم مصر، وغزا المغرب مع رُويفع بن ثابت، تُوُفّي بإفريقية سنة مائة، وقال أبو عبد الله الحميدي: يقال: إن جامع سرقسطة من بنائه، وذكر بعض أهل العلم أن قبره بها. قلت: قال ذلك أبو الوليد الوقشي، ووثقه يعقوب بن سفيان وابن حبان، وقال الآجري عن أبي داود: هو حنش بن علي.

أخرج له المصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وكرّره ثلاث مرّات.

و"فَضَالة بن عبيد" رضي الله عنه ذُكر قبله، و"قتيبة"، و"ليث" تقدّما قبل باب.

وقوله: (اشْتَرَيْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ قِلَادَةً بِاثْنَىْ عَشَرَ دِينَارًا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في نسخ معتمدة: "قِلادةً باثني عشر دينارًا"، وفي كثير من النسخ:"قِلادةً فيها اثنا عشر دينارًا"، ونَقَل القاضي أنه وقع لمعظم شيوخهم:"قلادةً فيها اثنا عشر دينارًا"، وأنه وجده عند أصحاب الحافظ أبي عليّ الغسانيّ مصلّحةً:"قلادةً باثني عشر دينارًا"، قال: وهذا له وجه حسن، وبه يصحّ الكلام، هذا كلام القاضي.

والصواب ما ذكرناه أوّلًا: "باثني عشر"، وهو الذي أصلحه صاحب أبي علىّ الغسانيّ واستحسنه القاضي، والله أعلم.

قال الجامع عفا الله عنه: ما صوّبه النوويّ رحمه الله هو الصواب، وأما ما وقع في النسخ الأخرى:"قلادة فيها اثنا عشر دينارًا"، فهو فاسد؛ لأن قوله بعدُ: فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارًا يُبطله.

والحاصل أن قوله: "باثني عشر دينارًا" هو الصواب، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

وقوله: (قِلَادَةً) القلادة من حلي النساء، تعلّقها المرأة في عنقها.

وقوله: (خَرَزٌ) هى الجوهر، كما في الرواية الأخرى.

وقوله: (فَفَصَّلْتُهَا) من التفصيل؛ أي: فرَّقت بينها، واستخرجت الدينار منها.

ص: 652

وقوله: (فَقَالَ: "لَا تُبَاعُ حَتَّى تُفَصَّلَ")؛ أي: يُميّز بين الذهب والخرز، يعني أنه لا يجوز بيع القلادة المشتملة على الخَرَز والدينار حتى تُميّز أجزاؤها، وتفرز، ويُعلم قدر الدينار الذي فيها، ويوزن بوزنه.

وقوله: "لا تباع" نَفْيٌ بمعنى النهي، وعلّة النهي مقابلة الذهب بالذهب، وزيادة الفضل الموجبة لحصول الربا.

وفي هذا الحديث أنه لا يجوز بيع ذهب مع غيره بذهب حتى يُفَصَّل، فيباع الذهب بوزنه ذهبًا، ويباع الآخر بما أراد، وكذا لا تباع فضة مع غيرها بفضة، وكذا الحنطة مع غيرها بحنطة، والملح مع غيره بملح، وكذا سائر الربويات، بل لا بُدّ من فصلها، وسواء كان الذهب في الصورة المذكورة أوّلًا قليلًا أو كثيرًا، وكذلك باقي الربويات

(1)

، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفًى في المسألة الرابعة من شرح الحديث الماضي.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4070]

(

) - (حَدَّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثنا ابْنُ مُبَارَكٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ، بِهَذَا الإسْنَادِ نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(ابْنُ مُبَارَكٍ) هو: عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظليّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه، جواد، مجاهد، جُمعت فيه خصال الخير [8](ت 181)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 32.

و"سعيد بن يزيد" ذُكر قبله، والباقيان تقدّما قبل باب.

[تنبيه]: رواية ابن مبارك، عن سعيد بن يزيد هذه ساقها أبو عوانة في "مسنده" (3/ 386) فقال:

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 17 - 18.

ص: 653

حدّثنا الصومعيّ

(1)

، ثنا عمرو بن عون، ونعيم بن حماد، قالا: ثنا ابن المبارك، قثنا سعيد بن يزيد أبو شجاع، قال الصومعيّ: قال لي أحمد بن حنبل: من ثقاتهم.

وحدّثنا أبو داود السجزيّ، ثنا محمد بن عيسى، وأبو بكر بن أبي شيبة قالا: ثنا ابن المبارك، عن سعيد بن يزيد، قال: حدّثني خالد بن أبي عمران، عن حَنَش، عن فَضَالة بن عُبيد، قال أبو داود بنحو هذا الحديث ومعناه، وقال الصومعيّ: قال: أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلادة عام خيبر، فيها خَرَزٌ معلَّقة بذهب، قد ابتاعها رجل بسبعة دنانير، أو تسعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا حتى تُمَيَّز"، فقال: إنما أردت الحجارة، قال:"لا حتى تميِّز بينهما"، فرَدَّه حتى ميَّز بينهما.

انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل الى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4071]

(

) - (حَدَّثنَا قُتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنَا لَيْثٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الْجُلَاحِ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي حَنَشٌ الصَّنْعَانِيُّ، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ، نبايعُ الْيَهُودَ الْوُقِيَّةَ

(2)

الذَّهَبَ بِالدِّينَارينِ، وَالثَّلَاثَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ) هو: عبيد الله بن أبي جعفر، أبو بكر الفقيه المصريّ، مولى بني كنانة، أو أميّة، قيل: اسم أبيه يسار، ثقة عابد [5](ت 132) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 20/ 1306.

2 -

(الْجُلَاحُ) -بضمّ الجيم، وتخفيف اللام، آخره حاء مهملة- أَبُو كَثِيرٍ المصريّ، مولى الأمويين، ثقة

(3)

[6].

(1)

محمد بن أبي خالد الصومعيّ -بفتح الصاد المهملة- أبو بكر الطبرّي، صدوقٌ يُغرب، من الحادية عشرة، وليس له رواية في الكتب الستة، وإنما ذكر في "التقريب" وأصله للتمييز، فتنبّه.

(2)

وفي نسخة: "الأوقيّة".

(3)

هذا هو الأولى، وأما قوله في "التقريب": صدوق، ففيه نظر؛ لأنه روى عنه =

ص: 654

رَوَى عن حَنَش الصنعانيّ، وأبي سلمة، والمغيرة بن أبي بردة، وغيرهم.

ورَوى عنه بُكير بن الأشجّ، وعبيد الله بن أبي جعفر، ويزيد بن أبي حبيب، وعمرو بن الحارث، وابن لهيعة، والليث المصريون.

قال الدارقطنيّ: لا بأس به، وقال يزيد بن أبي حبيب: كان رِضًا، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن عبد البرّ: الْجُلاح أبو كثير يقال: إنه مولى عمر بن عبد العزيز، ويقال: مولى أخيه عبد الرحمن بن عبد العزيز، وهو مصريّ، تابعيّ، ثقة.

قال ابن يونس: تُوُفّي سنة (120).

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (نُبَايعُ الْيَهُودَ) قال الفيّوميّ رحمه الله: يقال: هم يهودُ غير منصرف؛ للعلميّة ووزن الفعل، ويجوز دخول الألف واللام، فيقال: اليهودُ، وعلى هذا فلا يمتنع التّنوين؛ لأنه نُقِل عن وزن الفعل إلى باب الأسماء، والنِّسبة إليه: يَهُودِيٌّ، وقيل: اليهوديُّ نسبة إلى يهودا بن يعقوب عليه السلام. هكذا أورد الصغانيّ يَهُودَا في باب المهملة. انتهى

(1)

.

وقوله: (الْوُقِيَّةَ) وفي بعض النسخ: "الأوقيّة"

(2)

، وهما لغتان، قال النوويّ: ووقع هنا في النسخ: "الوُقية الذهب"، وهي لغة قليلةٌ، والأشهر "الأوقية" بالهمز في أوله، وسبق بيانها مرات. انتهى.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: والأَوْقِيَّةُ بضم الهمزة، وبالتشديد، وهي عند العرب

= جماعة، ووثقه ابن حبّان، وابن عبد البرّ، وأثنى عليه يزيد بن أبي حبيب، وقال الدارقطنيّ: لا بأس به، وأخرج له مسلم، ولم يتكلّم فيه أحد، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 642.

(2)

هكذا أشار إلى هذه النسخة في هامش النسخة التركيّة، ولم يطلع عليها النوويّ، ولذا لم يُشر إليها، فتنبّه.

ص: 655

أربعون درهمًا، وهي في تقدير أُفْعُولة، كالأُعجوبة، والأُحدوثة، والجمع: الأَوَاقِيُّ بالتشديد، وبالتخفيف؛ للتخفيف، وقال ثعلب في "باب المضموم أوله": وهي الأُوقيَّةُ، والوُقِيَّةُ لغة، وهي بضم الواو، هكذا هي مضبوطة في كتاب ابن السِّكِّيت، وقال الأزهريّ: قال الليث: الوُقِيَّةُ سبعةُ مثاقيل، وهي مضبوطة بالضم أيضًا، قال الْمُطَرِّزيّ: وهكذا هي مضبوطة في "شرح السُّنَّةِ" في عِدَّة مواضع، وجرى على ألسنة الناس بالفتح، وهي لغة حكاها بعضهم، وجمعها: وَقَايَا، مثل عَطيّة وعَطايا. انتهى

(1)

.

وقوله: (الذَّهَبَ بِالدِّينَارَيْنِ) بنصب الذهب على البدليّة من "الوقيّة".

وقوله: ("لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلا وَزْنًا بِوَزْنٍ") قال النوويّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن مراده: كانوا يتبايعون الأوقية من ذهب وخَرَز وغيره بدينارين، أو ثلاثة، وإلا فالأوقية وزن أربعين درهمًا، ومعلوم أن أحدًا لا يبتاع هذا القدر من ذهب خالص بدينارين أو ثلاثة، وهذا سبب مبايعة الصحابة رضي الله عنهم على هذا الوجه، ظَنُّوا جوازه؛ لاختلاط الذهب بغيره، فبيَّن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه حرام حتى يُمَيَّز، ويباع الذهب بوزنه ذهبًا. انتهى

(2)

.

والحديث من أفراد المصنف رحمه الله، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قبل حديثين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4072]

(

) - (حَدَّثَنِي أبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ قُرَّةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَعَافِرِيِّ، وَعَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، وَغَيْرِهِمَا أَنَّ عَامِرَ بْنَ يَحْيَى الْمَعَافِرِيَّ أَخْبَرَهُمْ، عَنْ حَنَشٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ فِي غَزْوةٍ، فَطَارَتْ لِي وَلأَصْحَابِي قِلَادَةٌ، فِيهَا ذَهَبٌ، وَوَرِقٌ وَجَوْهَرٌ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَشتَرِيَهَا، فَسَألتُ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ، فَقَالَ: انْزِعْ ذَهَبَهَا، فَاجْعَلْهُ فِي كِفَّةٍ، وَاجْعَلْ ذَهَبَكَ فِي كِفَّةٍ، ثُمَّ لَا تَأخُذَنَّ إِلا مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَلَا يَأخُذَنَّ إِلا مِثْلًا بِمِثْلٍ").

(1)

"المصباح المنير" 2/ 669.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 19.

ص: 656

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(قُرَّةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَعَافِرِيُّ) هو: قُرّة بن عبد الرحمن بن حَيْوَئِيل -بحاء مهملة مفتوحة، ثم تحتانيّة، بوزن جَبْرَئيل- ابن ناشرةَ بن عبد بن عامر الْمَعافريّ، أبو محمد المصريّ، ويقال: إنه مدنيّ الأصل.

رَوَى عن الزهريّ، وأبي الزبير، وربيعة، وعامر بن يحيى المعافريّ، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وغيرهم.

وروى عنه الأوزاعيّ، وسعيد بن عبد العزيز، والليث، وابن لهيعة، وحيوة بن شُريح، ومحمد بن شُريح، ومحمد بن شعيب بن شابور، وغيرهم.

قال أبو مسهر، عن يزيد بن السِّمْط: كان الأوزاعيّ يقول: ما أحدٌ أعلم بالزهريّ من قرة بن عبد الرحمن، وقال الجوزجانيّ عن أحمد: منكر الحديث جدًّا، وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ضعيف الحديث، وقال أبو زرعة: الأحاديث التي يرويها مناكير، وقال أبو حاتم، والنسائيّ: ليس بقويّ، وقال الآجريّ عن أبي داود: في حديثه نكارة، وقال أيضًا: سألت أبا داود عن عُقيل وقُرّة، فقال: عُقيل أحلى منه، وقال ابن عديّ: لم أر له حديثًا منكرًا جدًّا، وأرجو أنه لا بأس به، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: سمعت عمر بن حفص البزار يقول: سمعت إسحاق بن الضيف يقول: سمعت أبا مسهر يقول، فذكر قول الأوزاعيّ المتقدم، وتعقبه بأن قال: هذا الذي قاله يزيد ليس بشيء يُحكم به على الإطلاق، وكيف يكون قرّةُ أعلم الناس بالزهري، وكل شيء روى عنه ستون حديثًا، بل أعلم الناس بالزهريّ مالك، ومعمر، ويونس، والزُّبيديّ، وعُقيل، وابن عيينة، هؤلاء أهل الحفظ والإتقان والضبط، ثم حَكَى عن إسماعيل بن عياش أن قُرّة لقبٌ، وأنه كان اسمه يحيى، وتَعَقّب ذلك تضعيف إسناده

(1)

إلى ابن عياش، وأورد ابن عدي كلام الأوزاعيّ من رواية رجاء بن سهل، عن أبي مسهر، ولفظه: ثنا يزيد بن السِّمْط، قال: ثنا قُرَّة، قال: لم يكن للزهريّ كتاب إلا كتاب فيه نسب قومه، وكان الأوزاعيّ يقول: ما أحد أعلم بالزهريّ من ابن حيوئيل.

(1)

كذا في النسخة، ولعله بتضعيف إسناده، فليُحرّر.

ص: 657

قال الحافظ: فيظهر من هذه القصة أن مراد الأوزاعيّ أنه أعلم بحال الزهري من غيره، لا فيما يرجع إلى ضبط الحديث، وهذا هو اللائق، والله أعلم.

وقال يحيى بن معين: كان يتساهل في السماع، وفي الحديث، وليس بكذّاب، وقال العجليّ: يُكتب حديثه، وقال ابن عديّ: رَوى الأوزاعيّ عن قرة، عن الزهريّ بضعة عشر حديثًا.

قال ابن يونس: يقال: تُوُفّي سنة سبع وأربعين ومائة، وكان جدّه حَيْوئيل شَهِد فتح مصر، ولهم بقية بمصر.

رَوى له المصنّف مقرونًا بغيره، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وله عند النسائيّ حديث أبي هريرة: "إذا أمّن القارئ، فأمِّنوا

" الحديث.

2 -

(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المِصْريّ، ثقةٌ فقيهٌ حافظٌ [7] مات قديمًا قبل (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.

3 -

(عَامِرُ بْنُ يَحْيَى الْمَعَافِرِيُّ) هو: عامر بن يحيى بن حبيب بن مالك المعافريّ الشَّرْعبيّ، أبو خُنيس -بخاء معجمة، ونون مصغّرًا- المصريّ، ثقةٌ [6].

رَوَى عن حَنَش الصنعانيّ، وأبي عبد الرحمن الْحُبُليّ، وعقبة بن مسلم، ورَوَى أيضًا عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وعن فَضَالة بن عُبيد، وقيل: بينهما يُحَنَّس بن عبد الرحمن.

وروى عنه قُرّة بن عبد الرحمن بن حَيْوَئيل، وعمر بن الحارث، وابن لهيعة، والليث، وجماعة.

قال أبو داود، والنسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال ابن يونس: تُوُفّي قبل سنة عشرين ومائة.

رَوى له المصنّف هذا الحديث فقط، والترمذيّ، وابن ماجه حديث البطاقة.

والباقون ذُكروا في الباب.

ص: 658

شرح الحديث:

(عَنْ قُرَّةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَعَافِرِيِّ) بفتح الميم: نسبة إلى المعافر، أبو قبيلة، وهو: المعافر بن يعفر مالك بن الحارث بن مُرّة بن أُدَد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، قاله في "اللباب"

(1)

. (وَعَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ) الأنصاريّ (وَغَيْرِهِمَا) المراد به عبد الله بن لَهِيعة، فقد أخرجه الطبرانيّ في "المعجم الكبير" من طريق ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، وابن لَهِيعة، وقُرّة بن عبد الرحمن، عن عامر بن يحيى. . . (أَنَّ عَامِرَ بْنَ يَحْيَى الْمَعَافِرِيَّ أَخْبَرَهُمْ، عَنْ حَنَشٍ؛ أنَّهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ فِي غَزْوَةٍ، فَطَارَتْ لِي وَلأَصْحَابِي) أي: حصلت لنا من الغنيمة (قِلَادَةٌ، فِيهَا ذَهَبٌ، وَوَرِقٌ) تقدّم أنه بفتح الواو وكسر الراء، أو بفتح الواو وكسرها، مع سكون الراء (وَجَوْهَرٌ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهَا، فَسَألتُ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ، فَقَالَ: انْزِعْ) بكسر الزاي، من باب ضرب (ذَهَبَهَا، فَاجْعَلْهُ فِي كِفَّةٍ) أراد كفّتي الميزان، و"الكفّةُ" -بكسر الكاف- قال أهل اللغة: كِفّة الميزان، وكلُّ مستدير بكسر الكاف، وكِفّة الثوب والصائد بضمّها، وكذلك كل مستطيل، وقيل: بالوجهين فيهما معًا، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: كِفّةُ الميزان بالكسر، والضمُّ لغةٌ، وأما الكِفّةُ لغير الميزان، فقال الأصمعيّ: كل مستدير فهو بالكسر، نحو كِفّة اللِّثَة، وهو ما انحدر منها، وكفّة الصائد، وهي حِبَالته، وكلُّ مستطيل فهو بالضمّ، نحو كُفّة الثوب، وهي حاشيته، وكُفّة الرَّمْل. انتهى

(3)

.

(وَاجْعَلْ ذَهَبَكَ فِي كِفَّةٍ، ثمَّ لَا تَأخُذَنَّ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ) أي: إلا متماثلين (فَإنِّي) الفاء للتعليل؛ أي: لأني (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَلَا يَأخُذَنَّ إِلا مِثْلًا بِمِثْلٍ") فيه التشديد في شأن الربا حيث ربطه بالإيمان واليوم الآخر.

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 342.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 19.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 536.

ص: 659

والحديث من أفراد المصنف رحمه الله، وقد تقدّم بيان مسائله في شرح حديث أول الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(39) - (بَابُ بَيْعِ الطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4073]

(1592) - (حَدَّثنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ؛ أَنَّ أبَا النَّضْرِ حَدَّثَهُ؛ أَنَّ بُسْرَ بْنَ سَعِيدٍ حَدَّثَهُ، عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ؛ أنَّهُ أَرْسَلَ غُلَامَهُ بِصَاعِ قَمْحٍ، فَقَالَ: بِعْهُ، ثُمَّ اشتَرِ بِهِ شَعِيرًا، فَذَهَبَ الْغُلَامُ، فَأَخَذَ صَاعًا، وَزِيَادَةَ بَعْضِ صاعٍ، فَلَمَّا جَاءَ مَعْمَرًا أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ مَعْمَرٌ: لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ؟ انْطَلِقْ، فَرُدَّهُ، وَلَا تَأخُذَنَّ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَإنِّي كنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ"، قَالَ: وَكَانَ طَعَامُنَا يَوْمَئِذٍ الشَّعِيرَ، قِيلَ لَهُ: فَإنَّهُ لَيْسَ بِمِثْلِهِ، قَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُضَارعَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ) الخزّاز الضرير، أبو عليّ المروزيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 231) وله (74) سنةً (خ م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 350.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ فقيهٌ [9](ت 197) وله (72) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

3 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن السرح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 25)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

4 -

(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ [7] مات قبل (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.

5 -

(أَبُو النَّضْرِ) سالم بن أبي أميّة مولى عمر بن عبيد الله التيميّ المدنىّ، ثقةٌ ثبتٌ يرسل [5](ت 129)(ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 551.

ص: 660

6 -

(بُسْرُ بْنُ سَعِيدٍ) مولى ابن الحضرميّ المدنيّ، ثقةٌ عابدٌ جليلٌ [2](ت 100)(ع) تقدم في "الصلاة" 31/ 1001.

7 -

(مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن نافع بن نَضْلة بن عوف بن عُبيد بن عُويج بن عَدِيّ بن كعب بن لؤيّ بن غالب القرشيّ، وهو معمر بن أبي معمر، وقيل غير ذلك في نسبه.

أسلم قديمًا، وهاجر إلى الحبشة.

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن عمر بن الخطاب، وعنه سعيد بن المسيِّب، وبُسر بن سعيد، وعبد الرحمن بن جُبير المصريّ، وعبد الرحمن بن عقبة العدويّ مولاه.

قال ابن عبد البرّ: كان من شيوخ بني عديّ.

وجاء أنه حَلَق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (1592)، و (1605):"من احتكر فهو خاطئ"، وأعاده بعده.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، ونصفه الثاني بالمدنيين، ومسلسلٌ بالتحديث والإخبار، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعي، وأن صحابيّه رضي الله عنه من المقلّين من الرواية، ليس له في الكتب الستة إلا الحديثان المذكوران في ترجمته، راجع:"تحفة الأشراف"

(1)

.

شرح الحديث:

(عَنْ مَعْمَرِ) بفتح الميمين، بينهما عين مهملة ساكنة (ابْنِ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنه (أنَّه أَرْسَلَ غُلَامَهُ)؛ أي: خادمه، قال صاحب "التنبيه": لا أعرف اسم هذا الغلام. انتهى. (بِصَاعِ قَمْحٍ) بفتح القاف، وسكون الميم، آخره حاء مهملة: هو البرّ (فَقَالَ: بِعْهُ، ثمَّ اشتَرِ بِهِ)؛ أي: بثمنه (شعِيرًا، فَذَهَبَ الْغُلَامُ، فَأَخَذَ

(1)

"تحفة الأشراف" 8/ 168 - 169.

ص: 661

صَاعًا)؛ أي: من الشعير (وَزِيَادَةَ بَعْضِ صَاعٍ، فَلَمَّا جَاءَ مَعْمَرًا أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ مَعْمَرٌ: لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ) أي: بيع صاع القَمْح بصاع الشعير والزيادة (انْطَلِقْ) أي: اذهب (فَرُدَّهُ، وَلَا تَأخُذَنَّ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ) أي: لا تأخذ الشعير بالقَمح إلا متماثلين في الكيل (فَإنِّي كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ"، قَالَ) معمر رضي الله عنه (وَكَانَ طَعَامُنَا يَوْمَئِذٍ) أي: يوم قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "الطعام بالطعام

" (الشَّعِيرَ، قِيلَ لَهُ)؛ أي: لمعمر (فَإنَّهُ) أي: الشعير (لَيْسَ بِمِثْلِهِ) أي: مثل الْقَمْح، يعني أنه ليس من جنسه؛ أي: أن القمح والشعير جنسان مختلفان، فلا يحرم فيهما التفاضل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا اختَلَفت الأجناس، فبيعوا كيف شئتم"، فلماذا تريد أن تفسخ هذا البيع؟ (قَالَ: إنِّي أَخَافُ أَنْ يُضَارعَ)؛ أي: يشابه، ويشارك، ومعناه أخاف أن يكون في معنى المماثل، فيكون له حكمه في تحريم الربا، واحتجّ مالك بهذا الحديث في كون الحنطة والشعير صنفًا واحدًا، لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلًا، قال النوويّ: ومذهبنا، ومذهب الجمهور أنهما صنفان، يجوز التفاضل بينهما؛ كالحنطة مع الأرز، ودليلنا ما سبق عند قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا اختَلَفَت هذه الأجناس، فبيعوا كيف شئتم"، مع ما رواه أبو داود، والنسائيّ في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا بأس ببيع البر بالشعير، والشعيرُ أكثرُهما يدًا بيد"، وأما حديث مَعْمَر هذا فلا حجة فيه؛ لأنه لم يصرِّح بأنهما جنس واحد، وإنما خاف من ذلك، فَتَوَرَّع عنه احتياطًا. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قد تقدَّم ذكر الخلاف في عدِّ البُرِّ والشعير صنفًا واحدًا بما يغني عن إعادته، لكنا نبيِّن في هذا الحديث أن حديث مَعْمَر لا حجَّة فيه لأصحابنا، وإن كانوا قد أطبقوا على الاحتجاج به، ووجه ذلك أن غايتهم في التمسك به أن يحتجوا بمذهب معمر، وهو قول صحابيّ، وهو أعلم بالمقال، وأقعد بالحال.

قال: إن قول معمر هذا رأي منه، لا رواية، وما استَدَلّ به من قوله صلى الله عليه وسلم:"الطَّعام بالطَّعام" لا حجَّة له فيه؛ لأنه إن حُمِل على عمومه لزم منه ألا يباع

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 20.

ص: 662

التمر بالبُرِّ، ولا الشعير بالملح، إلا مثلًا بمثل، وذلك خلاف الإجماع، فظهر أن المراد به الجنس الواحد من الطَّعام، وقد بيَّن النبيّ صلى الله عليه وسلم الأجناس المختلفة في حديث عبادة بن الصامت وغيره، وفصَّلها واحدًا واحدًا، ففصل التمر عن البر، والشعير عنه، ثم قال بعد ذلك:"فإذا اختلفت الأصناف، فبيعوا كيف شئتم"، ثم الظاهر من فُتيا معمر: إنما كانت منه تَقِيَّةً وخوفًا، ألا ترى نصَّه، حيث قال: إني أخاف أن يُضَارع؟! والحجَّة في قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لا في قول غيره. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث معمر بن عبد الله رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله من بين الكتب الستّة.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [39/ 4073](1592)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 400 و 401)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(20/ 447)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5011)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 396)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 3)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(3/ 24)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 283)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4074]

(1593) - (حَدَّثنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثنا سُلَيْمَان -يَعْنِي ابْنَ بِلَالٍ- عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحمَنِ؛ أنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بنَ الْمُسَيِّبِ يُحَدِّثُ؛ أَنَّ أَبا هُرَيْرَةَ، وَأبَا سَعِيدٍ حَدَّثَاهُ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَخَا بَنى عَدِيٍّ الأنصَارِيَّ، فَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى خَيْبَرَ، فَقَدِمَ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ "، قَالَ: لَا، وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا

(1)

"المفهم" 4/ 480 - 481.

ص: 663

لَنَشْتَرِي الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ مِنَ الْجَمْعِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا تَفْعَلُوا، وَلَكِنْ مِثْلًا بِمِثْلٍ، أَوْ بِيعُوا هَذَا، وَاشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا، وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ، أبو وهب، أو أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ [6].

رَوَى عن عمه أبي سلمة بن عبد الرحمن، وابن عمه صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن المسيِّب، وعطاء بن أبي رباح، وأبي صالح السمان، وغيرهم.

وروى عنه مالك، وسليمان بن بلال، وعبد الله بن سعيد بن أبي هند، والمغيرة بن عبد الرحمن المخزوميّ، وابن أبي الزناد، وغيرهم.

قال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقةٌ، وكذا قال النسائيّ، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن الْبَرْقِيّ: ثقة، وقال الحاكم: شيخ من ثقات المدنيين، عزيز الحديث، وحَكَى ابن عبد البر أن بعض الرواة عن مالك سمّاه عبد الحميد، ونَسَب ذلك ليحيى بن يحيى الليثيّ، وعبد الله بن نافع، وعبد الله بن يوسف.

قال الحافظ: وهو في البخاريّ عن عبد الله بن يوسف: عبد المجيد كالجمهور، والله أعلم.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (1593) وأعاده بعده، و (997)

(1)

: "دَبَّر رجل من الأنصار غلامًا له

"، و (3024): "تدري آخر سورة نزلت من القرآن؟

".

2 -

(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) تقدّم قريبًا.

والباقون تقدّموا قبل بابين.

لطائف هذا الإسناد:

أنه مسلسلٌ بالمدنيين، وفيه سعيد بن الْمُسيِّب من الفقهاء السبعة، وأن

(1)

رقم مكرر.

ص: 664

صحابيه من المكثرين السبعة، فالأول روى (5374)، والثاني روى (1170) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ) -بميم مفتوحة، بعدها جيم- ومن قال: عبد الحميد بالمهملة، ثم الميم، فقد صَحَّف، قاله في "الفتح"

(1)

. (ابْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف (أنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يُحَدِّثُ؛ أَنَّ أبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (وَأبَا سَعِيدٍ) الخدريّ رضي الله عنه (حَدَّثَاهُ) قال ابن عبد البرّ: ذِكْرُ أبي هريرة لا يوجد في هذا الحديث إلا لعبد المجيد، وقد رواه قتادة عن سعيد بن المسيِّب، عن أبي سعيد وحده، وكذلك رواه جماعة من أصحاب أبي سعيد عنه، ورواية قتادة أخرجها النسائيّ، وابن حبان من طريق سعيد بن أبي عروبة عنه، ولكن سياقه مغاير لسياق قصة عبد المجيد، وسياق قتادة يشبه سياق عقبة بن عبد الغافر، عن أبي سعيد، قاله في "الفتح"

(2)

. (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَخَا بَنِي عَدِيٍّ الأنصارِيَّ) وأخرجه أبو عوانة، والدارقطنيّ من طريق الدراورديّ، عن عبد المجيد، فسمّاه سَوَاد بن غَزِيَّة، وهو بفتح السين المهملة، وتخفيف الواو، وفي آخره دال مهملة، وغَزِيّة، بغين معجمة، وزاي، وتحتانية ثقيلة بوزن عَطِيَّة

(3)

. (فَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى خَيْبَرَ) وفي رواية البخاريّ من طريق الدراورديّ، عن عبد المجيد بن سهيل:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بَعَث أخا بني عديّ، من الأنصار إلى خيبر، فأمَّره عليها"(فَقَدِمَ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ) -بجيم، ونون، وتحتانية، وموحَّدة، وزن عظيم- قال مالك: هو الكَبِيس، وقال الطحاويّ: هو الطَّيِّب، وقيل: الصَّلْب، وقيل: الذي أُخرج منه حشفه، ورديئه، وقال غيرهم: هو الذي لا يُخلَط بغيره، بخلاف الجمع (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي بعض النسخ:"فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "("أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ ") الهمزة للاستفهام (قَالَ) ذلك الرجل (لَا) أي: ليس هكذا (وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا لَنَشْتَرِي الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ) وفي الرواية التالية: "إنّا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة" (مِنَ

(1)

"الفتح" 5/ 677.

(2)

"الفتح" 5/ 677.

(3)

"الفتح" 5/ 678.

ص: 665

الْجَمْعِ) -بفتح الجيم، وسكون الميم-: التمر المختلط، قاله في "الفتح"، وقال النوويّ رحمه الله: هو تمر رديء، وقد فسّره في الرواية الأخيرة بأنه الْخِلْط من التمر، ومعناه: مجموع من أنواع مختلفة. انتهى

(1)

. (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا تَفْعَلُوا) أي: لا تبيعوا الصاع بالصاعين من جنس واحد (وَلَكِنْ مِثْلًا بِمِثْلٍ) أي: بيعوا الجنس الواحد بعضه ببعض متماثلًا في الكيل (أَوْ بِيعُوا هَذَا) أي: بيعوا الجمع بالدراهم (وَاشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا) أي: الجنيب.

قال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث محمول على أن هذا العامل الذي باع صاعًا بصاعين لم يعلم تحريم هذا؛ لكونه كان في أوائل تحريم الربا، أو لغير ذلك، واحتَجَّ بهذا الحديث أصحابنا وموافقوهم في أن مسألة الْعِينة ليست بحرام، وهي الحيلة التي يعملها بعض الناس توصلًا إلى مقصود الربا، بأن يريد أن يعطيه مائة درهم بمائتين، فيبيعه ثوبًا بمائتين، ثم يشتريه منه بمائة، وموضع الدلالة من هذا الحديث أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له:"بيعوا هذا، واشتروا بثمنه من هذا"، ولم يُفَرِّق بين أن يشتري من المشتري، أو من غيره، فدَلّ على أنه لا فرق، وهذا كله ليس بحرام عند الشافعىّ، وآخرين، وقال مالك، وأحمد: هو حرام. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره النوويّ من كون بيع العينة جائزًا عند الشافعيّ، سيأتي في المسألة الرابعة -إن شاء الله تعالى- أن الصحيح ما ذهب إليه مالك وأحمد من تحريمه، فتنبّه.

وقوله: (وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ") أي: لا يباع الموزون إلا مثلًا بمثل، فلا يباع رطل برطلين.

قال النوويّ: هذا يستدل به الحنفية؛ لأنه ذَكَر في هذا الحديث الكيل والميزان، وأجاب أصحابنا وموافقوهم بأن معناه: وكذلك الميزان لا يجوز التفاضل فيه، فيما كان ربويًّا موزونًا. انتهى

(2)

.

وقال ابن عبد البرّ: كل من روى عن عبد المجيد هذا الحديث ذكر فيه الميزان، سوى مالك. انتهى.

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 21.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 21 - 22.

ص: 666

وتعقّبه الحافظ، ولم يتبيّن لي وجه تعقّبه، فليُتأمل.

قال: وهو أمر مجمع عليه، لا خلاف بين أهل العلم فيه، كلٌّ يقول على أصله: إن كل ما دخله الربا من جهة التفاضل، فالكيل والوزن فيه واحد، ولكن ما كان أصله الكيل لا يباع إلا كيلًا، وكذا الوزن، ثم ما كان أصله الوزن لا يصح أن يباع بالكيل، بخلاف ما كان أصله الكيل، فإن بعضهم يجيز فيه الوزن، ويقول: إن المماثلة تُدرك بالوزن في كل شيء، قال: وأجمعوا على أن التمر بالتمر لا يجوز بيع بعضه ببعض، إلا مثلًا بمثل، وسواء فيه الطيِّب والدون، وأنه كله على اختلاف أنواعه جنس واحد، قال: وأما سكوت من سكت من الرواة عن فسخ البيع المذكور، فلا يدلّ على عدم الوقوع، إما ذهولًا، وإما اكتفاءً بأن ذلك معلوم.

وقد ورد الفسخ من طريق أخرى، كأنه يشير إلى ما سيأتي لمسلم من طريق أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدريّ نحو هذه القصة، وفيه:"فقال: هذا الربا، فردّوه".

قال: ويَحْتَمِل تعدد القصة، وأن القصة التي لم يقع فيها الردّ كانت قبل تحريم ربا الفضل، والله أعلم. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ، وأبي هريرة رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [39/ 4074 و 4075](1593)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2201 و 2202) و"الوكالة"(2302 و 2303) و"الاعتصام"(7350 و 7351)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 271 و 272) و"الكبرى"(4/ 24)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 623)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 45 و 67)،

(1)

"الفتح" 5/ 678.

ص: 667

و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 258)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 392)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5021)، و (الدارقطنىّ) في "سننه"(3/ 17)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 285 و 291) و"الصغرى"(5/ 36) و"المعرفة"(4/ 305)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2064)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان حكم بيع التمر بالتمر، متفاضلًا، وهو التحريم.

2 -

(ومنها): قيام عذر من لا يعلم التحريم، حتى يعلمه.

3 -

(ومنها): أن فيه جوازَ الرفق بالنفس، وترك الحمل على النفس؛ لاختيار أكل الطيب على الرديء، خلافًا لمن منع ذلك، من المتزهدين.

4 -

(ومنها): البحث عما يستريب به الشخص، حتّى ينكشف حاله.

5 -

(ومنها): النصّ على تحريم ربا الفضل.

6 -

(ومنها): اهتمام الإمام بأمر الدين، وتعليمه لمن لا يعلمه، وإرشاده إلى التوصّل إلى المباحات، وغيرها.

7 -

(ومنها): أن فيه أن صفقة الربا لا تصحّ.

8 -

(ومنها): أن بعضهم استدل به على جواز بيع العِينة، وهو: أن يبيع السلعة من رجل بنقد، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن؛ لأنه لم يَخُصّ بقوله:"ثم اشتر بالدراهم جنيبًا" غير الذي باع له الجمع.

وتُعُقِّب بأنه مطلق، والمطلق لا يشمل، ولكن يَشِيع، فإذا عُمل به في صورة، سقط الاحتجاج به فيما عداها، ولا يصح الاستدلال به على جواز الشراء، ممن باعه تلك السلعة بعينها.

وقيل: إن وجه الاستدلال به لذلك، من جهة ترك الاستفصال، ولا يخفى ما فيه.

9 -

(ومنها): ما قال القرطبىّ رحمه الله: استَدَلّ بهذا الحديث، من لم يقل بسدّ الذرائع؛ لأن بعض صور هذا البيع، يؤدي إلى بيع التمر بالتمر متفاضلًا، ويكون الثمن لغوًا، قال: ولا حجة في هذا الحديث؛ لأنه لم ينص على جواز شراء التمر الثاني، ممن باعه التمر الأول، ولا يتناوله ظاهر السياق بعمومه، بل بإطلاقه، والمطلق يحتمل التقييد إجمالًا، فوجب الاستفسار، وإذا كان

ص: 668

كذلك، فتقييده بأدنى دليل كاف، وقد دلّ الدليل على سد الذرائع، فلتكن هذه الصورة ممنوعة.

واستَدَلّ بعضهم على الجواز، بما أخرجه سعيد بن منصور، من طريق ابن سيرين، أن عمر خطب، فقال: إن الدرهم بالدرهم، سواءً بسواء، يدًا بيد، فقال له ابن عوف: فنعطي الجنيب، ونأخذ غيره؟ قال: لا، ولكن ابتع بهذا عَرْضًا، فإذا قبضته، وكان له فيه نية، فاهضم ما شئت، وخذ أيّ نقد شئت.

واستَدَلّ أيضًا بالاتفاق، على أن من باع السلعة التي اشتراها، ممن اشتراها منه بعد مدّة، فالبيع صحيح، فلا فرق بين التعجيل في ذلك، والتأجيل، فدل على أن المعتبر في ذلك وجود الشرط، في أصل العقد وعدمه، فإن تشارطا على ذلك في نفس العقد، فهو باطل، أو قبله، ثم وقع العقد بغير شرط، فهو صحيح، ولا يخفى الورع.

وقال بعضهم: ولا يضر إرادة الشراء، إذا كان بغير شرط، وهو كمن أراد أن يزني بامرأة، ثم عدل عن ذلك، فخطبها، وتزوجها، فإنه عدل عن الحرام إلى الحلال، بكلمة الله التي أباحها، وكذلك البيع، والله أعلم.

10 -

(ومنها): جواز اختيار طيِّب الطعام، وجواز الوكالة في البيع وغيره.

11 -

(ومنها): أن البيوع الفاسدة كلّها تُفسخ، وتردّ، إذا لم تَفُتْ.

12 -

(ومنها): ما قاله القرطبي رحمه الله أيضًا: إنه يدلّ على وجوب فسخ صفقة الربا، وأنها لا تصحّ بوجه، وهو حجةٌ للجمهور على أبي حنيفة حيث يقول: إن بيع الربا جائز بأصله، من حيث إنه بيع، ممنوع بوصفه، من حيث إنه ربا، فيُسقَطُ الربا، ويصح البيع. ولو كان على ما ذَكر لَمَا فسخ النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الصفقة، ولأمَره برد الزيادة على الصاع، ولصحّح الصفقة في مقابلة الصاع. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): مما يتعلّق بهذا البحث الكلام على بيع العِينة

(1)

:

(1)

"العِينة" بكسر العين، كما في "الصحاح"، و"القاموس"، "المصباح"، فما في "شرح الطيبيّ" من ضبطه بفتح العين، فغلط، فتنبّه. =

ص: 669

صورة بيع العينة -كما قال ابن الأثير رحمه الله في "النهاية" 3/ 334 - : أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمّى، ثم يشتريها منه بأقلّ من الثمن الذي باعها، فإن اشترى بحضرة طالب العِينة سلعة من آخر بثمن معلوم، وقبضها، ثم باعها من طالب العينة بثمن أكثر مما اشتراها إلى أجل مسمّى، ثم باعها المشتري من البائع الأول بالنقد بأقلّ من الثمن، فهذه أيضًا عِينة، وهي أهون من الأولى، وسُمّيت عِينةً لحصول النقد لصاحب العينة؛ لأن العين هو المال الحاضر من النقد، والمشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضرة، تَصِلُ إليه معجّلةً. انتهى.

وقال ابن قُدامة رحمه الله في "المغني": من باع سلعة بثمن مؤجل، ثم اشتراها بأقل منه نقدًا، لم يَجُز في قول أكثر أهل العلم، رُوي ذلك عن ابن عباس، وعائشة، والحسن، وابن سيرين، والشعبىّ، والنخعيّ، وبه قال أبو الزناد، وربيعة، وعبد العزيز بن أبي سلمة، والثوريّ، والأوزاعيّ، ومالك، وإسحاق، وأصحاب الرأي، وأجازه الشافعىّ؛ لأنه ثمن يجوز بيعها به، من غير بائعها، كما لو باعها بمثل ثمنها.

ولنا ما رَوَى غندر، عن شعبة، عن أبي إسحاق السبيعىّ، عن امرأته العالية بنت أيفع بن شُرَحبيل، أنها قالت: دخلت أنا وأم ولد زيد بن أرقم، وامرأته على عائشة رضي الله عنهما، فقالت أم ولد زيد بن أرقم: إني بعت غلامًا من زيد بن أرقم، بثمانمائة درهم إلى العطاء، ثم اشتريته منه بستمائة درهم، فقالت

= وعبارة "المصباح"(2/ 441): والعِينَةُ بالكسر: السَّلَف، واعْتَانَ الرجل: اشترى الشيءَ بالشيء نسيئةً، وبعته عَيْنًا بِعَيْنٍ: أي حاضرًا بحاضر، وعَايَنْتُهُ مُعَايَنَةً، وعِيَانًا، وعَيَّنَ التاجر تَعْيينًا، والاسم: العِينَةُ بالكسر، وفسّرها الفقهاء بأن يبيع الرجل متاعه إلى أجل، ثم يشتريه في المجلس بثمن حالّ ليسلم به من الربا، وقيل لهذا البيع: عِينَةٌ؛ لأن مشتري السلعة إلى أجل يأخذ بدلها عَيْنًا: أي نقدًا حاضرًا، وذلك حرام إذا اشتَرَط المشتري على البائع أن يشتريها منه بثمن معلوم، فإن لم يكن بينهما شرط فأجازها الشافعيّ؛ لوقوع العقد سالمًا من المفسدات، ومنعها بعض المتقدمين، وكان يقول: هي أخت للربا، فلو باعها المشتري من غير بائعها في المجلس، فهي عِينَةٌ أيضًا، لكنها جائزة باتفاق. انتهى.

ص: 670

لها: بئسما شريت، وبئسما اشتريت، أبلغي زيد بن أرقم، أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن يتوب، رواه الإمام أحمد، وسعيد بن منصور، والظاهر أنها لا تقول مثل هذا التغليظ، وتُقْدِم عليه، إلا بتوقيف، سَمِعَتْه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجرى مجرى روايتها ذلك عنه؛ ولأن ذلك ذريعة إلى الربا، فإنه يُدخِل السلعة ليستبيح بيع ألف بخمسمائة، إلى أجل معلوم، وكذلك روي عن ابن عباس في مثل هذه المسألة، أنه قال: أرى مائة بخمسين، بينهما حريرة -يعني خرقة حرير- جعلاها في بيعهما، والذرائع معتبرة؛ لِمَا قدّمناه، فأما بيعها بمثل الثمن، أو أكثر فيجوز؛ لأنه لا يكون ذريعة، وهذا إذا كانت السلعة لم تنقص عن حالة البيع، فإن نقصت، مثل أن هُزِلَ العبد، أو نَسِي صناعة، أو تخرّق الثوب، أو بَلِي جاز له شراؤها بما شاء؛ لأن نقص الثمن لنقص المبيع، لا للتوسل إلى الربا، وإن نقص سعرها، أو زاد لذلك، أو لمعنى حدث فيها، لم يجز بيعها بأقل من ثمنها، كما لو كانت بحالها. نصّ أحمد على هذا كله.

قال: وإن اشتراها بعَرْض، أو كان بيعها الأول بعرض، فاشتراها بنقد جاز، وبه قال أبو حنيفة، ولا نعلم فيه خلافًا؛ لأن التحريم إنما كان لشبهة الربا، ولا ربا بين الأثمان والعُروض، فأما إن باعها بنقد، ثم اشتراها بنقد آخر، مثل أن يبيعها بمائتي درهم، ثم اشتراها بعشرة دنانير، فقال أصحابنا -الحنابلة-: يجوز؛ لأنهما جنسان، لا يحرم التفاضل بينهما، فجاز كما لو اشتراها بعرض، أو بمثل الثمن، وقال أبو حنيفة: لا يجوز؛ استحسانًا؛ لأنهما كالشيء الواحد في معنى الثَّمنية، ولأن ذلك يُتَّخَذُ وسيلةً إلى الربا، فأشبه ما لو باعها بجنس الثمن الأول، وهذا أصح، إن شاء الله تعالى.

قال: وهذه المسألة تسمى مسألة العينة، قال الشاعر [من الطويل]:

أَنَدَّانُ أَمْ نَعْتَانُ أَمْ يَنْبَرِي لَنَا

فَتًى مِثْلُ نَصْلِ السَّيْفِ مِيزَتْ مَضَارِبُهْ

فقوله: "نَعْتَان" أي: نشتري عِينة مثل ما وصفنا، وقد روى أبو داود بإسناده، عن ابن عمر: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا تبايعتم بالعِينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سَلَّطَ اللهُ عليكم ذُلًّا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم"، وهذا وعيد يدل على التحريم، وقد رُوي عن أحمد؛ أنه قال: العينة أن يكون عند الرجل المتاع، فلا يبيعه إلا بنسيئة، فإن

ص: 671

باعه بنقد، ونسيئة فلا بأس، وقال: أكره للرجل أن لا يكون له تجارة، غير العينة، لا يبيع بنقد، وقال ابن عقيل: إنما كره النسيئة لمضارعتها الربا، فإن الغالب أن البائع بنسيئة، يقصد الزيادة بالأجل، ويجوز أن تكون العِينة اسمًا لهذه المسألة، وللبيع بنسيئة جميعًا، لكن البيع بنسيئة، ليس بمحرم اتفاقًا، ولا يُكره، إلا أن لا يكون له تجارة غيره. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الأرجح عندي تحريم بيع العِينة؛ لحديث أبي داود المذكور، فإنه حديث صحيح، صححه جماعة من المحققين، بمجموع طرقه. انظر ما كتبه الشيخ الألبانيّ رحمه الله في "السلسلة الصحيحة" 1/ 15 - 17 رقم 11، وفيه الوعيد الشديد لمن يتعاطى هذا الأمر، ولا يكون الوعيد إلا على شيء محرّم شرعًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): إن باع سلعة بنقد، ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة، فقال أحمد في رواية حرب: لا يجوز ذلك، إلا أن يغيّر السلعة؛ لأن ذلك يتخذه وسيلة إلى الربا، فأشبه مسألة العينة، فإن اشتراها بنقد آخر، أو بسلعة أخرى، أو بأقل من ثمنها نسيئة جاز؛ لِمَا ذكرناه في مسألة العينة، ويَحْتَمِل أن يجوز له شراؤها بجنس الثمن بأكثر منه، إلا أن يكون ذلك عن مواطأة، أو حيلة فلا يجوز، وإن وقع ذلك اتفاقًا من غير قصد جاز؛ لأن الأصل حِلّ البيع، وإنما حُرِّم في مسألة العينة بالأثر الوارد فيه، وليس هذا في معناه، ولأن التوسل بذلك أكثر، فلا يلتحق به ما دونه، ذكره ابن قُدامة رحمه الله

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): من باع طعامًا إلى أجل، فلما حلّ الأجل، أخذ منه بالثمن الذي في ذمته طعامًا قبل قبضه لم يَجُز، رُوي ذلك عن ابن عمر، وسعيد بن المسيِّب، وطاوس، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق. وأجازه جابر بن زيد، وسعيد بن جبير، وعليّ بن حسين، والشافعيّ، وابن المنذر، وأصحاب الرأي، قال عليّ بن حسين: إذا لم يكن لك في ذلك رأي، ورُوي

(1)

"المغني" 6/ 260 - 262.

(2)

"المغني" 6/ 263.

ص: 672

عن محمد بن عبد الله بن أبي مريم؛ أنه قال: بعت تمرًا من التمارين، كُلَّ سبعة آصع بدرهم، ثم وجدت عند رجل منهم تمرًا، يبيعه أربعة آصع بدرهم، فاشتريت منه، فسألت عكرمة عن ذلك؟ فقال: لا بأس، أخذت أنقص مما بعت، ثم سألت سعيد بن المسيِّب عن ذلك؟ وأخبرته بقول عكرمة، فقال: كذب، قال عبد الله بن عباس: ما بعت من شيء، مما يكال بمكيال، فلا تأخذ منه شيئًا، مما يكال بمكيال إلا ورقًا أو ذهبًا، فإذا أخذت ورقك، فابتع ممن شئت، منه أو من غيره، فرجعت، فإذا عكرمة قد طلبني، فقال: الذي قلت لك هو حلال، هو حرام، فقلت لسعيد بن المسيِّب: إن فضل لي عنده فضل؟ قال: فأعطه أنت الكسر، وخذ منه الدرهم. ووجه ذلك أنه ذريعة إلى بيع الطعام بالطعام نسيئة، فَحَرُمَ كمسألة العينة، فعلى هذا كلُّ شيئين، حَرُم النَّساء فيهما، لا يجوز أن يأخذ أحدهما عوضًا عن الآخر قبل قبض ثمنه، إذا كان البيع نَساء، نص أحمد على ما يدل على هذا، وكذلك قال سعيد بن المسيب، فيما حكينا عنه.

قال ابن قُدامة: والذي يَقْوَى عندي جواز ذلك، إذا لم يفعله حِيلةً، ولا قصد ذلك في ابتداء العقد، كما قال علي بن الحسين، فيما يَروي عنه عبد الله بن زيد، قال: قدمت على علي بن الحسين، فقلت له: إني أَجُذُّ نخلي، وأبيع ممن حضرني التمر إلى أجل، فيقدمون بالحنطة، وقد حل ذلك الأجل، فيوقفونها بالسوق، فأبتاع منهم، وأُقاصّهم؟ قال: لا بأس بذلك، إذا لم يكن منك على رأي، وذلك لأنه اشترى الطعام بالدراهم، التي في الذمة بعد انبرام العقد أوّلَ لزومه فصح، كما لو كان المبيع الأول حيوانًا، أو ثيابًا، ولِمَا ذكرنا في الفصل الذي قبل هذا، فإنه لم يأخذ بالثمن طعامًا، ولكن اشترى من المشتري طعامًا بدراهم، وسلّمها إليه، ثم أخذها منه وفاء، أو لم يسلّمها إليه، لكن قاصّه بها، كما في حديث علي بن الحسين، ذكره ابن قُدامة رحمه الله أيضًا.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي صححه ابن قُدامة من جواز أخذ الطعام بالثمن الذي في ذمّته هو الذي يظهر ليّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 673

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4075]

(

) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ، فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَدَا؟ "، فَقَالَ: لَا، وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا لَنَأخُدُ الصَّاعَ مِنْ هَدَا بِالصَّاعَيْنِ وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَلَا تَفْعَلْ، بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم ذُكروا قبله، سوى الأؤَلَين، فتقدّما قبل ثلاثة أبواب.

وقوله: (اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ) تقدّم أنه سواد بن غزيّة الأنصاريّ رضي الله عنه.

وقوله: (بِتَمْرٍ جَنِيبٍ) بوزن حبيب: نوع من أعلى أنواع التمر، وقيل: هو ما أُخرج منه حَشَفه، ورديئه، يعني المنتقى، وقيل: هو الذي لا يُخلط بغيره، بخلاف الجمع.

وقوله: ("أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَدَا؟ ") فيه أن الاستخبار عن أحوال البلاد، وعما يوجد فيها من الأطعمة، والثمار، ونحو ذلك ليس من فضول الكلام، ولا اللغو منه.

وقوله: (وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثَةِ) كذا في رواية مسلم، وفي رواية البخاريّ:"بالثلاث"، وكلاهما صحيح؛ لأن الصاع يذكّر ويؤنّث، قال الفيُّوميّ: رحمه الله: والصَّاعُ: يُذكَّر ويؤنَّث، قال الفراء: أهل الحجاز يؤنثون الصاع، ويجمعونها في القِلّة على أَصْوُعٍ، وفي الكثرة على صِيَعَانٍ، وبنو أسد، وأهل نجد يذكِّرون، ويجمعون على أَصْوَاعٍ، وربما أنّثها بعض بني أسد، وقال الزجاج: التذكير أفصح عند العلماء، ونقل الْمُطَرِّزيّ، عن الفارسيّ أنه يُجمع أيضًا على آصُعٍ بالقلب، كما قيل: دار وآدر بالقلب، وهذا الذي نقله جعله أبو حاتم من خطأ العوامّ، وقال ابن الأنباريّ: وليس عندي بخطأ في القياس؛ لأنه وإن كان غير مسموع من العرب، لكنه قياسُ ما نُقِل عنهم، وهو أنهم ينقلون الهمزة من

ص: 674

موضع العين إلى موضع الفاء، فيقولون: أَبْآرٌ وآبَارٌ. انتهى

(1)

.

وقوله: (بِعْ الْجَمْعَ) هو المخلوط الذي يجمع الجيّد والرديء.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله، في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4076]

(1594) - (حَدَّثنا إِسحاق بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ الْوُحَاظيُّ

(2)

، حَدَّثَنَا مُعَاوِيةُ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ التَّمِيمِيُّ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِىُّ -وَاللَّفْظُ لَهُمَا- جَمِيعًا، عَنْ يَحْيَى بْنِ حَسَّانَ، حَدَّثنَا مُعَاوِيَةُ -وَهُوَ ابْنُ سَلَّامٍ- أَخْبَرَنِي يَحْيَى -وَهُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ- قَالَ: سَمِعْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَبْدِ الْغَافِرِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أبَا سَعِيدٍ يَقُولُ: جَاءَ بِلَالٌ بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ "، فَقَالَ بِلَالٌ: تَمْرٌ كَانَ عِنْدَنَا رَدِيءٌ، فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِمَطْعَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ:"أَوَّهْ، عَيْنُ الرِّبَا، لَا تَفْعَلْ، وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ ثَشْتَرِيَ التَّمْرَ، فَبِعْهُ بِبَيْعٍ آخَرَ، ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ"، لَمْ يَذْكُرِ ابْنُ سَهْلٍ في حَدِيثهِ عِنْدَ ذَلِكَ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(مُحمَّدُ بْنُ سَهْلٍ التَّمِيمِيُّ) مولاهم، أبو بكر البخاريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [11](ت 251)(م ت س) تقدم في "الصيام" 8/ 2535.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِىُّ) أبو محمد السمرقنديّ الحافظ، صاحب "المسند"، ثقةٌ فاضلٌ متقنٌ [11](255) وله (74) سنةً (م د ت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 351 - 352.

(2)

بضمّ الواو، بعدها حاء مهملة، وآخره ظاء معجمة: نسبة إلى وُحاظة بن سعد بن عديّ بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جُشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطر بن عريب، قاله في "اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 426.

ص: 675

3 -

(يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ) البصريّ، نزيل تنّيس، ثقةٌ [9](ت 208)(خ م د ت س) تقدم في "الحيض" 7/ 723.

4 -

(عُقْبَةُ بْنُ عَبْدِ الْغَافِرِ) الأزديّ الْعَوْذيّ، أبو نهّار البصريّ، ثقةٌ [4].

رَوَى عن أبي سعيد، وعبد الله بن مغفل، وأبي أمامة، وأبي عُبيدة بن عبد الله بن مسعود.

وروى عنه يحيى بن أبي كثير، وقتادة، ويحيى بن أبي إسحاق الحضرميّ، وسليمان التيميّ، وابن عون، وغيرهم.

قال العجليّ، والنسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ذكر ابن أبي حاتم في "المراسيل" أنه أرسل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم شيئًا، قال البزار: كان من أجلّة أهل البصرة، وحَكَى ابن سعد عن ثابت البنانيّ قال: ما كان أحد من الناس أحبّ إليّ أن ألقى الله في مِسْلاخه من عقبة بن عبد الغافر، فلما وقعت الفتنة أتيناه، فقال: ما أعرفكم.

وقال خليفة: قُتِل يوم الزاوية سنة (82)، وقال أحمد بن يحيى بن سعيد: قُتِل في الجماجم سنة (83).

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط هذا الحديث برقم (1594)، و (2757): "أن رجلًا فيمن كان قبلكم راشَهُ الله مالًا وولدًا

".

والباقون تقدّموا قبل باب، و"معاوية" هو ابن سلّام المذكور بعد التحويل.

شرح الحديث:

عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه أنه قال: (جَاءَ بِلَالٌ) هو ابن رَباح مؤذّن النبيّ صلى الله عليه وسلم المتوفّى سنة (17 أو 18 أو 20) تقدّمت ترجمته في "الطهارة" 23/ 643. (بِتَمْرٍ بَرْنِىٍّ) -بفتح الموحّدة، وسكون الراء، بعدها نون، ثم تحتانية مشدّدة-: ضرب من التمر معروف، قيل له ذلك؛ لأن كل تمرة تشبه الْبَرْنِيّة

(1)

، وقد وقع عند أحمد مرفوعًا:"خيرُ تمراتكم البرنيّ، يُذهب الداء، ولا داء فيه".

(1)

"الْبَرْنِيّةُ": إناءٌ من خَزَف، والدِّيكُ الصغير أولَ ما يُدرك. قاله في "القاموس".

ص: 676

(فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مِنْ أَينَ هَذَا؟ ") وفي رواية النسائيّ: "ما هذا؟ "(فَقَالَ بِلَالٌ) رضي الله عنه: (تَمْرٌ) خبر لمحذوف؛ أي: هذا تمر (كَانَ عِنْدَنَا رَدِيءٌ) بالهمزة، بوزن عظيم، يقال: رَدُؤ الشيءُ بالهمز رَدَاءةً، فهو رديء، على فَعِيل؛ أي: وَضِيعٌ خَسِيسٌ، ورَدَا يَرْدُو، من باب علا لغةٌ، فهو رَدِيٌّ بالتثقيل، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

. (فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِمَطْعَم النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) ولفظ البخاريّ: "لنُطعم النبيّ صلى الله عليه وسلم"(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: "أَوَّهْ، عَيْنُ الرِّبَا) ولفظ البخاريّ: "أَوّهْ أوّه، عين الربا" مكرّرًا، ومعنى "عين الربا" أن هذا العقد هو نفس الربا الذي حرّمه الله عز وجل، لا نظيره.

وقال النوويّ رحمه الله: قال أهل اللغة: "أوّه" كلمة توجُّع وتحزُّن، ومعنى "عين الربا" أنه حقيقة الربا المحرَّم، وفي هذه الكلمة لغات: الفصيحة المشهورة في الروايات: "أَوَّهْ" بهمزة مفتوحة، وواو مفتوحة مشدّدة، وهاء ساكنة، ويقال: بنصب الهاء منونة، ويقال:"أَوْهٍ"، بإسكان الواو، وكسر الهاء منونةً، وغير منونة، ويقال:"أَوٍّ" بتشديد الواو مكسورة منوّنة، بلا هاء، ويقال:"آهٍ" بمدّ الهمزة، وتنوين الهاء، ساكنةً من غير واو. انتهى.

وقال ابن الأثير رحمه الله: "أوْهْ" كلمة يقولها الرجل عند الشّكاية والتّوجع، وهي ساكنة الواو، مكسورة الهاء، وربما قلبوا الواو ألفًا، فقالوا: آهِ من كذا، وربما شدّدوا الواو، وكسروها، وسكَّنوا الهاء، فقالوا: أوِّهْ، وربما حذفوا الهاء، فقالوا: أوّ، وبعضهم بفتح الواو مع التشديد، فيقول: أوّه. انتهى

(2)

.

وقال ابن التين: إنما تَأوَّه النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ ليكون أبلغ في الزجر، وقاله إمّا للتألُّم من هذا الفعل، وإمّا من سوء الفهم، قاله في "الفتح"

(3)

.

(لَا تَفْعَلْ) أي: لا تبع هذا البيع الربويّ، ولفظ النسائيّ:"لا تقربه" بفتح الراء، من باب عَلِمَ؛ أي: إنّ قُرْبَه يضرّ فضلًا عن مباشرته، وليس في هذه الرواية أنه صلى الله عليه وسلم أمره بردّه، ولكن الرواية التالية بيّنت ذلك، ولفظها:"هذا الربا، فَرُدّه".

(1)

"المصباح المنير" 1/ 225.

(2)

"النهاية في غريب الأثر" 1/ 195.

(3)

"الفتح" 6/ 104.

ص: 677

قال ابن عبد البر رحمه الله: إن القصة وقعت مرتين: مرةً لم يقع فيه الأمر بالردّ، وكان ذلك قبل العلم بتحريم الربا، ومرّةً وقع فيها الأمر بالردّ، وذلك بعد تحريم الربا، والعلمِ به.

قال في "الفتح": ويدلّ على التعدد أن الذي تولى ذلك في إحدى القصتين سَوَاد بن غَزِيّة، عامل خيبر، وفي الأخرى بلال.

وعند الطبري من طريق سعيد بن المسيِّب عن بلال قال: "كان عندي تمر دُونٌ، فابتعت منه تمرًا أجود منه

" الحديث، وفيه: فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم: "هذا الربا بعينه، انطلق فرُدّه على صاحبه، وخذ تمرك، وبعه بحنطة، أو شعير، ثم اشتر به من هذا التمر، ثم جئني به". انتهى

(1)

.

(وَلَكِنْ إِذَا أرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ التَّمْرَ) أي: الجيّد (فَبعْهُ) أي: التمر الرديء (بِبَيْعٍ آخَرَ) أي: بثمن آخر غير جنسه (ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ") أَي: اشتر التمر الجيّد بالثمن الذي بعت الرديء به.

وفي رواية البخاريّ: "فبع التمر ببيع آخر، ثم اشتر به"، قال في "الفتح": في رواية مسلم: "ولكن إذا أردت أن تشتري التمر، فبعه ببيع آخر، ثم اشتره"، قال: وبينهما مغايرة؛ لأن "التمر" في رواية البخاريّ المراد به التمر الرديء، والضمير في "به" يعود إلى التمر؛ أي: بالتمر الرديء -أي: بثمنه-، والمفعول محذوف؛ أي: اشتر به تمرًا جيِّدًا، وأما رواية مسلم: فالمراد بالتمر: الجيّدُ، والضمير في قوله:"ثم اشتره" للجيّد. انتهى.

وفي الحديث: البحث عما يستريب به الشخص، حتى ينكشف حاله، وفيه النصّ على تحريم ربا الفضل، واهتمام الإمام بأمر الدين، وتعليمه لمن لا يعلمه، وإرشاده إلى التوصل إلى المباحات وغيرها، واهتمام التابع بأمر متبوعه، وانتقاء الجيِّد له من أنواع المطعومات وغيرها، وفيه أن صفقة الربا لا تصح، ذكره في "الفتح"

(2)

.

وقوله: (لَمْ يَذْكُرِ ابْنُ سَهْلٍ فِي حَدِيثِهِ عِنْدَ ذَلِكَ) أشار به إلى اختلاف وقع بين شيخيه: إسحاق بن منصور، ومحمد بن سهل، فالأول قال: "فقال

(1)

"الفتح" 6/ 103.

(2)

"الفتح" 6/ 104.

ص: 678

رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: أوه"، وقال الثاني: "فقال رسول الله": أوّه"، فأسقط لفظ:"عند ذلك"، وهذا من تدقيقات المصنّف رحمه الله التي امتاز بها على غيره، حيث يراعي اختلاف ألفاظ الشيوخ، وإن لم يكن هناك اختلاف في المعنى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [39/ 4076 و 4077](1594)، و (البخاريّ) في "الوكالة"(2312)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 273) و"الكبرى"(4/ 25)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 49 و 50 و 51 و 62)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 393)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5022)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 68)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 291)، وفوائد الحديث تقدّمت، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4077]

(

) - (وَحَدَّثنَا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثنَا مَعْقِلٌ، عَنْ أَبِي قَزَعَةَ الْبَاهِلِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِتَمْرٍ، فَقَالَ:"مَا هَذَا التَّمْرُ مِنْ تَمْرِنَا"، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللهِ، بِعْنَا تَمْرَنَا صَاعَيْنِ بِصَاعٍ مِنْ هَذَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"هَذَا الرِّبَا، فَرُدُّوهُ، ثُمَّ بِيعُوا تَمْرَنَا، وَاشْتَرُوا لنَا مِنْ هَذَا".

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ) الْمِسْمَعِيّ النيسابوريّ، نزيل مكة، ثقةٌ، من كبار [11] مات سنة بضع و (240)(م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 60.

2 -

(الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ) هو: الحسن بن محمد بن أعين، نُسب لجدّه، أبو عليّ الحرّانيّ، صدوقٌ [9](ت 210)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

3 -

(مَعْقِلُ) بن عبيد الله الْعَبسيّ مولاهم، أبو عبد الله الْجَزَريّ، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 166)(م د س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

ص: 679

4 -

(أَبُو قَزَعَةَ الْبَاهِلِيُّ) سُويد بن حُجَير البصريّ، ثقةٌ [4](م 4) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

5 -

(أَبُو نَضْرَةَ) المنذر بن مالك بن قُطَعة الْعَبْديّ الْعَوَقيّ البصريّ، ثقةٌ [3](ت 8 أو 109)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

و"أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه" ذُكر قبله.

وقوله: (أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِتَمْرٍ) الآتي هو بلال رضي الله عنه، كما بُيّن في الرواية السابقة.

وقوله: (بِتَمْرٍ) أي: بتمر بَرْنيّ، وهو من أجود التمور.

وقوله: ("هَذَا الرِّبَا) هو بمعنى قوله الماضي: "أوّه عين الربا"؛ أي: هو الربا نفسه، لا ما يُشبهه.

وقوله: (فَرُدُّوهُ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ على وجوب فسخ صفقة الربا، وأنها لا تصح بوجه، وهو حجَّة للجمهور على أبي حنيفة حيث يقول: إن بيع الربا جائز بأصله، من حيث إنه بيع ممنوع بوصفه من حيث هو ربا، فيسقط الرِّبا، ويصحّ البيع، ولو كان على ما ذَكر لَمَا فسخ النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الصفقة، ولأَمَره بردّ الزيادة على الصَّاع، ولصحَّح الصفقة في مقابلة الصَّاع. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: هذا دليل على أن المقبوض ببيع فاسد يجب ردّه على بائعه، وإذا ردّه استردّ الثمن، فإن قيل: فلم يذكر في الحديث السابق أنه صلى الله عليه وسلم أمرَ بردّه، فالجواب: أن الظاهر أنها قضيّة واحدة، وأمر فيها بردّه، فبعض الرواة حَفِظ ذلك، وبعضهم لم يحفظه، فقبلنا زيادة الثقة، ولو ثبت أنهما قضيتان لَحُمِلت الأولى على أنه أيضًا أمر به، وإن لم يبلغنا ذلك، ولو ثبت أنه لم يأمر به مع أنهما قضيتان لَحَملناها على أنه جُهِل بائعه، ولا يمكن معرفته، فصار مالًا ضائعًا لمن عليه دَين بقيمته، وهو التمر الذي قبضه عوضًا، فحصل أنه لا إشكال في الحديث، ولله الحمد. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(2)

.

وقوله: (ثُمَّ بِيعُوا تَمْرَنَا، وَاشْتَرُوا لَنَا مِنْ هَذَا") قال القرطبي رحمه الله: قد

(1)

"المفهم" 4/ 482.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 22 - 23.

ص: 680

يَحْتَجّ بإطلاقه من لم يقل بسدِّ الذرائع، وهو الشافعيّ، وأبو حنيفة، وكافتهم، فأجازوا شراء الْبَرْنيّ مثلًا ممن باع منه الجمع، ومنعه مالك رحمه الله على أصله في سدِّ الذرائع، فإن هذه الصورة تؤدي إلى بيع التمر بالتمر متفاضلًا، ويكون الثمن لغوًا، ولا حجَّة لهم في هذا الحديث؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم لم يَنُصّ على جواز شراء التمر الثاني ممن باع منه التمر الأول، ولا تناولَه ظاهر اللفظ بعموم، بل بإطلاقه، والمطلق يَحْتَمِل التقييد احتمالًا يوجب الاستفسار، فكأنه إلى الإجمال أقرب، وبهذا فرق بين العموم والإطلاق، فإن العموم ظاهر في الاستغراق، والمطلق صالح له، لا ظاهر فيه، وإذا كان كذلك فيتقيد بأدنى دليل، وقد دلَّ على تقييده الدليلُ الذي دلَّ على سدِّ الذرائع، كما بيّنَّاه في الأصول، وقد نصَّ ابن عبَّاس رضي الله عنهما على مَنْع مثل هذا، حيث مَنَع فقال: ألا تراهم يتبايعون بالذهب والطعام مُرْجأ؟

وفي هذا الحديث من الفقه: جواز اختيار طيبات الأطعمة دون أدانيها، وجواز الوكالة، وفيه ما يدلُّ على أن البيوع الفاسدة كلَّها تفسخ، وتُرَدُّ إذا لم تَفُتْ. انتهى

(1)

.

والحديث تقدّم تمام البحث فيه في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4078]

(1595) - (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ شَيْبَانَ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أبِي سَعِيدٍ، قَالَ: كُنَّا نُرْزَقُ تَمْرَ الْجَمْعِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ الْخِلْطُ مِنَ التَّمْرِ، فَكُنَّا نَبِيعُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "لَا صَاعَي تَمْرٍ بِصَاعٍ، وَلَا صَاعَىْ حِنْطَةٍ

(2)

بِصَاعٍ، وَلَا دِرْهَمَ بِدِرْهَمَيْنِ").

(1)

"المفهم" 4/ 482 - 483.

(2)

وفي نسخة: "لا صاعين تمرًا، ولا صاعين حنطةً".

ص: 681

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى) بن أبي المختار باذام الْعَبْسيّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ كان يتشيّع [9](ت 213) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

2 -

(شَيْبَانُ) بن عبد الرحمن التميميّ مولاهم النحويّ، أبو معاوية البصريّ، ثم الكوفيّ، ثقةٌ صاحب كتاب [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

3 -

(أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، ثقةٌ مكثرٌ فقيهٌ [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.

والباقون ذُكروا في الباب، و"إسحاق بن منصور" هو: الْكَوْسج، و"يحيى" هو ابن أبي كثير، و"أبو سعيد" هو: الخدريّ رضي الله عنه.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) الخدريّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: كُنَّا نُرْزَقُ) بضمّ أوله، مبنيًّا للمفعول؛ أي: نُعْطَى، وكان هذا العطاء مما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقسمه فيهم مما أفاء الله تعالى عليهم من خيبر، قاله في "الفتح"

(1)

. (تَمْرَ الْجَمْعِ) بفتح، فسكون (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: في زمنه، ثم فسّر الْجَمْع بقوله:(وَهُوَ الْخِلْطُ) بكسر الخاء المعجمة، وسكون اللام، آخره طاء مهملة: هو المختلط من أنواع شتى، وإنما خُلط لرداءته، وجمعه: أخلاطٌ

(2)

، وقوله:(مِنَ التَّمْرِ) بيان للخِلْط (فَكُنَّا نَبِيعُ صَاعَيْنِ) أي: من الجمع (بِصَاعٍ) أي: من النوع الجيّد، كالْجَنيب، والْبَرْنيّ (فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: (لَا صاعَي تَمْرٍ بِصَاعٍ) بنصب "صاعَى"؛ لأن "لا" هي النافية للجنس، تعمل عمل "إنّ"، فتنصب اسمها إذا كان مضافًا، كهذا، أو شبيهًا بالمضاف، كقولك: لا طالبًا للعلم ممقوت، وإلى هذا أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:

عَمَلَ "إِنَّ" اجْعَلْ لِـ "لا" فِي النَّكِرَهْ

مُفْرَدَةً جَاءَتْكَ أَوْ مُكَرَّرَهْ

(1)

"الفتح" 4/ 311.

(2)

راجع: "القاموس المحيط" ص 387.

ص: 682

فَانْصِبْ بِهَا مُضَافًا أوْ مُضَارِعَهْ

وَبَعْدَ ذَاكَ الْخَبَرَ اذْكُرْ رَافِعَهْ

و"صاعي" أصله "صاعين"، حُذفت نون؛ لإضافته إلى "تمر"، كما قال في "الخلاصة":

نُونًا تَلِي الإِعْرَابَ أَوْ تَنْوِينَا

مِمَّا تُضِيفُ احْذِفْ كَـ "طُورِ سِينَا"

والمعنى: لا يحلّ لكم أن تبيعوا صاعين من تمر بصاع منه، وإن اختلفا في الْجَودة.

ووقع في بعض النسخ: "لا صاعين تمرًا، ولا صاعين حنطةً"، وعليه و"تمرًا"، و"حنطةً" منصوبان على التمييز.

(وَلَا صَاعَي حِنْطَةٍ بِصَاعٍ) أي: لا تبيعوا صاعي حنطة، بصاع منها، وقوله:(وَلَا دِرْهَمَ) بالبناء على الفتح من غير تنوين؛ لأنه اسم "لا" غير مضاف، ولا شبيهٌ به، كما أسلفت بحثه آنفًا (بِدِرْهَمَيْنِ") أي: ولا تبيعوا درهمًا واحدًا بدرهمين، فإنه من الربا الذي توعّد الله عز وجل آكله بقوله:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} الآية [البقرة: 275]، ولعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يأتي للمصنّف من حديث جابر رضي الله عنه:"لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [39/ 4078](1595)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2080)، و (النسائيّ) في "البيوع"(272) و"الكبرى"(4/ 25)، و (ابن ماجه) في "التجارات"(2256)، و (الطّيالسيّ) في "مسنده"(1/ 291)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 49 و 50) و"الكبرى"(4/ 25)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 390 و 391)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5024)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 68)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 291)، والله تعالى أعلم.

ص: 683

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4079]

(1594)

(1)

- (حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أبِي نَضْرَةَ، قَالَ: سَألْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الصَّرْفِ، فَقَالَ: أَيَدًا بِيَدٍ؟ قُلْتُ: نَعَم، قَالَ: فَلَا بأسَ بِهِ، فَأَخْبَرْتُ أبَا سَعِيدٍ، فَقُلْتُ: إنِّي سَألْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الصَّرْفِ، فَقَالَ: أَيَدًا بِيَدٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَلَا بَأْسَ بِهِ، قَالَ: أوَ قَالَ ذَلِكَ؟ إنَّا سَنَكْتُبُ إلَيْهِ، فَلَا يُفْتِيكُمُوهُ، قَالَ: فَوَاللهِ لَقَدْ جَاءَ بَعْضُ فِتْيَانِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِتَمْرٍ، فَأَنكَرَهُ، فَقَالَ: "كَأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ تَمْرِ أرْضِنَا؟ "، قَالَ: كَانَ فِي تَمْرِ أَرْضِنَا -أَوْ فِي تَمْرِنَا- الْعَامَ بَعْضُ الشَّىْءِ، فَأَخَذْتُ هَذَا، وَزِدْتُ بَعْضَ الزِّيَادَةِ، فَقَالَ: "أَضْعَفْتَ، أَرْبَيْتَ، لَا تَقْرَبَنَّ هَذَا، إِذَا رَابَكَ مِنْ تَمْرِكَ شَيْء، فَبِعْهُ، ثُمَّ اشْتَرِ الَّذِي تُرِيدُ مِنَ التَّمْرِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرّقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) المعروف بابن عليّة الأسديّ مولاهم، أبو بشر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 193) وهو ابن (83) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

3 -

(سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ) هو: ابن إياس، أبو مسعود البصريّ، ثقةٌ اختلط قبل موته بثلاث سنين [5](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 266.

والباقيان ذُكرا قبله.

شرح الحديث:

(عَنْ أبِي نَضْرَةَ) المنذر بن مالك بن قُطَعة العبديّ؛ أنه (قَالَ: سَألتُ ابْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (عَنِ الصَّرْفِ) أراد بالصرف هنا بيع الذهب بالذهب متفاضلًا (فَقَالَ: أيَدًا بِيَدٍ؟) أي: أتبيعه مقابضةً بلا تأخير البدلين، أو أحدهما؟ (قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَلَا بَأسَ بِهِ) وفي الرواية التالية: "سألت ابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهما

(1)

هذا رقم مكرّر، فليُتنبّه.

ص: 684

عن الصرف، فلم يريا به بأسًا"، قال النوويّ رحمه الله: معنى ذلك أن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما كانا يعتقدان أنه لا ربا فيما كان يدًا بيد، وأنه يجوز بيع درهم بدرهمين، ودينار بدينارين، وصاع تمر بصاعين من التمر، وكذا الحنطة، وسائر الربويات كانا يريان جواز بيع الجنس بعضه ببعض متفاضلًا، وأن الربا لا يحرم في شيء من الأشياء، إلا إذا كان نسيئة، وهذا معنى قوله: أنه سألهما عن الصرف، فلم يريا به بأسًا، يعني الصرف متفاضلًا، كدرهم بدرهمين، وكان معتمدهما حديث أسامة بن زيد: "إنما الربا في النسيئة"، ثم رجع ابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك، وقالا بتحريم بيع الجنس بعضه ببعض متفاضلًا حين بلغهما حديث أبي سعيد رضي الله عنه، كما ذكره مسلم من رجوعهما صريحًا، وهذه الأحاديث التي ذكرها مسلم تدلّ على أن ابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهما لم يكن بلغهما حديث النهي عن التفاضل في غير النسيئة، فلما بلغهما رجعا إليه. انتهى

(1)

.

(فَأَخْبَرْتُ أبَا سَعِيدٍ) الخدريّ رضي الله عنه (فَقُلْتُ: إِنِّي سَألتُ ابْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (عَنِ الصَّرْفِ) أي: بيع الذهب بالذهب متفاضلًا (فَقَالَ: أيَدًا بِيَدٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَلَا بَأسَ بِهِ، قَالَ) أبو سعيد رضي الله عنه (أَوَ قَالَ ذَلِكَ؟) يعني ابن عبَّاس (إِنَّا سَنَكْتُبُ إِلَيْهِ، فَلَا يُفْتِيكُمُوهُ) أي: بهذه الفتوى (قَالَ) أبو سعيد: (فَوَاللهِ لَقَدْ جَاءَ بَعْضُ فِتْيَانِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِتَمْرٍ) تقدّم أنه بلال رضي الله عنه (فَأنْكَرَهُ) أي: أنكر صلى الله عليه وسلم ذلك التمر؛ لكونه ليس من تمرهم (فَقَالَ: "كَأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ تَمْرِ أَرْضِنَا؟ "، قَالَ) ذلك الفتى (كَانَ فِي تَمْرِ أَرْضِنَا -أَوْ) للشكّ من الراوي (فِي تَمْرِنَا- الْعَامَ) منصوب على الظرفيّة متعلّق بـ "كان" أي: وجد في هذا العام في تمرنا (بَعْضُ الشَّىْءِ) أي: من الرداءة (فَأَخَذْتُ هَذَا) التمر الجيّد (وَزِدْتُ بَعْضَ الزِّيَادَةِ) أي: زدت في كيل التمر الرديء؛ ليكون مقابلًا لجودته (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَضْعَفْتَ) أي: اشتريت بالضعف (أَرْبَيْتَ) أي: عاملت بالربا (لَا تَقْرَبَنَّ) بفتح الراء، وتُضمّ، يقال: قَرِبتُ الأمرَ أقرَبه، من باب تَعِب، وفي لغة من باب نصر قِربانًا بالكسر: إذا فعلته، أو دانيته، ومن الأول:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32]، ومن الثاني:"لا تقرَبِ الْحِمَى"

(2)

، وقوله:(هَذَا) مفعول "تقربنّ" (إِذَا رَابَكَ مِنْ

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 23 - 25.

(2)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 496.

ص: 685

تَمْرِكَ شَيْءٌ) أي: أوقعك في الشكّ، قال ابن الأثير رحمه الله: الريبُ: الشكّ، وقيل: هو الشكّ مع التُّهْمة، يقال: رابني الشيءُ، وأرابني: بمعنى شكَّكني، وقيل: أرابني في كذا؛ أي: شكّكني، وأوهَمنى الريبةَ فيه، فإذا استيقنته قلتَ: رابني بغير ألف. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الرَّيبُ": الظنّ والشكّ، ورَابَنِي الشيءُ يَرِيبُنِي: إذا جعلك شاكًّا، قال أبو زيد: رَابَنِي من فلان أمرٌ يَرِيبُنِي ريبًا: إذا استيقنتَ منه الرَّيبَةَ، فإذا أسأت به الظنّ، ولم تستيقن منه الرِّيبَةَ قلتَ: أَرَابَني منه أمرٌ هو فيه إِرَابَةً، وأَرَابَ فلان إِرَابَةً، فهو مُرِيبٌ: إذا بلغك عنه شيءٌ، أو توهمته، وفي لغة هذيل: أَرَابَنِي بالألف، فَرِبْتُ أنا، وارْتَبْتُ: إذا شككتَ، فأنا مُرْتَابٌ، وزيد مُرْتَابٌ منه، والصلة فارقة بين الفاعل والمفعول، والاسم: الرِّيبَةُ، وجمعها: رِيَبُ، مثل سِدْرَةٍ وسِدَرٍ. انتهى

(2)

.

(فَبِعْهُ) أي: بع التمر الذي رابك منه شيء (ثُمَّ اشْتَرِ الَّذِي تُرِيدُ مِنَ التَّمْرِ") أي: اشتر بثمن التمر الذي بعته التمر الذي تريد شراءه، وهو الجيّد، فقوله:"الذي" مفعول "اشتر"، و"من التمر" بيان للموصول، والمراد: التمر الجيّد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [39/ 4079 و 4080](1594)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 10 و 60)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 3389 و 395)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 518)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 68 و 106 و 119)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 281 و 286) و"الصغرى"(5/ 37) و"المعرفة"(4/ 305)، والله تعالى أعلم.

(1)

"النهاية" 2/ 286.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 247.

ص: 686

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4080]

(

) - (حَدَّثنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، أَخْبَرَنَا دَاوُدُ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ، وَابْنَ عَبَّاسٍ، عَنِ الصَّرْفِ، فَلَمْ يَرَيَا بِهِ بَأسًا، فَإنِّي لَقَاعِدٌ عِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، فَسَألْتُهُ عَنِ الصَّرْفِ، فَقَالَ: مَا زَادَ فَهُوَ رِبًا، فَأنْكَرْتُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِمَا، فَقَالَ: لَا أُحَدِّثُكَ إِلَّا مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، جَاءَهُ صَاحِبُ نَخْلِهِ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ طَيِّبٍ، وَكَانَ تَمْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَذَا اللَّوْنَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ: "أنَّى لَكَ هَذَا؟ "، قَالَ: انْطَلَقْتُ بِصَاعَيْنِ، فَاشْتَرَيْتُ بِهِ هَذَا الصَّاعَ، فَإنَّ سِعْرَ هَذَا فِي السُّوقِ كَذَا، وَسِعْرَ هَذَا كَذَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَيْلَكَ أَرْبَيْتَ إِذَا أَرَدْتَ ذَلِكَ، فَبِعْ تَمْرَكَ بِسِلْعَةٍ، ثُمَّ اشْتَرِ بسِلْعَتِكَ، أَيَّ تَمْرٍ شِئْتَ"، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ أَحَقُّ أَنْ يَكُونَ رِبًا، أَمِ الْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ؟ قَالَ: فَأَتَيْتُ ابْنَ عُمَرَ بَعْدُ، فَنَهَانِي، وَلَمْ آتِ ابْنَ عَبَّاسٍ -قَالَ- فَحَدَّثَنِي أَبُو الصَّهْبَاءِ؛ أنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْهُ بِمَكَّةَ، فكَرِهَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل بابين.

2 -

(عَبْدُ الأَعْلَى) بن عبد الأعلى، تقدّم قريبًا.

3 -

(دَاوُدُ) بن أبي هند دينار القشيريّ مولاهم، أبو بكر، أو أبو محمد البصريّ، ثقةٌ متقنٌ [5](ت 140) أو قبلها (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.

و"أبو نضرة"، و"أبو سعيد الخدريّ" ذُكرا قبله.

وقوله: (سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ، وَابْنَ عَبَّاسٍ، عَنِ الصَّرْفِ، فَلَمْ يَرَيَا بِهِ بَأسًا) قال القرطبيّ رحمه الله: يعني به صرف الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة، سألهما عن التفاضل بينهما، فأفتياه بالجواز أخذًا منهما بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:"إنما الربا في النسيئة"، فإن هذا اللفظ ظاهره الحصر، فكأنه قال: لا ربا إلا في النسيئة، وهكذا وقع هذا اللفظ في البخاريّ، وهو مقتضى قوله هنا:"لا ربا فيما كان يدًا بيد"، فينتفي ربا الفضل، وقد قدَّمنا أن هذا الخلاف شاذٌّ، متقدَّم، مرجوع

ص: 687

عنه، كما قد نَصّ عليه هنا من رجوع ابن عمر، وابن عبَّاس عنه. انتهى

(1)

.

وقوله: (فَأَنْكَرْتُ ذَلِكَ لِقَوْلهِمَا) أي: أنكرت قول أبي سعيد: فهو ربا؛ لأجل فتوى ابن عمر، وابن عبّاس رضي الله عنهم بجوازه، وإنما أنكره ظنّا منه أن أبا سعيد قاله برأيه، مثل ما قالا، فبيّن له أبو سعيد رضي الله عنه بأنه إنما قال له مستدلًّا بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا بما استنبطه بفهمه كما فعلا.

وقوله: (صَاحِبُ نَخْلِهِ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ طَيِّبٍ) صاحب النخل تقدّم أنه بلالٌ رضي الله عنه، ومعنى كونه صاحب نخله: قيامه بخدمة نخله، وإحضار ما يصلح للأكل منها إليه.

وقوله: (وَكَانَ تَمْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَذَا اللَّوْنَ) قال القرطبيّ رحمه الله: يشير به إلى أنه نوع رديء من التمر، وهو الذي سُمّي في الحديث المتقدّم بالجمع. انتهى

(2)

.

وقوله: (أنَّى لَكَ هَذَا؟) أي: من أين لك هذا التمر الجيّد؟

وقوله: (وَيْلَكَ أَرْبَيْتَ) أي: عاملت بالربا.

وقوله: (فَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ أَحَقُّ أَنْ يَكُونَ رِبًا، أَمِ الْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ؟) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا استدلال نظريّ ألحق فيه الفرع بالأصل بطريق الأولى والأحق، وهي أقوى طرق القياس، ولذلك وافق على القول به أكثر منكري القياس، وقد بيَّنَّاه في الأصول، وكأنّ أبا سعيد رضي الله عنه إنما عَدَل إلى هذه الطريقة؛ لأنه لم يحضره شيء من نصوص حديث عبادة، وفضالة المتقدِّمة، وهي أحقّ وأولى بالاستدلال بها على ذلك. انتهى

(3)

.

وقوله: (فَأتَيْتُ ابْنَ عُمَرَ بَعْدُ) بالبناء على الضمّ؛ أي: بعدما سمعت من أبي سعيد رضي الله عنه تحريم ربا الفضل.

وقوله: (فَنَهَانِي) هذا تصريح بأن ابن عمر رضي الله عنهما رجع عن قوله في الصرف، وكونه لا يرى بأسًا في التفاضل فيه.

وقوله: (فَحَدَّثَنِي أَبُو الصَّهْبَاءِ) هو: صُهيب البكريّ البصريّ، ويقال:

(1)

"المفهم" 4/ 484.

(2)

"المفهم" 4/ 485 - 486.

(3)

"المفهم" 4/ 486.

ص: 688

المدنيّ، مولى ابن عبّاس، صدوقٌ

(1)

[4].

رَوَى عن مولاه ابن عباس، وابن مسعود، وعليّ بن أبي طالب.

وروى عنه سعيد بن جبير، ويحيى بن الجزار، وأبو معاوية البجليّ، وأبو نضرة العبديّ، وطاووس.

قال أبو زرعة: ثقةٌ، وقال النسائيّ: أبو الصهباء صهيب بصريّ ضعيف، وذكره ابن حبان في "الثقات".

وله ذكر في "صحيح مسلم" في هذا الباب، وأخرج له أبو داود، والنسائي.

وقوله: (سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْهُ بِمَكَّةَ، فَكَرِهَهُ) هذا ظاهر في أن ابن عبَّاس رضي الله عنهما رجع عن قوله في جواز التفاضل في الصرف، كما رجع ابن عمر رضي الله عنهما.

والحديث قد مضى تمام البحث فيه في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4081]

(1596) - (حَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، جَمِيعًا عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ

(2)

-وَاللَّفْظُ لِابْنِ عَبَّادٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، مَنْ زَادَ، أَوِ ازْدَادَ، فَقَدْ أَرْبَى، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ غَيْرَ هَذَا، فَقَالَ: لَقَدْ لَقِيتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقُلْتُ: أَرَأَيْتَ هَذَا الَّذِي تَقُولُ، أَشَيْءٌ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ وَجَدْتَهُ فِي كِتَابِ اللهِ عز وجل؟ فَقَالَ: لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ أَجِدْهُ فِي كِتَابِ اللهِ، وَلَكِنْ حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بنُ زيدٍ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ").

(1)

هذا هو الأولى، وأما ما قاله في "التقريب": إنه مقبول، فغير مقبول؛ لأنه قد روى عنه جماعة، ووثقه أبو زرعة، والعجليّ، وذكره ابن حبّان، وابن خلفون في "الثقات"، وتفرّد بتضعيفه النسائىّ، فمثله صدوقٌ. انظر:"تهذيب الكمال" مع ما كُتب في هامشه 13/ 241 - 242.

(2)

وفي نسخة: "عن ابن عيينة".

ص: 689

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ) بن الزِّبْرِقان المكيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ يَهِمُ [10](ت 234)(خ م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون، تقدّم قبل باب.

3 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، تقدّم أيضًا قبل باب.

4 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم أيضًا قبل باب.

5 -

(عَمْرُو) بن دينار، تقدّم أيضًا قبل باب.

6 -

(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

و"أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه" ذُكر قبله.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِيِ صَالِحٍ) ذكوان السمّان أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَبا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ) رضي الله عنه (يَقُولُ: الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ) برفع "الدينارُ"؛ أي: يباع الدينار بالدينار، ويَحتمل النصب؛ أي: بيعوا الدينار بالدينار (وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ) منصوب على الحاليّة؛ أي: حال كونهما متماثلين في الوزن (مَنْ زَادَ) أي: على مقدار المبيع الآخر من جنسه (أَوِ ازْدَادَ) أي: طلب الزيادة، وأخذها (فَقَدْ أَرْبَى) قال التوربشتيّ: أي أتى الربا وتعاطاه، ومعنى اللفظ: أخذ أكثر مما أعطى، مِنْ رَبا الشيءُ يربو: إذا زاد، قال الطيبيّ: لعل الوجه أن يقال: أتى الفعل المحرّم؛ لأن من اشترى الفضّة عشرة مثاقيل بمثقال من ذهب، فالمشتري آخذ للزيادة، وليس بربًا. انتهى

(1)

. قال أبو صالح: (فَقُلْتُ لَهُ) أي: لأبي سعيد الخدريّ (إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ غَيْرَ هَذَا) أي: يقول بجواز التفاضل في بيع الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم (فَقَالَ) أبو سعيد:(لَقَدْ لَقِيتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقُلْتُ: أَرَأَيْتَ) أي: أخبرني (هَذَا الَّذِي تَقُولُ) بحذف العائد، وهو جائز، كما قال في "الخلاصة":

.......................

وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 7/ 2126 - 2127.

ص: 690

فِي عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ

بِفِعْلٍ أوْ وَصْفٍ كَـ "مَنْ نَرْجُو يَهَبْ"

أي: تقوله، والذي يقوله: هو أنه لا ربا في الفضل فيما كان يدًا بيد.

(أَشَىْءٌ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ وَجَدْتَهُ فِي كِتَابِ اللهِ؟ فَقَالَ) ابن عبَّاس (لَمْ أسْمَعْهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ أَجِدْهُ فِي كِتَابِ اللهِ) وفي رواية البخاريّ: "قال: كلَّ ذلك لا أقول"، قال في "الفتح": بنصب "كلَّ" على أنه مفعول مقدم، وهو في المعنى نظير قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ذي اليدين:"كلُّ ذلك لم يكن"، فالمنفيّ هو المجموع، وفي رواية مسلم الآتية من طريق عطاء: أن أبا سعيد، لقي ابن عباس فذكر نحوه، وفيه:"فقال: كل ذلك لا أقول، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنتم أعلم به، وأما كتاب الله، فلا أعلمه"؛ أي: لا أعلم هذا الحكم فيه، وإنما قال لأبي سعيد: أنتم أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم مني؛ لكون أبي سعيد وأنظاره، كانوا أسنّ منه، وأكثر ملازمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

.

(وَلَكِنْ حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ) حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابنُ حبّه رضي الله عنهما المتوفّى سنة (54) وتقدّمت ترجمته في "الإيمان" 43/ 284. (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ") وفي الرواية التالية: "إنما الربا في النسيئة"، وفي الرواية الثالثة:"لا ربا فيما كان يدًا بيد"، وفي رواية:""ألا إنما الربا في النسيئة"، وتقدّم من طريق أبي نضرة، قال: "سألت ابن عباس، عن الصرف؟ فقال: أيدًا بيد؟، قلت: نعم، قال: فلا بأس به، فأخبرت أبا سعيد، فقال: أَوَ قال ذلك؟ إنّا سنكتب إليه، فلا يفتيكموه"، وفي رواية عن أبي نضرة: "سألت ابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهما عن الصرف؟ فلم يريا به بأسًا، فإني لقاعد عند أبي سعيد، فسألته عن الصرف؟ فقال: ما زاد فهو ربا، فأنكرت ذلك؛ لقولهما، فذكر الحديث، قال: فحدثني أبو الصهباء، أنه سأل ابن عباس عنه بمكة؟ فكرهه"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(1)

"الفتح" 5/ 648.

ص: 691

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [39/ 4081 و 4082 و 4083 و 4084](1596)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2178 و 2179)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(3/ 543)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 281) و"الكبرى"(4/ 32)، و (ابن ماجه) في "التجارات"(2257)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 259)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(622)، و (ابن أبي شيبة) في "مسنده"(1/ 114)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 200 و 202 و 204 و 206 و 208 و 209)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 259)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(442 و 443)، و (البزّار) في "مسنده"(7/ 10 و 11 و 12 و 14 و 18)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 49)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5023)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 387)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 64)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 280) و"الصغرى"(5/ 37) و"المعرفة"(4/ 297)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان حكم بيع الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، وهو الجواز إذا كان مثلًا بمثل، يدًا بيد.

2 -

(ومنها): أن في قصة أبي سعيد، مع ابن عمر، ومع ابن عباس رضي الله عنهم المذكورة أن العالم يناظر العالم، ويوقفه على معنى قوله، ويردّه من الاختلاف إلى الاجتماع، ويحتجّ عليه بالأدلة.

3 -

(ومنها): أن فيه إقرارَ الصغير للكبير بفضل التقدم.

4 -

(ومنها): أن في السياق دليلًا على أن أبا سعيد، وابن عباس متفقان، على أن الأحكام الشرعية، لا تطلب إلا من الكتاب، أو السنة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في أقوال أهل العلم في الصرف:

الصرفُ -بفتح المهملة-: دفع ذهب، وأخذ فضة وعكسه، وله شرطان: منع النسيئة مع اتفاق النوع، واختلافه، وهو المجمع عليه، ومنع التفاضل في النوع الواحد منهما، وهو قول الجمهور، وخالف فيه ابن عمر، ثم رجع، وابن عباس، واختُلف في رجوعه، وقد رَوَى الحاكم من طريق حيان العدوي -وهو

ص: 692

بالمهملة، والتحتانية- سألت أبا مِجْلَز عن الصرف؟ فقال: كان ابن عباس، لا يرى به بأسًا زمانًا من عمره، ما كان منه عينًا بعين، يدًا بيد، وكان يقول: إنما الربا في النسيئة، فلقيه أبو سعيد، فذكر القصة والحديث، وفيه:"التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والذهب بالذهب، والفضة بالفضة، يدًا بيد، مِثْلًا بمثل، فمن زاد فهو ربا"، فقال ابن عباس: أستغفر الله، وأتوب إليه، فكان ينهى عنه أشدّ النهي. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: فتبيّن بما تقدّم أن ابن عبّاس رضي الله عنهما ثبت رجوعه، كما ثبت رجوع ابن عمر رضي الله عنهما، فتكون المسألة إجماعية، فلا يجوز ربا الفضل، كما لا يجوز ربا النسيئة بالإجماع، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في تأويل حديث أسامة رضي الله عنه: "لا ربا إلا في النسيئة":

قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله، ما حاصله: هذا الخلاف شاذّ متقدّم، مرجوع عنه، كما قد نصّ عليه هنا من رجوع ابن عمر، وابن عبّاس رضي الله عنهم عنه، وممن قال بقولهما من السلف: عبد الله بن الزبير، وزيد بن أرقم، وأُسامة بن زيد، ولا شكّ في معارضة هذا الحديث لحديث عبادة، وأبي سعيد، وغيرهما، فإنها نصوصٌ في إثبات ربا الفضل، ولَمّا كان كذلك اختلف العلماء في كيفيّة التخلّص من ذلك على أوجه، أشبهها وجهان:

[أحدهما]: أن حديث ابن عبّاس منسوخٌ بحديث عبادة، وأبي سعيد، غير أنهم لم ينقلوا التاريخ صريحًا، وإنما أخذوه من رجوع ابن عبّاس عن ذلك، ومِنْ عمل الجمهور من الصحابة، وغيرهم، من علماء المدينة على خلاف في ذلك.

قال القرطبيّ: وهذا لا يدلّ على النسخ، وإنما يدلّ على الأرجحيّة.

[وثانيهما]: أن قوله: "لا ربا إلا في النسيئة" إنما مقصوده نفي الأغلظ الذي حرّمه الله بنصّ القرآن، وتوعّد عليه بالعقاب الشديد، وجعل فاعله محاربًا لله، وذلك بقوله تعالى:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} إلى آخر الآيات [البقرة: 275 - 281] وما كانت

ص: 693

العرب تعرف ربا إلا ذلك، فكانت إذا حلّ دَينها قالت للغريم: إما أن تقضي، وإما أن تُرْبي: أي تزيد في الدين، وهذا هو الذي نسخه النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، لَمّا قال:"ألا إن كلّ ربا موضوع، وإن أول ربا أضعُهُ ربانا، ربا عباس"، متّفقٌ عليه. وهذا كما تقول العرب: إنما المال الإبل، وإنما الشجاع عليٌّ، وإنما الكريم يوسف ابن نبيّ الله، ولا عالم في البلد إلا زيد، ومثله كثير، يعنون بذلك نفي الأكبر والأكمل، لا نفي الأصل، وهذا واضح، ومما يقرب فيه هذا التأويل جدًّا رواية من روى:"لا ربا فيما كان يدًا بيد" أي: لا ربا كثيرٌ، أو عظيمٌ، كما قال:"لا صلاة لجار المسجد، إلا في المسجد"

(1)

أي: لا صلاة كاملة.

قال: ويظهر لي وجهٌ آخر، وهو حسنٌ، وذلك أن دلالة حديث ابن عبّاس على نفي ربا الفضل دلالة بالمفهوم، ودلالة إثباته دلالة بالمنطوق، ودلالة المنطوق راجحة على دلالة المفهوم، باتّفاق النُّظّار. انتهى كلام القرطبيّ ببعض تصرّف

(2)

، وهو بحث مفيد نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

وقال النوويّ رحمه الله: أما حديث أسامة: "لا ربا إلا في النسيئة" فقد قال قائلون بأنه منسوخ بهذه الأحاديث، وقد أجمع المسلمون على ترك العمل بظاهره، وهذا يدل على نسخه. وتأوله آخرون تأويلات:

[أحدها]: أنه محمول على غير الربويات، وهو كبيع الدَّين بالدَّين مؤجلًا، بأن يكون له عنده ثوب موصوف، فيبيعه بعبد موصوف مؤجلًا، فإن باعه به حالًا جاز.

[الثاني]: أنه محمول على الأجناس المختلفة، فإنه لا ربا فيها من حيث التفاضل، بل يجوز تفاضلها يدًا بيد.

[الثالث]: أنه مجمل، وحديث عبادة بن الصامت، وأبي سعيد الخدريّ، وغيرهما مُبَيَّن، فوجب العمل بالمبيَّن، وتنزيل المجمل عليه، هذا جواب الشافعىّ رحمه الله. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(3)

.

(1)

حديث ضعيف، تقدّم الكلام عليه في "كتاب الصلاة".

(2)

"المفهم" 4/ 484 - 485.

(3)

"شرح النوويّ" 11/ 25 - 26.

ص: 694

وقال في "الفتح": اتَّفَقَ العلماءُ على صحة حديث أسامة، واختلفوا في الجمع بينه وبين حديث أبي سعيد، فقيل: منسوخ، لكن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وقيل: المعنى في قوله: "لا ربا" الربا الأغلظ الشديد التحريم، المتوعدُ عليه بالعقاب الشديد، كما تقول العرب: لا عالم في البلد إلا زيد، مع أن فيها علماء غيره، وإنما القصد نفي الأكمل، لا نفي الأصل، وأيضًا فنفي تحريم ربا الفضل، من حديث أسامة، إنما هو بالمفهوم، فيقدَّم عليه حديث أبي سعيد؛ لأن دلالته بالمنطوق، ويُحمَل حديث أسامة على الربا الأكبر، كما تقدم، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أقرب التأويلات: الترجيح بأن دلالة حديث أسامة بالمفهوم، ودلالة حديث أبي سعيد بالمنطوق، فيرجّح المنطوق على المفهوم، كما سبق استحسانه في كلام القرطبيّ رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[4082]

(

) - (حَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ -وَاللَّفْظُ لِعَمْرٍو- قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرُونَ: حَدَّثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ؛ أنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنى أُسَامَةُ بْنُ زيدٍ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم

(2)

قَالَ: "إِنَّمَا الرِّبَا في النَّسِيئَةِ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ) الليثيّ المكيّ مولى آل قارظ بن شيبة، ثقةٌ كثير الحديث [4](ت 126) وله (86) سنةً (ع) تقدم في "الصيام" 21/ 2662.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

والحديث متّفقٌ عليه، ومضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، وبالله تعالى التوفيق.

[4083]

(

) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، قَالَا: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ،

(1)

"الفتح" 5/ 649.

(2)

وفي نسخة: "عن النبىّ صلى الله عليه وسلم".

ص: 695

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا رِبًا فِيمَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(عَفَّانُ) بن مسلم بن عبد الله الصفّار، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [10](ت 220)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 44.

3 -

(بَهْزُ) بن أسد الْعَمّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9] مات بعد المائتين، أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.

4 -

(وُهَيْبُ) بن خالد بن عجلان الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبتٌ تغيّر قليلًا [7](ت 165) أو بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.

5 -

(ابْنُ طَاوُسٍ) عبد الله اليمانيّ، أبو محمد، ثقةٌ فاضلٌ عابدٌ [6](ت 132)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

6 -

(أَبُوهُ) طاوس بن كيسان، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الإسنادين الماضيين.

والحديث بهذا اللفظ من أفراد المصنّف، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، وبالله تعالى التوفيق.

[4084]

(

) - (حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا هِقْلٌ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ؛ أَنَّ أَبا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ لَقِيَ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَ قَوْلَكَ فِي الصَّرْفِ، أشَيْئًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ أَمْ شَيْئًا وَجَدْتَهُ فِي كِتَابِ اللهِ عز وجل؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَلّا، لَا أقُولُ، أمَّا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأنتُمْ أَعْلَمُ بِهِ، وَأمَّا كِتَابُ اللهِ، فَلَا أَعْلَمُهُ، وَلَكنْ حَدَّثَنِي

(1)

أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ألا إِنَّمَا الرِّبَا فى النَّسِيئَةِ").

(1)

وفي نسخة: "ولكني حدّثني".

ص: 696

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى) بن أبي زُهير البغداديّ، أبو صالح القَنْطَريّ، ثقةٌ [10](ت 232)(خت م مد س ق) تقدم في "الإيمان" 46/ 294.

2 -

(هِقْلُ) -بكسر الهاء، وسكون القاف- ابن زياد السَّكْسَكيّ الدمشقيّ، نزيل بيروت، قيل: هِقْلٌ لقبٌ، واسمه محمد، أو عبد الله، وكان كاتب الأوزاعيّ، ثقةٌ متقنٌ [9](ت 179) أو بعدها (م 4) تقدم في "الصلاة" 44/ 1099.

3 -

(الأَوْزَاعِىُّ) عبد الرحمن بن عمرو الإمام المعروف، تقدّم قريبًا.

4 -

(عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ) أسلم، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقيان ذُكرا قبله.

شرح الحديث:

(عَنِ الأَوْزَاعيِّ) عبد الرحمن بن عمرو؛ أنه (قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ) اسم أبيه أسلم (أَنَّ أبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه (لَقِيَ ابْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (فَقَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَ) أي: أخبرني (قَوْلَكَ فِي الصَّرْفِ، أَشَيْئًا) منصوب بفعل مقدّر دلّ عليه ما سبق؛ أي: أتقول شيئًا، ويَحْتَمِل أن يكون منصوبًا على الاشتغال؛ أي: أسمعت شيئًا؟ (سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ أَمْ شَيْئًا وَجَدْتَهُ فِي كِتَابِ اللهِ عز وجل؟) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا سؤال منكِرٍ لما سمعه، طالب للحقيقة بالدليل، بَانٍ على أن لا دليل على الأحكام الشرعيّة إلا الكتاب والسّنّة. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَلَّا) معناها الردع، والزجر؛ أي: ارتدع، وانزجر عما تقوله، فإني (لَا أقُولُ) ذلك، قال القرطبيّ رحمه الله؛ أي: لم أسمع فيه من النّبيّ صلى الله عليه وسلم شيئًا، ولا فَهِمتُ من كتاب الله تعالى، ثم أخذ، فأسند الحديث عن أسامة رضي الله عنه، وأخبر أنه سمعه منه، فثبت الحديث بنقله، وهو الإمام العدل، عن أسامة ذي المآثر والفضل، فلا شكّ في صحّة الحديث، وإنما هو متروك بأحد الأوجه المتقدّمة، والله تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

(أمّا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأنتُمْ أَعْلَمُ بِهِ) أي: بأحاديثه، فإنَّهم أسنّ منه، وهم

(1)

"المفهم" 4/ 486.

(2)

"المفهم" 4/ 486 - 487.

ص: 697

ملازموه حضرًا وسفرًا، وعندهم من حديثه ما ليس عنده لصغر سنه، وقد بيَّنَّا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تُوُفِّي وابن عبَّاس لم يحتلم، والذي سمع من النبيّ صلى الله عليه وسلم أحاديث يسيرة، وأكثر حديثه عن كبار الصحابة رضي الله عنهم، وفي سِنِّهِ يوم تُوُفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقوال، قيل: عشر، وقيل: خمس عشرة، وقيل: ثلاث عشرة، قال أبو عمر: وهو الذي عليه أهل السِّير والعلم، وهو عندي أصح. انتهى

(1)

.

(وَأمَّا كِتَابُ اللهِ، فَلَا أَعْلَمُهُ) أي: لا أعلم هذا الحكم من كتاب الله عز وجل (وَلَكِنْ حَدَّثَنِي) وفي نسخة: "ولكنّي حدّثني"(أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ألَا" أداة استفتاح، وتنبيه (إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ") قد تقدّم تأويل حديث أسامة هذا، ونزيد هنا ما نُقل عن الإمام الشافعيّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون أسامة قد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل عن الربا في صنفين مختلفين: ذهب بفضّةٍ، وتمر بحنطةٍ، فقال:"إنما الربا في النسيئة"، فحفظه أسامة، فأدَّى قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يؤدّ مسألة السائل، فكان ما أُدّي منه عند من سمعه:"لا ربا إلا في النسيئة". انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله الإمام الشافعيّ رحمه الله في تأويل حديث أسامة رضي الله عنه: "لا ربا إلا في النسيئة" تأويل حسن جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(40) - (بَابُ لَعْنِ آكِلِ الرِّبَا)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4085]

(1597) - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ -وَاللَّفْظُ لِعُثْمَانَ- قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ عُثْمَانُ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، قَالَ: سَأَل شِبَاكٌ إِبْرَاهِيمَ، فَحَدَّثنَا عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبَا، وَمُؤْكِلَهُ، قَالَ: قُلْتُ: وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ؟ قَالَ: إِنَّمَا نُحَدِّثُ بِمَا سَمِعْنَا).

(1)

"المفهم" 4/ 487.

ص: 698

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) الْعَبْسيّ، أبو الحسن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ شهير [10](ت 239)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 35/ 246.

2 -

(إِسْحَاق بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ الكوفىّ، نزيل الريّ، ثقةٌ، صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

4 -

(مُغِيرَةُ) بن مِقْسَم الضبيّ مولاهم، أبو هشام الكوفيّ الأعمى، ثقةٌ متقنٌ، إلا أنه يدلّس، ولا سيّما عن إبراهيم [6](ت 136)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.

5 -

(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد بن قيس النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ يرسل كثيرًا [5](ت 96)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.

6 -

(عَلْقَمَةُ) بن قيس بن عبد الله النخعيّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عابد [2] مات بعد الستين، وقيل: بعد السبعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.

7 -

(عَبْدُ اللهِ) بن مسعود الصحابيّ الشهير المتوفى سنة (32)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ هو خاله، وفيه ابن مسعود رضي الله عنه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم.

شرح الحديث:

(عَنْ مُغِيرَةَ) بضمّ الميم، وكسرها ابن مِقْسَم الضبيّ؛ أنه (قَالَ: سأَل شِبَاكٌ إِبْرَاهِيمَ) قال الحافظ الجيّانيّ رحمه الله: هكذا في نسخة الجلوديّ أن الذي سأل إبراهيم هو شباك الضبيّ، ووقع في نسخة أبي العلاء بن ماهان:"عن مغيرة قال: سألت إبراهيم، فحدّثنا عن علقمة، عن عبد الله إلخ"، قال: وشِباك هذا كوفيّ مشهور بالرواية عن إبراهيم النخعي. انتهى كلام الجيّاني بتصرّف

(1)

.

(1)

راجع: "تقييد المهمل" 3/ 867.

ص: 699

و"شِبَاك" -بكسر الشين المعجمة، ثم موحّدة خفيفة، ثم كاف- الضبيّ الكوفيّ الأعمى، ثقة [6]، له ذكر في "صحيح مسلم" في هذا الموضع، ولا رواية له، كما نبّه عليه في "تهذيب التهذيب"

(1)

.

(فَحَدَّثَنَا) أي: إبراهيم (عَنْ عَلْقَمَةَ) بن قيس النخعيّ (عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: لَعَنَ) بالبناء للفاعل، وفاعله (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبَا) بالنصب على المفعولية؛ أي: آخذه، وإن لم يأكل، وإنما خَصّ الأكل؛ لأنه أعظم أنواع الانتفاع، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} الآية [النساء: 10].

(وَمُؤْكِلَهُ) بهمز، ويُبدل؛ أي: معطيه لمن يأخذه، وإن لم يأكل منه؛ نظرًا إلى أن الأكل هو الأغلب، أو الأعظم كما تقدم.

قال الخطابيّ رحمه الله: سَوّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين آكل الربا ومُوْكِله؛ إذ كلٌّ لا يتوصل إلى أكله إلا بمعاونته ومشاركته إياه، فهما شريكان في الإثم، كما كانا شريكين في الفعل، وإن كان أحدهما مُغْتَبطًا بفعله؛ لِمَا يستفضله من البيع، والآخر مُنْهَضِمًا؛ لِمَا يلحقه من النقص، ولله عز وجل حدود، فلا تُتجاوز في وقت الوجود من الربح والعدم، وعند العسر واليسر، والضرورةُ لا تلحقه بوجه في أن يوكله الربا؛ لأنه قد يجد السبيل إلى أن يَتوصل إلى حاجته بوجه من وجوه المعاملة والمبايعة، ونحوها.

قال الطيبيّ رحمه الله: لعل هذا الاضطرار إنما يَلحق بالموكل، فينبغي أن يَحترز عن صريح الربا، فيتشبّث بوجه من وجوه المبايعة؛ لقوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} الآية [البقرة: 275] لكن مع وَجَل وخوف شديد عسى الله أن يَتجاوز عنه، ولا كذلك الآكل. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: آكل الربا آخذه، وعبَّر عن الأخذ بالأكل؛ لأن الأخذ إنما يُرَاد للأكل غالبًا؛ ومنه قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} ؛ أي: أخذونها، فإنه لم يعلّق الوعيد على أموال اليتامى من حيث الأكل فقط، بل من حيث إتلافها عليهم بأخذها منهم، وموكل الربا: معطيه. وهذا كما قال في الحديث الآخر: "الآخذ والمعطي فيه سواء"، وفي معنى

(1)

راجع: "تهذيب التهذيب" 2/ 149.

(2)

"مرقاة المفاتيح" 6/ 43.

ص: 700

المعطي: المعين عليه، وكاتبه: الذي يكتب وثيقته، وشاهداه: من يتحمَّل الشهادة بعقده، وإن لم يؤدها، وفي معناه: من حضره فأقرَّه، وإنما سوَّى بين هؤلاء في اللعنة؛ لأنه لم يحصل عقد الرِّبا إلا بمجموعهم، ويجب على السلطان إذا وقع له أحد من هؤلاء أن يُغلِّظ العقوبة عليهم في أبدانهم بالضرب، والإهانة، وبإتلاف مال الربا عليهم بالصدقة به، كما يفعل بالمسلم إذا أجّر نفسه في عمل الخمر، فإنه يتصدَّق بالأجرة، وبثمن الخمر إذا باعها، ويدلّ على صحة ما ذكرناه قوله تعالى:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} [البقرة: 276]؛ أي: يفسخ عقده، ويرفع بركته، وتمام المحق بإتلاف عينه. انتهى

(1)

.

(قَالَ: قُلْتُ) السائل إبراهيم، والمسؤول علقمة، بيّن ذلك النسائيّ، فقد أخرجه في "الكبرى"(6/ 306) من طريق المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: قلت لعلقمة: أقال عبد الله: لَعَنَ النبيّ صلى الله عليه وسلم آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه؟ قال: آكل الربا، وموكله، قلت: وشاهديه، وكاتبه؟ قال: إنما نُحَدِّث بما سمعنا. انتهى.

(وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ؟) يعني هل كان في الحديث لعن كاتبه، وشاهديه؟ وإنما سأل عنه لأنه مذكور في حديث عبد الله رضي الله عنه في رواية غير علقمة، كما سأبيّنه.

(قَالَ) علقمة (إِنَّمَا نُحَدِّثُ) بالبناء للفاعل (بِمَا سَمِعْنَا) أي: من ابن مسعود رضي الله عنه، يعني أنه لم يسمع منه إلا قوله:"لعن رسول الله-صلى الله عليه وسلم آكل الربا، وموكله" فقط، فلا يُحدّث إلا بالذي سمعه منه، وقد سمعه غيره، فقد أخرج الحديث الترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، من طريق سماك بن حرب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن ابن مسعود، قال:"لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه"، قال الترمذيّ: حديث حسن صحيح

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"المفهم" 4/ 500.

(2)

إنما صححه الترمذيّ مع أن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود مختلف في سماعه من أبيه؛ لأنه لم ينفرد به، فقد رواه الحارث الأعور، عن ابن مسعود، عند أحمد في "مسنده؛، والحارث وإن تُكلّم فيه إلا أنه يصلح للمتابعة، وأيضًا للحديث شاهد =

ص: 701

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [40/ 4085](1597)، و (أبو داود) في "البيوع"(3333)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1206)، و (النسائيّ) في "الزينة"(8/ 147 و 148) و"الكبرى"(3/ 326 و 5/ 423 و 424 و 6/ 306)، و (ابن ماجه) في "التجارات"(2277)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 393 و 394 و 402 و 453)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 246)، و (ابن خريمة) في "صحيحه"(4/ 8)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(8/ 44 و 11/ 399)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 395)، و (الحا كم) في "المستدرك"(1/ 545)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 275) و "الصغرى"(5/ 26)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم الربا، وأنه فعل مذموم يستحق فاعله اللعن والطرد عن رحمة الله سبحانه وتعالي.

2 -

(ومنها): أن آكل الربا، ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه كلهم ملعون بسبب تعاونهم على الإثم والعدوان.

3 -

(ومنها): تحريم كتابة المبايعة بين المترابيين، وكذا الشهادة عليهما.

4 -

(ومنها): تحريم الإعانة على الباطل، وهو معنى ما جاء في الآية:

= من حديث جابر رضي الله عنه الآتي بعد هذا.

ثم وجدت تابعه مسروق، فقد أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (8/ 4) (2250) قال رحمه الله: حدّثنا علي بن سهل الرمليّ، حدّثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق، قال: قال عبد الله: "آكل الربا، وموكله، وشاهداه، إذا علماه، والواشمة، والمستوشمة، ولاوي الصدقة، والمرتد أعرابيًا بعد الهجرة، ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة". انتهى.

ص: 702

{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} الآية [المائدة: 2] والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4086]

(1598) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاح، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالُوا: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ: "هُمْ سَواءٌ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ) الدُّولابيّ، أبو جعفر البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 227)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.

2 -

(هُشَيْمُ) بن بشير بن القاسم بن دينار السلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7](ت 183) وقد قارب المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

3 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(جَابِرُ) بن عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقيان ذُكرا في السند الماضي، والباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد: أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (273) من رباعيّات الكتاب، وشرح الحديث، وفوائده تقدّمت في الحديث الماضي.

وقوله: (هُمْ سَوَاءٌ) قال النوويّ رحمه الله: هذا تصريح بتحريم كتابة المبايعة بين المترابيين، والشهادة عليهما، وفيه تحريم الإعانة على الباطل، والله أعلم. انتهى

(1)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانيه): في تخريجه:

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 26.

ص: 703

أخرجه (المصنّف) هنا [40/ 4086](1598)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 304)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 163)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 395)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3/ 377 و 459)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 275) و"الصغرى"(5/ 26)، و (البغويّ) في "تفسيره"(1/ 263)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(41) - (بَابُ أَخْذِ الْحَلَالِ، وَتَرْكِ الشُّبُهَاتِ)

" الشبهات"- بضمّتين، أو بضمّ، فسكون: هي الأمور الملتبسات، قال الفيّوميّ رحمه الله: واشتبهت الأمور، وتشابهت: التبست، فلم تتميّز، ولم تظهر، ومنه: اشتبهت القبلة، ونحوها، والشبْهَة في العقيدة: المأخذ الملبَّسُ، سُمّيت شبهة؛ لأنها تشبه الحقّ، والشبهة: الْعُلْقَة، والجمع فيهما شُبَهٌ، وشُبُهات، مثلُ غُرْفة، وغُرَف، وغُرُفات، قال: والاشتباه: الالتباس. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4087]

(1599) - (حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ الْهَمْدَانِيُّ، حَدَّثنَا أَبِي، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ- وَأهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنيْهِ-: "إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّن، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّن، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاث، لَا يَعْلَمُهُن كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، ألَا وَإِنَّ لِكُل مَلِكٍ حِمًى، ألَا وَإنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، ألَا وَإنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلّهُ، وَإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألَا وَهِيَ الْقَلْبُ").

(1)

"المصباح المنير" 1/ 303 - 304.

ص: 704

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ الْهَمْدَانِيُّ) أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

2 -

(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ سُنيّ، صاحب حديث، من كبار [9](ت 199) وله (84) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

3 -

(زَكَرِيَّاءُ) بن أبي زائدة خالد، أو هُبيرة بن ميمون بن فَيْروز الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ يُدلّس [6](ت 7 أو 8 أو 149)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 449.

4 -

(الشَّعْبِيُّ) عامر بن شَرَاحيل، أبو عمرو الكوفيّ، ثقةٌ فقيةٌ مشهور فاضلٌ [3] مات بعد المائة، وله نحو من ثمانين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

5 -

(النُّعْمَان بْنُ بَشِيرِ) بن سعد بن ثعلبة الأنصاريّ الخزرجيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، سكن الشام، ثم ولي إمرة الكوفة، ثم قُتل بحمص سنة (65) وله (64) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 97/ 522.

[تنبيه] من لطائف هذا الإسناد: أنه مسلسلٌ بالكوفيين، وقد دخل النعمان الكوفة، ووَلي إمرتها، وفيه رواية الراوي عن أبيه، وصحابيّه ابن صحابيّ رضي الله عنهما.

شرح الحديث:

(عَنِ الشَّعْبِيِّ) عامر بن شَرَاحيل الفقيه المشهور (عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ) رضي الله عنهما (قَالَ) الشعبيّ (سَمِعْتُهُ) أي: النعمان رضي الله عنه (يَقُولُ) وفي رواية عون بن عبد الله، عن الشعبيّ الآتية:"أنه سمع نعمان بن بشير، وهو يخطب الناس بحمص"، ولأبي عوانة في "صحيحه" من طريق أبي حَرِيز -وهو بفتح الحاء المهملة، وآخره زاي- عن الشعبيّ؛ أن النعمان بن بشير خَطَب به بالكوفة.

قال في "الفتح": ويُجْمَع بينهما بأنه سَمِع منه مرتين، فإنه وَلي إمرة البلدين، واحدةً بعد أخرى (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ -وَأهْوَى النُّعْمَانُ بِإِبَعَيْهِ اِلَى أُذُنَيْهِ-) قال في "الفتح": وفي هذا ردّ لقول الواقديّ، ومن تبعه: إن النعمان لا يصح سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه دليل على صحة تحمل الصبيّ المميِّز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مات، وللنعمان ثمان سنين، وزكرياء موصوف

ص: 705

بالتدليس، قال الحافظ: ولم أره في "الصحيحين"، وغيرهما من روايته عن الشعبيّ إلّا معنعنًا، ثم وجدته في "فوائد ابن أبي الهيثم" من طريق يزيد بن هارون، عن زكريا، حدّثنا الشعبيّ، فحَصَل الأمن من تدليسه. انتهى

(1)

.

[فائدة]: ادَّعَى أبو عمرو الدانيّ أن هذا الحديث لم يروه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم غير النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قال الحافظ: فإن أراد من وجه صحيح فمُسَلَّم، وإلا فقد رويناه من حديث ابن عمر، وعمّار، في "الأوسط" للطبرانيّ، ومن حديث ابن عباس في "الكبير" له، ومن حديث واثلة في "الترغيب" للأصبهانيّ، وفي أسانيدها مَقالٌ.

وادَّعَى أيضًا أنه لم يروه عن النعمان غير الشعبيّ، وليس كما قال، فقد رواه عن النعمان أيضًا خيثمة بن عبد الرحمن، عند أحمد وغيره، وعبد الملك بن عُمير عند أبي عوانة وغيره، وسماك بن حرب، عند الطبراني، لكنه مشهور عن الشعبيّ، رواه عنه جمع جَمٌّ، من الكوفيين، ورواه عنه من البصريين عبد الله بن عون، وقد ساق البخاريّ إسناده في "البيوع"، ولم يسق لفظه، وساقه أبو داود، وسنشير إلى ما فيه من فائدة -إن شاء الله تعالى. انتهى كلام الحافظ رحمه الله.

قال الجامع عفا الله عنه: رواية عبد الله بن عون هي الرواية الآتية للمصنّف بعد حديثين، وسنتكلّم عليها هناك -إن شاء الله تعالى-.

("إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ) أي: في عينهما، ووصفهما بأدلّتهما الظاهرة، قال القرطبيّ رحمه الله: يعني أن كل واحد منهما مُبَيَّن بأدلته في كتاب الله تعالى، وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم تأصيلًا وتفصيلًا، فمن وقف على ما في الكتاب والسُّنة من ذلك وجد فيهما أمورًا جلية التحليل، وأمورًا جلية التحريم، وأمورًا مترددة بين التحليل والتحريم، وهي التي تتعارض فيها الأدلة، فهي المتشابهات. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "الحلال بَيِّن، والحرام بَيِّنٌ"، فمعناه: أن

(1)

"الفتح" 1/ 228 "كتاب الإيمان" رقم (52).

(2)

"المفهم" 4/ 488.

ص: 706

الأشياء ثلاثة أقسام: حلال بَيِّنٌ واضحٌ لا يخفى حِلّه؛ كالخبز، والفواكه، والزيت، والعسل، والسمن، ولبن مأكول اللحم، وبيضه، وغير ذلك من المطعومات، وكذلك الكلام، والنظر، والمشي، وغير ذلك من التصرفات فيها حلال بَيِّن واضح، لا شكّ في حله، وأما الحرام الْبَيِّنُ؛ فكالخمر، والخنزير، والميتة، والبول، والدم المسفوح، وكذلك الزنى، والكذب، والغيبة، والنميمة، والنظر إلى الأجنبية، وأشباه ذلك، وأما المشتبهات، فمعناه أنها ليست بواضحة الحلّ، ولا الحرمة، فلهذا لا يعرفها كثير من الناس، ولا يعلمون حكمها، وأما العلماء فيعرفون حكمها بنصّ، أو قياس، أو استصحاب، أو غير ذلك. انتهى

(1)

.

(وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ) بوزن مُفْتَعِلات بتاء مفتوحة، وعين خفيفة مكسورة، والمعنى: أنها موحّدة اكتَسَبت الشَبَهَ من وجهين متعارضين، ووقع في بعض روايات البخاريّ بلفظ:"مشَبَّهات" بتشديد الموحّدة المفتوحة؛ أي: شُبّهت بغيرها مما لم يتبيّن به حكمها على التعيين، وفي رواية الدارميّ:"وبينهما متشابهات".

(لَا يَعْلَمُهُنَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) أي: لا يعلم حكمهنّ، وجاء واضحًا في رواية الترمذيّ بلفظ:"لا يدري كثير من الناس أمن الحلال هي، أم من الحرام؟ "، ومفهوم قوله:"كثيرٌ" أن معرفة حكمها ممكن، لكن للقليل من الناس، وهم المجتهدون، فالشبهات على هذا في حقّ غيرهم، وقد تقع لهم حيث لا يظهر لهم ترجيح أحد الدليلين، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال القرطبي رحمه الله: قوله: "لا يعلمهن كثير من الناس" أي: لا يعلم حكمهنّ من التحليل والتحريم، وإلا فالذي يعلم الشبهة يعلمها من حيث إنها مشكلة؛ لترددها بين أمور محتمِلة، فإذا عَلِمَ بأي أصل تُلحَق زال كونها شبهة، وكانت إما من الحلال، أو من الحرام، وفيه دليل: على أن الشبهة لها حكم خاصّ بها، عليه دليل شرفي، يمكن أن يصل إليه بعض الناس، فمن ظَفِرَ به فهو المصيب كما بيّناه، في الأصول.

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 27 - 28.

(2)

"الفتح" 1/ 229.

ص: 707

قال: وقد اختُلِف في حكمها، فقيل: مواقعتها حرام؛ لأنها توقع في الحرام، وقيل: مكروهة، والورع تركها، وقيل: لا يقال فيها واحد منهما، والصواب الثاني؛ لأن الشرع قد أخرجها من قسم الحرام، فلا توصف به، وهي مما يرتاب فيه، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"دَعْ ما يَرِيبك إلى ما لا يَرِيبك"، وهذا هو الورع، وقد قال فيها بعض الناس: إنها حلال ويُتَورَّع عنها.

قال القرطبيّ: وليست بعبارة صحيحة؛ لأن أقل مراتب الحلال أن يستوي فعله وتركه، فيكون مباحًا، وما كان كذلك لم يُتَصَّور فيه الورع من حيث هو متساوي الطرفين، فإنَّه إن ترجَّح أحد طرفيه على الآخر خرج عن كونه مباحًا، وحينئذ يكون تركه راجحًا على فعله، وهو المكروه، أو فعله راجحًا على تركه، وهو المندوب.

[فإن قيل]: فهذا يؤدِّي إلى رفع معلوم من الشرع، وهو: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده، وأكثر أصحابه رضي الله عنهم كانوا يزهدون في المباح، فإنَّهم رَفَضُوا التنعم بأكل الطيبات من الأطعمة، وبلباس اللَّين الفاخر من الملابس، وبسكنى المباني الأنيقة من المساكن، ولا شك في إباحة هذه الأمور، ومع هذا فآثروا أكل الخشن، ولباس الخشن، وسكنى الطين واللَّبن، وكل هذا معلوم من حالهم، منقول من سيرتهم.

فالجواب أن تركهم التنعم بالمباح لا بدّ له من موجب شرعيّ أوجب ترجيح الترك على الفعل، وحينئذ يلزم عليه خروج المباح عن كونه مباحًا، فإن حقيقته التساوي من غير رجحان، فلم يزهدوا في مباح، بل في أمير تَرْكُهُ خيرٌ من فعله شرعًا، وهذه حقيقة المكروه. فإذًا إنما زهدوا في مكروه، غير أن المكروه تارة يكرهه الشرع من حيث هو، كما كره لحوم السِّباع، وتارة يكرهه لما يؤدي إليه، كما يكره القبلة للصَّائم، فإنها تُكره لِمَا يُخاف منها من فساد الصوم، وتركهم للتنعم من هذا القبيل، فإنَّه انكشف لهم من عاقبته ما خافوا على نفوسهم منه مفاسد إما في الحال، كالرُّكون إلى الدنيا، وإما في المال كالحساب عليه، والمطالبة بالشكر، وغير ذلك ممَّا ذُكر في كتب الزهد، وعلى

ص: 708

هذا فقد ظهر ولاح: أنهم لم يزهدوا ولا تورعوا عن مباح. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: معنى قوله: "لا يعلمهنّ كثير من الناس" أنها ليست بواضحة الحل، ولا الحرمة، فلهذا لا يعرفها كثير من الناس، ولا يعلمون حكمها، وأما العلماء فيعرفون حكمها بنصّ، أو قياس، أو استصحاب، أو غير ذلك، فإذا تردد الشيء بين الحلّ والحرمة، ولم يكن فيه نصّ، ولا إجماع، اجتَهَدَ فيه المجتهد، فألحقه بأحدهما بالدليل الشرعيّ، فإذا ألحقه به صار حلالًا، وقد يكون دليله غير خال عن الاحتمال البيّن، فيكون الورع تركه، ويكون داخلًا في قوله صلى الله عليه وسلم:"فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه"، وما لم يَظهر للمجتهد فيه شيء، وهو مشتبه، فهل يؤخذ بحله، أم بحرمته، أم يُتَوَقَّف فيه؟ ثلاثة مذاهب، حكاها القاضي عياض وغيره، والظاهر أنها مُخَرَّجة على الخلاف المذكور في الأشياء قبل ورود الشرع، وفيه أربعة مذاهب: الأصح أنه لا يُحكم بحلّ، ولا حرمةُ ولا إباحة، ولا غيرها؛ لأن التكليف عند أهل الحقّ لا يثبت إلا بالشرع، والثاني أن حكمها التحريم، والثالث الإباحة، والرابع التوقف، والله أعلم. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن الأرجح القول بالإباحة في المنافع، وبالتحريم في المضارّ؛ لقوله تعالى في معرض الامتنان:{خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} الآية [البقرة: 29] ولا يمتنّ الله تعالى إلا بما أباحه، ولمَا صحّ من قوله صلى الله عليه وسلم:"لا ضَرَر، ولا ضِرار"، حديث صحيح، رواه أحمد، وغيره؛ أي: لا يجوز في ديننا إلحاق الضرر بنفسه، أو بغيره، والله تعالى أعلم.

وقال في "الفتح": واختُلِف في حكم الشبهات، فقيل: التحريم، وهو مردود، وقيل: الكراهة، وقيل: الوقف، وهو كالخلاف فيما قبل الشرع.

وحاصل ما فسّر به العلماء الشبهات أربعة أشياء:

[أحدهما]: تعارض الأدلة، كما تقدم.

[ثانيها]: اختلاف العلماء، وهي منتزعة من الأولى.

[ثالثها]: أن المراد بها مسمى المكروه، لأنه يجتذبه جانبا الفعل والترك.

(1)

"المفهم" 4/ 488 - 489.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 27 - 28.

ص: 709

[رابعها]: أن المراد بها المباح، ولا يمكن قائل هذا أن يَحمله على متساوي الطرفين من كل وجه، بل يمكن حمله على ما يكون من قسم خلاف الأولى، بأن يكون متساوي الطرفين، باعتبار ذاته، راجح الفعل أو الترك باعتبار أمر خارج.

ونقل ابن الْمُنَيِّر في مناقب شيخه القباريّ عنه أنه كان يقول: المكروهُ عقبة بين العبد والحرام، فمن استكثر من المكروه تطرّق إلى الحرام، والمباحُ عقبة بينه وبين المكروه، فمن استكثر منه تطرَّق إلى المكروه، وهو مَنْزَعٌ حسن، ويؤيِّده رواية ابن حبان من طريقٍ، ذَكَر مسلم إسنادها، ولم يسق لفظها، فيها من الزيادة:"اجعلوا بينكم وبين الحرام سُترة من الحلال، مَن فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه، ومن أرتع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى، يوشك أن يقع فيه".

والمعنى أن الحلال حيث يُخشى أن يؤول فعله مطلقًا إلى مكروه، أو محرّم ينبغي اجتنابه، كالإكثار مثلًا من الطيبات، فإنه يُحوج إلى كثرة الاكتساب الموقع في أخذ ما لا يستحق، أو يفضي إلى بطر النفس، وأقلّ ما فيه الاشتغال عن مواقف العبودية، وهذا معلوم بالعادة، مشاهد بالعيان.

قال الحافظ: والذي يظهر لي رجحان الوجه الأول على ما سأذكره، ولا يبعد أن يكون كل من الأوجه مرادًا، وَيختلف ذلك باختلاف الناس، فالعالم الفَطِن لا يخفى عليه تمييز الحكم، فلا يقع له ذلك إلا في الاستكثار من المباح، أو المكروه، كما تقرر قبلُ، ودونه تقع له الشبهة في جميع ما ذُكر، بحسب اختلاف الأحوال، ولا يخفى أن المستكثر من المكروه تفسير فيه جُرأة على ارتكاب المنهيّ في الجملة، أو يَحمله اعتياده ارتكابَ المنهيّ غير المحرم على ارتكاب المنهيّ المحرم، إذا كان من جنسه، أو يكون ذلك لشبهة فيه، وهو أن من تعاطى ما نُهِي عنه يصير مظلم القلب؛ لفقدان نور الورع، فيقع في الحرام، ولو لم يختر الوقوع فيه.

ووقع عند البخاريّ في "البيوع" من رواية أبي فَرْوة، عن الشعبيّ في هذا الحديث: "فمن ترك ما شُبِّه عليه من الإثم، كان لِمَا استبان له أترك، ومن

ص: 710

اجترأ على ما يَشُكّ فيه من الإثم، أوشك أن يواقع ما استبان"، قال الحافظ رحمه الله: وهذا يُرَجِّح الوجه الأول، كما أشرت إليه.

[تنبيه]: استَدَلّ به ابن المنير على جواز بقاء المجمل بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ: وفي الاستدلال بذلك نظرٌ، إلا إن أراد به أنه مُجْمَلٌ في حق بعض دون بعض، أو أراد الردّ على منكري القياس، فيَحْتَمِل ما قال، والله أعلم

(1)

.

(فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ) بضمّ الموحّدة: جمع شُبُهة؛ أي: حَذِرَ منها، وفي رواية للبخاريّ:"فمن اتّقى المشبّهات"، قال في "الفتح": والاختلاف في لفظها بين الرواة نظير التي قبلها. انتهى. (اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ)"استبرأ" بالهمز، بوزن استَفْعَل، من البراءة؛ أي: بَرَأَ دينُهُ من النقص، وعِرْضُهُ من الطعن فيه؛ لأن من لم يُعْرَف باجتناب الشبهات لم يَسْلَم لقول من يَطعن فيه، وفيه دليل على أن من لم يتوق الشبهة في كسبه ومعاشه، فقد عَرَّض نفسه للطعن فيه، وفي هذا إشارة إلى المحافظة على أمور الدين، ومراعاة المروءة

(2)

.

وقال ابن رجب رحمه الله: معنى "استبرأ": طلب البراءة لدينه وعرضه مِنَ النَّقْص والشَّين، والعِرْضُ: هو موضعُ المدح والذمِّ من الإنسان، وما يحصل له بذكره بالجميل مدحٌ، وبذكره بالقبيح قدحٌ، وقد يكون ذلك تارةً في نفس الإنسان، وتارة في سلفه، أو في أهله، فمن اتَّقى الأمور المشتبهة واجتنبها، فقد حَصَّنَ عِرْضَهُ مِنَ القَدح والشَّين الداخل على من لا يجتنبها، وفي هذا دليل على أنَّ من ارتكب الشُّبهات، فقد عرَّض نفسه للقدح فيه والطَّعن، كما قال بعض السَّلف: من عرَّض نفسه للتُّهم، فلا يلومنَّ من أساء به الظنَّ. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله

(3)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "استبرأ

إلخ" أي: احتاط لنفسه، وطلب البراءة، وقال النوويّ: أي حَصَّل البراءة لدينه من الذّمّ الشرعيّ، وصان عِرضه من كلام الطاعن، وقال في "شرح السنّة": فيه دليل على جواز الجرح

(1)

"الفتح" 1/ 229 - 230.

(2)

"الفتح" 1/ 229.

(3)

"جامع العلوم والحكم" 1/ 203 - 204.

ص: 711

والتعديل، وأن من لم يتوقّ الشبَه في كسبه ومعاشه، فقد عرّض دينه، وعرّضه للطعن. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه" أي: من ترك ما يَشتبه عليه سَلِم دينه مما يفسده، أو ينقصه، وعرضه مما يَشينه، ويَعيبه، فيسلم من عقاب الله وذمِّه، ويدخل في زمرة المتقين الفائزين بثناء الله تعالى وثوابه، لكن لا يصحّ اتقاء الشبهات حتى تُعْرَف، ومعرفتها على التعيين والتفصيل يستدير تفصيلًا طويلًا، لكن نعقد فيه عقدًا كليًّا يكون إن شاء الله تعالى عن التفصيل مُغنيًا، فنقول:

المكلف بالنسبة إلى الشرع: إما أن يترجح فعله على تركه، أو تركه على فعله، أو لا يترجح واحد منهما، فالراجح الفعل أو الترك؛ إما أن يجوز نقيضه بوجه ما، أو لا يجوز نقيضه، فإن لم يجز نقيضه فهو المعلوم الحكم من التحليل؛ كحِلِّيةِ لحوم الأنعام، أو من التحريم؛ كتحريم الميتة والخنزير على الجملة، فهذان النوعان هما المرادان بقوله:"الحلال بيِّن، والحرام بيِّن"، وأما إن جُوِّز نقيض ما ترجَّح عنده: فإمَّا أن يكون ذلك التجويز بعيدًا لا مستند له أكثر من توهم، وتقدير، فلا يُلتَفت إلى ذلك، ويُلغى بكل حال، وهذا كترك النكاح من نساء بلدة كبيرة مخافة أن يكون له فيها ذات محرم من النسب أو الرِّضاع، أو كترك استعمال ماء باق على أوصافه في فلاة من الأرض مخافة تقدير نجاسة وقعت فيه، أو كترك الصلاة على موضع لا أثر، ولا علامة للنجاسة فيه، مخافة أن يكون فيها بول قد جفّ، أو كتكرار غسل الثوب مخافة طروء نجاسة لم يشاهدها، إلى غير ذلك مما في معناه. فهذا النوع يجب ألا يُلتَفت إليه، والتوقف لأجل ذلك التجويز هَوَسٌ، والورع فيه وسوسة شيطانية؛ إذ ليس فيه من معنى الشبهة شيء، وقد دخل الشيطان على كثير من أهل الخير من هذا الباب، حتى يُعطِّل عليهم واجبات، أو يُنقص ثوابها لهم، وسبب الوقوع في ذلك عدم العلم بالمقاصد الشرعية، وأحكامها.

قال في "العمدة": وقد حَكَى الشيخ عبد الله بن يوسف، والد إمام

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 7/ 2099.

ص: 712

الحرمين عن قوم أنهم لا يلبسون ثيابًا جُدُدًا حتى يغسلوها؛ لما فيها ممن يعاني قصر الثياب، ودقّها، وتجفيفها، وإلقاءها وهي رطبة على الأرض النجسة، ومباشرتها بما يغلب على الظنّ نجاسته من غير أن يُغسل بعد ذلك، فاشتد نكيره عليهم، وقال: هذه طريقة الخوارج الحروريّة، أبلاهم الله تعالى بالغلق في غير موضع القلق، وبالتهاون في موضع الاحتياط، وفاعل ذلك معترض على أفعال النبيّ صلى الله عليه وسلم والصحابة، والتابعين، فإنهم كانوا يلبسون الثياب الجدد قبل غسلها، وحال الثياب في أعصارهم كحالها في أعصارنا، ولو أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بغسلها ما خفي؛ لأنه مما تعمّ به البلوى.

وذكر أيضًا أن قومًا يغسلون أفواههم إذا أكلوا الخبز؛ خوفًا من روث الثيران عند الدياس، فإنها تقيم أيامًا في المداسة، ولا يكاد يخلو طحينٌ عن ذلك، قال: وهذا غلوّ، وخروج عن عادة السلف، وما روي عن أحد من الصحابة والتابعين أنهم رأوا غسل الفم من ذلك. انتهى، ذكر حكايةَ الجوينيّ العينيُّ رحمه الله

(1)

.

قال القرطبي: [فإن قيل]: كيف يقال هذا، وقد فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل ذلك لَمّا دخل بيته، فوجد فيه تمرة، فقال:"لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها"، ودخول الصدقة بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيد؛ لأنها كانت محرمة عليه وعلى آله، لكنه راعى الاحتمال البعيد، والاحتمالات في الصور التي ذكرتم ليس بأبعد من هذا الاحتمال، فما وجه الانفصال؟

[قلنا]: لا نسلّم أن ما توقعه النبيّ صلى الله عليه وسلم كان بعيدًا؛ لأنهم كانوا يأتون بصدقات التَّمر للمسجد، وحجرته متصلة بالمسجد، فتوقع أن يكون صبيّ أو من يغفل عن ذلك يدخل التمرة من الصدقة في البيت، فاتقى ذلك؛ لِقُربه بحسب ما ظهر له مِمَّا قرب ذلك التقدير، وليس من تلك الصور في شيء؛ لأنها خلية عن الأمارات، وإنما هي محض تجويزات.

وأما إن كان ذلك التجويز له مستند معتبر بوجه ما، فالأصل العمل بالراجح، والورع الترك إن لم يلزم منه ترك العمل بترك بالراجح.

(1)

"عمدة القاري" 1/ 344 - 345.

ص: 713

وبيانه بالمثال، وهو: أن جلد الميتة لا يطهره الدباغ في مشهور مذهب مالك، فلا يجوز أن يستعمل في شيء من المائعات؛ لأنها تَنْجَس إلا الماء وحده، فإنه يدفع النجاسة عن نفسه؛ لأنه لا ينجس إلا إذا تغيَّر، هذا الذي ترجَّح عنده، ثم إنه اتقى الماء في خاصة نفسه.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي نقله القرطبيّ رحمه الله من أن جلد الميتة لا يطهر بالدباغ خلاف السنة الصحيحة الصريحة: "أيما إهاب دُبغ، فقد طهُر"

(1)

، فلا يُلتَفت إليه، فتنبّه، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

قال: ونحو ذلك حُكي عن أبي حنيفة أو سفيان الثوريّ أنه قال: لَأَنْ أخرَّ من السَّماء أهون عليَّ من أن أفتي بتحريم قليل النبيذ، وما شربته قط، ولا أشربه، فقد أعملوا الراجح في الفتيا، وتورعوا عنه في أنفسهم، وقد قال بعض المحققين: من حكم الحكيم أن يوسع على المسلمين في الأحكام، ويضيق على نفسه؛ يعني به ذلك المعنى.

ومنشأ هذا الورع الالتفات إلى مكان اعتبار الشرع ذلك المرجوح، وهذا الالتفات ينشأ من القول: بأن المصيب واحد، وهو مشهور قول مالك، ومنه مثار القول في مذهبه بمراعاة الخلاف، كما بينَّاه في الأصول، غير أن تلك التجويزات المعتبرة -وإن كانت مرجوحة- فهي على مراتب في القرب والبعد، والقوة والضعف، وذلك بحسب الموجب لذلك الاعتبار، فمنها ما يوجب حزازة في قلب المتقي، ومنها ما لا يوجب ذلك، فمن لم يجد ذلك، فلا ينبغي له أن يتوقف؛ لأنه يلتحق ذلك بالقسم الأول عنده، ومن وجد ذلك توقف وتورَّع وإن أفتا المفتون بالرَّاجح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به البأس"

(2)

، وهنا يصدق قولهم

(3)

:

(1)

حديث صحيح، أخرجه النسائيّ، وغيره.

(2)

أخرجه الترمذيّ رقم (2451) وابن ماجه رقم (4215) وهو ضعيف؛ لأن في سنده عبد الله بن يزيد الدمشقيّ، وهو ضعيف.

(3)

بل هو حديث مرفوع من حديث وابصة بن معبد رضي الله عنه، فقد أخرجه الإمام أحمد =

ص: 714

استفت قلبك وإن أفتوك، لكن هذا إنما يصحّ ممن نوَّر الله قلبه بالعلم، وزيَّن جوارحه بالورع، بحيث يجد للشبهة أثرًا في قلبه، كما يحكى عن كثير من سلف هذه الأمَّة، كما نقل عنهم في "الحلية" و"صفة الصفوة"، وغيرهما من كتب ذلك الشأن.

وأما إن لم يترجح الفعل على الترك، ولا الترك على الفعل، فهذا هو الأحق باسم الشبهة، والمتشابه؛ لأنه قد تعارضت فيه الأشباه، فهذا النوع يجب فيه التوقف إلى الترجيح؛ لأن الإقدام على أحد الأمرين من غير رجحان حكم بغير دليل، فيحرم؛ إذ لا دليل مع التعارض، ولعل الذي قال: إن الإقدام على الشبهة حرام؛ أراد هذا النوع، والذي قال: إن ذلك مكروه؛ أراد النوع الذي قبل هذا، والله أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

(وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ) قال في "الفتح": فيها أيضًا ما تقدّم من اختلاف الرواة (وَقَعَ فِي الْحَرَامِ) قال التوربشتيّ رحمه الله: الوقوع في الشيء السقوط فيه، وكلّ سقوط شديد يُعبّر عنه بذلك، وإنما قال:"وقع في الحرام" تحقيقًا لمداناته الوقوع، كما يقال: من أتبع نفسه هواها، فقد هلك.

وقال الأشرف رحمه الله: إنما قال: "وقع في الحرام"، ولم يقل: يوشك أن يقع تحقيقًا لمداناة الوقوع، كما يقال: من أتبع نفسه هواها، فقد هلك.

= في "مسنده" 4/ 228 عن وابصة الأسديّ، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أريد أن لا أدع شيئًا من البرّ والإثم إلا سألته عنه، وحوله عصابة من المسلمين، يستفتونه، فجعلت أتخطاهم، فقالوا: إليك يا وابصة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: دعوني، فأدنوَ منه، فإنه أحب الناس إليّ أن أدنو منه، قال:"دعوا وابصة، ادن يا وابصة" مرتين، أو ثلاثًا، قال: فدنوت منه حتى قعدت بين يديه، فقال:"يا وابصة أخبرك، أو تسألني؟ " قلت: لا، بل أخبرني، فقال:"جئت تسألني عن البرّ والإثم"، فقال: نعم، فجمع أنامله، فجعل ينكت بهن في صدري، ويقول:"يا وابصة استفت قلبك، واستفت نفسك -ثلاث مرات- البرّ ما اطمأنّت إليه النفس، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس، وأفتوك"، وهو حديث حسن لغيره، كما قال الشيخ الألبانيّ رحمه الله في "صحيح الترغيب والترهيب".

(1)

"المفهم" 4/ 491 - 492.

ص: 715

قال الطيبيّ رحمه الله: ولعلّ السرّ فيه أن حِمَى الأملاك حدوده محسوسة، يُدركها كل ذي بصر، فيحترز أن يقع فيه، اللهمّ إلا أن يغفل، أو تغلبه الدابّة الْجَمُوح، وأما حِمى ملك الأملاك، وهو محارمه، فمعقول صِرْفٌ، لا يدركه إلا الألبّاء من ذوي البصائر، كما قال صلى الله عليه وسلم:"لا يعلمهنّ كثير من الناس" يحسب أحدهم أنه يرتع حول الحمى -يعني الشبهات- إذا هو في وسط محارمه، ومن ثَمّ ورد النهي في التنزيل عن القربان منها في قوله تعالى:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187]؛ لأن قربانها هو الوقوع فيها. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وقع في الحرام" وذلك يكون بوجهين: [أحدهما]: أن من لم يتق الله تعالى، وتجرَّأ على الشبهات، أَفْضَتْ به إلى المحرمات بطريق اعتياد الجرأة، والتساهل في أمرها، فيحمله ذلك على الجرأة على الحرام المحض؛ ولهذا قال بعض المتقين: الصغيرة تجر إلى الكبيرة، والكبيرة تجر إلى الكفر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"المعاصي بريد الكفر"

(2)

، وهو معنى قوله تعالى:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين: 14].

[وثانيهما]: أن من أكثر من مواقعة الشبهات أظلم عليه قلبه، لفقدان نور العلم، ونور الورع، فيقع في الحرام، ولا يشعر به، وإلى هذا النور الإشارة بقوله تعالى:{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} الآية [الزمر: 22]، وإلى ذلك الإظلام الإشارة بقوله:{فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22]. انتهى

(3)

.

(كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى) قال الطيبيّ رحمه الله: "الحمى" هو المرعى الذي حماه الإمام، ومنع من أن يُرعَى فيه، وشبّه المحارم من حيث إنها ممنوعة الوقوع فيها، والتخطّي لحدودها، واجبة التجنّب عن جوانبها وأطرافها

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 7/ 2100.

(2)

قال في "كشف الخفا": قال ابن حجر المكيّ في "شرح الأربعين": أظنه من قول السلف، وقيل: إنه حديث.

(3)

"المفهم" 4/ 493.

ص: 716

بحِمَى السلطان، وكما يَحتاط الراعي، ويتحرّز عن مقاربة الحمى؛ حَذَرًا عن أن تتخطّاه ماشيته، فيَتعرّض لسخط السلطان، ويستوجب تأديبه، ينبغي أن يتورعّ المكلّف عن الشبهات، ويتجنّب عن مقاربتها، كيلا يقع في المحارم، ويستحقّ به السخط العظيم، والعذاب الأليمِ، ولَمّا كان التورعّ، والتهتّك مما يتبع ميلان القلب إلى الصلاح والفجور، نبّه على ذلك بقوله:"ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه"؛ ليُقبل المكلّف عليه، فيُصلحه، وَيمنعه عن الانهماك في الشهوات، والإسراع إلى تحصيل المشتهيات، حتى لا يتبادر إلى الشبهات، ولا يستعمل جوارحه في اقتراف المحرّمات. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيس، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا مَثَلٌ ضربه النبيّ صلى الله عليه وسلم لمحارم الله تعالى، وأصله: أن ملوك العرب كانت تحمي مراعي لمواشيها الخاصّة بها، وتُحرَّجُ بالتوعد بالعقوبة على من قربها، فالخائف من عقوبة السلطان يَبْعُد بماشيته من ذلك الحمى؛ لأنه إن قرب منه فالغالب الوقوع فيه، وإن أكثر الحذر؛ إذ قد تنفرد الفاذّة، وتشذّ الشاذّة، ولا تنضبط، فالحذر أن يجعل بينه وبين ذلك الحمى مسافة بحيث يَأْمَن فيها من وقوع الشاذة والفاذّة، وكذلك محارم الله تعالى، لا ينبغي أن يحوم حولها مخافة الوقوع فيها على الطريقتين المتقدمتين. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": قوله: "كراعِ يرعى

إلخ " جملة مستأنفة، وردت على سبيل التمثيل؛ للتنبيه بالشاهد على الغائب، والحمى: الْمَحْمِيّ، أُطلق المصدر على اسم المفعول، وفي اختصاص التمثيل بذلك نكتة، وهي أن ملوك العرب كانوا يَحمون لمراعي مواشيهم أماكن مختصة يتوعدون من يرعى فيها بغير إذنهم بالعقوبة الشديدة، فمثّل لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بما هو مشهور عندهم، فالخائف من العقوبة المراقب لرضا الملك يَبْعُد عن ذلك الحمى؛ خشية أن تقع مواشيه في شيء منه، فبُعْدُهُ أسلم له، ولو اشتدّ حَذَرُهُ، وغير الخائف المراقب

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 7/ 2099.

(2)

"المفهم" 4/ 493.

ص: 717

يقرب منه، وَيرْعَى من جوانبه فلا يأمن أن تنفرد الفاذّة، فتقع فيه بغير اختياره، أو يمحل المكان الذي هو فيه، ويقع الْخِصب في الحمى، فلا يملك نفسه أن يقع فيه، فالله سبحانه وتعالي هو الملك حقًّا، وحِماه محارمه.

[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله: ادَّعَى بعضهم أن التمثيل من كلام الشعبيّ، وأنه مدرج في الحديث، حَكَى ذلك أبو عمرو الداني، ولم أقف على دليله إلا ما وقع عند ابن الجارود، والإسماعيليّ من رواية ابن عون، عن الشعبيّ، قال ابن عون في آخر الحديث: لا أدري المثل من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو من قول الشعبيّ؟

قال الحافظ: وتردُّد ابن عون في رفعه لا يستلزم كونه مُدرجًا؛ لأن الإثبات قد جزموا باتصاله ورفعه، فلا يَقدح شك بعضهم فيه، وكذلك سقوط المثل من رواية بعض الرواة، كأبي فَرْوة، عن الشعبيّ لا يقدح فيمن أثبته؛ لأنهم حُفّاظ.

قال: ومما يقوِّي عدم الإدراج رواية ابن حبان الماضية، وكذا ثبوت المثل مرفوعًا في رواية ابن عباس، وعمار بن ياسر أيضًا. انتهى

(1)

.

(يُوشِكُ) بكسر الشين المعجمة، مضارع أوشك، يقال: يوشك أن يكون كذا، وهي من أفعال المقاربة، والمعنى: الدنوّ من الشيء، قال الفارابيّ: الإيشاك: الإسراع، وقال النحاة: استعمال المضارع أكثر من الماضي، واستعمال اسم الفاعل منها قليل، وقال بعضهم: وقد استعملوا ماضيًا ثلاثيًّا، فقالوا: وَشُكَ، مثلُ قَرُبَ وُشْكًا، أفاده الفيّوميّ رحمه الله

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: معنى "يوشك" هنا: يقع في الحرام بسرعة.

(أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ) بفتحٍ حرف المضارعة، والتاء، مضارع رَتَعَ، يقال: رَتَعَت الماشية رَتْعًا، من باب نفعَ، ورُتُوعًا: رَعَتْ كيف شاءت، وأرتع الغيثُ إرتاعًا: أنبت ما ترتع فيه الماشية، فهو مُرتِعٌ، والماشية راتعةٌ، والجمع رِتَاع بالكسر، والْمَرْتَع بالفتح: موضع الرتوع، والجمع المراتع، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(3)

.

(1)

"الفتح" 1/ 230 - 231 "كتاب الإيمان" رقم (52).

(2)

"المصباح المنير" 2/ 661.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 218.

ص: 718

(ألَا) أداة استفتاح وتنبيه، وقال الطيبيّ رحمه الله:"ألا" مركبّة من همزة الاستفهام، وحرف النفي؛ إعطاء معنى التنبيه على تحقّق ما بعدها. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "ألا" للتنبيه على صحة ما بعدها، وفي إعادتها وتكريرها دليل على عِظَم شأن مدلولها. انتهى.

(وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ) وفي رواية للبخاريّ: "ألا إن حمى الله في أرضه محارمه"، قال في "الفتح": والمراد بالمحارم فعل المنهيّ المحرّم، أو ترك المأمور الواجب، ولهذا وقع في رواية أبي فَرْوة التعبير بالمعاصي بدل المحارم. انتهى

(2)

.

(ألَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً) أي: قَدْرَ ما يُمْضَغ، وعَبّر بها هنا عن مقدار القلب في الرؤية، وسُمِّي القلبُ قلبًا؛ لتقلبه في الأمور، أو لأنه خالص ما في البدن، وخالص كل شيء قلبه، أو لأنه وُضِع في الجسد مقلوبًا، قاله في "الفتح".

وقال القرطبيّ رحمه الله: المضغة: القطعة من اللحم، وهي قدر ما يَمضغه الماضغ، يعني بذلك صغير جرمها، وعظيم قدرها. انتهى

(3)

.

(إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ) قال القرطبيّ رحمه الله: رَوَيناه بفتح العين في الماضي، ومضارعُه يصح بضمها، وكذلك مقابلها، وهي فسد، يفسد، ومعناه: إذا صارت تلك المضغة ذات صلاح أو ذات فساد، وقد يقال: صَلُح، وفَسُد -بضم العين فيهما-: إذا صار الصلاح أو الفساد هيئة لازمة لها، كما يقال: ظَرُف، وشَرُف. انتهى.

وقال في "الفتح": قوله: "إذا صلحت، وإذا فسدت" هو بفتح عينهما، وتضمّ في المضارع، وحَكَى الفرّاء الضمّ في ماضي صَلُح، وهو يُضَمّ وفاقًا إذا صار له الصلاح هيئة لازمة لشرف ونحوه، والتعبير بـ "إذا"؛ لتحقق الوقوع غالبًا، وقد تأتي بمعنى "إِنْ" كما هنا، وخَصَّ القلبَ بذلك؛ لأنه أمير البدن، وبصلاح الأمير تصلح الرعية، وبفساده تفسد، وفيه تنبيه على تعظيم قدر

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 7/ 2099.

(2)

"الفتح" 1/ 231.

(3)

"المفهم" 4/ 494.

ص: 719

القلب، والحثّ على صلاحه، والإشارة إلى أن لطيب الكسب أثرًا فيه، والمراد: المتعلق به من الفهم الذي ركبه الله فيه.

ويُسْتَدَلّ به على أن العقل في القلب، ومنه قوله تعالى:{فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ} [الحجّ: 46] وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] قال المفسرون: أي عقل، وعبّر عنه بالقلب؛ لأنه محل استقراره.

[فائدة]: قال في "الفتح": لم تقع هذه الزيادة التي أوّلها: "ألا وإن في الجسد مضغةً" إلا في رواية الشعبيّ، ولا هي في أكثر الروايات عن الشعبيّ، إنما تفرد بها في "الصحيحين" زكريا بن أبي زائدة عنه، وتابعه مجاهد عند أحمد، ومغيرة وغيره عند الطبرانيّ، وعَبَّر في بعض رواياته عن الصلاح والفساد بالصحة والسقم، ومناسبتها لِمَا قبلها بالنظر إلى أن الأصل في الاتّقاء والوقوع هو ما كان بالقلب؛ لأنه عماد البدن. انتهى

(1)

.

وقوله: (ألَا وَهِيَ الْقَلْبُ) قال القرطبي رحمه الله: هذا اللفظ في الأصل مصدر قَلَبْتُ الشيءَ، أقلبه قلبًا: إذا رددته على بدأته، وقَلَبتُ الإناءَ: إذا رددته على وجهه، وقلبتُ الرَّجُلَ عن رأيه: إذا صرفته عنه، وعن طريقه كذلك، ثم نُقِل هذا اللفظ، فسُمِّي به هذا العضو الذي هو أشرف أعضاء الحيوان؛ لسرعة الخواطر فيه، ولترددها عليه، وقد نظم بعض الفضلاء هذا المعنى فقال [من البسيط]:

مَا سُمِّيَ الْقَلْبُ إِلَّا مِنْ تَقَلُّبِهِ

فَاحْذَرْ عَلَى الْقَلْبِ من قَلْبٍ وتَحْوِيلِ

(2)

ثم لما نَقَلت العرب هذا المصدر لهذا العضو التَزَمَت فيه تفخيم قافه؛ تفريقًا بينه وبين أصله، وليحذر اللبيب من سرعة انقلاب قلبه؛ إذ ليس بين القلب والقلب إلا التفخيم، وما يعقلها إلا كل ذي فهم مستقيم. انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"الفتح"1/ 231 - 232.

(2)

وأنشده في "لسان العرب"، و "تاج العروس" هكذا:

مَا سُمِّيَ الْقَلْبُ إِلَّا مِنْ تَقَلبِهِ

وَالرَّأْيُ يَصْرِفُ بالإنْسَانِ أَطْوَارَا

(3)

"المفهم" 4/ 494 - 495.

ص: 720

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [41/ 4087 و 4088 و 4089 و 4090](1599)، و (البخاريّ) في "الإيمان"(52) و"البيوع"(2051)، و (أبو داود) في "البيوع"(3329 و 3330)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1205)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 241) و"الأشربة"(8/ 324) و"الكبرى"(3/ 468 و 469)، و (ابن ماجه) في "الفِتَن"(3984)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 106)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 448)، و (الحميديّ) في "مسنده"(918)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 267 و 269 و 270 و 271)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 397 و 401)، و (الدارميّ) في "مسنده"(2/ 245)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(555)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 373)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(2/ 219 و 222)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(4/ 270 و 336)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(721)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 64 و 264) و"الصغرى"(1/ 118) و"شعب الإيمان"(5740 و 5741 و 5742)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2031)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان الحثّ على الأخذ بالحلال، واجتناب الشبهات في الكسب.

2 -

(ومنها): بيان عظم موقع هذا الحديث، وأنه ذو شأن، ونباهة، فلذا قد توارد أكثر أئمة الحديث الذين خرّجوه على إيراده في "كتاب البيوع"؛ لأن الشبهة في المعاملات تقع فيها كثيرًا، وله أيضًا تعلّق بالنكاح، وبالصيد، والذبائح، والأطعمة، والأشربة، وغير ذلك، من أبواب المعاملات، كما لا يخفى على من تأمّل ذلك.

3 -

(ومنها): بيان أن الحلال، والحرام بيّنان واضحان لكلّ من له علم بالنصوص الشرعيّة.

4 -

(ومنها): أن بين الحلال والحرام مرتبة ينبغي التنبّه لها، وأخذ الحذر

ص: 721

منها، ألا وهي الشبهات، فعلى العاقل أن يُحاسب نفسه عندها، ويأخذ حذره منها، فإنه إذا أرخى العنان لنفسه فيها، جرّه ذلك إلى التجاوز إلى الحرام، فليتّق الله تعالى عند الشبهات، ليسهل عليه البعد عن المحرّمات، وإلا وقع في المهلكات.

5 -

(ومنها): ضرب المثل لإيضاح الأحكام.

6 -

(ومنها): أن من وقع في الشبهات، فقد عرّض دينه، وعرضه للطعن.

7 -

(ومنها): أن فيه تقسيمَ الأحكام إلى ثلاثة أشياء، وهو صحيح؛ لأن الشيء إما أن يُنصّ على طلبه مع الوعيد على تركه، أو يُنصّ على تركه، مع الوعيد على فعله، أو لا ينصّ على واحد منهما، فالأول الحلال البيّن، والثاني الحرام البيّن، فمعنى قوله:"الحلال بيَّن" أي: لا يحتاج إلى بيانه، ويشترك في معرفته كلّ أحد، والثالث: مشتبه؛ لخفائه، فلا يُدرى هل هو حلالٌ، أو حرامٌ، وما كان هذا سبيله ينبغي اجتنابه؛ لأنه إن كان في نفس الأمر حرامًا، فقد برئ من تبعتها، وإن كان حلالًا، فقد أُجر على تركها بهذا القصد؛ لأن الأصل في الأشياء مختلف فيه حظرًا، وإباحةً، والأوّلان قد يَرِدان جميعًا، فإن عُلم المتأخّر منهما، وإلا فهو من حيّز القسم الثالث، قاله في "الفتح"

(1)

.

8 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على جواز الجرح والتعديل، قاله البغويّ في "شرح السنّة".

9 -

(ومنها): أن بعضهم استنبط منه منع إطلاق الحلال والحرام على ما لا نصّ فيه؛ لأنه من جملة ما لم يستبن، لكن قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يعلمها كثير من الناس" يُشعر بأن منهم من يعلمها، قاله في "الفتح"

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فيما قاله أهل العلم من التنويه بشأن هذا الحديث:

قال النوويّ رحمه الله: أجمع العلماء على عظم وقع هذا الحديث، وكثرة

(1)

"الفتح" 5/ 505 - 506 "كتاب البيوع " رقم (2051).

(2)

"الفتح" 5/ 506.

ص: 722

فوائده، وأنه أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، قال جماعة: هو ثلث الإسلام، وإن الإسلام يدور عليه، وعلى حديث:"الأعمال بالنيّات"، وحديث:"لا يؤمن أحدكم حتّى يُحبّ لأخيه ما يُحبّ لنفسه"، وقيل: حديث: "ازهد في الدنيا يُحبّك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبّك الناس"، قال العلماء: وسبب عظم موقعه أنه صلى الله عليه وسلم نبّه فيه على إصلاح المطعم، والمشرب، والملبس، وغيرها، وأنه ينبغي ترك المشتبهات، فإنه سبب لحماية دينه وعرضه، وحذّر من مواقعة الشبهات، وأوضح ذلك بضرب المثل بالحمى، ثم بيّن أهمّ الأمور، وهو مراعاة القلب، فقال صلى الله عليه وسلم:"ألا إن في الجسد مضغة" إلخ، فبيّن صلى الله عليه وسلم أن بصلاح القلب يصلح باقي الجسد، وبفساده يفسد باقيه. انتهى"

(1)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: رُوي عن أبي داود السجستانيّ، قال: كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث، الثابت منها أربعة آلاف حديث، وهي ترجع إلى أربعة أحاديث: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيّات"، وقوله:"من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، وقوله:"الحلال بيّن، والحرام بيّن"، وقوله:"لا يكون المرء مؤمنًا حتى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه"، وروي مكان هذا:"ازهد في الدنيا يحبّك الله" الحديث، قال: وقد نظم هذا أبو الحسن طاهر بن مفوّز في بيتين، فقال [من الخفيف]:

عُمْدَةُ الدّينِ عِنْدَنَا كَلِمَاتٌ

مُسْنَدَات مِنْ قَوْلِ خَيْرِ الْبَرِيهْ

اتْرُكِ الْمُشْبَهَاتِ وَازْهَدْ وَدَعْ مَا

لَيْسَ يَعْنِيكَ وَاعْمَلَنَّ بِنِيَّهْ

وقال في "الفتح"، ما حاصله: وقد عظّم العلماء أمر هذا الحديث، فعَدُّوه رابع أربعة، تدور عليها الأحكام، كما نُقل عن أبي داود، وفيه البيتان المشهوران، قال: والمعروف عن أبي داود، عَدُّ:"ما نهيتكم عنه فاجتنبوه" الحديث، بدل:"ازهد فيما في أيدي الناس"، وجعله بعضهم ثالثَ ثلاثة، حذف الثاني، وأشار ابن العربي إلى أنه يُمكن أن ينتزع منه وحده، جميع الأحكام، قال القرطبي: لأنه اشتمل على التفصيل بين الحلال وغيره، وعلى

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 27.

ص: 723

تعلق جميع الأعمال بالقلب، فمن هنا يمكن أن تردّ جميع الأحكام إليه، والله المستعان. انتهى

(1)

.

وقال المازريّ رحمه الله: وإنما نبّه أهل العلم على عِظم هذا الحديث؛ لأن الإنسان إنما يعبد بطهارة قلبه وجسمه، فيكثر المذامّ المحظورات إنما تنبعث من القلب، وأشار صلى الله عليه وسلم لإصلاحه، ونبّه على أن إصلاحه هو إصلاح الجسم، وأنه الأصل، وهذا صحيح، يؤمن به حتّى من لا يؤمن بالشرع، وقد نصّ عليه الفلاسفة، والأطبّاء، والأحكام، والعبادات آلة يتصرّف الإنسان عليها بقلبه وجسمه فيها، يقع في مشكلات، وأمور ملتبسات، تكسب التساهل فيها، وتعويد النفس الجراءة عليها، وتكسب فساد الدين والعرض، فنبّه صلى الله عليه وسلم على توقّي هذه، وضرب لها مثلًا محسوسًا؛ لتكون النفس له أشدّ تصوّرًا، والعقل أعظم قبولًا، فأخبر أن الملوك لهم أحمية، وكانت العرب تعرضي الجاهليّة أن العزيز فيهم يحمي مُرُوجًا، وأفنيةً، ولا يتجاسر عليها، ولا يدنو منها أحدٌ مهابةً من سطوته، وخوفًا من الوقوع في حوزته، وهكذا محارم الله سبحانه وتعالي مَنْ تَرَك منها ما قرب، فهو من توسطها أبعد، ومن تحامى طرف النهي أُمن عليه أن يتوسّط، ومن قرب توسّط. انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله بعد ذكر نحو ما تقدّم في كلام القاضي وغيره، ما نصّه: وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة رحمهم الله أجمعين حسن، غير أنهم لو أمعنوا النظر في هذا الحديث كلّه من أوّله إلى آخره لوجدوه متضمّنًا لعلوم الشريعة كلّها، ظاهرها وباطنها، وإن أردت الوقوف على ذلك، فأعد النظر فيما عقدناه من الجمل في الحلال والحرام، والمتشابهات، وما يُصلح القلوب، وما يُفسدها، وتعلّق أعمال الجوارح بها، وحينئذ يستلزم ذلك الحديث معرفة تفاصيل أحكام الشريعة كلّها، أصولها، وفروعها، والله هو المسؤول أن يستعملنا بما علّمنا، ويوفّقنا لما يرضى به عنّا، إنه وليّ ذلك، والقادر عليه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"الفتح" 1/ 232 "كتاب الإيمان" رقم (52).

(2)

"المفهم" 4/ 499 - 500.

ص: 724

(المسألة الخامسة): في قوله صلى الله عليه وسلم: "الحلالُ بيِّنٌ، والحرامُ بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس":

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: معناه: أنَّ الحلال المحض بَيِّنٌ لا اشتباه فيه، وكذلك الحرامُ المحضُ، ولكن بين الأمرين أمورٌ تشتبه على كثيرٍ من الناس، هل هي من الحلال أم من الحرام؟ وأما الرَّاسخون في العلم، فلا يشتبه عليهم ذلك، ويعلمون من أيِّ القسمين هي.

فأما الحلالُ المحضُ: فمثل أكلِ الطيبات من الزروع، والثمار، وبهيمة الأنعام، وشرب الأشربة الطيبة، ولباسِ ما يحتاج إليه من القطن والكتَّان، أو الصوف أو الشعر، وكالنكاح، والتسرِّي وغير ذلك إذا كان اكتسابُه بعقدٍ صحيح كالبيع، أو بميراث، أو هبة، أو غنيمة.

والحرام المحض: مثلُ أكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وشرب الخمر، ونكاح المحارم، ولباس الحرير للرجال، ومثل الأكساب المحرَّمة كالرِّبا، والميسر، وثمن ما لا يحل بيعه، وأخذ الأموال المغصوبة بسرقة أو غصب، أو تدليس، أو نحو ذلك.

وأما المشتبه: فمثلُ أكل بعضِ ما اختلفَ في حلِّه أو تحريمهِ، إمَّا من الأعيان كالخيلِ والبغالِ والحميرِ، والضبِّ، وشربِ ما اختلف من الأنبذة التي يُسكِرُ كثيرُها، ولبسِ ما اختلف في إباحة لبسه من جلود السباع ونحوها، وإما من المكاسب المختلف فيها كمسائل العِينة، والتورّق

(1)

، ونحو ذلك، وبنحو هذا المعنى فسَّرَ المشتبهات أحمدُ وإسحاق وغيرهما من الأئمة.

وحاصلُ الأمر أنَّ الله تعالى أنزل على نبيّه صلى الله عليه وسلم الكتاب، وبيّن فيه للأمة ما يحتاجُ إليه من حلال وحرام، كما قال تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] قال مجاهد وغيرُه: لكلِّ شيءٍ أُمِرُوا به، أو نُهوا عنه، وقال تعالى في آخر سورة النساء التي بَيَّنَ الله فيها كثيرًا من أحكام الأموال،

(1)

"العِينة، تقع من رجل مضطر إلى نقد؛ لأن الموسر يضنّ عليه بالقرض فيضطر إلى أن يشتري منه سلعة ثم يبيعها؛ فإن اشتراها منه بائعها كانت عينة، وإنْ باعها من غيره فهي التورق. انظر: حاشية ابن القيم 9/ 250.

ص: 725

والأبضاع: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176]، وقال تعالى:{وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]، وقال تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]، ووكل بيان ما أشكل من التنْزيل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وما قُبض صلى الله عليه وسلم حتّى أكمل له ولأُمته الدينَ، ولهذا أنزل عليه بعرفة قَبْلَ موته بمدة يسيرة:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

وقال صلى الله عليه وسلم: "تَركتُكُم على بَيضاءَ نقية، لَيلُها كنهارِها، لا يَزِيغُ عنها إلَّا هالِكٌ"

(1)

.

وقال أبو ذرٍّ رضي الله عنه: توفي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وما طائِرٌ يُحرِّكُ جناحَيهِ في السَّماءِ إلَّا وقد ذَكَرَ لنا منه عِلمًا

(2)

.

ولمَّا شكَّ النَّاسُ في موته صلى الله عليه وسلم، قال عمُّه العباس رضي الله عنه: والله ما ماتَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتّى تركَ السبيلَ نهجًا واضحًا، وأحلَّ الحلالَ وحرَّم الحرامَ، ونكَحَ وطلَّق، وحارب وسالم، وما كان راعي غنم يتبع بها رؤوس الجبال يَخْبِطُ عليها العِضاةَ بمِخْبَطهِ، وَيمْدُرُ حوضَها بيده بأنصَب ولا أدأب من رسول الله صلى الله عليه وسلم كانَ فيكُم

(3)

.

ومع هذا فلا بد في الأمة من عالم يُوافق قولُه الحقَّ، فيكون هو العالِم بهذا الحكم، وغيرُه يكون الأمر مشتبهًا عليه، ولا يكون عالمًا بهذا، فإنَّ هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولا يظهرُ أهلُ باطلها على أهلِ حقِّها، فلا يكونُ الحقُّ مهجورًا غير معمولٍ به في جميع الأمصار والأعصار، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المشتبهات:"لا يَعْلَمُهُنَّ كثيرٌ من النَّاس"، فدلّ على أنَّ من

(1)

قطعة من حديث حسن، رواه أحمد (4/ 26)، وابن ماجه (43)، واللالكائيّ في "شرح أصول الاعتقاد"(79).

(2)

رواه أحمد 5/ 162 والطبرانيّ، وإسناد الطبراني صحيح.

(3)

رواه ابن سعد في "الطبقات" 2/ 266 - 267 ورجاله ثقات، إلا أنه مرسل.

ص: 726

الناس من يعلمها، وإنَّما هي مشتبهة على من لم يعلمها، وليست مشتبهة في نفس الأمر، فهذا هو السبب المقتضي لاشتباه بعض الأشياء على كثير من العلماء.

وقد يقع الاشتباه في الحلال والحرام بالنسبة إلى العلماء وغيرهم من وجه آخر، وهو أنَّ مِن الأشياء ما يعلم سببُ حِلِّه وهو الملك المتيقن، ومنها ما يُعلم سببُ تحريمه وهو ثبوتُ ملك الغير عليه، فالأوَّل لا تزولُ إباحته إلا بيقين زوال الملك عنه، اللهمَّ إلا في الأبضاع عندَ من يُوقعُ الطلاقَ بالشك فيه كمالكٍ، أو إذا غلب على الظن وقوعُه كإسحاق ابن راهويه، والثاني: لا يزول تحريمُه إلا بيقينِ العلم بانتقال الملك فيه.

وأمَّا ما لا يُعلم له أصلُ مُلكٍ كما يجده الإنسان في بيته ولا يدري: هل هو له أو لغيره؟ فهذا مشتبه، ولا يحرم عليه تناوُله؛ لأنَّ الظاهر أنَّ ما في بيته ملكُه لثبوت يده عليه، والورعُ اجتنابه، فقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"إنِّي لأنقلب إلى أهلي فأجدُ التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها، ثم أخشى أنْ تكون صدقةً، فألقيها"، متّفقٌ عليه.

فإنْ كان هناك من جنس المحظور، وشكَّ هل هو منه أم لا؟ قويت الشبهةُ، وفي حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أصابه أرقٌ من الليل، فقال له بعضُ نسائه: يا رسول الله أرقت الليلة، فقال:"إني كنتُ أصبتُ تمرة تحت جنبي، فأكلتُها وكان عندنا تمر من تمر الصدقة، فخشيتُ أنْ تكون منه"

(1)

.

ومن هذا أيضًا ما أصلهُ الإباحة كطهارة الماء، والثوب، والأرض إذا لم يتيقن زوال أصله، فيجوز استعمالُه، وما أصله الحظر كالأبضاع ولحوم الحيوان، فلا يحلُّ إلا بيقين حلّه من التذكية والعقد، فإنْ تردَّد في شيء من ذلك لظهور سبب آخر رجع إلى الأصل فبنى عليه، فيبني فيما أصله الحرمة على التحريم، ولهذا نهى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن أكل الصيدِ الذي يجدُ فيه الصائد أثر سهمٍ غير سهمه، أو كلبٍ غير كلبهِ، أو يجده قد وقع في ماء. متّفقٌ عليه،

(1)

حديث حسن، رواه أحمد 2/ 183 و 193.

ص: 727

وعَلَّل بأنَّه لا يُدرى: هل مات من السبب المبيح له أو من غيره؟ فيرجع فيما أصله الحلُّ إلى الحِلِّ، فلا ينجسُ الماءُ والأرض والثوبُ بمجرّد ظنِّ النجاسة، وكذلك البَدَنُ إذا تحقق طهارته، وشكَّ: هل انتقضت بالحدث؟ عند جمهور العلماء خلافًا لمالك: إذا لم يكن قد دخل في الصلاة، وقد صحَّ عن النَبيِّ صلى الله عليه وسلم:"أنَّه شُكي إليه الرجلُ يُخَيَّل إليه أنَّه يجد الشيءَ في الصلاة"، فقال:"لا ينصرف حتّى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا"، متّفق عليه.

وفي بعض الروايات: "في المسجد" بدل: "الصلاة".

وهذا يعمُّ حالَ الصلاةِ وغيرها، فإنْ وُجِدَ سبب قويٌّ يغلب معه على الظنِّ نجاسة ما أصلُه الطهارة مثل أنْ يكونَ الثوبُ يلبسه كافر لا يتحرَّزُ من النجاسات، فهذا محلّ اشتباه، فمن العلماء من رخّص فيه أخذًا بالأصل، ومنهم من كرهه تنزيهًا، ومنهم من حرّمه إذا قوي ظن النجاسة مثل أنْ يكون الكافر ممن لا تباح ذبيحتُه أو يكون ملاقيًا لعورته كالسراويل والقميص، وترجع هذه المسائل وشبهها إلى قاعدةِ تعارض الأصل والظاهر، فإنَّ الأصل الطهارة والظاهر النجاسة، وقد تعارضت الأدلَّةُ في ذلك.

فالقائلون بالطهارة يستدلون بأن الله أحلَّ طعام أهل الكتاب، وطعامهم إنَّما يصنعونه بأيديهم في أوانيهم، وقد أجاب النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم دعوة يهودي، وكان هو وأصحابه يلبسون ويستعملون ما يُجلَب إليهم مما نَسَجَه الكفارُ بأيديهم من الثياب والأواني، وكانوا في المغازي يقتسمون ما وقع لهم من الأوعية والثياب، ويستعملونها، وصحَّ عنهم أنَّهم استعملوا الماء مِنْ مزادة مشركة، رواه البخاريّ.

وقد فسَّر الإمام أحمد الشبهة بأنَّها منْزلةٌ بينَ الحلال والحرام، يعني: الحلالَ المحض والحرام المحض، وقال: من اتَّقاها، فقد استبرأ لدينه، وفسَّرها تارةً باختلاط الحلال والحرام.

ويتفرَّعُ على هذا معاملة من في ماله حلال وحرام مختلط، فإنْ كان أكثرُ ماله الحرامَ، فقال أحمد: ينبغي أنْ يجتنبه إلا أنْ يكونَ شيئًا يسيرًا، أو شيئًا لا يُعرف، واختلف أصحابه: هل هو مكروه أو محرَّم؟ على وجهين.

وإنْ كان أكثرُ ماله الحلال، جازت معاملته والأكلُ من ماله، وقد روى

ص: 728

الحارث عن عليِّ أنَّه قال في جوائز السلطان: لا بأس بها، ما يُعطيكم من الحلال أكثر مما يُعطيكم من الحرام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يُعاملون المشركين وأهلَ الكتاب مع علمهم بأنَّهم لا يجتنبون الحرامَ كلَّه.

وإنْ اشتبه الأمر فهو شبهة، والورع تركُه. قال سفيان: لا يعجبني ذلك، وتركه أعجب إليَّ.

وقال الزُّهريُّ ومكحول: لا بأس أنْ يؤكل منه ما لم يعرف أنَّه حرامٌ بعينه، فإنْ لم يُعلم في ماله حرام بعينه، ولكنه علم أنَّ فيه شبهةٌ، فلا بأس بالأكل منه، نصَّ عليه أحمد في رواية حنبل.

وذهب إسحاق ابنُ راهويه إلى ما رُوي عن ابن مسعود وسلمانَ وغيرِهما منَ الرُّخصة، وإلى ما رُوي عَنِ الحسنِ وابنِ سيرين في إباحةِ الأخذ مما يقضي من الرِّبا والقمار، نقله عنه ابنُ منصور.

وقال الإمام أحمد في المال المشتبه حلاله بحرامه: إنْ كان المالُ كثيرًا، أخرج منه قدرَ الحرام، وتصرَّف في الباقي، وإنْ كان المالُ قليلًا، اجتنبه كلَّه، وهذا لأنَّ القليل إذا تناول منه شيئًا، فإنَّه تَبْعُدُ معه السلامةُ من الحرام بخلاف الكثير، ومن أصحابه مَنْ حَمَل ذلك على الورع دُون التَّحريم، وأباح التصرُّف في القليل والكثير بعد إخراج قدر الحرام منه، وهو قولُ الحنفيَّة وغيرهم، وأخذ به قومٌ مِنْ أهل الورع منهم بشرٌ الحافي.

ورخَّص قومٌ من السَّلف في الأكل ممن يُعلم في ماله حرام ما لم يُعلم أنّه من الحرام بعينه، كما تقدَّم عن مكحولٍ والزُّهريِّ، وروي مثلُه عن الفُضيل بن عياض.

وروي في ذلك آثارٌ عن السَّلف، فصحَّ عن ابن مسعود أنَّه سُئِلَ عمَّن له جارٌ يأكلُ الرِّبا علانية ولا يتحرَّجُ من مالٍ خبيثٍ يأخُذُه يدعوه إلى طعامه، قال: أجيبوهُ، فإنَّما المَهْنأ لكم والوِزْرُ عليه

(1)

، وفي رواية أنَّه قال: لا أعلمُ له شيئًا إلّا خبيثًا أو حرامًا، فقال: أجيبوه، وقد صحح الإمام أحمد هذا عن ابن

(1)

أخرجه: عبد الرزاق (14675 و 14676) وإسناده صحيح.

ص: 729

مسعود، ولكنَّه عارضه بما رُوي عنه أنَّه قال: الإثم حَوَازُّ القلوب

(1)

.

وروي عن سلمان مثلُ قولِ ابنِ مسعود الأول

(2)

، وعن سعيد بن جبير، والحسن البصري، ومُورِّق العِجْليّ، وإبراهيم النَّخعيّ، وابنِ سيرين وغيرهم، والآثار بذلك موجودة في كتاب "الأدب" لحُمَيد ابن زَنجويه، وبعضها في كتاب "الجامع" للخلال، وفي مصنَّفَي عبد الرزاق وابن أبي شيبة وغيرهم.

ومتى علم أنَّ عينَ الشيء حرامٌ، أُخِذَ بوجه محرم، فإنَّه يحرم تناولُه، وقد حَكى الإجماعَ على ذلك ابنُ عبد البرِّ وغيرُه، وقد رُوي عن ابن سيرين في الرجل يُقضى من الربا، قال: لا بأس به، وعن الرجل يُقضى من القمار قال: لا بأس به، خرَّجه الخلال بإسناد صحيح، ورُوي عن الحسن خلاف هذا، وأنَّه قال: إنَّ هذه المكاسب قد فسدت، فخذوا منها شبه المضطَر.

وعارض المروي عن ابن مسعود وسلمان، ما روي عن أبي بكر الصدِّيق أنَّه أكل طعامًا ثم أُخبر أنَّه من حرام، فاستقاءه

(3)

.

وقد يقع الاشتباه في الحكم، لكون الفرع متردِّدًا بين أصول تجتذبهُ،

(1)

قول ابن مسعود هذا، أخرجه: هناد في "الزهد"(934)، والطبراني في "الكبير" (8748 و 8749) وذكره الهيثميّ في "المجمع"1/ 176 وقال: رواه الطبرانيّ كلّه بأسانيد رجالها ثقات.

وقوله: "حواز القلوب": رواه شمر بتشديد الواو، من حاز يحوز، أي: يجمع القلوب ويغلب عليها، والمشهور بتشديد الزاي، وهو المشهور عند المحدّثين: جمع حازة، وهي الأمور التي تَحُزُّ في القلوب وتَحُكُّ وتؤثر. انظر:"النهاية" 1/ 459، "تاج العروس" 15/ 125 (حرز).

(2)

أخرجه: عبد الرزاق (14677).

(3)

أخرجه: البخاري 5/ 53 (3842)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(5770) من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت:"كان لأبي بكر غلامٌ يخرج له الخرج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه فجاء يومًا بشيءٍ فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أحسنُ الكهانة إلا أني خدعتهُ فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه. فأدخل أبو بكر يده، فقاء كل شيء في بطنه".

ص: 730

كتحريم الرجل زوجته، فإنَّ هذا متردِّد بين تحريم الظهار الذي ترفعه الكفَّارةُ الكبرى، وبين تحريم الطَّلقة الواحدة بانقضاء عدتها الذي تُباحُ معه الزوجة بعقدٍ جديدٍ، وبين تحريم الطَّلاق الثلاث الذي لا تُباح معه الزوجةُ بدون زوج وإصابة، وبين تحريم الرجل عليه ما أحلَّه الله له مِنَ الطَّعام والشراب الذي لا يحرمه، وإنَّما يُوجب الكفَّارة الصُّغرى، أو لا يُوجب شيئًا على الاختلاف في ذلك، فمن ها هنا كَثُرَ الاختلافُ في هذه المسألة في زمن الصحابة فمن بعدهم.

وبكل حال فالأمور المشتبهة التي لا تتبين أنَّها حلال ولا حرام لكثير من الناس، كما أخبر به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، قد يتبيَّنُ لبعضِ النَّاس أنَّها حلال أو حرام، لِمَا عِنده مِنْ ذلك من مزيدِ علمٍ، وكلام النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يدلُّ على أنَّ هذه المشتبهات مِنَ النَّاسِ من يعلمُها، وكثيرٌ منهم لا يعلمها، فدخل فيمن لا يعلمها نوعان:

[أحدهما]: من يتوقَّف فيها؛ لاشتباهها عليه.

[والثاني]: من يعتقدُها على غيرِ ما هي عليه، ودل كلامُه على أنَّ غير هؤلاء يعلمها، ومرادُه أنَّه يعلمها على ما هي عليه في نفس الأمر من تحليل أو تحريم، وهذا من أظهر الأدلة على أنَّ المصيبَ عند الله في مسائل الحلال والحرام المشتبهة المختلفِ فيها واحدٌ عند الله صلى الله عليه وسلم، وغيره ليس بعالم بها، بمعنى أنَّه غيرُ مصيب الحاكم الله فيها في نفس الأمر، وإنْ كان يعتقدُ فيها اعتقادًا يستندُ فيه إلى شبهة يظنُّها دليلًا، ويكون مأجورًا على اجتهاده، ومغفورًا له خطؤه لعدم اعتماده. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله، وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): فيما يتعلّق بقوله صلى الله عليه وسلم: "فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه":

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: قسَّم الناس في الأمور المشتبهة إلى قسمين، وهذا إنَّما هو بالنسبة إلى من هي مشتبهة عليه، وهو ممن لا يعلمها، فأمَّا مَنْ كان عالمًا بها، واتَّبع ما دلَّه علمهُ عليها، فذلك قسمٌ ثالثٌ، لم يذكره لظهور حكمه، فإنَّ هذا القسم أفضلُ الأقسام الثلاثةِ؛ لأنَّه عَلِمَ حكمَ الله في هذه الأمور المشتبهة على النَّاس، واتَّبع علمَه في ذلك. وأما من لم يعلم حكم الله فيها، فهم قسمان:

ص: 731

[أحدهما]: من يتقي هذه الشبهات؛ لاشتباهها عليه، فهذا قد استبرأ لدينه وعرضه.

وفي روايةٍ للترمذيّ في هذا الحديث: "فمن تركها استبراءً لدينه وعرضه، فقد سَلِمَ"، والمعنى: أنَّه يتركُها بهذا القصد -وهو براءةُ دينه وعرضه من النقص- لا لغرضٍ آخر فاسدٍ من رياءٍ ونحوه.

وفيه دليل على أنَّ طلب البراءة للعرض ممدوحٌ كطلب البراءة للدَّين، ولهذا ورد:"أنَّ ما وقى به المرءُ عِرضَه، فهو صدقةٌ"

(1)

.

وفي رواية في "الصحيحين"

(2)

في هذا الحديث: "فمن ترك ما يشتبه عليه مِنَ الإثمِ، كان لما استبانَ أتركَ" يعني: أنَّ من ترك الإثمَ مع اشتباهه عليه، وعدم تحققه، فهو أولى بتركه إذا استبان له أنَّه إثمٌ، وهذا إذا كان تركه تحرُّزًا من الإثم، فأمَّا من يَقصِدُ التصنعَ للناسِ، فإنَّه لا يتركُ إلا ما يَظُنُّ أنَّه ممدوحٌ عندهم تركُهُ.

[القسم الثاني]: من يقع في الشبهات مع كونها مشتبهةً عنده، فأمَّا مَنْ أتى شيئًا مما يظنُّه الناس شبهةً، لعلمه بأنَّه حلال في نفس الأمر، فلا حَرَج عليه من الله في ذلك، لكن إذا خشيَ من طعن الناس عليه بذلك، كان تركُها حينئذ استبراءً لعرضه، فيكون حسنًا، وهذا كما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لمن رآه واقفًا مع صفية:"إنَّها صفيَّةُ بنتُ حُيى"، متفقٌ عليه.

وخرج أنس إلى الجمعة، فرأى الناسَ قد صلّوا ورجعوا، فاستحيى، ودخل موضعًا لا يراهُ النَّاس فيه، وقال:"من لا يستحيي من الناس لا يستحيي من الله"، وخرّجه الطبراني مرفوعًا، ولا يصحُّ

(3)

.

(1)

أخرجه: الدارقطني 3/ 28، والحاكم 2/ 50، وهو حديث ضعيف ضعّفه الذهبي في "التلخيص"؛ لأن في سنده عبد الحميد بن الحسن الهلاليّ ضغفوه، وأقره ابن الملقن في "مختصر استدراك الذهبي" 1/ 556.

(2)

هكذا عزاه ابن رجب إلى "الصحيحين"، والظاهر أنها رواية للبخاريّ، لا لمسلم، فليُتنبّه.

(3)

رواه الطبرانيّ في: "الأوسط"(7159)، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 8/ 27، وفيه جماعة لم أعرفهم.

ص: 732

وإنْ أتى ذلك لاعتقاده أنَّه حلال، إمَّا باجتهادٍ سائغٍ، أو تقليدٍ سائغٍ، وكان مخطئًا في اعتقاده، فحكمهُ حكمُ الذي قبلَه، فإنْ كان الاجتهادُ ضعيفًا، أو التقليدُ غيرَ سائغٍ، وإنَّما حمل عليه مجرّد اتباع الهوى، فحكمُهُ حكمُ من أتاه مع اشتباهه عليه، والذي يأتي الشبهات مع اشتباهها عليه، فقد أخبر عنه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّه وقع في الحرام، وهذا يفسَّر بمعنيين:

[أحدهما]: أنْ يكونَ ارتكابُهُ للشبهة مع اعتقاده أنَّها شبهة ذريعة إلى ارتكابه الحرام الذي يعتقد أنَّه حرام بالتدريج والتسامح، وفي رواية في "الصحيحين"

(1)

لهذا الحديث: "ومن اجترأَ على ما يشكُّ فيه مِنَ الإثمِ، أوْشَكَ أنْ يُواقِعَ ما استبانَ"، وفي رواية:"ومَنْ يُخالطِ الرِّيبةَ، يوشِكُ أن يَجْسُرَ"

(2)

أي: يَقرُب أنْ يُقْدِم على الحرام المحضِ، والْجَسورُ: المقدام الذي لا يهابُ شيئًا، ولا يُراقب أحدًا، ورواه بعضهم:"يجشُر" بالشِّين المعجمة؛ أي: يرتع، والجَشْر: الرَّعْيُ، وجَشَرتُ الدابة: إذا رعيتها، وفي مراسيل أبي المتوكل الناجيّ، عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ يرعى بجنباتِ الحرامِ، يوشكُ أنْ يخالطهُ، ومن تهاون بالمحقِّرات، يُوشِكُ أنْ يُخالِطَ الكبائر"

(3)

.

[والمعنى الثاني]: أنَّ من أقدم على ما هو مشتبهٌ عنده، لا يدري: أهو حلالٌ أو حرام، فإنَّه لا يأمن أنْ يكون حرامًا في نفس الأمر، فيُصادِفُ الحرام وهو لا يدري أنَّه حرامٌ. وقد رُوي من حديث ابن عمر عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم. قال:"الحلالُ بيِّنٌ والحرامُ بيَّن وبينهما مُشتبهاتٌ، فمن اتَّقاها، كان أنزَه لدينِهِ وعِرضه، ومن وقعَ في الشُّبهَاتِ أوشَكَ أنْ يقع في الحَرامِ، كالمرتع حَولَ الحِمى، يُوشِكُ أنْ يُواقعَ الحِمى وهو لا يشعر"، خرَّجه الطبراني

(4)

وغيره.

واختلف العلماء: هل يُطيع والديه في الدُّخول في شيءٍ من الشُّبهة أم لا

(1)

هي رواية للبخاريّ، فقط، كما قال بعض المحقّقين، فليُتنبّه.

(2)

هي رواية لأبي داود (3329)، والنسائيّ (8/ 327)، وابن حبّان (721).

(3)

وهو ضعيف لإرساله.

(4)

قال الهيثميّ رحمه الله في "المجمع": رواه الطبرانيّ في "الأوسط"، وفي إسناده سعد بن زنبور، قال أبو حاتم: مجهول.

ص: 733

يُطيعهما؟ فرُوي عن بشر بن الحارث، قال: لا طاعة لهما في الشُّبهةِ، وعن محمد بن مقاتل العبَّادانيِّ قال: يُطيعهما، وتوقف أحمد في هذه المسألة، وقال: يُداريهما، وأبى أنْ يُجيبَ فيها.

وقال أحمد: لا يشبعُ الرَّجل مِنَ الشُّبهة، ولا يشتري الثوبَ للتَجمُّل من الشبهة، وتوقف في حدِّ ما يُؤكل وما يُلبس منها، وقال في التَّمرة يلقيها الطيرُ: لا يأكلها، ولا يأخذها، ولا يتعرَّضُ لها.

وقال الثوريّ في الرجل يجد في بيته الأفلُسَ أو الدَّراهِم: أحبُّ إليَّ أنْ يتنزّه عنها، يعني: إذا لم يدرِ من أين هي، وكان بعضُ السَّلف لا يأكلُ إلا شيئًا يعلمُ من أينَ هو، ويسأل عنه حتى يقفَ على أصله، وقد رُويَ في ذلك حديثٌ مرفوعٌ، إلا أنَّ فيه ضعفًا

(1)

، ذكر ذلك كلّه ابن رجبّ رحمه الله

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): في قوله صلى الله عليه وسلم: "كالرَّاعي يرعى حولَ الحِمى يُوشِكُ أنْ يرتَعَ فيه، ألا وإنَّ لكل ملكٍ حِمى، وإنَّ حِمى اللهِ محارمه"، قال ابن رجب رحمه الله: هذا مَثَلٌ ضربه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لمن وقع في الشبهات، وأنَّه يقرُب وقوعه في الحرام المحض، وفي بعض الروايات أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وسأضرب لذلك

(1)

أخرجه: ابن أبي الدنيا في "الورع"(115)، والطبراني في "الكبير"25/ 428، والحاكم 4/ 125 - 126، وأبو نعيم في "الحلية" 6/ 105 من حديث أم عبد الله أخت شداد بن أوس، أنَّها بعثت إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بقدح لبن عند فطره وهو صائم، وذلك في طول النهار وشدة الحر، فردّ إليها الرَّسول:"أنى لك هذا اللبن؟ " قالت: من شاةٍ لي؛ فردّ إليها رسولها: "أنى لك هذا الشاة؟ "، قالت: اشتريتها من مالي؛ فشرب، فلما كان من غد، أتت أم عبد الله النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله: بعثت إليك بذلك اللبن مرثية لك من طول النهار وشدة الحرِّ، فرددت فيه إليَّ الرسول، فقال النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:"بذلك أُمِرت الرسل قبلي، أنْ لا تأكل إلا طيبًا، ولا تعمل إلّا صالحًا".

ذكره الهيثمي في "المجمع" 10/ 291 قال: "وفيه أبو بكر بن أبي مريم وهو ضعيف"، وقال الذهبي في "تلخيص المستدرك" 4/ 126:"ابن أبي مريم واهٍ".

(2)

"جامع العلوم والحكم" 1/ 203 - 206.

ص: 734

مثلًا"، ثم ذكر هذا الكلامَ، فجعل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مثلَ المحرمات كالحِمى الذي تحميه الملوكُ، ويمنعون غيرهم من قُربانه، وقد جعل النَّبي صلى الله عليه وسلم حول مدينته اثني عشر ميلًا حمى محرَّمًا لا يُقطعُ شجرُه ولا يُصادُ صيدُه، رواه مسلم، وحمى عمرُ وعثمان أماكنَ ينبت فيها الكلأ لأجل إبل الصدقة، رواه البخاريّ.

والله عز وجل حمى هذه المحرَّمات، ومنع عباده من قربانها وسمَّاها حدودَه، فقال:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187] وهذا فيه بيان أنَّه حدَّ لهم ما أحلَّ لهم وما حرَّم عليهم، فلا يقربوا الحرامَ، ولا يتعدَّوا الحلال، ولذلك قال في آية أخرى:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] وجعل من يرعى حول الحمى، أو قريبًا منه جديرًا بأنْ يَدخُلَ الحِمى ويرتع فيه، فكذلك من تعدَّى الحلال، ووقع في الشبهات، فإنَّه قد قارب الحرام غايةَ المقاربة، فما أخلقَهُ بأنْ يُخالِطَ الحرامَ المحضَ، ويقع فيه، وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّه ينبغي التباعد عن المحرَّماتِ، وأنْ يجعل الإنسان بينه وبينها حاجزًا.

وقد خرّج الترمذيّ، وابن ماجه مِنْ حديثِ عبد الله بن يزيد، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يبلغُ العبدُ أنْ يكونَ من المتَّقين حَتّى يَدَعَ ما لا بأسَ به حذرًا مما به بأسٌ"

(1)

.

وقال أبو الدرداء: تمامُ التقوى أنْ يتقي الله العبدُ، حتّى يتقيَه مِنْ مثقال ذرَّة، وحتّى يتركَ بعضَ ما يرى أنَّه حلال، خشيةَ أنْ يكون حرامًا، حجابًا بينه وبينَ الحرام.

وقال الحسنُ: ما زالتِ التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام.

وقال الثوريّ: إنما سُمّوا المتقين؛ لأنَّهم اتَّقَوْا ما لا يُتَّقى، وروي عن ابن عمر قال: إنِّي لأحبُّ أنْ أدعَ بيني وبين الحرام سترةً من الحلال لا أخرقها.

(1)

رواه الترمذيّ (2451)، وابن ماجه (4215)، وقال الترمذيّ: حسن غريب. مع أن في سنده عبد الله بن يزيد الدمشقيّ، وهو ضعيف.

ص: 735

وقال ميمون بن مهران: لا يسلم للرجل الحلالُ حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزًا من الحلال.

وقال سفيان بن عيينة: لا يصيب عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبينَ الحرام حاجزًا من الحلال، وحتى يدعَ الإثم وما تشابه منه.

وَيَستدِلُّ بهذا الحديثِ مَنْ يذهب إلى سدِّ الذرائع إلى المحرَّمات وتحريم الوسائل إليها، وَيدُلُّ على ذلك أيضًا من قواعدِ الشَّريعة تحريمُ قليلِ ما يُسكر كثيرُه، وتحريمُ الخلوة بالأجنبية، وتحريمُ الصَّلاة بعد الصُّبح وبعدَ العصرِ سدًّا لذريعة الصَّلاة عند طُلوع الشَّمس وعندَ غروبها، ومنعُ الصَّائم من المباشرة إذا كانت تحرِّكُ شهوتَه، ومنع كثيرٍ من العلماءِ مباشرةَ الحائضِ فيما بين سرّتها ورُكبتها إلا مِنْ وراء حائلٍ، كما كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يأمر امرأتَه إذا كانت حائضًا أنْ تَتَّزر، فيباشِرُها مِنْ فوق الإزار، متّفقٌ عليه.

ومن أمثلة ذلك وهو شبيه بالمثل الذي ضربه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: من سيَّب دابَّته ترعى بقُرْب زرع غيرِه، فإنَّه ضامن لما أفسدته من الزرع، ولو كان ذلك نهارًا، وكذا الخلاف لو أرسل كلبَ الصَّيدِ قريبًا من الحرم، فدخل الحرمَ فصاد فيه، ففي ضمانه روايتان عن أحمد، وقيل: يضمنه بكلِّ حال، ذكر هذا كلّه ابن رجب رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة): في قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإنَّ في الجسد مضغةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجسدُ كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلب"، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: فيه إشارةٌ إلى أنَّ صلاحَ حركاتِ العبدِ بجوارحه، واجتنابه للمحرَّمات واتَّقاءه للشُّبهات بحسب صلاحِ حركةِ قلبِه.

فإنْ كان قلبُه سليمًا، ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يُحبه الله، وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه، صلحت حركاتُ الجوارح كلّها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرَّمات كلها، وتَوَقٍّ للشبهات حذرًا مِنَ الوقوعِ في المحرّمات.

وإنْ كان القلبُ فاسدًا، قدِ استولى عليه اتباعُ هواه، وطلب ما يحبُّه، ولو

(1)

"جامع العلوم والحكم" 1/ 203 - 210.

ص: 736

كرهه الله، فسدت حركاتُ الجوارح كلها، وانبعثت إلى كلِّ المعاصي والمشتبهات بحسب اتِّباع هوى القلب.

ولهذا يقال: القلبُ مَلِكُ الأعضاء، وبقيَّةُ الأعضاءِ جنودُه، وهم مع هذا جنودٌ طائعون له، منبعثون في طاعته، وتنفيذ أوامره، لا يخالفونه في شيءٍ من ذلك، فإنْ كان الملكُ صالحًا كانت هذه الجنود صالحة، وإنْ كان فاسدًا كانت جنودُه بهذه المثابَةِ فاسدةً، ولا ينفع عند الله إلّا القلبُ السليم، كما قال تعالى:{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} [الشعراء: 88 - 89] وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: "اللهم إني أسألُكَ قلبًا سليمًا"

(1)

، فالقلب السليم: هو السالم من الآفات والمكروهات كلِّها، وهو القلبُ الذي ليس فيه سوى محبة الله وما يحبُّه الله، وخشية الله، وخشية ما يُباعد منه.

وفي "مسند الإمام أحمد" عن أنس، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"لا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ حتى يستقيمَ قلبُه"

(2)

.

والمراد باستقامة إيمانه: استقامةُ أعمال جوارحه، فإنَّ أعمالَ الجوارحِ لا تستقيمُ إلا باستقامة القلب، ومعنى استقامة القلب: أنْ يكونَ ممتلئًا مِنْ محبَّةِ الله، ومحبَّة طاعته، وكراهة معصيته.

وقال الحسن لرجل: داوِ قلبكَ؛ فإنَّ حاجة الله إلى العباد صلاحُ قلوبهم، يعني: أنَّ مراده منهم ومطلوبه صلاحُ قلوبهم، فلا صلاحَ للقلوب حَتَّى تستقرَّ فيها معرفةُ اللهِ وعظمتُه ومحبّته وخشيتُهُ ومهابتُه ورجاؤهُ والتوكلُ عليهِ، وتمتلئَ

(1)

أخرجه: أحمد 4/ 123 و 125، والترمذي (3407)، والنسائي 3/ 54، وفي "الكبرى" له (10648)، وابن حبان (1974)، والطبراني في "الكبير"(7135، و 7175)، والحاكم 1/ 508 من حديث شداد بن أوس، به. وإسناده فيه سعيد الجريريّ، مختلط، وحماد بن سلمة روى عنه بعد الاختلاط، لكن صححه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" رقم (3228).

(2)

وتمامه: "ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، ولا يدخل رجل الجنّة لا يأمن جاره بوائقه"، وذكره الهيثميّ في "المجمع" (1/ 53) وقال: فيه علي بن مسعدة، وثّقه جماعة، وضعّفه آخرون. انتهى. وقال في "التقريب": صدوق له أوهام، من السابعة.

ص: 737

مِنْ ذَلِكَ، وهذا هوَ حقيقةُ التوحيد، وهو معنى "لا إله إلا الله"، فلا صلاحَ للقلوب حتَّى يكونَ إلهُها الذي تألَهُه وتعرفه وتحبُّه وتخشاه هوَ الله وحده لا شريكَ لهُ، ولو كانَ في السماوات والأرض إله يُؤَلَّه سوى الله، لفسدت بذلك السماوات والأرض، كما قالَ تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].

فَعُلِم بذلك أنَّه لا صلاحَ للعالَمٍ العلويِ والسُّفليّ معًا حتى تكونَ حركاتُ أهلها كلُّها لله، وحركاتُ الجسدِ تابعة لحركةِ القلب وإرادته، فإنْ كانت حركتُه وإرادتُه لله وحدَه، فقد صَلَحَ وصَلَحَتْ حركاتُ الجسدِ كلِّه، وإنْ كانت حركةُ القلب وإراداته لغيرِ الله تعالى فسدَ، وفسدت حركاتُ الجسد بحسب فسادِ حركة القلب.

وروى الليثُ، عن مجاهدٍ في قوله تعالى:{أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151] قال: لا تحبُّوا غيري.

وفي "صحيح الحاكم" عن عائشة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"الشركُ أخفى من دبيب الذرِّ على الصفا في اللَّيلة الظَّلماء، وأدناهُ أنْ تُحِبَّ على شيءٍ من الجور، وأنْ تُبغض على شيءٍ من العدل، وهل الدِّينُ إلا الحبُّ والبغض؟ قال الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] ". فهذا يدلُّ على أنَّ محبةَ ما يكرهه الله، وبغضَ ما يُحبه متابعةٌ للهوى، والموالاة على ذلك والمعاداة عليه من الشرك الخفي، ويدل على ذلك قوله:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فجعل الله علامة الصدق في محبته اتباعَ رسولِهِ، فدلَّ على أنَّ المحبة لا تتمُّ بدون الطاعة والموافقة.

قال الحسن: قال أصحابُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إنّا نُحِبُّ ربنا حبًا شديدًا، فأحبَّ الله أنْ يجعل لحبِّه عَلَمًا، فأنزل الله هذه الآية:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] ومن هنا قال الحسن: اعلم أنَّك لن تُحِبَّ الله حتى تُحِبَّ طاعته.

وسئل ذو النون: متى أُحِبُّ ربي؟ قالَ: إذا كانَ ما يُبغضه عندك أمرَّ من الصبر، وقال بشر بن السَّرِي: ليس من أعلام الحبّ أنْ تُحبَّ ما يُبغِضُه حبيبك، وقال أبو يعقوب النهرجوري: كلُّ من ادَّعى محبة الله عز وجل، ولم

ص: 738

يُوافق الله في أمره ونهيه، فدعواه باطل. وقال رُويم: المحبة: الموافَقة في كل الأحوال، وقال يحيى بنُ معاذ: ليس بصادقٍ من ادَّعى محبة الله ولم يحفظ حدوده، وعن بعض السَّلف قال: قرأتُ في بعض الكتب السالفة: من أحبَّ الله لم يكن عنده شيء آثرَ من رضاه، ومن أحبَّ الدنيا لم يكن عنده شيء آثر من هوى نفسه.

وفي "السنن" عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أعطى للهِ، ومنع لله، وأحب لله، وأبغض لله، فقد استكمل الإيمان"

(1)

، ومعنى هذا أنَّ حركات القلب والجوارح إذا كانت كلَّها لله فقد كَمُلَ إيمانُ العبد بذلك ظاهرًا وباطنًا، ويلزمُ من صلاح حركات القلب صلاحُ حركات الجوارح، فإذا كان القلب صالحًا ليس فيه إلا إرادة الله وإرادة ما يريده لم تنبعثِ الجوارحُ إلا فيما يُريده الله، فسارعت إلى ما فيه رضاه، وكَفَّتْ عما يكرهه، وعما يخشى أنْ يكونَ مما يكرهه، وإنْ لم يتيقن ذلك.

قال الحسن: ما نظرتُ ببصري، ولا نطقتُ بلساني، ولا بطشتُ بيدي، ولا نهضتُ على قدمي حتّى أنظر على طاعةٍ أو على معصية، فإنْ كانت طاعةٌ تقدمت، وإنْ كانت معصية تأخَّرت.

وقال محمد بن الفضل البَلخيّ: ما خطوتُ منذ أربعين سنة خطوةً لغير الله، وقيل لداود الطاليّ: لو تنحيتَ من الظلِّ إلى الشمس، فقال: هذه خُطا لا أدري كيف تكتب.

فهؤلاء القوم لمّا صلحت قلوبُهم، فلم يبق فيها إرادةٌ لغير الله عز وجل، صلحت جوارحُهم، فلم تتحرّك إلا لله عز وجل، وبما فيه رضاه، والله تعالى أعلم. ذكر ذلك كلّه ابن رجب رحمه الله

(2)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(المسألة التاسعة): قال أبو العبّاس القرطبي رحمه الله: ثم اعلم أن الله تعالى خصّ جنس الحيوان بهذا العضو المسمّى بالقلب، وأودع فيه المعنى الذي تنتظم به المصالح المقصودة من ذلك النوع، فتجد البهائم تدرك مصالحها،

(1)

قال الترمذيّ رحمه الله: حديث حسن، وهو كما قال.

(2)

"جامع العلوم والحكم" 1/ 210 - 214.

ص: 739

ومنافعها، وتميّز بين مفاسدها ومضارّها، مع اختلاف أشكالها، وصُوَرها، إذ منها ما يمشي على بطنه، ومنها ما يمشي على أربع، ومنها ما يطير بجناحيه، ثم خصّ الله تعالى من بين سائر الحيوان نوع الإنسان الذي هو المقصود الأول من الكونين، والمعنيّ في العالمين بهذا القلب المخصوص المشتمل على هذا المعنى المخصوص الذي به تميَّز الإنسان، ووقع بينه وبين سائر الحيوان الفرقان، وهو المعنى الذي به يفهم القلب المفهومات، ويحصل به على معرفة الكلّيّات والجزئيّات، ويعرف به فَرقَ ما بين الواجبات، والجائزات، والمستحيلات، وقد أضاف الله تعالى العقل إلى القلب، كما أضاف السمع إلى الأذن، والإبصار إلى العين، فقال تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [الحج: 46]، وهو ردّ على من قال من أهل الضلال: إن العقل في الدماغ، وهو قول من زلّ عن الصواب، وزاغ، كيف لا، وقد أخبرنا عن محلّه خالقه القدير:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 14] وقد روي ذلك عن أبي حنيفة، وما أظنّها عنه معروفة.

وإذا فهمت أن الإنسان إنما شرّفه الله تعالى على سائر الحيوان بهذا القلب، وأن هذا القلب لم يَشْرُف من حيث صورته الشكليّة، فإنها موجودة لغيره من الحيوانات البهيميّة، بل من حيث هو مقرّ لتلك الخاصيّة الإلهيّة، علمت أنه أشرف الأعضاء، وأعزّ الأجزاء؛ إذ ليس ذلك المعنى موجودًا في شيء منها.

ثم إن الجوارح مسخّرةٌ له، ومطيعة، فما استقرّ فيه ظهر عليها، وعملت على مقتضاه، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرّ، وعند هذا انكشف لك معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه"، ولمّا ظهر ذلك وجبت العناية بالأمور التي يصلح بها القلب؛ ليتّصف بها، وبالأمور التي تفسد القلب؛ ليتجنّبها، ومجموع ذلك علومٌ، وأعمالٌ، وأحوال:

فالعلوم ثلاثة:

[الأول]: العلم بالله تعالى، وصفاته، وأسمائه، وتصديق رسله فيما جاؤوا به.

ص: 740

[والثاني]: العلم بأحكامه عليهم، ومراده منهم.

[والثالث]: العلم بمساعي القلوب، من خواطرها، وهمومها، ومحمود أوصافها، ومذمومها.

وأما أعمال القلوب، فالتحلّي بالمحمود من الأوصاف، والتخلّي من المذموم منها، ومنازلة المقامات، والترقّي عن مفضول المنازلات، إلى سنيّ الحالات.

وأما الأحوال، فمراقبة الله تعالى في السرّ والعلن، والتمكّن من الاستقامة على السنن، وإلى هذا أشار رسول الله-صلى الله عليه وسلم حيث قال:"أن تعبد الله كأنك تراه" متّفق عليه، وتفصيل هذه المعاقد الْجُمليّة توجد في تصانيف محقّقي الصوفيّة.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: بل هي مفصّلة في الكتاب والسنّة، فمن أمعن النظر، وأجال الفكر ظفر بمقاصدها، وأما ما اصطلح عليه المتأخّرون من الألفاظ المصطلحيّة، فلا حاجة للمكلّف إليها، ولا هي مما تكلّم بها النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي جعل الله تعالى هداية الأمة على يديه، ولا كان يعرفها الصحابة الكرام رضي الله عنهم، ولا التابعون لهم بإحسان، ولو سئلوا عنها لما استطاعوا أن يفهموها، فضلًا عن أن يجيبوا عنها، ولو طُلب من الأئمة الأربعة الفقهاء المحققين، أو من الأئمة الستة المحدثين الناقدين أن يحُلّوا بعض غوامضها لما وجدوا إلى ذلك سبيلًا، فهيهات هيهات أن يكون هذا من مقاصد الدين، الذي أكمله الله سبحانه وتعالي، وأتمّه، والنبيّ صلى الله عليه وسلم حيّ بين ظهراني أصحابه، فلا يقبل الزيادة ولا النقص، قال الله عز وجل في محكم كتابه:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} الآية [المائدة: 3] وقد حذّر النبيّ صلى الله عليه وسلم من محدثات الأمور، فكان يقول في خطبته:"إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار"، رواه النسائيّ رقم (1578) بسند صحيح.

وأخرج الترمذيّ من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، بعد صلاة الغداة، موعظة بليغة، ذَرَفت منها العيون،

ص: 741

ووجلت منها القلوب، فقال رجل: إن هذه موعظة مُودِّع، فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال:"أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبدٌ حبشي، فإنه من يعش منكم، يرى اختلافًا كثيرًا، وإياكم ومحدثات الأمور، فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم، فعليه بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضُّوا عليها بالنواجذ".

وذكر الإمام الذهبيُّ رحمه الله في "ميزان الاعتدال" عن الحافظ سعيد بن عمرو البردعيّ، أنه قال: شَهِدت أبا زرعة، وقد سئل عن الحارث بن أسد المحاسبيّ، وكتبه؟ فقال للسائل: إياك وهذه الكتب، هذه كتب بِدَعٍ وضلالات، وعليك بالأثر، فإنك تجد فيه ما يُغنيك، قيل له: في هذه الكتب عبرة، فقال: من لم يكن له في كتاب الله عبرة، فليس له في هذه الكتب عبرة، بلغكم أن سفيان، ومالكًا، والأوزاعيّ صنّفوا هذه الكتب في الخطرات، والوساوس، ما أسرع الناس إلى البدع.

قال الذهبيّ: مات الحارث سنة (243) وأين مثل الحارث؟ فكيف لو رأى أبو زرعة تصانيف المتأخرين، كـ "القوت" لأبي طالب، وأين مثل "القوت"؟ كيف لو رأى "بهجة الأسرار" لابن جهضم، و "حقائق التفسير" للسلميّ، لطار لبّه، كيف لو رأى تصانيف أبي حامد الطوسيّ في ذلك على كثرة ما في "الإحياء" من الموضوعات، كيف لو رأى "الغنية" للشيخ عبد القادر، كيف لو رأى "فصوص الحكم" و"الفتوحات المكيّة"، بلى لَمّا كان الحارث لسان القوم في ذلك العصر، كان معاصره ألف إمام في الحديث، فيهم مثل أحمد بن حنبل، وابن راهويه، ولَمّا صار أئمة الحديث مثل ابن الدخميسيّ، وابن شحانة، كان قطب العارفين كصاحب "الفصوص"، وابن سفيان، نسأل الله العفو، والمسامحة، آمين. انتهى كلام الذهبيّ رحمه الله

(1)

.

وبالجملة فمن لم يستغن بكتاب الله تعالى، وكتب السنة المطهرة، كالكتب الستة، وغيرها، فلا يرجى منه خير أبدًا، فعليه أن يبكي على نفسه، ويتوب إلى الله تعالى، وشماله أن يصلح قلبه، وقالبه، والله تعالى أعلم.

(1)

"ميزان الاعتدال"(1/ 430 - 431).

ص: 742

ولنعد إلى كلام القرطبيّ، قال رحمه الله:

[تنبيه]: الجوارح، وإن كانت تابعة للقلب، فقد يتأثّر القلب بأعمالها، للارتباط الذي بين الباطن والظاهر، والقلب مع الجوارح كالملك مع الرعيّة، إن صلح صلحت، ثم يعود صلاحها عليه بزيادة مصالح ترجع إليه، ولذلك قيل: المَلِكُ سوقٌ، ما نفق عنده جُلب إليه.

وقد نصّ على هذا المعنى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"إن الرجل ليصدق، فينكت في قلبه نكتة بيضاء، حتى يُكتب عند الله صدّيقًا، وإن الرجل ليكذب الكذبة، فيسودّ قلبه حتى يُكتب عند الله كذّابًا"

(1)

.

وأخرج أحمد، والترمذيّ، وابن ماجه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم، قال:"إن العبد إذا أخطأ خطيئة، نُكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع، واستغفر، وتاب صُقل قلبه، وإن عاد زيد فيها، حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين: 14] "، قال الترمذيّ: هذا حديث حسن صحيح.

وقال مجاهد: القلب كالكفّ تقبض منه بكل ذنب أصبع، ثم يُطبع، وإلى هذا المعنى الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم:"إن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كلّه" متّصلًا بقوله: "الحلال بيّن، والحرام بيّنٌ"؛ إشعارًا بأن أكل الحلال ينوّره، ويُصلحه، وأكل الحرام، والشبهة يُفسده، ويقسيه، ويُظلمه، وقد وجد ذلك أهلُ الورع، حتّى قال بعضهم: استسقيت جنديًّا، فسقاني شَرْبة ماء، فعادت قسوتها على قلبي أربعين صباحًا، وقيل: الأصل المصحّح للقلوب والأعمال أكل الحلال، وُيخاف على آكل الحرام، والمتشابه أن لا يُقبل له عملٌ، ولا تُسمع له دعوةٌ، ألا تَسمع قوله تعالى:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}

(1)

هكذا ساقه القرطبيّ، ولم يذكر من أخرجه، والذي في "الصحيحين" من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن الصدق يهدي إلى البرّ، وإن البرّ يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صدّيقًا. وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابًا".

ص: 743

[المائدة: 27]، وآكل الحرام المسترسل في الشبهات ليس بمتّقٍ على الإطلاق، وقد عضد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"أيها الناس إن الله طيّبٌ، ولا يقبل إلا طيّبًا، وإن الله تعالى أمر المؤمنين، بما أمر به المرسلين، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، وقال: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} الآية [المؤمنون: 51]، ثم ذكر الرجل يُطيل السفر أشعث، أغبر، يقول: يا ربّ، يا ربّ، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغُذِي بالحرام، فأنّى يُستجاب له"، رواه مسلم، والترمذيّ، ولَمّا شرب أبو بكر جرعة لبن من شبهة استقاءها، فأجهده ذلك حتى تقيّأها، فقيل له: أكل ذلك في شربة؟ فقال: والله لو لم تخرج إلا بنفسي لأخرجتها، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"كلّ لحم نبت من سُحت فالنار أولى به"

(1)

.

وعند هذا يعلم الواحد منا قدر المصيبة التي هو فيها، وعِظَم المحنة التي ابتُلي بها، إذ المكاسب في هذه الأوقات قد فسدت، وأنواع الحرام والشبهات قد عمّت، فلا يكاد أحد منّا اليوم يتوصّل إلى الحلال، ولا ينفكّ عن الشبهات، فإن الواحد منا، وإن اجتهد فيما يعلمه، فكيف يعمل فيمن يعامله؟ مع استرسال الناس في المحرّمات، والشبهات، وقلّة من يتّقي ذلك، من جميع الأصناف، والطبقات، مع ضرورة المخالطة، والاحتياج للمعاملة، وعلى هذا فالخلاص بعيدٌ، والأمر شديدٌ، ولولا النهي عن القنوط واليأس، لكان ذلك الأولى بأمثالنا من الناس، لكنّا إذا دفعنا عن أنفسنا أصول المحرّمات، واجتهدنا في ترك ما يمكننا من الشبهات، فعفو الله تعالى مأمولٌ، وكرمه مرجوّ، فلا ملجأ إلا هو، ولا مفزع إلا إليه، ولا استعانة إلا به، ولا حول، ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

، وهو بحثٌ نفيسٌ، وتحقيقٌ أنيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

عزاه في الهامش إلى الطبرانيّ في "الكبير"(19/ 136) ويحتاج إلى التأكّد، والله أعلم.

(2)

"المفهم" 4/ 494 - 498.

ص: 744

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4088]

(

) - (وَحَدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا إسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، قَالَا: حَدثنا زَكَرِيَّاءُ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبيعيّ، الكوفيّ، ثقةٌ مأمون [8](ت 187) أو (191)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

والباقون ذُكروا في الباب، والبابين قبله.

[تنبيه]: رواية وكيع، وعيسى بن يونس، كلاهما عن زكريا بن أبي زائدة لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4089]

(

) - (وَحَدَّثنا إسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُطَرِّفٍ، وَأَبِي فَرْوَةَ الْهَمْدَانِيُّ (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ -يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيَّ- عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدٍ، كُلُّهُمْ عَنِ الشَعْبِيَّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحَدِيثِ، غَيْرَ أَن حَدِيثَ زَكَرِيَّاءَ أتمُّ مِنْ حَدِيثِهِمْ، وَأكثَرُ)

(1)

.

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(مُطَرَّفُ) بن طَرِيف أبو بكر، أو أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقة فاضلٌ، من صغار [6](ت 141) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 472.

3 -

(أَبُو فَرْوَةَ الْهَمْدَانِيُّ) عروة بن الحارث الْهَمْدانيّ، أبو فَرْوة الأكبر، ثقةٌ [5].

(1)

وفي نسخة: "وأكبر".

ص: 745

رَوَى عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، والشعبيّ، وأبي الضُّحَى، وغيرهم.

وروى عنه الأعمش، وسليمان التيميّ، والسفيانان، وجرير، وغيرهم.

قال عثمان الدارميّ عن ابن معين: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

روى له البخاري مقرونًا بغيره، قلت: لم يذكر له المؤلف شيخًا من الصحابة، وقد ذكره ابن حبان في ثقات التابعين وحديثه في مسند الدارمي، فالله أعلم.

أخرج له البخاريّ مقرونًا بغيره، والمصنّف مقرونًا أيضًا بمطرّف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

[تنبيه]: من يكنى بأبي فروة في الرواة ثلاثة

(1)

:

1 -

أبو فروة الهمْدانيّ، عروة بن الحارث هذا.

ب- وأبو فروة الْجُهَنيّ، مسلم بن سالم الكوفيّ، وهو الأصغر، صدوق من السادسة، أخرج له الجماعة، إلا الترمذيّ، وسيأتي عند مسلم في "كتاب اللباس والزينة" برقم (2067)، وليس له عنده إلا هذا الحديث.

ج- وأبو فَرْوة الْجَزَريّ الرُّهاويّ، واسمه يزيد بن سِنان التميميّ، ضعيف، من كبار السابعة، وهو من أفراد الترمذيّ، وابن ماجه.

4 -

(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل بابين.

5 -

(يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ) المدني، نزيل الإسكندريّة، ثقةٌ [8](ت 181)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 35/ 245.

6 -

(ابْنُ عَجْلَانَ) هو: محمد المدنيّ، صدوقٌ، إلا أنه اختَلَطت عليه أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه[5](ت 148)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 10/ 150.

7 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعِيدِ) بن وهب الْهَمْدانيّ الْخَيْوَانيّ -بخاء معجمة- الكوفيّ، ثقةٌ [4].

(1)

أما أبو فروة الأشجعيّ عند النسائيّ في "عمل اليوم والليلة" فصوابه: فروة الأشجعيّ، بدون "أبو"، فتنبّه.

ص: 746

رَوَى عن أبيه، والشعبيّ، وأبي حازم سلمان الأشجعيّ، وعائشة، ولم يدركها.

وروى عنه عبد الملك بن عُمير، وهو من أقرانه، والأعمش، ومالك بن مِغْوَل، ومحمد بن عجلان، وشعبة، وخالد الحذاء، وغيرهم.

قال أبو حاتم، والنسائيّ: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد: كان قليل الحديث.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والترمذيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

[تنبيه]: قال في "تهذيب التهذيب": وقع عند مسلم في "البيوع" من طريق يعقوب بن عبد الرحمن القاريّ، عن ابن عجلان، عن عبد الرحمن بن سعيد، عن الشعبيّ، عن النعمان بن بشير حديث:"الحلالُ بَيِّنٌ"، ووقع عند أبي عوانة في "صحيحه"، وابن حبان من طريق عبد الله بن عياش القتبانيّ، عن ابن عجلان، عن سعيد بن عبد الرحمن الهمدانيّ، عن الشعبيّ، ورواه أبو عوانة أيضًا من طريق أبي ضَمْرة، عن ابن عجلان، عن عبد الله بن سعد، عن الشعبيّ، فكأنه اختُلِف في اسمه، والله أعلم. انتهى

(1)

.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الشَّعْبِيِّ) أي: روى كلّ هؤلاء الثلاثة، وهم: مُطرِّف بن طريف، وأبو فروة الْهَمْدانيّ، وعبد الرحمن بن سعيد هذا الحديث عن الشعبيّ، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (أتمُّ مِنْ حَدِيثِهِمْ، وَأكثَرُ) ووقع في بعض النسخ: "وأكبر" بالباء، قال النوويّ رحمه الله: قوله: "أتمّ من حديثهم، وأكبر" هو بالباء الموحّدة، وفي كثير من النسخ بالمثلثّة، والله أعلم. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: رواية مطرّف بن طَرِيف، عن الشعبيّ ساقها أبو عوانة في "مسنده" (3/ 398) فقال:

(1)

"تهذيب التهذيب" 6/ 169.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 30.

ص: 747

وحدثنا إسماعيل القاضي، قثنا على بن عبد الله، قثنا

(1)

جرير، عن مُطَرِّف، عن الشعبيّ، عن النعمان بن بشير، قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "لكل ملك حمى، وإن حمى الله حلاله وحرامه، والمشتبهات بين ذلك، كما أن راعيًا لو رَعَى بجانب الحمى لم تلبث غنمه أن ترتع وسطه، فاجتنبوا المشتبهات".

ورواية أبي فَرْوة الْهَمْدانيّ، عن الشعبي، ساقها البخاريّ في "صحيحه"، فقال:

وحدّثنا عبد الله بن محمد، حدثنا ابن عيينة، عن أبي فَرْوة، سمعت الشعبيّ، سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم (ح) وحدّثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن أبي فَرْوة، عن الشعبيّ، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "الحلال بَيِّن، والحرام بَيِّن، وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما شُبِّه عليه من الإثم، كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يَشُكّ فيه من الإثم، أوشك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حِمَى الله، من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه". انتهى.

ورواية عبد الرحمن بن سعيد عن الشعبيّ ساقها أيضًا أبو عوانة في "مسنده"، مقرونًا بالحارث بن يزيد الْعُكليّ- لكنه سمّاه سعيد بن عبد الرحمن، وقد سبق أنه مختلف في اسمه- فقال (3/ 399):

(5468)

- حدّثنا عليّ بن عثمان النفيليّ، قثنا سعيدبن عيسى بن تَلِيد، قثنا الْمُفَضَّل، قال: حدّثني ابن عجلان، عن الحارث بن يزيد الْعُكْليّ، وسعيد بن عبد الرحمن، عن عامر الشعبيّ، سمع النعمان بن بشير يقول: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "اجعلوا بينكم وبين الحرام سُتْرةً من الحلال، مَن جَعَل ذلك كان أشدّ استبراءًا لعرضه ودينه، ومن أرتع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى، يوشك أن يقع فيه، وإن لكل ملك حِمًى، وإن حمى الله في الأرض محارمه". انتهى، والله تعالى أعلم.

(1)

قوله: "قثنا" في الموضعين مختصر من "قال: حدّثنا"، فتنبّه.

ص: 748

وبالسند المتصل إلى المؤئف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4090]

(

) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، حَدثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ؛ أنهُ سَمِعَ نُعْمَانَ بْنَ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ، صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ بِحِمْصَ، وَهُوَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الْحَلَالُ بَيِّن، وَالْحَرَامُ بَينٌ"، فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ زَكَرِيَّاءَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، إِلَى قَوْلِهِ: "يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ) الْفَهْميّ مولاهم، أبو عبد الله المصريّ، ثقةٌ [11](ت 248)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.

2 -

(أَبُوهُ) شعيب بن الليث بن سعد الْفَهْميّ مولاهم، أبو عبد الملك المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ نبيلٌ، من كبار [10](ت 199)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.

3 -

(جدُّهُ) الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهميّ، أبو الحارث المصريّ الإمام الشهير، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ حجة [7](175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

4 -

(خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ) الْجُمَحيّ، أو السَّكْسكيّ، أبو عبد الرحيم المصريّ، ثقةٌ فقيةٌ [6](ت 139)(ع) تقدم في "الإيمان" 87/ 462.

5 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ) الليثيّ مولاهم، أبو العلاء المصريّ، قيل: مدنيّ الأصل، صدوق، يقال: اختلط [6] مات بعد (130) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 87/ 462.

6 -

(عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عُتبة بن مسعود الْهُذليّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ [4] مات قبل (120)(م 4) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 27/ 1361.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (نُعْمَانَ بْنَ بَشِيرِ) وفي الرواية السابقة: "النعمان بن بشير" بـ "أل"، وكلاهما صحيح؛ لأنها زائدة للمح الأصل، فيجوز إثباتها، وحذفها، كما قال ابن مالك رضي الله عنه في "الخلاصة":

ص: 749

وَبَعْضُ الاعْلَامِ عَلَيْهِ دَخَلَا

لِلَمْحِ مَا قَدْ كَانَ عَنْهُ نُقِلَا

كَالْفَضْلِ وَالْحَارِثِ وَالنُّعْمَانِ

فِذِكْرُ ذَا وَحَذْفُهُ سِيَّانِ

وقوله: (بِحِمْصَ) بكسر الحاء المهملة، وسكون الميم، آخره صاد مهملة، مصروفًا وغير مصروف، بلدة معروفة بالشام.

[تنبيه]: رواية عون بن عبد الله، عن الشعبيّ ساقها أبو عوانة في "مسنده" (3/ 399) فقال:

(5470)

- حدّثنا عباس الدُّوريّ، وأحمد بن عليّ الخراز، قالا: ثنا شُجاع بن أشرس، قثنا الليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن عون بن عبد الله، عن عامر الشعبيّ، أنه سمع النعمان بن بشير بن سعد، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يخطب الناس بِحِمْصَ، وهو يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحلال بَيِّنٌ، والحرام بَيِّنٌ، وبين ذلك أمور مشتبهات، فمن ترك ذلك، فهو أسلم لدينه ولعرضه، ومن وقع فيهنّ فيوشك أن يقع في الحرام، كالمرتِع إلى جانب الحمى، يوشك أن يقع فيه". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(42) - (بَابُ بَيْعِ الْبَعِيرِ، وَاسْتِثْنَاءِ رُكُوبِهِ)

قال القرطبيّ رحمه الله: البعير من الإبل بمنزلة الإنسان من الناس، يقال للجمل: بعير، وللناقة: بعير، تقول العرب: صَرَعني بعيرك، وشَرِبتُ من لبن بعيري، وإنما يقال له: بعير إذا أجذع

(1)

، والجمع أبعرة، وأباعر، وبُعران. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: البَعِيرُ: مثل الإنسان، يقع على الذكر والأنثى، يقال: حَلَبتُ بَعِيرِي، والجَمَلُ: بمنزلة الرجل يختص بالذكر، والنَّاقَةُ: بمنزلة

(1)

"الجَذَعَ" من الإبل: ما استكمل أربعة أعوام، ودخل في السنة الخامسة.

(2)

"المفهم" 4/ 501.

ص: 750

المرأة تختص بالأنثى، والبَكْرُ، والبَكْرَةُ: مثل الفتى والفتاة، والقَلُوصُ؛ كالجارية، هكذا حكاه جماعة، منهم ابن السِّكِّيت، والأزهريّ، وابن جنيّ، ثم قال الأزهريّ: هذا كلام العرب، ولكن لا يعرفه إلا خواصّ أهل العلم باللغة، ووقع في كلام الشافعيّ رحمه الله في الوصية: لو قال: أعطوه بعيرًا، لم يكن لهم أن يعطوه ناقةً، فحَمَل البعير على الجمل، ووجهه أن الوصية مبنية على عرف الناس، لا على مُحْتَمِلات اللغة التي لا يعرفها إلا الخواصّ، وحَكَى في "كفاية المتحفظ" معنى ما تقدَّم، ثم قال: وإنما يقال: جملٌ، أو ناقةٌ، إذا أَربعا، فأما قبل ذلك، فيقال: قَعُود، وبَكْرٌ، وبَكْرَةٌ، وقَلُوصٌ، وجمع البَعِيرِ: أَبْعِرَةٌ، وأَبَاعِرُ، وبُعْرَانُ، بالضم. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4091]

(715)

(2)

- (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ، عَنْ عَامِرٍ، حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ قَدْ أَعْيَا، فَأَرَادَ أَنْ يُسَيِّبَهُ، قَالَ: فَلَحِقَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَدَعَا لِي، وَضَرَبَهُ، فَسَارَ سَيْرًا لَمْ يَسِرْ مِثْلَهُ، قَالَ:"بِعْنِيهِ بِوُقِيَّةٍ"، قُلْتُ: لَا، ثُمَّ قَالَ:"بِعْنِيهِ"، فَبِعْتُهُ بِوُقِيَّةٍ

(3)

، وَاسْتَثْنَيْتُ عَلَيْهِ حُمْلَانَهُ إِلَى أَهْلِي، فَلَمَّا بَلَغْتُ أَتَيْتُهُ بِالْجَمَلِ، فَنَقَدَنِي ثَمَنَهُ، ثُمَّ رَجَعْتُ، فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِي، فَقَالَ:"أَتُرَانِي مَاكَسْتُكَ لآخُذَ جَمَلَكَ؟ خُذْ جَمَلَكَ، وَدَرَاهِمَكَ، فَهُوَ لَكَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم تقدّموا في البابين الماضيين، و"زكرياء" هو: ابن أبي زائدة، و"عامر" هو: الشعبيّ.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه مسلسلٌ بالكوفيين، إلا الصحابيّ رضي الله عنه، فمدنيّ، ومسلسلٌ بالتحديث إلا موضعًا واحدًا، وفيه رواية الراوي عن أبيه، وفيه جابر رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 54.

(2)

هذا مكرّر، فتنبّه.

(3)

وفي نسخة: "بأوقيّة" في الموضعين.

ص: 751

شرح الحديث:

(عَنْ عَامِرِ) بن شَرَاحيل الشعبيّ، وفي رواية للبخاريّ:"سمعت عامرًا"(حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حرام الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما (أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ) لم يذكر في هذه الرواية مكان سفره، وفي رواية مغيرة التالية:"قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية سالم بن أبي الجعد:"قال: أقبلنا من مكة إلى المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية أبي نضرة:"كنّا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في سفر"، وفي رواية أبي المتوكّل:"سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، أظنّه غازيًا"، وهذه الروايات كلها عند مسلم.

قال في "الفتح": وكذا أبهمه أكثر الرواة عن جابر، ومنهم من قال:"كنت في سفر"، ومنهم من قال:"كنت في غزوة تبوك"، ولا منافاة بينهما، وفي رواية أبي المتوكل في "الجهاد":"لا أدري غزوة، أو عمرة"، ويؤيد كونه كان في غزوة، قوله في آخر رواية أبي عوانة، عن مغيرة:"فأعطاني الجمل وثمنه، وسهمي مع القوم"، لكن جزم ابن إسحاق، عن وهب بن كيسان، بأن ذلك كان في غزوة ذات الرقاع، من نخل، وكذا أخرجه الواقديّ، من طريق عطية بن عبد الله بن أنيس، عن جابر، قال الحافظ رحمه الله: وهي الراجحة في نظري؛ لأن أهل المغازي أضبط لذلك، من غيرهم، وأيضًا فقد وقع في رواية الطحاويّ: أن ذلك وقع في رجوعهم من طريق مكة إلى المدينة

(1)

، وليست طريقُ تبوك ملاقية لطريق مكة، بخلاف طريق غزوة ذات الرقاع، وأيضًا فإن في كثير من طرقه: أنه صلى الله عليه وسلم سأله في تلك القصة: "هل تزوجت؟ "، قال: نعم، قال:"أتزوجت بكرًا، أم ثيبًا؟ "، الحديث، وفيه اعتذاره بتزوجه الثيب، بأن أباه استُشهِد بأحد، وترك أخواته، فتزوج ثيبًا لتمشطهن، وتقوم عليهن، فأشعر بأن ذلك كان بالقرب من وفاة أبيه، فيكون وقوع القصة في ذات الرقاع أظهر، من وقوعها في تبوك؛ لأن ذات الرقاع كانت بعد أُحد بسنة واحدة، على الصحيح، وتبوك كانت بعدها بسبع سنين، والله أعلم، لا جرم جزم البيهقيّ في

(1)

هذه الرواية عند مسلم، كما أسلفته، فكان الأولى عزوها إليه، فتنبّه.

ص: 752

"الدلائل" بما قال ابن إسحاق. انتهى

(1)

.

(عَلَى جَمَلٍ لَهُ قَدْ أَعْيَا) أي: تَعِبَ (فَأَرَادَ أَنْ يُسَيِّبَهُ) أي: يطلقه، وليس المراد أن يجعله سائبة، لا يركبه أحد، كما كانوا يفعلون في الجاهلية؛ لأنه لا يجوز في الإسلام، ففي أول رواية مغيرة، عن الشعبيّ التالية:"قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلاحق بي، وتحتي ناضح لي قد أعيا، ولا يكاد يسير"، والناضح -بنون، وضاد معجمة، ثم حاء مهملة- هو الجمل الذي يُستَقَى عليه، سُمِّي بذلك لنضحه بالماء حال سقيه، واختُلِف في تعيين هذه الغزوة، كما سيأتي بعد هذا، ووقع عند البزار من طريق أبي المتوكل، عن جابر: أن الجمل كان أحمر، قاله في "الفتح"

(2)

.

(قَالَ: فَلَحِقَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) بكسر الحاء المهملة؛ أي: أدركني، يقال: لَحِقْتُهُ، ولَحِقْتُ به أَلْحَقُ، من باب تَعِبَ لَحَاقًا بالفتح: أدركته، وأَلْحَقْتُهُ، بالألف مثله، وأَلْحَقْتُ زيدًا بعمرو: أتبعته إياه، فَلَحِقَ هو، وأَلْحَقَ أيضًا، وفي الدعاء:"إن عذابك بالكفار مُلِحَقٌ"، يجوز بالكسر: اسم فاعل، بمعنى لَاحِق، ويجوز بالفتح: اسم مفعول؛ لأن الله تعالى أَلْحَقَهُ بالكفار؛ أي: يُنْزِله بهم، وأَلْحَقَ القائفُ الولدَ بأبيه: أخبر بأنه ابنه؛ لِشَبَه بينهما يظهر له، واسْتَلْحَقْتُ الشيءَ: ادّعيته، ولَحقِهَ الثمنُ لُحُوقًا: لزمه، فاللُّحوقُ: اللزوم، والَّلحاقُ: الإدراك، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(3)

.

(فَدَعَا لِي، وَضَرَبَهُ) وفي رواية للبخاريّ: "فمرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فضربه، فدعا له"، قال في "الفتح": كذا فيه بالفاء فيهما كأنه عَقَّب الدعاءَ له بضربه، ولأحمد من هذا الوجه:"فضربه برجله، ودعا له"(فَسَارَ سَيْرًا لَمْ يَسِرْ مِثْلَهُ) وفي رواية يونس بن بُكير، عن زكريا، عند الإسماعيليّ:"فضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا له، فمشى مِشْيَةً ما مشى قبل ذلك مثلها"، وفي رواية مغيرة الآتية:"فزجره، ودعا له".

(1)

"الفتح" 5/ 664 - 665.

(2)

"الفتح" 6/ 598 "كتاب الشروط" رقم (2718).

(3)

"المصباح المنير" 2/ 550.

ص: 753

وفي رواية عطاء وغيره، عن جابر رضي الله عنه عند البخاريّ في "الوكالة":"فمَرّ بي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: من هذا؟ قلت: جابر بن عبد الله، قال: ما لك؟ قلت: إني على جمل ثِفَال، فقال: أمعك قَضِيب؟ قلت: نعم، قال: أعطنيه، فأعطيته، فضربه، فزجره، فكان من ذلك المكان من أول القوم".

وللنسائيّ من هذا الوجه: "فأَزْحَف، فزجره النبيّ صلى الله عليه وسلم، فانبَسَط، حتى كان أمام الجيش".

وفي رواية وهب بن كيسان، عن جابر عند البخاريّ في "البيوع":"فتخلف، فنزل، فحَجَنه بِمْحجنه، ثم قال: اركب، فركبت، فقد رأيته أَكُفّه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وعند أحمد من هذا الوجه: "فقلت: يا رسول الله أبطأ بي جملي هذا، قال: أَنِخْه، وأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أعطني هذه العصا، أو اقطع لي عصًا من شجرة، ففعلت، فأخذها، فنخسه بها نَخَسَات، فقال: اركب، فركبت".

وللطبرانيّ من رواية زيد بن أسلم، عن جابر:"فأبطأ عليّ، حتى ذهب الناس، فجعلت أرقبه، ويُهِمّني شأنه، فإذا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: أجابر؟ قلت: نعم، قال: ما شأنك؟ قلت: أبطأ عليّ جملي، فَنَفَث فيها -أي: العصا- ثم مَجَّ من الماء في نحره، ثم ضربه بالعصا، فوثب".

ولابن سعد من هذا الوجه: "ونضح ماءً في وجهه، ودُبُره، وضربه بعُصَيّة، فانبعَثَ، فما كِدت أُمسكه".

وفي رواية أبي الزبير، عن جابر الآتية عند مسلم:"فكنت بعد ذلك أَحبس خِطامه؛ لأسمع حديثه"، وله من طريق أبي نَضْرة، عن جابر:"فنخسه، ثم قال: اركب بسم الله"، زاد في رواية مغيرة التالية:"فقال لي: كيف ترى بعيرك؟ قلت: بخير، قد أصابته بركتك".

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("بِعْنِيهِ بِوُقِيَّةٍ") بالواو، وفي بعض النسخ:"بأوقيّة" بالهمزة، وكلاهما صحيح، وقال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في النسخ "بوقيّة"، وهي لغة صحيحة، سَبَقت مرارًا، ويقال: أوقيّة، وهي أَشْهَر، وفيه أنه لا بأس بطلب

ص: 754

البيع من مالك السلعة، وإن لم يَعْرِضها للبيع. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": و"الوُقيّة" من الفضة كانت في عُرف ذلك الزمان أربعين درهمًا، وفي عرف الناس بعد ذلك عشرة دراهم، وفي عرف أهل مصر اليوم اثنا عشر درهمًا

(2)

، وسيأتي بيان الاختلاف في قدر الثمن قريبًا -إن شاء الله تعالى-.

(قُلْتُ: لَا) أي: لا أبيعه، وفي رواية أحمد:"فكرهت أن أبيعه"، وفي رواية مغيرة التالية:"قال: أتبيعنيه؟ فاستحييت، ولم يكن لنا ناضح غيره، فقلت: نعم"، وللنسائيّ من هذا الوجه:"وكانت لي إليه حاجة شديدة".

وعند أحمد من رواية نُبيح -وهو بالنون، والموحَّدة، والمهملة، مصغرًا-:"قال: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت بائعي جملك هذا؟ قال: قلت: نعم، قال: بكم؟ قال: قلت: بوقية، قال: قال لي: بخ بخ، كم في أوقية من ناضح وناضح؟ قال: قلت: يا نبي الله ما بالمدينة ناضح أحبّ أنه لنا مكانه، قال: فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: قد أخذته بوقية".

وفي رواية عطاء: "قال: بعنيه، قلت: بل هو لك يا رسول الله، قال: بعنيه"، زاد النسائي من طريق أبي الزبير:"قال: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه"، ولابن ماجه من طريق أبي نضرة، عن جابر:"فقال: أتبيع ناضحك هذا؟ والله يغفر لك"، زاد النسائيّ من هذا الوجه:"وكانت كلمة تقولها العرب: افعل كذا، والله يغفر لك"، ولأحمد:"قال سليمان -يعني بعض رواته-: فلا أدري كم من مرة" يعني: قال له: والله يغفر لك". وللنسائيّ من طريق أبي الزبير، عن جابر: "استَغْفَر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة البعير خمسًا وعشرين مرةً"، وفي رواية وهب بن كيسان، عن جابر، عند أحمد: "أتبيعني جملك هذا يا جابر؟ قلت: بل أهبه لك، قال: لا، ولكن بعنيه".

قال الحافظ رحمه الله: وفي كل ذلك رَدٌّ لقول ابن التين: إن قوله: "لا" ليس بمحفوظ في هذه القصّة. انتهى

(3)

.

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 31.

(2)

"الفتح" 6/ 600.

(3)

"الفتح" 6/ 299 - 600.

ص: 755

(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("بِعْنِيهِ"، فَبِعْتُهُ بِوُقِيَّةٍ) وفي رواية سالم بن أبي الجعد، عن جابر، الآتية: ثُمَّ قَالَ لِي: "بِعْنِي جَمَلَكَ هَذَا"، قَالَ: قُلْتُ: لَا، بَلْ هُوَ لَكَ، قَالَ:"لَا، بَلْ بِعْنِيهِ"، قَالَ: قُلْتُ: لَا، بَلْ هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:"لَا، بَلْ بعْنِيهِ"، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنَّ لِرَجُلٍ عَلَيَّ أُوقِيَّةَ ذَهَبٍ، فَهُوَ لَكَ بِهَا، قَالَ:"قَدْ أًخَذْتُهُ"، ولابن سعد، وأبي عوانة، من هذا الوجه:"فلما أكثر عليّ قلت: إن لرجل عليّ أوقيةً من ذهب، هو لك بها، قال: نعم"، وفي رواية أحمد من هذا الوجه:"فقال: بعنيه، قلت: هو لك، قال: قد أخذته بوقية".

(وَاسْتَثْنَيْتُ عَلَيْهِ حُمْلَانَهُ إِلَى أَهْلِي)"الْحُمْلان" بضمّ الحاء المهملة، وسكون الميم: الحمل، والمفعول محذوف؛ أي: استثنيتُ حمله إياي، وقد رواه الإسماعيليّ بلفظ:"واستثنيت ظهره إلى أن نَقْدَم"، وفي رواية جرير، عن مغيرة الآتية بعد هذا عند مسلم:"فبعته إياه، على أن لي فَقَار ظهره حتى أبلغ المدينة"، ولأحمد من طريق شريك، عن مغيرة:"اشتَرَى مني بعيرًا على أن يُفْقِرني ظهره سفري ذلك"، وقد ذكر البخاريّ رحمه الله الاختلاف في ألفاظه على جابر رضي الله عنه، وسيأتي بيانه قريبًا -إن شاء الله تعالى-.

(فَلَمَّا بَلَغْتُ) أي: المدينة، وفي رواية مغيرة، عن الشعبيّ التالية:"قال: فقلتُ له: يا رسول الله إني عَروسٌ، فاستأذنته، فأذن لي، فتقدّمت الناس إلى المدينة، حتى انتهيتُ، فلقيني خالي، فسألني عن البعير، فأخبرته بما صنعتُ فيه، فلامني فيه".

ووقع عند أحمد من رواية نبيح المذكورة: "فأتيت عمتي بالمدينة، فقلت لها: ألم تري أني بعت ناضحنا؟ فما رأيتها أعجبها ذلك".

وجزم بعضهم بأنه جَدُّ -بفتح الجيم، وتشديد الدال- ابن قيس، وأما عمته فاسمها هند بنت عمرو، ويَحْتَمِل أنهما جميعًا لم يعجبهما بيعه؛ لأنه لم يكن عنده ناضح غيره.

وفي رواية للبخاريّ في "الجهاد": "ثم قال: ائت أهلك، فتقدّمتُ الناس إلى المدينة"، وفي رواية وهب بن كيسان في "البيوع":"وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قبلي، وقَدِمت بالغداة، فجئت إلى المسجد، فوجدته، فقال: الآن قَدِمتَ؟ قلت: نعم، قال: فَدَعِ الجمل، وادخل، فصلِّ ركعتين".

ص: 756

قال الحافظ رحمه الله: وظاهرهما التناقض؛ لأن في إحداهما أنه تقدم الناس إلى المدينة، وفي الأخرى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قبله، فيَحْتَمِل في الجمع بينهما أن يقال: إنه لا يلزم من قوله: فتقدمت الناس أن يستمرّ سبقه لهم؛ لاحتمال أن يكونوا لَحِقُوه بعد أن تقدمهم، إما لنزوله لراحة، أو نوم، أو غير ذلك، ولعله امتثل أمره صلى الله عليه وسلم بأن لا يدخل ليلًا، فبات دون المدينة، واستمرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم-إلى أن دخلها سَحَرًا، ولم يدخلها جابر حتى طلع النهار، والعلم عند الله تعالى. انتهى

(1)

.

(أَتَيْتُهُ بِالْجَمَلِ) وفي رواية مغيرة: "قال: فلما قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ غدوت إليه بالبعير"، وفي رواية أبي المتوكل، عن جابر عند البخاريّ:"فدخلت -يعني المسجد- إليه، وعَقَلت الجمل، فقلت: هذا جملك، فخرج، فجَعَل يُطيف بالجمل، ويقول: جملنا، فبعث إليّ أواقٍ من ذهب، ثم قال: استوفيتَ الثمنَ؟ قلت: نعم".

(فَنَقَدَنِي ثَمَنَهُ) أي: أعطانيه إياه، يقال: نقدت الرجلَ الدراهمَ نَقْدًا، من باب نصر: أعطيته إياه، فهو متعدّ إلى مفعولين، ويقال: نقدتها له على الزيادة أيضًا، وأما نَقَدتُ الدراهم، من باب نصر أيضًا: إذا نظرتها لتعرف جيّدها، وزيْفَها، فهو متعدّ إلى مفعول، والفاعل ناقد، والجمع نقّاد، مثلُ كافر وكُفّار، أفاده الفيّوميّ رحمه الله

(2)

.

(ثُمَّ رَجَعْتُ) ولفظ البخاريّ: "ثم انصرفتُ"، وفي روايهْ مغيرة التالية:"فأعطاني ثمنه، وردّه عليّ"، وعند البخاريّ في "الاستقراض":"فأعطاني ثمن الجمل، والجملَ، وسهمي مع القوم"، وهي كلها بطريق المجاز؛ لأن العطية إنما وقعت له بواسطة بلال، كما يأتي في رواية سالم بن أبي الجعد، عن جابر:"فلما قَدِمت المدينة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال: أعطه أوقيّةً من ذهب، وزده، قال: فأعطاني أوقية من ذهب، وزادني قيراطًا، فقلت: لا تفارقني زيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فكان في كيس لي، فأخذه أهل الشام يوم الحرّة".

ولأحمد، وأبي عوانة من طريق وهب بن كيسان: "فوالله ما زال يَنْمِي

(1)

"الفتح" 6/ 600 - 601.

(2)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 620.

ص: 757

ويزيد عندنا، ونرى مكانه من بيتنا، حتى أصيب أمس فيما أصيب الناس يوم الحرة".

وفي رواية أبي الزبير، عن جابر عند النسائيّ:"فقال: يا بلال أعطه ثمنه، فلما أدبرت دعاني، فخِفْتُ أن يرُدّه عليّ، فقال: هو لك"، وفي رواية للبخاريّ في "النكاح" من طريق وهب بن كيسان، عن جابر:"فأمر بلالًا أن يزن لي أوقية، فوزن بلال وأرجح لي في الميزان، فانطلقت، حتى وَلَّيت، فقال: ادْعُ جابرًا، فقلت: الآن يردّ عليّ الجمل، ولم يكن شيء أبغض إليّ منه، فقال: خذ جملك، ولك ثمنه".

قال الحافظ رحمه الله: وهذه الرواية مشكلة مع قوله: "ولم يكن لنا ناضح غيره"، وقوله:"وكانت لي إليه حاجة شديدة، ولكني استحييت منه"، ومع تنديم خاله له على بيعه.

قال: ويمكن الجمع بأن ذلك كان في أول الحال، وكان الثمن أوفر من قيمته، وعَرَف أنه يمكن أن يشتري به أحسن منه، ويبقى له بعض الثمن، فلذلك صار يكره ردّه عليه.

ولأحمد من طريق أبي هبيرة، عن جابر:"فلما أتيته دفع إليّ البعير، وقال: هو لك، فمررت برجل من اليهود، فأخبرته، فجعل يَعْجَبُ، ويقول: اشترى منك البعير، ودفع إليك الثمن، ثم وهبه لك؟ قلت: نعم"

(1)

.

(فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِي) ولفظ البخاريّ: "على أثري"، وهو بفتحتين، أو بكسر، فسكون، يقال: جئتُ في أَثَرِهِ، وفي إِثْرِهِ؛ أي: تَبِعته عن قُرْب

(2)

. (فَقَالَ: "أَتُرَانِي) بضمّ التاء؛ أي: أتظنّني (مَاكَسْتُكَ) قال النوويّ رحمه الله: قال أهل اللغة: المماكسة: هي المكالمة في النقص من الثمن، وأصلها النقص، ومنه مَكْسُ الظالم، وهو ما ينتقصه، ويأخذه من أموال الناس. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": قوله: "ماكستك" هو من المماكسة؛ أي: المناقصة في الثمن، وأشار بذلك إلى ما وقع بينهما من المساومة عند البيع، كما تقدم.

(1)

"الفتح" 6/ 601 - 602.

(2)

"المصباح" 1/ 4.

(3)

"شرح النوويّ" 11/ 31.

ص: 758

(لآخُذَ جَمَلَكَ، خُذْ جَمَلَكَ، وَدَرَاهِمَكَ، فَهُوَ لَكَ") ولفظ البخاريّ: "ما كنت لآخذ جملك، فخذ جملك ذلك، فهو مالك"، ولأبي نعيم في "المستخرج":"أتُراني إنما ماكستك لآخذ جملك، خذ جملك، ودراهمك، هما لك".

ووقع لأحمد عن يحيى القطان، عن زكريا، بلفظ:"قال: أظننت حين ماكستك، أذهب بجملك؟ خذ جملك، وثمنَهُ، فهما لك".

قال في "الفتح": وهذه الرواية، وكذلك رواية البخاريّ توضح أن اللام في قوله:"لآخذ" للتعليل، وبعدها همزة ممدودة، ووقع لبعض رواة مسلم، كما حكاه عياض:"لا" بصيغة النفي، "خذ" بصيغة الأمر، ويلزم عليه التكرار في قوله:"خذ جملك". انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "خذ جملك ودراهمك، فهو لك" هذا يدلُّ على أن هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم عطية مبتدأة بعد صحة شرائه، وملكه للبعير، وهذا مبطل لتأويل بعض الشافعية في هذا الحديث؛ إذ قال: إن ذلك لم يكن من النبيّ صلى الله عليه وسلم شراء للبعير، ولا بيعًا من جابر حقيقة، وهذا من قائله تغيير وتحريف، لا تأويل، وكيف يقبل هذا التأويل مع قوله:"أتبيعنيه بأوقية، فقال: قد بعته منك بأوقية، على أن لي ظهره إلى المدينة"، بعد المماكسة؟ وهذا نصٌّ لا يقبل التأويل، وكذلك قوله:"فهو لك" بعد قوله: "خذ جملك ودراهمك"، وذلك واضح لمن تأمل أفراد تلك الكلمات ومركّباتها. انتهى

(1)

.

وقال ابن الجوزيّ رحمه الله: هذا من أحسن التكرم؛ لأن من باع شيئًا فهو في الغالب محتاج لثمنه، فإذا تعوّض من الثمن بقي في قلبه من المبيع أَسَفٌ على فراقه، كما قيل [من الطويل]:

وَقَدْ تُخْرِجُ الْحَاجَاتُ يَا أُمَّ مَالِكٍ

نَفَائِسَ مِنْ رَبٍّ بِهِنَّ ضَنِينُ

فإذا رُدّ عليه المبيع مع ثمنه ذهب الهمّ عنه، وثبت فرحه، وقُضيت حاجته، فكيف مع ما انضم إلى ذلك من الزيادة في الثمن. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"المفهم" 4/ 504.

(2)

راجع: "الفتح" 6/ 602.

ص: 759

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه

(1)

:

أخرجه (المصنّف) هنا [42/ 4091 و 4092 و 4093 و 4094 و 4095 و 4096 و 4097 و 4098 و 4099 و 4100] وتقدم في "كتاب صلاة المسافرين وقصرها"[12/ 1656 و 13/ 1657 و 1658](715)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(443) و"البيوع"(2097) و"الوكالة"(2309) و"الهبة"(2604)، و (أبو داود)(3/ 283)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1253)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 297 و 298) و"الكبرى"(4/ 44)، و (ابن ماجه) 2205)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 223)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1258)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 299 و 392)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1069)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(14/ 450)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 248 و 249)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 41)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 337) و"المعرفة"(4/ 374)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده

(2)

:

1 -

(منها): بيان جواز بيع البعير، واستثناء ركوبه.

2 -

(ومنها): بيان أنه إذا باع بشرط لا يتنافى مع مقصود العقد، جاز البيع والشرط.

3 -

(ومنها): جواز المساومة لمن يُعَرِّض سلعته للبيع.

4 -

(ومنها): جواز المماكسة في المبيع قبل استقرار العقد، وابتداء المشتري بذكر الثمن.

5 -

(ومنها): أن القبض ليس شرطًا في صحة البيع.

(1)

سبق تخريج هذا الحديث في "كتاب الصلاة"، وإنما أعدته هنا لأني نسيت تخريج ما في هذا الكتاب هناك، فتنبّه.

(2)

المراد فوائد حديث جابر رضي الله عنه بجميع رواياته المختلفة المذكورة عند المصنّف، وعند غيره التي أشرت إليها في الشرح، فتنبّه.

ص: 760

6 -

(ومنها): أن إجابة الكبير بقول: "لا" جائز في الأمر الجائز.

7 -

(ومنها): جواز التحدث بالعمل الصالح؛ للإتيان بالقصة على وجهها، لا على وجه تزكية النفس، وإرادة الفخر.

8 -

(ومنها): أن فيه تفقدَ الإمام، والكبير لأصحابه، وسؤاله عما ينزل بهم، وإعانتهم بما تيسر من حال، أو مال، أو دعاء.

9 -

(ومنها): بيان تواضعه صلى الله عليه وسلم.

10 -

(ومنها): جواز ضرب الدابة للسير، وإن كانت غير مكلفة، ومحله ما إذا لم يتحقق أن ذلك منها، من فَرْط تعب، وإعياء.

11 -

(ومنها): أن فيه توقيرَ التابع لرئيسه.

12 -

(ومنها): أن فيه الوكالةَ في وفاء الديون، ونحوها.

13 -

(ومنها): أن وزن الثمن على المشتري.

14 -

(ومنها): جواز الشراء بالنسيئة.

15 -

(ومنها): أن فيه ردَّ العطية قبل القبض؛ لقول جابر: هو لك، قال:"لا، بل بعنيه".

16 -

(ومنها): أن فيه جوازَ إدخال الدوابّ، والأمتعة إلى رحاب المسجد، وحواليه.

17 -

(ومنها): أنه استدلّ به بعضهم على طهارة أبوال الإبل، وتعقّبه الحافظ بأنه لا حجة فيه، وقد تقدّم في "الطهارة" أن الحقّ طهارة أبوال الإبل، وغيرها، فراجعه تستفد.

18 -

(ومنها): أن فيه المحافظة على ما يُتبرك به؛ لقول جابر رضي الله عنه: "لا تفارقني الزيادة".

19 -

(ومنها): أن فيه جوازَ الزيادة في الثمن، عند الأداء، والرجحان في الوزن، لكن برضى المالك، وهي هبة مستأنفة، حتى لو رُدّت السلعة بعيب مثلًا، لم يجب ردّها، أو هي تابعة للثمن، حتى تردّ؟ فيه احتمال، والأظهر الأول.

20 -

(ومنها): استحباب نكاح البكر.

21 -

(ومنها): استحباب ملاعبة الرجل لزوجته.

ص: 761

22 -

(ومنها): استحباب الابتداء بالمسجد، وصلاة ركعتين فيه عند القدوم من السفر.

23 -

(ومنها): استحباب الدلالة على الخير.

24 -

(ومنها): أن فيه فضيلةً لجابر رضي الله عنه حيث ترك حظ نفسه، وامتثل أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم له ببيع جمله، مع احتياجه إليه.

25 -

(ومنها): أن فيه أيضًا فضيلة لجابر رضي الله عنه حيث ترك حظّ نفسه من نكاح البكر، واختار مصلحة أخواته في نكاح ثيّب تقوم بمصالحهنّ.

26 -

(ومنها): أن فيه معجزةً ظاهرةً للنبيّ صلى الله عليه وسلم، في انبعاث جمل جابر رضي الله عنه، وإسراعه بعد إعيائه.

27 -

(ومنها): استحباب التبرّك بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لقول جابر رضي الله عنه: "لا تفارقه زيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم".

28 -

(ومنها): جواز تقدّم بعض الجيوش الراجعين بإذن الأمير.

29 -

(ومنها): جواز إضافة الشيء إلى من كان مالكه قبل ذلك، باعتبار ما كان.

30 -

(ومنها): أنه استدَلّ به بعضهم على صحة البيع بغير تصريح بإيجاب، ولا قبول؛ لقوله فيه:"قال: بعنيه بأوقية، فبعته"، ولم يذكر صيغة. وتعقّبه في "الفتح"، بأنه لا حجة فيه؛ لأن عدم الذكر لا يستلزم عدم الوقوع، وقد وقع في رواية عطاء عند البخاريّ في "الوكالة":"قال: بعنيه، قال: قد أخذته بأربعة دنانير"، قال: فهذا فيه القبول، ولا إيجاب فيه، وفي رواية له في "الجهاد":"قال: بل بعنيه، قلت: لرجل عليّ أوقية ذهب، فهو لك بها، قال: قد أخذته"، ففيه الإيجاب والقبول معًا، وأبين منها رواية ابن إسحاق، عن وهب ابن كيسان، عند أحمد:"قلت: قد رضيت، قال: نعم، قلت: فهو لك بها، قال: قد أخذته"، فيستدل بها على الاكتفاء في صيغ العقود بالكنايات. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: اشتراط الإيجاب والقبول قول لا دليل

(1)

"الفتح" 6/ 609 - 610.

ص: 762

عليه، لا من الكتاب، ولا من السنّة، ولا من الإجماع، فالحقّ أن البيع ينعقد بكلّ ما تعارفه الناس، من الأقوال، أو الأفعال، كالمعاطاة، وقد تقدّم تحقيق ذلك في "البيوع"، فراجعه تستفد، والله تعالى وليّ التوفيق.

[تكميل]: قال الحافظ رحمه الله: آل أمرُ جمل جابر رضي الله عنه هذا؛ لِمَا تقدم له من بركة النبيّ صلى الله عليه وسلم، إلى مآل حسن، فرأيت في ترجمة جابر رضي الله عنه من "تاريخ ابن عساكر"، بسنده إلى أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، قال: فأقام الجمل عندي زمانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، فعجز، فأتيت به عمر رضي الله عنه، فعرف قصته، فقال: اجعله في إبل الصدقة، وفي أطيب المراعي، ففعل به ذلك، إلى أن مات. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في بيان اختلاف الروايات في وقوع الاشتراط في قضة بيع جمل جابر رضي الله عنه المذكورة:

قال البخاريّ: رحمه الله: الاشتراط أكثر، وأصح عندي: أي أكثر طُرُقًا، وأصح مخرجًا، وأشار بذلك إلى أن الرواة اختلفوا عن جابر، في هذه الواقعة، هل وقع الشرط في العقد عند البيع، أو كان ركوبه للجمل بعد بيعه إباحةً من النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد شرائه، على طريق العارية؟ وأصرح ما وقع في ذلك رواية النسائي من طريق ابن عُيينة، عن أيوب، بلفظ:"وقد أعرتك ظهره إلى المدينة"، لكن اختَلَف فيها حماد بن زيد، وسفيان بن عيينة، وحماد أعرف بحديث أيوب، من سفيان.

والحاصل أن الذين ذكروه بصيغة الاشتراط أكثر عددًا، من الذين خالفوهم، وهذا وجه من وجوه الترجيح، فيكون أصح، ويترجح أيضًا بأن الذين رووه بصيغة الاشتراط، معهم زيادة، وهم حفاظ، فتكون حجة، وليست رواية من لم يذكر الاشتراط، منافية لرواية من ذكره؛ لأن قوله:"لك ظهره"، و"أفقرناك ظهره"، و"تبلغ عليه"، لا يمنع وقوع الاشتراط قبل ذلك، وقد رواه عن جابر بمعنى الاشتراط أيضًا أبو المتوكل، عند أحمد، ولفظه:"فبعني، ولك ظهره إلى المدينة"، لكن أخرجه البخاريّ في "الجهاد" من طريق أخرى،

(1)

"الفتح" 6/ 610.

ص: 763

عن أبي المتوكل، فلم يتعرض للشرط إثباتًا ولا نفيًا، ورواه أحمد من هذا الوجه، بلفظ:"أتبيعني جملك؟ قلت: نعم، قال: أقدم عليه المدينة"، ورواه أحمد من طريق أبي هبيرة، عن جابر، بلفظ:"فاشترى مني بعيرًا، فجعل لي ظهره حتى أقدم المدينة"، ورواه ابن ماجه، وغيره، من طريق أبي نضرة، عن جابر، بلفظ:"فقلت: يا رسول الله، هو ناضحك، إذا أتيت المدينة"، ورواه أيضًا عن جابر نُبَيحٌ الْعَنَزِيّ، عند أحمد، فلم يذكر الشرط، ولفظه:"قد أخذته بوقية، قال: فنزلت إلى الأرض، فقال: ما لك؟ قلت: جملك، قال: اركب، فركبت حتى أتيت المدينة"، ورواه أيضًا من طريق وهب بن كيسان، عن جابر، فلم يذكر الشرط، قال فيه:"حتى بلغ أوقية، قلت: قد رضيتَ؟ قال: نعم، قلت: فهو لك، قال: قد أخذته، ثم قال يا جابر: هل تزوجت؟ "، الحديث.

قال الحافظ: وما جنح إليه البخاريّ، من ترجيح رواية الاشتراط، هو الجاري على طريقة المحققين، من أهل الحديث؛ لأنهم لا يتوقفون عن تصحيح المتن، إذا وقع فيه الاختلاف، إلا إذا تكافأت الروايات، وهو شرط الاضطراب، الذي يُرَدُّ به الخبر، وهو مفقود هنا، مع إمكان الترجيح.

قال ابن دقيق العيد: إذا اختلفت الروايات، وكانت الحجة ببعضها دون بعض، تَوَقَّف الاحتجاجُ بشرط تعادل الروايات، أما إذا وقع الترجيح لبعضها، بأن تكون رُواتُها أكثر عددًا، أو أتقن حفظًا، فيتعيّن العمل بالراجح، إذ الأضعف لا يكون مانعًا من العمل بالأقوى، والمرجوحُ لا يمنع التمسك بالراجح.

وقد جنح الطحاويّ إلى تصحيح الاشتراط، لكن تأوّله بأن البيع المذكور، لم يكن على الحقيقة؛ لقوله في آخره: "أتُراني ماكستك

إلخ"، قال: فإنه يُشعر بأن القول المتقدم، لم يكن على التبايع حقيقة.

وردّه القرطبي بأنه دعوى مجردة، وتغيير، وتحريف، لا تأويل، قال: وكيف يَصنَع قائله في قوله: "بعته منك بأوقية"، بعد المساومة؟ وقوله:"قد أخذته"؟ وغير ذلك من الألفاظ المنصوصة في ذلك.

واحتج بعضهم بأن الركوب، إن كان من مال المشتري، فالبيع فاسد؛ لأنه شَرَطَ لنفسه ما قد ملكه المشتري، وإن كان من ماله ففاسد؛ لأن المشتري

ص: 764

لم يملك المنافع بعد البيع من جهة البائع، وإنما ملكها؛ لأنها طرأت في ملكه.

وتُعُقّب بأن المنفعة المذكورة، قُدِّرت بقدر من ثمن المبيع، ووقع البيع بما عداها، ونظيره مَن باع نخلًا، قد أُبرت، واستثنى ثمرتها، والممتنع إنما هو استثناء شيء مجهول للبائع والمشتري، أما لو علماه معًا، فلا مانع، فيحمل ما وقع في هذه القصة على ذلك.

وأغرب ابن حزم، فزعم أنه يؤخذ من الحديث أن البيع لم يتم؛ لأن البائع بعد عقد البيع، مخيَّر قبل التفرق، فلما قال في آخره:"أتُراني ماكستك"، دَلّ على أنه كان اختار ترك الأخذ، وإنما اشترط لجابر ركوب جمل نفسه، فليس فيه حجة، لمن أجاز الشرط في البيع. قال الحافظ: ولا يخفى ما في هذا التأويل من التكلف.

وقال الإسماعيليّ: قوله: "ولك ظهره"، وَعْدٌ قام مقام الشرط؛ لأن وعده لا خلف فيه، وَهِبَتُه لا رجوع فيها؛ لتنزيه الله تعالى له عن دناءة الأخلاق، فلذلك ساغ لبعض الرواة أن يعبِّر عنه بالشرط، ولا يلزم أن يجوز ذلك في حق غيره.

وحاصله أن الشرط لم يقع في نفس العقد، وإنما وقع سابقًا، أو لاحقًا، فتبرع بمنفعته أولًا، كما تبرع برقبته آخرًا.

ووقع في كلام القاضي أبي الطيب الطبريّ، من الشافعية: أن في بعض طرق هذا الخبر: "فلما نقدني الثمن شرطت حُمْلاني إلى المدينة"، واستُدل بها على أن الشرط تأخر عن العقد. قال الحافظ: لكن لم أقف على الرواية المذكورة، وإن ثبتت، فيتعيّن تأويلها على أن معنى:"نقدني الثمن" أي: قرره لي، واتفقنا على تعيينه؛ لأن الروايات الصحيحة صريحة، في أن قبضه الثمن إنما كان بالمدينة، وكذلك يتعيّن تأويل رواية الطحاويّ:"أتبيعني جملك هذا؟ إذا قدمنا المدينة بدينار"، الحديث، فالمعنى: أتبيعني بدينار أُوفِيكَهُ، إذا قدمنا المدينة.

وقال المهلَّب: ينبغي تأويل ما وقع في بعض الروايات، من ذكر الشرط، على أنه شرط تفضّل، لا شرط في أصل البيع؛ ليوافق رواية من رَوَى:

ص: 765

"أفقرناك ظهره"، و"أعرتك ظهره"، وغير ذلك مما تقدم، قال: ويؤيده أن القصة جرت كلها على وجه التفضل والرفق بجابر، ويؤيده أيضًا قول جابر:"هو لك، قال: لا، بل بعنيه"، فلم يقبل منه إلا بثمن؛ رفقًا به، وسبق الإسماعيلي إلى نحو ذلك، وزعم أن النكتة في ذكر البيع؛ أنه صلى الله عليه وسلم، أراد أن يَبَرّ جابرًا على وجه، لا يحصل لغيره طمع في مثله، فبايعه في جمله، على اسم البيع؛ ليتوفر عليه بِرّه، ويبقى البعير قائمًا على ملكه، فيكون ذلك أهنأ لمعروفه، قال: وعلى هذا المعنى أَمْرُهُ بلالًا، أن يزيده على الثمن، زيادة مبهمة في الظاهر، فإنه قصد بذلك زيادة الإحسان إليه، من غير أن يحصل لغيره تأميل في نظير ذلك.

وتُعُقّب بأنه لو كان المعنى ما ذكر، لكان الحال باقيًا في التأميل المذكور، عند ردّه عليه البعير المذكور، والثمن معًا.

وأجيب بأن حالة السفر غالبًا تقتضي قلّة الشيء، بخلاف حالة الحضر، فلا مبالاة عند التوسعة من طمع الآمل.

قال الحافظ: وأقوى هذه الوجوه في نظري، ما تقدم نقله عن الإسماعيلي، من أنه وَعْدٌ حَلَّ محل الشرط.

وأبدى السُّهَيليّ في قصة جابر رضي الله عنه مناسبة لطيفة، غير ما ذكره الإسماعيليّ، مُلَخَّصها: أنه صلى الله عليه وسلم، لَمّا أخبر جابرًا بعد قتل أبيه بأُحد، أن الله أحياه، وقال: ما تشتهي فأزيدك؟، أكد صلى الله عليه وسلم الخبر بما يشتهيه، فاشترى منه الجمل، وهو مطيّته بثمن معلوم، ثم وَفّر عليه الجمل والثمن، وزاده على الثمن، كما اشترى الله من المؤمنين أنفسهم، بثمن هو الجنة، ثم رَدَّ عليهم أنفسهم، وزادهم، كما قال الله تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] انتهى ملخّصًا من "الفتح"

(1)

، وهو بحث نفيس جدًّا، وحاصله ترجيح الاشتراط لجابر رضي الله عنه ليركب جمله إلى المدينة، كما صنع ذلك إمام أهل هذه الصناعة البخاريّ رحمه الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

راجع: "الفتح" 6/ 605 - 606.

ص: 766

(المسألة الخامسة): في بيان اختلاف الروايات في مقدار ثمن الجمل: قد أشار البخاريّ أيضًا في كلامه السابق إلى هذا الاختلاف، وحاصل الاختلاف عنده: أوقية، وهي رواية الأكثر، كما أشار إليه البخاريّ، وأربعة دنانير، وهي لا تخالفها كما تقدم، وأوقية الذهب، وأربع أواق، وخمس أواق، ومائتا درهم، وعشرون دينارًا، هذا ما ذكر البخاريّ.

ووقع عند أحمد، والبزار، من رواية علي بن زيد، عن أبي المتوكل: ثلاثة عشر دينارًا، وقد جمع عياض وغيره، بين هذه الروايات، فقال: سبب الاختلاف أنهم رووا بالمعنى، والمراد أوقيةُ الذهب، والأربعُ أواق، والخمسُ بقدر ثمن الأوقية الذهب، والأربعة دنانير، مع العشرين دينارًا، محمولة على اختلاف الوزن والعدد، وكذلك رواية الأربعين درهمًا، مع المائتي درهم، قال: وكان الإخبار بالفضة عما وقع عليه العقد، وبالذهب عما حصل به الوفاء، أو بالعكس. انتهى، ملخصًا.

وقال الداوديّ: المراد أوقية ذهب، ويُحمَل عليها قول من أطلق، ومن قال: خمس أواق، أو أربع، أراد من فضة، وقيمتها يومئذ أوقية ذهب، قال: وَيحْتَمِل أن يكون سبب الاختلاف، ما وقع من الزيادة على الأوقية، قال الحافظ: ولا يخفى ما فيه من التعسف. وقال القرطبيّ: اختلفوا في ثمن الجمل، اختلافًا لا يقبل التلفيق، وتَكَلُّفُ ذلك بعيد عن التحقيق، وهو مبني على أمر، لم يصح نقله، ولا استقام ضبطه، مع أنه لا يتعلق بتحقيق ذلك حكم، وإنما تحصل من مجموع الروايات؛ أنه باعه البعير، بثمن معلوم بينهما، وزاده عند الوفاء، زيادة معلومة، ولا يضر عدم العلم بتحقيق ذلك.

قال الإسماعيليّ: ليس اختلافهم في قدر الثمن بضارّ؛ لأن الغرض الذي سيق الحديث لأجله، بيان كرمه صلى الله عليه وسلم، وتواضعه، وحُنُوّه على أصحابه، وبركة دعائه، وغير ذلك، ولا يلزم من وَهْم بعضهم في قدر الثمن، توهينه لأصل الحديث.

قال الحافظ: وما جنح إليه البخاريّ من الترجيح أقعد، وبالرجوع إلى التحقيق أسعد، فَلْيُعْتَمَدْ ذلك، وبالله التوفيق. انتهى ملخّصًا من "الفتح"

(1)

،

(1)

راجع: "الفتح" 6/ 608 - 609.

ص: 767

وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا، وحاصله ترجيح من قال بأن الثمن كان أوقيّة، كما مرّ بيانه آنفًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في حكم الشرط في البيع: قد تكلّم العلامة ابن قُدامة رحمه الله في "المغني" في هذه المسألة، وفصّلها تفصيلًا حسنًا، أحببتُ إيراده هنا ملخّصًا؛ تتميمًا للفائدة، ونشرًا للعائدة:

قال رحمه الله، ما خلاصته: ثبت عن أحمد رحمه الله؛ أنه قال: الشرط الواحد لا بأس به، إنما نُهي عن الشرطين في البيع، ذهب أحمد إلى ما رَوَى عبد الله بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا تَبعْ ما ليس عندك"، أخرجه أبو داود، والنسائيّ، والترمذيّ، وقال: حديث حسن صحيح

(1)

، قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: إن هؤلاء يكرهون الشرط في البيع؟ فنفض يده، وقال: الشرط الواحد، لا بأس به في البيع، إنما نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرطين في البيع، وحديث جابر رضي الله عنه يدل على إباحة الشرط، حين باعه جمله، وشرط ظهره إلى المدينة.

واختُلِف في تفسير الشرطين المنهي عنهما، فرُوي عن أحمد أنهما شرطان صحيحان، ليسا من مصلحة العقد، فحكى ابن المنذر عنه، وعن إسحاق فيمن اشترى ثوبًا، واشترط على البائع خياطته، وقصارته، أو طعامًا، واشترط طحنه وحمله، إن اشترط أحد هذه الأشياء، فالبيع جائز، وإن اشترط شرطين فالبيع باطل، وكذلك فسر القاضي في "شرحه" الشرطين المبطلين بنحو من هذا التفسير.

وروى الأثرم عن أحمد تفسير الشرطين أن يشتريها على أنه لا يبيعها من أحد، وأنه يطؤها، ففسّره بشرطين فاسدين.

وروى عنه إسماعيل بن سعيد في الشرطين في البيع: أن يقول إذا بعتكها، فأنا أحق بها بالثمن، وأن تخدُمني سنة.

وظاهر كلام أحمد؛ أن الشرطين المنهيّ عنهما، ما كان من هذا النحو، فأما إن شرط شرطين، أو أكثر من مقتضى العقد، أو مصلحته، مثل أن يبيعه

(1)

هو كما قال صحيح.

ص: 768

بشرط الخيار، والتأجيل، والرهن، والضمين، أو بشرط أن يُسَلِّم إليه المبيع، أو الثمن، فهذا لا يؤثر في العقد، وإن كثر.

وقال القاضي في "المجرد": ظاهر كلام أحمد أنه متى شَرَط في العقد شرطين بطل، سواء كانا صحيحين، أو فاسدين، لمصلحة العقد، أو لغير مصلحته؛ أخذًا من ظاهر الحديث، وعملًا بعمومه، ولم يفرق الشافعيّ، وأصحاب الرأي، بين الشرط والشرطين، ورووا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عن بيع وشرط؛ ولأن الصحيح لا يؤثر في البيع وإن كثر، والفاسد يؤثر فيه وإن اتحد، والحديث الذي رويناه يدل على الفرق، ولأن الغرر اليسير إذا احتُمِل في العقد، لا يلزم منه احتمال الكثير، وحديثهم لم يصح، وليس له أصل، وقد أنكره أحمد، ولا نعرفه مرويًّا في مسند، ولا يُعَوَّل عليه، وقول القاضي: إن النهي يبقى على عمومه في كل شرطين، بعيد أيضًا، فإنّ شرطَ ما يقتضيه العقد، لا يؤثر فيه بغير خلاف، وشرط ما هو من مصلحة العقد، كالأجل، والخيار، والرهن، والضمين، وشرط صفة في المبيع؛ كالكتابة، والصناعة، فيه مصلحة العقد، فلا ينبغي أن يؤثر أيضًا في بطلانه، قَلَّت، أو كثرت، ولم يذكر أحمد في هذه المسألة شيئًا من هذا القسم، فالظاهر أنه غير مراد له.

قال: والشروط تنقسم إلى أربعة أقسام:

[أحدها]: ما هو من مقتضى العقد؛ كاشتراط التسليم، وخيار المجلس، والتقابض في الحال، فهذا وجوده كعدمه، لا يفيد حكمًا، ولا يؤثر في العقد.

[الثاني]: تتعلق به مصلحة العاقدين؛ كالأجل، والخيار، والرهن، والضمين، والشهادة، أو اشتراط صفة مقصودة في المبيع؛ كالصناعة، والكتابة، ونحوها، فهذا شرط جائز، يلزم الوفاء به، ولا نعلم في صحة هذين القسمين خلافًا.

[الثالث]: ما ليس من مقتضاه، ولا من مصلحته، ولا ينافي مقتضاه، وهو نوعان:

أحدهما: اشتراط منفعة البائع في المبيع، فهذا قد مضى ذكره.

الحماني: أن يشترط عقدًا في عقد، نحو أن يبيعه شيئًا بشرط أن يبيعه شيئًا آخر، أو يشتري منه، أو يُؤَجّره، أو يزوجه، أو يُسلفه، أو يصرف له الثمن أو

ص: 769

غيره، فهذا شرط فاسد، يفسد به البيع، سواء اشترطه البائع، أو المشتري.

[الرابع]: اشتراط ما ينافي مقتضى البيع، وهو على ضربين:

[أحدهما]: اشتراط ما بني على التغليب والسراية، مثل أن يشترط البائع على المشتري عتق العبد، فهل يصح؟ على روايتين: إحداهما: يصح، وهو مذهب مالك، وظاهر مذهب الشافعيّ؛ لأن عائشة رضي الله عنها، اشترت بريرة، وشَرَط أهلها عليها عتقها، وولاءها، فأنكر النبيّ صلى الله عليه وسلم شرط الولاء، دون العتق، والثانية: الشرط فاسد، وهو مذهب أبي حنيفة؛ لأنه شرط ينافي مقتضى العقد؛ لأنه شرط عليه إزالة ملكه عنه، فأشبه ما لو شرط أن لا يبيعه، وليس في حديث عائشة، أنها شرطت لهم العتق، وإنما أخبرتهم بإرادتها لذلك من غير شرط، فاشترطوا الولاء.

[الضرب الثاني]: أن يشترط غير العتق، مثل أن يشترط أن لا يبيع، ولا يهب، ولا يُعتق، ولا يطأ، أو يشترط عليه أن يبيعه، أو يقفه، أو متى نفق المبيع، وإلا ردّه، أو إن غصبه غاصب رجع عليه بالثمن، وإن أعتقه فالولاء له، فهذه وما أشبهها شروط فاسدة، وهل يفسد بها البيع؟ على روايتين:

قال القاضي: المنصوص عن أحمد: أن البيع صحيح، وهو ظاهر كلام الخرقيّ ههنا، وهو قول الحسن، والشعبيّ، والنخعيّ، وابن أبي ليلى، وأبي ثور، والثانية: البيع فاسد، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعيّ؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، نهى عن بيع وشرط، ولأنه شرط فاسد، فأفسد البيع، كما لو شرط فيه عقدًا آخر، ولأن الشرط إذا فسد وجب الرجوع بما نقصه الشرط من الثمن، وذلك مجهول، فيصير الثمن مجهولًا، ولأن البائع إنما رضي بزوال ملكه عن المبيع بشرطه، والمشتري كذلك، إذا كان الشرط له، فلو صح البيع بدونه لزال ملكه بغير رضاه، والبيع من شرطه التراضي.

قال: ولنا ما روت عائشة رضي الله عنها، قالت: جاءتني بريرة، فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق، في كل عام أوقية، فأعينيني، فقلت: إن أحب أهلك، أن أَعُدَّها لهم عَدَّة واحدة، ويكون لي ولاؤك فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها، فقالت لهم: فأبوا عليها، فجاءت من عندهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فقالت: إني عرضت عليهم، فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم، فسمع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخبرت

ص: 770

عائشة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"خذيها، واشترطي الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق"، ففعلت عائشة، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:"أما بعد ما بال رجال، يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟ ما كان من شرط ليس في كتاب الله، فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحقّ، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق"، متفق عليه، فأبطل الشرط، ولم يبطل العقد، قال ابن المنذر: خبر بريرة ثابت، ولا نعلم خبرًا يعارضه، فالقول به يجب.

[فإن قيل]: المراد بقوله: "اشترطي لهم الولاء" أي: عليهم، بدليل أنه أمرها به، ولا يأمرها بفاسد.

[قلنا]: لا يصح هذا التأويل لوجهين:

[أحدهما]: أن الولاء لها بإعتاقها، فلا حاجة إلى اشتراطه.

[الثاني]: أنهم أبوا البيع، إلا أن يشترط الولاء لهم، فكيف يأمرها بما يعلم أنهم لا يقبلونه منها؟ وأما أمره بذلك، فليس هو أمرًا على الحقيقة، وإنما هو صفة الأمر، بمعنى التسوية بين الاشتراط وتركه، كقوله تعالى:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الآية [التوبة: 80]، وقوله:{فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا} الآية [الطور: 16]، والتقدير: واشترطي لهم الولاء، أو لا تشترطي، ولهذا قال عقيبه:"فإنما الولاء لمن أعتق"، وحديثهم لا أصل له، على ما ذكرنا، وما ذكروه من المعنى في مقابلة النص، غير مقبول. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4092]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ عَلِيُّ بْنُ خَشْرَم، أَخْبَرَنَا عِيسَى -يَعْنِي ابْنَ يُونُسَ- عَنْ زَكَرِيَّاءَ، عَنْ عَامِرٍ، حَدَّثَنِي جَابِرُ بْن عَبْدِ اللهِ، بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ).

(1)

"المغني" 6/ 321 - 326.

ص: 771

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ) -بوزن جعفر- المروزيّ، ثقة، من صغار [10](ت 257) أو بعدها، وقد قارب المائة (م ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله، و"زكريّا" هو: ابن أبي زائدة، و"عامر" هو: الشعبيّ.

[تنبيه]: رواية عيسى بن يونس، عن زكريّا بن أبي زائدة هذه ساقها ابن حبان في "صحيحه" (14/ 450) فقال:

(6519)

- أخبرنا محمد بن إسحاق بن سعيد السعديّ، قال: حدّثنا عليّ بن خَشْرَم، قال: أخبرنا عيسى بن يونس، عن زكريا، عن عامر، قال: حدّثني جابر بن عبد الله؛ أنه كان يسير على جمل له قد أعيى، فأراد أن يُسَيِّبه، قال: فلحقني النبيّ صلى الله عليه وسلم، فدعا له، وضربه، فسار سيرًا لم يسر مثله، وقال:"بعنيه بأوقية"، فقلت: لا، ثم قال:"بعنيه بأوقية"، فقلت: لا، ثم قال:"بعنيه بأوقية"، فبعته بأوقية، واستثنيتُ حُمْلانه إلى أهلي، فلما بلغت أتيته، فقال لي صلى الله عليه وسلم:"أتُراني ماكستك لآخذ جملك، ودراهمك؟ فهما لك". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل الى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4093]

(

) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ اِبْرَاهِيمَ - وَاللَّفْظُ لِعُثْمَانَ- قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ عُثْمَانُ: حَدَّثنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَلَاحَقَ بِي، وَتَحْتِي نَاضِحٌ لِي، قَدْ أَعْيَا، وَلَا يَكَادُ يَسِيرُ، قَالَ: فَقَالَ لِي: "مَا لِبَعِيرِكَ؟ "، قَالَ: قُلْتُ: عَلِيلٌ، قَالَ: فَتَخَلَّفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَزَجَرَهُ، وَدَعَا لَهُ، فَمَا زَالَ بَيْنَ يَدَيِ الإِبِلِ، قُدَّامَهَا يَسِيرُ، قَالَ: فَقَالَ لِي: "كَيْفَ تَرَى بَعِيرَكَ؟ "، قَالَ: قُلْتُ: بِخَيْرٍ، قَدْ أَصَابَتْهُ بَرَكَتُكَ، قَالَ:"أَفَتَبِيعُنِيهِ؟ "، فَاسْتَحْيَيْتُ، وَلَمْ يَكُنْ لَنَا نَاضِحٌ غَيْرُهُ، قَالَ: فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَبِعْتُهُ إِيَّاهُ عَلَى أَنَّ لِي فَقَارَ ظَهْرِهِ حَتَّى أَبْلُغَ الْمَدِينَةَ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي عَرُوسٌ، فَاسْتَأْذَنْتُهُ، فَأَذِنَ لِي، فَتَقَدَّمْتُ النَّاسَ إِلَى الْمَدِينَةِ، حَتَّى انْتَهَيْتُ، فَلَقِيَنِي خَالِي، فَسَأَلَنِي عَنِ الْبَعِيرِ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا صَنَعْتُ فِيهِ،

ص: 772

فَلَامَنِي فِيهِ، قَالَ: وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِي حِينَ اسْتَأْذَنْتُهُ: "مَا تَزَوَّجْتَ؟ أَبِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟ "، فَقُلْتُ لَهُ: تَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا، قَالَ:"أَفَلَا تَزَوَّجْتَ بِكْرًا، تُلَاعِبُكَ وَتُلَاعِبُهَا"، فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، تُوُفِّيَ وَالِدِي -أَوِ اسْتُشْهِدَ- وَلِي أَخَوَاتٌ صِغَارٌ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَزَوَّجَ إِلَيْهِنَّ مِثْلَهُنَّ، فَلَا تُؤَدِّبُهُنَّ، وَلَا تَقُومُ عَلَيْهِنَّ، فَتَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا، لِتَقُومَ عَلَيْهِنَّ، وَتُؤَدِّبَهُنَّ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، غَدَوْتُ إِلَيْهِ بِالْبَعِيرِ، فَأَعْطَانِي ثَمَنَهُ، وَرَدَّهُ عَلَيَّ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلّهم ذُكروا في الأبواب الثلاثة الماضية، و"إسحاق بن إبراهيم" هو: ابن راهويه، و"جرير" هو: ابن عبد الحميد الضبيّ، و"مُغيرة" هو: ابن مِقْسَم الضبيّ.

وقوله: (غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) تقدّم أن الأرجح أن هذه الغزوة هي ذات الرقاع، وقوله:(وَتَحْتِي نَاضِحٌ لِى)"الناضح": اسم فاعل من نضَح البعير الماءَ، من بابي ضرب، ونَفَع: إذا حمله من نهر، أو بئر؛ ليسقي الزرع، فهو ناضح، والأُنثى ناضحةٌ بالهاء، سُمّي ناضحًا؛ لأنه ينضح العطشَ؛ أي: يبُلُّهُ بالماء الذي يحمله، هذا أصله، ثم استُعمل الناضح في كلّ بعير، وإن لم يحمل الماء. أفاده الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (قَدْ أَعْيَا) أي: تَعِبَ، وعَجَز عن السير، قال الفيّوميّ رحمه الله: عَيِيَ بالأمر، وعن حُجّته يَعْيَا، من باب تَعِب عِيًّا: عَجَز عنه، وقد يُدغم الماضي، فيقال: عَيَّ، فالرجل عَيٌّ، وعَيِيٌّ، على فَعْلٍ، وفَعِيلٍ، وعَيِيَ لم يَهتد لوجهه، وأعياني كذا بالألف: أتعبني، فأعييت، يُستعمل لازمًا، ومتعدّيًا، وأعيا في مشيه، فهو مُعْيٍ، منقوص. انتهى

(2)

.

وقوله: (قُلْتُ: عَلِيلٌ) خبر لمحذوف؛ أي: هو عليل؛ أي: مريض.

وقوله: (فَزَجَرَهُ) تقدّم أنه ضربه بقضيب، وفي رواية حجنه بمِحْجن.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 609 - 610.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 441.

ص: 773

وقوله: (قُدَّامَهَا يَسِيرُ)"قُدّامها" منصوب على الظرفيّة متعلّق بما بعده، والجملة حال مؤكّدة عن قوله:"بين يدي الإبل".

وقوله: (فَقَارَ ظَهْرِهِ) بفتح الفاء، ثم قاف: جمع فقارة بالهاء، وهو كناية عن ركوب الظهر، ومنه أفقرت الرجلَ: إذا أعرته ذلك، والْفَقَار: جمع فَقَارة، وهي خَرَزات الصلب، قاله القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: فَقَارة الظهر بالفتح: الْخَرَزة، والجمع فَقَارٌ، بحذف الهاء، مثلُ سحابة وسَحاب، قال ابن السِّكِّيت: ولا يقال: فِقَارة بالكسر، والفِقْرة لغة في الْفَقَار، وجمعها فِقَرٌ، وفِقَرات، مثلُ سِدْرة وسِدَرات. انتهى

(2)

.

وقال المجد رحمه الله: والْفِقْرة بالكسر، والْفَقْرَة، والْفَقَارةُ بفتحهما: ما انتَضَدَ من عظام الصُّلْب من لدن الكاهل إلى الْعَجْب، جمعه كعِنَبٍ، وسَحاب، وفِقْرات بالكسر، أو بكسرتين، وكعِنَبَات. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما قاله المجد أن الفِقْرة يجوز كسر فائها، وفتحه، فتنبّه.

وقوله: (إِنِّي عَرُوسٌ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا يقال للرجل: عَرُوس، كما يقال ذلك للمرأة، لفظها واحد، لكن يختلفان في الجمع، فيقال: رجل عَرُوسٌ، ورجال عُرُس -بضمّ العين، والراء، وامرأة عَرُوس، ونِسوة عَرائس. انتهى

(4)

.

وقوله: (فَلَقِيَنِي خَالِي) تقدّم أنه الْجَدّ بن قيس.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل الى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4094]

(

) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: أَقْبَلْنَا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَاعْتَلَّ جَمَلِي، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِقِصَّتِهِ، وَفِيهِ: ثُمَّ قَالَ لِي: "بِعْنِي

(1)

"المفهم" 4/ 502.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 4789.

(3)

"القاموس المحيط" ص 1005.

(4)

"شرح النوويّ" 11/ 32.

ص: 774

جَمَلَكَ هَذَا"، قَالَ: قُلْتُ: لَا، بَلْ هُوَ لَكَ، قَالَ: "لَا، بَلْ بِعْنِيهِ"، قَالَ: قُلْتُ: لَا، بَلْ هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "لَا، بَلْ بِعْنِيهِ"، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنَّ لِرَجُلٍ عَلَيَّ أُوقِيَّةَ ذَهَبٍ، فَهُوَ لَكَ بِهَا، قَالَ: "قَدْ أَخَذْتُهُ، فَتَبَلَّغْ عَلَيْهِ إِلَى الْمَدِينَةِ"، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِبِلَالٍ: "أَعْطِهِ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ، وَزِدْهُ"، قَالَ: فَأَعْطَانِي أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ، وَزَادَنِي قِيرَاطًا، قَالَ: فَقُلْتُ: لَا تُفَارِقُنِي زَيادَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَكَانَ في كِيسٍ لِي، فَأَخَذَهُ أَهْلُ الشَّامِ يَوْمَ الْحَرَّةِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم قريبًا.

2 -

(سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ) رافع الْغَطَفانيّ الأشجعيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ يُرسل كثيرًا [3](ت 7 أو 198)(ع) تقدم في "الحيض" 8/ 728.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (أَقْبَلْنَا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ) تقدّم أن الراجح أنه كان في غزوة ذات الرقاع، فيكون معنى قوله هنا: "أقبلنا من مكة

إلخ" أي: من جهة مكة؛ لأن ذات الرقاع كانت بين مكة والمدينة، وليس المراد أنهم رجعوا من مكة نفسها، فتنبّه.

وقوله: (فَاعْتَلَّ جَمَلِي) أي: أصابته علّة، وهي الإعياء.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِقِصَّتِهِ) فاعل "ساق" ضمير سالم بن أبي الجعد، وَيحْتمل أن يكون ضمير شيخه عثمان بن أبي شيبة، والأول أظهر.

وقوله: (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِبِلَالٍ) هو ابن رباح مؤذّن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (أَعْطِهِ، وَزِدْهُ) فيه دليل على صحة الوكالة، وعلى جواز الزيادة في القضاء، وهي من باب قوله صلى الله عليه وسلم:"إن خيركم أحسنكم قضاء"، متّفقٌ عليه.

قال القرطبيّ رحمه الله: وهذا لا يُختَلَف فيه إذا كان من بيع، وإنما يُختلف فيه إذا كان من قرض، فاتُّفِق على جوازه في الزيادة في الصفة؛ إذا كان بغير شرط، ولا عادة، وزاد أصحابنا -المالكيّة-: ولا قصد من المقرض للزيادة، لقوله صلى الله عليه وسلم:"كل قرض جرَّ نفعًا فهو ربا"، وأما الزيادة في العدد والوزن، فمنعها مالك في مجلس القضاء حسمًا للذريعة. وأجازها ابن حبيب، ولم

ص: 775

يُختلف في جواز ذلك؛ إذا كانت الزيادة بعد مجلس القضاء. انتهى

(1)

.

وقوله: (فَأَعْطَانِي أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ) قال أبو جعفر الداوديّ: ليس لأوقية الذهب وزن يُعْرَف، وأما أوقية الفضة فأربعون درهمًا، وفيه دليل على أن وزن الثمن وكَيْلَهُ على المشتري، كما أنه على البائع إن كان المبيع مما يكال، أو يوزن، ولأن على كل واحد منهما أن يسلِّم ما لزمه دفعه، ولا يتحقق التسليم إلا بذلك

(2)

.

وقوله: (وَزَادَنِي قِيرَاطًا) قال الفيّوميّ رحمه الله: "القِيرَاطُ" يقال: أصله قِرَّاطٌ، لكنه أبدل من أحد المضعّفين ياء؛ للتخفيف، كما في دينار ونحوه، ولهذا يُرَدّ في الجمع إلى أصله، فيقال: قَرَارِيطُ، قال بعض الحُسّاب: القِيرَاطُ في لغة اليونان حبة خُرْنُوب، وهو نصف دانق، والدرهم عندهم اثنتا عشرة حبة، والْحُسّاب يقسمون الأشياء أربعة وعشرين قيراطًا؛ لأنه أول عدد له ثمن، وربع، ونصف، وثلث صحيحات، من غير كسر. انتهى

(3)

.

وقوله: (فَكَانَ فِي كِيسٍ لِي) قال الفيّوميّ رحمه الله: الكِيسُ: ما يُخاط من خِرَق، والجمع أكياس، مثلُ حِمْل وأحمال، وأما ما يُشْرَجُ من أَدِيم، وخِرَق، فلا يقال له: كيسٌ، بل خَرِيطة. انتهى

(4)

.

وقوله: (فَأَخَدَهُ أَهْلُ الشَّامِ يَوْمَ الْحَرَّةِ) يعني حرّة المدينة؛ أي: يوم حارب أهلُ الشام أهلَ المدينة في الحرّة -بفتح الحاء المهملة، وتشديد الراء-: موضع بالمدينة، فيه حجارة سُودٌ، ويُطلق على كلّ أرض ذات حجارة سُود، والمعنى: أن تلك الزيادة أخذها أهل الشام في ذلك اليوم الذي كان فيه هناك قتالٌ، ونَهْبٌ منهم، وذلك سنة ثلاث وستّين من الهجرة.

[تنبيه]: رواية سالم بن أبي الجعد، عن جابر رضي الله عنه هذه ساقها النسائيّ في "المجتبى" (7/ 298) فقال:

(4639)

- حدّثنا محمد بن العلاء، قال: حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر بن عبد الله، قال: كنت مع

(1)

"المفهم" 4/ 503.

(2)

"المفهم" 4/ 503.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 498.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 546.

ص: 776

رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وكنت على جمل، فقال:"ما لك في آخر الناس؟ " قلت: أعيا بعيري، فأخذ بذنَبه، ثم زجره، فإن كنت إنما أنا في أول الناس، يُهِمّني رأسه، فلما دنونا من المدينة، قال:"ما فعل الجمل؟ بعنيه"، قلت: لا، بل هو لك يا رسول الله، قال:"لا، بل بعنيه" قلت: لا، بل هو لك، قال:"لا، بل بعنيه، قد أخذته بوُقيّة، اركبه، فإذا قَدِمت المدينة، فأتنا به"، فلما قَدِمت المدينة جئته به، فقال لبلال:"يا بلالُ زِنْ له أُوقيّةً، وزده قيراطًا"، قلت: هذا شيء زادني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يفارقني، فجعلته في كِيسٍ، فلم يزل عندي، حتى جاء أهل الشام يوم الحرّة، فأخذوا منّا ما أخذوا. انتهى.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4095]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيادٍ، حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَتَخَلَّفَ نَاضِحِي، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَقَالَ فِيهِ: فَنَخَسَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ لِي: "ارْكَبْ بِاسْمِ اللهِ"، وَزَادَ أَيْضًا: قَالَ: فَمَا زَالَ يَزِيدُنِي، وَيَقُولُ: "وَاللهُ يَغْفِرُ لَكَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فُضيل بن حسين بن طلحة البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237) وله أكثر (80) سنة (خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

2 -

(عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ) الْعَبْديّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [8](ت 176) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

3 -

(الْجُرَيْرِيُّ) سعيد بن إياس، أبو مسعود البصريّ، ثقةٌ، اختَلَط قبل موته بثلاث سنين [5](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 266.

[فإن قلت]: كيف أخرج مسلم للجريريّ، وقد اختلَط، وعبد الواحد ليس ممن روى عنه قبل اختلاطه؟.

[قلت]: إنما أخرج له في المتابعة، وقد سبق أن رجّحنا أن ما روي عن

ص: 777

المختلِط يُقبل بأحد شرطين: إما عن طريق من أخذ عنه قبل الاختلاط، وإما ما وافق فيه الثقات، وهذا منه، فتنبّه، وقد حقّقت هذا البحث في نظمي "عمدة المحتاط"، وشرحه "عدّة أولي الاغتباط"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

4 -

(أَبُو نَضْرَةَ) المنذر بن مالك بن قُطَعَةَ الْعَبْديّ الْعَوَقيّ البصريّ، ثقةٌ [3](ت 8 أو 109)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

و"جابر بن عبد الله رضي الله عنه" ذُكر قبله.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ) فاعل "ساق" ضمير أبي نضرة، وَيحْتَمل أن يكون ضمير شيخه أبي كامل، والأول أظهر، والله تعالى أعلم.

وقوله: (فَنَخَسَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: طعنه، يقال: نَخَست الدابّةَ نَخْسًا من باب نصر: طعنته بعُود، أو غيره، فهاج، والفاعل: نَخّاسٌ مبالغةٌ، ومنه قيل لدلّال الدوابّ ونحوها: نَخَّاس، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: ("ارْكَبْ بِاسْمِ اللهِ") فيه دليلٌ على استحباب التبرك ببسم الله عند افتتاح كل فعل، وإن كان من المباحات، فليس مخصوصًا بالقُرَب، فإنه كما قال في الوضوء:"توضؤوا باسم الله" قال هنا في الركوب: "اركب باسم الله"

(2)

.

وقوله: (فَمَا زَالَ يَزِيدُنِي) أي: في الثمن، كما بيّنه في رواية ابن ماجه الآتية في التنبيه ولفظه:"فقال لي: "أتبيع ناضحك هذا بدينار؟ والله يغفر لك"، قلت: يا رسول الله، هو ناضحكم، إذا أتيت المدينة، قال: "فتبيعه بدينارين؟ والله يغفر لك"، قال: فما زال يزيدني دينارًا دينارًا، ويقول مكان كل دينار: "والله يغفر لك" حتى بلغ عشرين دينارًا".

وقوله: (وَيَقُولُ: "وَاللهُ يَغْفِرُ لَكَ") زاد في رواية النسائيّ من طريق سليمان التيميّ، عن أبي نضرة:"قال أبو نضرة: وكانت كلمةً يقولها المسلمون: افعل كذا وكذا، والله يغفر لك".

والمعنى: أن قوله صلى الله عليه وسلم: "والله يغفر لك" كلمة اعتاد المسلمون قولها عندما يأمر بعضهم بعضًا، ولعلهم أخذوا ذلك من هذا الحديث.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 596.

(2)

"المفهم" 4/ 505.

ص: 778

فالكلمة هنا المراد بها الكلام، كما قال في "الخلاصة":

وَكِلْمَةٌ بِهَا كَلَامٌ قَدْ يُؤَمْ

وقال القرطبيّ بعد ذكر كلام أبي نضرة هذا، ما نصّه: قلت: وهو كلامٌ يُخرجه فرط المحبّة، والشفقة، وإرادة الخير للمسلمين، وهو على معنى الدعاء. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: رواية أبي نضرة، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذه ساقها ابن ماجه في "سننه" (2/ 743) فقال:

(2205)

- حدّثنا محمد بن يحيى، ثنا يزيد بن هارون، عن الجريريّ، عن أبي نضرة، عن جابر بن عبد الله، قال: كنت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة، فقال لي:"أتبيع ناضحك هذا بدينار؟ والله يغفر لك"، قلت: يا رسول الله، هو ناضحكم، إذا أتيت المدينة، قال:"فتبيعه بدينارين؟ والله يغفر لك"، قال: فما زال يزيدني دينارًا دينارًا، ويقول مكان كل دينار:"والله يغفر لك" حتى بلغ عشرين دينارًا، فلما أتيت المدينة، أخذت برأس الناضح، فأتيت به النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"يا بلال أعطه من الغنيمة عشرين دينارًا"، وقال:"انطلق بناضحك، فاذهب به إلى أهلك". انتهى.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4096]

(

) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: لَمَّا أَتَى عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم -وَقَدْ أَعْيَا بَعِيرِي- قَالَ: فَنَخَسَهُ، فَوَثَبَ، فَكُنْتُ بَعْدَ ذَلِكَ أَحْبِسُ خِطَامَهُ لأَسْمَعَ حَدِيثَهُ، فَمَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَلَحِقَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"بِعْنِيهِ"، فَبِعْتُهُ مِنْهُ بِخَمْسِ أَوَاقٍ، قَالَ: قُلْتُ: عَلَى أَنَّ لِي ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ:"وَلَكَ ظَهْرُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ"، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ أَتَيْتُهُ بِهِ، فَزَادَنِي وُقِيَّة

(2)

، ثُمَّ وَهَبَهُ لِي).

(1)

"المفهم" 4/ 504.

(2)

وفي نسخة: "أوقيّةً".

ص: 779

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ) سليمان بن داود الزهرانيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(حَمَّادُ) بن زيد، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة السَّختيانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس، تقدّم قبل باب. و"جابر رضي الله عنه" ذُكر قبله.

وقوله: (لأَسْمَعَ حَدِيثَهُ) أي: حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (بِخَمْسِ أَوَاقٍ) تقدّم أن الأرجح كون الثمن وُقيّة، كما رجحه البخاريّ رحمه الله، فتنبّه.

وقوله أيضًا: (فَبِعْتُهُ مِنْهُ بِخَمْسِ أَوَاقٍ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا في جميع النسخ: "فبعته منه"، وهو صحيح، جائز في العربيّة، يقال: بعته، وبعت منه، وقد كثُر ذكر نظائره في الحديث، وقد أوضحته في "تهذيب اللغات". انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: وبِعْتُ زيدًا الدارَ يتعدى إلى مفعولين، وكثُر الاقتصار على الثاني؛ لأنه المقصود بالإسناد، ولهذا تتم به الفائدة، نحوُ بعتُ الدارَ، ويجوز الاقتصار على الأول عند عدم اللبس، نحوُ بعتُ الأميرَ؛ لأن الأمير لا يكون مملوكاَ يباع، وقد تدخل "مِنْ! على المفعول الأول على وجه التوكيد، فيقال: بعت من زيد الدارَ، كما يقال: كتمته الحديثَ، وكتمت منه الحديثَ، وسرَقتُ زيدًا المالَ، وسرقت منه المالَ، وربما دخلت اللام مكان "مِنْ"، يقال: بعتك الشيءَ، وبعته لك، فاللام زائدة زيادَتها في قوله تعالى:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} الآية [الحج: 26]، والأصل بوأنا إبراهيمَ. انتهى

(2)

.

وقوله: (فَزَادَنِي وُقِيَّة) بالواو، وفي بعض النسخ:"أوقيّة" بالهمزة.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 34.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 69.

ص: 780

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4097]

(

) - (حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَم الْعَمِّيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا بَشِيرُ بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: سَافَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارهِ -أَظُنُّهُ قَالَ: غَازِيًا- وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ، وَزَادَ فِيهِ: قَالَ: "يَا جَابِرُ أَتَوَفَّيْتَ الثَّمَنَ؟

(1)

" قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: "لَكَ الثَّمَنُ، وَلَكَ الْجَمَلُ، لَكَ الثَّمَنُ، وَلَكَ الْجَمَلُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ الْعَمِّيُّ)

(2)

أبو عبد الملك البصريّ، ثقةٌ [11](م د ت ق) تقدم في "الإيمان" 27/ 220.

2 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ) بن زيد بن عبد الله بن أبي إسحاق الْحَضْرميّ مولاهم، أبو محمد المقرئ النحويّ البصريّ، صدوقٌ، من صغار [9].

رَوَى عن جدّه زيد بن عبد الله، والأسود بن شيبان، وسوادة بن أبي الأسود، وسليمان بن معاذ الضبيّ، وسليم بن حَيّان، وزائدة بن قدامة، وغيرهم.

وروى عنه عمرو بن عليّ الفلاس، وأبو الربيع الزهرانيّ، وعبد الله بن محمد بن يحيى الطَّرَسوسيّ، وعقبة بن مُكرَم العَمّيّ، وغيرهم.

قال أحمد، وأبو حاتم: صدوق، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد: ليس هو عندهم بذاك الثبت، يذكرون أنه حَدّث عن الرجال لقيهم، وهو صغير.

قال البخاريّ، عن أحمد بن سعيد الرِّباطيّ: مات سنة خمس ومائتين، وفيها أرّخه غير واحد، وزاد بعضهم: في ذي الحجة.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، في "الشمائل"، والنسائيّ،

(1)

وفي نسخة: "أستوفيتَ الثمنَ".

(2)

"مُكْرَمٌ" بضمّ الميم، وإسكان الكاف، وفتح الراء، وأما "الْعَمّيّ" فبتشديد الميم: منسوب إلى بني العمّ، من تميم. انتهى. "شرح النوويّ" 11/ 34.

ص: 781

وابن ماجه، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا برقم (715)، وحديث (142): "ما من أمير يلي أمر المسلمين

"، وحديث (2545): "أنّ في ثقيف كذّابًا ومبيرًا

".

3 -

(بَشِيرُ بْنُ عُقْبَةَ) الناجيّ الساميّ -بالمهملة- ويقال فيه: الأزديّ، أبو عَقِيل -بفتح العين- الدَّوْرقيّ البصريّ، ثقةٌ [7].

رَوَى عن أبي المتوكل، وأبي نضرة، والحسن، وابن سيرين، ومجاهد، وغيرهم.

وروى عنه بهز بن أسد، وابن مهديّ، وهُشيم، والقطان، وغيرهم.

قال أبو حاتم، عن مسلم بن إبراهيم: ثقةٌ، وقال أحمد، وابن معين: ثقةٌ، وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: صالح الحديث، قال: قلت: يُحتجّ بحديثه؟ قال: صالح الحديث، وقال الفلاس: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: أظنه من دَوْرَق.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود في "المراسيل"، والترمذيّ في "الشمائل"، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (715)، وحديث (1951): "إن الله لَعَن، أو غَضِب على سبط من بني إسرائيل

".

4 -

(أَبُو الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيُّ)

(1)

عليّ بن داود، ويقال: دُؤاد، تقدّم قريبًا. و"جابر رضي الله عنه" ذُكر قبله.

وقوله: (سَافَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ

إلخ) تقدّم أن الأرجح أنها غزوة ذات الرقاع.

وقوله: (وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ) فاعل "اقتَصَّ" ضمير أبي المتوكّل، ويَحْتَمل أن يكون ضمير شيخه عقبة بن مكرم، والأول أظهر.

وقوله: (أَتَوَفَّيْتَ الثَّمَنَ؟) وفي بعض النسخ: "أستوفيتَ الثمن"، وهو بمعناه، والهمزة للاستفهام، وحُذفت همزة الوصل؛ للاستغناء عنها.

(1)

"الناجيّ" بالنون والجيم: منسوب إلى ناجية، وهم من بني أسامة بن لُؤيّ، وقال أبو عليّ الغسّانيّ رحمه الله: هم: أولاد ناجية، امرأة كانت تحت أُسامة بن لؤيّ. انتهى. "شرح النوويّ" 11/ 34 - 35.

ص: 782

وقوله: ("لَكَ الثَّمَنُ، وَلَكَ الْجَمَلُ، لَكَ الثَّمَنُ، وَلَكَ الْجَمَلُ") كرّره للتوكيد.

[تنبيه]: رواية أبي المتوكّل الناجيّ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(2706)

- حدّثنا مسلم

(1)

، حدَّثنا أبو عَقِيل، حدّثنا أبو المتوكل الناجيّ، قال: أتيت جابر بن عبد الله الأنصاريّ، فقلت له: حدِّثني بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: سافرت معه في بعض أسفاره، قال أبو عَقِيل: لا أدري غزوةً، أو عمرةً، فلما أن أقبلنا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من أحب أن يتعجل إلى أهله، فليعجل"، قال جابر: فأقبلنا، وأنا على جمل لي أَرْمَكَ

(2)

ليس فيه شِيَةُ، والناس خلفي، فبينا أنا كذلك إذ قام عليّ، فقال لي النبيّ صلى الله عليه وسلم: يا جابر استمسك، فضربه بسوطه ضربةً، فوَثَبَ البعير مكانه، فقال:"أتبيع الجمل؟ "، قلت: نعم، فلما قدمنا المدينة، ودخل النبيّ صلى الله عليه وسلم المسجد في طوائف أصحابه، فدخلت إليه، وعَقَلت الجمل في ناحية البَلاط، فقلت له: هذا جملك، فخرج، فجعل يُطِيف بالجمل، ويقول:"الجمل جملنا"، فبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم أواقٍ من ذهب، فقال:"أعطوها جابرًا"، ثم قال:"استوفيت الثمن؟ " قلت: نعم، قال:"الثمنُ، والجمل لك". انتهى.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل الى المؤلّفرحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4098]

(

) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَارِبٍ؛ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: اشْتَرَى مِنِّي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعِيرًا بِوُقِيَّتَيْنِ، وَدِرْهَمٍ أَوْ دِرْهَمَيْنِ، قَاَلَ: فَلَمَّا قَدِمَ صِرَارًا أَمَرَ بِبَقَرَةٍ، فَذُبِحَتْ، فَأَكَلُوا مِنْهَا، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، أَمَرَنِي أَنْ آتِيَ الْمَسْجِدَ، فَأُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، وَوَزَنَ لِي ثَمَنَ الْبَعِيرِ، فَأَرْجَحَ لِي).

(1)

هو ابن إبراهيم الأزديّ الفراهيديّ البصريّ.

(2)

بِراء، وكاف، وزانُ أحمر، والمراد: ما خالط حمرته سواد.

ص: 783

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ العنبريّ البصريّ، تقدّم قريبًا أيضًا.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجاج الإمام المشهور، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(مُحَارِبُ) بن دِثَار السَّدُوسيّ الكوفيّ القاضي، ثقةٌ إمامٌ زاهدٌ [4](ت 116)(ع) تقدم في "الصلاة" 40/ 1069.

و"جابر رضي الله عنه" ذُكر قبله.

وقوله: (فَلَمَّا قَدِمَ صِرَارًا) قال النوويّ رحمه الله: هو بصاد مهملة مفتوحة، ومكسورة، والكسر أفصح وأشهر، ولم يذكر الأكثرون غيره، قال القاضي: وهو عند الدارقطنيّ، والخطابيّ، وغيرهما، وعند أكثر شيوخنا صِرار: بصاد مهملة مكسورة، وتخفيف الراء، وهو موضع قريب من المدينة، قال: وقال الخطابيّ: هي بئر قديمة على ثلاثة أميال من المدينة، على طريق العراق، قال القاضي: والأشبه عندي أنه موضع لا بئر، قال: وضبطه بعض الرواة في مسلم، وبعضهم في البخاريّ: ضِرار، بكسر الضاد المعجمة، وهو خطأ، ووقع في بعض النسخ المعتمدة:"فلما قَدِم صرار" غير مصروف، والمشهور صرفه. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": صِرار بكسر الصاد المهملة، والتخفيف، ووهِمَ من ذكره بمعجمة أوّله، وهو موضع بظاهر المدينة على ثلاثة أميال منها، من جهة المشرق. انتهى

(2)

.

وقوله: (أَمَرَ بِبَقَرَةٍ، فَذُبِحَتْ) فيه أن السنّة في البقر الذبح، لا النحر، ولو عكس جاز، وأما قوله في الرواية الأخرى:"أَمَرَ ببقرة، فنُحِرت"، فالمراد بالنحر الذبح؛ جمعًا بين الروايتين، قاله النوويّ رحمه الله

(3)

.

وقوله: (أَمَرَنِي أَنْ آِتيَ الْمَسْجِدَ، فَاُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ) فيه أنه يُستحبّ للقادم

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 35.

(2)

"الفتح" 7/ 341 "كتاب الجهاد" رقم 3089.

(3)

"شرح النوويّ" 11/ 35.

ص: 784

من السفر أن يبدأ بالمسجد، فيصلي فيه ركعتين، وفيه أن نافلة النهار يُستحبّ كونها ركعتين ركعتين، كصلاة الليل، قال النوويّ: وهو مذهبنا، ومذهب الجمهور، وسبق بيانه في "كتاب الصلاة". انتهى

(1)

.

وقوله: (وَوَزَنَ لِي ثَمَنَ الْبَعِيرِ، فَأَرْجَحَ لِي) فيه مشروعيّة إرجاح الوزن فيما يدفعه من الثمن، أو غيره، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4099]

(

) - (حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنَا مُحَارِبٌ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ-صلى الله عليه وسلم بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَاشْتَرَاهُ مِنِّي بِثَمَنٍ قَدْ سَمَّاهُ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْوُقِيَّتَيْنِ، وَالدِّرْهَمَ وَالدِّرْهَمَيْنِ، وَقَالَ: أَمَرَ بِبَقَرَةٍ فَنُحِرَتْ، ثُمَّ قَسَمَ لَحْمَهَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ) البصريّ، ثقةٌ [10](ت 248) أو بعدها (م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.

2 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) بن عبيد الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية خالد بن الحارث، عن شعبة هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4100]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "قَدْ أَخَذتُ جَمَلَكَ بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ، وَلَكَ ظَهْرُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ").

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 35.

ص: 785

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ) هو: يحيى بن زكريّا بن أبي زائدة الْهَمْدانيّ، أبو سعيد الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 3 أو 184) وله (93) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 121.

2 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، تقدّم قريبًا.

3 -

(عَطَاءُ) بن أبي رَبَاح، واسمه أسلم، تقدّم قبل بابين.

والباقيان ذُكرا في الباب وقبله.

وقوله: (بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ) تقدّم بيان الاختلاف في ثمن الجمل، وترجيح الراجح، فلا تنس.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، وبالله تعالى التوفيق.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة عليّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة:

قد انتهيتُ من كتابة الجزء السابع والعشرين من "شرح صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحرَ المحيطَ الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" وقت الضحى يوم الأحد المبارك، وهو اليوم التاسع من شهر ربيع الثاني (9/ 4/ 1430 هـ الموافق 5 إبريل 2009 م).

أسأل الله العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رءوف رحيم.

وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية [الأعراف: 43].

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 183].

ص: 786

"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام على النبيّ ورحمة الله وبركاته".

ويليه -إن شاء الله تعالى- الجزء الثامن والعشرون مفتتحًا بـ (43) - (بَابُ جَوازِ اقْتِرَاضِ الْحَيَوَانِ، وَاسْتِحْبَابِ تَوْفِيَتِهِ خَيْرًا مِمَّا عَلَيْهِ) رقم الحديث [4101](1600).

"سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".

* * *

ص: 787