الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
يوم الأحد التاسع من شهر ربيع الثاني 9/ 4/ 1430 هـ أول الجزء الثامن والعشرين من شرح "صحيح الإمام مسلم" المسمّى "البحر المحيط الثجّاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" رحمه الله تعالى.
(43) - (بَابُ جَوَازِ اقْتِرَاضِ الْحَيَوَانِ، وَاسْتِحْبَابِ تَوْفِيَتِهِ خَيْرًا مِمَّا عَلَيْهِ)
قال الفيّوميّ رحمه الله: القَرْض: ما تُعطيه غيرك من المال؛ لتُقضاه، والجمع: قُرُوض، مثلُ: فَلْسٍ وفُلُوس، وهو اسم من أقرضته المالَ إقراضًا، واستقرض: طلب القرض، واقترض: أخذه، وتقارضا الثناء: أثنى كلّ واحد على صاحبه، وقارضه من المال قِراضًا، من باب قاتل، وهو المضاربة. انتهى
(1)
.
وقال ابن قُدامة رحمه الله: القرض نوع من السَّلف، وهو جائز بالسُّنَّة، والإجماع، أما السُّنَّة: فحديث أبي رافع رضي الله عنه: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، استسلف من رجل بَكْرًا، فقَدِمت على النبيّ صلى الله عليه وسلم إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بَكْرَه، فرجع إليه أبو رافع، فقال: يا رسول الله، لم أجد فيها إلا خيارًا رَبَاعيًا، فقال: أعطه، فإن خير الناس أحسنهم قضاء"، رواه مسلم. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ما من مسلم يُقرض مسلمًا قرضًا مرتين، إلا كان كصدقة مرة"
(2)
، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت ليلة أُسري بي على باب الجنة مكتوبًا: الصدقةُ بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر، فقلت: يا جبريل ما بال القرض أفضل من الصدقة؟ قال: لأن السائل يسأل وعنده، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة"
(3)
، رواهما ابن ماجه، وأجمع المسلمون على جواز القرض. انتهى.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 498.
(2)
حديث صحيح، رواه ابن ماجه في "سننه"(2/ 812).
(3)
حديث ضعيف، رواه ابن ماجه في "سننه"(2/ 812)، وفي سنده خالد بن يزيد =
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4101]
(1600) - (حَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ زيدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا، فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ، مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ، فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلَّا خِيَارًا رَبَاعِيًا، فَقَالَ: "أَعْطِهِ إِيَّاهُ، إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ) المصريّ، ثقة [10](250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ عابدٌ [9](197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين، أبو عبد الله المدنيّ [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.
4 -
(زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ) العدويّ مولاهم المدنيّ، ثقة فقيه يرسل [3](136)(ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.
5 -
(عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ) الهلاليّ مولاهم، أبو محمد المدنيّ، ثقة عابد فاضل، من صغار [2](94)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
6 -
(أَبُو رَافِعٍ) القبطيّ، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل: اسمه إبراهيم، وقيل: أسلم، وقيل: ثابت، وقيل: هُرْمُز، صحابيّ مشهور، مات رضي الله عنه في أول خلافة علي رضي الله عنه على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 22/ 187.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخه، كما أسلفته آنفًا.
= أبو هاشم الدمشقيّ ضعيفٌ، مع كونه فقيهًا، وقد اتّهمه ابن معين.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بثقات المدنيين، غير شيخه، وشيخ شيخه، فإنهما مصريّان.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: زيد، عن عطاء، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي رَافِعٍ) القبطيّ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْلَفَ)؛ أي: طلب السَّلَف، وهو القرض (مِنْ رَجُلٍ) قال صاحب "التنبيه": هو أبو الشَّحْم. انتهى
(1)
. (بَكْرًا) -بفتح الباء الموحّدة-: الفتِيّ من الإبل، وهو فيها كالغلام في الرجال، والْقَلُوصُ فيها كالجارية في النساء، قاله القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: البَكْرُ بالفتح: الْفَتِيّ من الإبل، وبه كُني، ومنه أبو بَكر الصدّيق رضي الله عنه، والجمع أبكار، والبَكْرة: الأنثى، والجمع بِكار، مثل كَلْبة وكِلاب، وقد يقال: بِكارةٌ مثل حجارة. انتهى
(3)
.
وقال النوويّ رحمه الله: أما البكر من الإبل، فبفتح الباء، وهو الصغير، كالغلام من الآدميين، والأنثى بَكْرَةٌ، وقَلُوص، وهي الصغيرة، كالجارية، فإذا استَكْمَل ست سنين، ودخل في السابعة، وألقى رَبَاعيته، بتخفيف الياء، فهو رَبَاعٌ، والأنثى رَبَاعية، بتخفيف الياء، وأعطاه رَبَاعيًا بتخفيفها. انتهى
(4)
.
(فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ) وفي رواية ابن خُزيمة: "استسلف من رجل بكرًا، فقال: إذا جاءت إبل الصدقة قضيناك، فلما جاءت إبل الصدقة، أمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع، فقال: لم أجد فيها إلا خيارًا رَباعيًا، فقال: أعطه إياه".
(مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ) رضي الله عنه (أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ)؛ أي: من إبل الصدقة، وفي رواية النسائيّ: "فقال لرجل: انطلق، فابتع له بَكْرًا
…
"، وهذا يخالف ما في مسلم من أنه أمره أن يقضيه من إبل الصدقة، ويُمكن أن
(1)
"تنبيه المعلم" ص 268.
(2)
"المفهم" 4/ 506.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 59.
(4)
"شرح النوويّ" 11/ 37.
يُجمع بينهما بأنه صلى الله عليه وسلم أمره أوّلًا أن يشتري له بكره، ثم أتاه إبل الصدقة قبل أن يشتري له، فأعطاه منها، أو أنه أمر بالشراء من إبل الصدقة ممن استَحَقّ منها شيئًا، ويؤيده رواية ابن خزيمة المذكورة:"إذا جاءت الصدقة قضيناك"، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "فقدمت عليه إبل الصدقة
…
" إلى آخره: هذا مما يُسْتَشكَل، فيقال: فكيف قضى من إبل الصدقة أجود من الذي يستحقه الغريم، مع أن الناظر في الصدقات لا يجوز تبرعه منها؟
والجواب: أنه صلى الله عليه وسلم اقترض لنفسه، فلما جاءت إبل الصدقة اشترى منها بعيرًا رَبَاعيًا، ممن استحقه، فمَلَكه النبيّ صلى الله عليه وسلم بثمنه، وأوفاه متبرعًا بالزيادة من ماله، ويدُلّ على ما ذكرناه رواية أبي هريرة رضي الله عنه التي قدّمناها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"اشتَرُوا له سنًّا"، فهذا هو الجواب المعتمد.
وقد قيل فيه أجوبة غيره، منها أن المقترض كان بعض المحتاجين اقترض لنفسه، فأعطاه من الصدقة حين جاءت، وأمره بالقضاء. انتهى
(2)
.
(فَرَجَعَ إِلَيْهِ) صلى الله عليه وسلم (أَبُو رَافِعٍ) رضي الله عنه (فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ فِيهَا)؛ أي: في إبل الصدقة (إِلَّا خِيَارًا) خيار الشيء: أحسنه، وأفضله، قاله في "المفهم"، وقال في "الفتح": والخيار: الجيّد، يُطلق على الواحد والجمع. انتهى. (رَبَاعِيًا) بفتح الراء: هو الذي دخل في السنة السابعة؛ لأنه يُلقي فيها رَباعيته، وهي التي تلي الثنايا، وهي أربع رباعيات -مخفّف الياء- والذكر رَبَاعٌ، والأنثى رباعية (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَعْطِهِ إِيَّاهُ)؛ أي: أعط الرجل الرباعي، فالهاء عائد على الرجل، وهو المفعول الأول، و"إيّاه" هو المفعول الثاني، وفي رواية النسائيّ:"فقال: أعطه"، بحذف المفعول الثاني؛ اختصارًا، كما في قوله تعالى:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ} الآية [الضحى: 5]، ويَحْتَمِل أن يكون الهاء للرباعي، والمحذوف هو المفعول الأول، كما في قوله تعالى:{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} الآية [التوبة: 29].
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً") جملة تعليلية لأمره بإعطائه الرباعي مع كونه أكبر من بَكره؛ يعني أن خير الناس في المعاملة، أو "مِن"
(1)
"الفتح" 6/ 198.
(2)
"شرح النوويّ" 11/ 37 - 38.
مقدّرة، كما تدل عليه الروايات الأخرى، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي:"فإن من خيركم"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي رافع رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [43/ 4101 و 4102](1600)، و (أبو داود) في "البيوع"(2346)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1318)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 291) و"الكبرى"(4/ 40)، و (ابن ماجه) في "التجارات"(2285)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 390)، و (الدارميّ) في "سننه"(2565)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2332)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 110 و 5/ 353) و"المعرفة"(3/ 255)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان جواز استسلاف الحيوان، واستقراضه، وهو قول أكثر أهل العلم، ومنع من ذلك الثوريّ، والحنفية، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث دليل على جواز قرض الحيوان، وهو مذهب الجمهور، ومنع ذلك الكوفيون، وهذا الحديث الصحيح حجَّة عليهم، واستثنى من الحيوان أكثر العلماء: الجواري، فمنعوا قرضهنّ؛ لأنه يؤدّي إلى عارية الفروج، وأجاز ذلك بعض أصحابنا بشرط أن يردَّ غيرها، وأجاز ذلك مطلقًا الطبريّ، والمزنيّ، وداود الأصبهانيّ. وقصر بعض الظاهرية جواز القرض على ما له مِثْل من المعيَّن، والمكيل، والموزون، وهذا الحديث حجَّة عليهم. انتهى
(1)
، وسيأتي البحث في هذه المسألة قريبًا -إن شاء الله تعالى-.
2 -
(ومنها): جواز الاقتراض، والاستدانة، وإنما اقترض النبيّ صلى الله عليه وسلم للحاجة، وكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من المَغْرَم، وهو الدَّين، قاله النوويّ رحمه الله
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: الحديث يدلّ على جواز الأخذ بالدَّين، ولا يَخْتَلف
(1)
"المفهم" 4/ 506.
(2)
"شرح النوويّ" 11/ 37.
العلماء في جواز سؤاله عند الحاجة إليه، ولا نقص على طالبه، ولا تثريب، ولا مِنّةَ تَلْحَق فيه، ولو كان فيه شي من ذلك لَمَا استسلف النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنه كان أنزه الناس، وأبعدهم عن تلك الأمور
(1)
.
3 -
(ومنها): أن فيه جوازَ وفاء ما هو أفضل من المِثْل المقترَض، إذا لم تقع شرطية ذلك في العقد، فيحرم حينئذ اتفاقًا، وبه قال الجمهور، وعن المالكية تفصيل في الزيادة، إن كانت بالعدد مُنعت، وإن كانت بالوصف جازت.
4 -
(ومنها): جواز المطالبة بالدَّين، إذا حَلّ أجله.
5 -
(ومنها): أن فيه جوازَ الاقتراض في البرّ، والطاعة، وكذا في الأمور المباحة، وأنه لا يعاب ذلك.
6 -
(ومنها): أن للإمام أن يقترض على بيت المال؛ لحاجة بعض المحتاجين؛ ليوفي ذلك من مال الصدقات.
7 -
(ومنها): أن هذه الأحاديث تدلّ على جواز السَّلَم في الحيوان، وحكمه حكم القرض، قاله النوويّ رحمه الله
(2)
.
8 -
(ومنها): أنه يستحبّ لمن عليه دَين، من قرض، وغيره، أن يرُدّ أجود من الذي عليه، وهذا من السُّنَّة، ومكارم الأخلاق، وليس هو من قرض جَرّ منفعة، فإنه منهي عنه؛ لأن المنهيّ عنه ما كان مشروطًا في عقد القرض، قال النوويّ رحمه الله: ومذهبنا أنه يستحب الزيادة في الأداء عما عليه، ويجوز للمقرض أخذها، سواءٌ زاد في الصفة، أو في العدد، بأن أقرضه عشرةً، فأعطاه أحد عشر، ومذهب مالك أن الزيادة في العدد منهيّ عنها، وحجة أصحابنا عموم قوله صلى الله عليه وسلم:"خيركم أحسنكم قضاءً". انتهى
(3)
.
9 -
(ومنها): أنه استدل به الشافعيّ رحمه الله على جواز تعجيل الزكاة، هكذا حكاه ابن عبد البرّ، قال الحافظ: ولم يظهر لي توجيهه، إلا أن يكون المراد ما قيل في سبب اقتراضه صلى الله عليه وسلم، وأنه كان اقترضه لبعض المحتاجين من أهل
(1)
"المفهم" 4/ 505 - 506.
(2)
"شرح النوويّ" 11/ 37.
(3)
"شرح النوويّ" 11/ 37.
الصدقة، فلما جاءت الصدقة، أوفى صاحبه منها، ولا يعكر عليه، أنه أوفاه أزيد من حقه من مال الصدقة؛ لاحتمال أن يكون المقترَض منه، كان أيضًا من أهل الصدقة، إما من جهة الفقر، أو التألّف، أو غير ذلك، بجهتين: جهة الوفاء في الأصل، وجهة الاستحقاق في الزائد.
وقيل: كان اقتراضه في ذمته، فلما حلّ الأجل، ولم يجد الوفاء صار غارمًا، فجاز له الوفاء من الصدقة، وقيل: كان اقتراضه لنفسه، فلما حلّ الأجل، اشترى من إبل الصدقة بعيرًا، ممن استحقه، أو اقترضه من آخر، أو من مال الصدقة؛ ليوفيه بعد ذلك، قال الحافظ: والاحتمال الأول أقوى، ويؤيده سياق حديث أبي رافع. ذكره في "الفتح"
(1)
.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في تأويل قضاء النبيّ صلى الله عليه وسلم الْبَكْر من مال الصدقة: قال القرطبيّ رحمه الله: اختَلَف أرباب التأويل في استسلاف النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا البَكْر، وقضائه عنه من مال الصدقة، هل كان ذلك السَّلف لنفسه، أو لغيره؟ فمنهم من قال: كان لنفسه، وكان هذا قبل أن تحرم عليه الصدقة، وهذا فاسد؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم تزل الصدقة مُحَرَّمة عليه منذ قدوم المدينة، وكان ذلك من خصائصه، ومن جملة علاماته المذكورة في الكتب المتقدِّمة؛ بدليل قصة سلمان الفارسيّ رضي الله عنه، فإنه عند قدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ جاءه سلمان بتمر، فقدَّمه إليه، وقال: كُل، فقال:"ما هذا؟ " قال: صدقة، فقال لأصحابه:"كلوا"، ولم يأكل، وأتاه يومًا آخر بتمر، فقال: هدية، فأكل، فقال سلمان: هذه واحدة، ثم رأى خاتم النبوَّة فأسلم، وهذا واضح.
وقيل: استسلفه لغيره ممن يستحقّ أخذ الصدقة، فلما جاءت إبل الصدقة دفع منها، وقد استُبْعِد هذا من حيث: إنه قضى أزيد من القرض من مال الصدقة، وقال:"إن خيركم أحسنكم قضاء"، فكيف يعطي زيادة من مال ليس له؟ ويجعل ذلك من باب حسن القضاء؟!.
وقد أجيب عن هذا: بأن قيل: كان الذي استقرض منه من أهل
(1)
"الفتح" 6/ 199 - 200.
الصدقة، فدفع الرَّباعية بوجهين: بوجه القرض، وبوجه الاستحقاق.
وقيل وجه ثالث، وهو أحسنها -إن شاء الله تعالى- وهو: أن يكون استقرض البَكْر على ذمته، فدفعه لمستحقّ، فكان غارمًا، فلما جاءت إبل الصدقة أخذ منها بما هو غارم جملًا رَبَاعيًا، فدفعه فيما كان عليه، فكان أداء عمَّا في ذمته وحُسن قضاء بما يملكه. وهذا كما روي: أنه صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمرو أن يجهز جيشًا، فنَفِدت الإبل، فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة، فظاهره: أنَّه أخذ على ذمَّته، فبقي أن يقال: فكيف يجوز له أن يؤدِّي دَينه، ويبرئ ذمته مِمَّا لا يجوز له أخذه؟
ويجاب عنه: بأنه لَمَّا لم يأخذه لنفسه صار بمنزلة من ضمنه في ذمته إلى وقت مجيء الصدقة، فلو لم يجئ من إبل الصدقة شيء لضمنه لمقرِضه من ماله، والله أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن الجواب الذي قبل هذا الثالث، وهو ما تقدّم في قوله: "استسلفه لغيره
…
إلخ" أظهر من هذا، وأقرب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): فيما قيل في حكمة شغل النبيّ صلى الله عليه وسلم ذمّته بالدين:
قال القرطبيّ رحمه الله: [فإن قيل]: كيف شغل النبيّ صلى الله عليه وسلم ذمَّته بدين، وقد قال:"إياكم والدَّين، فإنه شَيْنٌ، الدَّين هَمٌّ بالليل، ومذلة بالنهار"
(1)
؟ وقد كان كثيرًا ما يتعوَّذ منه، حتى قيل له: ما أكثر ما تستعيذ من المَغْرَم، فقال:"إن الرَّجل إذا غَرِم حدَّث فكذَب، ووعد فأخلف"، متّفقٌ عليه.
لا يقال: إنما استقرض عند الحاجة والضرورة؛ لأنا نقول: لم يكن في ضرورة إلى ذلك، فإن الله تعالى خيَّره بين أن يجعل له بطحاء مكة ذهبًا، كما رواه الترمذي من حديث أبي أمامة، وحسّنه؛ ومن كانت هذه حاله لم يكن في ضرورة، ولا حاجة، ولذلك قال الله تعالى له:{وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)} [الضحى: 8].
قال القرطبيّ: قلت: أما الأخذ بالدَّين عند الحاجة، وقصد الأداء عند
(1)
حديثٌ ضعيف جدًّا، راجع:"السلسلة الضعيفة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله 5/ 290.
الوِجدان، فلا يُختلف في جوازه، وقد يجب في بعض الأوقات عند الضرورات المتعيّنة، وأما النهي عن أخذه -إن صحَّ
(1)
- فإنما ذلك لمن لم تدْعه إليه حاجة، لِمَا يطرأ من تحمّله من الأمور التي ذكرناها، من الإذلال، والمطالبة، وما يُخاف من الكذب في الحديث، والإخلاف في الوعد، وقد عصم الله تعالى نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك كلّه، فلم يحوجه إلى شيء من ذلك، ولا أجراه عليه.
وأما قولهم: إنه لم يكن في ضرورة؛ لأن الله خيَّره، فجوابه: إن الله تعالى لمَّا خيَّره، فاختار أن يجوع ثلاثًا، ويشبع يومًا، أجرى الله تعالى عليه ما اختاره لنفسه، وما أشار إليه به صفيُّه، ونصيحه جبريل عليه السلام، فسلك الله تعالى به أعلى السبيل، ليصبر على المشقات والشدائد، كما صبر أولو العزم من الرسل، ولينال أعلى المقامات الفاخرة، ألا تسمع قوله لعمر رضي الله عنه:"أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ "، ثم لَمَّا أخلص الله جوهره، وطيَّب خُبْرَهُ وخَبَرَهُ؛ أغناه بعد العيلة، وكثَّره بعد القِلَّة، وأعزّه به بعد الذلة، ومن تمام الحكمة في أخذه صلى الله عليه وسلم بالدُّيون ليقتدي به في ذلك المحتاجون. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
، وهو بحث نفيس، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): في حكم القرض:
قال العلّامة ابن قُدامة رحمه الله: والقرض مندوب إليه في حقّ المقرض، مباح للمقترض؛ لما روينا من الأحاديث؛ ولما رَوَى أبو هريرة رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"من نفّس عن مؤمن كُرْبة من كُرَب الدنيا، نفّس الله عنه كُرْبة من كُرَب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر، يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد، ما كان العبد في عون أخيه" الحديث، أخرجه مسلم، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: لأن أُقْرِض دينارين، ثم يُرَدّان، ثم أقرضهما أحب إلي من أن أتصدق بهما. ولأن فيه تفريجًا عن أخيه المسلم، وقضاءً لحاجته، وعونًا له، فكان مندوبًا إليه، كالصدقة عليه، وليس بواجب.
(1)
تقدّم أنه لا يصحّ، فتنبّه.
(2)
"المفهم" 4/ 506 - 509.
قال أحمد: لا إثم على من سئل القرض، فلم يُقرِض، وذلك لأنه من المعروف، فأشبه صدقة التطوع، وليس بمكروه في حق المقرض، قال أحمد: ليس القرض من المسألة -يعني ليس بمكروه- وذلك لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، كان يستقرض بدليل حديث أبي رافع رضي الله عنه، ولو كان مكروهًا كان أبعد الناس منه، ولأنه يأخذه بِعِوَضه، فأشبه الشراء بدَين في ذمته.
قال ابن أبي موسى: لا أحب أن يتحمل بأمانته، ما ليس عنده -يعني ما لا يقدر على وفائه- ومن أراد أن يستقرض، فَلْيُعْلِمْ من يسأله القرض بحاله، ولا يَغُرّه من نفسه، إلا أن يكون الشيء اليسير الذي لا يتعذر ردّ مثله، قال أحمد: إذا اقترض لغيره، ولم يُعلمه بحاله لم يعجبني، وقال: ما أحب أن يقترض بجاهه لإخوانه، قال القاضي: يعني إن كان من يقترِض له غير معروف بالوفاء؛ لكونه تغريرًا بمال المقرض، وإضرارًا به، أما إذا كان معروفًا بالوفاء لم يُكره؛ لكونه إعانة له، وتفريجًا لكربته. انتهى كلام ابن قدامة رحمه الله
(1)
، وهو بحث مفيد جدًّا، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: لا يصحّ القرض إلا من جائز التصرف؛ لأنه عقدٌ على المال، فلم يصلح إلا مِنْ جائز التصرف كالبيع، وحكمه في الإيجاب والقبول حكم البيع على ما مضى، ويصح بلفظ السلف والقرض؛ لورود الشرع بهما، وبكل لفظ يؤدي معناهما، مثل أن يقول: ملّكتك هذا على أن تَرُدّ عليّ بَدَله، أو توجد قرينة دالة على إرادة القرض، فإن قال: ملكتك، ولم يذكر البدل، ولا وُجد ما يدل عليه، فهو هبة، فإن اختلفا فالقول قول الموهوب له؛ لأن الظاهر معه؛ لأن التمليك من غير عوض هبة، قاله ابن قُدامة رحمه الله
(2)
، وهو تحقيق نفيس أيضًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): في اختلاف أهل العلم في جواز اقتراض الحيوان:
قال النوويّ رحمه الله: فيه ثلاثة مذاهب:
[الأول]: مذهب الشافعيّ، ومالك، وجماهير العلماء، من السلف
(1)
"المغني" لابن قُدامة رحمه الله 6/ 429 - 430.
(2)
"المغني" 6/ 430 - 431.
والخلف أنه يجوز قرض جميع الحيوانات، إلا الجارية لمن يملك وطأها، فإنه لا يجوز، ويجوز إقراضها لمن لا يملك وطأها، كمحارمها، والمرأة، والخنثى.
[والمذهب الثاني]: مذهب المزنيّ، وابن جرير، وداود: أنه يجوز قرض الجارية، وسائر الحيوانات لكلّ واحد.
[والمذهب الثالث]: مذهب أبي حنيفة، والكوفيين أنه لا يجوز قرض شيء من الحيوانات، وهذه الأحاديث تردّ عليهم، ولا تُقبل دعواهم النسخ بغير دليل. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح" ما حاصله: ذهب أكثر أهل العلم إلى جوازه -يعني استقراض الإبل ونحوه- وذهب الثوريّ، والحنفية إلى منعه، واحتجوا بحديث النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، وهو حديث، قد رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما، مرفوعًا، أخرجه ابن حبّان، والدارقطني، وغيرهما، ورجال إسناده ثقات، إلا أن الحفاظ رجحوا إرساله، وأخرجه المصنّف في الباب التالي، والترمذيّ، من حديث الحسن، عن سمرة رضي الله عنه، وفي سماع الحسن من سمرة اختلاف، قال الحافظ رحمه الله: وفي الجملة هو حديث صالح للحجيّة.
وادَّعَى الطحاويّ أنه ناسخ لحديث الباب.
وتُعُقّب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، والجمع بين الحديثين ممكن، فقد جمع بينهما الشافعيّ، وجماعة، بحمل النهي على ما إذا كان نسيئة من الجانبين، ويتعيَّن المصير إلى ذلك؛ لأن الجمع بين الحديثين أولى من إلغاء أحدهما باتفاق، وإذا كان ذلك المراد من الحديث بقيت الدلالة على جواز استقراض الحيوان، والسَّلم فيه.
واعتَلّ من منع أيضًا بأن الحيوان يختلف اختلافًا متباينًا، حتى لا يوقف على حقيقة المِثلية فيه.
وأجيب بأنه لا مانع من الإحاطة به بالوصف، بما يدفع التغاير، وقد جوّز الحنفية التزويج، والكتابة على الرقيق الموصوف في الذمة. انتهى
(2)
.
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 37.
(2)
"الْفَتْحُ" 6/ 199.
وقال ابن المنذر رحمه الله: أجمع كل من نَحفظ عنه من أهل العلم، على أن استقراض ما له مِثل من المكيل والموزون، والأطعمة جائز، ويجوز قرض كل ما يثبت في الذمة سَلَمًا، سوى بني آدم، وبهذا قال الشافعيّ، وقال أبو حنيفة: لا يجوز قرض غير المكيل والموزون؛ لأنه لا مِثل له، أشبه الجواهر.
واحتجَّ الأولون بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، استَسْلَف بَكْرًا، وليس بمكيل ولا موزون؛ ولأن ما يثبت سَلَمًا يُملك بالبيع، ويُضبط بالوصف، فجاز قرضه، كالمكيل والموزون، وقولهم: لا مِثل له، خلاف أصلهم، فإن عند أبي حنيفة: لو أتلف على رجل ثوبًا، ثبت في ذمته مِثله، ويجوز الصلح عنه بأكثر من قيمته.
قال ابن قُدامة رحمه الله: فأما ما لا يثبت في الذمة سَلَمًا، كالجواهر، وشِبْهها، فقال القاضي: يجوز قرضها، ويرد المستقرِض القيمة؛ لأن ما لا مِثل له يُضمن بالقيمة، والجواهر كغيرها في القيم، وقال أبو الخطاب: لا يجوز قرضها؛ لأن القرض يقتضي رَد المثل، وهذه لا مِثل لها، ولأنه لم يُنقَل قرضها، ولا هي في معنى ما نُقل القرض فيه؛ لكونها ليست من المرافق، ولا يثبت في الذمة سَلَمًا، فوجب إبقاؤها على المنع، ويمكن بناء هذا الخلاف على الوجهين في الواجب في بدل غير المكيل والموزون، فإذا قلنا: الواجب ردّ المثل، لم يجز قرض الجواهر، وما لا يثبت في الذمة سَلَمًا لتعذر رَدّ مثلها، وإن قلنا: الواجب ردّ القيمة، جاز قرضه؛ لإمكان ردّ القيمة، ولأصحاب الشافعيّ وجهان كهذين.
قال: فأما بنو آدم، فقال أحمد: أكره قرضهم، فيَحْتَمِل كراهية تنزيه، ويصح قرضهم، وهو قول ابن جريج، والمزني؛ لأنه مال يثبت في الذمة سَلَمًا، فصح قرضه، كسائر الحيوان، وَيحْتَمِل أنه أراد كراهة التحريم، فلا يصح قرضهم، واختاره القاضي؛ لأنه لم يُنْقَل قرضهم، ولا هو من المرافق، وَيحتَمِل صحة قرض العبيد دون الإماء، وهو قول مالك، والشافعيّ، إلا أن يقرضهنّ من ذوي محارمهنّ؛ لأن المُلك بالقرض ضعيف، فإنه لا يمنعه من ردّها على المقرِض، فلا يستباح به الوطء، كالمُلك في مدة الخيار، وإذا لم يُبَح الوطء فلم يصح القرض؛ لعدم القائل بالفرق، ولأن الأبضاع مما يحتاط لها، ولو أبحنا قرضهن، أفضى إلى أن الرجل يستقرض أمة، فيطؤها ثم يردّها
من يومه، ومتى احتاج إلى وطئها استقرضها فوطئها ثم ردّها، كما يستعير المتاع، فينتفع به ثم يرده.
قال الموفّق: ولنا أنه عقدٌ ناقل للمُلك، فاستوى فيه العبيد والإماء، كسائر العقود، ولا نُسلِّم ضَعف المُلك، فإنه مطلق لسائر التصرفات، بخلاف المُلك في مدة الخيار، وقولهم: متى شاء المقترض ردّها ممنوع، فإننا إذا قلنا: الواجب رد القيمة لم يملك المقترض ردّ الأمة، وإنما يردّ قيمتها، وإن سلّمنا ذلك، لكن متى قصد المقترض هذا لم يحل له فعله، ولا يصح اقتراضه، كما لو اشترى أمة ليطأها، ثم يردّها بالمقايلة، أو بعيب فيها، وإن وقع هذا بحكم الاتفاق لم يمنع الصحة، كما لو وقع ذلك في البيع، وكما لو أسلم جارية في أخرى، موصوفة بصفاتها، ثم ردّها بعينها عند حلول الأجل، ولو ثبت أن القرض ضعيف لا يبيح الوطء لم يُمنع منه في الجواري، كالبيع في مدة الخيار، وعدم القائل بالفرق ليس بشيء على ما عُرف في مواضعه، وعدم نقله ليس بحجة، فإن أكثر الحيوانات لم ينقل قرضها، وهو جائز. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه أحمد رحمه الله من جواز اقتراض العبد والأمة هو الأرجح؛ لأنه لم يرد نصّ يمنع من ذلك، ولا إجماع، فصار كسائر الحيوانات، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4102]
(. . .) - (حَدثنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، عنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، سَمِعْتُ زيدَ بْنَ أَسْلَمَ، أخْبَرَنَا عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ أبِي رَافِعٍ، مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اسْتَسْلَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَكْرًا، بِمِثْلِهِ، غَيْرَ أنَّهُ قَال: "فَإنَّ خَيْرَ عِبَادِ اللهِ أحْسَنُهُمْ قَضَاءً").
(1)
"المغني" 6/ 433 - 434.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
2 -
(خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ) الْقَطَوَانيّ، أبو الْهَيْثم البجليّ مولاهم الكوفيّ، صدوقٌ يتشيع، وله أفراد، من كبار [10](ت 213) أو بعدها (خ م كد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 65/ 367.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ مولاهم المدنيّ، أخو إسماعيل، وهو الأكبر [7](ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 219.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر، عن زيد بن أسلم هذه ساقها البيهقيُّ في "الكبرى" (5/ 353) فقال:
(10732)
- أخبرنا أبو زكريا يحيى بن إبراهيم بن محمد بن يحيى، أنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبدوس بن سلمة الطرائفيّ، ثنا عثمان بن سعيد الدارميّ، أنا سعيد بن أبي مريم، أنا محمد بن جعفر، أخبرني زيد، وهو ابن أسلم، عن عطاء، عن أبي رافع، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استَسْلَف من رجل بَكْرًا، فقَدِمت على النبيّ صلى الله عليه وسلم إبل، قال أبو رافع: فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أعطي الرجل بَكْرَه، وابتغيت في الإبل، فلم أجد فيها إلا جملًا رَبَاعيًا، فذكرت ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"أعطه إياه، فإن خيارَ عباد الله أحسنُهُم قضاءً". انتهى.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تم البحث فيه مستوفًى في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4103]
(1601) - (حَدثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشارِ بْنِ عُثْمَانَ الْعَبْدِيّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَقٌّ، فَأَغْلَظَ لَهُ، فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِصَاحِب الْحَقِّ مَقَالًا"، فَقَالَ لَهُمُ: "اشْتَرُوا لَهُ سِنًا، فَأَعْطُوهُ إيَّاهُ"، فَقَالُوا: إِنَّا لَا نَجِدُ إِلَّا سِنًّا هُوَ خَيْرٌ مِنْ سِنِّهِ، قَالَ: "فَاشْتَرُوهُ، فَأَعْطُوهُ إيَّاهُ، فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ -أَوْ خَيْرَكُمْ- أَحْسَنكُمْ قَضَاءً").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَدُ بْنُ بَشَّارِ بْنِ عُثْمَانَ الْعَبْدِيّ) أبو بكر البصريّ المعروف ببُندار، ثقةٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغندر، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ، صحيح الكتاب [9](ت 3 أو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج بن الورد الْعَتَكيّ مولاهم، أبو بِسطام الواسطيّ، ثم البصريّ، ثقةٌ حافظ متقنٌ، أمير المؤمنين في الحديث [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.
4 -
(سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ) الْحَضْرميّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 122) أو بعدها (ع) تقدم في "الحيض" 5/ 704.
5 -
(أَبو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ مكثرٌ فقيهٌ [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه المتوفّى سنة (57) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
[تنبيه]: من لطائف هدا الإسناد:
أنه من سداسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله كلهم رجال الجماعة، وشيخه أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وأن فيه روايةَ تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال. وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين من الرواية، وقد تقدّم هذا كله غير مرّة، وإنما أعدته تذكرةً، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه.
[تنبيه]: قال في "الفتح": هذا الحديث من غرائب الصحيح، قال البزار: لا يُروَى عن أبي هريرة رضي الله عنه، إلا بهذا الإسناد، ومداره على سلمة بن كهيل، وقد صرح في هذا الباب عند البخاريّ، بأنه سمعه من أبي سلمة بن عبد الرحمن بمنى، ولفظه: قال: سمعت أبا سلمة بمنًى، يُحدّث عن
أبي هريرة رضي الله عنه، فذكره، وذلك لمّا حجّ. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
(قَالَ: كَانَ لِرَجُلٍ) ذكر صاحب "التنبيه" أنه أبو الشحم المتقدّم ذكره
(2)
، ولم يذكر مستنده، ويأتي ما قاله الحافظ، والقرطبيّ.
(عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَقٌّ) وفي الرواية التالية: "استقرض النبيّ صلى الله عليه وسلم سِنًّا")، وفي رواية:"جاء رجل يتقاضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرًا"، وفي رواية النسائيّ:(كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، سِنٌّ مِنَ الْإِبِلِ، فَجَاءَ يَتَقَاضَاهُ"؛ أي: يطلب منه قضاء الدَّين، وفي رواية أحمد عن عبد الرزاق، عن سفيان: "جاء أعرابيّ، يتقاضى النبيّ صلى الله عليه وسلم بعيرًا"، وله عن يزيد بن هارون، عن سفيان: "استقرض النبيّ صلى الله عليه وسلم من رجل بعيرًا"، وللترمذيّ من طريق عليّ بن صالح، عن سلمة: "استقرض النبيّ صلى الله عليه وسلم سنًّا).
(فَأَغْلَظَ لَهُ) قال في "الفتح": يَحْتَمِل أن يكون الإغلاظ بالتشديد في المطالبة من غير قدر زائد.
وَيحْتَمِل أن يكون بغير ذلك، ويكون صاحب الدَّين كافرًا، فقد قيل: إنه كان يهوديًّا، والأول أظهر؛ لِمَا تقدّم من رواية عبد الرزاق أنه كان أعرابيًّا، وكأنه جرى على عادته من جفاء المخاطبة.
قال الحافظ: ووقع في ترجمة بكر بن سهل في "معجم الطبراني" عن العرباض بن سارية رضي الله عنه ما يُفهم أنه هو، لكن روى النسائيّ، والحاكم الحديث المذكور، وفيه ما يقتضي أنه غيره، وأن القصّة وقعت لأعرابيّ، ووقع للعرباض نحوها. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا الرجل كان من اليهود، فإنهم كانوا أكثر من يُعامل بالدَّين. وحُكي أن القول الذي قاله، إنما هو: إنكم يا بني عبد المطّلب مُطْلٌ، وكَذَبَ اليهوديّ، لم يكن هذا معروفًا من أجداد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا أعمامه، بل المعروف منهم الكرم، والوفاء، والسخاء، وبعيدٌ أن يكون هذا القائل مسلمًا، إذ مقابلة النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك أذى للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وأذاه كفر. انتهى
(4)
.
(1)
"الفتح " 6/ 200.
(2)
راجع: "تنبيه المعلم" ص 268.
(3)
"الفتح" 6/ 198.
(4)
"المفهم" 4/ 509.
(فَهَمَّ بِهِ أصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: أرادوا أن يؤذوه بالقول، أو الفعل، لكن لم يفعلوا أدبًا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا")؛ أي: صولةَ المطلب، وقوّةَ الحجة، لكن على من يَمْطُل، أو يُسيء المعاملة، وأما من أنصف من نفسه، فبذل ما عنده، واعتذر عما ليس عنده، فيُقبل عذره، ولا تجوز الاستطالة عليه، ولا كَهْرُه، قاله في "الفتح"
(1)
، و"المفهم"
(2)
.
وفي الحديث جواز المطالبة بالدَّين إذا حل أجله، وفيه حسن خلق النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعِظَم حِلْمه، وتواضعه، وإنصافه، وأن من عليه دَين لا ينبغي له مجافاة صاحب الحق، وأن من أساء الأدب على الإمام كان عليه التعزير بما يقتضيه الحال، إلا أن يعفو صاحب الحق
(3)
.
وقال النوويّ رحمه الله: فيه أنه يُحْتَمَل من صاحب الدَّين الكلامُ المعتادُ في المطالبة، وهذا الإغلاظ المذكور محمول على تشدّد في المطالبة، ونحو ذلك، من غير كلام فيه قَدْحٌ، أو غيره مما يقتضي الكفر، وَيحْتَمِل أن القائل الذي له الدَّين كان كافرًا من اليهود، أو غيرهم، والله أعلم. انتهى
(4)
.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَهُمُ)؛ أي: لأصحابه رضي الله عنهم: ("اشْتَرُوا لَهُ سِنًّا، فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ") وفي الرواية الآتية: "أعطوه فوق سنّه"، وفي رواية للبخاريّ:"واشتروا له بعيرًا، فأعطوه إياه"، وفي رواية عبد الرزّاق:"التمسوا له مثل سنّ بعيره".
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "اشتروا له سنًّا، فأعطوه إياه" دليلٌ على أن هذا الحديث قضيّة أخرى غير قضيّة حديث أبي رافع، فإن ذلك الحديث يقتضي أنه أعطاه من إبل الصدقة، وهذا اشتري له، وفيه دليل: على صحة الوكالة في القضاء. انتهى
(5)
.
(فَقَالُوا: إِنَّا لَا نَجِدُ إِلا سِنًّا هُوَ خَيْرٌ مِنْ سِنِّهِ)؛ أي: أكبر منه، فإنه كان بَكْرًا، فوجدوا له رَبَاعيًا، كما تقدّم، وقال في "العمدة":"السنّ": هي المعروفة، ثم سُمّي بها صاحبها. انتهى
(6)
.
(1)
"الفتح" 6/ 198.
(2)
"المفهم" 4/ 509 - 510.
(3)
"الفتح" 6/ 199.
(4)
"شرح النوويّ" 11/ 38.
(5)
"المفهم" 4/ 510.
(6)
"عمدة القاري" 10/ 240.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("فَاشْتَرُوهُ)؛ أي: السنّ الذي هو أكبر من سنه (فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ، فَإنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ- أَوْ) للشكّ من الراوي (خَيْرَكُمْ- أحْسَنُكُمْ قَضَاءً") واسم "إنّ" على الرواية الأولى قوله: "أحسنَكم" بالنصب، وخبرها الجارّ والمجرور قبله، وعلى الرواية الثانية قوله:"خيركم"، و"أحسنُكم" مرفوع على الخبريّة لها.
وفي الرواية الآتية: "خياركم محاسنكم قضاءً"، قال في "الفتح": الخيار: الجيّد، يطلق على الواحد، والجفع، فيَحْتَمِل أن يريد المفرد بمعنى المختار، أو الجمع، والمراد أنه خيرهم في المعاملة، أو تكون "من" مقدّرةً، ويدلّ عليها الرواية الأخرى، فقد وقع في رواية عند البخاريُّ:"من خياركم".
وقوله: (أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً) لفا أضيف أفعل، والمقصود به الزيادة جاز فيه الإفراد. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "خيركم أحسنكم قضاء": هذا هو اللفظ الفصيح الحسن، وقد رُوي:"أحاسنكم" وهو جمع حسن، ذهبوا به مذهب الأسماء، كأحمد، وأحامد، قال: وقد وقع في "الأمّ" -يعني "صحيح مسلم"- في بعض طرقه: "محاسنكم" بالميم، وكأنه جمع محسن، كمطلع، ومطالع، وفيه بُعدٌ، وأحسنها الأول. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [43/ 4103 و 4104 و 4105](1601)، و (البخاريّ) في "الوكالة"(2305 و 2306 و 2292 و 2393 و 2401 و 2606 و 2609)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1316 و 1317)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 291 و 318) و"الكبرى"(4/ 40 و 60)، و (ابن ماجه) في "الأحكام"(2423)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 377 و 393 و 431 و 456 و 476 و 509)،
(1)
"الفتح" 6/ 198 - 199.
(2)
"المفهم" 4/ 510.
و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 409 و 410)، و (البيهقىّ) في "الكبرى"(5/ 351 و 6/ 21 و 52) و"الصغرى"(5/ 201)، و"المعرفة"(4/ 408)، وفوائده تقدّمت في شرح الحديث الماضي، والله تعالى وليّ التوفيق.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4104]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: اسْتقْرَضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سِنًّا، فَأَعْطَى سِنًّا فَوْقَهُ، وَقَالَ: "خِيَارُكُمْ مَحَاسِنكُمْ قَضَاءً").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قبل بابين.
2 -
(عَلِيُّ بْنُ صَالِحِ) بن صالح بن حيّ الْهَمْدانيّ، أبو محمد، ويقال: أبو الحسن الكوفيّ، أخو الحسن بن صالح، وهما توأمان، ثقة عابد [7].
رَوَى عن أبيه، وأبي إسحاق السبيعيّ، وسلمة بن كهيل، وسماك بن حرب، والأعمش، ومنصور، وعاصم بن بَهْدلة، وغيرهم.
ورَوَى عنه أخوه، وابن عيينة، ووكيع، وأبو أحمد الزبيريّ، وابن نمير، وغيرهم.
قال أحمد، وابن معين، والنسائيّ: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العجليّ: كوفيّ ثقةٌ، وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: ثقةٌ مأمونٌ، وقال ابن سعد: كان صاحب قرآن، وكان ثقةً إن شاء الله، قليل الحديث، وقال الساجيّ: سمعت مُثَنّى يقول: ما سمعت يحيى، ولا ابن مهديّ حدثانا عن عليّ بن صالح بشيء قطّ، ونَقَلَ الساجيّ أن ابن معين ضعّفه.
وقال عليّ بن المنذر، عن عبيد الله بن موسى: سمعت الحسن بن صالح يقول: لَمّا حُضِر أخي رَفَعَ بصره، ثم قال:{مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} إلى آخر الآية [النساء: 69]، ثم خرجت نفسه.
قال عمرو بن عليّ: مات سنة إحدى وخمسين ومائة، وقال أبو نعيم: مات سنة (4).
أخرج له المصنّف، والأربعة، وليس في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (اسْتَقْرَضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: طلب القرض، والقرض: ما تُعطيه غيرك من المال؛ ليُقضاه، والجمع قُرُوضٌ، مثلُ فَلْس وفُلُوس، وهو اسمٌ مِنْ أقرضته المالَ إقراضًا، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
وقوله: (سِنًّا)؛ أي: ذا سنّ معيّن من الإبل.
وقوله: (خِيَارُكُمْ مَحَاسِنُكُمْ قَضَاءً)"الخيار": المختار من الإبل، يقال للذكر والأنثى، و"المحاسن"؛ أي: ذوو المحاسن، سمّاهم بالصفة، قال القاضي عياض: المعروف أن أحاسنكم: جمع أحسن، كما في الحديث الآخر:"أحسنكم قضاءً"، وقيل: يكون محاسنكم: جمع مَحسن بفتح الميم. انتهى
(2)
.
والحديث متفق عليه، وقد تم البحث فيه مستوفًى فيما قبله، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4105]
(
…
) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ يَتَقَاضَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعِيرًا، فَقَالَ: "أعْطُوهُ سِنًّا فَوْقَ سِنِّهِ -وَقَالَ-: خَيْرُكُمْ أَحْسَنكُمْ قَضَاءً").
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(سُفْيّانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 498.
(2)
"إكمال المعلم" 5/ 300.
(44) - (بَابُ جَوَازِ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ مِنْ جِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا)
[4106]
(1602) - (حَدَّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَابْنُ رُمْحٍ، قَالَا: أخْبَرَنَا اللَّيْثُ (ح) وَحَدَّثَنِيهِ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ أبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: جَاء عَبْدٌ، فَبَايَعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْهِجْرَةِ، وَلَمْ يَشْعُرْ أَنَّهُ عَبْدٌ، فَجَاءَ سيده يريده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"بِعْنِيهِ"، فَاشْتَرَاهُ بِعَبْدَيْنِ أسْوَدَيْنِ، ثُمَّ لَمْ يُبَايعْ أَحَدًا بَعْدُ، حَتَّى يَسْأَلَهُ: أعَبْدٌ هُوَ؟).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) تقدّم قريبًا.
2 -
(ابْنُ رُمْحٍ) هو: محمد بن رُمْح بن المهاجر التُّجيبيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(اللَّيْثُ) بن سعد الإمام المصريّ المشهور، تقدّم قبل بابين.
4 -
(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم أيضًا قبل بابين.
والباقيان تقدّما قبل باب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيات المصنّف رحمه الله، وهو (274) من رباعيّات الكتاب.
2 -
(ومنها): أن رواية أبي الزبير هنا من رواية الليث بن سعد، وهو لا يروي عنه إلا ما سمعه من جابر رضي الله عنه، كما أن شعبة لا يروي عن أبي إسحاق السبيعيّ، وقتادة، والأعمش إلا ما صرّحوا بسماعه، وكذلك يحيى بن سعيد القطّان لا يروي عن شيوخه إلا ما صرّحوا بسماعه، وإلى هذا أشرت في "الفوائد السميّة" حيث قلت:
شُعْبَةُ لَا يَرْوِي عَنِ الْمُدَلِّسِ
…
إِلَّا الَّذِي سَمِعَهُ فَاسْتَأْنِسِ
لِذَا إِذَا رَوَى عَنِ الأَعْمَشِ أَوْ
…
قَتَادَةٍ أَوِ السَّبِيعِي مَا رَوَوْا
مُعَنْعَنًا لَا تَخْشَ تَدْلِيسًا فَقَدْ
…
كَفَاكَهُ هَذَا الإِمَامُ الْمُعْتَمَدْ
كَذَلِكَ الْقَطَّانُ لَا يَرْوْي لِمَنْ
…
دَلَّسَ مَا لَيْسَ سَمَاعًا يُؤْتَمَنْ
كَذَاكَ عَنْ أبِي الزُّبَيْرِ اللَّيْثُ إِنْ
…
رَوَى فَلَا تَدْلِيسَ يُخْشَى يَا فَطِنْ
فَإِنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرَ مَا
…
سَمِعَهُ مِنْ جَابرٍ فَاغْتَنِمَا
هَذِي فَوَائِدُ عَزِيزَةُ الْمَنَالْ
…
يَصْبُو لَهَا مَنْ هَمُّهُ ضَبْطُ الْمَالْ
3 -
(ومنها): أن فيه جابرَ بنَ عبد الله رضي الله عنهما الصحابيّ ابن الصحابيّ، وهو من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: جَاءَ عَبْدٌ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرف هذا العبد، ولا سيّده، ولا العبدين الأسودين. انتهى
(1)
. (فَبَايَعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْهِجْرَةِ)؛ أي: على أن يهاجر من بلده إلى المدينة (وَلَمْ يَشْعُرْ) بالبناء للفاعل، يقال: شَعَرْتُ بالشيء شُعُورًا، من باب قَعَدَ، وشِعْرًا، وشِعْرَةً بكسرهما: علِمت، قاله الفيّومي
(2)
.
وقال المجد رحمه الله: شَعَرَ به، كنصر، وكَرُمَ شِعْرًا -بالكسر- وشَعْرًا -بالفتح-، وشُعْرةً- مثلّثةً: عَلِمَ به، وفَطِنَ له، وعَقَلَه. انتهى باختصار
(3)
.
[تنبيه]: فاعل "يشعر" ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما بيّنته رواية النسائيّ، ولفظها:"ولا يشعر النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه عبد"(أَنَّهُ)؛ أي: أن ذلك العبد المبايَع (عَبْدٌ) إذ لو عَلِمَ لم يبايعه إلا بإذن سيّده (فَجَاءَ سَيِّدُهُ يُرِيدُهُ)؛ أي: يريد أخذ ذلك العبد، ويطلب أن يذهب به إلى بلده (فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"بِعْنِيهِ") إنما طلب صلى الله عليه وسلم بيعه له؛ كراهة أن يرُدّ العبد خائبًا عما قصده من الهجرة، وملازمة الصحبة، فاشتراه ليتمّ له ما أراد (فَاشْتَرَاهُ بِعَبْدَيْنِ أَسْوَدَيْنِ) قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: هذا إنما فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم على مقتضى مكارم أخلاقه، ورغبةً في تحصيل ثواب العتق، وكراهية أن يفسخ له عقد الهجرة، فحصل له العتق، وثبت له الولاء، فهذا المُعتَقُ مولى للنبيّ صلى الله عليه وسلم غير أنه لا يُعرف اسمه. انتهى
(4)
.
(1)
"تنبيه المعلم" ص 269.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 315.
(3)
راجع: "القاموس المحيط" ص 689 - 690.
(4)
"المفهم" 4/ 511.
وقال النوويّ رحمه الله: هذا محمول على أن سيّده كان مسلمًا، ولهذا باعه بعبدين أسودين، والظاهر أنهما كانا مسلمين؛ إذ لا يجوز بيع العبد المسلم لكافر، وَيحْتَمِل أنه كان كافرًا، أو أنهما كانا كافرين، ولا بدّ من ثبوت ملكه للعبد الذي بايع على الهجرة، إما ببيّنة، وإما بتصديق العبد قبل إقراره بالحرّيّة. انتهى
(1)
.
وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: لم يرِد في شيء من طرقه أنه صلى الله عليه وسلم طالب سيّده بإقامة بيّنة، فيحَتْمَل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم علِم صحّة مُلكه له حين عرَف سيّده، ويَحْتَمِل أن يكون اكتَفَى بدعواه، وتصديق العبد له، فإن العبد بالغ عاقل، يُقبَل إقراره على نفسه، ولم يكن للسيّد من يُنازعه، ولا يُستَحلَف السيّد، كما إذا ادّعى اللقطة، وعرَف عفاصها، ووِكاءها، أخذها، ولم يُستَحلَف؛ لعدم المنازع فيها. انتهى
(2)
.
(ثُمَّ لَمْ يُبَايعْ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (أَحَدًا بَعْدُ)؛ أي: بعد مبايعته هذا العبد الذي طلبه سيّده، فاشتراه منه (حَتَّى يَسْأَلَهُ: أَعَبْدٌ هُوَ؟)؛ يعني: أنه لَمّا وقعت له هذه الواقعة أخذ بالحزم، والحذر، فكان يسأل من يرتاب فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر رحمه الله هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف هنا [44/ 4106] (1602)، و (أبو داود) في "البيوع"(3358)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1239)، و "السير"(1596)، و (النسائيّ) في "البيعة"(7/ 150) و"البيوع"(296) و"الكبرى"(4/ 41 و 429 و 5/ 219)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2869)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 140) و (أحمد) في "مسنده"(3/ 349، 350)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4550 و 5027)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 410)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 286، 287) و"المعرفة"(4/ 409 و 7/ 160)، والله تعالى أعلم.
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 39.
(2)
"المفهم" 4/ 511.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان جواز بيع الحيوان بالحيوان من جنسه متفاضلًا، كعبد بعبدين، سواء كانت القيمة متّفقةً، أو مختلفةً، وهذا مجمع عليه، إذا بيع نقدًا، فإن باع عبدًا بعبدين، أو بعيرًا ببعيرين إلى أجل، فمذهب الجمهور جوازه، وقال أبو حنيفة، والكوفيّون: لا يجوز، وفيه مذاهب لغيرهم، سيأتي تحقيقها، مع أدلّتها في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى-.
2 -
(ومنها): بيان حكم بيعة المماليك، وهو لا يجوز إلا أن يأذن له سيّده.
3 -
(ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق، والإحسان العامّ، فإنه كَرِهَ أن يرُدّ العبد خائبًا عما قصده، من الهجرة، ومصاحبته صلى الله عليه وسلم، فاشتراه ليُتمّ له غرضه.
4 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: فيه دليلٌ على أن الأصل في الناس الحرّيّة، ولذلك لم يسأله النبيّ صلى الله عليه وسلم إذ حمله على ذلك الأصل، حيث لم يَظهر له ما يُخرجه عن ذلك، ولو لم يكن الأمر كذلك لتعين أن يسأله، وهذا أصل مالك في الباب، فكلُّ من ادّعى مُلك أحد من بني آدم كان مدفوعًا إلى بيان ذلك، لكن إذا ناكره المدّعى رقّه، وادّعَى الحرّيّة، وسواء كان ذلك المدّعى رقّه ممن كثُر ملك نوعه، أو لم يكن، فإن كان في حوز المدّعِي لرقّه كان القول قولَه، إذا كان حَوْزَ رقّ، فإن لم يكن، فالقول قول المدّعَى عليه مع يمينه. انتهى
(1)
.
5 -
(ومنها): بيان أنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم من الغيب إلا ما أعلمه الله تعالى، حيث إنه بايع هذا العبد، ولم يعلم بحاله.
6 -
(ومنها): الأخذ بالأحوط؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان بعد ذلك لا يبايع أحدًا حتى يسأل أهو عبدٌ؟، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم بيع الحيوان بالحيوان متفاضلًا، وكذا نسيئةً:
(1)
"المفهم" 4/ 511.
قال الخطّابيّ رحمه الله: اختلف أهل العلم في بيع الحيوان بالحيوان نسيئةً، فكَرِه ذلك عطاء بن أبي رَبَاح، ومنع منه سفيان الثوريّ، وهو مذهب أصحاب الرأي، ومنع منه أحمد، واحتجّ بحديث سمرة، وقال مالك: إذا اختلفت أجناسها جاز بيعها نسيئة، وإن تشابهت لم يَجُز، وجوّز الشافعيّ بيعها نسيئةً، كانت جنسًا واحدًا، أو أجناسًا مختلفةً، إذا كان أحد الحيوانين نقدًا. انتهى كلام الخطّابيّ رحمه الله
(1)
.
وقال الإمام البخاريُّ رحمه الله في "صحيحه":
"باب بيع العبيد، والحيوان بالحيوان نسيئة"، واشتَرَى ابن عمر راحلةً بأربعة أبعرة، مضمونة عليه، يُوفيها صاحِبَهَا بالرَّبَذَة، وقال ابن عباس: قد يكون البعير خيرًا من البعيرين، واشترى رافع بن خَدِيج بعيرًا ببعيرين، فأعطاه أحدهما، وقال: آتيك بالآخر غدًا، رَهْوًا، إن شاء الله، وقال ابن المسيِّب: لا ربا في الحيوان، البعير بالبعيرين، والشاة بالشاتين إلى أجل، وقال ابن سيرين: لا بأس بعير ببعيرين نسيئة.
ثم أخرج بسنده عن أنس رضي الله عنه، قال:"كان في السبي صفية، فصارت إلى دحية الكلبيّ، ثم صارت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم". انتهى.
قال في "الفتح": قوله: "باب بيع العبد، والحيوان بالحيوان نسيئة": التقدير: بيع العبد بالعبد نسيئة، والحيوان بالحيوان نسيئة، وهو من عطف العام على الخاص، وكانه أراد بالعبد جنس من يُستعبد، فيدخل فيه الذكر والأنثى، ولذلك ذكر قصة صفية، أو أشار إلى إلحاق حكم الذَّكر بحكم الأنثى في ذلك؛ لعدم الفرق.
قال ابن بطال رحمه الله: اختلفوا في ذلك، فذهب الجمهور إلى الجواز، لكن شَرَط مالك أن يختلف الجنس، ومنع الكوفيون، وأحمد مطلقًا؛ لحديث سمرة المخرَّج في "السنن"، ورجاله ثقات، إلا أنه اختُلِف في سماع الحسن من سمرة.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث سمرة رضي الله عنه المذكور ضعيف، وقد
(1)
"معالم السنن" 5/ 29.
حقّقت ذلك بأدلته في "شرح النسائيّ"، فراجعه تستفد
(1)
.
قال: وفي الباب: عن ابن عباس رضي الله عنهما، عند البزار، والطحاويّ، ورجاله ثقات أيضًا، إلا أنه اختُلف في وصله وإرساله، فرجّح البخاريُّ، وغير واحد إرساله، وعن جابر رضي الله عنه عند الترمذيّ وغيره، وإسناده ليّن، وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه عند عبد الله بن أحمد في زيادات "المسند"، وعن ابن عمر عند الطحاويّ، والطبرانيّ.
واحتُجّ للجمهور بحديث عبد الله بن عمرو: "أن النبي صلى الله عليه وسلم، أمره أن يُجَهّز جيشًا، وفيه: فابتاع البعير بالبعيرين، بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم"، أخرجه الدارقطنيّ وغيره، وإسناده قويّ، واحتَجّ البخاري هنا بقصة صفية، واستشهد بآثار الصحابة رضي الله عنهم.
وقوله: "واشترى ابن عمر راحلة بأربعة أبعرة" الحديث وصله مالك، والشافعيّ عنه، عن نافع، عن ابن عمر بهذا، ورواه ابن أبي شيبة من طريق أبي بشر، عن نافع: أن ابن عمر اشترى ناقة، بأربعة أبعرة بالرَّبَذَة، فقال لصاحب الناقة: اذهب، فانظر، فإن رضيت فقد وجب البيع.
وقوله: "راحلة"؛ أي: ما أمكن ركوبه من الإبل، ذكرًا أو أنثى، وقوله:"مضمونة" صفة "راحلة"؛ أي: تكون في ضمان البائع حتى يوفيها؛ أي: يسلمها للمشتري، والربذة -بفتح الراء، والموحدة، والمعجمة-: مكان معروف بين مكة والمدينة.
وقوله: وقال ابن عباس: "قد يكون البعير خيرًا من البعيرين": وصله الشافعيّ، من طريق طاوس: أن ابن عباس سئل عن بعير ببعيرين؟ فقاله.
قوله: "واشترى رافع بن خديج بعيرًا ببعيرين، فأعطاه أحدهما، وقال: آتيك بالآخر غدًا، رَهْوًا، إن شاء الله": وصله عبد الرزاق، من طريق مُطَرّف بن عبد الله عنه.
وقوله: "رَهْوًا" بفتح الراء، وسكون الهاء -أي: سهلًا-، والرهو السير السهل، والمراد به هنا أن يأتيه به سريعًا، من غير مَطْلٍ.
(1)
راجع: "ذخيرة العقبى" 35/ 111 - 112.
وقوله: "وقال ابن المسيِّب: لا ربا في الحيوان: البعير بالبعيرين، والشاة بالشاتين، إلى أجل": أما قول سعيد: فوصله مالك، عن ابن شهاب عنه، لا ربا في الحيوان، ووصله ابن أبي شيبة، من طريق أخرى، عن الزهري عنه: لا بأس بالبعير بالبعيرين نسيئة.
وقوله: "وقال ابن سيرين: لا بأس ببعير ببعيرين، ودرهم بدرهم نسيئة": وصله عبد الرزاق، من طريق أيوب عنه، بلفظ:"لا بأس بعير ببعيرين، ودرهم بدرهم نسيئة، فإن كان أحد البعيرين نسيئة، فهو مكروه"، وروى سعيد بن منصور، من طريق يونس عنه، أنه كان لا يرى بأسًا بالحيوان بالحيوان يدًا بيد، أو الدراهم نسيئةً، ويكره أن تكون الدراهم نقدًا، والحيوان نسيئة. انتهى
(1)
.
وقال الإمام ابن القيّم رحمه الله في "تهذيب السنن"(5/ 29): اختَلَفَ أهلُ العلم في هذه المسألة على أربعة أقوال، وهي أربع روايات عن أحمد:
[إحداها]: أن ما سوى المكيل والموزون من الحيوان، والنبات، ونحوه يجوز سع بعضه ببعض متفاضلًا ومتساويًا، وحالًّا، ونَساء، وأنه لا يجري فيه الربا بحال، وهذا مذهب الشافعيّ، وأحمد في إحدى رواياته، واختارها القاضي، وأصحابه، وصاحب "المغني".
[والرواية الثانية عن أحمد]: أنه يجوز التفاضل فيه يدًا بيد، ولا يجوز نسيئةً، وهي مذهب أبي حنيفة، كما دلّ عليه حديثا جابر، وابن عمر رضي الله عنهم.
[والرواية الثالثة عنه]: أنه يجوز فيه النَّساء إذا كان متماثلًا، ويحرم مع التفاضل، وعلى هاتين الروايتين، فلا يجوز الجمع بين النسيئة والتفاضل، بل إن وُجد أحدهما حرم الآخر، وهذا أعدل الأقوال في المسألة، وهو قول مالك، فيجوز عبد بعبدين حالًّا، وعبد بعبد نَساءً، إلا أن لمالك فيه تفصيلًا، والذي عقد عليه أصل قوله: أنه لا يجوز التفاضل والنَّساء معًا في جنس من الأجناس، والجنس عنده معتبر باتفاق الأغراض والمنافع، فيجوز بيع البعير البختيّ بالبعيرين من الحَمولة، ومن حاشية إبله إلى أجل؛ لاختلاف المنافع، وإن أشبه بعضها بعضًا، اختلفت أجناسها، أو لم تختلف، فلا يجوز منها اثنان بواحد إلى أجل.
(1)
"الفتح" 5/ 708 - 709، كتاب "البيوع" رقم (2228).
فسِرُّ مذهبه أنه لا يجتمع التفاضل والنَّساء في الجنس الواحد عنده، والجنس ما اتفقت منافعه، وأشبه بعضه بعضًا، وإن اختلفت حقيقته، فهذا تحقيق مذاهب الأئمة في هذه المسألة المعضلة، ومآخذهم.
وحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما صريح في جواز المفاضلة والنَّساء، وهو حديث حسن، قال عثمان بن سعيد: قلت ليحيى بن معين: أبو سفيان الذي روى عنه محمد بن إسحاق -يعني هذا الحديث- ما حاله؟ قال: مشهور ثقة، قلت: عن مسلم بن كثير، عن عمرو بن حُريش الزبيديّ؟ قال: هو حديث مشهور، ولكن مالك يحمله على اختلاف المنافع والأغراض، فإن الذي كان يأخذه إنما هو للجهاد، والذي جعله عِوَضه هو من إبل الصدقة، قد يكون من بني المخاض، ومن حواشي الإبل، ونحوها.
وأما الإمام أحمد رحمه الله فإنه كان يُعلّل أحاديث المنع كلّها، قال: ليس فيها حديث يُعتمد عليه، ويُعجبني أن يتوقّاه، وذُكر له حديث ابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم، فقال: هما مرسلان، وحديث سمرة عن الحسن، قال الأثرم: قال أبو عبد الله: لا يصحّ سماع الحسن من سمرة.
وأما حديث جابر رضي الله عنه، من رواية حجاج بن أرطاة، عن أبي الزبير، عنه، فقال الإمام أحمد: هذا حجاج زاد فيه: "نَساء"، والليث بن سعد سمعه من أبي الزبير، لا يذكر فيه:"نَساء"
وهذه ليست بعلّة في الحقيقة، فإن قوله:"ولا بأس به يدًا بيد" يدلّ على أن قوله: "لا يصلح"؛ يعني: نَساء، فذكرُ هذه اللفظة زيادة إيضاح، لو سكت عنها لكانت مفهومة من الحديث، ولكنه معلّل بالحَجّاج، فقد أكثر الناس الكلام فيه، وبالغ الدارقطنيّ في "السنن" في تضعيفه، وتوهينه.
وقد قال أبو داود: إذا اختلفت الأحاديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نظرنا إلى ما عَمِل به أصحابه من بعده.
وقد ذكرنا الآثار عن الصحابة بجواز ذلك متفاضلًا ونسيئةً.
وهذا كله مع اتحاد الجنس، وأما إذا اختلف الجنس، كالعبيد بالثياب، والشاء بالإبل، فإنه يجوز عند جمهور الأمة التفاضل فيه والنَّساء، إلا ما حُكي رواية عن أحمد: أنه لا يجوز بيعه متفاضلًا يدًا بيد، ولا يجوز نَساءً، وحَكَى
هذا أصحابنا عن أحمد رواية رابعةً في المسألة، واحتجّوا لها بظاهر حديث جابر رضي الله عنه:"الحيوان اثنان بواحد لا يصلح نسيئةً، ولا بأس به يدًا بيد"، ولم يخصّ به الجنس المتّحد، وكما يجوز التفاضل في المكيل المختلف الجنس، دون النَّساء، فكذلك الحيوان وغيره، إذا قيل. إنه ربويّ، وهذه الرواية في غاية الضعف؛ لمخالفتها النصوص، وقياس الحيوان على المكيل فاسد؛ إذ في محلّ الحكم في الأصل أوصاف معتبرة، غير موجودة في الفرع، وهي مؤثّرةٌ في التحريم.
وحديث جابر رضي الله عنه لو صحّ، فإنما المراد به مع اتحاد الجنس، دون اختلافه، كما هو مذكورٌ في حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
فهذه نُكَت في هذه المسألة المعضلة، لا تكاد توجد مجموعةً في كتاب، وبالله تعالى التوفيق. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن الأرجح هو المذهب الأول الذي قال به الشافعيّ، وأحمد في رواية، وهو جواز بيع الحيوان بعضه ببعض، متفاضلًا، ونَساءً؛ لصحة الأحاديث بذلك، كما أوضحت ذلك في "شرح النسائيّ"، ولصحة الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم، كما أشار إليه البخاريّ رحمه الله في كلامه المتقدّم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرحع والمآب.
(45) - (بَابُ جَوَازِ الرَّهْنِ في الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ)
" الرهن" -بفتح أوله وسكون الهاء- في اللغة: الاحتباس، من قولهم: رَهَنَ الشيءُ من باب قعد: إذا دام، وثبت، ومنه:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)} الآية [المدثر: 38].
وفي الشرع: جعلُ مال وثيقةً على دَين، ويُطْلَق أيضًا على العين المرهونة؛ تسميةً للمفعول باسم المصدر، وأما الرُّهُن بضمتين، فجمع رَهن،
(1)
"تهذيب السنن" 5/ 30 - 31.
كفلس وفُلُوس، ويُجْمَع أيضًا على رِهان بكسر الراء، ككتب وكتاب، وقُرئ بهما، أفاده في "الفتح"
(1)
.
وقال ابن قُدامة رحمه الله في "المغني": "الرهن" في اللغة: الثبوت والدوام، يقال: ماءٌ راهن؛ أي: راكد، ونعمة راهنة؛ أي: ثابتة دائمة، وقيل: هو من الحبس، قال الله تعالى:{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)} [الطور: 21]، وقال:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)} [المدثر: 38]، وقال الشاعر [من البسيط]:
وَفَارَقَتْكَ بِرَهْنٍ لَا فِكَاكَ لَهُ
…
يَوْمَ الْوَدَاعِ فَأَضْحَى الرَّهْنُ قَدْ غَلِقَا
شَبَّه لزوم قلبه لها، واحتباسه عندها لشدة وجْده بها، بالرهن الذي يلزمه المرتهن، فيُبقيه عنده، ولا يفارقه، وغَلَقُ الرهن: استحقاق المرتهن إياه؛ لعجز الراهن عن فكاكه.
والرهن في الشرع: المال الذي يُجعَل وثيقة بالدَّين؛ ليُستَوفَى من ثمنه، إن تعذر استيفاؤه ممن هو عليه، وهو جائز بالكتاب، والسُّنَّة، والإجماع:
أما الكتاب: فقول الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]، وتُقرأ "فَرُهُن" والرِّهَان جمع رَهْن، والرُّهُن جمع الجمع، قاله الفراء، وقال الزجاج: يَحْتَمِل أن يكون جمع رَهْن، مثل سَقْف وسُقُف.
وأما السُّنَّة: فروت عائشة رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، اشترى من يهودي طعامًا، ورهنه درعه" متفق عليه، ورَوَى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الظهر يُركب بنفقته، إذا كان مرهونًا، ولبن الدرّ يُشْرَب بنفقته، إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب، ويشرب: النفقة"، رواه البخاريّ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَغلَقُ الرهنُ"
(2)
.
وأما الإجماع: فأجمع المسلمون على جواز الرهن في الجملة. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله
(3)
.
(1)
"الفتح" 6/ 325.
(2)
رواه ابن ماجه في "سننه" 2/ 816، وهو حديث ضعيف؛ لأن في سنده محمد بن حُميد الرازيّ، ضعّفه الجمهور، وشيخه سيئ الحفظ.
(3)
"المغني" 6/ 443 - 444.
[4107]
(1603) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ -وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ- عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَت: اشْتَرَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا بِنَسِيئَةٍ، فَأَعْطَاهُ دِرْعًا لَهُ رَهْنًا).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(أَبُو مُعَاويَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِمُ في حديث غيره، ورُمي بالإرجاء، من كبار [9](ت 195) وله (82) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
3 -
(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم قبل بابين.
4 -
(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد النخعيّ، تقدّم قريبًا.
5 -
(الأَسْوَدُ) بن يزيد بن قيس النخعيّ، أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن الكوفيّ، مخضرم، ثقةٌ فقيه مكثر [2](ت 4 أو 75)(ع) تقدم في "الطهارة" 32/ 674.
6 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت قريبًا.
والباقيان ذُكِرا في الباب الماضيين.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، من شيخه محمد بن العلاء إلى آخره.
2 -
(ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين، من شيخه المذكور.
3 -
(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين الكوفيين، روى بعضهم عن بعض: الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، وأن الأسود خال لإبراهيم، فإن أمه هي مُليكة بنت يزيد أخت الأسود المذكور، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ إِبْرَاهِيمَ) النخعيّ، وفي رواية للبخاريّ من طريق عبد الواحد عن الأعمش، قال:"ذكرنا عند إبراهيم الرَّهْن في السلم، فقال: حدّثني الأسود، عن عائشة رضي الله عنها"، فذكره (عَنِ الْأَسْوَدِ) بن يزيد النخعيّ (عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها، أنها (قَالَت: اشْتَرَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ يَهُودِيٍّ) هذا اليهوديّ: هو أبو الشَّحْم، بَيّنه الشافعيّ، ثم البيهقيّ، من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، رَهَنَ درعًا له، عند أبي الشحم اليهوديّ، رجل من بني ظَفَر في شعير". انتهى.
و"أبو الشَّحْم" -بفتح المعجمة وسكون المهملة-: اسمه كنيته، و"ظَفَر" -بفتح الظاء والفاء- بطن من الأوس، وكان حليفًا لهم، وضبطه بعض المتأخرين بهمزة ممدودة، وموحّدة مكسورة، اسم فاعل من الإباء، وكأنه التبس عليه بـ "أبي اللحم" الصحابيّ المشهور.
(طَعَامًا) المراد به هنا الشعير؛ لِمَا يأتي في رواية البخاريّ، من حديث أنس رضي الله عنه:"ولقد رَهَنَ درعًا له، عند يهوديّ بالمدينة، وأخذ منه شعيرًا لأهله".
وكان قدر الشعير المذكور ثلاثين صاعًا، كما هو عند البخاريّ من حديث عائشة رضي الله عنها في "الجهاد"، وأواخر "المغازي"، وكذلك رواه أحمد، والنسائيّ، وابن ماجه، والطبرانيّ وغيرهم من طريق عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه الترمذيّ، من هذا الوجه، فقال:"بعشرين".
قال الحافظ رحمه الله: ولعلّه كان دون الثلاثين، فَجُبِر الكسر تارة، وأُلغي أخرى، ووقع لابن حبان من طريق شيبان، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه: أن قيمة الطعام كانت دينارًا، وزاد أحمد من طريق شيبان في آخره:"فما وَجَد ما يفتكّها به حتى مات".
(بِنَسِيئَةٍ) وفي الرواية الآتية: "إلى أجل"، وقد تبيّن مدة الأجل عند ابن حبّان في "صحيحه" من طريق عبد الواحد بن زياد، عن الأعمش: أنه سنة (فَأَعْطَاهُ دِرْعًا لَهُ رَهْنًا) وفي الرواية التالية: "ورهنه درعًا له من حديد". وهو بكسر الدال المهملة، وسكون الراء، قال صاحب "التنبيه": هي ذات
الفضول
(1)
، قاله غير واحد. انتهى
(2)
.
وقال الفيّوميّ: دِرْعُ الحديد مؤنّثة في الأكثر، وتُصغّر على دُريع، بغير هاء على غير قياس، وجاز أن يكون التصغير على لغة من ذكّر، وربّما قيل: دُريعةٌ بالهاء، وجمعها أدرُع، ودُرُوعٌ، وأَدْراعٌ، قال ابن الأثير: وهي الزَّرَدِيَّةُ. انتهى
(3)
.
قال في "الفتح": واستُدِلّ به على جواز بيع السلاح من الكافر، ووقع عند البخاريّ في أواخر "المغازي" من طريق الثوريّ، عن الأعمش، بلفظ:"تُوفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودرعه مرهونة عند يهوديّ بثلاثين صاعًا من شعير"، وفي حديث أنس، عند أحمد:"فما وجد ما يَفتَكُّها به".
وفيه دليل على أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم، في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"نَفْس المؤمن مُعَلَّقة بدَينه، حتى يُقضَى عنه"، وهو حديث صححه ابن حبان وغيره، محله في غير نَفْس الأنبياء، فإنها لا تكون معلقة بدَين، فهي خصوصية، أو لمن لم يَترك عند صاحب الدَّين ما يحصل له به الوفاء، واليه جنح الماورديّ.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن محمل حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور: "نفس المؤمن معلّقة إلخ
…
" أن يكون متساهلًا في الدَّين، بأن كان غير عازم على أدائه، أو ماطل صاحبه مع قدرته على الوفاء، والحجة في ذلك حديث الباب، وهو أصحّ منه، ودعوى الخصوصيّة غير مقبولة؛ لأنها لا تثبت بدليل.
وأصرح من هذا ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من أخذ أموال الناس يريد أداءها أَدَّى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله"، فهذا نصّ صريح في أن من كانت نيّته صالحة في أداء دَينه، فإن الله عز وجل يؤدّي عنه إن مات قبل الأداء، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب.
قال: وذكر ابن الطلاع في "الأقضية النبوية": أن أبا بكر افْتَكّ الدرع بعد
(1)
اسم لدرع النبيّ صلى الله عليه وسلم.
(2)
"تنبيه المعلم" ص 269.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 192.
النبيّ صلى الله عليه وسلم، لكن رَوَى ابن سعد عن جابر رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه قضى عِدَات النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأن عليًّا قَضَى ديونه، ورَوَى إسحاق بن راهويه في "مسنده" عن الشعبيّ، مرسلًا أن أبا بكر افْتَكّ الدرع، وسلّمها لعليّ بن أبي طالب.
وأما من أجاب بأنه صلى الله عليه وسلم افتكها قبل موته، فمعارَض بحديث عائشة رضي الله عنها المذكور، أفاده في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [45/ 4107 و 4108 و 4109 و 4110](1603)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2068 و 2096 و 2200) و"السلم"(2251 و 2252) و"الاستقراض"(2386) و"الرهن"(2509 و 2513) و"المغازي"(2467) و"الجهاد"(2916)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 288) و"الكبرى"(6202 و 6246)، و (ابن ماجه) في "الرهون"(2436)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(14094)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 16)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 42 و 160 و 230)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(3/ 845 و 846)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5936 و 5938)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(664)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 407) و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 19) و"الصغرى"(5/ 266)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2129 و 2130)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة الرهن عند الشراء إلى أجل، قال القرطبيّ رحمه الله: فيه من الفقه جواز أخذ الدَّين عند الحاجة، وجواز الاستيثاق بالرهن، والكفالة في الدَّين والسَّلَم، وقد مَنَعَ الرهن في السلم زُفرُ،
(1)
"الفتح" 6/ 328 - 329.
والأوزاعيّ، وحديث عائشة رضي الله عنها هذا حجة عليهم؛ إذ لا فرق بين الدين والسَّلم، وكذلك عموم قوله تعالى:{إِذَا تَدَايَنْتُمْ} الآية [البقرة: 282]. انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): جواز رهن آلة الحرب عند أهل الذمّة.
3 -
(ومنها): جواز الرهن في الحضر، وبه قال الشافعيّ، ومالك، وأبو حنيفة، وأحمد، والعلماء كافّة، إلا مجاهدًا، وداود، فقالا: لا يجوز إلا في السفر؛ تعلُّقًا بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} ، واحتَجَّ الجمهور بهذا الحديث، وهو مقدَّم على دليل خطاب الآية، قاله النوويّ رحمه الله
(2)
، وسيأتي تمام البحث في هذا مستوفًى في المسألة السابعة -إن شاء الله تعالى-.
4 -
(ومنها): جواز معاملة الكفار فيما لم يتحقق تحريم عين المتعامَل فيه، وعدم الاعتبار بفساد معتقدهم، ومعاملاتهم فيما بينهم، قاله في "الفتح"
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليلٌ على جواز معاملة أهل الذمّة مع العلم بأنهم يبيعون الخمر، ويأكلون الربا؛ لأنا قد أقررناهم على ما بأيديهم من ذلك، وكذلك لو أسلموا لطاب لهم ذلك، وليس كذلك المسلم الذي يعمل بشيء من ذلك، لا يُقرّ على ذلك، ولا يُترك بيده، ولا يجوز أن يعامَل من كان كسبه من ذلك، وإذا تاب تصدّق بما بيده منه.
وأما أهل الحرب، فيجوز أن يُعامَلوا، ويُشترى منهم كلّ ما يجوز لنا شراؤه، وتملّكه، ويباع لهم كلّ شيء من العروض، والحيوان، ما لم يكن ذلك مُضرًّا بالمسلمين، مما يحتاجون إليه، وما خلا آلة الحرب، وعُدّته، وما يُخاف أن يَتقَوّوا به على المسلمين، فلا يُباع منهم شيء منه، ولا يُباع منهم، ولا من أهل الذّمّة مسلم، ولا مصحف، وقال ابن حبيب: لا يُباع من أهل الحرب الحرير، ولا الكتّان، ولا البُسُط؛ لأنهم يتجمّلون بذلك في حروبهم، ولا
(1)
"المفهم" 4/ 518.
(2)
"شرح النوويّ" 11/ 40.
(3)
"الفتح" 6/ 327.
الطعام، لعلهم أن يضعفوا. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: وقد أجمع المسلمون على جواز معاملة أهل الذمّة وغيرهم من الكفار إذا لم يُتَحَقَّق تحريم ما معه، لكن لا يجوز للمسلم أن يبيع أهل الحرب سلاحًا، وآلة حرب، ولا ما يستعينون به في إقامة دِينهم، ولا بيع مصحف، ولا العبد المسلم لكافر مطلقًا، والله أعلم. انتهى
(2)
.
5 -
(ومنها): أنه استُنبِط منه جواز معاملة من أكثر ماله حرام.
6 -
(ومنها): جواز بيع السلاح، ورهنه، وإجارته، وغير ذلك من الكافر، ما لم يكن حربيًّا.
7 -
(ومنها): ثبوت أملاك أهل الذمّة في أيديهم.
8 -
(ومنها): جواز الشراء بالثمن المؤجل.
9 -
(ومنها): اتخاذ الدروع والْعُدَد، وغيرها من آلات الحرب، وأنه غير قادح في التوكل.
10 -
(ومنها): أن قنية آلة الحرب لا تدل على تحبيسها قاله ابن المنير.
11 -
(ومنها): أن أكثر قوت ذلك العصر الشعير، قاله الداوديّ.
12 -
(ومنها): أن القول قول المرتهن في قيمة المرهون مع يمينه، حكاه ابن التين.
13 -
(ومنها): أن فيه بيانَ ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من التواضع، والزهد في الدنيا، والتقلل منها، مع قدرته عليها، والكرم الذي أفضى به إلى عدم الادّخار، حتى احتاج إلى رهن درعه، والصبر على ضيق العيش، والقناعة باليسير.
14 -
(ومنها): أنه فيه فضيلةَ أزواجه صلى الله عليه وسلم لصبرهنّ معه على ذلك رضي الله تعالى عن جميعهنّ.
[فائدة]: قال العلماء -رحمهم الله تعالى-: الحكمة في عدوله صلى الله عليه وسلم عن معاملة مياسير الصحابة، إلى معاملة اليهود، إما لبيان الجواز، أو لأنهم لم يكن عندهم إذ ذاك طعام فاضل عن حاجة غيرهم، أو خَشِي أنهم لا يأخذون
(1)
"المفهم" 4/ 518.
(2)
"شرح النوويّ" 11/ 40.
منه ثمنًا، أو عِوَضًا، فلم يُرِد التضييق عليهم؛ فإنه لا يبعد أن يكون فيهم إذ ذاك من يقدر على ذلك، وأكثر منه، فلعله صلى الله عليه وسلم لم يُطلِعهم على ذلك، وإنما أطلع عليه من لم يكن موسرًا به ممن نقل ذلك، والله تعالى أعلم، قاله في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فيما قاله أهل العلم في حكم الرهن:
قال ابن قُدامة رحمه الله: الرهن غير واجب، لا نعلم فيه مخالفًا؛ لأنه وثيقة بالدَّين، فلم يجب، كالضمان، والكفالة، وقول الله تعالى:{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] إرشاد لنا، لا إيجاب علينا، بدليل قول الله تعالى:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283]، ولأنه أمر به عند إعواز الكتابة، والكتابة غير واجبة، فكذلك بدلها. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله، وهو تحقيق حسن، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في أحوال الرهن:
قال ابن قُدامة رحمه الله أيضًا: ولا يخلو الرهن من ثلاثة أحوال:
[أحدها]: أن يقع بعد الحقّ، فيصح بالإجماع؛ لأنه دَين ثابت تدعو الحاجة إلى أخذ الوثيقة به، فجاز أخذها به، كالضمان، ولأن الله تعالى قال:{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} فجعله بدلًا عن الكتابة، فيكون في محلها، ومحلها بعد وجوب الحقّ، وفي الآية ما يدل على ذلك، وهو قوله تعالى:{إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]، فجعله جزاء للمداينة، مذكورًا بعدها بفاء التعقيب.
[الحال الثاني]: أن يقع الرهن مع العقد الموجب للدَّين، فيقول: بعتك ثوبي هذا بعشرة إلى شهر، ترهُنُني بها عبدك سعدًا، فيقول: قبلت ذلك، فيصح أيضًا، وبه قال مالك، والشافعيّ، وأصحاب الرأي؛ لأن الحاجة داعية إلى ثبوته، فإنه لو لم يعقده مع ثيوت الحق، وَيشْتَرِطْ فيه لم يتمكن من إلزام المشتري عقده، وكانت الخيرة إلى المشتري، والظاهر أنه لا يبذله، فتفوت الوثيقة بالحق.
(1)
"الفتح" 6/ 328.
[الحال الثالث]: أن يرهنه قبل الحقّ، فيقول: رهنتك عبدي هذا بعشرة تقرضنيها، فلا يصح في ظاهر المذهب، وهو اختيار أبي بكر، والقاضي، وذكر القاضي أن أحمد نصّ عليه في رواية ابن منصور، وهو مذهب الشافعيّ، واختار أبو الخطاب أنه يصح، فمتى قال: رهنتك ثوبي هذا بعشرة، تقرضنيها غدًا، وسلّمه إليه، ثم أقرضه الدراهم، لزم الرهن، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة؛ لأنه وثيقة بحقّ، فجاز عقدها قبل وجوبه، كالضمان، أو فجاز انعقادها على شيء، يحدث في المستقبل، كضمان الدِّرَك.
قال: ولنا أنه وثيقة لحق لا يلزم قبله، فلم تصح قبله، كالشهادة، ولأن الرهن تابع للحق، فلا يسبقه كالشهادة، والثمن لا يتقدم البيع، وأما الضمان فيحتمل أن يمنع صحته، وإن سلّمنا فالفرق بينهما أن الضمان التزام مال، تبرعًا بالقول، فجاز من غير حق ثابت، كالنذر، بخلاف الرهن. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في الرهن في الحضر:
ذهب الجمهور إلى مشروعيته في الحضر؛ لحديث الباب، واحتجوا له أيضًا من حيث المعنى، بأن الرهن شُرع توثقة على الدَّين؛ لقوله تعالى:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [البقرة: 283]، فإنه يشير إلى أن المراد بالرهن الاستيثاق، وإنما قيَّده بالسفر؛ لأنه مظنة فَقْد الكاتب، فأخرجه مخرج الغالب.
وخالف في ذلك مجاهد، والضحاك، فيما نقله الطبريّ عنهما، فقالا: لا يُشرع إلا في السفر، حيث لا يوجد الكاتب، وبه قال داود وأهل الظاهر، وقال ابن حزم: إن شَرَط المرتهن الرهن في الحضر، لم يكن له ذلك، وإن تبرع به الراهن جاز، وحُمل حديث الباب على ذلك. قاله في "الفتح"
(2)
.
وقال ابن قُدامة رحمه الله: ويجوز الرهن في الحضر، كما يجوز في السفر، قال ابن المنذر: لا نعلم أحدًا خالف في ذلك، إلا مجاهدًا، قال: ليس الرهن إلا في السفر؛ لأن الله تعالى شرط السفر في الرهن بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} .
(1)
"المغني" 6/ 444 - 445.
(2)
"الفتح" 6/ 325.
واحتَجّ الجمهور بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، اشترى من يهودي طعامًا، ورهَنه درعه، وكانا بالمدينة، ولأنها وثيقة تجوز في السفر، فجازت في الحضر، كالضمان، فأما ذِكْر السفر، فإنه خرج مخرج الغالب؛ لكون الكاتب يُعدم في السفر غالبًا، ولهذا لم يُشترط عَدَمُ الكاتب، وهو مذكور معه أيضًا. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما سبق أن الحقّ ما ذهب إليه جمهور أهل العلم من مشروعيّة الرهن في الحضر، كما هو مشروع في السفر بلا خلاف؛ لقوّة أدلّتهم على ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[4108]
(
…
) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، وَعَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَت: اشْتَرَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا، وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ) ابن راهويه، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ) المروزيّ، تقدّم قبل بابين.
3 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبيعيّ، تقدّم أيضًا قبل بابين. والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (مِنْ يَهُودِيٍّ) تقدّم أنه أبو الشحم من بني ظَفَر.
وقوله: (طَعَامًا) تقدّم أنه كان شعيرًا، ثلاثون صاعًا.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4109]
(
…
) - (حَدَّثنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا الْمَخْزُومِيُّ، حَدَّثَنَا عبد الوَاحِدِ بْنُ زَيادٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، قَالَ: ذَكَرْنَا الرَّهْنَ فِي السَّلَمِ عِنْدَ
(1)
"المغني" 6/ 444.
إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا لَهُ مِنْ حَدِيدٍ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(الْمَخْزُومِيُّ) هو: المغيرة بن سلمة، أبو هشام البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [9](ت 200)(خت م د س ق) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.
2 -
(عبدُ الوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ) العبديّ، تقدّم قبل بابين. والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (إِلَى أَجَلٍ) قد بيّن ابن حبّان في "صحيحه" من طريق عبد الواحد بن زياد، عن الأعمش أن الأجل سنة.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4110]
(
…
) - (حَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَني الأَسْوَدُ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ: "مِنْ حَدِيدٍ").
[تنبيه]: رواية حفص بن غياث، عن الأعمش هذه ساقها ابن ماجه في "سننه" بسند المصنّف (2/ 815) فقال:
(2436)
حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا حفص بن غياث، عن الأعمش، عن إبراهيم، حدّثني الأسود، عن عائشة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم اشتَرَى من يهوديّ طعامًا إلى أجل، ورهَنه درعه. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(46) - (بَابُ السَّلَمِ)
" السَّلَم" -بفتحتين-: كالسَّلَف وزنًا ومعنًى، وذكر الماوردي: أن السلف لغةُ أهل العراق، والسَّلَم لغة أهل الحجاز. وقيل: السلف تقديم رأس المال، والسلم تسليمه في المجلس، فالسلف أعم.
والسلم شرعًا: بيع موصوف في الذمة، ومن قيّده بلفظ "السلم" زاده في الحدّ، ومن زاد فيه:"ببدل يُعطَى عاجلًا" فيه نظر؛ لأنه ليس داخلًا في حقيقته.
واتفق العلماء على مشروعيته، إلا ما حُكي عن ابن المسيِّب، واختلفوا في بعض شروطه، واتفقوا على أنه يُشترط له ما يشترط للبيع، وعلى تسليم رأس المال في المجلس، واختلفوا هل هو عقد غرر، جُوّز للحاجة، أم لا؟، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قال أهل اللغة: يقال: السَّلَم والسَّلَف، وأسلم، وسَلَّم، وأسلف، وسَلَّف، ويكون السلف أيضًا قرضًا، ويقال: استَسْلَف، قال أصحابنا: وَيشَتَرِك السلم والقرض في أن كلًّا منهما إثبات مال في الذمة بمبذول في الحال، وذَكَروا في حدّ السلم عباراتٍ، أحسنُها أنه عقدٌ على موصوف في الذمة ببذل يُعْطَى عاجلًا، سُمِّي سَلَمًا؛ لتسليم رأس المال في المجلس، وسُمِّي سَلَفًا؛ لتقديم رأس المال، وأجمع المسلمون على جواز السلم. انتهى
(2)
.
وقال ابن قُدامة رحمه الله: "السلم": هو أن يُسلم عِوَضًا حاضرًا، في عِوَض موصوف في الذمة، إلى أجل، ويُسَمَّى سَلَمًا، وسَلَفًا، يقال: أسلم، وأسلف، وسَلَّفَ، وهو نوع من البيع، ينعقد بما ينعقد به البيع، وبلفظ السلم، والسلف، ويُعتبر فيه من الشروط ما يعتبر في البيع، وهو جائز بالكتاب، والسُّنَّة، والإجماع:
أما الكتاب: فقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} الآية [البقرة: 282]، ورَوَى سعيد بإسناده، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى، قد أحله الله في كتابه، وأذن فيه، ثم قرأ هذه الآية، ولأن هذا اللفظ يَصلح للسلم، ويشمله بعمومه.
وأما السُّنَّة: فرَوَى ابنُ عباس رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنهم قَدِمُوا
(1)
"الفتح" 6/ 5.
(2)
"شرح النوويّ" 11/ 41.
المدينة، وهم يُسلفون في الثمار السنتين والثلاث، فقال:"من أسلف في شيء، فليُسلِف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم"، مُتّفق عليه، وروى البخاريّ عن محمد بن أبي المجالد، قال: أرسلني أبو بردة، وعبد الله بن شداد، إلى عبد الرحمن بن أبزى، وعبد الله بن أبي أوفى، فسألتهما عن السلف، فقالا: كنا نُصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يأتينا أنباط من أنباط الشام، فنسلفهم في الحنطة، والشعير، والزبيب، فقلت: أكان لهم زرع، أم لم يكن لهم زرع؟، قال: ما كنا نسألهم عن ذلك.
وأما الإجماع: فقال ابن المنذر: أجمع كُلُّ من نَحفظ عنه من أهل العلم، على أن السلم جائز، ولأن الْمُثْمَنَ في البيع أحد عوضي العقد، فجاز أن يثبت في الذمة كالثمن، ولأن بالناس حاجة إليه؛ لأن أرباب الزروع، والثمار، والتجارات يحتاجون إلى النفقة على أنفسهم، وعليها؛ لِتَكْمل، وقد تُعوزهم النفقة، فجُوّز لهم السلم؛ ليرتفقوا، وَيرتفق الْمُسلِم بالاسترخاص. انتهى
(1)
.
وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: السلم، والسلف عبارتان عن مُعَبَّر واحد، غير أن الاسم الخاصّ بهذا الباب: السلم؛ لأن السلف يُقال على القرض، والسلم في عرف الشرع: بيع من البيوع الجائزة بالاتفاق، غير أنه مختصّ بشروط، منها متّفقٌ عليها، ومنها مختلف فيها، وقد حدّه أصحابنا -يعني: المالكيّة- بأن قالوا:
هو بيع معلوم في الذّمّة، محصور بالصفة، بعين حاضرة، أو ما في حكمها، إلى أجل معلوم.
فتقييده بـ "معلوم في الذّمّة": يفيد التحرّز من المجهول، ومن السَّلَم في الأعيان المعيّنة، مثل الذي كانوا يُسلفون في المدينة حين قدِم عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإفهم كانوا يُسلفون في ثمار بأعيانها، فنهاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ لما فيه من الغرر؛ إذ قد تُخلف تلك النخيل، فلا تُثمر شيئًا.
وقولنا: "محصور بالصفة": تحرّز عن المعلوم على الجملة، دون
(1)
"المغني" 6/ 384.
التفصيل، كما لو أسلم في ثمر، أو ثياب، ولم يُبيّن نوعها، ولا صفتها المعيّنة.
وقولنا: "بعين حاضرة": تحرّز من الدَّين بالدين.
وقولنا: "أو ما هو في حكمها": تحرّز من اليومين، والثلاثة التي يجوز تأخير رأس مال السلم إليها، فإنه يجوز عندنا تأخيره ذلك القدر بشرط، وبغير شرط؛ لِقُرب ذلك، ولا يجوز اشتراط زيادة عليها.
وقولنا: "إلى أجل معلوم": تحرّز من الأجل المجهول الذي كانوا في الجاهليّة، يُسلمون إليه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقوله: "في "الطعام": المراد به هنا ما يعمّ البُرّ وغيره، بدليل ما ذكره في الحديث، وإن كان الطعام كثيرًا ما يُطلق على الحنطة، كما سبق بيان ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب.
[4111]
(1604) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ -وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى- قَالَ عَمْرٌو: حَدَّثَنَا، وَقَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي الثِّمَارِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ، فَقَالَ: "مَنْ أَسْلَفَ فِي تَمْرٍ، فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: ابن محمد بن بُكير، تقدّم قريبًا.
3 -
(سفيان) بن عيينة، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(ابن أبي نَجِيح) عبد الله بن يسار الثقفيّ مولاهم، أبو يسار المكيّ، ثقة، رُمي بالقدر، وربّما دلّس [6](ت 131) أو بعدها (ع) تقدم في "الجنائز" 6/ 2134.
4 -
(عبد الله بن كثير) الداريّ المكيّ، أبو مَعبد القارئ، أحد الأئمة، مولى عمرو بن علقمة الكنانيّ، وكان عطارًا بمكة، وأهل مكة يقولون للعطار:
(1)
"المفهم" 4/ 514.
داريّ، ويقال: بل هو من ولد الدار بن هانئ رهط تميم الداريّ، وقال أبو نعيم الأصبهاني: هو مولى بني عبد الدار، صدوقٌ [6].
رَوَى عن أبي الزبير، ومجاهد، وقرأ عليه القرآن، وأبي المنهال: عبد الرحمن بن مطعم، وعكرمة مولى ابن عباس، وغيرهم. وعنه أيوب، وجرير بن حازم، وابن أبي نجيح، وابن جريج، وحماد بن سلمة، وشِبْل بن عباد، وابن خَثيم، وابن عيينة، وجماعة.
قال عليّ ابن المدينيّ: كان ثقة، وقال ابن سعد: ثقة، وله أحاديث صالحة، وقال حماد بن سلمة: رأيت أبا عمرو بن العلاء، يقرأ على عبد الله بن كثير، وقال ابن عيينة: لم يكن بمكة أقرأ منه، ومن حميد بن قيس. وقال جرير بن حازم: كان فصيحًا بالقرآن. وذكر أبو عمرو الداني: أنه أخذ القراءة عن عبد الله بن السائب المخزوميّ، والمعروف أنه إنما أخذها عن مجاهد، وقال ابن المجاهد، عن بشر بن موسى، عن الحميديّ، عن سفيان: رأيت قاسم الرحال في جنازة عبد الله بن كثير، سنة عشرين ومائة.
وقال البخاريّ: عبد الله بن كثير المكيّ القرشيّ، سمع مجاهدًا، سمع منه ابن جريج.
قال الجيانيّ: وقول البخاريّ: إنه من بني الدار وَهَمٌ، وإنما هو سهميّ، كذا يقوله النسابون، والمحدثون، وقال: والذي ذكر ابن عيينة: أنه رأى قاسم الرحال في جنازته، هو السهميّ، لا القارئ، وقال ابن أبي مريم، عن ابن معين: عبد الله بن كثير الرازيّ القارئ ثقة، وقال أبو عبيد: إليه صارت قراءة أهل مكة، وبه اقتدى أكثرهم، وصحح ابن البادي أن نسبته إلى دارين، قال: لأنه كان عطارًا.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديث الباب فقط، كرّره مرّتين. [تنبيه]: مدار هذا الحديث -كما قال في "الفتح"- على "عبد الله بن كثير": وقد اختُلف فيه، فقيل: هو عبد الله بن كثير بن المطّلب بن أبي وداعة السهميّ، وبهذا جزم الكلاباذيّ، وابن طاهر، والدمياطيّ.
وقيل: هو عبد الله بن كثير القارئ المشهور، وبهذا جزم القابسيّ، وعبد الغنيّ، والمزّيّ، قال الحافظ:
وهو أرجح، فإنه مقتضى صنيع البخاريّ في "تاريخه"، وكلاهما ثقتان. انتهى
(1)
.
5 -
(أبو المنهال) عبد الرحمن بن مُطعم البُنَانيّ البصريّ، نزيل مكة، تقدّم قريبًا.
6 -
(ابن عباس) البحر الحبر رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قريبًا.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخيه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بثقات المكيين، غير شيخيه.
4 -
(ومنها): أن فيه عبدَ الله بن كثير أحد القرّاء السبعة، الذي قال عنه الشاطبيّ في "حرز الأماني":
وَمَكَّةُ عَبْدُ اللهِ فِيهَا مُقَامُهُ
…
هُوَ ابْنُ كَثِيرٍ كَاثِرُ الْقَوْمِ مُعْتَلَى
وفيه ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، حبر الأمة، وبحرها، وأحد المكثرين السبعة، وأحد العبادلة الأربعة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ) عبد الرحمن بن مطعم، (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: قَدِمَ) بكسر الدال المهملة، من باب تعب (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَهُمْ يُسْلِفُونَ) بضمّ أوله، من الإسلاف، أو التسليف، يقال: أسلف إسلافًا، وسلّف تسليفًا، والاسم السّلَف، وهو على وجهين:
[أحدهما]: قرض، لا منفعة للمقرض غير الأجر، والشكر.
[والثاني]: أن يُعطي مالًا في سلعة إلى أجل معلوم. قاله السنديّ
(2)
، والمراد هنا الثاني.
(فِي الثِّمَارِ) بكسر الثاء المثلّثة، وتخفيف الميم، وفي رواية للبخاريّ:
(1)
راجع: "الفتح" 4/ 430.
(2)
"شرح السنديّ على النسائيّ" 7/ 290.
"في الثمر" بالثاء المثلّثة أيضًا، وهو مفرد الأول، قال الفيّوميّ رحمه الله: الثَّمَرُ -بفتحتين- والثَّمَرَةُ مثله، فالأول مذكَّر، ويُجْمَع على ثِمَارٍ، مثلُ جَبَلٍ وجِبَال، ثم يجمع الثِّمَارُ على ثُمُرٍ، مثلُ كتاب وكُتُب، ثم يُجمع على أَثْمَارٍ، مثل عُنُق وأعناق، والثاني مؤنَّث، والجمع ثَمَرَاتٍ، مثل قَصَبة وقَصَبات، والثَّمَرُ: هو الْحَمْلُ الذي تُخرجه الشجرة، سواءٌ أُكِل أو لا، فيقال: ثَمَرُ الأراك، وثَمَرُ الْعَوْسَج، وثَمَرُ الدَّوْمِ، وهو الْمُقْلُ، كما يقال: ثَمَرُ النخل، وثَمَرُ العنب، قال الأزهريّ: وأَثْمَرَ الشجرُ: أطلع ثمره أوّلَ ما يُخرجه، فهو مُثْمِرٌ، ومن هنا قيل لما لا نفع فيه: ليس له ثَمَرَةٌ. انتهى
(1)
.
(السَّنَةَ وَالسَّنتيْنِ) بالنصب على الظرفيّة متعلّق بـ "يُسلفون"، وقال السنديّ: منصوب إما على نزع الخافض؛ أي: إلى السنة والسنتين، أو على المصدر؛ أي: إسلاف السنة والسنتين. انتهى
(2)
.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("مَنْ أَسْلَفَ) بالهمز، وفي رواية للبخاريّ من طريق ابن عُليّة، عن ابن أبي نَجيح:"من سلّف" بتشديد اللام، وهو بمعناه، كما سبق (فِي تَمْرٍ) بفتح التاء المثنّاة فوقُ، وسكون الميم، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في أكثر الأصول "تَمْر" بالمثنّاة، وفي بعضها "ثَمَر" بالمثلّثة، وهو أعمّ. انتهى
(3)
.
وفي رواية البخاريّ: "من أسلف في شيء".
وقال القرطبيّ رحمه الله: إنما جرى ذكر التمر في هذه الرواية؛ لأنه غالب ما يُسلَم فيه عندهم. انتهى
(4)
.
(فَلْيُسْلِفْ) بضم حرف المضارعة، من الإسلاف، أو التسليف (فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ) هكذا الرواية بالواو، وهي هنا بمعنى "أو"؛ لأن المراد اعتبار الكيل فيما يُكال، والوزن فيما يوزن.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 84.
(2)
راجع: "شرح السنديّ على النسائيّ" 7/ 291، و"الكاشف عن حقائق السنن" 7/ 2164، للطيبيّ.
(3)
"شرح النوويّ" 11/ 41.
(4)
"المفهم" 4/ 515.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "ووزن معلوم" هكذا في جميع النسخ: "ووزن معلوم" بالواو، لا بـ "أو"، ومعناه: إن أسلم كيلًا، أو وزنًا، فليكن معلومًا، وفيه دليلٌ لجواز السلم في المكيل وزنًا، وهو جائز بلا خلاف، وفي جواز السلم في الموزون كيلًا وجهان لأصحابنا، أصحّهما جوازه؛ كعكسه. انتهى
(1)
.
وقال السنديّ رحمه الله: قوله: "ووزن معلوم" بالواو في الأصول، فقيل: الواو للتقسيم؛ أي: بمعنى "أو"؛ أي: كيلٌ فيما يكال، ووزنٌ فيما يوزن. وقيل: بتقدير شرط؛ أي: في كيل معلوم، إن كان كيليًّا، ووزن معلوم، إن كان وزنيًّا، أو مَن أسلف في مكيل، فليُسلف في كيل معلوم، ومن أسلف في موزون، فليُسلف في وزن معلوم. انتهى
(2)
.
(إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ")؛ أي: وقتٍ محدّد، احترز به عن الأجل المجهول الذي كانوا فيَ الجاهليّة يسلفون إليه، قيل: ظاهره اشتراط الأجل في السلم، وبه يقول الجمهور، وهو الصحيح، وسيأتي تحقيقه قريبًا، إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [46/ 4111 و 4112 و 4113 و 4114](1604)، و (البخاريّ) في "السلم"(2239 و 2240 و 2241 و 2253)، و (أبو داود) في "البيوع"(3463)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1311)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 290) و"الكبرى"(4/ 40)، و (ابن ماجه) في "التجارات"(2280)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 161)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(14059 و 14060)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 52)، و (الحميديّ) في "مسنده"
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 42.
(2)
"شرح السنديّ على النسائيّ" 7/ 290 - 291.
(510)
، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 217 و 222 و 282)، و (الدارميّ) في "سننه"(2470)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4925) و (ابن الجارود) في "المنتقى"(614 و 615)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(11263 و 11264 و 11265)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(3/ 3، 4)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 411)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 18 و 19 و 24) و"المعرفة"(4/ 403 و 414)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4/ 296)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(2125)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة السلم في التمر، وجميع الثمار.
2 -
(ومنها): اشتراط تعيين الكيل فيما يُسْلَم فيه من المكيل، من أجل اختلاف المكاييل، إلا أن لا يكون في البلد سوى كيل واحد، فإنه ينصرف إليه عند الإطلاق، قال في "الفتح": واتّفقوا على اشتراط الكيل فيما يُسلم فيه من المكيل، كصاع الحجاز، وقفيز العراق، وإِرْدَبّ مصر، بل مكاييل هذه البلاد في نفسها مختلفة، فإذا أطلق صُرف إلى الأغلب. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): أن ما يوزن لا يُسلم فيه مكيلًا، وبالعكس، قال في "الفتح": وهو أحد الوجهين، والأصحّ عند الشافعيّة الجواز، وحمله إمام الحرمين على ما يُعدّ الكيل في مثله ضابطًا. انتهى.
4 -
(ومنها): أنه يؤخذ من رواية "من أسلف في شيء" جواز السلم في كلّ شيء، من الحيوان، وغيره من العُروض، مما تجتمع شروط السلم فيه، وهو مذهب الجمهور، من الصحابة، والتابعين، وأئمة الفتيا، وقد منع السلم، والقرض في الحيوان: الأوزاعيّ، والثوريّ، والحنفيّة، ورُوي عن ابن عمر، وابن مسعود رضي الله عنهم، قال القرطبيّ: والكتاب، والسُّنَّة حجة عليهم، فمن الكتاب عموم قوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، وقوله تعالى:{إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ} [البقرة: 282]، ومن السُّنَّة:"أنه صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرًا" الحديث. رواه مسلم، وقد تقدّم في الباب الماضي.
(1)
"الفتح" 6/ 7.
5 -
(ومنها): أن فيه دليلًا على اشتراط كون الْمُسْلَم فيه معلوم المقدار، قال القرطبيّ رحمه الله: وكذلك لا بُدَّ أن يكون معلوم الصفة المقصودة المعيَّنة؛ ليرتفع الغرر والجهالة، وهو مجمع عليه، وإنما لم يذكر اشتراطها في هذا الحديث؛ لأنهم كانوا يشترطونها ويعملون عليها، فاستغني عن ذكرها، واعتني بذكر ما كانوا يُخِلُّون به من المقدار والأجل، وأما رأس مال السَّلم: فقد اشترط فيه أبو حنيفة أن يكون معلوم الكيل، أو الوزن، وقال أبو يوسف ومحمد: يجوز السَّلم بما كان معينًا، ولو لم يعلم كيله، ولا وزنه، وبه قال الشافعيّ في أحد قوليه، ولم يَرِدْ عن مالك فيه نصٌّ، لكن يتخرج من مسألة جواز بيع الجِزاف فيما يجوز فيه جواز السَّلم بالمعين جزافًا، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى؛ لأن التقدير في الجزاف كالتحقيق، فيستوي في جواز ذلك رأس مال السَّلم وغيره. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
6 -
(ومنها): أن فيه دليلًا على اشتراط الأجل في السَّلم، قال القرطبيّ: وهو قول أبي حنيفة، والمشهور من قول مالك، غير أن أبا حنيفة لم يُفرق بين قريب الأجل وبعيده، وأما أصحابنا -يعني: المالكيّة- فقالوا: لا بدَّ من أجل تتغير فيه الأسواق، وأقله عند ابن القاسم خمسة عشر يومًا، وقال غيره: ثلاثة أيام، ولم يَحُدَّها ابن عبد الحكم في روايته عن مالك، بل قال: أيامًا يسيرة، وهذا في البلد الواحد. وأما في البلدين فيغني ما بينهما من المسافة عن اشتراط الأجل إذا كانت معلومة وتعيّن وقت الخروج.
وقال الشافعيّ: يجوز السَّلم الحالّ، وهذا الحديث حجة عليه، ولا سيما على رواية من رواه:"من أسلم فلا يسلم إلا في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم"، وكذلك الحديث الذي قال فيه:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عندك، وأرخص في السَّلم"؛ لأن السَّلم لمّا كان بيعَ معلومٍ في الذمة كان بيعَ غائبٍ، فإن لم يكن فيه أجل كان هو البيع المنهيّ عنه، وإنما استثنى الشرع السَّلم من بيع ما ليس عندك؛ لأنه بيع تدعو إليه ضرورة كل واحد من المتبايعين، فإن صاحب رأس المال محتاج أن يشتري الثمر، وصاحب الثمرة
(1)
"المفهم" 4/ 515.
محتاج إلى ثمنها قبل إبَّانها لينفقه عليها، فظهر أن صفقة السَّلم من المصالح الحاجيَّة، وقد سَمَّاها الفقهاء بيع المحاويج، فإن جاز حالًّا بطلت هذه الحكمة، وارتفعت هذه المصلحة، ولم يكن لاستثنائه من بيع ما ليس عندك فائدة، والله أعلم.
وأما رأس مال السَّلم فيجوز أن يتأخر عندنا ثلاثة أيام بشرط وبغير شرط، ولا يجوز تأخيره زيادة عليها بالشرط، وإن وقع كذلك بطل؛ لأنه ظهر مع الزيادة عليها مقصود الدَّين بالدَّين، فلا يجوز بخلاف ما قبلها؛ إذ لا يتبيَّن فيه المقصد إلى ذلك؛ إذ يكون تأخير اليومين والثلاثة ليهيِّئ الثمن، ويحتال في تحصيله، ولم يجز الكوفيون، ولا الشافعيّ تأخيره عن العقد والافتراق، ورأوا أنه كالصَّرف، وهذا القياس غير مسلَّم لهم؛ لأن البابين مختلفان بأخص أوصافهما، فإن الصَّرف بابه ضيق، كثرت فيه التعبُّدات والشروط بخلاف السَّلم فإن شوائب المعاملات عليه أكثر، وأيضًا فإنه على نقيضه، ألا ترى: أن مقصود الشرع في الصَّرف المناجزة، والمقصود في السَّلم التوسيع بالتأخير؛ فكيف تُحمل فروع أحدهما على الآخر مع وجود هذه الفوارق؟. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
[تنبيه]: ذكر العلماء لصحة السلم ستة شروط؛ استنباطًا من حديث الباب، وغيره، فمنها ما هو مجمع عليه، ومنها ما هو مختلف فيه، وسأورد هذه الشروط مع بيان بعض ما يتفرّع منها من المسائل، ملخّصًا من كلام الإمام العلامة موفّق الدين أبي محمد ابن قُدامة رحمه الله، في كتابه المفيد "المغني"، وأرتّبها في مسائل متممة للمسائل الماضية فأقول:
(المسألة الرابعة): في الكلام على الشرط الأول:
قال ابن قُدامة رحمه الله ما حاصله: الشرط الأول أن يكون المُسْلَم فيه، مما ينضبط بالصفات التي يختلف الثمن باختلافها ظاهرًا، فيصح في الحبوب، والثمار، والدقيق، والثياب، والإبريسم، والقطن، والكتان، والصوف، والشعر، والكاغد، والحديد، والرصاص، والصفر، والنحاس، والأدوية،
(1)
"المفهم" 4/ 516 - 517.
والطيب، والخلول، والأدهان، والشحوم، والألبان، والزئبق، والشَّبّ، والكبريت، والكحل، وكل مكيل، أو موزون، أو مذروع، وقد جاء الحديث في الثمار، وحديث ابن أبي أوفى رضي الله عنه في الحنطة، والشعير، والزبيب، والزيت، وأجمع أهل العلم على أن السلم في الطعام جائز، قاله ابن المنذر، وأجمعوا على جواز السلم في الثياب.
ولا يصح السلم فيما لا ينضبط بالصفة، كالجوهر، من اللؤلؤ، والياقوت، والفيروزج، والزبرجد، والعقيق، والبِلَّوْر؛ لأن أثمانها تختلف اختلافا متباينًا بالصغر، والكبر، وحسن التدوير، وزيادة ضوئها، وصفائها، ولا يمكن تقديرها ببيض العصفور ونحوه؛ لأن ذلك يختلف، ولا بشيء معين؛ لأن ذلك يَتْلَف، وهذا قول الشافعيّ، وأصحاب الرأي، وحُكي عن مالك صحة السلم فيها، إذا اشترط منها شيئًا معلومًا، وإن كان وزنًا فبوزن معروف، والذي قلناه أولى؛ لِمَا ذكرنا.
ولا يصح فيما يَجمع أخلاطًا مقصودة، غير متميزة، كالغالية، والنَّدّ، والمعاجين، التي يتداوى بها؛ للجهل بها، ولا في الحوامل من الحيوان؛ لأن الولد مجهول، غير متحقَّق، ولا في الأواني المختلفة الرؤوس والأوساط؛ لأن الصفة لا تأتي عليه.
وفيه وجه آخر أنه يصح السلم فيه، إذا ضُبط بارتفاع حائطه، ودور أعلاه وأسفله؛ لأن التفاوت في ذلك يسير، ولا يصح في القَسِيّ المشتملة على الخشب، والقرن، والعصب، والتُّوز؛ إذ لا يمكن ضبط مقادير ذلك، وتمييز ما فيه منها، وقيل: يجوز السلم فيها، والأولى ما ذكرنا.
قال القاضي: والذي يجمع أخلاطًا على أربعة أضرب:
[أحدها]: مختلط مقصود متميز؛ كالثياب المنسوجة من قطن وكتان، أو قطن وإبريسم، فيصح السلم فيها؛ لأن ضبطها ممكن.
[الثاني]: ما خلطه لمصلحته، وليس بمقصود في نفسه؛ كالإنفحة في الجبن، والملح في العجين والخبز، والماء في خل التمر والزبيب، فيصح السلم فيه؛ لأنه يسير لمصلحته.
[الثالث]: أخلاط مقصودة غير متميزة؛ كالغالية والنَدّ، والمعاجين، فلا يصح السلم فيها؛ لأن الصفة لا تأتي عليها.
[الرابع]: ما خلطه غير مقصود، ولا مصلحة فيه؛ كاللبن المشوب بالماء، فلا يصح السلم فيه. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيس، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): مما يتفرعّ على الشرط المذكور مما اختَلَف فيه أهل العلم السلم في الحيوان:
قال ابن قُدامة رحمه الله: واختلفت الرواية -أي: عن أحمد- في السلم في الحيوان، فرُوي: لا يصح السلم فيه، وهو قول الثوريّ، وأصحاب الرأي، ورُوي ذلك عن عمر، وابن مسعود، وحذيفة، وسعيد بن جبير، والشعبيّ، والجوزجانيّ؛ لما رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال: إن من الربا أبوابًا، لا تخفى، وإن منها السلمَ في السنّ، ولأن الحيوان يختلف اختلافًا متباينًا، فلا يمكن ضبطه، وإن استقصى صفاته التي يختلف بها الثمن، مثل: أزجّ الحاجبين، أكحل العينين، أقنى الأنف، أشم العِرْنين، أهدب الأشفار، أَلْمَى الشفة، بديع الصفة، تعذّر تسليمه؛ لندرة وجوده على تلك الصفة، وظاهر المذهب صحة السلم فيه، نَصّ عليه في رواية الأثرم.
قال ابن المنذر: وممن روينا عنه أنه لا بأس بالسلم في الحيوان: ابنُ مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وسعيد بن المسيِّب، والحسن، والشعبيّ، ومجاهد، والزهريّ، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وإسحاق، وأبو ثور، وحكاه الجوزجانيّ عن عطاء، والحكم؛ لأن أبا رافع رضي الله عنه، قال:"استَسْلَف النبيّ صلى الله عليه وسلم من رجل بكرًا"، رواه مسلم، ورَوَى عبد الله بن عمرو بن العاص، قال:"أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن أبتاع البعير بالبعيرين وبالأبعرة، إلى مجيء الصدقة"، ولأنه ثبت في الذمة صداقًا، فثبت في السلم، كالثياب، فأما حديث عمر فلم يذكره أصحاب الاختلاف، ثم هو محمول على أنهم يشترطون من ضراب فحل بني فلان، قال الشعبيّ: إنما كره ابن مسعود السلف في الحيوان؛
(1)
"المغني" 6/ 385 - 386.
لأنهم اشترطوا نتاج فحل معلوم. رواه سعيد، وقد رُوي عن علي رضي الله عنه أنه باع جملا له يُدعى عُصيفيرًا بعشرين بَعيرًا إلى أجل، ولو ثبت قول عمر، في تحريم السلم في الحيوان، فقد عارضه قول من سمينا ممن وافقنا. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله
(1)
، وهو بحث مفيد جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): مما اختلفوا فيه أيضًا: السلم في غير الحيوان مما لا يكال، ولا يوزن: قال ابن قُدامة رحمه الله: واختلفت الرواية -أي: عن أحمد- في غير الحيوان، مما لا يكال، ولا يوزن، ولا يذرع، فنقل إسحاق بن إبراهيم، عن أحمد؛ أنه قال: لا أرى السلم إلا فيما يكال، أو يوزن، أو يوقف عليه، قال أبو الخطاب: معناه: يوقف عليه بحدّ معلوم، لا يختلف كالذرع، فأما الرمان، والبيض، فلا أرى السلم فيه، وحَكَى ابن المنذر عنه، وعن إسحاق: أنه لا خير في السلم في الرمان، والسفرجل، والبطيخ، والقثاء، والخيار؛ لأنه لا يكال، ولا يوزن، ومنه الصغير والكبير، فعلى هذه الرواية لا يصح السلم في كل معدود مختلف، كالذي سميناه، وكالبقول؛ لأنه يختلف، ولا يمكن تقدير البقل بالحزم؛ لأن الحزم يمكن في الصغير والكبير، فلم يصح السلم فيه كالجواهر، ونقل إسماعيل بن سعيد، وابن منصور: جواز السلم في الفواكه، والسفرجل، والرمان، والموز، والخضروات ونحوها؛ لأن كثيرًا من ذلك، مما يتقارب، وينضبط بالصغر والكبر، وما لا يتقارب ينضبط بالوزن، كالبقول ونحوها، فصح السلم فيه، كالمذروع، وبهذا قال أبو حنيفة، والشافعيّ، والأوزاعيّ، وحَكَى ابن المنذر عن الشافعيّ المنع من السلم في البيض، والجوز، ولعل هذا قول آخر، فيكون له في ذلك قولان. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول الثاني عندي أرجح؛ لإمكان ضبطها بما ذُكر، ضبطًا تقريبيًّا، وهو كاف في مثل هذا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"المغني" 6/ 388 - 389.
(2)
"المغني" 6/ 388 - 389.
(المسألة السابعة): في الكلام على الشرط الثاني: وهو أن يضبطه بصفاته التي يختلف الثمن بها ظاهرًا، فإن السلم فيه عوض في الذمة، فلا بد من كونه معلومًا بالوصف، كالثمن، ولأن العلم شرط في المبيع، وطريقه إما الرؤية، وإما الوصف، والرؤية ممتنعة ههنا، فتعيَّن الوصف، والأوصاف على ضربين: متفق على اشتراطها، ومختلف فيها، فالمتفق عليها ثلاثة أوصاف: الجنس، والنوع، والجودة والرداءة، فهذه لا بدّ منها في كل مُسْلَم فيه، ولا نعلم بين أهل العلم خلافًا في اشتراطها، وبه يقول أبو حنيفة، ومالك، والشافعيّ.
الضرب الثاني: ما يختلف الثمن باختلافه، مما عدا هذه الثلاثة الأوصاف، وهذه تختلف باختلاف المسلم فيه، وذِكْرها شرط في السلم عند أحمد، والشافعيّ، وقال أبو حنيفة: يكفي ذكر الأوصاف الثلاثة؛ لأنها تشتمل على ما وراءها من الصفات.
ولنا أنه يبقى من الأوصاف من اللون، والبلد، ونحوهما ما يختلف الثمن، والغرض لأجله، فوجب ذِكْره كالنوع، ولا يجب استقصاء كل الصفات؛ لأن ذلك يتعذر، وقد ينتهي الحال فيها إلى أمر يتعذر تسليم المُسْلَم فيه، إذ يبعد وجود المُسْلَم فيه عند المحل بتلك الصفات كلها، فيجب الاكتفاء بالأوصاف الظاهرة، التي يختلف الثمن بها ظاهرًا، ولو استقصى الصفات حتى انتهى إلى حال يندر وجود المُسْلَم فيه بتلك الأوصاف، بطل السلم؛ لأن من شرط السلم أن يكون المُسْلَم فيه عامَّ الوجود عند المحل، واستقصاء الصفات يمنع منه. انتهى
(1)
، وهو بحث نفيس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثامنة): في الكلام على الشرط الثالث: وهو معرفة مقدار المُسْلَم فيه بالكيل، إن كان مكيلًا، وبالوزن إن كان موزونًا، وبالعدد إن كان معدودًا، لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من أسلم في شيء، فليسلف في كيل معلوم، أو وزن معلوم، إلى أجل معلوم"، متّفقٌ عليه، ولأنه عوض غير مشاهَد يثبت في
(1)
"المغني" 6/ 391 - 392.
الذمة، فاشتُرط معرفة قدره، كالثمن، قال الموفّق: ولا نعلم في اعتبار معرفة المقدار خلافًا، ويجب أن يقدّره بمكيال، أو أرطال معلومة عند العامة، فإن قدّره بإناء معيّن، أو صنجة معينة، غير معلومة لم يصح؛ لأنه يهلك، فيتعذر معرفة قدر المُسْلَم فيه، وهذا غرر، لا يحتاج إليه العقد.
قال ابن المنذر: أجمع كل من نَحْفَظ عنه من أهل العلم، على أن المُسْلَم في الطعام، لا يجوز بقفيز لا يُعلم عياره، ولا في ثوب بذرع فلان؛ لأن المعيار لو تَلِف، أو مات فلان بطل السلم، منهم: الثوريّ، والشافعيّ، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأبو ثور، وإن عيَّن مكيال رجل، أو ميزانه، وكانا معروفين عند العامة جاز، ولم يختصّ بهما، وإن لم يُعْرَفا لم يَجُز. انتهى
(1)
، وهو بحث نفيس أيضًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة التاسعة): مما يتفرّع على الشرط الثالث المذكور اختلافهم، فيما إذا أسلم فيما يكال وزنًا، أو فيما يوزن كيلًا، قال ابن قُدامة: نقل الأثرم أنه سأل أحمد، عن السلم في التمر وزنًا؟، فقال: لا إلا كيلًا، قلت: إن الناس ههنا لا يعرفون الكيل، قال: وإن كانوا لا يعرفون الكيل، فيَحْتَمِل هذا أنه لا يجوز في المكيل إلا كيلًا، ولا في الموزون إلا وزنًا، وهكذا ذكره القاضي، وابن أبي موسى؛ لأنه مبيع يُشترط معرفة قَدْره، فلم يَجُز بغير ما هو مقدّر به في الأصل، كبيع الرطوبات بعضها ببعض، ولأنه قدّر المُسْلَم بغير ما هو مقدّر به في الأصل، فلم يجز، كما لو أسلم في المذروع وزنًا، ونقل المروذيّ عن أحمد: أنه يجوز السلم في اللبن إذا كان كيلًا أو وزنًا، وهذا يدل على إباحة السلم في المكيل وزنًا، وفي الموزون كيلًا؛ لأن اللبن لا يخلو من كونه مكيلًا، أو موزونًا، وقد أجاز السلم فيه بكل واحد منهما، وهذا قول الشافعيّ، وابن المنذر، وقال مالك: ذلك جائز، إذا كان الناس يتبايعون التمر وزنًا، قال ابن قُدامة: وهذا أصح إن شاء الله تعالى؛ لأن الغرض معرفة قَدْره، وخروجه من الجهالة، وإمكان تسليمه من غير تنازع، فبأيِّ قَدْر قَدَّره جاز، ويفارق بيع الربويات، فإن التماثل فيها في المكيل كيلًا، وفي الموزون وزنًا
(1)
"المغني" 6/ 399 - 400.
شرط، ولا نعلم هذا الشرط إذا قدّرها بغير مقدارها الأصلي. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي صححه ابن قُدامة: هو الأرجح عندي؛ لوضوح حجته، كما بيّنه هو في كلامه المذكور آنفًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة العاشرة): في الكلام على الشرط الرابع: وهو أن يكون مؤجلًا أجلًا معلومًا، وقد اختلف أهل العلم في ثلاثة مواضع من هذا الشرط:
[أحدها]: أنه يشترط لصحة السلم كونه مؤجلًا، ولا يصح السلم الحالّ، قال أحمد في رواية المرُّوذيّ: لا يصح حتى يشترط الأجل، وبهذا قال أبو حنيفة، ومالك، والأوزاعيّ، وقال الشافعيّ، وأبو ثور، وابن المنذر: يجوز السلم حالًّا؛ لأنه عقد يصح مؤجلًا، فصح حالًا، كبيوع الأعيان، ولأنه إذا جاز مؤجلًا، فحالًّا أجوز، ومن الغرر أبعد.
واحتجّ الأولون بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "من أسلف في شيء، فليسلف في كيل معلوم، أو وزن معلوم، إلى أجل معلوم"، فأمر بالأجل، وأمْره يقتضي الوجوب، ولأنه أمَر بهذه الأمور؛ تبيينًا لشروط السلم، ومنعًا منه بدونها، وكذلك لا يصح إذا انتفى الكيل والوزن، فكذلك الأجل، ولأن السلم إنما جاز رخصةً للرفق، ولا يحصل الرفق إلا بالأجل، فإذا انتفى الأجل انتفى الرفق، فلا يصح كالكتابة، ولأن الحلول يخرجه عن اسمه ومعناه: أما الاسم فلأنه يسمى سَلَمًا وسَلَفًا؛ لتعجّل أحد العوضين، وتأخر الآخر، ومعناه ما ذكرناه في أول الباب، من أن الشارع أرخص فيه للحاجة الداعية إليه، ومع حضور ما يبيعه حالًّا لا حاجة إلى السلم، فلا يثبت، ويفارق بيوع الأعيان، فإنها لم تثبت على خلاف الأصل، لمعنى يختص بالتأجيل، وما ذكروه من التنبيه غير صحيح؛ لأن ذلك إنما يجزئ فيما إذا كان المعنى المقتضي موجودًا في الفرع بصفة التأكيد، وليس كذلك ههنا، فإن البعد من الضرر، ليس هو المقتضي لصحة السلم المؤجل، وإنما المصحِّح له شيء آخر، لم نذكر اجتماعهما فيه، وقد بيّنا افتراقهما.
إذا ثبت هذا، فإنه إن باعه ما يصح السلم فيه حالًّا في الذمة صح، ومعناه معنى السلم، وإنما افترقا في اللفظ.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن أرجح الأقوال هو ما ذهب إليه الجمهور من اشتراط كونه مؤجّلًا؛ لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "إلى أجل معلوم"، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[الموضع الثاني]: مما اختلفوا فيه أيضًا: أنه لا بد من كون الأجل معلومًا؛ لقوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} الآية [البقرة: 282]، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إلى أجل معلوم"، قال ابن قُدامة رحمه الله: ولا نعلم في اشتراط العلم في الجملة اختلافًا، فأما كيفيته، فإنه يحتاج أن يعلمه بزمان بعينه لا يختلف، ولا يصح أن يؤجله بالحصاد، والجذاذ، وما أشبهه، وكذلك قال ابن عباس، وأبو حنيفة، والشافعيّ، وابن المنذر، وعن أحمد رواية أخرى: أنه قال: أرجو أن لا يكون به بأس، وبه قال مالك، وأبو ثور، وعن ابن عمر: أنه كان يبتاع إلى العطاء، وبه قال ابن أبي ليلى، وقال أحمد: إن كان شيء يُعرف، فأرجو، وكذلك إن قال: إلى قُدُوم الغزاة، وهذا محمول على أنه أراد وقت العطاء؛ لأن ذلك معلوم، فأما نفس العطاء، فهو في نفسه مجهول، يختلف، ويتقدم، ويتأخر، وَيحْتَمِل أنه أراد نفس العطاء؛ لكونه يتفاوت أيضًا، فأشبه الحصاد، واحتَجّ من أجاز ذلك، بأنه أجل يتعلق بوقت من الزمن، يُعرف في العادة، لا يتفاوت فيه تفاوتًا كثيرًا، فأشبه إذا قال: إلى رأس السنة.
واحتجّ الأولون بما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قال: "لا تتبايعوا إلى الحصاد والدياس، ولا تتبايعوا إلا إلى شهر معلوم"؛ ولأن ذلك يختلف، ويقرب ويبعد، فلا يجوز أن يكون أجلًا، كقدوم زيد.
[فإن قيل]: فقد رُوي عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بَعَث إلى يهوديّ: أن ابعث إليّ بثوبين إلى الميسرة".
[قلنا]: قال ابن المنذر: رواه حَرَمِيّ بن عُمارة، قال أحمد: فيه غفلة، وهو صدوق، قال ابن المنذر: فأخاف أن يكون من غفلاته، إذ لم يُتابَع عليه، ثم لا خلاف في أنه لو جعل الأجل إلى الميسرة لم يصح. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحديث المذكور أخرجه النسائيّ في
"سننه"، وهو حديث صحيح، كما بيّنته في "شرح النسائيّ"
(1)
، فالظاهر أن الحديث يدلّ لمن قال بجواز السلم إلى العطاء، ونحوه، مما يُعْلَم عادة، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: إذا جعل الأجل إلى شهر، تعلّق بأوله، وإن جعل الأجل اسمًا يتناول شيئين: كجمادى، وربيع، ويوم النفر، تعلق بأولهما، وإن قال: إلى ثلاثة أشهر: إلى انقضائها؛ لأنه إذا ذكر ثلاثة أشهر مبهمة، وجب أن يكون ابتداؤها من حين لفظه بها، وكذلك لو قال: إلى شهر كان آخره، وينصرف ذلك إلى الأشهر الهلالية، بدليل قوله تعالى:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} الآية [التوبة: 36]، وأراد الهلالية، وإن كان في أثناء شهر، كمّلنا شهرين بالهلال، وشهرًا بالعدد ثلاثين يومًا، وقيل: تكون الثلاثة كلها عددية، قاله الموفّق رحمه الله
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[الأمر الثالث]: في كون الأجل معلومًا بالأهلة، وهو أن يُسلم إلى وقت يُعلم بالهلال، نحو أول الشهر، أو أوسطه، أو آخره، أو يوم معلوم منه؛ لقول الله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} الآية [البقرة: 189]، ولا خلاف في صحة التأجيل بذلك، ولو أسلم إلى عيد الفطر، أو النحر، أو يوم عرفة، أو عاشوراء، أو نحوها جاز؛ لأنه معلوم بالأهلة، وإن جعل الأجل مقدَّرًا بغير الشهور الهلالية، فذلك قسمان:
[أحدهما]: ما يعرفه المسلمون، وهو بينهم مشهور، ككانون، وشباط، أو عيد لا يختلف، كالنيروز، والمهرجان عند من يعرفهما، فظاهر كلام الخرقيّ، وابن أبي موسى، أنه لا يصح؛ لأنه أسلم إلى غير الشهور الهلالية، أشبه إذا أسلم إلى الشعانين، وعيد الفطير؛ لأن هذه لا يعرفها كثير من المسلمين، أشبه ما ذكرنا، وقال القاضي: يصح، وهو قول الأوزاعيّ، والشافعيّ، قال الأوزاعيّ: إذا أسلم إلى فصح النصارى، وصومهم جاز؛ لأنه
(1)
راجع: "ذخيرة العقبى" 35/ 124 - 127.
(2)
"المغني" 6/ 404.
معلوم لا يختلف، أشبه أعياد المسلمين، وفارق ما يختلف، فإنه لا يعلمه المسلمون.
[القسم الثاني]: ما لا يعرفه المسلمون، كعيد الشعانين، وعيد الفطير، ونحوهما، فهذا لا يجوز السلم إليه؛ لأن المسلمين لا يعرفونه، ولا يجوز تقليد أهل الذمة فيه؛ لأن قولهم غير مقبول، ولأنهم يقدمونه ويؤخرونه على حساب لهم، لا يعرفه المسلمون، وإن أسلم إلى ما لا يختلف، مثل كانون الأول، ولا يعرفه المتعاقدان، أو أحدهما لم يصح؛ لأنه مجهول عنده، قاله الموقق أيضًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الحادية عشرة): في الكلام على الشرط الخامس: وهو كون المُسْلَم فيه عامّ الوجود في محله، قال الموفّق رحمه الله: ولا نعلم فيه خلافًا، وذلك لأنه إذا كان كذلك، أمكن تسليمه عند وجوب تسليمه، وإذا لم يكن عامّ الوجود، لم يكن موجودًا عند المحل بحكم الظاهر، فلم يمكن تسليمه، فلم يصح بيعه، كبيع الآبق، بل أولى، فإن المسلم احتُمِل فيه أنواع من الغرر للحاجة، فلا يُحتَمل فيه غرر آخر؛ لئلا يكثر الغرر فيه، فلا يجوز أن يسلم في العنب، والرطب، إلى شباط أو آذار، ولا إلى محل لا يُعلم وجوده فيه، كزمان أول العنب، أو آخره، الذي لا يوجد فيه إلا نادرًا، فلا يؤمَن انقطاعه.
ولا يجوز أن يُسلم في ثمرة بستان بعينه، ولا قرية صغيرة؛ لكونه لا يؤمَن تلفه وانقطاعه. قال ابن المنذر: إبطال السلم إذا أسلم في ثمرة بستان بعينه، كالإجماع من أهل العلم، وممن حفظنا عنه ذلك: الثوريّ، ومالك، والأوزا عيّ، والشافعيّ، وأصحاب الرأي، وإسحاق، قال: ورَوينا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: أنه أسلف إليه رجل من اليهود دنانير، في تمر مسمى، فقال اليهودي: من تمر حائط بني فلان، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أما من حائط بني فلان فلا، ولكن كيل مسمى، إلى أجل مسمى"، رواه ابن ماجه
(1)
وغيره، ورواه أبو إسحاق الجوزجانيّ في "المترجم"، وقال: أجمع الناس على الكراهة لهذا
(1)
رواه ابن ماجه في "سننه" 2/ 766، وهو حديث ضعيف؛ لأن في سنده الوليد بن مسلم، وهو معروف بالتدليس، وقد رواه بالعنعنة.
البيع، ولأنه إذا أسلم في ثمرة بستان بعينه، لم يؤمَن انقطاعه وتلفه، فلم يصح كما لو أسلم في شيء، قدّره بمكيال معين، أو صنجة معينة، أو أحضر خرقة، وقال: أسلمت إليك في مثل هذه.
[تنبيه]: لا يُشترط كون المُسْلَم فيه موجودًا، حال السَّلَم، بل يجوز أن يسلم في الرُّطَب في أوان الشتاء، وفي كل يوم معدوم، إذا كان موجودًا في المحلّ، وهذا قول مالك، والشافعيّ، وإسحاق، وابن المنذر، وقال الثوريّ، والأوزاعيّ، وأصحاب الرأي: لا يجوز حتى يكون جنسه موجودًا حال العقد إلى حين المحلّ؛ لأن كل زمن يجوز أن يكون محلًّا للمُسْلَم فيه؛ لموت المُسْلَم إليه، فاعتبر وجوده فيه كالمحلّ.
واحتجّ الأولون بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قدم المدينة، وهم يُسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال:"من أسلف فليسلف في كيل معلوم"، ولم يذكر الوجود، ولو كان شرطًا لذكره، ولنهاهم عن السلف سنتين؛ لأنه يلزم منه انقطاع المُسْلَم فيه أوسط السنة، ولأنه يثبت في الذمة، ويوجد في محله غالبًا، فجاز السلم فيه كالموجود، ولا نُسَلِّم أن الذين يَحُل بالموت، وإن سلَّمنا فلا يلزم أن يُشترط ذلك الوجود، إذ لو لزم أفضى إلى أن تكون آجال السلم مجهولة، والمحل ما جعله المتعاقدان محلًّا، وههنا لم يجعلاه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما قاله الأولون هو الأرجح؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم حينما بيّن لهم التعامل الصحيح في السلم لم يستفصلهم ذلك، فدلّ على أنه يجوز، ولو كان ينقطع في بعض الأحيان، فإن الشرط وجوده وقت حلول الأجل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه آخر]: إذا تعذر تسليم المُسْلَم فيه عند المحلّ، إما لغيبة المسلم إليه، أو عجزه عن التسليم، حتى عُدم المسلم فيه، أو لم تَحْمِل الثمار تلك السنة، فالْمُسْلِم بالخيار بين أن يصبر إلى أن يوجد، فيطالب به، وبين أن يَفسخ العقد، ويرجع بالثمن، إن كان موجودًا، أو بمثله إن كان مثليًّا، وإلا بقيمته، وبه قال الشافعيّ، وإسحاق، وابن المنذر، وقيل: إنه ينفسخ العقد بنفس التعذر؛ لكون المُسْلَم فيه من ثمرة العام، بدليل وجوب التسليم منها، فإذا هلكت انفسخ العقد، كما لو باعه قفيزًا من صبرة، فهلكت، والأول هو
الصحيح، فإن العقد قد صح، وإنما تعذر التسليم، فهو كما لو اشترى عبدًا، فأبق قبل القبض، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية عشرة): في الكلام على الشرط السادس: وهو أن يقبض رأس مال السلم في مجلس العقد، فإن تفرقا قبل ذلك بطل العقد، وبهذا قال أبو حنيفة، والشافعيّ، وقال مالك: يجوز أن يتأخر قبضه يومين وثلاثة، وأكثر ما لم يكن ذلك شرطًا؛ لأنه معاوضة لا يخرج بتأخير قبضه من أن يكون سَلَمًا، فأشبه ما لو تأخر إلى آخر المجلس.
وحجة الأولين: أنه عقد معاوضة لا يجوز فيه شرط تأخير العوض المطلق، فلا يجوز التفرق فيه قبل القبض كالصرف، ويفارق المجلس ما بعده بدليل الصرف.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي ما قاله مالك رحمه الله هو الظاهر؛ لأنه لم يرد نصّ باشتراط القبض، وما ذكروه من الاستدلال ليس بواضح، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة عشرة): في اختلافهم في اشتراط معرفة صفة الثمن المعيّن:
قال الموفّق رحمه الله: لا خلاف في اشتراط معرفة صفته، إذا كان في الذمة؛ لأنه أحد عِوَضَي السَّلَم، فإذا لم يكن معيّنًا اشتُرِط معرفة صفته كالمُسْلَم فيه، إلا أنه إذا أطلق، وفي البلد نقد معيّن، انصرف الإطلاق إليه، وقام مقام وصفه، فأما إن كان الثمن معينًا، فقال القاضي وأبو الخطاب: لا بد من معرفة وصفه، واحتجا بقول أحمد رحمه الله يقول: أسلمت إليك كذا وكذا درهمًا، ويصف الثمن، فاعتبر ضبط صفته، وهذا قول مالك، وأبي حنيفة؛ لأنه عقد لا يملك إتمامه في الحال، ولا تسليم المعقود عليه، ولا يؤمَن انفساخه، فوجب معرفة رأس المُسْلَم فيه ليردّ بدله كالقرض والشركة، ولأنه لا يؤمَن أن يظهر بعض الثمن مستحقًّا، فينفسخ العقد في قَدْره، فلا يُدْرَى في كم بقي، وكم انفسخ.
وقيل: لا يشترط؛ لأنه لم يُذكر في شرائط السلم، وهو أحد قولي الشافعيّ؛ لأنه عِوَضٌ مشاهَد، فلم يُحتجْ إلى معرفة قَدْره، كبيوع الأعيان.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي القول الثاني أرجح؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "من أسلم فليسلم في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم"، ولم يذكر معرفة ذلك، فلو كان لازمًا لَمَا تركه صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة عشرة): في اختلافهم في اشتراط تعيين مكان الإيفاء:
ذهب بعضهم إلى أنه ليس بشرط، وحكاه ابن المنذر عن أحمد، وإسحاق، وطائفة من أهل الحديث، وبه قال أبو يوسف، ومحمد، وهو أحد قولي الشافعيّ؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من أسلم فليسلم في كيل معلوم، أو وزن معلوم، إلى أجل معلوم"، ولم يذكر مكان الإيفاء، فدل على أنه لا يشترط، وفي الحديث الذي فيه: أن اليهوديّ أسلم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أما من حائط بني فلان فلا، ولكن كيل مسمى إلى أجل مسمى"
(1)
، ولم يذكر مكان الإيفاء، ولأنه عقد معاوضة، فلا يُشترط فيه ذكر مكان الإيفاء، كبيوع الأعيان.
وقال الثوريّ: يُشترط ذكر مكان الإيفاء، وهو القول الثاني للشافعيّ، وقال الأوزاعيّ: هو مكروه؛ لأن القبض يجب بحلوله، ولا يُعلم موضعه حينئذٍ، فيجب شرطه؛ لئلا يكون مجهولًا.
وقال أبو حنيفة، وبعض أصحاب الشافعيّ: إن كان لحمله مؤنة وجب شرطه، وإلا فلا يجب؛ لأنه إذا كان لحمله مؤنة، اختلف فيه الغرض، بخلاف ما لا مؤنة فيه.
وقال ابن أبي موسى: إن كانا في برّية لزم ذكر مكان الإيفاء، وإن لم يكونا في برّية، فذِكْرُ مكان الإيفاء حسن، وإن لم يذكراه كان الإيفاء مكان العقد؛ لأنه متى كانا في برّية، لم يمكن التسليم في مكان العقد، فإذا ترك ذِكْره كان مجهولًا، وإن لم يكونا في برّية اقتضى العقد التسليم في مكانه، فاكتفى بذلك عن ذكره، فإنْ ذَكَره كان تأكيدًا فكان حسنًا، فإنْ شرط الإيفاء في مكان سواه صح؛ لأنه عقد بيع، فصح شرط ذِكْر الإيفاء في غير مكانه، كبيوع الأعيان.
(1)
تقدّم أن الحديث ضعيف، فتنبّه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي القول الأول وهو عدم اشتراط مكان الإيفاء أرجح؛ لقوّة أدلته، كما سبق آنفًا.
هذه خلاصة ما يتعلّق بحديث: "من أسلف سلفًا، فليُسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم"، فهي تفريعٌ، وتفصيل لهذه الشروط المذكورة فيه، فالكلام، وإن طال إلا أن المقام اقتضى ذلك؛ لأن المقصود من الشرح إيضاح معاني الأحاديث المذكورة في الكتاب، على وجه مفيد، وهذا يكون على حسب مفاهيم الأحاديث، فبهذا أعتذر إلى من يقول لي طوّلت، وأسأمت، اللَّهم انفعنا بما علّمتنا، وعلِّمنا ما ينفعنا، وزدنا علمًا، إنك جواد كريم، رؤوف رحيم. وصلّى الله، وسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحابته أجمعين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4112]
(
…
) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدُّثَنَا عبد الوَارِثِ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَالنَّاسُ يُسْلِفُونَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَسْلَفَ فَلَا يُسْلِفْ إِلَّا في كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الأُبُليّ، أبو محمد، صدوقٌ يَهِم، ورُمي بالقدر، من صغار [9](ت 236) وله بضع و (90) سنة (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.
2 -
(عبد الوَارِثِ) بن سعيد بن ذكوان الْعَنْبَريّ مولاهم، أبو عبيدة التَّنُّوريّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، ولم يثبت عنه [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تم البحث فيه مستوفًى في الحديث السابق، وبالله تعالى التوفيق.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4113]
(
…
) حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْن أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَ حَدِيثِ عبد الوَارِثِ، وَلَمْ يَذْكرْ:"إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(إِسْمَاعِيلُ بْن سَالِمٍ) الصائغ البغداديّ، نزيل مكة، ثقةٌ [10](م) تقدم في "الحيض" 10/ 748.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.
وقوله: (عَنِ ابْنِ عيَيْنَةَ) كذا وقع في النسخ، والصواب:"عن ابن عُليّة"، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في نسخ بلادنا: "عن ابن عيينة"، وكذا وقع في رواية أبي أحمد الْجُلُوديّ، ووقع في رواية ابن ماهان، عن مسلم، عن شيوخه هؤلاء الثلاثة: عن ابن عُلَيّة، وهو إسماعيل بن إبراهيم، قال أبو عليّ الغسانيّ، وآخرون من الحفاظ: والصواب رواية ابن ماهان، قالوا: ومن تأمل الباب عَرَف ذلك، قال القاضي عياض: لأن مسلمًا ذكر أوّلًا حديث ابن عيينة، عن ابن أبي نَجِيح، وفيه ذكر الأجل، ثم ذكر حديث عبد الوارث، عن ابن أبي نَجِيح، وليس فيه ذكر الأجل، ثم ذكر حديث ابن عُلَيّة، عن ابن أبي نَجِيح، وقال: بمثل حديث عبد الوارث، ولم يذكر:"إلى أجل معلوم"، ثم ذكر حديث سفيان الثوريّ، عن ابن أبي نَجِيح، وقال: بمثل حديث ابن عيينة، يذكر فيه الأجل. انتهى.
والحاصل أن الصواب في هذا الإسناد: "عن ابن عُليّة"، وأما ابن عيينة، فهو الذي ذُكر في أول حديث الباب، فليُتنبّه، والله تعالى وليّ التوفيق.
[تنبيه]: رواية ابن عُليّة عن ابن أبي نَجِيح هذه ساقها البخاريّ في "صحيحه"، فقال:
(2124)
- حدّثنا عمرو بن زُرارة، أخبرنا إسماعيل ابن عُلَيّة، أخبرنا ابن أبي نَجِيح، عن عبد الله بن كثير، عن أبي المنهال، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ، والناسُ يُسْلِفُون في الثمر العامَ والعامين، أو قال:
عامين، أو ثلاثةً -شك إسماعيل- فقال:"من سلف في تمر، فَلْيُسْلِف في كيل معلوم، ووزن معلوم". انتهى، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4114]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَا: حَدثَنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عبدُ الرحمنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، بِإِسْنَادِهِمْ، مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، يَذْكُرُ فِيهِ:"إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(عبدُ الرحمنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) العَنبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ ناقد بصير [9](198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.
والباقيان ذُكرا في الباب، وقبل بابين، و"أبو كريب" هو: محمد بن العلاء، و"سفيان": هو الثوريّ، و"ابن أبي نَجِيح" هو: عبد الله بن يسار.
[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ، عن ابن أبي نَجِيح هذه ساقها البخاريّ في "صحيحه"، فقال:
(2253)
- حدّثنا أبو نعيم، حدّثنا سفيان، عن ابن أبي نَجِيح، عن عبد الله بن كثير، عن أبي الْمِنهال، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قَدِمَ النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ، وهم يُسلِفون في الثمار السنتين، والثلاثَ فقال:"أَسْلِفُوا في الثمار، في كيل معلومِ، إلى أجل معلوم"، وقال عبد الله بن الوليد: حدّثنا سفيان، حدّثنا ابن أبي نجِيح، وقال:"في كيل معلوم، ووزن معلوم". انتهى.
وساقها البيهقيّ في "الكبرى"(6/ 19) فقال:
(10873)
- أخبرنا عليّ بن أحمد بن عبدان، أنبأ سليمان بن أحمد بن أيوب الحافظ، ثنا ابن أبي مريم، ثنا الفِرْيابيّ (ح) قال: وأنبأ سليمان، ثنا عليّ بن عبد العزيز، ثنا أبو نعيم (ح) وأنبأ أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو جعفر
محمد بن صالح بن هانئ، ثنا السريّ بن خزيمة، ثنا أبو نعيم، قالا: ثنا سفيان، عن ابن أبي نَجِيح، عن عبد الله بن كثير، عن أبي المنهال، عن ابن عباس، قال: قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ، وهم يُسلِفون في الثمار السنتين والثلاث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أَسلِفوا في الثمار، في كيل معلوم، إلى أجل معلوم"، لفظ حديث أبي نعيم، وحديث الفِرْيابيّ مثله، إلا أنه قال:"في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(47) - (بَابُ تَحْرِيمِ الِاحْتِكَار)
(1)
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4115]
(1605) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ - يَعْني: ابْنَ بِلَالٍ- عَنْ يَحْيَى- وَهُوَ ابْنُ سَعِيدٍ - قَالَ: كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ يُحَذَثُ أَنَّ مَعْمَرًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ"، فَقِيلَ لِسَعِيدٍ: فَإِنَّكَ تَحْتَكِرُ؟ قَالَ سَعِيدٌ: إنَّ مَعْمَرًا الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُ هَذَا الْحَدِيثَ كَانَ يَحْتَكِرُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) تقدّم قريبًا.
2 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
(1)
ترجم النووي بقوله: "بابُ تحريم الاحتكار في الأقوات"، وقوله:"في الأقوات" فيه نظر لا يخفى؛ لأنه من تقييد الحديث بالمذهب، فإن حديث الباب مطلق، لم يُذكر فيه "الأقوات"، فلا ينبغي تقييده به، والمسألة فيها خلاف، كما سأبيّنه بعد. والمذهب الصحيح هو الذي أطلق التحريم على مقتضى ظاهر النصّ، وقد أطلق الترجمة القرطبيّ في "المفهم"، فقال:"باب النهي عن الْحُكرة"، فأجاد رحمه الله، وقد قدَّمت في أكثر من موضع أنه لا ينبغي تقييد إطلاق الأحاديث بالمذهب إلا إذا جاء دليل صريح يلجئ إلى التأويل، فتنبّه، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
3 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) الأنصاريّ المدنيّ القاضي، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت 144)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.
4 -
(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيبِ) تقدّم قريبًا.
5 -
(مَعْمَرُ) بن عبد الله بن نافع بن نَضْلَة العدويّ، وهو ابن أبي معمر صحابيّ كبير، من مهاجري الحبشة (م د ت ق) تقدم في "البيوع" 39/ 4073.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد.
أنه مسلسل بالمدنيين من أوله إلى آخره، والقعنبيّ، وإن كان بصريًّا، إلا أنه مدنيّ الأصل، وقد سكنها مدّةً، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه ابن المسيِّب أحد الفقهاء السبعة، وفيه أن صحابيّه، وإن كان من أكابر الصحابة إلا أنه قليل الرواية، فليس له في الكتب إلا حديثان فقط، هذا عند المصنّف وأبي داود، والترمذيّ، وابن ماجه، وحديث:"الطعامُ بالطعام مثلًا بمثل"، عند المصنّف وحده، وقد مضى في محلّه، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الأنصاريّ المدنيّ، أنه (قَالَ: كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ يُحَدِّثُ أَن مَعْمَرًا) هو ابن عبد الله الْعَدَويّ رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ") شرطيّة (احْتَكَرَ) بالبناء للفاعل، يقال: احتَكَر زيد الطعامَ: إذا حبسه إرادة الغلاء، والاسم: الْحُكْرة -بضمّ، فسكون- مثلُ الْفُرْقة، من الافتراق، والْحَكْرُ -بفتحتين، وإسكان الكاف- لغة بمعناه، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
(فَهُوَ خَاطِئٌ") وفي رواية: "لا يَحتكر إلا خاطئ"، قال أهل اللغة: الخاطئ بالهمز: هو العاصي الآثم، قال القرطبيّ رحمه الله:"خاطئٌ" اسم فاعل من خَطِئَ -بكسر العين، وهمزة اللام -يَخطأ- بفتح العين- خِطْئًا في المصدر -بكسر الفاء، وسكون العين-: إذا أَثِمَ في فعله، على وزن عَلِمَ يَعْلَمُ عِلْمًا، والاسم منه: الْخَطَأُ -بفتح الخاء، والطاء- وأخطأ: إذا سلك سبيل
(1)
"المصباح المنير" 1/ 145.
الخطإ عامدًا، أو غير عامد، قاله أبو عبيد، وقال: سمِعتُ الأزهريّ يقول: خَطِئ: إذا تعمّد، وأخطأ: إذا لم يتعمّد، إخطاء، وخِطْئًا، والْخَطأُ الاسم. انتهى
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الخَطَأُ" مهموزٌ -بفتحتين-: ضدّ الصواب، ويُقْصَر، ويمدّ، وهو اسم من أَخْطَأَ فهو مُخْطِئٌ، قال أبو عبيدة: خَطِئَ خِطْئًا، من باب عَلِمَ، وأَخْطَأَ بمعنى واحدٍ لمن يُذنب على غير عمد، وقال غيره: خَطِئَ في الدين، وأَخْطَأَ في كلّ شيء، عامدًا كان، أو غير عامد، وقيل: خَطِئَ: إذا تعمد ما نُهِي عنه، فهو خَاطِئٌ، وأَخطَأَ: إذا أراد الصواب، فصار إلى غيره، فإن أراد غير الصواب، وفَعَلَهُ قيل: قَصَدَه، أو تَعَمَّده، والْخِطْءُ: الذنب؛ تسميةً بالمصدر. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: وهذا الحديث صريح في تحريمٍ الاحتكار، قال أصحابنا: الاحتكار المحرَّم هو الاحتكار في الأقوات خاصّةً، وهو أن يشتري الطعام في وقت الغلاء للتجارة، ولا يبيعه في الحال، بل يَدَّخِره ليغلوَ ثمنه، فأما إذا جاء من قريته، أو اشتراه في وقت الرخص، وادَّخَره، أو ابتاعه في وقت الغلاء لحاجته إلى أكله، أو ابتاعه ليبيعه في وقته، فليس باحتكار، ولا تحريمَ فيه، وأما غير الأقوات فلا يحرم الاحتكار فيه بكل حال، قال: هذا تفصيل مذهبنا.
قال العلماء: والحكمة في تحريم الاحتكار دفع الضرر عن عامة الناس، كما أجمع العلماء على أنه لو كان عند إنسان طعام، واضطر الناس إليه، ولم يجدوا غيره أُجبر على بيعه؛ دفعًا للضرر عن الناس. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وهذا الحديث بحكم إطلاقه، أو عمومه يدل على منع الاحتكار في كل شيء، غير أن هذا الاطلاق قد تقيّد، أو العموم قد تخصص بما قد فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنَّه قد ادَّخَر لأهله قوت سنتهم، ولا خلاف
(1)
"المفهم" 4/ 520.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 174.
(3)
"شرح النوويّ" 11/ 43.
في أن ما يدّخره الإنسان لنفسه وعياله من قوت، وما يحتاجون إليه جائز لا بأس به، فإذًا مقصود هذا منع التجار من الادخار، وإذا ظهر ذلك: فهل يُمنعون من ادِّخار كل شيء مطلقًا، أو إنما يُمنعون من ادّخار كل شيء من الأقوات، والحيوان، والعلوفة، والسَّمن، واللَّبن، والعسل، وغير ذلك- أضرّ بالناس أو لم يضر- إذا اشتري في أسواقهم، كما قاله ابن حبيب أخذًا بعموم الخبر أو بإطلاقه؟ أو إنما يمنعون من ادّخار ما يضر بالناس ادِّخاره عند الحاجة إليه من الأقوات؟ وهو قول أبي حنيفة والشافعيّ، وهو مشهور مذهب مالك، وحملوا النهي على ذلك.
قال القرطبيّ: وهذا هو الصحيح -إن شاء الله تعالى- لأن ما لا يضر بالناس شراؤه، واحتكاره لا يُخَطَّأ مشتريه بالاتفاق، ثم إذا اشتراه وصار ملكه فله أن يحتكره، أو لا يحتكره، ثم قد يكون احتكار ذلك مصلحة ينتفع بها في وقت آخر، فلعل ذلك الشيء ينعدم، أو يقلّ، فتدعو الحاجة إليه، فيوجد، فترتفع المضرّة، والحاجة بوجوده، فيكون احتكاره مصلحة، وترك احتكاره مفسدة.
وأما الذي ينبغي أن يُمنع: ما يكون احتكاره مضرة بالمسلمين، وأشدُّ ذلك في الأقوات؛ لعموم الحاجة، ودعاء الضرورة إليها؛ إذ لا يُتصور الاستغناء عنها، ولا يتنزل غيرها منزلتها، فإن أبيح للمحتكرين شراؤها ارتفعت أسعارها، وعزّ وجودها، وشَحَّت النفوس بها، وحَرَصت على تحصيلها، فظهرت الفاقات، والشدائد، وعمّت المضار، والمفاسد، فحينئذ يظهر أن الاحتكار من الذنوب الكبار.
وكل هذا فيمن اشترى من الأسواق، فأمَّا من جلب طعامًا؛ فإن شاء باع، وإن شاء احتكر، ولا يُعْرَض له إلا إن نزلت حاجة فادحة، وأمر ضروريّ بالمسلمين، فيجب على من كان عنده ذلك أن يبيعه بسعر وقته، فإن لم يفعل أُجبر على ذلك، إحياءً لِلْمُهَج، وإبقاءً للرَّمق، وأما إن كان اشتراه من الأسواق، واحتكره، وأضرّ بالناس؛ فيشترك فيه الناس بالسعر الذي اشتراه به. انتهى
(1)
.
(1)
"المفهم" 4/ 520 - 521.
(فَقِيلَ لِسَعِيدِ) بن المسيِّب (فَإِنَّكَ تَحْتَكِرُ؟) أي: مع أنك تحدّث بهذا الحديث، قال القرطبيّ رحمه الله: يدلّ على أنهم كانوا لا يتسامحون في ترك العمل بما يروُونه من الحديث، وجواب سعيد أن معمرًا كان يحتكر دليل على أن العموم يخصَّص بمذهب الرَّاوي، وقد أوضحنا هذه الطريقة، في الأصول، وذلك منهم محمول على أنهم كانوا يحتكرون ما لا يضرّ بالناس؛ كالزيت، والأُدم، والثياب، ونحو ذلك. انتهى
(1)
.
(قَالَ سَعِيدٌ: إِن مَعْمَرًا الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُ هَذَا الْحَدِيثَ كَانَ يَحْتَكِرُ)؛ يعني: أن الصحابيّ راوي هذا الحديث كان يحتكر مع كونه يُحدّث بهذا الحديث؛ لأنه حمل الاحتكار الممنوع على احتكار الأقوات، لا على احتكار غيره.
قال النووي: وأما ما ذُكر في الكتاب عن سعيد بن المسيِّب، ومعمر راوي الحديث، أنهما كانا يحتكران، فقال ابن عبد البر وآخرون: إنما كان يحتكران الزيت، وحملا الحديث على احتكار القوت عند الحاجة إليه والغلاء، وكذا حمله الشافعيّ، وأبو حنيفة، وآخرون، وهو الصحيح. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث معمر بن عبد الله العدويّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [47/ 4115 و 4116 و 4117](1605)، و (أبو داود) في "البيوع"(3447)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1267)، و (ابن ماجه) في "التجارات"(2154)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(8/ 203، 204)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 102) و"مسنده"(2/ 169)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 164)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 453 و 454)، و (الدارميّ) في
(1)
"المفهم" 4/ 521 - 522.
(2)
"شرح النوويّ" 11/ 43.
"سننه"(2/ 248، 249)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4936)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 14)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 403)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(4/ 191 و 8/ 120) و"الكبير"(20/ 445 - 446)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 29، 30)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2127)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم الاحتكار:
قال العلامة ابن قُدامة رحمه الله: والاحتكار المحرَّم ما اجتمع فيه ثلاثة شروط:
[أحدها]: أن يشتري، فلو جلب شيئًا، أو أدخل من غلته شيئًا، فادّخره لم يكن محتكرًا، روي عن الحسن، ومالك، وقال الأوزاعيّ: الجالب ليس بمحتكر؛ لقوله: "الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون"
(1)
، ولأن الجالب لا يُضَيِّق على أحد، ولا يضر به، بل ينفع، فإن الناس إذا عَلِموا عنده طعامًا مُعَدًّا للبيع كان ذلك أطيب لقلوبهم.
[الثاني]: أن يكون الْمُشْترَى قوتًا، فأما الإدام، والحلواء، والعسل، والزيت، وأعلاف البهائم فليس فيها احتكار محرَّم، قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يُسأل عن أيّ شيء الاحتكار؟ قال: إذا كان من قوت الناس، فهو الذي يُكره، وهذا قول عبد الله بن عمرو، وكان سعيد بن المسيِّب، وهو راوي حديث الاحتكار يحتكر الزيت، قال أبو داود: وكان يحتكر النوى، والخبَط، والبزر، ولأن هذه الأشياء مما لا تعمّ الحاجة إليها، فأشبهت الثياب، والحيوانات.
[الثالث]: أن يُضيِّق على الناس بشرائه، ولا يحصل ذلك إلا بأمرين:
(أحدهما): أن يكون في بلد يَضِيق بأهله الاحتكار، كالحرمين، والثغور، قال أحمد: الاحتكار في مثل مكة، والمدينة، والثغور، فظاهر هذا أن البلاد الواسعة الكثيرة المرافق والجلب، كبغداد، والبصرة، ومصر لا يحرم فيها الاحتكار؛ لأن ذلك لا يؤثر فيها غالبًا.
(1)
أخرجه ابن ماجه، وهو ضعيف؛ لأن في سنده علي بن سالم بن شوّال، ضعيف، وشيخه علي بن زيد بن جدعان، ضعيف أيضًا.
(الثاني): أن يكون في حال الضيق، بأن يدخل البلد قافلة فيتبادر ذوو الأموال فيشترونها، ويُضَيِّقون على الناس، فأما إن اشتراه في حال الاتساع والرخص، على وجه لا يُضَيِّق على أحد فليس بمحرّم. انتهى
(1)
.
وقال العلامة الشوكانيّ رحمه الله: وظاهر أحاديث الباب أن الاحتكار محرَّم من غير فرق بين قوت الآدميّ والدواب وبين غيره، والتصريح بلفظ الطعام في بعض الروايات لا يصلح لتقييد بقية الروايات المطلقة، بل هو من التنصيص على فرد من الأفراد التي يطلق عليها المطلق، وذلك لأن نفي الحكم عن غير الطعام إنما هو لمفهوم اللقب، وهو غير معمول به عند الجمهور، وما كان كذلك لا يصلح للتقييد على ما تقرر في الأصول.
وذهبت الشافعية إلى أن المحرّم إنما هو احتكار الأقوات خاصة لا غيرها، ولا مقدار الكفاية منها، قال ابن رسلان في "شرح السنن": ولا خلاف في أن ما يدّخره الإنسان من قوت، وما يحتاجون إليه من سَمْن، وعسل، وغير ذلك جائز لا بأس به. انتهى.
ويدلّ على ذلك ما ثبتٌ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يعطي كل واحدة من زوجاته مائة وسق من خيبر.
قال ابن رسلان في "شرح السنن": وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَدَّخر لأهله قوت سنتهم، من تمر وغيره.
قال أبو داود: قيل لسعيد -يعني: ابن المسيِّب-: فإنك تحتكر، قال: ومعمر كان يحتكر، وكذا في "صحيح مسلم".
قال ابن عبد البرّ وآخرون: إنما كانا يحتكران الزيت، وحَمَلا الحديث على احتكار القوت عند الحاجة إليه، وكذلك حمله الشافعيّ، وأبو حنيفة، وآخرون.
ويدلّ على اعتبار الحاجة، وقصد إغلاء السعر على المسلمين، قوله في حديث مَعْقِل:"من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم"
(2)
، وقوله
(1)
"الشرح الكبير" 4/ 47.
(2)
الحديث عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دخل في شيء من =
في حديث أبي هريرة: "يريد أن يغلي بها على المسلمين"
(1)
.
قال أبو داود: سألت أحمد: ما الحكرة؟ قال: ما فيه عيش الناس؛ أي: حياتهم وقُوْتهم، وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله -يعني: أحمد بن حنبل- يُسأل عن أي شيء الاحتكار؟ فقال: إذا كان من قوت الناس فهو الذي يُكره، وهذا قول ابن عمر.
وقال الأوزاعيّ: المحتكر من يعترض السوق؛ أي: ينصب نفسه للتردد إلى الأسواق؛ ليشتري منها الطعام الذي يحتاجون إليه؛ ليحتكره.
قال السبكيّ: الذي ينبغي أن يقال في ذلك: أنه إن منع غيره من الشراء، وحصل به ضيق حَرُمَ، وإن كانت الأسعار رخيصة، وكان القَدْر الذي يشتريه لا حاجة بالناس إليه فليس لمنعه من شرائه وادخاره إلى وقت حاجة الناس إليه معنى، قال القاضي حسين، والرويانيّ: وربما يكون هذا حسنةً؛ لأنه ينفع به الناس، وقطع المحامليّ في "المقنع" باستحبابه، قال أصحاب الشافعيّ: الأولى بيع الفاضل عن الكفاية، قال السبكيّ: أما إمساكه حالة استغناء أهل البلد عنه رغبة في أن يبيعه إليهم وقت حاجتهم إليه، فينبغي أن لا يُكره، بل يستحب.
والحاصل أن العلة إذا كانت هي الإضرار بالمسلمين لم يحرم الاحتكار إلا على وجه يضرّ بهم، ويستوي في ذلك القوت وغيره؛ لأنهم يتضررون بالجميع.
= أسعار المسلمين؛ ليغليه عليهم كان حقًّا على الله أن يُقْعِده بعُظم من النار يوم القيامة"، أخرجه الطبرانيّ في "الكبير"، و"الأوسط"، وفي إسناده زيد بن مُرّة أبو الْمُعلَّى، قال في "مجمع الزوائد": ولم أجد من ترجمه، وبقية رجاله رجال الصحيح. انتهى.
(1)
لفظه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من احتكر حُكْرةً يريد أن يُغْلي بها على المسلمين، فهو خاطئ". رواه أحمد، وفي إسناده أبو معشر، وهو ضعيف، وقد وُثِّق. راجع:"نيل الأوطار" 5/ 335.
وقد صحح الشيخ الألبانيّ رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا في "السلسلة الصحيحة"، فراجعها.
وقال السبكيّ: إذا كان في وقت قحط، وكان في ادّخار العسل والسمن والشيرج وأمثالها إضرارٌ، فينبغي أن يُقْضَى بتحريمه، وإذا لم يكن إضرار فلا يخلو احتكار الأقوات عن كراهة.
وقال القاضي حسين: إذا كان الناس يحتاجون الثياب، ونحوها؛ لشدة البرد، أو لستر العورة فيُكره لمن عنده ذلك إمساكه، قال السبكيّ: إن أراد كراهة تحريم فظاهر، وإن أراد كراهة تنزيه فبعيد. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من استعراض أقوال أهل العلم واستدلالاتهم في حكم الاحتكار أن أرجح الأقوال، هو القول بتحريم احتكار ما يضرّ بالمسلمين مطلقًا، سواء كان قوتًا، أو لباسًا، أو غيرهما؛ لعموم حديث الباب، ولا يكون التنصيص في بعض الروايات بالطعام تقييدًا للحكم؛ لأن ذلك من باب التنصيص على بعض الأفراد؛ للأهميّة، لا للتقييد، كما سبق في تحقيق الشوكانيّ رحمه الله، وكذلك حَمْل معمر بن عبد الله رضي الله عنه، وابن المسيّب الاحتكار على الطعام لا يكون مقيّدًا للعموم؛ لأنه رأي لهما، وإنما العبرة بعموم اللفظ المرويّ المعلّل بإدخال المضرّة على المسلمين، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4116]
(
…
) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيُّ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيُّ) أبو عثمان الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م س) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.
2 -
(حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) الحارثيّ مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، كوفيّ
(1)
"نيل الأوطار" 5/ 337 - 338.
الأصل، صدوق يَهِم، صحيح الكتاب [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الصلاة" 42/ 1086.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ) القرشيّ مولاهم، المدنيّ، صدوقٌ اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه[5](ت 148)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 10/ 150.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ) القرشيّ العامريّ المدنيّ، ثقةٌ [3] مات في حدود (120)(ع) تقدم في "الحيض" 23/ 797.
والباقيان ذُكرا قبله، والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد سبق شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، وبالله تعالى التوفيق.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4117]
(
…
) - (قَالَ إِبْرَاهِيمُ: قَالَ مُسْلِمٌ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْنٍ، أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ مَعْمَرِ بْنِ أَبِي مَعْمَرٍ، أَحَدِ بَني عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(بَعْضُ أَصحَابِ مسلم) قال الحافظ أبو عليّ الغسّانيّ وغيره: هذا أحد الأحاديث الأربعة عشر المقطوعة في "صحيح مسلم"، قال القاضي: قد قدمنا أن هذا لا يُسمّى مقطوعًا، إنما هو من رواية المجهول، قال النوويّ: وهو كما قال القاضي، ولا يضرّ هذا الحديث؛ لأنه أتى به متابعةً، وقد ذكره مسلم من طرق متّصلة برواية من سمّاهم من الثقات، وأما المجهول، فقد جاء مسمّى في رواية أبي داود وغيره، فرواه أبو داود في "سننه" عن وهب بن بقيّة، عن خالد بن عبد الله، عن عمرو بن يحيى بإسناده. انتهى
(1)
.
وقال الحافظ الرشيد العطّار رحمه الله في "غرر الفوائد" بعد أن أورد هذا الحديث ما نصّه: وهذا أيضًا حديث صحيح ثابتٌ من حديث سعيد بن الْمُسيّب، عن معمر بن أبي معمر، ويقال: معمر بن عبد الله، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم،
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 43 - 44.
أخرجه مسلم في "صحيحه" منفردًا به، فأورده من طريقين متّصلين، وهما: طريق يحيى بن سعيد الأنصاريّ، وطريق محمد بن عمرو بن عطاء، كلاهما عن سعيد بن المسيِّب، ثم أردف ذلك بقوله: وحدّثني بعض أصحابنا، عن عمرو بن عون، أنا خالد بن عبد الله .... ، فذكر الإسناد الذي ذكرناه، وقد تقدّم الجواب عن مثل هذا، ومع ذلك فإن حديث خالد بن عبد الله المذكور عن عمرو بن يحيى، قد أخرجه أبو داود في "سننه"(3447) فرواه عن وهب بن بقيّة الواسطيّ، وهو أحد الثقات الذين روى عنهم في "صحيحه"، عن خالد بن عبد الله، وهو الطحّان بإسناده المذكور متّصلًا، فثبت اتصاله من هذا الوجه الآخر، والحمد لله. انتهى كلام الرشيد العطّار رحمه الله.
2 -
(عَمْرُو بْنُ عَوْنِ) بن أوس البزّاز، أبو عثمان الواسطيّ، ثمّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 225)(ع) تقدم في "الإيمان" 88/ 465.
3 -
(خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) الطحّان الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 407.
4 -
(عَمْرُو بْنُ يَحْيَى) بن عمارة بن أبي حسن المازنيّ المدنيّ، ثقةٌ [6] مات بعد (130)(ع) تقدم في "الإيمان" 88/ 464.
والباقون ذُكروا قبله، و"محمد بن عمرو" هو: ابن عطاء، و"معمر بن أبي معمر" هو: معمر بن عبد الله.
[تنبيه]: رواية عمرو بن يحيى، عن محمد بن عمرو بن عطاء هذه ساقها أبو داود في "سننه" (3/ 271) فقال:
(3447)
- حدّثنا وهب بن بقيّة، أخبرنا خالد، عن عمرو بن يحيى، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سعيد بن المسيِّب، عن معمر بن أبي مَعْمَر أحد بني عديّ بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحتكر إلا خاطئ"، فقلت لسعيد: فإنك تحتكر؟ قال: ومعمر كان يحتكر.
قال أبو داود: وسألت أحمد: ما الْحُكْرة؟ قال: ما فيه عيش الناس، قال أبو داود: قال الأوزاعيُّ: المحتكر مَن يعترض السوق. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(48)(بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْحَلِفِ فِي الْبَيْعِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4118]
(1606) - حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْب، حَدَّثَنَا أَبُو صَفْوَانَ الأُمَوِيُّ (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، كِلَاهُمَا عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَاب، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مَمْحَقَةٌ لِلرِّبْحِ").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو صَفْوَانَ الأُموِيُّ) عبد الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان الدمشقيّ، نزيل مكة، ثقةٌ [9] مات على رأس المائتين (خ م د ت س) تقدم في "الحج" 88/ 3367.
3 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن السّرح المصريّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
5 -
(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله المصريّ، تقدّم قريبًا.
6 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
7 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ الإمام، تقدّم أيضًا قريبًا.
8 -
(ابْنُ الْمُسَيِّبِ) هو: سعيد المذكور في السند الماضي.
9 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد.
أن أول نصف السند الثاني مسلسل بثقات المصريّين، والثاني منه مسلسل بثقات المدنيين، وأن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أكثر من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ) قد تقدّم غير مرّة أن كسر يائه أولى من فتحها، فليُتنبّه (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الْحَلِفُ) -بفتح الحاء المهملة، وكسر اللام، وتسكّن-؛ أي: اليمين، قال السيوطيّ رحمه الله في "حاشية أبي داود": المراد: اليمين الكاذبة، فقال السنديّ: يمكن إبقاؤه على إطلاقه؛ لأن الصادق لترويج أمر الدنيا، وتحصيله يتضمّن ذكر الله تعالى للدنيا، وهو لا يخلو عن كراهة مّا، بخلاف يمين المدّعَى عليه، فإنها لإزالة التهمة، فلا كراهة فيها، إذا كانت صادقة. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله السيوطيّ هو الأولى؛ لوروده مبيّنًا في رواية أحمد
(1)
من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، بلفظ:"اليمين الكاذبة مَنفَقَةٌ للسلعة، مَمْحَقَةٌ للكسب"، وخير ما فُسّر به الوارد هو الوارد، فتبصّر، وبالله تعالى التوفيق.
(مَنْفَقَةٌ) -بفتح الميم، والفاء، بينهما نون ساكنة- مَفْعَلة من النَّفاق -بفتح النون-، وهو الرواج، ضدّ الكساد (لِلسِّلْعَةِ) بكسر السين المهملة: المتاع (مَمْحَقَةٌ) -بالمهملة، والقاف، بوزن ما قبله، وحَكَى عياض ضمّ أوله، وكسر الحاء، والْمَحْق النقص، والإبطال.
وقال القرطبيّ رحمه الله: الرواية: مَنفَقة، ممحقة -بفتح الميم، وسكون ما بعدها، وفتح ما بعدها- وهما في الأصل مصدران مزيدان، محدودان، بمعنى النَّفاق، والمحق؛ أي: الحلف الفاجرة تُنَفِّق السلعةَ، وتُمْحَقُ بسببها البركةُ، فهي ذات نَفَاق، وذات مَحْق، ومعنى تمحق البركة؛ أي: تُذهبها، وقد تُذهب رأس المال والربح، كما قال الله تعالى:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} الآية [البقرة: 276، وقد يتعدّى المحق إلى الحالف، فيُعاقَب بإهلاكه، وبتوالي المصائب عليه، وقد يتعدّى ذلك إلى خراب بيته، وبلده، كما روي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"اليمين الفاجرة تذر الديار بلاقع"
(2)
؛ أي: خالية من سكّانها، إذا توافقوا على التجرّؤ
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 235.
(2)
حديث صحيح، أخرجه البيهقيّ في "السنن الكبرى" مطوّلًا (10/ 35).
على الأيمان الفاجرة، وأما محق الحسنات في الآخرة، فلا بدّ منه لمن لم يتب، وسبب هذا كلّه أن اليمين الكاذبة يمين غَمُوس، يؤكل بها مال المسلم بالباطل. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقوله: (لِلرِّبْحِ") ولفظ البخاريّ من طريق الليث، عن يونس:"للبركة"، ولفظ النسائيّ من طريق ابن وهب، عن يونس:"للكسب"، قال في "الفتح": قوله: "للبركة" تابعه عنبسة بن خالد، عن يونس عند أبي داود، وفي رواية ابن وهب، وأبي صفوان عند مسلم:"للربح"، وتابعهما أنس بن عياض، عند الإسماعيليّ، ورواه الليث عند الإسماعيليّ بلفظ:"ممحقة للكسب"، وتابعه ابن وهب عند النسائيّ، ومال الإسماعيليّ إلى ترجيح هذه الرواية، وقد اختُلِف في هذه اللفظة على الليث، كما اختلف على يونس، قال: ووقع للمزيّ في "الأطراف" في نسبة هذه اللفظة لمن خرّجها وَهَمٌ يُعْرَف مما حررته. انتهى
(2)
.
والمعنى أن الحلف مظنّة لرواج السلعة في الحال، لكنه مزيل لبركتها في المآل، بأن يسلّط الله تعالى عليها وجوهًا من أسباب التلف، إما سرقة، أو حرقًا، أو غرَقًا، أو غصبًا، أو نهبًا، أو عوارض أخرى يتلف بها ما شاء الله تعالى، فيكون كسبه، وجمعه مجرّد تعب، وكدّ، وهو عقاب من الله تعالى، مع ما ينتظره من العذاب الأليم في الآخرة، إن لم يتب، كما قال عز وجل:{فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} [التوبة: 55]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [48/ 4118](1606)، و (البخاريّ) في "البيوع"
(1)
"المفهم" 4/ 522 - 523.
(2)
"الفتح" 5/ 544، كتاب "البيوع" رقم (2087).
(2087)
، و (أبو داود) في "البيوع"(3335)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 246) و"الكبرى"(4/ 6)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 468)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 447)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 235 و 242 و 413)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4906)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 401 و 402)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 347 و 366)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(3/ 58 و 59)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 265)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(2046)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان النهي عن الحلف في البيع، قال النوويّ رحمه الله: فيه النهي عن كثرة الحلف في البيع، فإن الحلف من غير حاجة مكروه، وينضم إليه هنا ترويج السلعة، وربما اغترّ المشتري باليمين. انتهى.
2 -
(ومنها): أن اليمين يرغّب المشترين في الشراء، فيكون سببًا لزيادة الربح، وكثرة المال.
3 -
(ومنها): بيان شؤم الحلف الكاذب؛ إذ هو وإن كان دافعًا للناس أن يشتروا السلعة، لكنه مزيل للبركة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف: رحمه الله أوَّل الكتاب قال:
[4119]
(1607) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ- قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْحَلِفِ في الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ يُنَفِّقُ، ثُمَّ يَمْحَقُ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حماد بن أسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
3 -
(الْوَليدُ بْنُ كَثِيرٍ) المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، ثم الكوفيّ، صدوقٌ عارف بالمغازي، ورمي برأي الخوارج [6](ت 151)(ع) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.
4 -
(مَعْبَدُ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ) الأنصاريّ السَّلَميّ -بفتحتين- ثقةٌ
(1)
[3](خ م خد س ق) تقدم في "الإيمان" 64/ 360.
5 -
(أَبُو قَتَادَةَ الأَنْصَارِيُّ) الحارث، ويقال: عمرو، أو النعمان بن رِبْعيّ -بكسر الراء، وسكون الموحّدة، بعدها مهملة- ابن بُلْدُمة -بضم الموحدة، والمهملة، بينهما لام ساكنة- السلميّ -بفتحتين- المدنيّ، شهد أُحدًا، وما بعدها، ولم يصحّ شهوده بدرًا، ومات رضي الله عنه سنة (54) وقيل: سنة (38) والأول أصحّ (ع) تقدم في "الطهارة" 18/ 619.
والباقيان تقدّما قبل باب.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأنصَارِيِّ) رضي الله عنه (أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِيَّاكُمْ) هذا تحذيرٌ، وهو تنبيه المخاطب على أمر يجب الاحتراز منه، وهو منصوب بفعل محذوف وجوبًا، والتقدير: إياكم أحذّر، قال ابن مالك رحمه الله في "خلاصته":
إِيَّاكَ وَالشَّرَّ وَنَحْوَهُ نَصَبْ
…
مُحَذِّرٌ بِمَا اسْتِتَارُهُ وَجَبْ
(وَكَثْرَةَ الْحَلِفِ فِي الْبَيْعِ) بنصب "كثرة" بالعطف على "إيّا"، والمعنى: أحذّركم من إكثار الحلف في البيع، وإنما حذّرهم منه؛ لأن الغالب ممن كثرت أيمانه وقوعه في الكذب، والفجور، وإن سلِم من ذلك -على بُعده- لم يَسلم من الحنث، أو الندم؛ لأن اليمين حنث، أو مندمة، وإن سَلِم من ذلك لم يَسْلَم من مدح السلعة المحلوف عليها، والإفراط في تزيينها؛ ليُروّجها على المشتري، مع ما في ذلك من ذكر الله تعالى، لا على جهة التعظيم، بل على جهة مدح السلعة، فاليمين على ذلك تعظيم للسِّلَع، لا تعظيم لله تعالى، وهذه
(1)
وقول "التقريب": مقبول، غير مقبول؛ لأنه روى عنه جماعة، وأخرج له الشيخان، ووثقه ابن حبّان، ولم يجرحه أحد، فلا جرم أنه ثقةٌ، فتنبّه.
كلّها أنواع من المفاسد، لا يُقدِم عليها إلا من عقله، ودينه فاسد، قاله القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
(فَإِنَّهُ)؛ أي: المذكور من كثرة الحلف (يُنَفِّقُ) بضم أوله، وتشديد الفاء، من التنفيق، ويجوز كونه من الإنفاق؛ أي: يروّج السلعة (ثُمَّ يَمْحَقُ") بفتح أوله، وثالثه، من باب نفع، كما سبق قريبًا؛ أي: يزيل البركة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي قتادة الأنصاريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [48/ 4119](1607)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 246) و"الكبرى"(4/ 6)، و (ابن ماجه) في "التجارات"(2200)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 468)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 267 و 301)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 401)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(57 و 58)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 265) و"الصغرى"(5/ 13)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(49) - (بَابُ الشُّفْعَةِ)
" الشُّفعة" بضمّ الشين المعجمة، وسكون الفاء، وغَلِط من حرّكها، مأخوذة من الشَّفْع، وهو الزوج، وقيل: من الزيادة، وقيل: من الإعانة، قاله في "الفتح" 5/ 192.
وقال الفيّوميّ: شفَعت الشيءَ شَفْعًا، من باب نفع: ضممتُهُ إلى الفرد، وشفعتُ الركعة: جعلتها ثنتين، ومن هنا اشتُقّت الشُّفْعة، وهي مثالُ غُرْفة؛ لأن
(1)
"المفهم" 4/ 523.
صاحبها يشفع ماله بها، وهي اسم للمِلك المشفوع، مثلُ اللُّقْمَة، اسم للشيء الملقوم، وتُستعمل بمعنى التملّك لذلك الملك، ومنه قولهم: من ثبتَ له شُفْعة، فأخّر الطلب بغير عذر، بطلت شفعته، ففي هذا المثال جمعٌ بين المعنيين، فإن الأولى للمال، والثانية للتملّك، ولا يُعرف لها فعلٌ. انتهى.
وقال في "الفتح" -بعد أن ذكر المعاني اللغوية الماضية-: وفي الشرع: انتقال حصّة شريك إلى شريك، كانت انتَقَلت إلى أجنبيّ، بمثل الْعِوَض المسمّى، ولم يَخْتَلِف العلماء في مشروعيّتها، إلا ما نُقل عن أبي بكر الأصمّ من إنكارها. انتهى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: الشفعة في اللغة: هي الضمّ، والجمع، وفي عُرف الشرع: أخذ الشريك الجزءَ الذي باعه شريكه من المشتري بما اشتراه به، وهي حقّ للشريك على المشتري، فيجب عليه أن يُشفِعَه، ولا يحلّ له الامتناع من ذلك. انتهى
(1)
.
وقال ابن قُدامة رحمه الله في "المغني": الشفعة: هي استحقاقُ الشريك انتزاعَ حصة شريكه، الْمُنْتَقِلة عنه، من يد من انتَقَلَت إليه، وهي ثابتة بالسُّنَّة، والإجماع:
أما السُّنَّة فما رُوي عن جابر رضي الله عنه، قال:"قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة، فيما لم يُقْسَم، فإذا وقعت الحدود، وصُرِفَت الطُّرُق فلا شفعة"، متفق عليه، ولمسلم قال:"قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالشفعة في كل شِرْك لم يُقْسَم، رَبْعَةٍ، أو حائطٍ، لا يحل له أن يبيع حتى يستأذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، فإن باع ولم يستأذنه، فهو أحقُّ به"، وللبخاري:"إنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعةَ، فيما لم يُقسَم، فإذا وقعت الحدود، وصُرِفت الطرقُ، فلا شفعة".
وأما الإجماع، فقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على إثبات الشفعة، للشريك الذي لم يقاسم، فيما بيع من أرض، أو دار، أو حائط، والمعنى في ذلك أن أحد الشريكين، إذا أراد أن يبيع نصيبه، وتمكّن من بيعه لشريكه، وتخليصه مما كان بصدده، من توقّع الخلاص والاستخلاص، فالذي يقتضيه
(1)
"المفهم" 4/ 523.
حسن العشرة، أن يبيعه منه؛ ليصل إلى غرضه، من بيع نصيبه، وتخليصه شريكه من الضرر، فإذا لم يفعل ذلك، وباعه لأجنبيّ، سَلَّطَ الشرعُ الشريكَ على صرف ذلك إلى نفسه، ولا نَعْلَم أحدًا خالف هذا، إلا الأصمّ، فإنه قال: لا تثبت الشفعة؛ لأن في ذلك إضرارًا بأرباب الأملاك، فإن المشتري إذا عَلِم أنه يؤخذ منه، إذا ابتاعه لم يبتعه، ويتقاعد الشريك عن الشراء، فيستضرّ المالك، وهذا ليس بشيء؛ لمخالفته الآثار الثابتة، والإجماع المنعقد قبله، والجواب عما ذكره من وجهين:
[أحدهما]: أنّا نشاهد الشركاء يبيعون، ولا يُعْدَم من يشتري منهم، غير شركائهم، ولم يمنعهم استحقاقه الشفعة من الشراء.
[الثاني]: أنه يمكنه إذا لحقته بذلك مشقة أن يقاسِم، فيسقط استحقاق الشفعة.
واشتقاق الشفعة: من الشفع، وهو الزوج، فإن الشفيع كان نصيبه منفردًا في ملكه، فبالشفعة يضم المبيع إلى ملكه، فيشفعه به. وقيل: اشتقاقها من الزيادة؛ لأن الشفيع يزيد المبيع في ملكه. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله
(1)
.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4120]
(1608) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فِي رَبْعَةٍ، أَوْ نَخْلٍ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ، فَإِنْ رَضِيَ أَخَذَ، وَإِنْ كَرِهَ تَرَكَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ) هو: أحمد بن عبد الله بن يونس التميميّ اليربوعيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نُسب لجدّه، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [10](ت 227) وله (94) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.
(1)
"المغني" 7/ 435 - 436.
2 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) بن بَكر التميميّ، أبو زكريّاء النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمام [10](226) على الأصحّ (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
3 -
(زُهَيْرُ) بن معاوية بن حُديج الْجُعفيّ الكوفيّ، نزيل الجزيرة، وهو أبو خيثمة المذكور في السند الثاني، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 2 أو 3 أو 174)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.
4 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ المكيّ، صدوق، يدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
5 -
(جَابرُ) بن عبد الله بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، توفي بالمدينة بعد سنة (70) وهو ابن (94) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (275) من رباعيّات الكتاب، وأن فيه جابرًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ) شرطيّة (كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فِي رَبْعَةٍ) -بفتح الراء، وسكون الموحّدة: هي المسكن والدارُ، وقال القرطبيّ رحمه الله: الربعة: تأنيث الرَّبْع، وهو المنزل، وإنما قيل للمنزل: رَبْعٌ؛ لأن الإنسان يَرْبَعُ فيه؛ أي: يُقيم، يقال: هذه رَبْعٌ، وهذه ربعة، كما يقال: دارٌ، ودارةٌ. انتهى. (أَوْ نَخْلٍ) بفتح، فسكون: تقدّم أنه اسم جمع، واحدته نخلة، وكلُّ جمع بينه وبين واحده الهاءُ قال ابن السِّكِّيت: فأهلُ الحجاز يؤنثون أكثره، فيقولون: هي التمر، وهي البرّ، وهي النخل، وهي البقر، وأهل نجد، وتميم يُذَكِّرون، فيقولون: نَخْلٌ كريمٌ، وكريمةٌ، وكرائم، وفي التنزيل:{نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20)} [القمر: 20]، {نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7)} [الحاقة: 7]، وأما النَّخِيلُ بالياء فمؤنّثة، قال أبو حاتم: لا اختلاف في ذلك
(1)
. (فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَى يُؤْذِنَ) بضمّ حرف المضارعة، من الإيذان، وهو الإعلام؛ أي: حتّى يُعلمه، قال
(1)
"المصباح المنير" 2/ 596 - 597.
القرطبيّ رحمه الله: هو محمول على الإرشاد إلى الأولى، بدليل قوله: "فإن باع، ولم يؤذنه إلخ
…
"، ولو كان ذلك على التحريم لذَمّ البائعَ، ولَفَسَخَ البيعَ، لكنه أجازه، وصححه، ولم يذمّ الفاعل، فدلّ على ما قلناه، وقد قال بعض شيوخنا: إن ذلك يجب عليه. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما قاله بعض المشايخ هو الحقّ، فيجب عليه أن يُعْلِمه، ولا يستلزم ترك الواجب بطلان البيع، كما مرّ تقريره في بيع المصرَّاة، وتلقّي الجلب، فلا تغفل، والله تعالى أعلم.
(شَرِيكَهُ) قال القرطبيّ رحمه الله: هو عموم في المسلم، والذميّ، وهو قول مالك، والشافعيّ، وأبي حنيفة، وحُكي عن الشعبيّ، والثوريّ: أنه لا شفعة للذميّ؛ لأنه صاغرٌ، وهو قول أحمد، والصواب الأول؛ للعموم، ولأنه حقّ جرى بسببه، فيترتّب عليه حكمه من استحقاق طلبه، وأخذه، كالدَّين، وأرش الجناية. انتهى.
(فَإِنْ رَضِيَ) ذلك الشريكُ أَخْذَ المشتَرَى، وقوله:(أَخَذَ) معناه: أن ذلك الشريك إن رضي أخذ المشترَى أخذه بالثمن الذي اشتراه به المشتري، من عين، أو عَرْض، نقدًا، أو إلى أجل، وهذا قول مالك، وأصحابه. وذهب أبو حنيفة، والشافعيّ إلى أنه لا يَشفع إلى الأجل، وأنه إن شاء شفع بالنقد، وإن شاء صبر إلى الأجل، فيشفع عنده
(2)
.
(وَإِنْ كَرِهَ) بفتح، فكسر، من باب تَعِبَ (تَرَكَ")؛ أي: فهو بالخيار من الأخذ والترك، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [49/ 4120 و 4121 و 4122](1608)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2214) و"الشفعة"(2257) و" الشركة" (2495
(1)
"المفهم" 4/ 527.
(2)
"المفهم" 4/ 528.
و 2496) و"الحيل"(6976)، و (أبو داود) في "البيوع"(3512 و 3514)، و (الترمذيّ) في "الأحكام"(1370)، و (النسائيّ) في "البيوع"(7/ 320)، و (ابن ماجه) في "الأحكام"(2499)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 165)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(14381 و 14382)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 164 و 165)، و (الحميديّ) في "مسنده"(552)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 312 و 397 و 6/ 390)، و (الدارميّ) في "سننه"(2514)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5179)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2171)، و (أبو القاسم البغوي) في "الجعديّات"(2701)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 413)، و (الطحاوي) في "شرح معاني الآثار"(4/ 123)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 381)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(4/ 222 و 223 و 224)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 105 و 106)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(2172 و 2173)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): ثبوت الشفعة للشريك، وهذا مما لا خلاف فيه، إلا ما شذّ به أبو بكر الأصمّ حيث أنكرها، وسيأتي تحقيق ذلك في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى-.
2 -
(ومنها): أنه لا ينبغي لمن له شريك أن يبيع نصيبه إلا بعد أن يستأذن شريكه، فإن باع بدون استئذان، فلشريكه أن يأخذه بالعوض المسمّى.
3 -
(ومنها): مراعاة الشرع حقوق المسلمين، وحرمتهم، فجعل للشريك على شريكه حقًّا في ملكه، بحيث لا يحلّ له بيعه إلا بإذنه؛ لأن فيه إدخالَ ضرر عليه إذا باعه ممن لا يراعي حقوق الجوار، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في أحكام الشفعة:
قد تقدّم أنهم مجمعون على مشروعية الشفعة في الجملة، إلا أبا بكر الأصمّ، وقد اختلفوا في أشياء، قد فصّلها ابن قُدامة رحمه الله في كتابه الممتِع "المغني"، وأنا ألخّص ما تيسّر منه؛ تتميمًا للفائدة، وتكميلًا للعائدة:
قال رحمه الله -عند قول الخرقيّ رحمه الله: ولا تجب الشفعة، إلا للشريك
المقاسم، فإذا وقعت الحدود، وصُرِفت الطُّرُق فلا شفعة -ما حاصله:
وجملة ذلك: أن الشفعة تثبت على خلاف الأصل، إذ هي انتزاع ملك المشتري بغير رضاء منه، وإجبار له على المعاوضة، مع ما ذكره الأصم، لكن أثبتها الشرع لمصلحة راجحة، فلا تثبت إلا بشروط أربعة:
[أحدها]: أن يكون المُلك مشاعًا، غير مقسوم، فأما الجار، فلا شفعة له، وبه قال عمر، وعثمان، وعمر بن عبد العزيز، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، والزهريّ، ويحيى الأنصاريّ، وأبو الزناد، وربيعة، والمغيرة بن عبد الرحمن، ومالك، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر.
وقال ابن شُبْرُمة، والثوريّ، وابن أبي ليلى، وأصحاب الرأي: الشفعة بالشركة، ثم بالشركة في الطريق، ثم بالجوار.
وقال أبو حنيفة: يُقَدَّم الشريكُ، فإن لم يكن، وكان الطريق مشتركًا، كدَرْب لا ينفذ، تثبت الشفعة لجميع أهل الدرب، والأقربِ، فالأقربِ، فإن لم يأخذوا، ثبتت للملاصق من درب آخر خاصة.
وقال العنبري، وسوار: تثبت بالشركة في المال، وبالشركة في الطريق، واحتجوا بما رَوَى أبو رافع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجار أحق بصقبه"، رواه البخاريُّ، وأبو داود، والنسائيّ، ورَوَى الحسن، عن سمرة رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"جار الدار أحق بالدار"، رواه الترمذيّ، وقال: حديث حسن صحيح، ورَوَى الترمذيّ في حديث جابر رضي الله عنه:"الجار أحق بداره، بشفعته، يُنْتَظَرُ به إذا كان غائبًا، إذا كان طريقهما واحدًا"، وقال: حديث حسن، ولأنه اتصال مُلك يدوم ويتأبّد، فتثبت الشفعة به كالشركة.
واحتجّ الأولون بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "الشفعة فيما لم يُقسَم، فإذا وقعت الحدود، وصُرِفت الطرق فلا شفعة"، متّفقٌ عليه.
ورَوَى ابن جريج، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيِّب، أو عن أبي سلمة، أو عنهما: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قُسِمَت الأرضُ وحُدَّت، فلا شفعة فيها"، رواه أبو داود، ولأن الشفعة ثبتت في موضع الوفاق، على خلاف الأصل؛ لمعنى معدوم في محل النزاع، فلا ثبتت فيه، وبيان انتفاء المعنى: هو
أن الشريك ربما دخل عليه شريك، فيتأذَّى به، فتدعوه الحاجة إلى مقاسمته، أو يطالب الداخل المقاسمة، فيدخل الضرر على الشريك، بنقص قيمة ملكه، وما يحتاج إلى إحداثه من المرافق، وهذا لا يوجد في المقسوم. فأما حديث أبي رافع رضي الله عنه، فليس بصريح في الشفعة، فإن الصَّقَب: القرب، يقال: بالسين، والصاد، قال الشاعر:
كُوفِيَّةٌ نَازحٌ مَحِلَّتُهَا
…
لَا أَمَمٌ دَارُهَا وَلَا صَقَبُ
فيَحْتَمِلُ أنه أراد به الإحسان بجاره، وَصِلته، وعيادته، ونحو ذلك، وخبرنا صريح صحيح، فيُقَدَّم، وبقية الأحاديث في أسانيدها مقال، فحديث سمرة رضي الله عنه يرويه عنه الحسن، ولم يسمع منه إلا حديث العقيقة، قاله أصحاب الحديث، قال ابن المنذر: الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث جابر رضي الله عنه الذي رويناه، وما عداه من الأحاديث، فيها مقال، على أنه يَحْتَمِل أنه أراد بالجار الشريك، فإنه جارٌ أيضًا، ويسمى كل واحد من الزوجين جارًا، قال الشاعر:
أَجَارَتَنَا بينِي فَإِنَّكِ طَالِقَهْ
…
كَذَاكَ أُمُورُ النَّاسِ غَاب وَطَارِقَهْ
قاله الأعَشى، وتُسمَّى الضرّتان جارتين؛ لاشتراكهما في الزوج، قال حمل بن مالك رضي الله عنه: كنت بين جارتين لي، فضربت إحداهما الأخرى، بِمِسْطَح، فقتلتها وجنينها، وهذا يمكن في تأويل حديث أبي رافع أيضًا. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول بعدم ثبوت الشفعة للجار، وإنما هي قاصرة على الشريك فقط، هو الحقّ؛ لقوّة أدلّته، كما تقدّم بيانه آنفًا.
(الشرط الثاني): أن يكون المبيع أرضًا؛ لأنها التي تبقى على الدوام، ويدوم ضررها، وأما غيرها، فينقسم قسمين:
[أحدهما]: تثبت فيه الشفعة تبعًا للأرض، وهو البناء، والغراس، يباع مع الأرض، فإنه يؤخذ بالشفعة، تبعًا للأرض، قال ابن قُدامة: ولا نعرف فيه بين من أثبت الشفعة خلافًا، وقد دل عليه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقضاؤه بالشفعة في
(1)
"المغني" 7/ 436 - 439.
كل شِرْك، لم يُقسَم: رَبْعَةٍ، أو حائط، وهذا يدخل فيه البناء، والأشجار.
[القسم الثاني]: ما لا تثبت فيه الشفعة تبعًا، ولا مفردًا، وهو الزرع، والثمرة الظاهرة، تباع مع الأرض، فإنه لا يؤخذ بالشفعة مع الأصل، وبهذا قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة، ومالك: يؤخذ ذلك بالشفعة مع أصوله؛ لأنه متصل بما فيه الشفعة، فيثبت فيه الشفعة؛ تبعًا كالبناء والغراس.
وحجة الأولين أنه لا يدخل في البيع تبعًا، فلا يؤخذ بالشفعة، كقماش الدار، وعكسه البناء والغراس، وتحقيقه أن الشفعة بيع في الحقيقة، لكن الشارع جعل له سلطان الأخذ بغير رضى المشتري، فَإِن بيعَ الشجر وفيه ثمرة غير ظاهرة، كالطلع غير المؤبَّر، دخل في الشفعة؛ لأَنها تتبع في البيع، فأشبهت الغراس في الأرض، وأما ما بيع مفردًا من الأرض، فلا شفعة فيه، سواء كان مما يُنقل، كالحيوان، والثياب، والسفن، والحجارة، والزرع، والثمار، أو لا ينقل، كالبناء، والغراس، إذا بيع مفردًا، وبهذا قال الشافعيّ، وأصحاب الرأي، ورُوي عن الحسن، والثوريّ، والأوزاعيّ، والعنبريّ، وقتادة، وربيعة، وإسحاق: لا شفعة في المنقولات.
واختُلِف عن مالك، وعطاء، فقالا مرة كذلك، ومرة قالا: الشفعة في كل شيء، حتى في الثوب، قال ابن أبي موسى: وقد رُوي عن أحمد رواية أخرى: أن الشفعة واجبة فيما لا ينقسم، كالحجارة، والسيف، والحيوان، وما في معنى ذلك، قال أبو الخطاب: وعن أحمد رواية أخرى: أن الشفعة تجب في البناء، والغراس، وإن بيع مفردًا، وهو قول مالك؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"الشفعة فيما لم يُقْسَم"، ولأن الشفعة، وُضعت لدفع الضرر، وحصولُ الضرر بالشركة فيما لا ينقسم، أبلغ منه فيما ينقسم، ولأن ابن أبي مليكة، رَوَى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"الشفعة في كل شيء".
قال: ولنا أن قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "الشفعة فيما لم يُقْسَم، فإذا وَقَعَت الحدودُ، وصُرِفت الطرقُ فلا شفعة"، لا يتناول إلا ما ذكرناه، وإنما أراد ما لا ينقسم من الأرض، بدليل قوله:"فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق"، ولأن هذا مما لا يتباقى على الدوام، فلا تجب فيه الشفعة، كصبرة الطعام، وحديثُ
ابن أبي مليكة مرسل، لم يَرِد في الكتب الموثوق بها. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي ترجيح القول بثبوت الشفعة في كلّ شيء؛ فقد أخرج الطحاويّ، في "شرح معاني الآثار"(4/ 125، 126) قال: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا نعيم، قال: ثنا الفضل بن موسى، عن أبي حمزة السّكّريّ، عن عبد العزيز بن رُفيع، عن ابن أبي مُليكة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشريك شفيع، والشفعة في كلّ شيء"، ورجال هذا الإسناد رجال الصحيح.
قال: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا يوسف بن عديّ، قال: ثنا ابن إدريس، عن ابن جريج، عن عطاء، عن، جابر رضي الله عنه، قال:"قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كلّ شيء". انتهى. ورجاله أيضًا رجال الصحيح.
فقول صاحب "المغني": إن حديث ابن أبي مليكة مرسل لم يَرِد في الكتب الموثوق بها غير صحيح، فقد ثبتٌ مرفوعًا متّصلًا عند الطحاويّ، كما علمت.
والحاصل أن القول بتعميم الشفعة في كلّ شيء هو الحقّ، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب.
(الشرط الثالث): أن يكون المبيع مما يمكن قسمته، فأما ما لا يمكن قسمته من العَقار، كالحمّام الصغير، والرَّحَى الصغيرة، والعضادة، والطريق الضيقة، والعراص الضيقة، فعن أحمد فيها روايتان:
[إحداهما]: لا شفعة فيه، وبه قال يحيى بن سعيد، وربيعة، والشافعيّ.
[والثانية]: فيها الشفعة، وهو قول أبي حنيفة، والثوريّ، وابن سُرَيج، وعن مالك كالروايتين، ووجه هذا، عموم قوله صلى الله عليه وسلم:"الشفعة فيما لم يُقْسَم"، وسائر الألفاظ العامة، ولأن الشفعة ثبتت لإزالة ضرر المشاركة، والضرر في هذا النوع أكثر؛ لأنه يتأبد ضرره، قال: والأول ظاهر المذهب؛ لما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"لا شفعة في فناء، ولا طريق، ولا منقبة"، والمنقبة الطريق الضيق، رواه أبو الخطاب في "رؤوس المسائل".
(1)
"المغني" 7/ 439 - 441.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول بثوت الشفعة فيما لا يمكن قسمته هو الأرجح؛ لعموم الأدلّة، وأما ما رواه أبو الخطّاب، فإنه يحتاج إلى النظر في إسناده، وقد أخرجه عبد الرزاق في "مصنّفه"(8/ 87) مرسلًا، فتأمّل، والظاهر أنه لا يصلح للاحتجاج به، والله تعالى أعلم بالصواب.
(الشرط الرابع): أن يكون الشقص منتقلًا بعوض، وأما المنتقل بغير عوض، كالهبة بغير ثواب، والصدقة، والوصية، والإرث، فلا شفعة فيه، في قول عامّة أهل العلم، منهم: مالك، والشافعيّ، وأصحاب الرأي، وحُكي عن مالك رواية أخرى في المنتقل بهبة، أو صدقة أن فيه الشفعةَ، ويأخذه الشفيع بقيمته، وحُكي ذلك عن ابن أبي ليلى؛ لأن الشفعة ثبتت لإزالة ضرر الشركة، وهذا موجود في الشركة كيفما كان، والضرر اللاحق بالمتَّهِب، دون ضرر المشتري؛ لأن إقدام المشتري على شراء الشِّقْص، وبذلِهِ ماله فيه، دليل حاجته إليه، فانتزاعه منه أعظم ضررًا مِنْ أخذه ممن لم يوجد منه دليل الحاجة إليه.
واحتجّ الأولون بانه انتقل بغير عوض، فاشبه الميراث، ولأن محلّ الوِفاق، هو البيع، والخبر ورد فيه، وليس غيره في معناه؛ لأن الشفيع يأخذه من المشتري بمثل السبب الذي انتقل به إليه، ولا يُمكن هذا في غيره، ولأن الشفيع يأخذ الشِّقْصَ بثمنه، لا بقيمته، وفي غيره يأخذه بقيمته، فافترقا.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الأولون من أنه لا شفعة في المُنتَقِلِ بغير عوض هو الأظهر عندي؛ لوضوح حجته، والله تعالى أعلم.
قال: فأما المنتقل بعوض، فينقسم قسمين:
[أحدهما]: ما عِوَضه المال، كالبيع، فهذا فيه الشفعة بغير خلاف، وهو في حديث جابر رضي الله عنه:"فإن باع، ولم يُؤْذِنْه، فهو أحقّ به"، وكذلك كلّ عقد جرى مجرى البيع، كالصلح بمعنى البيع، والصلح عن الجنايات الموجبة للمال، والهبة المشروط فيها ثوابٌ معلومٌ؛ لأن ذلك بيع ثبتت فيه أحكام البيع، وهذا منها، وبه يقول مالكٌ، والشافعيّ، وأصحاب الرأي، إلا أن أبا حنيفة، وأصحابه قالوا: لا تثبت الشفعة في الهبة المشروط فيها ثوابٌ، حتى يتقابضا؛ لأن الهبة لا تثبتُ إلا بالقبض، فأشبهت البيع بشرط الخيار.
وحجة الأولين أنه يملكها بعوض، هو مالٌ، فلم يفتقر إلى القبض في استحقاق الشفعة، كالبيع، ولا يصحّ ما قالوه من اعتبار لفظ الهبة؛ لأن العوض صَرَفَ اللفظ عن مقتضاه، وجعله عبارةً عن البيع، خاصّةً عندهم، فإنه ينعقد بها النكاح الذي لا تصحّ الهبة فيه بالاتفاق.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن المذهب الأول هو الأرجح؛ لظهور متمسّكه، والله تعالى أعلم بالصواب.
[القسم الثاني]: ما انتقل بعوض، غير المال، نحو أن يَجعل الشِّقص مهرًا، أو عِوَضًا في الخلع، أو في الصلح عن دم العمد، فقيل: لا شفعة فيه، وبه قال الحسن، والشعبيّ، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، حكاه عنهم ابن المنذر، واختاره؛ لأنه مملوك بغير مال، فأشبه الموهوب، والموروث، وقيل: تجب فيه الشفعة، وبه قال ابن شُبْرُمة، والحارث العكليّ، ومالك، وابن أبي ليلى، والشافعيّ، واحتجوا بأنه مملوك بعقد معاوضة، فأشبه البيع. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول الأوّل هو الأظهر؛ لظهور مُتَمَسَّكِهِ أيضًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4121]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ نُمَيْرٍ- قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: "قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شِرْكَةٍ لَمْ تُقْسَمْ، رَبْعَةٍ، أَوْ حَائِطٍ، لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، فَإِذَا بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) تقدّم قريبًا.
(1)
راجع: "المغني" لابن قُدامة رحمه الله 7/ 436 - 445.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ) الأوديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [8](ت 192)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِر) بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: حَكَمَ، وأَلْزَم (بِالشُّفْعَةِ) بضمّ، فسكون: هي في اللغة الضمّ، والجمع، وشرعًا: أخذ الشريك الجزء الذي باعه شريكه من المشتري بما اشتراه به، وذكر ابن فارس في "مقاييس اللغة" أن مادّة "شفع" تدلّ على مقارنة الشيئين، ومنه الشفع خلاف الوتر، تقول: كان فردًا فشفعته، ومنه: ناقة شَفُوعٌ، وهي التي تَجمَع بين مِحلبين في حلبة واحدة، ومنه: شفاعة الرجل لآخر؛ لأن الشفيع يكون ثاني المشفوع له في تحصيل مطلبه، ومنه استُعيرت الكلمة لشُفعة الدار والأرض؛ لأن الشفيع يضمّ الدار المشفوعة إلى ملكه. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قال أهل اللغة: الشفعة مِنْ شَفَعتُ الشيءَ: إذا ضممته، وثَنَيْتَهُ، ومنه: شفع الأذان، وسُمّيت شفعة؛ لضَمّ نصيب إلى نصيب. انتهى
(2)
.
ونقل الطيبيّ رحمه الله عن "المغرب" أن الشفعة اسم للمِلك المشفوع بملكك، من قولهم: كان وترًا، فشفَعْته بآخر؛ أي: جعلته زوجًا له، ونظيره الأُكْلة، واللُّقْمة في أن كلّ واحدة منهما فُعْلةٌ بمعنى مفعول، هذا أصلها، ثمّ جُعِلت عبارةً عن تملّكٍ مخصوص، وقد جمعهما الشعبيّ في قوله: مَنْ بيعت شُفعته، وهو حاضر، فلم يطلُب ذلك، فلا شفعة له. انتهى
(3)
.
(فِي كُل شِرْكَةٍ)؛ أي: في كلّ شيء مشترك، ولفظ الرواية التالية:"في كل شِرْك" وهو مِنْ أشركته في البيع: إذا جعلته لك شريكًا، وفيه ثلاث لغات،
(1)
"مقاييس اللغة" لابن فارس 3/ 201، و"الجمهرة" لابن دريد 3/ 60.
(2)
"شرح النوويّ" 11/ 45.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 7/ 2197.
كنظائره: "شركةٌ" بفتح، فكسر، و"شِرْكة"، بنقل كسرة الراء إلى الشين، وتسكين الراء، و"شَرْكةٌ" بفتح، فسكون، نظير كَلِمة، وكلْمة، وكَلْمة.
وقال القرطبيّ رحمه الله: الشَّرْكُ: النصيب المشترك، وقد يقال على الشريك، كقوله تعالى: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ
(1)
فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف: 190]؛ أي: شريكًا، قال: وهذا يدلّ على أن الشفعة إنما تُستَحقّ بالاشتراك في رقبة المُلك، لا باستحقاق منفعة في المُلك، كممرّ طريق، ومسيل ماء، واستحقاق سُكنى؛ لأن كلّ ذلك ليس بشرك. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: أجمع المسلمون على ثبوت الشفعة للشريك في العَقار ما لم يُقْسَم، قال العلماء: الحكمة في ثبوت الشفعة إزالة الضرر عن الشريك، وخُصّت بالعقار؛ لأنه أكثر الأنواع ضررًا، واتفقوا على أنه لا شفعة في الحيوان، والثياب، والأمتعة، وسائر المنقول، قال القاضي: وشَذَّ بعض الناس، فأثبت الشفعة في العُروض، وهي رواية عن عطاء، وتثبت في كل شيء حتى في الثوب، وكذا حكاها عنه ابن المنذر، وعن أحمد رواية أنها تثبت في الحيوان، والبناء المنفرد. انتهى
(3)
.
وقوله: (لَمْ تُقْسَمْ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يفيد أن الشفعة لا تجب إلا بالجزء المشاع؛ الذي يتأتى إفرازه بالمسمة، فلا تجب فيما لا ينقسم، كالحمَّام، والرَّحا، وفحل النخل، والبئر، وما أشبه ذلك مما لا ينقسم، وأعني بكونه لا ينقسم: أنه لو قُسِمَ لبطلت المنفعة المقصودة منه قبل القَسْم، كالحمَّام إذا قُسِم بطل كونه حمّامًا، وكذلك الرَّحا، وهذا هو مشهور المذهب
(4)
، وقيل: تجري الشفعة في ذلك؛ لأنه وإن بطل كونه حمّامًا فيصح أن ينقسم بيوتًا مثلًا، أو دكاكين، والظاهر الأول، وهو قول ابن القاسم؛ لأنه يلزم من قَسْمه إفساد مالية عظيمة، وذلك ضرر عظيم فيُدفع. انتهى
(5)
، وقد مرّ
(1)
بكسر الشين، وسكون الراء، وهي قراءة نافع، وأبي بكر عن عاصم، كما قاله السمين الحلبي.
(2)
"المفهم" 4/ 523 - 524.
(3)
"شرح النوويّ" 11/ 45 - 46.
(4)
يعني: المذهب المالكيّ.
(5)
"المفهم" 4/ 524.
تمام البحث في هذا في المسألة الرابعة من شرح الحديث الماضي.
(رَبْعَةٍ، أَوْ حَائِطٍ) وفي الرواية التالية: "الشفعة في كلّ شرك في أرض، أو رَبْع، أو حائط"، قال القرطبيّ: الرواية الصحيحة فيه بخفض "ربعةٍ"، وما بعده، على البدل، من"كل شركة"، فهو تفسير له، وتقييد.
و"الرَّبْعَة" -بفتح الراء، وسكون الموحّدة-: تأنيث الرَّبْع: وهو المنزل، ويُجمع على رُبوع، وإنما قيل للمنزل: رَبْعٌ؛ لأن الإنسان يربع فيه؛ أي: يُقيم، يقال: هذه رَبْعٌ، وهذه رَبْعَةٌ، كما يقال: دارٌ، ودارة، ثم سُمّي به الدار، والمسكن.
و"الحائط": بستان النخل، و"الأرض": يعني بها البَرَاح الذي لا سَكَنَ فيها، ولا شجر، وإنما هي مُعَدَّةٌ للزراعة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: "الرَّبْعَةُ"، و"الرَّبْعُ" -بفتح الراء، وإسكان الباء-، والربع: الدار، والمسكن، ومُطْلَق الأرض، وأصله المنزل الذي كانوا يرتبعون فيه، والربعة: تأنيث الربع، وقيل: واحده، والجمع الذي هو اسم الجنس: رَبْعٌ، كتمرة وتمر. انتهى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقد دلَّ هذا الحديث على أن الشفعة إنما تُسْتَحقّ في العقار المشترك الذي يَقبَل القسمة، وهذا هو المحلّ المتفق على وجوب الشفعة فيه، واختُلِف فيما عدا ذلك، فذهب بعض المكيين إلى وجوبها في كل شيء من العقار، والحيوان، والعُروض، والأطعمة، وإليه ذهب عطاء في إحدى الروايتين عنه معتمدًا في ذلك على ما خرَّجه الترمذيّ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا:"الشريك شفيع، والشفعة في كل شيء"، ورَوَى الطحاويّ نحوه عن جابر مرفوعًا، ومُتمسِّكًا في ذلك بقياس غير العقار عليه، بعلِّة وجود الاشتراك، ولا حجة في ذلك؛ لأن الحديث ليس بصحيح الإسناد، وإنما صحيحه مرسل، ولو سلّمنا صحته، لكنه مقيّد بما ذكرناه من قوله:"ربعةٍ، أو حائطٍ، أو أرضٍ"، ومثل هذا التقييد متفق على قبوله عند أهل الأصول؛ لأنه قد اتفق فيه الموجِب والموجَب، وبدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الشفعة فيما لم يُقْسَم،
(1)
"المفهم" 4/ 524.
ربعةٍ، أو حائطٍ، أو أرضٍ"، فأتى بـ "إنَّما" التي هي للحصر، وهو أيضًا مفهوم من الألف واللام في قوله: "الشفعة فيما لم يقسم"، وبدليل: زيادة البخاريّ في هذا الحديث: "فإذا وَقَعَت الحدود، وصُرِفت الطرق فلا شفعة"، وهذا نصٌّ في أن الشفعة مخصوصة بما ذكر في ذلك الحديث، وأما ذلك القياس فليس بصحيح؛ لوجود الفرق بين الفرع والأصل، فإن الأصل الذي هو العقار يَعْظُم الضرر فيه على الشريك بمشاركة الأجنبي له، ومخالطته، فقد يؤذيه، ولا يقدر على التخلص منه؛ لصعوبة بيع العقار، وتَعَذّرِ ذلك في أكثر الأوقات، وليست كذلك العُروض، وما يُنقل ويحوَّل، فإن الانفصال عن الشركة فيه يسير؛ لسهولة بيعها، والخروج عنها في كلّ الأوقات، وأكثر الحالات؛ فانفصلا، فلا يصح القياس.
وإذا ثبت أن الشفعة شُرِعت لرفع الضرر الكثير اللازم، فهل الوصفان جُزءا علَّة، فلا تجري الشفعة إلا فيما اجتمعا فيه، أو يكون كل واحد منهما علّة مستقلّة؟ فيه احتمال، وعليه ينبني الخلاف الذي عند أصحابنا -يعني: المالكيّة- في الشفعة في الثمرة، والدُّيون، وكتابة المكاتَب، والكراء، والمساقاة، فإن الضرر فيها يعظم، وإن لم يلازم، فمن رأى أنه علَّة، مستقلة أوجب الشفعة، ومن رأى أن العلَّة مجموع الوصفين منعها في ذلك كله.
وذهب الشعبيّ إلى أنه لا شفعة في مُشاع لا يُسْكَن، وقال ابن شعبان مثله عن مالك، فلا شفعة على هذا في أرض، ولا عقار يُتخَذ للغلَّة، وهو مخالف للحديث المتقدم، فإنه قد نصّ فيه على الحائط، وهو المتخذ للغلَّة، وعلى الأرض، وهي تراد للزراعة، والصحيح الأول.
وذهب الجمهور: إلى أن الشفعة لا تجب بالجوار؛ وهو مذهب عمر، وعليّ، وعثمان، ومَنْ بعدهم؛ كسعيد بن المسيِّب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وربيعة، والأوزاعيّ، ومالك، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق.
وذهب أبو حنيفة والكوفيون إلى أنه تجب به الشفعة، وبه قال ابن مسعود، وسببهما معارضة حديثين صحيحين:
أحدهما: حديت جابر المتقدِّم، وقد خرَّجه البخاري. ولفظه فيه:"الشفعة فيما لم يُقْسَم، فإذا وقعت الحدود، وصُرِفت الطرُق، فلا شفعة".
وثانيهما: خرَّجه البخاريّ عن أبي رافع قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "الجار أحقّ بصقبه"، وقد خرَّجه الترمذيّ من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجار أحقّ بشفعته، يُنتَظَر إن كان غائبًا إذا كان طريقهما واحدًا"، وقد تأوَّل بعض العلماء "الجار" في حديث البخاريّ بأنَّه الشريك، كما قد تأول بعضهم: أن "الصقب" المذكور فيه: حقّ الجوار، كما قال في الحديث الآخر: أن عائشة
(1)
قالت: يا رسول الله إن لي جارين. فإلى أيّهما أهدي؟ قال: "إلى أقربهما منكِ بابًا"، وهذان التأويلان فيهما بُعْدٌ، فإن حديث الترمذي يَنُصّ على خلاف ذلك، وأشبه ما يقال في ذلك -فيما يظهر لي-: إن حديث جابر الأول أرجح، لِمَا قارنه من عمل الخلفاء، وجمهور العلماء، وأهل المدينة، وغيرهم، والله أعلم.
وأيضًا فإن أحاديث الجمهور مشهورة متّفَقٌ على صحتها، وأحاديث الكوفيين ليست بمنزلتها في ذلك، فهي أولى.
[تفريع]: قال سفيان: الشريك أولى بالشفعة، ثمَّ الجار الذي حدُّه إلى حدّه، وقال أبو حنيفة: الشريك في الملك، ثم الشريك في الطريق، ثم الجار الملاضق، ولا حقّ للجار الذي بينك وبينه الطريق. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
(لَا يَحِلُّ لَهُ)؛ أي: لمالِكِ ما تقدّم من الربعة، أو الحائط، أو الأرض المشتركة (أَنْ يَبِيعَ)؛ أي: يبيع المذكور، فالمفعول محذوف (حَتَّى يُؤْذِنَ) من الإيذان، وهو الإعلام؛ أي: حتى يُعلم (شَرِيكَهُ) قال الشوكانيّ رحمه الله: قوله: "لا يحل له أن يبيع إلخ
…
": ظاهره أنه يجب على الشريك، إذا أراد البيع أن يؤذِن شريكه، وقد حَكَى مثل ذلك القرطبيّ عن بعض مشايخه، وقال في "شرح الإرشاد": الحديث يقتضي أنه يحرم البيع قبل العرض على الشريك، قال ابن الرفعة: ولم أظفر به عن أحد من أصحابنا، ولا محيد عنه، وقد قال الشافعيّ:
(1)
قال في "المفهم": "أن رجلًا قال"، وما هنا هو الذي في "صحيح البخاريّ"، فتنبّه.
(2)
"المفهم" 4/ 524 - 527.
إذا صح الحديث، فاضربوا بقولي عُرْضَ الحائط، وقال الزركشيّ: إنه صَرّح به الفارقيّ، وقال الأذرعيّ: إنه الذي يقتضيه نصّ الشافعيّ، وحمله الجمهور من الشافعية وغيرهم على الندب، وكراهةِ ترك الإعلام، قالوا: لأنه يَصْدُق على المكروه أنه ليس بحلال، وهذا إنما يتم إذا كان اسم الحلال مختصًّا بما كان مباحًا، أو مندوبًا، أو واجبًا، وهو ممنوع، فإن المكروه من أقسام الحلال، كما تقرر في الأصول. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول بالوجوب هو الحقّ؛ لأن لفظ: "لا يحلّ" ظاهر في التحريم، ولا ينافي ذلك عدم فساد البيع؛ إذ لا يستلزم، كما سبق في النهي عن النجش، وبيع المصرّاة، وتلقّي الجلب، فكلها محرّمة، ولم يفسد البيع بها، بل خُيّر المشتري بين إمضاء البيع، وفسخه، والله تعالى أعلم.
(فَإِنْ شَاء أَخَذَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ)؛ يعني أن الشريك إن شاء أخذ المبيع بما أعطى المشتري من الثمن؛ لأنه أحقّ به بعد البيع، وإن شاء ترك ذلك.
(فَإِذَا بَاعَ) مالكُ ما ذُكر من الربعة، وغيرها (وَلَمْ يُؤْذِنْهُ)؛ أي: لم يُعلم شريكه بالبيع (فهُوَ أَحَقُّ بِهِ")؛ أي: فالشريك أولى بالمبيع من المشتري، يأخذه بالثمن الذي اشتراه به، من عين، أو عَرَض، نقدًا، أو إلى أجل، وهو قول مالك، وأصحابه، وذهب أبو حنيفة، والشافعيّ إلى أنه لا يشفع إلى الأجل، بل إنه إن شاء شفع بالنقد، وإن شاء صبر إلى الأجل، فيشفعه عنده. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك"، يعني: إن شاء أخذ الشفعة بما أُعطي به من الثمن؛ لأنه أحقّ به بعد البيع، فيكون له بما أعطي به من الثمن قبله. وفيه دليل: على أن من نزل عن الشفعة قبل وجوبها لزمه ذلك إذا وقع البيع، ولم يكن له أن يرجع فيه، وبه قال الثوريّ، وأبو عبيد، والحكم، وهي إحدى الروايتين عن مالك، وأحمد بن حنبل، وذهب
(1)
"نيل الأوطار" 5/ 357 - 358.
(2)
"المفهم" 4/ 528.
مالك في المشهور عنه، وأبو حنيفة، والشافعيّ، وعثمان الْبَتِّيّ، وابن أبي ليلى إلى أن له الرُّجوعَ في ذلك، وهذا الخلاف جارٍ في كل من أسقط شيئًا قبل وجوبه، كإسقاط الميراث قبل موت الْمُوَرِّث، وإجازة الوارث الوصية قبل الموت، وإسقاط المرأة ما يجب لها من نفقة وكسوة في السَّنة القابلة، ففي كل واحدة من تلك المسائل قولان. انتهى
(1)
.
وقال الشوكانيّ رحمه الله: فيه دليل على ثبوت الشفعة للشريك الذي لم يؤذنه شريكه بالبيع، وأما إذا أعلمه الشريك بالبيع، فأذن فيه فباع، ثم أراد الشريك أن يأخذه بالشفعة، فقال مالك، والشافعيّ، وأبو حنيفة، والهادوية، وابن أبي ليلى، والْبَتِّي، وجمهور أهل العلم: إن له أن يأخذه بالشفعة، ولا يكون مجرد الإذن، مبطلًا لها، وقال الثوريّ، والْحَكَم، وأبو عبيد، وطائفة من أهل الحديث: ليس له أن يأخذه بالشفعة، بعد وقوع الإذن منه بالبيع، وعن أحمد روايتان، كالمذهبين. ودليل الآخِرِين مفهوم الشرط، فإنه يقتضي عدم ثبوت الشفعة مع الإيذان من البائع، ودليل الأولين الأحاديث الواردة في شفعة الشريك والجار، من غير تقييد، وهي منطوقات، لا يقاومها ذلك المفهوم. ويجاب بأن المفهوم المذكور صالح لتقييد تلك المطلقات، عند من عمل بمفهوم الشرط من أهل العلم، والترجيح إنما يصار إليه عند تعذر الجمع، وقد أمكن ههنا بحمل المطلق على المقيد. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول الثاني، وهو عدم ثبوت الشفعة بعد الإذن هو الأرجح، وهو الذي مال إليه البخاريّ رحمه الله، حيث ترجم في "صحيحه" بقوله:"باب عرض الشفعة على صاحبها قبل البيع، وقال الْحَكَم: إذا أذن له قبل البيع، فلا شُفعة له، وقال الشعبيّ: من بِيعت شفعته، وهو شاهدٌ، لا يُغيّرها، فلا شفعة له". انتهى.
(1)
"المفهم" 4/ 527 - 528.
(2)
"نيل الأوطار" 5/ 358.
والحاصل أن حمل المطلق الذي احتجّ به القائلون بثبوت الشفعة بعد الإذن على المقيّد بمفهوم هذا الحديث أولى، كما أشار إليه الشوكانيّ في كلامه المذكور آنفًا، والله تعالى أعلم.
وحديث جابر رضي الله عنه هذا بهذا اللفظ من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم بيان المسائل المتعلّقة به في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4122]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَن أَبَا الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ، أنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شِرْكٍ، فِي أَرْض، أَوْ رَبْعٍ، أَوْ حَائِطٍ، لَا يَصْلُحُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يَعْرِضَ عَلَى شَرِيكِهِ، فَيَأْخُذَ، أَوْ يَدَعَ، فَإِنْ أَبَي فَشَرِيكُهُ أَحَقُّ بِهِ، حَتَّى يُؤْذِنَهُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السّرْح المصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله المصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: ("الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شِرْكٍ) جملة من مبتدإٍ وخبر، و"الشفعة" -بضم الشين المعجمة، وسكون الفاء، وغَلِطَ من حرّكها-: لغةً مأخوذة من الشَفْع، وهو الزوج، وقيل: من الزيادة، وقيل غير ذلك.
وقوله: (فِي كُلّ شِرْكٍ) بكسر أوله، وسكون الراء؛ أي: مشترَك.
وقوله: (فِي أَرْضٍ) بالجرّ بدلٌ من الجاز والمجرور قبله.
وقوله: (رَبْعٍ): بفتح، فسكون: مَحِلّة القوم ومنزلهم، وقد يُطلق على
القوم مجازًا، والجمع رِبَاعٌ، مثلُ سهم وسِهَامِ، وأرباعٌ، وأَرْبُعٌ، ورُبُوعٌ، مثلُ فُلُوس
(1)
.
وقوله: (أَوْ حَائِطٍ)؛ أي: بستان النخل.
وقوله: (لَا يَصْلُحُ) بضم اللام، وفتحها، من بابي كرُم، ونَفَع، وفي الرواية السابقة:"لا يحلّ له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك".
وقوله: (حَتَّى يَعْرِض عَلَى شَرِيكِهِ) بفتح حرف المضارعة، وكسر الراء، من باب ضرب، قال الجوهريّ رحمه الله: عَرَضتُ عليه أمرَ كذا، وعَرَضتُ له الشيءَ؛ أي: أظهرته له، وأبرزته. انتهى
(2)
.
وقال المجد رحمه الله: وعَرَضَ له كذا يَعْرِضُ: ظهر عليه وبدا، كعَرِضَ، كسَمِعَ، والشيءَ له: أظهره له، وعليه: أراه إيّاه. انتهى
(3)
.
وقوله: (فَيَأْخُذَ) بالنصب عطفاَ على "يعرِضَ"؛ أي: يأخذ المبيع بثمنه من يد المشتري.
وقوله: (أَوْ يَدَعَ)؛ أي: يترك أخذ المبيع.
وقوله: (فَإِنْ أَبى)؛ أي: امتنع البائع عن إعلام شريكه بالبيع.
(فَشَرِيكُهُ أَحَقُّ بِهِ)؛ يعني أن الشريك أحقّ بأخذ المبيع بالثمن الذي اشتراه به المشتري، من عين، أو عَرض، نقدًا، أو إلى أجل، كما سبق تحقيق ذلك.
وقوله: (حَتَّى يُؤْذِنَهُ") الظاهر أن الضمير المرفوع للشريك، والمنصوب للبائع؛ أي: حتى يُعلم الشريكُ البائعَ بتركه؛ يعني: أنه أحق بالشفعة، إلى أن يُعْلِن بالترك، فإذا ترك، فالبيع ثابت للمشتري.
والحديث بهذا اللفظ من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 216.
(2)
"الصحاح" ص 690.
(3)
"القاموس المحيط" ص 857.
(50) - (بَابُ غَرْزِ الْخَشَبِ فِي جِدَارِ الْجَارِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4123]
(1609) - (حَدُّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَمْنَعْ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً
(1)
فِي جِدَارِهِ"، قَالَ: ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ؟ وَاللهِ لأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، تقدّم قريبًا.
3 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، تقدّم قبل باب.
4 -
(الأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، تقدّم قبل باب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد.
أنه من أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ الأَعْرَجِ) قال في "الفتح": كذا في "الموطأ"، وقال خالد بن مَخْلَد:"عن مالك، عن أبي الزناد" بدل الزهريّ، وقال بشر بن عُمَر:"عن مالك، عن الزهريّ، عن أبي سلمة" بدل الأعرج، ووافقه هشام بن يوسف، عن مالك، ومعمر، عن الزهريّ، ورواه الدارقطنيّ في "الغرائب"، وقال: المحفوظ عن مالك الأولُ، وقال في "العلل": رواه هشام الدستوائيّ
(1)
وفي نسخة: "خَشَبَهُ" بالإضافة.
عن معمر، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيِّب بدل الأعرج، وكذا قال عُقيل: عن الزهريّ، وقال ابن أبي حفصة: عن الزهريّ، عن حميد بن عبد الرحمن بدل الأعرج، والمحفوظ: عن الزهريّ، عن الأعرج، وبذلك جزم ابن عبد البرّ أيضًا، ثم أشار إلى أنه يَحْتَمِل أن يكون عند الزهريّ عن الجميع. انتهى
(1)
.
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَمْنَعْ) بالجزم على أن "لا" ناهية، ولأبي ذرّ في "صحيح البخاريّ " بالرفع على أنه خبر بمعنى النهي، ولأحمد:"لا يمنعنّ" بزيادة نون التوكيد، وهي تؤيّد رواية الجزم (أَحَدُكُمْ جَارَهُ) وفي رواية البخاريّ:"لا يمنع جارٌ جاره".
(أَنْ يَغْرِزَ) -بفتح حرف أوله، وكسر ثالثه-، يقال: غَرَزته غَرْزًا، من باب ضرب: أثبتّه بالأرض، وأغرزته بالألف لغةٌ، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(2)
.
وقوله: (خَشَبَةً) بالإفراد، وفي بعض النسخ:"خشبه" بالإضافة، قال القاضي عياض رحمه الله: روينا قوله: "خشبَةً" في "صحيح مسلم لا وغيره من الأصول، والمصنفات: "خَشَبَةً" بالإفراد، و"خشبه" بالجمع، قال: وقال الطحاويّ عن رَوْح بن الفرج: سألت أبا زيد، والحرث بن مسكين، ويونس بن عبد الأعلى عنه، فقالوا كلهم: "خَشَبَةً" بالتنوين على الإفراد، قال عبد الغنيّ بن سعيد: كُل الناس يقولونه بالجمع إلا الطحاويّ. انتهى
(3)
.
وقال ابن عبد البرّ: رُوي اللفظان في "الموطأ"، والمعنى واحد؛ لأن المراد بالواحد الجنس. انتهى.
قال في "الفتح": وهذا الذي يتعيَّن للجمع بين الروايتين، وإلا فالمعنى قد يختلف باعتبار أن أمر الخشبة الواحدة أخفّ في مسامحة الجار، بخلاف الخشب الكثير، ورَوَى الطحاويّ عن جماعة من المشايخ أنهم رووه بالإفراد، وأنكر ذلك عبد الغنيّ بن سعيد، فقال: الناس كلهم يقولونه بالجمع إلا الطحاويّ، قال الحافظ: وما ذكرته من اختلاف الرواة في "الصحيح" يَرُدّ على
(1)
"الفتح" 6/ 281، كتاب "المظالم" رقم (2463).
(2)
"المصباح المنير" 2/ 445.
(3)
راجع: "شرح النوويّ" 11/ 47.
عبد الغنيّ بن سعيد، إلا إن إراد خاصًّا من الناس، كالذين رَوَى عنهم الطحاويّ، فله اتجاه. انتهى
(1)
.
وقال في "العمدة": قوله: "خشبةً" بالإفراد والتنوين في رواية أبي ذرّ، وفي رواية غيره:"خَشَبًا" بصيغة الجمع، قال: ورأيت صاحب "التلويح" قد ضَبَط بيده "خُشْبًا" بضم الخاء، وسكون الشين، قلت
(2)
: تُجمَع الْخَشَبة على خَشَب بفتحتين، وخُشْبٍ بضم الخاء، وسكون الشين، وخُشُب بضمتين، وخشبان. انتهى
(3)
.
(فِي جِدَارِهِ") قال في "الفتح": استُدِلّ به على أن الجدار إذا كان لواحد، وله جار، فأراد أن يَضَعَ جذعه عليه جاز، سواء أَذِنَ المالك أم لا، فإن امتنع أُجْبِر، وبه قال أحمد، وإسحاق، وغيرهما من أهل الحديث، وابن حبيب من المالكية، والشافعيّ في القديم، وعنه في الجديد قولان: أشهرهما اشتراط إذن المالك، فإن امتَنَعَ لم يُجْبَر، وهو قول الحنفية، وحملوا الأمر في الحديث على الندب، والنهي على التنزيه؛ جمعًا بينه وبين الأحاديث الدالة على تحريم مال المسلم، إلا برضاه، وفيه نظر، وجزم الترمذيّ وابن عبد البرّ عن الشافعيّ بالقول القديم، وهو نصّه في البويطيّ، قال البيهقيّ: لم نجد في السنن الصحيحة ما يعارض هذا الحكمَ إلا عمومات، لا يُستنكر أن نَخُصّها، وقد حمله الراوي على ظاهره، وهو أعلم بالمراد بما حَدَّث به، يشير إلى قول أبي هريرة رضي الله عنه:"ما لي أراكم عنها معرضين". انتهى
(4)
.
(قَالَ) الأعرج: (ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، وفي رواية ابن عيينة عند أبي داود:"فنكسوا رؤوسهم"، ولأحمد:"فلَمّا حدّثهم أبو هريرة بذلك طأطؤوا رؤوسهم"(مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا)؛ أي: عن هذه السُّنّة، أو عن هذه المقالة، قاله في "الفتح"
(5)
، وقال النوويّ: أي عن هذه السُّنّة، والخصلة، والموعظة، أو
(1)
"الفتح" 6/ 282، كتاب "المظالم" رقم (2463).
(2)
القائل هو صاحب "العمدة".
(3)
"عمدة القاري" 13/ 9.
(4)
"الفتح" 6/ 282، كتاب "المظالم" رقم (2463).
(5)
"الفتح" 6/ 282.
الكلمات. انتهى
(1)
.
فقوله: "ما لي""ما" استفهاميّة مبتدأ، و"لي" خبره؛ أي: أيُّ شيء ثبت لي، وقوله: "أراكم إلخ
…
" جملة حاليّة، وقوله: "عنها" متعلّق بقوله: (مُعْرِضِينَ) وهو منصوب على الحال.
قال القرطبيّ رحمه الله: هذا القول من أبي هريرة رضي الله عنه -إنكارٌ عليهم لِمَا رأى منهم الإعراض، واستثقال ما سمعوه منه، وذلك أنهم لم يُقْبِلوا عليه، بل طأطؤوا رؤوسهم، كما رواه الترمذيّ في هذا الحديث. انتهى
(2)
.
(وَاللهِ لأَرْمِيَنَّ بِهَا) وفي رواية البخاريّ: "لأرمينّها"، وفي رواية أبي داود: عن ابن عيينة، عن الزهريّ، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا استأذن أحدكم أخاه أن يغرز خشبةً في جداره فلا يمنعه"، فنكسوا، فقال أبو هريرة: ما لي أراكم قد أعرضتم، لألْقِيَنَّها بين أكتافكم.
والمعنى: لأشيعنّ هذه المقالة فيكم، ولأُقرّعنّكم بها كما يَضرب الإنسان بالشيء بين كتفيه؛ ليستيقظ من غفلته.
وقال القرطبيّ رحمه الله: أي لأحدّثنكم بتلك المقالة التي استثقلتم سماعها من غير مبالاة، ولا تَقِيّة، وأوقعها بينكم كما يُوقَعُ السهم بين الجماعة. انتهى
(3)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: ويجوز أن يرجع الضمير في قوله: "لأرمين بها" إلى الخشبة، ويكون كنايةً عن إلزامه بالحجة القاطعة على ما ادّعاه؛ أي: لا أقول: إن الخشبة تُرْمَى على الجدار، بل بين أكتافكم؛ لِمَا وَصَّى بالبرّ والإحسان في حقّ الجار، وحمل أثقاله. انتهى
(4)
.
(بَيْنَ أكتَافِكُمْ) قال ابن عبد البرّ رحمه الله: رَوَيناه في "الموطأ" بالمثناة، وبالنون، والأكناف بالنون: جمع كَنَف بفتحها، وهو الجانب، قال الخطابيّ: معناه: إن لم تَقبَلوا هذا الحكم، وتعملوا به راضين، لأجعلنّها؛ أي: الخشبة على رقابكم كارهين، قال: وأراد بذلك المبالغة، وبهذا التأويل جزم إمام الحرمين؛ تبعًا لغيره، وقال: إن ذلك وقع من أبي هريرة حين كان يَلِي إمرة
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 47.
(2)
"المفهم" 4/ 532.
(3)
"المفهم" 4/ 532.
(4)
راجع: "مرقاة المفاتيح" 6/ 147.
المدينة، وقد وقع عند ابن عبد البرّ من وجه آخر:"لأَرْمِيَنّ بها بين أعينكم، وإن كرهتم"، وهذا يُرَجِّح التأويل المتقدّم، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "بين أكتافكم" هو بالتاء المثناة فوقُ؛ أي: بينكم، قال القاضي: قد رواه بعض رواة "الموطأ": "أكنافكم" بالنون، ومعناه أيضًا: بينكم، والكَنَف الجانب، ومعنى الأول: إني أصرِّح بها بينكم، وأوجعكم بالتقريع بها، كما يضرب الإنسان بالشيء بين كتفيه. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وأما رواية: "لأضربنّ بها أعينكم"، فهي على جهة الْمَثَل الذي قُصِد به الإغياء في الإنكار؛ لأنه فَهِمَ عنهم الإعراض عما قال، والكراهة، فقابلهم بذلك، والرواية المشهورة:"أكتافكم" -بالتاء باثنتين من فوقها- جمع: كَتَفٍ، وقد وقع في "الموطأ" من رواية يحيى:"أكنافكم" بالنون، جمع كنف، وهو: الجانب. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [50/ 4123 و 4124](1609)، و (البخاريّ) في "المظالم"(2463 و 5627 و 5628)، و (أبو داود) في "سننه"(3634)، و (الترمذيّ) في "جامعه"(1353)، و (ابن ماجه) في "سننه"(2335)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 745)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 224)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 549 و 7/ 304)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 461)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 240 و 274 و 396 و 463)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 254)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 417 و 418)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(2/ 779 و 780 و 781 و 782)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 68 و 157) و"الصغرى"(5/ 322) و"المعرفة"(4/ 540 و 4469)، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 6/ 282، كتاب "المظالم" رقم (2463).
(2)
"شرح النووي" 11/ 47.
(3)
"المفهم" 4/ 532.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان نهي الجار عن منع غرز جاره خشبه في جداره، وقد اختَلَف العلماء هل النهي للتحريم، أو للكراهة؟ وسيأتي تحقيق ذلك في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى-.
2 -
(ومنها): بيان شدّة عناية الشريعة بحقّ الجار على الجار، وأنه لا يجوز له منع ما طلبه منه من وضع الخشب على جداره، أو نحو ذلك، فهو كقوله صلى الله عليه وسلم:"ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورّثه"، متّفقٌ عليه.
3 -
(ومنها): أن محلّ الوجوب -عند من قال به، وهو الحقّ- أن يحتاج إليه الجار، ولا يضع عليه ما يتضرر به المالك، ولا يُقَدَّم على حاجة المالك.
4 -
(ومنها): أنه لا فرق بين أن يحتاج في وضع الجذع إلى نَقْب الجدار، أو لا؛ لأن رأس الجذع يَسُدّ المنفتح، ويقوّي الجدار.
5 -
(ومنها): بيان ما كان عليه أبو هريرة رضي الله عنه من الشدّة في بيان السُّنّة، والدعوة إليها.
6 -
(ومنها): أنه ينبغي للمسلم أن يكون حريصًا على نشر السُّنَّة، وإن كرِه من كره، وأعرض عنها من ضعفاء الإيمان، أو الجهلة.
7 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: فيه من الفقه: تبليغُ العلم لمن لم يُرِده، ولا استدعاه، إذا كان من الأمور المهمة، ويظهر منه أن أبا هريرة كان يعتقد وجوب بذل الحائط لغرز الخشب، وأن السامعين له لم يكونوا يعتقدون ذلك. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم هذا الحديث:
قال النووي رحمه الله: اختَلَف العلماء في معنى هذا الحديث، هل هو على الندب إلى تمكين الجار من وضع الخشب على جدار جاره، أم على الإيجاب؟ وفيه قولان للشافعيّ، وأصحاب مالك، أصحهما في المذهبين: الندب، وبه قال أبو حنيفة، والكوفيون، والثاني: الإيجاب، وبه قال أحمد، وأبو ثور،
(1)
"المفهم" 4/ 532.
وأصحاب الحديث، وهو ظاهر الحديث، ومن قال بالندب قال: ظاهر الحديث أنهم توقفوا عن العمل، فلهذا قال:"ما لي أراكم عنها معرضين"، وهذا يدلّ على أنهم فَهِمُوا منه الندب، لا الإيجاب، ولو كان واجبًا لما أطبقوا على الإعراض عنه، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": واستَدَلَّ المهلَّب من المالكية بقول أبي هريرة رضي الله عنه: "ما لي أراكم عنها معرضين" بأن العمل كان في ذلك العصر على خلاف ما ذهب إليه أبو هريرة، قال: لأنه لو كان على الوجوب لَمَا جَهِلَ الصحابة رضي الله عنهم تأويله، ولا أعرضوا عن أبي هريرة حين حدّثهم به، فلولا أن الحكم قد تقرر عندهم بخلافه، لَمَا جاز عليهم جهل هذه الفريضة، فدلّ على أنهم حملوا الأمر في ذلك على الاستحباب. انتهى.
وتعقّبه الحافظ فقال: وما أدري من أين له أن المعرضين كانوا صحابة، وأنهم كانوا عددًا لا يَجهَل مثلهم الحكم؟ ولم لا يجوز أن يكون الذين خاطبهم أبو هريرة بذلك كانوا غير فقهاء؟ بل ذلك هو المتعيَّن، وإلا فلو كانوا صحابة، أو فقهاء، ما واجههم بذلك، وقد قَوَّى الشافعيّ في القديم القول بالوجوب بأنّ عمر رضي الله عنه قَضَى به، ولم يخالفه أحد من أهل عصره، فكان اتفاقًا منهم على ذلك. انتهى.
قال: ودعوى الاتفاق هنا أولى من دعوى المهلَّب؛ لأن أكثر أهل عصر عمر رضي الله عنه كانوا صحابةً، وغالب أحكامه منتشرة؛ لطول ولايته، وأبو هريرة إنما كان يلي إمرة المدينة نيابةً عن مروان في بعض الأحيان.
وأشار الشافعيّ إلى ما أخرجه مالك، ورواه هو عنه بسند صحيح أن الضحاك بن خليفة، سأل محمد بن مسلمة أن يسوق خَلِيجًا له، فيمرّ به في أرض محمد بن مسلمة، فامتنع، فكلّمه عمر في ذلك، فأبى، فقال: والله ليمرّنّ به، ولو على بطنك، فحمل عمر رضي الله عنه الأمرَ على ظاهره، وعدّاه إلى كل ما يحتاج الجار إلى الانتفاع به من دار جاره، وأرضه.
وفي دعوى العمل على خلافه نظرٌ، فقد روى ابن ماجه، والبيهقيّ من
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 47 - 48.
طريق عكرمة بن سلمة: أن أخوين من بني المغيرة أَعْتَقَ أحدهما أن لا يغرز الآخر خشبًا في جُدُره، فلقيا مُجَمِّع بن يزيد الأنصاري، ورجالًا كثيرًا من الأنصار، فقالوا: نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن لا يمنع جارٌ جاره أن يغرز خشبًا في جداره، فقال الحالف: أي أخي قد علمت أنك مَقْضِيّ لك عليّ، وقد حلفت، فاجعل أسطوانًا دون جُدُري، فَفَعَل الآخر، فغرز في الأسطوانة خشبة، قال لي عمرو
(1)
: فأنا نظرت إلى ذلك
(2)
.
ورَوَى ابن إسحاق في "مسنده"، والبيهقيّ من طريقه، عن يحيى بن جَعْدة أحدِ التابعين، قال: أراد رجل أن يضع خشبةً على جدار صاحبه بغير إذنه فمنعه، فإذا من شئت من الأنصار يحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهاه أن يمنعه، فجُبِر على ذلك.
وقيّد بعضهم الوجوب بما إذا تقدم استئذان الجار في ذلك مستندًا إلى ذكر الإذن في بعض طرقه، وهو في رواية ابن عيينة عند أبي داود، وعقيل أيضًا وأحمد، عن عبد الرحمن بن مهديّ، عن مالك:"من سأله جاره"، وكذا لابن حبان من طريق الليث، عن مالك، وكذا لأبي عوانة من طريق زياد بن سعد، عن الزهريّ، وأخرجه البزار من طريق عكرمة، عن أبي هريرة.
ومنهم من حَمَل الضمير في "جداره" على صاحب الجذع؛ أي: لا يمنعه أن يضع جذعه على جدار نفسه، ولو تضرر به من جهة منع الضوء مثلًا، ولا يخفى بُعْدُهُ.
وقد تعقبه ابن التين بأنه إحداث قول ثالث في معنى الخبر، وقد ردّه أكثر أهل الأصول.
قال الحافظ: وفيما قال نظرٌ؛ لأن لهذا القائل أن يقول: هذا مما يستفاد من عموم النهي، لا أنه المراد فقط، والله أعلم. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن مما سبق أن أرجح الأقوال في المسألة قول من قال بالوجوب؛ لقوّة حجّته.
(1)
هو عمرو بن دينار أحد الرواة في السند.
(2)
"السنن الكبرى" للبيهقيّ 6/ 157.
(3)
"الفتح" 6/ 282 - 284.
والحاصل أنه يجب على الجار إذا طلب منه جاره أن يضع خشبةً في جداره أن يأذن له؛ لظاهر حديث الباب، وهذا إذا لم يتضرّر، وأما إذا تضرّر بذلك فلا حرج عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا ضرر، ولا ضرار"، وهو حديث صحيح، أخرجه ابن ماجه في "سننه"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4124]
(
…
) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْب، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ).
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيْى) تقدّم قبل باب.
4 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم أيضًا قبل باب.
5 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدِ) بن نصر الْكِسّيّ، أبو محمد، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
6 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام بن نافع الْحِمْيريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظٌ مصنّف شهيرٌ، عَمِي في آخره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211) وله (85) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
7 -
(مَعْمَرُ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عُروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.
(1)
راجع: "صحيح ابن ماجه" للشيخ الألباني رحمه الله 2/ 784، و"السلسلة الصحيحة" له 1/ 498.
وقوله: (كلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ إلخ
…
)؛ أي: كلّ هؤلاء الثلاثة: سفيان بن عيينة، ويونس الأيليّ، ومعمر بن راشد رووه عن الزهريّ بسنده الماضي.
[تنبيه]: رواية ابن عيينة عن الزهريّ هذه ساقها أبو داود في "سننه"(3/ 314) فقال:
(3634)
- حدّثنا مسدّد، وابن أبي خلف، قالا: ثنا سفيان، عن الزهريّ، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا استأذن أحدكم أخاه أن يَغرِز خشبةً في جداره، فلا يمنعه"، فنكسوا، فقال: ما لي أراكم قد أعرضتم؟ لأُلقينّها بين أكتافكم. انتهى.
ورواية معمر، عن الزهريّ، ساقها الإمام أحمد في "مسنده" (2/ 274) فقال:
(7688)
- حدّثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن الزهريّ، عن عبد الرحمن بن هرمز، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يمنعنّ أحدكم جاره أن يضع خشبه على جداره"، ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم معرضين؟ والله لأرمين بها بين أكتافكم. انتهى.
وأما رواية يونس، عن الزهريّ، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(51) - (بَابُ إِثْمِ مَنْ غَصَبَ شَيْئًا مِنَ الأَرْضِ)
(1)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4125]
(1610) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ- عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرحمن، عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، أَنَّ
(1)
هكذا ترجم القرطبيّ رحمه الله، وهو أنسب بحديث الباب، ولذا اخترته على ترجمة النوويّ وغيره بـ "باب تحريم الظلم، وغصب الأرض، وغيرها"، فتنبّه.
رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الأَرْضِ ظُلْمًا، طَوَّقَهُ اللهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أيُّوبَ) المقابريّ، أبو زكريّاء البغداديّ، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 234)(عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
2 -
(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قريبًا.
3 -
(عَلِيُّ بْنُ حُجْر) السَّعْديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](244) وقد قارب المائة، أو جاوزها (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
4 -
(إسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق المدنيّ القارئ، ثقةٌ ثبتٌ [8](- 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
5 -
(الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرحمن) بن يعقوب الْحُرَقيّ مولاهم، أبو شِبْل المدنيّ، صدوقٌ ربما وَهِمَ [5](ت سنة بضع و 130)(ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
6 -
(عَبَّاسُ بْنُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ) المدنيّ، ثقةٌ [4] مات في حدود (120) وقيل: قبل ذلك (خ م د ت ق) تقدم في "الحج" 90/ 3372.
7 -
(سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ) بن عبد الْعُزَّى العَدَويّ، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأمه فاطمة بنت بَعْجَة بن مُلَيح الْخُزَاعية، كانت من السابقين إلى الإسلام، أسلم قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، وهاجر، وشَهِد أُحدًا، والمشاهد بعدها، ولم يكن بالمدينة زمانَ بدر، فلذلك لم يشهدها.
رَوَى عنه من الصحابة: ابنُ عمر، وعمرو بن حريث، وأبو الطفيل، ومن كبار التابعين: أبو عثمان النَّهْديّ، وابن المسيِّب، وقيس بن أبي حازم، وغيرهم.
ذَكَرَ عروةُ وابن إسحاق وغيرهم في المغازي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ له بسهمه يوم بدر؛ لأنه كان غائبًا بالشام، وعن عروة أنه ممن ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمه وأجرَه في بدر هو وطلحة، وكان بَعَثَهما يتجسّسان له أمر عِير قريش، فلم يحضُرا بدرًا.
وكان إسلامه قديمًا قبل عمر، وكان إسلام عمر عنده في بيته؛ لأنه كان زوج أخته فاطمة. ورَوَى البخاريّ من طريق قيس بن أبي حازم، عن سعيد بن زيد قال: لقد رأيتُني، وإن عمر لموثقي على الإسلام.
وقد شَهِد سعيد بن زيد الْيَرْمُوك، وفتحَ دمشق، وقال سعيد بن حبيب: كان مقام أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وسعد وسعيد وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف مع النبي صلى الله عليه وسلم واحدًا، كانوا أمامه في القتال، وخلفه في الصلاة.
وكان سعيد من فضلاء الصحابة، وقصته مع أروى بنت أُويس مشهورة في إجابة دعائه عليها، أخرجها البخاري ومسلم وغيرهما.
قال الواقدي: تُوُفّي بالعقيق، فحُمل إلى المدينة، وذلك سنة خمسين، وقيل: إحدى وخمسين، وقيل: سنة اثنتين، وعاش بضعًا وسبعين سنة، وكان طوالًا آدمَ أشعَرَ، وهذا هو القول الأصحّ.
وزعم الهيثم بن عدي أنه مات بالكوفة، وصلى عليه المغيرة بن شعبة، قال: وعاش ثلاثًا وسبعين سنة
(1)
.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم (1610) وكرّره أربع مرّات، و (2049):"الكمأة من المنّ، وماؤها شفاء للعين"، وكرّره ستّ مرّات، و (2741):"ما تركت بعدي في الناس فتنةً أضرّ على الرجال من النساء".
وشرح الحديث يأتي في الحديث التالي -إن شاء الله تعالى- وإنما أخّرته إليه؛ لكونه أتمّ مما هنا، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4126]
(
…
) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنى عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنَّ أَباهُ حَدَّثَهُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، أَنَّ أَرْوَى خَاصَمَتْهُ فِي بَعْضِ دَارِهِ، فَقَالَ: دَعُوهَا وَإِيَّاهَا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(1)
راجع: "الإصابة" للحافظ ابن حجر 2/ 87 - 88.
يَقُولُ: "مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ، طُوِّقَهُ فِي سَبْعِ أَرَضِينَ
(1)
يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، اللَّهُمَّ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً، فَأعْم بَصَرَهَا، وَاجْعَلْ قَبْرَهَا فِي دَارِهَا، قَالَ: فَرَأَيْتُهَا عَمْيَاءَ تَلْتَمِسُ الْجُدُرَ، تَقُولُ: أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعِيدِ بْنِ زيدٍ، فَبَيْنَمَا هِيَ تَمْشِي في الدَّارِ مَرَّتْ عَلَى بِئْرٍ فِي الدَّارِ، فَوَقَعَتْ فِيهَا، فَكَانَتْ قَبْرَهَا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب المدنيّ، نزيل عسقلان، ثقة [6] مات قبل (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 31/ 233.
2 -
(أَبُوهُ) محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب المدنيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 122.
والباقون ذُكروا في الإسنادين الماضيين.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد.
أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، وشيخ شيخه، فمصريّان، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أن صحابيّه أحد العشرة المبشّرين بالجنة رضي الله عنهم.
شرح الحديث:
(عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ) رضي الله عنه (أَنَّ أَرْوَى) بنت أويس، كما في الرواية التالية، ولم يذكرها الحافظ ابن عبد البرّ في "الاستيعاب"، وذكرها الحافظ ابن حجر في "الإصابة"؛ تبعًا لابن منده، ولا يُحفظ عنها غير قصّتها هذه مع سعيد بن زيد رضي الله عنهما، وقد ذكرها الترمذيّ في "باب الوضوء من مسّ الذكر"، وأخرج ابن السكن، والدارقطنيّ في "العلل" عنها الحديث الذي أشار إليه الترمذيّ، ولكن قال ابن السكن: لا يثبت، كذا في "الإصابة"
(2)
.
وقال في "الفتح": أَرْوَى -بفتح الهمزة، وسكون الراء، والقصر- بِاسمِ الحيوان الوحشيّ المشهور، وفي المثل يقولون إذا دَعَوْا: كعَمَى الأَرْوَى، قال الزبير في روايته: كان أهل المدينة إذا دَعَوا قالوا: أعماه الله كَعَمَى أَرْوَى،
(1)
وفي نسخة: "من سبع أرضين".
(2)
راجع: "الإصابة في تمييز الصحابة" 7/ 478.
يريدون هذه القصّة، قال: ثم طال العهد، فصار أهل الجهل يقولون: كعَمَى الأَرْوَى، يريدون الوحش الذي بالجبل، ويظنونه أعمى، شديد الْعَمَى، وليس كذلك. انتهى
(1)
.
(خَاصَمَتْهُ)؛ أي: خاصمت سعيدًا رضي الله عنه (فِي بَعْضِ دَارِهِ) وفي الرواية التالية: "أن أروى بنت أويس ادّعت على سعيد بن زيد أنه أخذ شيئًا من أرضها، فخاصمته إلى مروان بن الحكم"، وفي رواية أحمد، وأبي يعلى في "مسنديهما"، وصحيح ابن خزيمة، من طريق ابن إسحاق، حدّثني الزهريّ، عن طلحة بن عبد الله، قال: "أتتني أروى بنت أويس في نفر من قريش، فيهم عبد الرحمن بن سهل، فقالت: إن سعيدًا انتقص من أرضي إلى أرضه ما ليس له، وقد أحببت أن تأتوه فتكلموه، قال: فركبنا إليه، وهو بأرضه بالعقيق
…
" فذكر الحديث، وللزبير في "كتاب النسب" من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، والحسن بن سفيان، من طريق أبي بكر بن محمد بن حزم: "استَعْدَت أروى بنت أُويس مروان بن الحكم، وهو والي المدينة، على سعيد بن زيد، في أرضه بالشجرة، وقالت: إنه أخذ حقي، وأدخل ضفيرتي في أرضه"، فذكره، وفي رواية العلاء: "فترك سعيد ما ادَّعَت"، ولابن حبان، والحاكم، من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن، في هذه القصّة، وزاد: "فقال لنا مروان: أصلحوا بينهما"
(2)
.
وأخرج أبو نعيم في "الحلية" في ترجمة سعيد بن زيد رضي الله عنه من طريق أبي بكر بن حزم أن سعيدًا، قال: اللهم إنها قد زعمت أنها ظُلِمَت، فإن كانت كاذبة فأعمِ بصرها، وألقها في بئرها، وأظهر من حقي نورًا بين المسلمين أني لم أظلمها، قال: فبينما هم على ذلك إذ سال العقيقُ سيلًا لم يَسِلْ مثله قط، فكُشف عن الحد الذي كانا يختلفان فيه، فإذا سعيد بن زيد في ذلك قد كان صادقًا، ثم لم تَلْبَث إلا يسيرًا حتى عَمِيَتْ، فبينما هي تطوف في أرضها تلك سقطت في بئرها، قال: فكنا ونحن غلمان نسمع الإنسان يقول للآخر إذا
(1)
"الفتح" 6/ 273 - 278.
(2)
راجع: "الفتح" 6/ 272، كتاب "المظالم" رقم (2452).
تخاصما: أعماك الله عَمَى أروى، فكنا نظن أنه يريد الوحشية، وهو كان يريد ما أصاب أروى بدعوة سعيد بن زيد
(1)
.
وأخرج أبو نعيم أيضًا بسند فيه ابن لَهِيعة، عن محمد بن زيد بن مهاجر، أنه سمع أبا غطفان الْمُرّيّ يُخبر أن أروى بنت أويس أتت مروان بن الحكم، مستغيثةً من سعيد بن زيد، وقالت: ظلمني أرضي، وغلبني حقيّ، وكان جارها بالعقيق، فركب إليه عاصم بن عمر، فقال: أنا أظلم أروى حقّها، فوالله لقد ألقيت لها ستمائة ذراع من أرضي، من أجل حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من أخذ من حقّ امرئ من المسلمين شيئًا بغير حقّ طُوِّقه يوم القيامة، حتى سبع أرضين"، قومي يا أروى، فخذي الذي تزعمين أنه حقّك، فقامت، فتسحبت في حقّه، فقال: اللهم إن كانت ظالمةً، فَأعْم بصرها، واقتلها في بئرها، فعَمِيت، ووقعت في بئرها، فماتت
(2)
.
(فَقَالَ) سعيد بن زيد رضي الله عنه (دَعُوهَا وَإِيَّاهَا)؛ أي: اتركوا المرأة مع أرضها التي تدّعي أني ظلمتها فيها (فَإِنِّي) الفاء للتعليل؛ أي: إنما قلت: دعوها؛ لأني (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ أَخَذَ شِبْرًا)؛ أي: مقدار شبر، وهو بكسر الشين المعجمة، وسكون الموحّدة، والراء، قال الفيّوميّ رحمه الله:"الشِّبْرُ" -بالكسر-: ما بين طَرَفي الْخِنْصِرِ والإبهام بالتفريج المعتاد، والجمع أَشبار، مثل حِمْل وأَحْمال.
و"البُصْمُ" -بضم الباء الموحدة، وسكون الصاد المهملة-: ما بين الخنصر والبنصر.
و"الْعَتَبُ" -بعين مهملة، وتاء مثناة من فوقُ، ثم باء موحدةٌ، وزانُ سَبَبٍ-: ما بين الوُسْطَى والسبابة، ويقال: هو جعلك الأصابع الأربع مضمومةً.
و"الفِتْرُ": ما بين السبابة والإبهام.
و"الفَوْتُ": ما بين كلّ أصبعين طولًا.
(1)
راجع: "حلية الأولياء" لأبي نعيم 1/ 97.
(2)
"حلية الأولياء" 1/ 97.
وشَبَرْتُ الشيءَ شَبْرًا، من باب قَتَلَ: قِسْتُهُ بِالشِّبْرِ، وكم شَبْرُ ثوبك؟ بالفتح، إذا سألت عن المصدر. انتهى.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها الآتي آخر الباب: "من ظلم قِيد شبر من الأرض"، وهو -بكسر القاف، وسكون التحتانيّة-؛ أي: قَدْره، وكأنه ذَكر الشبرَ إشارةً إلى استواء القليل والكثير في الوعيد، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقوله: (مِنَ الأَرْضِ) بيان لـ "شِبْرًا"(بِغَيْرِ حَقِّهِ، طُوِّقَهُ) -بضم أوله- على البناء للمجهول، ونائب الفاعل ضمير راجع إلى آخذ الأرض، وضمير المفعول الثانى إلى ما أخذه.
وفي رواية عروة: "فإنه يُطَوَّقه"، ولأبي عوانة، والجوزقيّ في حديث أبي هريرة:"جاء به مُقَلَّده"(فِي سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ") هكذا النسخ بـ "في"، وهي بمعنى "من"، ووقع في بعض النسخ بلفظ:"من سبع أرضين"، و"أرَضون" بفتح الراء، ويجوز إسكانها، وقال النوويّ: قال أهل اللغة: الأرضون -بفتح الراء- وفيها لغة قليلةٌ بإسكانها، حكاها الجوهريّ وغيره. انتهى
(2)
.
وقال الفيّوميّ: الأرض مؤنّثةٌ، والجمع أَرَضُون -بفتح الراء. قال أبو زيد: وسَمِعتُ العرب تقول في جمع الأرض: الأَراضي، والأُرُوض، مثلُ فلس وفُلُوس، وجمعُ فَعْل فَعَالِي في أرؤض، وأراضي، وأهلٍ وأَهالي، وليلٍ ولَيالي، بزيادة الياء، على غير قياس، ورُبّما ذُكرت الأرض في الشعر على معنى البِساط. انتهى
(3)
.
قال القرطبيّ رحمه الله: اختُلِف في معنى: "طُوِّقه"، فقيل: معناه: كُلّف أن يطيق حمله، كما قال تعالى:{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية [آل عمران: 161]، وقد جاء في غير "صحيح مسلم":"جاء يحمله يوم القيامة إلى سبع أرضين"، وفي أخرى:"كُلِّف أن يَحْمِل ترابها إلى المحشر"، وقيل: جُعِلت في عنقه كالطَّوق؛ كما قال تعالى: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية [آل عمران: 180]، وهو ظاهر حديث عائشة رضي الله عنها: "طُوِّقه من سبع
(1)
"الفتح" 6/ 272.
(2)
"شرح النوويّ" 11/ 48.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 12.
أرضين"، وقيل: خُسِف به في مثل الطوق منها، وهو ظاهر قوله: "طَوَّقه الله إلى سبع أرضين"، وفي "صحيح البخاري" نصًّا: "خُسِف به يوم القيامة إلى سبع أرضين"، وقيل: يُجْمَع ذلك كلّه عليه، وقد دلّ على ذلك ما رواه الطبريّ في هذا الحديث، وقال: "كَلَّفه الله حمله حتى يبلغ سبع أرضين، ثم يُطَوَّقه يوم القيامة حتى يُقْضَى بين الناس"، والله أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: وأما التطويق المذكور في هذا الحديث فقالوا: يَحْتَمِل أن معناه أنه يَحْمِل مثله من سبع أرضين، ويُكَلَّف إطاقة ذلك، ويَحْتَمِل أن يكون يُجْعَل له كالطَّوْق في عنقه، كما قال سبحانه وتعالى:{سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، وقيل: معناه: أنه يُطَوَّق إثم ذلك، ويلزمه كلزوم الطَّوْق بعنقه، وعلى تقدير التطويق في عنقه يُطَوِّل الله تعالى عنقه، كما جاء في غِلَظ جلد الكافر، وعِظَم ضِرْسه. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(2)
.
وقال في "الفتح": قال الخطابيّ: قوله: "طُوِّقَهُ" له وجهان:
[أحدهما]: أن معناه أنه يُكَلَّف نقل ما ظَلَم منها في القيامة إلى المحشر، ويكون كالطَّوْق في عنقه، لا أنه طُوِّق حقيقةً.
[الثاني]: معناه أنه يعاقب بالخسف إلي سبع أرضين؛ أي: فتكون كلُّ أرض في تلك الحالة طَوْقًا في عنقه. انتهى.
وقال في "الفتح": وهذا يؤيِّده حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند البخاريّ بلفظ: "خُسِفَ به يوم القيامة إلى سبع أرضين".
وقيل: معناه: كالأول، لكن بعد أن يُنقل جميعه يُجعل كله في عنقه طَوْقًا، وَيعْظُمُ قدرُ عنقه حتى يسع ذلك، كما ورد في غِلَظ جلد الكافر، ونحو ذلك.
وقد رَوَى الطبريّ، وابن حبان، من حديث يعلى بن مُرّة مرفوعًا:"أَيُّما رجل ظَلَم شبرًا من الأرض، كَلَّفَهُ الله أن يَحفِره حتى يبلغ آخر سبع أرضين، ثم يُطَوَّقه يوم القيامة، حتى يُقْضَى بين الناس".
(1)
"المفهم" 4/ 534 - 535.
(2)
"شرح النوويّ" 11/ 48 - 49.
ولأبي يعلى بإسناد حسن، عن الحكم بن الحارث السّلميّ مرفوعًا:"من أخذ من طريق المسلمين شبرًا، جاء يوم القيامة يَحمِله من سبع أرضين".
ونظير ذلك ما تقدم في "كتاب الزكاة" في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في حَقِّ مَنْ غَلَّ بعيرًا: جاء يوم القيامة يحمله.
وَيحْتَمِل -وهو الوجه الرابع- أن بكون المراد بقوله: "يُطَوَّقه" يُكَلَّف أن يَجعله له طَوْقًا، ولا يستطيع ذلك، فيعذب بذلك، كما جاء في حَقّ مَن كَذَب في منامه كُلِّف أن يَعْقِد شعيرة.
وَيحْتَمِل -وهو الوجه الخامس- أن يكون التطويق تطويق الإثم، والمراد به أن الظلم المذكور لازم له في عنقه لزومَ الإثم، ومنه قوله تعالى:{أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} الآية [الإسراء: 13]، وبالوجه الأول جزم أبو الفتح القشيريّ، وصححه البَغَويّ.
ويحْتَمِل أن تتنوع هذه الصفات لصاحب هذه الجناية، أو تنقسم أصحاب هذه الجناية، فَيُعَذَّب بعضهم بهذا، وبعضهم بهذا، بحسب قوّة المفسدة، وضعفها.
وقد رَوَى ابن أبي شيبة بإسناد حسن، من حديث أبي مالك الأشعريّ رضي الله عنه:"أعظم الغلول عند الله يوم القيامة ذراع أرض يَسْرِقه رجل، فَيُطَوَّقه من سبع أرضين". انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أقرب الاحتمالات أنه يُكَلَّف نقل ما ظَلَم منها في القيامة إلى المحشر، ويكون كالطَّوْق في عنقه، ثم بعد أن يُنقل جميعه يُجعل كله في عنقه طَوْقًا، ويَعْظُمُ قدرُ عنقه حتى يسع ذلك، كما ورد في غِلَظ جلد الكافر، ونحو ذلك.
وأقوى هذه الاحتمالات هو الاحتمال الثاني، وهو أنه يعاقب بالخسف إلى سبع أرضين، ثم يُجعل في عنقه طَوْقًا يَحمِله حتى يُقضَى بين الناس؛ فهذا أقرب التأويل للتطويق المذكور في هذا الحديث؛ كما يؤيّده حديثا يعلى بن مرّة، والحكم بن الحارث رضي الله عنهما المذكوران آنفًا، فتأمله حقّ التأمل، والله تعالى وليّ التوفيق.
(1)
"الفتح" 6/ 272 - 273.
(اللَّهُمَّ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً)؛ أي: في هذه الدعوى (فَأَعْمِ بَصَرَهَا) بقطع الهمزة، أمر من الإعماء، وفي الرواية التالية:"فَعَمِّ بصرها" بتشديد الميم، من التعمية، قال الفيّوميّ رحمه الله: عَمِيَ عَمًى: فَقَدَ بصرَهُ، فهو أَعْمَى، والمرأة عَمْيَاءُ، والجمع عُمْيٌ، من باب أَحْمَر، وعُمْيَانُ أيضًا، ويُعَدَّى بالهمزة، فيقال: أَعْمَيْتُهُ، ولا يقع العَمَى إلا على العينين جميعًا، ويستعار العَمَى للقلب؛ كنايةً عن الضلالة، والعلاقة عدم الاهتداء، فهو عَمٍ، وأَعْمَى القَلْبِ، وعَمِيَ الخبرُ: خَفِي، ويُعَدَّى بالتضعيف، فيقال: عَمَّيْتُهُ. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ظاهر عبارة الفيّوميّ أن تعدية عَمِيَ بمعنى فَقَدَ بصره بالهمزة، وأما التعدية بالتضعيف فهو لـ "عَمِيَ الخبرُ" بمعنى خَفِي، لكن أثبت المجد تعدية الأول بالتضعيف، وعبارته: عَمِيَ -كرَضِي- عَمًى: ذَهَبَ بصره كلُّهُ، قال: وعَمَاه تعميةً: صَيَّره أعمى. انتهى
(2)
.
فأدت عبارة المجد هذه أن الرواية هنا بلفظ: "فأعمِ بصرها"، و"عَمِّ بصرها" كلتاهما صحيحتان، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(وَاجْعَلْ قَبْرَهَا فِي دَارِهَا) وفي الرواية التالية: "واقتلها في أرضها"، وقول سعيد هذا دليلٌ على أن سعيدًا استجاز الاعاء على الظالم بأكثر مما ظَلم فيه، وفيه إشكال مع قوله تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، وقوله:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، ووجهُ الإشكال: أنه كما لا يجوز أن ياخذ من الظالم، أو الغاصب زيادةً على القصاص، أو على مقدار ما أَخَذ، كذلك لا يجوز أن يدعو عليه بزيادة على ذلك؟ لإمكان الإجابة، فتحصل الزيادة الممنوعة، ولو لم يُستَجب له؛ أليس قد أراد وتمنى شرًّا زائدًا على قدر الجناية للمسلم؟! وهو ممنوع منه، دمانما الذي يجوز أن يدعو به على الظالم أن يقول: اللهم خُذ لي حقي منه، اللهم افعل به مثل ما فعل، وما أشبه ذلك، {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} [الشورى: 43].
ويجاب عنه بالفرق بين الدُّعاء على الظالم بأكثر مما ظَلم فيه، وبين أن
(1)
"المصباح المنير" 2/ 431.
(2)
"القاموس المحيط" ص 914.
يُفْعَل به أكثر مما ظَلم فيه، فإن الدعاء ليس مقطوعًا بإجابته، فإذا صدر عن المظلوم بحكم حرقة مظلمته، وشدَّة مَوْجِدته لم نقل: إنه صدر عنه محرَّم، وغاية ذلك: أن يكون تَرَك الأولى؛ لأنه منتصر، ولأنه لم يصبر، ولذلك قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"واتّق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب"، متّفقٌ عليه، ويدلّ على جواز ذلك ما رُوي: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا خَلَق الثياب، فأمره أن يلبس ثوبيه، فلمّا لبسهما قال:"ما له؟ -ضرب الله عنقه- أليس هذا خيرًا"
(1)
، وفي كتاب أبي داود: عن سعيد بن غزوان، عن أبيه أنه مرَّ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك، وهو يصلي، فقال:"قطع صلاتنا، قطع الله أثره"، قال: فما قمت عليهما إلى يومي هذا -يعني: رجليه-؛ فدلَّ هذا على أن الدَّعاء المذكور ليس محرَّمًا.
قال الجامع عفا الله عنه: استدلال القرطبيّ على جواز الدعاء على الظالم بأكثر مما ظَلَم غير صحيح، أما الحديث الأول فليس فيه دعاء على الظالم، وإنما هو دعاء لرجل مسلم أن ينال الشهادة، وأما الحديث الثاني فضعيف؛ لأن في سنده سعيد بن غزوان، وأبوه مجهولان، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(1)
حديث صحيح، أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (12/ 236) فقال:(5418) - أخبرنا الحسين بن إدريس الأنصاريّ، أخبرنا أحمد بن أبي بكر، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن جابر بن عبد الله، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أنمار، قال: فبينما أنا نازل تحت شجرة إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فقلت: يا رسول الله هَلُمّ إلى الظل، قال: فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال جابر: فقمت إلى غِرَارة لنا، فالتمست فيها، فوجدت فيها جِرْوَ قِثَّاء، فكسرته، ثم قرّبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من أين لكم هذا؟ "، فقلت: خرجنا به يا رسول الله من المدينة، قال جابر: وعندنا صاحب لنا نُجَهِّزه؛ ليذهب يرعى ظهرنا، قال: فجهزته، ثم أدبر يذهب في الظهر، وعليه بُردان له قد خَلُقَا، قال: فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"أما له ثوبان غير هذين؟ " قال: فقلت: يا رسول الله له ثوبان في الْعَيبة، كسوته إياهما، قال:"فادعه، فمره، فليلبسهما"، قال: فدعوته، فلبسهما، ثم وَلَّى يذهب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما له ضرب الله عنقه؟ أليس هذا خيرًا؟ " فسمعه الرجل، فقال: يا رسول الله في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"في سبيل الله"، فقُتِل الرجل في سبيل الله. انتهى.
قال: وأما قوله: إنه أراد الشرَّ للظالم وتمنَّاه، فنقول بجواز ذلك، ليرتدع الظالم عن شرّه، أو غيره ممن يريد الظلم والشر.
ولو سلّمنا أن ذلك لا يجوز لأمكن أن يقال: إنه لا يلزم من الدُّعاء بالشر أن يكون ذلك الشر متمنَّى، ولا مرادًا للدَّاعي، فإن الإنسان قد يدعو على ولده وحبيبه بالشر؛ بحكم بادرة الغضب، ولا يريد وقوعه به، ولا يتمناه، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن ما قاله القرطبيّ من جواز الدعاء على الظالم بأكثر مِن ظُلمه، فيه نظر لا يخفى؛ لمخالفته للأدلة الشرعية، كقوله تعالى:{لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ} الآية [النساء: 148]، وقوله:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} الآية، وقوله:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} الآية [الشورى: 40]، وكذا استدلاله بالحديثين الماضيين فيه نظر لا يخفى، كما أوضحته آنفًا، وكذا دعاء سعيد بن زيد المذكور وإن كان صحابيًّا لا يكون حجة؛ لأنه يُحمل على أنه صدر منه في حال غضبه، فلا يُتَأَسَّى به.
والحاصل أن الدعاء على المظلوم يجوز بمثل ظلمه، أو أن يأخذ الله له من ظالمه حقّه، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(قَالَ) الراوي، وهو محمد بن زيد:(فَرَأَيْتُهَا عَمْيَاءَ تَلْتَمِسُ)؛ أي: تطلب (الْجُدُرَ) بضمّتين: جمع جدار، وهو الحائط، مثلُ كتاب وكُتُب، وقوله:(تَقُولُ) جملة حاليّة (أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعِيدِ بْنِ زيدٍ) رضي الله عنه (فَبَيْنَمَا هِيَ تَمْشِي فِي الدَّارِ)؛ أي: التي ادّعت على سعيد غصبها منها، فتركها لها (مَرَّتْ عَلَى بِئْرٍ فِي الدَّارِ، فَوَقَعَتْ فِيهَا، فَكَانَتْ قَبْرَهَا)؛ يعني: أنها دُفنت في تلك البئر، ولعلها كانت صالحة للدفن فيها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
"المفهم" 4/ 537 - 538.
أخرجه (المصنّف) هنا [51/ 4125 و 4126 و 4127 و 4128](1610)، و (البخاري) في "المظالم"(2452) و "بدء الخلق"(3198)، و (الترمذيّ) في "جامعه"(1418)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(19755)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 44)، و (أحمد) في "مسنده"(188 و 189 و 190)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 347)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 417)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(951 و 954 و 955 و 956 و 959 و 962)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3195 و 5163)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(352 و 353 و 354 و 355)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(1/ 96)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 98) و"الصغرى"(5/ 375)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان تحريم الظلم، والغصب، وتغليظ عقوبته.
2 -
(ومنها): بيان إمكان غصب الأرض، خلافًا لمن قال: لا يمكن ذلك، قال النوويّ رحمه الله: وفيه إمكان غصب الأرض، وهو مذهبنا، ومذهب الجمهور، وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يُتَصَوَّر. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): بيان أن غصب الأرض من الكبائر، قاله القرطبيّ رحمه الله، قال في "الفتح": وكأنه فَرَّعه على أن الكبيرة ما وَرَد فيه وعيد شديد.
4 -
(ومنها): بيان أن من مَلك أرضًا مَلك أسفلها إلى منتهى الأرض، فله أن يمنع مَن حَفَرَ تحتها سَرَبًا
(2)
أو بئرًا بغير رضاه.
5 -
(ومنها): أن مَن مَلَك ظاهر الأرض ملك باطنها بما فيه، من حجارة ثابتة، وأبنية، ومعادن، وغير ذلك، وأن له أن ينزل بالحفر ما شاء، ما لم يَضُرّ بمن يجاوره.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقد استُدِلَّ على أن من مَلك شيئًا من الأرض مَلك ما تحته مما يقابله، فكل ما يوجد فيه من معدن، أو كنز فهو له، قال: وقد اختُلِف في ذلك في مذهب مالك، فقيل ذلك، وقيل: هو للمسلمين، وعلى
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 49 - 50.
(2)
"السَّرَبُ" بفتحتين: بيت في الأرض لا منفذ له. قاله في "المصباح" 1/ 272.
ذلك فله أن يَنزِل بالحفر ما شاء ما لم يَضُرّ بمن يجاوره، وكذلك أن يرفع في الهواء المقابل لذلك القدر من الأرض، من البناء ما شاء، ما لم يَضُرَّ بأحد، فيُمْنَعُ. انتهى
(1)
.
6 -
(ومنها): أن الأرضين السبع متراكمة، لم يُفْتَقْ بعضها من بعض؛ لأنها لو فُتِقت لاكتفِي في حقّ هذا الغاصب بتطويق التى غَصَبها؛ لانفصالها عما تحتها، أشار إلى ذلك الداوديّ رحمه الله.
7 -
(ومنها): فيه أن الأرضين السبع طباقٌ كالسموات، وهو ظاهر قوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} الآية [الطلاق: 12]، قال القرطبيّ رحمه الله: أي في العدد؛ لأن الكيفيّة والصفة مختلفة بالمشاهدة والأخبار، فتعيّن العدد. انتهى.
وقيل: إن المراد بقوله: "سبع أرضين" سبعة أقاليم، وتُعُقِّب بأنه لو كان كذلك لم يطَوَّق الغاصب شبرًا من إقليم آخر، قاله ابن التين رحمه الله، ذكره في "الفتح"
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: هذا تصريح بأن الأرضين سبع طبقات، وهو موافق لقول الله تعالى:{سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12]، وأما تأويل المماثلة على الهيئة والشكل، فخلاف الظاهر، وكذا قول من قال: المراد بالحديث سبع أرضين من سبع أقاليم؛ لا أنّ الأرضين سبع طباق، وهذا تأويل باطل، أبطله العلماء بأنه لو كان كذلك لم يُطَوَّق الظالم بشبر من هذا الإقليم شيئًا من إقليم آخر، بخلاف طباق الأرض، فإنها تابعة لهذا الشبر في الفلك، فمن مَلك شيئًا من هذه الأرض مَلَكه، وما تحته من الطباق، قال القاضي عياض: وقد جاء في غِلَظ الأرضين وطباقهنّ، وما بينهنّ حديث ليس بثابت. انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح" في "كتاب بدء الخلق" عند شرح قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} الآية [الطلاق: 12]: قال الداوديّ فيه دلالة
(1)
"المفهم" 4/ 535.
(2)
"الفتح" 6/ 273.
(3)
"شرح النوويّ" 11/ 48.
على أن الأرضين بعضها فوق بعض، مثلُ السماوات، ونُقِلَ عن بعض المتكلمين أن المثلية في العدد خاصةً، وأن السبع متجاورة، وحَكَى ابن التين عن بعضهم أن الأرض واحدةٌ، قال: وهو مردود بالقرآن والسُّنَّة.
قال الحافظ: لعله القول بالتجاور، وإلا فيصير صريحًا في المخالفة، ويدلّ للقول الظاهر ما رواه ابن جرير من طريق شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن أبي الضحى، عن ابن عباس، في هذه الآية:{وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} قال: في كل أرض مثل إبراهيم، ونحو ما على الأرض من الخلق، هكذا أخرجه مختصرًا، وإسناده صحيح، وأخرجه الحاكم، والبيهقيّ من طريق عطاء بن السائب، عن أبي الضحى، مُطَوَّلًا، وأوله:"أي: سبع أرضين، في كل أرض آدم كآدمكم، ونوح كنوحكم، وإبراهيم كإبراهيمكم، وعيسى كعيسى، ونبي كنبيكم"، قال البيهقيّ: إسناده صحيح، إلا أنه شاذّ بمرّة.
وروى ابن أبي حاتم، من طريق مجاهد، عن ابن عباس، قال: لو حدثتكم بتفسير هذه الآية لكفرتم، وكَفَّركم تكذيبكم بها، ومن طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس نحوه، وزاد: وهنّ مكتوبات بعضهنّ على بعض.
وظاهر قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} يرُدّ أيضًا على أهل الهيئة قولهم: أَنْ لا مسافة بين كلّ أرض وأرض، وإن كانت فوقها، وأن السابعة صماء، لا جوف لها، وفي وسطها المركز، وهي نقطة مقدَّرة متوهمة إلى غير ذلك من أقوالهم التي لا برهان عليها.
وقد رَوَى أحمد، والترمذيّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"إن بين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وأن سَمْك كل سماء كذلك، وأن بين كل أرض وأرض خمسمائة عام"، وأخرجه إسحاق بن راهويه، والبزار، من حديث أبي ذرّ نحوه، ولأبي داود، والترمذيّ من حديث العباس بن عبد المطلب، مرفوعًا:"بين كل سماء وسماء إحدى، أو اثنتان وسبعون سنةً"، وجُمِع بين الحديثين بأن اختلاف المسافة بينهما باعتبار بطء السير وسرعته. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"الفتح" 7/ 495 - 496، كتاب "بدء الخلق" رقم (3195).
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4127]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيع الْعَتَكِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ أَرْوَى بِنْتَ أُوَيْسٍ، ادَّعَتْ عَلَى سَعِيدِ بْنِ زيدٍ أَنَّهُ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ أَرْضِهَا، فَخَاصَمَتْهُ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، فَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَا كُنْتُ اَخُذُ مِنْ أَرْضِهَا شَيْئًا بَعْدَ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: وَمَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: "مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الأَرْضِ ظُلْمًا، طُوِّقَهُ إلَى سَبْعِ أَرَضِينَ"، فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: لَا أَسْأَلُكَ بَيِّنَةً بَعْدَ هَذَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً، فَعَمِّ بَصَرَهَا، وَاقْتُلْهَا فِي أَرْضِهَا، قَالَ: فَمَا مَاتَتْ حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُهَا، ثُمَّ بَيْنَا هِيَ تَمْشِي فِي أَرْضِهَا، إِذْ وَقَعَتْ فِي حُفْرَةٍ، فَمَاتَتْ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ) سليمان بن داود الزهرانيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(حَمَّادُ بْنُ زيدٍ) تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) بن الزبير الأسديّ، أبو المنذر، أو أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ فقيه، ربّما دَلَّس [5](ت 5 أو 146) وله (87) سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.
4 -
(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العوّام بن خُويلد الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه مشهور [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.
و"سعيد بن زيد" رضي الله عنه ذُكر قبله.
وقوله: (أَنَّ أَرْوَى بِنْتَ أُوَيْسٍ) كذا وقع في نسخ "صحيح مسلم" المطبوعة، ومثله في "جامع الأصولَ" لابن الأثير، وكذلك ذَكَر أبو نعيم في "الحلية" اسمها في موضعين، ولكن المعروف "بنت أنيس"، ولم يذكر الحافظ في "الإصابة"، ولا ابن الأثير في "أُسْد الغابة" غير "بنت أنيس"، وجزم الأستاذ محمد ذهني في تعليقه بأنه خطأ من النساخ، والله أعلم
(1)
.
وقوله: (فَخَاصَمَتْهُ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ) بن أبي العاص بن أُميّة،
(1)
راجع: "تكملة فتح الملهم" 1/ 677.
أبو عبد الملك، ليست له صحبة، توفّي سنة (65) تقدّمت ترجمته في "الصيام" 13/ 2589.
وقوله: (فَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَا كُنْتُ آخُذُ مِنْ أَرْضِهَا شَيْئًا؟) هذا قاله إنكارًا لما ادّعته أروى، وقد تقدّم من رواية أبي نعيم في "الحلية" أنه قال: "أنا أظلم أروى حقّها؟ فوالله لقد ألقيت لها ستمائة ذراع من أرضي، من أجل حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
" الحديث.
وقوله: (فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: لَا أَسْأَلُكَ بَيِّنَةً بَعْدَ هَذَا) قال القرطبيّ رحمه الله: "لا أسألك" قرأناه بفتح الكاف، على خطاب سعيد، وهو صحيحٌ، وفيه إشكال، وذلك أن الأرض كانت في يد سعيد، وادَّعَت المرأة أنَّه غصبها إيَّاها، ألا ترى قول عروة: إن أروى ادَّعَت على سعيد أنه أخذ لها شيئًا من أرضها، فهو المدَّعَى عليه، وكيف يُكَلَّف المدَّعَى عليه إقامة البينة على إبطال دعوى الْمُدَّعِي؟! وإنما القضاء كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم للحضرميّ المدَّعِي:"شاهداك، أو يمينه"
(1)
، وإنما يصلح أن يخاطب بهذه الكاف المدَّعِية، وعلى هذا: فينبغي أن تكون مكسورة، ويكون مروان قال لها ذلك كفًّا لها عن تماديها على دعواها؛ لِعِلْمه بصدق سعيد من جهة قرائن أحواله، لا أن الخبر الذي ذكره يدلُّ على براءته من دعواها، لكن ما كان معلومًا من دِينِ سعيد، ومن ورعه، وفضله، وأنه مشهود له بالجنة، وعِظَم هذا الوعيد الشديد الذي سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم مشافهةً مع نزارة هذا القدر المدّعَى عليه به، فحصل عند مروان العلم بصدقه، فقال للمرأة: لا أسألكِ بينة؛ أي: لأنك لا تجدينها بوجه، ثم إنه لم يقض بينهما بشيء، ولم يُحوجه سعيدٌ إلى قضاء، بل بادر إلى أن سلّم لها ما ادَّعته، وزادها من أرضه، فقال: دعوها لها.
قال القرطبيّ: فهذا الذي ظهر لي في هذا الخطاب، فإنه إن كان متوجهًا لسعيد لزم أن يكون مروان عَدَل عن جهة القضاء المنصوص عليها؛ التي لا اختلاف فيها، وأن سعيدًا أقرَّه عليها، وكل ذلك باطل، فتعيَّن ما اخترناه، والله أعلم.
(1)
رواه أحمد في "مسنده"(5/ 211)، والبخاريّ في "صحيحه"(2515 و 2516).
قال: أو يعني بـ "البينة": مَن يَشْهَد لسعيد بصحة الحديث الذي رواه؛ لأنه صدّقه في الرواية، ولم يحتج إلى الاستظهار بزيادة شهادة غيره على ذلك، ولم يُرِد بالبينة هنا الشهادة التي يستند حكم الحاكم إليها؛ لأنها لا تلزم المدّعى عليه، فكيف يُسقِط عنه ما لا يلزم؟. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4128]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الأَرْضِ ظُلْمًا، فَإِنَّهُ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.
2 -
(يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ) الْهَمْدانيّ، أبو سعيد الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 3 أو 184) وله (93) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 121.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه قبل حديث، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4129]
(1611) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَأْخُذُ أَحَذ شِبْرًا مِنَ الأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ، إِلَّا طَوَّقَهُ اللهُ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ").
(1)
"المفهم" 4/ 535 - 536.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم قريبًا.
3 -
(سُهَيْلُ) بن أبي صالح، أبو يزيد المدنيّ، صدوقٌ تغيّر حفظه بآخره [6](ت 138)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 161.
4 -
(أبوه) أبو صالح ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، تقدّم في الباب الماضي، وشرح الحديث واضح يُعلم مما مضى.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [51/ 4129](1611)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2410)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 566)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 387 و 432)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5161 و 5162)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 415)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(3/ 178)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(6/ 216)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 99)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4130]
(1612) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ -يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الْوَارِثِ- حَدَّثَنَا حَرْبٌ - وَهُوَ ابْنُ شَدَّادٍ - حَدَّثَنَا يَحْيَى - وَهُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ - عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ حَدَّثَهُ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ خُصُومَة فِي أَرْضٍ، وَأنهُ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهَا، فَقَالَتْ: يَا أَبَا سَلَمَةَ اجْتَنِبِ الأَرْضَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ
الأَرْضِ، طُوِّقَهُ
(1)
مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ) النُّكْريّ البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 246)(م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 67.
2 -
(عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ) بن سعيد الْعَنْبريّ مولاهم التَّنُّوريّ، أبو سهل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ في شعبة [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.
3 -
(حَرْبُ بْنُ شَدَّادٍ) اليشكريّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ [7](ت 161)(خ م د ت س) تقدم في "الحج" 83/ 3339.
4 -
(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) تقدّم قريبًا.
5 -
(مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن الحارث بن خالد التيميّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ [4](ت 120) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.
6 -
(أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف، تقدّم قريبًا.
7 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت أيضًا قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أن فيه ثلاثةً من التابعين روى بعضهم عن بعض: يحيى، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، وفيه أبو سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث، وفيه قوله:"يعني: ابن عبد الوارث" والقائل هو المصنّف، وإنما أتى به؛ لأن شيخه لم ينسبه إلى أبيه، فزاد "يعني"؛ لئلا ينسب إلى شيخه ما لم يقله، لو قال:"حدّثني عبد الصمد بن عبد الوارث"، ومثله قوله:"وهو ابن شدّاد"، وقوله:"وهو ابن أبي كثير"، الظاهر أنه من قول المصنّف أيضًا، ويَحْتَمِل أن يكون ممن فوقه، وإلى هذه القاعدة أشار السيوطيّ في "ألفيّة الحديث" حيث قال:
وَلَا تَزِدْ فِي نَسَبٍ أَوْ وَصْفِ مَنْ
…
فَوْقَ شُيُوخٍ عَنْهُمُ مَا لَمْ يُبَنْ
بِنَحْوِ "يَعْنِي" أَوْ بِـ "إِنَّ" أَوْ بِـ "هُوْ"
…
أَمَّا إِذَا أتَمَّهُ أَوَّلَه
(1)
وفي نسخة: "طوّقه الله".
أَجِزْهُ فِي الْبَاقِي لَدَى الْجُمْهُورِ
…
وَالْفَصْلُ أَوْلَى قَاصِرَ الْمَذْكُورِ
[فائدة]: قال في "الفتح": في هذا الإسناد ما يُشعر بقلّة تدليس يحيى بن أبي كثير؛ لأنه سمع الكثير من أبي سلمة، وحَدَّث عنه هنا بواسطة محمد بن إبراهيم. انتهى.
شرح الحديث:
(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ) التيميّ (أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف (حَدَّثَهُ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ) قال الحافظ: لم أقف على أسمائهم (خُصُومَةٌ فِي أَرْضٍ، وَأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ) رضي الله عنها (فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهَا، فَقَالَتْ: يَا أَبَا سَلَمَةَ اجْتَنِبِ الأَرْضَ)؛ أي: ابتعِد عن الخصومة في الأرض (فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) الفاء للتعليل؛ أي: لأنه صلى الله عليه وسلم (قَالَ: "مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ) بكسر القاف، وسكون التحتانيّة؛ أي: قَدْره، يقال: هو قِيدُ رُمْح، وقادُ رُمح؛ أي: قدره
(1)
، ويقال أيضًا: قيس وقاس، وقيب وقاب كلها بمعنى واحد (مِنَ الأَرْضِ، طُوِّقَهُ
(2)
مِنْ سَبْع أَرَضِينَ") تقدّم أنه بفتح الراء، ويجوز تسكينها، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [51/ 4130 و 4131](1612)، و (البخاريّ) في "المظالم"(2453) و"بدء الخلق"(3195)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 64 و 79 و 252 و 259).
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4131]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ، أَخْبَرَنَا أَبَانٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَهُ، أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ).
(1)
"المصباح المنير" 2/ 521.
(2)
وفي نسخة: "طوّقه الله".
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الْكَوْسج، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
2 -
(حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ) أبو حبيب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 216)(ع) تقدم في "الإيمان" 55/ 322.
3 -
(أَبَانُ) بن يزيد العطّار، أبو يزيد البصريّ، ثقةٌ له أفراد [7] مات في حدود (160)(خ م ج ت س ق) تقدم في "الطهارة" 1/ 540.
والباقون ذُكروا قبله، و"يحيى" هو: ابن أبي كثير المذكور في السند الماضي.
وقوله: (فَذَكَرَ مِثْلَهُ) فاعل "ذَكَر" ضمير أبان؛ أي: ذَكر أبان بن يزيد عن يحيى بن أبي كثير مثل ما ذكره حرب بن شدّاد عنه.
[تنبيه]: ذكر الحافظ الجيّانيّ في "التقييد"(3/ 869) أنه وقع في نسخة أبي العلاء في إسناد هذا الحديث خطأ، حيث قال:"حبّان بن هلال، نا أبان، نا يحيى بن آدم أن محمد بن إبراهيم حدّثه"، وإنما هو يحيى بن أبي كثير، لا يحيى بن آدم. انتهى.
[تنبيه آخر]: رواية أبان بن زيد، عن يحيى بن أبي كثير هذه ساقها أبو عوانة في "مسنده" (3/ 416) فقال:
وحدثنا أبو أمية، قثنا موسى بن إسماعيل، قثنا أبان بن يزيد، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، حدّثه، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: كنت أخاصم في أرض، فقالت لي عائشة: يا أبا سلمة اجتنب الأرض، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من ظَلَم قِيد شبر من الأرض، طُوِّقه يوم القيامة من سبع أرضين"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(52) - (بَابُ قَدْرِ الطَّرِيقِ إِذَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4132]
(1613) - (حَدَّثَنِي أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي الطَّرِيقِ جُعِلَ عَرْضُهُ سَبْعَ أَذْرُعٍ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ) البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237) وله أكثر من ثمانين سنةَ (خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
2 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ) الدبّاغ البصريّ، مولى حفصة بنت سيرين، ثقةٌ [7](ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 14/ 1674.
3 -
(خَالِدٌ الْحَذَّاءٌ) بن مِهْران، أبو الْمُنازل، ثقةٌ حافظ يرسل، تغيّر حفظه لَمّا قَدِم من الشام [5](ت 1 أو 142)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.
4 -
(يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن الحارث الأنصاريّ مولاهم، أبو الوليد البصريّ، ثقةٌ [5].
رَوَى عن أبيه، وخاله محمد بن سيرين، وأنس بن مالك، وأبي العالية، والأحنف، وجماعة.
ورَوَى عنه ابن عون، وخالد الحذّاء، ومَهْديّ بن ميمون، وعاصم الأحول، وحماد بن سلمة، وغيرهم.
قال ابن معين: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث برقم (1613)، و (2196):"رَخَّص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية من العين والْحُمَة"، وأعاده بعده و (2730) في دعاء الكرب.
5 -
(أَبُوهُ) عبد الله بن الحارث الأنصاريّ، أبو الوليد البصريّ، نَسِيب ابن سيرين، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 26/ 1338.
و"أبو هريرة" رضي الله عنه ذُكر قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه مسلسل بالبصريين غير الصحابيّ، فمدنيّ، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض، ورواية الأَوَّلين من رواية الأقران؛ لأن كليهما من الطبقة الخامسة.
شرح الحديث:
(عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ) عبد الله بن الحارث الأنصاريّ (عَنْ أَبِي هريرةَ) رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا اخْتَلَفتُمْ) وفي رواية البخاريّ: "إذا تشاجروا في الطريق"، تفاعلوا من المشاجرة -بالمعجمة، والجيم-؛ أي: تنازعوا، وللإسماعيليّ:"إذا اختَلَف الناس في الطريق"، ولأبي عوانة في "صحيحه"، وأبي داود، والترمذيّ، وابن ماجه، من طريق بُشَير بن كعب -وهو بالتصغير والمعجمة- عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:"إذا اختلفتم في الطريق، فاجعلوه سبعة أذرع"، ومثله لابن ماجه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
قوله: (في الطريق) زاد المستملي في روايته "الميتاء"
(1)
ولم يتابَع عليه، وليست بمحفوظة في حديث أبي هريرة، وإنما ذكرها المؤلف في الترجمة مشيرًا بها إلى ما ورد في بعض طرق الحديث كعادته، وذلك فيما أخرجه عبد الرزاق، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إذا اختلفتم في الطريق الْمِيتاء، فاجعلوها سبعة أذرع"، ورَوَى عبد الله بن أحمد في "زيادات المسند"، والطبريّ من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: "قَضَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الطريق الْمِيتاء
…
"، فذكره في أثناء حديث طويل، ولابن عديّ من حديث أنس رضي الله عنه: "قَضَى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق الميتاء التي تُؤْتَى من كل مكان
…
"، فذكره، وفي كلٍّ من الأسانيد الثلاثة مقال. انتهى
(2)
.
(1)
"الميتاء" -بميم مكسورة، وتحتانية ساكنة، وبعدها فوقانية، ومدّ بوزن مِفْعال- من الإتيان، والميم زائدة، قال أبو عمرو الشيباني: الميتاء أعظم الطرُق، وهي التي يكثر مرور الناس فيها، وقال غيره: هي الطرق الواسعة، وقيل: العامرة. راجع: "الفتح" 6/ 293.
(2)
"الفتح" 6/ 294.
(جُعِلَ) بالبناء للمفعول (عَرْضُهُ) -بفتح، فسكون: خلاف الطول، يقال: عَرُضَ الشيءُ بضمّ الراء عِرَضًا، وزانُ عِنَبٍ، وعَرَاضَةً بالفتح: اتَّسَعَ عَرْضُهُ، وهو تباعد حاشيتيه، فهو عَرِيض، والجمع عِرَاضٌ، مثلُ كَرِيم وكِرَام، فالْعَرْض: خلاف الطول، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
والمعنى هنا: أنه يُجعل سعة عرضه (سَبْعَ أَذْرُعٍ") قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في أكثر النسخ: "سبع أذرع"، وفي بعضها:"سبعة أذرع"، وهما صحيحان، والذراع يُذكَّر، ويؤنث، والتأنيث أفصح. انتهى.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الذِّرَاعُ": اليدُ من كلّ حيوان، لكنها من الإنسان من الْمَرْفِق إلى أطراف الأصابع، وذِرَاعُ القياس: أنثى في الأكثر، ولفظ ابن السِّكِّيت: الذِّرَاعُ أنثى، وبعض العرب يُذَكّر، قال ابن الأنباريّ: وأنشدنا أبو العباس، عن سلمة، عن الفراء شاهدًا على التأنيث قولَ الشاعر [من الرجز]:
أَرْمِي عَلَيْهَا وَهْيَ فَرْعٌ أَجْمَعُ
…
وَهْيَ ثَلاثُ أَذْرُعٍ وَإِصْبَعُ
وعن الفراء أيضًا: الذِّرَاعُ: أنثى، وبعض عُكْلٍ يُذَكِّر، فيقول: خمسة أذرع، قال ابن الأنباريّ: ولم يَعرف الأصمعيّ التذكيرَ، وقال الزجاج: التذكير شاذّ غير مختار، وجَمْعُها: أَذْرُعٌ، وذُرْعَانٌ، حكاه في "الْعُباب"، وقال سيبويه: لا جمع لها غير أذرع، وذِرَاعُ القِيَاسِ: ستُّ قبضات معتدلات، ويُسَمَّى ذِرَاعَ العَامَّةِ، وإنما سُمِّي بذلك؛ لأنه نَقَصَ قبضةً عن ذِرَاعِ المَلِكِ، وهو بعض الأكاسرة، نقله المطرزيّ. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": الذي يظهر أن المراد بالذراع ذراع الآدميّ، فيُعْتَبر ذلك بالمعتدل، وقيل: المراد بالذراع ذراع البنيان المتعارَف، قال الطبريّ: معناه أن يُجعَل قدر الطريق المشتركة سبعة أذرع، ثم يبقى بعد ذلك لكل واحد من الشركاء في الأرض قَدْرُ ما يَنْتَفِع به، ولا يَضُرّ غيره، والحكمة في جعلها سبعة أذرع؛ لتسلكها الأحمال والأثقال دخولًا وخروجًا، ويسع لا بُدّ لهم من طرحه عند الأبواب، ويلتحق بأهل البنيان مَن قَعَد للبيع في حَافَة الطريق، فإن كانت الطريق أزيد من سبعة أذرع لم يمنع من القعود في الزائد، وإن كان
(1)
"المصباح المنير" 2/ 402.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 207 - 208.
أقلّ مُنِعَ؛ لئلا يُضَيِّق الطريقَ على غيره. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا محمول على أمهات الطرق التي هي ممرّ عامة الخلق بأحمالهم، ومواشيهم، فإذا تشاحّ من له أرض تتصل بها مع من له فيها حقّ جُعِل بينهما سبع أذرع، بالذراع المتعارفة في ذلك طريقًا للناس، وخُلِّي بينهما وبين ما زاد على ذلك، وأما بنيّات الطُّرُق فبحسب ما تدلّ عليه العادة، وتدعو إليه الحاجة، وذلك يختلف بحسب اختلاف أحوال المتنازعين، فليست طريقُ مَن عادته استعمال الدوابّ والمواشي وأهل البادية، كعادة من لا يكون كذلك، من أهل الحاضرة، ولا مسكن الجماعة كمسكن الواحد والاثنين، وإنما ذلك بحسب مصلحتهم، وعلى هذا يَحتاج أهل البادية من توسيع الطريق إلى ما لا يحتاج إليه أهل الحاضرة، وتَحتاج طُرُق الفيافي والقفار من التوسيع أكثر من سبع أذرع؛ لأنها مجرُّ الجيوش والرِّفاق الكبار، وكل هذا تفصيل أصحابنا -يعني: المالكيّة- وصحيح مذهب مالك، ولو جُعل الطريق في كل محلٍّ سبع أذرع لأضرّ ذلك بأملاك كثير من الناس، ويلزم أن تُجعل بنيّات الطرق من الأزقّة وغيرها كالأمهات المسلوكة للناس، وكطرق الفيافي، وذلك مُحالٌ عاديّ، وفسادٌ ضروريٌّ. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
وقال النوويّ رحمه الله: وأما قَدْر الطريق، فإن جَعَل الرجل بعض أرضه المملوك طريقًا مُسَبَّلةً للمارّين، فقدْرها إلى خِيرته، والأفضل توسيعها، وليست هذه الصورة مرادةَ الحديث، وإن كان الطريق بين أرض لقوم، وأرادوا إحياءها، فإن اتَّفَقوا على شيء فذاك، وإن اختلفوا في قدره جُعِل سبع أذرع، وهذا مراد الحديث، أما إذا وجدنا طريقًا مسلوكًا، وهو أكثر من سبعة أذرع، فلا يجوز لأحد أن يستولي على شيء منه، وإن قلَّ، لكن له عِمارة ما حَوَاليه من الموات، ويملكه بالإحياء، بحيث لا يضرّ المارين.
قال: قال أصحابنا -يعني: الشافعيّة-: ومتى وَجدنا جادّة مستطرقةً، ومسلكًا مشروعًا نافذًا حكمنا باستحقاق الاستطراق فيه بظاهر الحال، ولا يُعتبر
(1)
"الفتح" 6/ 294.
(2)
"المفهم" 4/ 533.
مبتدأُ مصيره شارعًا، قال إمام الحرمين وغيره: ولا يحتاج ما يجعله شارعًا إلى لفظ في مصيره شارعًا ومُسَبَّلًا، هذا ما ذكره أصحابنا فيما يتعلق بهذا الحديث.
وقال آخرون: هذا في الأفنية، إذا أراد أهلها البنيان، فيُجعَل طريقهم عرضه سبعة أذرع؛ لدخول الأحمال والأثقال، ومخرجها، وتلاقيها، قال القاضي عياض: هذا كله عند الاختلاف، كما نُصَّ عليه في الحديث، فأما إذا اتَّفَق أهل الأرض على قسمتها، وإخراج طريق منها كيف شاؤوا فلهم ذلك، ولا اعتراض عليهم؛ لأنها ملكهم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب إذا اختلفوا في الطريق الْمِيتاء، وهي الرَّحْبة تكون بين الطريق، ثمّ يريد أهلها البنيان، فتُرك منها للطريق سبعة أذرُع". انتهى.
قال في "الفتح": قوله: "وهي الرَّحْبَة تكون بين الطريقين، ثم يريد أهلها البنيان إلخ
…
" وهو مصير منه إلى اختصاص هذا الحكم بالصورة التي ذكرها، وقد وافقه الطحاويّ على ذلك، فقال: لم نجد لهذا الحديث معنى أولى من حمله على الطريق التي يُراد ابتداؤها، إذا اختَلَف من يبتدئها في قَدْرها، كبَلَد يفتحها المسلمون، وليس فيها طريق مسلوك، وكموات يعطيه الإمام لمن يحييها، إذا أراد أن يَجعل فيها طريقًا للمارّة، ونحو ذلك، وقال غيره: مراد الحديث أن أهل الطريق إذا تراضوا على شيء كان لهم ذلك، وإن اختلفوا جُعِل سبعة أذرع، وكذلك الأرض التي تُزْرَع مثلًا إذا جَعَل أصحابها فيها طريقًا كان باختيارهم، وكذلك الطريق التي لا تُسْلَك إلا في النادر يُرجع في أفنيتها إلى ما يتراضى عليه الجيران. انتهى
(1)
. والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(1)
"الفتح" 6/ 293 - 294.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [52/ 4132](1613)، و (البخاريّ) في "المظالم"(2473)، و (أبو داود) في "الأقضية"(3633)، و (الترمذيّ) في "الأحكام"(1355)، و (ابن ماجه) في "الأحكام"(2238)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 333)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 549)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 69 و 154)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
* * *
22 - (كِتَابُ الْفرائِضِ)
مسائل تتعلّق بهذه الترجمة:
(المسألة الأولى): في بيان وجه مناسبة هذا الكتاب للأبواب السابقة: لَمّا كانت الكتب السابقة، من البيع، والمزارعة، والمساقاة، والشفعة من وسائل اكتساب المال بالمال، أو بالجهد والعمل، أعقبه المصنّف رحمه الله بذكر ما يحصل به المال بغير مال، ولا جهد، أو عمل، وهو الميراث، والهبة، والوصيّة. فلذا جاء بكتاب الفرائض بعد كتاب البيوع، ثم أعقبه بكتاب الهبة، ثم بكتاب الوصيّة. أفاده بعض المحقّقين
(1)
.
(المسألة الثانية): (اعلم): أن علم الفرائض من أهمّ العلوم الدينيّة، وأدلّ دليل على ذلك اهتمام الشارع به اهتمامًا زائدًا، فبينما نرى القرآن الكريم يكتفي في أكثر أبواب الأحكام ببيان أصول كليّة دون التعرّض للجزئيّات والتفاصيل في الغالب، نجده في باب الفرائض يهتمّ ببيان جزئيّاته وتفاصيله الدقيقة، ويصرّح بذكر السهام لكلّ واحد من الورثة في بسط واستقصاء، وهذا فيه دلالة واضحة على أهميّة علم الفرائض.
وأما الأحاديث الواردة في فضل الفرائض وتعلّمها، فليست صحيحة، وإنما العمدة هو دلالة الكتاب، كما ذكرته آنفًا.
(فمنها): حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعلّموا
العلم، وعلّموه الناس، تعلّموا الفرائض، وعلّموه الناس، تعلّموا القرآن، وعلّموه الناس، فإني امرؤ مقبوض، والعلم سيقبض، وتظهر الفتن، حتى يختلف اثنان في فريضة، لا يجدان أحدًا يفصل بينهما"، أخرجه الدارميّ، وهو
(1)
راجع: "تكملة فتح الملهم" 2/ 5.
حديث ضعيف؛ للاضطراب فيه، ولأن في سنده سليمان بن جابر الهجريّ، وهو مجهول.
(ومنها): حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعلّموا القرآن، وعلّموه الناس، وتعلّموا الفرائض، وعلّموها الناس، أوشك أن يأتي على الناس زمان، يختصم رجلان في الفريضة، فلا يجدان من يفصل بينهما"، رواه الطبرانيّ في "الأوسط"
(1)
.
وهو أيضًا حديث ضعيف؛ لأن في إسناده راشد الحمانيّ، وهو مقبول، والراوي عنه مجهول.
(ومنها): حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "تعلّموا الفرائض، وعلّموه الناس، فإنه نصف العلم، وهو يُنْسَى، وهو أول شيء يُنزَع من أمتي"، أخرجه ابن ماجه، وهو ضعيف؛ لأن في إسناده حفص بن عمر بن أبي العطاف، وهو ضعيف، وصححه الحاكم، وتعقّبه الذهبيّ بأن حفص بن عمر وَاهٍ بمرّة.
(ومنها): حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العلم ثلاثة، وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة، أو سُنَّة قائمة، أو فريضة عادلة"، أخرجه أبو داود، والحاكم، وصححه، وتعقّبه الذهبيّ، وهو كما قال؛ لأن في سنده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقيّ، وهو ضعيف، وشيخه عبد الرحمن بن رافع التنوخيّ، قاضي إفريقية منكر الحديث، قاله الذهبيّ، وغيره.
وبالجملة فالأحاديث الواردة في هذا الباب ضعيفة، فتنبّه، والله تعالى وليّ التوفيق.
(المسألة الثالثة): في تعريف "الفرائض":
الفرائض: جمع فَرِيضة، كحديقة وحدائق، والفريضة فَعِيلة بمعنى مفروضة، مأخوذة من الفَرْض، وهو القطع، يقال: فَرَضتُ لفلان كذا؛ أي:
(1)
"المعجم الأوسط" 4/ 237.
قطعت له شيئًا من المال، قاله الخطابيّ
(1)
. وقيل: هو من فَرض القوس، وهو الحزّ الذي في طرفيه، حيث يوضع الْوَتَرُ ليثبت فيه، ويلزمه، ولا يزول، وقيل: الثاني خاصّ بفرائض الله، وهي ما أَلزَم به عباده، وقال الراغب: الفرض قطع الشيء الصَّلْب، والتأثير فيه، وخُصّت المواريث باسم الفرائض، من قوله تعالى:{نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 118]؛ أي: مُقَدَّرًا، أو معلومًا، أو مقطوعًا عن غيرهم، قاله في "الفتح"
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: الفرائض: هي جمع فريضة، من الْفَرْض، وهو التقدير؛ لأن سُهمان الفروض مقدَّرة، ويقال للعالم بالفرائض: فَرَضيٌّ؛ وفارض، وفَرِيضٌ، كعالم، وعَليم، حكاه المبرّد، وأما الإرث في الميراث، فقال المبرّد: أصله: العاقبة، ومعناه الانتقال من واحد إلى آخر. انتهى
(3)
.
وقال الفيوميّ رحمه الله: فُرْضَةُ القوس موضع حَزّها للوتر، والجمع: فُرَضٌ، وفِرَاضٌ، مثلُ بُرْمة وبُرَمٍ، وبِرَام، والفُرْضَةُ في الحائط ونحوه، كالفُرْجَة، وجمعها: فُرَضٌ، وفُرْضَةُ النهر الثُّلْمَة التي ينحدر منها الماء، وتصعد منها السفن، وفَرَضْتُ الخشبة فَرْضًا، من باب ضَرَبَ: حززتها، وفَرَضَ القاضي النَّفَقَةَ فَرْضًا أيضًا: قَدَّرها، وحَكَمَ بها، والفَرِيضَةُ: فَعِيلة بمعنى مفعولة، والجمع: فَرائضُ، قيل: اشتقاقها من الفَرْضِ الذي هو: التقدير؛ لأن الفَرَائِضَ مقدَّرات، وقيل: من فَرْضِ القوس، وقد اشتهر على ألسنة الناس:"تَعَلَّمُوا الفَرائِضَ، وعَلِّموُهَا النَّاسَ، فَإنَّها نِصْفُ العِلْمِ"، بتأنيث الضمير، وإعادته إلى الفرائض؛ لأنها جمع مؤنث، ونُقِلَ:"وعلّموه، فإنه نصف العلم" بالتذكير، بإعادته على محذوف؛ تنبيهًا على حذفه، والتقدير: تعلّموا علم الفَرَائِضِ، ومثله في التنزيل:{وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)} [الأعراف: 4] والأصل: كم من أهل قرية، فأعاد الضمير في قوله:{أَهْلَكْنَاهَا} على المضاف إليه، وفي قوله:{هُمْ قَائِلُونَ} على المضاف المحذوف، قيل:
(1)
"غريب الحديث" للخظابيّ 2/ 45 - 46.
(2)
"الفتح" 15/ 418 - 419 رقم (6723).
(3)
"شرح النوويّ" 11/ 51 - 52.
سَمّاه نصفَ العلم باعتبار قسمة الأحكام إلى متعلِّق بالحيّ، وإلى متعلِّق بالميت، وقيل: توسعًا، والمراد: الحثّ عليه، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:"الحجُّ عَرَفةُ". انتهى
(1)
.
(المسألة الرابعة): في بيان بعض أسرار التوارث:
(اعلم): أن الشيخ وليّ الله الدهلويّ رحمه الله تكلم في هذا الموضوع في كتابه النافع "حجة الله البالغة"، فأجاد، وأفاد، قال رحمه الله: ومسائل المواريث تبتنى على أصول:
(منها): أن المعتبر في هذا الباب هو المصاحبة الطبيعية، والمناصرة، والموادة التي هي كمذهب جِبِلّيّ، دون الاتفاقات الطارئة، فإنها غير مضبوطة، ولا يمكن أن يبنى عليها النواميس الكلية، وهو قوله تعالى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75]، فلذلك لم يُجعل الميراث إلا لأولي الأرحام غير الزوجين، فإنهما لاحقان بأولي الأرحام، داخلان في تضاعيفهم؛ لوجوه:
منها: تأكيد التعاون في تدبير المنزل، والحث على أن يعرف كل واحد منهما ضرر الآخر ونفعه، راجعا إلى نفسه.
ومنها: أن الزوج ينفق عليها، ويستودع منها ماله، ويأمنها على ذات يده حتى يتخيل أن جميع ما تركته أو بعض ذلك حقه في الحقيقة، وتلك خصومة لا تكاد تنصرم، فعالج الشرع هذا الداء بأن جعل له الربع، أو النصف؛ ليكون جابرًا لقلبه، وكاسرًا لسورة خصومته.
ومنها: أن الزوجة ربما تَلِد من زوجها أولادًا هم من قوم الرجل، لا محالة، وأهل نسبه ومنصبه، واتصال الإنسان بأمه لا ينقطع أبدًا، فمن هذا الجهة تدخل الزوجة في تضاعيف من لا ينفك عن قومه، وتصير بمنزلة ذوي الأرحام.
ومنها: أنه يجب عليها بعده أن تعتد في بيته لمصالح لا تخفى، ولا مُتَكَفِّل لمعيشتها من قومه، فوجب أن تُجعل كفايتها في مال الزوج، ولا يمكن
(1)
"المصباح المنير" 2/ 468 - 469.
أن يجعل قَدْرًا معلومًا؛ لأنه لا يُدرى كم يترك، فوجب جزء شائع؛ كالثُّمُن، والربع.
ومنها: أن القرابة نوعان:
أحدهما: ما يقتضي المشاركة في الحسب والمنصب، وأن يكونا من قوم واحد، وفي منزلة واحدة.
وثانيهما: ما لا يقتضي المشاركة في الحسب والنسب والمنزلة، ولكنه مَظِنّة الودّ والرفق، وأنه لو كان أمر قسمة التركة إلى الميت لَمَا جاوز تلك القرابة، ويجب أن يُفَضَّل النوع الأول على الثاني؛ لأن الناس عربهم وعجمهم يرون إخراج منصب الرجل، وثروته من قومه إلى قوم آخرين جورًا وهضمًا، ويسخطون على ذلك، وإذا أُعطي مال الرجل ومنصبه لمن يقوم مقامه من قومه، رأوا ذلك عدلًا، ورضوا به، وذلك كالجبلّة التي لا تنفك منهم، إلا أن تقطع قلوبهم، اللهم إلا في زماننا حين اختلت الأنساب، ولم يكن تَناصُرهم بنسبهم، ولا يجوز أن يُهْمَل حق النوع الثاني أيضًا بعد ذلك، ولذلك كان نصيب الأم مع أن بِرّها أوجب، وصلتها أوكد أقل من نصيب البنت والأخت، فإنها ليست من قوم ابنها، ولا من أهل حسبه ونسبه ومنصبه وشرفه، ولا ممن يقوم مقامه، ألا ترى أن الابن ربما يكون هاشميًّا، والأم حبشية، والابن قرشيًّا، والأم عجمية، والابن من بيت الخلافة، والأم مغموصًا عليها بعهر ودناءة، أما البنت والأخت فهما من قوم المرء، وأهل منصبه، وكذلك أولاد الأم لم يرثوا حين ورثوا إلا ثلثًا، لا يزاد لهم عليه البتة، ألا ترى أن الرجل يكون من قريش، وأخوه لأمه من تميم، وقد يكون بين القبيلتين خصومة، فينصر كل رجل قومه على قوم الآخر، ولا يرى الناس قيامه مقام أخيه عدلًا، وكذلك الزوجة التي هي لاحقة بذوي الأرحام داخلة في تضاعيفها، لم تجد إلا أوكس الأنصباء، وإذا اجتمعت جماعة منهنّ اشتركن في ذلك النصيب، ولم يَرْزَأْنَ سائر الورثة البتة، ألا ترى أنها تتزوج بعد بعلها زوجًا غيره، فتنقطع العلاقة بالكلية.
وبالجملة فالتوارث يدور على معان ثلاثة: القيام مقام الميت في شرفه ومنصبه، وما هو من هذا الباب، فإن الإنسان يسعى كل السعي ليبقى له خلف يقوم مقامه.
والخدمة، والمواساة، والرفق، والحدب عليه من هذا الباب.
الثالث: القرابة المتضمنة لهذين المعنيين جميعًا، والأقدم بالاعتبار هو الثالث، ومظنتها جميعًا على وجه الكمال من يدخل في عمود النسب، كالأب، والجدّ، والابن، وابن الابن، فهؤلاء أحقّ الورثة بالميراث، غير أن قيام الابن مقام أبيه، هو الوضع الطبيعيّ الذي عليه بناء العالم من انقراض قرن، وقيام القرن الثاني مقامهم، وهو الذي يرجونه، ويتوقعونه، ويحصلون الأولاد والأحفاد لأجله، أما قيام الأب بعد ابنه، فكأنه ليس بوضع طبيعيّ، ولا ما يطلبونه، ويتوقعونه، ولو أن الرجل خُيِّر في ماله لكانت مواساة ولده أملك لقلبه من مواساة والده، فلذلك كانت السُّنَّة الفاشية في طوائف الناس تقديم الأولاد على الآباء، أما القيام مقامه فمظنته بعدما ذكرنا الإخوة، ومن في معناهم ممن هم كالعضد، وكالصنو، ومن قوم المرء، وأهل نسبه وشرفه، وأما الخدمة والرفق فمظنة القرابة القريبة، فالأحقّ به الأم والبنت، ومن في معناهما، ممن يدخل في عمود النسب، ولا تخلو البنت من قيابم ما مقامه، ثم الأخت، ولا تخلو أيضًا من قيامٍ ما مقامه، ثم مَن به علاقة التزوج، ثم أولاد الأم، والنساء لا يوجد فيهنّ معنى الحماية، والقيام مقامه، كيف والنساء ربما تزوّجن في قوم آخرين، ويدخلن فيهم، اللهم إلا البنت والأخت على ضعف فيهما، ويوجد في النساء معنى الرفق والحدب كاملًا موفَّرًا، وإنما مظنة القرابة القريبة جدًّا؛ كالأم، والبنت، ثم الأخت؛ دون البعيدة؛ كالعمة، وعمة الأب، والباب الأول يوجد في الأب والابن كاملًا، ثم الإخوة، ثم الأعمام، والمعنى الثاني يوجد في الأب كاملًا، ثم الابن، ثم الأخ لأب وأم، أو لأم، وإنما مظنة القرابة القريبة دون البعيدة، فمن ثَمَّ لم يُجعل للعمة شيء مما للعمّ؛ لأنها لا تذُبّ عنه، كما يذُبّ العم، وليست كالأخت في القرب.
ومنها: أن الذكر يُفَضَّل على الأنثى، إذا كانا في منزلة واحدة أبدًا؛ لاختصاص الذكور بحماية البيضة، والذبّ عن الذِّمار، ولأن الرجال عليهم إنفاقات كثيرة، فهم أحقّ ما يكون شبه الْمُجّان، بخلاف النساء، فإنهن كَلٌّ على أزواجهن، أو آبائهن، أو أبنائهن، وهو قوله تعالى:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا} [النساء: 34]، وقال ابن
مسعود رضي الله عنه في مسألة ثلث الباقي: ما كان الله لِيَريَنِّي أن أفضّل أمًّا على أب، غير أن الوالد لمّا اعتبر فَضَّله مرة بجمعه بين العصوبة والفرض، ولم يعتبر ثانيًا بتضاعف نصيبه أيضًا، فإنه غمط لحقّ سائر الورثة، وأولاد الأم ليس للذكر منهم حماية للبيضة، ولا ذبّ عن الذمار، فإنهم من قوم آخرين، فلم يُفَضَّل على الأنثى، وأيضًا فإن قرابتهم منشعبة من قرابة الأم، فكأنهم جميعًا إناث.
ومنها: أنه إذا اجتمع جماعة من الورثة، فإن كانوا في مرتبة واحدة، وجب أن يوزع عليهم؛ لعدم تقدم واحد منهم على الآخر، وإن كانوا في منازل شتى، فذلك على وجهين، إما أن يعمهم اسم واحد، أو جهة واحدة، والأصل فيه أن الأقرب يحجب الأبعد حرمانًا؛ لأن التوارث إنما شرع حثًّا على التعاون، ولكل قرابة وتعاون، كالرفق فيمن يعمهم اسم الأم، والقيام مقام الرجل فيمن يعمهم اسم الابن، والذبّ عنه، فيمن يعمهم اسم العصوبة، ولا تتحقق هذه المصلحة إلا بأن يتعيّن من يؤاخذ نفسه بذلك، ويلام على تركه، ويتميز مِنْ سائر مَن هنالك بالنّبل، إما فضل سهم على سهم، فلا يجدون له كثير بال، أو تكون أسماؤهم وجهاتهم مختلفة، والأصل فيه أن الأقرب، والأنفع فيما عند الله مِنْ عِلْم المظانّ الغالبية، يحجب الأبعد نقصانًا.
ومنها: أن السهام التي تعيّن بها الأنصباء يجب أن تكون أجزاؤها ظاهرة يتميزها بادئ الرأي المحاسب وغيره، وقد أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله:"إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب" إلى أن الذي يليق أن يخاطب به جمهور المكلفين هو ما لا يحتاج إلى تعمق في الحساب، ويجب أن يكون بحيث يظهر فيها ترتيب الفضل والنقصان بادئ الرأي، فآثر الشرع من السهام فصلين: الأول الثلثان والثلث والسدس، والثاني النصف والربع والثمن، فإن مخرجهما الأصليّ أولًا الأعداد، ويتحقق فيهما ثلاث مراتب، بَيْن كل منها نسبة الشيء إلى ضعفه، ترفعًا، ونصفه تنزلًا، وذلك أدنى أن يظهر فيه الفضل والنقصان محسوسًا متبينًا، ثم إذا اعتُبر فضلٌ ظهرت نسب أخرى لا بد منها في الباب؛ كالشيء الذي زيد على النصف، فلا يبلغ التمام، وهو الثلثان، والشيء الذي ينقص عن النصف، ولا يبلغ الربع، وهو الثلث، ولم يعتبر الخمس والسبع؛ لأن تخريج مخرجهما أدقّ، والترفع والتنزل فيهما يحتاج إلى تعمق في
الحساب، وقال الله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11]، أقول: يَضْعَف نصيب الذكر على الأنثى، وهو قوله تعالى:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ} [النساء: 34]، وللبنت المنفردة النصف؛ لأنه إن كان ابن واحد لأحاط المال، فمن حق البنت الواحدة أن تأخذ نصفه قضية للتضعيف، والبنتان حكمهما حكم الثلاث بالإجماع، وإنما أعطيتا الثلثين؛ لأنه لو كان مع البنت ابن لوجدت الثلث، فالبنت الأخرى أولى ألا ترزأ نصيبها من الثلث، وإنما أُفْضِل للعصبة الثلث؛ لأن للبنات معونةً، وللعصبات معونةً، فلم يُسقط إحداهما الأخرى، لكن كانت الحكمة أن يُفَضَّل من في عمود النسب على من يحيط به من جوانبه، وذلك نسبة الثلثين من الثلث، وكذلك حال الوالدين مع البنين والبنات، وقال الله تعالى:{وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} الآية [النساء: 11].
أقول: قد علمتَ أن الأولاد أحقّ بالميراث من الوالدين، وذلك بأن يكون لهم الثلثان، ولهما الثلث، وإنما لم يجعل نصيب الوالد أكثر من نصيب الأم؛ لأنه اعتبر فضله من جهة قيامه مقام الولد، وذبه عنه مرة واحدة بالعصوبة، فلا يعتبر ذلك الفضل بعينه في حقّ التضعيف أيضًا، وعند عدم الولد لا أحقّ من الوالدين، فأحاط تمام الميراث، وفُضِّل الأب على الأم، وقد علمت أن الفضل المعتبر في أكثر هذه المسائل فضل التضعيف، ثم إن كان الميراث للأم والإخوة، وهم أكثر من واحد، وجب أن ينقص سهمها إلى السدس؛ لأنه إن لم تكن الإخوة عصبة، وكانت العصبات أبعد من ذلك، فالعصوبة والرفق والمودة على السواء، فجُعل النصف لهؤلاء، والنصف لهؤلاء، ثم قسم النصف على الأم وأولادها، فجعل السدس لها البتة، لا ينقص سهمها منه، والباقي لهم جميعًا، وإن كانت الإخوة عصبات، فقد اجتمع فيهم القرابة القريبة، والحماية، وكثيرًا ما يكون مع ذلك ورثة آخرون، كالبنت، والبنين، والزوج، فلو لم يجعل لها السدس حصل التفسيق عليهم، وقال تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ
وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12].
أقول: الزوج يأخذ الميراث؛ لأنه ذو اليد عليها، وعلى مالها، فإخراج المال من يده يسوؤه، ولأنه يودعِّ منها، ويأمنها في ذات يده حتى يتخيل أن له حقًّا قويًّا فيما في يدها، أو الزوجة تأخذ حقّ الخدمة والمواساة والرفق، ففضل الزوج على الزوجة، وهو قوله تعالى:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34]، ثم اعتُبر ألا يضيّقا على الأولاد، وقد علمت أن الفضل المعتبر في أكثر المسائل فضل التضعيف، قال تعالى:{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12].
أقول: هذه الآية في أولاد الأمّ؛ للإجماع، ولمّا لم يكن له والد ولا ولد جُعِل لحقّ الرفق -إذا كانت فيهم الأمّ- النصف، ولحقّ النصرة والحماية النصف، فإن لم تكن أم جُعل لهم الثلثان، ولهؤلاء الثلث، قال الله تعالى:{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} الآية [النساء: 176].
أقول: هذه الآية في أولاد الأب بني الأعيان، وبني العّلات بالإجماع، والكلالة من لا والد له، ولا ولد، وقوله:{لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} ، كشف لبعض حقيقة الكلالة، والجملة في ذلك أنه إذا لم يوجد من يدخل في عمود النسب، حُمِل أقرب من يشبه الأولاد، وهم الإخوة والأخوات على الأولاد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر".
أقول: قد علمت أن الأصل في التوارث معنيان، وقد ذكرناهما، وأن المودّة والرفق لا يُعتبر إلا في القرابة القريبة جدًّا كالأمّ، والإخوة، دون ما سوى ذلك، فإذا جاوزهم الأمر تعيَّن التوارث بمعنى القيام مقام الميت، والنصرة له، وذلك قوم الميت، وأهل نسبه، وشرفه الأقرب فالأقرب، قال صلى الله عليه وسلم:"لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم".
أقول: إنما شُرع ذلك؛ ليكون طريقًا إلى قطع المواساة بينهما، فإن اختلاط المسلم بالكافر يفسد عليه دينه، وهو قوله تعالى في حكم النكاح:{أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّار} [البقرة: 221].
وقال صلى الله عليه وسلم: "القاتل لا يرث"، أقول: إنما شُرع ذلك؛ لأن من الحوادث الكثيرة الوقوع أن يقتل الوارث مُوَرِّثه؛ ليحرز ماله، لا سيما في أبناء العم ونحوهم، فيجب أن تكون السُّنَّة بينهم تأييس مَن فَعَلَ ذلك عما أراده؛ لتقطع عنهم تلك المفسدة.
وجرت السُّنَّة ألا يرث العبد، ولا يورَث، وذلك لأن ماله لسيده، والسيد أجنبيّ.
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أعيان بني الأم يتوارثون، دون بني العلات"، أقول: وذلك لِمَا ذكرنا من أن القيام مقام الميت مبناه على الاختصاص، وحجب الأقرب والأبعد بالحرمان، وأجمعت الصحابة رضي الله عنهم في زوج وأبوين، وامرأة وأبوين، أن للأم ثلث الباقي، وقد بَيَّن ابن مسعود زعبه ذلك بما لا مزيد عليه، حيث قال: ما كان الله ليريني أن أفضل أمًّا على أب.
وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بنت وابنة ابن، وأخت لأب وأم، للابنة النصف، ولابنة الابن السدس، وما بقي فللأخت، أقول: وذلك لأن الأبعد لا يزاحم الأقرب فيما يجوزه، فما بقي، فإن الأبعد أحقّ به حتى يستوفي ما جعل الله لذلك النصف، فالابنة تأخذ النصف كاملًا، وابنة الابن في حكم البنات، فلم تزاحم البنت الحقيقية، واستوفت ما بقي من نصيب البنات، ثم كانت الأخت عصبةً؛ لأن فيها معنى من القيام مقام البنت، وهي من أهل شرفه.
وقال عمر رضي الله عنه في زوج وأم وإخوة لأب وأم وإخوة لأم: لم يزدهم الأب إلا قربًا، وتابع عليه ابن مسعود، وزيد، وشُريح رضي الله عنهم خلائق، وهذا القول أوفق الأقوال بقوانين الشرع، وقضى للجدة بالسدس إقامة لها مقام الأم عند عدمها.
وكان أبو بكر، وعثمان، وابن عباس رضي الله عنهم يجعلون الجد أبًا، وهو أولى الأقوال عندي.
وأما الولاء فالسرّ فيه النصرة، وحماية البيضة، فالأحقّ بها مولى النعمة، ثم بعده الذكور من قومه، الأقرب فالأقرب، والله أعلم. انتهى كلام الشيخ وليّ الله الدهلويّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1) - (بَابٌ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4133]
(1614) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ -وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى- قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه تقدّم قبل بابين.
4 -
(ابْنُ عُيَيْنَةَ) سفيان، تقدّم قبل باب.
5 -
(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم، تقدّم أيضًا قبل باب.
6 -
(عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنِ) بن عليّ بن أبي طالب، زين العابدين، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ فقيهٌ فاضلٌ مشهور [3](ت 93)(ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 30/ 1818.
7 -
(عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ) بن عفّان بن العاص الأمويّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الجنائز" 9/ 2149.
8 -
(أُسَامَة بْنُ زيدِ) بن حارثة بن شراحيل الْكَلبيّ الأمير، أبو محمد، أو أبو زيد الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما مات سنة (54) وهو ابن (75) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 284.
(1)
"حجة الله البالغة" 2/ 154.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه مسلسلٌ بالمدنيين من الزهريّ، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض، وأن صحابيّه ابن صحابيّ، حِبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن حبّه رضي الله عنهما.
شرح الحديث:
(عَنِ الزُّهْرِيِّ) محمد بن مسلم (عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ) المعروف بزين العابدين (عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ) بن عفّان.
[تنبيه]: قال في "الفتح": اتَّفَقَ الرواة عن الزهريّ أن عَمْرو بن عثمان بفتح أوله، وسكون الميم، إلا أن مالكًا وحده قال: عُمَر -بضم أوله، وفتح الميم- وشَذَّت روايات عن غير مالك على وفقه، وروايات عن مالك على وفق الجمهور، وقد بَيَّن ذلك ابن عبد البر وغيره، ولم يُخرج البخاريّ رواية مالك، وقد عَدَّ ذلك ابن الصلاح في "علوم الحديث" له في أمثلة المنكر، وفيه نظرٌ أوضحه شيخنا في "النكت"، وزدت عليه في الإيضاح. انتهى.
وعبارة العراقيّ في "التقييد والإيضاح " -بعد ذكر كلام ابن الصلاح-: حَكَمَ المصنف -يعني: ابن الصلاح- على حديث مالك هذا بأنه منكر، ولم أجد من أطلق عليه اسم النكارة، ولا يلزم من تفرد مالك بقوله في الإسناد:"عُمَر" أن يكون المتن منكرًا، فالمتن على كل حال صحيح؛ لأن عُمَر وعَمْرًا كلاهما ثقةٌ، وقد ذكر ابن الصلاح مثل ما أشرت إليه في النوع "الثامن عشر" أن من أمثلة ما وقعت العلة في إسناده من غير قدح في المتن ما رواه الثقة يعلى بن عبيد، عن سفيان الثوريّ، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "الْبَيِّعَان بالخيار
…
" الحديث، قال: فهذا إسناد متّصِلٌ بنقل العدل عن العدل، وهو مُعَلٌّ غير صحيح، قال: والمتن على كل حال صحيح، والعلة في قوله: عن عمرو بن دينار، إنما هو عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، هكذا رواه الأئمة من أصحاب سفيان عنه، فوَهِمَ يعلى بن عبيد، وعَدَل عن عبد الله بن دينار إلى عمرو بن دينار، وكلاهما ثقةٌ. انتهى كلامه.
فجَعَل الوهم في الإسناد بذكر ثقةٌ آخر لا يُخرج ذلك المتن عن كونه صحيحًا، فهكذا يجب أن يكون الحكم هنا.
على أنه قد اختُلِف على مالك في قوله: عُمَر وعَمْرو، فرواه النسائيّ في "سننه" من رواية عبد الله بن المبارك، وزيد بن الْحُبَاب، ومعاوية بن هشام، ثلاثتهم عن مالك، فقالوا في روايتهم: عَمْرو بن عثمان، كرواية بقية أصحاب الزهريّ، لكن قال النسائيّ بعده: والصواب من حديث مالك عن عُمر بن عثمان، قال: ولا نعلم أحدًا تابع مالكًا على قوله: عُمَر بن عثمان. انتهى.
وقال ابن عبد البرّ في "التمهيد": إن يحيى بن بكير رواه عن مالك على الشكّ، فقال فيه: عن عَمْرو بن عثمان، أو عُمَر بن عثمان، قال: والثابت عن مالك: عُمَر بن عثمان، كما رَوَى يحيى، وتابعه القعنبيّ، وأكثر الرواة. انتهى.
وقد خالف مالكًا في ذلك: ابنُ جريج، وسفيان بن عُيينة، وهُشيم بن بشير، ويونس بن يزيد، ومعمر بن راشد، وابن الهاد، ومحمد بن أبي حفصة، وغيرهم، فقالوا: عَمْرو، وهو الصواب، والله أعلم.
وقد رواه سفيان الثوريّ، وشعبة، عن عبد الله بن عيسى، عن الزهريّ، فخالفا فيه الفريقين معًا، فأسقطا منه ذكر عَمرو بن عثمان، وجعلاه من رواية عليّ بن حسين، عن أسامة، والصواب رواية الجمهور، والله أعلم. انتهى
(1)
.
(عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زيدٍ) رضي الله عنهما (أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ") وفي بعض النسخ: "ولا الكافر المسلم" بحذف لفظة "يرث"، وعند البخاريّ في "المغازي" بلفظ:"المؤمن" في الموضعين، وأخرجه النسائيّ من رواية هشيم، عن الزهريّ بلفظ:"لا يتوارث أهل ملتين"، وجاءت رواية شاذّة عن ابن عيينة، عن الزهريّ مثلها، وله شاهد عند الترمذيّ من حديث جابر رضي الله عنه، وآخر من حديث عائشة رضي الله عنها عند أبي يعدى، وثالث من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، في السنن الأربعة، وسند أبي داود فيه إلى عَمْرو صحيح.
وتمسك بها من قال: لا يرث أهل ملة كافرة من أهل ملة أخرى كافرة، وحملها الجمهور على أن المراد بإحدى الملتين الإسلام، وبالأخرى الكفر، فيكون مساويًا للرواية التي بلفظ حديث الباب، وهو أولى من حملها على ظاهر
(1)
"التقييد والإيضاح" 1/ 106 - 108.
عمومها، حتى يمتنع على اليهوديّ مثلًا أن يرث من النصرانيّ.
واستُدِلّ بقوله: "لا يرث الكافر المسلم" على جواز تخصيص عموم الكتاب بالآحاد؛ لأن قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] عامّ في الأولاد، فخُصّ منه الولد الكافر، فلا يرث من المسلم بالحديث المذكور.
وأجيب بأن المنع حَصَل بالإجماع، وخبر الواحد إذا حصل الإجماع على وفقه، كان التخصيص بالإجماع، لا بالخبر فقط.
قال الحافظ: لكن يَحتاج من احتج في الشقّ الثاني به إلى جواب، وقد قال بعض الْحُذّاق: طريق العامّ هنا قطعيّ، ودلالته على كل فرد ظنية، وطريق الخاصّ هنا ظنية، ودلالته عليه قطعيةٌ، فيتعادلان، ثم يترجح الخاصّ بأن العمل به يستلزم الجمع بين الدليلين المذكورين، بخلاف عكسه. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ أن تخصيص عموم الكتاب بخبر الآحاد جائز، وواقع، كما أوضحت تحقيقه في "التحفة المرضيّة"، و"شرحها"، فراجعها تستفد، والله تعالى وليّ التوفيق.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 4133](1614)، و (البخاريّ) في "الفرائض"(4282 و 6864)، و (أبو داود) في "سننه"(2909)، و (الترمذيّ) في "جامعه"(2107)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 82 - 82)، و (ابن ماجه) في "سننه"(2730)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 519 - 520)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 235)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(6/ 14 - 15)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 283 - 284)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 248)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 200 و 201 و 208)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 466 و 467)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 240)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 384)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(1/ 84 - 85)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 161) و"الكبير"(1/ 167)، و (البزّار) في "مسنده" (7/ 33
و 38)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 435 - و 436)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 265 و 266)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 217 و 218 و 254) و"الصغرى"(7/ 206) و"المعرفة"(5/ 42 و 68 و 69 و 6/ 311 و 312 و 314)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في العمل بهذا الحديث:
قال النوويّ رحمه الله: أجمع المسلمون على أن الكافر لا يرث المسلم، وأما المسلم فلا يرث الكافر أيضًا عند جماهير العلماء، من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم.
وذهبت طائفة إلى توريث المسلم من الكافر، وهو مذهب معاذ بن جبل، ومعاوية، وسعيد بن المسيِّب، ومسروق، وغيرهم، ورُوي أيضًا عن أبي الدرداء، والشعبيّ، والزهريّ، والنخعيّ نحوه، على خلاف بينهم في ذلك، والصحيح عن هؤلاء كقول الجمهور، واحتَجُّوا بحديث:"الإسلام يعلو، ولا يُعْلَى عليه"
(1)
.
وحجة الجمهور هنا الحديث الصحيح الصريح، ولا حجة في حديث:"الإسلام يعلو، ولا يعلى عليه"؛ لأن المراد به فضل الإسلام على غيره، ولم يتعرض فيه لميراث، فكيف يترك به نصّ حديث:"لا يرث المسلم الكافر"؟ ولعل هذه الطائفة لم يبلغها هذا الحديث. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: تضمَّن حديث الباب أمرين:
أحدهما: مجمع على منعه؛ وهو: ميراث الكافر للمسلم.
والثاني: مختلف فيه؛ وهو: ميراث المسلم الكافر؛ فذهب إلى منعه الجمهور من السَّلف ومَنْ بعدهم؛ فمنهم: عمر، وعليّ، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وجمهور أهل الحجاز والعراق: مالك، والشافعيّ، وأبو حنيفة، وابن حنبل، وعامة العلماء. وذهب إلى توريث المسلم من الكافر
(1)
حديث حسن، أخرجه الرويانيّ، والبيهقيّ، والضياء عن عائذ بن عمرو. راجع:"صحيح الجامع" للشيخ الألبانيّ رحمه الله رقم (2778).
(2)
"شرح النوويّ" 11/ 52.
معاذ، ومعاوية، وابن المسيب، ومسروق، وغيرهم. ورُوي عن أبي الدرداء، والشعبيّ، والنخعيّ، والزهريّ، وإسحاق، والحديث المتقدِّم حجُّةٌ عليهم، ويَعْضُده حديث أسامة بن زيد؛ وهو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتوارث أهل ملتين"، ونحوه في كتاب أبي داود، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه.
وقد احتُجَّ للقول الثاني بما خرَّجه أبو داود من حديث يحيى بن يعمر؛ واختصم إليه أخوان - يهودي ومسلم، فورَّث المسلم منهما، وقال: حدثني أبو الأسود: أن رجلًا حدثه: أن معاذًا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الإسلام يزيد، ولا ينقص"
(1)
؛ فورَّث المسلم، وبما يُحكى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: أنَّه قال -إن صحَّ-: "إن الإسلام يعلو ولا يُعلَى عليه"
(2)
، وبقياس الميراث على النكاح قالوا: كما يجوز لنا أن ننكح نساءهم، ولا يجوز لهم أن ينكحوا نساءنا؛ كذلك يجوز لنا أن نرثهم ولا يرثونا.
قال القرطبيّ: ولا حجَّة لهم في شيء مما ذكروه، وأمَّا الحديثان، فلا يصحُّ منهما شيء، أمَّا الأول، فلأن فيه مجهولًا، وأمَّا الثاني، فكلامٌ يُحكى، ولا يُروى، سلَّمنا صحتهما، لكنَّا نقول بموجبهما، فإن دين الإسلام لم يزل يزيد إلى أن كَمُل في الحين الذي أنزل الله تعالى فيه:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، ولم ينقص من أحكامه ولا شريعته التي شاء الله تعالى بقاءها شيءٌ، وقد أعلاه الله تعالى، وأظهرَه على الدّين كلّه، وكما وعدنا تعالى. سلَّمنا ذلك، لكن الأحاديث الأُوَلُ أرجح؛ لأنها متفق على صحتها، وهي نصوص في المطلوب، والقياس الذي ذكروه فاسد الوضع؛ لأنَّه في مقابلة النَّصّ، ولخلّوه عن الجامع. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من ذكر الأقوال، وأدلّتها أن أرجح المذاهب في هذه المسألة هو ما عليه الجمهور، من أنه لا يرث المسلم
(1)
حديث ضعيف، أخرجه أبو داود في "سننه" رقم (2524)، والراوي عن معاذ رجل مجهول.
(2)
تقدّم أنه حديث حسن، فتنبّه.
(3)
"المفهم" 4/ 566 - 568.
الكافر، ولا الكافر المسلم؛ عملًا بالنصّ الصحيح الصريح، وهو حديث الباب، ولم يوجد نصّ صحيح في قوّته يخالفه، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم إرث المرتدّ:
قال النوويّ رحمه الله: وأما المرتدّ فلا يرث المسلم بالإجماع، وأما المسلم فلا يرث المرتدّ عند الشافعيّ، ومالك، وربيعة، وابن أبي ليلى، وغيرهم، بل يكون ماله فيئًا للمسلمين، وقال أبو حنيفة، والكوفيون، والأوزاعيّ، وإسحاق: يرثه ورثته من المسلمين، ورُوي ذلك عن عليّ، وابن مسعود، وجماعة من السلف، لكن قال الثوريّ، وأبو حنيفة: ما كَسَبَهُ في ردّته فهو للمسلمين، وقال الآخرون: الجميع لورثته من المسلمين. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": واختُلِف في المرتدّ، فقال الشافعيّ، وأحمد: يصير ماله إذا مات فيئًا للمسلمين، وقال مالك: يكون فيئًا إلا إن قَصَد بردّته أن يَحْرِم ورثته المسلمين، فيكون لهم، وكذا قال في الزنديق، وعن أبي يوسف، ومحمد: لورثته المسلمين، وعن أبي حنيفة: ما كَسَبه قبل الردّة لورثته المسلمين، وبعد الردّة لبيت المال، وعن بعض التابعين كعلقمة: يستحقه أهل الدِّين الذي انتقل إليه، وعن داود: يختص بورثته من أهل الدِّين الذي انتقل إليه، ولم يفصِّل.
فالحاصل من ذلك ستة مذاهب، حَرَّرها الماورديّ
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله ما حاصله: أن المسلم والكافر المذكورين في حديث الباب للعموم، فلا يرث مسلمًا ما كافرًا ما، ولو كان مرتدًّا، وهو مذهب مالك، وربيعة، والشافعيّ، وابن أبي ليلى؛ قالوا: لا يرث المرتدَّ أحدٌ من المسلمين، ومالُهُ فَيءٌ لبيت المال.
وخالفهم في ذلك طائفة أخرى فقالوا: إن ورثته من المسلمين يرثونه، وبه قال الأوزاعيّ، وإسحاق، والحسن البصريّ، والشعبيّ، وعمر بن عبد العزيز، ورُوي ذلك عن عليّ، وابن مسعود.
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 52 - 53.
(2)
"الفتح" 15/ 496 - 497.
وفرَّقت طائفة ثالثة؛ فقالت: يرث ماله الذي كان له قبل ردَّته ورثته المسلمون، وما استفاده بعد الرَّدة فيءٌ، وهو قول الثوريِّ، وأبي حنيفة، قال: والعموم المتقدم حجَّة على هؤلاء الطائفتين. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن أرجح المذاهب في هذه المسألة هو المذهب الأول، وهو أن المرتدّ لا يرثه أحد من المسلمين؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يرث المسلم الكافر"، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في توريث الكفّار بعضهم من بعض:
قال النوويّ رحمه الله: وأما توريث الكفار بعضهم من بعض؛ كاليهوديّ من النصرانيّ وعكسه، والمجوسيّ منهما، وهما منه، فقال به الشافعيّ، وأبو حنيفة رضي الله عنهما، وآخرون، ومنعه مالك، قال الشافعيّ: لكن لا يرث حربيّ من ذميّ، ولا ذميّ من حربيّ، قال أصحابنا: وكذا لو كانا حربيين في بلدين متحاربين لم يتوارثا، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(2)
.
وقال في "الفتح": والأصح عند الشافعية أن الكافر يرث الكافر، وهو قول الحنفية، والأكثر، ومقابله عن مالك، وأحمد، وعنه التفرقة بين الذميّ والحربيّ، وكذا عند الشافعية، وعن أبي حنيفة: لا يتوارث حربيّ من ذميّ، فإن كانا حربيين شَرَط أن يكونا من دار واحدة، وعند الشافعية لا فرق، وعندهم وجه كالحنفية.
وعن الثوريّ، وربيعة، وطائفة: الكفر ثلاث مِلَل: يهودية، ونصرانية، وغيرهم، فلا ترث ملة من هذه من ملة من الملتين، وعن طائفة من أهل المدينة والبصرة: كلُّ فريق من الكفار ملة، فلم يورثوا مجوسيًّا من وثنيّ ولا يهوديًّا من نصرانيّ، وهو قول الأوزاعيّ، وبالغَ، فقال: ولا يرث أهل نحلة من دين واحد أهل نحلة أخرى منه، كاليعقوبية، والملكية، من النصارى. انتهى
(3)
.
(1)
"المفهم" 4/ 568.
(2)
"شرح النوويّ" 11/ 52 - 53.
(3)
"الفتح" 15/ 496، كتاب "الفرائض" رقم (6764).
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "لا يتوارث أهل ملَّتين"، قال بظاهره مالك، فلا يرث اليهوديّ النصرانيَّ، ولا يرثان المجوسيَّ، وهكذا جميع أهل الملل؛ أخذًا بظاهر هذا الحديث، وقال الشافعيّ، وأبو حنيفة، وداود: إن الكفار كلهم أهل ملة واحد، وإنهم يتوارثون، محتجِّين بقوله تعالى:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]، فوحَّد الْمِلَّة، وبقوله تعالى:{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} [الكافرون: 6]، والخطاب بـ {لَكُمْ} للكفار كلهم مع توحيد {دِينِ} ، وتأولوا قوله:"لا يتوارث أهل ملتين" على أن المراد به الإسلام والكفر، كما قال في الحديث الأول:"لا يرث المسلم الكافر"، ولا حجَّة في ذلك.
أمَّا الآية الأولى فلأن ملّتهم وإن كانت موحدة في اللفظ، فهي مكثرة في المعنى؛ لأنه قد أضافها إلى ضمير الكثرة، كما تقول: أخذتُ عن علماء المدينة عِلْمَهم -مثلًا علمهم-، وسمعتُ عليهم حديثهم؛ يعني: علومهم، وأحاديثهم.
وأمَّا الثانية: فلأن الذين نزلت الآية جوابًا لهم إنَّما هم مشركو قريش، قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: تَعَالَ نشترك في أمرنا وأمرك، تدين بديننا، وندين بدينك، فنستوي في الأخذ بالخير، فأنزلها الله تعالى مخاطبةً لهم. وهم صنفٌ واحدٌ من الكفار، وهم الوثنيون، وكيف لا يكون ما قاله مالك، وقد قال الله تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]؟ فالعربُ تزعم أنها على شريعة إبراهيم، واليهود على شريعة موسى، والنَّصارى على شريعة عيسى، في ملل متعددة، وشرائع مختلفة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما ذهب إليه مالك ومن قال بقوله: إن أهل ملّتين لا يتوارثان، هو الأرجح؛ عملًا بظاهر حديث:"لا يتوارث أهل ملّتين شتّى"، أخرجه أبو داود، واللفظ له، والترمذيّ، وقال: حديث حسنٌ صحيح، وهو كما قال، وابن ماجه، وحمله على الإسلام، والكفر خلاف الظاهر، فتأمله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"المفهم" 4/ 568 - 569.
(2) - (بَابُ قوله صلى الله عليه وسلم: "أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ"
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4134]
(1615) - (حَدَّثنا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ -وَهُوَ النَّرْسِيُّ- حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ النَّرْسِيُّ)
(1)
الباهليّ مولاهم، أبو يحيى البصريّ، ثقةٌ، من كبار [10](ت 6 أو 237)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.
2 -
(وُهَيْبُ) بن خالد بن عجلان الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبت، تغيّر قليلًا في الآخر [7](ت 165) أو بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.
3 -
(ابْنُ طَاوُسٍ) هو: عبد الله، أبو محمد اليمانيّ، ثقةٌ فاضلٌ عابدٌ [6](ت 132)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
4 -
(أَبُوهُ) طاوس بن كيسان الْحِميريّ مولاهم، أبو عبد الرحمن اليمانيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ [3](ت 106) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
5 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما تقدّم قريبًا.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، قال في "الفتح": قيل: تفرّد وهيب بوصله، ورواه الثوريّ عن ابن طاوس، لم يذكر ابن عباس، بل أرسله، أخرجه النسائيّ، والطحاويّ، وأشار النسائيّ إلى ترجيح الإرسال، ورَجَحَ عند صاحبي "الصحيحين" الموصول؛ لمتابعة رَوْح بن القاسم وهيبًا عَندهما، ويحيى بن
(1)
"النرسيّ" بفتح النون، وسكون الراء، آخره سين مهملة: نسبة إلى نهر بالكوفة، عليه عدّة قرى. كذا في حاشية التهذيب.
أيوب عند مسلم، وزياد بن سعد، وصالح، عند الدارقطنيّ، واختُلِف على معمر، فرواه عبد الرزاق عنه موصولًا، أخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، ورواه عبد الله بن المبارك عن معمر، والثوريّ جميعًا مرسلًا، أخرجه الطحاويّ، ويَحْتَمِل أن يكون حَمَلَ رواية معمر على رواية الثوريّ، وإنما صححاه؛ لأن الثوريّ، وإن كان أحفظ منهم، لكن العدد الكثير يقاومه، وإذا تعارض الوصل والإرسال، ولم يرجح أحد الطريقين قُدِّم الوصل. انتهى
(1)
. وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
(قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا) المراد بـ "الفرائض" هنا: الأنصباء المقدَّرة في كتاب الله تعالى، وهي النصف، ونصفه، ونصف نصفه، والثلثان، ونصفهما، ونصف نصفهما، والمراد بـ "أهلها": من يستحقّها بنص القرآن، ووقع في رواية رَوْح بن القاسم، عن ابن طاوس:"اقسِمُوا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله"؛ أي: على وفق ما أَنزَلَ في كتابه، قاله في "الفتح"
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "الفرائض": جمع فريضة، وأصل الفرض: القطع. والألف واللام في "الفرائض" للعهد؛ لأنَّه يعني بها: الفرائض الواقعة في كتاب الله تعالى، وهي ستة: النصف، والرُّبع، والثُّمن، والثلثان، والثلث، والسُّدس.
فالنصف فرضُ خمسة: ابنة الصُّلب، وابنة الابن، والأخت الشقيقة، والأخت للأب، والزوج، وكل ذلك إذا انفردوا عمَّن يحجبهم عنه.
والربع: فرض الزوج مع الحاجب، وفرض الزوجة، أو الزوجات مع عدمه.
والثُّمن: فرض الزوجة، أو الزوجات مع الحاجب.
والثلثان فرض أربع: الاثنتين فصاعدًا من بنات الصلب، أو بنات الابن، أو الأخوات الأشقاء، أو للأب. وكل هؤلاء إذا انفردن عمَّن يحجبهن عنه.
والثلث فرض صنفين: الأُمُّ مع عدم الولد؛ وولد الابن؛ وعدم الاثنين
(1)
"الفتح" 15/ 431.
(2)
"الفتح" 15/ 431.
فصاعدًا من الإخوة والأخوات. وفرض الاثنين فصاعدًا من ولد الأُمِّ، وهذا هو ثلث كل المال.
فأما ثلث ما يبقى: فذلك للأُم في مسألة: زوج أو زوجة وأبوان؛ فللأم فيها ثلث ما يبقى، وفي مسائل الجدِّ مع الإخوة إذا كان معهم ذو سهم، وكان ثلث ما يبقى أحظى له.
والسُّدس فرض سبعة: فرض كل واحد من الأبوين والجد مع الولد وولد الابن، وفرض الجدة والجدَّات إذا اجتمعن، وفرض بنات الابن مع بنت الصُّلب، وفرض الأخوات للأب مع الأخت الشقيقة، وفرض الواحد من ولد الأم ذكرًا كان أو أنثى.
وهذه الفروض كلّها مأخوذةٌ من كتاب الله تعالى، إلا فرض الجدَّات فإنَّه مأخوذ من السُّنَّة، فهؤلاء أهل الفرائض الذين أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يُقْسَم المال عليهم لَمَّا قال:"اقسموا المال بين أهل الفرائض"، وهو معنى قوله:"ألحقوا الفرائض بأهلها". انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو تحقيق مفيد، والله تعالى أعلم ..
(فَمَا بَقِيَ) وفي رواية روح التالية: "فما تَرَكَتْ"؛ أي: أبقت (فَهُوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ") وفي رواية روح التالية: "فلأولى رجل"، وهو -بفتح الهمزة، واللام، بينهما واو ساكنة- أفعل تفضيل من الْوَلْي -بسكون اللام- وهو القرب؛ أي: لمن يكون أقرب في النسب إلى الْمُوَرِّث، وليس المراد هنا الأحق.
وقد حَكَى عياض أن في رواية ابن الحذّاء، عن ابن ماهان:"فهو لأدنى" بدال، ونون، وهي بمعنى الأقرب.
وقال النوويّ: قال العلماء: المراد بـ "أولى رجل" أقرب رجل، مأخوذ من الْوَلْي بإسكان اللام، على وزن الرَّمْي، وهو القرب، وليس المراد بـ "أَوْلى" هنا أحقّ، بخلاف قولهم: الرجل أولى بماله؛ لأنه لو حُمِل هنا على أحقّ لَخَلا عن الفائدة؛ لأنا لا ندري من هو الأحقّ، وقوله صلى الله عليه وسلم:"رجلٍ ذكرٍ" وَصَفَ
(1)
"المفهم" 4/ 564 - 565.
الرجلَ بأنه ذكر؛ تنبيهًا على سبب استحقاقه، وهو الذكورة التي هي سبب العصوبة، وسبب الترجيح في الإرث، ولهذا جعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وحكمته أن الرجال تَلْحَقهم مُؤَنٌ كثيرةٌ: بالقيام بالعيال، والضيفان، والأرقاء، والقاصدين، ومواساة السائلين، وتحمُّل الغرامات، وغير ذلك، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لأولى رجلٍ ذكرٍ" مع أنَّ الرجلَ لا يكونُ إلّا ذكرًا، فالجوابُ الصحيحُ عنه أنَّه قد يُطلَقُ الرجل، ويرادُ به الشخص، كقوله: مَن وَجَدَ ماله عند رجل قد أفلس، ولا فرقَ بينَ أنْ يجده عند رجلٍ أو امرأةٍ، فتقييدُه بالذَّكر ينفي هذا الاحتمال، ويُخلصه للذكر دونَ الأنثى وهو المقصودُ، وكذلك الابنُ: لمَّا كان قد يُطلق، ويُراد به أعمُّ من الذكر، كقوله: ابن السبيل، جاء تقييدُ ابنِ اللبون في نُصُب الزكاة بالذَّكر. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": قال الخطابيّ: المعنى: أقرب رجل من العصبة، وقال ابن بطال: المراد بأولى رجل أن الرجال من العصبة بعد أهل الفروض، إذا كان فيهم من هو أقرب إلى الميت استحقّ دون من هو أبعد، فإن استووا اشتركوا، قال: ولم يقصد في هذا الحديث من يدلي بالآباء والأمهات مثلًا؛ لأنه ليس فيهم من هو أولى من غيره، إذا استووا في المنزلة، كذا قال ابن الْمُنَيِّر، وقال ابن التين: إنما المراد به العمة مع العم، وبنت الأخ مع ابن الأخ، وبنت العم مع ابن العم، وخرج من ذلك الأخ والأخت لأبوين، أو لأب، فإنهم يرثون بنصّ قوله تعالى:{وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176]، ويستثنى من ذلك من يُحجب، كالأخ للأب مع البنت، والأخت الشقيقة، وكذا يخرج الأخ، والأخت لأمّ؛ لقوله تعالى:{فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12]، وقد نُقل الإجماع على أن المراد بها الإخوة من الأم.
وقوله: (رَجُلٍ ذَكَرٍ) قال في "الفتح": هكذا في جميع الروايات، ووقع
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 53.
(2)
"جامع العلوم والحكم" 2/ 437.
في كتب الفقهاء، كصاحب "النهاية"، وتلميذه الغزاليّ:"فلأولى عصبة ذكر"، قال ابن الجوزيّ، والمنذريّ: هذه اللفظة ليست محفوظة، وقال ابن الصلاح: فيها بُعْدٌ عن الصحة من حيث اللغة، فضلًا عن الرواية، فإن العصبة في اللغة اسم للجمع، لا للواحد، كذا قال، قال الحافظ: والذي يظهر أنه اسم جنس، ويدلّ عليه ما وقع في بعض طرق حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاريّ:"فليرثه عصبته من كانوا".
قال ابن دقيق العيد: قد استُشكل بأن الأخوات عَصَّبت البنات، والحديث يقتضي اشتراط الذكورة في العصبة المستحقّ للباقي بعد الفروض.
والجواب: أنه من طريق المفهوم، وقد اختُلِف هل له عموم، وعلى التنزل فيُخَصّ بالخبر الدال على أن الأخوات عصبت البنات.
وقد استُشكل التعبير بِذَكَر بعد التعبير بِرَجُل، فقال الخطابيّ: إنما كُرِّر للبيان في نعته بالذكورة؛ ليعلم أن العصبة إذا كان عمًّا، أو ابن عَمّ مثلًا، وكان معه أخت له أن الأخت لا ترث، ولا يكون المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين.
وتُعُقِّب بأن هذا ظاهر من التعبير بقوله: "رجل"، والإشكال باقٍ، إلا أن كلامه ينحلّ إلى أنه للتأكيد، وبه جزم غيره، كابن التين، قال: ومثله: "ابنُ لبون ذَكَرٍ"، وزَيَّفه القرطبيّ، فقال: قيل: إنه للتأكيد اللفظيّ، ورُدّ بأن العرب إنما تؤكد حيث يفيد فائدةً، إما تعيّن المعنى في النفس، وإما رفعُ توهّم المجاز، وليس ذلك موجودًا هنا.
وقال غيره: هذا التوكيد لمتعلَّق الحكم، وهو الذكورة؛ لأن الرجل قد يراد به معنى النَّجْدة والقُوّة في الأمر، فقد حَكَى سيبويه: مررت برجل رجلٍ أبوه، فلهذا احتاج الكلام إلى زيادة التوكيد بِذَكَرٍ، حتى لا يُظَنّ أن المراد به خصوص البالغ، وقيل: خشية أن يُظَنّ بلفظ رجل الشخص، وهو أعم من الذكر والأنثى.
وقال ابن العربيّ: في قوله: "ذَكَرٍ" الإحاطة بالميراث إنما تكون للذكر دون الأنثى، ولا يَرِدُ قول من قال: إن البنت تأخذ جميع المال؛ لأنها إنما تأخذه بسببين متغايرين، والإحاطة مختصة بالسبب الواحد، وليس إلا الذكر،
فلهذا نَبَّهَ عليه بذِكْرٍ الذكورية، قال: وهذا لا يَتَفَطَّن له كلُّ مُدَّعٍ.
وقيل: إنه احتراز عن الخنثى في الموضعين، فلا تُؤخذ الخنثى في الزكاة، ولا يحوز الخنثى المال إذا انفرد.
وقيل: للاعتناء بالجنس، وقيل: للإشارة إلى الكمال في ذلك، كما يقال: امرأة أنثى، وقيل: لنفي توهم اشتراك الأنثى معه؛ لئلا يُحْمَل على التغليب، وقيل: ذُكِرَ تنبيهًا على سبب الاستحقاق بالعصوبة، وسبب الترجيح في الإرث، ولهذا جُعِل للذكر مثل حظ الأنثيين، وحكمته أن الرجال تلحقهم المؤن؛ كالقيام بالعيال، والضيفان، هارفاد القاصدين، ومواساة السائلين، وتحمّل الغرامات، وغير ذلك، هكذا قال النوويّ، وسبقه القاضي عياض، فقال: قيل: هو على معنى اختصاص الرجال بالتعصيب بالذكورية التي بها القيام على الإناث، وأصله للمازريّ، فإنه قال -بعد أن ذكر استشكال ما ورد في هذا، وهو رجل ذكر، وفي الزكاة ابن لبون ذكر- قال: والذي يظهر لي أن قاعدة الشرع في الزكاة الانتقال من سنّ إلى أعلى منها، ومن عدد إلى أكثر منه، وقد جُعِل في خمسة وعشرين بنت مخاض، وسنًّا أعلى منها، وهو ابن لبون، فقد يُتَخَيَّل أنه على خلاف القاعدة، وأن السنين كالسنّ الواحد؛ لأن ابن اللبون أعلى سنًّا، لكنه أدنى قدرًا، فنبّه بقوله:"ذَكَرٍ" على أن الذكورية تبخسه، حتى يصير مساويًا لبنت مخاض، مع كونها أصغر سنًّا منه، وأما في الفرائض، فَلِمَا عُلِم أن الرجال هم القائمون بالأمور، وفيهم معنى التعصيب، وترى لهم العرب ما لا ترى للنساء، فعَبَّر بلفظ "ذَكَرٍ" إشارةً إلى العلة التي لأجلها اختَصَّ بذلك، فهما وإن اشتركا في أن السبب في وصف كل منهما بذكر التنبيه على ذلك، لكن متعلَّق التنبيه فيهما مختلف، فإنه في ابن اللبون إشارةٌ إلى النقص، وفي الرجل إشارةٌ إلى الفضل، وهذا قد لخصه القرطبيّ، وارتضاه.
وقيل: إنه وَصْفٌ لـ "أَوْلَى"، لا لـ "رجل"، قاله السهيليّ، وأطال في تقريره، وتبجح به، فقال: هذا الحديث أصل في الفرائض، وفيه إشكال، وقد تلقاه الناس، أو أكثرهم على وجه لا تصح إضافته إلى مَن أُوتي جوامع الكلم، واختُصِر له الكلام اختصارًا، فقالوا: هو نعت لرجل، وهذا لا يصحّ؛ لعدم الفائدة؛ لأنه لا يتصور أن يكون الرجل إلا ذكرًا، وكلامه أجلّ من أن يَشتَمِل
على حشو لا فائدة فيه، ولا يتعلق به حكم، ولو كان كما زعموا لنقص فقه الحديث؛ لأنه لا يكون فيه بيان حكم الطفل الذي لم يبلغ سنّ الرجولية، وقد اتفقوا على أن الميراث يجب له، ولو كان ابن ساعة، فلا فائدة في تخصيصه بالبالغ دون الصغير، قال: والحديث إنما سيق لبيان من يستحق الميراث من القرابة بعد أصحاب السهام، ولو كان كما زعموا لم يكن فيه تفرقة بين قرابة الأب، وقرابة الأم، قال: فإذا ثبت هذا فقوله: "أَوْلَى رجل ذَكَرٍ" يريد القريب في النسب الذي قرابته من قِبَل رجل، وصُلْب، لا من قِبَل بطن ورحم، فالأولى هنا هو ولي الميت، فهو مضاف إليه في المعنى دون اللفظ، وهو في اللفظ مضاف إلى النسب، وهو الصُّلب، فعَبَّر عن الصُلب بقوله:"أولى رجل"؛ لأن الصلب لا يكون إلا رجلًا، فأفاد بقوله:"لأولى رجل" نفي الميراث عن الأولى الذي هو من قبل الأم، كالخال، وأفاد بقوله:"ذَكَرٍ" نفي الميراث عن النساء، وإن كنّ من المُدْلِين إلى الميت من قِبَل صلب؛ لأنهن إناث.
قال: وسبب الإشكال من وجهين:
أحدهما: أنه لما كان مخفوضًا ظُنَّ نعتًا لرجل، ولو كان مرفوعًا لم يُشكِل، كأن يقال: فوارثه أولى رجل ذكرٌ.
والثاني: أنه جاء بلفظ أفعل، وهذا الوزن إذا أريد به التفضيل كان بعض ما يضاف إليه، كَفُلان أعلم إنسان، فمعناه أعلم الناس، فتوهّم أن المراد بقوله:"أولى رجل" أولى الرجال، وليس كذلك، وإنما هو أولى الميت بإضافة النسب، وأولى صُلب بإضافته، كما تقول: هو أخوك أخو الرخاء، لا أخو البلاء، قال: فالأَولى في الحديث كالولي.
[فان قيل]: كيف يضاف للواحد، وليس بجزء منه؟.
[فالجواب]: إذا كان معناه الأقرب في النسب جازت إضافته، وإن لم يكن جزءًا منه، كقوله صلى الله عليه وسلم في البرّ:"برّ أمك، ثم أباك، ثم أدناك"، قال: وعلى هذا فيكون في هذا الكلام الموجز من المتانة، وكثرة المعاني، ما ليس في غيره، فالحمد لله الذي وَفَّقَ وأعان. انتهى كلامه.
قال الحافظ: ولا يخلو من استغلاق، وقد لَخَّصَه الكرمانيّ، فقال:
"ذَكَرٍ" صفة لـ "أَوْلَى"، لا لـ"رجل"، والأولى بمعنى القريب الأقرب، فكأنه قال: فهو لقريب الميت، ذكر، من جهة رجل، وصلب، لا من جهة بطن ورحم، فالأَوْلَى من حيث المعنى مضاف إلى الميت، وأشير بذكر الرجل إلى الأولوية، فأفاد بذلك نفي الميراث عن الأَولى الذي من جهة الأم، كالخال، وبقوله:"ذَكَرٍ" نفيه عن النساء بالعصوبة، وإن كنّ من المدلين للميت من جهة الصلب. انتهى.
قال الحافظ: وقد أوردته كما وجدته، ولم أحذف منه إلا أمثلة أطال بها، وكلماتٍ طويلة تبجَّحَ بها بسبب ما ظهر له من ذلك، والعلم عند الله تعالى. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
وقد أشار الحافظ ابن رجب رحمه الله إلى تزييف كلام السهيليّ السابق، فقال ما نصّه: وللسهيليّ كلام على هذا الحديث فيه تكفف وتعسّف شديد، ولا طائل تحته، وقد ردّه عليه جماعة ممن أدركناهم. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 4134 و 4135 و 4136 و 4137](1615)، و (البخاريّ) في "الفرائض"(6732 و 6735 و 6737 و 6746)، و (أبو داود) في "سننه"(2898)، و (الترمذيّ) في "جامعه"(2098)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 71)، و (ابن ماجه) في "سننه"(2740)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(10/ 249)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 250)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 292 و 313 و 325)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(1/ 118)، و (أبو عوانة) في "مسنده"، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 240 و 3/ 437)، و (الحاكم)
(1)
"الفتح" 15/ 433 - 434، كتاب "الفرائض" رقم (6732).
(2)
"جامع العلوم والحكم" 2/ 437.
في "المستدرك"(4/ 375)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(13/ 387 و 389 و 390)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(8/ 237) و"الكبير"(11/ 16 و 20)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(4/ 70 و 71)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 238 و 239 و 258) و"المعرفة"(5/ 74) و"الصغرى"(6/ 27)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): قال النوويّ رحمه الله: أجمع المسلمون على أن ما بقي بعد الفروض، فهو للعصبات، يقدَّم الأقرب فالأقرب، فلا يرث عاصب بعيد مع وجود قريب، فإذا خلف بنتًا وأخًا، وعَمًّا، فللبنت النصف فرضًا، والباقي للأخ، ولا شيء للعمّ، قال أصحابنا: والعصبة ثلاثة أقسام: عصبة بنفسه، كالابن، وابنه، والأخ، وابنه، والعم، وابنه، وعمّ الأب، والجدّ، وابنهما، ونحوهم، وقد يكون الأب والجدّ عصبة، وقد يكون لهما فرض، فمتى كان للميت ابن، أو ابن ابن لم يرث الأب إلا السدس فرضًا، ومتى لم يكن ولد، ولا ولد ابن ورث بالتعصيب فقط، ومتى كانت بنت، أو بنت ابن، أو بنتان، أو بنتا ابن أَخَذَ البنات فرضهنّ، وللأب من الباقي السدس فرضًا، والباقي بالتعصيب، هذا أحد الأقسام، وهو العصبة بنفسه.
والقسم الثاني: العصبة بغيره، وهنّ البنات بالبنين، وبناتُ الابن ببني الابن، والأخوات بالإخوة.
والثالث: العصبة مع غيره، وهنّ الأخوات للأبوين، أو للأب مع البنات، وبنات الابن.
فإذا خَلَّف بنتًا وأختًا لأبوين، أو لأب، فللبنت النصف فرضًا، والباقي للأخت بالتعصيب، وإن خلف بنتًا وبنت ابن وأختًا لأبوين، أو أختًا لأب، فللبنت النصف، ولبنت الابن السدس، والباقي للأخت، وإن خلف بنتين، وبنتي ابن، وأختًا لأبوين، أو لأب، فللبنتين الثلثان، والباقي للأخت، ولا شيء لبنتي الابن؛ لأنه لم يبق شيء من فرض جنس البنات، وهو الثلثان، قال أصحابنا: وحيث أطلق العصبة فالمراد به العصبة بنفسه، وهو كلُّ ذَكَر يُدلي بنفسه بالقرابة، ليس بينه وبين الميت أنثى، ومتى انفرد العصبة أخذ جميع المال، ومتى كان مع أصحاب فروض مستغرِقة فلا شيء له، وإن لم يستغرقوا كان له الباقي بعد فروضهم، وأقرب العصبات البنون، ثم بنوهم، ثم الأب، ثم
الجدّ إن لم يكن أخ، والأخ إن لم يكن جدّ، فإن كان جدّ وأخ، ففيها خلاف مشهور، ثم بنو الإخوة، ثم بنوهم، وإن سفلوا، ثم أعمام الأب، ثم بنوهم، وإن سفلوا، ثم أعمام الجدّ، ثم بنوهم، ثم أعمام جدّ الأب، ثم بنوهم، وهكذا، ومن أدلى بأبوين يقدَّم على من يُدلي بأب، فيقدّم أخ من أبوين على أخ من أب، ويقدّم عمّ لأبوين على عمّ لأب، وكذا الباقي، ويقدم الأخ من الأب، على ابن الأخ من الأبوين؛ لأن جهة الأخوة أقوى، وأقرب، ويقدَّم ابن أخ لأب على عمّ لأبوين، ويقدّم عم لأب على ابن عم لأبوين، وكذا الباقي، والله أعلم.
ولو خلَّف بنتًا وأختًا لأبوين، وأخًا لأب، فمذهبنا ومذهب الجمهور أن للبنت النصفَ، والباقي للأخت، ولا شيء للأخ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: للبنت النصف، والباقي للأخ دون الأخت، وهذا الحديث المذكور في الباب ظاهر في الدلالة لمذهبه، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": قال القرطبيّ: وأما تسمية الفقهاء الأخت مع البنت عصبة، فعلى سبيل التجوّز؛ لأنها لما كانت في هذه المسألة تأخذ ما فَضَل عن البنت أشبهت العاصب، وقد ترجم البخاريّ في "صحيحه" بذلك.
وقال الطحاويّ: استَدَلَّ قوم -يعني: ابن عباس ومن تبعه- بحديث ابن عباس على أن من خلَّف بنتًا وأخًا شقيقًا، وأختًا شقيقةً كان لابنته النصف، وما بقي لأخيه، ولا شيء لأخته، ولو كانت شقيقةً، وطردوا ذلك فيما لو كان مع الأخت الشقيقة عصبةٌ، فقالوا: لا شيء لها مع البنت، بل الذي يبقى بعد البنت للعصبة، ولو بَعُدوا، واحتجوا أيضًا بقوله تعالى:{إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] قالوا: فمن أعطى الأخت مع البنت خالف ظاهر القرآن.
قال: واستُدِلّ عليهم بالاتفاق على أن من ترك بنتًا وابن ابن، وبنت ابن متساويين أن للبنت النصف، وما بقي بين ابن الابن وبنت الابن، ولم يَخُصّوا ابن الابن بما بقي؛ لكونه ذَكَرًا، بل وَرَّثوا معه شقيقته، وهي أنثى، قال: فَعُلم
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 53 - 54.
بذلك أن حديث ابن عباس رضي الله عنهما ليس على عمومه، بل هو في شيء خاصّ، وهو ما إذا ترك بنتًا وعَمًّا وعمّةً، فإن للبنت النصفَ، وما بقي للعمّ دون العمة إجماعًا، قال فاقتضى النظر ترجيح إلحاق الأخت مع الأخ بالابن والبنت، لا بالعم والعمة؛ لأن الميت لو لم يترك إلا أخًا وأختًا شقيقتين، فالمال بينهما، فكذلك لو تَرَك ابن ابن وبنت ابن، بخلاف ما لو ترك عمًّا وعمّةً، فإن المال كله للعم دون العمة باتفاقهم.
قال: وأما الجواب عما احتجوا به من الآية، فهو أنهم أجمعوا على أن الميت لو تَرَكَ بنتًا وأخًا لأب، كان للبنت النصف، وما بقي للأخ، وأن معنى قوله تعالى:{لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} إنما هو ولد يحوز المال كله، لا الولد الذي لا يحوز. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): قد شرح الحافظ ابن رجب رحمه الله هذا الحديث شرحًا مطوّلًا، فأجاد وأفاد، أحببت إيراده هنا، وإن كان بعضه تقدّم، إلا أن فيه زوائد يستفاد منها.
قال رحمه الله: وقد اختَلَف العلماء في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها":
فقالت طائفة: المرادُ بالفرائض الفروضُ المقدرة في كتاب الله تعالى، والمراد: أعطوا الفروض المقدرة لمن سمَّاها الله لهم، فما بقي بعدَ هذه الفروض، فيستحقّه أولى الرجال، والمراد بالأوْلى: الأقربُ، كما يقال: هذا يلي هذا؛ أي: يَقرُبُ منه، فأقربُ الرجال هو أقربُ العصبات، فيستحقُّ الباقي بالتعصيب.
وبهذا المعنى فسّرَ الحديثَ جماعةٌ من الأئمة، منهم الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، نقله عنهما إسحاق بن منصور، وعلى هذا، فإذا اجتمع بنت وأختٌ وعمٌّ أو ابنُ عم أو ابنُ أخ، فينبغي أنْ يأخذَ الباقي بعدَ نصف البنتِ العصبة، وهذا قولُ ابنِ عباس رضي الله عنهما، وكان يتمسَّكُ بهذا الحديث، ويُقرُّ بأنَّ الناسَ كلَّهم على خلافه، وذهبت الظاهرية إلى قوله أيضًا.
(1)
"الفتح" 15/ 435.
وقال إسحاق: إذا كان مع البنتِ والأختِ عصبة، فالعصبةُ أولى، وإنْ لم يكن معهما أحد، فالأخت لها الباقي، وحُكي عن ابن مسعود أنَّه قال: البنتُ عصبةُ من لا عصبة له، وردَّ بعضهم هذا، وقال: لا يصحُّ عن ابن مسعود.
وكان ابنُ الزبير ومسروق يقولان بقول ابن عباس، ثم رجعا عنه.
وذهب جمهورُ العلماء إلى أنَّ الأخت مع البنتِ عصبة لها ما فَضَلَ، منهم عمر، وعليٌّ، وعائشة، وزيد، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وتابعهم سائر العلماء.
وروى عبدُ الرزاق: أخبرنا ابنُ جريج: سألتُ ابنَ طاووس عن ابنة وأخت، فقال: كان أبي يذكر عن ابن عباس، عن رجل عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فيها شيئًا، وكان طاووس لا يرضى بذلك الرجل، قال: وكان أبي يشكُّ فيها، ولا يقول فيها شيئًا، وقد كان يُسأل عنها. والظاهر -والله أعلم- أنَّ مرادَ طاووس هو هذا الحديث، فإنَّ ابنَ عباس لم يكن عنده نصّ صريح عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في ميراثِ الأخت مع البنت، إنَّما كان يتمسك بمثلِ عموم هذا الحديث.
وما ذكر طاوس أنَّ ابنَ عباس رواه عن رجل وأنَّه لا يرضاه، فابنُ عباس أكثرُ رواياته للحديث عن الصحابة، والصحابة كلُّهم عدول قد رضي الله عنهم، وأثنى عليهم، فلا عبرةَ بعد ذلك بعدم رضا طاووس.
وفي "صحيح البخاري" عن أبي قيسٍ الأوديّ، عن هُزيلِ بنِ شُرحبيل، قال: جاء رجلٌ إلى أبي موسى، فسأله عن ابنةٍ وابنةِ ابنٍ، وأختٍ لأبٍ وأم، فقال: للابنة النصفُ، وللأخت ما بقي وائت ابنَ مسعود فسيُتابعني، فأتى ابنَ مسعود، فذكر ذلك له، فقال: لقد ضللتُ إذًا وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: للابنة النصفُ، ولابنةِ الابن السُّدس تكملة الثلثين، وما بقي، فللأخت، قال: فأتينا أبا موسى، فأخبرناه بقول ابن مسعود، فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبرُ فيكم.
وفيه أيضًا عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود بن يزيد، قال: قضى فينا معاذُ بنُ جبل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: النصف للابنة، والنصف للأخت، ثم ترك الأعمش ذكرَ عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يذكره، وخرَّجه أبو داود من وجهٍ آخر عن الأسود، وزاد فيه: ونبيُّ الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ حيٌّ.
واستَدَلَّ ابنُ عباس لقوله بقول الله: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176]، وكان يقول: أأنتم أعلم أم الله؟! يعني: أنَّ الله لم يجعل لها النصفَ إلا مع عدمِ الولد، وأنتم تجعلون لها النصف مع الولد، وهو البنت.
والصوابُ قولُ عمر والجمهور، ولا دلالةَ في هذه الآية على خلاف ذلك، لأنَّ المراد بقوله:{فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} بالفرض، وهذا مشروطٌ بعدم الولد بالكلية، ولهذا قال بعده:{فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176]؛ يعني بالفرض، والأخت الواحدة إنَّما تأخذ النصفَ مع عدمِ وجود الولد الذكر والأنثى، وكذلك الأُختان فصاعدًا إنَّما يستحقون الثُّلثين مع عدم وجودِ الولد الذكر والأنثى، فإنْ كان هناك ولد، فإنْ كان ذكرًا، فهو مقدَّمٌ على الإخوة مطلقًا ذكورهم وإناثهم، وإنْ لم يكن هناك ولدٌ ذكرٌ، بل أنثى، فالباقي بعد فرضها يستحقُّه الأخُ مع أخته بالاتفاق، فإذا كانتِ الأختُ لا يُسقِطُها أخوها؛ فكيف يُسقطها من هو أبعدُ منه من العصبات كالعمِّ وابنه؟ وإذا لم يكن العصبة الأبعد مسقطًا لها، فيتعيَّنُ تقديمُها عليه، لامتناع مشاركته لها، فمفهوم الآية أنَّ الولد يمنع أنْ يكونَ للأختِ النصفُ بالفرضِ، وهذا حقٌّ ليس مفهومها أنَّ الأخت تسقطُ بالبنت، ولا تأخذ ما فضل من ميراثها، يَدُلُّ عليه قوله تعالى:{وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176]، وقد أجمعتِ الأمة على أنَّ الولد الأنثى لا يمنع الأخ أنْ يرثَ من مال أخته ما فضلَ عن البنت أو البنات، وإنَّما وجودُ الولد الأنثى يمنع أنْ يَحُوزَ الأخُ ميراثَ أخته كلَّه، فكما أنَّ الولد إنْ كان ذكرًا، منع الأخ من الميراث، وإنْ كان أنثى، لم يمنعه الفاضل عن ميراثها، وإنْ منعه حيازة الميراثِ، فكذلك الولد إنْ كان ذكرًا مَنَع الأخت الميراثَ بالكليَّة، وإنْ كان أنثى، منعت الأخت أنْ يفرض لها النصف، ولم يمنعها أنْ تأخذ ما فَضَلَ عن فرضها، والله أعلم.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فما أبقتِ الفرائض، فلأولى رجُلٍ ذكر"، فقد قيل: إنَّ المرادَ به العصبةُ البعيدُ خاصَّة، كبني الإخوة والأعمام وبنيهم، دونَ العصبة القريب؛ بدليلِ أنَّ الباقي بعدَ الفروض يشترك فيه الذكر والأنثى إذا كان العصبةُ قريبًا، كالأولاد والإخوة بالاتفاق، فكذلك الأختُ مع البنت بالنص الدالِّ عليه.
وأيضًا فإنَّه تُخَصّ منه هذه الصور بالاتفاق، وكذلك تُخصّ منه المعتِقَة مولاة النعمة بالاتفاق، فتُخَصَّ منه صورةُ الأخت مع البنت بالنصّ.
وقالت طائفة آخرون: المرادُ بقوله: "ألحقوا الفرائضَ بأهلها" ما يستحقه ذوو الفروض في الجملة، سواءٌ أخذوه بفرض أو بتعصيب طرأ لهم، والمراد بقوله:"فما بقي، فلأولى رجل ذكر" العصبةُ الذي ليس له فرضٌ بحال، ويدلُّ عليه أنَّه قد رُوي الحديث بلفظ آخر، وهو:"اقسِموا المالَ بينَ أهلِ الفرائضِ على كتاب الله"، فدخل في ذلك كلُّ من كان مِنْ أهل الفروض بوجهٍ من الوجوه، وعلى هذا، فما تأخذه الأختُ مع أخيها، أو ابنِ عمها إذا عصبها هو داخلٌ في هذه القسمة؛ لأنها مِنْ أهل الفرائض في الجملة، فكذلك ما تأخذه الأخت مع البنت.
وقالت فرقة أخرى: المرادُ بأهلِ الفرائض في قوله: "ألحقوا الفرائض بأهلها"، وقوله:"اقسموا المال بين أهل الفرائض" جملة من سمَّاه الله في كتابه من أهل المواريث من ذوي الفروض والعصبات كلِّهم، فإنَّ كلَّ ما يأخذه الورثة، فهو فرضٌ فرضه الله لهم، سواء كان مقدرًا أو غير مقدر، كما قال بعدَ ذكر ميراث الوالدين والأولاد:{فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 11]، وفيهم ذو فرض وعصبة، وكما قال:{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)} [النساء: 7]، وهذا يشملُ العَصَباتِ وذوي الفروض، فكذلك قولُه:"اقسِموا الفرائضَ بين أهلها على كتاب الله" يشمل قسمته بين ذوي الفروض والعصبات على ما في كتاب الله، فإنْ قسم على ذلك ثُمَّ فضَلَ منه شيء، فيختصُّ بالفاضل أقربُ الذكور مِنَ الورثة، وكذلك إنْ لم يُوجَد في كتاب الله تصريحٌ بقسمته بين من سماه الله من الورثة، فيكون حينئذٍ المال لأوْلَى رجلٍ ذكرٍ منهم.
فهذا الحديث مبيِّنٌ لكيفية قسمةِ المواريث المذكورة في كتاب الله بين أهلها ومُبيِّنٌ لقسمة ما فضلَ من المال عن تلك القسمة ممَّا لم يُصرَّحْ به في القرآن مِنْ أحوال أولئك الورثة وأقسامهم، ومبيِّنٌ أيضًا لكيفية توريث بقية العصبات الذين لم يصرَّح بتسميتهم في القرآن، فإذا ضُمَّ هذا الحديثُ إلى آيات القرآن، انتظم ذلك كلُّه معرفةَ قسمةِ المواريث بين جميع ذوي الفروض والعصبات.
ونحن نذكر حكمَ توريث الأولاد والوالدين كما ذكره الله في أوَّل سورة النساء، وحكم توريث الإخوة من الأبوين، أو من الأب، كما ذكره الله في آخر السورة المذكورة.
فأما الأولاد، فقد قال الله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، فهذا حكم اجتماع ذكورهم وإناثهم أنّه يكونُ للذكر منهم مثل حظ الأنثيين، ويدخل في ذلك الأولادُ، وأولادُ البنين باتّفاق العلماء، فمتى اجتمع الأولاد إخوةٌ وأخوات، اقتسموا الميراث على هذا الوجه عند الأكثرين، فلو كان هناك بنتٌ للصُّلب أو ابنتان، وكان هناك ابنُ ابنٍ مع أخته اقتسما الباقي أثلاثًا؛ لدخولهم في هذا العموم، هذا قولُ جمهور العلماء، منهم عمر وعليٌّ وزيدٌ وابنُ عباس، وذهب إليه عامَّة العلماء، والأئمة الأربعة.
وذهب ابنُ مسعودٍ إلى أنَّ الباقي بعدَ استكمال بناتِ الصُّلب الثلثين، كلُّه لابن الابن، ولا يُعصِّبُ أخته، وهو قولُ علقمة وأبي ثور وأهل الظاهر، فلا يُعصِّبُ عندهم الولدُ أختَه إلّا أنْ يكونَ لها فريضةٌ لو انفردت عنه، فكذلك قالوا فيما إذا كان هناك بنتٌ وأولادُ ابنٍ ذكور وإناث: إنَّ الباقي لجميع ولد الابن، للذكر منهم مثلُ حظ الأنثيين.
وقال ابنُ مسعود في بنت وبنات ابن وبني ابن: للبنتِ النصفُ، والباقي بين ولد الابن، للذكر مثلُ حظ الأُنثيين إلّا أنْ تزيدَ المقاسمةُ بنات الابن على السدس، فيفرض لهنَّ السدسُ، ويجعلُ الباقي لبني الابن، وهذا قول أبي ثور.
وأمَّا الجمهور، فقالوا: النصفُ الباقي لولدِ الابنِ، للذكر مثلُ حظ الأنثيين عملًا بعموم الآية، وعندهم أنَّ الولد وإنْ نَزَلَ يُعصِّبُ من في درجته بكلِّ حال، سواء كان للأنثى فرض بدونه أو لم يكن، ولا يُعصِّبُ من أعلى منه من الإناث إلَّا بشرط أنْ لا يكون لها فرضٌ بدونه، ولا يُعصب من أسفلَ منه بكل حالٍ.
ثم قال تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] فهذا حكمُ انفرادِ الإناث من الأولاد أنَّ للواحدة النصفَ، ولما فوقَ الاثنتين الثلثان، ويدخلُ في ذلك بناتُ الصلب وبناتُ الابن عند عدمهنّ، فإنِ اجتمعنَ، فإنِ استكملَ بناتُ الصلب الثلثين، فلا
شيءَ لبنات الابن المنفردات، وإنْ لم يستكمل البناتُ الثُّلثين، بل كان ولدُ الصلب بنتًا واحدة، ومعها بناتُ ابنِ، فللبنتِ النّصفُ، ولبناتِ الابن السدسُ تكملةَ الثلثين؛ لئلا يزيدَ فرضُ البنات على الثلثين، وبهذا قضى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود الذي تقدم ذكرُه، وهو قولُ عامَّة العلماء، إلا ما رُوي عن ابن مسعود وسلمان بن ربيعة: أنَّه لا شيءَ لبناتِ الابن، وقد رجع أبو موسى إلى قول ابن مسعود لمَّا بلغه قولُه في ذلك.
وإنَّما أشكل على العلماء حكمُ ميراث البنتين، فإنَّ لهما الثلثين بالإجماع كما حكاه ابنُ المنذر وغيره، وما حُكي فيه عن ابن عباس أنَّ لهما النِّصفَ، فقد قيل: إنَّ إسنادَه لا يَصِحُّ، والقرآن يدلُّ على خلافه، حيث قال:{وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11]، فكيف تُورث أكثر من واحدة النصف؟ وحديثُ ابن مسعود في توريث البنت النصف وبنت الابن السدس تكملة الثلثين يدلُّ على توريث البنتين الثلثين بطريق الأولى. وخرَّج الإمامُ أحمد، وأبو داود، والترمذيّ من حديث جابر أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ورَّث ابنتي سعد بن الربيع الثلثين، ولكنْ أشكل فهمُ ذلك من القرآن لقوله تعالى:{فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} ، فلهذا اضطربَ الناسُ في هذا، وقال كثيرٌ من الناس فيه أقوالًا مستبعدةً.
ومنهم من قال: استُفيد حكم ميراث الابنتين من ميراث الأختين، فإنَّه قال تعالى:{فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} ، واستُفيد حكمُ ميراث أكثر من الأختين من حكم ميراث ما فوق الاثنتين.
ومنهم من قال: البنتُ مع أخيها لها الثلثُ بنصِّ القرآن، فلأَنْ يكونَ لها الثلثُ مع أختها أولى.
وسلك بعضُهم مسلكًا آخر، وهو أنَّ الله تعالى ذكر حُكمَ توريث اجتماع الذكور والإناث من الأولاد، وذكر حُكمَ توريثِ الإناث إذا انفردنَ عن الذُّكور، ولم ينصَّ على حكم انفراد الذكور منهم عن الإناث، وجعل حُكمَ الاجتماع أنَّ الذكرَ له مثلُ حظِّ الأنثيين، فإنِ اجتمع مع الابن ابنتان فصاعدًا، فله مثلُ نصيب اثنتين منهن، وإنْ لم يكن معه إلا ابنة واحدة، فله الثلثان ولها الثلث، وقد سمَّى الله ما يستحقه الذكرُ حظَّ الأنثيين مطلقًا، وليس الثلثان حظّ الأنثيين
في حال اجتماعهما مع الذكر؛ لأنَّ حظَّهما حينئذ النِّصفُ، فتعيَّن أنْ يكونَ الثُّلثان حظهما حالَ الانفراد.
وبقي ها هنا قسمٌ ثالث لم يُصرِّح القرآنُ بذكره، وهو حكمُ انفراد الذكور من الولد، وهذا مما يُمكن إدخاله في حديث ابن عباس:"فما بقي فلأَوْلى رجلٍ ذكرٍ"، فإنَّ هذا القسم قد بقي ولم يُصرَّح بحكمه في القرآن، فيكون المالُ حينئذ لأقرب الذكور مِنَ الولد والأمرُ على هذا، فإنَّه لو اجتمع ابن وابنُ ابنٍ، لكان المال كُلُّه للابن، ولو كان ابنُ ابنٍ وابنُ ابنِ ابنٍ، لكان المال كلُّه لابنِ الابن على مقتضى حديث ابن عباس، والله أعلم.
ثم ذكر تعالى حُكم ميراث الأبوين، فقال:{وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ} ، فهذا حكم ميراث الأبوين إذا كان للولد المتوفَّى ولد، وسواءٌ في الولد الذكر والأنثى، وسواء فيه ولدُ الصُّلب وولدُ الابن، هذا كالإجماع من العلماء وقد حَكَى بعضهم عن مجاهدٍ فيه خلافًا، فمتى كان للميت ولدٌ، أو ولدُ ابن، وله أبوان، فلكلِّ واحدٍ من أبويه السدسُ فرضًا، ثم إنْ كان الولد ذكرًا، فالباقي بعد سدسي الأبوين له، وربما دخل هذا في قوله صلى الله عليه وسلم:"ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي، فلأوْلَى رجل ذكر".
وأقرب العصباتِ الابنُ، وإنْ كان الولد أنثى، فإن كانتا اثنتينِ فصاعدًا، فالثُّلثان لهنَّ، ولا يَفضُلُ من المال شيءٌ، وإنْ كانت بنتًا واحدةً، فلها النِّصفُ، ويفضلُ مِنَ المالِ سدسٌ آخر، فيأخذُه الأبُ بالتَّعصيب، عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم:"ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر"، فهو أولى رجل ذكر عندَ فقدِ الابن؛ إذ هو أقربُ من الأخ وابنه والعم وابنه.
ثم قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} ؛ يعني: أنه إذا لم يكن للميت ولد، وله أبوان يرثانه، فلأُمِّه الثلث، فيُفهم من ذلك أنَّ الباقي بعدَ الثلث للأب؛ لأنه أثبت ميراثه لأبويه، وخصَّ الأم من الميراث بالثلث، فعلم أنَّ الباقي للأب، ولم يقل: فللأب -مثلًا- ما للأم، لئلا يُوهم أنَّ اقتسامَهُما المالَ هو بالتَّعصيبِ كالأولاد والإخوة، إذا كان فيهم ذكورٌ وإناثٌ، وكان ابنُ عبّاس رضي الله عنهما يتمسَّك بهذه الآية بقوله في المسألتين الملقبتين بالعمريتين وهما: زوج وأبوان، وزوجة وأبوان، فإنَّ عمر رضي الله عنه قضى أنَّ
الزوجين يأخذان فرضَهُما من المال، وما بقي بعد فرضهما في المسألتين، فللأم ثلثُه، والباقي للأب، وتابعه على ذلك جمهور الأمة.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بل للأم الثلثُ كاملًا، تمسُّكًا بقوله:{فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} .
وقد قيل في جواب هذا: إنَّ الله إنَّما جعل للأم الثلث بشرطين:
أحدُهما: أنْ لا يكونَ للولد المتوفَّى ولدٌ، والثاني: أنْ يرِثَه أبواه؛ أي: أنْ ينفرِدَ أبواه بميراثه، فما لم ينفرد أبواه بميراثه، فلا تستحقُّ الأمُّ الثلث، وإنْ لم يكن للمتوفَّى ولدٌ.
وقد يقال -وهو أحسن-: إنَّ قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} ؛ أي: ممَّا ورثه الأبوان، ولم يقل: فلأمه الثلث مما ترك كما قال في السُّدس، فالمعنى: أنَّه إذا لم يكن له وَلَدٌ، وكان لأبويه مِن ماله ميراثٌ، فللأُمِّ ثُلُثُ ذلك الميراثِ الذي يختصُّ به الأبوان، ويبقى الباقي للأب، ولهذا السرِّ -والله أعلم- حيث ذكر الله الفروض المقدَّرة لأهلها، قال فيها:{مِمَّا تَرَكَ} ، أو ما يدل على ذلك، كقوله:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} ، ليبين أنَّ ذا الفرضِ حَقُّه ذلك الجزء المفروض المقدَّر له من جميع المال بعد الوصايا والديون، وحيث ذكر ميراثَ العصبات، أو ما يقتسِمُه الذُّكورُ والإناث على وجه التَّعصيب، كالأولاد والإخوة لم يقيِّده بشيء من ذلك، ليبيِّنَ أنَّ المالَ المقتسم بالتَّعصيب ليس هو المالَ كُلَّهُ، بل تارةً يكونُ جميع المال، وتارةً يكونُ هو الفاضلَ عن الفروض المفروضة المقدَّرة، وهُنا لمَّا ذكر ميراثَ الأبوين من ولدهما الذي لا ولدَ له، ولم يكن اقتسامهما للميراث بالفرض المحضِ، كما في ميراثهما مع الولد، ولا كان بالتَّعصيب المحض الذي يُعصب فيه الذَّكر الأنثى، ويأخذ مِثلَي ما تأخذُهُ الأنثى، بل كانت الأُمُّ تأخذُ ما تأخذُهُ بالفرض، والأب يأخذُ ما يأخذُهُ بالتَّعصيب، قال:{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} ؛ يعني: أنَّ القدر الذي يستحقُّه الأبوان من ميراثه تأخذُ الأُم ثلثه فرضًا، والباقي يأخذُه الأب بالتَّعصيب، وهذا ممَّا فتح الله به، ولا أعلم أحدًا سبق إليه، ولله الحمد والمنَّة.
ثم قال تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا
أَوْ دَيْنٍ}؛ يعني: أن للأمِّ السّدسَ مع الإخوة من جميع التركة الموروثة التي يقتسمها الورثة، ولم يذكر هنا ميراثَ الأب مع الأم، ولا شكَّ أنَّه إذا اجتمع أمٌّ وإخوةٌ ليس معهم أبٌ، فإنَّ للأمِّ السدسَ، والباقي للإخوة، ويحجبها الأخوانِ فصاعدًا عند الجمهور.
وأما إن كان مع الأُمِّ والإخوة أبٌ، فقال الأكثرون: يحجب الإخوة الأم ولا يرثون، ورُوي عن ابن عباس أنهم يرثُون السُّدسَ الذي حجبوا عنه الأم بالفرض كما يَرِثُ ولدُ الأم مع الأم بالفرض.
وقد قيل: إنَّ هذا مبنيٌّ على قوله: إنَّ الكلالةَ مَنْ لا ولدَ له خاصَّة، ولا يُشترط للكَلالةِ فَقْدُ الوالدِ، فيرثُ الإخوةُ مع الأب بالفرض.
ومن العلماء المتأخِّرين من قال: إذا كان الإخوةُ محجوبينَ بالأب، فلا يَحجُبُون الأمَّ عن شيءٍ، بل لها حينئذٍ الثُّلثُ، ورجَّحه الإمام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله، وقد يُؤخذ من عموم قولِ عمر وغيره من السَّلف: من لا يَرثُ لا يَحجُبُ، وقد قال نحوه أحمدُ، والخِرَقيّ، لكن أكثر العلماء يحملون ذلك على أنَّ المرادَ مَنْ ليس له أهليَّةُ الميراث بالكلِّيَّة، كالكافر والرقيق، دون من لا يرثُ، لانحجابه بمن هو أقرب منه، والله أعلم.
وقد يَشهَدُ للقولِ بأنَّ الإخوة إذا كانوا محجوبين لا يَحجُبونَ الأمَّ أنَّ الله تعالى قال: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} ، ولم يذكر الأب، فدلَّ على أن ذلك حكمُ انفراد الأم مع الإخوة، فيكون الباقي بعد السدس كلّه لهم، وهذا ضعيفٌ، فإنَّ الإخوة قد يكونون من أمٍّ، فلا يكونُ لهم سوى الثلث، والله تعالى أعلم.
واعلم: أنَّ الله تعالى ذكر حُكمَ ميراث الأبوين، ولم يذكر الجدَّ ولا الجدَّة، فأما الجدَّةُ، فقد قال أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما: إنه ليس لهما في كتاب الله شيءٌ، وقد حَكَى بعض العلماء الإجماع على ذلك، وأنَّ فرضها إنَّما ثبت بالسُّنَّة، وقيل: إنَّ السُّدس طعمةٌ أطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بفرضٍ، كذا رُوي عن ابن مسعود، وسعيد بن المسيِّب.
وقد رُوي عن ابن عباس من وجوهٍ فيها ضعفٌ أنها بمنْزلة الأم عندَ فقد الأم ترث ميراثَ الأم، فترث الثلثَ تارةً، والسدس أخرى، وهذا شذوذ، ولا
يصحُّ إلحاق الجدة بالجدِّ؛ لأنَّ الجدَّ عصبة يُدلي بعصبة، والجدَّة ذاتُ فرض تُدلي بذات فرض فضعفت، وقد قيل: إنَّه ليس لها فرض بالكلية، وإنما السدسُ طعمة أطعمها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، ولهذا قالت طائفة ممن يرى الردَّ على ذوي الفروض: إنَّه لا يُرَدُّ على الجدة، لضعف فرضها، وهو رواية عن أحمد.
وأما الجدُّ، فاتَّفق العلماءُ على أنَّه يقوم مقامَ الأب في أحواله المذكورة من قبلُ، فيرثُ مع الولدِ السُّدُسَ بالفرض، ومع عدمِ الولد يرثُ بالتعصيب، وإن بقي شيء مع إناث الولد أخذه بالتعصيب أيضًا عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم:"فما أبقتِ الفرائضُ، فلأَولى رَجُلٍ ذكر".
ولكنِ اختلفوا إذا اجتمع أمٌّ وجدٌّ مع أحد الزوجين، فرُوي عن طائفةٍ من الصَّحابة أنَّ للأم ثُلُثَ الباقي، كما لو كان معها الأبُ كما سبق، رُوي ذلك عن عمر، وابن مسعود كذا نقلهُ بعضُهم.
ومنهم من قال: إنَّما رُوي عن عمر، وابن مسعود في زوج وأم وجدٍّ أنَّ للأمِّ ثلث الباقي.
ورُوي عن ابن مسعود روايةٌ أخرى: أنَّ النَّصفَ الفاضلَ بين الجدِّ والأم نصفان، وأمَّا في زوجة وأمٍّ وجدٍّ، فرُوي عن ابن مسعود رواية شاذةٌ: أنَّ للأمِّ ثلثَ الباقي، والصَّحيحُ عنه، كقول الجمهور: إنَّ لها الثُّلثَ كاملًا، وهذا يشبه تفريقَ ابنِ سيرين في الأمِّ مع الأب أنَّه إنْ كان معهما زوج فللأمِّ ثلث الباقي، وإنْ كانَ معهما زوجة، فللأمِّ الثُّلْث.
وجمهورُ العلماء على أنَّ الأم لها الثلثُ مع الجدِّ مطلقًا، وهو قولُ عليٍّ وزيدٍ، وابنِ عباس، والفرق بين الأم مع الأب ومع الجدِّ أنَّها مع الأب يشملُها اسمٌ واحدٌ، وهما في القُرب سواءٌ إلى الميت، فيأخذ الذكرُ منهما مثلَ حظِّ الأنثى مرتين كالأولاد والإخوة، وأما الأم مع الجد، فليس يشملها اسمُ واحد، والجدُّ أبعدُ من الأب، فلا يلزمُ مساواته به في ذلك.
وأما إنِ اجتمع الجدُّ مع الإخوة، فإنْ كانوا لأُمٍّ سقطوا به؛ لأنَّهم إنَّما يرثون مِنَ الكَلالة، والكلالةُ: مَنْ لا وَلَدَ له ولا والد، إلا رواية شذَّتْ عن ابنِ عباسٍ.
وأما إن كانوا لأبٍ أو لأبوين، فقد اختلفَ العلماءُ في حكم ميراثهم
قديمًا وحديثًا، فمنهم من أسقط الإخوة بالجدِّ مطلقًا، كما يسقطون بالأب وهذا قولُ الصديق، ومعاذٍ، وابن عباس وغيرهم، واستدلُّوا بأنَّ الجدَّ أبٌ في كتاب الله عز وجل، فيدخلُ في مسمَّى الأب في المواريث، كما أنَّ ولدَ الولدِ ولدٌ، ويدخُل في مسمّى الولد عندَ عدم الولد بالاتفاق، وبأنَّ الإخوةَ إنَّما يرثون مع الكَلالة، فيحجبُهُم الجدُّ كالإخوة من الأب، وبأنَّ الجدَّ أقوى من الإخوة، لاجتماعِ الفَرضِ والتَّعصيب له من جهةٍ واحدةٍ، فهو كالأب، وحينئذٍ، فيدخلُ في عمومِ قوله صلى الله عليه وسلم:"فما بقي، فلأَوْلَى رجلٍ ذكرٍ".
ومنهم من شرَّك بَينَ الإخوة والجدّ وهو قولُ كثيرٍ من الصحابة، وأكثرُ الفقهاء بعدهم على اختلاف طويل بينهم في كيفية التشريك بينهم في الميراث، وكان مِنَ السَّلف مَنْ يتوقَّف في حكمهم ولا يُجيب فيهم بشيءٍ؛ لاشتباه أمرهم وإشكاله، ولولا خشيةُ الإطالة لبسطنا القولَ في هذه المسألة، ولكن ذلك يؤدِّي إلى الإطالة جدًا.
وأما حكمُ ميراث الإخوة للأبوين أو للأب، فقد ذكره الله تعالى في آخر "سورة النساء" في قوله تعالى:{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] والكَلالةُ مأخوذة من تكلُّلِ النسب وإحاطته بالميت، وذلك يقتضي انتفاءَ الانتساب مطلقًا من العمودين الأعلى والأسفل، وتنصيصُه تعالى على انتفاء الولد تنبيهٌ على انتفاء الوالد بطريق الأولى؛ لأنَّ انتسابَ الولد إلى والده أظهرُ من انتسابه إلى ولده، فكان ذكرُ عدم الولد تنبيهًا على عدم الوالد بطريق الأولى، وقد قال أبو بكر الصديق: الكلالةُ: مَنْ لا وَلَدَ له ولا والد، وتابعه جمهورُ الصحابة والعلماء بعدهم، وقد رُوي ذلك مرفوعًا من مراسيل أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، خرَّجه أبو داود في "المراسيل"، وخرَّجه الحاكم من روايةٍ عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعًا، وصححه، ووصلُه بذكر أبي هريرة ضعيفٌ
(1)
.
فقوله: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} ؛ يعني:
(1)
رواه الحاكم في "المستدرك"(4/ 336) وصححه، وردّه الذهبيّ بقوله: الحمّاني -وهو: يحيى بن عبد الحميد- ضعيف.
إذا لم يكن للميت ولدٌ بالكلِّيَّةِ لا ذكرٌ ولا أنثى، فللأخت -حينئذٍ- النِّصفُ مما ترك فرضًا، ومفهوم هذا أنَّه إذا كان له ولدٌ فليس للأخت النِّصفُ فرضًا، ثمَّ إنْ كان الولدُ ذكرًا، فهو أولى بالمالِ كلِّه لِما سبقَ تقريرُه في ميراث الأولاد الذُّكور إذا انفردوا، فإنَّهم أقربُ العصبات، وهم يُسقِطُون الإخوة، فكيف لا يُسقِطون الأخوات؟ وأيضًا، فقد قالَ تعالى:{وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} ، وهذا يدخلُ فيهِ ما إذا كانَ هناك ذو فرضٍ كالبنات وغيرهنَّ، فإذا استحقَّ الفاضلُ ذكورَ الإخوة مع الأخوات، فإذا انفردوا، فكذلك يستحقُّونه وأولى، وإنْ كانَ الولدُ أنثى، فليس للأختِ هنا النِّصفُ بالفرض، ولكن لها الباقي بالتَّعصيب عندَ جمهور العلماء، وقد سبق ذكرُ ذَلِكَ والاختلافُ فيهِ، فلو كانَ هناك ابنٌ لا يستوعِبُ المالَ وأختٌ، مثلُ ابنٍ نصفُه حر عندَ من يُوَرِّثه نصفَ الميراث، وهو مذهبُ الإمام أحمد وغيره من العلماء، فهل يقال: إنَّ الابن هنا يُسقِطُ نصفَ فرض الأخت، فَتَرِث معه الرُّبعَ فرضًا، أم يقال: إنَّه يصيرُ كالبنت، فتصير الأختُ معه عصبة، كما تصير مع الأخت
(1)
، لكنَّه يسقط نصفَ تعصيبها فتأخذ معه النِّصف الباقي بالتعصيب؟ هذا محتمل، وفي هذه المسألة لأصحابنا وجهان.
وقوله تعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} ؛ يعني: أنَّ الأخ يستقلُّ بميراث أخته إذا لم يكن لها ولدٌ ذكرٌ أو أنثى، فإنْ كان لها ولدٌ ذكرٌ، فهو أولى مِنَ الأخ بغير إشكالٍ، فإنَّه أولى رجل ذكرٍ، وإنْ كان أنثى، فالباقي بعد فرضها يكونُ للأخ؛ لأنّه أولى رجلٍ ذكرٍ، ولكن لا يستقلُّ بميراثها حينئذٍ، كما إذا لم يكن لها ولَدٌ.
وقوله: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} ؛ يعني: أنَّ فرضَ الثِّنتين الثلثان، كما أنّ فرض الواحدةِ النِّصفُ، فهذا كلُّه في حكم انفرادِ الإخوة والأخوات، وأما حكم اجتماعهم، فقد قال تعالى:{وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} فيدخلُ في ذلك ما إذا كانوا منفردين، وأما إذا كان هناك ذو فرضٍ مِنَ الأولاد أو غيرهم، كأحد الزوجين أو الأم أو الإخوة
(1)
كتب في الهامش ما نصه: الظاهر أنه مع البنت. انتهى.
من الأم، فيكون الفاضلُ عن فروضهم للإخوة والأخوات بينهم للذَّكر مثلُ حظِّ الأنثيين.
فقد تبيَّن بما ذكرناه أنَّ وجودَ الولد إنما يُسقط فرضَ الأخوات مِنَ الأبوين أو الأب، ولا يُسقط توريثَهُن بالتَّعصيب مع أخواتهنَّ بالإجماع، ولا تَعْصِيبُهُنَّ بانفرادهنَّ مع البناتِ عند الجمهور، فالكلالةُ شرطٌ لثبوت فرض الأخوات، لا لثبوت ميراثهنّ، كما أنَّه ليس بشرطٍ لميراثِ ذكورهم بالإجماع، وهذا بخلافِ ولدِ الأمِّ، فإنَّ انتفاءَ الكلالة أسقطت فروضَهم، وإذا أسقطت فروضَهم، سقطت مواريثُهُم؛ لأنَّه لا تعصيبَ لهم بحالٍ، لإدلائهم بأنثى، والأخوات للأبوين أو للأب يُدلون بذكرٍ، فيرثنَ بالتَّعصيبِ مع إخوتهن بالاتفاق، وبانفرادهن مع البنات عند الجمهور.
وإذا كان الولد مسقطًا لفرض ولد الأبوين، أو الأب دونَ أصل توريثهم بغير الفرض، فقد يقال: إنَّ الله تعالى إنّما خصَّ انتفاءَ الولد في قوله: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} ولم يذكر انتفاء الوالد، أو الأب؛ لأنَّه كان يدخلُ فيه الجدّ، والجدُّ لا يُسقط ميراث الإخوة بالكليَّة، وإنَّما يشتركون معه في ميراث، تارةً بالفرض، وتارةً بغيره، وهذا على قول من يقول: إنَّ الجدَّ لا يُسقِطُ الإخوة -وهُمُ الجمهورُ- ظاهرٌ، وهذا كلُّه في انفرادِ ولدِ الأبوين أو الأب، فإن اجتمعوا، فإنَّ العصبات مِنْ ولد الأبوين يُسقطون ولدَ الأب كلهم بغير خلافٍ، حتى في الأخت مِنَ الأبوين مع البنت عند من يجعلُها عصبةً يَسقط بها الأخ من الأبوين.
وفي "المسند"، و"الترمذي"، و"ابن ماجه"، عن عليٍّ قال: قضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنَّ أعيانَ بني الأم يرثُون دونَ بني العَلَّاتِ، يَرِثُ الرَّجُلُ أخاه لأبيه وأمه دونَ أخيه لأبيه
(1)
.
(1)
رواه أحمد في "مسنده" 1/ 79 و 131 و 144، والترمذيّ (2095)، وابن ماجه (271) من طريق أبي إسحاق، عن الحارث، عن عليّ رضي الله عنه، قال الترمذيّ: وهذا حديث لا نعرفه إلا من حديث أبي إسحاق، عن الحارث، عن عليّ، وقد تكلّم بعض أهل العلم في الحارث، والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم. انتهى. =
وقال عمرو بنُ شعيب: قضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنَّ الأخ للأب والأم أولى بالكلالةِ بالميراث، ثم الأخ للأب، وهذا أيضًا مما يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم:"فما بقي فلأَوْلى رجلٍ ذكرٍ".
والتحقيقُ في ذلك: أنَّ كلَّ ما دلَّ عليه القرآن، ولو بالتَّنبيه، فليس هو ممَّا أبقته الفرائض، بل هو من إلحاق الفرائض المذكورة في القرآن بأهلها، كتوريثِ الأولاد ذكورهم وإناثهم الفاضل عن الفُروض، للذّكر مثلُ حظّ الأنثيين، وتوريث الإخوة ذكورهم وإناثهم كذلك، ودلَّ ذلك بطريق التَّنبيه على أنَّ الباقي يأخذُه الذَّكرُ منهم عند الانفراد بطريق الأولى، ودلَّ أيضًا بالتَّنبيه على أنَّ الأخت تأخذُ الباقي مع البنت كما كانت تأخذُه مع أخيها، ولا يُقدَّمُ عليها من هو أبعدُ منها، كابن الأخ والعم وابنه، فإنَّ أخاها إذا لم يُسقطها فكيف يُسقِطها من هو أبعدُ منه؟ فهذا كلُّه من باب إلحاق الفرائض بأهلها، ومن باب قسمة المال بين أهلِ الفرائض على كتاب الله.
وأمَّا مَنْ لم يُذكر باسمه مِنَ العصبات في القرآن؛ كابن الأخ، والعم، وابنه، وإنَّما دخل في عمومات مثل قوله تعالى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75]، وقوله:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [النساء: 33]، فهذا يحتاج في توريثهم إلى هذا الحديث؛ أعني: حديث ابن عباس، فإذا لم يُوجَدْ للمال وارثٌ غيرهم، انفردوا به، ويقدَّم منهمُ الأقربُ فالأقربُ؛ لأنَّه أولى رجلٍ ذكرٍ، وإنْ وُجِدَت فروضٌ لا تستغرقُ المالَ، كأحدِ الزوجين أو الأم، أو ولد الأمِّ، أو بناتٍ منفردات، أو أخوات منفردات، فالباقي كلُّه لأولى ذكر من هؤلاء، ولهذا لو كان هؤلاء إخوةً رجالًا ونساءً، لاختصَّ به رجالُهم دون نسائهم، بخلاف الأولاد والإخوة، فإنَّه يشترك في الباقي، أو في المال كلِّه ذكورهم وإناثهم بنص القرآن، والحديث إنَّما دلَّ على توريث العصبات الذين يختصّ ذكورهم دون إناثهم، وهم مَنْ عدا الأولاد
= قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره"(2/ 199) بعد نقل كلام الترمذيّ هذا في الحارث: لكن كان حافظًا للفرائض، معتنيًا بها وبالحساب. انتهى.
والإخوة، فهذا حكمُ العصبات، المذكورين في كتاب الله عز وجل، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
وأما ذوو الفروضِ، فقد ذكرنا حكمَ مواريثهم، ولم يبقَ منهم إلَّا الزوجان والإخوة للأمِّ، فأمَّا الزوجان، فيرثان بسبب عقد النكاح، ولمَّا كان بين الزوجين من الألفة والمودَّة والتَّناصُر والتعاضُدِ ما بينَ الأقارب، جعل ميراثهما كميراث الأقارب، وجُعل للذَّكر منهما مِثْلا ما للأنثى؛ لامتياز الذكر على الأنثى بمزيد النَّفع بالإنفاق والنصرة.
وأما ولدُ الأمِّ، فإنَّهم ليسوا من قبيلةِ الرَّجُلِ، ولا عشيرته، وإنَّما هم في المعنى من ذوي رحمِهِ، ففرضَ الله لواحدهم السُّدُسَ، ولجماعتهم الثُّلث صلةً، وسوَّى بين ذكورهم وإناثهم، حيث لم يكن لذكرهم زيادةً على أنثاهم في الحياة من المعاضدة والمناصرة، كما بين أهلِ القبيلة والعشيرة الواحدة، فسوَّى بينهم في الصِّلة، ولهذا لم تُشرع الوصيَّةُ للأجانب بزيادة على الثلث، بل كان الثُّلثُ كثيرًا في حقِّهم؛ لأنَّهم أبعدُ من ولدِ الأمِّ، فينبغي أنْ لا يُزادوا على ما يُوصل به ولدُ الأم، بل ينقصون منه.
واستَدَلَّ بعضُهم بقوله: "فما بقي فلأولى رجلٍ ذكرٍ" على أنْ لا ميراثَ لذوي الأرحام؛ لأنَّه لم يُجعل حقُّ الميراثِ لمن لم يُذكر في القرآن إلا لأقربِ الذكور، وهذا الحكمُ يختصُّ بالعصبات دون ذوي الأرحام، فإنَّ مَنْ ورَّث ذوي الأرحام، ورَّث ذكورهم وإناثهم.
وأجاب من يرى توريثَ ذوي الأرحام بأنَّ هذا الحديثَ دلَّ على توريث العصبات، لا على نفي توريث غيرهم، وتوريثُ ذوي الأرحام مأخوذٌ من أدلةٍ أخرى، فيكون ذلك زيادةً على ما دلَّ عليه حديثُ ابن عباس رضي الله عنهما.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لأولى، رجلٍ ذكرٍ" مع أنَّ الرجلَ لا يكونُ إلّا ذكرًا، فالجوابُ الصحيحُ عنه أنَّه قد يُطلَقُ الرجل، ويرادُ به الشخص، كقوله: مَن وَجَدَ ماله عند رجل قد أفلس، ولا فرقَ بينَ أنْ يجده عند رجلٍ أو امرأة، فتقييدُه بالذَّكر ينفي هذا الاحتمال، ويُخلصه للذكر دونَ الأنثى وهو المقصودُ، وكذلك الابنُ: لمَّا كان قد يُطلق، ويُراد به أعمُّ من الذكر، كقوله: ابن السبيل، جاء تقييدُ ابنِ اللبون في نُصُب الزكاة بالذِّكر، وللسهيلي كلامٌ على هذا
الحديث فيه تكلُّفٌ وتَعسُّفٌ شديدٌ ولا طائلَ تحته
(1)
، وقد ردَّه عليه جماعة ممن أدركناهم، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله: بطوله
(2)
، وهو بحث نفيسٌ، وتحقيق أنيس، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4135]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ الْعَيْشِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ الْقَاسِم، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا تَرَكَتِ الْفَرَائِضُ فَلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ الْعَيْشِيُّ) أبو بكر البصريّ، صدوقٌ [10](ت 231)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) العيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
3 -
(رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ) التميميّ الْعَنْبَريّ، أبو غياث البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [6](ت 141)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (فَمَا تَرَكَتِ الْفَرَائِضُ فَلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ) قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فلأولى رجل ذكر"، وفي غير مسلم:"لأولى عصبة ذكر"، و"أوْلى" بفتح الهمزة، وواو ساكنة، بعدها ياءٌ: تأنيث "أوَّل"، وهذه الرواية المشهورة، وقد رواها ابن الحذَّاء عن ابن ماهان:"لأدنى" وهو تفسير لـ "أولى" ويعني به: الأقرب للميت.
وقد اختلفوا في وصف الرَّجل بالذُّكوريَّة هنا؛ هل له فائدة، أو لا؟ فقال
(1)
قد تقدّم ذكر ما قاله السهيليّ في عبارة "الفتح"، فلا تنس، وبالله تعالى التوفيق.
(2)
"جامع العلوم والحكم" 2/ 419 - 437.
بعضهم: لا فائدة له غير التأكيد اللفظيِّ؛ فإن العرب قد تعيد اللفظ الأول بحاله، وقد تأتي في كلامها مُتْبِعة على جهة التأكيد، كما قالوا: حسن بَسَنٌ، وقبيح شقيحٌ. وكذلك قالوا هنا: رجل ذَكَر، وابن لبون ذَكَر، ويطير بجناحيه، وعشرة كاملةٌ، فهذا كلامُ العرب. وأجيبوا: بأن العرب لا تؤكد إلا حيث تفيدُ به فائدةً؛ إمَّا تمكين المعنى في النفس، أو رفع المجاز المتوهَّم، وكل ذلك معدومٌ فيما نحن فيه.
وقيل: أفاد بقوله: "ذكر" هنا، وفي قوله:"ابن لَبُون ذكر" التحرز من الخناثى، فلا تُؤخذ الخنثى في فريضة الزَّكاة، ولا يحوز المال إذا انفرد، وإنَّما له نصف الميراثين.
وقيل في اللَّبُون: إنَّما وصف بالذُّكوريَّة ليتحرز ممن يتوهم إطلاق "ابن" على الأنثى، كما قد أطلق "ولد" على الذكر والأنثى.
وقيل: إنَّما نبَّه بالذكورية في المَحَلَّين لينبِّه على معنى مُشْعرٍ بتعليل، وذلك: أن ابن اللبون أفضل من بنت المخاض من حيث السِّن، وقد نزَّله الشارعُ بمنزلتها في الأخذ، فقد يخفى على من بَعُد فَهْمُه، ويقول: كيف يَجْعَلُهُ بدلها وهو أفضل؟ فوصفه بـ "ذكر"؛ ليشعر بنقصه عنها بالذكورية، وإن زاد عليها بالسِّن، وكذلك: وصفُ الرَّجل بالذُّكوريَّة مشعرٌ بأن الذي استحق به التعصيب هو كمال الذُّكوريَّة؛ التي بها قوام الأمور، ومقاومة الأعداء، والله أعلم.
و"العصبة": كل رجل بينه وبين الميت نسب يحوز المال إذا انفرد، فيرث ما فضل عن ذوي السِّهام.
والعصبات ثلاثة أصناف: الأبناء وبنوهم، والآباء وبنوهم، والأجداد وبنوهم، وتفصيل هذه الجملة في كتب الفقه.
ويُستفاد من هذا الحديث: أن النساء لا يكنَّ عصبةً، وقد أطلق الفقهاءُ على الأخت مع البنت أنَّها عصبة، وذلك تجوُّز؛ لأن الأخت لا تحوز المالَ إذا انفردت، لكنَّها لما كانت في هذه المسألة تأخذ ما فضل عن البنت أشبهت العاصب فأطلق عليها اسمه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
(1)
"المفهم" 4/ 565 - 566.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4136]
(
…
) - (حَدَّثنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ رَافِعٍ- قَالَ إِسْحَاقُ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اقْسِمُوا الْمَالَ بَيْنَ أَهْلِ الْفَرَائِضِ عَلَى كِتَابِ اللهِ، فَمَا تَرَكَتِ الْفَرَائِضُ فَلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قريبًا.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القشيريّ مولاهم، أبو عبد الله النيسابوريّ الزاهد، ثقةٌ عابدٌ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
3 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسّيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
4 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
5 -
(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
والباقون تقدموا في السند الماضي.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4137]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ أَبُو كُرَيْبٍ الْهَمْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا زيدُ بْنُ حُبَابٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ وُهَيْبٍ، وَرَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ أَبُو كُرَيْبٍ الْهَمْدَانِيُّ) أحد مشايخ الجماعة بل واسطة، تقدّم قريبًا.
2 -
(زيدُ بْنُ حُبَابٍ) الْعُكْليّ الكوفيّ، خراسانيّ الأصل، صدوقٌ يُخطئ في حديث الثوريّ [9](ت 203)(م 4) تقدم في "الطهارة" 6/ 560.
3 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) الغافقيّ
(1)
، أبو العبّاس المصريّ، صدوقٌ ربّما أخطأ [7](ت 168)(ع) تقدم في "الحيض" 26/ 820.
و"ابن طاوس" ذُكِر قبله.
[تنبيه]: رواية يحيى بن أيوب، عن عبد الله بن طاوس هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4138]
(1616) - (حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بُكَيْرٍ النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: مَرِضْتُ، فَأَتَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ يَعُودَانِي، مَاشِيَيْنِ، فَأُغْمِيَ عَلَيَّ، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ صَبَّ عَلَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ، فَأَفَقْتُ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ أَقْضِي فِي مَالِي؟، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ شَيْئًا، حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176]).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بُكَيْرٍ النَّاقِدُ) البغداديّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) الإمام المعروف، تقدّم قبل باب.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ) بن عبد الله بن الْهُدَير التيميّ المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [3](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.
(1)
[تنبيه]: وقع غلط في برنامج الحديث للكتب التسعة، حيث ترجموا هنا ليحيى بن أيوب المقابريّ، من الطبقة العاشرة، والصواب يحيى بن أيوب الغافقيّ المصريّ من الطبقة السابعة، ومما يبيّن غلطهم هذا أن يحيى بن أيوب المقابريّ وُلد -كما في "تهذيب التهذيب" 4/ 343 - سنة (157 هـ) ومات عبد الله بن طاوس -كما في التهذيب أيضًا- سنة (132 هـ)؛ أي: قبل ولادة يحيى بنحو خمس وثلاثين سنة، فتنبّه لهذا الغلط، والله تعالى وليّ التوفيق.
4 -
(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حرام رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (276) من رباعيّات الكتاب، وفيه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما صحابيّ ابن صحابيّ، وهو أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ) أنه (سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (قَالَ: مَرِضْتُ) بكسر الراء، قال المجد رحمه الله: المَرَضُ: إظْلامُ الطَّبيعةِ، واضْطِرابُها بعدَ صفائِهَا واعْتِدَالِها، مَرِضَ، كفَرِحَ مَرَضًا وَمرْضًا
(1)
فهو مَرِضٌ، ومَريضٌ، ومارضٌ، جمعه: مِراضٌ، ومَرْضَى، ومَراضَى، أو المَرْضُ بالفتح: للقَلْبِ خاصَّةً، وبالتحريكِ أو كلاهُما: الشكُّ، والنِّفاقُ، والفُتورُ، والظُّلْمَةُ، والنُّقْصَانُ
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: مَرِضَ الحيوان مَرَضًا، من باب تعب، والمَرَضُ: حالةٌ خارجةٌ عن الطبع، ضَارَّةٌ بالفعل، ويُعْلَم من هذا أن الآلام، والأورام، أعراض عن المرض، وقال ابن فارس: المَرَضُ: كلُّ ما خرج به الإنسان عن حدّ الصحة، من عِلّة، أو نفاق، أو تقصير في أمر، ومَرِضَ مَرَضًا: لغة قليلة الاستعمال، قال الأصمعيّ: قرأت على أبي عمرو بن العلاء: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [المائدة: 52]، فقال لي: مَرْضٌ يا غلام؛ أي: بالسكون، والفاعل من الأولى: مَرِيضٌ، وجمعه مَرْضَى، ومن الثانية: مَارِضٌ، قال:
لَيْسَ بِمَهْزُولٍ وَلا بِمَارِضٍ
…
ويُعَدَّى بالهمزة، فيقال: أَمْرَضَهُ الله، ومَرَّضْتُهُ تَمْرِيضًا: تكفلت بمداواته. انتهى
(3)
.
(فَأَتَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ يَعُودَانِي)؛ أي: يزوران، يقال: عاد المريضَ يعوده عَوْدًا، وعِيَادًا، وعِيَادةً، وعُودةً بالضمّ: إذا زاره
(4)
.
(1)
الأول بفتحتين، والثاني بفتح، فسكون.
(2)
"القاموس المحيط" ص 1217 - 1218.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 568 - 569.
(4)
راجع: "القاموس" ص 924.
وفي الرواية التالية: "قال: عادني النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر في بني سَلِمَةَ يمشيان"، وبنو سَلِمة -بفتح السين المهملة، وكسر اللام-: هم قوم جابر رضي الله عنه، وهم بطن من الخزرج، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقوله: (مَاشِيَيْنِ) منصوب على الحال، وفي بعض النسخ:"ماشيان"، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في أكثر النسخ: "ماشيان"، وفي بعضها:"ماشيين"، وهذا ظاهر، والأول صحيحٌ أيضًا، وتقديره: وهما ماشيان، وفيه فضيلة عِيَادة المريض، واستحباب المشي فيها. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: إنما أتياه ماشيين مبالغة في التواضع، وفي كثرة أجر المشي؛ لأن المشي للقرب التي لا يُحتاج فيها إلى كبير مؤونة، ولا نفقة أفضل من الركوب بدليل ما ذكرناه في الجمعة، وقد ذكرنا الخلاف في ذلك في الحجّ. انتهى
(3)
.
(فَأُغْمِيَ عَلَيَّ) بالبناء للمجهول، قال الفيّوميّ رحمه الله: وغُمِي على المريض، ثلاثيٌّ، مبنيّ للمفعول، فهو مَغْميّ عليه، على مفعول، قاله ابن السّكّيت، وجماعة، وأُغْمِيَ عليه إِغْماءً بالبناء للمفعول أيضًا، وقال في مادّة "غُشِيَ": يقال: إن الْغَشْيَ يُعَطِّلُ الْقُوَى المحرّكة، والأَوْرِدةَ الْحَسَّاسة؛ لضعف القلب بسبب وجع شديد، أو بَرْدٍ، أو جوعٍ مُفْرِطٍ، وقيل: الْغَشْيُ هو الإغماء، وقيل: الإغماء: امتلاء بُطون الدماغ من بَلْغَم باردٍ غَلِيظٍ، وقيل: الإغماء سَهْوٌ يَلْحق الإنسان مع فتور الأعضاء لعلّة. انتهى
(4)
.
(فَتَوَضَّأَ) وفي الرواية التالية: "فوجدني لا أعقل، فدعا بماء، فتوضّأ، ثم رَشَّ عليّ منه"(ثُمَّ صَبَّ عَلَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ) بفتح الواو؛ لأن المراد الماء الذي توضّأ به، قال في "الفتح": قوله: "من وَضوئه" يَحْتَمِل أن يكون المراد: صبّ عليّ بعض الماء الذي توضّأ به، أو مما بقي منه، والأول المراد، ففي رواية للبخاريّ في "الاعتصام":"ثمّ صَبّ وَضوءه عليّ"، ولأبي داود:"فتوضّأ، وصبّه عليّ"(فَأَفَقْتُ) وفي الرواية الآية: "فَعَقَلتُ"، يقال: أفاق المجنون إفاقةً:
(1)
"الفتح" 10/ 37.
(2)
"شرح النوويّ" 11/ 55.
(3)
"المفهم" 4/ 569.
(4)
"المصباح المنير" 2/ 448 و 454.
رَجَع إليه عقله، وأفاق السكران إفاقةً، والأصل أفاق من سُكْره، كما استيقظ من نومه
(1)
. (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ أَقْضِي فِي مَالِي؟)؛ أي: ماذا أفعل فيه، وفي الرواية التالية:"فقلت: كيف أصنع في مالي؟ "، وفي رواية:"فقلت: يا رسول الله إنما يرثني كلالةٌ"، وفي رواية للبخاريّ:"ما تأمرني أن أصنع في مالي؟ ".
قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فقلت: يا رسول الله! كيف أقضي في مالي؟ إنَّما يرثني كلالة"، هذا السؤال كان قبل نزول آيات المواريث على ما يدلّ عليه قوله: فنزلت {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} ، وقد تقدَّم: أن الحكم كان قبل ذلك وجوب الوصية للأقربين، وعلى هذا فيكون سؤال جابر للنبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: كيف أقضي في مالي؟ كيف أوصي فيه؟ وبماذا أوصي؟ ولمن أوصي؟ فأنزل الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} ، فنَسَخَت وجوبَ الوصيَّة للأقربين على ما قدَّمناه، وأما إن كان الذي نزل في جوابه:{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} ، فيكون هذا السؤال بعد نزول {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} ، وقبل نزول آية الكلالة، وهذا هو الأقرب والأنسب لقوله:"إنما يرثني كلالة"، وذلك السؤال هو الذي عَنَى الله تعالى بقوله:{يَسْتَفْتُونَكَ} ، ثم قال:{قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} .
قال: وقد تقدم ذكر الاختلاف في اشتقاق الكلالة، وفي معناها في "كتاب الصلاة"، والقول هنا في بيان المختار من الأقوال، ولا شكَّ أن جابرًا قد أطلق على ورثته كلالةً، وما كان له وارث يومئذ سوى أخواته، فإن أباه كان قُتل يوم أُحد، وترك سبع بنات وجابرًا، فهنَّ اللاتي سَمَّاهنَّ كلالة، وهنَّ اللاتي أجيب فيهنَّ بقوله:{قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} ، ولم يكن له ولد، ولا والد.
فقد ظهرت صحَّة قول من قال: إن الكلالة هي ما عدا الولدَ والوالد، وإن الإخوة المذكورين فيها ليسوا إخوة لأم قطعًا؛ لأن أخوات جابر لم يكنّ لأم، ولأن الإخوة للأم لا يقتسمون للذكر مثل حظِّ الأنثيين، ومقصود هذه الآية: بيان حكم الإخوة، والأخوات للأب والأُمّ، أو للأب إذا لم يكن معهنَّ
(1)
"المصباح المنير" 2/ 484.
ولدٌ، ولا والدٌ، وإنما قلنا ذلك: لأن الولد مصرَّحٌ بنفيه في الآية بقوله: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} ، والأب أيضًا لا بدَّ من نفيه في هذه الآية؛ لأنه لو كان أبٌ مع الإخوة لحجَبهم كلَّهم جملة بغير تفصيل، وأمَّا الجدَّ مع الإخوة الأشقاء، أو للأب، فيقاسمهم ما لم تنقصه المقاسمة من الثلث، فله أن يأخذه، وعلى هذا فالجدّ تصحُّ معه الكلالة؛ لأنه كالأخ معهم، وأما الآية التي في أول السورة فالمراد بالكلالة فيها: الإخوة للأم إذا لم يكن معهم ابن، ولا أب، ولا جدّ؛ لأن هؤلاء كلّهم يحجبون الإخوة للأم، ولقراءة سعد:"وله أخ أو أخت لأم"؛ ولأن الإخوة الأشقاء أو للأب لا يرث الواحد منهم السدس، ولا الاثنان فصاعدًا الثلث، وإنما ذلك فرض الإخوة للأم، فقد ظهر بهذا البحث الدقيق: أن القول ما قاله أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه، وأمَّا قولا الاشتقاق: فكلاهما معنى صحيح بالاتفاق لأن من فقد الطرفين فقد تَكلَّله نفي المانعين، أو لأنه لمّا كلَّ منه الرحم الوالد وثب على متروكه الأباعد. انتهى
(1)
.
(فَلَمْ يَرُدَّ) صلى الله عليه وسلم (عَلَيَّ شَيْئًا) قال في "الفتح": استُدلّ به على أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يجتهد، ورُدّ بأنه لا يلزم من انتظاره الوحي في هذه القصّة الخاصّة عموم ذلك في كلّ قصّة، ولا سيّما وهي في مسألة المواريث التي غالبها لا مجال للرأي فيه.
سلّمنا أنه كان يمكنه أن يجتهد فيها، لكن لعلّه كان ينتظر الوحي أوّلًا، فإن لم ينزل اجتَهَد، فلا يدلّ على نفي الاجتهاد مطلقًا. انتهى، وهو تحقيق نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
(حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176]) وفي رواية ابن جريج التالية: "فنزلت {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} "، قال في "الفتح": هكذا وقع في رواية ابن جريج، وقيل: إنه وَهِمَ في ذلك، وأن الصواب أن الآية التي نزلت في قصة جابر هذه الآية الأخيرة من النساء، وهي {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176]؛ لأن جابرًا رضي الله عنه يومئذٍ لم يكن له ولد، ولا والد، والكلالة مَن لا ولد
(1)
"المفهم" 4/ 570 - 571.
له، ولا والد، وقد أخرجه مسلم عن عمرو الناقد -يعني: هذه الرواية- والنسائيّ عن محمد بن منصور، كلاهما عن ابن عيينة، عن ابن المنكدر، فقال في هذا الحديث:"حتى نزلت عليه آية الميراث، {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} "، ولمسلم أيضًا من طريق شعبة، عن ابن المنكدر -يعني الرواية الآتية بعد حديثين- قال في آخر هذا الحديث:"فنزلت آية الميراث، فقلت لمحمد بن المنكدر: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}؟ قال: هكذا أنزلت".
قال: وقد تفطن البخاريّ بذلك، فترجم في أول الفرائض قوله:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} إلى قوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} ، ثم ساق حديث جابر المذكور عن قتيبة، عن ابن عيينة، وفي آخره:"حتى نزلت آية الميراث"، ولم يذكر ما زاده الناقد، فأشعر بأن الزيادة عنده مدرجة من كلام ابن عيينة.
وقد أخرجه أحمد، عن ابن عيينة، مثل رواية الناقد، وزاد في آخره:"كان ليس له ولد، وله أخوات"، وهذا من كلام ابن عيينة أيضًا، وقد اضطرب فيه، فأخرجه ابن خزيمة، عن عبد الجبار بن العلاء، عنه، بلفظ:"حتى نزلت آية الميراث: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ}، وقال مرة: "حتى نزلت آية الكلالة".
وأخرجه عبد بن حميد، والترمذيّ عنه، عن يحيى بن آدم، عن ابن عيينة، بلفظ:"حتى نزلت: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} ".
وأخرجه الإسماعيليّ من طريق إسحاق بن أبي إسرائيل، عنه، فقال في آخره:"حتى نزلت آية الميراث: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} "، فمراد البخاريّ بقوله في الترجمة:"إلى قوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} " الإشارة إلى أن مراد جابر من آية الميراث قوله: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً} ، وأما الآية الأخرى، وهي قوله:{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} " فإنها من آخر ما نَزَل، فكأن الكلالة لمّا كانت مجملةً في آية المواريث، استفتوا عنها، فنزلت الآية الأخيرة.
قال: ولم ينفرد ابن جريج بتعيين الآية المذكورة، فقد ذكرها ابن عيينة أيضًا على الاختلاف عنه، وكذا أخرجه الترمذيّ، والحاكم، من طريق عمرو بن أبي قيس، عن ابن المنكدر، وفيه:"نزلت: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} "، وقد
أخرجه البخاريّ أيضًا عن ابن المدينيّ، وعن الجعفيّ مثل رواية قتيبة بدون الزيادة، وهو المحفوظ، وكذا أخرجه مسلم من طريق سفيان الثوريّ -يعني: الرواية الآتية بعد حديث- عن ابن المنكدر، بلفظ:"حتى نزلت آية الميراث".
فالحاصل أن المحفوظ عن ابن المنكدر أنه قال: آية الميراث، أو آية الفرائض، والظاهر أنها:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ} كما صُرِّح به في رواية ابن جريج، ومن تابعه.
وأما من قال: إنها {يَسْتَفْتُونَكَ} فعمدته أن جابرًا لم يكن له حينئذ ولد، وإنما كان يورث كلالةً، فكان المناسب لقصته نزول الآية الأخيرة، لكن ليس ذلك بلازم؛ لأن الكلالة مختلف في تفسيرها، فقيل: هي اسم المال الموروث، وقيل: اسم الميت، وقيل: اسم الإرث، وقيل: ما تقدم، فلما لم يعيّن تفسيرها بمن لا ولد له ولا والد، لم يصح الاستدلال؛ لِمَا قدَّمته أنها نزلت في آخر الأمر، وآية المواريث نزلت قبل ذلك بمدة، كما أخرج أحمد، وأصحاب السنن، وصححه الحاكم من طريق عبد الله بن محمد بن عَقِيل، عن جابر رضي الله عنه قال:"جاءت امرأة سعد بن الربيع، فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع قُتل أبوهما معك في أُحد، وأن عمهما أَخَذ مالهما، قال: يقضي الله في ذلك، فنزلت آية الميراث، فأرسل إلى عمهما، فقال: أعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، فما بقي فهو لك"، وهذا ظاهر في تقدم نزولها.
نعم وبه احتَجَّ من قال: إنها لم تنزل في قصة جابر، إنما نزلت في قصة ابنتي سعد بن الربيع، وليس ذلك بلازم؛ إذ لا مانع أن تنزل في الأمرين معًا.
ويَحْتَمِل أن يكون نزول أولها في قصة البنتين، وآخرها، وهي قوله:{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً} في قصة جابر، ويكون مراد جابر: فنزلت {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} أي: ذِكْرُ الكلالة المتصل بهذه الآية، والله أعلم.
وإذا تقرر جميع ذلك، ظَهَر أن ابن جريج لم يَهِمْ كما جَزَم به الدمياطيّ، ومن تبعه، وأن مَن وَهَّمه هو الواهم، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله في "الفتح"
(1)
.
(1)
"الفتح" 10/ 38 - 39، كتاب "التفسير" رقم (4577).
وقد تعقّب بعض المتأخّرين
(1)
جمع الحافظ المذكور، فقال: ويردّ على تحقيق الحافظ ما أخرجه أبو داود في "سننه" من طريق هشام الدستوائيّ، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، قال:"اشتكيتُ، وعندي سبع أخوات، فدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنفخ في وجهي، فأفقت، فقلت: يا رسول الله، ألا أُوصي لأخواتي بالثلث؟، قال: أحسن، قلت: الشطر؟، قال: أحسن، ثم خرج، وتركني، فقال: يا جابر لا أراك ميتًا من وجعك هذا، وإن الله قد أَنْزَل، فَبَيَّن الذي لأخواتك، فجعل لهنّ الثلثين، قال: فكان جابر يقول: أُنزلت هذه الآية فيّ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} الآية [النساء: 176] "
(2)
.
قال: والظاهر أن قصّة هذا الحديث عَيْنُ قصّة حديث الباب، وتعدّد القصّة -كما اختاره الحافظ- بعيد جدًّا.
قال: وإن هذا الحديث تبيّن منه أمران:
الأول: أن جابرًا هو الذي عيّن الآية التي نزلت في قصته.
والثاني: أن تلك الآية هي التي في آخر "سورة النساء" من آية الكلالة، وكِلا الأمرين يردّ ما قاله الحافظ، ويثبت أن الجزم بوهم ابن عيينة في حديث الباب لا سبيل إليه.
قال: ولعلّ الحافظ نفسه تنبّه لهذا في أول "كتاب الفرائض"، فاختار للجمع بين الروايات طريقًا آخر، فقال: ويظهر أن يقال: إن كُلًّا من الآيتين لَمّا كان فيها ذِكْرُ الكلالة نزلت في ذلك، لكن الآية الأولى لمّا كانت الكلالة فيها خاصّة بميراث الإخوة من الأم، كما كان ابن مسعود يقرأ:"وله أخ أو أخت من أم"، وكذا قرأ سعد بن أبي وقاص، أخرجه البيهقيّ بسند صحيح، استفتوا عن ميراث غيرهم من الإخوة، فنزلت الأخيرة، فيصحّ أن كُلًّا من الآيتين نزل في قصة جابر، لكن المتعلِّق به من الآية الأولى ما يتعلق بالكلالة، وأما سبب نزول أوّلها فوَرَد من حديث جابر أيضًا في قصة ابنتي سعد بن الربيع، ومنع
(1)
هو صاحب "تكملة فتح الملهم" 2/ 18 - 19.
(2)
الحديث صحيح، أخرجه أبو داود في "سننه" رقم (2767)، والبيهقيّ في "الكبرى"(6/ 231).
عمهما أن يرثا من أبيهما، فنزلت:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ} الآية
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: يتبيّن مما سبق أن أرجح أوجه الجمع هو الذي ذكره الحافظ أخيرًا، وحاصله أن كُلًّا من الآيتين نزل في قصّة جابر رضي الله عنه، ثم المتعلّق به من الآية الأولى هو ذِكْرُ الكلالة فقط، وأما أولها ففي قصّة ابنتي سعد بن الربيع المتقدّمة، وأما الآية الثانية فهي في قصّة جابر رضي الله عنه.
وعلى هذا فلا وَهْم في رواية ابن عيينة، ولا في رواية ابن جريج؛ لأن كُلًّا من الآيتين نزل في قصّة جابر رضي الله عنه على الوجه الذي سبق آنفًا، فتأمله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 4138 و 4139 و 4140 و 4141 و 4142](1616)، و (البخاريّ) في "المرضى"(5651) و"الفرائض"(6723) و"الاعتصام"(7309)، و (أبو داود) في "الفرائض"(2886)، و (الترمذيّ) في "الفرائض"(2097 و 3015)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(1/ 87) و"الكبرى"(4/ 356 و 6/ 332)، و (ابن ماجه) في "الجنائز"(1436) و"الفرائض"(2728)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 307)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 223)، و (الطحاويّ) في "شرح مشكل الآثار"(11/ 384)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 241)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(6/ 163)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1/ 56)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4/ 15)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 516) والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(1)
"الفتح" 15/ 420.
1 -
(منها): بيان فضيلة عيادة المريض، واستحباب المشي فيها.
2 -
(ومنها): أن فيه التنبيه على بساطة عشرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعدم تكلّفه فيها، وقد ورد في رواية أخرى أخرجها البخاريّ عن جابر رضي الله عنه، بلفظ:"جاءني النبيّ صلى الله عليه وسلم يعودني ليس براكب بغل، ولا برذون".
3 -
(ومنها): بيان التبرك بآثار النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأما ما قاله النوويّ رحمه الله من أن فيه التبرّك بآثار الصالحين، وفضل طعامهم وشرابهم، ونحوهما، وفضل مؤاكلتهم، ومشاربتهم، ونحو ذلك، ففيه نظر لا يخفى؛ لأن هذا خاصّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، بدليل أن الصحابة والتابعين كانوا أشدّ الناس حبًّا لأبي بكر رضي الله عنه، وكذا لبقيّة الخلفاء الراشدين، وأكابر الصحابة رضي الله عنهم، إلا أنه لم يُنقل عنهم التبرك بآثارهم، فلو كان غير خاصّ به صلى الله عليه وسلم، لَمَا أطبقوا على تركه، فليُتبصّر، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
4 -
(ومنها): أن فيه ظهورَ بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما باشره أو لمسه، وكم له منها وكم؟! قال القرطبيّ: وقد ذكرنا من ذلك جملة صالحة في كتاب "الإعلام بمعجزات النبي عليه الصلاة والسلام"
(1)
.
5 -
(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليل على جواز المداواة، ومحاولة دفع المرض بما يُرجى فائدته، وخصوصًا بما يرجع إلى التَّبَرُّك بما عظّمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
6 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: استَدَلَّ أصحابنا -يعني الشافعيّة- وغيرهم بهذا الحديث على طهارة الماء المستعمل في الوضوء والغسل ردًّا على أبي يوسف القائل بنجاسته، وهي رواية عن أبي حنيفة، قال: وفي الاستدلال به نظرٌ؛ لأنه يَحْتَمِل أنه صبَّ من الماء الباقي في الإناء، ولكن قد يقال: البركة العظمى فيما لاقى أعضاءه صلى الله عليه وسلم في الوضوء، والله أعلم. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم أن الأرجح أنه صلى الله عليه وسلم صبّ عليه مما استعمله في أعضائه الشريفة، فالاستدلال به واضح، وهذه المسألة قد استوفيت البحث فيها في "كتاب الطهارة"، فارجع إليه، تستفد علمًا، وبالله تعالى التوفيق.
(1)
"المفهم" 4/ 570.
(2)
"المفهم" 4/ 570.
7 -
(ومنها): أن فيه جوازَ وصية المريض، وإن كان يذهب عقله في بعض أوقاته، بشرط أن تكون الوصية في حال إفاقته، وحضور عقله.
8 -
(ومنها): أنه قد يستدلّ بهذا الحديث من لا يُجَوِّز الاجتهادَ في الأحكام للنبيّ صلى الله عليه وسلم، والجمهور على جوازه، قاله النوويّ رحمه الله.
وقال في "الفتح": استُدِلّ به على أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يجتهد، ورُدّ بأنه لا يلزم من انتظاره الوحي في هذه القصة الخاصّة عموم ذلك في كل قصة، ولا سيما وهي في مسألة المواريث التي غالبها لا مجال للرأي فيها، سلّمنا أنه كان يمكنه أن يجتهد فيها، لكن لعله كان ينتظر الوحي أوّلًا، فإن لم ينزل اجتهد، فلا يدلّ على نفي الاجتهاد مطلقًا. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما ذهب إليه الجمهور من أنه صلى الله عليه وسلم كان يجتهد هو الأرجح؛ لقوّة حجته، ويؤوّل هذا الحديث وشِبْهُه على أنه لم يظهر له صلى الله عليه وسلم بالاجتهاد شيء، فلهذا لم يردّ على جابر شيئًا؛ رجاء أن ينزل الوحي، وقد استوفيت هذا البحث في "التحفة المرضيّة"، و"شرحها"، فراجعه تستفد
(2)
، والله تعالى وليّ التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4139]
(
…
) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثنا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: عَادَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ فِي بَنِي سَلِمَةَ يَمْشِيَانِ، فَوَجَدَنِي
(3)
لَا أَعْقِلُ، فَدَعَا بِمَاءٍ، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ رَشَّ عَلَيَّ مِنْهُ، فَأَفَقْتُ، فَقُلْتُ: كَيْفَ أَصْنَع في مَالِي يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَنَزَلَتْ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ) البغداديّ المعروف بالسمين، صدوقٌ فاضلٌ، ربما وَهِمَ [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.
(1)
"الفتح" 15/ 420.
(2)
راجع: "المنحة الرضيّة شرح التحفة المرضيّة" 3/ 495.
(3)
وفي نسخة: "فوجداني".
2 -
(حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ) الأعور المصّيصيّ، ثقةٌ ثبتٌ، اختلط في آخره [9](ت 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 94.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضل، يدلّس ويرسل [6](150)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
والباقيان ذُكرا قبله، و"ابن المنكدر" هو: محمد المذكور في السند الماضي. وقوله: (فِي بَني سَلِمَةَ) بفتح السين المهملة، وكسر اللام: نسبة إلى بطن من الأنصار، وهو سَلِمَة بن سعد بن عليّ بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جُشم بن الْخَزْرج، قال ابن الأثير رحمه الله:"كذلك ينسبه النحويون بفتح اللام، والمحدّثون يكسرونها". انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد نظمت ما قاله ابن الأثير رحمه الله، فقلت:
السَّلَمِيُّ نِسْبَةٌ لِسَلِمَهْ
…
بَطْنُ مِنَ الأَنْصَارِ أَهْلِ الْمَكْرَمَهْ
وَهْيَ بِكَسْرِ اللَّامِ لَكِنِ النَّسَبْ
…
فَتَحَهُ النَّحَاةُ وَفْقًا لِلْعَرَبْ
وَالْكَسْرُ لِلْمُحَدِّثِينَ نُسِبَا
…
فَإِنْ يَصِحَّ فَالصَّوَابَ جَانَبَا
وقوله: (فَوَجَدَنِي) هكذا في بعض النسخ، والضمير للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي بعض النسخ:"فوجداني"، والضمير له صلى الله عليه وسلم، ولأبي بكر رضي الله عنه.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4140]
(
…
) - (حَدَّثنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ -يَعْنِي: ابْنَ مَهْدِيٍّ- حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: عَادَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَا مَرِيضٌ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، مَاشِيَيْنِ، فَوَجَدَنِي قَدْ أُغْمِيَ عَلَيَّ، فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ صَبَّ عَلَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ، فَأَفَقْتُ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي؟ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ شَيْئًا، حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ).
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 129.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ) أبو سعيد البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 235) على الأصحّ (خ م د س) تقدم في "المقدمة" 6/ 75.
2 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيِّ) بن حسّان الْعَنْبَريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ ثقةٌ ثبتٌ، حافظ ناقد بصير [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.
3 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ فقيه، عابد إمامٌ حجة، ربما دلّس، من رؤوس [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
والباقيان ذُكرا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4141]
(
…
) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَا مَرِيضٌ، لَا أَعْقِلُ، فَتَوَضَّأَ، فَصَبُّوا عَلَيَّ
(1)
مِنْ وَضُوئِهِ، فَعَقَلْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّمَا يَرِثُنِي كَلَالَةٌ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ، فَقُلْتُ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ:{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} ؟ قَالَ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(بَهْزُ) بن أسد الْعَمّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9] مات بعد المائتين، وقيل: قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.
2 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج بن الورد الْعَتَكيّ مولاهم، أبو بسطام الواسطيّ، ثم البصريّ الإمام الحجة، أمير المؤمنين في الحديث [7](ت 160) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.
(1)
وفي نسخة: "فصبَّ عليّ".
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (إِنَّمَا يَرِثُنِي كَلَالَةٌ) استَدَلّ به من قال: إن الكلالة اسم للوارث دون المورِّث، لكن الكلمة تُستعمل في كلا المعنيين، ثمّ المراد من الكلالة هنا أخوات جابر رضي الله عنه، وسيأتي بيان اختلاف العلماء في معنى الكلالة بعد حديث -إن شاء الله تعالى-.
وقوله: (فَقُلْتُ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ
…
إلخ) القائل هو شعبة.
وقوله: (قَالَ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ) ظاهره أن محمد بن المنكدر صدّق شعبة في أن الآية التي نزلت في قصّة جابر رضي الله عنه هي {يَسْتَفْتُونَكَ} الآية، وهو يؤيّد ما تقدّم عن ابن عيينة، قيل: ويمكن أيضًا أن يكون ابن المنكدر غير جازم بتعيين الآية النازلة في هذه القصّة، فقال:"هكذا أُنزلت"، يعني: أن الآية هكذا، والظاهر أنها نزلت في قصّة جابر، ولكنّي لا أتيقّن به
(1)
.
والحديث متّفق عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4142]
(
…
) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، وَأَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ بِهَذَا الإِسْنَادِ، فِي حَدِيثِ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ: فَنَزَلَتْ آيَةُ الْفَرَائِضِ، وَفِي حَدِيثِ النَّضْرِ، وَالْعَقَدِيِّ: فَنَزَلَتْ آيَةُ الْفَرْضِ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ قَوْلُ شُعْبَةَ لِابْنِ الْمُنْكَدِرِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ) المازنيّ، أبو الحسن النحويّ البصريّ، نزيل مرو، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 204) وله (82) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.
(1)
راجع: "تكملة فتح الملهم" 2/ 20.
3 -
(أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ) عبد الملك بن عمرو القيسيّ البصريّ، ثقةٌ [9](ت 4 أو 205)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ البصريّ الزَّمِنُ، ثقة حافظٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
5 -
(وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ) بن حازم، أبو عبد الله الأزديّ البصريّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 315.
و"شُعبة" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية النضر بن شُميل، وأبي عامر العقديّ، كلاهما عن شعبة، ساقها الحافظ ابن الجعد رحمه الله في "مسنده" (1/ 252) فقال:
(1667)
- حدّثنا خلاد بن أسلم، أنا النضر، وحدثنا هارون، نا أبو عامر، وأبو داود، ووهب، وحدّثنا عباس بن حاتم، نا قُرَاد أبو نوح، واللفظ للنضر، قالوا: نا شعبة، أنا محمد بن المنكدر، قال: سمعت جابر بن عبد الله قال: أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا مريض، لا أعقل، فتوضأ، فصَبَّ عليّ من وَضوئه، فعقلت، فقلت: يا رسول الله إنه لا يرثنى إلا كلالة، فكيف الميراث؟ فنزلت آية الفرض. انتهى.
ورواية وهب بن جرير، عن شعبة ساقها الحافظ البيهقيّ رحمه الله (6/ 212) فقال:
(أخبرنا) أبو عبد الله الحافظ، وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا إبراهيم بن مرزوق البصريّ، ثنا وهب بن جرير، ثنا شعبة، عن محمد بن المنكدر، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا مريض، فتوضأ، ونضح عليَّ من وَضوئه، قال: فقلت: يا رسول الله إنما يرثني كلالة، فكيف الميراث؟ فنزلت آية الفرائض. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4143]
(1617) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى -وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى- قَالَا: حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنَا هِشَامٌ، حَدَّثَنَا
قَتَادَةُ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَطَبَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، فَذَكَرَ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَذَكَرَ أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي
(1)
لَا أَدَعُ بَعْدِي شَيْئًا أَهَمَّ عِنْدِي مِنَ الْكَلَالَةِ، مَا رَاجَعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي شَيْءٍ مَا رَاجَعْتُهُ فِي الْكَلَالَةِ، وَمَا أَغْلَظَ لِي فِي شَيْءٍ مَا أَغْلَظَ لِي فِيهِ، حَتَّى طَعَنَ بِإِصْبَعِهِ فِي صَدْرِي، وَقَالَ:"يَا عُمَرُ أَلَا تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ؟ "، وَإِنِّي إِنْ أَعِشْ أَقْضِ فِيهَا بِقَضِيَّةٍ يَقْضِي بِهَا مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَمَنْ لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ)
(2)
أبو عبد الله الثقفيّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) ذُكر في السند الماضي.
3 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، أبو سعيد البصريّ، الإمام الحجة الناقد البصير المشهور [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.
4 -
(هِشَامُ) بن أبي عبد الله -سَنْبَر- الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
5 -
(قَتَادَةُ) بن دعامة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ يُدلّس، رأس [4](ت 117)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 70.
6 -
(سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ) رافع الأشجعيّ الْغَطَفانيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ يرسل كثيرًا [3](ت 7 أو 198) أو بعد ذلك (ع) تقدّم في "الحيض" 8/ 728.
7 -
(مَعْدَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ) ويقال: ابن طلحة الْيَعْمَريّ الشاميّ، ثقةٌ [2](م 4) تقدّم في "الصلاة" 44/ 1098.
8 -
(عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) بن نفيل العدويّ الخليفة الراشد، استُشهد رضي الله عنه في ذي الحجة سنة (23)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 3/ 9.
(1)
وفي نسخة: "قال: ثم إني".
(2)
بضمّ الميم، وفتح القاف، وتشديد الدال المهملة المفتوحة: نسبة إلى جدّ.
شرح الحديث:
(عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ) اسم أبيه رافع (عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) تقدّم في "كتاب المساجد" برقم [17/ 1262] أن الدارقطنيّ انتقد إدخال معدان بن أبي طلحة بين سالم، وعمر في هذا الإسناد؛ لمخالفة قتادة للحفّاظ فيه، وتقدّم الجواب عنه هناك، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق. (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطاب) رضي الله عنه (خَطَبَ) وكانت خطبة عمر رضي الله عنه هذه بعد رجوعه من الحجة الأخيرة التي حجّها بالناس، وقد ذكر البخاريّ في "صحيحه" سبب هذه الخطبة مطوّلًا، وتقدّم بيانه في "كتاب الصلاة" بالرقم المذكور. (يَوْمَ جُمُعَةٍ) وكانت آخر جمعة صلّاها عمر رضي الله عنه؛ كما أخرجه أحمد في "مسنده" من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في آخر هذه الخطبة:"فخَطَب بها عمر رضي الله عنه يوم الجمعة، وأُصيب يوم الأربعاء لأربع ليال بقين من ذي الحجة"
(1)
.
(فَذَكَرَ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قد سبق في حديث البخاريّ قوله: "إن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحقّ، وأنزل عليه الكتاب
…
"، وقوله: ألا ثم إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُطروني كما أُطرِي عيسى ابن مريم، وقولوا: عبد الله ورسوله
…
" (وَدكَرَ أَبَا بَكْرٍ) رضي الله عنه؛ أي: ذكره بالخير وأثنى عليه.
(ثُمَّ قَالَ) عمر رضي الله عنه (إِنِّي) وفي نسخة: "ثمّ إني"(لَا أَدَعُ)؛ أي: لا أترك (بَعْدِي)؛ أي: بعد موتي (شَيْئًا أَهَمَّ عِنْدِي مِنَ الْكَلَالَةِ) قال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": الكلالة مصدرٌ من تكلَّله النسبُ؛ أي: أحاط به، وبه سُمِّي الإكليل، وهي منزلة من منازل القمر؛ لإحاطتها بالقمر إذا احْتَلّ بها، ومنه الإكليل أيضًا، وهو التاج، والعصابة المحيطة بالرأس، فإذا مات الرجل، وليس له وَلَدٌ ولا والد، فورَثَتُه كلالةٌ. انتهى.
[فائدة]: قال أهل اللغة: يقال: رجلٌ كلالةٌ، وامرأةٌ كلالةٌ، ولا يثنَّى، ولا يُجمَعُ؛ لأنه مصدرٌ، كالوكالة، والدلالة، والسَّمَاحة، والشَّجَاعة، وأعاد الضمير المفرد في قوله:{وَلَهُ أَخٌ} ، ولم يقل: لهما، وقد سبق
(1)
راجع: "المسند" 1/ 48.
ذكر الرجل والمرأة، على عادة العرب، إذا ذَكَرت اسمين، ثم أَخبَرَت عنهما، وكانا في الحكم سواءً، ربما أضافت إلى أحدهما، وربما أضافت إليهما جميعًا، تقول: من كان عنده غلام وجارية، فليحسن إليه، وإليها، وإليهما، وإليهم، قال الله تعالى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} الآية [البقرة: 45]، وقال تعالى:{إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} الآية [النساء: 135]، ويجوز أَولى بهم. قاله الفرّاء وغيره
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: اختلفوا في اشتقاق الكلالة، فقال الأكثرون: مشتقة من التكلُّل، وهو التطرُّف، فابن العمّ مثلًا يقال له: كلالةٌ؛ لأنه ليس على عمود النسب، بل على طرفه، وقيل: من الإحاطة، ومنه الإكليل، وهو شبه عصابة تُزَيَّن بالجوهر، فسُمُّوا كلالةً؛ لإحاطتهم بالميت من جوانبه، وقيل: مشتقة من كَلَّ الشيءُ: إذا بَعُد، وانقطع، ومنه قولهم: كَلَّت الرحمُ: إذا بَعُدت وطال انتسابها، ومنه: كَلَّ في مشيه: إذا انقطع؛ لبُعد مسافته. انتهى
(2)
.
(مَا) نافيةٌ (رَاجَعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي شَيْءٍ)؛ أي: من أحكام الدين (مَا رَاجَعْتُهُ فِي الْكَلَالَةِ)؛ أي: بيان حكمها، و"ما" مصدريّةٌ، والمصدر المؤّول نعت لمصدر، مفعول مطلقٌ لـ "راجعتُ"؛ أي: مثل مراجعتي في الكلالة (وَمَا أَغْلَظَ) صلى الله عليه وسلم، وهو بالبناء للفاعل (لِي فِي شَيْءٍ)؛ أي: مما سألته من الأحكام (مَا أَغْلَظَ لِي فِيهِ)؛ أي: مثل إغلاظه في سؤالي عن الكلالة (حَتَّى طَعَنَ) بالبناء للفاعل أيضًا (بِإِصْبَعِهِ) تقدّم أن فيها عشر لغات، تثليث الهمزة، مع تثليث الموحّدة، والعاشرة أُصبُوع بالضمّ، وزانُ أُسْبُوع، وأفصحها كسر الهمزة، وفتح الموحّدة. (في صَدْرِي)؛ أي: تأديبًا له لتشدّده في السؤال، وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: هذا الطعن مبالغة في الحثّ
(1)
راجع: "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 78.
(2)
"شرح النوويّ" 11/ 58.
على النظر والبحث، وألّا يرجع إلى السؤال مع التمكّن من البحث والاستدلال؛ ليحصل على رتبة الاجتهاد، ولينال أجر من طلب، فأصاب الحكم، ووافق المراد.
وروى ابن جرير عن أبي إسحاق الشَّيباني، عن عمرو بن مُرّة، عن سعيد بن المسيِّب؛ أن عمر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يُوَرّث الكلالة؟ قال: فأنزل الله {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176]، قال: فكأن عمر لم يفهم، فقال لحفصة: إذا رأيتِ من رسول الله صلى الله عليه وسلم طيب نَفْس فسليه عنها، فرأت منه طيب نفس فسألته عنها، فقال:"أبوك ذكر لك هذا؟ ما أرى أباك يعلمها"، قال: وكان عمر يقول: ما أراني أعلمها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله ما حاصله: مقتضى الآية الأولى أن كلَّ واحد من الأخوين له السدس، سواء كان أحدهما ذكرًا أو أُنثى، فإن كانوا أكثر اشتركوا في الثلث، ومقتضى الآية الثانية أن للأخت النصف، وللاثنين الثلثين، ولم يُبيَّن في واحدة من الآيتين الإخوة، هل هي لأمّ، أو لأب، أو لهما؟ ثم إذا تنزّلنا على أن الإخوة في الأولى للأم، وفي الثانية للأب، أو أشقّاءُ، فهل ذلك فرضهم إذا انفردوا؟ أو يكون ذلك فرضهم، وإن كان معهم بعض الورثة؟ كلُّ ذلك أمورٌ مطلوبة، والوصول إلى تحقيق تلك المطالب عَسِيرٌ، فلَمّا استُشكِلَتْ على عمر رضي الله عنه هذه الوجوه تشوّف إلى معرفتها بطريق يُزيح له الإشكال، فألَحّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم بالسؤال عن ذلك، حتى ضرب النبيّ صلى الله عليه وسلم على صدره، وأغلظ عليه في ذلك؛ رَدْعًا له عن الإلحاح؛ إذ كان قد نُهي عن كثرة السؤال، وتنبيهًا له على الاكتفاء بالبحث عمّا في الكتاب من ذلك، وعلى أن الكتاب يُبيِّنُ بعضه بعضًا.
وقال الخطّابيّ رحمه الله: يُشبه أن يكون لم يُفْتِهِ، وَوَكَل الأمر إلى بيان الآية؛
(1)
"تفسير ابن كثير" 2/ 485 - 486.
اعتمادًا على عِلْمه وفَهْمه؛ ليتوصَّلَ إلى معرفتها بالاجتهاد، ولو كان السائل ممن لا فَهْمَ له لَبَيَّنَ له البيان الشافي.
قال: وإن الله تعالى أنزل في الكلالة آيتين: إحداهما في الشتاء، وهي التي في أول "سورة النساء"، وفيها إجمالٌ، وإبهامٌ لا يكاد يتبيّن المعنى من ظاهرها، ثم أنزل الآية التي في آخر "النساء" في الصيف، وفيها زيادة بيان. انتهى
(1)
.
ودلّ هذا الحديث على أن آخر آية من "سورة النساء" نزلت في فصل الصيف، وقد ذكر يحيى بن آدم بلاغًا أنها نزلت في الصيف، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهّز إلى مكة
(2)
.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم، وفي نسخة:"وقال"("يَا عُمَرُ ألَا) أداة تحضيض (تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ)؛ أي: الآية التي نزلت في فصل الصيف، وهو أحد الفصول الأربعة المشهورة في السنة، وقد تقدّم بيانها بالتفصيل في "كتاب الصلاة".
وقال القرطبيّ رحمه الله: إنما أحاله على النظر في هذه الآية؛ لأنه إذا أمعن النظر فيها عَلِم أنها مخالفة للآية الأولى في الورثة، وفي القسمة، فيتبيّن من كلّ آية معناها، ويُرتَّب عليها حكمها، فيزول الإشكال. انتهى
(3)
.
(الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ؟ ")؛ يعني: قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} الآية [النساء: 176].
(وَإِنِّي إِنْ أَعِشْ) بفتح أوله، وكسر ثانيه، مِنْ عاش يعيش، يقال: عاش يَعيش عيَشًا، كسار يسير سيرًا: صار ذا حياة، فهو عائشٌ، والأنثى عائشة، وعيّاشٌ أيضًا مبالغةٌ
(4)
، وقوله:(أَقْضِ) مجزوم على أنه جواب الشرط؛ أي: أحكم، يقال: قضيتُ بين الخصمين، وعليهما: أي: حكمت
(5)
. (فِيهَا)؛ أي:
(1)
"المفهم" 2/ 172.
(2)
راجع: "أحكام القرآن" للجصّاص رحمه الله 2/ 105.
(3)
"المفهم" 4/ 572 - 573.
(4)
"المصباح" 2/ 440.
(5)
"المصباح المنير" 2/ 507.
في الكلالة؛ أي: في معرفة أحكامها (بِقَضِيَّةٍ)؛ أي: بقضاء، فالمراد بالقضيّة هنا معناها المصدريّ، قال في "القاموس":"القضاءُ"، ويُقصر: الحكم، قَضَى عليه يَقْضي قَضْيًا، وقَضَاءً، وقَضِيَّةً، وهي الاسم أيضًا. انتهى
(1)
. (يَقْضِي بِهَا)؛ أي: بتلك القضيّة (مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَمَنْ لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ)؛ يعني: أنه يستوي في فهم تلك القضيّة الخاصّ والعامّ؛ لوضوحها وبيانها.
وفي رواية همّام بن يحيى عن قتادة عند أحمد
(2)
: "فسأقضي فيها بقضاء يعلمه من يقرأ، ومن لا يقرأ"، وفي رواية سعيد بن أبي عروبة عنده أيضًا
(3)
: "أقضي فيها قضيّة لا يختلف فيها أحد يقرأ القرآن، أو لا يقرأ القرآن"، ومفاد هذه الروايات جميعًا: أني سوف أقضي في الكلالة بقضيّة يعرفها كلّ عالم وجاهل، ولا يختلف فيها أحد.
وقد ساق ابن جرير في "تفسيره" عدّة روايات تُبيّن أن عمر رضي الله عنه كتب في الكلالة كتابًا، ولكنه لم يستطع إخراجه إلى الصحابة، وأخرج عن طارق بن شهاب قال:"أخذ عمر كتفًا، وجمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قال: لأقضينّ في الكلالة قضاءً تَحَدّث به النساء في خدورهنّ، فخرجت حينئذ حيّة من البيت، فتفرّقوا، فقال: لو أراد الله أن يتمّ هذا الأمر لأتمّه"، وفي رواية أخرى عند ابن جرير أيضًا أنه قال عند وفاته:"إني كنت كتبت في الجدّ والكلالة كتابًا، وكنت أستخير الله فيه، فرأيت أن أترككم على ما كنتم عليه".
وأخرج أحمد
(4)
عن أبي رافع قال: "إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان مستندًا إلى ابن عبّاس، وعنده ابن عمر، وسعيد بن زيد رضي الله عنهم، فقال: اعلموا أني لم أقل في الكلالة شيئًا، ولم أستخلف من بعدي أحدًا
…
إلخ"، وهذا يدلّ على أنه لم يصل إلى القول الفصل في الكلالة حتى آخر حياته رضي الله عنه.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وإني إن أَعِشْ أَقْض فيها بقضيّة
…
إلخ"
(1)
"القاموس المحيط" 4/ 378.
(2)
"المسند" 1/ 15.
(3)
"المسند" 1/ 48.
(4)
"المسند" 1/ 20.
هذا يدلّ على أنه كان اتّضح له وجهُ الصواب فيها، وأنه كان قد استعمل فِكْرَه فيها حتى فَهِمَ ذلك، وأنه أراد أن يوضِّح ذلك على غاية الإيضاح، ولم يتمكّن من ذلك في ذلك الوقت الحاضر للعوائق والموانع، ثم فاجأته المنيّة رضي الله عنه، ولم يُرْوَ عنه فيها شيءٌ من ذلك.
لكن قد اهتَدَى علماء السلف لفهم الآيتين، وأوضحوا ذلك، فتبيَّن الصبح لذي العينين، والله تعالى أعلم
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "وإني إن أعش
…
إلخ" هذا من كلام عمر رضي الله عنه، لا من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما أخَّر القضاء فيها؛ لأنه لم يظهر له في ذلك الوقت ظهورًا يحكم به، فأخّره حتى يتم اجتهاده فيه، ويستوفي نظره، ويتقرر عنده حكمه، ثم يقضي به، ويُشيعه بين الناس، ولعل النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما أغلظ له؛ لخوفه من اتكاله، واتكال غيره على ما نُصّ عليه صريحًا، وتركهم الاستنباط من لنصوص، وقد قال الله تعالى:{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، فالاعتناء بالاستنباط من آكد الواجبات المطلوبة؛ لأن النصوص الصريحة لا تفي إلا بيسير من المسائل الحادثة، فإذا أُهمل الاستنباط فات القضاء في معظم الأحكام النازلة، أو في بعضها. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
قال الجامع عفا الله عنه: حديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم تخريجه، وبيان فوائده في "كتاب المساجد"[17/ 1262]، فما بقي إلا ذكر ما يتعلّق بالكلالة، فأقول:
(مسألة): في اختلاف أهل العلم في معنى الكلالة:
قال النوويّ رحمه الله: اختَلَفَ العلماء في المراد بالكلالة في الآية على أقوال:
[أحدها]: المراد: الوِرَاثة إذا لم يكن للميت ولد ولا والد، وتكون الكلالة منصوبة على تقدير: يُورَثُ وراثةَ كلالة.
[والثاني]: أنه اسم للميت الذي ليس له ولد ولا والد، ذكرًا كان الميت
(1)
"المفهم" 2/ 173.
(2)
"شرح النوويّ" 11/ 57 - 58.
أو أنثي، كما يقال: رجل عقيم، وامرأة عقيم، وتقديره: يورث كما يورث في حال كونه كلالةً.
وممن رُوِي عنه هذا: أبو بكر الصديق، وعمر، وعليّ، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين-.
[والثالث]: أنه اسم للورثة الذين ليس فيهم ولد ولا والد، واحتجُّوا بقول جابر رضي الله عنه: إنما يرثني كلالةٌ، ولم يكن ولد ولا والد.
[والرابع]: أنه اسم للمال الموروث، قال الشيعة: الكلالة من ليس له ولد، وإن كان له أب، أو جدٌّ، فوَرَّثوا الإخوة مع الأب، قال القاضي: ورُوي ذلك عن ابن عباس، قال: وهي رواية باطلة، لا تصح عنه، بل الصحيح عنه مما عليه جماعة العلماء، قال: وذكر بعض العلماء الإجماع على أنَّ الكلالة مَنْ لا ولد له ولا والد، قال: وقد اختلفوا في الورثة إذا كان فيهم جدّ: هل الورثة كلالةٌ أم لا؟ فمن قال: ليس الجد أبًا جعلها كلالةً، ومن جعله أبًا لم يجعلها كلالةً، قال القاضي: وإذا كان في الورثة بنت، فالورثة كلالةٌ عند جماهير العلماء؛ لأن الإخوة والأخوات وغيرهم من العصبات يرثون مع البنت، وقال ابن عباس: لا ترث الأخت مع البنت شيئًا؛ لقول الله تعالى: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ} ، وبه قال داود، وقالت الشيعة: البنت تمنع كون الورثة كلالةً؛ لأنهم لا يُوَرِّثون الأخ والأخت مع البنت شيئًا، ويعطون البنت كلّ المال، وتعلَّقوا بقوله تعالى:{إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا} ومذهب الجمهور أن معنى الآية الكريمة: أن توريث النصف للأخت بالفرض لا يكون إلَّا إذا لم يكن ولد، فعَدَمُ الولد شرط لتوريثها النصف فرضًا، لا لأجل توريثها، وإنما لم يَذكُر عدم الأب في الآية كما ذَكَر عدم الولد مع أن الأخ والأخت لا يرثان مع الأب؛ لأنه معلوم من قاعدة أصل الفرائض: أن من أدلى بشخص لا يرث مع وجوده، إلَّا أولاد الأم، فيرثون معها، وأجمع المسلمون على أن المراد بالإخوة والأخوات في الآية التي في آخر سورة النساء: من كان من أبوين، أو من أب عند عدم الذين من أبوين، وأجمعوا على أن المراد في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ
امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} الإخوة والأخوات من الأم. انتهى
(1)
.
وقال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": الكلالة مصدرٌ من تكلَّله النسبُ؛ أي: أحاط به، وبه سُمِّي الإكليل، وهي منزلة من منازل القمر؛ لإحاطتها بالقمر إذا احْتَل بها، ومنه الإكليل أيضًا، وهو التاج، والعصابة المحيطة بالرأس، فإذا مات الرجل، وليس له وَلَدٌ ولا والد، فورثته كلالة، هذا قول أبي بكر الصديق، وعمر، وعليّ، وجمهور أهل العلم، وذكر يحيى بن آدم، عن شَرِيك، وزهير، وأبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن سليمان بن عبد، قال: ما رأيتهم إلَّا وقد تواطئوا، وأجمعوا على أنَّ الكلالة مَن مات ليس له ولد ولا والد، وهكذا قال صاحب "كتاب العين"، وأبو منصور اللغوي، وابن عرفة، والْقُتَبيّ، وأبو عبيد، وابن الأنباريّ، فالأب والابن طرفان للرجل، فإذا ذهبا تكلَّله النسب، ومنه قيل: رَوْضَةُ مُكَلَّلةُ: إذا حُفَّت بالنَّوْر، وأنشدوا:
مَسْكَنُهُ رَوْضةٌ مُكَلَّلَةٌ
…
عَمَّ بِهَا الأَيْهُقَانُ وَالذُّرَقُ
(2)
يعني: نَبْتَيْن، وقال امرؤ القيس [من الطويل]:
أَصَاحِ تَرَى بَرْقًا أُرِيكَ وَمِيضَهُ
…
كَلَمْعِ الْيَدَيْنِ فِي حَبِيٍّ مُكَلَّلِ
(3)
فَسَمُّوا القرابة كلالةً؛ لأنهم أطافوا بالميت من جوانبه، وليسوا منه، ولا هو منهم، وإحاطتهم به أنهم يَنْتَسِبون معه، كما قال أعرابيٌّ: مالي كثير، ويرثني كلالةٌ مُتَرَاخٍ نسبهم، وقال الفرزدق [من الطويل]:
وَرِثْتُمْ قَنَاةَ الْمَجْدِ لَا عَنْ كَلَالَةٍ
…
عَنِ ابْنَيْ مَنَافٍ عَبْدِ شَمْسٍ وَهَاشِمِ
وقال آخر [من المتقارب]:
وَإِنَّ أَبَا الْمَرْءِ أَحْمَى لَهُ
…
وَمَوْلَى الْكَلَالَةِ لَا يَغْضَبُ
وقيل: إن الكلالة مأخوذة من الكَلال، وهو الإعياء، فكأنه يصير الميراث إلى الوارث عن بُعْدٍ وإعياء، قال الأعشي [من الطويل]:
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 58 - 59.
(2)
"الأَيهُقان": الجرجير البريّ، و"الذُّرَقُ" كصُرَدٍ: بقلة وحشيشة؛ كالقتّ الرطب.
(3)
وَمضَ البرق: لَمَعَ، و"الْحَبيّ": السحاب المعترض، و"المكلَّل": الذي في جوانبه البرق مثل: الإكليل.
فَآلَيْتُ لَا أَرْثِي لَهَا مِنْ كَلَالَةٍ
…
وَلَا مِنْ وَجًى
(1)
حَتَّى تُلَاقِي مُحَمَّدًا
وذكر أبو حاتم، والأثرم، عن أبي عبيدة، قال: الكلالة كلُّ من لم يرثه أبٌ، أو ابنٌ، أو أخٌ، فهو عند العرب كلالةٌ.
قال أبو عُمر: ذِكْر أبي عبيدة الأخ هنا مع الأب والابن في شرط الكلالة غلطٌ، لا وجه له، ولم يذكره في شرط الكلالة غيره.
ورَوَى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن الكلالة من لا وَلَدَ له خاصّةً، ورُوي عن أبي بكر ثم رجعا عنه، وقال ابن زيد: الكلالة الحيّ والميت جميعًا، وعن عطاء: الكلالةُ المال، قال ابن العربيّ: وهذا قول طريف لا وجه له.
قال القرطبيّ: له وجه يتبيَّن بالإعراب آنفًا.
ورُوي عن ابن الأعرابيّ: أن الكلالة بنو العم الأباعد، وعن السُّديّ: أن الكلالة الميت، وعنه مثل قول الجمهور.
وهذه الأقوال تتبيَّن وجوهها بالإعراب، فقرأ بعض الكوفيين:"يُوَرِّث كلالةً" بكسر الراء وتشديدها، وقرأ الحسن، وأيوب:"يُورِثُ" بكسر الراء وتخفيفها، على اختلاف عنهما، وعلى هاتين القراءتين لا تكون الكلالةُ إلَّا الوَرَثَةَ، أو المال، كذلك حَكَى أصحاب المعاني، فالأول مِن وَرَّثَ، والثاني من أَوْرَثَ، و"كلالةً" مفعوله، و"كان" بمعنى وَقَعَ، ومن قرأ "يُورَثُ" بفتح الراء احتَمَلَ أن تكون الكلالة المالَ، والتقدير: يُورَثُ وِراثةَ كلالةٍ، فتكون نعتًا لمصدر محذوف، ويجوز أن تكون الكلالة اسمًا للورثة، وهي خبر "كان"، فالتقدير: ذا وَرَثَةٍ، ويجوز أن تكون تامّة بمعنى وقع، و"يورَثُ" نعت لـ "رجلٌ"، و"رجلٌ" رُفِعَ بـ "كان"، و"كلالةً" نُصِب على التفسير، أو الحال على أنَّ الكلالة هو الميت، والتقدير: وإن كان رجلٌ يورَث مُتَكَلِّل النسب إلى الميت. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: الكلالة مُشْتَقَّةٌ من الإكليل، وهو الذي يُحيط
(1)
الوجَى: الْحَفَى.
(2)
"الجامع لأحكام القرآن" 5/ 76 - 77.
بالرأس من جوانبه، والمراد هنا: مَن يرثه من حواشيه، لا أصوله، ولا فروعه، كما رَوَى الشعبيُّ عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه سئل عن الكلالة؟ فقال: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه، الكلالة: من لا ولد له ولا والد، فلما وُلِّيَ عمر رضي الله عنه قال: إني لأستحي أن أخالف أبا بكر في رأي رآه، كذا رواه ابن جرير وغيره، وقال ابن أبي حاتم في "تفسيره": حدَّثنا محمد بن يزيد، عن سفيان، عن سليمان الأحول، عن طاوس، قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: كنت آخر الناس عهدًا بعمر رضي الله عنه، فسمعته يقول: القول ما قلت، قلت: وما قلت؟ قال: الكلالة: من لا ولد له ولا والد، وهكذا قال عليّ، وابن مسعود، وصَحَّ عن غير واحد، عن ابن عباس، وزيد بن ثابت، وبه يقول الشعبيّ، والنخعيّ، والحسن، وقتادة، وجابر بن زيد، والحكم، وبه يقول أهل المدينة، وأهل الكوفة والبصرة، وهو قول الفقهاء السبعة، والأئمة الأربعة، وجمهور السلف والخلف، بل جميعهم، وقد حَكَى الإجماع عليه غيرُ واحد، وورد فيه حديث مرفوعٌ
(1)
، قال أبو الحسين ابن اللَّبّان: وقد رُوي عن ابن عباس ما يخالف ذلك، وهو أنه من لا ولد له، والصحيح عنه الأول، ولعل الراوي ما فَهِمَ عنه ما أراد. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله
(2)
.
وقال في موضع آخر بعد ذكره تفسير الصدّيق رضي الله عنه للكلالة الماضي ما نصّه: وهذا الذي قاله الصدِّيق رضي الله عنه عليه جمهور الصحابة، والتابعين، والأئمة في قديم الزمان وحديثه، وهو مذهب الأئمة الأربعة، والفقهاء السبعة، وقول علماء الأمصار قاطبة، وهو الذي يدُلُّ عليه القرآن، كما أرشد الله أنه قد بَيَّنَ ذلك، ووَضَّحَهُ في قوله تعالى:{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176]. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الصحيح في معنى الكلالة
(1)
الحديث المرفوع ضعيف، ولفظه:"من لم يترك مالًا ولا والدًا، فورثته كلالة"، راجع:"السلسلة الضعيفة" للشيخ الالبانيّ رحمه الله رقم (4653).
(2)
تفسير ابن كثير 1/ 461.
(3)
"تفسير ابن كثير" 1/ 596.
هو الذي عليه الجمهور، وهو أنه من لا ولد له ولا والد؛ لقوّة حجته، كما عرفته آنفًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: قال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله: ذَكَرَ الله -عَزَّوَجَلَّ-، في كتابه الكلالة في موضعين: في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} الآية [النساء: 12]، وقوله تعالى:{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176]، ولم يذكر في الموضعين وارثًا غير الإخوة، فأما في الآية الأولى فأجمع العلماء على أنَّ الإخوة فيها عُنِي بها الإخوة للأم؛ لقوله تعالى:{فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} وكان سعد بن أبي وقاص يقرأ: "وله أخ أو أخت من أمه"، ولا خلاف بين أهل العلم أن الإخوة للأب والأم، أو للأب ليس ميراثهم كهذا، فدلَّ إجماعهم على أنَّ الإخوة المذكورين في آخر السورة هم إخوة الْمُتَوَفَّى لأبيه وأمه، أو لأبيه؛ لقوله -عَزَّوَجَلَّ-:{وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} ، ولم يَختلفوا أن ميراث الإخوة للأم ليس هكذا، فدَلَّت الآيتان أن الإخوة كلَّهم جميعًا كلالةٌ.
وقال الشعبيّ: الكلالة ما كان سوى الولد والوالد، من الورثة إخوةً أو غيرهم من العصبة، كذلك قال عليّ، وابن مسعود، وزيد، وابن عباس رضي الله عنهم، قال الطبريّ: والصواب أن الكلالة هم الذين يرثون الميت مَن عدا ولده ووالده؛ لصحة خبر جابر رضي الله عنه، فقلت:"يا رسول الله إنما يرثني كلالةٌ، أَفأُوصي بمالي كلِّه؟ قال: "لا"
…
" الحديث، متّفقٌ عليه
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف -عَزَّوَجَلَّ- أوّل الكتاب قال:
[4144]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل ابْنُ علَيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرْوبَةَ (ع) وَحَدَّثَنَا زهَيْرٌ بْن حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْن رَافِعٍ، عَنْ شَبَابَةَ بْنِ سَوَّارٍ، عَنْ شُعْبَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ).
(1)
راجع: "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 78.
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) أبو بشر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [8](ت 193)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 2/ 3.
2 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ) مِهران اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، لكنه كثير التدليس، واختلط [6](ت 6 أو 157)(ع) تقدّم في "الإيمان" 6/ 127.
3 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قريبًا.
4 -
(شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ) المدائنيّ، خراسانيّ الأصل، يقال: اسمه مروان الفزاريّ مولاهم، ثقةٌ حافظٌ رُمي بالإرجاء [9](ت 4 أو 5 أو 206)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 40.
والباقون ذُكروا في الباب، والبابين قبله.
[تنبيه]: قد تقدّم بيان من ساق رواية سعيد بن أبي عروبة، وشعبة، كليهما عن قتادة في "كتاب المساجد"[17/ 1263]، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(3) - (بَابٌ "أَخِرُ آيَةٍ أُنْزِلَتْ آيَةُ الْكَلَالَةِ")
[4145]
(1618) - (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَم، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: آخِرُ آيةٍ أُنْزِلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176].
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ) المروزيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257) أو بعدها، وقد قارب المائة (م ت س) تقدّم في "المقدّمة" 4/ 25.
2 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح بن مَلِيح الرُّؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 6 أو 197)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 1/ 1.
3 -
(ابْنُ أَبِي خَالِدٍ) هو: إسماعيل البجليّ الأحمسيّ مولاهم، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 299.
4 -
(أَبُو إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد الله بن عُبيد الْهَمْدانيّ السَّبِيعيّ الكوفيّ، ثقةٌ مكثر عابدٌ اختَلَط بأَخره، ويُدلّس [3](ت 129) أو قبل ذلك (ع) تقدّم في "المقدّمة" 3/ 11.
5 -
(الْبَرَاءُ) بن عازب بن الحارث بن محمديّ الأنصاريّ الأوسيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، نزل الكوفة، ومات سنة (72)(ع) تقدّم في "الإيمان" 35/ 244.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه مسلسلٌ بالكوفيين غير شيخه، فمروزيّ، وقد دخل الكوفة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.
شرح الحديث:
(عَنِ الْبَرَاءِ) بن عازب رضي الله عنهما، وفي رواية شعبة التالية:"عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب رضي الله عنهما"، فانتفت تهمة التدليس عن أبي إسحاق، مع أن راويه شعبة، وهو لا يروي عنه إلَّا ما صرّح بسماعه، كما سبق بيان ذلك غير مرّة (قَالَ) البراء رضي الله عنه (آخِرُ آيةٍ أُنْزِلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ:{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176]) وفي رواية شعبة التالية: "آخر آية أنزلت آية الكلالة، وآخر آية أُنزلت براءةُ"، وفي رواية زكرياء الآتية:"أن آخر سورة أُنزلت تامّةً سورة التوبة، وأن آخر آية نزلت آية الكلالة".
ثم إن حديث البراء رضي الله عنه هذا ظاهر في أن قوله عز وجل: {يَسْتَفْتُونَكَ} الآية آخر آية نزلت من القرآن، وقد اختلفت الروايات في ذلك، وسيأتي الجمع بين الروايات في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 4145 و 4146 و 4147 و 4148 و 4149](1618)، و (البخاريّ)(4363 و 4605 و 4654 و 6744)، و (أبو داود) في "سننه"(2888)، و (الترمذيّ) في "جامعه"(3041)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 333)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 147)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 298)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 340)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"
(5/ 485 و 487)، و (أبو عوانة) في "مستخرجه"(6/ 168)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 172) و"المعرفة"(11/ 355)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في اختلاف الروايات في آخر ما نزل من القرآن:
قال القرطبيّ رحمه الله: وقول البراء: "آخرُ آيَةٍ أُنزلت آية الكلالة" إلى آخره: اختُلِف في آخر آية أنزلت، فقيل ما قال البراء، وقال ابن عباس:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، وقيل:{قُلْ لَا أَجِدُ ...... } [الأنعام: 145]، والجمع بينها أن يقال: إن آية الكلالة آخر ما نزل من آيات المواريث، وآخر آية أنزلت في حصر المحرمات {قُلْ لَا أَجِدُ ...... } ، والظاهر أن آخر الآياتِ نزولًا:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ؛ لأنَّ الكمال لمّا حَصَل لم يبق بعده ما يزاد، والله أعلم.
وأما قوله: "آخر سورة نزلت براءة"؛ فقد فَسَّر مراده بقوله في الرواية الأخرى: "أنزلت كاملة"، ومع ذلك: فقد قيل: إن آخر سورة نزلت: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} ، وكانت تسمى سورة التوديع.
وقد اختُلِف في وقت نزولها على أقوال: أشبهها قول ابن عمر رضي الله عنهما: إنها نزلت في حَجَّة الوداع، ثم نزلت بعدها:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، فعاش بعدها ثمانين يومًا، ثم نزلت بعدها آية الكلالة، فعاش بعدها خمسين يومًا، ثم نزل بعدها:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128]، فعاش بعدها خمسة وثلاثين يومًا، ثم نزلت بعدها:{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281]، فعاش بعدها أحدًا وعشرين يومًا، وقال مقاتل: سبعة أيام، والله أعلم.
ذكر هذا الترتيب أبو الفضل محمد بن يزيد بن طيفور الغزنويّ في كتابه المسمَّى بـ "عيون معاني التفسير". انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الحاصل أنه قد اختلفت الروايات في آخر ما نزل من القرآن، وقد عقد له السيوطي رحمه الله في "الإتقان" بابًا.
أخرج البخاريّ في "صحيحه" عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنه قال: آخر آية نزلت على النبيِّ صلى الله عليه وسلم آية الربا.
(1)
"المفهم" 4/ 573 - 574.
وأخرج الطبريّ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أيضًا: أن آخر آية نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} الآية.
وأخرج النسائيّ عن ابن عبّاس أيضًا: أن آخر سورة نزلت هي: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)}
…
إلخ.
وأخرج الحاكم في "مستدركه" عن أُبي بن كعب رضي الله عنه قال: "آخر آية نزلت: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} إلى آخر السورة [الكهف: 110] ".
وأخرج الطبريّ عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أنه تلا هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} الآية، وقال: إنها آخر آية نزلت من القرآن.
وأخرج ابن مردويه من طريق مجاهد، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: آخر آية نزلت هذه الآية: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ} إلي آخرها [آل عمران: 195].
قال بعضهم
(1)
: فأما الروايتان الأخيرتان، فالظاهر أن المراد بهما أن هاتين الآيتين لم ينسخهما شيء، وقد ثبت أن بعض الصحابة رضي الله عنهم كانوا يُطلقون مثل هذا الكلام في الآيات المحكمة التي لم يُنسخ حكمها، فقد أخرج البخاريّ وغيره عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال:"نزلت هذه الآية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} الآية [النساء: 93] هي آخر ما نزل، وما نسخها شيء".
وأرادت أم سلمة رضي الله عنها في الرواية الأخيرة أنَّها قالت للنبيّ صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أرى الله يذكر الرجال، ولا يذكر النساء، فنزلت:{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32]، ونزلت:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ والْمُسْلِمَاتِ} الآية، [الأحزاب: 35] ونزلت هذه الآية -تعني {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران: 195]- فهي آخر الثلاثة نزولًا، وآخر ما نزل بعد ما كان ينزل في الرجال خاصّة.
وأما الروايتان الأوليان فلا تعارض بينهما؛ لأنَّ آية الربا، وقوله تعالى:{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} الآية [البقرة: 281] متّصلتان متلاحقتان،
(1)
راجع: "تكملة فتح الملهم" 2/ 41 - 42.
والظاهر أنهما نزلا معًا، فيصدُق على كلّ واحد منهما أنه آخر ما نزل.
فبقي التعارض بين آية الربا، وآية الكلالة، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128]، و"سورة النصر"، فيجاب بما أجاب به البيهقيّ رحمه الله، وهو أن كلّ واحد أجاب بما عنده؛ أي: بما ظَنّ أنه الآخِر، والله تعالى أعلم.
وقال السيوطيّ رحمه الله في "الإتقان" بعد ذكر الروايات ما نصّه: ولا منافاة عندي بين هذه الروايات في آية الربا: {وَآتقُوا يَوْمًا} ، وآية الدَّين، لأنَّ الظاهر أنَّها نزلت دفعةً واحدةً، كترتيبها في المصحف، ولأنها في قصّة واحدة، فأخبر كلٌّ عن بعض ما نزل بأنه آخر ذلك، وذلك صحيح، وقول البراء: آخر ما نزل: {يَسْتَفْتُونَكَ} أي: في شأن الفرائض. وقال ابن حجر في "شرح البخاريّ": طريق الجمع بين القولين في آية الربا: {وَآتقُوا يَوْمًا} أن هذه الآية هي ختام الآيات المنزلة في الربا؛ إذ هي معطوفة عليهنّ، ويُجْمَع بين ذلك وبين قول البراء بأن الآيتين نزلتا جميعًا فيصدق أن كُلًّا منهما آخِر بالنسبة لما عداهما.
ويَحْتَمِل أن تكون الآخِرية في آية النساء مقيدة بما يتعلق بالمواريث، بخلاف آية البقرة.
ويَحْتَمِل عكسه، والأول أرجح؛ لِمَا في آية البقرة من الإشارة إلى معنى الوفاة المستلزمة لخاتمة النزول.
قال: وقال البيهقيّ: يُجمَع بين هذه الاختلافات إن صحّت بأن كلّ واحد أجاب بما عنده، وقال القاضي أبو بكر في "الانتصار": هذه الأقوال ليس فيها شيء مرفوع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكلٌّ قاله بضرب من الاجتهاد وغلبة الظنّ، ويَحْتَمل أن كلًّا منهم أخبر عن آخِر ما سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه، أو قبل مرضه بقليل، وغيره سمع منه بعد ذلك، وإن لم يسمعه هو، ويَحْتَمِل أيضًا أن تنزل هذه الآية التي هي آخر آية تلاها الرسول صلى الله عليه وسلم مع آيات نزلت معها، فيأمر برسم ما نزل معها بعد رسم تلك، فيُظنّ أنه آخِر ما نزل في الترتيب، انتهى كلام السيوطيّ رحمه الله في الإتقان"
(1)
.
(1)
"الإتقان في علوم القرآن" 1/ 29.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أقرب الأقوال وأولاها في الجمع ما قاله البيهقيّ، والقاضي أبو بكر -رحمهما الله تعالى- وهو أن كلّ واحد من هؤلاء المختلفين ذكر ما ظنّ أنه آخِر، فلا تعارض بين الروايات، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4146]
(
…
) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّي، وَابْنُ بَشَّارٍ قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَر، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ يَقُولُ: آخِرُ آيَةٍ أُنْزِلَتْ آيَةُ الْكَلَالَةِ، وَآخِرُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ بَرَاءَةُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(ابْنُ بَشَّارٍ) هو محمد المعروف ببندار، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [10](ت 252)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 2/ 2.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغُندر، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ، صحيح الكتاب [9](ت 193)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 2/ 2.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4147]
(
…
) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا عِيسَى -وَهُوَ ابْنُ يُونُسَ- حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ، عَنْ أَبي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، أَنَّ آخِرَ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ تَامَّةً "سُورَةُ التَّوْبَةِ"، وَأَنَّ آخِرَ آيَةٍ أُنْزِلَتْ آيَةُ الْكَلَالَةِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ) هو ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السبيعيّ الكوفيّ، ثقة مأمون [8] (ت 187) وقيل: سنة (191)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 5/ 28.
3 -
(زَكَرِيَّاءُ) بن أبي زائدة خالد، أو هُبيرة بن ميمون بن فيروز الهمدانيّ
الوادعيّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ، يدلّس [6](ت 7 أو 8 أو 149)(ع) تقدّم صلى الله عليه وسلم "الإيمان" 83/ 449.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (أَنَّ أَخِرَ سُور أُنْزِلَتْ تَامَّةً "سُورَةُ التَّوْبَةِ") هذا يعارض ما سبق عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أن آخر سورة نزلت: هي {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} إلى آخرها، ويجاب بما سبق عن البيهقيّ رحمه الله من أن كلّ واحد منهما أخبر بما غلب على ظنّه أنه الآخِر.
وقد عارض الطحاويّ رحمه الله في "مشكل الآثار" قول البراء هذا بما عُرف أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ عليًّا بـ "سورة التوبة" في الحَجَّة التي حَجَّها أبو بكر رضي الله عنه بالناس قبل حجة الوداع، فقرأها على الناس حتى ختمها، وقد نزلت بعد ذلك سور وآيات، ومنها ما في "المائدة":{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية، فإنها نزلت في حجة الوداع، وقد ثبتٌ عن عائشة رضي الله عنها أن"المائدة" آخر السور نزولأ، ثم ظاهر قول البراء رضي الله عنه يدلّ على أنَّ "سورة التوبة" نزلت دفعة واحدة، مع أن المحققين على خلافه، فإن بعض آياتها نزلت مقطّعة.
ويُجاب أيضًا بكون البراء رضي الله عنه أخبر بما غلب على ظنّه، فلا يعارض ما أثبته غيره، أو بكونه لم يعلم نزول بعض الآياتِ مقطّعةً
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفى قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المنصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4148]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى -يَعْنى ابْنَ آدَمَ- حَدَّثَنَا عَمَّارٌ -وَهُوَ ابْنُ رُزَيْقٍ- عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بِمِثْلِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: آخِرُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ كامِلَةً).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قبل باب.
(1)
راجع: "تكملة فتح الملهم" 2/ 42.
2 -
(يَحْيَى بْنُ آدَمَ) بن سليمان الأمويّ مولاهم، أبو زكرياء الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ، من كبار [9](ت 203)(ع) تقدَّم في "المقدّمة" 4/ 24.
3 -
(عَمَّارُ بْنُ رُزيقٍ) -بتقديم الراء، مصغّرًا- الضبيّ، أو التميميّ، أبو الأحوص الكوفيّ، ثقةٌ [8]
(1)
(ت 159)(م د س ق) تقدّم في "الإيمان" 63/ 348.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: رواية عمّار بن رُزيق، عن أبي إسحاق هذه لم أر من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4149]
(
…
) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، عَنْ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: آخِرُ آيةٍ أُنْزِلَت"
(2)
: {يَسْتَفْتُونَكَ} ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ) محمد بن عبد الله بن الزبير بن عُمَر الأسديّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 203)(ع) تقدَّم في "الإيمان" 50/ 314.
2 -
(مَالِكُ بْنُ مِغْوَل)
(3)
أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدّم في "الإيمان" 10/ 146.
3 -
(أَبُو السَّفَرِ) -بفتح المهملة، والفاء
(4)
- سعيد بن يُحْمِد - بضمّ الياء التحتانيّة، وكسر الميم- وحكى الترمذيّ أنه قيل فيه: أحمد الهَمْدانيّ الثوريّ الكوفيّ، ثقةٌ [3].
رَوَى عن ابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو بن العاص، والبراء بن
(1)
هكذا في "التقريب" من الثامنة، لكن الذي يظهر من مراجعة ترجمته في "التهذيب" أنه من السابعة، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
(2)
وفي نسخة: "نَزَلَتْ".
(3)
بكسر الميم، وإسكان الغين المعجمة، وفتح الواو.
(4)
قال النوويّ رحمه الله رحمه الله: أبو السفر بفتح الفاء على المشهور، وقيل: بإسكانها، حكاه القاضي عن أكثر شيوخهم. انتهى.
عازب، ومعاوية بن سُويد بن مُقَرِّن، وعلي بن ربيعة، والحارث الأعور، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابنه عبد الله بن أبي السَّفَر، وإسماعيل بن أبي خالد، ومُطَرِّف بن طَرِيف، ويونس بن أبي إسحاق، والأعمش، وشعبة، ومالك بن مغول، وغيرهم.
قال ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صدوقٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: اسم أبيه عَمْرو، ويقال: يَحْمِد.
ويُحْمِد ذكر الدارقطنيّ أنه بضم الياء، وأصحاب الحديث يقولونه بفتح الياء.
وذكر أبو عليّ الجيّانيّ أن كلّ ما في حِمْيَر من هذه الأسماء مثل يُحْمِد، ويُعْفِر، فهو بالضم، وما في الأزد، وبقية العرب، فهو بالفتح، وقال يعقوب بن سفيان: هو وابنه عبد الله ثقتان، وقال ابن عبد البرّ: أجمعوا على أنَّه ثقة فيما رَوَى وحَمَلَ، وقال الترمذيّ: سعيد بن يُحمد، ويقال: أحمد، ولا أعرف له سماعًا من أبي الدرداء. انتهى.
قال الحافظ: وما أظنه أدركه، فإن أبا الدرداء قديم الموت. انتهى
(1)
.
قيل: مات سنة اثنتي عشرة ومائة، أو (13).
أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث.
والباقيان ذُكرا في الباب، و"عمرو الناقد" هو: ابن محمد بن بُكير.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"تهذيب التهذيب" 2/ 49.
(4) - (بَابٌ: "مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ")
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4150]
(1619) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو صَفْوَانَ الأُمَوِيُّ، عَنْ يُونُسَ الأَيْلِيِّ (ح) وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى -وَاللَّفْظُ لَهُ- قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْمَيِّتِ، عَلَيْهِ الدَّيْنُ، فَيَسأل:"هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ مِنْ قَضَاءٍ؟ "، فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ وَفَاءً صَلَّى عَلَيْهِ، وَإِلَّا قَالَ:"صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ"، فَلَمَّا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ قَالَ:"أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّيَ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا، فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.
2 -
(أَبُو صَفْوَانَ الأُمَوِيُّ) هو: عبد الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان الدمشقيّ، نزيل مكة، ثقةٌ [9] مات على رأس المائة (خ م د ت س) تقدّم في "الحج" 88/ 3367.
3 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التجيبيّ المصريّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبِ) بن مسلم المصريّ الحافظ، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
6 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
7 -
(أَبُو سَلَمَةً بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف، تقدّم قريبًا.
8 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، تقدّم أيضًا قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أن نصفه الأول -أعني بعد التحويل- مسلسل بالمصريين، والثاني مسلسل بالمدنيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من
روى الحديث في دهره، وفيه أبو سلمة بن عبد الرَّحمن أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، هكذا رواه يونس، وتابعه عُقيل وابن أخي ابن شهاب، وابن أبي ذئب كما أخرجه المصنّف في الباب، وخالفهم معمر، فرواه عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن جابر رضي الله عنه، أخرجه أبو داود، والترمذيّ، أفاده في "الفتح"
(1)
.
(أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْمَيِّتِ) وللبخاريّ: "بالرجل الْمُتَوَفَّى"، وقوله:(عَلَيْهِ الدَّيْنُ) جملة في محل نصب على الحال من "الرجل"(فَيَسْألُ) بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم (هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ مِنْ قَضَاءٍ؟) "من" زائدة؛ أي: قضاءً؛ أي: ما يُقضَى به دَينه، هكذا وقع عند المصنّف، وأصحاب "السنن"، ووقع عند البخاريّ بلفظ:"هل ترك لدَينه فَضْلًا"؛ أي: قدرًا زائدًا على مؤنة تجهيزه، و"قضاءً" أولي، بدليل قوله:"فإن حُدِّث أنه ترك وفاءً"، (فَإنْ حُدِّثَ) بالبناء للمفعول؛ أي: أُخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم (أَنَّهُ)؛ أي: الرجل الميتَ (تَرَكَ وَفَاءً)؛ أي: ما يفي بدَينه، ويقضي ما عليه (صَلَّى عَلَيْهِ، وَإِلَّا قَالَ: "صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ") إنما كان يترك الصلاة عليه؛ ليُحرّض الناس على قضاء الدَّين في حياتهم، والتوصّل إلى البراءة منها؛ لئلا تفوتهم صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلَمّا فتح الله عليه عاد يصلي عليهم، ويقضي دَين من لم يُخلف وفاءً. قاله النوويّ رحمه الله
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وامتناعه صلى الله عليه وسلم من الصلاة على من مات وعليه دَين، ولم يترك وفاءً، إشعار بصعوبة أمر الدَّين، وأنه لا ينبغي أن يتحمَّله الإنسان إلَّا من ضرورة، وأنَّه إذا أخذه فلا ينبغي أن يتراخى في أدائه إذا تمكّن منه، وذلك لِمَا قدّمناه من أن الدَّين شَيْنٌ، الدَّين همٌّ بالليل ومذلةٌ بالنهار، وإخافة للنفوس،
(1)
"الفتح" 6/ 83، كتاب "الكفالة" رقم (2298).
(2)
"شرح النوويّ" 11/ 60.
بل وإرقاقٌ لها، وكان هذا من النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ ليرتدعَ من يتساهلُ في أخذ الدَّين حتى لا تتشوش أوقاتهم عند المطالبة، وكان هذا كله في أول الإسلام، وقد حُكِي أن الْحُرَّ كان يُباع في الدَّين في ذلك الوقت، كما قد رواه البزار من حديث رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم يُقال له: سُرَّق، ثم نُسِخَ ذلك كله بقوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]، وقيل: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنَّما كان يمتنع من الصلاة على من ادَّان دَينًا غير جائز أو في سعة، والأول أظهر؛ لقول الرَّاوي في الحديث: فلما فَتَحَ الله عليه الفتوح قال: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، مَنْ توفي وعليه دَيْنٌ فعلي قضاؤه، ومن ترك مالًا فلورثته"، فهذا يعمّ الدُّيون كلَّها، ولو افترق الحال لتعيَّن التنويع، أو السؤال.
ويَحْتَمِل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم تبرَّع بالتزام ذلك على مقتضى كرم أخلاقه؛ لا أنه أمرٌ واجبٌ عليه.
وقال بعض أهل العلم: بل يجب على الإمام أن يقضي من بيت المال كلّ الفقراء، اقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنَّه قد صرَّح بوجوب ذلك عليه، حيث قال:"فعليَّ قضاؤه"، ولأن الميِّت الذي عليه الدَّين يُخافْ أن يعذَّب في قبره على ذلك الدَّين، كما قد صحَّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث دُعِي ليصلي على ميِّت، فأُخبر أن عليه دَينًا، ولم يترك وفاءً، فقال:"صَلُّوا على صاحبكم"، فقال أبو قتادة: صل عليه يا رسول الله! وعليّ دَينه، فصلَّى عليه، ثم قال له:"قم فأدِّهِ عنه"، فلمَّا أدَّى عنه قال صلى الله عليه وسلم:"الآن حين بَرَّدتَ عليه جلدته"، وكما كان على الإمام أن يسدَّ رَمَقَهُ، ويراعي مصلحته الدنيوية كان أحرى وأولى أن يسعى فيما يرفع عنه به العذاب الأخروي. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قال العلماء: كأن الذي فعله صلى الله عليه وسلم من ترك الصلاة على من عليه دَين؛ لِيُحَرِّض الناس على قضاء الديون في حياتهم، والتوصل إلى البراءة منها؛ لئلا تفوتهم صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهل كانت صلاته على من عليه دَيْن مُحَرَّمةً عليه، أو جائزة؟ وجهان، قال النوويّ رحمه الله: الصواب الجزم بجوازه مع وجود الضامن، كما في حديث مسلم، وحَكَى القرطبيّ أنه ربما كان يمتنع من
(1)
"المفهم" 4/ 574 - 575.
الصلاة على من استدان دَينًا غير جائز، وأما من استدان لأمر هو جائز، فما كان يمتنع، وفيه نظر؛ لأن في حديث الباب ما يدلّ على التعميم، حيث قال: "من تُوُفّي وعليه دَين
…
"، ولو كان الحال مختلفًا لبيّنه، نَعَمْ جاء من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا امتَنَعَ من الصلاة على من عليه دَين جاءه جبريل، فقال: إنما الظالم في الديون التي حُمِلت في البغي والإسراف، فأما المتعفف ذو العيال، فأنا ضامن له، أُؤدِّي عنه، فصلى عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال بعد ذلك: مَن تَرَك ضياعًا
…
" الحديث، وهو ضعيف، وقال الحازميّ بعد أن أخرجه: لا بأس به في المتابعات، وليس فيه أن التفصيل المذكور كان مستمرًّا، وإنما فيه أنه طرأ بعد ذلك، وأنه السبب في قوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك دَينًا فعليَّ".
وفي صلاته صلى الله عليه وسلم على من عليه دَين بعد أن فتح الله عليه الفتوح إشعارٌ بأنه كان يقضيه من مال المصالح، وقيل: بل كان يقضيه من خالص نفسه، وهل كان القضاء واجبًا عليه أم لا؟ وجهان.
وقال ابن بطال: قوله: "مَن تَرَكَ دَينًا فعليَّ" ناسخ لترك الصلاة على من فات، وعليه دَين، وقوله:"فعليَّ قضاؤه"؛ أي: مما يُفيءُ الله عليه من الغنائم والصدقات، قال: وهكذا يلزم المتولي لأمر المسلمين أن يفعله بمن مات وعليه دَين، فإن لم يفعل فالإثم عليه إن كان حقّ الميت في بيت المال يَفِي بقدر ما عليه من الدَّين، وإلا فَبِقِسْطه. انتهى
(1)
.
(فَلَمَّا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) وفي رواية الأعرج، عن أبي هريرة الآتية:"قال: والذي نفسي بيده إنْ على الأرض من مؤمن إلَّا وأنا أولى الناس به، فأيّكم ما ترك دَينًا، أو ضَيَاعًا، فأنا مولاه، وأيّكم ترك مالًا فإلى العَصَبة من كان"، وفي رواية همّام، عن أبي هريرة الآتية أيضًا:"وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أولى الناس بالمؤمنين في كتاب الله، فأيكم ما ترك دَينًا، أو ضَيْعةً فادعوني، فأنا وليّه، وأيّكم ما ترك مالًا فليؤثر بماله عَصَبته من كان".
(1)
"الفتح" 6/ 84 - 85، كتاب "الكفالة" رقم (2298).
قال النوويّ رحمه الله رحمه الله: معنى هذا الحديث أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: أنا قائم بمصالحكم في حياة أحدكم وموته، وأنا وَلِيُّه في الحالين، فإن كان عليه دَين قضيته من عندي إن لم يَخْلُف وفاء، وإن كان له مال فهو لورثته، لا آخذ منه شيئًا، وإن خَلَف عيالًا محتاجين ضائعين فليأتوا إليَّ فعليَّ نفقتهم ومؤنتهم. انتهى
(1)
.
(فَمَنْ تُوُفِّيَ) بالبناء للمفعول؛ أي: مات (وَعَلَيْهِ دَيْن، فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ)؛ أي: إذا لم يترك وفاءً؛ لِمَا في الرواية السابقة: "كان يؤتى بالرجل الميّت، عليه الدَّين، فيسأل هل ترك لدَينه من قضاء، فإن حُدِّث أنه ترك وفاء صلى عليه
…
" الحديث، وفي رواية البخاريّ: "فمن مات، وعليه دَينٌ، ولم يترك وفاءً، فعلينا قضاؤه".
وقال في "الفتح": قوله: "ولم يترك وفاءً فعلينا قضاؤه" يَخُصّ ما أُطلق في رواية عُقيل بلفظ: "فمن تُوُفِّي من المؤمنين، وترك دَينًا، فعليّ قضاؤه"، وكذا قوله في الرواية الأخرى:"فإن ترك دَينًا، أو ضَيَاعًا فليأتني، فأنا مولاه، أو وليّه"، فعُرِف أنه مخصوص بمن لم يترك وفاءً، وقوله:"فليأتني"؛ أي: مَن يقوم مقامه في السعي في وفاء دَينه، أو المراد صاحب الدَّين، وأما الضمير في قوله:"مولاه" فهو للميت المذكور.
قال: وهل كان قضاء دَينه من خصائصه صلى الله عليه وسلم، أو يجب على وُلاة الأمر بعده؟ والراجح الاستمرار، لكن وجوب الوفاء إنما هو من مال المصالح.
ونَقَلَ ابن بطال وغيره أنه صلى الله عليه وسلم كان يتبرع بذلك، وعلى هذا لا يجب على مَنْ بعدَه، وعلى الأول قال ابن بطال: فإن لم يُعْطِ الإمام عنه من بيت المال لم يُحبَس عن دخول الجَنَّة؛ لأنه يَستحقّ القدر الذي عليه في بيت المال ما لم يكن دَينه أكثر من القدر الذي له في بيت المال مثلًا.
قال الحافظ: والذي يظهر أن ذلك يدخل في الْمُقَاصّة، وهو كمنْ له حقّ، وعليه حقّ، وقد مضى أنهم إذا خلصوا من الصراط حُبِسوا عند قنطرة بين الجَنَّة والنار، يتقاصَّون المظالم حتى إذا هُذِّبُوا ونُقُّوا أُذِن لهم في دخول الجَنَّة،
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 60 - 61.
فيُحْمَل قوله: "لا يُحبَس"؛ أي: مُعَذَّبًا مثلًا، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قيل: إنه صلى الله عليه وسلم كان يقضيه من مال مصالح المسلمين، وقيل: من خالص مال نفسه، وقيل: كان هذا القضاء واجبًا عليه صلى الله عليه وسلم، وقيل: تبرع منه، والخلاف وجهان لأصحابنا وغيرهم، واختَلَف أصحابنا في قضاء دَين من مات وعليه دَين، فقيل: يجب قضاؤه من بيت المال، وقيل: لا يجب. انتهى
(2)
.
(وَمَنْ تَرَكَ مَالًا، فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ")؛ أي: فذلك المال يكون لورثته، وفي الرواية التالية:"وأيكم ترك مالًا، فإلى العصبة من كان"، وفي لفظ:"وأيكم ترك مالًا، فليُؤثر بماله عصبته من كان"، وفي لفظ للبخاريّ:"فليرثه عصبته من كانوا"، وفي رواية له:"فماله لموالي العصبة"؛ أي: أولياء العصبة.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه"؛ أي: أقرب له من نفسه، أو أحقّ بالمؤمن به منها، ثم فسَّر وجهه بقوله:"من ترك مالًا فلأهله، ومن ترك دَينًا أو ضَياعًا فعليّ وإليّ"، وبيانه: أنه إذا ترك ضياعًا أو دينًا ولم يقدر على أنَّ يُخلِّص نفسه منه؛ إذ لم يترك شيئًا يسدُّ به ذلك، ثم خلّصه منه النبيّ صلى الله عليه وسلم بقيامه به عنه، أو سدّ ضيعته؛ كان أولى به من نفسه؛ إذ قد فعل معه ما لم يفعل هو بنفسه، والله أعلم.
وأما رواية من رواه: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم" في غير "صحيح مسلم" فَيَحْتَمِل أن يُحْمَل على ذلك، ويَحْتَمِل أن يكون معناه: أنا أولى بالمؤمنين من بعضهم لبعض؛ كما قال تعالى: {أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 66]؛ كما أي: ليقتل بعضكم بعضًا، في أشهر أقوال المفسرين. انتهى
(3)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم"؛ أي: أحقّ، قال أصحابنا: لو اضطرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى طعام غيره، ومالكه مضطرّ إليه لنفسه كان له صلى الله عليه وسلم أخذه من مالكه المضطرّ، ووجب على مالكه بذله له صلى الله عليه وسلم، قالوا: ولكن هذا -وإن كان جائزًا- لم يقع. انتهى.
(1)
"الفتح" 15/ 429، كتاب "الفرائض" رقم (6731).
(2)
"شرح النوويّ في 11/ 60.
(3)
"المفهم" 2/ 510.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وهذا الكلام إنما قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم حين رفع ما كان قرّره من امتناعه من الصلاة على من مات وعليه دين لم يترك له وفاء؛ كما قاله أبو هريرة: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يؤتى بالميت عليه الدين، فيسأل:"هل ترك لدينه وفاء؟ " فإن قيل: إنه ترك وفاء؛ صلى عليه، وإن قالوا: لا؛ قال: "صلوا على صاحبكم" قال: فلما فتح الله تعالى عليه الفتوح؛ قال: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من توفي فترك دينًا، فعليّ، ومن ترك مالًا فلورثته".
وقال القاضي: وهذا مما يلزم الأئمة من الفروض في مال الله تعالى للذرية وأهل الحاجة، والقيام بهم وقضاء ديون محتاجيهم. انتهى
(1)
.
وقال الحافظ ابن كثير: رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} الآية [الأحزاب: 6]، ما نصّه: قد عَلِمَ الله تعالى شفقة رسوله صلى الله عليه وسلم على أمته، ونصحَه لهم، فجعله أولى بهم من أنفسهم، وحكمه فيهم مُقَدّمًا على اختيارهم لأنفسهم، كما قال تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]. وفي "الصحيحين": "والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين"، وفي "صحيح البخاريّ": أن عمر رضي الله عنه، قال: يا رسول الله، والله لأنت أحب إلي من كلّ شيء إلَّا من نفسي، فقال:"لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك". فقال: يا رسول الله لأنت أحب إليّ من كلّ شيء حتى من نفسي، فقال:"الآن يا عمر"، ولهذا قال تعالى في هذه الآية:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} . انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 4150 و 4151 و 4152 و 4153 و 4154
(1)
"المفهم" 2/ 510.
(2)
"تفسير ابن كثير" 6/ 379 - 380.
و 4155] (1619)، و (البخاريّ) في "صحيحه"(2298 و 2398 و 5371 و 6731 و 6763)، و (أبو داود) في "سننه"(2955)، و (الترمذيّ) في "سننه"(1070 و 2090)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(4/ 66) و"الكبرى"(1/ 637 و 4/ 90)، و (ابن ماجة) في "سننه"(2415)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 287 و 290)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 443)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(11/ 192)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(3/ 183)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 53)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ثبوت التوارث بين المسلمين، وأن مال الميت يكون لورثته الموجودين عند موته.
2 -
(ومنها): بيان شدَّة أمر الدَّين حيث إنه يكون سببًا لعدم صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم على من عليه دين.
3 -
(ومنها): بيان شدّة اهتمامه صلى الله عليه وسلم بأمر أمته، ومتابعته لأحوالهم أحياءً وأمواتًا؛ ليسدّ حاجاتهم، ويقوم بأداء ما يجب عليهم من ديون الناس، وهو مصداق قوله - عَزَّوَجَلَّ -:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128].
4 -
(ومنها): بيان كون النبيّ صلى الله عليه وسلم أولى بكلّ مؤمن من نفسه، فكان يقوم لأمته بما لا يستطيعون القيام به، من قضاء الديون التي عجزوا عنها، وكفالة عيالهم بعد موتهم، وأنه يجب على كلّ مؤمن أن يقدّمه صلى الله عليه وسلم على نفسه، فلا يخرج عن سُنّته، وإن لم يوافق هواه، ولا يجوز أن يبتدع في شريعته ما لم يأذن به الله سبحانه وتعالى، ولا أتى به صلى الله عليه وسلم.
وقال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: يترتب على كونه صلى الله عليه وسلم أولى بهم من أنفسهم أنه يجب عليهم إيثار طاعته على شهوات أنفسهم، وإن شَقّ ذلك عليهم، وأن يحبوه أكثر من محبتهم لأنفسهم، ومن هنا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين"، وفي رواية أخرى:"من أهله، وماله، والناس أجمعين"، وهو في "الصحيحين" عن أنس رضي الله عنه، ولمّا قال عمر رضي الله عنه: "لأنت أحبّ إليّ من كلّ شيء إلَّا نفسي، قال له: والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنه
الآن والله لأنت أحب إليّ من نفسي، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر"، رواه البخاريّ في "صحيحه"، قال الخطابيّ: لم يُرِدْ به حُبّ الطبع، بل أراد به حبّ الاختيار؛ لأن حب الإنسان نفسه طبع، ولا سبيل إلى قلبه، قال: فمعناه: لا تَصْدُق في حبي حتى تُفْنِيَ في طاعتي نفسَكَ، وتؤثر رضاي على هواك، وإن كان فيه هلاكك. انتهى
(1)
.
5 -
(ومنها): ما قال وليّ الدين رحمه الله: فيه قيام النبيّ صلى الله عليه وسلم بالعيال الذين لا مال لهم، وهذا واجب عليه، وعلى الأئمة بعده، من مال المصالح، قال الخطابيّ: كان الشافعيّ يقول: ينبغي للإمام أن يُحصي جميع ما في البلدان، من المقاتِلة، وهم مَن قد احتَلَم، أو استكمل خمس عشرة من الرجال، ويُحصي الذرّية، وهم من دون المحتلِم، ودون البالغ، والنساء صغيرتهن وكبيرتهن، ويعرف قدر نفقاتهم، وما يحتاجون إليه من مؤناتهم بقدر معاش مثلهم في بلدانهم، ثم يعطي المقاتلة في كلّ عام عطاءهم، والعطاء الواجب من الفيء لا يكون إلَّا لبالغ يطيق مثله الجهاد، ثم يعطي الذرية والنساء ما يكفيهم لسنتهم في كسوتهم ونفقتهم.
قال: ولم يَختلِف أحد لقيناه في أن ليس للمماليك في العطاء حقّ، ولا للأعراب الذين هم أهل الصدقة.
قال: وإن فضل من المال شيء بعدما وَصَفتُ وضَعه الإمام في إصلاح الحصون، والازدياد في الكُرَاع، وكلِّ ما يتقوى به المسلمون، فإن استغنى المسلمون، وكملت كلُّ مصلحة لهم فَرَّقَ ما يبقى منه بينهم كله على قدر ما يستحقونه في ذلك المال.
قال: ويعطي من الفيء رزق الحكام، وولاة الأحداث، والصلاة بأهل الفيء، وكلّ من قام بأمر الفيء، من وال، وكاتب، وجنديّ، ممن لا غنى لأهل الفيء عنه، رُزِق مثله. انتهى.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 6/ 195 - 196.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4151]
(
…
) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ (ع) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ (ع) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثَ).
رجال هذا الإسناد: أحد عشر:
1 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ) الفهميّ مولاهم، أبو عبد الله المصريّ، ثقةٌ [11](ت 248)(م د س) تقدّم في "الإيمان" 26/ 211.
2 -
(أَبُوهُ) شعيب بن الليث بن سعد الفهميّ مولاهم، أبو عبد الملك المصري، ثقةٌ نبيلٌ فقيه، من كبار [10](ت 199)(م د س) تقدّم في "الإيمان" 26/ 211.
3 -
(جَدُّهُ) الليث بن سعد بن عبد الرَّحمن الفهميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه إمام مشهور [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.
4 -
(عُقَيْلُ) بن خالد الأمويّ مولاهم، أبو خالد الأيليّ، سكن المدينة، ثم الشام، ثمّ مصر [6](ت 144)(ع) تقدّم في "الإيمان" 8/ 133.
5 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِبمَ) بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرَّحمن بن عوف الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدّم في "الإيمان" 9/ 141.
6 -
(ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن عبد الله بن مسلم الزهريّ المدنيّ، صدوق له أوهامٌ [6](ت 152) أو بعدها (ع) تقدّم في "الإيمان" 63/ 352.
7 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نمير الهمدانيّ، أبو عبد الرَّحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدّم في "المقدمة" 2/ 5.
8 -
(أَبُوهُ) عبد الله بن نمير الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ حافظ سنّيّ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدّم في "المقدمة" 2/ 5.
9 -
(ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ) محمد بن عبد الرَّحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب القرشيّ العامريّ، أبو الحارث المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ [7](ت 8 أو 159)(ع) تقدّم في "المقدمة" 6/ 93.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: رواية الليث، عن عُقيل عن الزهريّ، ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(2176)
- حدّثنا يحيى بن بكرٍ، حدّثنا الليث، عن عُقيل، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفَّى عليه الدَّين، فيسأل:"هل ترك لدينه فضلًا؟ "، فإن حُدَّث أنَّه ترك لدينه وفاءً صَلَّي، وإلا قال للمسلمين:"صلوا على صاحبكم"، فلما فتح الله عليه الفتوح قال:"أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن تُوُفِّي من المؤمنين، فترك دينًا فعليَّ قضاؤه، ومن ترك مالًا فلورثته". انتهى.
وأما رواية ابن أبي ذئب، فساقها الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده" (2/ 290) فقال:
(7886)
- حدثنا يزيد
(1)
، أنا ابن أبي ذئب، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شَهِد جنازةً سأل: "هل على صاحبكم دين؟ "، فإن قالوا: نعم، قال:"هل له وفاءً؟ "، فإن قالوا: نعم، صلى عليه، وإن قالوا: لا، قال:"صلوا على صاحبكم"، فلما فتح الله -عَزَّوَجَلَّ - عليه الفتوح قال:"أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن ترك دينًا فعليَّ، ومن ترك مالًا فلورثته". انتهى.
وأما رواية ابن أخي الزهريّ، عن الزهريّ، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:
[4153]
(
…
) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدثَنَا شَبَابَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي وَرْقَاءُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ-صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ مُؤْمِنٍ، إِلَّا أَنَا
(2)
أَوْلَى النَّاسِ بِهِ، فَأيُّكمْ مَا تَرَكَ دَيْنًا، أَوْ ضَيَاعًا، فَأَنَا مَوْلَاهُ، وَأَيُّكُمْ تَرَكَ مَالًا، فَإِلَى الْعَصَبَةِ مَنْ كَانَ").
(1)
هو: ابن هارون.
(2)
وفي نسخة: "إلَّا وأنا".
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم قبل باب.
2 -
(شَبَابَةُ) بن سَوَار، تقدّم أيضًا قبل باب.
3 -
(وَرْقَاءُ) بن عُمر اليشكريّ، أبو بشر الكوفيّ، نزيل المدائن، صدوقٌ، في حديثه عن منصور لينٌ [7](ع) تقدّم في "الصلاة" 31/ 999.
4 -
(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان القرشيّ مولاهم، أبو عبد الرَّحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5](ت 130) أو بعدها (ع) تقدَّم في "المقدمة" 5/ 30.
5 -
(الأَعْرَجُ) عبد الرَّحمن بن هُرمُز القرشيّ مولاهم، أبو داود المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدّم في "الإيمان" 23/ 192.
و"أبو هريرة رضي الله عنه" ذُكر قبله.
شرح الحديث:
قوله: (إِنْ عَلَى الأَرْضِ)"إن" -بكسر الهمزة، وسكون النون-: نافية؛ أي: ليس على الأرض.
وقوله: (مِنْ مُؤْمِنٍ)"من" زائدة بعد النفي، كما قال في "الخلاصة":
وَزِيدَ فِي نَفْي وَشِبْهِهِ فَجَرّ
…
نَكِرَةً كَمَا لِبَاغٍ مِنْ مَفَرّْ
وقوله: (إِلَّا أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِهِ) وفي بعض النسخ: "وأنا أولى الناس به" بالواو.
وقوله: (فَأَيُّكُمْ مَا تَرَكَ)"ما" زائدة لتأكيد التعميم.
وقوله: (أَوْ ضَيَاعًا) -بفتح الضاد المعجمة، وتخفيف التحتانيّة-: المراد بهم العيال المحتاجون الضائعون، قال الخطّابيّ رحمه الله: الضَّيَاع، والضَّيْعَة هنا: وصف لورثة الميت بالمصدر؛ أي: ترك أولادًا، أو عيالًا ذوي ضَيَاع؛ أي: لا شيء لهم، والضَّيَاع في الأصل مصدر من ضاع، ثم جُعِل اسمًا لكل ما يُعَرَّض للضَّيَاع. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ضياعًا" بفتح الضاد لا غير، وهو ما يحتاج
(1)
راجع: "شرح النوويّ" 11/ 61.
للإصلاح، والضَّيَاع في الأصل: مصدر ضاع، ثم جُعِل اسمًا لكل ما هو بصدد أن يضيع من عيال، وبنين لا كافل لهم، ومالٍ لا قيِّم له، وسمِّيت الأرض ضَيعة؛ لأنها مُعَرَّضةٌ للضياع، وتُجمع على: ضِياعٍ -بكسر الضاد-. انتهى
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: ضَاعَ الشيء يَضِيعُ ضَيْعَةً، وضَيَاعًا بالفتح، فهو ضَائِع، والجمع: ضُيَّعٌ، وضِيَاعٌ، مثل رُكَّع، وجِياع، ويتعدى بالهمزة، والتضعيف، فيقال: أَضَاعَهُ، وضَيَّعَهُ، والضَّيْعَةُ: العَقَار، والجمع: ضِيَاعٌ، مثل كَلبَة وكِلَاب، وقد يقال: ضِيَعٌ، كأنه مقصور منه، وأَضَاعَ الرجلُ بالألف: كَثُرت ضِيَاعُهُ، والضَّيْعَةُ: الحرفة والصناعة، ومنه: كُلُّ رَجُلٍ وَضَيْعَتُهُ، والمَضِيعَةُ: بمعنى الضَّيَاعِ، ويجوز فيها كسر الضاد، وسكون الياء، مثل مَعِيشة، ويجوز سكون الضاد، وفتح الياء، وزانُ مَسْلَمَة، والمراد بها: المفازة المنقطعة، وقال ابن جني: المَضِيعَةُ: الموضع الذي يَضِيع فيه الإنسان، قال: ومنه يقال: ضَاعَ يَضِيعُ ضَيَاعًا بالفتح أيضًا: إذا هَلَكَ. انتهى
(2)
.
(فَأَنَا مَوْلَاهُ)؛ أي: أتولَّى شأنه، وأقوم بأداء دَينه، والوفاء بما عليه.
قال صاحب "التكملة": هذا دليلٌ على أنَّ بيت مال المسلمين يتكفّل بحاجات كلّ من يعجز عن الكسب، وليس له من أقاربه من يقوم بأمره، وقال الإمام محمد بن الحسن الشيبانيّ: رحمه الله: فعلى الإمام أن يتّقي الله في حرف الأموال إلى المصارف، فلا يَدَع فقيرًا إلَّا أعطاه حقّه من الصدقات حتى يُغنيه وعياله، وإن احتاج بعض المسلمين، وليس في بيت المال من الصدقات شيء، أعطى الإمام ما يحتاجون إليه من بيت مال الخراج، ولا يكون ذلك دينًا على بيت مال الصدقة؛ لِمَا بيّنّا أن الخراج وما في معناه يُصرف إلى حاجة المسلمين، ذكره السرخسيّ رحمه الله في "المبسوط"
(3)
.
قال: فهذا من أكبر الضمانات الاجتماعيّة التي أقرّ بها الإسلام في حين لم يكن أحد يتصوّر ذلك، ولا يعرفه من يتباهون اليوم بنعرات الاشتراكيّة، والعدالة الاجتماعيّة، ويتناسون أن الضمان الاجتماعيّ في نظامهم إنما يقوم
(1)
"المفهم" 4/ 576.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 366.
(3)
راجع: "المبسوط" 3/ 18، كتاب "الزكاة"، "باب ما يوضع فيه الخمس".
على قيمة حرّيّة الأفراد، والأملاك، والأفكار، والقلوب، وإن الضمان الاجتماعيّ الذي أعلن به رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرنًا خالٍ عن هذه المفاسد كلّها. انتهى
(1)
.
(وَأَيُّكُمْ تَرَكَ مَالًا، فَإِلَى الْعَصَبَةِ مَنْ كَانَ) قال الداوديّ رحمه الله: المراد بالعصبة هنا الورثة، لا من يَرِث بالتعصيب؛ لأن العاصب في الاصطلاح من له سهم مقدَّر من المُجْمَع على توريثهم، ويرث كلُّ المال إذا انفرد، ويرث ما فضل بعد الفروض بالتعصيب، وقيل: المراد بالعصبة هنا: قرابة الرجل، وهم من يلتقي مع الميت في أب، ولو علا، سُمُّوا بذلك؛ لأنهم يحيطون به، يقال: عَصَب الرجل بفلان: أحاط به، ومن ثَمَّ قيل: تعصَّب لفلان؛ أي: أحاط به.
وقال الكرمانيّ رحمه الله: المراد: العصبة بعد أصحاب الفروض، قال: ويؤخذ حكم أصحاب الفروض من ذكر العصبة بطريق الأولي، ويشير إلى ذلك قوله:"من كانوا"، فإنه يتناول أنواع المنتسبين إليه بالنفس، أو بالغير، قال: ويَحْتَمِل أن تكون"من" شرطيّة. انتهى
(2)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:
[4153]
(
…
) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِالْمُؤْمِنِينَ، فِي كِتَابِ اللهِ -عَزَّوَجَلَّ-، فَأَيُّكُمْ مَا تَرَكَ دَيْنًا، أَوْ ضَيْعَةً، فَادْعُونِي، فَأَنَا وَلِيُّهُ، وَأَيُّكُمْ مَا تَرَكَ مَالًا، فَلْيُؤْثَرْ بِمَالِهِ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ الرَّزاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم قبل بابين.
2 -
(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم أيضًا قبل بابين.
(1)
راجع: "تكملة فتح الملهم" 2/ 48.
(2)
"الفتح" 15/ 429 - 430.
3 -
(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهِ) بن كامل الأبناويّ، أبو عقبة الصنعانيّ، ثقةٌ [4](ت 132)(ع) تقدّم في "الإيمان" 26/ 213.
والباقيان ذُكرا قبله.
شرح الحديث:
(عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ) أنه (قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قد تقدّم شرح هذا الكلام غير مرّة، وهو إشارة إلى أن هذا الحديث مأخوذ من "صحيفة" همّام بن منبّه، وهي مطبوعة اليوم مستقلّة، وهذا الحديث فيها هو الحديث (121) وفيها: "فأيكم ترك دينًا أو ضيعةً، فادعوني، فإني وليّه، وأيكم ما ترك مالًا
…
" من غير زيادة "ما" في الأول دون الثاني.
(فَذَكَرَ) بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير همّام، وقوله:(أَحَادِيثَ) منصوب على المفعوليّة وقوله: (مِنْهَا) جارّ ومجرور خبر مقدّم لقوله: (وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) إذ هو محكيّ لقصد لفظه مبتدأ مؤخّر ("أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بالْمُؤْمِنِينَ) قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: إنما قَيَّد ذلك بالناس؛ لأنَّ الله تعالى أَولى بهم منه، وقوله:(فِي كِتَابِ اللهِ -عَزَّوَجَلَّ-) أشار به إلى قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6]، وقد صَرَّح بذلك في رواية البخاريّ، من طريق عبد الرَّحمن بن أبي عمرة، بلفظ: "ما من مؤمن إلَّا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرءوا إن شئتم:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} .
[فإن قلت]: الذي في الآية المكريمة أنه أولى بهم من أنفسهم، ودلّ الحديث على أنَّه أولى بهم من سائر الناس، ففيه زيادة.
[قلت]: إذا كان أولى بهم من أنفسهم، فهو أولى بهم من بقية الناس، من باب أولى؛ لأن الإنسان أولى بنفسه من غيره، فإذا تقدم النبيّ صلى الله عليه وسلم على النفس، فتقدُّمه في ذلك على الغير من طريق أولي، وحكى ابن عطية في "تفسيره" عن بعض العلماء العارفين أنه قال: هو أولى بهم من أنفسهم؛ لأن أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك، وهو يدعوهم إلى النجاة، قال ابن عطية: ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "وأنا آخذ بِحُجَزكم عن النار، وأنتم تقحمون فيها
تَقَحُّم الفراش"
(1)
(2)
.
[تنبيه]: قال وليّ الدين رحمه الله: اسَتْنَبط أصحابنا الشافعية من هذه الآية المكريمة أن له عليه الصلاة والسلام أن يأخذ الطعام والشراب من مالكهما المحتاج إليهما، إذا احتاج عليه الصلاة والسلام إليهما، وعلى صاحبهما البذل، ويَفْدِي بمُهْجَته مهجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لو قصده صلى الله عليه وسلم ظالم وجب على من حضره أَن يبذل نفسه دونه، وهو استنباط واضح.
قال: ولم يذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم نزول هذه الآية ما له في ذلك من الحظ، وإنما ذكر ما هو عليه فقال:"أيكم ما ترك دينًا، أو ضيعةً، فادعوني، فأنا وليه"، وترك حظه، فقال:"وأيكم ما ترك مالًا فليؤثر عصبته من كان". انتهى
(3)
.
(فَأَيُّكُمْ مَا تَرَكَ دَيْنًا) ما زائدة للتأكيد (أَوْ ضَيْعَةً) -بفتح الضاد، وإسكان الياء المثناة من تحتُ بعدها عين مهملة- وفي رواية أخرى:"ضَياعًا" -بفتح الضاد- والمراد بهما هنا: عيال محتاجون ضائعون، والمعنى: مَن ترك أولادًا أو عيالًا ذوي ضَياع؛ أي: لا شيء لهم، وهو في الأصل مصدر مِنْ ضاع يضيع، وجُعِل اسمًا لكل ما يُعَرَّض للضَّياع، وكذا قوله في رواية أخرى:"كَلًّا"، وهو بفتح الكاف، وتشديد اللام، قال الخطابيّ وغيره: المراد به هنا: العيال، وأصله الثِّقَلُ. انتهى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: والضياع: العيال؛ قاله النضر بن شُمَيل، وقال ابن قتيبة: هو مصدر ضاع يضيع، ضياعًا، ومثله: مضى يمضي مضاءً، وقضى يقضي قضاءً، أراد: من ترك عيالا عالة وأطفالا، فجاء بالمصدر موضع الاسم؛ كما تقول: ترك فقرًا؛ أي: فقراء. والضياع -بالكسر-: جمع ضائع؛ مثل: جائع وجياع، وضيعة الرجل أيضًا: ما يكون منه معاشه؛ من صناعة أو غلة؛ قاله الأزهري. وقال شمر: ويدخل فيه: التجارة والحرفة، يقال: ما
(1)
متّفقٌ عليه بنحوه.
(2)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 6/ 195.
(3)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 6/ 196.
ضيعتك؟ فتقول: كذا. انتهى
(1)
.
(فَادْعُونِي، فَأَنَا وَليُّهُ) قال ابن عطية رحمه الله: أزال الله بهذه الآية أحكامًا كانت في صدر الإسلام: منها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي على ميت عليه دَين، فقال حين نزلت هذه الآية: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من ترك مالًا فلورثته، ومن ترك دينًا أو ضَيَاعًا فعليّ، أنا وليّه، اقرءوا إن شئتم:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} . انتهى.
قال وليّ الدين: والذي تقدم من "الصحيحين" وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم فَعَل ذلك حين فَتْحِ الفتوح، واتساع الأموال، وكيف كان فهذا الحكم، وهو امتناعه صلى الله عليه وسلم من الصلاة على من مات، وعليه دَين منسوخ بلا شكّ، فصار يصلي عليه، وُيوَفِّي دينه، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة، وهل كان ذلك محرَّمًا عليه أم لا؟ فيه خلاف لأصحابنا الشافعية، حكاه أبو العباس الرويانيّ في "الجرجانيات"، وحَكَى خلافًا أيضًا في أنه هل كان يجوز له أن يصلي مع وجود الضامن؟ وقال النوويّ رحمه الله: الصواب الجزم بجوازه مع وجود الضامن. انتهى.
والظاهر أن ذلك لم يكن محرَّمًا عليه، وإنما كان يفعله لِيُحرِّض الناس على قضاء الدَّين في حياتهم، والتوصل إلى البراءة منه؛ لئلا تفوتهم صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم عليهم، فلما فَتَحَ الله عليه الفتوح، صار يصلي عليهم، ويقضي دَين من لم يَخْلُف وفاءً كما تقدم، والله أعلم.
(وَأَيُّكُمْ مَا تَرَكَ مَالًا)"ما" زائدة، كما تقدّم، وذِكْر المال خرج مخرج الغالب، فإن الحقوق تورّث، كالأموال، قاله وليّ الدين رحمه الله
(2)
.
وقوله: (فَلْيُؤْثَرْ بِمَالِهِ) ببناء الفعل للمجهول، من الإيثار، ونائب فاعله قوله:(عَصَبَتُهُ)؛ يعني: أنه ينبغي أن يؤثر عصبته بماله، فيُدفع إليهم، وفي رواية "فليُورّث" من التوريث، قال وليّ الدين: رحمه الله: قوله: "فليوَرث" بضم الياء، وفتح الواو والراء، وتشديدها، وقوله:"عصبتُهُ" مرفوع لنيابته عن الفاعل، وَيحْتَمِل نصبه، ويكون النائب عن الفاعل ضميرًا يعود على الميت - أي:
(1)
"المفهم" 2/ 509.
(2)
"طرح التثريب" 6/ 197.
فيكون "عصبته" مفعولًا ثانيًا - أي: فليورّث هو عصبتَهُ، والأول هو المعروف. انتهى.
وقوله: (مَنْ كَانَ")؛ أيّ: أيًّا كان ذلك العصبة؛ يعني: أنه يُعطى المال للعصبة من غير نظر إلى أوصافهم، وقال الكرمانيّ رحمه الله:
فإن قلت: قد يكون لأصحاب الفروض.
قلت: هم مقدّمون على العصبة، فإذا كان للأبعد فبالطريق الأَولى للأقرب أيضًا. انتهى
(1)
.
وقال وليّ الدين: قوله: "من كان"؛ أي: العصبة هذا على الإعراب الأول، ويدلّ له قوله في الرواية الأخرى:"من كانوا"، وعلى الاحتمال الذي قدمناه -يعني: نصب"عصبتَه"- يكون المراد: من كان الميت.
و"العصبة": الأقارب من جهة الأب، كذا عرّفه أهل اللغة، ومنهم الجوهريّ، وصاحب "النهاية"، قال الجوهريّ: وإنما سُمُّوا عصبة؛ لأنهم عَصَبوا به؛ أي: أحاطوا به، فالأب طرف، والابن طرف، والعم جانب، والأخ جانب.
وقال صاحب "النهاية": لأنهم يعصبونه، ويعتصب بهم؛ أي: يحيطون به، ويشتدّ بهم.
وقال صاحب "المحكم": العصبة: الذين يرثون الرجل عن كلالة من غير والد، ولا ولد، فأما في الفرائض: فكل من لم يكن له فريضة مسماة، فهو عصبة، إن بقي شيء بعد الفرض أخذ.
وقال صاحب "المشارق": عصبة المواريث: هم الكلالة من الورثة، من عدا الآباء والأبناء الأدنياء، وتكون أيضًا في المواريث: كلُّ من ليس له فرض مسمي، وكلام الجوهريّ يقتضي أن العصبة مفرد، فإنه قال: إن جمعه العصبات، وحكى القاضي في "المشارق" أنه قيل: إن العصبة جماعة، ليس لها واحد.
قال: وعَرَّف أصحابنا الفقهاء العصبة بأنه من وَرِث بالإجماع، ولا فرض
(1)
"شرح الكرمانيّ على صحيح البخاري" 23/ 167.
له، واحترزوا بقولهم: بالإجماع عن ذوي الأرحام، فإن مَن وَرَّثهم لا يسميهم عصبة.
وأُورد على هذا التعريف أمران:
[أحدهما]: أن لنا من يرث بالتعصيب، وهو ذو فرض، كابن عمّ، هو أخ لأم، أو زوج.
[الثاني]: أن لنا من في إرثه خلاف، وهو عند من ورَّثه عصبة، كالقاتل، والتوأمين المنفيين باللعان، فينبغي أن يقال: من ورَّث لِمُجْمَع على التوريث بمثله بلا تقدير.
ثم قَسَمَ أصحابنا العصبة: إلى عصبة بنفسه، وعصبة بغيره، ومنهم من زاد قسمًا ثالثًا، وهو عصبة مع غيره.
وعَرَّف جماعة، منهم أبو إسحاق الشيرازيّ، والرافعيّ العصبة بنفسه بأنه كلُّ ذكر يُدلي إلى الميت بغير واسطة، أو بتوسط محض الذكور، وأورد على هذا أنه يتناول الزوج، فإنه يدلي إلى الميت بغير واسطة، مع أنه ليس عصبة، ويُخرج عنه المولاة المعتقة، مع أنها عصبة، ولهذا قال النوويّ رحمه الله: ينبغي أن يقال: هو كلُّ ذَكَرٍ نَسِيب إلى آخر ما تقدم. انتهى
(1)
.
وقال وليّ الدين رحمه الله أيضًا: قوله: "فليُوَرَّث عصبته" هو مثل قوله في رواية مسلم: "فإلى العصبة من كان"، وفي رواية للبخاري:"فماله لموالي العصبة"، والظاهر أنه من إضافة الموصوف لصفته، وأصله للموالي العصبة، واحترز بذلك عن الموالي الذين ليسوا عصبة، فقد يكون الرجل مولى بقرابة إناث، أو بإعتاق من أسفل، أو بنصر، أو بغير ذلك، وليس عصبة، فلا إرث له، وفي رواية أخرى في "الصحيحين":"فلورثته"، وهذه أعمّ؛ لتناولها أصحاب الفروض أيضًا، وذوي الأرحام عند من يورِّثهم، والظاهر أنه إنما اقتصر في الرواية الأخرى على العصبة؛ لوضوح أمر أصحاب الفروض، والنص على توريثهم في القرآن الكريم. انتهى.
وقال أيضًا: استدَلَّ به البخاريّ على أنَّ المرأة إذا تُوفِّيت عن ابني عم،
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 6/ 197 - 198.
أحدهما أخ لأم، والآخر زوج، أن للزوج النصف، وللأخ من الأم السدس، والباقي بينهما نصفين، وحكاه عن عليّ بن أبي طالب، ووجهه أنهما متساويان في العصوبة، فيقسم الباقي بعد فرضيها بينهما نصفين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال:"فماله للعصبة"، فلا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر في ذلك بلا مرجح، وهذا هو المشهور من مذهب الشافعيّ، وفي وجه في مذهب الشافعيّ أن الباقي كله للأخ من الأم؛ لزيادته بقرابة الأم، فأشبه الأخ الشقيق مع الأخ للأب، وهذا ضعيف، والله أعلم. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: هذا الحديث أخرجه مسلم عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق، وأخرجه الأئمة الستة خلا أبا داود، من طريق الزهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفَّي، عليه الدَّين، فيسأل هل ترك لدينه فضلًا؟ فإن حُدِّث أنه ترك لدينه وفاءً، وإلا قال للمسلمين: صلوا على صاحبكم، فلما فَتَحَ الله عليه الفتوح، قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من تُوُفِّي من المؤمنين، فترك دينًا فعليّ قضاؤه، ومن ترك مالًا فلورثته"، لفظ البخاريّ، وقال الباقون:"قضاءً" بدل "فضلًا"، وكذا هو عند بعض رواة البخاريّ.
وأخرجه الشيخان، وأبو داود من رواية أبي حازم، عن أبي هريرة، بلفظ:"من ترك مالًا فلورثته، ومن ترك كَلًّا فإلينا"، وفي لفظ لمسلم:"وَليتُهُ".
وأخرجه البخاريّ، والنسائيّ من رواية أبي صالح، عن أبي هريرة، بلفظ: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن مات وترك مالًا، فماله لموالي العصبة، ومن ترك كَلًّا أو ضَيَاعًا فأنا وليّه، فَلْاُدْعَى
(2)
له".
وأخرجه البخاريّ من رواية عبد الرَّحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة، بلفظ:"ما من مؤمن إلَّا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرءوا إن شئتم: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}، فأيما مؤمن مات وترك مالًا، فليرثه عصبته من كانوا، ومن ترك دَينًا، أو ضَيَاعًا، فليأتني، فأنا مولاه".
(1)
"طرح التثريب" 6/ 197 - 198.
(2)
كذا في النسخة، والظاهر أنه"فلْأُدْعَ" بحذف الألف للجزم، فليُتنبّه.
وأخرجه مسلم من رواية أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، بلفظ:"والذي نفس محمد بيده، إِنْ على الأرض من مؤمن، إلَّا وأنا أولى الناس به، فأيكم ما ترك دَينًا، أو ضَيَاعًا، فأنا مولاه، وأيكم ما ترك مالًا فإلى العصبة من كان". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4154]
(
…
) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيٍّ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا حَازِمٍ
(2)
، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ قَالَ:"مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِلْوَرَثَةِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا فَإِلَيْنَا").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدّم في "المقدمة" 3/ 7.
2 -
(أَبوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان العنبري، أبو المثنَّى البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدّم في "المقدمة" 3/ 7.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(عَدِيُّ) بن ثابت الأنصاريّ الكوفيّ، ثقةٌ رُمي بالتشيّع [4](ت 116)(ع) تقدّم في "الإيمان" 35/ 244.
5 -
(أَبو حَازِمٍ) سلمان الأشجعيّ الكوفيّ، ثقةٌ [3] مات على رأس المائة (ع) تقدّم في "الإيمان" 9/ 142.
6 -
(أبو هريرة) رضي الله عنه، تقدم قريبًا.
وقوله: (كَلًّا) -بفتح الكاف، وتشديد اللام- المراد به هنا العيال، كما تقدّم.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"طرح التثريب" 6/ 194 - 195.
(2)
وفي نسخة: "عَنْ عَدِيٍّ سَمِعَ أَبَا حَازِمٍ".
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:
[4155]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، حَدَثَنَا غُنْدَرٌ (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ -يَعْنِي: ابْنَ مَهْدِيٍّ- قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ غُنْدَرٍ:"وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا وَلِيتُهُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ) محمد بن أحمد بن نافع الْعَبْديّ البصريّ، ثقةٌ، من صغار [10] مات بعد (240) تقدّم في "الإيمان" 12/ 158.
2 -
(غُنْدَرٌ) محمد بن جعفر، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) تقدّم قبل باب.
والباقيان ذُكرا في الباب.
[تنبيه]: رواية غندر، عن شعبة ساقها الإمام أحمد في "مسنده" مقرونًا بشعبة، فقال:
(9876)
- حدّثنا عبد اللهِ، حدّثني أبي، ثنا محمد بن جَعْفَرٍ، وَبَهْزٌ، قَالَا: ثنا شُعْبَةُ، عن عديّ بن ثَابِتٍ، قال بَهْزٌ في حَدِيثِهِ: قال: ثنا عديُّ بن ثَابِتٍ، قال: سمعت أَبَا حَازِمٍ عن أبي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ-صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ كلًّا وُلِّيتُهُ"، قال بَهْزٌ:"وَمَنْ تَرَكَ كلًّا فَإِلَيْنَا". انتهى.
وأما رواية عبد الرَّحمن بن مهديّ، عن شعبة، فلم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
* * *
23 - (كِتَابُ الْهِبَاتِ)
أي: هذا كتاب في بيان الأحاديث الدالّة على أحكام الهبات.
و"الْهِبَاتُ": جمع هِبَة - بكسر الهاء، وتخفيف الموحَّدة، قال الفيّوميّ رحمه الله: وهَبْتُ لزيد مالًا له هَبُهُ له هِبَة: أعطيته بلا عوض، يتعدَّى إلى الأول باللام، وفي التنزيل:{يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49]، ووَهْبًا بفتح الهاء، وسكونها، ومَوْهِبًا، ومَوْهِبَةً بكسرهما، قال ابن الْقُوطِيّة، والسَّرَقُسْطِيُّ، والْمُطَرِّزِيُّ، وجماعة: ولا يتعدَّى إلى الأول بنفسه، فلا يقال: وَهَبْتُكَ مالًا، والفقهاء يقولونه، وقد يُجْعَل له وجهٌ، وهو أن يُضَمَّن وَهَبَ معنى جَعَلَ
(1)
، فيتعدّى بنفسه إلى مفعولين، ومن كلامهم: وَهَبَنِي الله فداك؛ أي: جعلني
(2)
، لكن لم يُسْمَع في كلام فصيح، وزيد مَوْهُوبٌ له، والمال مَوْهُوبٌ، واتّهَبْتُ الهِبةَ: قبلتها، واسْتَوهَبْتُها: سألتها، وتَواهَبُوا: وَهَبَ بعضهم لبعض. انتهى
(3)
.
وقال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "كتاب الهبة، وفضلها، والتحريض عليها".
قال في "الفتح": "الهبة" -بكسر الهاء، وتخفيف الباء الموحَّدة- تُطْلَق
(1)
اعترض بعضهم هذا -كما في هامش "المصباح"- فقال: جَعَلَ الناصبة مفعولين لا يُمكن تضمين معناها وَهَبَ؛ إذ يُشترط أن يكون مفعولاها مبتدأ وخبرًا في الأصل، والمال لا يُخبر به عن زيد، ولو قال: بتضمين وَهَبَ معنى "أعطى" كان قريبًا من الصواب. انتهي، وهو تعقّب وجيهٌ، فتأمّل.
(2)
تعقّبه في الهامش بأن "وهب" هنا بمعنى صَيَّرَ، ولا يصحّ أن يقال: وهبت زيدًا مالًا، بمعنى صيّرت زيدًا مالًا. انتهى.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 673 - 674.
بالمعنى الأعم على أنواع الإبراء، وهو هبة الدَّين ممن هو عليه، والصدقة، وهي هبة ما يتمحض به طلب ثواب الآخرة، والهدية، وهي ما يُكْرَم به الموهوب له، ومن خَصّها بالحياة أخرج الوصية، وهي تكون أيضًا بالأنواع الثلاثة، وتُطْلَق الهبة بالمعنى الأخصّ على ما لا يُقْصَد له بدل، وعليه ينطبق قول مَن عَرَّف الهبة بأنها تمليك بلا عوض، وصنيع البخاريّ محمول على المعنى الأعم؛ لأنه أدخل فيها الهدايا. انتهى
(1)
.
وقال في "العمدة": قال في "التوضيح": أصل الهبة من هبوب الريح؛ أي: مروره، قلت
(2)
: هذا غلط صريح، بل الهبة مصدرٌ من وَهَب يَهَبُ، وأصلها وِهْبٌ؛ لأنه معتل الفاء؛ كالعِدَة، أصلها وِعْدٌ، فلما حُذفت الواو تبعًا لفعله، عُوّضت عنها الهاء، فقيل: هِبَةٌ، وعِدَةٌ.
ومعناها في اللغة: إيصال الشيء للغير بما ينفعه، سواء كان مالًا، أو غير مال، يقال: وهبت له مالًا، ووهب الله فلانًا ولدًا صالِحًا، ويقال: وهبه مالًا أيضًا، ولا يقال: وهب منه، ويسمّى الموهوب هِبَةً، ومَوْهِبَةً، والجمع: هِبَات، ومَوَاهِب، واتَّهَبه منه: إذا قبله، واستوهبه إياه: إذا طلب الهبة.
وفي الشرع: الهبة تمليك المال بلا عوض، وقال الكرمانيّ: الهبة تمليك بلا عوض، وتحتها أنواع، كالإبراء، وهي هبة الدَّين ممن عليه، والصدقة، وهي الهبة لثواب الآخرة، والهدية، وهي ما يُنقَل إلى الموهوب منه إكرامًا له.
قال: وأخذ بعضهم كلام الكرمانيّ هذا، وذكر التقسيم المذكور بعد أن قال: الهبة تُطلَق بالمعنى الأعمّ على أنواع، ثم قال: وتطلق الهبة بالمعنى الأخصّ على ما لا يُقصد له بدل، وعليه ينطبق قول مَن عَرَّف الهبة بأنها تمليك بلا عوض. انتهى.
قلت
(3)
: تقسيم الهبة إلى الأنواع المذكورة ليس بالنظر إلى معناها الشرعيّ، وإنما هو بالنظر إلى معناها اللغويّ؛ لأن الأنواع المذكورة إنما تنطبق
(1)
"الفتح" 6/ 415، كتاب"الهبة" رقم (2566).
(2)
القائل هو: العينيّ رحمه الله، وهو صاحب "عمدة القاري".
(3)
القائل: العينيّ.
على المعنى اللغويّ، لا الشرعيّ، فافهم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: اعتراض العينيّ على الحافظ في غير محلّه، فإنه لم يقل: إن هذا الإطلاق شرعيّ، بل ظاهر سياقه أنه يريد المعنى اللغويّ، فتأمل كلامه بالإنصاف، والله تعالى وليّ التوفيق.
وقال ابن قُدامة رحمه الله في "المغني": الهبة، والصدقة، والهديّة، والعطيّة معانيها متقاربة، وكلّها تمليك في الحياة بغير عوض، واسم العطية شامل لجميعها، وكذلك الهبةُ، والصدقةُ، والهديةُ متغايرة
(2)
، فإن النبيّ رحمه الله كان يأكل الهديّة، ولا يأكل الصدقة، وقال في اللحم الذي تُصُدّق به على بَرِيرة رضي الله عنها:"هو عليها صدقة، ولنا هدية"، فالظاهر أن من أعطى شيئًا يتقرب به إلى الله تعالى للمحتاج فهو صدقة، ومن دفع إلى إنسان شيئًا للتقرب إليه، والمحبة له، فهو هديّة، وجميع ذلك مندوب إليه، ومحثوث إليه، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"تهادَوْا تَحَابُّوا"
(3)
.
وأما الصدقة فما ورد في فضلها أكثر من أن يمكننا حصره، وقد قال تعالى:{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة: 271]
(4)
، والله تعالى أعلم بالصواب.
(1) - (بَابُ كَرَاهَةِ شِرَاءِ الإِنْسَانِ مَا تَصَدَّقَ بِهِ مِمَّنْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4156]
(1620) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ زيدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ
(1)
"عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 20/ 64.
(2)
هكذا النسخة، ولعل الصواب: وأما الصدقة، والهبة، فمتغايرتان
…
إلخ.
(3)
حديث حسن، أخرجه البخاريّ في "الأدب المفرد".
(4)
"المغني" لابن قُدامة رحمه الله 5/ 379.
عَتِيقٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَأَضَاعَهُ صَاحِبُهُ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ:"لَا تَبْتَعْهُ، وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ، فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ، كَالْكَلْبِ يَعُودُ في قَيْئِهِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) الْقَعْنبيّ الحارثيّ، أبو عبد الرَّحمن البصريّ، مدنيّ الأصل، وقد سكنها مدّةً، ثقةٌ عابدٌ، كان ابن معين، وابن المدينيّ لا يقدّمان عليه أحدًا في "الموطّإ"، من صغار [9](ت 221) بمكة (خ م د، س) تقدّم في "الطهارة" 17/ 617.
2 -
(مَالِكُ بْنُ أنسِ) بن مالك بن أبي عامر الأصبحيّ، أبو عبد الله الفقيه، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير الْمُثبّتين [7](ت 179)(ع) تقدَّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.
3 -
(زيدُ بْنُ أَسْلَمَ) الْعَدويّ مولاهم، أبو عبد الله، أو أبو أسامة المدنيّ، ثقةٌ فقيه، كان يرسل [3](ت 136)(ع) تقدّم في "الإيمان" 36/ 250.
4 -
(أبوه)
(1)
أسلم الْعَدويّ، مولاهم، أبو خالد، ويقال: أبو زيد، قيل: إنه حبشيّ، وقيل: من سبي عين التمر، المدنيّ، ثقةُ مخضرم [2].
أدرك زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عن أبي بكر، ومولاه عمر، وعثمان، وابن عمر، ومعاذ بن جبل، وأبي عبيد، وحفصة رضي الله عنهم، وغيرهم.
وروى عنه ابنه زيد، والقاسم بن محمد، ونافع مولى ابن عمر، وغيرهم.
قال ابن إسحاق: بعث أبو بكر عمر سنة (11) فأقام للناس الحج، وابتاع فيها أسلم مولاه. وقال العجليّ: مدنيّ ثقةٌ، من كبار التابعين. وقال أبو زرعة: ثقةٌ. وقال أبو عبيد: تُوُفّي سنة (80)، وقال غيره: وهو ابن (114) سنة.
قال الحافظ: هذا حكاه البخاريّ، والفسويّ في "تاريخهما" عن إبراهيم ابن المنذر، عن زيد بن عبد الرَّحمن بن زيد بن أسلم، وزاد: صلى عليه مروان، وهو يقتضي أنه مات قبل سنة (80)، بل قبل سنة (70)، ويدل له أن
(1)
هذه الترجمة كان محلّها في جـ 23 ص 477، وإنما أُخّر إلى هنا سهوًا، فليُتنبّه.
البخاريّ ذكر ذلك في "التاريخ الأوسط" في فصل من مات بين الستين إلى السبعين، ومروان مات سنة (64)، ونُفي من المدينة في أوائلها. ورَوَى ابن منده، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" بإسناد ضعيف أن أسلم سافر مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، لكن يَحْتَمِل لو صح السند أن يكون أسلم آخر غير مولى عمر، وقد أوضحت ذلك في "معرفة الصحابة". وقال يعقوب بن شيبة: كان ثقةٌ، وهو من جِلّة موالي عمر، وكان يُقدّمه. انتهى
(1)
.
5 -
(عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه، تقدّم قبل بابين.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه مسلسل بالمدنيين من أوله إلى آخره، وشيخه وإن كان بصريًّا إلَّا أنه سكن المدينة أيضًا، ورجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فما أخرج له ابن ماجه، وفيه رواية الابن عن أبيه عن مولاه، ورواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه عمر رضي الله عنه أحد الخلفاء الراشدين الأربعة، والعشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ زيدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ) وفي رواية للبخاريّ، عن الحميديّ: "حدّثنا سفيان، سمعت مالكًا يسأل زيد بن أسلم، فقال: سمعت أبي
…
"، فذكره مختصرًا، ولمالك فيه إسناد آخر: عن نافع، عن ابن عمر، سيأتي بعد ثلاثة أحاديث، وله أيضًا فيه إسناد ثالث، عن عمرو بن دينار، عن ثابت الأحنف، عن ابن عمر، أخرجه ابن عبد البرّ، قاله في "الفتح"
(2)
.
(أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَابِ) رضي الله عنه، وفي رواية البخاريّ:"سمعت عمر بن الخطّاب رضي الله عنه"، وزاد ابن المدينيّ عن سفيان:"على المنبر"، وهي في "الموطآت للدارقطنيّ"
(3)
.
وهذا صريح في كون الحديث من مسند عمر رضي الله عنه، وأما الرواية الآتية عن نافع، عن ابن عمر، وكذا عن سالم، عنه، فإنها ظاهرة في كونه من مسند ابن
(1)
"تهذيب التهذيب" 1/ 233.
(2)
"الفتح" 6/ 475 رقم (2623)، كتاب "الهبة".
(3)
"الفتح" 6/ 476.
عمر رضي الله عنهما، وقد رجّح الدارقطنيّ الثانية، والصحيح أن رواية أسلم، عن عمر رضي الله عنه نفسِهِ، وأما رواية نافع، وسالم، فإنها عن ابن عمر رضي الله عنهما. أفاده الحافظ رحمه الله.
(قَالَ: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ) بفتحتين، قال الفيّوميّ رحمه الله: الفَرَسُ يقع على الذكر والأنثي، فيقال: هو الفَرَسُ، وهي الفَرَسُ، وتصغير الذكر: فُرَيْسٌ، والأنثى: فُرَيْسَةٌ، على القياس، وجُمعت الفَرَسُ على غير لفظها، فقيل: خيلٌ، وعلى لفظها، فقيل: ثَلَاثَةُ أَفْراس بالهاء للذكور، وثَلَاثُ أفْرَاسٍ، بحذفها للإناث، ويقع على التركيّ، والعربيّ، قال ابن الأنباريّ: وربما بنوا الأنثى على الذكر، فقالوا فيها: فَرَسَةٌ، وحكاه يونس سماعًا عن العرب. انتهى
(1)
.
وقوله: (عَتِيقٍ) -بفتح العين المهملة، وكسر المثنّاة-: الكريم الفائق من كلّ شيء، وهذا الفرس أخرج ابن سعد عن الواقديّ بسنده، عن سهل بن سعد في تسمية خيل النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: "وأهدى تميم الداريّ له فرسًا، يقال له: الورد، فأعطاه عمر، فحَمَل عليه عمر في سبيل الله، فوجده يباع
…
" الحديث، فعُرِف بهذا تسميته، وأصله، ولا يعارضه ما أخرجه مسلم، ولم يسق لفظه، وساقه أبو عوانة في "مستخرجه" من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن عمر حَمَل على فرس في سبيل الله، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا؛ لأنَّه يُحمل على أنَّ عمر لما أراد أن يتصدق به، فَوَّض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اختيار من يتصدق به عليه، أو استشاره فيمن يَحمله عليه، فأشار به عليه، فنُسبت إليه العطية؛ لكونه أمره بها، قاله في "الفتح".
وقال القرطبيّ رحمه الله: قول عمر رضي الله عنه: "حملت على فرس عتيق في سبيل الله"؛ يعني: أنه تصدَّق به على رجل ليجاهد عليه، ويتملَّكه، لا على وجه الحبس؛ إذ لو كان كذلك لما جاز له أن يبيعه، وقد وجده عمر رضي الله عنه في السوق يباع، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"لا تبتعه، ولا تَعُدْ في حدقتك"، فدلَّ على أنه مَلَّكه إيَّاه على جهة الصَّدقة ليجاهد عليه في سبيل الله.
والعتيق من الخيل: الكريم الأبوين. و"سبيل الله ": الجهاد هنا، وهو العُرْف فيه. انتهى
(2)
.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 467.
(2)
"المفهم" 4/ 578.
(فِي سَبِيلِ اللهِ) -عَزَّوَجَلَّ-، وفي رواية عُقيل، عن الزهريّ:"أن عمر تصدّق بفرس"، والمعنى أنه ملّكه له، ولذا ساغ له بيعه، ومنهم من قال: كان عمر قد حبسه، وإنما ساغ للرجل بيعه؛ لأنه حصل فيه هُزَالٌ، عَجَزَ لأجله عن اللحاق بالخيل، وضعف عن ذلك، وانتهى إلى حالة عدم الانتفاع به، وأجاز ذلك ابن القاسم، ويدلّ على أنه تمليك قوله:"ولا تَعُد في صدقتك"، ولو كان حبيسًا لعلّله به، قاله في "الفتح".
وقال في موضع آخر: قوله: "في سبيل الله" ظاهره أنه حمله عليه حَمْلَ تمليك؛ ليجاهد به؛ إذ لو كان حَمْل تحبيس لم يجز بيعه، وقيل: بلغ إلى حالة لا يمكن الانتفاع به فيما حُبس فيه، وهو مفتقر إلى ثبوت ذلك، ويدلّ على أنه تمليك قوله:"العائد في هبته"، ولو كان حبسًا لقال: في حبسه، أو وقفه، وعلى هذا فالمراد بسبيل الله: الجهاد، لا الوقف، فلا حجة فيه لمن أجاز بيع الموقوف إذا بلغ غاية لا يُتَصَوَّر الانتفاع به فيما وُقِف له. انتهى
(1)
.
(فَأَضَاعَهُ صَاحِبُهُ) ومعنى إضاعته له: أنه لم يحسن القيام عليه، وقَصَّر في مؤونته، وخدمته، وقيل: أي لم يَعْرِف مقداره، فأراد بيعه بدون قيمته، وقيل: معناه: استعمله في غير ما جُعل له، والأول أظهر، ويؤيده الرواية التالية من طريق رَوْح بن القاسم، عن زيد بن أسلم:"فوجده عند صاحبه، وقد أضاعه، وكان قليل المال"، فأشار إلى علة ذلك، وإلى العذر المذكور في إرادة بيعه، قال عمر رضي الله عنه:"فظننت أنه بائعه بِرُخْصٍ".
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "فأضاعه صاحبه"؛ أي: فرَّط فيه، ولم يُحسن القيام عليه، وهذا الذي قلناه أَولى مِن قول مَن قال: إنه حبسٌ في سبيل الله، قال: وبيعه إنما كان لمّا أضاعه صاحبه صار بحيث لا يصلح للجهاد، وهذا هو الذي صار إليه مالك تفريعًا على القول بجواز تحبيس الحيوان أنه يباع إذا هَرِمَ، ويُستبدل بثمنه في ذلك الوجه المُحْبَس فيه، أو يعين بثمنه فيه، والقول الأول أظهر؛ لِمَا ذكرناه، ولأنه لو كان ذلك لسأل عن هذا الفرس، هل تغيَّر عن حاله أم لا؟ ولنَظَر في أمره. انتهى
(2)
.
(1)
"الفتح" 6/ 476.
(2)
"المفهم" 4/ 578 - 579.
(فَظَنَنْتُ أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ) -بضمّ، فسكون-: ضدّ الغَلَاء؛ أي: بثمن قليل، قال القرطبيّ رحمه الله: إنَّما ظن ذلك؛ لأنه هو الذي كان أعطاه إيَّاه، فتعلَّق خاطره بأنه يسامحه في ترك جزء من الثمن، وحينئذٍ يكون ذلك رجوعًا في عين ما تصدَّق به في سبيل الله، ولَمَّا فَهِم النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا نهاه عن ابتياعه، وسَمَّى ذلك عَوْدًا، فقال:"لا تبتعه، ولا تَعُدْ في صدقتك". انتهى.
(فَسَأَلتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ)؛ أي: عن حكم شرائه (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("لَا) ناهية، ولذا جُزم بها قوله:(تَبْتَعْهُ) وفي الرواية التالية: "لا تشتره"، قال في "الفتح": سُمِّي الشراء عَوْدًا في الصدقة؛ لأن العادة جرت بالمسامحة من البائع في مثل ذلك للمشتري، فأُطلق على القدر الذي يُسامَح به رجوعًا، وأشار إلى الرُّخْص بقوله:"وإن أعطاكه بدرهم"، ويستفاد من قوله:"وإن أعطاكه بدرهم" أن البائع كان قد ملكه، ولو كان مُحَبَّسًا كما ادَّعاه بعضهم، وجاز بيعه؛ لكونه صار لا ينتفع به فيما حُبِّس له لَمَا كان له أن يبيعه إلَّا بالقيمة الوافرة، ولا كان له أن يسامح منها بشيء، ولو كان المشتري هو المحبِّس، والله أعلم.
وقد استشكله الإسماعيليّ، وقال: إذا كان شرط الواقف ما تقدم ذكره في حديث ابن عمر في وقف عمر: "لا يباع أصله، ولا يوهب"، فكيف يجوز أن يباع الفرس الموهوب؛ وكيف لا يُنْهَى بائعه، أو يمنع من بيعه؟ قال: فلعل معناه أن عمر جعله صدقة، يعطيها من يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعطاءه، فأعطاها النبيّ صلى الله عليه وسلم الرجل المذكور، فجرى منه ما ذُكِر.
ويستفاد من التعليل المذكور أيضًا أنه لو وجده مثلًا يباع بأغلى من ثمنه لم يتناوله النهي. انتهى.
(وَلَا) ناهية أيضًا (تَعُدْ) -بضمّ العين: مضارع عاد إلى الشيء: إذا رجع إليه، قال الفيّوميّ: عاد إلى كذا، وعاد له أيضًا يعود عَوْدَةً، وعَوْدًا: صار إليه، وفي التنزيل:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا} [الأنعام: 28]
(1)
؛ أي: لا ترجع (فِي صَدَقَتِكَ) ثم علّل نهيه عن العود في صدقته، فقال:(فَإِنَّ الْعَائِدَ) الفاء للتعليل؛ أي: لأن الراجع (فِي صَدَقَتِهِ، كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ") الغرض من التشبيه تقبيح سورة
(1)
"المصباح المنير" 2/ 436.
ذلك الفعل، وفي رواية:"كالعائد في قيئه" واستدلّ به على تحريم ذلك؛ لأن أكل القيء حرام، قال القرطبيّ: وهذا هو الظاهر من سياق الحديث، ويَحْتَمِل أن يكون التشبيه للتنفير خاصّة؛ لكون القيء مما يُستقذر، وهو قول الأكثرين، ويلتحق بالصدقة: الكفّارات، والنذر، وغيرهما من القربات، وأما إذا ورثه فلا كراهة، وأبعدَ من قال: يتصدّق به. انتهى.
[تنبيه]: زاد في رواية سالم عند البخاريّ في آخر الحديث: "ولهذا كان ابن عمر لا يترك أن يبتاع شيئًا تصدّق به إلَّا جعله صدقة"؛ يعني: أن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا اتَّفَق له أن يشتري شيئًا مما تَصَدّق به لا يتركه في ملكه حتى يتصدّق به، وكأنه فهم أن النهي عن شراء الصدقة إنما هو لمن أراد أن يتملّكها، لا لمن يردّها صدقة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عمر رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 4156 و 4157 و 4158 و 4159 و 4160 و 4161 و 4162](1620 و 1621)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1489 و 1490) و"الهبة"(2623 و 2636) و"الوصايا"(2775) و"الجهاد والسير"(2970 و 2971 و 3002 و 3003)، و (أبو داود) في "الزكاة"(1593)، و (الترمذيّ) في "الزكاة"(668)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(5/ 108 و 109) و"الكبرى"(2/ 59)، و (ابن ماجه) في "الإحكام"(2390 و 2392)، و (مالك) في "الموطّإ"(624 و 625)، و (الحميديّ) في "مسنده"(15)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 7 و 34 و 55)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5124 و 5125)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 152 و 3/ 451 و 452)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(5/ 88)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 151)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان حكم شراء الصدقة، وهو المنع؛ لأنه يكون رجوعًا عنها.
2 -
(ومنها): مشروعيّة الحمل في سبيل الله تعالي، والإعانة على الغزو بكلّ شيء.
3 -
(ومنها): أن الحمل في سبيل الله يكون تمليكًا، فيجوز للمحمول بيعه، والانتفاع بثمنه.
4 -
(ومنها): استعمال التشبيه في توضيح المسائل.
5 -
(ومنها): بيان فضل عمر رضي الله عنه، حيث امتنع من شراء صدقته، وقد وجدها تباع برخص، حتى استشار النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعَلِم حكم الله في ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم شراء الصدقة:
ذهب الجمهور، ومنهم مالك، والكوفيون، والشافعيّ -كما قال ابن بطّال- إلى كراهة ذلك؛ لحديث الباب، وسواء كانت الصدقة فرضًا، أو تطوّعًا، فإن اشترى أحد صدقته لم يُفسخ بيعه، وأولى به التنزه عنها، وكذا قولهم فيما يخرجه المكفّر في كفّارة اليمين.
وذهب قوم إلى جواز شرائها، ومنهم -كما قال ابن المنذر- الحسن، وعكرمة، وربيعة، والأوزاعيّ.
وذهب قوم إلى تحريم ذلك، فلا يجوز لأحد أن يشتري صدقته، ويفسخ البيع، قال القرطبيّ وغيره: وهو الظاهر. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: واختُلِف في هذا النهي؛ هل يُحمل على ظاهره من التحريم؟ لأنه يفهم من تشبيهه بالكلب التحريم؛ كما قال تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف: 176]، أو على الكراهة؛ لأن تشبيهه بالقيء إنما يدلُّ على الاستقذار والعيافة للنَّفرة الموجودة من ذلك، لا أنه يحرم العود في القيء إلَّا أن يتغير للنجاسة، فحينئذ يحرم لكونه نجاسة، لا لكونه قيئًا، والأول في كتاب ابن الموّاز
(2)
، وقال به الداوديّ، والثاني: عليه أكثر النَّاس.
(1)
"الفتح" 6/ 477.
(2)
هو: محمد بن إبراهيم الإسكندري المالكيّ الفقيه، من آثاره مصنّف في الفقه، توفّي سنة (269 هـ).
قال القرطبيّ: ويَحتاج موضع الخلاف إلى تنقيح، فنقول: أما الصَّدقة في السَّبيل، أو على المسكين، أو على ذي الرَّحم إذا وصلت للمتصدِّق عليه فلا يحل الرُّجوع فيها بغير عوض، قولًا واحدًا؛ لأنه قد أخرجها عن ماله على وجه القربة لله تعالي، واستحقّها المتصدَّق عليه، ومَلَكها بالصدقة، والحوز، فالرجوع فيها، أو في بعضها حرام.
وأما الرُّجوع فيها بالشراء الذي لا يُحَطُّ عنه فيه من ثمنها شيءٌ فمكروه؛ لأنه قد استردّ عينًا أخرجها لله تعالى.
والأَولى: حمل النهي الواقع في الحديث المذكور عن الابتياع على التحريم؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم فَهِم عن عمر رضي الله عنه ما كان وقع له، من أنه يبيعه منه بحطيطة من الثمن، وهذا رجوع في بعض عين الصَّدقة، إلَّا أن الكراهية هي المشهورة في المذهب في هذه المسألة، وكأنَّهم رأوا: أن هذه عطية مبتدأة من المتصَدَّق عليه، أو الموهوب له؛ لأنها عن طيب نفس منه، فكان ذلك للمتصدِّق أو الواهب مِلكًا جديدًا بطريق آخر، وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم لمن وهب أمةً لأمّه فماتت أمُّه، فسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"وجب أجرك، وردَّها عليك الميراث"، غير أنه لا يليق بمكارم الأخلاق أن يعود في شيء أُخرج عنه على وجه المعروف، ولا بأهل الدِّين أن يرجعوا في شيء خرجوا عنه لله تعالى بوجه، فكان مكروهًا من هذا الوجه، وهذا نحو مما قررناه في قصَّة تحرّج المهاجرين من المقام بمكة.
قلت
(1)
: والظاهر من ألفاظ الحديث ومساقه التحريم، فاجمع ألفاظه، وتدَبّر معانيها؛ يَلُحْ لك ذلك -إن شاء الله تعالى. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيس جدًّا.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي حملُ النهي على التحريم - كما قال القرطبيّ رحمه الله هو الحقّ؛ لحديث عمر رضي الله عنه المذكور في الباب، فإن النهي للتحريم على المذهب الراجح؛ كما أن الأمر للوجوب، قال الله تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، وقال
(1)
القائل هو: القرطبيّ رحمه الله.
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وإذا نهيتكم عن شيء، فاجتنبوه"، متّفقٌ عليه، ولا دليل هنا من نصّ، ولا إجماع يصرف النهي عن التحريم إلى كراهة التنزيه.
والحاصل أن شراء الصدقة محرّم، يفسد به البيع، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): قال الطبريّ رحمه الله: يُخصّ من عموم هذا الحديث مَن وَهَب بشرط الثواب، ومن كان والدًا، والموهوب ولده، والهبة التي لم تُقبض، والتي ردّها الميراث إلى الواهب؛ لثبوت الأخبار باستثناء كلّ ذلك، وأما ما عدا ذلك، كالغنيّ يثيب الفقير، ونحو من يَصِل رحمه، فلا رجوع لهؤلاء، قال: ومما لا رجوع فيه مطلقًا الصدقة يراد بها ثواب الآخرة. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "مثل الذي يرجع في هبته كمثل الكلب يقيء ثم يعود في قيئه": إن كان المراد بالهبة الصدقة، كما قد جاء في الرواية الأخري، فقد تكلّمنا عليها، وإن كان المراد مطلق الهبة، فهي مخصوصة؛ إذ يخرج منها الهبة للثواب، وهبة أحد الأبوين، فأما هبة الثواب، فقد قال بها مالك، وإسحاق، والطبريّ، والشافعيّ -في أحد قوليه-: إذا عُلِم أنه قصد الثواب؛ إما بالتصريح به، وإما بالعادة والقرائن، كهبة الفقير للغنيّ، والرَّجل للأمير، وبها قال أبو حنيفة: إذا شرط الثواب، وكذلك قال الشافعيّ في القول الآخر، وقد رُوي عنهما، وعن أبي ثور: منعها مطلقًا، ورأوا أنَّها من البيع المجهول الثمن والأجل.
والأصل في جواز هبة الثواب: ما خرَّجه الدارقطنيّ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من وهب هبة فهو أحقّ بها ما لم يُثَبْ عليها منها"، قال: رواته كلهم ثقات. والصواب عن ابن عمر عن عمر قولَهُ، وما خرَّجه مالك عن عمر أنه قال: من وهب هبة لصلة الرَّحم، أو على وجه الصَّدقة أنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنَّه إنما أراد بها الثواب، فهو على هبته يرجع فيها ما لم يُرْضَ منها، وما خرَّجه الترمذيّ من حديث أبي هريرة قال: أهدى رجل من بني فزارة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ناقة، فعوّضه منها بعض العوض، فتسخَّطه، وفي رواية: أهدى له بَكْرة، فعوَّضه ستَّ بكرات، فقال
(1)
نقله ابن بطال في "شرح البخاري" 7/ 140، والحافظ في "الفتح" 6/ 477.
رسول الله على المنبر: "إن رجالًا من العرب يُهدي أحدُهم الهديَّة، فأعوِّضه منها بقدر ما عندي، فيظل يتسخَّطُ عليَّ، وايم الله! لا أقبل بعد يومي هذا من رجل من العرب هديَّة إلَّا من قرشيٍّ، أو أنصاريٍّ، أو ثقفيٍّ، أو دوسيٍّ"
(1)
، وهذا الحديث وإن لم يكن إسناده بالقويّ
(2)
، فيعضده كلّ ما تقدم، وما حكاه مالك من أن هبة الثواب مُجْمَعٌ عليها عندهم، وكيف لا تجوز وهي معاوضةٌ تشبه البيع في جميع وجوهه، إلَّا وجهًا واحدًا؟! وهي: أن العوض فيها غير معلوم حالة العقد، وإنما سامح الشرع في هذا القدر؛ لأنهما دخلا في ذلك على وجه المكارمة، لا المشاحَّة، فعفا عن تعيين العوض فيه، كما فعل في نكاح التفويض.
وأما هبة الأب لولده: فللأب الرجوع فيها، وإلى هذا ذهب مالك، والشافعيّ، وأبو ثور، والأوزاعيّ، وقد اتفق هؤلاء على أنَّ ذلك للأب، وهل يُلْحَق بالأب الأم والجد؟ اختَلَف في ذلك قول مالك، والشافعيّ، ففي قول: يُقْصَرُ ذلك على الأب، وفي قول آخر: إلحاقهما به، والمشهور من مذهب مالك: إلحاق الأم، ومن مذهب الشافعيّ: إلحاق الأم، والأجداد، والجدَّات مطلقًا، والأصل في هذا الباب: ما خرَّجه النسائي من حديث ابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا يحل لرجل يعطي عطية يرجع فيها إلَّا الوالد فيما يعطي ولده، ومَثَل الذي يعطي عطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب، أكل حتَّى إذا شبع قاء، ثم عاد في قيئه"، وهذا حديث صحيح.
وقال مالك: الأمر المجتمع عليه عندنا: أن من أعطى ولده عطيَّة ليس بصدقة أن له أن يعتصرها؛ ما لم يستحدث الولد دَينًا، أو ينكح، فليس للأب الاعتصار، وسبب اختلافهم في إلحاق غير الأب بالأب: هو أنَّه هل يتناول الملحق اسم الأبوة، أو الوالد، أم لا؟ وهل هم في معنى الأب، أو يُفرَّق بينهم وبينه؟ فإن للأب من الحق في مال الولد ما ليس لغيره، وله من خصوصية القُرْب ما ليس لهم.
قال القرطبيّ: وأما إلحاق الأم فلا إشكال فيه، وقد أوغل الشافعيّ في
(1)
حديث صحيح. انظر: "السلسلة الصحيحة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله 4/ 253.
(2)
هذا الكلام فيه نظر لا يخفي، فإن رجال إسناده موثّقون، فلا ينقص حديثهم عن درجة الحسن، فراجع:"جامع الترمذيّ" رقم (3946).
استرجاع الأب لِمَا وهب، وتعلَّق بالولد من الدَّين والتزويج كلّ طلب، وللأب أن يعتصرها من كلّ من يقع عليه اسم ولد حقيقة، أو مجازًا، مثل ولده لصُلْبه، وولد ولده من أولاد البنين والبنات.
وحملت طائفة حديث النَّهي عن الارتجاع في الهبة على عمومه، ولم يستثنوا من ذلك ولدًا ولا غيره، وبه قال طاووس، وأحمد، والرجوع عندهم في الهبة محرم مطلقًا، والحجَّة عليهم ما تقدَّم من الحديث، وعمل أهل المدينة الدَّالّين على استثناء الأب، وقالت طائفة أخرى: إن المراد بذلك النهي: من وهب لذي رحم، أو زوج، فلا يجوز له الرُّجوع، وإن وهب لغيرهم جاز الرُّجوع، وهو قول الثوريّ، والنخعيّ، وإسحاق، وقصره أبو حنيفة، والكوفيون على كلّ ذي رحم محرم فلا رجوع له فيما يهبه لهم، ويرجع فيما وهبه لغيرهم؛ وإن كانوا ذوي رحم.
قال القرطبيّ: وهذه تحكُّمات على ذلك العموم. فيا لله من تلك المفهوم!!. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): قال في "الفتح": وقد استُشكل ذكر عمر رضي الله عنه يعني: حمله في سبيل الله- مع ما فيه من إذاعة عمل البرّ، وكتمانُهُ أرجح.
وأجيب بأنه تعارض عنده المصلحتان: الكتمان، وتبليغ الحكم الشرعيّ، فرجَّحَ الثاني، فعَمِل به.
وتُعُقّب بأنه كان يمكن أن يقول: حمل رجل فرسًا مثلًا، ولا يقول: حملت، فيجمع بين المصلحتين، والظاهر أن محلّ رجحان الكتمان إنما هو قبل الفعل، وعنده، وأما بعد وقوعه، فلعلّ الذي أُعْطِيَهُ أذاع ذلك، فانتفى الكتمان، ويضاف إليه أن في إضافته ذلك إلى نفسه تأكيدًا لصحّة الحكم المذكور؛ لأن الذي تقع له القصّة أجدر بضبطها ممن ليس عنده إلَّا وقوعها بحضوره، فلمّا أمِنَ ما يُخشى من الإعلان بالقصد، صرّح بإضافة الحكم إلى نفسه.
ويَحْتَمِل أن يكون محلّ ترجيح الكتمان لمن يَخشَى على نفسه من
(1)
"المفهم" 4/ 581 - 583.
الإعلان العجبَ والرياء، أما من أَمِنَ من ذلك كعمر رضي الله عنه فلا. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الاحتمال الأخير عندي أقوى.
وحاصله أن عمر رضي الله عنه لما أَمِنَ من مَعَرّة الإعلان، من العجب والرياء اختار الإعلان به؛ لِمَا يترتّب عليه من تركيب الناس إلى مثل عمله، فيَقتَدُوا به فيحملوا في سبيل الله تعالى، ويكون له الأجر في ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من سنّ سنّة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص من أجورهم شيئًا
…
" الحديث، رواه مسلم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4157]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ -يَعْنِي: ابْنَ مَهْدِيٍّ- عَنْ مَالِكِ بْنِ أنَسٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَزَادَ: "لَا تَبْتَعْهُ، وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ").
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
وكلّهم تقدّموا في الإسنادين الماضيين.
[تنبيه]: رواية عبد الرحمن بن مهديّ، عن مالك هذه ساقها الإمام أحمد في "مسنده"، فقال:
(281)
- حدّثنا عبد الرحمن، عن مَالِكٍ، عن زَيْدِ بن أَسْلَمَ، عن أبيه، عن عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رضي الله عنه قال: حَمَلْتُ على فَرَسٍ في سَبِيلِ اللهِ، فَأَضَاعَهُ صَاحِبُهُ، فَأَرَدْتُ أن أبتاعه، وَظَنَنْتُ أنه بَائِعُهُ بِرُخْصٍ، فقلت: حتى أَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال:"لَا تَبْتَعْه، وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ، فإن الذي يَعُودُ في صَدَقَتِهِ، فكالكلب يَعُودُ في قَيْئِهِ". انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4158]
(. . .) - (حَدَّثَنِي أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ -يَعْني: ابْنَ زُريْعٍ -حَدَّثَنَا رَوْحٌ- وَهُوَ ابْنُ الْقَاسِمِ- عَنْ زيدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَوَجَدَهُ عِنْدَ صَاحِبِهِ، وَقَدْ أَضَاعَهُ، وَكَانَ قَلِيلَ
(1)
"الفتح" 6/ 477.
(2)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 1/ 40.
الْمَالِ، فَأرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ:"لَا تَشْتَرِهِ، وَإِنْ أُعْطِيتَهُ بِدِرْهَمٍ، فَإِنَّ مَثَّلَ الْعَائِدِ فِي صَدَقَتِهِ، كَمَثَلِ الْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ) الْعَيْشيّ، أبو بكر البصريّ، صدوقٌ [10](ت 231)(خ م س) تقدّم في "الإيمان" 7/ 132.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ زُريْعٍ) الْعَيْشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدّم في "الإيمان" 7/ 132.
3 -
(رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ) التميميّ الْعَنبَريّ، أبو غياث البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [6](ت 141)(خ م د س ق) تقدّم في "الإيمان" 7/ 132.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4159]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاهُ ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ زيدِ بْنِ أَسْلَمَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، غَيْرَ أنَّ حَدِيثَ مَالِكٍ، وَرَوْحٍ أتمُّ وَأَكثَرُ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، ثم المكيّ، صدوقٌ [10](ت 243)(م ت س ق) تقدّم في "المقدمة" 5/ 31.
2 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم قبل بابين.
و"زيد" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة، عن زيد بن أسلم هذه ساقها الحميديّ في "مسنده"، فقال:
(15)
- حدّثنا سفيان، قال: سمعت مالك بن أنس يسأل زيد بن أسلم، فقال: سمعت أبي يقول: قال عمر بن الخطاب: حَمَلت على فرس في سبيل الله، فرأيته يباع، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشتريه؟ فقال: "لا تشتره، ولا
تَعُدْ في صدقتك". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب-.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4160]
(1621) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَوَجَدَهُ يُبَاعُ، فَأَرَادَ أَنْ يَبْتَاعَهُ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: "لَا تَبْتَعْهُ، وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التيميّ، أبو زكريّاء النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226)(خ م ت س) تقدّم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(نَافِعٌ) مولى ابن عمر، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 117)(ع) تقدّم في "الإيمان" 28/ 222.
3 -
(ابْنُ عَمَرَ) عبد الله رضي الله عنهما، أبو عبد الرحمن المدنيّ المتوفّى سنة (3 أو 74)(ع) تقدّم في "الإيمان" 1/ 102.
والباقيان ذُكرا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في حديث أول الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4161]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاهُ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ رُمْحٍ، جَمِيعًا عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا الْمُقَدَّمِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى، وَهُوَ الْقَطَّانُ (ح) وَحَدَّثنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكٍ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة عشر:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10]
(1)
"مسند الحميديّ" 1/ 9.
(ت 240) عن (90) سنةً (ع) تقدّم في "المقدمة" 6/ 50.
2 -
(ابْنُ رُمْحٍ) هو: محمد بن رُمح بن المهاجر التجيبيّ المصريّ، ثقةٌ ثبت [10](ت 242)(م ق) تقدّم في "الإيمان" 16/ 168.
3 -
(الْمُقَدَّمِيُّ) هو: محمد بن أبي بكر المقدّميّ، تقدّم قبل بابين.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم أيضًا قبل بابين.
5 -
(يَحْيَى الْقَطَّانُ) هو ابن سعيد، تقدّم أيضًا قبل بابين.
6 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم أيضًا قبل بابين.
7 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201) وهو ابن (80) سنةً (ع) تقدّم في "المقدمة" 6/ 51.
8 -
(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر الْعُمريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقة ثبتٌ فقيه [5] مات سنة بضع و (140)(ع) تقدّم في "الإيمان" 28/ 222.
والباقو رضي الله عنهم ذُكروا في الباب، وقبله.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ) يعني: أن يحيى القطّان، وعبد الله بن نُمير، وأبا أُسامة ثلاثتهم رووه عن عبيد الله بن عمر الْعُمريّ.
وقوله: (كِلَاهُمَا) يعني: أن الليث بن سعد في الطريق الأولى، وعبيد الله بن عمر في بقيّة الطرق، روياه عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكٍ.
[تنبيه]: رواية عبيد الله بن عمر، عن نافع هذه ساقها أبو عوانة في "مسنده"، فقال:
وحدّثنا كيلجة، قثنا أبو صالح الفراء، قثنا أبو إسحاق الفزاريّ عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن عمر حمل على فرس في سبيل الله، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا، فوافقه عمر يبيعه، فقال عمر: يا رسول الله أبتاع الفرس الذي حملت عليه؟ قال: "لا تبتاعه
(1)
، ولا ترجع في صدقتك". انتهى
(2)
.
وأما رواية الليث، عن نافع، فلم أر من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
(1)
هكذا النسخة: "لا تبتاعه" غير مجزوم، والظاهر أن الأولى:"لا تبتعه" بالجزم، فليُحرّر.
(2)
"مسند أبي عوانة" 3/ 451.
[تنبيه آخر]: قوله في هذه الرواية: "فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا" لا يعارض ما سبق أن عمر هو الذي أعطى الرجل؛ لأنه يُحمل على أن عمر لَمّا أراد أن يتصدّق به فَوَّضَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اختيار من يتصدّق به عليه، أو استشاره فيمن يَحمله عليه، فأشار به عليه، فنُسبت إليه العطيّة؛ لكونه أمره بها. قاله في "الفتح"
(1)
.
ويستفاد منه أن من أراد أن يتصدّق بشيء ينبغي له أن يستشير أهل العلم والفضل؛ ليدلّه على المستحقّ للصدقة؛ لتبلغ محلّها، وتوافي مستحقّها، فينال بذلك أجرًا كاملًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4162]
(
…
) - (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ -وَاللَّفْظُ لِعَبْدٍ- قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، ثُمَّ رَآهَا تُبَاعُ، فَأرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ يَا عُمَرُ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدِ) بن نصر الْكِسّيّ، أبو محمد، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدّم في "الإيمان" 7/ 131.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.
وقوله: (ثُمَّ رَآهَا تباعُ
…
إلخ) أنّث الضمائر في هذه الرواية، وذكّرها في الروايات السابقة؛ لأن الفرس يجوز تذكيره وتأنيثه، كما تقدّم بيان ذلك في شرح الحديث أول الباب.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه مستوفًى، وكذا بيان مسائله في الحديث الماضي أولَ الباب، فارجع إليه تستفد علْمًا جمًّا، والله تعالى وليّ التوفيق.
(1)
"الفتح" 6/ 476، كتاب "الهبة" رقم (2623).
(2) - (بَابُ تَشْبِيهِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم العائِدَ في هِبَتِهِ بِالكَلْبِ الذي يَقيءُ،
ثمَّ يعودُ في قَيْئِهِ)
(1)
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4163]
(1622) - (حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيُّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَا: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَثَلُ الَّذِي يَرْجعُ فِي صَدَقَتِهِ كَمَثَلِ الْكَلْبِ
(2)
يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ، فَيَأْكُلُهُ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(إِبْرَاهيمُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيُّ) التميميّ، أبو إسحاق الفرّاء، يُلقّب بالصغير، ثقةٌ حافظٌ [10] مات بعد (220)(ع) تقدّم في "الحيض" 7/ 721.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل بابين.
3 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبيعيّ، تقدّم أيضًا قبل بابين.
4 -
(الأَوْزَاعِيُّ) عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو، أبو عمرو الدمشقيّ، ثقةُ فقيهٌ إمام [7](ت 157)(ع) تقدّم في "المقدمة" 5/ 28.
5 -
(أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ) بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب المعروف بالباقر المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [4] مات سنة بضع عشرة ومائة (ع) تقدّم في "المقدمة" 6/ 61.
6 -
(ابْنُ الْمُسَيِّب) سعيد الإمام الشهير، تقدّم قريبًا.
7 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن المسيّب أحد الفقهاء السبعة، وفيه
(1)
هذه الترجمة هي التي تدلّ عليها أحاديث الباب، فهي أولى من ترجمة النوويّ وغيره من الشرّاح، حيث قالوا:"باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض، إلا ما وهبه لولده، وإن سفل"، فهذا وإن كان هو الراجح من أقوال العلماء في المسألة، إلا أن الأولى في الترجمة كونها قاصرةً على ما تدلّ عليه أحاديث الباب، فتنبّه، وبالله تعالى التوفيق.
(2)
وفي نسخة: "كمثل الكلب الذي".
ابن عبّاس رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، وحبر الأمة، وبحرها.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّب، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، وفي رواية بكير بن الأشجّ، عن سعيد بن الْمُسَيِّب الآتية: قال: "سمعت ابن عبّاس رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول"(أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَثَلُ الَّذِي يَرْجِعُ فِي صَدَقَتِهِ)؛ أي: يرجع إلى أخذ صدقته ممن تصدّق بها عليه، وفي الرواية التالية:"العائد في هبته"(كمَثَل الْكَلْب يَقِيءُ) وفي بعض النسخ: "كمثل الكلب الذي يقيء"(ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ، فَيَأْكُلُهُ") وفي رواية البخاريّ من طريق عكرمة، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ليس لنا مَثَلُ السَّوْء، الذي يعود في هبته، كالكلب يرجع في قيئه"، قال في "الفتح": أي لا ينبغي لنا معشرَ المؤمنين أن نتصف بصفة ذميمة، يشابهنا فيها أخس الحيوانات في أخس أحوالها، قال الله سبحانه وتعالى:{لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60]، ولعل هذا أبلغ في الزجر عن ذلك، وأدلّ على التحريم مما لو قال مثلًا: لا تعودوا في الهبة، وإلى القول بتحريم الرجوع في الهبة بعد أن تُقْبَض ذهب جمهور العلماء، إلا هبة الوالد لولده؛ جمعًا بين هذا الحديث، وحديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما الآتي في الباب التالي.
وقال الطحاويّ: قوله: "لا يحلّ" لا يستلزم التحريم، وهو كقوله:"لا تحل الصدقة لغنيّ"، وإنما معناه: لا تحل له من حيث تحل لغيره من ذوي الحاجة، وأراد بذلك التغليظ في الكراهة، قال: وقوله: "كالعائد في قيئه" وإن اقتضى التحريم؛ لكون القيء حرامًا، لكن الزيادة في الرواية الأخرى، وهي قوله:"كالكلب" تدلّ على عدم التحريم؛ لأن الكلب غير متعبَّد، فالقيء ليس حرامًا عليه، والمراد التنزيه عن فعل يشبه فعل الكلب.
وتُعُقّب باستبعاد ما تأوله، ومنافرة سياق الأحاديث له، وبأن عُرْفَ الشرع في مثل هذه الأشياء يريد به المبالغة في الزجر، كقوله:"مَن لَعِب بالنردشير، فكأنما غَمَس يده في لحم خنزير". انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد أجاد في ذكر هذا التعقّب على الطحاويّ الذي
(1)
"الفتح" 6/ 474 - 475.
خالف ظواهر النصوص محاماة لمذهبه، وهذه هي المصيبة الطامة على المقلّدين، فإنهم يردّون ظواهر النصوص إذا خالفت مذاهبهم بتأويلات باردة، واحتمالات كاسدة، ومن واجب كلّ مسلم أن ينصر السُّنّة إذا صحّت لديه، وإن خالفت مذهبه، ومذاهب الناس جميعًا؛ لأن الله تعالى ضمن فيها الفلاح، والهداية، والفوز في الدنيا والآخرة، حيث قال:{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]، وقال:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، وقال:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)} [النور: 52]، ولم يضمن لمذاهب الناس بشيء من ذلك، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وقال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث ظاهر في تحريم الرجوع في الهبة والصدقة بعد إقباضهما، وهو محمول على هبة الأجنبيّ، أما إذا وهب لولده، وإن سفل فله الرجوع فيه، كما صُرِّح به في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما، ولا رجوع في هبة الإخوة، والأعمام، وغيرهم من ذوي الأرحام، هذا مذهب الشافعيّ، وبه قال مالك، والأوزاعيّ، وقال أبو حنيفة، وآخرون: يرجع كلُّ واهب إلا الولد، وكلّ ذي رحم محرم. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 4163 و 4164 و 4165 و 4166 و 4167 و 4168 و 4169](1622)، و (البخاريّ) في "الهبة"(2589 و 2621 و 2622) و"الحيل"(6975)، و (أبو داود) في "البيوع"(3538)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1298)، و (النسائيّ) في "الهبة"(6/ 265 و 266) و"الكبرى"(4/ 121 و 122 و 123 و 124)، و (ابن ماجه) في "الهبات"(2385)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(16536 و 16538)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2649)، و (الحميديّ) في "مسنده"(530)،
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 64 - 65.
و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 421)، و (أحمد) في "مسنده"(280 و 291 و 339 و 342 و 345)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(10692)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2405)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(993)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 449 و 450)، و (البزّار) في "مسنده"(1/ 390 و 391)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5121 و 5122)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 77)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(3/ 43)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 180) و"المعرفة"(5/ 17)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(2200 و 2201)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم الرجوع في الهبة:
ذهب الشافعيّ، وأبو ثور، وأحمد إلى أنه لا يحلّ الرجوع لمن وهب شيئًا، إلا الوالد، كما سيأتي في المسألة التالية، واحتجّوا بحديث الباب.
وذهب النخعيّ، والثوريّ، وإسحاق، وأصحاب الرأي إلى أن من وهب لغير ذي رحم له الرجوع ما لم يُثَب عليها، ورُوي ذلك عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، واحتجّوا بقوله صلى الله عليه وسلم:"الرجل أحقّ بهبته ما لم يُثب منها"، رواه ابن ماجه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الأرجح عندي ما ذهب إليه الأولون؛ لصحة حديث الباب الظاهر في تحريم الرجوع في الهبة، إلا للوالد، وأما حديث ابن ماجه، فضعيفٌ، لأن في سنده إبراهيم بن إسماعيل بن مجمّع، وهو ضعيف، بل قال بعضهم: متروك الحديث، فلا يصلح لمعارضة حديث الباب الصحيح، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد.
وقد حاول صاحب "تكملة فتح الملهم" تقوية هذا الحديث، وأتى بأحاديث أُخَر لا يخفى ضعفها على من تأملها، وردّ الأحاديث الصحيحة بالتأويل العاطل، والتمويه الباطل، فلا ينبغي الاغترار بما أطال به نَفَسه، دون أن يتأمل في الأحاديث الصحيحة حقّ التأمل، ويُعطيها ما تستحقّه من العمل بها، دون تفنيدها، ومعارضتها بالأحاديث الضعاف، والله تعالى المستعان على من حَافَ في الحكم، دون أن يخشى معرّة الْجُرْم، قاتل الله التعصّب، اللهم اهدنا فيمن هديت، اللهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم رجوع الوالد فيما أعطى ولده:
ذهب مالك، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وإسحاق، وأبو ثور، وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد إلى أن للوالد الرجوع فيما وهب لولده.
وذهب أصحاب الرأي، والثوريّ، وهي رواية عن أحمد إلى أنه ليس له الرجوع فيها؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"العائد في هبته، كالعائد في قيئه"، متّفقٌ عليه، وعن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال:"من وهب هبةً، يرى أنه أراد بها صلة رحم، أو على وجه صدقة، فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة أراد بها الثواب، فهو على هبته، يرجع فيها إذا لم يُرْضَ منها"، رواه مالك في "الموطّإ"، ولأنها هبةٌ يحصل بها الأجر من الله تعالى، فلم يجز الرجوع فيها، كصدقة التطوّع.
واحتجّ الأولون بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه رضي الله عنه مرفوعًا:"لا يرجع أحد في هبته، إلا والد من ولده، والعائد في هبته كالعائد في قيئه"، رواه النسائيّ، وهو حديث صحيح، وهو صريح في جواز رجوع الوالد فيما وهب لولده، وبقول النبيّ صلى الله عليه وسلم لبشير بن سعد رضي الله عنه في الحديث الآتي في الباب التالي:"فاردده"، وفي رواية:"فارجعه"، فأمره بالرجوع في هبته، وأقلّ أحوال الأمر الجواز، وقد امتثل بشير بن سعد ذلك، فرجع في هبته لولده، ألا ترى أن النعمان قال في الحديث: فرجع أبي، فردّ تلك الصدقة.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه الأولون هو الحقّ، وحاصله جواز رجوع الوالد فيما وهب لولده؛ لصحة الحديث الماضي، وهو صريح في جواز ذلك للوالد، ففي لفظ:"لا يرجع"، وفي لفظ: "لا يحلّ لرجل
…
إلخ"، فتأويل مثل هذا النصّ الصريح في التحريم بأنه للكراهة، مما لا يُلتفت إليه، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتهوّر بالاعتساف.
وقد عرفت ما قلته في محاولة صاحب "فتح الملهم" في التأويل البارد، والتوجيه الكاسد، فلا تلتفت إليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4164]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، يَذْكُرُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ
(1)
نَحْوَهُ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(ابْنُ الْمُبَارَكِ) هو: عبد الله الإمام الحجة الثبت المجمع على جلالته [8](ت 181)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 32.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: رواية ابن المبارك عن الأوزاعيّ هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4165]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِيهِ حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا حَرْبٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى -وَهُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ- حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو، أَنَّ مُحَمَّدَ ابْنَ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِهِمْ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: ابن يوسف بن حجاج الثقفيّ النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حافظ [11](ت 259)(م د) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.
2 -
(عَبْدُ الصَّمَدِ) بن عبد الوارث، تقدّم قريبًا.
3 -
(حَرْبُ) بن شدّاد اليشكريّ، أبو الخطّاب البصريّ،. تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) اسم أبيه صالح بن المتوكل، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (أَنَّ مُحَمَّدَ ابْنَ فَاطِمَةَ بنْتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) هذا مجاز؛ لأنها جدّته العليا، فإنه حفيد ابنها الحسين رضي الله عنهما، فتنبه.
(1)
وفي نسخة: "فذكر بهذا الإسناد".
[تنبيه]: رواية يحيى بن أبي كثير، عن عبد الرحمن الأوزاعيّ هذه، ساقها النسائيّ في "الكبرى"، فقال:
(6524)
- أخبرنا إسحاق بن منصور، قال: حدّثنا عبد الصمد، قال: حدّثنا حرب، وهو ابن شدّاد، قال: حدّثني يحيى، هو ابن أبي كثير، قال: حدّثني عبد الرحمن بن عمرو، هو الأوزاعيّ، أن محمدًا، وهو ابن عليّ بن حسين ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّثه عن سعيد بن المسيِّب، عن ابن عباس، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَثَلُ الذي يتصدق بالصدقة، ثم يرجع فيها، كمثل الكلب قاء، ثم عاد في قيئه، فأكله". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4166]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأيْلِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، قَالَا: حَدَّثنا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو -وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ- عَنْ بُكَيْرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّب يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّمَا مَثَلُ الذِي يَتَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ، ثمُّ يَعُودُ فِي صَدَقَتِهِ، كَمَثَلِ الْكَلْبِ يَقِيءُ، ثُمَّ يَأْكُلُ قَيْأَهُ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْليُّ) السعديّ مولاهم، أبو جعفر، نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253) وله (83) سنةً (م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.
2 -
(أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى) بن حسّان المصريّ المعروف بابن التستريّ، صدوقٌ تُكُلّم في بعض سماعاته، قال الخطيب: بلا حجة [10](ت 243)(خ م س ق) تقدم في "الإيمان" 8/ 134.
3 -
(ابْنُ وَهْب) عبد الله المصريّ الحافظ الحجة، تقدّم قبل باب.
4 -
(عَمْرُو بنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ حافظٌ [7] مات قبل (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.
(1)
"سنن النسائي الكبرى" 4/ 122.
5 -
(بُكَيْرُ) بن عبد الله بن الأشجّ المخزوميّ مولاهم، أبو عبد الله، أو أبو يوسف المدنيّ، نزيل مصر، ثقةٌ [5](ت 120)(ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.
والباقيان ذُكرا في الباب.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديثين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4167]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ
(1)
، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنهُ قَالَ:"الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل بابين.
وقوله: (الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ) زاد في رواية أبي داود ما نصّه: "وقال قتادة: لا نعلم القيء إلا حرامًا".
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله تعالى الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4168]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ [9](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.
2 -
(سَعِيدُ) بن أبي عروبة، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
(1)
هو المعروف بغندر، وقد غلط صاحب "تكملة فتح الملهم"، حيث ظنه محمد بن جعفر بن أبي كثير الأنصاريّ الزرقيّ، وليس كذلك، فتنبّه.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: رواية سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة هذه ساقها النسائيّ في "الكبرى"، فقال:
(6527)
- أخبرنا أبو الأشعث
(1)
، قال: حدّثنا خالدٌ
(2)
، قال: حدّثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيِّب، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العائد في هبته، كالعائد في قيئه". انتهى
(3)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4169]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا الْمَخْزُومِيُّ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ طَاوُس، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقَّيءُ، ثمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(الْمَخْزُومِيُّ) هو: المغيرة بن سلمة، أبو هشام البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ من صغار [9](ت 200)(خت م د س ق) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل أربعة أبواب، و"إسحاق بن إبراهيم" هو: ابن راهويه.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنة.
(3) - (بَابُ كَرَاهَةِ تَفْضِيلِ بَعْضِ الأَوْلَادِ فِي الْهِبَةِ)
[4170]
(1623) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، يُحَدِّثَانِهِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِير، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ أَبَاهُ أتى بِهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:
(1)
هو: أحمد بن المقدام العجليّ.
(2)
هو: ابن الحارث الْهُجيميّ.
(3)
"سنن النسائي الكبرى" 4/ 123.
إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلَامًا، كَانَ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا؟ "، فَقَالَ: لَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"فَارْجِعْهُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، تقدّم أيضًا قبل باب.
3 -
(ابْنُ شِهَابٍ) الزهريّ، تقدّم أيضًا قبل باب.
4 -
(حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 105)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
5 -
(مُحَمَّدُ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ) الأنصاريّ، أبو سعيد المدنيّ، ثقة [3].
رَوَى عن أبيه، وجدّه، ورَوَى عنه الزهريّ، مقرونًا بحميد بن عبد الرحمن.
قال العجليّ: مدنيّ تابعيّ ثقة، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقد ذكره مسلم في الطبقة الأولى من أهل المدينة.
رَوَى له الجماعة، سوى أبي داود هذا الحديث فقط مقرونًا، ورواه النسائيّ وحده من حديث الزهريّ، عن محمد وحده عن جدّه بشير، قال الحافظ: وهو خطأ من الراوي عن الزهريّ، قال: وقرأت بخط الذهبيّ: حديثه عن جدّه مرسل. انتهى. وهذا بناء على روايته عنه. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "من حديث الزهريّ، عن محمد وحده" هذا غير صحيح، فإن رواية النسائيّ مقرونة بحميد بن عبد الرحمن، كما هو مذكور برقم (3702) فليُتنبّه.
6 -
(النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرِ) بن سعد بن ثعلبة الأنصاريّ الخزرجيّ الصحابي ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، سكن الشام، ثم ولي إمرة الكوفة، ثم قُتل بحمص سنة (65)، وله (64) سنة، تقدمت ترجمته في "الإيمان" 97/ 522، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير محمد بن النعمان، فما أخرج له أبو
داود، وأنه مسلسل بالمدنيين من الزهريّ، وشيخه وإن كان نيسابوريًّا إلا أنه دخل المدينة؛ للأخذ عن مالك، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّين، والابن عن أبيه، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرِ) بن سعد رضي الله عنهما، قال في "الفتح": كذا لأكثر أصحاب الزهريّ، وأخرجه النسائيّ من طريق الأوزاعيّ عن ابن شهاب: أن محمد بن النعمان وحميد بن عبد الرحمن حدّثاه عن بشير بن سعد، جعله من مسند بشير، فشَذَّ بذلك، والمحفوظ أنه عنهما عن النعمان، وبشيرٌ والد النعمان، هو ابن سعد بن ثعلبة بن الْجُلاس -بضم الجيم، وتخفيف اللام- الخزرجيّ، صحابيّ شهير، من أهل بدر، وشهد غيرها، ومات في خلافة أبي بكر سنة ثلاث عشرة، ويقال: إنه أولُ من بايع أبا بكر من الأنصار، وقيل: عاش إلى خلافة عمر.
وقد رَوَى هذا الحديث عن النعمان عدد كثير من التابعين، منهم عروة بن الزبير، عند مسلم، والنسائيّ، وأبي داود، وأبو الضُّحَى عند النسائيّ، وابن حبان، وأحمد، والطحاويّ، والمفضَّل بن المهلَّب، عند أحمد، وأبي داود، والنسائيّ، وعبد الله بن عتبة بن مسعود، عند أحمد، وعون بن عبد الله، عند أبي عوانة، والشعبيّ في "الصحيحين"، وأبي داود، وأحمد، والنسائيّ، وابن ماجه، وابن حبان، وغيرهم، ورواه عن الشعبيّ عدد كثير أيضًا، قال: وسأذكر ما في رواياتهم من الفوائد الزائدة على هذه الطريق مفصلًا -إن شاء الله تعالى- انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: وأنا أيضًا سأذكر تلك الفوائد تبعًا للحافظ رحمه الله وغيره.
(أَنَّهُ)؛ أي: النعمان رضي الله عنه (قَالَ: إِنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بالنصب على المفعوليّة، وفي رواية الشعبيّ الآتية: "تصدّق عليّ أبي ببعض ماله، فقالت
(1)
"الفتح" 6/ 438، كتاب "الهبة" رقم (2586).
أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تُشْهِد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق أبي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ ليُشهده على صدقتي"، وقد تبيّن في رواية أبي حيّان التيميّ، عن الشعبيّ سبب سؤالها شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: حدّثني النعمان بن بشير: "أن أمه بنت رواحة سألت أباه بعض الموهبة لي من ماله، فالْتَوَى بها سنةً" -أي: مَطَلها- وفي رواية ابن حبان من هذا الوجه: "بعد حولين"، قال الحافظ رحمه الله: ويُجْمَع بينهما بأن المدة كانت سنة وشيئًا فجَبَر الكسر تارةً، وألغى أخرى، قال:"ثم بدا له، فقالت: لا أرضى حتى تُشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما وهبتَ لابني، فأخذ أبي بيدي، وأنا يومئذ غلام".
وفي رواية داود بن أبي هند، عن الشعبيّ، عن النعمان:"انطلق بي أبي يَحملني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ويُجمَع بينهما بأنه أخذ بيده، فمشى معه بعض الطريق، وحمله في بعضها؛ لصغر سنه، أو عَبَّر عن استتباعه إياه بالحمل.
وقد تبيّن من رواية الباب أن العطية كانت غلامًا، وكذا في رواية ابن حبان المذكورة، وكذا لأبي داود من طريق إسماعيل بن سالم، عن الشعبيّ، وكذا في رواية عروة، وحديث جابر الآتيين عند مسلم.
ووقع في رواية أبي حَرِيز -بمهملة، وراء، ثم زاي، بوزن عظيم- عند ابن حبان، والطبرانيّ، عن الشعبيّ أن النعمان خطب بالكوفة، فقال: إن والدي بشير بن سعد أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إن عمرة بنت رواحة نُفِسَت بغلام، وإني سميته النعمان، وإنها أبت أن تربّيه حتى جعلتُ له حديقة من أفضل مالٍ هو لي، وإنها قالت: أشهدْ على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:"لا أشهد على جَوْر".
وجَمَع ابن حبان بين الروايتين بالحمل على واقعتين: إحداهما عند ولادة النعمان، وكانت العطية حديقة، والأخرى بعد أن كَبِر النعمان، وكانت العطية عبدًا، قال الحافظ: وهو جمع لا بأس به، إلا أنه يَعْكُر عليه أنه يبعد أن ينسى بشير بن سعد مع جلالته الحكم في المسألة، حتى يعود إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيستشهده على العطية الثانية بعد أن قال له في الأولى:"لا أشهد على جَوْر"، وجَوَّز ابن حبان أن يكون بشير ظنّ نسخ الحكم، وقال غيره: يَحتَمِل أن يكون حَمَل الأمر الأول على كراهة التنزيه، أو ظَنّ أنه لا يلزم من الامتناع في
الحديقة الامتناع في العبد؛ لأن ثمن الحديقة في الأغلب أكثر من ثمن العبد.
قال الحافظ رحمه الله: ثم ظهر لي وجه آخر من الجمع يَسْلَم من هذا الخدش، ولا يحتاج إلى جواب، وهو أن عمرة لما امتنعت من تربيته إلا أن يَهَب له شيئًا يخصّه به، وَهَبَه الحديقة المذكورة تطييبًا لخاطرها، ثم بدا له، فارتجعها؛ لأنه لم يقبضها منه أحد غيره، فعاودته عمرة في ذلك، فمطلها سنة أو سنتين، ثم طابت نفسه أن يهب له بدل الحديقة غلامًا، ورضيت عمرة بذلك، إلا أنها خشيت أن يرتجعه أيضًا، فقالت له: أشهدْ على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم تريد بذلك تثبيت العطية، وأن تأمَن من رجوعه فيها، ويكون مجيئه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم للإشهاد مرّةً واحدة، وهي الأخيرة، وغاية ما فيه أن بعض الرواة حَفِظ ما لم يَحْفَظ بعضٌ، أو كان النعمان يَقُصّ بعض القصة تارةً، ويقصّ بعضها أخرى، فسمع كلٌّ ما رواه، فاقتصر عليه، والله أعلم.
قال الشوكانيّ رحمه الله بعد نقل جَمْعِ الحافظ المذكور ما نصّه: ولا يخفى ما في هذا الجمع من التكلّف. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أنه لا تكلّف في الجمع المذكور، بل هو أولى من غيره، فتأمله، والله تعالى أعلم.
(فَقَالَ: إِنِّي نَحَلْتُ) -بفتح النون، والمهملة- والنِّحْلة- بكسر النون، وسكون المهملة-: العطيّة بغير عوض (ابْنِى هَذَا)؛ يعني: النعمان رضي الله عنه (غُلَامًا، كَانَ لِي) قال القرطبيّ رحمه الله: كان هذا النُّحل منه بعدما سألته أمه، وهي عمرة بنت رواحة بعض الموهبة من ماله، كما قال في الرواية الأخرى. انتهى
(2)
.
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أكل وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا؟ " وفي رواية أبي حيّان التيميّ، عن الشعبيّ:"فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بشير ألك ولد سوى هذا؟، قال: نعم"، وقال مسلم لمّا رواه من طريق الزهريّ: أما يونس، ومعمر فقالا:"أكلّ بنيك"، وأما الليث، وابن عيينة فقالا:"أكلّ ولدك".
قال في "الفتح": ولا منافاة بينهما؛ لأن لفظ الولد يشمل ما لو كانوا ذكورًا أو إناثًا وذكورًا، وأما لفظ البنين فإن كانوا ذكورًا فظاهر، وإن كانوا إناثًا
(1)
"نيل الأوطار" 11/ 189.
(2)
"المفهم" 4/ 584.
وذكورًا فعلى سبيل التغليب، ولم يذكر ابنُ سعد لبشير والد النعمان ولدًا غير النعمان، وذكر له بنتًا اسمها أُبَيَّة -بالموحدة- تصغير أبيّ. انتهى
(1)
.
وقوله: (نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا؟) وفي رواية أبي حيان الآتية: "فقال: أكلّهم وهبت له مثل هذا؟ قال: لا"، وفي رواية إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبيّ:"فقال: ألك بنون سواه؟ قال: نعم، قال: فكلهم أعطيت مثل هذا؟ قال: لا"، وفي رواية ابن القاسم في "الموطآت" للدارقطنيّ عن مالك:"قال: لا، والله يا رسول الله".
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "أكلّ ولدك نحلته مثل هذا" تنبيهٌ على أن الإنسان إذا أعطى بنيه سوَّى بينهم، ذَكَرَهم وأنثاهم، وأن ذلك الأفضل، وإليه ذهب القاضي أبو الحسن ابن القصار من أصحابنا -يعني: المالكيّة- وجماعة من المتقدِّمين، وذهب آخرون؛ منهم: عطاء والثوريّ، ومحمد بن الحسن، وأحمد، وإسحاق، وابن شعبان من أصحابنا: إلى أن الأفضل: للذكر مثل حظ الأنثيين، على قسمة الله تعالى المواريث.
قال: وقوله في الرِّواية الأخرى: "أفعلت هذا بولدك كلهم؟ " هذه الرواية بمعنى اللفظ الأول، فهو نقلٌ بالمعنى، وكان هذا القول من النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أن سأله، فقال له:"ألك ولدٌ غيره؟ "، كما جاء في الرواية الأخرى، فلما أجابه عن قوله:"أفعلت هذا بولدك كلهم؟ " بقوله: لا، قال:"اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم"، وحينئذ قال:"لا تشهدني، لا يصلح هذا، أشهدْ غيري، فإني لا أشهد على جَوْر"، وفي الأخرى:"فإني لا أشهد إلا على حقّ"، وهو بمعنى:"لا أشهد على جَوْر"، وكان هذا منه صلى الله عليه وسلم لمّا سأله بشير أن يشهد على الهبة، كما قال:"إن ابنة رواحة أعجبها أن أُشهدك على ما وهبتُ لابنها"، ثم نبّهه صلى الله عليه وسلم على علَّة أمره بالتسوية بينهم بقوله:"أتحبُّ أن يكونوا لك في البرِّ سواء؟ " قال: نعم، قال:"فلا إذًا".
قال القرطبيّ: وإذا تأملت هذا تبيَّنْتَ أن لا اضطراب في الروايات، وانتظم ما يظهر في بادئ الأمر من الشَّتات. انتهى
(2)
.
(1)
"الفتح" 6/ 440.
(2)
"المفهم" 4/ 584 - 585.
(فَقَالَ: لَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَارْجِعْهُ")؛ أي: رُدّ نحلتك، يقال: رجعه ثلاثيًّا متعدّيًا بنفسه، وفي لغة يتعدّى بالهمزة، فيقال: أرجعه، قال الفيّوميّ رحمه الله: رجع من سفره، وعن الأمر يرجع رَجْعًا، ورُجوعًا، ورُجعَى، ومَرْجِعًا، قال ابن السِّكِّيت: هو نقيض الذهاب، ويتعدّى بنفسه في اللغة الفصحى، فيقال: رجعته عن الشيء، وإليه، ورجعتُ الكلامَ وغيرَه؛ أي: رَدَدْته، وبها جاء القرآن، قال تعالى:{فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ} [التوبة: 83]، وهُذيل تعدّيه بالألف. انتهى
(1)
.
وفي رواية إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب الآتية:"قال: فاردده"، وفي رواية عروة مثله، وفي رواية الشعبيّ عند البخاريّ:"قال: فرجع، فردّ عطيته"، ولمسلم:"فردّ تلك الصدقة"، زاد في رواية أبي حيان:"قال: لا تشهدني على جور"، ومثله رواية عاصم، عن الشعبيّ، وفي رواية أبي حريز:"لا أشهد على جور"، ومثله من طريق إسماعيل، عن الشعبيّ، وفي رواية أبي حيان:"فقال: فلا تشهدني إذًا، فإني لا أشهد على جور"، وفي رواية المغيرة، عن الشعبيّ:"فإني لا أشهد على جور، ليشهد على هذا غيري"، وفي رواية داود بن أبي هند:"قال: فأشهدْ على هذا غيري"، وفي حديث جابر:"فليس يصلح هذا، وإني لا أشهد إلا على حقّ"، ولعبد الرزاق من طريق طاوس مرسلًا:"لا أشهد إلا على الحقّ، لا أشهد بهذه"، وفي رواية عروة عند النسائيّ:"فكره أن يشهد له"، وفي رواية المغيرة، عن الشعبيّ، عند مسلم:"اعدلوا بين أولادكم في النحل، كما تحبون أن يَعْدِلوا بينكم في البرّ"، وفي رواية مجالد، عن الشعبيّ، عند أحمد:"إن لبنيك عليك من الحقّ أن تعدل بينهم، فلا تشهدني على جور، أيسرّك أن يكونوا إليك في البرّ سواء؟ قال: بلى، قال: فلا إذًا"، ولأبي داود من هذا الوجه:"أن لهم عليك من الحقّ أن تعدل بينهم، كما أن لك عليهم من الحقّ أن يبرّوك"، وللنسائيّ من طريق أبي الضُّحَى:"لا سوَّيت بينهم"، وله ولابن حبان من هذا الوجه:"سَوِّ بينهم".
واختلاف الألفاظ في هذه القصة الواحدة يرجع إلى معنى واحد، وهو
(1)
"المصباح المنير" 1/ 220.
وجوب الرجوع في الهديّة، وقد تمسك به من أوجب التسوية في عطية الأولاد، وبه صرّح البخاريّ في "صحيحه" حيث قال:"وإذا أعطى بعض ولده شيئًا لم يجز حتى يعدل بينهم، ويُعطي الآخرين مثله"، وهو قول طاوس، والثوريّ، وأحمد، وإسحاق، وغيرهم، وهو الحقّ، كما سيأتي تحقيقه في المسألة الرابعة -إن شاء الله تعالى-.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 4170 و 4171 و 4172 و 4173 و 4174 و 4175 و 4176 و 4177 و 4178 و 4179](1623)، و (البخاريّ) في "الهبة"(2586 و 2587 و 2650)، و (أبو داود) في "البيوع"(3543)، و (الترمذيّ) في "الأحكام"(1367)، و (النسائيّ) في "النُّحْل"(6/ 258 - 259) و"الكبرى"(4/ 117 - 118)، و (ابن ماجه) في "الهبات"(2376)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(16491 و 16492 و 16493)، و (الحميديّ) في "مسنده"(922)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(11/ 220)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 268 و 270)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(991)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5097 و 5098 و 5099 و 5100 و 5101 و 5102 و 5103 و 5104)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 84 و 87)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 456)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(3/ 42)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 176) و"الصغرى"(5/ 491)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة الهبة إذا لم يكن هناك ما يمنعه، من تفضيل بعض الأولاد على بعض.
2 -
(ومنها): الندب إلى التأليف بين الإخوة، وتركُ ما يوقع بينهم الشحناء، أو يورث العقوق للآباء، قاله في "الفتح"
(1)
، وقال القرطبيّ رحمه الله:
(1)
"الفتح" 6/ 443.
دلّ الحديث على حضِّ الأب على سلوك الطرق المفضية بابنه إلى برِّه، وتجنّب ما يفضي إلى نقيض ذلك. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): أن عطيّة الأب لابنه الصغير في حِجره لا تحتاج إلى قبض، وأن الإشهاد فيها يُغني عن القبض، وقيل: إن كانت الهبة ذهبًا، أو فضّةً فلا بدّ من عزلها، وإفرازها.
4 -
(ومنها): أنه لا ينبغي تحمّل الشهادة فيما ليس بمباح.
5 -
(ومنها): مشروعيّة الإشهاد في الهبة، وليس بواجب.
6 -
(ومنها): جواز الميل إلى بعض الأولاد، والزوجات، دون بعض، وإن وجبت التسوية بينهم في غير ذلك.
7 -
(ومنها): أن للإمام الأعظم أن يتحمّل الشهادة، وتظهر فائدتها، إما ليحكم في ذلك بعلمه عند من يُجيزه، أو يؤدّيها عند بعض نُوّابه.
8 -
(ومنها): مشروعيّة استفصال الحاكم، والمفتي عما يحتمل الاستفصال، لقوله صلى الله عليه وسلم:"ألك ولدٌ غيره؟ "، فلما قال: نعم، قال:"أفكلهم أعطيت مثله؟ "، فلما قال: لا، قال:"لا أشهد"، فيفهم منه أنه لو قال: نعم، لشهد.
9 -
(ومنها): جواز تسمية الهبة صدقةً.
10 -
(ومنها): أن للإمام كلامًا في مصلحة الولد.
11 -
(ومنها): المبادرة إلى قبول الحقّ، وأمْر الحاكم، والمفتي بتقوى الله عز وجل في كلّ حمال.
12 -
(ومنها): أن فيه إشارةً إلى سوء عاقبة الحرص، والتنطّع؛ لأن عمرة لو رضيت بما وهبه زوجها لولده لَمَا رجع فيه، فلما اشتدّ حرصها في تثبيت ذلك أفضى إلى بطلانه.
13 -
(ومنها): ما قال المهلّب: فيه أن للإمام أن يردّ الهبة، والوصيّة ممن يعرف منه هروبًا عن بعض الورثة.
14 -
(ومنها): أنه استُدلّ به على أن للأب أن يرجع فيما وهبه لابنه،
(1)
"المفهم" 4/ 588.
وكذلك الأمّ، وهو قول أكثر الفقهاء، وقد تقدّم تحقيق المذاهب، وأدلّتها في الباب الماضي، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.
15 -
(ومنها): أنه يدلّ على الاحتياط في العقود بشهادات الأفضل والأكبر.
16 -
(ومنها): أن فيه دليلًا: على أن حَوْز الأب لابنه الصغير ما وهبه له جائز، ولا يحتاج إلى أن يحوزه غيره؛ فإن النُّعمان كان صغيرًا، وقد جاء به أبوه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يحمله.
قال عياض: ولا خلاف في هذا بين العلماء فيما يُعرف لا بعينه، واختلف المذهب فيما لا يُعرف بعينه، كالمكيل، والموزون، وكالدراهم: هل يجزئ تعيينه، والإشهاد عليه، والختم عليه في الحوز، أم لا يجزئ ذلك حتى يخرجها من يده إلى يد غيره؟ وأجاز ذلك أبو حنيفة وإن لم يخرجه من يده
(1)
، وكذلك اختُلف في هبته له جزءًا من ماله مشاعًا.
قال القرطبيّ: وهذا الحكم إنما ينتزعه من هذا الحديث من حمل قوله: "فارجعه" على الاعتصار
(2)
.
واختلف العلماء فيما لم يُقْبَض من الهبات، هل تلزم بالقول، أم لا حتى تُقْبَض؟ فذهب الحسن البصريّ، وحمَّاد بن أبي سليمان، وأبو ثور، وأحمد بن حنبل إلى أنَّها تلزم بالقول، ولا تحتاج إلى حوزٍ، كالبيع.
وقال أبو حنيفة، والشافعيّ: لا تلزم بالقول، بل بالحوز.
وذهب مالك: إلى أنها تلزم بالقول، وتتم بالحوز، وقد تقدم ذلك، والعلماء مُجْمِعُون على لزومها بالقبض، وهبة المشاع جائزة عند الجمهور، ومنعها أبو حنيفة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(3)
.
(1)
لا يخفى أن ما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله من عدم إخراجه من يده هو الأرجح؛ لحديث الباب، فتأمله.
(2)
"الاعتصار": هو ارتجاع المعطي هبته دون عِوَض، لا بطوع الْمُعْطَى. قاله الأبيّ رحمه الله في "شرحه" 4/ 330.
(3)
"المفهم" 4/ 588 - 589.
قال الجامع عفا الله عنه: القول باشتراط القبض في الهبة مما يحتاج إلى دليل، فالأرجح ما ذهب إليه الأولون، من لزوم الهبة بالقول، وإن لم تُقبض، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم: هل التسوية في العطيّة بين الأولاد واجبة، أم لا؟:
ذهب طائفة منهم إلى وجوبه، وبه صرّح البخاريّ في "صحيحه"، كما سبقت الإشارة إليه، وهو قول طاوس، والثوريّ، وأحمد، وإسحاق، وقال به بعض المالكيّة، ثم المشهور عن هؤلاء أنها باطلة، وعن أحمد تصحّ، ويجب أن يرجع، وعنه: يجوز التفاضل إن كان له سبب، كأن يحتاج الولد لزمانته ودَينه، أو نحو ذلك، دون الباقين، وقال أبو يوسف: تجب التسوية إن قصد بالتفضيل الإضرار.
وذهب الجمهور إلى أن التسوية مستحبّة، فإن فضّل بعضًا صحّ، وكُره، واستُحبّ المبادرة إلى التسوية، أو الرجوع، فحملوا الأمر على الندب، والنهي على التنزيه.
ومن حجة من أوجبه أنه مقدّمة الواجب؛ لأن قطع الرحم، والعقوق محرّمان، فما يؤدّي إليهما يكون محرّمًا، والتفضيل مما يؤدّي إليهما.
ثم اختلفوا في صفة التسوية، فقال محمد بن الحسن، وأحمد، وإسحاق، وبعض الشافعيّة، والمالكيّة: العدل أن يعطي الذكر حظّين كالميراث، واحتجّوا بأنه حظها من ذلك المال لو أبقاه الواهب في يده حتى مات، وقال غيرهم: لا فرق بين الذكر والأنثى، وهذا هو الأرجح؛ لأن ظاهر الأمر بالتسوية يدلّ عليه، ويدلّ عليه أيضًا حديث ابن عباس رضي الله عنهما، رفعه:"سوّوا بين أولادكم في العطيّة، فلو كنت مفضّلًا أحدًا لفضّلت النساء"، أخرجه سعيد بن منصور، والبيهقيّ من طريقه، قال الحافظ: وإسناده حسن.
وأجاب من حمل الأمر بالتسوية على الندب عن حديث النعمان رضي الله عنه بأجوبة:
[أحدها]: أن الموهوب للنعمان كان جميع مال والده، ولذلك منعه، فليس فيه حجة على منع التفضيل، حكاه ابن عبد البرّ عن مالك، وتعقّبه بأن كثيرًا من طرق حديث النعمان رضي الله عنه صرّح بالبعضيّة.
وقال القرطبيّ: ومِنْ أبعدِ التأويلات أن النهي إنما يتناول من وهب جميع ماله لبعض ولده، كما ذهب إليه سحنون، وكأنه لم يسمع في نفس هذا الحديث أن الموهوب كان غلامًا، وأنه وهبه له لمّا سألته الأم الهبة من بعض ماله، قال: وهذا يُعلَم منه على القطع أنه كان له مالٌ غيره.
[ثانيها]: أن العطيّة المذكورة لم تُتنجّز، وإنما جاء بشيرٌ يستشير النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأشار عليه بأن لا يفعل، فترك، حكاه الطحاويّ، وفي أكثر طرق حديث الباب ما يُنابذه
(1)
.
[ثالثها]: أن النعمان كان كبيرًا، ولم يكن قبض الموهوب، فجاز لأبيه الرجوع، ذكره الطحاويّ، وهو خلاف ما في أكثر طرق الحديث أيضًا خصوصًا قوله:"ارجعه"، فإنه يدلّ على تقدّم وقوع القبض، والذي تضافرت عليه الروايات أنه كان صغيرًا، وكان أبوه قابضًا له لصغره، فأمر بردّ العطيّة المذكورة بعدما كانت في حكم المقبوض.
[رابعها]: أن قوله: "ارجعه" دليل على الصحّة، ولو لم تصحّ الهبة لم يصحّ الرجوع، وإنما أمَره بالرجوع لأن للوالد أن يرجع فيما وهبه لولده، وإن كان الأفضل خلاف ذلك، لكن استحباب التسوية رجح على ذلك، فلذلك أمَرَه به، وفي الاحتجاج بذلك نظر، والذي يظهر أن معنى قوله:"ارجعه"؛ أي: لا تُمض الهبة المذكورة، ولا يلزم من ذلك تقدّم صحة الهبة.
[خامسها]: أن قوله: "أَشْهِد على هذا غيري" إذن بالإشهاد على ذلك، وإنما امتنع من ذلك لكونه الإمام، وكأنه قال: لا أشهد؛ لأن الإمام ليس من شأنه أن يشهد، وإنما من شأنه أن يحكم، حكاه الطحاويّ أيضًا، وارتضاه ابن القصّار.
وتُعُقّب بأنه لا يلزم من كون الإمام ليس من شأنه أن يشهد أن يمتنع من تحمّل الشهادة، ولا من أدائها إذا تعيّنت عليه، وقد صرّح المحتجّ بهذا أن الإمام إذا شهد عند بعض نوّابه جاز، وأما قوله: إن قوله: "أَشهِدْ" صيغة إذْن، فليس كذلك، بل هو للتوبيخ لِمَا يدلّ عليه بقيّة ألفاظ الحديث، وبذلك صرّح الجمهور في هذا الموضع.
(1)
كأمره صلى الله عليه وسلم بالارتجاع، وكقول عمرة: لا أرضى حتى تُشهد
…
إلخ.
وقال ابن حبّان: قوله: "أَشهِد" صيغة أمر، والمراد نفي الجواز
(1)
، وهو كقوله لعائشة رضي الله عنها:"اشترطي لهم الولاء". انتهى.
[سادسها]: التمسّك بقوله: "ألا سوّيت بينهم" على أن المراد بالأمر الاستحباب، وبالنهي التنزيه، وهذا جيّد لولا ورود تلك الألفاظ الزائدة على هذه اللفظة، ولا سيّما أن تلك الرواية بعينها وردت بصيغة الأمر أيضًا، حيث قال:"سوّ بينهم".
[سابعها]: وقع عند مسلم عن ابن سيرين ما يدلّ على أن المحفوظ في حديث النعمان: "قاربوا بين أولادكم"، لا "سوّوا".
وتعُقّب بأن المخالفين لا يوجبون المقاربة، كما لا يوجبون التسوية.
[ثامنها]: في التشبيه الواقع في التسوية بينهم بالتسوية منهم في برّ الوالدين قرينة تدلّ على أن الأمر للندب، لكن إطلاق الجور على عدم التسوية، والمفهوم من قوله:"لا أشهد إلا على حقّ"، وقد قال في آخر الرواية التي وقع فيها التشبيه:"قال: فلا إذًا".
[تاسعها]: عمل الخليفتين: أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم على عدم التسوية قرينة ظاهرة في أن الأمر للندب، فأما أبو بكر، فرواه في "الموطّإ" بإسناد صحيح، عن عائشة أن أبا بكر قال لها في مرض موته:"إني كنت نحلتك نُحلًا، فلو كنت اخترتيه لكان لك، وإنما هو اليوم للوارث"، وأما عمر، فذكره الطحاويّ وغيره أنه نَحَل ابنه عاصمًا دون سائر ولده، وأجاب عروة عن قصّة عائشة بأن إخوتها كانوا راضين بذلك، ويجاب بمثل ذلك عن قصّة عمر رضي الله عنه.
قال الشوكانيّ رحمه الله: على أنه لا حجة في فعلهما، لا سيّما إذا عارض المرفوع. انتهى
(2)
.
[عاشر الأجوبة]: أن الإجماع انعقد على جواز عطيّة الرجل ماله لغير ولده، فإذا جاز له أن يخرج جميع ولده من ماله، جاز له أن يُخرج عن ذلك
(1)
قال الشوكانيّ رحمه الله: ويؤيّد هذا تسميته صلى الله عليه وسلم لذلك جورًا، كما في الرواية الأخرى.
(2)
"نيل الأوطار" 11/ 185.
بعضهم، ذكره ابن عبد البرّ، ولا يخفى ضعفه؛ لأنه قياس مع وجود النصّ.
قال الشوكانيّ رحمه الله بعد نقل كلام الحافظ هذا: فالحقّ أن التسوية واجبة، وأن التفضيل محرّم. انتهى
(1)
.
وزعم بعضهم أن معنى قوله: "لا أشهد على جور"؛ أي: لا أشهد على ميل الأب لبعض الأولاد دون بعض، وفي هذا نظر لا يخفى، ويردّه قوله في الرواية:"لا أشهد إلا على الحقّ".
وحَكَى ابن التين عن الداوديّ أن بعض المالكيّة احتجّ بالإجماع على خلاف ظاهر حديث النعمان رضي الله عنه، ثم ردّه، ذكر هذا كلّه في "الفتح"
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد أجاد الحافظ رحمه الله في سوقه الأدلّة التي احتجّ بها القائلون بعدم وجوب التسوية بين الأولاد، وردّها عليهم، فشفى وكفى.
والحاصل أن المذهب الأول القائل بوجوب التسوية بين الأولاد، وحَمْل النهي على التحريم هو الحقّ؛ لوضوح حجّته، واستنارة محجّته، فيجب التسوية بينهم في العطيّة مطلقًا، سواء كانوا ذُكورًا أو إناثًا، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد.
ثم رأيت تحقيقًا للعلامة أبي العبّاس القرطبيّ، وإن كان مضى في كلام الحافظ، إلا أنه أجاد فيه، وأفاد، فأردت إلحاقه بما مضى؛ تتميمًا للفائدة، وتثبيتًا للعائدة، قال رحمه الله:
لا يجوز أن يَخُصَّ بعض ولده بعطاء ابتداءً، وهل ذلك على جهة التحريم، أو الكراهة؟ قولان لأهل العلم، وإلى التحريم ذهب طاووس، ومجاهد، والثوريّ، وأحمد، وإسحاق، وأن ذلك يُفْسَخُ إن وقع، وذهب الجمهور: مالك في المشهور عنه، والشافعيّ، وأبو حنيفة، وغيرهم: إلى أن ذلك لا يُفْسَخ إذا وقع، وقد حَكَى ابن المنذر عن مالك وغيره جواز ذلك؛ ولو أعطاه ماله كله، وحَكَى غيره عن مالك: أنَّه إن أعطاه ماله كله أرتجعه، قال
(1)
"نيل الأوطار" 11/ 186.
(2)
"الفتح" 6/ 441 - 443، كتاب "الهبة" رقم (2586).
سحنون: من أعطى ماله كله ولدًا أو غيره، ولم يبق له ما يقوم به؛ لم يَجُز فِعْله.
فمن قال بالتحريم تمسَّك بظاهر النهي، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يصلح هذا، ولا أشهد على جوْر"، وبقوله:"اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم"، وبأمره بردّ ذلك، ومن قال بالكراهة انصرف عن ذلك الظاهر بقوله:"أشهدْ على هذا غيري"، قال: ولو كان حرامًا لَمَا قال هذا، وأنه كان يذمُّ من فَعَلَ ذلك، ومن يَشْهَد فيه، ويغلِّظ عليه، كعادته في المعقود المحرَّمة، وبقوله:"أيسرُّك أن يكونوا لك في البرِّ سواء؟ "، فإنه نبَّه على مراعاة الأحسن، وبأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه نَحَل عائشة رضي الله عنهما جادَّ عشرين وسقًا من ماله بالغابة، ولم ينحل غيرها من ولده شيئًا من ذلك، ولأن الأصل جواز تصرُّف الإنسان في ماله مطلقًا، وتأوّل هؤلاء ما احتجَّ به المتقدِّمون من قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يصلح هذا"، وأن ذلك "جَوْر" على أن ذلك على الكراهة؛ لأن من عدل عن الأَوْلى والأصلح يصدُق عليه مثل ذلك الإطلاق؛ لأنه مما لا ينبغي أن يُقْدِم عليه، ولذلك لم يشهد فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأما أمْره بارتجاع ذلك؛ لأنه يجوز للأب أن يرجع فيما وهب لولده، كما تقدَّم، وهو يدل على صحَّة الهبة المتقدمة، كما قال صلى الله عليه وسلم:"مُره فليراجعها"، وكان ذلك دليلًا على صحة الطلاق الواقع في الحيض.
وللطائفة الأولى أن تنفصل عن ذلك بمنع: أن قوله: "أشهد على هذا غيري" ليس إذنًا في الشهادة، وإنَّما هو زجرٌ عنها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد سمَّاه جورًا، وامتنع من الشهادة فيه، فلا يمكن أن يشهد أحد من المسلمين في ذلك بوجه.
وعن قوله في قوله: "أيسرك أن يكونوا في البر سواء؟ ": أن ذلك تنبيهٌ على الأحسن، بأن ذلك ممنوع، بل ذلك تنبيهٌ على مدخل المفسدة الناشئة عنه، وهو العقوق؛ الذي هو من الكبائر.
وعن نُحْلِ أبي بكر رضي الله عنه: أن ذلك يَحتمل أنَّه كان قد نحل أولاده نُحلًا يعادل ذلك، ولم يُنقَل، ثم إن ذلك الفعل منه لا يعارض به قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن التمسك بالأصل: أن ذلك غير قادح؛ لأن الأصل الكلِّيّ والواقعة المعيّنة المخالفة لذلك الأصل في حكمه لا تعارض بينهما، كالعموم والخصوص، وقد
تقرر في الأصول: أن الصحيح بناء العام على الخاص، وعن التأويل: أن ذلك مجاز، وهو على خلاف الأصل، وعن الارتجاع: بمنع أن يُحْمَل ذلك على الاعتصار؛ فإن لفظ الردِّ ظاهر في الفسخ، كما قال صلى الله عليه وسلم:"من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ"، أي: مفسوخ، ويؤيد ذلك قوله:"فردَّ أبي تلك الصدقة"، والصَّدقة لا يعتصرها الأب بالاتفاق.
وعند هذا الانفصال يتبيَّن للناظر: أن القائل بالتحريم هو الذي صال، وأمَّا القول بالجواز، فلم يَظْهَر له وجه فيه يُجَاز.
[تنبيه]: مِن أبعد تأويلات ذلك الحديث قول من قال: إن النهي فيه إنَّما يتناول من وهب ماله كلَّه لبعض ولده، وكأنه لم يسمع في الحديث نفسه: إن الموهوب كان غلامًا فقط.
وإنما وهبه له لمَّا سألته أمُّه بعض الموهبة من ماله، وهذا يُعلم منه على القطع: أنه كان له مالٌ غيره. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا.
وقال العلّامة شمس الدين ابن القيم رحمه الله في "حاشية السنن": وفي لفظ في "الصحيح": "أكلّ ولدك نحلته مثل هذا؟ " قال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فارجعه"، وفي لفظ: قال: "فَرُدّه"، وفي لفظ آخر: قال فيه: "فاتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم، فرجع أبي في تلك الصدقة"، وفي لفظ لهما:"فلا تُشهدني إذن، فإني لا أشهد على جَوْر"، وفي آخر:"فلا تشهدني على جور"، وفي آخر:"فأشهد على هذا غيري"، وفي آخر:"أيسرك أن يكون بنوك في البرّ سواء؟، قال: بلى، قال: فلا إذن"، وفي لفظ آخر:"أفكلّهم أعطيت مثل ما أعطيته؟ قال: لا، قال: فليس يصلح هذا، وإني لا أشهد إلا على حقّ".
وكل هذه الألفاظ في "الصحيح"، وغالبها في "صحيح مسلم"، وعند البخاريّ منها:"لا تشهدني على جَوْر"، وقوله:"لا أشهد على جور"، والأمر بردّه، وفي لفظ:"سَوِّ بينهم"، وفي لفظ:"هذا جورٌ، أشهدْ على هذا غيري"،
(1)
"المفهم" 4/ 586 - 588.
وهذا صريح في أن قوله: "أشهدْ على هذا غيري" ليس إذنًا، بل هو تهديد؛ لتسميته إياه جَوْرًا.
قال: وهذه كلها ألفاظ صحيحةٌ صريحةٌ في التحريم والبطلان، من عشرة أوجه تؤخذ من الحديث.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "أَشْهِد على هذا غيري"، فإن هذا ليس بإذن قطعًا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأذن في الجور، وفيما لا يصلح، وفي الباطل، فإنه قال:"إني لا أشهد إلا على حقّ"، فدلّ ذلك على أن الذي فعله أبو النعمان لم يكن حقًّا، فهو باطل قطعًا، فقوله إذن:"أشهدْ على هذا غيري" حجة على التحريم، كقوله تعالى:{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا لم تستحي فاصنع ما شئت"؛ أي: الشهادة على هذا ليست من شأني، ولا تنبغي لي، وإنما هي من شأن من يشهد على الجور والباطل، وما لا يصلح، وهذا في غاية الوضوح، وقد كتبت في هذه المسألة مُصَنّفًا مفردًا استوفيت فيه أدلتها، وبيّنت من خالف هذا الحديث، ونقضها عليهم، وبالله التوفيق. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله بتصرّف يسير
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لقد أجاد الإمام ابن القيّم رحمه الله في تحقيق هذه المسألة، وأن الحقّ هو القول بوجوب التسوية بين الأولاد، وأن التفضيل بينهم حرام؛ لأن الأدلة كلها ظاهرة، بل صريحة في الدلالة على هذا، فكن مع الحقّ وأهله، ودُر حيث دار الدليل، ولا تكن إمّعةً بالتقليد الذليل، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4171]
(
…
) - (وَحَدَّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَال: أَتَى بِي أَبِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنِّي نَحَلْتُ ابْني هَذَا غُلَامًا، فَقَالَ: "أَكُلَّ بَنِيكَ نَحَلْتَ؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ: "فَارْدُدْهُ").
(1)
"حاشية ابن القيم على سنن أبي داود" 9/ 334 - 335.
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجةٌ [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى بيان شرحه، ومسائله مستوفًى في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4172]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ (ح) وَحَدَّثنَا قُتَيْبَةُ، وَابْنُ رُمْحٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ (ح) وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْب، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، أَمَّا يُونُسُ وَمَعْمَرٌ فَفِي حَدِيثِهِمَا:"أَكُلَّ بَنِيكَ"، وَفِي حَدِيثِ اللَّيْثِ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ:"أَكُلَّ وَلَدِكَ"، وَرِوَايَةُ اللَّيْثِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ، وَحُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرحمن، أَنَّ بَشِيرًا جَاءَ بِالنُّعْمَانِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة عشر:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التجيبيّ المصريّ، تقدّم قبل بابين.
2 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم أيضًا قبل بابين.
والباقون كلّهم ذُكروا في الباب والبابين قبله.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الزهْرِيِّ)؛ أي: كلّ هؤلاء الأربعة: سفيان بن عيينة، والليث بن سعد، ويونس بن يزيد الأيليّ، ومعمر بن راشد رووا هذا الحديث عن الزهريّ بإسناده السابق.
[تنبيه]: أما رواية ابن عيينة، عن الزهريّ فقد ساقها الترمذيّ في "جامعه"، فقال:
(1367)
- حدّثنا نَصْرُ بن عَلِيٍّ، وَسَعِيدُ بن عبد الرحمن الْمَخْزُومِيُّ، الْمَعْنَى الواحد، قالا: حدّثنا سُفْيَانُ، عن الزُّهْرِيِّ، عن حُمَيْدِ بن عبد الرحمن، وَعَنْ مُحَمَّدِ بن النُّعْمَانِ بن بَشِيرٍ، يُحَدِّثَانِ عن النُّعْمَانِ بن بَشِيرٍ، أَنَّ أَبَاهُ نَحَلَ
ابْنًا له غُلَامًا، فَأَتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم يُشْهِدُهُ، فقال:"أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ ما نَحَلْتَ هذا؟ " قال: لَا، قال:"فَارْدُدْهُ"، قال أبو عِيسَى: هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. انتهى
(1)
.
وأما رواية الليث بن سعد، عن الزهريّ، فقد ساقها ابن حبّان في "صحيحه"، فقال:
(5097)
- أخبرنا أبو خليفة، قال: حدّثنا القعنبيّ، قال: حدّثنا ليث بن سعد، عن ابن شهاب، عن محمد بن النعمان، وحميد بن عبد الرحمن، عن النعمان بن بشير: أن بشير بن سعد جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني نحلتُ ابني هذا هذا العبد، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أَوَ كلَّ ولدك نحلت هذا؟ "، قال: لا، قال:"فاردده". انتهى
(2)
.
وأما رواية معمر بن راشد، عن الزهريّ، فقد ساقها الإمام أحمد في "مسنده"، فقال:
(18384)
- حدّثنا عبد الرَّزَّاقِ، ثنا مَعْمَرٌ، عَنِ الزهريّ، أخبرني محمد بن
النُّعْمَانِ بن بَشِيرٍ، وَحُمَيْدُ بن عبد الرحمن بن عَوْفٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بن بَشِيرٍ، قال: ذَهَبَ أبي بَشِيرُ بن سَعْدٍ إلى رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيُشْهِدَهُ على نُحْل نَحَلَنِيهِ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أَكُلَّ بَنِيكَ نَحَلْتَ مِثْلَ هذا؟ " قال: لَا، قال:"فَارْجِعْهَا". انتهى
(3)
.
وأما رواية يونس بن يزيد الأيليّ، عن الزهريّ، فقد ساقها أبو عوانة في "مسنده"، فقال:
(5669)
- حدّثنا محمد بن عبد الحكم، قثنا
(4)
وهب الله بن راشد، قثنا يونس، عن ابن شهاب، قال: حدّثني حميد بن عبد الرحمن، ومحمد بن النعمان بن بشير، أنهما سمعا النعمان بن بشير يقول: نحلني أبي بشير بن سعد غلامًا له، ثم مشى بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني نحلت ابني
(1)
"جامع الترمذيّ" 3/ 649.
(2)
"صحيح ابن حبان" 11/ 496.
(3)
"مسند الإمام أحمد" 4/ 268.
(4)
مختصر من "قال: حدّثنا" في الموضعين.
هذا غلامًا، قال:"أكلّ بنيك قد نحلت؟ " فقال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فارجعها". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4173]
(
…
) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثنَا النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، قَالَ: وَقَدْ أَعْطَاهُ أَبُوهُ غُلَامًا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَا هَذَا الْغُلَامُ؟ "، قَالَ: أَعْطَانِيهِ أَبِي، قَالَ: "فَكُلَّ إِخْوَتهِ أَعْطَيْتَهُ كَمَا أَعْطَيْتَ هَذَا؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ: "فَرُدَّهُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد بن قُرط الضّبّيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188)(8) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
2 -
(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) بن الزبير، تقدّم قريبًا.
3 -
(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العوّام، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقيان ذُكرا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4174]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ (ح) وَحَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى -وَاللَّفْظُ لَهُ- أَخْبَرَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنِ الشَعْبِيّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: تَصَدَّقَ عَلَىَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ، فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَانْطَلَقَ أَبِي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كلِّهِمْ؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ:"اتَّقُوا اللهَ، وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ"، فَرَجَعَ أَبِي فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ).
(1)
"مسند أبي عوانة" 3/ 454.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ) بن عُمر الكلابيّ مولاهم، أبو سهل الواسطيّ، ثقة [8](ت 185) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 439.
2 -
(حُصَيْنُ) بن عبد الرحمن السلميّ، أبو الْهُذيل الكوفيّ، ثقةٌ تغيّر حفظه في الآخر [5](ت 136) وله (93) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 285.
3 -
(الشَّعْبِيُّ) عامر بن شَرَاحيل، أبو عمرو الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ إمام مشهور [3] مات بعد المائة، وله نحو (80) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
4 -
(أَبُو الأَحْوَصِ) سلّام بن سُليم الْحَنَفيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ [7](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.
والباقون ذُكروا في الباب.
قوله: (تَصَدَّقَ عَلَى أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ) قال القرطبيّ: سمّى ذلك صدقةً تجوّزًا. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: يعني أن تسمية مطلق النفقات صدقة قد ورد في السُّنّة، ففي "الصحيحين" من حديث أبي مسعود البدريّ رضي الله عنه مرفوعًا:"إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهي له صدقة".
وأخرج النسائيّ بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تصدّقوا"، فقال رجل: يا رسول الله عندي دينار، قال:"تصدّق به على نفسك"، قال: عندي آخر، قال:"تصدّق به على زوجتك"، قال: عندي آخر، قال:"تصدّق به على ولدك"، قال: عندي آخر، قال:"تصدّق به على خادمك"، قال: عندي آخر، قال:"أنت أبصر به"
(1)
.
فقد سمّى صلى الله عليه وسلم هذه العطايا كلها صدقةً، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقوله: (فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ) بن ثعلبة الخزرجية، أخت عبد الله بن رواحة الصحابيّ المشهور، ووقع عند أبي عوانة من طريق عون بن عبد الله أنها بنت عبد الله بن رواحة، والصحيح الأول، وبذلك ذكرها ابن سعد
(1)
حديث حسنٌ، أخرجه النسائيّ برقم (2535).
وغيره، وقالوا كانت ممن بايع النبيّ صلى الله عليه وسلم من النساء، وفيها يقول قيس بن الْخَطِيم -بفتح المعجمة-:
وَعَمْرَةُ مِنْ سَرَوَاتِ النِّسَاءِ
…
تَنْفَحُ بِالْمِسْكِ أَرْدَانَهَا
(1)
(2)
وقوله: (بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ) الولد -بفتحتين- المراد هنا الجمع؛ لأنه أكّده بـ "كلّهم"، وقال في الآخر:"اعدلوا في أولادكم"؛ وإطلاق الولد على الجمع وغيره شائع في اللغة، قال الفيّوميّ رحمه الله: الْوَلَدُ -بفتحتين-: كلُّ ما وَلَده شيءٌ، ويُطلق على الذكر والأنثى، والمثنّى والمجموع، فَعَلٌ بمعنى مفعول، وهو مذكّر، وجمعه أولاد، والْوُلْدُ وزانُ قُفْل لغة فيه، وقَيْس تجعل المضموم جمع المفتوح، مثلُ أَسَدٍ جمع أُسُد. انتهى
(3)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4175]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ -وَاللَّفْظُ لَهُ- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو حَيانَ التَّيْمِيُّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، حَدَّثَنِي النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، أَنَّ أَمَّهُ بِنْتَ رَوَاحَةَ، سَأَلَتْ أَبَاهُ بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ مِنْ مَالِهِ لِابْنِهَا، فَالْتَوَى بِهَا سَنَةً، ثُمَّ بَدَا لَهُ، فَقَالَتْ: لَا أَرْضَى حَتى تُشْهِدَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا وَهَبْتَ لِابْنِي، فَأَخَذَ أَبِي بِيَدِي، وَأنا يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أُمَّ هَذَا بِنْتَ رَوَاحَةَ أَعْجَبَهَا أَنْ أشْهِدَكَ عَلَى الَّذِي وَهَبْتُ لِابْنِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"يَا بَشِيرُ، ألَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا؟ "، قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ:"أَكُلَّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ هَذَا؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ:"فَلَا تُشْهِدْنِي إِذًا، فَإنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ").
(1)
أي: تتناولها بالمسك، يقال: نفح الشيءَ بسيفه: تناوله، قاله في "القاموس"، و"الأردان" بالفتح: جمع رُدْن بالضمّ: أصل الْكُمّ، قاله في "القاموس" أيضًا.
(2)
"الفتح" 6/ 439 - 440.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 671.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ، قاضي الْمَوْصل، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) تقدّم قبل باب.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) الْعَبديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.
4 -
(أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ) يحيى بن سعيد بن حيّان الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ [6](ت 145)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 106.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (سَأَلَتْ أَبَاهُ بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ) هكذا في بعض النسخ، ووقع في معظم النسخ بلفظ:"بعض الموهوبة"، قال النوويّ رحمه الله: وكلاهما صحيح، وتقدير الأول: بعض الأشياء الموهوبة. انتهى.
وقوله: (فَالْتَوَى بِهَا سَنَةً)؛ أي: مَطَلها بتلك الموهبة، وأخّرها عنها.
وقوله: (ثُمَّ بَدَا لَهُ)؛ أي: ظهر له إعطاء ولدها ما طلبته منه.
وقوله: (أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا؟)"سوى" فيها أربع لغات: بضمّ السين، كهُدى، وكسرها، كرِضَى، وبالفتح والمدّ، كسَماء، وبالكسر والمدّ، كبِناء، وهي بمعنى "غير"، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":
وَلسِوًى سُوًى سَوَاءٍ اجْعَلَا
…
عَلَى الأَصَحِّ مَا لِغَيْرٍ جُعِلَا
وقوله: (أَكُلَّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ هَذَا) برفع "كلُ" على أنه مبتدأ خبره الجملة بعده، ويجوز نصبه على الاشتغال، تقديره: أعطيت كلّهم، ولا يُقدّر "وهبت"؛ لأنه لا يتعدى بنفسه على اللغة الفصحى، وإنما يتعدّى باللام، راجع كلام. الفيّوميّ رحمه الله في "المصباح"
(1)
.
وقوله: (عَلَى جَوْرٍ)؛ أي: على ظلم، يقال: جارَ في حكمه يجور جوْرًا، من باب قال: إذا ظلم، وجارَ عن الطريق؛ أي: مال، فتأويل النوويّ له بالميل فقط ميلًا إلى مذهبه، حيث إنه لا يرى تحريم التفضيل بين الأولاد مما يتعجّب
(1)
"المصباح المنير" 2/ 673.
منه المصنف الذي لم يستول عليه التقليد، فحديث الباب بطرقه الكثيرة، وصيغه المختلفة ظاهر في تحريم التفضيل، فتأمله بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4176]
(
…
) - (حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَلَكَ بَنُونَ سِوَاهُ؟ "، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَكُلَّهُمْ أَعْطَيْتَ مِثْلَ هَذَا؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ: "فَلَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ) والد ابن نُمَير الراوي عنه، كوفيّ ثقةٌ حافظٌ سنّيّ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
2 -
(إِسْمَاعِيلُ) بن أبي خالد البجليّ الأحمسيّ مولاهم، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 299.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (فَكُلَّهُمْ أَعْطَيْتَ مِثْلَ هَذَا؟) بنصب "كُلَّ" على أنه مفعولٌ أولُ مقدّم لـ "أعطيتَ"، و"مثلَ" هو المفعول الثاني.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى القول فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4177]
(
…
) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَاصِم الأَحْوَلِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لأَبِيهِ: "لَا تُشْهِدْنى عَلَى جَوْرٍ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَاصِمٌ الأَحْوَلُ) ابن سليمان، أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقةٌ [4] مات بعد (140) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.
والباقون ذُكروا في الباب، و"جرير" هو: ابن عبد الحميد.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4178]
(
…
) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَعَبْدُ الأَعْلَى (ح) وَحَدَّثنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ويعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ -وَاللَّفْظُ لِيَعْقُوبَ- قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: انْطَلَقَ بِي أبِي يَحْمِلُنِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ اشْهَدْ أَنِّي قَدْ نَحَلْتُ النُّعْمَانَ كَذَا وَكَذَا مِنْ مَالِي، فَقَالَ:"أَكُلَّ بَنِيكَ قَدْ نَحَلْتَ مِثْلَ مَا نَحَلْتَ النُّعْمَانَ؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ:"فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي" -ثُمَّ قَالَ: - "أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً؟ "، قَالَ: بَلَى، قَالَ:"فَلَا إِذًا").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثنَّى) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عَبْدُ الْوَهَّابِ) بن عبد المجيد بن الصّلت الثقفيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 194) عن نحو (80) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.
3 -
(عَبْدُ الأَعْلَى) بن عبد الأعلى الساميّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.
4 -
(يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ) ابن إبراهيم بن كثير الْعَبديّ مولاهم، أبو يوسف البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 252)(ع) وله (96) سنةً، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة تقدم في "الإيمان" 25/ 209.
5 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن مِقْسَم المعروف بابن عُلَيّة الأسديّ مولاهم، أبو بشر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [8](ت 193) وهو ابن (83) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
6 -
(دَاوُدُ بْن أبِي هِنْدٍ) دينار القشيريّ مولاهم، أبو بكر أو أبو محمد البصريّ، ثقةٌ متقنٌ [5](ت 140) أو قبلها (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (انْطَلَقَ بِي أَبِي يَحْمِلُنِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) هذا لا يعارض ما تقدّم من قوله: "فأخذ أبي بيدي
…
إلخ"؛ لإمكان الجمع بأنه أخذ بيده في بعض الطريق، وحمله في بعضها، والله تعالى أعلم.
وقوله: (قَدْ نَحَلْتُ النُّعْمَانَ كَذَا وَكَذَا مِنْ مَالِي) تقدّم في الروايات الماضية أنه أعطاه غلامًا.
وقوله: ("فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي") ليس هذا إذنًا بإشهاد غيره، وإنما هو من باب التهديد، ومن باب قوله تعالى:{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29].
وقوله: (أَيَسُرُّكَ
…
إلخ) مضارع سرّه، يقال: سَرّه يَسُرُّه، من باب نصر، سُرُورًا بالضمّ، والاسم: السَّرُورُ بالفتح: إذا أفرحه، والْمَسَرّة منه، وهو ما يُسَرّ به الإنسان، والجمع: الْمَسَارُّ، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
وقوله: (في الْبِرِّ) بكسر الموحّدة؛ أي: الإحسان.
وقوله: (فَلَا إِذًا)؛ أي: إذا كنت تحبّ أن يكونوا لك في البرّ سواء، فلا تفضّل بعضهم على بعض؛ فإنه يكون سببًا في إخلالهم في البرّ.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4179]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيُّ، حَدَّثَنَا أَزْهَرُ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: نَحَلَنِي أَبِي نُحْلًا، ثُمَّ أَتَى بِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِيُشْهِدَهُ، فَقَالَ:"أَكُلَّ وَلَدِكَ أَعْطَيْتَهُ هَذَا؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ:"ألَيْسَ تُرِيدُ مِنْهُمُ الْبِرَّ مِثْلَ مَا تُرِيدُ مِنْ ذَا؟ "، قَالَ: بَلَى، قَالَ:"فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ"، قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: فَحَدَّثْتُ بِهِ مُحَمَّدًا، فَقَالَ: إِنَّمَا تَحَدَّثّنَا أَنَّهُ قَالَ: "قَارِبُوا
(2)
بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ
(3)
").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيُّ) أبو عثمان البصريّ، يُلقّب أبا الْجَوْزاء، ثقةٌ [11](ت 246)(م ت س) تقدم في "الإيمان" 65/ 369.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 274.
(2)
وفي نسخة: "قارنوا" بالنون.
(3)
وفي نسخة: "بين أبنائكم".
2 -
(أَزْهَرُ) بن سعد السّمّانُ الباهليّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [9](ت 203) وهو (94) سنةً (خ م د ت س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 26/ 1344.
3 -
(ابْنُ عَوْنٍ) عبد الله، أبو عون البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [5](ت 150)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 303.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: فَحَدَّثْتُ بِهِ مُحَمَّدًا)؛ يعني: ابن سيرين.
وقوله: (فَقَالَ)؛ أي: ابن سيرين.
وقوله: (إِنَّمَا تَحَدَّثْنَا)؛ أي: حدّثنا بعضنا بعضًا.
وقوله: (أَنَّهُ قَالَ: "قَارِبُوا)؛ أي: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "قاربوا بين أولادكم"، قال القاضي عياض رحمه الله: رويناه "قاربوا" بالباء، من المقاربة، و"قارنوا" بالنون، من المقارنة، قال: ومعناهما صحيح؛ أي: سوّوا بينهم في أصل العطاء، وفي قدره. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: ظاهر قول ابن سيرين أن المأمور به المقاربة بين الأولاد، لا التسوية، لكن هذا اجتهاد منه، فإن الروايات المختلفة في حديث الباب صريحة في التسوية، لا المقاربة، فتأملها حقّ التأمّل، والله تعالى أعلم.
وقوله: (بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ) وفي نسخة: "بين أبنائكم".
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4180]
(1624) - (حَدَّثنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ يُونُسَ، حَدَّثنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَتِ امْرَأَةُ بَشِيرٍ: انْحَلِ ابْنِى غُلَامَكَ، وَأَشْهِدْ لِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ ابْنَةَ فُلَانٍ سَأَلَتْني أَنْ أَنْحَلَ ابْنَهَا غُلَامِي، وَقَالَتْ: أَشْهِدْ لِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "أَلَهُ إِخْوَةٌ؟ "، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "أفَكُلَّهم أَعْطَيْتَ مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَهُ؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ: "فَلَيْسَ يَصْلُحُ هَذَا، وَإِنِّي لَا أَشْهَدُ إِلَّا عَلَى حَقٍّ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ يُونُسَ) التميميّ اليربوعيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [10](ت 227)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.
2 -
(زُهَيْرُ) بن معاوية بن حُدَيج الْجُعفيّ، أبو خيثمة الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 2 أو 3 أو 174)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.
3 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ يدلّس [4](ت 226)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
4 -
(جَابِرُ) بن عبد الله رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.
وقوله: (فَلَيْسَ يَصْلُحُ هَذَا)"يَصلُح" بضمّ اللام، وكسرها، مضارع صَلُحَ بفتح اللام، وضمّها، وليس في هذا حجة لمن حمل النهي على التنزيه؛ لأن عدم الصلاحية يراد به البطلان، والفساد، كما في قوله تعالى لنوح عليه السلام:{إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46]؛ أي: أن طلب نجاة ابنه الكافر ليس عملًا صالحًا، بل باطل، ومما يؤكّد هذا قوله في بعده:(لا أشهد إلا على حقّ)؛ أي: إن هذا باطل.
والحاصل أن روايات حديث الباب كلها لا اختلاف بينها، بل هي على معنى واحد، وهو أن التسوية بين الأولاد واجب، وأن التفضيل بينهم غير جائز، فتبصّر بالإنصاف، ولا تحاول بالتأويل المتكلّف لردّ الأحاديث الظاهرة الدلالة على ما ذكرنا، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنف.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه المصنف هنا [3/ 4180](1624)، و (أبو داود) في "سننه"(3/ 293)، و (النسائي) في "الكبرى"(6/ 67)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 462)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 326)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 386)، و (البيهقي) في "الكبرى"(6/ 177)، والله تعالى أعلم.
(4) - (بَابُ الْعُمْرَى)
قال في "الفتح": "الْعُمْرَى": -بضم العين المهملة، وسكون الميم، مع القصر، وحكي ضمّ الميم مع ضمّ أوله، وحُكي فتح أوله، مع السكون-
مأخوذ من العُمُر، سمّيت بذلك لأنهم كانوا يفعلون ذلك في الجاهليّة، فيُعطي الرجل الدارَ، ويقول له: أعمرتك إياها؛ أي: أبحتها لك مدّة عمرك، فقيل لها: عمرى لذلك، وكذا قيل لها: رقبى؛ لأن كلًّا منهما يَرْقُب متى يموت الآخر؛ لترجع إليه، وكذا ورثته، فيقومون مقامه في ذلك
(1)
.
وقال ابن منظور رحمه الله: الْعُمْرَى: ما تجعله للرجل طولَ عُمُرِك، أَو عُمُرِه، وقال ثعلب: العُمْرَى أَن يدفع الرجل إِلى أَخيه دارًا، فيقولَ: هذه لك عُمُرَك، أَو عُمُرِي، أَيُّنا مات دُفِعَت الدار إلى أَهله، وكذلك كان فعلُهم في الجاهلية، وقد عَمَرْتُه إياه، وأَعْمَرْته: جعلتُه له عُمُرَه، أَو عُمُرِي، والعُمْرَى المصدرُ من كل ذلك كالرُّجْعَى، وفي الحديث:"لا تُعْمِرُوا، ولا تُرْقِبُوا، فمن أُعْمِرَ دارًا، أَو أُرْقِبَها، فهي له، ولورثته من بعده"
(2)
، وهي العُمْرَى، والرُّقْبَى، يقال: أَعْمَرْتُه الدارَ عمْرَى؛ أَي: جعلتها له يسكنها مدة عُمره، فإِذا مات عادت إِليَّ، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية، فأَبطل ذلك، وأَعلمهم أَن من أُعْمِرَ شيئًا، أَو أُرْقِبَه في حياته، فهو لورثته مِن بعده، قال ابن الأَثير: وقد تعاضدت الروايات على ذلك، والفقهاءُ فيها مختلفون، فمنهم من يَعْمَل بظاهر الحديث، ويجعلها تمليكًا، ومنهم من يجعلها كالعارية، ويتأوّل الحديث، قال الأَزهريّ: والرُّقْبى أَن يقول للذي أُرْقِبَها: إِن مُتَّ قبلي رجعَتْ إِليَّ، وإِن مُتُّ قبلك فهي لك، وأَصل العُمْرَى مأَخوذ من العُمُر، وأَصل الرُّقْبَى من المُراقبة، فأَبطل النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الشروط، وأَمْضَى الهبة، قال: وهذا الحديث أَصل لكل من وهب هِبَة، فشَرَط فيها شرطًا بعدما قبضها الموهوب له أَن الهبة جائزة، والشرط باطل، وفي "الصحاح": أَعْمَرْتُه دارًا، أَو أَرضًا، أَو إبلًا، قال لبيد [من الطويل]:
وَمَا البِرُّ إِلَّا مُضْمَراتٌ من التُقَى
…
وما المالُ إِلا مُعْمَراتٌ وَدائِعُ
وما المالُ والأَهْلُون إِلا وَدائِعٌ
…
وَلَا بُدَّ يَوْمًا أَن تُرَدَّ الوَدائِعُ
(1)
"الفتح" 6/ 479.
(2)
أخرجه مسلم، وأبو داود، والنسائيّ.
أَي: ما البِرُّ إِلا ما تُضْمره وتخفيه في صدرك، ويقال: لك في هذه الدار عُمْرَى حتى تموت. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح" بعد ذكر ما مضى من معنى العمرى والرقبى ما نصّه:
هذا أصلها لغةً، وأما شرعًا فالجمهور على أن العمرى إذا وقعت كانت ملكًا للآخذ، ولا ترجع إلى الأول إلا إن صَرَّح باشتراط ذلك، وذهب الجمهور إلى صحة العمرى، إلا ما حكاه أبو الطيب الطبريّ عن بعض الناس، والماورديّ عن داود وطائفة، لكن ابن حزم قال بصحتها، وهو شيخ الظاهرية.
ثم اختلفوا إلى ما يتوجه التمليك: فالجمهور أنه يتوجه إلى الرقبة، كسائر الهبات، حتى لو كان الْمُعْمَرُ عبدًا فأعتقه الموهوب له نفذ، بخلاف الواهب، وقيل: يتوجه إلى المنفعة دون الرقبة، وهو قول مالك، والشافعيّ في القديم، وهل يُسْلَك به مسلك العارية، أو الوقف؟ روايتان عند المالكية، وعن الحنفية التمليك في العمرى يتوجه إلى الرقبة، وفي الرُّقْبَى إلى المنفعة، وعنهم أنها باطلة. انتهى
(2)
.
قال الجامع: عندي قول الجمهور هو الأرجح، فكلّ من العمرى والرُّقبى تمليك للمعمَر، وللمرقب -بالفتح- وهما صحيحتان، فلا يرجعان إلى المعمرِ والمرقِبِ -بالكسر-؛ كما سنبيّنه آخر المسألة الرابعة إن شاء الله تعالى.
وقال في "الفتح" أيضًا عند قوله: "قضى النبيّ صلى الله عليه وسلم بالعمرى أنها لمن وُهبت له": هو بفتح "أنها"؛ أي: قضى بأنها، وفي رواية الزهريّ، عن أبي سلمة عند مسلم:"أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه، فإنها للذي أُعطيها، لا ترجع إلى الذي أعطاها؛ لأنه أعطى عطاء، وَقَعت فيه المواريث"، هذا لفظه من طريق مالك، عن الزهريّ، وله نحوه من طريق ابن جريج، عن الزهريّ، وله من طريق الليث عنه:"فقد قطع قوله حقّه فيها، وهي لمن أُعمر، ولعقبه"، ولم يذكر التعليل الذي في آخره، وله من طريق معمر، عنه:"إنما العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما الذي قال: هي لك ما عِشت، فإنها ترجع إلى صاحبها"، قال معمرٌ: كان الزهريّ يُفتي به، ولم يذكر
(1)
"لسان العرب" 4/ 601.
(2)
"الفتح" 6/ 479 - 480.
التعليل أيضًا، وبيّن من طريق ابن أبي ذئب، عن الزهريّ أن التعليل من قول أبي سلمة.
وأخرجه مسلم من طريق أبي الزبير، عن جابر، قال:"جعل الأنصار يُعمرون المهاجرين، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أمسكوا عليكم أموالكم، ولا تفسدوها، فإنه من أَعمَر عمرى، فهي للذي أُعمرها حيًّا وميتًا، ولعقبه".
فيجتمع من هذه الروايات ثلاثة أحوال:
[أحدها]: أن يقول: هي لك ولعقبك، فهذا صريحٌ في أنها للموهوب له ولعقبه.
[ثانيها]: أن يقول: هي لك ما عشتَ، فإذا متَّ رجعت إليّ، فهذه عاريةٌ مؤقّتة، وهي صحيحة، فإذا مات رجعت إلى الذي أَعطَى، وقد بيّنت هذه، والتي قبلها رواية الزهريّ. وبه قال أكثر العلماء، ورجّحه جماعة من الشافعيّة، والأصحّ عند أكثرهم لا ترجع إلى الواهب، واحتجّوا بأنه شرطٌ فاسد، فأُلغي.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأرجح ما قاله أكثر العلماء من أنها دائمة لا ترجع لصاحبها مطلقًا، سواء قال:"ولعقبك" أو لم يقل؛ لقوّة دليله.
[ثالثها]: أن يقول أعمرتكها، ويُطلق، فرواية أبي الزبير هذه تدلّ على أن حكمها حكم الأول، وأنها لا ترجع إلى الواهب، وهو قول الشافعيّ في الجديد، والجمهورِ، وقال في القديم: العقد باطلٌ من أصله، وعنه كقول مالك، وقيل: القديم عن الشافعيّ كالجديد.
وقد روى النسائيّ (4/ 3782) أن قتادة حَكَى أن سليمان بن هشام بن عبد الملك سأل الفقهاء عن هذه المسألة -أعني: صورة الإطلاق- فذكر له قتادة، عن الحسن وغيره أنها جائزة، وذكر له حديث أبي هريرة رضي الله عنه بذلك، قال: وذكر له عن عطاء، عن جابر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، قال: فقال الزهريّ: إنما العمرى -أي: الجائزة- إذا أعمر له ولعقبه من بعده، فإذا لم يجعل عقبه من بعده كان للذي يجعل شرطه، قال قتادة: واحتجّ الزهريّ بأن الخلفاء لا يقضون بها، فقال عطاء: قضى بها عبد الملك بن مروان. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب.
(1)
"الفتح" 6/ 480 - 481.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4181]
(1625) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرحمن، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَيُّمَا رَجُل أُعْمِرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ، فَإِنَّهَا لِلَّذِي أُعْطِيَهَا، لَا تَرْجعُ إِلَى الَّذِي أَعْطَاهَا؛ لأنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرحمن) بن عوف، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
والباقون كلّهم تقدّموا في الباب الماضي.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرِ بْنُ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَيُّمَا رَجُلٍ أُعْمِرَ) بالبناء للمفعول؛ أي: أعطي شيئًا مدّة عمره (عُمْرَى لَهُ) قال النوويّ رحمه الله: قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: العمرى قوله: أعمرتك هذه الدار مثلًا، أو جعلتها لك عمرك، أو حياتك، أو ما عشت، أو حييت، أو بقيت، أو ما يفيد هذا المعنى. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: العمرى في اللغة: هي أن يقول الرَّجل للرَّجل: هذه الدار لك عمري أو عمرك، وأصلها من العمر؛ قاله أبو عبيد، وقال غيره: أعمرته الدَّار: جعلتها له عمره، وقال الحربيّ: سمعت ابن الأعرابيّ يقول: لم يختلف العرب أن هذه الأشياء على ملك أربابها: العمرى، والرُّقبى، والسُّكنى، والإطراق، والمنحة، والعرية، والعارية، والإفقار، ومنافعها لمن جعلت له.
قال القرطبيّ: وعلى هذا فالعُمْرى الواردة في الحديث حقّها أن تُحْمَل على هذا، فتكون تمليك منافع الرَّقبة مدة عمر من قُيِّدت بعمره، فإن لم يذكر عقبًا؛ فمات الْمُعْمَرُ رجعت إلى الذي أعطاها ولورثته، فإن قال: هي لك ولعقبك؛ لم ترجع إلى الذي أعطاها إلا أن ينقرض العَقِبُ.
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 70.
وعلى هذا: فيكون الإعمار بمعنى الإسكان؛ إذا قيّد بالعمر، غير أن الأحاديث التي جاءت في هذا الباب تقتضي بحكم ظاهرها أنَّها تمليك الرَّقبة على ما هي مسرودة في الأصل. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما دلّت عليه الأحاديث من أن العمرى تمليك للرقبة هو الأرجح عندي، وسيأتي تحقيقه قريبًا -إن شاء الله تعالى-.
(وَلعَقِبِهِ) بكسر القاف، ويجور إسكانها مع فتح العين، ومع كسرها، كما في نظائره، والعقب: هم أولاد الإنسان ما تناسلوا، قاله النوويّ رحمه الله
(2)
.
(فَإِنَّهَا)؛ أي: العمرى (لِلَّذِي أُعْطِيَهَا) بالبناء للفعول أيضًا (لَا تَرْجِعُ) من باب ضرب (إِلَى الَّذِي أَعْطَاهَا)؛ أي: كما كانوا يفعلون ذلك في الجاهليّة، ثم عَلَّل ذلك بقوله:(لأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ) يعني أن الْمُعْمَر له ملكها، ودخلت في جملة أمواله، فترثها ورثته، لكن سيأتي أن التعليل المذكور مدرجٌ من الراوي، وليس من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 4181 و 4182 و 4183 و 4184 و 4185 و 4186 و 4187 و 4188 و 4189 و 4190 و 4191 و 4192 و 4193](1625)، و (أبو داود) في "البيوع"(3553)، و (الترمذيّ) في "الأحكام"(1350)، و (النسائيّ) في "الرقبى"(6/ 275) و"الكبرى"(4/ 132 - 133)، و (ابن ماجه) في "الهبات"(2380)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 756)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 218)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(16886)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 138 - 139)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 312 و 374 و 386 و 389)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(987)، و (ابن
(1)
"المفهم" 4/ 592.
(2)
"شرح النوويّ" 11/ 70.
حبّان) في "صحيحه"(5137 و 5138 و 5139)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4/ 72)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 464 - 465)، و"الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار" (4/ 93)، و (البيهقيّ) في "الكبرى" (6/ 172) و"المعرفة" (5/ 5) و"الصغرى" (5/ 485)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة" (2196)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم العمرى، ومثلها الرقبى:
قال النوويّ رحمه الله: قال أصحابنا: العمرى ثلاثة أحوال:
[أحدها]: أن يقول: أعمرتك هذه الدار، فإذا مِتّ فهي لورثتك، أو لعقبك، فتصحّ بلا خلاف، ويَملك بهذا اللفظ رقبةَ الدار، وهي هبة، لكنها بعبارة طويلة، فإذا مات فالدار لورثته، فإن لم يكن له وارث فلبيت المال، ولا تعود إلى الواهب بحال؛ خلافًا لمالك.
[الحال الثاني]: أن يَقتصر على قوله: جعلتها لك عمرك، ولا يتعرض لِمَا سواه، ففي صحة هذا العقد قولان للشافعيّ: أصحهما، وهو الجديد: صحته، وله حكم الحال الأول، والثاني، وهو القديم: أنه باطل، وقال بعض أصحابنا: إنما القول القديم أن الدار تكون لِلْمُعْمَر حياته، فإذا مات عادت إلى الواهب، أو ورثته؛ لأنه خصّه بها حياته فقط، وقال بعضهم: القديم أنها عارية يَستردّها الواهب متى شاء، فإذا مات عادت إلى ورثته.
[الثالث]: أن يقول: جعلتها لك عمرك، فإذا مُتَّ عادت إليَّ، أو إلى ورثتي إن كنتُ متُّ، ففي صحته خلاف عند أصحابنا، منهم من أبطله، والأصح عندهم صحته، ويكون له حكم الحال الأول، واعتمدوا على الأحاديث الصحيحة المطلقة:"العمرى جائزة"، وعَدَلُوا به عن قياس الشروط الفاسدة، والأصح: الصحة في جميع الأحوال، وأن الموهوب له يملكها ملكًا تامًّا يتصرف فيها بالبيع وغيره من التصرفات، قال: هذا مذهبنا.
وقال أحمد: تصحّ العمرى المطلقة دون المؤقتة.
وقال مالك في أشهر الروايات عنه: العمرى في جميع الأحوال تمليك لمنافع الدار مثلًا، ولا يُملك فيها رقبة الدار بحال.
وقال أبو حنيفة بالصحة كنحو مذهبنا، وبه قال الثوريّ، والحسن بن صالح، وأبو عبيدة، وحجة الشافعيّ وموافقيه هذه الأحاديث الصحيحة. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: اختَلَف العلماء في العمرى على ثلاثة أقوال:
[أحدها]: ما تقدَّم، وهي أنها تمليك منافع الرَّقبة، وهو قول القاسم بن محمد، ويزيد بن قُسَيط، واللَّيث بن سعد، وهو مشهور مذهب مالك، وأحد أقوال الشافعيّ، وقال مالك: وللمُعْمِر أن يُكريها ولا يُبْعِد، وله أن يبيعها من الذي أعطاها، لا من غيره.
[وثانيها]: أنها تمليك الرَّقبة ومنافعها، وهي هبة مبتولة، وهو قول أبي حنيفة، والشافعيّ، وأصحابهما، والثوريّ، والحسن بن حيّ، وأحمد بن حنبل، وابن شُبْرُمة، وأبي عبيد؛ قالوا: من أعمر رجلًا شيئًا حياته فهو له حياته، وبعد وفاته لورثته؛ لأنه قد مَلَك رقبتها، وشرط المعطي الحياةَ أو العمر باطل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أبطل شرطه، وجعلها بَتْلةً، وسواء قال: هي لك حياتك، أو: هي لك ولعقبك بعدك.
[وثالثها]: إن قال: عمرك؛ ولم يذكر العقب كان كالقول الأول، وإن قال: لك ولعقبك؛ كان كالقول الثاني، وبه قال الزهريّ، وأبو ثور، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وابن أبي ذئب، وقد روي عن مالك، وهو ظاهر قوله في "موطأ" يحيى بن يحيى.
فأهل القول الأول تمسَّكوا بأصل اللغة، وعضدوا ذلك بما رواه ابن القاسم عن مالك قال: رأيت محمدًا وعبد الله ابني أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وعبد الله يعاتب محمدًا -وهو يومئذ قاض- فيقول له: ما لك لا تقضي بحديث ابن شهاب في العُمْرى؟ فقال: يا أخي! لم أجد النَّاس عليه، وأباه الناس، قال مالك: ليس عليه العمل، ولوددت أنه مُحِي، وعضدوه أيضًا بأن قالوا: الأصل بقاء ملك المعطي للرَّقبة بإجماع، ولم يَرِدْ قاطع بإخراجه عن يده قبل الإعمار، وتأولوا جميع تلك الظواهر الواردة في الباب.
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 70 - 71.
وأما أهل القول الثاني: فظواهر الأحاديث معهم، غير أنَّهم لا يُسلَّم لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبطل شرط العمر؛ لأنَّه لو أبطله لبطلت العمرى بالكليَّة، ولامتنع إطلاق ذلك الاسم عليها، ولم تبطل؛ لأن الأصل في شروط المسلمين صحتها وبقاؤها بدليل قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"المسلمون على شروطهم"؛ ذكره أبو داود، وغيره، عن أبي هريرة
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "لا يُسلّم لهم
…
إلخ" فيه نظر؛ كيف لا يسلّم لهم؟، وقد صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم من بطلان الشرط بطلان العمرى؛ إذ لا تلازم بينهما، كما لا يخفى على المتأمل، والله تعالى أعلم.
قال: فإن قيل: هذا من الشروط التي قد أبطلها الشرع بقوله: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل"؛ قلنا: لا نسلّم أنَّه ليس في كتاب الله؛ لأن كتاب الله هنا يراد به: حكم الله؛ بدليل السبب الذي خرج عليه الحديث المتقدِّم، وقد تقدَّم في العتق.
قال الجامع: هذا الحديث حجة عليه، لا له؛ لأن الشرط الذي أبطله النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما بطل بحكم الله، فتأمّل، والله تعالى أعلم.
قال: ثم يلزم على هذا إبطال المنحة، والإفقار، والعارية، فإنَّها كلها عطايا بشروط، وليست كذلك باتفاق.
قال الجامع: أيضًا هذا غير مقبول؛ لأن هذه الأشياء صحّت شرعًا مع شروطها، فلا يعارضها ما نحن فيه، فتأمّل، والله تعالى أعلم.
قال: فإن قيل: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن أبي ذئب في "موطئه" من حديث جابر رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: أنَّه قضى فيمن أَعْمَر عُمْرى له ولعقبه، فهي بتلةٌ، لا يجوز للمعطي فيها شرط، ولا مثوبة
(2)
، وهذا صريح في إبطال الشرط.
(1)
حديث صحيح، أخرجه أبو داود 3/ 304.
(2)
هكذا نسخة "المفهم"، وهو مصحّف من "مثنوية"، بمعنى: الاستثناء، كما في عبارة "التمهيد" الآتية، ووقع في "صحيح مسلم" بلفظ:"ولا ثُنْيَا"، وهو أيضًا بمعنى الاستثناء.
فالجواب: إنا لا نسلّم أن هذا الشرط المنهيّ عنه هو نفس الإعمار في قوله: "هي لك عمرك"؛ لأنه لو كان كذلك لبطلت حقيقة العمرى، كما قلناه، ولأنه لو بطل ذلك لبطل قول المعطي: هي لك سنَةً من عمرك، ولم يبطل بالاتفاق، فلا تبطل، والجامع بين الصورتين: أن كل واحد منهما إعطاءٌ ذُكِر فيه العمر، وقد قال القاسم بن محمد: ما أدركت الناس إلا وهم على شروطهم في أموالهم.
قال الجامع: القول فيه كالقول في سابقه، فتنبّه.
ومما يتمسكون به قوله صلى الله عليه وسلم: "لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث"، فقد صيَّرها ملكًا؛ لأنه لا يورث عن الإنسان إلا ما كان يملك. ويجابون عن ذلك بأن اللفظ ليس من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من قول أبي سلمة بن عبد الرحمن؛ كما قد رواه ابن أبي ذئب عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، وذكر الحديث المتقدِّم، فلما فرغ قال: قال أبو سلمة: "لأنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث"، ولئن سُلِّم ذلك؛ فإنما جاء ذلك من حيث ذكر العقب، فيكون فيه حُجَّة لأهل القول الثالث، لا للثاني.
وأما أهل القول الثالث، فكأنهم أعملوا الاسم فيما لم يذكر فيه العقب، وتركوا مقتضاه، حيث منع منه الشرع، وكأنهم جمعوا بين الاسم والأحاديث التي في الباب، وقد شهد لصحة هذا رواية من قال عن جابر: إنَّما العُمْرى التي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك، فأمَّا إذا قال: هي لك ما عشت، فإنها ترجع إلى صاحبها، قال: وبه كان الزهري يُفتي، ثم ما ورد من الروايات مطلقًا فإنه مقيّد بهذا الحديث، غير أن كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم انتهى عند قوله:"هي لك ولعقبك"، وما بعده من كلام الزهريّ على ما قاله محمد بن يحيى الذُّهْليّ، وهو مما انفرد به معمرٌ عن الزهريّ، وخالفه في ذلك سائر من رواه عن الزهريّ من الأئمة الحفاظ؛ كالليث، ومالك، وابن أخي الزهريّ، وابن أبي ذئب، ولم يذكروا ذلك.
قال الجامع: سيأتي في كلام ابن عبد البرّ رحمه الله مناقشة ما قاله الذُّهْليّ، فلا تذهل.
قال القرطبيّ: والذي يظهر لي، وأستخير الله في ذكره أنَّ حديث جابر
في العُمْرى رواه عنه جماعة، واختلفت ألفاظهم اختلافًا كثيرًا، ثم رواه عن كل واحد من تلك الجماعة قوم آخرون، واختلفوا كذلك، ثم كذلك القول في الطبقة الثالثة، وخَلَط فيه بعضهم بكلام النبيّ صلى الله عليه وسلم ما ليس منه، فاضطرب، فضَعُفت الثقة به، مع ما ينضاف إلى ذلك من مخالفته للأصل المعلوم المعمول به من أن الناس على شروطهم في أموالهم، كما قال القاسم بن محمد، وكما دلَّ عليه الحديث المتقدم في الشروط، وينضاف إلى ذلك أن الناس تركوا العمل به؛ كما قال محمد بن أبي بكر، فتعيَّن تركه، كما قاله مالك: ليته مُحِي، ووجب التمسك بأصل وضع العُمْرى، كما تقدَّم، وبالأصل المعلوم من الشريعة: من أن الناس على ما شرطوه في أعطياتهم، وهُو القول الأول، وليس على غيره معوَّل.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره القرطبيّ من الطعن في حديث جابر رضي الله عنه بالاضطراب، وضعف الثقة به، والتمسّك بالأصل المعلوم إلى آخر كلامه غريب منه، كيف يضعّف حديثًا صحيحًا، ويدّعي ضعف الثقة به، والتمسّك بالأصل، مع أن الاضطراب بعيد عنه، ولذا أخرجه أصحاب الصحاح بألفاظ متقاربة، وأيضًا لا ينافي التمسّك بالأصل، فكيف يدّعي ما قاله؟، والغريب أنه بعد هذا سلك مسلك الجمع بين تلك الروايات التي ادّعى اضطرابها، فناقض آخر تحقيقه ما ادّعاه أوّلًا، إن هذا لهو العجب العُجاب.
قال: وإذا تقرر ذلك فلنبيِّن وجه ردِّ تلك الروايات إلى ما قررناه.
فأمَّا قوله: "وإنها لا ترجع إلى صاحبها، من أجل: أنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث"، فيعني به: أنه لما جعلها للعقب؛ فالغالب أن العقب لا ينقطع، فلا تعود لصاحبها لذلك.
وأمَّا قوله: "وقعت فيه المواريث"، فإن سلَّمنا أنه من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم فمعناه -والله أعلم- أنَّها لما كانت تنتقل للعقب بحكم تلقيهم عن مورِّثهم، ويشتركون في الانتفاع بها أشبهت المواريث، فأطلق عليها ذلك.
وأمَّا قوله: "أمسكوا عليكم أموالكم، ولا تفسدوها"، فإنه من باب الإرشاد إلى الأصلح؛ لأن الإعمار يمنع المالكَ من التصرف فيما يملكُ رقبته آمادًا طويلة، لا سيما إذا قال: هي لك ولعقبك؛ فإن الغالب: أنها لا ترجع
إليه، كما قررناه، ولا يصح حمل هذا النهي على التحريم؛ لأنَّه قد قال في الرِّواية الأخرى:"العمرى جائزة لمن وهبت له"؛ أي: عطيَّةٌ جائزةٌ، ولأنها من أبواب البر، والمعروف، والرفق، فلا يمنع منه، وقول ابن عباس: لا تحِلُّ العُمْرى ولا الرُّقْبى؛ محمول على ذلك، فإنه قال إثر ذلك: فمن أعمر شيئًا فهو له، ومن أرقب شيئًا فهو له، فقد جعلهما طريقين للتملك، فلو كان عقدهما حرامًا كسائر العقود المحرَّمة لأمر بفسخهما.
وأمَّا قوله: "فهي للذي أعمرها حيًّا وميتًا"؛ فيعني بذلك: إذا قال: هي لك ولعقبك؛ فإنَّه ينتفع بها في حياته، ثم ينتقل نفعها إلى عقبه بعد موته، وهذه الرواية وإن وقعت هنا مطلقة؛ فهي مقيدة بالروايات الآخر التي ذكر فيها العقب، لا سيما والرَّاوي واحد، والقضية واحدة، فيُحمل المطلق فيها على المقيَّد قولًا واحدًا، كما قررناه في الأصول.
وقوله: إنما العمرى التي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك؛ أي: أمض جوازها وألزمه دائمًا على ما ذكرناه.
وقوله: "وأمَّا إذا قال: فهي لك ما عشت"، فإنها ترجع إلى صاحبها، فإن كان من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم فهو نصٌّ، فيما اخترناه، وإن كان من قول الرَّاوي؛ فهو أقعد بالحال، وأعلم بالمقال
(1)
.
قال الجامع: قد أجاد القرطبيّ رحمه الله في الجمع بين هذه الروايات، فبهذا يتبيّن أنه لا اضطراب بينها، وأن بعضها مفسّر لبعضها، فتكون على معنى واحد، فدعواه الاضطراب، وضَعْف الثقة بالحديث الذي ذكره في أول كلامه مما لا معنى له، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: القائلون: بأن العمرى تمليك الرقبة؛ فرَّقوا بينها وبين السُّكنى، فلو قال: أسكنتك حياتك، فإذا مات رجعت إلى صاحبها، إلا الشَّعبي، فإنه سوَّى بينهما، وقال في السَّكنى: لا ترجع إلى صاحبها بوجه، وهو شاذٌّ لا يعضده نظر، ولا خبر، فإن العمرى عند القائلين: بأنها تمليك الرَّقبة، خارجة في القياس، وإنما صاروا إليه من جهة ظواهر الأخبار، فلا تقاس السُّكنى
(1)
"المفهم" 4/ 593 - 598.
عليها؛ لأن الخارج عن القياس لا يُقَاس عليه كما قررناه في الأصول، ولا خبر فيه، فلا يصار إليه، والله أعلم. قاله القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
(المسألة الرابعة): قد بسط القول على هذا الحديث الإمام ابن عبد البرّ رحمه الله في كتابه الممتع "التمهيد"، ودونك خلاصته:
قال رحمه الله: مالكٌ، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أيما رجل أَعْمَر عُمْرَى له ولعقبه، فإنها للذي أعطيها، لا ترجع إلى الذي أعطاها؛ لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث".
هكذا هو هذا الحديث عند كل الرواة عن مالك، ورواه معمر، عن الزهريّ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر بن عبد الله قال:"إنما العمرى التي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عِشْتَ، فإنها ترجع إلى صاحبها"، قال معمر: وكان الزهريّ يفتي بذلك، قال محمد بن يحيى الذهليّ في حديث معمر هذا: إنما منتهاه إلى قوله: "هي لك ولعقبك"، وما بعده عندنا من كلام الزهريّ، قال: وما رواه أبو الزبير، عن جابر، يوهن حديث معمر هذا، قال: وقد رواه ابن أبي ذئب، ومالك، وابن أخي الزهريّ، وليثٌ على خلاف ما رواه معمر.
قال أبو عمر: أما رواية ابن أبي ذئب، فرواه في "موطئه" عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن جابر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قضى فيمن أَعْمَر عُمْرَى له ولعقبه، فهي له بَتْلَةً، لا يجوز للمعطي فيها شرط، ولا مَثْنَوِيّةٌ، قال أبو سلمة: لأنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث، فقطعت المواريث شرطه، وهذا خلاف ما قاله الذهليّ، وقد جَوَّده ابن أبي ذئب، فبَيَّن فيه موضع الرفع، وجعل سائره من قول أبي سلمة، لا من قول الزهريّ.
ورواه الأوزاعيّ قال: حدّثني أبو سلمة قال: حدّثني جابر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"العمرى لمن أعمِرها، هي له ولعقبه"، هكذا حدثناه الوليد بن مسلم وغيره عنه.
(1)
"المفهم" 4/ 598.
ورواه الليث، عن ابن شهاب بإسناده، قال:"من أعمر رجلًا عُمْرَى له ولعقبه، فقد قَطَع قولُهُ حَقَّه فيها، وهي لمن أُعمِرها ولعقبه"، حدّثنا بحديث الليث أحمدُ بن قاسم بن عبد الرحمن، قال: حدّثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدّثنا الحارث بن أبي أسامة، قال: حدّثنا أبو النضر، قال: حدّثنا الليث بن سعد، قال: حدّثني الزهريّ، عن أبي سلمة، عن جابر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، فذكره حرفًا بحرف.
قال أبو عمر: فهذا ما في حديث ابن شهاب، والمعنى في ذلك متقارب، يَشُدّ بعضه بعضًا، لكن مالك رحمه الله لم يقل بظاهر هذا الحديث؛ لِمَا رواه عن يحيى بن سعيد، عن عبد الرحمن بن القاسم، أنه سمع مكحولًا الدمشقيّ يسأل القاسم بن محمد، عن العمرى، وما يقول الناس فيها، فقال القاسم: ما أدركت الناس إلا على شروطهم في أموالهم، وفيما أَعْطَوْا، والقاسم قد أدرك جماعة من الصحابة، وكبار التابعين، وقال مالك: الأمر عندنا أن العمرى ترجع إلى الذي أَعْمَرها إذا لم يقل: لك ولعقبك، إذا مات الْمُعْمَر، وكذلك إذا قال: هي لك ولعقبك ترجع إلى صاحبها أيضًا بعد انقراض عقب المعمَر؛ لأنه على شرطه في عقب المعمَر، كما هو على شرطه في المعمَر، ورقبتها عند مالك وأصحابه على ملك صاحبها أبدًا ترجع إليه إن كان حيًّا، أو إلى ورثته بعده، وضمانها منهم، ولا يُمْلَك بلفظ العمرى، والإعمار، عند مالك رقبةُ شيء من العطايا، وإنما ذلك عنده كلفظ السكنى، والإسكان سواءً، لا يُملَك بذلك إلا المنافع، دون الرقاب، وهي ألفاظ عندهم لا يُملك بها الرقاب، وإنما يملك بها المنافع، منها: العمرى، والسُّكْنَى، والعارية، والإطراق، والمنحة، والإحبال، والإفقار، وما كان مثلها.
قال أبو إسحاق الحربيّ: سمعت ابن الأعرابيّ يقول: لم تختلف العرب في أن هذه الأسماء على ملك أربابها، ومنافعُها لمن جُعِلت له، العمرى، والرقبى، والإفقار، والإخبال
(1)
، والعرية، والسكنى، والإطراق.
(1)
"الإخبال" بالخاء المعجمة: هو بمعنى العارية، قال في "القاموس" (ص 346): واستخبلني ناقةً، فأخبلتها: استعارنيها، فأعرتها، أو أعرتها لينتفع بلبنها، ووَبَرها، أو فرسًا ليغزو عليه. انتهى.
ومما احتجّ به أصحاب مالك فيما ذهبوا إليه من ردّ حديث جابر هذا أن قالوا: هو حديث منسوخ، ولم يصحبه العمل، وقال بعضهم: لعل حامله وَهِمَ.
قال ابن عبد البرّ: ومثلُ هذا من القول لا يُعترض به الأحاديث الثابتة عند أحد من العلماء، إلا بأن يتبيّن النسخ بما لا مَدْفَع فيه.
قال الجامع: قد أجاد ابن عبد البرّ رحمه الله في هذا التعقّب، كيف يُدّعَى نسخ حديث صحيح بظنون وتخيّل، فأين الناسخ؟ إن هذا لهو العجب، وأيضًا قولهم: لم يصحبه العمل مردود بما ثبت من أنه عُمل به في المدينة، فقد قضى به طارق مولى عثمان بشهادة جابر رضي الله عنه بأنه صلى الله عليه وسلم قضى بالعمرى لصاحبها، فكتب به إلى عبد الملك بن مروان، فنفّذه، كما سيأتي عند مسلم في هذا الباب، فكيف يُدَّعَى عدم العمل؟ فتبصّر.
قال: ومما احتجوا به أيضًا ما رواه ابن القاسم وغيره عن مالك، قال: رأيت محمدًا وعبد الله ابني أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، فسمعت عبدَ الله يعاتب محمدًا، ومحمد يومئذ قاض، فيقول له: ما لَكَ لا تقضي بالحديث الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العمرى، حديثِ ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر؟ فيقول له محمد: يا أخي لم أجد الناس على هذا، وأباه الناس، فهو يكلمه، ومحمد يأباه، قال مالك: ليس عليه العمل، ولوددت أنه مُحِيَ
(1)
.
ومن أحسن ما احتجوا به أن قالوا: مِلْكُ الْمُعْمِر الْمُعْطِي ثابت بإجماع قبل أن يُحْدِث العمرى، فلما أحدثها اختَلَف العلماء، فقال بعضهم: قد أزال لفظه ذلك ملكَه عن رقبة ما أعمره، وقال بعضهم: لم يزل ملكه عن رقبة ماله بهذا اللفظ، والواجب بحق النظر أن لا يزول ملكه إلا بيقين، وهو الإجماع؛ لأن الاختلاف لا يثبت به يقين، وقد ثبت أن الأعمال بالنيات، وهذا الرجل لم ينو بلفظه ذلك إخراج شيء عن ملكه، وقد اشترط فيه شرطًا فهو على شرطه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"المسلمون على شروطهم".
(1)
أي: تمنّيت أنه محي من "الموطّأ"، ووقع في النسخة غلطًا:"أني مُحي"، فتنبّه.
قال الجامع: سكت ابن عبد البرّ رحمه الله عن التعليق على هذا المتمسّك، ويا ليته لم يسكت، والجواب عنه واضح، وهو أن ثبوت الملك، وزواله ليس من شرطه الإجماع، وإنما الشرط ثبوت الدليل فيه، من نصّ كتاب الله، أو سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة، فإذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نصّ في إثباته أو زواله، فهو المتمسّك، سواء حصل الإجماع على ذلك، أم لم يحصل، وما هنا كذلك، فقد أزال النصّ ملك الْمُعْمِر -بالكسر- وأدخله في ملك الْمُعْمَرِ له - بالفتح- فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى وليّ التوفيق.
قال أبو عمر رحمه الله: نحن نذكر اختلاف الفقهاء في هذا الباب على شرطنا في هذا الكتاب لنبيّن بذلك موضع الصواب، وبالله التوفيق. فأما مالك رحمه الله، فقد ذكرنا أن العمرى والسكنى عنده سواء، وهو قول الليث، وقول القاسم بن محمد، ويزيد بن قُسيط، قال مالك: فإذا أعمره حياته، وأسكنه حياته، فهو شيء واحد، فإن أراد الْمُعْمَر أن يُكريها فإنه يُكريها قليلًا قليلًا، ولا يبعد الكراء، قال: وللمعمَر أن يبيع منافع الدار، وسكناه فيها من الذي أعمره، ولا يبيعها من غيره.
وقال أبو حنيفة، والشافعيّ، وأصحابهما، وهو قول الثوريّ، والحسن بن حيّ، وابن شُبْرُمة، وأحمد بن حنبل، وأبي عبيد: الْعُمْرَى بهذا اللفظ هبة مبتوتة، يملكها المعمَر ملكًا تامًّا، رقبتها ومنافعها، واشترطوا فيها القبض على أصولهم في الهبات، قالوا: ومن أَعمر رجلًا شيئًا في حياته، فهو له حياتَهُ وبعد وفاته لورثته؛ لأنه قد مَلَك رقبتها، وشرطُ المعطي، وذكره العمرى، والحياة باطلٌ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبطل شرطه، وجعلها بَتْلَةً للمعطَى، وسواءٌ قال: هي ملك حياتك، وهي لك ولعقبك بعدك عمري وحياتهم، أو ما عشت، وعاشوا، كل ذلك باطلٌ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبطل الشرط في ذلك، وإذا بطل شرطه لنفسه في حياة المعمَر، فكذلك حياة عقبه الشرط أيضًا باطل، وكل شرط أبطله الله أو رسوله فهو مردودٌ؛ لأن في إنفاذه تحليل الحرام، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"المؤمنون على شروطهم، إلا شرطًا أحلّ حرامًا أو حرّم حلالًا"
(1)
، وقال:"كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل"؛ يعني: ليس في
(1)
حديث حسن.
حكم الله، وفيما أباحه الله في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"إنه من أعطى شيئًا حياته فهو له ولورثته، فأمسكوا عليكم أموالكم".
قالوا: والسكنى عارية لا يُملك بها رقبة، إنما يملك بها المنافع على شروط المسكن.
ومن حجتهم فيما ذهبوا إليه في العمرى ما رواه ابن جريج، والثوريّ، وجماعة عن أبي الزبير، عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من أعمر شيئًا حياته، فهو له حياته وموته".
ثم ساق بسنده عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العمرى لمن وُهبت له"، فجعلها هبةً، والفائدة في هذا الخطاب في تملّكه الرقبة؛ لأن المنافع أوضح من أن يحتاج إلى أن تُعرَف لمن هي في ذلك، والله أعلم.
ثم ساق بسنده عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس أمسكوا عليكم أموالكم، ولا تُعمِروا أحدًا شيئًا، فإن من أعمر أحدًا شيئًا حياته فهو له حياته ومماته".
قال: وذكر الشافعيّ عن ابن علية، عن الحجاج بن أبي عثمان، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الأنصار أمسكوا عليكم أموالكم، ولا تُعمروا أحدًا شيئًا، فإن من أعمر شيئًا حياته، فهو لمن أُعْمِره حياته ومماته".
ورَوَى حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر مثله سواءً، وهو قول جابر، وابن عمر، وابن عباس، ذكر معمر عن أيوب، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: سمعت ابن عمر وسأله أعرابيّ أَعطَى ابنه ناقةً له حياته، فأنتجها فكانت إبلًا، فقال ابن عمر: هي له حياته ومماته، قال: أفرأيت إن كان تصدق عليه؟ قال: فذلك أبعد له.
وهذا الخبر يدلّ على أن مذهب ابن عمر في العمرى أنها خلاف السكنى، ذلك أنه وَرِثَ حفصة بنت عمر دارها، قال: وكانت حفصة قد أسكنت بنت زيد بن الخطاب ما عاشت، فلما توفيت ابنة زيد قَبض عبد الله بن عمر المسكن، ورأى أنه له.
وعلى هذا أكثر العلماء، وجماعة أهل الفتوى في الفرق بين العمرى والسكنى، وقالوا: لا تنصرف إلى صاحبها أبدًا، وكان الشعبيّ يقول: إذا قال: هو لك سكنى حتى تموت، فهو له حياته وموته، وإذا قال: داري هذه اسكنها حتى تموت، فإنها ترجع إلى صاحبها.
وأما قول جابر: فذكر عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: أعمرت امرأة بالمدينة حائطًا لها ابنًا لها، ثم تُوُفِّي، وترك ولدًا، وتوفيت بعده، وتركت ولدين أخوين سوى الْمُعْمَر، أظنه قال: فقال ولد المعمِرة: يرجع الحائط إلينا، وقال ولد المعمَر: بل كان لأبينا حياته وموته، فاختصموا إلى طارق مولى عثمان، فدخل جابر، فشَهِد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرى لصاحبها، فقضى بذلك طارق، ثم كتب إلى عبد الملك، فأخبره بذلك، وأخبره بشهادة جابر، فقال عبد الملك: صدق جابر، وأمضى ذلك طارق، وقال: ذلك الحائط لبني المعمَر حتى اليوم.
وروى يعلى بن عبيد وغيره، عن الثوريّ، عن أبي الزبير، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: لا تحل العمرى، ولا الرقبى، فمن أُعمِر شيئًا فهو له، ومن أُرقِب شيئًا فهو له. وهو قول طاوس، ومجاهد، وسليمان بن يسار، وبه كان يقضي شريح.
وقال من ذهب إلى هذا القول: إنه لا يصح لأحد أن يَدَّعِيَ العمل في هذه المسألة بالمدينة؛ لأن الخلاف في المدينة فيها قديمًا وحديثًا أشهر من أن يُحتاج إلى ذكره.
واحتجوا أيضًا بما حدّثناه عبد الرحمن بن يحيى، ثم ساق بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"العمرى جائزة لأهلها، أو ميراث لأهلها"، وروى حماد بن سلمة، عن عبد الله بن محمد بن عَقِيل، عن محمد ابن الحنفية، عن معاوية بن أبي سفيان، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"العمرى جائزة لأهلها"، ثم بسنده أيضًا إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"العمرى ميراث لأهلها"، وساق أيضًا بسنده إلى جابر رضي الله عنه أن المهاجرين لمّا قدِموا على الأنصار، جَعَل الأنصار يُعمرونهم دورهم حياتهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال للأنصار:"أمسكوا عليكم أموالكم، لا تُعمروها، فإنه من أَعمر شيئًا فهو له ولورثته إذا مات".
قال: وفي هذه المسألة قول ثالث، قاله أبو ثور، وداود بن عليّ، وهو قول أبي سلمة بن عبد الرحمن، وابن شهاب، وابن أبي ذئب، قالوا: إذا قال الرجل: هذه الدار، وهذا الشيء لك عمري، أو عمرك، أو حياتي، أو حياتك، فإن ذلك ينصرف إلى المعطي إذا مات المعطِي، وانقضى الشرط، فإن مات المعطي قبل انقضاء الشرط انصرف إلى ورثته، وليس في هذا تمليك شيء من الرقاب، حتى يكون فيه ذكر العقب، وإذا قال المعطي: هو لك ولعقبك، زال ملك المعطي عنها، وصارت ملكًا للمعطى يورث عنه، وقد رُوي عن يزيد بن قُسيط مثل هذا القول أيضًا، وحجة من ذهب إليه حديث أبي سلمة، عن جابر من رواية ملك وغيره، عن ابن شهاب، وقد تقدم ذكره، قالوا: فهذا هو الثابت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من رواية الثقات الفقهاء الأثبات، قالوا: وليس حديث أبي الزبير مما يعارَض به حديث ابن شهاب، ولا في حديث أبي هريرة، وزيد بن ثابت، ومعاوية بيان، وهي مُحْتَمِلة للتأويل، وحديث ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن جابر حديث مُفَسَّر، يرتفع معه الإشكال؛ لأنه جَعَل لذِكْر العقب حكمًا، وللسكوت عنه حكمًا يخالفه، وبه أفتى أبو سلمة، وإليه كان يذهب ابن شهاب، وهم رواة الحديث، وإليهم يُنصَرف في تأويله، مع موضعهم من الفقه والجلالة، وليس مَن خالفهم ممن يقاس بهم.
قالوا: وحديث معمر حديث صحيح، لا معنى لقول من تكلم فيه؛ لأن معمرًا من أثبت الناس في ابن شهاب، وأحسنهم نقلًا عنه، لا سيما ما حَدَّث به باليمن من كتبه، وإنما وُجد عليه شيءٌ من الغلط فيما حَدَّث به من حفظه بالعراق، وحديثه هذا من رواية أهل اليمن عنه صحيح.
قال ابن عبد البرّ رحمه الله: هذا كله معنى ما احتج به القوم، ومن ذهب مذهبهم، وبالله التوفيق. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، وبحث أنيس.
قال الجامع عفا الله عنه: قد أجاد الإمام ابن عبد البرّ رحمه الله في استعراض المذاهب، وأدلّتها في هذه المسألة، وأفاد، والذي ظهر لي من خلال دراستي
(1)
راجع: "التمهيد" 7/ 112 - 123.
لهذه الأقوال، وأدلّتها ترجيح قول الجمهور: إن العمرى جائزة، ولازمة، ملك للمعمَر له -بالفتح- مطلقًا، سواء قال له: هي ولعقبك، أو لم يقل: ولعقبك.
قال العلامة ابن قُدامة رحمه الله بعد ذكر صور العمرى والرقبى ما نصّه: وكلاهما جائزٌ في قول أكثر أهل العلم، وحُكي عن بعضهم أنها لا تصحّ؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا تُعمِرُوا، ولا تُرقبوا"، وحجة الجمهور حديث جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العمرى جائزة لأهلها، والرقبى جائزة لأهلها"، وهو حديث صحيح، رواه أصحاب السنن.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تعمروا
…
إلخ" فالنهي فيه إنما ورد على سبيل الإعلام لهم أنهم إذا أعمروا، أو أرقبوا يكون ذلك للمُعمَر، والمُرْقَب، ولا يعود إليهم منه شيء، وسياق الحديث يدلّ على هذا، فإنه قال: "فمن أعمر عمرى، فهي لمن أُعمرها حيًّا وميتًا، ولعقبه".
إذا ثبت هذا، فإن العمرى تَنقُل الملك إلى المعمر له، وبهذا قال جابر بن عبد الله، وابن عمر، وابن عبّاس، وشُريحٌ، ومجاهدٌ، وطاوس، والثوري، والشافعيّ، وأصحاب الرأي، وروي ذلك عن عليّ.
وقال مالكٌ، والليث: العمرى تمليك المنافع، لا تُملك بها رقبة المعمَر بحال، ويكون للمعمَر السكنى، فإذا مات عادت إلى المعمِر، وإن قال: له، ولعقبه، كان سكناها لهم، فإذا انقرضوا عادت إلى المعمِر.
واحتجّا بما رَوَى يحيى بن سعيد، عن عبد الرحمن بن القاسم، قال:
سمعت مكحولًا يسأل القاسم بن محمد عن العمرى ما يقول الناس فيها؟ فقال القاسم: ما أدركت الناس إلا على شروطهم في أموالهم، وما أَعطَوا، وقال إبراهيم بن إسحاق الحربيّ، عن ابن الأعرابيّ: لم يَختلف العرب في العمرى، والرقبى، والإفقار، والإخبال، والمنحة، والعريّة، والسكنَى، والإطراق أنها على ملك أربابها، ومنافعها لمن جُعلت له، ولأن التمليك لا يتأقّت، كما لو باعه إلى مدّة، فإذا كان لا يتأقّت، حُمل قوله على تمليك المنافع؛ لأنه يصحّ توقيته.
وحجة الأولين حديث جابر رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أمسكوا عليكم أموالكم، ولا تفسدوها، فإنه من أَعمر عمرى، فهي للذي أُعمِرها حيًّا وميتًا
ولعقبه"، رواه مسلم، وفي لفظ: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرى لمن وُهبت له"، متّفق عليه.
قال: وقد رَوَى مالك حديث العمرى في "موطّئه"، وهو صحيح، رواه جابر، وابن عمر، وابن عبّاس، ومعاوية، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة رضي الله عنه.
وقول القاسم لا يُقبل في مخالفة من سمّينا من الصحابة والتابعين، فكيف يُقبل في مخالفة قول سيّد المرسلين صلى الله عليه وسلم؟ ولا يصحّ أن يُدّعَى إجماع أهل المدينة؛ لكثرة من قال بها منهم، وقضى بها طارقٌ بالمدينة بأمر عبد الملك بن مروان.
وقول ابن الأعرابيّ: إنها عند العرب تمليك المنافع، لا يضرّ إذا نقلها الشرع إلى تمليك الرقبة، كما نقل الصلاة من الدعاء إلى الأفعال المنظومة، ونقل الظهار، والإيلاء من الطلاق إلى أحكام مخصوصة.
وقولهم: إن التمليك لا يتأقّت، قلنا: فلذلك أبطل الشرع تأقيتها، وجعلها تمليكًا مطلقًا. انتهى كلام ابن قدامة رحمه الله ببعض تصرّف
(1)
، وهو تحقيق نفيس جدًّا.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن من هذه التحقيقات كلها أن الأرجح قول أكثر أهل العلم: إن العمرى، والرقبى جائزتان لمن جُعلتا له، ولعقبه بعد موته مطلقًا، سواء ذكر "ولعقبه" أم لا؛ لأن الأدلّة على ذلك صحيحة صريحة، لا يمكن مخالفتها لأجل قول بعض الناس، أو لدليل عقليّ؛ إذ هو في مقابلة الدليل الشرعيّ فاسد الاعتبار.
فأما قول الزهريّ وغيره: إن لم يقل: "ولعقبه" ترجع لصاحبها، فرأي رأوه، فلا يكون حجة.
وأما احتجاجه بعدم قضاء الخلفاء به، فقد عارضه عطاء بن أبي رباح بأن من الخلفاء من قضى به، وهو عبد الملك بن مروان؛ عملًا بحديث جابر رضي الله عنه، فقد أخرج النسائيّ بإسناد صحيح، عن قتادة، قال: سألني سليمان بن هشام عن العمرى، فقلت: حدَّث محمد بن سيرين، عن شُريح قال: قضى نبي الله صلى الله عليه وسلم
(1)
راجع: "المغني" لابن قُدامة رحمه الله 8/ 281 - 284.
أن العمرى جائزة، قال قتادة: قلت: حدّثني محمد بن النضر بن أنس، عن بَشِير بن نَهِيك، عن أبي هريرة، أن نبيّ الله قال:"العمرى جائزة"، قال: قتادة: وقلت: كان الحسن يقول: العمرى جائزة، قال قتادة: فقال الزهريّ: إنما العمرى إذا أعمر وعقبه من بعده، فإذا لم يجعل عقبه من بعده كان للذي يجعل شرطه، قال قتادة: فسئل عطاء بن أبي رباح، فقال: حدّثني جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"العمرى جائزة"، قال قتادة: فقال الزهريّ: كان الخلفاء لا يقضون بهذا، قال عطاء: قضى بها عبد الملك بن مروان. انتهى.
فقد تبيّن بهذا أن دعوى عدم عمل أهل المدينة غير صحيحة.
والحاصل أن العمرى والرقبى جائزتان، يُنقَل بهما ملك الْمُعْمِر والمرقِبِ إلى الْمُعْمَر والْمرقَب له حياتهما وموتهما، وإلى عقبهما من بعدهما، ولا رجوع فيهما مطلقًا؛ لِمَا عرفت من وضوح الحجة، وتبيّن المحجة، والله تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع، والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4182]
(
…
) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ أَعْمَرَ رَجُلًا عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ، فَقَدْ قَطَعَ قَوْلُهُ حَقَّهُ فِيهَا، وَهِيّ لِمَنْ أُعْمِرَ، وَلِعَقِبِهِ"، غَيْرَ أَنَّ يَحْيَى قَالَ في أَوَّلِ حَدِيثِهِ:"أَيُّمَا رَجُلٍ أُعْمِرَ عُمْرَى، فَهِيَ لَهُ وَلِعَقِبِهِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلهم ذُكروا في الباب، والباب الماضي.
وقوله: (فَقَدْ قَطَعَ قَوْلُهُ حَقهُ فِيهَا) برفع "قولُهُ" على الفاعليّة، ونصب "حقَّه" على المفعوليّة؛ يعني: أن قوله: "أعمرتك عمرى لك ولعقبك" يقطع حقّ الرجوع في الهبة؛ لأنها صارت ملكًا للْمُعْمَر له ولعقبه.
والحديث بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى البحث فيه مستوفًى قبله، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4183]
(
…
) - (حَدَّثَنِي عَبْدُ الرحمن بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنِ الْعُمْرَى وَسُنَّتِهَا، عَنْ حَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَحمن، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيَّ أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْمَرَ رَجُلًا عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ، فَقَالَ: قَدْ أَعْطَيْتُكَهَا وَعَقِبَكَ، مَا بَقِيَ مِنْكُمْ أَحَدٌ، فَإنَّهَا لِمَنْ أُعْطِيَهَا، وَإِنَّهَا لَا تَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهَا، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ الرحمن بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ) أبو محمد النيسابوريّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 260)(خ م د ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 99.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (وَسُنَّتِهَا)؛ أي: طريقتها التي شرعها الله تعالى لها.
وقوله: (مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً
…
إلخ) هذا من كلام أبي سلمة أُدرج في هذه الرواية، فسيأتي بعد حديث من طريق ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب:"قال أبو سلمة: لأنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث، فقطعت المواريث شرطه".
والحديث بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله وقد مضى البحث فيه مستوفًى قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4184]
(
…
) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ -وَاللَّفْظُ لِعَبْدٍ- قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: إِنَّمَا الْعُمْرَى الَّتِي أَجَازَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ: هِيَ لَكَ وَلعَقِبِكَ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ: هِيَ لَكَ مَا عِشْتَ، فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهَا، قَالَ مَعْمَرٌ: وَكَانَ الزُّهْرِيُّ يُفْتِي بِهِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم قبل بابين.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
وقوله: (فَأَمَّا إِذَا قَالَ
…
إلخ) قد تقدّم عن محمد بن يحيى الذُّهليّ: أن الحديث المرفوع ينتهي إلى قوله: "هي لك ولعقبك"، وما بعده من كلام الزهريّ، قال: وما رواه أبو الزبير، عن جابر يوهن حديث معمر هذا. انتهى.
وقوله: (وَكَانَ الزُّهْرِيُّ يُفْتي بِهِ)؛ يعني: أن الزهريّ كان يُفتي أن العمرى التي قيل فيها: "هي لك ما عشت" ترجع إلى صاحبها، وقد عرفت أن هذا رأيه، وقد خالفه عطاء وغيره، فلا يكون:"ولعقبك" حجة، بل الراجح قول الجمهور: إن العمرى لمن جُعلت له مطلقًا، سواء قال: لك ولعقبك، أو لم يزد: ولعقبك، فتنبّه.
والحديث بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4185]
(
…
) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرحمن، عَنْ جَابِرٍ -وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللهِ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِيمَنْ أُعْمِرَ عُمْرَى لَهُ وَلعَقِبِهِ، فَهِيَ لَهُ بَتْلَةً، لَا يَجُوزُ لِلْمُعْطِي فِيهَا شَرْطٌ، وَلَا ثُنْيَا، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: لأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ، فَقَطَعَتِ الْمَوَارِيثُ شَرْطَهُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(محمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ) محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فُديك الدِّيليّ مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، صدوقٌ، من صغار [8](ت 200)(ع) تقدم في "الحيض" 16/ 775.
3 -
(ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ) محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب القرشيّ العامريّ، أبو الحارث المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ [7](ت 8 أو 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 93.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (فَهِيَ لَهُ بَتْلَةً) -بفتح الموحّدة، وسكون التاء-، يقال: بَتَلَ الشيءَ يَبْتُلُهُ، من بابي نصر، وضرب: إذا قطعه، وأفرده من الآخر، يقال: صدقة بَتْلَةٌ: منقطعة عن صاحبها، كذا في "تاج العروس"
(1)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله: المعنى: أنه يتملّكها ملكًا لا يتطرّق إليه نقض. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ: أي عطيّة ماضية غير راجعة إلى الواهب. انتهى.
وهو منصوب على الحال، ويَحْتَمل أن يكون مرفوعًا خبرًا بعد خبر لـ"هي"، أو خبرًا لمحذوف؛ أي: هي بتلةٌ.
وقوله: (لَا يَجُوزُ لِلْمُعْطِي) بكسر الطاء: اسم فاعل من أعطى: أي لا يجوز للْمُعْمِر أن يشترط فيها شرطًا، ولا أن يستثني شيئًا منها.
وقوله: (وَلَا ثُنْيَا) -بضمّ الثاء المثلّثة، وإسكان النون، مقصورًا، على وزن دُنْيَا-: اسم بمعنى الاستثناء؛ أي: ليس له أن يردّ منها إلى نفسه شيئًا بشرط أنها له بعد الموت، أو بسبب أنه استثنى له منها شيئًا، وجعله له بعد الموت.
وقوله: (قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: لأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً
…
إلخ) قد تقدّم أن هذه الرواية بيّنت أن التعليل من كلام أبي سلمة، أُدرج في الحديث في الرواية السابقة، فليُتنبّه.
وقوله: (فَقَطَعَتِ الْمَوَارِيثُ شَرْطَهُ)؛ أي: أبطلته، وجعلته ملغى.
والحديث بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى تمام شرحه، وبقية مباحثه، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4186]
(
…
) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرحمن، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ").
(1)
"تاج العروس" 7/ 230.
(2)
"جامع الأصول" 8/ 172.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ) تقدّم قريبًا.
2 -
(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.
3 -
(هِشَامُ) بن أبي عبد الله سَنْبَر الدستوائيّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(يَحْيَى بْنُ أَبيِ كَثِيرٍ) تقدّم قبل باب.
والباقيان ذُكرا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، فقد أخرجه البخاريّ أيضًا من طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر رضي الله عنه، قال:"قضى النبيّ صلى الله عليه وسلم بالعمرى أنها لمن وُهبت له"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4187]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرحمن، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَن نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدستوائيّ البصريّ، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
والباقون ذُكروا قبله، والحَديث متّفقٌ عليه.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4188]
(
…
) - (حَدثنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدثنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (ح) وَحَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى -وَاللَّفْظُ لَهُ- أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَلَا تُفْسِدُوهَا، فَإِنَّهُ مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى، فَهِيَ لِلَّذِي أُعْمِرَهَا، حَيًّا وَمَيِّتًا، وَلعَقِبِهِ").
رجال هذين الإسنادين: خمسة:
وقد تقدّم الإسناد الأول بعينه في آخر الباب الماضي، ويحيى تقدّم أول هذا الباب، وهما من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهما (278 و 279) من رباعيّات الكتاب، و"أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ" هو: أحمد بن عبد الله بن يونس، نُسب لجدّه، و"يحيى بن يحيى" هو التميميّ النيسابوريّ الإمام، وزُهَيْرٌ هو ابن معاوية، أبو خيثمة الجعفيّ.
[تنبيه]: كتابة (ح) للتحويل سقط من معظم نسخ صحيح مسلم، وقد أثبته في النسخة الهنديّة، وهو الصواب، فتنبّه.
وقوله: ("أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَلَا تُفْسِدُوهَا) قال النوويّ رحمه الله: المراد به إعلامهم أن العمرى هبةٌ صحيحة ماضيةٌ، يملكها الموهوب له ملكًا تامًّا لا يعود إلى الواهب أبدًا، فإذا عَلِموا ذلك، فمن شاء أَعمَر، ودخل على بصيرة، ومن شاء ترك؛ لأنهم كانوا يتوهّمون أنها كالعارية يُرْجَع فيها، وهذا دليلٌ للشافعيّ وموافقيه، والله أعلم. انتهى
(1)
.
والحديث بهذا السياق من أفراد المصنّف، وقد صرّح أبو الزبير بسماعه من جابر عند النسائيّ
(2)
، من طريق أبي عاصم، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابرًا يقول:
…
الحديث، فذكره مختصرًا، ومن طريق الحجاج الصوّاف، عن أبي الزبير، قال: حدّثنا جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره مختصرًا أيضًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4189]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ (ح) وَحَدَّثنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، حَدَّثَني أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنْ أَيُّوبَ، كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 72.
(2)
راجع: "المجتبى" برقم (3762 و 3763).
بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي خَيْثَمَةَ، وَفِي حَدِيثِ أيُّوبَ مِنَ الزِّيَادَةِ: قَالَ: جَعَلَ الأنصَارُ يُعْمِرُونَ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ").
رجال هذا الإسناد: اثنا عشر:
1 -
(حَجَّاجُ بْن أَبِي عُثْمَانَ) ميسرة، أو سالم الصّوّاف، أبو الصَّلت الْكِنْديّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ حافظ [6](ت 143)(ع) تقدم في "الإيمان" 52/ 318.
2 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قريبًا.
3 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ) أبو عُبيدة البصريّ، صدوقٌ [11](ت 252)(م ت س) تقدم في "الإيمان" 49/ 311.
5 -
(أَبُوهُ) عبد الصمد بن عبد الوارث، تقدّم قبل باب.
6 -
(جَدُّهُ) عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان الْعَنْبريّ مولاهم، أبو عُبيدة التَّنُّوريّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.
7 -
(أَيُّوبُ) بن أبي تَمِيمة كيسان السَّخْتِيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حجةٌ، من كبار الفقهاء العبّاد [5](ت 131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله، و"إسحاق بن إبراهيم" هو: ابن راهويه، و"محمد بن بشر" هو: العبديّ الكوفيّ.
وقوله: (كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ)؛ يعني: أن كلًّا من حجاج بن أبي عثمان، وسفيان الثوريّ، وأيوب السختيانيّ رووا هذا الحديث عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
[تنبيه]: رواية حجاج بن أبي عثمان، عن أبي الزبير، ساقها أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنّفه" (4/ 510) فقال:
(22630)
- حدّثنا محمد بن بشر، قال: حدّثنا حجاج بن أبي عثمان، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الأنصار أمسكوا عليكم أموالكم، لا تُعْمِروها، فإنه من أَعْمَر شيئًا، فإنه لمن أُعْمِرَهُ". انتهى.
وأما رواية سفيان الثوريّ، عن أبي الزبير، فقد ساقها أيضًا أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنّفه" (4/ 509) فقال:
(22618)
- حدّثنا وكيع، قال: حدّثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمسكوا عليكم أموالكم، لا تُعْمِروها، فمن أَعمَرَ عُمْرَى، فهي سبيل الميراث". انتهى.
وأما رواية أيوب السختيانيّ، عن أبي الزبير، فقد ساقها البيهقيّ في "الكبرى" (6/ 173) فقال:
(11754)
- وأخبرنا أبو الحسن العلويّ، أنبأ أبو الأحرز محمد بن عمر بن جميل الأزديّ بطوس، ثنا أبو بكر بن أبي خيثمة، ثنا أبو معمر، ثنا عبد الوارث، ثنا أيوب السختيانيّ، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: كانت الأنصار يُعْمِرون المهاجرين، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمسكوا أموالكم لا تُعمروها، فإنه من أَعْمَر شيئًا حياته، فإنه لورثته إذا مات". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4190]
(
…
) - (وَحَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ رَافِعٍ- قَالَا: حَدَّثنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالً: أَعْمَرَتِ امْرَأَةٌ بِالْمَدِينَةِ حَائِطًا لَهَا ابْنًا لَهَا، ثُمَّ تُوُفِّيَ، وَتُوُفِّيَتْ بَعْدَهُ، وَتَرَكَ وَلَدًا، وَلَهُ إِخْوَة بَنُونَ لِلْمُعْمِرَةِ، فَقَالَ وَلَدُ الْمُعْمِرَةِ: رَجَعَ الْحَائِطُ إِلَيْنَا، وَقَالَ بَنُو الْمُعْمَرِ: بَلْ كَانَ لأَبِينَا حَيَاتَهُ وَمَوْتَهُ، فَاخْتَصَمُوا إِلَى طَارِقٍ مَوْلَى عُثْمَانَ، فَدَعَا جَابِرًا، فَشَهِدَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْعُمْرَى لِصَاحِبِهَا، فَقَضَى بِذَلِكَ طَارِقٌ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَخْبَرَهُ ذَلِكَ، وَأَخْبَرَهُ بِشَهَادَةِ جَابِرٍ، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: صَدَقَ جَابِرٌ، فَأَمْضَى ذَلِكَ طَارِقٌ، فَمنَّ ذَلِكَ الْحَائِطَ لِبَني الْمُعْمَرِ حَتَّى الْيَوْمِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الْكَوْسَج، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: أَعْمَرَتِ امْرَأة بِالْمَدِينَةِ حَائِطًا)؛ أي: بستانًا
(لَهَا ابْنًا لَهَا)"ابنًا" هو المفعول الأول لـ"أَعمرت"، و"حائطًا" مفعول ثانٍ مقدّم (ثُمَّ تُوُفِّيَ) بتشديد الفاء، مبنيًّا للمفعول؛ أي: مات ذلك الولد الْمُعْمَرُ له (وَتُوُفِّيَتْ) بالبناء للمفعول أيضًا؛ أي: ماتت المرأة (بَعْدَهُ)؛ أي: بعد موت الولد (وَتَرَكَ وَلَدًا)؛ أي: ترك ذلك الولد الميت ولدًا له، هذا هو الذي وقع في النسخة الهنديّة، ونسخة شرح الأبيّ، وهو الصواب المناسب للسياق، وهكذا هو في "مصنّف عبد الرزّاق"
(1)
، و"مسند أبي عوانة"
(2)
، و"السنن الكبرى" للبيهقيّ
(3)
، و"جامع الأصول" لابن الأثير
(4)
، ووقع في معظم نسخ صحيح مسلم:"وتركت ولدًا"، والظاهر أنه غلطٌ، فتنبّه.
(وَلَهُ إِخْوَةٌ) وقوله: (بَنُونَ لِلْمُعْمِرَةِ) بدلٌ، أو عطف بيان لـ "إخوة" (فَقَالَ وَلَدُ الْمُعْمِرَةِ) بكسر الميم الثانية؛ أي: المرأة التي أعمرت (رَجَعَ الْحَائِطُ إِلَيْنَا)؛ أي: إلى أولاد المعمِرة (وَقَالَ بَنُو الْمُعْمَرِ) بفتح الميم الثانية؛ أي: الذي جُعل العمرى له (بَلْ كَانَ لأَبِينَا حَيَاتَهُ وَمَوْتَهُ)؛ أي: كان مُلكًا ثابتًا لا يقبل الانتقال إلى المعمِرة (فَاخْتَصَمُوا إِلَى طَارِقٍ مَوْلَى عُثْمَانَ) هو: طارق بن عمرو الأمويّ، قال في "التقريب": طارق بن عمرو المكيّ الأمويّ مولاهم، أمير المدينة لعبد الملك، وثّقه أبو زرعة في الحديث، والمشهور أنه كان من أمراء الْجَوْر، من الثالثة، مات في حدود الثمانين. انتهى.
وقال في "تهذيب التهذيب": طارق بن عمرو المكيّ الأمويّ مولاهم القاضي، سَمِع من جابر بن عبد الله، وعنه حميد بن قيس الأعرج، وحَكَى عنه سليمان بن يسار وغيره، قال الواقديّ: وَلَّاه عبد الملك بن مروان المدينةَ، فلما قُتِل مصعب بن الزبير دعا إلى طاعة عبد الملك، وأخرج طلحة بن عبد الله بن عوف وكان واليًا لعبد الله بن الزبير، وقال أبو زرعة: ثقة.
قلت
(5)
: قال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عن طارق قاضي مكة،
(1)
"مصنّف عبد الرزّاق" 9/ 189.
(2)
"مسند أبي عوانة" 3/ 469.
(3)
"السنن الكبرى" 6/ 173.
(4)
"جامع الأصول" لابن الأثير 8/ 168.
(5)
القائل هو الحافظ ابن حجر رحمه الله.
فقال: ثقة، وقد عاب ابن عساكر على ابن أبي حاتم هذا الكلام، فقال في ترجمة طارق بن عمرو: وَهِمَ ابن أبي حاتم من وجوه: أحدها: قوله: قاضي مكة، وإنما كان ذلك بالمدينة، والثاني: في قوله: رَوَى عن جابر، وإنما قَضَى بقوله، والثالث: قوله: رَوَى عنه سليمان، وإنما حَكَى فعله؛ يعني: أن سليمان بن يسار رَوَى الحديث عن جابر بلا واسطة.
قلت: ويؤيد ذلك، ويزيده إيضاحًا ما رواه عبد الرزاق في "مصنَّفه" عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: أعمرت امرأة بالمدينة حائطًا لها ابنًا لها
…
فذكر حديث الباب.
قال: وساق ابن عساكر من طريق الواحديّ بسنده، عن جابر بن عبد الله، قال: نظرت إلى أمور كلها أتعجب منها، عَجِبت لمن سَخِط ولاية عثمان حتى ابتلوا بطارق مولاه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أبو الفرج الأمويّ: كان طارق من وُلاة الجور، وقال عمر بن عبد العزيز -لمّا ذكره والحجاجَ، وقرةَ بن شريك، وكانوا إذ ذاك وُلاة الأمصار-: امتلأت الأرض جَوْرًا، وذكر الواقديّ بسنده أن عبد الملك جَهَّز طارقًا في ستة آلاف إلى قتال مَن بالمدينة من جهة ابن الزبير، فقصد خيبر، فقتل بها ستمائة، وقال خليفةُ: بعثه عبد الملك إلى المدينة، فغَلَب له عليها، وولّاه إياها سنة (72) ثم عزله في سنة (73) ووَلَّى الحجاج بن يوسف. انتهى
(1)
.
تفرّد بذكره المصنّف في هذا الباب، وليس له عنده رواية، وروى له أبو داود حديثًا واحدًا
(2)
.
(1)
"تهذيب التهذيب" 5/ 6.
(2)
قال أبو داود في "سننه": (3557) - حدّثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا معاوية بن هشام، ثنا سفيان، عن حبيب -يعني: ابن أبي ثابت- عن حميد الأعرج، عن طارق المكيّ، عن جابر بن عبد الله، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة من الأنصار، أعطاها ابنها حديقةً من نخل، فماتت، فقال ابنها: إنما أعطيتها حياتها، وله إخوة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هي لها حياتها وموتها"، قال: كنت تصدقت بها عليها، قال:"ذلك أبعد لك". انتهى.
وهو حديث ضعيف.
(فَدَعَا) طارق (جَابِرًا) رضي الله عنه (فَشَهِدَ) جابر رضي الله عنه (عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْعُمْرَى)؛ أي: بأنه قضى بالعمرى (لِصَاحِبِهَا)؛ أي: الْمُعْمَر له (فَقَضَى بِذَلِكَ طَارِقٌ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ) بن مروان بن الحكم بن أبي العاص الأمويّ، أبي الوليد المدنيّ، ثم الدمشقيّ، كان طالب علم قبل الخلافة، ثم اشتَغَل بها، فتغيّر حاله، مُلّك ثلاث عشرة سنة استقلالًا، وقَبْلها منازعًا لابن الزبير تسع سنين، ومات سنة ست وثمانين في شوّال، وقد جاوز الستّين، له عند المصنّف ذِكْر، وليس له عنده في "صحيحه"، ولا في بقية الكتب الستة إلا ذكر فقط، وإنما أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد، قوله، قاله الحافظ المزيّ رحمه الله
(1)
.
(فَأَخْبَرَهُ ذَلِكَ)؛ أي: أخبر طارق عبد الملك فيما كتبه إليه بهذه القضيّة (وَأَخْبَرَهُ بِشَهَادَةِ جَابِرٍ) بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قضى بالعمرى لصاحبها (فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: صَدَقَ جَابِرٌ) رضي الله عنه (فَأَمْضَى ذَلِكَ طَارِقٌ)؛ أي: أثبت ذلك الحكم الذي حكم به (فَإِنَّ ذَلِكَ الْحَائِطَ لِبَنِي الْمُعْمَرِ) بضمّ الميم الأولى، وفتح الثانية، وهو الذي جُعلت العمرى له (حَتَّى الْيَوْمِ)؛ أي: إلى يوم التحديث بهذا الحديث، والظاهر أن هذا من كلام أبي الزبير رحمه الله، والله تعالى أعلم.
والحديث بهذه القصّة من أفراد المصنّف رحمه الله.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4191]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ -وَاللَّفْظُ لأَبِي بَكْرٍ- قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ طَارِقًا قَضَى بِالْعُمْرَى لِلْوَارِثِ؛ لِقَوْلِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عَمْرُو) بن دينار الأثرم الْجُمحيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.
(1)
راجع: "تهذيب الكمال" 18/ 414.
3 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ) الهلاليّ، مولى ميمونة، وقيل: أم سلمة المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ، أحد الفقهاء السبعة، من كبار [3] مات بعد المائة، وقيل: قبلها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 489.
والباقون ذُكروا قبل حديث.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى البحث فيه قبله، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4192]
(
…
) - (حَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْعُمْرَى جَائِزَةٌ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَطَاءُ) بن أبي رَبَاح، واسم أبيه أسلم الْقُرشيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، لكنه كثير الإرسال [3](ت 114)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.
والباقون كلّهم ذُكروا في الباب، وقبل باب.
وقوله: ("الْعُمْرَى جَائِزَةٌ")؛ أي: ثابتة لمن جُعِلت له، والمراد أنها لا ترجع إلى صاحبها الْمُعْمِرِ، وإنما هي ملك للْمُعْمَر له، ولعقبه، وقد فَهِم قتادة رحمه الله، وهو راوي الحديث من هذا الإطلاق أنه إذا أطلق، فقال: أعمرتكها أنها للموهوب له ولعقبه، فقد روى النسائيّ أن قتادة حَكَى أن سليمان بن هشام بن عبد الملك سأل الفقهاء عن هذه المسألة، -يعني: صورة الإطلاق- فذكر له قتادة، عن الحسن وغيره أنها جائزة، وذكر له حديث أبي هريرة رضي الله عنه بذلك
(1)
، قال: وذكر له عن عطاء، عن جابر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل ذلك
(2)
، قال: فقال الزهريّ: إنما العمرى؛ أي: الجائزة إذا أَعْمَر له ولعقبه من بعده، فإذا لم يجعل عقبه من بعده كان للذي يَجعل شرطه، قال قتادة: واحتَجّ الزهري بأن الخلفاء لا يقضون بها، فقال عطاء: قَضَى بها
(1)
يعني: الرواية الثالثة.
(2)
يعني: هذا الحديث.
عبد الملك بن مروان، ذكره في "الفتح"
(1)
.
وقال في "الفتح" أيضًا عند قوله: "العمرى جائزة" ما نصّه: فَهِمَ قتادة، وهو راوي الحديث من هذا الإطلاق ما حكيته عنه -يعني: حكاية سؤل سليمان بن هشام- وحمله الزهريّ على التفصيل الماضي، وإطلاق الجواز في هذه الرواية لا يُفْهَم منه غير الحلّ، أو الصحّة، وأما حمله على الماضي للذي يعاطاها، وهو الذي حمله عليه قتادة فيحتاج إلى قدر زائد على ذلك، وقد أخرج النسائيّ من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، مرفوعًا:"لا عمرى، فمن أَعْمَر شيئًا فهو له"، وهو يشهد لِمَا فَهِمه قتادة. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: فتبيّن بهذا أن ما فهمه قتادة من إطلاق الحكم، سواء أطلق الْمُعْمِر، أو قيّد بقوله:"ولعقبه" هو الأرجح مما فهمه الزهريّ من التقييد، فتبصّر.
والحديث متّفقٌ عليه
(3)
، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ودئه الحمد والمنّة.
وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4193]
(
…
) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثيُّ، حَدَّثنا خَالِدٌ -يَعْنِي: ابْنَ الْحَارِثِ- حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أنهُ قَالَ: "الْعُمْرَى مِيرَاثٌ لأَهْلِهَا").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثيُّ) البصريّ، ثقةٌ [10](ت 248) أو بعدها (م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.
2 -
(سَعِيدُ) بن أبي عروبة، تقدّم قبل باب.
والباقون ذُكروا في الباب.
والحديث بهذا اللفظ من أفراد المصنّف رحمه الله.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
(1)
"الفتح" 6/ 481.
(2)
"الفتح" 6/ 481.
(3)
أخرجه البخاري في "صحيحه" برقم (2626).
[4194]
(1626) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "الْعُمْرَى جَائِزَةٌ").
رجال هذا الإسناد: ثماينة:
1 -
(النَّضْرُ بْنُ أَنَسِ) بن مالك الأنصاريّ، أبو مالك البصريّ، ثقةٌ [3] مات سنة بضع ومائة (ع) تقدم في "العتق" 2/ 3767.
2 -
(بَشِيرُ بْنُ نَهِيكٍ) السَّدُوسيّ، ويقال: السَّلُوليّ، أبو الشعثاء البصريّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "العتق" 2/ 3767.
3 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
والباقون ذُكروا قبل حديث.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه المصنف هنا [4/ 4194 و 4195](1626)، و (البخاري) في "الهبة"(2626)، و (أبو داود) في "سننه"(3548)، و (النسائي) في "المجتبى"(6/ 277)، و (ابن حبان) في "صحيحه"(5131)، و (البيهقي) في "الكبرى"(6/ 174)، و (البغوي) في "شرح السنَّة"(2197)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4195]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِيهِ يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ -يَعْنِي: ابْنَ الْحَارِثِ- حَدَّثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "مِيرَاثٌ لأَهْلِهَا"، أَوْ قَالَ: "جَائِزَةٌ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
وهم المذكورون قبل حديث.
والحديث بهذا اللفظ من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: لم يورد المصنّف رحمه الله أحاديث الرقبى، بل اقتصر على أحاديث العمرى، وكذلك البخاريّ ما أوردها، ولكن ترجم لها، فقال:"باب ما قيل في الْعُمْرَى، والرُّقْبَى"، قال في "الفتح": ترجم المصنّف -يعني: البخاريّ- بالرقبى، ولم يذكر إلا الحديثين الواردين في العمرى، وكأنه يرى أنهما متحدا المعنى، وهو قول الجمهور، ومنع الرقبى مالك، وأبو حنيفة، ومحمد، ووافق أبو يوسف الجمهور، وقد رَوَى النسائي بإسناد صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفًا:"العمرى، والرقبى سواء"، وله من طريق إسرائيل، عن عبد الكريم، عن عطاء، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمرى والرقبى"، قلت: وما الرقبى؟ قال: يقول الرجل للرجل: هي لك حياتك، فإن فعلتم فهو جائز، هكذا أخرجه مرسلًا، وأخرجه من طريق ابن جريج، عن عطاء، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عمر، مرفوعًا: "لا عمرى، ولا رقبى، فمن أَعْمَر شيئًا، أو أرقبه، فهو له حياته ومماته"، رجاله ثقات، لكن اختُلِف في سماع حبيب له من ابن عمر، فصَرَّح به النسائيّ من طريق، ونفاه في طريق أخرى.
قال الماورديّ: اختلفوا إلى ماذا يُوَجَّه النهي؟ والأظهر أنه يتوجه إلى الحكم، وقيل: يتوجه إلى اللفظ الجاهليّ، والحكم المنسوخ، وقيل: النهي إنما يمنع صحة ما يفيد المنهي عنه فائدةً، أما إذا كان صحة المنهي عنه ضررًا على مُرتكبه فلا يمنع صحته، كالطلاق في زمن الحيض، وصحةُ العمرى ضرر على المعمِر، فإن ملكه يزول بغير عوض، هذا كله إذا حُمِل النهي على التحريم، فإن حُمل على الكراهة، أو الإرشاد لم يُحتج إلى ذلك، والقرينة الصارفة ما ذُكِر في آخر الحديث من بيان حُكمه، ويُصَرّح بذلك قوله:"العمرى جائزة"، وللترمذيّ من طريق أبي الزبير، عن جابر، رفعه:"العمرى جائزة لأهلها، والرقبى جائزة لأهلها"، والله أعلم.
قال بعض الحذّاق: إجازة العمرى والرقبى بعيدٌ عن قياس الأصول، ولكن الحديث مقدَّم، ولو قيل بتحريمهما للنهي، وصحتهما للحديث لم يَبْعُد، وكأن النهي لأمر خارج، وهو حفظ الأموال، ولو كان المراد فيهما المنفعة، كما قال مالك، لم يُنه عنهما، والظاهر أنه ما كان مقصود العرب بهما إلا تمليك الرقبة بالشرط المذكور، فجاء الشرع بمراغمتهم، فصحح العقد على
نعت الهبة المحمودة، وأبطل الشرط المضادّ لذلك، فإنه يُشبه الرجوع في الهبة، وقد صح النهي عنه، وشُبِّه بالكلب يعود في قيئه، وقد رَوَى النسائيّ من طريق أبي الزبير، عن ابن عباس، رفعه:"العمرى لمن أُعْمِرها، والرقبى لمن أُرْقِبها، والعائد في هبته كالعائد في قيئه"، فشَرْطُ الرجوع المقارن للعقد مثل الرجوع الطارئ بعده، فنُهي عن ذلك، وأُمر أن يبقيها مطلقًا، أو يُخرجها مطلقًا، فإن أخرجها على خلاف ذلك بطل الشرط، وصح العقد؛ مُراغمةً له، وهو نحو إبطال شرط الولاء لمن باع عبدًا كما تقدم، في قصة بريرة. انتهى ما في "الفتح"، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
* * *
[24 - (كِتَابُ الْوَصَايَا)]
وفي بعض النسخ: "كتاب الْوَصِيّة"، و"الوَصَايَا" -بفتح الواو-: جمع وصيّة، كهديّة وهدايا، قال في "المغرب":"الوصيّة"، و"الوصاة": اسمان في معنى المصدر، قال الأزهريّ: هي مشتقّة من وصيتُ الشيءَ: إذا وَصَلتَهُ، وسُمّيت وصيّة؛ لأنه وَصَل ما كان في حياته بما بعده، ويقال: وصى، وأوصى أيضًا. انتهى
(1)
.
وقال في "القاموس": وَصَى، كَوَعَى: خَسَّ بعدَ رِفْعَةٍ، واتَّزَنَ بعدَ خِفَّةٍ، واتَّصَلَ، وَوَصَلَ، والأرضُ وَصْيًا، ووُصِيًّا، ووَصاءً، ووَصاءَةً: اتَّصَلَ نَباتُها، وأوْصاهُ، ووصَّاهُ تَوْصِيَةً: عَهِدَ إليه، والاسمُ: الوَصاةُ، والوِصايَةُ، والوصِيَّةُ، وهو المُوصَى به أيضًا، والوصِيُّ: المُوصِي، والمُوصَى، وهي وصِيٌّ أيضًا، والجمع: أوْصِياءُ، أَوْ لا يُثَنَّى، ولا يُجْمَعُ، {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} [النساء: 11]؛ أي: يَفْرِضُ عليكم، وقولهُ تعالى:{أَتَوَاصَوْا بِهِ} [الذاريات: 53]؛ أَي: أَوْصَى به أَوَّلُهم آخِرَهُمْ. انتهى
(2)
.
وقال في "شرح القاموس": وَصَى الشيءُ وَصْيًا: اتصل، وأيضًا: وَصَلَ، ونَصُّ الأصمعيّ: وَصَى الشيءُ يَصِي: اتّصَل، ووصاه غيره يَصِيه: وصله؛ أي: فهو لازمٌ متعدّ، وفي "الأساس": وَصَى الشيء بالشيء: وصله، ووَصى النبتُ: اتَّصَلَ، وكَثُرَ، وقال أبو عبيد: وَصَيتُ الشيءَ ووصلته: سواءُ، وأنشد لذي الرمة [من الطويل]:
نَصِي اللَّيْلَ بِالأَيَّامِ حَتَّى صَلَاتُنَا
…
مُقَاسَمَةٌ يَشْتَقُّ أَنْصَافَهَا السَّفْرُ
(1)
راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 7/ 2250.
(2)
"القاموس المحيط" 1/ 1731.
يقول: رجعت صلاتنا من أربعة إلى اثنتين في أسفارنا لحال السفر. انتهى
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: وَصَيتُ الشيءَ بالشيءِ أَصِيهِ، من باب وَعَدَ: وَصَلْتُهُ، ووَصَّيتُ إلى فلان تَوْصِيةً، وأوصيتُ إليه إيصاءً، وفي السبعة:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ} الآية [البقرة: 182]-بالتخفيف، والتثقيل- والاسم الوِصَاية بالكسر، والفتحُ لغةٌ، وهو وَصِيٌّ فَعِيلٌ بمعنى مفعول، والجمع الأوصياء، وأوصيتُ إليه بمال: جعلته له، وأوصيته بولده: استعطفته عليه، وهذا المعنَى لا يقتضي الإيجاب، وأوصيتُهُ بالصلاة: أمرته بها، وعليه قوله تعالى:{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]، وقوله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} الآية [النساء: 11]؛ أي: يأمركم، وفي حديثٍ:"خَطَبَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأوصى بتقوى الله"، معناه أمر، فيعمّ الأمر بأيّ لفظ كان، نحو: اتّقوا الله، وأطيعوا الله، وكذلك الخبرُ إذا كان فيه معنى الطلب، نحو: لقد فاز من اتّقى، وطُوبى لمن وَسِعَته السُّنّةُ، ولم تستهوه البدعةُ، ورحم الله من شغله عيبه عن عيوب الناس، ولا يتعيّن في الخطبة أوصيكم، كيف ولفظ الوصيّة مشترك بين التذكير والاستعطاف، وبين الأمر؟ فيتعيّن حمله على الأمر، ويقوم مقامه كلّ لفظ، فيه معنى الأمر، وتَوَاصَى القومُ: أوصى بعضهم بعضًا، واستوصيتُ به خيرًا. انتهى كلام الفيّوميّ رحمه الله، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا.
وقال في "الفتح": الوَصايا: جمع وصيّة، كالْهَدايا، وتُطلق على فعل الموصِي، وعلى ما يوصي به، من مال، أو غيره، من عهد، ونحوه، فتكون بمعنى المصدر، وهو الإيصاء، وتكون بمعنى المفعول، وهو الاسم.
وفي الشرع: عهد خاصّ، مضافٌ إلى ما بعد الموت، وقد يصحبه التبرّع، قال الأزهريّ: الوصيّة من وَصَيتُ الشيءَ -بالتخفيف- أَصِيهِ: إذا وصلته، وسمّيت وصيّةً؛ لأن الميت يَصِل بها ما كان في حياته بعد مماته، ويقال: وَصِيَّة -بالتشديد-، ووَصَاةٌ بالتخفيف، بغير همز. وتُطلق شرعًا أيضًا على ما يقع به الزجر عن المنهيّات، والحثّ على المأمورت. انتهى
(2)
.
(1)
"تاج العروس" 1/ 8648.
(2)
"الفتح" 6/ 662.
وقال ابن قُدامة رحمه الله في "المغني": والوصيّة بالمال هي التبرّع به بعد الموت، والأصل فيها الكتاب، والسُّنّة، والإجماع، أما الكتاب، فقول الله سبحانه وتعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّة} الآية [البقرة: 180]. وقال الله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} الآية [النساء: 11].
وأما السنّة، فحديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه الآتي في الباب الثاني.
قال: وأجمع العلماء في جميع الأمصار والأعصار على جواز الوصيّة. انتهى
(1)
.
وقال الشيخ وليّ الله الدهلويّ رحمه الله في كتابه "حجة الله البالغة" -مبيّنًا حكمة تشريع الوصيّة-: لَمّا كان الناس في الجاهليّة يضارّون في الوصيّة، ولا يتّبعون في ذلك الحكمة الواجبة، فمنهم من ترك الحقّ والأوجب مواساته، واختار الأبعد برأيه الأبتر، وجب أن يسدّ هذا الباب، ووجب عند ذلك أن يُعتبر المظانّ الكليّة بحسب القرابات، دون الخصوصيّات الطارئة بحسب الأشخاص، فلما تقرّر أمر المواريث قطعًا لمنازعتهم، وسدًّا لضغائنهم، كان من حكمه أن لا يسوغ الوصيّة لوارث؛ إذ في ذلك مناقضة للحدّ المضروب.
وقال قبل ذلك: وأيضًا فالحكمة أن يأخذ ماله من بَعده أقرب الناس منه، وأولاهم به، وأنصرهم له
…
ومع ذلك فكثيرًا ما تقع أمور توجب مواساة غيرهم، وكثيرًا ما يوجب خصوص الحال أن يختار غيرهم، فلا بدّ من ضرب حدّ لا يتجاوزه الناس، وهو الثلث؛ لأنه لا بدّ من ترجيح الورثة، وذلك بأن يكون لهم أكثر من النصف، فضَرَب لهم الثلثين، ولغيرهم الثلث. انتهى كلام وليّ الله الدهلويّ رحمه الله
(2)
.
[تنبيه]: (اعلم) أن أول "كتاب الوصية" هو ابتداء الفوات الثاني، من المواضع الثلاثة التي فاتت أبا إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان صاحب مسلم، فلم يسمعها من مسلم، وقد سبق بيان هذه المواضع في "شرح
(1)
"المغني" لابن قُدامة رحمه الله 8/ 389 - 390.
(2)
"حجة الله البالغة" 2/ 116.
المقدّمة"
(1)
، وسبق أحد المواضع في "كتاب الحج"، وهذا أول الثاني، وهو قول مسلم: حدّثنا أبو خيثمة زهير بن حرب، ومحمد بن المثنى الْعَنَزيّ، واللفظ لابن المثنى، قالا: حدّثنا يحيى -وهو ابن سعيد القطان- عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما إلى آخره.
(1) - (بَابُ الْحَثِّ عَلَى كِتَابَةِ الْوَصِيَّةِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4196]
(1627) - (حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ
(2)
-وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى- قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى -وَهُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ- عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ، يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ، إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ) تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
4 -
(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر الْعُمَريّ الفقيه، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
5 -
(نَافِعٌ) مولى ابن عمر المدنيّ الفقيه المشهور، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
6 -
(ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد الله رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب، وكذلك لطائف الإسناد تقدّمت غير مرّة.
(1)
راجع: "قرة عين المحتاج في شرح مقدّمة صحيح مسلم بن الحجاج" 1/ 66 - 67.
(2)
"العنزيّ" بفتحتين: نسبة إلى عَنَزَة، وهو حيّ من ربيعة، قاله السمعانيّ في "الأنساب" 9/ 391.
شرح الحديث:
(عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا حَقُّ امْرِئٍ)؛ أي: ما اللائق به، قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: التعبير بـ "امرئ" خرج مخرج الغالب، فلا فرق في صحّة الوصيّة بين الرجل والمرأة، وسواء كانت متزوّجة، أو غير متزوّجة، أَذِنَ لها زوجها، أو لم يأذن لها، ولو كانت بكرًا، ولم يأذن أبوها لا يختلف الحكم بذلك، فإنه تحصيل قربة أخرويّة عند انقضاء العمر في قدر مأذونٌ فيه شرعًا، والله أعلم. انتهى
(1)
.
(مُسْلِمٍ) قال في "الفتح": كذا في أكثر الروايات، وسقط لفظ "مسلم" من رواية أحمد، عن إسحاق بن عيسى، عن مالك، والوصف بالمسلم خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له، أو ذُكر للتهييج؛ لتقع المبادرة لامتثاله؛ لِمَا يشعر به من نفي الإسلام عن تارك ذلك، ووصيّة الكافر جائزة في الجملة، وحكى ابن المنذر فيه الإجماع، وقد بحث فيه السبكيّ من جهة أن الوصيّة شُرعت زيادةً في العمل الصالح، والكافر لا عمل له بعد الموت، وأجاب بأنهم نظروا إلى أن الوصيّة كالإعتاق، وهو يصحّ من الذّمّيّ، والحربيّ. انتهى
(2)
.
وقوله: (لَهُ شَيءٌ) جملة اسميّة في محل جرّ صفة لـ "امرئ" بعد صفة، وقوله:(يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ) جملة فعليّة في محلّ رفع صفة لـ "شيءٌ"، ولفظ البخاريّ:"له شيء يوصي فيه"، قال ابن عبد البرّ: رحمه الله: لم يَختلف الرواة عن مالك في هذا اللفظ، ورواه أيوب، عن نافع بلفظ:"له شيء يريد أن يوصي فيه"، ورواه عبيد الله بن عمر، عن نافع مثل أيوب، أخرجهما مسلم، ورواه أحمد، عن سفيان، عن أيوب، بلفظ: "حقٌّ على كلّ مسلم أن لا يبيت ليلتين، وله ما يوصي فيه
…
" الحديث، ورواه الشافعيّ، عن سفيان بلفظ: "ما حقّ امرئ، يؤمن بالوصيّة
…
" الحديث، قال ابن عبد البرّ: فسّره ابن عُيينة: أي يؤمن بأنها حقّ. انتهى. وأخرجه أبو عوانة من طريق هشام بن الغاز، عن
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 6/ 192.
(2)
"الفتح" 6/ 664.
نافع، بلفظ: "لا ينبغي لمسلم أن يبيت ليلتين
…
" الحديث، وذكره ابن عبد البرّ، عن سليمان بن موسى، عن نافع مثله. وأخرجه الطبرانيّ من طريق الحسن، عن ابن عمر مثله. وأخرجه الإسماعيليّ من طريق رَوْح بن عُبادة، عن مالك، وابن عون جميعًا عن نافع، بلفظ: "ما حقّ امرئ مسلم له مالٌ، يريد أن يوصي فيه". وذكره ابن عبد البرّ من طريق ابن عون بلفظ:"لا يحلّ لامرئ مسلم، له مالٌ"، وأخرجه الطحاويّ أيضًا، وقد أخرجه النسائيّ من هذا الوجه، ولم يَسُق لفظه. قال أبو عمر: لم يُتابع ابن عون على هذه اللفظة. قال الحافظ: إن عنى عن نافع بلفظها، فمسلّمٌ، ولكن المعنى يمكن أن يكون متّحدًا، كما سيأتي. وإن عَنَى عن ابن عمر، فمردود؛ لِمَا سيأتي قريبًا ذِكْرُ من رواه عن ابن عمر أيضًا بهذا اللفظ.
قال ابن عبد البرّ: قوله: "له مالٌ" أَولى عندي من قول من روى: "له شيء"؛ لأن الشيء يُطلق على القليل والكثير، بخلاف المال.
قال الحافظ: كذا قال، وهي دعوى لا دليل عليها، وعلى تسليمها، فرواية "شيء" أشمل؛ لأنها تعمّ ما يُتموّل، وما لا يُتموّل، كالمختصّات، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: قوله: "له شيء يوصي فيه" عامّ في الأموال، والبنين الصغار، والحقوق التي له، وعليه كلها، من ديون، وكفّارات، وزكوات فرّط فيها، فإذا وصّى بذلك أُخرجت الديون من رأس المال، والكفّارات، والزكوات من ثلثه، على تفصيل يُعرف في الفقه. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "ما حقّ امرئ مسلم": "ما" بمعنى "ليس"، وقوله:"يبيت ليلتين" صفة ثالثة لـ "امرئ"، و"يوصي فيه" صفة "شيءٌ"، والمستثنى خبر
(3)
، يعني: أن قوله: "إلا ووصيته
…
إلخ" خبر "ما" الحجازيّة، أو خبر المبتدأ، وهو "حقُّ امرئ" إن كانت تميميّة، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 6/ 665.
(2)
"المفهم" 4/ 441.
(3)
راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 7/ 2250.
وقوله: (يَبِيتُ) تقدّم أنه صفة ثالثة "لامرئ"، ويجوز أن يكون في محلّ نصب على الحال، أو هي الخبر، ومتعلّق "يبيت" محذوف، تقديره: آمنًا، أو ذاكرًا، وقدّره ابن التين: مَوْعُوكًا، والأول أولى؛ لأن استحباب الوصيّة لا يختصّ بالمريض، نعم قال العلماء: لا يُندب أن يكتب جميع الأشياء المحقّرة، ولا ما جرت العادة بالخروج منه، والوفاء له عن قرب، والله تعالى أعلم، ذكره في "الفتح"
(1)
.
(لَيْلَتَيْنِ) ظرف لـ "يبيتُ"، قال في "الفتح": كذا لأكثر الرواة، ولأبي عوانة، والبيهقيّ من طريق حمّاد بن زيد، عن أيوب:"يبيت ليلة أو ليلتين"، ولمسلم، والنسائيّ من طريق الزهريّ، عن سالم، عن أبيه:"يبيت ثلاث ليال".
وكأنّ ذكر الليلتين، والثلاث لرفع الحرج لتزاحم أشغال المرء التي يحتاج إلى ذكرها، فَفُسح له هذا القدر؛ ليتذكّر ما يحتاج إليه، واختلاف الروايات فيه دالّ على أنه للتقريب، لا للتحديد، والمعنى: لا يمضى عليه زمان، وإن كان قليلًا، إلا ووصيّته مكتوبة.
وفيه إشارة إلى اغتفار الزمن اليسير، وكأن الثلاث غاية للتأخير، ولذلك قال ابن عمر في رواية سالم الآتية:"لم أَبِتْ ليلةً منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك، إلا ووصيتي عندي".
قال الطيبيّ: في تخصيص الليلتين والثلاث بالذكر تسامح في إرادة المبالغة؛ أي: لا ينبغي أن يبيت زمانًا ما، وقد سامحناه في الليلتين والثلاث، فلا ينبغي له أن يتجاوز ذلك.
وقال القرطبيّ: المقصود بذكر الليلتين، أو الثلاث التقريب، وتقليل مدّة ترك كَتْب الوصيّة، ولذلك لمّا سمعه ابن عمر لم يبت ليلة إلا بعد أن كتب وصيّة، والحزم المبادرة إلى كتبها أوّلَ أوقات الإمكان؛ لإمكان بغتة الموت التي لا يأمنها العاقل ساعة.
ويحتمل أن يكون إنما خصّ الليلتين بالذكر فسحة لمن يحتاج إلى أن
(1)
"الفتح" 6/ 665.
ينظر فيما له، وما عليه، فيتحقّق بذلك، وَيتروَّى فيها ما يوصى به، ولمن يوصي إلى غير ذلك. انتهى.
(إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ)" تقدّم أنّ هذه الجملة خبر "ما"، أو خبر المبتدأ، وَيحتمل أن تكون جملة حاليّة مستثناة من أعمّ الأحوال؛ أي: ليس حقّه البيتوتة في حال من الأحوال، إلا في حال كون الوصيّة مكتوبة عنده، والكتابة أعمّ من أن تكون بخطّه، أو بخطّ غيره.
استَدَلّ به أحمد، ومحمد بن نصر المروزيّ من الشافعيّة على جواز الاعتماد على الخطّ، ولو لم يقترن بالشهادة، وهذا عندهم خاصّ بالوصيّة؛ لثبوت الخبر فيها دون غيرها من الأحكام، وأما الجمهور فيشترطون الإشهاد، ولا تثبت الوصيّة عندهم بالكتاب بدون الإشهاد، وحجتهم قوله -عَزَّوَجَّلَ-:{شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ} الآية [المائدة: 106]، وأما حديث الباب فقد أجابوا عنه بأنه لا تعرّض فيه لاشتراط الإشهاد، وعدمه، والمراد أن تكون الوصيّة مكتوبة بشرائطها المعروفة، ومنها الإشهاد، فلا يدلّ ذلك على نفي الاشتراط، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 4196 و 4197 و 4198 و 4199 و 4200](1627)، و (البخاريّ) في "الوصايا"(2738)، و (أبو داود) في "الوصايا"(2862)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(974) و"الوصايا"(2128)، و (النسائيّ) في "الوصايا"(6/ 238 - 239) و"الكبرى"(4/ 100)، و (ابن ماجه) في "الوصايا"(2699)، و (مالك) في "الموطإ"(1492) و"الوصايا"(3175)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 306)، و (أحمد) في "مسنده"(4455 و 4564 و 4884 و 5097 و 5175)، و (الدارميّ) في "سننه"(3046)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 197)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 238)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 471 و 472 و 473)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(13/ 383)،
و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(1/ 203 و 208 و 278)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(4/ 150)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 271 - 272) و"الصغرى"(6/ 51) و"المعرفة"(5/ 95)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): الحثّ على كتابة الوصيّة.
2 -
(ومنها): الحضّ على الوصيّة، ومطلقها يتناول الصحيح، لكن السلف خصّوها بالمريض، وإنما لم يقيّد به في الخبر؛ لاطّراد العادة به.
3 -
(ومنها): أنه يُستفاد منه أن الأشياء المهمّة ينبغي أن تضبط بالكتابة؛ لأنها أثبت من الضبط بالحفظ؛ لأنه يخون غالبًا.
4 -
(ومنها): أنه استُدلّ بقوله: "مكتوبةٌ عنده" على جواز الاعتماد على الكتابة والخطّ، ولو لم يقترن ذلك بالشهادة.
وخصّ أحمد، ومحمد بن نصر من الشافعيّة ذلك بالوصيّة؛ لثبوت الخبر فيها دون غيرها من الأحكام.
وأجاب الجمهور بأن الكتابة ذُكرت لِمَا فيها من ضبط المشهود به، قالوا: ومعنى "وصيّته مكتوبة عنده"؛ أي: بشرطها، وقال المحبّ الطبريّ: إضمار الإشهاد فيه بُعْدٌ.
وأجيب بأنهم استدلّوا على اشتراط الإشهاد بأمر خارج، كقوله تعالى:{شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ} الآية [المائدة: 106]، فإنه يدلّ على اعتبار الإشهاد في الوصيّة.
وقال القرطبيّ: ذِكْرُ الكتابة مبالغةٌ في زيادة التوثّق، وإلا فالوصيّة المشهود بها متّفقٌ عليها، ولو لم تكن مكتوبة، والله تعالى أعلم.
5 -
(ومنها): أنه استُدلّ بقوله أيضًا: "وصيّته مكتوبة عنده" على أن الوصيّة تنفذ، وإن كانت عند صاحبها، ولم يجعلها عند غيره، وكذلك إن جعلها عند غيره، وارتجعها.
6 -
(ومنها): أن فيه منقبةً لابن عمر رضي الله عنهما؛ لمبادرته لامتثال قول الشارع، ومواظبته عليه، حيث يقول -كما سيأتي-:"ما مرّت عليّ ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك إلا وعندي وصيّتي".
7 -
(ومنها): أن فيه الندبَ إلى التأهّب للموت، والاحتراز قبل الفوت؛ لأن الإنسان لا يدري متى يفجؤه الموت؛ لأنه ما من وقت يُفرض إلا وقد مات فيه جمعٌ جمّ، وكلّ واحد بعينه جائزٌ أن يموت في الحال، فينبغي أن يكون متأهّبًا لذلك، فيكتب وصيّته، ويجمع فيها ما يحصل له به الأجر، ويُحبط عنه الوزر، من حقوق الله تعالى، وحقوق عباده، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الوصيّة:
قال العلّامة ابن قُدامة رحمه الله في "المغني": لا تجب الوصيّة إلا على من عليه دينٌ، أو عنده وديعةٌ، أو عليه واجبٌ يوصي بالخروج منه؛ فإن الله تعالى فرض أداء الأمانات، وطريقه في هذا الباب الوصيّة، فتكون مفروضة عليه، فأما الوصيّة بجزء من ماله، فليست بواجبة على أحد، في قول الجمهور، وبذلك قال الشعبيّ، والنخعيّ، والثوريّ، ومالكٌ، والشافعيّ، وأصحاب الرأي، وغيرهم.
وقال ابن عبد البرّ: أجمعوا على أن الوصيّة غير واجبة، إلا على من عليه حقوق بغير بيّنة، وأمانة بغير إشهاد، إلا طائفة شذّت، فأوجبتها، روي عن الزهريّ أنه قال: جعل الله الوصيّة حقًّا مما قلّ، أو كثُر، وقيل لأبي مِجْلَز: على كلّ ميت وصيّةٌ؟ قال: إن ترك خيرًا. وقال أبو بكر عبد العزيز: هي واجبةٌ للأقربين الذين لا يرثون، وهو قول داود، وحُكي ذلك عن مسروق، وطاوس، وإياس، وقتادة، وابن جرير.
واحتجّوا بالآية، وخبر ابن عمر، وقالوا: نُسخت الوصيّة للوالدين والأقربين الوارثين، وبقيت فيمن لا يرث من الأقربين.
واحتجّ الأولون بأن أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُنقل عنهم وصيّةٌ، ولم يُنقل لذلك نكير، ولو كانت واجبةً لم يُخِلّوا بذلك، ولنُقِل عنهم نقلًا ظاهرًا. انتهى المقصود من كلام ابن قدامة رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": واستدلّ بحديث ابن عمر رضي الله عنهما المذكور في الباب مع
(1)
"المغني" 8/ 390 - 391.
ظاهر آية: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} الآية [البقرة: 18] على وجوب الوصيّة، وبه قال الزهريّ، وأبو مِجْلَز، وعطاء، وطلحة بن مصرّف في آخرين، وحكاه البيهقيّ عن الشافعيّ في القديم، وبه قال إسحاق، وداود، واختاره أبو عوانة الإسفراينيّ، وابن جرير، وآخرون، ونَسَبَ ابنُ عبد البرّ القول بعدم الوجوب إلى الإجماع، سوى من شذّ، كذا قال.
قال الجامع عفا الله -عَزَّوَجَلَّ- عنه: قوله: "كذا قال" إشارة من صاحب "الفتح" إلى الاعتراض على ابن عبد البرّ في دعواه الإجماع، وهو حقيقٌ بالاعتراض عليه، كيف يدّعي الإجماع، وقد سبق قول كثير من أهل العلم به؟ إن هذا لهو العجب، والله تعالى أعلم.
قال: واستُدلّ لعدم الوجوب من حيث المعنى؛ لأنه لو لم يوص لقُسم جميع ماله بين ورثته بالإجماع، فلو كانت الوصتة واجبة لأخرج من ماله سهم ينوب عن الوصيّة.
وأجابوا عن الآية بأنها منسوخة، كما قال ابن عبّاس رضي الله عنهما:"كان المال للولد، وكانت الوصيّة للوالدين، فنسخ الله من ذلك ما أحبّ، فجعل لكلّ واحد من الأبوين السدس، وجعل للمرأة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع" رواه البخاريّ.
وأجاب من قال بالوجوب بأن الذي نُسِخ الوصيّة للوالدين والأقارب الذين يرثون، وأما الذي لا يرث، فليس في الآية، ولا في تفسير ابن عبّاس ما يقتضي النسخ في حقّه.
وأجاب من قال بعدم الوجوب عن قوله في الحديث: "ما حقّ امرئ" بأن المراد الحزم والاحتياط؛ لأنه قد يفجؤه الموت، وهو على غير وصيّة، ولا ينبغي للمؤمن أن يغفل عن ذكر الموت والاستعداد له، وهذا عن الشافعيّ، وقال غيره: الحقّ لغةً الشيء الثابت، ويُطلق شرعًا على ما ثبت به الحكم، والحكم الثابت أعمّ من أن يكون واجبًا، أو مندوبًا، وقد يُطلق على المباح أيضًا، لكن بقلّة، قاله القرطبيّ. قال: فإن اقترن به "على"، أو نحوها، كان ظاهرًا في الوجوب، وإلا فهو على الاحتمال، وعلى هذا التقدير فلا حجة في هذا الحديث لمن قال بالوجوب، بل اقترن هذا الحقّ بما يدلّ على الندب،
وهو تفويض الوصيّة إلى إرادة الموصي، حيث قال:"له شيء يريد أن يوصي فيه"، فلو كانت الوصيّة واجبة، لما علّقها بإرادته.
وأما الجواب عن الرواية التي بلفظ "لا يحلّ" فلاحتمال أن يكون راويها ذكرها، وأراد بنفي الحلّ ثبوت الجواز بالمعنى الأعمّ الذي يدخل تحته الواجب، والمندوب، والمباح.
واختلف القائلون بوجوب الوصيّة، فأكثرهم ذهب إلى وجوبها في الجملة، وعن طاوس، وقتادة، والحسن، وجابر بن زيد في آخرين: تجب للقرابة الذين لا يرثون خاصّة، أخرجه ابن جرير وغيره عنهم، قالوا: فإن أوصى لغير قرابته لم تنفذ، ويردّ الثلث كلّه إلى قرابته، وهذا قول طاوس، وقال الحسن، وجابر بن زيد: ثلثا الثلث، وقال قتادة: ثلث الثلث. وأقوى ما يردّ على هؤلاء ما احتجّ به الشافعيّ من حديث عمران بن حُصين رضي الله عنهما في قصّة الذي أعتق عند موته ستّة أعبد له، لم يكن له مالٌ غيرهم، فدعاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجزّأهم ستّة أجزاء، فأعتق اثنين، وأرقّ أربعة، قال: فجعل عتقه في المرض وصيّة، ولا يقال: لعلّهم كانوا أقارب المعتق؛ لأنا نقول: لم تكن عادة العرب أن تملك من بينها وبينه قرابة، وإنما تملك من لا قرابة له، أو كان من العجم، فلو كانت الوصيّة تبطل لغير القرابة لبطلت في هؤلاء، وهذا استدلالٌ قويّ، والله أعلم.
ونقل ابن المنذر عن أبي ثور أن المراد بوجوب الوصيّة في الآية والحديث، يختصّ بمن عليه حقّ شرعيّ، يَخشَى أن يضيع على صاحبه إن لم يوص به، كوديعة، ودَيْن لله، أو لآدميّ، قال: ويدلّ على ذلك تقييده بقوله: "له شيء يريد أن يوصي فيه"؛ لأنه فيه إشارة إلى قدرته على تنجيزه، ولو كان مؤجّلًا، فإن أراد ذلك ساغ له، وإن أراد أن يوصي به ساغ له.
وحاصله يرجع إلى قول الجمهور: إن الوصيّة غير واجبة لعينها، وإن الواجب لعينه الخروج من الحقوق الواجبة للغير، سواء كانت بتنجيز، أو وصيّة، ومحلّ وجوب الوصيّة إنما هو فيما إذا كان عاجزًا عن تنجيز ما عليه، وكان لم يعلم بذلك غيره، ممن يثبت الحقّ بشهادته، فأما إذا كان قادرًا، أو علم بها غيره، فلا وجوب.
وعُرف من مجموع ما ذكرنا أن الوصيّة قد تكون واجبةً، وقد تكون مندوبةً فيمن رجا منها كثرة الأجر، ومكروهةً في عكسه، ومباحة فيمن استوى الأمران فيه، ومحرّمة فيما إذا كان فيها إضرارٌ، كما ثبت عن ابن عبّاس رضي الله عنهما:"الإضرار في الوصيّة من الكبائر". رواه سعيد بن منصور موقوفًا بإسناد صحيح، ورواه النسائيّ، ورجاله ثقات.
واحتجّ ابن بطّال تبعًا لغيره بأن ابن عمر رضي الله عنهما لم يوص، فلو كانت الوصيّة واجبةً لَمَا تركها، وهو راوي الحديث.
وتُعُقّب بأن ذلك إن ثبت عن ابن عمر، فالعبرة بما روى، لا بما رأى، على أن الثابت عنه في "صحيح مسلم"، كما تقدّم أنه قال:"لم أبت ليلةً إلا ووصيّتي مكتوبةٌ عندي". والذي احتجّ بأنه لم يوص اعتمد على ما رواه حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، قال:"قيل لابن عمر في مرض موته: ألا توصي؟ قال: أما مالي، فالله يعلم ما كنت أصنع فيه، وأما رِبَاعي، فلا أحبّ أن يُشارك ولدي فيها أحد"، أخرجه ابن المنذر وغيره بإسناد صحيح.
ويُجمع بينه وبين ما رواه مسلم بالحمل على أنه كان يكتب وصيّته، ويتعاهدها، ثم صار يُنجز ما كان يوصي به معلّقًا، وإليه الإشارة بقوله: فالله يعلم ما كنت أصنع في مالي. ولعلّ الحامل له على ذلك حديثه الذي أخرجه البخاريّ من طريق الأعمش، قال: حدثني مجاهد، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال:"كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل"، وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت، فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.
فصار يُنجز ما يريد التصدّق به، فلم يَحتج إلى تعليق.
وقد علّق البخاريّ في "الوصايا"، قال:"وجعل ابن عمر نصيبه من دار عمر سُكنى لذوي الحاجات من آل عبد الله"، وقد وصله ابن سعد بمعناه، وفيه:"أنه تصدّق بداره محبوسة، لا تباع، ولا توهب"، فبهذا يحصل التوفيق. أفاده في "الفتح".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الأرجح هو ما ذهب إليه الجمهور من أن الوصيّة قد تكون واجبة، كالوصيّة بحقوق الله تعالى
الواجبة، وحقوق الآدميين، وقد تكون غير واجبة، فالأدلة التي تقتضي الوجوب تُحمل على ما إذا كان عليه حقّ واجب، وغيرها يُحمل على غيره، وبهذا تجتمع الأدلّة الواردة في هذا الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في قدر المال الذي تُشْرَع فيه الوصيّة: قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: اختلف السلف في مقدار المال الذي تستحب فيه الوصيّة، أو تجب عند من أوجبها، فروي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: ستمائة درهم، أو سبعمائة درهم ليس بمال فيه وصيّة، وروي عنه أنه قال: ألف درهم مالٌ، فيه وصيّة. وقال ابن عباس: لا وصيّة في ثمانمائة درهم. وقالت عائشة رضي الله عنها في امرأة لها أربعة من الولد، ولها ثلاثة آلاف درهم: لا وصيّة في مالها. وقال إبراهيم النخعيّ: ألف درهم إلى خمسمائة درهم. وقال قتادة في قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180]: الخير ألف، فما فوقها. وعن عليّ: من ترك مالًا يسيرًا، فليدَعْه لورثته، فهو أفضل. وعن عائشة فيمن ترك ثمانمائة: لم يترك خيرًا، فلا يوصي، أو نحو هذا من القول. وحكى ابن حزم عن عائشة أنها قالت فيمن ترك أربعمائة دينار: ما في هذا فضل عن ولده. وقال أبو الفرج السرخسيّ من الشافعيّة: إن من قلّ ماله، وكثر عياله يستحبّ أن لا يفوّته عليهم بالوصيّة. والصحيح المعروف عند الشافعيّة استحباب الوصيّة لمن له مالٌ مطلقًا. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله
(1)
.
وقال العلامة ابن قدامة رحمه الله بعد أن حكى نحو الخلاف المذكور ما نصّه: والذي يَقْوَى عندي أنه متى كان المتروك لا يفضل عن غنى الورثة، فلا تستحبّ الوصيّة؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم علّل المنع من الوصيّة بقوله:"أن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدَعَهم عالة"؛ ولأن إعطاء القريب المحتاج خير من إعطاء الأجنبيّ، فمتى لم يبلغ الميراث غناهم، كان ترْكه لهم كعطيّتهم إياه، فيكون ذلك أفضل من الوصيّة لغيرهم، فعند هذا يختلف الحال باختلاف الورثة في
(1)
"طرح التثريب" 6/ 188 - 189.
كثرتهم وقلّتهم، وغناهم، وحاجتهم، فلا يتقيّد بقدر من المال، والله أعلم. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله ابن قُدامة رحمه الله عندي تفصيلٌ حسن جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4198]
(
…
) - (وَحَدَّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ (ح) وَحَدَّثنا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، كِلَاهُمَا عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، بِهَذَا اِلإسْنادِ، غَيْرَ أَنَّهُمَا قَالَا:"وَلَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ"، وَلَمْ يَقُولَا:"يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الكلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [8](ت 187) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 339.
3 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم قبل باب.
4 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم أيضًا قبل باب.
و"عُبيد الله" ذُكر قبله.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ عُبَيْدِ اللهِ) الضمير لعبد الله بن نُمير، وعبدة بن سليمان؛ يعني: أنهما رويا هذا الحديث عن عبيد الله بن عمر العمريّ بسنده السابق.
[تنبيه]: رواية عبد الله بن نُمير، عن عبيد الله بن عُمر الْعُمَريّ ساقها الترمذيّ في "جامعه"، فقال:
(974)
- حدّثنا إسحاق بن مَنْصُورٍ، أخبرنا عبد اللهِ بن نُمَيْرٍ، حدّثنا عُبَيْدُ اللهِ بن عُمَرَ، عن نَافِعٍ، عن ابن عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "ما حَقُّ
(1)
"المغني" 8/ 392 - 393.
امْرِيءٍ مُسْلِمٍ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ، وَلَهُ شَيْءٌ يُوصِي فيه، إلا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَة عِنْدَهُ"، قال أبو عِيسَى: حَدِيثُ ابن عُمَرَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. انتهى
(1)
.
وأما رواية عبدة بن سليمان، عن عبيد الله، فلم أر من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4198]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا
(2)
أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ -يَعْنِي: ابْنَ زيدٍ- (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -يَعْنِي: ابْنَ عُلَيَّةَ- كِلَاهُمَا عَنْ أَيُّوبَ (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ (ح) وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ بْنُ زيدٍ اللَّيْثِيُّ (ح) وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ -يَعْني: ابْنَ سَعْدٍ- كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللهِ، وَقَالُوا جَمِيعًا:"لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ"، إِلَّا فِي حَدِيثِ أَيُّوبَ، فَإِنَّهُ قَالَ:"يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ"، كَرِوَايَةِ يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة عشر:
1 -
(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فُضيل بن الحسين الكوفيّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 237)(خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
2 -
(حَمَّادُ بْنُ زيدِ) بن درهم الأزديّ الْجَهْضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه، من كبار [8](ت 179) وله (81) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
3 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السَّرْح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
4 -
(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ) السعديّ مولاهم، أبو جعفر، نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253) وله (83) سنة (م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.
5 -
(أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ اللَّيْثِيُّ) مولاهم، أبو زيد المدنيّ، صدوق يَهِمُ [7](ت 153)(خت م 4) تقدم في "الصلاة" 42/ 1085.
(1)
"سنن الترمذيّ" 3/ 304.
(2)
وفي نسخة: "حدّثني".
6 -
(هِشَامُ بْنُ سَعْدِ) المدنيّ، أبو عبّاد، أو أبو سعد، صدوق له أوهام، ورُمي بالتشيّع، من كبار [7](160) أو قبلها (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 87/ 463.
والباقون ذُكروا في الباب والبابين قبله، و"ابن أبي فُديك" هو: محمد بن إسماعيل بن مسليم المدنيّ.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ)؛ أي: كلّ هؤلاء الأربعة: أيوب السختيانيّ، ويونس بن يزيد الأيليّ، وأسامة بن زيد الليثيّ، وهشام بن سعد رووا هذا الحديث عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، بمثل رواية عبيد الله العمريّ، عن نافع المذكور قبله.
[تنبيه]: رواية حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع ساقها البيهقيّ في "الكبرى"، فقال:
(12965)
- أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ: عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِئُ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا يُوسفُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَهُ مَالٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ، لَيْسَتْ وَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةً عِنْدَهُ". انتهى
(1)
.
ورواية ابن عليّة، عن أيوب، عن نافع، ساقها الإمام أحمد في "مسنده" فقال:
(5118)
- حدّثنا إسماعيل، ثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ما حقّ امرئ يبيت ليلتين، وله ما يريد أن يوصي فيه، إلا ووصيته مكتوبة عنده". انتهى
(2)
.
وأما رواية ابن وهب، عن يونس، وأسامة بن زيد، كلاهما عن نافع، فقد ساقها البيهقيّ في "الصغرى"، فقال:
(2415)
- أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، وَأَبُو بَكْرٍ الْقَاضِي، وَأَبُو زَكَرِيَّا الْمُزَكِّي، قَالُوا: ثنا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ
(1)
"السنن الكبرى" للبيهقيّ 2/ 110.
(2)
"مسند أحمد" 2/ 50.
عَبْدِ الْحَكَمِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، وَأُسَامَةُ بْنُ زيدٍ اللَّيْثِيُّ، أَنَّ نَافِعًا، حَدَّثَهُمْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَا حَقُّ امْرِيءٍ مُسْلِمٍ، لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ". انتهى
(1)
.
وأما رواية هشام بن سعد، عن نافع، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4199]
(
…
) - (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْب، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو -وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ- عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ ثَلَاثَ لَيَالٍ، إِلا وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ"، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: مَا مَرَّتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ، إِلَّا وَعِنْدِي وَصِيَّتِي).
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ) الْخزّاز الضرير، أبو عليّ المروزيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 231)(خ م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 350.
2 -
(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب المصريّ الحافظ، تقدّم قبل بابين.
3 -
(سَالِمُ) بن عبد الله بن عمر، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديثين، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4200]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ (ح) وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، حَدَّثَني عُقَيْلٌ (ح) وَحَدَّثنَا
(2)
ابْنُ أَبِي عُمَرَ، وَعَبْدُ بْنُ
(1)
"السنن الصغرى" 2/ 190.
(2)
وفي نسخة: "ثني".
حُمَيْدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة عشر:
1 -
(حَرْمَلَةُ) بن يحيى، تقدّم قبل باب.
2 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ) تقدّم قريبًا.
3 -
(أَبُوهُ) شعيب بن الليث، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(عُقَيْلُ) بن خالد الأيليّ، تقدّم قريبًا.
5 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قبل باب.
والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ)؛ يعني: أن كلّ هؤلاء الثلاثة: يونس بن يزيد الأيليّ، وعُقيل بن خالد الأيليّ، ومعمر بن راشد رووا هذا الحديث عن الزهريّ بسنده الماضي، نحو رواية عمرو بن الحارث المذكورة في الحديث الماضي.
[تنبيه]: رواية يونس بن يزيد، عن الزهريّ ساقها النسائيّ مقرونة برواية عمرو بن الحارث، فقال:
(3619)
- أخبرنا أَحْمَدُ بن يحيى بن الْوَزِيرِ بن سُلَيْمَانَ، قال: سمعت ابن وَهْبٍ قال: أخبرني يُونُسُ، وَعَمْرُو بن الحارث، عن ابن شِهَاب، عن سَالِمِ بن عبد اللهِ، عن أبيه، عن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:"ما حَقُّ امْرِئٍ مُسلِمٍ، له شَيءٌ يُوصَى فيه، فَيَبِيتُ ثَلَاثَ لَيَالٍ، إلا وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ". انتهى.
وأما رواية عُقيل، عن الزهريّ، فقد ساقها أبو عوانة في "مستخرجه"، فقال:
(4640)
- حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَقِيلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَنْ يَبِيتَ ثَلاثًا، إِلا وَعِنْدَهُ وَصِيَّتُهُ"،
قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ اللهِ لا تَمُرُّ بِهِ ثَلاثُ لَيَالٍ إِلا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ. انتهى
(1)
.
وأما رواية معمر، عن الزهريّ فقد ساقها عبد بن حُميد في "مسنده"، فقال:
(727)
- أخبرنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن الزهريّ، عن سالم، عن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما حقّ امرئ مسلم، تَمُرّ عليه ثلاث ليال، إلا ووصيته عنده"، قال ابن عمر: فما مَرَّت عليّ ثلاث قطّ، إلا ووصيتي عندي. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[(2) - (بَابُ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ)]
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4201]
(1628) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: عَادَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، مِنْ وَجَعٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، بَلَغَنِي
(3)
مَا تَرَى مِنَ الْوَجَعِ، وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي
(4)
وَاحِدَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيّ مَالِي؟، قَالَ:"لَا"، قَالَ: قُلْتُ: أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ؟ قَالَ: "لَا، الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً، يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ، إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى اللُّقْمَةُ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ"، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُخَلَّفُ
(5)
بَعْدَ أَصْحَابِي؟ قَالَ: "إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ، فَتَعْمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللهِ، إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً، وَلَعَلَّكَ تُخَلَّفُ حَتَّى يُنْفَعَ
(6)
بِكَ أَقْوَامٌ، وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ، اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ ابْنُ خَوْلَةَ"، قَالَ: رَثَى لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَنْ تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ).
(1)
"مستخرج أبي عوانة" 7/ 3.
(2)
"مسند عبد بن حميد" 1/ 238.
(3)
وفي نسخة: "بلغ بي".
(4)
وفي نسخة: "إلا بنت لي".
(5)
وفي نسخة: "أتخلّف أصحابي".
(6)
وفي نسخة: "حتى ينتفع".
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) النيسابوريّ الإمام، تقدّم قبل باب.
2 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، ثقةٌ حجة، تُكُلِّم فيه بلا قادح [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
3 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ الإمام الشهير، تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(عَامِرُ بْنُ سَعْدِ) بن أبي وقّاص الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 104)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.
5 -
(أَبُوهُ) سعد بن أبي وقّاص مالك بن وُهيب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب الزهريّ، أبو إسحاق الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (55)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه مسلسلٌ بالمدنيين، وشيخه، وإن كان نيسابوريًّا إلا أنه دخل المدينة، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، ورواية الابن عن أبيه، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، ذو مناقب جمّة، فهو من السابقين إلى الإسلام، وأحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وهو آخرهم موتًا، مات بالعقيق سنة (55) على المشهور، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ) بن أبي وقّاص (عَنْ أَبِيهِ) سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه أنه (قَالَ: عَادَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: زارني، يقال: عُدتُ المريض عِيَادةً: زُرتُهُ، فالرجل عائد، وجمعه عُوّادٌ، والمرأة عائدةٌ، وجمعها عُوّدٌ بغير ألف، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
، وقال القرطبيّ رحمه الله: ولا يقال ذلك إلا لزيارة المريض، فأما الزيارة، فأكثرها للصحيح، وقد تقال للمريض، وأما قوله تعالى:{حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)} [التكاثر: 2] فكناية عن الموت. انتهى
(2)
.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 436.
(2)
"المفهم" 4/ 543.
وفيه استحباب عيادة المريض، وأنها مستحبة للإمام، كاستحبابها لآحاد الناس
(1)
.
(فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ) قال في "الفتح": اتَّفَقَ أصحابُ الزهريّ على أن ذلك كان في حجة الوداع، إلا ابن عيينة، فقال:"في فتح مكة"، أخرجه الترمذيّ وغيره من طريقه، واتَّفَقَ الحفاظ على أنه وَهِمَ فيه، وقد أخرجه البخاريّ في "الفرائض" من طريقه، فقال:"بمكة"، ولم يذكر الفتح.
قال الحافظ رحمه الله: وقد وجدت لابن عيينة مُستندًا فيه، وذلك فيما أخرجه أحمد، والبزار، والطبرانيّ، والبخاريّ في "التاريخ"، وابن سعد من حديث عمرو بن القاريّ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدِمَ، فَخَلَّف سعدًا مريضًا حيث خرج إلى حُنين، فلما قَدِمَ من الجعرانة معتمرًا دخل عليه، وهو مغلوبٌ، فقال: يا رسول الله إن لي مالًا، وإني أُورَثُ كلالةً، أفأوصي بمالي
…
" الحديث، وفيه: "قلت: يا رسول الله، أميت أنا بالدار التي خرجت منها مهاجرًا؟ قال: لا، إني لأرجو أن يرفعك الله، حتى ينتفع بك أقوام"، الحديث.
فلعل ابن عُيينة انتقل ذهنه من حديث إلى حديث، ويمكن الجمع بين الروايتين بأن يكون ذلك وقع له مرّتين: مرةً عام الفتح، ومرةً عام حجة الوداع، ففي الأولى لم يكن له وارث من الأولاد أصلًا، وفي الثانية كانت له ابنة فقط، فالله أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الجمع الذي ذكره الحافظ رحمه الله جمع حسنٌ، إلا أن الحديث المذكور ضعيفٌ؛ لأن في إسناده عمرو بن القاريّ، وهو مجهول
(3)
، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.
(مِنْ وَجَعٍ)؛ أي: لأجل وجع، فـ "من" تعليليّة، و"الوَجَعُ" بفتحتين، كالمرض وزنًا ومعنًى، قال إبراهيم الحربيّ: الوَجَع اسم لكلّ مرض
(4)
، وقال الفيّوميّ رحمه الله: وَجِعَ فلانًا رأسُهُ، أو بطنُهُ، يُجْعَل الإنسانُ مفعولًا، والعضو
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 76.
(2)
"الفتح" 6/ 674 - 675.
(3)
راجع: "المسند" المحقّق بإشراف الشيخ شعيب الأرنؤوط 27/ 125.
(4)
راجع: "شرح النوويّ" 11/ 76.
فاعلًا، وقد يجوز العكس، وكأنه على القلب؛ لفهم المعنى، يَوْجَعُ وَجَعًا، من باب تَعِبَ، فهو وَجِعٌ؛ أي: مريضٌ مُتَأَلِّمٌ، ويقع الوَجَعُ على كلّ مرض، وجمعه: أَوْجَاعٌ، مثلُ سَبَبٍ وأسباب، ووِجَاعٌ أيضًا بالكسر، مثلُ جَبَلٍ وجِبَالٍ، وقومٌ وَجِعُونَ، وَوَجْعَى، مثلُ مَرْضَى، ونساء وَجِعَاتٌ، ووَجَاعَى، وربما قيل: أَوْجَعَهُ رأسُهُ، بالألف، والأصل: وَجَعَهُ أَلَمُ رأسه، وأَوْجَعَهُ ألم رأسه، لكنه حُذِف للعِلم به، وعلى هذا، فيقال: فلانٌ مَوْجُوعٌ، والأجود مَوْجُوعُ الرأسِ، وإذا قيل: زيد يَوْجَعُ رأسَهَ، بحذف المفعول انتصَبَ الرأسُ، وفي نصبه قولان: قال الفراء: وَجِعْتَ بَطْنَكَ، مثلُ رَشِدتَ أَمْرَك، فالمعرفة هنا في معنى النكرة، وقال غير الفَّراءِ: نُصِبَ البطنُ بنزع الخافض، والأصل: وَجِعْتَ من بطنك، ورَشِدتَ في أمرك؛ لأن المفسّرات عند البصريّين لا تكون إلا نكرات، وهذا على القول بجعل الشخص مفعولًا واضح، أما إذا جُعِل الشخص فاعلًا، والعضو مفعولًا، فلا يُحتاج إلى هذا التّأويل، وتَوَجَّعَ: تشكّى، وتَوَجَّعْتُ له من كذا: رَثَيتُ له. انتهى كلام الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
(أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ)؛ أي: قاربته، وأشرفتُ عليه، يقال: أشفى عليه، وأشاف، قاله الهرويّ، وقال ابن قتيبة: لا يقال: أشفى إلا في الشرّ. انتهى
(2)
.
(فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، بَلَغَنِي) وفي بعض النسخ: "بَلَغَ بي"(مَا تَرَى)"ما" موصولة فاعل "بلغ"، وقوله:(مِنَ الْوَجَعِ) بيان لـ "ما"(وَأَنَا ذُو مَالٍ)؛ أي: كثير، فالتنوين للتعظيم، قال النوويّ رحمه الله: وفيه دليلٌ على إباحة جمع المال؛ لأن هذه الصيغة لا تُستعمل في العُرف إلا لمال كثير. انتهى
(3)
.
وفيه جواز ذكر المريض ما يجده من شدّة الوجع؛ لغرض صحيح، من مداواة، أو دعاء صالح، أو وصية، أو استفتاء عن حاله، ونحو ذلك، وإنما
(1)
"المصباح المنير" 2/ 648 - 649 وتقدّم نقل كلام الفيّوميّ هذا في هذا الشرح برقم (66/ 371) وإنما أعدته؛ لطول العهد به، فتنبّه.
(2)
"شرح النوويّ" 11/ 76.
(3)
"شرح النوويّ" 11/ 76.
يُكره من ذلك ما كان على سبيل التسخط ونحوه، فإنه قادح في أجر مرضه
(1)
.
(وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ) وفي نسخة: "إلا بنتٌ"(لِي وَاحِدَةٌ) وفي الرواية الآتية: "وإنما يرثني ابنتي"، وفي رواية:"ولم يكن له يومئذ إلا ابنة"، قال النوويّ وغيره: معناه: لا يرثني من الولد، أو من خواصّ الورثة، أو من النساء، وإلا فقد كان لسعد عصبات؛ لأنه من بني زُهْرة، وكانوا كثيرًا، وقيل: معناه: لا يرثني من أصحاب الفروض، زاد في "الفتح": أو خصّها بالذكر على تقدير: لا يرثني ممن أخاف عليه الضياع والعجز إلا هي، أو ظنّ أنها ترث جميع المال، أو استكثر لها نصف التركة.
قال الحافظ رحمه الله: وهذه البنت زعم بعض من أدركناه أن اسمها عائشة، فإن كان محفوظًا فهي غير عائشة بنت سعد التي روت هذا الحديث عنده، فهي تابعية عُمِّرت حتى أدركها مالك، ورَوَى عنها، وماتت سنة سبع عشرة، لكن لم يذكر أحد من النسابين لسعد بنتًا تُسَمَّى عائشة غير هذه، وذكروا أن أكبر بناته أم الحكم الكبرى، وأمها بنت شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زُهْرة، وذكروا له بنات أخرى أمهاتهنّ متأخرات الإسلام بعد الوفاة النبوية، فالظاهر أن البنت المشار إليها هي أم الحكم المذكورة؛ لتقدُّم تزويج سعد بأمها، قال: ولم أر من حَرَّر ذلك. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(2)
.
(أفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيّ مَالِي؟) وفي الرواية الآتية: "فقلت: أوصي بمالي كلّه؟ "، قال في "الفتح": فأما التعبير بقوله: "أفأتصدّق"، فيَحْتَمِل التنجيزَ والتعليقَ، بخلاف "أفاوصي"، لكن المخرج متّحد، فَيُحْمَل على التعليق للجمع بين الروايتين، وقد تمسّك بقوله:"أتصدّق" مَنْ جعلَ تبرّعات المريض من الثلث، وحملوه على المنجّزة، وفيه نظرٌ؛ لما بيّنته.
وأما الاختلاف في السؤال، فكأنه سأل أوّلًا عن الكلّ، ثم سأل عن الثلثين، ثم سأل عن النصف، ثم سأل عن الثلث، وقد وقع مجموع ذلك في رواية جرير بن يزيد عند أحمد، وفي رواية بُكير بن مِسمار عند النسائيّ،
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 76.
(2)
"الفتح" 6/ 681، كتاب "الوصايا" رقم (2742).
كلاهما عن عامر بن سعد، وكذا أوّلهما من طريق محمد بن سعد، عن أبيه، ومن طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن سعد. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "أفأتصدق بثلثي مالي؟ " يَحْتَمِل أنه أراد بالصدقة الوصية، ويَحْتَمِل أنه أراد الصدقة المنجَّزة، وهما عندنا، وعند العلماء كافّةً سواءٌ، لا ينفذ ما زاد على الثلث إلا برضا الوارث، وخالف أهل الظاهر فقالوا: للمريض مرض الموت أن يتصدق بكل ماله، ويتبرع به كالصحيح، ودليل الجمهور ظاهر حديث:"الثلث كثير"، مع حديث الذي أعتق ستة أعبد في مرضه، فأعتق النبيّ صلى الله عليه وسلم اثنين، وأَرَقَّ أربعةً
(2)
، رواه مسلم.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَا")؛ أي: لا ينبغي لك أن تتصدّق بثلثي مالك (قَالَ) سعد (قُلْتُ: أفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ؟)؛ أي: نصفه، وفي الرواية الآتية:"قلت: فالنصفِ؟ "، وهو بالجرّ عطفًا على قوله:"بثلثي مالي"؛ أي: فأتصدّق بالنصف؟ وهذا رجّحه السهيليّ، وقال الزمخشريّ: هو بالنصب على تقدير فعل؛ أي: أُسمّي الشطر؟ أو: أُعيّن الشطر، ويجوز الرفع على تقدير: أيجوز الشطرُ.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَا، الثُّلُثُ) هكذا هذه الرواية فيها اختصار، يوضّحه ما في الرواية الآتية:"قال: فالثلث؟، قال: الثلث، والثلث كثير".
قال النوويّ رحمه الله: "كثير" بالمثلثة، وفي بعض الرواية بالموحّدة، وكلاهما صحيح، قال القاضي عياض: يجوز نصب "الثلث" الأول، ورفعه، أما النصب فعلى الإغراء، أو على تقدير: افْعَل؛ أي: أَعْطِ الثلثَ، وأما الرفع فعلى أنه فاعل؛ أي: يكفيك الثلثُ، أو أنه مبتدأ، وحُذِف خبره، أو خبرٌ محذوف المبتدأ. انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح": قوله: "قلت: الثلثُ؟، قال: فالثلثُ، والثلث كثير" كذا في أكثر الروايات، وفي رواية الزهريّ عند البخاريّ في "الهجرة":"قال: الثلثُ يا سعد، والثلث كثير"، وفي رواية عائشة بنت سعد عن أبيها عند
(1)
"الفتح" 6/ 677.
(2)
"شرح النوويّ" 11/ 77.
(3)
"شرح النوويّ" 11/ 76 - 77.
البخاريّ: "قال: الثلثُ، والثلث كبير، أو كثير"، وكذا للنسائيّ من طريق أبي عبد الرحمن السُّلَميّ، عن سعد، وفيه:"فقال: أوصيتَ؟ فقلت: نعم، قال: بكم؟ قلت: بمالي كله، قال: فما تركت لولدك؟ "، وفيه:"أَوْصِ بالعُشر، قال: فما زال يقول، وأقول، حتى قال: أوصِ بالثلث، والثلث كثير، أو كبير"؛ يعني: بالمثلثة، أو بالموحدة، وهو شكّ من الراوي، والمحفوظ في أكثر الروايات بالمثلثة، ومعناه: كثير بالنسبة إلى ما دونه.
قال: وقوله: "قال: الثلث، والثلث كثير" بنصب الأول على الإغراء؛ أي: الزم الثلث، أو بفعل مضمَر، تقديره: أَعْطِ، أو أَمْضِ، أو نَفّذ الثلثَ، واستبعد هذا الوجه القرطبيّ، ولا بُعْد فيه، ويجوز رفعه على أنه فاعل لفعل محذوف؛ أي: يكفيك الثلثُ، أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: الكافي الثلثُ، أو مبتدأ والخبر محذوف؛ أي: الثلثُ كافٍ.
وقوله: (وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ) مبتدأ وخبره، وهو يَحْتَمِل أن يكون مسوقًا لبيان الجواز بالثلث، وأن الأَولى أن ينقص عنه، ولا يزيد عليه، وهو ما يبتدره الفهم، وَيحْتَمِل أن يكون لبيان أن التصدق بالثلث هو الأكمل؛ أي: كثير أجره، ويَحْتَمِل أن يكون معناه: كثير غيرُ قليل، قال الشافعيّ رحمه الله: وهذا أولى معانيه؛ يعني: أن الكثرة أمر نِسْبِيّ، وعلى الأول عَوَّل ابنُ عباس رضي الله عنهما كما سيأتي في الحديث الآتي آخر الباب، أفاده في "الفتح"
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: وفي هذا الحديث مراعاة العدل بين الورثة والوصية، قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: إن كانت الورثة أغنياء استُحِبّ أن يوصى بالثلث تبرعًا، وإن كانوا فقراء استُحِبّ أن ينقص من الثلث، وأجمع العلماء في هذه الأعصار على أن من له وارث لا تنفذ وصيته بزيادة على الثلث إلا بإجازته، وأجمعوا على نفوذها بإجازته في جميع المال، وأما من لا وارث له فمذهبنا، ومذهب الجمهور، أنه لا تصح وصيته فيما زاد على الثلث، وجوّزه أبو حنيفة، وأصحابه، وإسحاق، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، ورُوي عن عليّ، وابن مسعود رضي الله عنهما. انتهى.
(1)
"الفتح" 6/ 677 - 678.
(إِنَّكَ أِنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ) وفي رواية: "أن تَدَع"؛ أي: تتركهم، وهو بفتح "أَنْ" على التعليل، وكسرها على الشرطيّة، قال القاضي عياض رحمه الله رَوَينا قوله:"أن تذر" بفتح الهمزة، وكسرها، وكلاهما صحيح، وقال القرطبيّ: روايتنا في "أن تذر" بفتح الهمزة، و"أن" مع الفعل بتأويل المصدر في موضع رفع بالابتداء، وخبره "خيرٌ" المذكور بعده، والمبتدأ وخبره خبر "إنك"، تقديره: إنك تركُك ورثتَكَ أغنياء خيرٌ من تركهم فقراء، قال: وقد وَهِمَ من كسَر الهمزة من "إن"، وجعلها شرطًا؛ إذ لا جواب له، ويبقى "خيرُ" لا رافع له، فتأمله. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وسيأتي توهيمه في توهيم من كسر الهمزة، فتنبّه.
وقال ابن الجوزيّ رحمه الله: سمعناه -يعني: قوله: أن تذر- من رواة الحديث بالكسر، وأنكره شيخنا عبد الله بن أحمد -يعني: ابن الخشاب- وقال: لا يجوز الكسر؛ لأنه لا جواب له؛ لخلوّ لفظ "خير" من الفاء، وغيرها مما اشتُرط في الجواب
(2)
.
وتُعُقِّب بأنه لا مانع من تقديره، وقال ابن مالك رحمه الله: جزاء الشرط قوله: "خيرٌ"؛ أي: فهو خير، وحذفُ الفاء جائزٌ، قال: ومن خَصّ ذلك بالشِّعر بَعُدَ عن التحقيق، وضَيَّق حيث لا تضييق؛ لأنه كثير في الشعر، قليل في غيره، وأشار بذلك إلى ما وقع في الشعر، فيما أنشده سيبويه [من البسيط]:
مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا
…
وَالشَرُّ بِالشَّرِّ عِنْدَ اللهِ مِثْلَانِ
أي: فالله يشكرها، وإلى الردّ على من زعم أن ذلك خاصّ بالشعر قال: ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم في حديث اللقطة: "فإن جاء صاحبها، وإلا استَمْتِعْ بها" بحذف الفاء، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث اللعان:"البينةُ، وإلا حَدٌّ في ظهرك". انتهى
(3)
.
(وَرَثَتَكَ) قال الزين ابن الْمُنَيِّر رحمه الله: إنما عبَّر له صلى الله عليه وسلم بلفظ الورثة، ولم
(1)
"المفهم" 4/ 545.
(2)
راجع: "كشف المشكل" لابن الجوزيّ 1/ 232.
(3)
راجع: "الفتح" 6/ 678.
يقل: أن تدع بنتك، مع أنه لم يكن له يومئذ إلا ابنة واحدة؛ لكون الوارث حينئذ لم يتحقق؛ لأن سعدًا إنما قال ذلك بناء على موته في ذلك المرض، وبقائها بعده حتى ترثه، وكان من الجائز أن تموت هي قبله، فأجاب صلى الله عليه وسلم بكلام كليّ مطابق لكل حالة، وهو قوله:"ورثتك"، ولم يخصّ بنتًا من غيرها.
وقال الفاكهيّ شارح "العمدة" رحمه الله: إنما عبّر-صلى الله عليه وسلم بالورثة؛ لأنه اطَّلَعَ على أن سعدًا سيعيش، ويأتيه أولاد غير البنت المذكورة، فكان كذلك، ووُلد له بعد ذلك أربعة بنين، ولا أعرف أسماءهم، ولعل الله أن يفتح بذلك.
قال الحافظ -بعد ذكر ما تقدّم-: وليس قوله: "أن تدَع بنتك" متعيَّنًا؛ لأن ميراثه لم يكن منحصرًا فيها، فقد كان لأخيه عتبة بن أبي وقاص أولاد إذ ذاك، منهم هاشم بن عتبة الصحابيّ الذي قُتِل بصِفِّين، فجاز التعبير بالورثة؛ لتدخل البنت وغيرها ممن يرث لو وقع موته إذ ذاك، أو بعد ذلك.
قال: وأما قول الفاكهيّ: إنه وُلد له بعد ذلك أربعة بنين، وأنه لا يعرف أسماءهم، ففيه قصورٌ شديدٌ، فإن أسماءهم في رواية هذا الحديث بعينه عند مسلم من طريق عامر، ومصعب، ومحمد، ثلاثتهم عن سعد، ووقع ذكر عُمَر بن سعد فيه في موضع آخر، ولمّا وقع ذِكر هؤلاء في هذا الحديث عند مسلم اقتَصَر القرطبيّ على ذكر الثلاثة.
قال: ووقع في كلام بعض شيوخنا تعقُّب عليه بأن له أربعة من الذكور غير الثلاثة، وهم: عُمر، وإبراهيم، ويحيى، وإسحاق، وعزا ذِكرهم لابن المدينيّ وغيره، وفاته أن ابن سعد ذَكر له من الذكور غير السبعة أكثر من عشرة، وهم: عبد الله، وعبد الرحمن، وعمرو، وعمران، وصالح، وعثمان، وإسحاق الأصغر، وعمر الأصغر، وعُمير -مصغَّرًا- وغيرهم، وذَكر له من البنات ثنتي عشرة بنتًا، وكأن ابن المدينيّ اقتصر على ذِكر مَن رَوَى الحديث منهم، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
وقال صاحب "تنبيه المعلم": وذكر أبو زرعة الدمشقيّ أنهم ثمانية، وقال الدمياطيّ: هم: عامر، وإبراهيم، وإسحاق، وعُمر، ومصعبٌ، وموسى،
(1)
"الفتح" 6/ 679.
ومحمد، وإسماعيل، وإسحاق الأصغر، وعبد الله الأكبر والأصغر، وعُمير الأكبر والأصغر، وعبد الرحمن، وستّ عشرة أُختًا.
وقال ابن الملقّن: عامر بن سعد بن أبى وقّاص له أربعة عشر أخًا، وستّ عشرة أختًا.
وعدّدهم ابن الجوزيّ في أول "التلقيح" ستة وثلاثين
(1)
ولدًا من ذكر وأنثى، وسمّاهم فيه، فقال: هم: إسحاق الأكبر، وأمّ الحكم الكبرى، وعمر، ومحمد، وحفصة، وأمّ القاسم، وأمّ كلثوم، وعامر، وإسحاق الأصغر، وإسماعيل، وأمّ عمران، وإبراهيم، وموسى، وأمّ الحكم الصغرى، وأمّ عمرو، وهند، وأُمّ الزبير، وأمّ موسى، وعبد الله، ومصعب، وعبد الله الأصغر، وبُجير، واسمه عبد الرحمن، وحُميدة، وعُمير الأكبر، وحَمْنة، وعُمير الأصغر، وعمرو، وعمران، وأمّ عمرو، وأم أيوب، وأمّ إسحاق. انتهى
(2)
.
وقوله: (خَيْرٌ) تقدّم أنه خبر للمبتدإ المؤوّل من "أن" وصلتها، إن فُتحت الهمزة، وخبر لمحذوف؛ أي: فهو خيرٌ، إن كُسرت، والجملة خبر "إنك" (مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً)؛ أي: فقراء، وهو جمع عالٍ، وهو الفقير، والفعل منه عائل يَعِيل: إذا افتقر، قال الفيّوميّ رحمه الله: الْعَيْلَةُ -بالفتح-: الفقر، وهي مصدرُ عال يَعِيلُ، من باب سار يسير، فهو عائلٌ، والجمع: عالَة، وهو في تقدير فَعَلَةٍ، مثلُ كافرٍ وكَفَرَةٍ. انتهى
(3)
.
(يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ)؛ أي: يسألون الناس بأكفهم، يقال: تكفف الناسَ، واستكفّ: إذا بَسَطَ كفه للسؤال، أو سأل ما يَكُفّ عنه الجوع، أو سأل كَفًّا كَفًّا من طعام.
وفي رواية: "يتكفّفون الناس في أيديهم"، وقوله:"في أيديهم"؛ أي: بأيديهم، أو سألوا بأكفّهم وَضْعَ المسئول في أيديهم.
(1)
لكن المذكورون هنا أحد وثلاثون، فليحرّر.
(2)
"تنبيه المعلم" ص 274.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 440.
وقال القرطبيّ: "يتكفّفون الناس": يسألون الصدقة من أكُفّ الناس، أو يسألونهم بأكفّهم. انتهى
(1)
.
قال في "الفتح": وقع في رواية الزهريّ أن سعدًا قال: "وأنا ذو مال"، ونحوه في رواية عائشة بنت سعد عند البخاريّ في "الطبّ"، وهذا اللفظ يؤذن بمال كثير، وذو المال إذا تصدق بثلثه، أو بشطره، وأبقى ثلثه بين ابنته وغيرها لا يصيرون عالة، لكن الجواب أن ذلك خرج على التقدير؛ لأن بقاء المال الكثير إنما هو على سبيل التقدير، وإلا فلو تصدق المريض بثلثيه مثلًا، ثم طالت حياته، ونَقَصَ وفَنِيَ المالُ فقد تُجحِفُ الوصيةُ بالورثة، فرَدّ الشارع الأمر إلى شيء معتدل، وهو الثلث. انتهى
(2)
.
وقوله: (وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً) معطوف على خبر "إنّك"، وهو علّة للنهي عن الوصيّة بأكثر من الثلث، كأنه قيل: لا تفعل؛ لأنك إن متّ، تركتَ ورثتك أغنياء، وإن عِشْتَ تصدّقتَ، وأنفقتَ، فالأجر حاصلٌ لك في الحالين.
(تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ، إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا) وفي رواية البخاريّ: "وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة"، وقوله في هذه الرواية: "تبتغي بها وجه الله
…
إلخ" فيه التقييد بابتغاء وجه الله، وتعليق حصول الأجر بذلك، وهو المعتبَر، ويُستفاد منه أن أجر الواجب يزداد بالنيّة؛ لأن الإنفاق على الزوجة واجبٌ، وفي فعله الأجر، فإذا نوى به ابتغاء وجه الله ازداد أجره بذلك، قاله ابن أبي جمرة، قال: ونَبَّهَ بالنفقة على غيرها، من وجوه البرّ والإحسان.
(حَتَّى اللُّقْمَةُ) بالنصب عطفًا على "نفقةً"، ويجوز الرفع، على أنه مبتدأ، وجملة "تجعلها
…
إلخ" حال منه، أو نعتٌ، والخبر محذوف، تقديره: صدقة، وقال القرطبيّ رحمه الله: يجوز في "اللقمة" النصب على عطفها على "نفقةً"، وأظهر من ذلك أن تنصبها بإضمار فعل؛ لأن الفعل قد اشتغل عنها بضمير، وهذا كقول العرب: "أكلت السمكة حتى رأسها أكلته"، وقد أجازوا في "رأسها" الرفع، والنصب، والجرّ، وأوضح هذه الأوجه النصب، وأبعدُها الخفض، وكلّ ذلك جائز في "حتى اللقمة" ههنا، فنزِّلْه عليه، والذي قرأت به
(1)
"المفهم" 4/ 545.
(2)
"الفتح" 5/ 366.
هذا الحرف النصب، لا غير. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "لأن الفعل قد اشتَغَل
…
إلخ" فيه أن قوله: "تجعلها" مفسّر للفعل المقدّر، وفيه نظر؛ لأنه في محلّ نعت، أو حالٍ من "اللقمة"، كما لا يخفى على البصير، بل الأولى كون العطف على "نفقةً" المتقدّم، كما أشرت إليه، فتأمله بالإمعان
(2)
، وبالله تعالى التوفيق.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وإنما خَصَّ الزوجة بالذِّكر؛ لأن نفقتها دائمة، تعودُ منفعتُها إلى المنفق، فإنها تحسنها في بدنها، ولباسها، وغير ذلك، فالغالب من الناس أنه ينفق على زوجته لقضاء وطره، وتحصيل شهوته، وليس كذلك النفقة على الأبوين، فإنها تخرج بمحض الكلفة، والمشقّة غالبًا، فكانت نية التقرُّب فيها أقرب وأظهر، والنفقة على الولد فيها شَبَهٌ من نفقة الزوجة، ومن نفقة الأبوين، من حيث المحبة الطبيعية، والكلفة الوجودية.
قال: وإنما ذَكَر النبيّ صلى الله عليه وسلم لسعد هذا الكلام في هذا الموطن تنبيهًا على الفوائد التي تحصلُ بسبب المال، فإنه إن مات أُثيب على ترك ورثته أغنياء من حيث إنه وصل رحمهم، وأعانهم بماله على طاعة الله تعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة"؛ أي: ذلك أفضل من صدقتك بمالك، وإن لم تمت حصل لك أجر النفقات الواجبة والمندوب إليها.
قال: ويخرُج من هذا الحديث: أن كسب المال وصرفه على هذه الوجوه أفضل من ترك الكسب، أو من الخروج عنه جملة واحدة، وكل هذا إذا كان الكسب من الحلال الخالي عن الشبهات الذي قد تعسَّر الوصول إليه في هذه الأوقات. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(3)
، وهو بحثٌ نفيسٌ.
وقال النوويّ رحمه الله: فيه استحباب الإنفاق في وجوه الخير، وفيه أن الأعمال بالنيات، وأنه إنما يثاب على عمله بنيته، وفيه أن الإنفاق على العيال
(1)
"المفهم" 4/ 546.
(2)
كنت اتبعت ما قاله القرطبيّ هنا في شرح النسائيّ، والآن تبيّن لي أنه غير صواب، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(3)
"المفهم" 4/ 546 - 547.
يثاب عليه، إذا قَصَد به وجه الله تعالى، وفيه أن المباح إذا قصد به وجه الله تعالى صار طاعة، ويثاب عليه، وقد نبّه صلى الله عليه وسلم على هذا بقوله:"حتى اللقمة تجعلها في فِي امرأتك"؛ لأن زوجة الإنسان هي من أخص حظوظه الدنيوية وشهواته وملاذّه المباحة، وإذا وَضَع اللقمة في فيها، فإنما يكون ذلك في العادة عند الملاعبة والملاطفة والتلذذ بالمباح، فهذه الحالة أبعد الأشياء عن الطاعة، وأمور الآخرة، ومع هذا فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه إذا قصد بهذه اللقمة وجه الله تعالى حصل له الأجر بذلك، فغير هذه الحالة أولى بحصول الأجر، إذا أراد وجه الله تعالى، ويتضمن ذلك أن الإنسان إذا فعل شيئًا أصله على الإباحة، وقصد به وجه الله تعالى يثاب عليه، وذلك كالأكل بنية التقوى على طاعة الله تعالى، والنوم للاستراحة؛ ليقوم إلى العبادة نشيطًا، والاستمتاع بزوجته وجاريته؛ ليكفّ نفسه وبصره ونحوهما عن الحرام، وليقضي حقهما، وليُحَصّل ولدًا صالِحًا، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"وفي بُضْع أحدكم صدقة"، متّفقٌ عليه، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقوله: (تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ")"في" الأولى هي الجارّة، والثانية بمعنى الفم، وهي أحد الأسماء الستّة التي تُرفع بالواو، وتُنصب بالألف، وتُجرّ بالياء، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":
وَارْفَعْ بِوَاوٍ وَانْصِبَنَّ بِالأَلِفْ
…
وَاجْرُرْ بِيَاءٍ مَا مِنَ الأَسْمَا أَصِفْ
مِنْ ذَاكَ "ذُو" إِنْ صُحْبَةً أَبَانَا
…
و"الْفَمُ" حَيْثُ الْمِيمُ مِنْهُ بَانَا
"أَبٌ""أَخٌ""حَمٌ" كَذَاكَ و"هَنُ"
…
وَالنَّقْصُ فِي هَذَا الأَخِيرِ أَحْسَنُ
وَفِي "أَبٍ" وَتَالِيَيْهِ يَنْدُرُ
…
وَقَصْرُهَا مِنْ نَقْصِهِنَّ أَشْهَرُ
[تنبيه]: وجه تعلّق قوله: "ولست تنفق نفقة
…
إلخ" بقصّة الوصيّة أن سؤال سعد يُشعر بأنه رَغِب في تكثير الأجر، فلما منعه الشارع من الزيادة على الثلث، قال له على سبيل التسلية: إن جميع ما تفعله في مالك من صدقة، ناجزة، ومن نفقةٍ، ولو كانت واجبةً تؤجر بها، إذا ابتغيت بذلك وجه الله تعالى، ولعلّه خصّ المرأة بالذّكر لأن نفقتها مستمرّةٌ، بخلاف غيرها.
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 77 - 78.
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: فيه أن الثواب في الإنفاق مشروطٌ بصحّة النيّة، وابتغاء وجه الله تعالى، وهذا عَسِرٌ إذا عارضه مقتضى الشهوة، فإن ذلك لا يُحَصِّل الغرض من الثواب حتى يبتغي به وجه الله تعالى، وسبق تخليص هذا المقصود مما يشوبه، قال: وقد يكون فيه دليلٌ على أن الواجبات إذا أدّيت على قصد أداء الواجب ابتغاء وجه الله أُثيب عليها، فإن قوله:"حتى ما تجعل في فِي امرأتك" لا تخصيص له بغير الواجب، ولفظة "حتّى" هنا تقتضي المبالغة في تحصيل هذا الأجر بالنسبة إلى المعنى، كما يقال: جاء الحُجّاج حتى المشاة. انتهى
(1)
.
(قَالَ) سعد رضي الله عنه (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُخَلَّفُ)، وفي نسخة:"أتخلّف"، والكلام على تقدير الاستفهام، وقد وقع التصريح به في نسخة مختصر القرطبيّ، ولفظه: "أَأُخلَّف
…
إلخ"، و"أُخلَّف" بتشديد اللام، مبنيًّا للمفعول (بَعْدَ أَصْحَابِي؟)؛ أي: أَأَبْقَى في مكة بعد رجوع أصحابي، وهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم إلى المدينة؟، قال النوويّ: قال القاضي عياض: معناه: أُخَلَّف بمكة بعد أصحابي، قاله إما إشفاقًا من موته بمكة؛ لكونه هاجر منها، وتركها لله تعالى، فَخَشِيَ أن يَقْدَح ذلك في هجرته، أو في ثوابه عليها، أو خَشِيَ بقاءه بمكة بعد انصراف النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، وتخلّفه عنهم بسبب المرض، وكانوا يَكرهون الرجوع فيما تركوه لله تعالى، ولهذا جاء في رواية أخرى: "أُخَلَّف عن هجرتي؟ "، قال القاضي: قيل: كان حكم الهجرة باقيًا بعد الفتح؛ لهذا الحديث، وقيل: إنما كان ذلك لمن كان هاجر قبل الفتح، فأما من هاجر بعده فلا. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أَأُخلَّفُ بعد أصحابي؟ " هذا الاستفهام إنما صدر عن سعد مخافة أن يكون مُقامه بمكة بعد أصحابه إلى أن يموت بها قادحًا في هجرته، كما قد نصَّ عليه في الرواية الأخرى؛ إذ قال فيها:"لقد خشيتُ أن أموت بالأرض التي هاجرت منها"، فأجابه النبيّ صلى الله عليه وسلم بما يقتضي أن ذلك لا يكون، وأنه يطول عمره إلى أن ينتفع به قومٌ، ويستضرَّ به آخرون، وقد
(1)
راجع: "الفتح" 6/ 680.
(2)
"شرح النوويّ" 11/ 78.
كان ذلك، فإنه عاش بعد ذلك نيفًا وأربعين سنة، وَوَليَ بالعراق أميرًا، وفتحها الله تعالى على يديه، وأسلم على يديه بشر كثير، فانتفعوا به، وقَتَلَ وأَسَرَ من الكفار خلقًا كثيرًا، فاستضرّوا به، فكان ذلك القول من أعلام نبوَّته صلى الله عليه وسلم، وأدلَّة صدق رسالته. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: وهذا الحديث من المعجزات، فإن سعدًا رضي الله عنه عاش حتى فَتَحَ العراق وغيره، وانتفع به أقوام في دينهم ودنياهم، وتضرَّر به الكفار في دينهم ودنياهم، فإنهم قُتِلوا وصاروا إلى جهنم، وسُبيت نساؤهم، وأولادهم، وغُنِمت أموالهم وديارهم، وَوَلي العراق، فاهتدى على يديه خلائق، وتضرر به خلائق بإقامته الحقّ فيهم، من الكفار ونحوهم.
قال القاضي: قيل: لا يُحبط أجر هجرة المهاجر بقاؤه بمكة، وموته بها، إذا كان لضرورة، وإنما كان يُحبطه ما كان بالاختيار، قال: وقال قوم: موت المهاجر بمكة مُحبط هجرته كيفما ما كان، قال: وقيل: لم تُفْرَض الهجرة إلا على أهل مكة خاصةً. انتهى
(2)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ) بضمّ أوله، وتشديد اللام، مبنيًّا للمفعول، والمراد بالتخلّف هنا طول العمر، والبقاء في الحياة بعد جماعات من أصحابه، قاله النوويّ رحمه الله
(3)
.
(فَتَعْمَلَ) بالنصب عطفًا على "تُخلَّف"(عَمَلًا تَبْتَغِي)؛ أي: تطلب (بِهِ وَجْهَ الله) عز وجل (إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً، وَلَعَلَّكَ تُخَلُّفُ حَتَّى يُنْفَعَ) بالبناء للمفعول، وفي بعض النسخ:"حتى يَنْتَفِعَ" بزيادة التاء، وعليه فهو مبنيّ للفاعل (بِكَ أقوَامٌ، وَيُضَرُّ بِكَ آخَرُونَ)؛ أي: ينتفع بك المسلمون بالغنائم، مما سيفتح الله على يديك من بلاد الشرك، ويُضرّ بك المشركون الذين يهلكون على يديك.
وفي رواية للبخاريّ: "وعسى الله أن يرفعك"؛ أي: يُطيل عمرك، قال في "الفتح": وكذلك اتّفق، فإنه عاش بعد ذلك أزيد من أربعين سنةً، بل قريبًا
(1)
"المفهم" 4/ 547.
(2)
"شرح النوويّ" 11/ 78 - 79.
(3)
"شرح النوويّ" 11/ 78.
من خمسين؛ لأنه مات سنة (55) من الهجرة، وقيل: سنة (58)، وهو المشهور، فيكون عاش بعد حجة الوداع (45) سنة، أو (48) سنة. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: قال بعض العلماء: "لعلّ"، وإن كانت للترجّي، لكنّها من الله للأمر الواقع، وكذلك إذا وردت على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم غالبًا. قاله في "الفتح"
(2)
.
[تنبيه آخر]: قال في "الفتح": وزعم ابن التين أن المراد بالنفع به ما وقع من الفتوح على يديه؛ كالقادسيّة، وغيرها، وبالضرر ما وقع من تأمير ولده عُمر بن سعد على الجيش الذين قتلوا الحسين بن عليّ، ومن معه.
قال: وهو كلامٌ مردود؛ لتكلّفه لغير ضرورة تَحْمِل على إرادة الضرر الصادر من ولده، وقد وقع منه هو الضرر المذكور بالنسبة إلى الكفّار.
وأقوى من ذلك ما رواه الطحاويّ من طريق بكير بن عبد الله بن الأشجّ، عن أبيه، أنه سأل عامر بن سعد، عن معنى قول النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا، فقال: لَمّا أمّر سعد على العراق، أُتي بقوم ارتدّوا، فاستتابهم، فتاب بعضهم، وامتنع بعضهم، فقتلهم، فانتفع به من تاب، وحصل الضرر للآخرين. انتهى ما في "الفتح"
(3)
، وهو بحث نفيس جدًّا، والله تعالى أعلم.
(اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ)؛ أي: أثبتها، وأدمها لهم حتى يموتوا مهاجرين، يقال: مضى الأمرُ مَضَاءً: نَفَذَ، وأمضيته بالألف: أنفذته، قاله الفيّوميّ
(4)
، وقوله:(وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ) تأكيد لما قبله.
قال القاضي عياض رحمه الله: استَدَلّ به بعضهم على أن بقاء المهاجر بمكة كيف كان قادحٌ في هجرته، قال: ولا دليل فيه عندي؛ لأنه يَحْتَمِل أنه دَعا لهم دعاءً عامًّا، ومعنى "أمْضِ لأصحابي هجرتهم"؛ أي: أتممها، ولا تُبطلها، ولا تَرُدَّهم على أعقابهم بترك هجرتهم، ورجوعهم عن مستقيم حالهم المَرْضية. انتهى
(5)
.
(1)
"الفتح" 6/ 680.
(2)
"الفتح" 6/ 681.
(3)
"الفتح" 6/ 681.
(4)
"المصباح المنير" 2/ 575.
(5)
"شرح النوويّ" 11/ 79.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "اللهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم" يقتضي أن تبقى عليهم حال هجرتهم، وأحكامها، ويفيد أن استصحاب أحكامها كان واجبًا على من هاجر، فيحرم عليه الرجوع إلى وطنه، وترك المدينة إلى أن يموت بها، وإن كان قد ارتفع حكم وجوب أصلها عن لم يهاجر يوم الفتح، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"لا هجرة بعد الفتح"، متّفقٌ عليه، وقال:"إن الهجرة قد مضت لأهلها"، متّفقٌ عليه؛ أي: مَن كان هاجر قبل الفتح صحَّت له هجرته، ولزمه البقاء عليها إلى الموت، ومن لم يكن هاجر سقط ذلك عنه، ومِن نَقْضِ الهجرة خاف المهاجرون، حيث تحرَّجوا من مُقامهم بمكة في حجة الوداع، وهذا هو الذي خاف منه سعد رضي الله عنه، فإن قضيته هذه كانت في حجَّة الوداع، وهذا هو الذي نَقِمَه الحجَّاجُ على ابن الأكوع لَمّا تَرَك المدينة، ولَزِمَ الرَّبَذَة، فقال: تَغَرَّبت يا ابن الأكوع؟! فأجابه بأن قال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لي في البدو، وهذا هو الظاهر من جملة ما ذكرناه من هذه الأحاديث، وبه قال بعض أهل العلم، وهو الذي يدلُّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم:"لكن البائسُ سعد ابن خولة" رثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توفي بمكة، وسيأتي الكلام عليه.
وقال آخرون: إن وجوب الهجرة، ووجوبَ استدامة حكمها قد ارتفع يوم الفتح، وإنما لزم المهاجرون المقام بالمدينة بعد الهجرة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم لنُصرته، ولِأخذ شريعته، ومشافهته، ولأن للكون معه اغتنامًا لبركته، ثم لمّا مات صلى الله عليه وسلم فمنهم من أقام بالمدينة، وأكثرهم ارتحل عنها، ولمّا فُتِحَت الأمصار استوطنوها، وتركوا سكنى المدينة، فاستوطن الشامَ قومٌ منهم، واستوطن آخرون العراق، وآخرون مصر.
وتأوّل أهل هذا القول ما تقدَّم بان ذلك إنما كان منهم مخافةَ أن تنقص أجورُهُم في هجرتهم متى زالوا عن شيء من أحكامها، فدعا لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بألا يُنْقِصَهم شيئًا من ذلك.
وللأولين أن ينفصلوا عن هذا، بأن يقولوا: إنما استوطنوا تلك الأمصار للجهاد، وفتح البلاد، وإظهار الدِّين، ونشر العلم، حتى أنفذوا في ذلك
أعمارهم، ولَمّا يقضوا من ذلك أوطارهم. انتهى
(1)
.
(لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ ابْنُ خَوْلَةَ") البائس: اسم فاعل، من البؤس، وهو الذي عليه أثر البؤس، وهو الفقر، يقال: بَئِسَ يَبْئَسُ، كسَمِعَ يسمع: إذا اشتدّت حاجته.
وقال القرطبيّ رحمه الله: البائس: اسم فاعل من بئس، يبأس: إذا أصابه بؤسٌ، وهو الضرر.
قال: وسعد ابن خولة: هو زوج سُبيعة الأسلمية، وهو رجل من بني عامر بن لؤيّ، من أنفسهم، وقيل: حليف لهم، وقيل: إنه مولى أبي رُهْم بن عبد العزى العامريّ. واختُلِف في أمره؛ فقال ابن مزين، وعيسى بن دينار: إنه لم يهاجر من مكة حتى مات فيها، والأكثر على أنَّه هاجر، ثم رجع إلى مكة مختارًا، وعلى هذين القولين يكون بؤسُه ذمًّا له؛ إما لعدم هجرته، وإما لسقوطها برجوعه عنها، وقال ابن هشام: إنَّه هاجر الهجرة إلى الحبشة، والهجرة الثانية، وشهد بدرًا، وغيرها، وتُوُفّي بمكة في حجة الوداع، وعلى هذا فلا يكون بؤسه ذمًّا له، بل توجُّعًا له ورحمةً؛ إذ كان منه: أنه هاجر الهجرتين، ثم إنَّه مات بعد ذلك بمكة، فيكون إشعارًا بما قدَّمناه من نقص ثواب من اتفق له ذلك، ومن ذلك تحرَّج سعد، والمهاجرون، والله أعلم.
وظاهر هذا القول: أنه من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال المحدِّثون: انتهى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "لكن البائس سعد ابن خولة"، وأما قوله بعد ذلك: قال: رثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توفي بمكة؛ فظاهره: أنه من كلام غير النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقيل: هو قول سعد بن أبي وقاص، وقد جاء ذلك في بعض طرقه، وأكثر الناس على أنَّه من قول الزهريّ، والله تعالى أعلم.
قال: وقد وقع في بعض طرق هذا الحديث انقطاع في أصل كتاب مسلم، وهو من المواضع المنقطعة الأربعة عشر، لكن لا يضر ذلك إن صحَّ؛ لأنه قد رواه من طُرُق متصلة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
(1)
"المفهم" 4/ 548 - 549.
(2)
"المفهم" 4/ 549 - 550.
وقال النوويّ نقلًا عن القاضي عياض: واختلفوا في قصة سعد ابن خَوْلة، فقيل: لم يهاجر من مكة حتى مات بها، قاله عيسى بن دينار وغيره، وذكر البخاريّ أنه هاجر، وشهد بدرًا، ثم انصرف إلى مكة، ومات بها، وقال ابن هشام: إنه هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وشهد بدرًا وغيرها، وتُوُفّي بمكة في حجة الوداع سنة عشر، وقيل: تُوُفّي بها سنة سبع في الْهُدْنة خرج مجتازًا من المدينة، فعلى هذا، وعلى قول عيسى بن دينار سبب بؤسه سقوط هجرته؛ لرجوعه مختارًا، وموته بها، وعلى قول الآخرين سبب بؤسه موته بمكة على أي حال كان، وإن لم يكن باختياره؛ لِمَا فاته من الأجر والثواب الكامل بالموت في دار هجرته، والغربة عن وطنه بالهجرة إلى الله تعالى.
قال القاضي: وقد رُوِي في هذا الحديث أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خَلَّفَ مع سعد بن أبي وقاص رجلًا، وقال له:"إن تُوُفّي بمكة فلا تدفنه بها"، وقد ذكر مسلم في الرواية الأخرى: أنه كان يَكره أن يموت في الأرض التي هاجر منها، وفي رواية أخرى لمسلم: قال سعد بن أبي وقاص: خَشِيت أن أموت بالأرض التي هاجرتُ منها، كما مات سعد ابن خَوْلة، وسعد ابن خولة هذا هو زوج سبيعة الأسلمية. انتهى
(1)
.
ووقع في رواية البخاريّ بلفظ: "يرحم الله ابن عفراء"، قال في "الفتح": كذا وقع في هذه الرواية، وفي رواية أحمد، والنسائيّ من طريق عبد الرحمن بن مهديّ، عن سفيان:"فقال النبيّ-صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله سعد ابن عفراء" ثلاث مرّات، قال الداوديّ: قوله: "ابن عفراء" غير محفوظ، وقال الدمياطيّ: هو وَهَمٌ، والمعروف "ابن خَوْلة"، قال: ولعلّ الْوَهَمَ من سعد بن إبراهيم، فإن الزهريّ أحفظ منه، وقال فيه: "سعد ابن خَوْلة" يشير إلى ما وقع في روايته بلفظ: "لكن البائس سعد ابن خولة"، يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة".
قال الحافظ: وقد ذكرت آنفًا من وافق الزهريّ
(2)
، وهو الذي ذكره
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 79 - 80.
(2)
ذكر قبله ممن وافق الزهريّ في قوله: "سعد ابن خولة": حميد بن عبد الرحمن، عن ثلاثة من ولد سعد، عن سعد، وجرير بن يزيد، عن عامر بن سعد، وبُكير بن مسمار، عن عامر بن سعد، فتنبّه.
أصحاب المغازي، وذكروا أنه شهد بدرًا، ومات في حجة الوداع.
وقال بعضهم في اسمه: خَوْلِيّ -بكسر اللام، وتشديد التحتانية-، واتفقوا على سكون الواو، وأغرب ابن التين، فَحَكَى عن القابسيّ فتحها.
ووقع عند البخاريّ في رواية ابن عيينة في "الفرائض": قال سفيان: وسعد ابن خولة رجل من بني عامر بن لؤيّ. انتهى.
وذكر ابن إسحاق أنه كان حليفًا لهم، ثم لأبي رُهْم بن عبد العزى منهم، وقيل: كان من الفُرْس الذين نزلوا اليمن.
قال: وجزم الليث بن سعد في "تاريخه" عن يزيد بن أبي حبيب بأن سعد ابن خَوْلة مات في حجة الوداع، وهو الثابت في "الصحيح" خلافًا لمن قال: إنه مات في مدة الهدنة مع قريش سنة سبع.
وجَوَّز أبو عبد الله بن أبي الخصال الكاتب المشهور في "حواشيه" على البخاريّ أن المراد بابن عفراء: عوف بن الحارث أخو معاذ ومُعَوّذ أولاد عفراء، وهي أمهم، والحكمة في ذِكره ما ذَكره ابن إسحاق أنه قال يوم بدر: ما يُضحك الربّ من عبده؟ قال: "أن يَغْمِس يده في العدوّ حاسرًا"، فألقى الدرع التي هي عليه، فقاتل حتى قُتِل.
قال: فَيَحْتَمِل أن يكون لَمّا رأى اشتياق سعد بن أبي وقاص للموت، وعَلِم أنه يبقى حتى يلي الولايات، ذكر ابن عفراء، وحُبّه للموت، ورغبته في الشهادة، كما يُذْكَر الشيءُ بالشيء، فَذَكَر سعد ابن خَوْلة؛ لكونه مات بمكة، وهي دار هجرته، وذكر ابن عفراء مستحسنًا لميتته. انتهى ملخصًا.
قال الحافظ: وهو مردود بالتنصيص على قوله: "سعد ابن عفراء"، فانتفى أن يكون المراد عوفًا، وأيضًا فليس في شيء من طرق حديث سعد بن أبي وقاص أنه كان راغبًا في الموت، بل في بعضها عكس ذلك، وهو أنه بَكَى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما يُبكيك؟ "، فقال: خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها، كما مات سعد ابن خولة، وهو عند النسائيّ، وأيضًا فمخرج الحديث متحدٌ، والأصل عدم التعدد، فالاحتمال بعيدٌ أَبُو صَرَّح بأنه عوف ابن عفراء، والله أعلم.
وقال التيميّ: يَحْتَمِل أن يكون لأمه اسمان: خولة وعفراء. انتهى،
ويَحْتَمِل أن يكون أحدهما اسْمًا، والآخر لقبًا، أو أحدهما اسم أمه، والأخر اسم أبيه، أو والآخر اسم جدة له، والأقرب أن عفراء اسم أمه، والآخر اسم أبيه؛ لاختلافهم في أنه خولة، أو خَوْليّ. انتهى
(1)
.
(قَالَ: رَثَى لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: رحمه، ورقّ له، يقال: رثيتُ الميتَ أرثيه، من باب رَمَى مَرْثِيةً، ورَثَيتُ له: ترحّمتُ، ورفقت له، قاله الفيّوميّ
(2)
.
وقال المجد رحمه الله: ورَثَيْتُ المَيِّتَ رَثْيًا، ورِثاءً، ورِثَايَةً -بكسرهما- ومَرْثاةً، ومَرْثِيَةً -مُخَفَّفَةً- ورَثَوْتُه: بَكَيْتُه، وعَدَّدْتُ مَحَاسِنَهُ، كَرَثَّيْتُه تَرْثِيَةً، وتَرَثَّيْتُه، ونَظَمْتُ فيه شِعْرًا، وحَديثًا عنه أرْثِي رِثايَةً: ذَكَرْتُه، وحَفِظْتُه، ورجُلٌ أرْثَى: لا يُبْرِمُ أمْرًا، ورَثَى له: رَحِمَهُ، ورَقَّ له، وامرأةٌ رَثَّاءَةٌ، ورَثَّايَةٌ: نَوَّاحَةٌ. انتهى
(3)
.
وقال النوويّ: قوله: "رَثَى له رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
إلخ" قال العلماء: هذا من كلام الراوي، وليس هو من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، بل انتهى كلامه صلى الله عليه وسلم بقوله: "لكن البائس سعد ابن خولة"، فقال الراوي تفسيرًا لمعنى هذا الكلام: إنه يرثيه النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويتوجع له، وَيرِقّ عليه؛ لكونه مات بمكة.
واختلفوا في قائل هذا الكلام من هو؟ فقيل: هو سعد بن أبي وقاص، وقد جاء مفسَّرًا في بعض الروايات، قال القاضي: وأكثر ما جاء أنه من كلام الزهريّ. انتهى.
وقال في "الفتح": قال ابن عبد البر: زعم أهل الحديث أن قوله: "يرثي
…
إلخ" من كلام الزهريّ، وقال ابن الجوزيّ وغيره: هو مدرج من قول الزهريّ.
قال الحافظ: وكأنهم استندوا إلى ما وقع في رواية أبي داود الطيالسيّ، عن إبراهيم بن سعد، عن الزهريّ، فإنه فَصَلَ ذلك، لكن وقع عند البخاريّ في "الدعوات" عن موسى بن إسماعيل، عن إبراهيم بن سعد في آخره: "لكن
(1)
"الفتح" 6/ 676.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 218.
(3)
"القاموس المحيط" 1/ 1660.
البائس سعد ابن خولة"، قال سعد: رَثَى له رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
إلخ، فهذا صريح في وصله، فلا ينبغي الجزم بإدراجه.
ووقع عند البخاريّ في "الطبّ" من رواية عائشة بنت سعد، عن أبيها فلادةُ:"ثم وَضَع يده على جبهتي، ثم مسح وجهي وبطني، ثم قال: اللهم اشف سعدًا، وأتمم له هجرته، قال: فما زلت أجد بَرْدها".
ولمسلم من طريق حميد بن عبد الرحمن الحميريّ الآتية: "فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: اللهم اشف سعدًا، اللهم اشف سعدًا، ثلاث مرار".
وقوله: (مِنْ أَنْ تُوُفِّيَ بمَكَّةَ)"من" تعليليّة، و"أن" بفتح الهمزة مصدريّة، وهو تعليل لرثائه صلى الله عليه وسلم؛ أي: لأجل موته بمكة.
قال في "الفتح": قوله: "أن مات بمكة" هو بفتح الهمزة للتعليل، وأغرب الداوديّ، فتردّد فيه، فقال: إن كان بالفتح ففيه دلالةٌ على أنه أقام بمكة بعد الصَّدَر من حجته، ثم مات، وإن كان بالكسر ففيه دليل على أنه قيل له: إنه يريد التخلّف بعد الصَّدَر، فخشي عليه أن يدركه أجله بمكة.
ثم قال: والمضبوط المحفوظ بالفتح، لكن ليس فيه دلالة على أنه أقام بعد حجه؛ لأن السياق يدلّ على أنه مات قبل الحجّ. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذُكر من تردّد الداودي في فتح الهمزة وكسرها، لا يتأتّى في رواية مسلم هذه؛ لأنه لا يمكن فيها الكسر؛ لدخول "مِن" الجارّة عليها، وإنْ الشرطيّة لا يدخل عليها الجارّ، فهي صريحة في الردّ على الداوديّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [2/ 4201 و 4202 و 4203 و 4204 و 4205 و 4206 و 4207 و 4208 و 4209](1628)، و (البخاريّ) في "الجنائز"
(1)
"الفتح" 8/ 732، كتاب "مناقب الأنصار" رقم (3936).
(1296)
و "الوصايا"(2742 و 2744) و"المناقب"(3936) و"المغازي"(4409) و"النفقات"(5354) و"المرضى"(5659) و"الدعوات"(6373) و"الفرائض"(6733)، و (أبو داود) في " الوصايا"(2864)، و (الترمذيّ) في "الوصايا"(2116)، و (النسائيّ) في "الوصايا"(6/ 241 و 242 و 243) و"الكبرى"(4/ 68 و 102 و 103)، و (ابن ماجه) في "الوصايا"(2708)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(9/ 64 - 65)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 36)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 168 و 173 و 176 و 179)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 499)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 75)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(1/ 128 و 129)، و (البزّار) في "مسنده"(3/ 293)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 92 و 145)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 478 و 479 و 480 و 481 و 483 و 485)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(10/ 61 و 13/ 384 و 16/ 251)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 33) و"الكبير"(7/ 292)، و (البيهقيّ) في "الصغرى"(6/ 53) و"المعرفة"(5/ 90) و"الكبرى"(6/ 268 و 7/ 467 و 9/ 18)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثه): في فوائده
(1)
:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة الوصيّة بالثلث، قال في "الفتح": واستقر الإجماع على منع الوصية بأزيد من الثلث، لكن اختُلِف فيمن كان له وارث، وسيأتي تحقيقه في المسألة السادسة، وفيمن لم يكن له وارث خاصّ فمنعه الجمهور، وجوّزه الحنفية، وإسحاق، وشريك، وأحمد في رواية، وهو قول عليّ، وابن مسعود، واحتجوا بأن الوصية مطلقة بالآية، فقيّدتها السُّنَّة بمن له وارث، فيبقى من لا وارث له على الإطلاق.
قال: واختلفوا أيضًا: هل يُعتبر ثلث المال حال الوصية، أو حال الموت؟ على قولين، وهما وجهان للشافعية، أصحهما الثاني، فقال بالأول مالك، وأكثر العراقيين، وهو قول النخعيّ، وعمر بن عبد العزيز، وقال بالثاني
(1)
المراد بها الفوائد التي اشتَمَل عليها حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه بجميع طرقه المشار إليها في الشرح، وغيرها، لا خصوص سياق المصنّف، فتنبّه.
أبو حنيفة، وأحمد، والباقون، وهو قول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وجماعة من التابعين.
وتمسك الأولون بأن الوصية عَقْدٌ، والعقود تُعتبر بأولها، وبأنه لو نذر أن يتصدق بثلث ماله اعتُبِر ذلك حالة النذر اتفاقًا.
وأجيب بأن الوصية ليست عقدًا من كل جهة، ولذلك لا تُعتبر فيها الفورية، ولا القبول، وبالفرق بين النذر والوصية بأنها يصح الرجوع عنها، والنذر يلزم.
وثمرة هذا الخلاف تظهر فيما لو حَدَثَ له مال بعد الوصية.
قال: واختلفوا أيضًا هل يُحسَب الثلث من جميع المال، أو تُنَفَّذ بما علمه الموصي دون ما خَفِي عليه، أو تجدَّد له، ولم يعلم به؟ وبالأول قال الجمهور، وبالثاني قال مالك.
وحجة الجمهور أنه لا يُشترط أن يستحضر تعداد مقدار المال حالة الوصية اتفاقًا، ولو كان عالِمًا بجنسه، فلو كان العلم به شرطًا لَمَا جاز ذلك.
[فائدة]: أول من أوصى بالثلث في الإسلام البراء بن معرور-بمهملات - أوصى به للنبىّ صلى الله عليه وسلم، وكان قد مات قبل أن يدخل النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة بشهر، فقبِله النبيّ صلى الله عليه وسلم، وردّه على ورثته، أخرجه الحاكم، وابن المنذر، من طريق يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، عن جدّه. انتهى ما في "الفتح"
(1)
.
2 -
(ومنها): مشروعيّة عيادة المريض للإمام، فمَن دونه، وتتأكّد باشتداد المرض.
3 -
(ومنها): أن فيه وضع اليد على جبهة المريض، ومسْح وجهه، ومسح العضو الذي يؤلمه، والفسح له في طول العمر؛ لِمَا تقدّم في رواية عائشة بنت سعد عند البخاريّ:"ثم وضع يده على جبهتي، ثم مسح وجهي، وبطني، ثم قال: اللَّهم اشف سعدًا، وأتمم له هجرته".
4 -
(ومنها): جواز إخبار المريض بشدّة مرضه، وقوّة ألمه، إذا لم يقترن بذلك شيء مما يُمنَع، أو يُكرَه، من التبرّم، وعدم الرضا، بل حيث يكون ذلك
(1)
"الفتح" 6/ 684.
لطلب دعاء، أو دواء، وربّما استُحِبّ، وأن ذلك لا ينافي الاتصاف بالصبر المحمود، وإذا جاز ذلك في أثناء المرض، كان الإخبار به بعد البرء أجوز.
5 -
(ومنها): أن أعمال البرّ والطاعة، إذا كان منها ما لا يمكن استدراكه، قام غيره في الثواب والأجر مقامه، وربّما زاد عليه، وذلك أن سعدًا رضي الله عنه خاف أن يموت بالدار التي هاجر منها، فيفوت عليه بعض أجر هجرته، فأخبره النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنه إن تخلّف عن دار هجرته، فعمل عملًا صالحًا، من حجّ، أو جهاد، أو غير ذلك، كان له به أجر بِعِوَض ما فاته من الجهة الأخرى.
6 -
(ومنها): إباحة جمع المال بشرطه؛ لأن التنوين في قوله: "وأنا ذو مال" للكثرة، وقد وقع في بعض طرقه صريحًا:"وأنا ذو مال كثير".
7 -
(ومنها): الحثّ على صلة الرحم، والإحسان إلى الأقارب، وأن صلة الأقرب أفضل من صلة الأبعد، والإنفاقِ في وجوه الخير.
8 -
(ومنها): أن المباح إذا قُصد به وجه الله تعالى صار طاعةً، وقد نبّه على ذلك بأقلّ الحظوظ الدنيويّة العاديّة، وهو وضع اللقمة في فِي الزوجة؛ إذ لا يكون ذلك غالبًا إلا عند الملاعبة، والممازحة، ومع ذلك فيؤجر فاعله، إذا قَصَد به قصدًا صحيحًا، فكيف بما فوق ذلك.
9 -
(ومنها): أن فيه منعَ نقل الميت من بلد إلى بلد؛ إذ لو كان ذلك مشروعًا لأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بنقل سعد ابن خَوْلة رضي الله عنه، قاله الخطابيّ.
قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم عن القاضي عياض رحمه الله أنه قال: وقد رُوي في هذا الحديث أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "إن توفّي بمكة، فلا تدفنه فيها"، فإن صحّ هذا فإنه يردّ قول الخطابيّ المذكور، لكن لم يذكر عياض سند الحديث، حتى يُنظر فيه، والله أعلم.
10 -
(ومنها): أن من لا وارث له تجوز له الوصيّة بما زاد على الثلث؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أنْ تَدَع ورثتك أغنياء"، فمهومه أن من لا وارث له لا يبالي بالوصيّة بما زاد؛ لأنه لا يترك ورثته يُخشى عليهم الفقر.
وتُعُقّب بأنه ليس تعليلًا محضًا، وإنما فيه تنبيه على الأحظّ الأنفع، ولو كان تعليلًا محضًا لاقتضى جواز الوصيّة بأكثر من الثلث لمن كانت ورثته
أغنياء، ولنَفَذ ذلك عليهم بغير إجازتهم، ولا قائل بذلك، وعلى تقدير أن يكون تعليلًا محضًا، فهو للنقص عن الثلث، لا للزيادة عليه، فكأنه لما شُرع الإيصاء بالثلث، وأنه لا يُعترض به على الموصي إلا أن الانحطاط عنه أولى، ولا سيّما لمن ترك ورثة غير أغنياء، فنبّه سعدًا على ذلك.
11 -
(ومنها): أن فيه سدّ الذريعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردّهم على أعقابهم"، لئلّا يتذرّع بالمرض أحدٌ لأجل حبّ الوطن، قاله ابن المنيّر.
12 -
(ومنها): أن فيه تقييد مطلق القرآن بالسُّنَّة؛ لأنه قال سبحانه وتعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]، فأَطْلَق، وقيّدت السُّنَّة الوصيّة بالثلث.
13 -
(ومنها): أن من ترك شيئًا لله لا ينبغي له الرجوع فيه، ولا في شيء منه مختارًا.
14 -
(ومنها): التأسّف على فوت ما يُحَصِّل الثواب، وأن من فاته ذلك بادر إلى جبره بغير ذلك.
15 -
(ومنها): تسلية من فاته أمرٌ من الأمور لتحصيل ما هو أعلى منه؛ لِمَا أشار صلى الله عليه وسلم لسعد من عمله الصالح بعد ذلك.
16 -
(ومنها): الاستفسار عن الْمُحْتَمِل إذا احْتَمَل وجوهًا؛ لأن سعدًا لما مُنع من الوصيّة بجميع المال احتَمَل عنده المنع فيما دونه، والجواز، فاستفسر عما دون ذلك.
17 -
(ومنها): النظر في مصالح الورثة، وأن خطاب الشرع للواحد يعمّ من كان بصفته من المكلّفين؛ لإطباق العلماء على الاحتجاج بحديث سعد هذا، وإن كان الخطاب إنما وقع له بصيغة الإفراد، ولقد أبعد من قال: إن ذلك يختصّ بسعد، ومن كان في مثل حاله ممن يُخَفف وارثًا ضعيفًا، أو كان ما يخلُفه قليلًا؛ لأن البنت من شأنها أن يطمع فيها إذا كان لها مال، وإن كانت بغير مال لم يرغب فيها.
18 -
(ومنها): أن من ترك مالًا قليلًا، فالاختيار له ترك الوصيّة، وإبقاء المال للورثة، وقد اختلف السلف في ذلك القليل، وقد تقدّم البحث فيه، مستوفًى.
19 -
(ومنها): أن بعضهم استدلّ به لفضل الغنيّ على الفقير، وفيه نظر، قاله في "الفتح".
20 -
(ومنها): أن فيه مراعاةَ العدل بين الورثة، ومراعاةَ العدل في الوصيّة.
21 -
(ومنها): أن الثلث في حدّ الكثرة، وقد اعتبره بعض الفقهاء في غير الوصيّة، ويحتاج الاحتجاج به إلى ثبوت طلب الكثرة في الحكم المعيّن، قاله في "الفتح".
22 -
(ومنها): أنه استَدَلَّ بقوله: "ولا يرثني إلا ابنة" من قال بالردّ على ذوي الأرحام؛ للحصر في قوله: "ولا يرثني إلا ابنة".
وتُعُقّب بان المراد: من ذوي الفروض، كما تقدّم، ومن قال بالردّ لا يقول بظاهره؛ لأنهم يعطونها فَرْضَها، ثم يردّون عليها الباقي، وظاهر الحديث أنها ترث الجميع ابتداء، قاله في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.
(المسألة الرابعة): في استحباب النقص في الوصيّة عن الثلث:
قال العلامة ابن قُدامة رحمه الله: والأولى أن لا يستوعب الثلثَ بالوصية، وإن كان غنيًّا؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"والثلث كثير"، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لو أن الناس غَضُّوا من الثلث، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"الثلث كثير"، متّفقٌ عليه، وقال القاضي، وأبو الخطاب: إن كان غنيًّا استُحِب الوصية بالثلث.
قال: ولنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لسعد: "والثلث كثير"، مع إخباره إياه بكثرة ماله، وقلّة عياله، فإنه قال في الحديث: إن لي مالًا كثيرًا، ولا يرثني إلا ابنتي، وقال أبو عبد الرحمن السلميّ: لم يكن أحد منا يبلغ في وصيته الثلث حتى ينقص منه شيئًا؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "الثلث والثلث كثير".
إذا ثبت هذا فالأفضل للغنيّ الوصية بالخُمس، ونحو هذا يُرْوَى عن أبي بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وهو ظاهر قول السلف، وعلماء أهل البصرة.
(1)
راجع: "الفتح" 6/ 681 - 683.
وقال إسحاق: السُّنَّة الربع، إلا أن يكون رجلًا يَعرِف في ماله حرمة شبهات أو غيرها، فله استيعاب الثلث.
قال: ولنا أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أوصى بالخمس، وقال: رضيت بما رضي الله به لنفسه- يعني قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]-، وروي أن أبا بكر وعليًّا رضي الله عنهما أوصيا بالخمس، وعن عليّ رضي الله عنه أنه قال: لَأن أوصي بالخمس أحب إلي من الربع.
وعن إبراهيم قال: كانوا يقولون: صاحب الربع أفضل من صاحب الثلث، وصاحب الخمس أفضل من صاحب الربع.
وعن الشعبيّ قال: كان الخمس أحبّ إليهم من الثلث، فهو منتهى الجامح.
وعن العلاء بن زياد قال: أوصى أبي أن أسأل العلماء: أي الوصية أعدل؟ فما تتابعوا عليه فهو وصيته، فتتابعوا على الخمس. انتهى كلام ابن قدامة رحمه الله
(1)
، وهو مفيدٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.
(المسألة الخامسة): الأفضل للإنسان أن يجعل وصيته لأقاربه الذين لا يرثون، إذا كانوا فقراء، في قول عامة أهل العلم، قال ابن عبد البرّ: لا خلاف بين العلماء علمتُ في ذلك، إذا كانوا ذوي حاجة؛ وذلك لأن الله تعالى كتب الوصية للوالدين والأقربين، فخرج منه الوارثون بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا وصية لوارث"، وبقي سائر الأقارب لهم وأقلّ ذلك الاستحباب، وقد قال الله تعالى:{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء: 26]، وقال تعالى:{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} [البقرة: 177]، فبدأ بهم؛ ولأن الصدقة عليهم في الحياة أفضل، فكذلك بعد الموت، فإن أوصى لغيرهم، وتركهم صحت وصيته، في قول أكثر أهل العلم، منهم: سالم، وسليمان بن يسار، وعطاء، ومالك، والثوريّ، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وإسحاق، وأصحاب الرأي.
وحُكِي عن طاوس، والضحاك، وعبد الملك بن يعلى أنهم قالوا: يُنْزَع عنهم، ويردّ إلى قرابته.
(1)
"المغني" 6/ 457.
وعن سعيد بن المسيِّب، والحسن، وجابر بن زيد: للذي أُوصي له ثلث الثلث، والباقي يُرَدّ إلى قرابة الموصي؛ لأنه أَبُو أوصى بماله كله لجاز منه الثلث، والباقي ردّ على الورثة، وأقاربُهُ الذين لا يرثونه في استحقاق الوصية؛ كالورثة في استحقاق المال كله.
واحتجّ الأولون بما أخرجه مسلم في "صحيحه" عن عمران بن حصين رضي الله عنهما: "أن رجلًا أعتق في مرضه ستة أعبد، لم يكن له مال غيرهم، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فدعاهم، فجزأهم ثلاثة أجزاء، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأَرَقّ أربعةً، وقال له قولًا شديدًا"، فأجاز العتق في ثلثه لغير قرابته، ولأنها عطية، فجازت لغير قرابته؛ كالعطية في الحياة، قاله ابن رحمه الله
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.
(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في حكم الوصيّة بأكثر من الثلث إن أجازه الورثة:
قال العلامة ابن قُدامة رحمه الله: ومن أوصى لغير وارث بأكثر من الثلث، فأجاز ذلك الورثة بعد موت الموصي جاز، وإن لم يجيزوا رُدّ إلى الثلث:
قال: وجملة ذلك أن الوصية لغير الوارث تلزم في الثلث من غير إجازة، وما زاد على الثلث يُوقف على إجازتهم، فإن أجازوه جاز، وإن ردّوه بَطَلَ، في قول جميع العلماء، والأصل في ذلك قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لسعد حين قال: أوصي بمالي كله؟ قال: "لا"، قال: فبالثلثين؟ قال: "لا"، قال: فبالنصف؟ قال: "لا"، قال: فبالثلث؟ قال: "الثلثُ، والثلث كثير"، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة في أعمالكم"
(2)
يدلّ على أنه لا شيء له في الزائد عليه، وحديث عمران بن حصين رضي الله عنهما المذكور في المملوكِين الذين أعتقهم المريض يدلّ أيضًا على أنه لا يصحّ تصرفه فيما عدا الثلث إذا لم يُجِز الورثة، ويجوز بإجازتهم؛ لأن الحقّ لهم. انتهى كلام ابن قدامة رحمه الله
(3)
،
(1)
"المغني" 6/ 457.
(2)
رواه أحمد، وأبو داود، والترمذيّ، وحسّنه، وكذا حسّنه الألبانيّ في "الإرواء".
(3)
"المغني" 6/ 457.
وهو بحثٌ مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الوصية للوارث: قال العلّامة ابن قُدامة رحمه الله: إذا أوصى لوارثه بوصيّة، فلم يُجزها سائر الورثة، لم تصحّ، بغير خلاف بين العلماء، قال ابن المنذر، وابن عبد البرّ: أجمع أهل العلم على هذا، وجاءت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وإن أجازها الورثة جازت في قول الجمهور من العلماء، وقال بعضهم: الوصيّة باطلة، وإن أجازوها، وهو قول المزنيّ، وأهل الظاهر، وهو قول للشافعيّ، واحتجّوا بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:"لا وصيّة لوارث".
وظاهر مذهب أحمد، والشافعيّ أن الوصيّة صحيحة في نفسها، وهو قول جمهور العلماء؛ لأنه تصرّف صدر من أهله في محلّه، فصحّ، كما لو أوصى لأجنبيّ، والخبر قد رُوي فيه:"إلا أن يُجيز الورثة"
(1)
، والاستثناء من النفي إثبات، فيكون دليلًا على صحّة الوصيّة عند الإجازة. ولو خلا من الاستثناء كان معناه لا وصيّة نافذة، أو لازمة، أو ما أشبه ذلك، أو يقدّر فيه: لا وصيّة لوارث عند عدم الإجازة من غيره من الورثة.
وفائدة الخلاف أن الوصية إذا كانت صحيحة، فإجازة الورثة تنفيذٌ، وإجازة محضةٌ، يكفي فيها قول الوارث: أجزت، أو أمضيتُ، أو نفّذت، فإذا قال ذلك لزمت الوصيّة، وإن كانت باطلة، كانت الإجازة هبة مبتدأةً، تفتقر إلى شروط الهبة من اللفظ، والقبول، والقبض؛ كالهبة المبتدأة، ولو رجع المجيز قبل القبض فيما يُعتبر فيه القبض صحّ رجوعه. انتهى كلام ابن قُدامة بتصرف يسير
(2)
.
وقال في "الفتح": واستُدلّ بحديث: "لا وصية لوارث" بأنه لا تصحّ الوصية للوارث أصلًا، وعلى تقدير نفاذها من الثلث لا تصحّ الوصية له ولا لغيره بما زاد على الثلث، ولو أجازت الورثة، وبه قال المزنيّ، وداود، وقوّاه السبكيّ، واحتَجّ له بحديث عمران بن حصين رضي الله عنهما في الذي أعتق ستة أعبد،
(1)
سيأتي أن هذا الاستثناء لا يصحّ، فتنبّه.
(2)
راجع: "المغني" 8/ 396 - 397.
فإن فيه عند مسلم: "فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم قولًا شديدًا"، وفُسِّر القول الشديد في رواية أخرى، بأنه قال:"لو علمتُ ذلك ما صليت عليه"، ولم يُنقل أنه راجع الورثة، فدلّ على منعه مطلقًا، وبقوله في حديث سعد بن أبي وقاص:"وكان بعد ذلك الثلثُ جائزًا"، فإن مفهومه أن الزائد على الثلث ليس بجائز، وبأنه صلى الله عليه وسلم منع سعدًا من الوصية بالشطر، ولم يستثن صورة الإجازة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد أجاد السبكيّ رحمه الله في هذه الاحتجاجات الواضحة التي تقوّي القول بأنه لا تصحّ الوصيّة للوارث، ولا بما زاد على الثلث مطلقًا، أجازه الورثة أم لا؟.
والحاصل أن القول بعدم جواز الوصيّة للوارث، ولا بأكثر من الثلث لغيره، أجازها الورثة، أم لا؟، هو الحقّ؛ لهذه الأدلة الواضحة، وأما الاستثناء المذكور في رواية "إلا أن يجيز الورثة"، فإنه ضعيف، لا تقوم به الحجّة، بل قال بعضهم: إنه منكر
(2)
.
وأما ما ذكره ابن قدامة من التعليل بأنه تصرّف صدر من أهله في محلّه، فصحّ، فإنه تعليل عقليٌّ في مقابلة النصّ، فلا يُلتفت إليه، ولقد سبق غير مرّة أن ذكرنا قول من قال، وأجاد في المقال:
إِذَا جَالَتْ خُيُولُ النَصِّ يَوْمًا
…
تُجَارِي فِي مَيَادِينِ الْكِفَاحِ
غَدَتْ شُبَهُ الْقِيَاسِيِّينَ صَرْعَى
…
تَطِيرُ رُؤُوسُهُنَّ مَعَ الرِّيَاحِ
[تنبيه]: حديث: "لا وصيّة لوارث"، رُوي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، منهم: عمرو بن خارجة، وأبو أمامة الباهليّ، وعبد الله بن عبّاس، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمرو، وجابر بن عبد الله، وعليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم رضي الله عنهم.
قال في "الفتح" عند قول البخاريّ: "باب لا وصيّة لوارث": هذه الترجمة لفظ حديث مرفوع؛ كأنه لم يثبت على شرط البخاريّ، فترجم به كعادته، واستغنى بما يُعطي حكمه، وقد أخرجه أبو داود، والترمذيّ، وغيرهما
(1)
"الفتح" 6/ 689 - 690.
(2)
راجع: "إرواء الغليل" للشيخ الألبانيّ رحمه الله 6/ 96 - 99.
من حديث أبي أمامة رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته في حجة الوداع: "إن الله قد أعطى كلَّ ذي حقّ حقّه، فلا وصيّة لوارث". وفي إسناده إسماعيل بن عيّاش، وقد قوّى حديثه عن الشاميين جماعة من الأئمة، منهم أحمد، والبخاريّ، وهذا من روايته عن شُرحبيل بن مسلم، وهو شاميّ ثقة، وصرّح في روايته بالتحديث عند الترمذيّ، وقال الترمذيّ: حديث حسن، وفي الباب عن عمرو بن خارجة، عند الترمذيّ، والنسائيّ، وعن أنس عند ابن ماجه، وعن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدّه، عند الدارقطنيّ، وعن جابر عند الدارقطنيّ أيضًا، وقال: الصواب إرساله، وعن عليّ عند ابن أبي شيبة، ولا يخلو إسناد كلّ منها عن مقال، لكن مجموعها يقتضي أن للحديث أصلًا، بل جنح الشافعيّ في "الأمّ" إلى أن هذا المتن متواتر، فقال: وجدنا أهل الفتيا، ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش، وغيرهم، لا يختلفون في أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح:"لا وصيّة لوارث"، ويُؤثِرون عمن حفظوه عنه ممن لَقُوه من أهل العلم، فكان نقل كافّة، عن كافّة، فهو أقوى من نقل واحد.
وقد نازع الفخر الرازيّ في كون هذا الحديث متواترًا، وعلى تقدير تسليم ذلك، فالمشهور من مذهب الشافعيّ أن القرآن لا يُنسخ بالسُّنَّة، لكن الحجة في هذا الإجماع على مقتضاه، كما صرّح به الشافعيّ وغيره. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما سبق أن حديث: "لا وصيّة لوارث" صحيح؛ بمجموع طرقه، فقد مرّ آَنفًا أنه مرويّ عن هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم، بطرق كثيرة، وقد قام بتخريجها، والكلام عليها الشيخ الألبانيّ رحمه الله في كتابه الممتع "إرواء الغليل"، فأجاد، وأفاد، فراجعه تستفد
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4202]
(
…
) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ
(1)
"الفتح" 6/ 688.
(2)
راجع: "إرواء الغليل" 6/ 87 - 99.
وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ (ح) وَحَدَّثنَا
(1)
إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، كلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ).
رجال هذا الإسناد: اثنا عشر:
وكلّهم ذُكروا في الباب والباب الماضي.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ
…
إلخ)؛ أي: كلّ هؤلاء الثلاثة: سفيان بن عيينة، ويونس بن يزيد الأيليّ، ومعمر بن راشد رووا نحو هذا الحديث عن الزهريّ بسنده الماضي؛ أي: عن عامر بن سعد، عن أبيه رضي الله عنه.
[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة، عن الزهريّ، ساقها الحميديّ في "مسنده"، فقال: ثنا سفيان، ثنا الزهريّ، أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال: مَرِضتُ بمكة عام الفتح، مرضًا أشفيت منه على الموت، فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني، فقلت: يا رسول الله، إن لي مالًا كثيرًا، وليس يرثني إلا ابنتي، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال:"لا"، قلت: فالشطرِ؟ قال: "لا"، قلت: فالثلثِ؟ قال: "الثلثُ، والثلثُ كثير، إنك أن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالةً، يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقةً إلا أُجرت عليها، حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك"، فقلت: يا رسول الله أُخَلَّف على هجرتي؟ فقال: "إنك لن تُخَلَّف بعدي، فتعملَ عملًا تريد به وجه الله، إلا ازددت به رفعةً ودرجةً، ولعلك أن تُخَلَّف بعدي، حتى ينتفع بك أقوام، ويُضَرَّ بك آخرون، اللهم أَمْضِ لأصحابي هجرتهم، ولا تردَّهم على أعقابهم، ولكن البائس سعد ابن خولة"، يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة، قال سفيان: وسعد ابن خولة رجل من بني عامر بن لؤيّ. انتهى
(2)
.
وأما رواية معمر، عن الزهريّ، فساقها عبد الرزّاق في "مصنّفه"، فقال:
(16357)
- عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم-في حجة الوداع، فمَرِضت
(1)
وفي نسخة: "وحدّثني".
(2)
"مسند الحميديّ" 1/ 36.
مرضًا أشفى على الموت، قال: فعادني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله إن لي مالًا كثيرًا، وليس يرثني إلا ابنة لي، أفأوصي بثلثي مالي؟ قال:"لا" قلت: فبشطر مالي؟ قال: "لا" قلت: فبثلث مالي؟ قال: "الثلث، والثلث كثير، إنك يا سعد أن تَدَعَ ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم فقراء، يتكففون الناس، إنك يا سعد لن تنفق نفقةً، تبتغي بها وجه الله، إلا ازددت درجةً ورفعةً، ولعلك أن تُخَلَّف حتى ينفع الله بك أقوامًا، وَيضُرّ بك الآخرين، اللهم أَمْضِ لأصحابي هجرتهم، ولا تَرُدّهم على أعقابهم، لكن البائس سعد ابن خولة"، رثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مات بمكة. انتهى
(1)
.
وأما رواية يونس، عن الزهريّ، فساقها أبو عوانة في "مسنده" مقرونًا بمالك، فقال:
(5768)
- حدّثنا يونس بن عبد الأعلى، قثنا ابن وهب، قال: أخبرني رجال من أهل العلم، منهم مالك بن أنس، ويونس بن يزيد، أن ابن شهاب حدّثهم، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، أخبره عن سعد بن أبي وقاص، أنه قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، من وجع اشتدّ بي، قال: قلت: يا رسول الله، قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال:"لا"، قال: قلت: فالشطر يا رسول الله؟، قال:"لا"، قلت: فبالثلث؛ قال: "الثلث كثير".
في حديث يونس: "إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس، وإنك أن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله، إلا أُجرت فيها، حتى ما تجعل في فِي امرأتك"، قال: قلت: يا رسول الله أُخَلَّف بعد أصحابي؟ قال: "إنك لن تُخَلَّف، فتعمل عملًا صالِحًا، تبتغي به وجه الله، إلا ازددت درجةً ورفعةً، ولعلك أن تُخَلَّف حتى ينتفع بك أقوام، ويُضَرَّ بك آخرون، اللهم أَمْضِ لأصحابي هجرتهم، ولا تَرُدَّهم على أعقابهم، لكن البائس سعد ابن خولة"، يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"مصنف عبد الرزاق" 9/ 64.
(2)
"مسند أبي عوانة" 3/ 480.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4203]
(
…
) - (وَحَدَّثَني
(1)
إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثنَا لو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدٍ، قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيَّ يَعُودُنِي، فَذَكَرَ بِمَعْنَى حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَعْدِ ابْنِ خَوْلَةَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ بِالأَرْضِ الَّتى هَاجَرَ مِنْهَا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الْكَوْسج، تقدّم قبل باب.
2 -
(أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ) عُمر بن سعد بن عُبيد الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ [9](ت 203)(م 4) تقدم في "النكاح" 15/ 3498.
[تنبيه]: قوله: "الْحَفَريّ" قال النوويّ رحمه الله: هو بحاء مهملة، ثم فاء مفتوحتين: منسوب إلى الْحَفَر -بفتح الحاء والفاء- وهي مَحِلّة بالكوفة، كان أبو داود يسكنها، هكذا ذكره أبو حاتم بن حِبّان، وأبو سعد السّمْعانيّ، وغيرهما، واسم أبي داود هذا عُمَر بن سعد الثقة الزاهد الصالح العابد، قال عليّ ابن المدينيّ: ما أعلم أني رأيت بالكوفة أعبد من أبي داود الْحَفَريّ، وقال وكيع: إن كان يُدفع بأحد في زماننا -يعني: البلاء والنوازل- فبأبي داود، تُوُفِّي سنة ثلاث، وقيل: سنة ست ومائتين رحمه الله. انتهى
(2)
.
3 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم قبل باب.
4 -
(سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ القاضي، ثقةٌ فاضل عابدٌ [5](ت 125)، أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَعْدِ ابْنِ خَوْلَةَ) إن أراد قوله المذكور في حديث الزهريّ الماضي، وهو:"لكن البائس سعد ابن خولة"، فمسلّم، وإلا فقد ذكر ما يتعلّق به، حيث قال:"يرحم الله سعد ابن عفراء"، كما سيأتي في التنبيه من رواية البخاريّ، فتنبّه.
(1)
وفي نسخة: "ثنا".
(2)
شرح النوويّ" 11/ 80 - 81.
وقوله: (وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ بِالأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا) الظاهر أن فاعل "يَكره" ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أي: كان صلى الله عليه وسلم يكره أن يموت سعد في مكة التي هاجر منها إلى المدينة، وهذا هو ظاهر سياق البخاريّ الآتي في التنبيه المذكور بعدُ.
ويَحْتَمل أن يكون الفاعل ضمير سعد رضي الله عنه، ولكن فيه التفات؛ لأن الظاهر أن يقول: وأنا أكره الموت
…
إلخ، ويؤيّد هذا الوجه ما يأتي في رواية حميد بن عبد الرحمن، عن ثلاثة من ولد سعد بلفظ:"فقال: قد خشيتُ أن أموت بالأرض التي هاجرت منها، كما مات سعد ابن خولة".
والحاصل أن كُلًّا من النبيّ صلى الله عليه وسلم وسعد رضي الله عنه يكره الموت في الأرض التي هاجر منها، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية سعد بن إبراهيم، عن عامر بن سعد هذه ساقها البخاريّ في "صحيحه"، فقال:
(2591)
- حدّثنا أبو نُعَيْمٍ، حدثنا سُفْيَانُ، عن سَعْدِ بن إبراهيم، عن عَامِرِ بن سَعْدٍ، عن سَعْدِ بن أبي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قال: جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي، وأنا بِمَكَّةَ، وهو يَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ بِالْأَرْضِ التي هَاجَرَ منها، قال:"يَرْحَمُ الله ابن عَفْرَاءَ"، قلت: يا رَسُولَ اللهِ، أُوصِي بمَالِي كُلِّهِ؟ قال:"لَا"، قلت: فَالشَّطْرُ؟ قال: "لَا"، قلت: الثُّلُثُ؟ قال: "فَالثلُثُ، وَالثلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ من أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً، يَتَكَفَّفُونَ الناس في أَيْدِيهِمْ، وَإِنَّكَ مَهْمَا أَنْفَقْتَ من نَفَقَةٍ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ، حتى اللُّقْمَةُ التي تَرْفَعُهَا إلى فِي امْرَأَتِكَ، وَعَسَى الله أَنْ يَرْفَعَكَ، فَيَنْتَفِعَ بِكَ نَاسٌ، وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ"، ولم يَكُنْ له يَوْمَئِذٍ إلا ابْنَةٌ. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4204]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا سِمَاكُ بْنُ حَرْب، حَدَّثَنِي مُصْعَبُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مَرِضْتُ، فَأَرْسَلْتُ إِلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: دَعْنِي أَقْسِمْ مَالِي حَيْثُ شِئْتُ، فَأَبى،
(1)
"صحيح البخاريّ" 3/ 1006.
قُلْتُ: فَالنِّصْفُ؟، فَأَبَى، قُلْتُ: فَالثُّلُثُ؟، قَالَ: فَسَكَتَ بَعْدَ الثُّلُثِ، قَالَ: فَكَانَ بَعْدُ الثُّلُثُ جَائِزًا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى) الأشيب، أبو عليّ البغداديّ، قاضي الموصل وغيرها، ثقةٌ [9](ت 9 أو 201)(ع) تقدم في "الإيمان" 55/ 321.
3 -
(زُهَيْرُ) بن معاوية بن حُديج، تقدّم قبل باب.
4 -
(سِمَاكُ بْنُ حَرْب) بن أوس بن خالد الذهليّ البكريّ، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوق، تغيّر بآخَره، فربّما تلقّن [4](ت 123)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.
5 -
(مُصْعَبُ بْنُ سَعْدِ) بن أبي وقّاص الزهريّ، أبو زُرارة المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 103)(ع) تقدم في "الطهارة" 2/ 541.
و"سعد رضي الله عنه" ذُكر قبله.
وقوله: (مَرِضْتُ) بكسر الراء، من باب تَعِب.
وقوله: (فَأَرْسَلْتُ إِلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ...... إلخ) ظاهره أنه لم يشافه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وليس كذلك، كما تبيّنه الروايات الأخرى، فيُحمَل على أن المراد أنه أرسل إليه ليأتيه، فلما أتاه سأله، فقال: دعني أَقسم مالي
…
إلخ، والله تعالى أعلم.
وقوله: (دَعْنِى)؛ أي: اترُكني.
وقوله: (أقسِمْ مَالِي) بفتح الهمزة، من باب ضرب، وهو مجزوم في جواب الأمر، كما قال في "الخلاصة":
وَبَعْدَ غَيْرِ النَّفْيِ جَزْمًا اعْتَمِدْ
…
إِنْ تَسْقُطِ الْفَا وَالْجَوَابُ قَدْ قُصِدْ
وقوله: (حَيْثُ شِئْتُ) ظرف لـ "أَقْسِمْ"؛ أي: في أي مكان أردتُ، يريد بذلك أن يوصي به في سبيل الله، لا أنه يُضيع ماله؛ لأن إضاعة المال حرام، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إن الله كَرِه لكم ثلاثًا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال"، متّفقٌ عليه.
وقوله: (قَالَ: فَكَانَ بَعْدُ الثُّلُثُ جَائِزًا)؛ أي: قال سعد رضي الله عنه: فكان
الإيصاء بالثلث بعد سكوت النبيّ صلى الله عليه وسلم المذكور جائزًا، والحديث بهذا اللفظ من أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4205]
(
…
) - (وَحَدَّثَني
(1)
مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكٍ، بِهَذَا الإسْنَادِ نَحْوَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ:"فَكَانَ بَعْدُ الثلُثُ جَائِزًا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلهم تقدّموا في الباب، والبابين السابقين.
[تنبيه]: رواية شعبة، عن سماك هذه ساقها الإمام أحمد في "مسنده"، فقال:
(1614)
- ثنا محمدبن جَعْفَرٍ، ثنا شُعْبَةُ، عن سِمَاكٍ، عن مُصْعَب بن سَعْدٍ، عن أبيه، قال: أُنْزِلَتْ فيَّ أَرْبَعُ آياتٍ: يوم بَدْرٍ أَصَبْتُ سَيْفًا، فَأَتَى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رَسُولَ اللهِ نَفِّلْنِيهِ، فقال:"ضَعْهُ"، ثُمَّ قام، فقال: يا رَسُولَ اللهِ نَفِّلْنِيهِ، فقال:"ضَعْهُ"، ثُمَّ قام، فقال: يا رَسُولَ اللهِ نَفِّلْنِيهِ، أُجْعَل كَمَنْ لَا غَنَاءَ له؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ضَعْهُ" من حَيْثُ أَخَذْتَهُ"، فَنَزَلَتْ هذه الآيَةُ:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1]، قال: وَصَنَعَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ طَعَامًا، فَدَعَانَا، فَشَرِبْنَا الْخَمْرَ، حتى انْتَشَيْنَا، قال: فَتَفَاخَرَتِ الأَنْصَارُ وَقُرَيْشٌ، فَقَالَتِ الأَنْصَارُ: نَحْنُ أَفْضَلُ مِنْكُمْ، وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: نَحْنُ أَفْضَلُ مِنْكُمْ، فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ لَحْيي جَزُورٍ، فَضَرَبَ بِهِ أَنْفَ سَعْدٍ، فَفَزَرَهُ، قال: فَكَانَ أَنْفُ سَعْدٍ مَفْزُورًا، قال: فَنَزَلَتْ هذه الآيَةُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة: 90]، قال: وَقَالَتْ أُمُّ سَعْدٍ: أَلَيْسَ الله قد أمرهم بِالْبِرِّ، فَوَاللهِ لَا أَطْعَمُ طَعَامًا، وَلَا أَشْرَبُ شَرَابًا، حتى أَمُوتَ، أو تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، قال: فَكَانُوا إذا أَرَادُوا أَنْ
(1)
وفي نسخة: "ثنا".
يُطْعِمُوهَا، شَجَرُوا فَاهَا بِعَصًا، ثُمَّ أَوْجَرُوهَا، قال: فَنَزَلَتْ هذه الآيَةُ: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8]، قال: وَدَخَلَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم على سَعْدٍ، وهو مَرِيضٌ يَعُودُهُ، فقال: يا رَسُولَ اللهِ أُوصِي بمالي كُلِّهِ؟ قال: "لَا"، قال: فَبِثُلُثَيْهِ؟ فقال: "لَا"، قال: فَبِثُلُثِهِ؟ قال: فَسَكَتَ. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4206]
(
…
) - (وَحَدَّثَني الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، حَدَّثنا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ مُصْعَب بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبيهِ، قَالَ: عَادَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟، قَالَ
(2)
: "لَا"، قُلْتُ: فَالنِّصْفُ؟، قَالَ
(3)
: "لَا"، فَقُلْتُ: أَبِالثّلثِ؟ فَقَالَ
(4)
: "نَعَمْ، وَالثلُثُ كَثِيرٌ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ) بن دينار القرشيّ، أبو محمد الكوفيّ الطحّان، وربّما نُسب لجدّه، ثقةٌ [11] مات في حدود (250)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
2 -
(حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ) الْجُعفيّ، أبو الوليد الكوفيّ المقرئ، ثقةٌ عابدٌ [9](ت 3 أو 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 154.
3 -
(زَائِدَةُ) بن قدامة الثقفيّ، أبو الصَّلْت الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنّيّ [7](ت 160) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.
4 -
(عَبْدُ المَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ) اللَّخْميّ الفرَسيّ الكوفيّ، ثقةٌ فقيةٌ تغيّر حفظه، وربّما دلّس [3](ت 136) وله (103) سنين (ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 296.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (قُلْتُ: فَالنِّصْفُ؟) يَحْتَمل أن يكون مجرورًا عطفًا على "مالي"، ويَحْتَمِل أن يكون مرفوعًا بتقدير خبر؛ أي: فالنصف جائز؟ أو فاعلًا لمحذوف؛ أي: أيجوز النصف؟
(1)
"مسند أحمد بن حنبل" 1/ 185.
(2)
وفي نسخة: "فقال".
(3)
وفي نسخة: "فقال".
(4)
وفي نسخة: "قال".
وقوله: (فَقُلْتُ: أَبالثُّلثِ؟) متعلّق بـ "أُوصي" محذوفًا بدليل ما تقدّم.
والحديث متّفقٌ علَيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4207]
(
…
) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكيُّ، حَدَّثَنَا الثَّقَفِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيِّ، عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ وَلَدِ سَعْدٍ، كُلُّهُمْ يُحَدِّثُهُ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى سَعْدٍ يَعُودُهُ بِمَكَّةَ، فَبَكَى، قَالَ:"مَا يُبْكِيكَ؟ "، فَقَالَ: قَدْ خَشِيتُ أَنْ أَمُوتَ بِالأَرْضِ الَّتِي هَاجَرْتُ مِنْهَا، كَمَا مَاتَ سَعْدُ ابْنُ خَوْلَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا، اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا"، ثَلَاثَ مِرَارٍ
(1)
، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي مَالًا كَثِيرًا، وَإِنَّمَا يَرِثُني ابْنَتي، أَفَأُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ قَالَ:"لَا"، قَالَ: فَبِالثُّلُثَيْنِ؟ قَالَ: "لَا"، قَالَ: فَالنِّصْفُ؟ قَالَ: "لَا"، قَالَ: فَالثلُثُ؟ قَالَ: "الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّ صَدَقَتَكَ مِنْ مَالِكَ صَدَقَةٌ، وَإِن نَفَقَتَكَ عَلَى عِيَالِكَ صَدَقَةٌ، وإِن مَا تَأْكُلُ امْرَأَتُكَ مِنْ مَالِكَ صَدَقَةٌ، وَإِنَّكَ أَنْ تَدَعَ أَهْلَكَ بِخَيْرٍ -أَوْ قَالَ: بِعَيْشٍ- خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ
(2)
يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ"، وَقَالَ بِيَدِهِ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّي) هو: محمد بن يحيى بن أبي عُمر الْعَدنيّ، ثم المكيّ، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(الثَقَفِيُّ) هو: عبد الوهّاب بن عبد المجيد البصريّ، تقدّم قبل بابين.
3 -
(أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ) ابن أبي تميمة كيسان، تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ) القرشيّ، أو الثقفيّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ [5](بخ م 4) تقدم في "الجمعة" 15/ 2008.
5 -
(حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ) البصريّ، ثقةٌ فقيهٌ [3](ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 491.
وأولاد سعد الثلاثة، سيأتي الكلام فيهم بعدُ، وأما "سعد" فذُكر قبله.
(1)
وفي نسخة: "مرّات".
(2)
وفي نسخة: "من أن تَدَعَهم عالةً يتكفّفون".
وقوله: (عَنْ ثَلَاَثةٍ مِنْ وَلَدِ سَعْدٍ، كُلُّهُمْ يُحَدِّثُهُ عَنْ أَبِيهِ) هكذا هذه الرواية متّصلة، إلا أن فيها إبهام أولاد سعد، وفي الرواية التالية:"عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ وَلَدِ سَعْدٍ، قَالُوا: مَرِضَ سَعْدٌ بِمَكَّةَ"، وهذه الرواية مرسلة؛ لأن أولاد سعد لم يشهدوا القضيّة؛ لكونهم غير صحابيين، قال النوويّ رحمه الله: قوله: "عن حميد بن عبد الرحمن الحميريّ، عن ثلاثة من ولد سعد، كلهم يحدثه عن أبيه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل على سعد يعوده بمكة"، وفي الرواية الأخرى:"عن حميد، عن ثلاثة من ولد سعد، قالوا: مَرِضَ سعد بمكة، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده"، فهذه الرواية مرسلة، والأولى متصلة؛ لأن أولاد سعد تابعيّون، وإنما ذكر مسلم هذه الروايات المختلفة في وصله وإرساله؛ ليبيّن اختلاف الرواة في ذلك، قال القاضي: وهذا وشِبْهَه من الْعِلَل التي وَعَدَ مسلم في خطبة كتابه أنه يذكرها في مواضعها، فظَنّ ظانّون أنه يأتي بها مفردة، وأنه تُوُفّي قبل ذكرها، والصواب أنه ذكرها في تضاعيف كتابه، كما أوضحناه في أول هذا الشرح، ولا يقدح هذا الخلافُ في صحة هذه الرواية، ولا في صحة أصل الحديث؛ لأن أصل الحديث ثابت من طُرُق من غير جهة حميد، عن أولاد سعد، وثبت وصله عنهم في بعض الطرُق التي ذكرها مسلم، قال: وقد قدّمنا في أول هذا الشرح أن الحديث إذا رُوِي متصلًا ومرسلًا، فالصحيح الذي عليه المحققون أنه محكوم باتصاله؛ لأنها زيادة ثقةٌ، وقد عَرَّض الدارقطنيّ بتضعيف هذه الرواية، وقد سبق الجواب عن اعتراضه الآن، وفي مواضع نحو هذا، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال الحافظ الرشيد العطّار رحمه الله في "الغرر الفوائد المجموعة" -بعد أن أورد رواية حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن سعيد، عن حميد بن عبد الرحمن الحميريّ، عن ثلاثة من ولد سعد، قالوا: مرض سعد بمكة، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده، الحديث- ما نصّه: قلت: وهذا مرسل، وليس في ولد سعد بن أبي وقاص من له صحبة، ولا رواية عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قاله الدارقطنيّ وغيره، وهذا الحديث وإن كان مرسلًا من هذا الوجه، فإنه متصل في كتاب
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 81 - 82.
مسلم وغيره، من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، ومن حديث مصعب بن سعد أيضًا عن أبيه، وأخرجه البخاريّ، وأبو داود، والنسائيّ من حديث عائشة بنت سعد، عن أبيها أيضًا كذلك.
والطريق الذي ذكر الدارقطنيّ أنها مرسلة، إنما أوردها مسلم في الشواهد، ومع ذلك فقد أخرجها في كتابه متصلةً من وجه آخر من حديث عبد الوهاب الثقفيّ، عن أيوب، بإسناده المتقدم، وقال فيها: عن ثلاثة من ولد سعد كلهم يحدثه عن أبيه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل على سعد يعوده بمكة الحديث، فثبت اتصاله في الكتاب من حديث أيوب بن أبي تميمة أيضًا -والحمد لله-.
وإنما أورده مسلم من الوجهين المذكورين عن أيوب؛ لينَبِّه على الاختلاف عليه في إسناده، والله أعلم.
قال: وبنو سعد بن أبي وقاص سبعة فيما ذكر عليّ ابن المدينيّ وهم: مصعب، وعامر، ومحمد، وإبراهيم، وعمر، ويحمص، وعائشة، وذكر أبو زرعة الدمشقيّ أنهم ثمانية، فَعَدّ هذه السبعة، وزاد إسحاق بن سعد، والله أعلم.
انتهى كلام الرشيد العطّار رحمه الله
(1)
، وهو بحث مفيدّ جدًّا، والله تعالى أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: ثم وجدت سعيد بن منصور قد أشار إلى تعيين أحد الثلاثة بأنه عامر بن سعد، فقال:
(331)
- حدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِنْ وَلَدِ سَعْدٍ، هَذَا أَحَدُهُمْ -يَعْنِي: عَامِرَ بْنَ سَعْدٍ- أَنَّ سَعْدًا مَرِضَ بِمَكَةَ، فَأَتَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِني أَدَعُ مَالًا، وَلَيْسَ لِي وَارِث إِلَا كَلَالَةٌ، أَفَأُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ قَالَ:"لَا"، قَالَ: فَبِنِصْفِهِ؟ قَالَ: "لَا" قَالَ: فَبِثُلُثِهِ؟ قَالَ: "الثلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ أَهْلَكَ بِعَيْشٍ -أَوْ قَالَ: - بِخَيْرٍ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ". انتهى
(2)
.
(1)
"غرر الفوائد المجموعة" 1/ 63 - 64.
(2)
"سنن سعيد بن منصور" 1/ 129.
وقوله: (وَقَالَ بِيَدِهِ)؛ أي: أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم بيده إلى كيفيّة سؤالهم الناس.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4208]
(
…
) - (وَحَدَّثَني أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِي، حَدَّثنَا حَمَّادٌ، حَدَّثنَا أَيُّوبُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيِّ، عَنْ ثَلَاَثةٍ مِنْ وَلَدِ سَعْدٍ، قَالُوا: مَرِضَ سَعْدٌ بِمَكَّةَ، فَأَتاهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ. بِنَحْوِ حَدِيثِ الثَّقَفِيِّ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أبو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ) سليمان بن داود الزهرانيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.
2 -
(حَمَّادُ) بن زيد، تقدّم في الباب الماضي.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: رواية حمّاد بن زيد، عن أيوب هذه لم أجد من ساقها بتمامها، إلا أن أبا عوانة قال في "مسنده":
(5783)
- حدّثنا الصغانيّ، قال: ثنا عبيد الله بن عمر، قثنا حماد بن زيد، قثنا أيوب، عن عمرو بن سعيد، عن حميد بن عبد الرحمن الحميريّ، عن ثلاثة من بني سعد بن مالك كلهم يحدث عن أبيه، كلهم يقول: مرض سعد بمكة فأتاه النبيّ صلى الله عليه وسلم يعوده، فقال: يا رسول الله إني أَرْهَب أن أموت بالأرض التي هاجرت منها -فذكر مثله سواء- "أهلك أغنياء، أو قال: بخير- أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من أن تدعهم يتكففون الناس". انتهى
(1)
.
[تنبيه آخر]: هذه الرواية أيضًا مرسلة؛ كسابقتها، وقد تقدّم الكلام فيها، ولله الحمد والمنّة.
(1)
"مسند أبي عوانة" 3/ 485.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4209]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنِي ثَلَاَثَةٌ مِنْ وَلَدِ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، كلُّهُمْ يُحَدِّثُنِيهِ بِمِثْلِ حَدِيثِ صَاحِبِهِ، فَقَالَ: مَرِضَ سَعْدٌ بِمَكَّةَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ. بِمِثْلِ
(1)
حَدِيثِ
(2)
عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ حُمَيْدٍ الْحِمْيَرِيِّ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(عَبْدُ الأَعْلَى) بن عبد الأعلى الساميّ البصريّ، تقدّم قبل بابين.
2 -
(هِشَامُ) بن حسّان الأزديّ الْقُردوسيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ، من أثبت الناس في ابن سيرين [6](ت 7 أو 148)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
3 -
(مُحَمَّدُ) بن سيرين، تقدّم قبل بابين.
والباقون تقدّم الكلام فيهم قبله.
[تنبيه]: رواية محمد بن سيرين، عن حميد بن عبد الرحمن الْحميريّ لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4210]
(1629) - (حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيُّ، أَخْبَرَنَا عِيسَى- يَعْني: ابْنَ يُونُسَ- (ح) وَحَدَّثنَا أبو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا أبو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ. لَوْ أَنَّ النَّاسَ غَضُّوا مِنَ الثُّلُثِ إِلَى الرُّبُعِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ:"الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ"، وَفِي حَدِيثِ وَكِيعٍ:"كَبِيرٌ، أَوْ كَثِيرٌ").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيُّ) أبو إسحاق الفرّاء الملقّب بالصغير، تقدّم قريبًا.
2 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبيعيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
(1)
وفي نسخة: "مثل".
(2)
وفي نسخة: "بنحو حديث عمرو".
3 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدّم قريبًا.
5 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قبل باب.
6 -
(ابْنُ نمَيْرٍ) هو: عبد الله بن نُمير الهمدانيّ، تقدّم في الباب الماضي.
7 -
(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) تقدّم قبل بابين.
8 -
(أَبُوهُ) عروة بن الزبير، تقدّم أيضًا قبل بابين.
9 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله الحبر البحر رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.
[تنبيه]: قال الحافظ أبو عليّ الغساني الجيّانيّ رحمه الله في "التقييد": قوله: "وحدّثنا أبو كريب، حدّثنا ابن نُمير": هكذا عن أبي العلاء بن ماهان: مسلم عن أبي كريب، عن ابن نمير، وعن أبي أحمد الْجُلُوديّ: مسلم، عن أبي بكر بن أبي شيبة، قال: نا ابن نُمير. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: خلاصة ما أشار إليه الجيّانيّ أنّ رواة "صحيح مسلم" اختلفوا في هذا الإسناد، فأما ابن ماهان، فجعل شيخ مسلم في هذا الإسناد أبا كريب؛ كالسند السابق، وأما الجلوديّ، فجعل شيخه أبا بكر بن أبي شيبة؛ كالسند السابق أيضًا، ولا يستبعد أن يروي مسلم عن كليهما، عن ابن نمير، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: لَوْ أَنَّ النَّاسَ غَضُّوا مِنَ الثُّلُثِ)"غَضُّوا"- بمعجمتين، الثانية مشدّدة؛ أي: نقصوا في الوصيّة من الثلث إلى الربع، و"لو" للتمنّي، فلا تحتاج إلى جواب، ويَحْتَمِل أن تكون شرطيّة، والجواب محذوف، وقد وقع في رواية ابن أبي عمر في "مسنده"، عن سفيان بلفظ:"كان أحبّ إليّ"، أخرجه الإسماعيليّ من طريقه، ومن طريق أحمد بن عبدة أيضًا، وأخرجه من طريق العبّاس بن الوليد، عن سفيان بلفظ:"كان أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(إِلَى الرُّبُعِ) زاد الحميديّ "في الوصيّة"، وكذا رواه أحمد، عن وكيع، عن هشام، بلفظ: "وددتُّ أن الناس غضّوا من الثلث إلى الربع في الوصيّة
…
" الحديث.
(فَإنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) الفاء للتعليل؛ أي: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
إلخ، وهو تعليلٌ من ابن عبّاس رضي الله عنهما لِمَا اختاره من النقصان عن الثلث، وكأنه أخذ ذلك من وصفه صلى الله عليه وسلم الثلث بالكثرة، وقد تقدّم بيان الاختلاف في توجيه ذلك في شرح الحديث الأول من هذا الباب، ومن أخذ بقول ابن عباس في ذلك، كإسحاق بن راهويه، والمعروف في مذهب الشافعيّ استحباب النقص عن الثلث، أفاده في "الفتح".
وقال النوويّ رحمه الله: وفيه استحباب النقص عن الثلث، وبه قال جمهور العلماء مطلقًا، ومذهبنا أنه إن كان ورثته أغنياء استُحبّ الإيصاء بالثلث، وإلا فيستحبّ النقص منه. وعن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه أنه أوصى بالخمس. وعن عليّ رضي الله عنه نحوه، وعن ابن عمر، وإسحاق بالربع، وقال آخرون: بالسدس، وآخرون بدونه، وقال آخرون: بالعشر، وقال إبراهيم النخعيّ: رحمه الله: كانوا يكرهون الوصيّة بمثل نصيب أحد الورثة، ورُوي عن عليّ، وابن عبّاس، وعائشة، وغيرهم رضي الله عنهم أنه يستحبّ لمن له ورثةٌ، وماله قليل ترك الوصيّة. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
(قَالَ: "الثُّلُثُ) تقدّم أنه تجوز فيه أوجه الإعراب الثلاثة، وأَوْلاها النصب؛ أي: أعط الثلث (وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ) بالثاء المثلّثة، وهو مبتدأ وخبره (وَفِي حَدِيثِ وَكِيعٍ:"كَبِيرٌ، أَوْ كَثِيرٌ") بالباء الموحّدة، و"أو" فيه للشكّ من الراوي، والله تعالى اعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 83.
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 4210](1629)، و (البخاريّ) في "الوصايا"(2743)، و (النسائيّ) في "الوصايا"(6/ 244) و"الكبرى"(4/ 104)، و (ابن ماجه) في "الوصايا"(2711)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 240)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 230 و 233)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.
(3) - (بَابُ وُصُولِ ثَوَابِ الصَّدَقَاتِ إِلَى الْمَيِّتِ)
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4211]
(1630) - (حَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ- عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَبِي مَاتَ، وَتَرَكَ مَالًا، وَلَمْ يُوصِ، فَهَلْ يُكَفِّرُ عَنْهُ أَنْ أتصَدَّقَ عَنْهُ؟ قَالَ: "نَعَمْ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المَقابريّ، أبو زكرياء البغداديّ، ثقةٌ عابدٌ [10]، (ت 234)(عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
2 -
(قتيْبَة بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) السَّعْديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244) وقد قارب المائة، أو جاوزها (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
4 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
5 -
(الْعَلَاءُ) بن عبد الرحمن الْحُرَقيّ مولاهم المدنيّ، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [5] مات سنة بضع و (130)(ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
6 -
(أَبُوهُ) عبد الرحمن بن يعقوب الْجُهَنيّ الْحُرقيّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ [3](ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
7 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد: أنه مسلسلٌ بالمدنيين من إسماعيل بن جعفر، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَن رَجُلًا) لم أعرفه، ولا أباه (قَالَ لِلنِّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَبِي مَاتَ) لا يعارض هذا ما يأتي في حديث عائشة -رضى الله عنها- التالي: "إن أمي افتُلتت نفسُها"؛ لإمكان الجمع بحملهما على واقعتين، ويدلّ على ذلك قوله في هذا الحديث:"وَتَرَكَ مَالًا"؛ لأن أم سعد بن عبادة لم يكن لها مال، ولذا لما قيل لها:"أوصي، قالت فيم أوصي؟ المال مال سعد"، والله تعالى أعلم.
(وَتَرَكَ مَالًا، وَلَمْ يُوصِ، فَهَلْ يُكَفِّرُ عَنْهُ) من التكفير، وهو التغطية، والمراد: محو ذنوبه (أَنْ أتصَدَّقَ عَنْهُ؟)"أن" مصدريّة، والمصدر المؤول فاعلُ "يكفّر"؛ أي: فهل يمحو عنه ذنوبه تصدّقك عنه؟.
وقال القرطبيّ رحمه الله: ظاهر قوله: "فهل يكفّر عنه أن أتصدق عنه" أنه عَلِمَ أن أباه كان فرَّط في صدقات واجبة، فسأل: هل يجزئ عنه أن يقوم بها عنه؛ فأجابه النبيّ صلى الله عليه وسلم: "نعم"، وعلى هذا فيكون فيه دليل على أن من قام عن آخر بواجبٍ ماليٍّ في الحياة، أو بعد الموت أجزأ عنه، وهذا مما تجوز النيابة فيه بالإجماع، وأنه مما يُستحب، وخصوصًا في الآباء؛ فإنَّها مبالغة في بِرِّهم، والقيام بحقوقهم، وقد قال-صلى الله عليه وسلم: "من مات وعليه صيام صام عنه وليُّه
(1)
"، متّفقٌ عليه، وقد تقدم في كتاب الصوم. وإذا كان هذا في الصيام؛ كان الحقّ المالي بذلك أولى.
وقيل: إنَّما سأل: هل يُكفَّر بذلك خطاياه؟ ولا ينبغي أن يُظَنَّ بصحابيّ تفريط في زكاة واجبة إلى أن مات، فإن هذا بعيد في حقوقهم، فالأولى به أن يُحْمَل على أنَّه سأل: هل لأبيه أجر بذلك فيكفر عنه به؟ كما قال السائل الآخر في حقّ أمه: أفلها أجر؟.
(1)
زاد القرطبيّ: "إن شاء"، وهي في رواية البزّار، وهي زيادة منكرة؛ لتفرّد ابن لَهيعة بها، كما قال الحافظ في "الفتح"، وقد أجاد الشيخ الألبانيّ رحمه الله في "تمام المنّة"، فراجعه.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن هذا القول هو الأرجح، فتأمله، والله تعالى أعلم.
قال: ويَحْتَمِل أن يكون ذلك في الوقت الذي كانت فيه الوصية واجبة.
قال: وهذا مُحْتَمِل، لا سبيلَ إلى دفعه، وعلى القول الأول، فإذا عَلِم الوارث أن مُوَرِّثه فَرَّط في زكوات، أو واجبات مالية، فقال الشافعيّ، وأحمد: على الوارث إخراج ذلك من رأس المال؛ كالدُّيون، وقال مالك: إن أوصى بذلك أخرج من الثلث، وإلا فلا، وقال بعض أصحابه: إذا علم أنه لم يخرج الزكاة؛ أُخرجت من رأس المال؛ أوصى بها، أو لم يوص، قاله أشهب، وهو الصحيح؛ لأن ذلك دَين الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"دَين الله أحقّ بالقضاء"، أو نقول: هو من جملة ديون الآدميين؛ لأنه حقّ الفقراء، وهم موجودون، وليس للوارث حقّ إلا بعد إخراج الدَّين والوصايا. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("نَعَمْ")؛ أي: يكفِّر تصدّقك عنه ذنوبه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 4211](1630)، و (النسائيّ) في "الوصايا"(6/ 251) و"الكبرى"(4/ 109)، و (ابن ماجه) في "الوصايا"(2/ 906)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 379)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(4/ 123)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 493)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 278)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أن فيه جواز الصدقة عن الميت، واستحبابها، وأن ثوابها
(1)
"المفهم" 4/ 552 - 553.
يصله، وينفعه، ولا سيّما إن كان من الولد، قال النوويّ رحمه الله: وهذا كلّه أجمع عليه المسلمون. وقد تقدّم البحث في هذا مستوفًى في "كتاب الزكاة" في المسألة الرابعة برقم [15/ 2326].
2 -
(ومنها): أنه مخصّص عموم قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 39]، ويلتحق بالصدقة العتق عنه عند الجمهور، خلافًا للمشهور عند المالكيّة، وهل يلتحق به غير ذلك من أعمال البرّ؛ كالحجّ والصوم؟ فيه خلاف، سبق تحقيقه مستوفًى في "كتاب الزكاة"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
3 -
(ومنها): جواز ترك الوصيّة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يذمّ الرجل في تركه الوصيّة.
4 -
(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من استشارة النبيّ صلى الله عليه وسلم في أمور الدِّين.
5 -
(ومنها): أن فيه المسارعة إلى عمل البرّ، والمبادرة إلى برّ الوالدين.
6 -
(ومنها): أن إظهار الصدقة قد يكون خيرًا من إخفائها إذا صدقت النيّة، وقد سبق البحث في الحديث عند شرح حديث عائشة رضي الله عنهما التالي في "كتاب الزكاة" بالرقم المتقدّم، فراجعه تستفد، والله تعالى وليّ التوفيق.
وبالسند المتصل إلى المؤئف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[3212]
(1004) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، أَخْبَرَني أَبِي عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنِّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أُمِّيَ افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَإِنِّي أَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، فَلِي أَجْرٌ أَنْ أتصَدَّقَ عَنْهَا؟ قَالَ: "نَعَمْ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وتقدّموا قريبًا، والحديث تقدّم مستوفى الشرح، والمسائل في "كتاب الزكاة" برقم [15/ 2326](1004) فراجعه تستفد علْمًا جمًّا، والله تعالى وليّ التوفيق.
وقوله: (أَنَّ رَجُلًا قَالَ
…
إلخ) هو سعد بن عبادة رضي الله عنه، كما تقدّم بيانه بالرقم المذكور.
وقوله: (إِنَّ أُمِّيَ) هي: عمرة بنت سعد بن عمرو بن زيد مناة، وقيل: بنت سعد بن قيس، وقيل: بنت مسعود بن قيس بن عمرو بن زيد مناة بن عديّ بن عمرو بن مالك بن النجّار، ماتت رضي الله عنهما في حياة النبيّ-صلى الله عليه وسلم سنة خمس، كما تقدّم أيضًا بالرقم المذكور.
وقوله: (افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا) -بضمّ المثنّاة، وكسر اللام-؛ أي: سُلِبَت، على ما لم يُسمّ فاعله، و"نفسها" بالرفع نائب الفاعل، يقال: افْتُلِتَ فلانٌ؛ أي: مات فجأةً، وافتُلتت نفسه كذلك، وضبطه بعضهم بفتح السين، إما على التمييز، وإما على أنه مفعول ثان، والفَلْتَةُ، والإفلات: ما وقع بغتة، من غير رويّة، وذكر ابن قُتيبة بالقاف، وتقديم المثنّاة، وقال: هي كلمة تقال لمن قتله الحبّ، ولمن مات فَجْأة، والمشهور في الرواية بالفاء.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "افتُلِتَتْ نفسُها" ضبطناه "نفسَها"، و"نفسُها" بنصب السين ورفعها، فالرفع على أنه مفعولُ ما لم يُسَمَّ فاعلُه، والنصب على أنه مفعولٌ ثانٍ، قال القاضي عياضٌ: أكثر روايتنا فيه بالنصب، وقوله:"افتُلتت" بالفاء، هذا هو الصواب الذي رواه أهل الحديث وغيرهم، ورواه ابن قتيبة:"اقتُتِلت نفسها" بالقاف، قال: وهي كلمة تقال لمن مات فَجْأَةً، ويقال أيضًا لمن قتلته الجنّ والعشق، والصواب الفاء، قالوا: ومعناه: ماتت فَجْأَةً، وكلُّ شيء فُعِل بلا تَمَكّث، فقد افتُلِتَ، ويقال: افْتَلَتَ الكلامَ، واقترحه، واقتضبه: إذا ارتجله. انتهى
(1)
.
وقوله: (وَإِنِّي أَظُنُّهَا
…
إلخ) إنما قال هذا لِمَا عَلِمه من حرصها على الخير، أو لِمَا عَلِمه من رغبتها في الوصيّة، قاله النوويّ رحمه الله
(2)
.
وقوله: (فَلِي أَجْرٌ أَنْ أتصَدَّقَ عَنْهَا؟) وفي الرواية التالية: "أفلها أجر إن تصدّقت عنها؟ "، ولا تنافي بينهما؛ لأنه يحصل له الأجر ببرّه أمه، كما يحصل لها الأجر بصدقته عنها، والله تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "فلها أجر؟ "، وفي الرواية الأخرى:"فلي أجر" لا تناقض بين الروايتين؛ لأنه يمكن أن يكون سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم بالصيغتين،
(1)
"شرح النووي" 7/ 89 - 90.
(2)
"شرح النوويّ" 11/ 84.
فأجابه بمجموعهما، غير أنه حدَّث تارة بإحداهما، وتارة أخرى بالأخرى، أو يكون مِنْ نَقْلِ بعض الرواة عنه، ومعنى الجمع بينهما صحيح؛ لأنها يكون لها أجر بما تصدَّق عنها، وله أجرٌ بما برَّها به، وأدخله عليها.
وقوله: (قَالَ: "نَعَمْ")؛ أي: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: نعم تصدّق عنها، زاد في رواية النسائيّ:"فَتَصَدَّقَ عَنْهَا"، وفي رواية له:"فقال سعد: حائطُ كذا وكذا صدقة عنها، لحائط سمّاه"، وفي رواية ابن عبّاس رضي الله عنهما عنده:"قال: فإن لي مَخْرَفًا، فأشهدك أني قد تصدّقت به عنها".
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تخريجه، وبيان بقيّة المسائل في "كتاب الزكاة" بالرقم المذكور، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4213]
(
…
) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَجُلًا أتى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَلَمْ تُوصِ، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أفَلَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: "نَعَمْ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلّهم تقدّموا قريبًا، والحديث متّفقٌ عليه، كما أسلفته آنفًا.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4214]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو كُرَيْبِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ (ح) وَحَدَّثَنِي الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثنَا شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاق (ح) وَحَدَّثَني أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ، حَدَّثنَا يَزِيدُ -يَعْنِي: ابْنَ زُريعِ- حَدَّثَنَا رَوْحٌ - وَهُوَ ابْنُ الْقَاسِمِ- (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، كُلُّهُمْ عَنْ هِشَام بْنِ عُرْوَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، أَمَّا أَبُو أُسَامَةَ، وَرَوْحٌ، فَفِي حَدِيثِهِمَا:"فَهَلْ لِي أجْرٌ؟ "، كَمَا قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَأمّا شُعَيْبٌ، وَجَعْفَرٌ، فَفِي حَدِيثِهِمَا:"أفَلَهَا أَجْرٌ؟ "، كَرِوَايَةِ ابْنِ بِشْرٍ).
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة، تقدّم قريبًا.
2 -
(الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى) بن أبي زُهير البغداديّ، أبو صالح الْقَنْطريّ، ثقةٌ [10](ت 232)(خت م مد س ق) تقدم في "الإيمان" 46/ 294.
3 -
(شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ) بن عبد الرحمن الأمويّ مولاهم البصريّ، ثمّ الدمشقيّ، ثقةٌ رُمي بالإرجاء، من كبار [9](ت 189)(خ م د س ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 34/ 1418.
4 -
(أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ) العيشيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
5 -
(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) العيشيّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
6 -
(رَوْحُ بْنُ الْقَاسمِ) البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
7 -
(جَعْفرُ بْنُ عَوْنِ) بن جعفر بن عمرو بن حُريث المخزوميّ، أبو عون الكوفيّ، صدوق [9](ت 6 أو 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 295.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
[تنبيه]: رواية روح بن القاسم، عن هشام بن عروة، ساقها الطبرانيّ في "الأوسط"، فقال:
(703)
- حدّثنا أحمد، قال: حدّثنا أمية بن بسطام، قال: حدّثنا يزيد بن زريع، عن رَوْح ابن القاسم، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن رجلًا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن أمي افتُلِتَت نفسها، وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال:"نعم"
(1)
.
وأما رواية جعفر بن عون، عن هشام بن عروة، فساقها ابن أبي شيبة في "مصنّفه"، فقال:
(12077)
- حدّثنا جَعْفَرُ بن عَوْنٍ، عن هِشَامِ بن عُرْوَةَ، عن أبيه، عن عَائِشَةَ، قالت: جاء رَجُلٌ إلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أُمِّي افتُلتت نَفْسَهَا، وإنها لو تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، فَهَلْ لها من أَجْرٍ إن تَصَدَّقْت عنها؟ قال:"نعم". انتهى.
وأما رواية كلِّ من أبي أسامة، وشعيب بن إسحاق كلاهما عن هشام بن
(1)
"المعجم الأوسط" 1/ 216 - 217.
عروة، فقد أسلفت في "كتاب الزكاة" من ساقهما، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
وقد أسلفت هناك أني لم أجد من ساق رواية عليّ بن مسهر، والآن -ولله الحمد- قد وجدته، فقد ساقها أبو الفضل الزهريّ
(1)
، فقال:
نا جعفر، نا مِنجاب بن الحارث، أنا عليّ بن مُسهر، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنهما، قالت: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن أمي افتُلتت نفسها، وأظن أنها لو تكلمت لتصدقت، فهل لها من أجر إن تصدقت عنها؟ قال:"نعم"
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(4) - (بَابُ مَا يَلْحَقُ الإنْسَانَ مِنَ الثَّوَابِ بَعْدَ وَفَاتِهِ)
قوله: "يَلْحَقُ" بفتح أوله، وثالثه، من باب تَعِبَ، يقال: لَحِقته، ولَحِقتُ به أَلْحَق، من باب تَعِبَ لَحَاقًا بالفتح: أدركته، وألحقته بالألف مثلُهُ، وألحقتُ زيدًا بعمرو: أتبعته إياه، فَلَحِقَ هو، وألحق أيضًا، وفي الدعاء:"إن عذابك بالكفار مُلْحَقٌ"، يجوز بالكسر اسم فاعل بمعنى لَاحِق، ويجوز بالفتح اسم مفعول؛ لأن الله تعالى أَلْحَقَهُ بالكفار؛ أي: ينزله بهم، وأَلْحَقَ القائف الولدَ بأبيه: أخبر بأنه ابنه؛ لِشَبَهٍ بينهما يظهر له، واسْتَلْحَقْتُ الشيءَ: ادَّعيته، ولَحِقَهُ الثمنُ لُحُوقًا: لزمه، فاللُّحوقُ: اللزوم، واللَّحاقُ: الإدراك، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(3)
.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4215]
(1631) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقتيْبَةُ -يَعْني: ابْنَ سَعِيدٍ- وَابْنُ حُجْرٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -هُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ- عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
(1)
هو: أبو الفضل عبيد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله بن سعد بن إبراهيم الزهريّ (المتوفى: سنة 381 هـ).
(2)
حديث أبي الفضل الزهري 1/ 217.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 550.
أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ، إِلَّا مِنْ ثَلَاَثةٍ، إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ").
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد هو الإسناد المذكور أول الباب الماضي، وقد مضى بيانه هناك.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ)، وفي رواية:"ابن آدم"(انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ)؛ أي: ثواب عمله، ولمّا كان بمنزلةٍ انقطع الثواب من كلّ أعماله، تعلّق به قوله:(إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ)؛ أي: ثلاثة أعمال. وقيل: بل الاستثناء متعلّقٌ بالمفهوم؛ أي: ينقطع ابن آدم من كلّ عمل إلا من ثلاثة أعمال، والحاصل أن الاستثناء في الظاهر مشكلٌ، وبأحد الوجهين المذكورين يندفع الإشكال، قاله السنديّ رحمه الله في "شرح النسائيّ".
وقال القاضي عياضٌ رحمه الله: معناه أن عمل الميت منقطع بموته، لكن هذه الأشياء لمّا كان هو سببها، من اكتساب الولد، وبثّه للعلم عند من حَمَله عنه، أو إيداعه تأليفًا بقي بعده، وإيقافه هذه الصدقة، بقيت له أجورها ما بقيت، ووُجدت. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: معنى الحديث أن عمل الميت ينقطع بموته، وتجدّد الثواب له إلا في هذه الأشياء الثلاثة؛ لكونه كان سببها، فإن الولد من كسبه، وكذلك العلم الذي خلّفه، من تعليم، أو تصنيف، وكذلك الصدقة الجارية، وهي الوقف. انتهى
(2)
.
وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: هذه الثلاث الخصال إنما جرى عملها بعد الموت على من نُسبت إليه؛ لأنه تسبّب في ذلك، وحَرَصَ عليه، ونواه، ثم إن فوائدها متجدّدة بعده دائمة، فصار كأنه باشرها بالفعل، وكذلك حكم كلّ ما سنّه الإنسان من الخير، فتكرّر بعده، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"من سنّ سُنّةً في الإسلام حسنة، كان له أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة"، رواه مسلم. وإنما
(1)
"زهر الربى" 6/ 251.
(2)
"شرح النوويّ" 11/ 87 - 88.
خصّ هذه الثلاثة بالذكر في هذا الحديث؛ لأنها أصول الخير، وأغلب ما يَقصد أهل الفضل بقاءه بعدهم، والصدقة الجارية بعد الموت هي: الْحُبُسُ، فكان حجةَ على من يُنكر الْحُبُس. وفيه ما يدلّ على الحضّ على تخليد العلوم الدينيّة بالتعليم، والتصنيف، وعلى الاجتهاد في حمل الأولاد على طريق الخير والصلاح، ووصيّتهم بالدعاء عند موته، وبعد الموت. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
(إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ) بدل تفصيل من مجمل "إِلَّا من ثلاثة"، ومعنى "جارية"؛ أي: غير منقطعة؛ كالوقف، أو ما يُديم الوليّ إجراءها عنه، وقيل: لبقاء ثمرات الأعمال بقي ثوابها (أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ) بالبناء للمفعول؛ أي: يحصل نفعه للناس، كأن يعلّم شخصًا، فيقوم ذلك الشخص بنشر ذلك العلم بعد موته، أو يصنّف كتابًا، فينتفع به الناس بعد موته.
وذكر القاضي تاج الدين السبكيّ رحمه الله: أن حمل العلم المذكور على التأليف أقوى؛ لأنه أطول مدّة، وأبقى على ممرّ الزمان، ورأيت من تكلّم على هذا الحديث في كرّاسة، قال الأخنائيّ في "كتاب البُشْرَى بما يَلحَق الميت من الثواب في الدار الأخرى": قوله: "وعلم يُنتفع به" هو ما خلّفه من تعليم، أو تصنيف، وروايةٍ، وربّما دخل في ذلك نَسْخُ الكتاب، وتسطيرها، وضبطها، ومقابلتها، وتحريرها، والإتقان لها بالسماع، وكتابة الطبقات، وشراء الكتب المشتملة على ذلك، ولكن شرطه أن يكون منتفعًا به. انتهى
(2)
.
(أَوْ وَلَدٍ صَالِحِ يَدْعُو لَهُ") قال السنديّ رحمه الله: وفي عدّ الولد من الأعمال تجوّزٌ، لا يخفى. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: جعل الشارع الولد من جملة كسب الإنسان، فقد أخرج ابن ماجه بإسناد صحيح، من حديث عائشة رضي الله عنها، مرفوعًا:"إن أطيب ما أكل الإنسان من كسب يده، وإن ولده من كسبه"، فسمّاه كسبًا، كما عدّه في هذا الحديث من أعماله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.
(1)
"المفهم" 4/ 554 - 555.
(2)
راجع: "زهر الرُّبَى في شرح المجتبى" للسيوطيّ رحمه الله 6/ 251 - 252.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 4215](1631)، و (أبو داود) في "الوصايا"(2880)، و (الترمذيّ) في "الأحكام"(1372)، و (النسائيّ) في "الوصايا"(6/ 251) و"الكبرى"(4/ 109)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(242)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(38)، و (أحمد) في "باقي مسنده"(2/ 372)، و (الدارميّ) في "سننه"(559)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 343)، و (ابن خُزيمة) في "صحيحه"(4/ 122)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7/ 286)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(246 و 1247)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 278)، و"الصغرى"(6/ 62)، و"المعرفة"(5/ 105)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(139)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما يلحق الإنسان بعد موته من الثواب، وهو ثواب الصدقة الجارية، وهو يعمّ ما فعله الإنسان قبل موته، مِنْ وَقْف، ونحوه، مما له البقاء بعد موته.
2 -
(ومنها): أن فيه دليلًا على صحّة الوقف، وعظيم ثوابه، والردّ على من أنكر ذلك.
3 -
(ومنها): أن فيه فضيلة العلم، والحثّ على الاستكثار منه، والترغيب في توريثه بالتعليم، والتصنيف، والإيضاح، وأنه يُختار من العلوم الأنفع، فالأنفع.
4 -
(ومنها): أن فيه فضيلة الزواج؛ لرجاء ولد صالح، وقد سبق في "كتاب النكاح" بيان اختلاف أحوال الناس فيه، وأوضحنا ذلك هناك، ولله الحمد والمنّة.
5 -
(ومنها): أن الدعاء يصل ثوابه إلى الميت، وكذلك الصدقة، وهما مجمعٌ عليهما، وكذلك قضاء الديون، وأما الحجّ فيجزي عن الميت عند الشافعيّ، وموافقيه، وهو الحقّ، كما تقدّمت أدلّته في "كتاب الحجّ"، قال
النوويّ: وهذا داخل في قضاء الدَّين إن كان حجًّا واجبًا، وإن كان تطوّعًا وأوصى به، فهو من باب الوصايا، وأما إذا مات، وعليه صيامٌ، فالصحيح أن الوليّ يصوم عنه؛ لصحّة أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، وأما قراءة القرآن، وجَعْل ثوابها للميت، والصلاة عنه، ونحوهما، فمذهب الشافعيّ، والجمهور أنها لا تَلْحَق الميت، وفيها خلاف. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الجمهور عندي هو الأرجح؛ لعدم دليل صحيح على وصول ثواب القرآن، ونحوه إلى الأموات، فمن جاءنا بنصّ صحيح صريح لذلك، فعلى الرأس والعين، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(5) - (بَابُ الْوَقْفِ)
قال الفيّوميّ رحمه الله: وَقفَتِ الدابة تَقِفُ وَقْفًا، ووُقُوفًا: سكنت، ووَقَفْتُها أنا، يتعدَّى، ولا يتعدَّى، ووقَفْتُ الدارَ وَقْفًا: حبستها في سبيل الله، وشيءٌ مَوْقُوفٌ، ووَقْفٌ أيضًا؛ تسميةً بالمصدر، والجمع: أوْقَافٌ، مثلُ ثوب وأثواب، ووَقَفْتُ الرجلَ عن الشيء وَقْفًا: منعته عنه، وأوْقَفْتُ الدارَ والدابةَ، بالألف، لغةُ تميم، وأنكرها الأصمعيّ، وقال: الكلام: وَقَفْتُ، بغير ألف، وأوْقَفْتُ عن الكلام، بالألف: أقْلَعْتُ عنه، وكَلَّمني فلان، فَأَوْقَفْتُ؛ أي: أمسكت عن الحجة عِيًّا، وحَكَى بعضهم: ما يُمْسَك باليد يقال فيه: أوْقَفْتُهُ، بالألف، وما لا يُمْسَك باليد يقال: وقَفْتُهُ، بغير ألف، والفصيح: وقَفْتُ، بغير ألف في جميع الباب، إلا في قولك: ما أوْقَفَكَ ههنا؟، وأنت تريد: أي شأن حملك على الوقوف؟ فإن سألت عن شخص، قلتَ: من وقَفَك؟ بغير ألف، ووَقَفْتُ بعرفات وُقُوفًا: شَهِدت وقتها، وتَوَقَّفَ عن الأمر: أَمْسَك عنه، ووَقَفْتُ الأمرَ على حضور زيد: عَلَّقت الحكم فيه بحضوره، ووَقَفْتُ قسمةَ الميراث إلى
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 85.
الوضع
(1)
: أخرته حتى تضع، والمَوقِفُ: موضع الوقوف. انتهى كلام الفيّوميّ رحمه الله
(2)
.
قال العلامة ابن قُدامة رحمه الله، مفرّقًا بين الوقوف والعطايا: الوقوف: جمع وَقْف، يقال منه: وَقَفتُ وَقْفًا، ولا يقال: أوقفت، إلا في شاذّ اللغة، ويقال: حبستُ، وأحبست، وبه جاء الحديث:"إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها".
والعطايا: جمع عطيّة، مثلُ خليّة وخَلايا، وبَليّة وبَلايا، والوقف مستحبّ، ومعناه: تحبيس الأصل، وتسبيل الثمرة، والأصل فيه ما رَوَى عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: أصاب عمر أرضًا بخيبر، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فساق حديث الباب.
ثم ذكر حديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله" المذكور في الباب الماضي.
ثم قال: وأكثر أهل العلم من السلف، ومن بعدهم على القول بصحة الوقف، قال جابر رضي الله عنه: لم يكن أحد من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا وَقَفَ، ولم يَرَ شُرَيح الوقف، وقال: لا حبس عن فرائض الله، قال أحمد: وهذا مذهب أهل الكوفة، وذهب أبو حنيفة إلى أن الوقف لا يلزم بمجرده، وللواقف الرجوع فيه، إلا أن يوصي به بعد موته، فيلزم، أو يَحْكُم بلزومه حاكم، وحكاه بعضهم عن عليّ، وابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهم، وخالفه صاحباه، فقالا كقول سائر أهل العلم.
قال: واحتَجّ بعضهم بما رُوي أن عبد الله بن زيد صاحب الأذان رضي الله عنه جَعَل حائطه صدقةً، وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء أبواه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا: يا رسول الله لم يكن لنا عيش إلا هذا الحائط، فردّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ماتا، فورثهما، رواه المحامليّ في "أماليه".
ولأنه أخرج ماله على وجه القربة من ملكه، فلا يلزم بمجرد القول؛ كالصدقة.
(1)
أي: حتى تضع الحامل ولدها الذي هو من جملة الورثة.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 669.
قال: وهذا القول يخالف السُّنّة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة رضي الله عنهم، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعمر في وقفه:"لا يباع أصلها، ولا يبتاع، ولا يوهب، ولا يورث"، قال الترمذيّ رحمه الله: العمل على هذا الحديث عند أهل العلم، من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرهم، لا نعلم بين أحد من المتقدمين منهم في ذلك اختلافًا.
قال الحميديّ: تصدق أبو بكر رضي الله عنه بداره على ولده، وعمر بربعه عند المروة على ولده، وعثمان برُومة، وتصدق عليّ بأرضه بينبع، وتصدق الزبير بداره بمكة، وداره بمصر، وأمواله بالمدينة على ولده، وتصدق سعد بداره بالمدينة، وداره بمصر على ولده، وعمرو بن العاص بالوَهْط، وداره بمكة على ولده، وحكيم بن حزام بداره بمكة، والمدينة، على ولده، فذلك كله إلى اليوم.
وقال جابر رضي الله عنه: لم يكن أحد من أصحاب النبيّ ذو مقدرة إلا وقف، وهذا إجماع منهم، فإن الذي قدر منهم على الوقف وَقَفَ، واشتَهَر ذلك، فلم ينكره أحدٌ، فكان إجماعًا.
ولأنه إزالة ملك يلزم بالوصية، فإذا نَجَّزه حال الحياة لزم من غير حكم؛ كالعتق.
وحديث عبد الله بن زيد إن ثبت فليس فيه ذكر الوقف، والظاهر أنه جعله صدقة غير موقوف، استناب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى والديه أحق الناس بصرفها إليهما، ولهذا لم يردّها عليه إنما دفعها إليهما.
ويَحْتَمِل أن الحائط كان لهما، وكان هو يتصرف فيه بحكم النيابة عنهما، فتصرف بهذا التصرف بغير إذنهما، فلم ينفِّذاه، وأتيا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فردّه إليهما.
والقياس على الصدقة لا يصحّ؛ لأنها تلزم في الحياة بغير حكم حاكم، وإنما تفتقر إلى القبض، والوقف لا يفتقر إليه، فافترقا. انتهى كلام ابن قدامة رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(1)
"المغني" 6/ 206.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4216]
(1632) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا سُلَيْمُ بْنُ أَخْضَرَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَأمِرُهُ فِيهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُنِي بِهِ، قَالَ: "إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا"، قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلَا يُبْتَاعُ، وَلَا يُورَثُ، وَلَا يُوهَبُ، قَالَ: فَتَصَدَّقَ عُمَرُ فِي الْفُقَرَاءِ، وَفِي الْقُرْبَى، وَفِي الرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالضَّيْفِ، لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا، غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ. قَالَ: فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مُحَمَّدًا، فَلَمَّا بَلَغْتُ هَذَا الْمَكَانَ: غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ، قَالَ مُحَمَّدٌ: غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا، قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: وَأَنْبَأَنِي مَنْ قَرَأَ هَذَا الْكِتَابَ أَنَّ فِيهِ غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) النيسابوريّ الإمام، تقدّم قبل باب.
2 -
(سُلَيْمُ بْنُ أَخْضَرَ) -بتصغير الأول- البصريّ، ثقةٌ ضابطٌ [8](ت 180)(م د ت س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 20/ 1308.
3 -
(ابْنُ عَوْنٍ) هو: عبد الله، أبو عون البصريّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(نَافِعٌ) مولى ابن عمر المدنيّ الفقيه المشهور، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
5 -
(ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد الله رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
شرح الحديث:
(عَن) عبد الله (ابْنِ عَوْنٍ) قال في "الفتح": أخرجه أبو داود عن مسدّد، عن يزيد بن زُريع، وبشر بن الْمُفَضَّل، ويحيى القطان، ثلاثتهم عن عبد الله بن عون، وقد زعم ابن عبد البرّ أن ابن عون تفرّد به عن نافع، وليس كما قال، فقد أخرجه البخاريّ من رواية صخر بن جويرية عن نافع، وأخرجه مختصرًا، وأحمد، والدارقطنيّ مطوَّلًا من رواية أيوب، وأخرجه الطحاويّ من رواية
يحيى بن سعيد الأنصاريّ، والنسائيّ من رواية عبيد الله بن عمر الأكبر المصغَّر، وأحمد، والدارقطنيّ من رواية عبد الله بن عمر الأصغر المكبَّر، كلهم عن نافع، قال: وسأذكر ما في روايتهم من الفوائد مفصّلًا -إن شاء الله تعالى. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: وأنا أيضًا سأذكر تبعًا للحافظ الفوائد المذكورة -إن شاء الله تعالى-.
(عَنْ نَافِعٍ) وقع عند الطحاويّ من وجه آخر عن ابن عون: "أخبرني نافع"، ووقع في رواية الأنصاريّ، عن ابن عون عند البخاريّ بلفظ:"أنبأني نافع"، قال الحافظ: وهو بمعنى الإخبار عند المتقدّمين جزمًا (عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: أَصَابَ عُمَرُ) قال الحافظ رحمه الله: كذا لأكثر الرواة عن نافع، ثم عن ابن عون، جعلوه في مسند ابن عمر، لكن أخرجه مسلم، والنسائيّ من رواية سفيان الثوريّ، والنسائيّ من رواية أبي إسحاق الفزاريّ، كلاهما عن عبد الله بن عون، والنسائيّ من رواية سعيد بن سالم، عن عبيد الله بن عمر، كلاهما عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، جعله من مسند عمر، والمشهور الأول. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: خلاصة القول في هذا الحديث أنه اختُلف فيه على عبد الله بن عون رحمه الله، وذلك أن سفيان الثوريّ، وأبا إسحاق الفزاريّ، روياه عنه، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، فجعلاه من مسند عمر رضي الله عنه، وتابعهما على ذلك سعيد بن سالم المكيّ، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، كما عند النسائيّ (3/ 3632).
وخالفهم في ذلك سُليم بن أخضر، وأزهر السمّان، وابن أبي زائدة، وابن أبي عديّ، ويزيد بن زُريع، وبشر بن المفضّل، وغيرهم، فرووه عن ابن عون، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: أصاب عمر، فجعلوه من مسند ابن عمر رضي الله عنهما، وتابعهم على ذلك سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عند النسائيّ.
(1)
"الفتح" 7/ 14.
والحاصل أن أكثر الرواة على أنه من مسند ابن عمر رضي الله عنه.
(أَرْضًا بِخَيْبَرَ) في رواية صخر بن جويرية عند البخاريّ أن اسمها ثَمْغ، وكذا لأحمد من رواية أيوب: أن عمر أصاب أرضًا من يهود بني حارثة، يقال لها: ثَمْغ، ونحوه في رواية سعيد بن سالم عند النسائيّ، وكذا للدارقطنيّ من طريق الدراورديّ، عن عبد الله بن عمر، وللطحاويّ من رواية يحيى بن سعيد، ورَوَى عُمر بن شَبَّة بإسناد صحيح، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أن عُمر رأى في المنام ثلاث ليال أن يتصدق بثَمْغ.
وللنسائيّ من رواية سفيان، عن عبد الله بن عمر، جاء عمر، فقال: يا رسول الله إني أصبت مالًا، لم أُصِب مالًا مثله قط، كان لي مائة رأس، فاشتريت بها مائة سهم من خيبر، من أهلها، فيَحْتَمِل أن تكون ثمغ من جملة أراضي خيبر، وأن مقدارها كان مقدار مائة سهم، من السهام التي قسمها النبيّ صلى الله عليه وسلم بين من شهد خيبر، وهذه المائة السهم غير المائة السهم التي كانت لعمر بن الخطاب بخيبر التي حصَّلها من جزئه من الغنيمة وغيره.
وسيأتي بيان ذلك في صفة كتاب وقف عمر من عند أبي داود وغيره، وذكر عمر بن شبة بإسناد ضعيف، عن محمد بن كعب، أن قصة عمر هذه كانت في سنة سبع من الهجرة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قول الحافظ: فيَحتَمل أن تكون ثَمْغ من جملة أراضي خيبر، فيه نظر، فإن السمهوديّ جعلها في كتابه "وفاء الوفا" من أراضي المدينة، ودونك عبارته:
قال: "ثمغ" -بالفتح، والغين المعجمة- مال بخيبر لعمر بن الخطّاب رضي الله عنه، قاله المجد؛ لحديث الدارقطنيّ: إن عمر أصاب أرضًا بخيبر، يقال لها: ثَمْغ، فسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال له:"احبس أصلها، وتصدّق بثمرتها"، وفي رواية البخاريّ: أن عمر تصدّق بمال يقال له: ثَمْغ، وكان نخلًا، الحديث.
قال: لكن تقدّم في منازل يهود أن بني مزانة كانوا في شاميّ بني حارثة،
(1)
"الفتح" 7/ 15.
وأن من آطامهم هناك الأطم الذي يقال له الشعبان في ثمغ، صدقة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، قاله ابن زبالة، وفي بعض طرق حديث صدقة عمر من رواية ابن شبّة: أن عمر رضي الله عنه أصاب أرضًا من يهود بني حارثة، يقال لها: ثَمْغ.
وذكر الواقديّ اصطفاف أهل المدينة على الخندق في وقعة الحرّة، ثم ذكر مبارزةً وقعت يومئذ في جهة ذباب إلى كومة أبي الحمراء، ثم قال: كومة أبي الحمراء قرية من ثمغ.
وقال أبو عبيد البكريّ: ثمغ أرض تلقاء المدينة كانت لعمر.
وذكر ابن شبة في صدقات عمر بالمدينة، وغاير بينه وبين صدقته بخيبر، وأورد كتاب صدقته، وفيه: ثمغ بالمدينة، وسهمه من خيبر.
وروى عن عمرو بن سعيد بن معاذ، قال: سألنا عن أول من حبس في الإسلام، فقال قائل: صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا قول الأنصار، وقال المهاجرون: صدقة عمر، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما قَدِم المدينة وجد أرضًا واسعةً بزهرة لأهل رابح وحسيكة، وقد كانوا أُجْلوا عن المدينة قبل مقدم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتركوا أرضًا واسعةً، منها براح، ومنها ما فيه واد لا يسقي، يقال له: الحشاشين، وأعطى عمر منها ثَمْغًا، واشترى عمر إلى ذلك من قوم من يهود، فكان مالًا معجبًا، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن لي مالًا، وإني أحبّه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"احبس أصله، وسَبِّل ثمرته".
فهذا كلّه صريح في كون ثمغ بالمدينة في شاميّها، فكأن في رواية الدارقطنيّ من تصرّف بعض الرواة، أو أن كلًّا من صدقتيه يسمى ثمغًا.
قال بعض المحقّقين: فالذي يتحصّل من جميع هذه الروايات أن ثمغًا كانت بالمدينة، وكان عمر رضي الله عنه تصدّق به، وبالمائة سهم بخيبر جميعًا، فاقتصر بعض الرواة على ثمغ، وبعضهم على أرضه بخيبر، وخلط بعضهم الأمرين، فجعلوا ثمغ من أراضي خيبر، والظاهر أن هذا وَهْمٌ منهم، والله أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع: ومما يؤيّد ما تقدّم أن أهل اللغة تواردوا على جعلها من
(1)
"تكملة فتح الملهم" 2/ 126 - 127.
أراضي المدينة، فقال المجد في "القاموس": ثمغ -بالفتح- مال بالمدينة لعمر رضي الله عنه وقفه. انتهى
(1)
.
وقال ابن الأثير في "النهاية": ثَمغ، وصِرمة ابن الأكوع مالان معروفان بالمدينة، كانا لعمر بن الخطّاب رضي الله عنه، فوقفهما. انتهى
(2)
، وكذا قال ابن منظور في "لسان العرب"
(3)
.
والحاصل أن الصواب كون ثَمْغ من أراضي المدينة، لا من خيبر، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب.
(فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا)؛ أي: يطلب الأمر الذي يأمره به صلى الله عليه وسلم، من الوقف أو غيره (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ)؛ أي: أجود، والنفيس: الشيء الجيّد الْمُغْتَبَط به، يقال: نَفُسَ -بفتح النون، وضم الفاء- نَفَاسةً: كَرُمَ فهو نفيسٌ، وأنفس إنفاسًا مثله، فهو مُنفسٌ، ونَفِست به، مثلُ ضَنِنْتُ به لنفاسته وزنًا ومعنًى، قاله الفيّوميّ
(4)
.
وقال الداوديّ: سُمِّي نفيسًا؛ لأنه يأخذ بالنَّفْس، وفي رواية صخر بن جُويرية عند البخاريّ:"إني استفدت مالًا وهو عندي نفيس، فأردت أن أتصدق به"، وقد تقدّم في مرسل أبي بكر بن حزم أنه رأى في المنام الأمر بذلك، ووقع في رواية للدارقطنيّ، إسنادها ضعيف: أن عمر قال: يا رسول الله، إني نذرت أن أتصدق بمالي. ولم يثبت هذا، وإنما كان صدقة تطوع، كما سيأتي من حكاية لفظ كتاب الوقف المذكور -إن شاء الله تعالى- أفاده في "الفتح"
(5)
.
(فَمَا تَأْمُرُنِي بِهِ)؟ وفي رواية للبخاريّ: "فكيف تأمرني به؟ "، وفي رواية:"أن عمر استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يتصدّق"(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنْ شِئْتَ) الأجر، والمثوبة عند الله عز وجل (حَبَسْتَ) بتخفيف الموحّدة (أَصْلَهَا)؛ أي: وقفت تلك
(1)
"القاموس المحيط " ص 180.
(2)
"النهاية في غريب الحديث والأثر" 1/ 222.
(3)
"لسان العرب" 8/ 423.
(4)
"المصباح المنير" 2/ 617.
(5)
راجع: "الفتح" 7/ 15.
الأرض، يقال: حَبَسَ الشيءَ في كذا: إذا خصّه له، ومن هنا سُمّي الوقف حبيسًا (وَتَصَدَّقْتَ بِهَا")؛ أي: تصدّقت بما يخرج منها من المنافع، يوضّح هذا المعنى ما في رواية عبيد الله بن عمر:"احبس أصلها، وسَبِّل ثمرتها"، وفي رواية يحيى بن سعيد:"تصدّق بثمره، وحبّس أصله"، والتسبيل الإباحة؛ كأنك جعلت عليه طريقًا مطروقًة، كذا في "مجمع البحار"، وقال السنديّ: قوله: "وسَبِّلْ" بتشديد الباء؛ أي: اجعل ثمرتها في سبيل الله، ومنه يقال: الوقف المسبَّل؛ يعني: الوقف المباح.
(قَالَ) ابن عمر (فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ، أَصْلُهَا)؛ أي: بشرط أن أصل هذا الوقف لا يجوز بيعه (وَلَا يُبْتَاعُ) كذا في نسخة، وهو الصواب؛ أي: لا يجوز شراؤه، ووقع في أكثر النسخ:"ولا يباع"، وفي المتن البولاقيّ:"ولا تباع"، وكلاهما غلطٌ، وتكرار
(1)
، فليُتنبّه.
زاد الدارقطنيّ من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع:"حَبِيسٌ ما دامت السماوات والأرض".
قال في "الفتح": كذا لأكثر الرواة عن نافع، ولم يختلفوا فيه عن ابن عون، إلا ما وقع عند الطحاويّ، من طريق سعيد بن سفيان الجحدريّ، عن ابن عون، فذكره بلفظ صخر بن جويرية الآتي، والجحدريّ إنما رواه عن صخر، لا عن ابن عون، قال السبكيّ: اغتبطتُ بما وقع في رواية يحيى بن سعيد، عن نافع، عند البيهقيّ:"تصدّقْ بثمره، وحبسن أصله، لا يباع، ولا يورث"، وهذا ظاهره أن الشرط من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، بخلاف بقية الروايات، فإن الشرط فيها ظاهره أنه من كلام عمر رضي الله عنه، ووقع في رواية صخر بن جويرية عند البخاريّ، بلفظ:"فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: تصدّق بأصله، لا يُباع، ولا يوهب، ولا يورث، ولكن يُنفق بثمره"، وهي أتمّ الروايات، وأصرحها في المقصود، فعَزْوها إلى البخاريّ أولى، وقد علّقه البخاريّ في المزارعة بلفظ:"قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعمر: تَصَدَّق بأصله، لا يباع، ولا يوهب، ولكن ليُنفق ثمره، فتَصَدَّق به"، فهذا صريح في كونه مرفوعًا، وعلى تقدير كون الشرط من قول
(1)
راجع ما كتب في هامش: النسخة التركيّة 5/ 74.
عمر، لكنه ما فعله إلا لِمَا فهمه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث قال له:"احبس أصلها، وسَبِّلْ ثمرتها".
وقوله: "تصدّقْ" بصيغة أمر، وقوله:"فتصدّق" بصيغة الفعل الماضي. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: خلاصة القول في هذا أن أكثر الرواة عن نافع جعلوا الشرط من كلام عمر رضي الله عنه، وبعضهم جعله مرفوعًا.
فمنهم: صخر بن جويرية، عند البخاريّ في الوصايا، ولفظه:"فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: تصدّق بأصله، لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث، ولكن يُنفق ثمره".
ومنهم: أبو عاصم، وسعيد الجحدريّ، عند الطحاويّ، ولفظهما:"قال: إن شئت حبست أصلها، لا تباع، ولا توهب"، قال أبو عاصم: وأُراه قال: "لا تورث".
ومنهم: يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عند الطحاويّ، والبيهقيّ، ولفظه:"فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: تصدّق بثمره، واحبس أصله، لا يباع، ولا يورث"، ولفظ الطحاويّ:"تصدّق به، تقسم ثمره، وتحبس أصله، لا تباع، ولا توهب".
فهؤلاء الأربعة: صخر، وأبو عاصم، وسعيد الجحدريّ، ويحيى بن سعيد كلهم رووه عن نافع، وجعلوه من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا مانع -كما قال بعض المحققين
(2)
- من أن يكون من كلامه صلى الله عليه وسلم، ومن كلام عمر رضي الله عنه أيضًا، فذكر بعض الرواة ما لم يذكره الآخر، فَيُحمل على أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا الشرط أوّلًا، ثم قاله عمر رضي الله عنه حين نفّذ وقفه فعلًا، والله تعالى أعلم.
(وَلَا يُورَثُ، وَلَا يُوهَبُ، قَالَ) ابن عمر (فَتَصَدَّقَ عُمَرُ فِي الْفُقَرَاءِ، وَفِي الْقُرْبَى، وَفِي الرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالضَّيْفِ) زاد في رواية أزهر السمان: "وفي المساكين"، وجميع هؤلاء الأصناف إلا الضيف، هم المذكورون في آية الزكاة، وقد تقدّم بيانهم في "كتاب الزكاة".
وأما "القربى" فقال القرطبيّ: فظاهره أنه أراد به قرابته، وَيحْتَمِل أن يريد
(1)
"الفتح" 7/ 16.
(2)
راجع ما كتبه صاحب: "تكملة فتح الملهم" 2/ 120.
به قرابة النبيّ صلى الله عليه وسلم، المذكورين في الخمس والفيء، وفيه بُعد؛ لأنه أطلق على ذلك الحبس صدقة، وهم قد حُرموا الصدقة، إلا إن تنزّلنا على أن الذي حُرموه هي الصدقة الواجبة فقط، والرافع لهذا الاحتمال الوقوف على ما صنع في صدقة عمر رضي الله عنه، فينبغي أن يُبحث عن ذلك، والأولى حمله على قرابة عمر رضي الله عنه الخاصّة به، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وأما "الضيف" فمعروف، وهو من يَنزل بقوم يُريد القِرَى منهم.
(لَا جُنَاحَ)؛ أي: لا إثم (عَلَى مَنْ وَليَهَا)؛ أي: من قام باستثمار تلك الأرض، وتنميتها (أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ)؛ أي: يأكل من رَيعها بالمعروف؛ أي: بحسب ما يتحمله رَيع الوقف على الوجه المعتاد
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا رفعٌ للحرج عن الوالي عليها، والعامل في تلك الصدقة في الأكل منها، على ما جرت به عادة العمال في الحيطان من أكلهم من ثمرها حالة عملهم فيها، فإن المنع من ذلك نادرٌ، وامتناع العامل من ذلك أندر، حتى لو اشتَرط ربّ الحائط على العامل فيه أن لا يأكل لَاسْتُقْبِحَ ذلك عادةً وشرعًا، وعلى ذلك فيكون المراد بالمعروف: القدر الذي يدفع الحاجة، ويردّ الشهوة، غير أكل بسرف، ولا نهمة، ولا متّخذًا خيانةً، ولا خُبْنة.
وقيل: مراد عمر رضي الله عنه بذلك أن يأكل العامل منها بقدر عمله، وفيه بُعْدٌ؛ لأنه لا يصحّ ذلك حتى يُتأول "يأكل" بمعنى "يأخذ"؛ لأن العامل إنما يأخذ أجرته، فيتصرّف فيها بما شاء من بيع، أو أكل، أو غير ذلك، و"أكل" بمعنى "أخذ" على خلاف الأصل؛ ولأن مساق اللفظ لا يُشعر بقصدٍ إلى أن تلك الإباحة إنما هي بحسب العمل، وبقدره، فتأمله، لا سيّما وقد أردف عليه:"ويطعم صديقًا، غير متأثّل مالًا"؛ يعني: صديقًا للوالي عليها، وللعامل فيها، وَيحْتَمِل صديقًا للمحبّس، وفيه بُعْدٌ. انتهى
(3)
.
(أَوْ يُطْعِمَ) بضمّ أوله، وكسر ثالثه، مبنيًّا للفاعل، وفي رواية للبخاريّ:"أو يُؤْكِلَ" بإسكان الواو، وهي بمعنى يُطعِم، وقوله:(صَدِيقًا) مفعول به
(1)
"المفهم" 4/ 602.
(2)
راجع: "عمدة القاري" 6/ 469.
(3)
"المفهم" 4/ 602 - 603.
لـ "يُطعِم"، والمراد: صديق الوالي على الوقف، ويَحْتَمِل أن يكون صديق الواقف، وفيه بُعْدٌ، بل الظاهر هو الأول، كما مرّ قريبًا.
(غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ) بنصب "غير" على الحال، من فاعل "يأكل"؛ أي: غير متّجر فيه، قال في "الفتح": والمعنى غير متّخذ منها مالًا؛ أي: ملكًا، والمراد: أنه لا يتملّك شيئًا من رقابها.
(قَالَ) ابن عون الراوي عن نافع (فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مُحَمَّدًا)؛ يعني: ابن سيرين، وفي رواية الدارقطنيّ من طريق أبي أسامة، عن ابن عون، قال: ذكرتُ حديث نافع لابن سيرين، فذكره.
(فَلَمَّا بَلَغْتُ هَذَا الْمَكَانَ) الإشارة إلى قوله: (غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ، قَالَ مُحَمَّدٌ) ابن سيرين (غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا) والمتأثّل -بمثنّاة، ثم مثلّثة مشدّدة، بينهما همزة: هو المتّخذ، والتأثّل: اتخاذ أصل المال حتى كأنه عنده قديم، قال امرؤ القيس [من الطويل]:
وَلَكِنَّمَا أَسْعَى لِمَجْدٍ مُؤَثَّلِ
…
وَقَدْ يُدْرِكُ الْمَجْدَ الْمُؤَثَّلَ أَمْثَالِي
أي: المجد القديم المؤصّل، وأَثْلَةُ كلّ شيء أصله، وفيه ما يدلّ على أنه يجوز الحبس على الأغنياء، قاله القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": واشتراط نفي التأثّل يُقوّي ما ذهب إليه من قال: المراد من قوله: "يأكل بالمعروف" حقيقة الأكل، لا الأخذ من مال الوقف بقدر العمالة. انتهى.
وزاد أحمد من طريق حمّاد بن زيد، عن أيوب، فذكر الحديث، قال حماد: وزعم عمرو بن دينار أن عبد الله بن عمر، كان يُهدي إلى عبد الله بن صفوان من صدقة عمر رضي الله عنهما، وكذا رواه عمر بن شبّة من طريق حماد بن زيد، عن عمر، وزاد عمر بن شبّة، عن يزيد بن هارون، عن ابن عون في آخر هذا الحديث:"وأوصى بها عمر إلى حفصة، أم المؤمنين، ثم إلى الأكابر من آل عمر"، ونحوه في رواية عبيد الله بن عمر عند الدارقطنيّ، وفي رواية أيوب، عن نافع عند أحمد:"يليه ذوو الرأي من آل عمر"، فكأنه كان أوّلًا شرط أن
(1)
"المفهم" 4/ 603.
النظر فيه لذوي الرأي من أهله، ثم عيّن عند وصيّته لحفصة، وقد بيّن ذلك عمر بن شبّة، عن أبي غسّان المدنيّ، قال: هذه نسخة صدقة عمر، أخذتها من كتابه الذي عند آل عمر، فنسختها حرفًا حرفًا:"هذا ما كتب عبد الله عمر أمير المؤمنين في ثمغ، أنه إلى حفصة، ما عاشت، تُنفق ثمره حيث أراها الله، فإن تُوفّيت، فإلى ذوي الرأي من أهلها".
فذكر الشرط كله نحو الذي تقدّم في الحديث المرفوع، ثم قال: "والمائة وسق الذي أطعمني النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنها مع ثَمْغ على سَنَنه الذي أمرت به، وإن شاء وليّ ثمغ أن يشتري من ثمره رقيقًا يعملون فيه فعل.
وكتب مُعيقيب، وشهد عبد الله بن الأرقم"، وكذا أخرج أبو داود في روايته نحو هذا، وذكرا جميعًا كتابًا آخر نحو هذا الكتاب، وفيه من الزيادة: "وصرمة بن الأكوع، والعبد الذي فيه صدقة كذلك".
وهذا يقتضي أن عمر إنما كتب كتاب وقفه في خلافته؛ لأن مُعيقيبًا كان كاتبه في زمن خلافته، وقد وصفه فيه بأنه أمير المؤمنين، فيَحْتَمِل أن يكون وقفه في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم باللفظ، وتولّى هو النظر عليه إلى أن حضرته الوصيّة، فكتب حينئذ الكتاب، ويَحْتَمِل أن يكون أخّر وقفيّته، ولم يقع منه قبل ذلك إلا استشارته في كيفيته.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى بُعد الاحتمال الثاني، فإن سياق الروايات تردّه، فالحقّ الاحتمال الأول، فتبصّر.
وقد روى الطحاويّ، وابن عبد البرّ من طريق مالك، عن ابن شهاب، قال:"وقال عمر: لولا أني ذكرت صدقتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لردَدْتها"، فهذا يُشعر بالاحتمال الثاني، وأنه لم يُنجز الوقف إلا عند وصيّته.
قال الجامع: هذا السياق، لا إشعار فيه لِمَا ذكره، بل هو مشعر بعكسه، فإن قوله:"صدقتي" ظاهر في كونها في ذلك الوقت صدقةً، لا أنه أخّر التصدّق بها إلى أن حضرته الوفاة، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
(قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: وَأَنْبَأَنِي)؛ أي: أخبرني (مَنْ قَرَأَ هَذَا الْكِتَابَ) لم يُسمّ القارئ (أَنَّ فِيهِ غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا)؛ أي: كما قال ابن سيرين، وفي رواية الترمذيّ من طريق ابن عليّة، عن ابن عون: "حدّثني رجلٌ أنه قرأها في قطعة أديم
أحمر"، قال ابن عليّة: وأنا قرأتها عند ابن عُبيد الله بن عمر كذلك، وقد أخرج أبو داود صفة كتاب وقف عمر رضي الله عنه من طريق يحيى بن سعيد الأنصاريّ، قال: "نسخها لي عبد الله بن عبد الحميد بن عبد الله بن عمر"، فذكره، وفيه: "غير متأثّل".
واستدلّ الطحاويّ بقول عمر رضي الله عنه المتقدّم، حيث قال:"لرددتها" لأبي حنيفة، وزفر في أن إيقاف الأرض لا يمنع من الرجوع فيها، وأن الذي منع عمر رضي الله عنه من الرجوع كونه ذكره للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فكره أن يفارقه على أمر، ثم يُخالفه إلى غيره.
ولا حجة فيما ذُكر لوجهين:
[أحدهما]: أنه منقطع؛ لأن ابن شهاب لم يدرك عمر رضي الله عنه.
[ثانيهما]: أنه يَحْتَمِل ما تقدّم، وَيحْتَمِل أن يكون عمر كان يرى بصحّة الوقف ولزومه، إلا إن شرط الواقف الرجوع، فله أن يرجع، وقد روى الطحاويّ عن عليّ رضي الله عنه مثل ذلك، فلا حجة فيه لمن قال بأن الوقف غير لازم، مع إمكان هذا الاحتمال، وإن ثبت هذا الاحتمال كان حجة لمن قال بصحّة تعليق الوقف، وهو عند المالكيّة، وبه قال ابن سُريج، وقال: تعود منافعه بعد المدّة المعينة إليه، ثم إلى ورثته، فلو كان للتعليق مآلًا صحّ اتفاقًا، كما لو قال: وقفته على زيد سنة، ثم على الفقراء
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عمر رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [5/ 4216 و 4217 و 4218](1632 و 1633)، و (البخاريّ) في "الشروط"(2737 و"الوصايا" (2764 و 2772 و 2773 و 2778)، و (أبو داود) في "الوصايا"(2878)، و (الترمذيّ) في "الأحكام"(1375)،
(1)
راجع: "الفتح" 7/ 18.
و (النسائيّ) في "الإحباس"(6/ 230 و 231) و"الكبرى"(4/ 93 و 94)، و (ابن ماجه) في "الأحكام"(2396 و 2397)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 350 و 7/ 283)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 12 و 55)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 100)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(4/ 117)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(11/ 264)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(4/ 328)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 95)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(4/ 187 - 188)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 158 - 159) و"المعرفة"(4/ 545)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2195)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده
(1)
:
1 -
(منها): مشروعيّة الوقف، وسيأتي بيان اختلاف العلماء فيه في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى-.
2 -
(ومنها): جواز ذكر الولد أباه باسمه المجرّد من غير كنية، ولا لقب.
3 -
(ومنها): استحباب استشارة أهل العلم والدِّين والفضل في طرق الخير، سواء كانت دينيّةً، أو دنيويّة، وأن المشير يُشير بأحسن ما يظهر له في جميع الأمور.
4 -
(ومنها): أن فيه فضيلة ظاهرة لعمر رضي الله عنه، حيث رَغِبَ في العمل بقوله تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92].
5 -
(ومنها): أن فيه فضل الصدقة الجارية.
6 -
(ومنها): صحة شروط الواقف، واتباعه فيها، وأنه لا يشترط تعيين المصرف لفظًا.
7 -
(ومنها): أن الوقف لا يكون إلا فيما له أصل يدوم الانتفاع به، فلا يصحّ وقف ما لا يدوم الانتفاع به؛ كالطعام، هكذا قيل، وهو محلّ نظر.
8 -
(ومنها): مشروعيّة كتابة الوقف، وقد ساق أبو داود رحمه الله نصّ كتابة وقف عمر رضي الله عنه في "سننه"، فقال:
(1)
المراد فوائد حديث قصّة وقف عمر رضي الله عنه، لا بقيد ما ساقه المصنّف، بل بجميع الروايات المختلفة التي أشرنا إليها في أثناء الشرح، فتنبّه.
حدّثنا سليمان بن داود الْمَهْريّ، حدّثنا ابن وهب، أخبرني الليث، عن يحيى بن سعيد، عن صدقة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: نسخها لي عبد الحميد بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب:
"بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا ما كتب عبد الله، عمر، في ثَمْغ، فقصّ من خبره نحو حديث نافع، قال: "غير متأثل مالًا، فما عفا عنه من ثمره، فهو للسائل والمحروم"، قال: وساق القصة، قال: وإن شاء وَلِيّ ثمغ، اشترى من ثمره رقيقًا لعمله، وكتب معيقيب، وشهد عبد الله بن الأرقم:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا ما أوصى به عبد الله عمر، أمير المؤمنين، إن حَدَثَ به حَدَث، أن ثَمْغًا، وصِرْمَة ابن الأكوع، والعبد الذي فيه، والمائة سهم التي بخيبر، ورقيقه الذي فيه، والمائة التي أطعمه محمد صلى الله عليه وسلم بالوادي، تليه حفصة، ما عاشت، ثم يليه ذو الرأي من أهلها، أن لا يباع، ولا يشترى، ينفقه حيث رأى، من السائل، والمحروم، وذوي القربى، ولا حرج على من وليه إن أكل، أو آكل، أو اشترى رقيقًا منه".
9 -
(ومنها): أنه لا يكفي في الوقف لفظ الصدقة، سواء قال: تصدّقت به بكذا، أو جعلته صدقةً حتى يُضيف إليها شيئًا آخر؛ لتردُّد الصدقة بين أن تكون تمليك الرقبة، أو وقف المنفعة، فإذا أضاف إليها ما يميّز أحد المحتملَين صحّ، بخلاف ما لو قال: وقفتُ، أو حبستُ، فإنه صريحٌ في ذلك، على الراجح، وقيل: الصريح الوقف خاصّة، وفيه نظرٌ؛ لثبوت التحبيس في قصّة عمر رضي الله عنه هذه، نعم لو قال: تصدّقتُ بكذا على كذا، وذكر جهة عامّة صحّ، وتمسّك من أجاز الاكتفاء بقوله: تصدّقتُ بكذا بما وقع في حديث الباب من قوله: "فتصدّق بها عمر"، ولا حجة في ذلك؛ لِمَا تقدّم من أنه أضاف إليها:"لا تباع، ولا توهب".
وَيحْتَمِل أيضًا أن يكون قوله: "فتصدّق بها عمر" راجعًا إلى الثمرة على حذف مضاف؛ أي: فتصدّق بثمرتها، فليس فيه متعلَّقٌ لمن أثبت الوقف بلفظ الصدقة، مجرّدًا، وبهذا الاحتمال الثاني جزم القرطبيّ.
10 -
(ومنها): جواز الوقف على الأغنياء؛ لأن ذوي القربى، والضيف، لم يُقيّدا بالحاجة، وهو الأصحّ عند الشافعيّة.
11 -
(ومنها): أن للواقف أن يشترط لنفسه جزءًا من رَيْع الموقوف؛ لأن عمر رضي الله عنه شرط لمن ولي وقفه أن يأكل منه بالمعروف، ولم يستثن إن كان هو الناظر، أو غيره، فدلّ على صحّة الشرط، وإذا جاز في المبهم الذي تعيّنه العادة، كان فيما يعيّنه هو أجوز.
12 -
(ومنها): جواز إسناد الوصيّة، والنظر على الوقف للمرأة، وتقديمها على من هو من أقرانها من الرجال، حيث أسند عمر ذلك إلى حفصة رضي الله عنهما.
13 -
(ومنها): جواز إسناد النظر إلى من لم يُسمّ، إذا وُصف بصفة معيّنة تُميزه.
14 -
(ومنها): أن الواقف يلي النظر على وقفه إذا لم يُسنده لغيره، قال الشافعيّ رحمه الله: لم يزل العدد الكثير من الصحابة، فمن بعدهم يَلُون أوقافهم، نقل ذلك الألوف عن الألوف، لا يختلفون فيه.
15 -
(ومنها): أنه استُدلّ به على جواز الوقف على الوارث في مرض الموت، فإن زاد على الثلث رُدّ، وإن خرج منه لزم، وهو إحدى الروايتين عن أحمد؛ لأن عمر رضي الله عنه جعل النظر بعده لحفصة، وهي ممن يرثه، وجعل لمن ولي وقْفه أن يأكل منه.
وتُعُقّب بأن وقْف عمر رضي الله عنه صدر منه في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، والذي أوصى به إنما هو شرط النظر.
16 -
(ومنها): أنه استُدلّ به على أن الواقف إذا شرط للناظر شيئًا أخذه، وإن لم يشترطه له لم يجز، إلا إن دخل في صفة أهل الوقف؛ كالفقراء والمساكين، فإن كان على معيّنين، ورضوا بذلك جاز.
17 -
(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن تعليق الوقف لا يصحّ؛ لأن قوله: "حبّس الأصل" يناقض تأقيته، وعن مالك، وابن سُريج يصحّ.
18 -
(ومنها): أنه استُدلّ بقوله: "لا تباع" على أن الوقف لا يُناقل به، وعن أبي يوسف: إن شرط الواقف أنه إذا تعطّلت منافعه بِيعَ، وصُرف ثمنه في غيره، ويوقف فيما سمي في الأول، وكذا إن شرط البيع إذا رأى الحظّ في نقله إلى موضع آخر.
19 -
(ومنها): أنه استُدِلّ به على جواز وقف المشاع؛ لأن المائة سهم التي كانت لعمر بخيبر لم تكن منقسمة.
20 -
(ومنها): أن فيه أنه لا سراية في الأرض الموقوفة، بخلاف العتق، ولم يُنقل أن الوقف سرى من حصّة عمر إلى غيرها من باقي الأرض.
وحكى بعض المتأخّرين، عن بعض الشافعيّة أنه حكم فيه بالسراية، وهو شاذّ منكر.
21 -
(ومنها): أنه استدلّ به على أن خيبر فُتحت عنوة، وقد أشبعنا الكلام على هذا البحث في غير هذا الموضع.
22 -
(ومنها): أنه يستنبط منه صحّة الوقف على النفس، وهو قول ابن أبي ليلى، وأبي يوسف، وأحمد في الأرجح عنه، وقال به من المالكيّة ابن شعبان، وجمهورهم على المنع، إلا إذا استثنى لنفسه شيئًا يسيرًا، بحيث لا يتّهم أنه قصد حرمان ورثته، ومن الشافعيّة ابن سُريج، وطائفةٌ، وصنّف فيه محمد بن عبد الله الأنصاريّ، شيخ البخاريّ جزءًا ضخمًا، واستدلّ له بقصّة عمر هذه، وبقصّة راكب البَدَنة، وبحديث أنسّ رضي الله عنه في أنه صلى الله عليه وسلم أعتق صفيّة، وجعل عتقها صداقها، ووجه الاستدلال به أنه أخرجها عن مُلكه بالعتق، وردّها إليه بالشرط، وقد تقدّم البحث فيه في "كتاب النكاح" مستوفًى، وبقصّة عثمان رضي الله عنه في بئر رومة، حيث قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: "من يشتري بئر رومة، فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين
…
" الحديث، وهو صحيح.
واحتجّ المانعون بقوله في حديث عمر هذا: "سبّل الثمرة"، وتسبيل الثمرة تمليكه للغير، والإنسان لا يتمكّن من تمليك نفسه لنفسه.
وتُعُقّب بأن امتناع ذلك غير مستحيل، ومنعُه تمليكه لنفسه إنما هو لعدم الفائدة، والفائدة في الوقف حاصلة؛ لأن استحقاقه إياه مُلكًا غير استحقاقه إياه وقفًا، ولا سيّما إذا ذكر له مالًا آخر، فإنه حكم آخر، يستفاد من ذلك الوقف.
واحتجّوا أيضًا بأن الذي يدلّ عليه حديث الباب أن عمر اشترط لناظر وقفه أن يأكل منه بقدر عُمالته، ولذلك منعه أن يتّخذ لنفسه منه مالًا، فلو كان يؤخذ منه صحّة الوقف على النفس لم يمنعه من الاتخاذ، وكأنه اشترط لنفسه أمرًا لو سكت عنه لكان يستحقّه لقيامه، وهذا على أرجح قولي العلماء أن
الواقف إذا لم يشترط للناظر قَدْر عمله جاز له بقدر عمله، ولو اشترط الواقف لنفسه النظر، واشترط أجرة، ففي صحّة هذا الشرط عند الشافعيّة خلاف؛ كالهاشميّ إذا عمل في الزكاة، هل يأخذ من سهم العاملين؟ والراجح الجواز، ويؤيّده حديث عثمان رضي الله عنه المذكور، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الوقف:
قال في "الفتح": حديث عمر رضي الله عنه هذا أصل في مشروعيّة الوقف، قال أحمد: حدّثنا حماد -وهو ابن خالد- حدّثنا عبد الله -وهو العمريّ-، عن نافع، عن ابن عمر، قال:"أول صدقة -أي: موقوفة- كانت في الإسلام صدقة عمر".
وروى عمر بن شبّة، عن عمرو بن سعد بن معاذ، قال:"سألنا عن أول حبس في الإسلام، فقال المهاجرون: صدقة عمر، وقال الأنصار: صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وفي إسناده الواقديّ.
وفي "مغازي الواقديّ": أن أول صدقة موقوفة، كانت في الإسلام أراضي مُخيريق -بالمعجمة، مصغّرًا- التي أوصى بها للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فوقفها النبيّ صلى الله عليه وسلم.
قال الترمذيّ: لا نعلم بين الصحابة، والمتقدّمين، من أهل العلم، خلافًا في جواز وقف الأرضين، وجاء عن شُريح أنه أنكر الحبس، ومنهم من تأوّله، وقال أبو حنيفة: لا يلزم، وخالفه جميع أصحابه، إلا زفر بن الهذيل، فحَكَى الطحاويّ، عن عيسى بن أبان، قال: كان أبو يوسف يُجيز بيع الوقف، فبلغه حديث عمر هذا، فقال: من سمع هذا من ابن عون؟ فحدّثه به ابن عُليّة، فقال: هذا لا يسع أحدًا خلافه، ولو بلغ أبا حنيفة لقال به، فرجع عن بيع الوقف حتى صار كأنه لا خلاف فيه بين أحد. انتهى.
ومع حكاية الطحاويّ هذا، فقد انتصر كعادته، فقال: قوله في قصّة عمر: "حبّس الأصل، وسبّل الثمرة" لا يستلزم التأبيد، بل يَحْتَمِل أن يكون أراد مدّة اختياره لذلك. انتهى.
ولا يخفى ضَعف هذا التأويل، ولا يُفهم من قوله:"وقفت، وحبست"
إلا التأبيد، حتى يصرّح بالشرط عند من يذهب إليه، وكأنه لم يقف على الرواية التي فيها:"حبيسٌ ما دامت السماوات والأرض".
قال القرطبيّ: ردّ الوقف مخالف للإجماع، فلا يُلتفت إليه، وأحسن ما يُعتذر به عمن ردّه ما قاله أبو يوسف، فإنه أعلم بأبي حنيفة من غيره.
وأشار الشافعيّ إلى أن الوقف من خصائص أهل الإسلام؛ أي: وقف الأراضي والعقار، قال: ولا نعرف أن ذلك وقع في الجاهليّة، وحقيقة الوقف شرعًا ورود صيغة تقطع تصرّف الواقف في رقبة الموقوف الذي يدوم الانتفاع به، وتثبت صرف منفعته في جهة خير، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال أبو العباس القرطبيّ رحمه الله في "المفهم" ما حاصله: حديث عمر رضي الله عنه دليلٌ للجمهور على جواز الحُبْس، وصحّته، وردٌّ على من شَذَّ، وَمَنَعَهُ، وهذا خلافٌ لا يُلتفت إليه، فإن قائله خَرَقَ إجماع المسلمين في المساجد، والسقايات؛ إذ لا خلاف في ذلك، وهو أيضًا حجة للجمهور على قولهم: إن الْحُبْس لازم، وإن لم يقترن به حكم حاكم، وخالف في ذلك أبو حنيفة، وزُفر، فقالا: لا يلزم، وهو عطيّةٌ يرجع فيها صاحبها، وتورث عنه، إلا أن يحكم به حاكم، أو يكون مسجدًا، أو سقاية، أو يوصي به، فيكون من ثلثه، ووجه الحجة عليه من هذا الحديث أن عمر رضي الله عنه لَمّا فَهِم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إشارته بالتحبيس بادر إلى ذلك بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال: إنه لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث، ثم إنه أمضى ذلك من غير أن يحكم به النبيّ صلى الله عليه وسلم، إذ لم يصدر من النبيّ صلى الله عليه وسلم أكثر من الإشارة.
وأيضًا فإن الصحابة رضي الله عنهم قد أجمعت على ذلك من غير خلاف بينهم فيه، فقد حبس الأئمة الأربعة، وطلحة، وزيد بن ثابت، والزبير، وابن عمر، وخالد بن الوليد، وأبو رافع، وعائشة، وغيرهم رضي الله عنهم، واستمرّت أحباسهم معمولًا بها على وجه الدهر، من غير أن يقف شيء من ذلك على حكم حاكم، ولم يُحك أن شيئًا من تلك الأحباس رجعت إلى المحبِّسِ، ولا إلى ورثته.
ومن جهة المعنى، فإنها عطيّةٌ على وجه القربة، فتلزم؛ كالهبة للمساكين،
(1)
"الفتح" 7/ 18 - 19.
ولذي الرحم، وكالصدقة، ولأنه قد أُجمع على تحبيس المساجد من غير حكم، ولا فرق بين تحبيسها، وتحبيس العقار، لا سيّما على الفقراء والمساكين.
وإذا ثبت هذا، فالْحُبْس لازم في كلّ شيء، تمكن العطيّة فيه، واختُلف عن مالك في تحبيس الحيوان؛ كالإبل، والخيل، على قولين: المنع، وبه قال أبو حنيفة، وأبو يوسف. والصحّة، وبه قال الشافعيّ، وهو الصحيح؛ لأنه عطيّةٌ على وجه القربة، يتكرّر أجرها؛ كالعقار وغيره؛ ولأن المسلمين على شروطهم، وقد شرط صاحب الفرس في صدقته أنها لا تباع، ولا توهب، ولا تورث، فينفذ شرطه.
قال: فإذا فهمت هذا، فاعلم أن الألفاظ الواقعة في هذا الباب إما أن يقترن معها ما يدلّ على التأبيد، أو لا.
فالأول: نحو قوله: لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث، أو أبدًا، أو دائمًا، أو على مجهولين، أو على العقب، فهذا النوع لا يبالى بأي لفظ نُسق معه؛ لأنه يفيد ذلك المعنى؛ كقوله: وقفٌ، أو حبسٌ، أو صدقةٌ، أو عطيّةٌ.
والثاني: وهو إذا تجرّد عما يدلّ على ذلك، فلفظ الوقف صريح الباب، فيقتضي التأبيد، والتحريم، ولم يختلف المذهب في ذلك. وفي الحبس روايتان: إحداهما أنه كالوقف. والثانية: أنه يرجع إلى المحبّس بعد موت المحبَّس عليه، والظاهر الأول؛ لأنه يُستعمل في ذلك شرعًا، وعرفًا.
وأما الصدقة، فالظاهر منها أنها تمليك الرقبة. وفي رواية أنها كالوقف، وفيها بُعْد، إلا عند القرينة. واختُلف فيما لو جمع بينهما، فقال: حُبْسٌ صدقةٌ، والظاهر أن حكمه حكم الْحُبُس، وصدقة تأكيدٌ. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله، وهو بحث نفيس.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من ذكر المذاهب وأدلّتها أن الحقّ ما ذهب إليه الجمهور من جواز الوقف مطلقًا، سواء كان عقارًا، أم منقولًا؛ كالحيوان، أو المصاحف، أو نحو ذلك؛ لعموم الأدلة، وأن الوقف لا يباع، ويوهب، ولا يورث، وإنما يُتّبع فيه شروط الواقف، كما دلّ عليه حديث قصّة عمر رضي الله عنه، وما ذهب إليه أبو حنيفة، وبعض طائفة، من جواز
الرجوع في الوقف، وجواز بيعه، ومنع الوقف في المنقولات، مما لا دليل عليه، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4217]
(
…
) - (حَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا أَزْهَرُ السَّمَّانُ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ، وَأَزْهَرَ انْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ:"أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا، غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ"، وَلَمْ يُذْكَرْ مَا بَعْدَهُ، وَحَدِيثُ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ فِيهِ مَا ذَكَرَ سُلَيْمٌ، قَوْلُهُ: فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مُحَمَّدًا إِلَى آخِرِهِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ) يحيى بن زكريّا بن أبي زائدة الْهَمْدانيّ، أبو سعيد الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 3 أو 184) وله (93) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 121.
3 -
(إِسْحَاقُ) بن راهويه، تقدّم قبل بابين.
4 -
(أَزْهَرُ السَّمَّانُ) ابن سعد، أبو بكر الباهليّ البصريّ، ثقةٌ [9](ت 203) وهو ابن (94) سنةً (خ م د ت س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 26/ 1344.
5 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل بابين.
6 -
(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ [9](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.
و"ابن عون" ذُكر قبله.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ
…
إلخ)؛ يعني: أن كلًّا من يحيى بن أبي زائدة، وأزهر السمّان، وابن أبي عديّ رووا هذا الحديث عن عبد الله بن عون مثل رواية سُليم بن أخضر عنه.
[تنبيه]: رواية ابن أبي عديّ، عن ابن عون، ساقها ابن خزيمة في "صحيحه"، فقال:
(2483)
- حدّثنا أبو موسى محمد بن المثنى، حدّثنا ابن أبي عديّ، عن ابن عون، عن نافع، عن ابن عمر، أن عمر أصاب أرضًا بخيبر، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم ليستأمر فيها، قال: إني أصبت أرضًا بخيبر، لم أُصِب مالًا قط أنفس عندي منه، فما تأمر به؟ قال:"إن شئت حَبَسْتَ أصلها، وتصدقت بها"، قال: فتصدق بها عمر أن لا تباع أصولها، لا تباع
(1)
، ولا توهب، ولا تورث، فتصدق بها على الفقراء، والقربى، والرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضعيف
(2)
، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يُطعم صديقًا غير متمول فيها، قال ابن عون: فحدثت به محمدًا، فقال: غير متأمل
(3)
مالًا، قال ابن عون: وحدّثني من قرأ الكتاب: غير متأثل مالًا. انتهى
(4)
.
وأما رواية يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، وأزهر السمان كلاهما عن ابن عون، فلم أجد من ساقهما بتمامهما، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4218]
(1633) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ، قَالَ: أَصَبْتُ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ خَيْبَرَ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: أَصَبْتُ أَرْضًا، لَمْ أُصِبْ مَالًا أَحَبَّ إِلَيَّ، وَلَا أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهَا. وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِهِمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ: فَحَدَّثْثُ مُحَمَّدًا وَمَا بَعْدَهُ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم أيضًا قبل بابين.
والباقون ذُكروا قبله.
(1)
هكذا النسخة، ولعل الصواب:"ولا تبتاع"، فليُحرّر.
(2)
هكذا النسخة: والظاهر أنه تصحيف من "الضيف"، فليُحرّر.
(3)
هكذا النسخة، "متأمل"، وهو تصحيف، والصواب:"متأثّل"، فتنبّه.
(4)
"صحيح ابن خزيمة" 4/ 117.
وقوله: (عَنْ عُمَرَ) فيه أنه من مسند عمر رضي الله عنه، وقد تقدّم أن الثوريّ وتابعه أبو إسحاق الفزاريّ، وسعيد بن سالم المكيّ خالفوا أكثر الرواة عن ابن عون، فجعلوه من مسنده، والأكثرون على أنه من مسند ابن عمر رضي الله عنه، وهو الأرجح، فتنبّه.
[تنبيه]: رواية الثوريّ، عن ابن عون هذه ساقها النسائيّ في "المجتبى"، فقال:
(3597)
- أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أَنْبَأنَا أبو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ عُمَرُ بن سَعْدٍ، عن سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عن ابن عَوْنٍ، عن نَافِعٍ، عن ابن عُمَرَ، عن عُمَرَ، قال: أَصَبْتُ أَرْضًا من أَرْضِ خَيْبَرَ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقلت: أَصَبْتُ أَرْضًا لم أُصِبْ مَالًا أَحَبَّ إِلَيّ، ولا أَنْفَسَ عِنْدِي منها، قال:"إن شِئْتَ تَصَدَّقْتَ بها"، فَتَصَدَّقَ بها على أَنْ لَا تُبَاعَ، ولا تُوهَبَ، في الْفُقَرَاءِ، وَذِي الْقُرْبَى، وَالرِّقَابِ، وَالضَّيْفِ، وابن السَّبِيلِ، لَا جُنَاحَ على من وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ، غير مُتَمَوِّلٍ مَالًا، وَيُطْعِمَ. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(6) - (بَابُ تَرْكِ الْوَصِيَّةِ لِمَنْ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ)
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4219]
(1634) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى: هَلْ أَوْصَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟، فَقَالَ: لَا، قُلْتُ: فَلِمَ كُتِبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْوَصِيَّةُ؟ أَوْ فَلِمَ أُمِرُوا بِالْوَصِيَّةِ؟ قَالَ: أَوْصَى بِكِتَابِ اللهِ عز وجل.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) النيسابوريّ الإمام، تقدّم في الباب الماضي.
(1)
سنن النسائي "المجتبى" 6/ 230.
2 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) تقدّم قريبًا.
3 -
(مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ) أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 146.
4 -
(طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفِ) بن عمرو بن كعب الياميّ الكوفيّ، ثقةٌ قارئٌ فاضلٌ [5](ت 112)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 146.
5 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى) علقمة بن خالد بن الحارث الأسلميّ الصحابيّ، شَهِد الْحُديبية، مات (87)(ع) تقدم في "الصلاة" 41/ 1072.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه مسلسل بالكوفيين من مالك، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم،
عُمِّر بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم دهرًا، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالكوفة.
شرح الحديث:
(عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ) -بكسر الميم، وسكون الغين المعجمة، وفتح الواو- وذكر الترمذيّ أن مالك بن مغول تفرّد به
(1)
. (عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ) بكسر الراء المشدّدة، بصيغة اسم الفاعل، أنه (قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى) رضي الله عنه (هَلْ أَوْصَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بشيء؟ (فَقَالَ) عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه (لَا)؛ أي: لم يوص بشيء، قال في "الفتح": هكذا أطلق الجواب، وكأنه فَهِم أن السؤال وقع عن وصيّة خاصّة، فلذلك ساغ نفيها، لا أنه أراد نفي الوصيّة مطلقًا؛ لأنه أثبت بعد ذلك أنه أوصى بكتاب الله. انتهى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قول طلحة لابن أبي أوفى: "هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم" ظاهره أنه سأله: هل كانت من النبيّ صلى الله عليه وسلم وصيَّةٌ بشيء من الأشياء؛ لأنه لو أراد شيئًا واحدًا لعيَّنه، فلمَّا لم يقيِّده بقي على إطلاقه، فأجابه بنفي ذلك، فلمَّا سمع طلحة هذا النفي العام قال مستبعدًا: كيف كُتب على المسلمين الوصية؟ ومعناه: كيف ترك النبيّ صلى الله عليه وسلم الوصية، والله تعالى قد كتبها على الناس؟! وهذا يدل على أن طلحة، وابن أبي أوفى كانا يعتقدان أن
(1)
راجع: "الفتح" 6/ 670.
الوصية واجبة على النَّاس، وأن ذلك الحكم لم يُنسخ، وفيه بُعد.
ثم إن ابن أبي أوفى غَفَل عمَّا أوصى به النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي وصايا كثيرة؛ فمنها: أنه قال: "لا يقتسم ورثتي دينارًا ولا درهمًا"، رواه مسلم، و"لا نورث، ما تركنا صدقة"، متّفقٌ عليه، وقال عند موته:"لا يبقين دينان بجزيرة العرب، وأخرجوا المشركين منها، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم"، رواه مالك في الموطإ، وكان من آخر ما وصَّى به -وهو ما يفيض- أن قال:"الصلاة وما ملكت أيمانكم"، وهذه كلها وصايا منه صلى الله عليه وسلم، ذَهِل ابن أبي أوفى عنها.
وذكر ابن إسحاق: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أوصى عند موته لجماعة من قبائل العرب بجِدَاد أوساقٍ من تمر سهمه بخيبر، ذكره في "السيرة"، ولم يذكر ابن أبي أوفى من جملة ما وصَّى به النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا كتابَ الله، إمَّا ذهولًا، وإما اقتصارًا عليه؛ لأنه أعظمُ، وأهمُّ من كل ما وصَّى به، وأيضًا: فإذا استوصى النَّاس بكتاب الله، فعملوا به قاموا بكل ما أوصى به، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
(قُلْتُ: فَلِمَ كُتِبَ) بالبناء للمفعول؛ أي: كيف أوجب الله تعالى (عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْوَصِيَّةُ؟) بالرفع على أنه نائب فاعل "كُتب"، قال النوويّ:"مراد السائل بقوله: "فلم كُتب
…
إلخ " قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} الآية [البقرة: 180]، وهذه الآية منسوخة عند الجمهور، ويَحْتَمِل أن السائل أراد بكتب الوصيّة الندب إليها"، والله أعلم
(2)
.
(أَوْ فَلِمَ أُمِرُوا بِالْوَصِيَّةِ؟) لفظ البخاريّ: "كيف كُتب على الناس الوصيّة؟ أو قال: كيف أُمروا بها؟ ".
فأو: للشكّ من الراوي، هل قال: كيف كُتب على المسلمين الوصية، أو قال: فلِمَ أمروا بالوصيّة؟ زاد البخاريّ في "فضائل القرآن": "ولم يوص"، وبذلك يتمّ الاعتراض؛ أي: كيف يؤمر المسلمون بشيء، ولا يفعله النبيّ صلى الله عليه وسلم؟.
قال النوويّ رحمه الله: لعل ابن أبي أوفى أراد لم يوص بثلث ماله، ولا
(1)
"المفهم" 4/ 556 - 557.
(2)
"شرح النوويّ" 11/ 88.
غيره؛ لأنه لم يترك بعده مالًا، ولا أوصى إلى عليّ رضي الله عنه، ولا إلى غيره، بخلاف ما تزعمه الشيعة، وأما الأرض التي كانت له صلى الله عليه وسلم بخيبر، وفَدَك، فقد سَبّلها في حياته، ونجّز الصدقة بها على المسلمين
(1)
.
وأما السلاح والبغلة ونحو ذلك، فقد أخبر بأنها لا تورث عنه، بل جميع ما يَخلُفه صدقةٌ، فلم يبق بعد ذلك ما يوصي به، من الجهة المالية، وأما الوصايا بغير ذلك، فلم يُرد ابن أبي أوفى نفيها.
قال في "الفتح": ويَحْتَمِل أن يكون المنفيّ وصيته إلى عليّ رضي الله عنه بالخلافة، كما وقع التصريح به في حديث عائشة رضي الله عنها الذي بعده، ويؤيده ما وقع في رواية الدارميّ عن محمد بن يوسف، وكذلك عند ابن ماجه، وأبي عوانة، في آخر حديث الباب:"قال طلحة: فقال هُزَيل بن شُرَحْبِيل: أبو بكر كان يتأمّر على وصيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَدّ أبو بكر أنه كان وَجَد عهدًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخَزَمَ أنفه بخزام"، وهُزَيل هذا -بالزاي مصغرًا- أحد كبار التابعين، ومن ثقات أهل الكوفة، فدلّ هذا على أنه كان في الحديث قرينة تُشعر بتخصيص السؤال بالوصية بالخلافة، ونحو ذلك، لا مطلق الوصية.
قال الحافظ: أخرج ابن حبان الحديث من طريق ابن عيينة، عن مالك بن مِغْوَل، بلفظٍ يزيل الإشكال، فقال: سئل ابن أبي أوفى، هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما ترك شيئًا يوصي فيه، قيل: فكيف أُمر الناس بالوصية؟ ولم يوص، قال: أوصى بكتاب الله.
وقال القرطبيّ: استبعاد طلحة واضحٌ؛ لأنه أطلق، فلو أراد شيئًا بعينه لخصّه به، فاعترضه بأن الله كتب على المسلمين الوصية، وأُمروا بها، فكيف لم يفعلها النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فأجابه بما يدلّ على أنه أطلق في موضع التقييد، قال: وهذا يشعر بأن ابن أبي أوفى، وطلحة بن مصرِّف كانا يعتقدان أن الوصية واجبة، كذا قال. انتهى.
(قَالَ) عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه (أَوْصَى) النبيّ صلى الله عليه وسلم (بِكِتَابِ اللهِ عز وجل؛
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 88.
أي: بالتمسك به، والعمل بمقتضاه، ولعله أشار لقوله صلى الله عليه وسلم:"تركت فيكم ما إن تمسكتم به لم تضلّوا، كتاب الله".
قال الحافظ: وأما ما صحّ في مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم أوصى عند موته بثلاث: "لا يَبْقَيَنّ بجزيرة العرب دينان"، وفي لفظ:"أخرجوا اليهود من جزيرة العرب"، وقوله:"أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم به"، ولم يذكر الراوي الثالثة، وكذا ما ثبت في النسائيّ أنه صلى الله عليه وسلم كان آخر ما تكلم به:"الصلاةَ، وما ملكت أيمانكم"، وغير ذلك من الأحاديث التي يمكن حصرها بالتتبع، فالظاهر أن ابن أبي أوفى لم يُرِد نفيه، ولعله اقتصر على الوصية بكتاب الله؛ لكونه أعظم وأهمّ، ولأن فيه تبيان كل شيء، إما بطريق النصّ، وإما بطريق الاستنباط، فإذا اتَّبَع الناسُ ما في الكتاب، عَمِلوا بكل ما أمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم به؛ لقوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الآية [الحشر: 7] أو يكون لم يَحضُر شيئًا من الوصايا المذكورة، أو لم يستحضرها حالَ قوله.
والأَولى أنه إنما أراد بالنفي الوصية بالخلافة، أو بالمال، وساغ إطلاق النفي، أما في الأول فبقرينة الحال، وأما في الثاني فلأنه المتبادر عرفًا، وقد صحّ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم لم يوص، أخرجه ابن أبي شيبة، من طريق أرقم بن شُرَحْبيل عنه، مع أن ابن عباس هو الذي رَوَى حديث أنه صلى الله عليه وسلم أوصى بثلاث، والجمع بينهما على ما تقدم.
وقال الكرمانيّ
(1)
: قوله: "أوصى بكتاب الله" الباء زائدة؛ أي: أمر بذلك، وأطلق الوصية على سبيل المشاكلة، فلا منافاة بين النفي والإثبات.
قال الحافظ: ولا يخفى بُعْد ما قال، وتكلفه، ثم قال: أو المنفيّ الوصية بالمال، أو الإمامة، والمثبت الوصية بكتاب الله؛ أي: بما في كتاب الله أن يُعْمَل به. انتهى، وهذا الأخير هو المعتمد. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"شرح البخاريّ" للكرمانيّ 11/ 60.
(2)
"الفتح" 6/ 670 - 671.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه هذا متفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [6/ 4219 و 4220](1634)، و (البخاريّ) في "الوصايا"(2740) و"المغازي"(4460) و"فضائل القرآن"(5022)، و (الترمذيّ) في "الوصايا"(2119)، و (النسائيّ) في "الوصايا"(6/ 240) و"الكبرى"(4/ 101)، و (ابن ماجه) في "الوصايا"(2696)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 228)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 315)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 354 و 355 و 381)، و (الدارميّ) في "الوصايا"(3180)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 475)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(13/ 382)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 266)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان جواز ترك الوصيّة لمن ليس له شيء يوصي فيه.
2 -
(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الإعراض عن الدنيا، بحيث إنه لم يترك شيئًا يوصي به، بل خرج فارغ القلب واليد منها.
3 -
(ومنها): شدّة عنايته صلى الله عليه وسلم بالتمسّك بكتاب الله تعالى، بحيث إنه كان من أواخر ما أوصى به أمته.
4 -
(ومنها): ما كان عليه السلف رضي الله عنهم من البحث عن سننه صلى الله عليه وسلم، ولو في حال موته، حتى يستنّوا بها، ويحكّموها في جميع أحوالهم، محياهم، ومماتهم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4220]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاهُ أبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ وَكِيعٍ: قُلْتُ: فَكَيْفَ أُمِرَ النَّاسُ بِالْوَصِيَّةِ؟ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ: قُلْتُ: كَيْفَ كُتِبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْوَصِيَّةُ؟).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلهم تقدّموا في الباب، وقبل ثلاثة أبواب، و"ابن نُمير" هو: محمد بن عبد الله بن نمير.
[تنبيه]: رواية وكيع، عن مالك بن مِغْول ساقها أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنّفه"، فقال:
(30939)
- حدّثنا وكيع، عن مالك بن مِغْوَل، عن طلحة، قال: قلت لابن أبي أوفى: أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، قلت: فكيف أمر الناس بالوصية؟ قال: أوصى بكتاب الله. انتهى
(1)
.
وساقها الإمام أحمد في "مسنده" مطوّلةً، فقال:
(19427)
- حدثنا عبد اللهِ، حدثني أبي، ثنا وَكِيعٌ، ثنا مَالِكُ بن مِغْوَلٍ، عن طَلْحَةَ بن مُصَرِّفٍ، قال: قلت لِعَبْدِ اللهِ بن أبي أَوْفَى: أَوْصَى النبي صلى الله عليه وسلم بشيء؟ قال: لَا، قلت: فَكَيْفَ أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِالْوَصِيَّةِ؟ قال: أَوْصَى بكِتَاب اللهِ عز وجل، قال مَالِكُ بن مِغْوَلٍ: قال طَلْحَةُ: وقال الهذيل بن شُرَحْبِيلَ: أَبو بَكْرٍ رضي الله عنه كان يَتَأَمَّرُ على وَصِيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَدَّ أبو بَكْرٍ رضي الله عنه أنه وَجَدَ مع رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم عَهْدًا فَخُزِمَ أَنْفُهُ بِخِزَامٍ
(2)
.
وأما رواية عبد الله بن نُمير، عن مالك بن مِغول، فلم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4221]
(1635) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو مُعَاوِيةَ، عَنِ الأَعْمَشِ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، وَأَبُو مُعَاوِيةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا، وَلَا شَاةً، وَلَا بَعِيرًا، وَلَا أَوْصَى بِشَيْءٍ).
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 228.
(2)
"مسند أحمد بن حنبل" 4/ 381.
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو مُعَاوَيةَ) محمد بن خازم الضرير، الكوفيّ، ثقةٌ من أثبت الناس في حديث الأعمش، وقد يَهِم في حديث غيره، من كبار [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
2 -
(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الأسديّ الكاهليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ حافظ، عارف بالقراءة، وَرعٌ، لكنه يدلّس [5](ت 147)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.
3 -
(أَبُو وَائِلٍ) شقيق بن سلمة الأسديّ الكوفيّ، ثقةٌ مخضرم [2](ت 82)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
4 -
(مَسْرُوقُ) بن الأجدع بن مالك الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو عائشة الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ مخضرمٌ [2](ت 2 أو 63)(ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 217.
5 -
(عَائِشَةُ) بنت الصدّيق رضي الله عنهما، أم المؤمنين، تقدّمت قبل بابين.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه مسلسلٌ بالكوفيين من أوله إلى آخره إلا عائشة رضي الله عنها، فمدنيّة، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق، ورواية الأخيرين من رواية الأقران؛ إذ هما من المخضرمين، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) أمّ المؤمنين رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: مَا) نافية (تَرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم دِينَارًا) قال: قال المجد رحمه الله: الدينار: مُعَرَّبٌ، أصله دِنَّار، فأُبدلت من إحداهما ياءٌ؛ لئلا يلتبس بالمصادر؛ ككِذّاب. انتهى
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: الدِّينَارُ: معروف، والمشهور في الكتب أن أصله دِنَّارٌ بالتضعيف، فأُبدل حرفَ علة؛ للتخفيف، ولهذا يُرَدّ في الجمع إلى أصله،
(1)
"القاموس المحيط" ص 449.
فيقال: دَنَانِيرٌ، وبعضهم يقول: هو فِيعَالٌ، وهو مردود بأنه لو كان كذلك لوُجِدت الياء في الجمع، كما ثبتت في دِيمَاس ودَيَاميس، ودِيباج ودَيَابيج، وشبهه، والدِّينَارُ: وزنُ إحدى وسبعين شعيرةً ونصفَ شعيرة تقريبًا؛ بناءً على أن الدّانِق ثماني حبات وخُمسا حبةٍ، وإن قيل: الدّانِق ثماني حبات، فَالدِّينَارُ ثمانٍ وستون، وأربعة أسباع حبة، والدِّينَارُ: هو المثقال. انتهى
(1)
.
(وَلَا دِرْهَمًا) قال المجد رحمه الله: الدّرهم؛ كمِنْبر، ومِحْراب، وزِبْرِجٍ: معروف، جمعه دَراهم، ودراهيم. انتهى
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: الدِّرْهَمُ الإِسْلامِيُّ: اسم للمضروب من الفضة، وهو مُعَرَّب، وزنه فِعْلَلٌ -بكسر الفاء، وفتح اللام- في اللغة المشهورة، وقد تكسر هاؤه، فيقال: دِرْهَمٌ؛ حملًا على الأوزان الغالبة، والدِّرْهَمُ: ستة دَوَانق، والدِّرْهَمُ: نصف دينار وخُمسه، وكانت الدراهم في الجاهلية مختلفة، فكان بعضها خِفافًا، وهي الطبرية، كلّ درهم منها أربعة دوانيق، وهي طبرية الشام، وبعضها ثقالًا، كلّ درهم ثمانية دوانيق، وكانت تسمى العبدية، وقيل: البغلية، نسبةٌ إلى مَلِك، يقال له: رأس الْبَغْل، فجُمِع الخفيف والثقيل، وجُعلا درهمين متساويين، فجاء كلّ درهم ستة دوانيق، ويقال: إنّ عمر رضي الله عنه هو الذي فعل ذلك؛ لأنه لما أراد جِباية الخراج طلب بالوزن الثقيل، فصعُب على الرعيّة، وأراد الجمع بين المصالح، فطلب الْحُسّاب، فخلطوا الوزنين، واستخرجوا هذا الوزن، وقيل: كان بعض الدراهم وزن عشرين قيراطًا، وتسمى وزنَ عشرة، وبعضها وزنَ خمسة، وبعضها وزنَ اثني عشر، وتسمى وزنَ ستة، فجمعوا من الأوزان الثلاثة هذا الوزن، فكان ثلثها، ويسمى وزنَ سبعة؛ لأنك إذا جمعت عشرة دراهم من كلّ صنف، كان الجميع أحدًا وعشرين مثقالًا، وثلث الجميع سبعة مثاقيل، قال: القيراط نصف دانق، والدانق حبتا خُرْنُوب، فيكون الدرهم اثنتي عشرة حبةَ خُرْنُوب، وهذا أحد الأوزان قبل الإسلام، وأما الدرهم الإسلاميّ فهو ستّ عشرة حبةَ خُرنوب، فيكون الدانق حبة خرنوب وثلث حبة خرنوب. انتهى
(3)
.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 200 - 201.
(2)
"القاموس المحيط" ص 428.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 193 - 194.
(وَلَا شَاةً) قال المجد: الشاة الواحدة من الغنم، للذكر والأنثى، أو يكون من الضأن، والمعز، والظِّبَاء، والبقرِ، والنَّعام، وحُمُر الوحش، والمرأةُ، جمعه: شاءٌ، أصله: شاهٌ، وشِيَاهٌ، وشِواه، وأشاوِهُ. انتهى
(1)
.
وقال الفيّوميّ: الشاة من الغنم يقع على الذكر والأنثى، فيقال: هذا شاةٌ للذَّكَر، وهذه شاةٌ للأنثى، وشاةٌ ذَكَرٌ، وشاةٌ أُنثى، وتصغيرها شُوَيهةٌ، والجمع: شاءٌ -بالهمزة- وشياهٌ بالهاء؛ رُجُوعًا إلى الأصل، كما قيل: شَفَةٌ وشفاهٌ، ويقال: أصلها شاهةُ، مثلُ عاهَةٍ. انتهى
(2)
.
(وَلَا بَعِيرًا) قال المجد رحمه الله: البَعِير -بالفتح- وقد تُكسر الباءُ: الجمل البازِلُ، أو الْجِذَعُ، وقد يكون للأنثى، والحمارُ، وكلُّ ما يَحْمِلُ، جمعه: أبعرةٌ، وأباعرُ، وأباعيرُ، وبُعْران -بالضم- وبِعْران- بالكسر. انتهى
(3)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله
(4)
: البَعِيرُ: مثلُ الإنسان، يقع على الذكر والأنثى، يقال: حَلَبْتُ بَعِيرِي، والجَمَلُ: بمنزلة الرجل يختص بالذكر، والنَّاقَةُ: بمنزلة المرأة تختص بالأنثى، والبَكْرُ والبَكْرَةُ: مثلُ الفتى والفتاة، والقَلُوصُ: كالجارية، هكذا حكاه جماعة، منهم: ابن السِّكِّيت، والأزهريّ، وابن جني، ئم قال الأزهريّ: هذا كلام العرب، ولكن لا يعرفه إلا خواص أهل العلم باللغة، ووقع في كلام الشافعيّ رحمه الله في الوصية: لو قال: أعطوه بعيرًا لم يكن لهم أن يعطوه ناقة، فحَمَلَ البعير على الجمل، ووجهه أن الوصية مبنية على عُرف الناس، لا على مُحْتَمَلات اللغة التي لا يعرفها إلا الخواصّ، وحَكَى في "كفاية المتحفظ" معنى ما تقدم، ثم قال: وإنما يقال: جملٌ، أو ناقةٌ إذا أربعا، فأما قبل ذلك فيقال: قَعُودٌ، وبَكْرٌ، وبَكْرَةٌ، وقَلُوصُ، وجمع البَعِيرِ: أَبْعِرَةٌ، وأَبَاعِرُ، وبُعْرَانُ بالضم
(5)
. انتهى
(6)
.
(1)
"القاموس المحيط" ص 719.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 328.
(3)
"القاموس المحيط" ص 116 - 117.
(4)
عبارة "المصباح" تقدّم نقلها في هذا الشرح في "باب التيمّم"، وإنما أعدته؛ لطول العهد به، فتنبّه.
(5)
تقدّم عن "القاموس" أنه يكسر أيضًا.
(6)
"المصباح المنير" 1/ 53.
(وَلَا أَوْصَى بِشَيْءٍ)؛ أي: مما يتعلّق بالمال كما يدلّ عليه أول الحديث، أو بالخلافة إلى عليّ رضي الله عنه، كما تزعمه الشيعة.
وقال القرطبيّ رحمه الله: أرادت عائشة رضي الله عنها الوصيّةَ بشيء من أمر الخلافة، بدليل الحديث المذكور بعده أنهم لَمّا ذكروا أن عليًّا رضي الله عنه كان وصيًّا قالت: ومتى أوصى إليه؟ وذكرت الحديث. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 4221 و 4222](1635)، و (أبو داود) في "الوصايا"(2863)، و (الترمذيّ) في "الشمائل"(405)، و (النسائيّ) في "الوصايا"(6/ 240) و"الكبرى"(4/ 101)، و (ابن ماجه) في "سننه"(2695)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 228)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 44 و 136 و 187)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(3/ 789)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 474)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(4/ 164)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(14/ 283 و 572)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 266)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4222]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، كُلُّهُمْ عَنْ جَرِيرٍ (ح) وَحَدَّثنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، أَخْبَرَنَا عِيسَى -وَهُوَ ابْنُ يُونُسَ- جَمِيعًا عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) أبو الحسن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 239)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 35/ 246.
(1)
"المفهم" 4/ 557.
3 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد بن قُرط الضبيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
4 -
(عَلِيُّ بْنُ خَشْرَم) المروزيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257) أو بعدها (م ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.
5 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السبيعيّ الكوفيّ، ثقةٌ مأمونٌ [8](ت 187)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
والباقيان ذُكرا في الباب، وقبله.
[تنبيه]: رواية جرير بن عبد الحميد، عن الأعمش ساقها ابن راهويه في "مسنده"، فقال:
(1419)
- أخبرنا جرير بن عبد الحميد، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشة، قالت: تُوُفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يترك دينارًا، ولا درهمًا، ولا شاةً، ولا بعيرًا، ولا أوصى بشيء. انتهى
(1)
.
وأما رواية عيسى بن يونس، عن الأعمش، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4223]
(1636) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ -وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى- قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: ذَكَرُوا عِنْدَ عَائِشَةَ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ وَصِيًّا، فَقَالَتْ: مَتَى أَوْصَى إِلَيْهِ؟ فَقَدْ كُنْتُ مُسْنِدَتَهُ إِلَى صَدْرِي -أَوْ قَالَتْ: حَجْرِي- فَدَعَا بِالطَّسْتِ، فَلَقَدِ انْخَنَثَ في حَجْرِي، وَمَا شَعَرْتُ أنَّهُ مَاتَ، فَمَتَى أَوْصَى إِلَيْهِ؟).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) تقدّم قريبًا.
2 -
(ابْنُ عَوْنٍ) هو: عبد الله، تقدّم في الباب الماضي.
(1)
"مسند إسحاق بن راهويه" 3/ 789.
3 -
(إِبْرَاهِيمُ) بنُ يزيد بن قيس النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ، ثقةٌ فقيه، يرسل كثيرًا [5](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.
4 -
(الأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ) بن قيس النخعيّ، أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ فقيةٌ مكثرٌ مخضرم [2](ت 4 أو 75)(ع) تقدم في "الطهارة" 32/ 674.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أن فيه ثلاثةً من التابعين روى بعضهم عن بعض، فإن ابن عون من الطبقة الخامسة على الصحيح؛ لأنه رأى أنسًا رضي الله عنه؛ كالأعمش، وفيه رواية الراوي عن خاله، فإن الأسود خال لإبراهيم، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ) النخعيّ، أنه (قَالَ: ذَكَرُوا)؛ أي: القوم الحاضرون (عِنْدَ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها (أَنَّ عَلِيًّا)؛ أي: ابن أبي طالب رضي الله عنه (كَانَ وَصِيًّا)، وفي رواية النسائيّ:"إن النبيّ صلى الله عليه وسلم أوصى إلى عليّ"؛ أي: عَهِدَ إليه بالخلافة، يقال: أوصاه، ووَصّاه توصيةً: عَهِدَ إليه والاسم: الوَصَاة، والوصاية، والوَصيّةُ، وهو الموصى به أيضًا، والوَصِيّ: الموصِي والموصَى، وهي وصيّ أيضًا، جمعه أوصياء، ولا يثنى ولا يجمع، قاله المجد رحمه الله.
والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم جعل عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه وَصِيّه، وأمره أن يكون خليفته من بعده.
والحاصل: أنهم ذكروا عند عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم أوصى لعلي بالخلافة في مرض موته فأنكرت ذلك (فَقَالَتْ: مَتَى أَوْصَى إِلَيْهِ؟)؛ أي: في أي وقت من أوقات مرضه أوصى إليه؟ (فَقَدْ كُنْتُ مُسْنِدَتَهُ) اسم فاعل، من أسند الشيءَ إلى الشيء، قال الفيّوميّ رحمه الله: سَنَدتُ إلى الشيء، من باب قَعَدَ، وسَنِدتُ أَسْنَدُ، من باب تَعِبَ لغةٌ، واستندت إليه بمعنًى، ويُعدَّى بالهمزة، فيقال: أسندته إلى الشيء، فسَنَدَ هو، وما يُسْتند إليه مِسْنَدٌ، بكسر الميم، ومُسْنَدٌ، بضمّها، والجمع مساند. انتهى
(1)
.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 291.
وقولها: (إِلَى صَدْرِي) متعلّق بـ "مسندته"، قال الجوهريّ رحمه الله: الصّدْر: واحد الصدور، وهو مذكّرٌ، وإنما قال الأعشى [من الطويل]:
وَيَشْرَقُ بِالْقَوْلِ الذِّي قَدْ أَذَعْتَهُ
…
كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنَ الدَّمِ
فأنّثه على المعنى؛ لأن صدر القناة من القناة، وهذا كقولهم: ذهبت بعض أصابعه؛ لأنهم يؤنّثون الاسم المضاف إلى المؤنّث. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: وإلى هذه القاعدة أشار ابن مالك في "الخلاصة" حيث قال:
وَرُبَّمَ أَكْسَبَ ثَانٍ أَوَّلَا
…
تَأْنِيثًا إِنْ كَانَ لِحَذْفٍ مُوهَلَا
(أَوْ قَالَتْ: حَجْرِي)"أو" للشكّ من الراوي، هل قالت:"صدري"، أو قالت:"حجري"، و"الْحَجْر" بالفتح والكسر: حِضْنُ الإنسان
(2)
، أفاده المجد، وقال الفيّومي: وحِجْرُ الإنسان بالفتح، وقد يُكسر: حِضْنُهُ، وهو ما دون إبطه إلى الْكَشْح، وهو في حِجْره؛ أي: كَنَفه، وحِمايته، والجمع: حُجُور. انتهى
(3)
.
(فَدَعَا)؛ أي: طَلَب النبيّ صلى الله عليه وسلم (بِالطَّسْتِ) قال في "اللسان": الطَّسْتُ من آنية الصُّفْر أُنثى، وقد تُذَكَّر، قال الجوهريّ: الطَّسْتُ: الطَّسُّ بلغة طَيِّءٍ، أُبدل من إِحدى السينين تاءٌ؛ للاستثقال، فإِذا جَمَعْتَ، أَو صَغَّرْتَ، رددتَ السين؛ لأِنك فصَلْتَ بينهما بأَلف، أَو ياء، فقلت: طِساسٌ، وطُسَيْسٌ. انتهى
(4)
.
وقال الفيّوميّ: "الطَّسْتُ" قال ابن قتيبة: أصلها طَسٌّ، فأبدل من أحد المضعفين تاءٌ؛ لثقل اجتماع المثلين؛ لأنه يقال في الجمع: طِسَاسٌ، مثل سَهْمٍ وسَهِامٍ، وفي التصغير: طُسَيْسَةٌ، وجمعت أيضًا على طُسُوسٍ باعتبار الأصل، وعلى طُسُوتٍ باعتبار اللفظ، قال ابن الأنباريّ: قال الفراء: كلام العرب طَسَّةٌ، وقد يقال: طَسٌّ، بغير هاء، وهي مؤنثة، وطيّء تقول: طَسْتٌ، كما،
(1)
"الصحاح" ص 582.
(2)
"الْحِضنُ" بالكسر: ما دون الإبط إلى الْكَشْح، أو الصدرُ، والعضدان، وما بينهما، وجانب الشيء، وناحيته، جمعه: أحضان. انتهى. "القاموس المحيط" ص 268.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 121 - 122.
(4)
"لسان العرب" 2/ 58.
قالوا في لُصّ: لُصْتٌ، ونُقِل عن بعضهم التذكير والتأنيث، فيقال: هو الطَّسَّةُ، والطَّسْتُ، وهي: الطَّسَّةُ، والطَّسْتُ، وقال الزجاج: التأنيث أكثر كلام العرب، وجمعها: طَسَّاتٌ على لفظها، وقال السجستانيّ: هي أعجمية مُعَرَّبةٌ، ولهذا قال الأزهريّ: هي دخيلة في كلام العرب؛ لأن التاء والطاء لا يجتمعان في كلمة عربية. انتهى
(1)
.
وإنما دعا صلى الله عليه وسلم بالطست؛ ليبول فيه، ففي رواية النسائيّ:"لقد دعا بالطست؛ ليبول فيه"، وعند الإسماعيليّ إنما دعا "ليتفُل فيها"، قال في "الفتح": ويمكن الجمع بينهما بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا بالطست، ولم يُبيّن غرضه، فتردّدت عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم دعا ليبول فيها، أو ليتفُل فيها، فذكر بعض الرواة ما لم يذكره الآخر. انتهى.
قال الجامع: ويَحْتَمل أن يكون دعا للغرضين جميعًا؛ لأن تلك الحالة كثيرًا ما يصحبها هذان الأمران، فتأمل، والله تعالى أعلم.
(فَلَقَدِ انْخَنَثَ فِي حَجْرِي)؛ أي: مال صلى الله عليه وسلم إلى حجري؛ لاسترخاء أعضائه، ولفظ النسائيّ:"فانخنث نفسه"؛ أي: مالت نفسه الشريفة، وقال ابن الأثير رحمه الله؛ أي: انْكَسر، وانْثَنَى؛ لاسْتِرخاء أعضائه صلى الله عليه وسلم عند الموت. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ: وقولها "انخنث"؛ أي: مال؛ تعني: حين مات، والمخنَّث من الرجال: هو الذي يميل، ويتثنى تشبُّهًا بالنساء، واختناث السقاء: هو إمالةُ فمه بعضه على بعض، وتليينه؛ ليُشربَ منه
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: في هذا الحديث بيان صريح أنه صلى الله عليه وسلم مات في حجر عائشة رضي الله عنها، وأما ما أورده الحاكم، وابن سعد من بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم توفّي في حجر عليّ بن أبي طالب، فإنها روايات ضعيفة لا تقوم بمثلها الحجة، ولا تخلو من راو ضعيف، أو شيعيّ، فلا يُعارَض بها ما ثبت في "الصحيحين"، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتهوّر بتقليد ذوي الاعتساف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 372.
(2)
"النهاية في غريب الأثر" 2/ 158.
(3)
"المفهم" 4/ 557.
(وَمَا شَعَرْتُ) بفتح العين؛ أي: علمت، يقال: شعرتُ بالشيء أشعُر شُعُورًا، من باب قَعَد، وشِعْرًا، وشِعْرةً -بكسرهما-: عَلِمتُ
(1)
؛ أي: وما علمت (أَنَّهُ) صلى الله عليه وسلم (مَاتَ، فَمَتَى أَوْصَى إِلَيْهِ؟) إلى عليّ رضي الله عنه كما يزعمون، فهذا استفهام إنكاريّ لزعمهم، ولفظ النسائيّ:"فإلى من أوصى؟ "؛ أي: إلى أي شخص عَهِد النبيّ صلى الله عليه وسلم بالخلافة؟ تريد بذلك الإنكار على من قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم أوصى إلى عليّ رضي الله عنه بالخلافة في مرض موته، وقد استندت في نفي ذلك إلى ملازمتها له في مرض موته إلى أن مات في حجرها، ولم يقع منه شيء من ذلك، فساغ لها نفي ذلك؛ لكونه منحصرًا في مجالس معيّنة لم تغب عن شيء منها.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقد أكثرَ الشِّيعةُ والرَّوافض من الأحاديث الباطلة الكاذبة، واخترعوا نصوصًا على استخلاف النبيّ صلى الله عليه وسلم عليًّا، وادعوا أنَّها تواترت عندهم، وهذا كلُّه كذبٌ مركبٌ، ولو كان شيء من ذلك صحيحًا، أو معروفًا عند الصحابة رضي الله عنهم يوم السَّقيفة لذكروه، ولرجعوا إليه، ولذكره عليٌّ رضي الله عنه مُحتجًّا لنفسه، ولَمَا حَلّ أن يسكت عن مثل ذلك بوجه، فإنَّه حقّ الله تعالى، وحق نبيِّه صلى الله عليه وسلم، وحقّ المسلمين، ثم ما يُعْلَم من عظيم عِلْم عليٍّ رضي الله عنه، وصلابته في الدين، وشجاعته يقتضي ألا يتَّقِي أحدًا في دين الله كما لم يتَّقِ معاويةَ، وأهل الشام حين خالفوه، ثم إنه لما قُتِل عثمان رضي الله عنه ولَّى المسلمون باجتهادهم عليًّا، ولم يذكر هو، ولا أحدٌ منهم نصًّا في ذلك، فعُلم قطعًا كذب من ادّعاه، وما التوفيق إلا من عند الله. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": قال القرطبيّ
(3)
: كانت الشيعة قد وضعوا أحاديث في أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أوصى بالخلافة لعليّ رضي الله عنه، فرَدّ عليهم جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ذلك، وكذا مَن بعدهم، فمن ذلك ما استَدَلّت به عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث، ومن ذلك أن عليًّا لم يَدَّعِ ذلك لنفسه، ولا بعد أن وَلِي الخلافة، ولا ذكره
(1)
"المصباح" 1/ 315.
(2)
"المفهم" 4/ 557.
(3)
قال الجامع: كلام القرطبيّ قد سبق نقله بنصّه، وأما ما ذكره في "الفتح"، فإنما تصرّف في كلامه، وصاغه بما فهمه منه، فتنبّه.
أحد من الصحابة يوم السقيفة، وهؤلاء تنقَّصُوا عليًّا من حيث قصدوا تعظيمه؛ لأنهم نسبوه مع شجاعته العظمى، وصلابته في الدين إلى المداهنة، والتَّقِيّة، والإعراض عن طلب حقّه، مع قدرته على ذلك.
وقال غيره: الذي يظهر أنهم ذكروا عندها أنه أوصى له بالخلافة في مرض موته، فلذلك ساغ لها إنكار ذلك، واستندت إلى ملازمتها له في مرض موته إلى أن مات في حجرها، ولم يقع منه شيء من ذلك، فساغ لها نفي ذلك؛ لكونه منحصرًا في مجالس معيَّنة، لم تَغِبْ عن شيء منها.
وقد أخرج أحمد، وابن ماجه بسند قويّ، وصححه، من رواية أرقم بن شُرَحبيل، عن ابن عباس رضي الله عنهما، في أثناء حديث، فيه أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم في مرضه أبا بكر، أن يصلي بالناس، قال في آخر الحديث: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يوص.
وسيأتي في الوفاة النبوية عن عمر رضي الله عنه: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يستخلف.
وأخرج أحمد، والبيهقيّ في "الدلائل" من طريق الأسود بن قيس، عن عمرو بن أبي سفيان، عن عليّ أنه لما ظهر يوم الجمل قال: يا أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَعْهَد إلينا في هذه الإمارة شيئًا
…
الحديث.
وأما الوصايا بغير الخلافة، فوردت في عدة أحاديث يجتمع منها أشياء، سنذكرها في المسألة الثالثة -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 4223](1636)، و (البخاريّ) في "الوصايا"(2741) و"المغازي"(4459)، و (الترمذيّ) في "الشمائل"(386)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 32) و"الوصايا"(6/ 240 و 241)، و (ابن ماجه) في "الجنائز"(1626)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 32)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 474)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): هذا الحديث صريح في كونه صلى الله عليه وسلم مات في حجر عائشة رضي الله عنها، وأما ما روي أنه صلى الله عليه وسلم مات في حجر عليّ فليس بثابت، بل هو مما روّجه الرافضة، وأهل الباطل، ولقد أجاد الحافظ رحمه الله في ردّه، حيث قال -بعد ذكر حديث عائشة المذكور هنا- ما نصّه: هذا الحديث يعارض ما أخرجه الحاكم، وابن سعد من طُرُق أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مات ورأسه في حجر عليّ، وكل طريق منها لا يخلو من شِيعِيّ، فلا يلتفت إليهم، وقد رأيت بيان حال الأحاديث التي أشرت إليها؛ دفعًا لتوهّم التعصب.
قال ابن سعد: "ذِكرُ من قال: تُوُفّي في حجر عليّ"، وساق من حديث جابر: سأل كعبُ الأحبار عليًّا: ما كان آخر ما تكلم به صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أسندته إلى صدري، فوضع رأسه على منكبي، فقال:"الصلاة الصلاة"، فقال كعب: كذلك آخر عهد الأنبياء. وفي سنده الواقديّ، وحَرَام بن عثمان، وهما متروكان.
وعن الواقديّ عن عبد الله بن محمد بن عمر بن عليّ، عن أبيه، عن جدّه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: "ادعوا إليّ أخي"، فدعي له عليّ، فقال:"ادنُ مني"، قال: فلم يزل مستندًا إليّ، وإنه ليكلمني حتى نزل به، وثَقُل في حجري، فصِحْتُ: يا عباس أدركني، فإني هالك، فجاء العباس، فكان جهدهما جميعًا أن أضجعاه. فيه انقطاع، مع الواقديّ، وعبد الله فيه لين.
وبه عن أبيه، عن عليّ بن الحسين:"قُبِض، ورأسه في حجر عليّ"، فيه انقطاع. وعن الواقديّ، عن أبي الحويرث، عن أبيه، عن الشعبيّ:"مات، ورأسه في حجر عليّ"، فيه الواقديّ والانقطاع، وأبو الحويرث اسمه عبد الرحمن بن معاوية بن الحارث المدنيّ، قال مالك: ليس بثقة، وأبوه لا يُعرف حاله.
وعن الواقديّ، عن سليمان بن داود بن الحصين، عن أبيه، عن أبي غطفان: سألت ابن عباس، قال: تُوُفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو إلى صدر عليّ، قال: فقلت: فإن عروة حدّثني عن عائشة، قالت: تُوُفّي النبيّ صلى الله عليه وسلم بين سَحْري، ونَحْري، فقال ابن عباس: لقد تُوُفّي، وإنه لمستند إلى صدر عليّ، وهو الذي غسَّله، وأخي الفضل، وأَبِي أَبَى أن يحضر. فيه الواقديّ، وسليمان لا يُعرف
حاله، وأبو غطفان -بفتح المعجمة، ثم المهملة- اسمه سعد، وهو مشهور بكنيته، وثقه النسائيّ.
وأخرج الحاكم في "الإكليل" من طريق حبة الْعَدنيّ، عن عليّ: أسندته إلى صدري، فسالت نفسه. وحبة ضعيف.
ومن حديث أم سلمة، قالت: عليّ آخرهم عهدًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث عن عائشة أثبت من هذا، ولعلها أرادت آخر الرجال به عهدًا.
قال: ويمكن الجمع بأن يكون عليّ آخرهم عهدًا به، وأنه لم يفارقه حتى مال، فلما مال ظنّ أنه مات، ثم أفاق بعد أن توجه، فأسندته عائشة بعده إلى صدرها، فقُبِض، ووقع عند أحمد من طريق يزيد بن بابنوس -بموحدتين، بينهما ألف غير مهموز، وبعد الثانية المفتوحة نون مضمومة، ثم واو ساكنة، ثم سين مهملة- في أثناء حديث: فبينما رأسه ذات يوم على منكبي
(1)
، إذ مال رأسه نحو رأسي، فظننت أنه يريد من رأسي حاجة، فخرجت من فيه نقطة باردة، فوقعت على ثغرة نحري، فاقشعر لها جلدي، وظننت أنه غُشي عليه، فسجيته ثوبًا. انتهى ما في "الفتح"
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قول الحافظ: "ويمكن الجمع بأن يكون عليّ آخرهم عهدًا به
…
إلخ" لا يخفى ضعف هذا الجمع، وكونه تكلّفًا باردًا، مع أنه لا حاجة إلى الجمع أصلًا، حيث تبيّن أن حديث عائشة رضي الله عنها الذي اتفق الشيخان على إخراجه في "صحيحيهما"، هو المعوّل عليه، وأما الأحاديث الواردة في معارضته التي تقدّم بيانها فمما لا يُلتفت إليها؛ لأنها لا تثبت، كما علمت حقيقتها، فلا تلتفت إلى أهل الأهواء، فإنهم لا يقبلون الجمع المذكور، بل لا يلتفتون إلى حديث عائشة رضي الله عنها أصلًا؛ لأن مبنى أدلّتهم هواهم، فما وافقه فهو الحقّ، وإن لم يثبت سنده، وما خالف فهو الباطل، وإن جاء بألف طريق صحاح.
(1)
هذا القول لعائشة رضي الله عنها، وليس من كلام عليّ، فالحديث متّصل بقصّة عائشة رضي الله عنها، كما ساقه الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" مطوّلًا، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
(2)
"الفتح" 9/ 601 - 602.
أيها العقلاء ألا تسمعون إلى ما قاله فرعون في حقّ موسى عليه السلام، وقومه؛ تمويهًا وتلبيسًا على قومه:{إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26]، زعم أن دينه هو الصلاح، وما جاء به موسى عليه السلام هو الفساد، وقال أيضًا:{مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29]، زعم أن ما عليه هو الرشاد، وما جاء به موسى عليه السلام هو الضلال، {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} الآية [الأعراف: 127]، زعموا أن ما أمرهم به فرعون هو الإصلاح، وما جاءهم به موسى عليه السلام هو الإفساد في الأرض.
تأملوا حقّ التأمل، كيف صوّر فرعون، والملأ من قومه موسى وأصحابه الذين جاءوا بالحقّ من عند الله تعالى مفسدين في الأرض، وأروا الناس، ولبّسوا عليهم أن الباطل الذي هم فيه هو الحقّ، وما أغنتهم التوراة بطولها، والآيات التسع ببيانها شيئًا، بل ازدادوا بها عتوًّا، وتجبّرًا في الأرض.
وهكذا أهل الضلال في كل مكان وزمان يرون ضلالهم حقًّا، والحقّ ضلالًا، ويرون أهلَ الحقّ مبطلين ضالّين، يُكَذَّب أهل الحقّ، ويُصَدَّق أهل الباطل، مصيبة ما بعدها مصيبة، إنا لله، وإنا إليه راجعون، اللهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين.
(المسألة الرابعة): أشارت عائشة رضي الله عنها في حديث الباب إلى ردّ ما أشاعته الرافضة والشيعة من أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أوصى إلى عليّ بالخلافة، وأن يُوفي ديونه:
فمن ذلك: ما أخرجه العُقيليّ وغيره في "الضعفاء" في ترجمة حكيم بن جُبير، من طريق عبد العزيز بن مروان، عن أبي هريرة، عن سلمان، أنه قال: قلت: يا رسول الله إن الله لم يبعث نبيًّا إلا بَيَّن له من يلي بعده، فهل بَيَّن لك؟ قال:"نعم، عليّ بن أبي طالب".
ومن طريق جرير بن عبد الحميد، عن أشياخ من قومه، عن سلمان: قلت: يا رسول الله مَن وصيك؟ قال: "وصيي، وموضع سري، وخليفتي على أهلي، وخير من أخلفه بعدي عليّ بن أبي طالب".
ومن طريق أبي ربيعة الإياديّ، عن ابن بريدة، عن أبيه، رفعه:"لكل نبيّ وصيّ، وإن عليًّا وصيي، وولدي".
ومن طريق عبد الله بن السائب، عن أبي ذرّ، رفعه:"أنا خاتم النبيين، وعليّ خاتم الأوصياء"، أوردها وغيرها ابن الجوزيّ في "الموضوعات".
ومن أكاذيب الرافضة أيضًا: ما رواه كثير بن يحيى، وهو من كبارهم، عن أبي عوانة، عن الأجلح، عن زيد بن عليّ بن الحسين، قال: لما كان اليوم الذي تُوُفّي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر قصةً طويلة، فيها: فدخل عليّ، فقامت عائشة، فأكبّ عليه، فأخبره بألف باب مما يكون قبل يوم القيامة، يفتح كل باب منها ألف باب. وهذا مرسل، أو معضل.
وله طريق أخرى موصولة عند ابن عدي في "كتاب الضعفاء" من حديث عبد الله بن عمر، بسند وَاهٍ، ذكر هذا كله الحافظ في "الفتح" بعضه في "كتاب الوصايا"
(1)
، وبعضه في آخر "كتاب المغازي" "باب آخر ما تكلّم به النبيّ صلى الله عليه وسلم
(2)
"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في وصيّة رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير الخلافة:
قال الحافظ رحمه الله في "الفتح": وأما الوصايا بغير الخلافة فوردت في عدة أحاديث، يَجتمع منها أشياء:
(منها): حديث أخرجه أحمد، وهناد بن السريّ في "الزهد"، وابن سعد في "الطبقات"، وابن خزيمة، كلهم من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في وجعه الذي مات فيه: "ما فعلت الذُّهَيبة؟
(3)
" قلت: عندي، فقال: "أنفقيها
…
"، الحديث.
(1)
"الفتح" 6/ 672 - 673.
(2)
"الفتح" 8/ 619 - 619.
(3)
"الذُّهَيبة": تصغير الذهب، وأدخل الهاء فيها؛ لأن الذهب يؤنّث، والمؤنّث الثلاثيّ إذا صُغِّر أُلحق في تصغيره الهاء، نحو قُويسة، وشُمية، قال في "الخلاصة":
وَاخْتِمْ بِتَا التَّأْنِيثِ مَا صَغَّرْتَ مِنْ
…
مُؤَنَّثٍ عَارٍ ثُلَاثِيٍّ كَـ "سنّ"
وقيل: هو تصغير ذهبة، على نيّة القطعة من الذهب، فصغّرها على لفظها، والله تعالى أعلم.
وأخرج ابن سعد من طريق أبي حازم، عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها نحوه، ومن وجه آخر، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، وزاد فيه:"ابعثي بها إلى عليّ بن أبي طالب؛ ليتصدّق بها".
وفي "المغازي" لابن إسحاق روايةِ يونس بن بكير عنه: حدّثني صالح بن كيسان، عن الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: لم يوص رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته إلا بثلاث: لكلٍّ من الداريين، والرهاويين، والأشعريين، بجادّ
(1)
مائة وسق من خيبر، وأن لا يترك في جزيرة العرب دينان، وأن يُنَفَّذ بعث أسامة.
وأخرج مسلم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما التالي: "وأوصى بثلاث: أن تجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم
…
" الحديث.
وفي حديث ابن أبي أوفى الذي تقدّم أول الباب: "أوصى بكتاب الله".
وفي حديث أنس رضي الله عنه عند النسائيّ، وأحمد، وابن سعد، واللفظ له:"كانت عامّة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت الصلاةَ، وما ملكت أيمانكم"، وله شاهد من حديث عليّ رضي الله عنه عند أبي داود، وابن ماجه، وآخر من رواية نعيم بن يزيد، عن عليّ:"وأدّوا الزكاة بعد الصلاة"، أخرجه أحمد.
ولحديث أنس شاهدٌ آخر من حديث أم سلمة رضي الله عنها عند النسائيّ، بسند جيّد.
وأخرج سيف بن عمر في "الفتوح" من طريق ابن أبي مُليكة، عن عائشة رضي الله عنها: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حَذَّر من الفتن في مرض موته، ولزوم الجماعة
(2)
والطاعة.
وأخرج الواقديّ من مرسل العلاء بن عبد الرحمن: أنه صلى الله عليه وسلم أوصى فاطمة، فقال:"قولي إذا مِتُّ: إنا لله، وإنا إليه راجعون".
(1)
"الجادّ" بالجيم، وتشديد الدال: بمعنى المجدود؛ أي: نخل يُجدّ منه ما يبلُغ مائة وسق، قاله في "النهاية" 1/ 244.
(2)
هكذا نسخة "الفتح"، والعبارة ركيكة، ولعل الصواب:"وأمر بلزوم الجماعة"، أو نحو ذلك، فليُحرّر.
وأخرج الطبرانيّ في "الأوسط" من حديث عبد الرحمن بن عوف: قالوا: يا رسول الله أوصنا -يعني: في مرض موته- فقال: "أوصيكم بالسابقين الأولين من المهاجرين، وأبنائهم من بعدهم"، وقال: لا يُروَى عن عبد الرحمن إلا بهذا الإسناد، تفرد به عَتيق بن يعقوب. انتهى. قال الحافظ: وفيه من لا يعرف حاله.
وفي سنن ابن ماجه من حديث عليّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أنا مِتُّ فغسّلوني بسبع قُرَب من بئر غَرْس"
(1)
، وكانت بقباء، وكان يشرب منها.
وفي "مسند البزار"، و"مستدرك الحاكم" بسند ضعيف أنه صلى الله عليه وسلم أوصى أن يصلّوا عليه أَرْسالًا بغير إمام. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4224]
(1637) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ -وَاللَّفْظُ لِسَعِيدٍ- قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَوْمُ الْخَمِيسِ، وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ؟ ثُمَّ بَكَى، حَتَّى بَلَّ دَمْعُهُ الْحَصَى، فَقُلْتُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ؟ قَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ، فَقَالَ: "ائْتُونِي، أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدِي"، فَتَنَازَعُوا، وَمَا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ، وَقَالُوا: مَا شَأْنُهُ؟ أَهَجَرَ؟ اسْتَفْهِمُوهُ، قَالَ: "دَعُونِي فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ، أُوصِيكُمْ بِثَلَاثٍ: أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ"، قَالَ: وَسَكَتَ عَنِ الثَّالِثَةِ، أَوْ قَالَهَا، فَأُنْسِيتُهَا).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورِ) بن شعبة أبو عثمان الْخُرَاسانيّ، نزيل مكّة، ثقةٌ مصنّف [10](ت 227) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 338.
2 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب.
(1)
في "القاموس": غَرْس بفتح، فسكون.
3 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير البغداديّ، نزيل الرَّقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.
4 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
5 -
(سُلَيْمَانُ الأَحْوَلُ) هو: سليمان بن أبي مسلم المكيّ، خال ابن أبي نَجِيح، قيل: اسم أبيه عبد الله، ثقة
(1)
[5] تقدم في "الإيمان" 65/ 368.
6 -
(سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرِ) الأسديّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 95)(ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 329.
7 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله الحبر البحر رضي الله عنهما، تقدّم قبل ثلاثة أبواب. و"ابن أبي شيبة" ذُكر قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: سليمان، عن سعيد، وفيه ابن عبّاس رضي الله عنهما حبر الأمة، وبحرها، وأحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والمشهورين بالفتيا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ) أنه (قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (يَوْمُ الْخَمِيسِ) خبر لمحذوف؛ أي: هذا يوم الخميس، أو مبتدأ حُذف خبره؛ أي: يوم الخميس هذا، وقوله:(وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ؟) هذا يُستعمل عند إرادة تفخيم الأمر في الشدّة، والتعجّب منه، قاله في "الفتح"
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "يوم الخميس، وما يوم الخميس؟ " تعظيم، وتفخيم لذلك اليوم على جهة التفَجُّع على ما فاتهم في ذلك من كَتْب كتاب لا يكون معه ضلالٌ، وهو حقيقٌ بأكثر من ذلك التفجُّع، وهذا نحو قوله تعالى:{الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2)} [الحاقة: 1 - 2]، و {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2)} [القارعة: 1 - 2]. انتهى
(3)
.
(1)
قال الإمام أحمد رحمه الله: ثقة ثقةٌ - مكرّرًا، قاله في "ت".
(2)
"الفتح" 9/ 590، كتاب "المغازي" رقم (4431).
(3)
"المفهم" 4/ 558.
(ثُمَّ بَكَى) ابن عبّاس رضي الله عنهما (حَتَّى بَلَّ دَمْعُهُ الْحَصَى) وفي رواية طلحة بن مصرف التالية: "ثم جَعَل تسيل دموعه حتى رأيتها على خديه كأنها نظام اللؤلؤ"، وللبخاريّ في أواخر "الجهاد":"ثم بكى حتى خَضَبَ دمعه الحصى".
قال في "الفتح": وبكاء ابن عباس رضي الله عنهما هذا يَحْتَمِل لكونه تذكّر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتجدّد له الحزن عليه، وَيحْتَمِل أن يكون انضاف إلى ذلك ما فات في مُعْتَقَده من الخير الذي كان يحصل لو كُتب ذلك الكتاب، ولهذا أطلق في الرواية الثالثة: أن ذلك رَزِيّة، ثم بالغ فيها، فقال: كُلّ الرزيّة. انتهى
(1)
.
قال سعيد بن جبير (فَقُلْتُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ؟)؛ أي: أيّ شيء حصل فيه، حتى فخّمت شأنه؟ (قَالَ) ابن عبّاس رضي الله عنهما (اشْتَدُّ بِرَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم) ببناء الفعل للفاعل، وقوله:(وَجَعُهُ) مرفوع على الفاعليّة، زاد عند البخاريّ في "الجهاد":"يومَ الخميس"، وهذا يؤيّد أن ابتداء مرضه صلى الله عليه وسلم كان قبل ذلك، ووقع في الرواية الثالثة:"لَمّا حُضِر رسول الله صلى الله عليه وسلم"- بضم الحاء المهملة، وكسر الضاد المعجمة-؛ أي: حضره الموت، وفي إطلاق ذلك تجوّز، فإنه عاش بعد ذلك إلى يوم الاثنين، قاله في "الفتح"
(2)
.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("ائْتُوني، أكتُبْ لَكُمْ كتَابًا) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا الأمر الذي همَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابته يَحْتَمِل أن يكون تفصيل أمور مهمَّةٍ، وقعت في الشريعة مجملةً، فأراد تعيينها، وَيَحْتَمِل أن يريد به بيان ما يرجعون إليه عند وقوع الفتن، ومَن أَوْلى بالاتباع والمبايعة، وَيحْتَمِل أن يريد به بيان أمر الخلافة، وتعيين الخليفة بعده، وهذا أقربها، والله أعلم. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي مال إليه القرطبيّ رحمه الله من كون الذي أراد صلى الله عليه وسلم كتابته هو تعيينَ الخليفة بعده هو الأرجح؛ لأنه يؤيّد ذلك ما يأتي لمسلم في "الفضائل"، عن عائشة رضي الله عنهما، قالت: قال لي رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم في
(1)
"الفتح" 9/ 590 - 591.
(2)
" الفتح" 9/ 590 - 591، كتاب "المغازي" رقم (4431).
(3)
"المفهم" 4/ 558.
مَرَضِهِ: "ادْعِي لي أَبَا بَكْرٍ وَأَخَاكِ، حتى أكتب كِتَابًا، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنِّ، وَيَقُولَ قَائِلٌ: أنا أَوْلَى، وَيَأبَى الله، وَالْمُومِنُونَ إلا أَبَا بَكْرٍ".
وفي رواية للبزّار: "معاذ الله أن يختلف الناس على أبي بكر".
(لَا تَضِلُّوا بَعْدِي")، وفي رواية طلحة بن مصرّف التالية:"لن تضلّوا بعده أبدًا"، وفي رواية عبيد الله الثالثة:"هَلُمّ أكتب لكم كتابًا لا تضلُّوا بعده"، وللبخاريّ:"هلمّوا أكتب لكم كتابًا، لا تضلّوا بعده".
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "ائتوني أكتب لكم كتابًا لا تضلون بعده" لا شكّ في أن "ائتوني" أمرٌ وطلبٌ توجَّه لكل من حضر، فكان حقّ كل من حضر المبادرةُ للامتثال، ولا سيما وقد قرنه بقوله:"لا تضلُّون بعده"، لكن ظهر لعمر رضي الله عنه ولطائفة معه أن هذا الأمر ليس على الوجوب، وأنَّه من باب الإرشاد إلى الأصلح، مع أن ما في كتاب الله يرشد إلى كل شيء، كما قال تعالى:{تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} الآية [النحل: 89]، مع ما كان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوجع، فكره أن يتكلَّف من ذلك ما يشقّ ويثقل عليه، فظهر لهم: أن الأوَّلى ألا يكتب، وأرادت الطائفة الأخرى أن يكتب، متمسِّكةً بظاهر الأمر، واغتنامًا لزيادة الإيضاح، ورفع الإشكال، فيا ليتَ ذلك لو وقع وحصلَ! ولكن قدَّر الله، وما شاءَ فعل، ومع ذلك: فلا عتب، ولا لوم على الطائفة الأولى؛ إذ لم يعنّفهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا ذمَّهم، بل قال للجميع:"دعوني، فالذي أنا فيه خير"، وهذا نحو مِمَّا جرى لهم حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب:"لا يصلّين أحدٌ العصر إلا في بني قريظة"، فتخوَّف ناسٌ فوت الوقت، فصَلَّوا دون بني قريظة، وقال آخرون: لا نصلِّي إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن فاتنا الوقت، قال: فما عنَّف واحدًا من الفريقين.
وسبب ذلك: أن ذلك كله إنَّما حمل عليه الاجتهاد المسوَّغ، والقصد الصالح، وكل مجتهد مصيب
(1)
، أو أحدهما مصيب، والآخر غير مأثوم، بل
(1)
هذا غير صحيح، بل الصحيح أن المصيب واحد، ولكن غيره لا يأثم، بل يؤجر على اجتهاده، وقد أوضحت هذا أتم إيضاح في "التحفة المرضيّة"، و"شرحها"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
مأجور، كما قررناه في الأصول. انتهى كلام القرطبيّ
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الصواب أن ما قاله عمر رضي الله عنه ومن تبعه من عدم الكتابة هو الحقّ؛ لتقرير النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك، وعدم نزول الوحي بنقضه، فإن هذا القول صدر منه صلى الله عليه وسلم يوم الخميس، وتُوفّي يوم الاثنين، فلو كان في الكتابة خير لَمَا سكت عنه، فالذي نعتقده أن الله عز وجل أمره صلى الله عليه وسلم أن يكتب لهم كتابًا يعتمدون عليه بعد موته، إن رأوا ذلك، وإلا فكتاب الله تعالى فيه الكفاية التامّة، فلمّا عرض عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك اختلفوا فيه، فعلم بذلك أنه لا حاجة إليه، فتركه، وهذا نظير قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: "ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابًا
…
" الحديث، ثم ترك ذلك، وقال: "يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر"، وفي رواية: "معاذ الله أن يختلف الناس على أبي بكر"، كما تقدّم، فتبيّن بهذا أن عدم الكتابة فيه الخير.
وهذا نظير ما ثبت في "الصحيحين" أنه صلى الله عليه وسلم أُري ليلة القدر، فأراد أن يخبر الناس بها، فخرج لذلك، فتنازع رجلان، فرُفِعت، فقال صلى الله عليه وسلم: "إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، وإنه تلاحى فلان وفلان، فرُفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم
…
" الحديث، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(فَتَنَازَعُوا)؛ أي: اختلف الصحابة الحاضرون لديه صلى الله عليه وسلم في ذلك، ففي رواية عبيد الله الثالثة:"فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت، فاختصموا، فمنهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا لن تضلّوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر".
وقوله: (وَمَا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ) قال في "الفتح": هو من جملة الحديث المرفوع، وَيحْتَمل أن يكون مدرجًا من قول ابن عبّاس رضي الله عنهما، والصواب الأول، فقد وقع عند البخاريّ في "العلم" بلفظ:"ولا ينبغي عندي التنازع".
والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم لَمّا رأى تنازعهم في ذلك قال لهم: "وما ينبغي عندي
(1)
"المفهم" 4/ 558 - 559.
تنازع"، وفي رواية عبيد الله: "فلَمّا أكثروا اللغو، والاختلاف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا". (وَقَالُوا: مَا شَأنهُ؟ أَهَجَرَ؟ استفْهِمُوهُ)؛ أي: اطلبوا منه فَهْم ما قاله في شأن الكتاب، قال في "الفتح": قوله: "فقالوا: ما شأنه؟ أَهَجَر؟، بهمزة لجميع رواة البخاريّ، وفي الرواية التي في الجهاد بلفظ:"فقالوا: هجر" بغير همزة، ووقع للكشميهنيّ هناك:"فقالوا: هَجَرَ هَجَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم" أعاد "هجر" مرتين.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "أهجرَ؟ استفهموه" كذا الرّواية الصحيحة في هذا الحرف "أهَجَرَ؟ " بهمزة الاستفهام، "وهَجَرَ" بالفتح بغير تنوين، على أنَّه فعل ماض، وقد رواه بعضهم:"اْهُجُرًا" بفتح الهمزة، وبضم الهاء، وتنوين الراء، على أن يجعله مفعولًا بفعل مضمر؛ أي: أقال هُجْرًا، وقد رُوي في غير مسلم:"هَجَرَ" بلا استفهام، والهَجْر: يراد به هذيان المريض، وهو الكلام الذي لا ينتظم، ولا يُعتدّ به؛ لعدم فائدته، ووقوع مثل هذا من النبيّ صلى الله عليه وسلم في حال مرضه، أو صحته محال؛ لأن الله تعالى حَفِظَه من حين بعثه إلى حين قبضه عمَّا يُخِلّ بالتبليغ، ألا تسمع قوله تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3، 4]، وقوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]، وقد شَهِد له بأنه على صراط مستقيم، وأنه على الحقّ المبين، إلى غير ذلك. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"خذوا عني في الغضب والرضا، فإني لا أقول على الله إلا حقًّا"
(1)
، ولما علم أصحابه هذا كانوا يأخذون عنه ما يقوله في كل حالاته، حتَّى في هذه الحالة، فإنهم تلقَّوا عنه، وقبلوا منه جميع ما وصَّى به عند موته، وعملوا على قوله:"لا نورث"، ولقوله:"أخرجوا المشركين من جزيرة العرب"، و"أجزوا الوفد بنحو ما كنت
(1)
حديث صحيح، رواه الإمام أحمد في "مسنده" 2/ 162 عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر، يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حقّ". انتهى.
أجيزهم"، إلى غير ذلك، ولم يتوقفوا، ولا شكُّوا في شيء منه.
وعلى هذا: يستحيل أن يكون قولهم: أَهَجَرَ، لشكٍّ عَرَضَ لهم في صحة قوله زمن مرضه، وإنَّما كان ذلك من بعضهم على جهة الإنكار على من توقف في إحضار الكتف والدواة، وتلكَّأ عنه، فكأنه يقول لمن توقف: كيف تتوقف، أتظن: أنه قال هذيانًا؟ فدع التوقف وقرِّب الكتفَ، فإنه إنما يقول الحق، لا الْهَجْرَ، وهذا أحسنُ ما يُحْمَل ذلك عليه، فلو قدَّرنا: أن أحدًا منهم قال ذلك عن شكّ عرض له في صحَّة قوله؛ كان خطأ منه، وبعيدٌ أن يقرَّه على ذلك القول من كان هناك ممن سمعه من خيار الصحابة وكبرائهم، وفضلائهم، هذا تقديرٌ بعيد، ورأيٌّ غير سديد.
ويحتمل: أن يكون هذا صدَرَ عن قائله عن دهشٍ وحيرةٍ أصابه في ذلك المقام العظيم، والمصاب الجسيم، كما قد أصاب عمر وغيره عند موته. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": قال القاضي عياض: معنى أهجر: أفحش، يقال: هجر الرجل: إذا هَذِيَ، وأهجر: إذا أفحش.
وتُعُقّب بأنه يستلزم أن يكون بسكون الهاء، والروايات كلها إنما هي بفتحها، وقد تكلم عياض وغيره على هذا الموضع، فأطالوا، ولخصه القرطبيّ تلخيصًا حسنًا، ثم لخصته من كلامه.
وحاصله أن قوله: "هَجَرَ" الراجح فيه إثبات همزة الاستفهام، وبفتحات، على أنه فعل ماض، قال: ولبعضهم: "أَهُجْرًا" بضم الهاء، وسكون الجيم، والتنوين، على أنه مفعول بفعل مضمر؛ أي: قال هُجْرًا، والهجر بالضم، ثم السكون: الهذيان، والمراد به هنا ما يقع من كلام المريض الذي لا ينتظم، ولا يُعْتَدّ به؛ لعدم فائدته، ووقوعُ ذلك من النبيّ صلى الله عليه وسلم مستحيل؛ لأنه معصوم في صحته ومرضه؛ لقوله تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} ، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"إني لا أقول في الغضب والرضا إلا حقًّا".
وإذا عُرِف ذلك فإنما قاله من قاله مُنكِرًا على من توقف في امتثال أمره
(1)
"المفهم" 4/ 559 - 560.
بإحضار الكتف والدواة، فكأنه قال: كيف تتوقف؟ أتظن أنه كغيره يقول الهذيان في مرضه؟ امتَثِلْ أمره، وأحضره ما طَلَب، فإنه لا يقول إلا الحقّ، قال: هذا أحسن الأجوبة.
قال: ويَحْتَمِل أن بعضهم قال ذلك عن شكّ عرض له، ولكن يبعده أن لا ينكره الباقون عليه، مع كونهم من كبار الصحابة، ولو أنكروه عليه لنُقِل.
ويَحْتَمِل أن يكون الذي قال ذلك صدر عن دهش وحيرة، كما أصاب كثيرًا منهم عند موته صلى الله عليه وسلم.
وقال غيره: ويَحْتَمِل أن يكون قائل ذلك أراد أنه اشتد وجعه، فأطلق اللازم، وأراد الملزوم؛ لأن الهذيان الذي يقع للمريض ينشأ عن شدة وجعه، وقيل: قال ذلك؛ لإرادة سكوت الذين لَغَطُوا، ورفعوا أصواتهم عنده، فكأنه قال: إن ذلك يؤذيه، ويفضي في العادة إلى ما ذُكر.
ويَحْتَمِل أن يكون قوله: "أهَجَرَ" فعلًا ماضيًا، من الهجر -بفتح الهاء، وسكون الجيم- والمفعول محذوف؛ أي: الحياة، وذكره بلفظ الماضي مبالغةً لَمّا رأى من علامات الموت.
قال الحافظ: ويظهر لي ترجيح ثالث الاحتمالات التي ذكرها القرطبيّ، ويكون قائل ذلك بعض من قرُب دخوله في الإسلام، وكان يعهد أن من اشتدّ عليه الوجع قد يشتغل به عن تحرير ما يريد أن يقوله، لجواز وقوع ذلك، ولهذا وقع في الرواية الثانية:"فقال بعضهم: إنه قد غلبه الوجع".
ووقع عند الإسماعيليّ من طريق محمد بن خلاد، عن سفيان في هذا الحديث:"فقالوا: ما شأنه يهجر؟ استفهموه".
وعند ابن سعد من طريق أخرى، عن سعيد بن جبير:"إن نبيّ الله ليهجر"، ويؤيده أنه بعد أن قال ذلك:"استفهموه" بصيغة الأمر بالاستفهام؛ أي: اختبروا أمْره بأن يستفهموه عن هذا الذي أراده، وابحثوا معه في كونه الأولى أو لا.
وفي قوله في الرواية الثانية: "فاختصموا، فمنهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم" ما يُشعر بأن بعضهم كان مُصَمِّمًا على الامتثال، والردّ على من امتنع منهم، ولمّا وقع منهم الاختلاف ارتفعت البركة، كما جرت العادة بذلك عند وقوع التنازع والتشاجر.
وقد مضى في "الصيام" أنه صلى الله عليه وسلم خرج يخبرهم بليلة القدر، فرأى رجلين يختصمان، فرُفعت.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "فرُفعت البركة" فيه نظر لا يخفى، بل هذا مما لا يليق بمنصب الحافظ، فإنه لا شكّ أن البركة فيما اختاره الله لهذه الأمة، من عدم الكتابة، ويدلّ على ذلك ما ذكره نظيرًا له، وهو ارتفاع علم ليلة القدر، فإنه ليس فيه رفع للبركة قطعًا، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"وعسى أن يكون خيرًا لكم"، فهل بعد رفع البركة من خير يرجى، فتبصّر بالإنصاف.
والحاصل أن الخير كلّ الخير فيما اختاره الله تعالى لهذه الأمة من بقاء دينها، وبقاء تمسّكها بكتاب ربها، وهذا هو الحاصل من الصدر منها، فإن الصحابة رضي الله عنهم اجتمعوا على من قال في حقه النبيّ صلى الله عليه وسلم:"يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر"، وفي رواية:"معاذ الله أن يختلف الناس على أبي بكر"، ولله تعالى الحمد والمنة، ومنه التوفيق والعصمة.
وقال المازريّ: إنما جاز للصحابة الاختلاف في هذا الكتاب مع صريح أمره لهم بذلك لأن الأوامر قد يقارنها ما ينقلها من الوجوب، فكأنه ظهرت منه قرينة دلّت على أن الأمر ليس على التحتم، بل على الاختيار، فاختَلَف اجتهادهم، وصَمَّم عمر على الامتناع لِمَا قام عنده من القرائن بأنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك عن غير قصد جازم، وعزمه صلى الله عليه وسلم كان إما بالوحي، وإما بالاجتهاد، وكذلك تركه إن كان بالوحي، فبالوحي، وإلا فبالاجتهاد أيضًا، وفيه حجة لمن قال بالرجوع إلى الاجتهاد في الشرعيات.
قال الجامع: اجتهاده صلى الله عليه وسلم في مثل هذا وحي؛ أي: إن الوحي أقرّه، حيث لم ينزل بنقضه، فدلّ على أن ما قاله، وسكت عنه اجتهادًا مما أقرّه الله تعالى عليه، فلا ينبغي الشكّ والتردّد في كونه هو الحقّ، فتبصّر.
وقال النوويّ: اتفق قول العلماء على أن قول عمر: "حسبنا كتاب الله" من قوة فقهه، ودقيق نظره؛ لأنه خشي أن يكتب أمورًا ربما عَجَزُوا عنها، فاستحقّوا العقوبة؛ لكونها منصوصة، وأراد أن لا ينسدّ باب الاجتهاد على العلماء، وفي تركه صلى الله عليه وسلم الإنكار على عمر إشارة إلى تصويبه رأيه، وأشار بقوله:"حسبنا كتاب الله" إلى قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38].
ويَحْتَمِل أن يكون قصد التخفيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمّا رأى ما هو فيه من شدة الكرب، وقامت عنده قرينة بأن الذي أراد كتابته ليس مما لا يستغنون عنه؛ إذ لو كان من هذا القبيل لم يتركه صلى الله عليه وسلم لأجل اختلافهم.
قال: ولا يعارض ذلك قول ابن عباس: "إن الرزية
…
إلخ"؛ لأن عمر كان أفقه منه قطعًا.
قال الجامع عفا الله عنه: قد أجاد النوويّ رحمه الله في تحقيقه الجواب الشافي الكافي في هذه المسألة، فقد أشار إلى أن فقه عمر رضي الله عنه أحقّ بالصواب، فإن كتاب الله فيه الكفاية التامة، وأيضًا فقد رأى رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم لو نصّ على شخص معيّن، فاختلف فيه الناس بعد التنصيص، فإنه يكون سببًا لنزول العقوبة عليهم، كما جرت بذلك سُنَّة الله في الأمم السالفة، بخلاف ما إذا كان أمرًا اجتهاديًّا، فإن الخلاف فيه هيّن يُعذر المخطئ، بل يؤجر عليه.
وأيضًا فإن في ترك الكتابة مصالحَ فتح باب الاجتهاد للعلماء، فيحصل لهم الأجر والمثوبة في ذلك.
وأيضًا راعى رضي الله عنه حالة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنه في حال شدّة المرض، فلا ينبغي زيادة العناء عليه بشيء غير ضروريّ؛ إذ لو كانت الكتابة ضروريّة لَمَا تركها صلى الله عليه وسلم من يوم الخميس إلى يوم الاثنين، فتأمل أيها اللبيب هذا كلّه حقّ التأمل يظهر لك وجه الصواب، وبالله تعالى التوفيق.
وقال الخطابيّ: لم يتوهم عمر الغلط فيما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يريد كتابته، بل امتناعه محمول على أنه لَمّا رأى ما هو فيه من الكرب، وحضور الموت، خَشِي أن يجد المنافقون سبيلًا إلى الطعن فيما يكتبه، وإلى حمله على تلك الحالة التي جرت العادة فيها بوقوع بعض ما يخالف الاتفاق، فكان ذلك سبب توقف عمر، لا أنه تعمد مخالفة قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا جواز وقوع الغلط عليه، حاشا وكلّا. انتهى.
قال الجامع: ينبغي أن يزاد في قول الخطابيّ أن عمر مع رؤيته ما ذُكر رأى أن الكتابة ليست ضروريّة؛ لأن في كتاب الله ما يغنينا عنها، بل هي كانت مجرّد إيضاح وبيان، فلا ينبغي زيادة المشقّة عليه، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب.
زاد في رواية البخاريّ: قوله: "وقد ذهبوا يردّون عليه"، قال في "الفتح": يَحْتَمِل أن يكون المراد: يردّون عليه؛ أي: يعيدون عليه مقالته، ويستثبتونه فيها، ويَحْتَمِل أن يكون المراد: يردّون عنه القول المذكور على من قاله. انتهى.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("دَعُوني فَالَّذِي أنا فِيهِ خَيْرٌ) قال النوويّ رحمه الله: معناه: دَعُوني من النزاع واللغط الذي شرعتم فيه، فالذي أنا فيه من مراقبة الله تعالى، والتأهب للقائه، والفكر في ذلك ونحوه، أفضل مما أنتم فيه. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قال ابن الجوزيّ وغيره: يَحْتَمِل أن يكون المعنى: دعوني فالذي أعاينه من كرامة الله التي أعدّها لي بعد فراق الدنيا خير مما أنا فيه في الحياة، أو أن الذي أنا فيه من المراقبة، والتأهب للقاء الله، والتفكر في ذلك ونحوه، أفضل من الذي تسألونني فيه من المباحثة عن المصلحة في الكتابة، أو عدمها.
ويَحْتَمِل أن يكون المعنى: فإن امتناعي من أن أكتب لكم خير مما تدعونني إليه من الكتابة.
قال الحافظ: وَيَحْتَمِل عكسه؛ أي: الذي أشرت عليكم به من الكتابة خير مما تدعونني إليه من عدمها، بل هذا هو الظاهر، وعلى الذي قبله كان ذلك الأمر اختبارًا وامتحانًا، فهدى الله عمر لمراده، وخفي ذلك على غيره.
قال الجامع: استظاهر الحافظ العكس، وهو كون الكتابة خيرًا فيه نظر لا يخفى؛ لأنه يؤدّي أنه صلى الله عليه وسلم مات وترك أمته على غير ما هو خير لهم؛ لأجل تنازعهم، وهذا من أخطر ما يُعتقد في الدين، بل العكس، هو الخير كلّ الخير، وهو الصواب الذي لا نعتقد سواه، وأن عمر ومن معه قد وُفّقوا لما هو الخير، ولهذا عدّ بعضهم هذا من موافقات عمر رضي الله عنه، وما أحقّه بذلك!.
قال: وأما قول ابن بطال: عمر أفقه من ابن عباس، حيث اكتفى بالقرآن، ولم يكتف ابن عباس به.
فتعقب بأن إطلاق ذلك مع ما تقدم ليس بجيد، فإن قول عمر: "حسبنا
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 93.
كتاب الله" لم يُرد أنه يُكْتَفَى به عن بيان السُّنَّة، بل لِمَا قام عنده من القرينة، وخَشِي من الذي يترتب على كتابة الكتاب مما تقدمت الإشارة إليه، فرأى أن الاعتماد على القرآن لا يترتب عليه شيء مما خشيه، وأما ابن عباس، فلا يقال في حقه: لم يكتف بالقرآن، مع كونه حبر القرآن، وأعلم الناس بتفسيره وتأويله، ولكنه أسف على ما فاته من البيان بالتنصيص عليه؛ لكونه أولى من الاستنباط، والله أعلم. انتهى
(1)
.
(أُوصِيكُمْ بِثَلَاثٍ)؛ أي: في تلك الحالة، وهذا يدلّ على أن الذي أراد أن يكتبه لم يكن أمرًا، متحتمًا؛ لأنه لو كان مما أُمر بتبليغه لم يكن يتركه لوقوع اختلافهم، ولعاقب الله مَن حال بينه وبين تبليغه، ولبلّغه لهم لفظًا كما أوصاهم بإخراج المشركين، وغير ذلك، وقد عاش بعد هذه المقالة أيامًا، وحفظوا عنه أشياء لفظًا، فيَحْتَمِل أن يكون مجموعها ما أراد أن يكتبه، والله أعلم، قاله في "الفتح".
قال الجامع: "وهذا يدلّ
…
إلخ" هذا مما أجاد فيه الحافظ من تحقيقاته المفيدة، خلاف ما مضى له، مما يُنتقد، ويُتعقّب فيه، فقد أوضح هنا أن ما أراده صلى الله عليه وسلم من الكتابة لهم ليس من الأمور المتحتّمة، وإلا لَمَا تركه، وقد عاش بعده نحو أربعة أيام، وحفظ الصحابة خلالها منه سُننًا، فلو كان حتمًا لَمَا أهمله، وهذا هو الذي قرّرناه سابقًا، وهو الحقّ الذي لا نتردّد فيه.
وأما ما ذكره من احتمال أن يكون مجموع هذه الأمور هو الذي أراد أن يكتبه، فمحلّ نظر، والله تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أوصيكم بثلاث" نصٌّ في أنه صلى الله عليه وسلم أوصى عند موته، وهو مخصِّصٌ لقول مَنْ قال: إنه صلى الله عليه وسلم لم يوص بشيء، وقد تقدَّم ذلك. انتهى
(2)
.
(أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ) قال القرطبيّ رحمه الله: يعني بالمشركين: اليهود؛ لأنه ما كان بقي مشرك في أرض العرب في ذلك الوقت
(1)
"الفتح" 9/ 593 - 594، كتاب "المغازي" رقم (4431).
(2)
"المفهم" 4/ 561.
غيرهم، فتعيَّنوا، وقد جاء في بعض طرقه:"أخرجوا اليهود من جزيرة العرب" مفسّرًا.
و"الجزيرة": فَعِيلة بمعنى مفعولة، وهي مأخوذة من الْجَزْر، وهو: القطع، ومنه: الْجَزّار، والْجِزَارة من الغنم، والجزور من الإبل؛ وكل ذلك راجع إلى القطع، وسُميَّت أرض العرب بالجزيرة؛ لانقطاعها بإحاطة البحار بها والحِرار، وأضيفت إلى العرب؛ لاختصاصهم بها، ولكونهم فيها ومنها.
واختُلِف في حدِّها، فقال الأصمعيّ: هي ما بين أقصى عدن أبين إلى رِيف العراق في الطول، وفي العرض: من جُدَّة وما والاها إلى أطراف الشام، وقال أبو عبيد: هي ما بين حفر أبي موسى الأشعريّ إلى أقصى اليمن، وما بين رمل يَبْرِين إلى منقطع السَّماوة، وقال المخزوميّ عن مالك: هي مكة، والمدينة، واليمامة، واليمن، وحَكَى الهرويّ عنه: المدينة، والأول: المعروف عنه، فقال مالك: يُخرَج من هذه المواضع التي ذكر المخزوميّ كل من كان على غير دين الإسلام، ولا يُمنعون من التردُّد بها مسافرين، وكذلك قال الشافعيّ، غير أنه استثنى من ذلك اليمن، ويُضْرَب لهم أجل ثلاثة أيَّام، كما ضربه لهم عمر حين أجلاهم.
وقال الشافعيّ: ولا يدفنون فيها موتاهم، ويُلجؤون إلى الدَّفن بغيرها.
وقد رأى الطبريّ: أن هذا الحكم ليس خاصًّا بجزيرة العرب؛ فقال: الواجب على كل إمام إخراجهم من كل مصر غلب عليه المسلمون إذا لم يكن من بلادهم التي صولحوا عليها، إلا أن تدعو ضرورة لبقائهم بها لعمارتها، فإذا كان ذلك؛ فلا يَدَعهم في مصر مع المسلمين أكثر من ثلاث، وليسكنهم خارجًا عنهم، ويمنعهم اتخاذ المساكن في أمصار المسلمين، فإن اتخذوها باعها عليهم، واستدَلّ على ذلك بما رواه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من قوله:"لا تبقى قبلتان بأرض"
(1)
، وبقول "ابن عبَّاس: لا يساكنكم أهل الكتاب في أمصاركم،
(1)
رواه أبو داود في "سننه"(3032)، والترمذيّ في "جامعه" (633) بلفظ:"لا تكون قبلتان في بلد واحد"، فيه قابوس بن أبي ظبيان، قال فيه في "التقريب": فيه لين، وضعّف الحديث الشيخ الألبانيّ، وهو محلّ نظر؛ لأن قابوس وإن ضعّفه بعضهم، =
وبإخراج أهل الذِّمَّة من الكوفة إلى الحيرة، قال: وإنما خصَّ في الحديث جزيرة العرب؛ لأنه لم يكن يومئذ للإسلام ظهور إلا بها.
قال القرطبيّ: وتخصيص الحكم بجزيرة العرب هو قولُ المتقدمين، والسلف الماضين، فلا يُعْدَلُ عنه، ولم يُعَرِّج أبو حنيفة على هذا الحديث، فأجاز استيطان المشركين بالجزيرة، ومخالفة مثل هذا جريرة. انتهى قول القرطبيّ رحمه الله، وأجاد في قوله:"ومخالفة مثل هذا جريرة"، فإن مخالفة الحديث الصحيح، جريرة أي جريرة، لكن يُعتذر عن الإمام أبي حنيفة: بأنه لم يصل إليه هذا الحديث، والله تعالى أعلم.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب": قال أبو عبيد: قال الأصمعيّ: جزيرة العرب ما بين أقصى عدن اليمن إلى رِيف العراق في الطول، وأما في العرض فمن جُدّة، وما والاها إلى أطراف الشام، وقال أبو عبيدة: هي ما بين حَفَر أبي موسى إلى أقصى اليمن في الطول، وأما في العرض فما بين رَمْل يَبْرين إلى مُنقَطع السماوة.
وقوله: "حَفَر" أبي موسى هو بفتح الحاء المهملة، وفتح الفاء أيضًا، قالوا: وسميت جزيرةً؛ لإحاطة البحار بها من نواحيها، وانقطاعها عن المياه العظيمة، وأصل الْجَزْر في اللغة القطع، وأضيفت إلى العرب؛ لأنها الأرض التي كانت بأيديهم قبل الإسلام، وديارهم التي هي أوطانهم، وأوطان أسلافهم.
وحَكَى الهرويّ عن مالك أن جزيرة العرب هي المدينة، والصحيح المعروف عن مالك أنها مكة، والمدينة، واليمامة، واليمن.
وأخذ بهذا الحديث مالك، والشافعيّ وغيرهما من العلماء، فأوجبوا إخراج الكفار من جزيرة العرب، وقالوا: لا يجوز تمكينهم من سكناها، ولكن الشافعيّ خَصَّ هذا الحكم ببعض جزيرة العرب، وهو الحجاز، وهو عنده مكة والمدينة واليمامة، وأعمالها دون اليمن وغيره مما هو من جزيرة العرب، بدليل آخر مشهور في كتبه وكتب أصحابه.
= فقد وثقه آخرون، راجع ترجمته في:"تهذيب التهذيب".
قال العلماء: ولا يمنع الكفار من التردد مسافرين في الحجاز، ولا يمكّنون من الإقامة فيه أكثر من ثلاثة أيام، قال الشافعيّ وموافقوه: إلا مكة وحرمها، فلا يجوز تمكين كافر من دخوله بحال، فإن دخله في خفية وجب إخراجه، فإن مات ودُفن فيه نُبِش وأخرج، ما لم يتغير، هذا مذهب الشافعيّ، وجماهير الفقهاء.
وجوّز أبو حنيفة دخولهم الحرم، وحجة الجماهير قول الله تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]، والله أعلم. انتهى
(1)
.
(وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ)؛ أي: أعطوهم، والجائزة: العطية: وقيل: أصله أن ناسًا وَفَدوا على بعض الملوك، وهو قائم على قنطرة، فقال: أجيزوهم، فصاروا يُعطون الرجل، ويطلقونه، فيجوز على القنطرة متوجهًا، فسُمِّيت عطيةُ مَن يَقْدَم على الكبير جائزةً، وتُستعمل أيضًا في إعطاء الشاعر على مدحه، ونحو ذلك.
وقوله: (بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ")؛ أي: بقريب منه، وكانت جائزة الواحد على عهده صلى الله عليه وسلم وقيّةً من فضة، وهي أربعون درهمًا، قاله في "الفتح"
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وأجيزوا الوفد": الوفد: جمع وافد؛ كصحب، وصاحب، وركب، وراكب، وجمع الوفد: أوفاد، ووفود، والوفادة: الاسم، وهو: القادم على القوم، والرسول إليهم، يقال: أو فدته: أرسلته، والإجازة: العطية، وهذا منه صلى الله عليه وسلم عهدٌ ووصيةٌ لولاة المسلمين بإكرام الوفود، والإحسان إليهم، قضاءً لحقّ قصدهم، ورفقًا بهم، واستئلافًا لهم.
قال القاضي أبو الفضل: وسواء في ذلك عند أهل العلم؛ كانوا مسلمين أو كفارًا؛ لأن الكافر إنَّما يَفِدُ في مصالح المسلمين، قال: وهذه سُنَّة لازمة للأمة بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى
(3)
.
(قَالَ) سليمان الأحول (وَسَكَتَ)؛ يعني: سعيد بن جبير (عَنِ الثَّالِثَةِ)؛
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 93 - 94.
(2)
"الفتح" 9/ 594 - 595.
(3)
"المفهم" 4/ 562.
أي: عن ذكر الخصلة الثالثة (أَوْ قَالَهَا)؛ أي: ذكرها سعيد (فَأُنسِيتُهَا) بضم أوله من الإنساء رباعيًّا؛ أي: أنسانيها الشيطان، ولفظ البخاريّ: "فنسيتها، من النسيان ثلاثيًّا.
قال النوويّ: الساكت ابن عبّاس، والناسي سعيد. انتهى، وفيه نظر؛ لِمَا يأتي.
وقال الحافظ رحمه الله: قوله: "وسكت عن الثالثة، أو قال، فنسيتها" يَحْتَمِل أن يكون القائل ذلك هو سعيد بن جبير، ثم وجدت عند الإسماعيليّ التصريح بأن قائل ذلك هو ابن عيينة، وفي "مسند الحميديّ"، ومن طريقه أبو نعيم في "المستخرج" قال سفيان: قال سليمان -أي: ابن أبي مسلم-: لا أدري أذكر سعيد بن جبير الثالثة، فنسيتها، أو سكت عنها؟ وهذا هو الأرجح.
قال الداوديّ: الثالثة: الوصية بالقرآن، وبه جزم ابن التين، وقال المهلَّب: بل هو تجهيز جيش أسامة، وقوّاه ابن بطال بأن الصحابة رضي الله عنهم لَمّا اختلفوا على أبي بكر رضي الله عنه في تنفيذ جيش أسامة، قال لهم أبو بكر: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم عَهِدَ بذلك عند موته.
وقال القاضي عياض: يَحْتَمِل أن تكون هي قوله: "ولا تتخذوا قبري وثنًا"، فإنها ثبتت في "الموطأ" مقرونة بالأمر بإخراج اليهود، وَيحْتَمِل أن يكون ما وقع في حديث أنس: أنها قوله: "الصلاة، وما ملكت أيمانكم"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسأئل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 4224 و 4225 و 4226، (1637)، و (البخاريّ) في "العلم"(114) و"الجهاد"(3053) و"المغازي"(4431 و 4432) و"المرضى"(5669) و"الاعتصام"(7366)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(5/ 438 و 6/ 57 و 10/ 361)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 241)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 222 و 324 و 336 و 355)، و (النسائيّ) في "الكبرى"
(3/ 433 و 434 و 360)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4/ 298)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 476 و 477 و 478)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(14/ 562 - 563)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(5/ 288) و"الكبير"(11/ 36 و 445)، و (الحاكم) في "مستدركه"(3/ 542)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 207)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ما أوصى في مرضه بالخلافة إلى أحد، بل همّ بذلك، ثم تركه؛ لِعِلْمه أنه مما لا تشتدّ إليه الحاجة؛ لأن الله تعالى تولّى حفظ هذا الدين، وأكمله، فلا يُخشى عليه، فكان كذلك فقد ألهم الله تعالى الصحابة على أن يتّفقوا على إمامة أبي بكر رضي الله عنه.
2 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: (اعلم): أن النبيّ صلى الله عليه وسلم معصوم من الكذب، ومن تغيير شيء من الأحكام الشرعية في حال صحته، وحال مرضه، ومعصوم من ترك بيان ما أُمر ببيانه، وتبليغ ما أوجب الله عليه تبليغه، وليس معصومًا من الأمراض، والأسقام العارضة للأجسام ونحوها، مما لا نقص فيه لمنزلته، ولا فساد لِمَا تمهد من شريعته، وقد سُحر صلى الله عليه وسلم حتى صار يُخَيَّل إليه أنه فعل الشيء، ولم يكن فعله، ولم يصدر منه صلى الله عليه وسلم في هذا الحال كلام في الأحكام مخالف لِمَا سبق من الأحكام التي قررها.
فإذا علمت ما ذكرناه، فقد اختَلَف العلماء في الكتاب الذي هَمَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم به، فقيل: أراد أن يَنُصّ على الخلافة في إنسان معين؛ لئلا يقع نزاع وفتن، وقيل: أراد كتابًا يبين فيه مهمات الأحكام ملخصة؛ ليرتفع النزاع فيها، ويحصل الاتفاق على المنصوص عليه، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم هَمّ بالكتاب حين ظهر له أنه مصلحة، أو أوحى إليه بذلك، ثم ظهر أن المصلحة تركه، أو أوحى إليه بذلك، ونُسِخ ذلك الأمر الأول. انتهى.
3 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله أيضًا: اتَفَق العلماء المتكلمون في شرح الحديث على أن هذا الحديث من دلائل فقه عمر، وفضائله، ودقيق نظره؛ لأنه خَشِي أن يكتب صلى الله عليه وسلم أمورًا ربما عجزوا عنها، فاستحقوا العقوبة عليها؛ لأنها منصوصة، لا مجال للاجتهاد فيها، ققال عمر رضي الله عنه: حسبنا
كتاب الله؛ لقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، وقوله:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، فعَلِم أن الله تعالى أكمل دينه، فأمِن الضلال على الأمة، وأراد الترفيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان عمر رضي الله عنه أفقه من ابن عباس وموافقيه.
قال الإمام الحافظ أبو بكر البيهقيّ رحمه الله في أواخر كتابه "دلائل النبوة": إنما قَصَد عمر رضي الله عنه التخفيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غلبه الوجع، ولو كان مراده صلى الله عليه وسلم أن يكتب ما لا يستغنون عنه لم يتركه لاختلافهم، ولا لغيره؛ لقوله تعالى:{بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة: 67]، كما لم يترك تبليغ غير ذلك لمخالفة من خالفه، ومعاداة من عاداه، وكما أَمَر في تلك الحال بإخراج اليهود من جزيرة العرب، وغير ذلك، مما ذكره في الحديث.
قال البيهقيّ: وقد حَكَى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب استخلاف أبي بكر رضي الله عنه، ثم ترك ذلك اعتمادًا على ما عَلِمه من تقدير الله تعالى ذلك كما هَمّ بالكتاب في أول مرضه حين قال:"وارأساه"، ثم ترك الكتاب، وقال:"يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر"، ثم نبّه أمته على استخلاف أبي بكر بتقديمه إياه في الصلاة، قال البيهقيّ: وإن كان المراد بيانَ أحكام الدين، ورفع الخلاف فيها، فقد عَلِم عمر رضي الله عنه حصول ذلك؛ لقوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ، وعلم أنه لا تقع واقعة إلى يوم القيامة إلا وفي الكتاب، أو السُّنَّة بيانها نصًّا، أو دلالةً، وفي تكلف النبيّ صلى الله عليه وسلم في مرضه مع شدة وجعه كتابةَ ذلك مشقة، ورأى عمر رضي الله عنه الاقتصار على ما سبق بيانه إياه نصّا، أو دلالةً؛ تخفيفًا عليه، ولئلا ينسدّ باب الاجتهاد على أهل العلم والاستنباط، وإلحاق الفروع بالأصول، وقد كان سبق قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر"، وهذا دليل على أنه وَكَل بعض الأحكام إلى اجتهاد العلماء، وجعل لهم الأجر على الاجتهاد، فرأى عمر رضي الله عنه الصواب تركهم على هذه الجملة؛ لِمَا فيه من فضيلة العلماء بالاجتهاد، مع التخفيف عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي تركه صلى الله عليه وسلم الإنكار على عمر رضي الله عنه دليل على استصوابه.
قال الخطابيّ رحمه الله: ولا يجوز أن يُحْمَل قول عمر رضي الله عنه على أنه توهّم
الغلط على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ظَنّ به غير ذلك، مما لا يليق به بحال، لكنه لَمّا رأى ما غلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوجع، وقرب الوفاة، مع ما اعتراه من الكرب، خاف أن يكون ذلك القول مما يقوله المريض، مما لا عزيمة له فيه، فيجد المنافقون بذلك سبيلًا إلى الكلام في الدين، وقد كان أصحابه صلى الله عليه وسلم يراجعونه في بعض الأمور قبل أن يجزم فيها بتحتيم، كما راجعوه يوم الحديبية في التحلّل، وفي كتاب الصلح بينه وبين قريش، فأما إذا أَمَر بالشيء أمر عزيمة، فلا يراجعه فيه أحد منهم.
قال: وأكثر العلماء على أنه يجوز عليه الخطأ فيما لم يُنزل عليه، وقد أجمعوا كلُّهم على أنه لا يُقَرّ عليه، قال: ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم وإن كان الله تعالى قد رفع درجته فوق الخلق كلهم، فلم يُنَزِّهه عن سمات الحدث، والعوارض البشرية، وقد سَهَى في الصلاة، فلا يُنكَر أن يُظَنّ به حدوث بعض هذه الأمور في مرضه، فيتوقف في مثل هذا الحال حتى تتبين حقيقته، فلهذه المعاني وشِبْهِها راجعه عمر رضي الله عنه.
قال الخطابيّ: وقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اختلاف أمتي رحمة"
(1)
، فاستصوب عمر ما قاله، قال: وقد اعتَرَض على حديث اختلاف أمتي رحمة رجلان: أحدهما مغموصٌ عليه في دينه، وهو عمرو بن بحر الجاحظ، والآخر معروف بالسخف والخلاعة، وهو إسحاق بن ابراهيم الموصليّ، فإنه لمّا وضع كتابه في الأغاني، وأمكن في تلك الأباطيل لم يرض بما تزوّد من إثمها حتى صدَّر كتابه بذمّ أصحاب الحديث، وزعم أنهم يروون ما لا يدرون، وقال هو والجاحظ: لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابًا، ثم زعم أنه إنما كان اختلاف الأمة رحمة في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة، فإذا اختلفوا سألوه فبيَّن لهم.
والجواب عن هذا الاعتراض الفاسد: أنه لا يلزم من كون الشيء رحمةً أن يكون ضده عذابًا، ولا يلتزم هذا ويذكره إلا جاهل، أو متجاهل، وقد
(1)
حديث منكر، بل موضوع، انظر كلام الشيخ الألبانيّ رحمه الله في:"السلسلة الضعيفة" 4/ 447.
قال الله تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [القصص: 73] فسمى الليل رحمة، ولم يلزم من ذلك أن يكون النهار عذابًا، وهو ظاهر لا شك فيه.
قال الجامع عفا الله عنه: تعب الخطابيّ بهذا التأويل الذي ذكره عجيب، فإن حديث:"اختلاف أمتي رحمة"، حديث لا أصل له، بل هو موضوع، فلا داعي إلى التكلّف بالتأويل، وقد حقّق الكلام فيه الشيخ الألبانيّ رحمه الله في كتبه، فراجعه تستفد
(1)
.
وقال المازريّ رحمه الله: إن قيل: كيف جاز للصحابة الاختلاف في هذا الكتاب، مع قوله صلى الله عليه وسلم:"ائتوني أكتب"، وكيف عصوه في أمره؟.
فالجواب: أنه لا خلاف أن الأوامر تقارنها قرائن تنقلها من الندب إلى الوجوب عند من قال: أصلها للندب، ومن الوجوب إلى الندب عند من قال: أصلها للوجوب، وتنقل القرائن أيضًا صيغة افْعَلْ إلى الإباحة وإلى التخيير، وإلى غير ذلك من ضروب المعاني، فلعله ظهر منه صلى الله عليه وسلم من القرائن ما دلّ على أنه لم يوجب عليهم، بل جعله إلى اختيارهم، فاختَلَف اختيارهم بحسب اجتهادهم، وهو دليل على رجوعهم إلى الاجتهاد في الشرعيات، فأدَّى عمر رضي الله عنه اجتهاده إلى الامتناع من هذا، ولعله اعتقد أن ذلك صدر منه صلى الله عليه وسلم من غير قصد جازم، وهو المراد بقولهم:"أهَجَرَ"، وبقول عمر رضي الله عنه:"غَلَبَ عليه الوجع"، وما قارنه من القرائن الدالة على ذلك، على نحو ما يَعهدونه من أصوله صلى الله عليه وسلم في تبليغ الشريعة، وأنه يجري مجرى غيره من طرق التبليغ المعتادة منه صلى الله عليه وسلم، فظهر ذلك لعمر دون غيره، فخالفوه، ولعل عمر خاف أن المنافقين قد يتطرقون إلى القدح فيما اشتَهَر من قواعد الإسلام، وبلَّغه صلى الله عليه وسلم الناسَ بكتاب يُكتب في خلوة وآحاد، ويضيفون إليه شيئًا ليشبّهوا به على الذين في قلوبهم مرض، ولهذا قال: عندكم القرآن حسبنا كتاب الله. انتهى كلام المازريّ رحمه الله
(2)
، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(1)
راجع: "صفة صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم" ص 58 و 61، و"السلسلة الضعيفة" 4/ 447.
(2)
راجع: "شرح النوويّ" 11/ 92 - 93.
4 -
(ومنها): أن قوله صلى الله عليه وسلم: "وأجيزوا الوفد
…
إلخ" أمر منه صلى الله عليه وسلم بإجازة الوفود، وضيافتهم، وإكرامهم؛ تطبيبًا لنفوسهم، وترغيبًا لغيرهم من المؤلفة قلوبهم ونحوهم، وإعانةً على سفرهم، قال القاضي عياض: قال العلماء: سواء كان الوفد مسلمين، أو كفّارًا؛ لأن الكافر إنما يَفِد غالبًا فيما يتعلق بمصالحنا ومصالحهم. انتهى.
5 -
(ومنها): جواز كتابة العلم وقد سبق بيان هذه المسألة مرات، وذكرنا أنه جاء فيها حديثان مختلفان، هذا الحديث، وأمثاله، في "الصحيحين"، وحديث:"لا تكتبوا عني، فمن كتب عني غير القرآن فليمحه" الحديث، رواه مسلم.
فاختلف السلف في ذلك، ثم أجمع من بعدهم على جوازها وبينّا تأويل حديث المنع، فلا تنس نصيب، وبالله تعالى التوفيق.
6 -
(ومنها): جواز استعمال المجاز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أكتُب لكم"؛ أي: آمر بالكتابة.
7 -
(ومنها): أن الأمراض ونحوها لا تنافي النبوة، ولا تدل على سوء الحال، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): رأيت لبعض المحقّقين
(1)
كلامًا في طعن الشيعة على الصحابة رضي الله عنهم بهذا الحديث، أحببت إيراده؛ لحسنه، ودونك ما قال:
وقد طعنت الشيعة الرافضة من أجل هذا الحديث في الصحابة رضي الله عنهم، ولا سيما في عمر بن الخطّاب رضي الله عنه بوجوه متعدّدة:
(الأول): أن عمر رضي الله عنه ومن وافقه من الصحابة رضي الله عنهم خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث أمرهم بأن يأتوا باللوح والدواة، فأبوا عليه ذلك.
(الثاني): أنهم قد منعوا الأمة الإسلاميّة حقّها، فإن الكتاب الذي كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يريد كتابته إنما كان لوقاية الأمة عن الضلالة، وقد أدّى عدم كتابته إلى اختلاف كثير وقع في طوائف الأمة، وجميع ذلك يرجع سببه إلى من امتنع من الكتابة.
(1)
هو الشيخ محمد تقيّ العثمانيّ الهنديّ، صاحب "تكملة فتح الملهم بشرح صحيح الإمام مسلم".
(الثالث): أنه صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يكتب الخلافة لعليّ رضي الله عنه، ولذلك تعرّض عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فمنعه عن ذلك؛ لتسليط غير أهل البيت عليها.
(الرابع): أن عمر رضي الله عنه قد نَسَب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الْهَذَيان، حيث قال: أهجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم عن الجنون، والهذيان، وأمثالهما من العوارض.
فأما الطعن الأول والثاني، فنجيب عنهما إجمالًا، وإلزامًا، ثم تفصيلًا وتحقيقًا.
فأما الجواب الإجماليّ، فإنه لو كان امتناع الصحابة رضي الله عنهم عن الإتيان باللوح والدواة في مثل تلك الحال معصيةً -والعياذ بالله- فإنه لم ينفرد به عمر رضي الله عنه، بل شاركه فيه جميع أهل البيت الذين كانوا حاضرين في ذلك الوقت والمقام، ولا سيما علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه فعل في تلك الحال عين ما فعله عمر رضي الله عنه، فقد أخرج الإمام أحمد في "مسنده" (1/ 90) عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أمرني النبيّ أن آتيه بطبق يكتب فيه ما لا تضلّ أمته من بعده، قال: فخشيت أن تفوتني نفسه، قال: فقلت: إني أحفظ وأعي، قال: أُوصي بالصلاة، والزكاة، وما ملكت أيمانكم"
(1)
.
قال: وإن هذه الرواية تقطع جميع مطاعن الشيعة من شأفتها، فإنها صريحة في أنه لم يكن في ذلك الوقت أيما فرق بين موقف عمر وموقف عليّ رضي الله عنهما، فإن كانت واقعة هذه الرواية عين واقعة الباب، فإن كليهما امتنعا عن الكتابة؛ إشفاقًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم غلب عليه الوجع، وقال عليّ: فخشيت أن تفوتني نفسه، وإن كانت واقعة هذه الرواية غير واقعة الباب، فإن جميع ما طعنت به الشيعة في عمر رضي الله عنه يتوجه إلى عليّ رضي الله عنه في واقعة "مسند أحمد"، فما جوابهم فيه، فهو جوابنا في عمر رضي الله عنه.
وبالتالي تدلّ هذه الرواية على أن الوصيّة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن
(1)
ضعيف، في سنده نعيم بن يزيد مجهول، إلا أن الشيعة يستدلون بروايات في إسنادها من هو أكثر جهالة من هذا، قاله بعض المحققين.
يكتبها في ذلك الوقت لم تكن في شيء من أمر الخلافة، وإنما كانت تأكيد أحكام الصلاة، والزكاة، والعبيد، والإماء، وأمثالها.
وأما الجواب التحقيقيّ عن الطعن الأول، فإن عمر رضي الله عنه، ومن وافقه لم يُخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم معصيةً منهم أو عنادًا، وحاشاهم عن ذلك، وإنما قصدوا أن لا يلحق النبيّ صلى الله عليه وسلم تعبٌ في هذه الحالة الشديدة من المرض، وقد صَرَّح ابن عبّاس رضي الله عنهما في أول هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتَدّ وجعه في ذلك اليوم، وإنما اجتمع أصحابه وأهل بيته لعيادته وتمريضه، وكم يقع مثل ذلك لرجل مريض يشتدّ مرضه، فيجتمع حوله أهل بيته، ويريد أن يفعل شيئًا، فيمنعه أهل البيت من ذلك؛ مخافة اشتداد مرضه، فلا يَفهم أحد أنهم يعاندونه، أو يعصونه، وإنما يستحسن منهم مثل هذا في مثل ذلك الوقت؛ لأنه يدلّ على عنايتهم بأحوال المريض، وإشفاقهم عليه، واجتهادهم في صيانته عن الوقوع في المتاعب.
ثم إن عمر رضي الله عنه إنما فَعَل ذلك؛ لأنه كان يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت حتى يُفني المنافقين، ويُظهر كلمة الإسلام على فارس والروم، فكان يقدّر أنه صلى الله عليه وسلم لو امتنع عن الكتابة في مثل هذه الشدّة لأمكن له ذلك في وقت آخر يخفّ فيه مرضه، أو يبرأ فيه تمامًا، فلم يكن في زعمه شيء يفوت الأمة لو لم يُكتب ذلك الكتاب في مثل تلك الشدّة.
ويدلّ على ذلك ما أخرجه ابن سعد في "طبقاته"(2/ 244) من طريق الواقديّ، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي مات فيه: "ائتوني بدواة وصحيفة، أكتب لكم كتابًا لن تضلّوا بعده أبدًا"، فقال عمر بن الخطاب: من لفلانة وفلانة مدائن الروم؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بميت حتى نفتحها.
وقد ثبت في غير رواية أنه رضي الله عنه لم يعترف بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال: لن يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يفني المنافقين، كما في "طبقات ابن سعد"(2/ 267)، وقال من الغد: كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يُدبرنا، يريد بذلك أن يكون آخرنا، كما رواه البخاريّ في "الأحكام".
فهذا كلّه يدلّ على أن عمر رضي الله عنه لم يخطر بباله أبدًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم-
سيُتوفّى في مرضه هذا، وإنما كان يعتقد أنه يبرأ، فيعيش حتى يُفني المنافقين، ويَظهر على فارس والروم، حتى يكون آخر من في عهده وفاةً، ثم كان يعتقد في جانب آخر أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن ليترك شيئًا مما أُمر بتبليغه إلا بلّغه إلى الأمة، ولئن كان شيء يريد أن يوصي به لأمكن أن يوصي به في وقت آخر بعد برئه، أو خفّة مرضه، فلا حاجة إلى هذا التعجيل في مثل هذه الشدّة التي يخاف فيها التعب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أجل هذا قال في حديث الباب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله.
وكم أبدى عمر رضي الله عنه أمام النبيّ صلى الله عليه وسلم من آراء وافقه عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان هذا القول أيضًا رأيًا رآه في ذلك الوقت، فأبداه، ولو كان خطأ لمنعه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وما أقرّه عليه، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم ينكره عليه، ولا منعه، فظهر أنه لم يكن عنادًا، ولا معصيةً -والعياذ بالله العظيم-.
ثم لو فرعنا أن ذلك الرأي كان خطأ، فإنما كان ذلك باجتهاد، ولم ينفرد به عمر رضي الله عنه، بل شاركه فيه جميع من كان في البيت؛ لأنه لم يأت أحد بالصحيفة، ولا بالدواة، ولم يكن عمر رضي الله عنه ليُمسك بيد أحد يأتي بهما، وإنما كان يرى رأيًا، فتكلّم به، فلمّا لم يتقدّم أحد بذلك تبيّن أن ذلك الأمر لم يكن للوجوب عند سائر من كان في البيت، وإلا لامتثله من يزعمه للوجوب رغم رأي الآخرين.
وما أحسن ما قاله شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله في "منهاج السُّنَّة"(3/ 136)، وهو يتحدّث عن طعن الروافض في عمر رضي الله عنه من أجل حديث الباب، يقول:
"ولو أن عمر رضي الله عنه اشتبه عليه أمر، ثم تبيّن له، أو شَكّ في بعض الأمور، فليس هو أعظم ممن يُفتي، ويقضي بأمور، ويكون النبيّ صلى الله عليه وسلم قد حكم بخلافها مجتهدًا في ذلك، ولا يكون قد عَلِمَ حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن الشكّ في الحقّ أخفّ من الجزم بنقيضه، وكلّ هذا باجتهاد سائغ، كان غايته أن يكون من الخطأ الذي رَفع الله المؤاخذة به، كما قضى عليّ رضي الله عنه في الحامل المتوفَّى عنها زوجها أنها تعتدّ أبعد الأجلين، مع ما ثبت في الصحاح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه لَمّا قيل له: إن أبا السنابل بن بَعْكَك أفتى بذلك سُبيعة الأسلميّة، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذب أبو السنابل، حللتِ، فانكحي من شئتِ"، فقد كذّب النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الذي أفتى بهذا، وأبو السنابل لم يكن من أهل الاجتهاد، وما كان له أن يفتي بهذا مع حضور النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وأما عليّ، وابن عبّاس رضي الله عنهم، وإن كانا أفتيا بذلك، لكن كان ذلك عن اجتهاد، وكان ذلك بعد موت النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يكن بلغهما قصّة سُبيعة، وهكذا سائر أهل الاجتهاد من الصحابة رضي الله عنهم إذا اجتهدوا، فأفتوا، وقضَوا، وحَكموا بأمر، والسُّنة بخلافه، ولم تبلغهم السُّنَّة كانوا مثابين على اجتهادهم".
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعاتب أحدًا ممن امتنع عن الكتابة، ولم يعاتبه، سوى أن قال:"قوموا عنّي"، مع أنه قد عاقب في مرض وفاته أهل البيت الذين لَدُّوه صلى الله عليه وسلم زعمًا منهم بأنه مبتلى بذات الجنب، فلم يكتف صلى الله عليه وسلم بمعاتبتهم في ذلك قولًا، وإنما عاقبهم جميعًا بأن يُلدّوا إلا العبّاس رضي الله عنه، فإنه لم يشهدهم حين لدّوه، والقصّة مشهورة في "الصحيحين"، وغيرهما، فلو كان الامتناع عن الكتابة في ذلك الوقت معصيةً أو ذنبًا، لَمَا تركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم دون عتاب، أو عقاب.
الجواب عن الطعن الثاني:
وأما الطعن الثاني: فالجواب عنه أن الأمر الذي أراد النبيّ صلى الله عليه وسلم كتابته في ذلك الوقت لا يخلو من حالين: إما أن يكون شيئًا تحتم عليه تبليغه، وُيخشى بجهله الضلال على الأمة قطعًا، وإما أن يكون تاكيدًا لِمَا بلّغه في الماضي، فأراد أن يكتبه؛ ليكون أبقى أثرًا.
فإن كان الحال هو الأول، فلا يمكن من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يترك تبليغ ما أُمر بتبليغه لمنع المانعين، أو مخالفة بعض المخالفين، فإن المعهود منه صلى الله عليه وسلم أنه بلّغ كلّ ما أُمر به، ولو على قيمة نفسه، وماله، ووطنه، فكيف يترك بيان ما تضلّ الأمة بغيره؛ لمجرّد أن بعض الصحابة منعوه من ذلك؟.
وقال الإمام البيهقيّ رحمه الله في أواخر كتابه "دلائل النبوّة": ولو كان مراده صلى الله عليه وسلم أن يكتب ما لا يستغنون عنه لم يتركه لاختلافهم، ولا لغيره؛ لقوله تعالى:{بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة: 67]، كما لم يترك تبليغ غير ذلك؛ لمخالفة من خالفه، ومعاداة من عاداه، حكاه النوويّ: رحمه الله.
ثم إن النبيّ صلى الله عليه وسلم عاش بعد هذه الواقعة نحوًا من أربعة أيام؛ لأن واقعة القرطاس وقعت يوم الخميس، وتوفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، فلو كان الشيء الذي أراد كتابته وصيّة واجبة عليه لأوصى به في هذه الأيام، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم هذه الأيام عدّة أحكام، وقد ثبت في عدّة روايات خفّة مرضه صلى الله عليه وسلم خلال هذه المدّة، فلو كانت الكتابة شيئًا لا تستغني عنه الأمة لَمَا تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإن كان الحال هو الثاني، ولم يكن الشيء المقصود بالكتابة شيئًا جديدًا، يبلغه إلى الأمة، وإنما كان تأكيدًا لِمَا بيّنه من قبلُ، فلا سبيل إلى الطعن فيمن خالف الكتابة؛ لشدّة وجعه صلى الله عليه وسلم، فإنهم لم يفوّتوا الأمة شيئًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فتبيّن من هذا أن ما قصده النبيّ صلى الله عليه وسلم إما أن يكون تأكيدًا محضًا لِمَا بيّنه من قبلُ، ولذلك تركه؛ اعتمادًا على بيانه السابق، أو كان شيئًا لا يجب عليه تبليغه، وإنما أراد بيانه؛ شفقةً على الأمة، ثم بدا له باجتهاده، أو بوحي من الله تعالى أن ترك كتابته أولى، فتركه، ولا يُتصوّر من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمنعه بعض أصحابه عن إبداء ما فيه خير وصلاح للمسلمين.
الجواب عن الطعن الثالث:
وأما الطعن الثالث، فإنما هو مجرّد دعوى لا سبيل للاستدلال عليه، ومن أين علم هؤلاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يكتب الخلافة لعليّ رضي الله عنه؟ ولئن كان يريد ذلك لَمَا منعه الثقلان عنه، وكيف يمسك عن إظهار هذا الحقّ بمجرّد مخالفة عمر رضي الله عنه؟ أفكان -والعياذ بالله- يخاف عمر بن الخطّاب؟ وهو الذي لم يخف عمر، ولا أحدًا أقوى منه، ولا أشجع في حالة كفره، فكيف يخافه بعد إسلامه؟ أفلا يرى هؤلاء الطاعنون أن طعنهم هذا ليس طعنًا في عمر رضي الله عنه فحسب، وإنما هو طعن في تبليغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رسالته، وفي شجاعته، وهكذا الشحناء تُعمي أبصار الرجال، والعصبيّة تجعل الرجل لا يعرف ما يقول.
ولئن كان المقصود بهذه الكتابة استخلاف أحد لكان المقصود كتابة الخلافة لأبي بكر الصدّيق رضي الله عنه قطعًا، فإنه هو الذي استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم في
الحجّ، وفي الصلوات طول مرضه الذي توفّي فيه، وكان ذلك إشارة واضحةً إلى استخلافه في الإمامة الكبرى، ولذلك قال عليّ رضي الله عنه: فلما قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرت، فإذا الصلاة علم الإسلام، وقوام الدين، فرضينا لدنيانا من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، فبايعنا أبا بكر، ذكره ابن عبد البرّ في "الاستيعاب"
(1)
.
وقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة رضي الله عنها: "لقد هممت أو أردت أرسل إلى أبي بكر، وابنه، فأعهد أن يقول القائلون، أو يتمنّى المتمنّون، ثم قلت: يأبى الله، ويدع المؤمنون، أو يدفع الله، ويأبى المؤمنون"، كما رواه البخاريّ في "المرضى"، و"الأحكام".
فلم لا يجوز أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا الكتف والدواة ليكتب الخلافة لأبي بكر رضي الله عنه، ثم بدا له أن يترك الأمر شورى بين المسلمين؛ لِمَا كان يَعرف أن المؤمنين يأبون إلا أبا بكر رضي الله عنه؟
وقد ثبت في بعض كتب الشيعة أيضًا أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد اعترف بأنه لم يَعهد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، وإنما أخذ منه الميثاق لبيعة أبي بكر رحمه الله، فقد ذكر في "نهج البلاغة" أنه قال: رضينا عن الله قضائه، وسلّمنا لله أمره، أتراني أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله لأنا أول من صدّقه، فلا أكون أول من كذب عليه، فنظرت في أمري، فإذا طاعتي سبقت بيعتي، وإذا الميثاق في عنقي لغيري. راجع الخطبة من "نهج البلاغة"(1/ 89).
والظاهر من هذا الكلام أنه رضي الله عنه يتحدّث عن بيعته لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأنه بايع أبا بكر رضي الله عنه وفاء لميثاق يظهر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وثّقه به، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الجواب عن الطعن الرابع:
وأما الطعن الرابع، فهو أن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الهذيان في الكلام بقوله:"أهجر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ " والجواب عنه أني لم أجد في شيء من الروايات الصحيحة أن قائل هذا الكلام هو عمر رضي الله عنه، وإنما ذكر
(1)
"الاستيعاب" 2/ 242.
ابن عبّاس رضي الله عنهما أن الصحابة اختلفوا في ذلك، فقال بعضهم:"أهجر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ "، ولم يصرّح بأن قائله عمر، وحينئذ فهذا الكلام يَحْتَمل وجوهًا:
(منها): ما ذكره العلامة الشيخ عبد العزيز المحدّث الدهلويّ رحمه الله في كتابه الفارسيّ المعروف بـ "التحفة الاثنا عشريّة" ص 453 أن هذا الكلام قاله الذين كانوا يحبون أن يكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب، وكان استفهامهم هذا للإنكار، وأرادوا أننا يجب علينا الامتثال بما أمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يهجر في كلامه، وإنما هو مُجِدّ في أمره بالكتابة، فكأنهم خاطبوا عمر، ومن وافقه بقولهم: أهجر رسول الله صلى الله عليه وسلم في زعمكم؟ حيث لا تمتثلون أمره، والمراد أنه لم يهجر، وأمره هذا جدّ.
وحينئذ فلا إشكال على أحد، فإنه لم ينسب أحد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الهذيان، وإنما كان ذلك استفهامًا للإنكار.
(ومنها): أن يكون هذا من كلام عمر، أو أحد ممن وافقه، والمراد:
استفهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل أمره هذا جدّ وعزيمة؟ أو أنه جرى على لسانه في شدّة المرض، كما يجري على ألسنة المرضى كلام لا عزيمة فيه؟ وإنما قالوا ذلك لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يمتنع عليه المرض، ولا آثاره وعلائمه، وكان إذ ذاك في شدّة الوجع، ولا يمكن لنا أن نتصوّر مدى اضطراب الصحابة في ذلك الوقت، وكان من أهمّ المهمّات عند الصحابة حينئذ أن يزول عنه ذلك الوجع، ولا يلحقه تعب يفضي إلى ازدياد فيه، وكانوا في جانب آخر مستيقنين بأنه صلى الله عليه وسلم لم يقصّر في أداء الرسالة، وتبليغ الأمانة، وكانوا في جانب ثالث يعرفون أن كتابة غير القرآن مما لا يستحسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في الضرورة الشديدة؛ لئلا يلتبس بالقرآن، فلو زعم منهم زاعم في هذه الأحوال أن أمره بالكتابة في هذا المرض الشديد ليس عزيمة، فأراد أن يستفهمه، هل هو من عزائم الأمور، أو هو شيء جرى على لسانه دون جدّ أو عزيمة؟ فإنه ليس من سوء الأدب في جانبه صلى الله عليه وسلم في شيء، وإنما هو من الاضطراب الطبيعيّ الذي ابتلي به الصحابة رضي الله عنهم في ذلك الحين الشديد.
(ومنها): أن يكون الهجر في هذا الكلام بمعنى الفراق، لا بمعنى
الهذيان، وقد صرّح علماء اللغة بأن قولهم: هجر يهجر يستعمل بمعنى الترك والمفارقة أيضًا، راجع "تاج العروس"(3/ 611)، وعليه فالمراد: واستفهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل هو يفارقنا؟ حيث يأمرنا بكتابة وصيّته؟، ويؤيّده ما ذكرنا في الجواب عن الطعن الأول أن عمر رضي الله عنه كان يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتوفّى حتى يفني المنافقين، ويظهر الإسلام على فارس والروم، فلو كان هو أو أحد غيره من الصحابة أراد أن يسأله صلى الله عليه وسلم، هل حان فراقه إيانا؟ لَمَا كان فيه شيء يُطعن به فيهم، وإنما كان صدر هذا الكلام منهم؛ لفرط حبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكراهيتهم لفراقه.
فاندحضت المطاعن جميعًا بحذافيرها، والحمد لله رب العالمين. انتهى منقولًا من "تكملة فتح الملهم" للشيخ محمد تقي العثمانيّ الهنديّ
(1)
.
(قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ
(2)
: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ بِشْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَان بِهَذَا الْحَدِيثِ).
قال الجامع عفا الله عنه: "أبو إسحاق إبراهيم" هذا هو: إبراهيم بن محمد بن سفيان، أبو إسحاق الفقيه الزاهد النيسابوريّ، تلميذ الإمام مسلم رحمه الله راوي "صحيحه" عنه، توفّي في رجب سنة (308 هـ) تقدّمت ترجمته في "المقدّمة" 6/ 73.
و"الحسن بن بشر": هو السلميّ، قاضي نيسابور، صدوق [11](ت 244) لم يرو عنه مسلم، وإنما روى عنه أبو إسحاق المذكور في مواضع علا فيها إسناده، وقد تقدّمت ترجمته في "الطلاق" 3/ 3679.
و"سفيان" هو: ابن عيينة المذكور في السند السابق.
وإنما أتى أبو إسحاق بهذا بعد روايته الحديث عن مسلم؛ لأنه علا بدرجة، فساوى مسلمًا فيه، حيث روى الحديث عن الحسن، عن سفيان،
(1)
راجع: "تكملة فتح الملهم" 2/ 139 - 146 نقلت منه مع حذف بعض الآثار التي لم يتبيّن لي صحّتها، فتنبّه.
(2)
[تنبيه]: لم أجعل لهذا السند رقمًا خاصّا؛ لأنه ليس من "صحيح مسلم"، وإنما هو من إلحاق أبي إسحاق زاده على مسلم؛ لعلّوه فيه، كما بينته في الشرح، فتنبّه.
فكان بينه وبين سفيان واسطة واحدة، بعد أن رواه عن مسلم، عن شيوخه الأربعة، عن سفيان، فكان بينه وبين سفيان واسطتان، فعلا السند له برجل، فساوى مسلمًا بذلك، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتصل إلى المؤئف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4225]
(
…
) - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أنهُ قَالَ: يَوْمُ الْخَمِيسِ، وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ؟ ثُمَّ جَعَلَ تسِيلُ دُمُوعُهُ، حَتَّى رَأَيْتُ عَلَى خَدَّيْهِ؛ كأنها نِظَامُ اللُّؤْلُؤِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ائتُوى بِالْكَتِفِ وَالدَّوَاةِ -أَوِ اللَّوْحِ وَالدَّوَاةِ- أكتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أبدًا"، فَقَالُوا: إِن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يهْجُرُ).
رجال هذا الحديث: ستة:
وكلّهم ذُكروا في الباب.
وقوله: (كَأنَّهَا نِظَامُ اللُّؤْلُؤِ) من إضافة الصفة للموصوف؛ أي: كأنها اللؤلؤ المنظوم.
وقوله: (ائتُوني بِالْكَتِفِ) المراد به هنا عَظْم الكتف، فإنهم كانوا يكتبون فيه. وقوله:(وَالدَّوَاةِ) قال في "اللسان": الدواة: ما يُكتب منه، معروفة، جمعها: دَوى- بالفتح- ودُويّ- بالضمّ- ودِوِيّ- بالكسر-. انتهى بإيضاح
(1)
.
وقوله: (أَوِ اللَّوْحِ) قال الفيّوميّ رحمه الله: اللوح بالفتح: كلُّ صَحيفة، من خشب، وكَتِف، إذا كُتب عليه سُمّي لَوْحًا، والجمع ألواح. انتهى
(2)
.
وقوله: (يَهْجُرُ) مضارع هَجَرَ، يقال: هَجَر المريض في كلامه هَجْرًا، من باب نصر؛ أي: خَلَط وهَذَى
(3)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة، وله الفضل والنعمة.
(1)
"لسان العرب" 14/ 279.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 560.
(3)
راجع: "المصباح" 2/ 634.
وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4226]
(
…
) - (وَحَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ - قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ- أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا حُضِرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَفي الْبَيْتِ رِجَالٌ، فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "هَلُمَّ أكتُبْ لَكُمْ كِتَابًا، لَا تَضِلُّونَ بَعْدَهُ"، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ غلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَعُ، وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنُ حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ، فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ، فَاخْتَصَمُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَ عُمَرُ، فَلَمَّا أَكثَرُوا اللَّغْوَ، وَالِاخْتِلَافَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قُومُوا"، قَالَ عُبَيْدُ اللهِ: فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم قبل أربعة أبواب.
2 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
4 -
(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
5 -
(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
6 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ) بن مسعود الْهُذليّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبت فقيه [3](ت 94)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
و"ابن عباس رضي الله عنهما" ذُكر قبله.
وقوله: (لَمَّا حُضِرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: حضره الموت.
وقوله: (فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ)؛ أي: الصحابة الذين كانوا عنده صلى الله عليه وسلم في البيت، وليس المراد أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (فَلَمَّا أَكثَرُوا اللَّغْوَ)؛ أي: الكلام الساقط، يقال: لغا الرجلُ: تكلّم باللغو، وهو أخلاط الكلام، قاله الفيّوميّ
(1)
.
وقوله: ("قُومُوا") وفي رواية ابن سعد: "فقال: قوموا عنّي".
وقوله: (إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزيَّةِ) -بفتح الراء، وكسر الزاي، بعدها ياء، ثم همزة، وقد تسهل الهمزة، وتشدد الياء- ومعناها: المصيبة، وفي "العباب": الرزء: المصيبة، والجمع الأرزاء، وكذلك المرزية، والرزيئة، وجمع الرزيئة الرزايا، وقد رزأته رَزِيئةٌ؛ أي: أصابته مصيبةٌ، ورزأته رُزأ بالضم، ومرزئةً: إذا أصبت منه خيرًا ما كان، ويقول: ما رزأت ماله، وما رَزِئته بالكسر؛ أي: ما نقصته، قاله في "العمدة"
(2)
.
وقوله: (مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ...... إلخ)"ما" موصولة خبر "إنّ".
وقوله: (مِنِ اخْتِلَافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ) بيان لـ "ما حال"، واللغط -بالتحريك- الصوت والْجَلَبة، وقال الكسائيّ: اللَّغْطُ بسكون الغين لغةٌ فيه، والجمع ألغاط، وقال الليث: اللغط أصوات مُبْهمّة لا تُفْهَم، تقول: لَغَطَ القوم، من باب نَفَع، وألغط القوم، مثل لَغَطُوا. انتهى
(3)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قبل باب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
* * *
(1)
"المصباح المنير" 2/ 555.
(2)
"عمدة القاري" 3/ 325.
(3)
"عمدة القاري" 3/ 325 بزيادة يسيرة من "المصباح" 2/ 555.
25 - (كِتَابُ النَّذْرِ)
" النَّذْرُ" -بفتح، فسكون- هو في الأصل مصدر نَذَر ينذِرُ، من باب ضرب، وفي لغة من باب قتل، أفاده الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: النذر: عبارة عن التزام فعل الطاعات بصيغ مخصوصة؛ كقوله: لله عليّ صومٌ، أو صلاةٌ، أو صدقةٌ. انتهى
(2)
.
وقال في "القاموس"، و"شرحه": ونذَرَ على نفسه ينذِر -بالكسر- وينذُرُ -بالضمّ- نَذْرًا- بالفتح- ونُذُورًا- بالضمّ-: أوجبه؛ كانتذر، ونذَرَ ماله، ونذَر لله سبحانه وتعالى كذا: أوجبه على نفسه تبرّعًا، من عبادة، أو صدقة، أو غير ذلك، وفي الكتاب العزيز:{إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران: 35]، قالته امرأة عمران، أم مريم، قال الأخفش: تقول العرب: نَذَرَ على نفسه نذْرًا، ونَذَرْتُ مالي، فأنا أنذْره نذرًا، رواه يونس عن العرب. أو النذر: ما كان وعدًا على شرط، فَعَليّ إن شفَى اللهُ مريضي كذا، نذْرٌ، وعليَّ أن أتصدّق بدينارٍ، ليس بنذر. انتهى
(3)
.
وقال ابن الأثير ما حاصله: يقال: نذَرتُ أنذِرُ، وأنذُر، من بابي ضرب، ونصر: إذا أوجبت على نفسك شيئًا تبرّعًا، من عبادة، أو صدقة، أو غير ذلك. أفاده في "النهاية"
(4)
.
وقال أيضًا: وقد تكرّر في أحاديث النذر ذكر النهي عنه، وهو تأكيد لأمره، وتحذيرٌ عن التهاون به بعد إيجابه، ولو كان معناه الزجرَ عنه حتى لا يُفعَلَ، لكان في ذلك إبطالُ حكمه، وإسقاطُ لزوم الوفاء به، إذ كان بالنهي
(1)
"المصباح المنير" 2/ 599.
(2)
"المفهم" 4/ 604.
(3)
راجع: "القاموس المحيط"، و"شرحه تاج العروس" 3/ 561.
(4)
"النهاية" 5/ 39.
يصير معصيةً، فلا يلزم، وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك أمرٌ لا يجرُّ لهم في العاجل نفعًا، ولا يصرِف عنهم ضرًّا، ولا يردّ قضاءً، فقال: لا تنذِرُوا على أنكم قد تدركون بالنذر شيئًا لم يُقدّره الله لكم، أو تصرفون به عنكم ما جرى به القضاء عليكم، فإذا نذرتم، ولم تعتقدوا هذا، فاخرجوا عنه بالوفاء، فإن الذي نذرتموه لازم لكم. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": وأصله الإنذار، بمعنى التخويف، وعرّفه الراغب بأنه إيجاب ما ليس بواجب لحدوث أمر. انتهى
(2)
.
وقال في موضع آخر: والنذر في اللغة: التزام خير، أو شرّ، وفي الشرع: التزام المكلّف شيئًا، لم يكن عليه، منجّزًا، أو معلّقًا، وهو قسمان: نذر تبرّر، ونذر لَجَاجٍ، ونذر التبرّر قسمان:
[أحدهما]: ما يُتقرّب به ابتداء، كـ: لله عليّ أن أصوم كذا، ويلتحق به ما إذا قال: لله عليّ أن أصوم كذا شُكرًا على ما أنعم به عليّ من شفاء مريضي مثلًا، وقد نقل بعضهم الاتفاق على صحّته، واستحبابه، وفي وجه لبعض الشافعيّة أنه لا ينعقد.
[والثاني]: ما يُتقرّب به معلّقًا بشيء ينتفع به إذا حصل له، كإن قدم غائبي، أو كفاني الله شرّ عدوّي، فعليّ صوم كذا مثلًا، والمعلّق لازم اتّفاقًا، وكذا المنجّز في الراجح.
ونذر اللَّجَاج قسمان:
[أحدهما]: ما يعلّقه على فعل حرام، أو ترك واجب، فلا ينعقد في الراجح، إلا إن كان فرض كفاية، أو كان في فعله مشقّةٌ، فليزمه، ويلتحق به ما يُعلّقه على فعل مكروه.
[والثاني]: ما يعلّقه على فعل خلاف الأولى، أو مباح، أو ترك مستحبّ، وفيه ثلاثة أقوال للعلماء: الوفاء، أو كفّارة يمين، أو التخيير بينهما، واختَلَف الترجيح عند الشافعيّة، وكذا عند الحنابلة، وجزم الحنفيّة بكفّارة
(1)
"النهاية في غريب الحديث والأثر" 5/ 39.
(2)
"الفتح" 13/ 361.
اليمين في الجميع، والمالكيّة بأنه لا ينعقد أصلًا. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الأرجح عندي ما قاله المالكيّ؛ لحديث: "إنما النذر ما ابتغي به وجه الله"، رواه أحمد من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، فهو وإن كان في إسناده مقال، إلا أن له شواهد من حديث عقبة بن عامر، ومن حديث ابن عبّاس رضي الله عنهم، كما بيّنته في "شرح النسائيّ".
والحاصل أن الأرجح أنه لا شيء في النذر في المكروه، وخلاف الأولى، والمباح المحض، والله تعالى أعلم.
وقال العلامة ابن قُدامة رحمه الله: الأصل في النذر الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع، أما الكتاب، فقول الله عز وجل:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7]، وقال تعالى:{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29].
وأما السُّنَّة، فروت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه"، رواه البخاريّ.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"- قال عمران: لا أدري ذكر ثنتين، أو ثلاثًا، بعد قرنه- "ثم يجيء قوم ينذُرون، ولا يَفُون، ويخونون، ولا يؤتمنون، ويشهدون، ولا يستشهدون، ويظهر فيهم السِّمَن"، رواه البخاريّ.
قال: وأجمع المسلمون على صحّة النذر في الجملة، ولزوم الوفاء به. انتهى
(2)
.
وقال ابن قُدامة أيضًا: صيغة النذر أن يقول: لله عليّ أن أفعل كذا، وإن قال: عليّ نذرُ كذا لزمه أيضًا؛ لأنه صرّح بلفظ النذر، وإن قال: إن شفاني الله فعليّ صوم شهر، كان نذرًا. وإن قال: لله عليّ المشي إلى بيت الله، قال ابن عمر، في الرجل يقول: عليّ المشي إلى الكعبة لله، قال: هذا نذرٌ، فليمشِ، ونحوه عن القاسم بن محمد، ويزيد بن إبراهيم التيميّ، ومالك، وجماعة من العلماء، واختُلف فيه على سعيد بن المسيِّب، والقاسم بن محمد، فروي عنهما
(1)
"الفتح" 15/ 343 - 344.
(2)
"المغني" لابن قُدامة رحمه الله 13/ 621.
مثل قولهم، وروي عنهما فيمن قال: عليّ المشي إلى بيت الله، فليس بشيء، إلا أن يقول: عليّ نذر مشي إلى بيت الله.
قال: ولنا أن لفظة "عليَّ" للإيجاب على نفسه، فإذا قال: عليّ المشي إلى بيت الله، فقد أوجبه على نفسه، فلزمه، كما لو قال: هو عليّ نذرٌ. انتهى كلام ابن قدامة رحمه الله
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب.
(1) - (بَابُ الأَمْرِ بِقَضَاءِ النَّذْرِ)
وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله: أوّل الكتاب قال:
[4227]
(1638) - (حَدَّثنَا يَحْيىَ بْنُ يَحْيىَ التَّمِيمِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، قَالَا: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ (ح) وَحَدَّثنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنا لَيْث، عَنِ ابْنِ شِهَاب، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنِ ابْن عَباسٍ، أنهُ قَالَ: اسْتَفْتَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةً رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ، تُوُفيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"فَاقْضِهِ عَنْهَا").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ) تقدّم قريبًا.
2 -
(اللَّيْثُ) بن سعد الإمام المصريّ الحجة المشهور، تقدّم أيضًا قريبًا. والباقون ذُكروا في الباب الماضي.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عَباسٍ) رضي الله عنهما (أَنَّهُ قَالَ: اسْتَفْتَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال في "الفتح": كذا رواه مالك، وتابعه الليث، وبكر بن وائل، وغيرهما عن الزهريّ، وقال سليمان بن كثير، عن الزهريّ، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن سعد بن عبادة:"أنه استَفْتَى"، جعله من مسند سعد، أخرج جميع ذلك النسائيّ، وأخرجه أيضًا من رواية الأوزاعيّ، ومن رواية سفيان بن عيينة،
(1)
"المغني" 13/ 659.
كلاهما عن الزهريّ، على الوجهين، قال الحافظ رحمه الله ما حاصله: إن ابن عبّاس رضي الله عنهما لم يشهد القصّة؛ لأنها وقعت سنة خمس، والنبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة الجندل، وابن عبّاس في ذلك الوقت كان مع أبويه بمكة، فالذي يظهر أنه سمعه من سعد بن عبادة رضي الله عنه، فيتعيّن ترجيح رواية من زاد فيه: عن سعد بن عبادة، ويكون ابن عباس قد أخذه عنه.
قال: ويَحْتَمِل أن يكون أخذه عن غيره، ويكون قول من قال: عن سعد بن عبادة، لم يقصد به الرواية، وإنما أراد عن قصة سعد بن عبادة، فتتّحد الروايتان. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الاحتمال الثاني يُبعده ما عند النسائيّ من رواية محمد بن عبد الله بن يزيد، عن سفيان، بلفظ:"عن ابن عبّاس، عن سعد أنه قال: ماتت أمي، وعليها نذر، فسألت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأمرني أن أقضيه عنها"، فإنه ظاهرٌ في كون ابن عبّاس رضي الله عنهما أخذه عن سعد رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.
(فِي نَذْرٍ) متعلّق بـ "استَفْتَى"، وقوله:(كَانَ عَلَى أُمِّهِ) في محلّ جرّ صفة لـ "نذر"، وكذا جملة قوله:(تُوُفِّيَتْ) بالبناء للمفعول؛ أي: ماتت أمه (قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ)؛ أي: قبل أن تؤدّي ذلك النذر الذي نذرته.
وفي رواية البخاريّ: "فقال: إن أمي ماتت، وعليها نذرٌ؟ "، زاد في رواية قتيبة، عن مالك:"لم تقضه"(قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَاقْضِهِ عَنْهَا")، وفي رواية سليمان بن كثير المذكورة:"أفيجزئ عنها أن أُعتق عنها؟ قال: أعتق عن أمك"، فأفادت هذه الرواية بيان ما هو النذر المذكور، وهو أنها نذرت أن تُعتق رقبة، فماتت قبل أن تفعل.
ويَحْتَمِل أن تكون نذرت نذرًا مطلقًا غير معيَّن، فيكون في الحديث حجةٌ لمن أفتى في النذر المطلق بكفارة يمين، والعتق أعلى كفارات الأيمان، فلذلك أمره صلى الله عليه وسلم أن يُعتق عنها.
وحَكَى ابن عبد البر عن بعضهم أن النذر الذي كان على والدة سعد
(1)
"الفتح" 6/ 715، كتاب "الوصايا" رقم (2761).
صيام، واستند إلى حديث ابن عباس رحمه الله: "أن رجلًا قال: يا رسول الله إن أمي ماتت، وعليها صوم
…
" الحديث، ثم رَدّه بأن في بعض الروايات عن ابن عباس: "جاءت امرأة، فقالت: إن أختي ماتت".
قال الحافظ: والحقّ أنها قصة أخرى. انتهى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فاقضه عنها" أمرٌ بالقضاء على جهة الفتوى فيما سئل عنه، فلا يُحمَل على الوجوب، بل على جهة بيان أنه إن فعل ذلك صحَّ، بل نقول: لو ورد ذلك ابتداءً وافتتاحًا لَمَا حُمِل على الوجوب، إلا أن يكون ذلك النذر ماليًّا، وتركت مالًا، فيجب على الوارث إخراج ذلك من رأس المال، أو من الثلث، كما قد ذكرنا في "الوصايا"، وإن كان حقًّا بدنيًا، فمن يقول بأن الوليَّ يقضيه عن الميت؛ لم يقل: إن ذلك يجب على الوليِّ، بل ذلك على النَّدب إن طاعت بذلك نفسُه، ومن تخيَّل شيئًا من ذلك فهو محجوج بقوله صلى الله عليه وسلم:"من مات وعليه صيام، صام عنه ولله لمن شاء"؛ وهو نصٌّ في الغرض. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: زاد في رواية البخاري من طريق شعيب بن أبي حمزة، عن الزهريّ في آخر هذا الحديث:"فكانت سُنَةً بعدُ"
(2)
، قال في "الفتح"؛ أي صار قضاء الوارث ما على المورِّث طريقةً شرعيةً، أعم من أن يكون وجوبًا، أو ندبًا، قال: ولم أر هذه الزيادة في غير رواية شعيب، عن الزهريّ، فقد أخرج الحديث الشيخان من رواية مالك، والليث، وأخرجه مسلم أيضًا من رواية ابن عيينة، ويونس، ومعمر، وبكر بن وائل، والنسائيّ من رواية الأوزاعيّ، والإسماعيليّ من رواية موسى بن عقبة، وابن أبي عَتِيق، وصالح بن
(1)
"المفهم" 4/ 605 - 607.
(2)
ولفظ البخاريّ رحمه الله 6/ 2464:
(6320)
- حدَّثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله، أن عبد الله بن عباس أخبره: أن سعد بن عبادة الأنصاري استفتى النبيّ صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه، فتُوُفّيت قبل أن تقضيه، فأفتاه أن يقضيه عنها، فكانت سنة بعدُ. انتهى.
كيسان، كلهم عن الزهريّ بدونها، وأظنها من كلام الزهريّ، ويَحْتَمِل من شيخه، وفيها تَعَقّب على ما نُقِل عن مالك: لا يَحُجّ أحد عن أحد، واحتَجَّ بأنه لم يبلغه عن أحد من أهل دار الهجرة منذ زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حج عن أحد، ولا أمر به، ولا أذن فيه، فيقال لمن قَلَّد: قد بلغ ذلك غيره، وهذا الزهريّ معدود في فقهاء أهل المدينة، وكان شيخَه في هذا الحديث.
وقد استَدَلّ بهذه الزيادة ابن حزم للظاهرية، ومن وافقهم في أن الوارث يلزمه قضاء النذر عن مُوَرِّثه في جميع الحالات، قال: وقد وقع نظير ذلك في حديث الزهريّ، عن سهيل في اللعان لَمّا فارقها الرجل قبل أن يأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم بفراقها، قال: فكانت سُنَّةً. انتهى
(1)
.
[تنبيه آخر]: قال القرطبيّ رحمه الله: قد اختُلف في هذا النذر الذي كان على أم سعد؛ فقيل: إنه كان نذرًا مطلقًا، وقيل: صومًا، وقيل: عتقًا، وقيل: صدقةً، والكل مُحْتَمِل، ولا مُعيِّن، فهو مُجْمَل، ولا خلاف أن حقوق الأموال من العتق، والصَّدقة تصحّ فيها النيابة، وتصحّ توفيتها عن الْمَيّت والحيّ، وإنَّما اختُلف في الحجّ والصوم، كما تقدم ذلك في كتابيهما. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": اختُلف في تعيين نذر أم سعد رضي الله عنهما، فقيل: كان صومًا؛ لِمَا رواه مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، جاء رجل، فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت، وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ قال: "نعم
…
" الحديث.
وتُعُقّب بأنه لم يتعيَّن أن الرجل المذكور هو سعد بن عبادة، وقيل: كان عتقًا، قاله ابن عبد البرّ، واستَدَلّ بما أخرجه من طريق القاسم بن محمد، أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله، إن أمي هلكت، فهل ينفعها أن اعتق عنها؟ قال:"نعم".
وتُعُقّب بأنه مع إرساله ليس فيه التصريح بأنها كانت نذرت ذلك، وقيل: كان نذرها صدقةً، ففي "الموطأ" وغيره من وجه آخر، عن سعد بن عبادة أن
(1)
"الفتح" 15/ 363، كتاب "الأيمان والنذور" رقم (6698).
(2)
"المفهم" 4/ 605.
سعدًا خرج مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقيل لأمه: أوص، قالت: المال مال سعد، فتُوفيت قبل أن يَقْدَم، فقال: يا رسول الله، هل ينفعها أن أتصدّق عنها؟ قال:"نعم".
وعند أبي داود من وجه آخر نحوه، وزاد: فأيّ الصدقة أفضل؟ قال: "الماء
…
" الحديث، وليس في شيء من ذلك التصريح بأنها نذرت ذلك.
قال القاضي عياض رحمه الله: والذي يظهر أنه كان نذرُها في المال، أو مبهمًا.
قال الحافظ رحمه الله: بل ظاهر حديث الباب أنه كان معيّنًا عند سعد، والله أعلم. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 4227 و 4228](1638)، و (البخاريّ) في "الوصايا"(2761) و"الأيمان والنذور"(6698) و"الحيل"(6959)، و (أبو داود) في "الأيمان والنذور"(3307)، و (الترمذيّ) في "النذر والأيمان"(1546)، و (النسائيّ) في "الوصايا"(6/ 253 - 254) و"الأيمان والنذور"(7/ 20 - 21) و"الكبرى"(3/ 137 و 4/ 110 و 111 و 112)، و (ابن ماجه) في "الكفّارات"(2132)، و (الحميديّ) في "مسنده"(522)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 58 و 113 و 7/ 284)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 219 و 329 و 370)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2383)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 5 و 6)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 75) و"الكبير"(6/ 17 و 18 و 19)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4393 و 4394)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 256 و 6/ 278) و"المعرفة"(3/ 401)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2449)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(1)
"الفتح" 15/ 363.
1 -
(منها): بيان صحّة النذر، وجوب الوفاء به، وقضائه، قال النووي رحمه الله: أجمع المسلمون على صحّة النذر، ووجوب الوفاء به، إذا كان الملتَزَم طاعةً، فإن نذر معصيةً، أو مباحًا؛ كدخول السوق لم ينعقد نذره، ولا كفّارة عليه عندنا، وبه قال جمهور العلماء، وقال أحمد، وطائفة: فيه كفّارة يمين. انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): بيان جواز الصدقة عن الميت، وأن ذلك ينفعه بوصول ثواب الصدقة إليه، ولا سيما إن كان من الولد، وهو مخصص لعموم قوله تعالى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 39]، وقد تقدّم تحقيق هذا قريبًا.
3 -
(ومنها): قضاء الحقوق الواجبة عن الميت، وقد ذهب الجمهور إلى أن من مات، وعليه نذر ماليّ أنه يجب قضاؤه من رأس ماله، وإن لم يوص، إلا إن وقع النذر في مرض الموت، فيكون من الثلث، وشرط المالكية، والحنفية أن يوصي بذلك مطلقًا.
واستُدِل للجمهور بقصة أم سعد هذه، وقول الزهريّ: إنها صارت سُنَةً بعدُ، ولكن يمكن أن يكون سعد قضاه من تركتها، أو تبرع به.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "قضاه من تركتها" فيه ما تقدّم من أنها قالت: "المال مال سعد"، فمن أين تكون لها التركة؟ فتنبّه.
4 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: فيه من الفقه استفتاء الأعلم ما أمكن، وقد اختَلَف أهل الأصول في ذلك، هل يجب على العامِّيّ أن يبحث عن الأعلم، أو يكتفي بسؤال عالم- أي عالم كان؟ على قولين، وقد أوضحناهما في الأصول، وبيَّنا: أنه يجب عليه أن يبحث عن الأعلم؛ لأن الأعلم أرجح، والعمل بالرَّاجح واجب. انتهى
(2)
.
5 -
(ومنها): فضل بِرّ الوالدين بعد الوفاة، والتوصل إلى براءة ما في ذمتهم.
6 -
(ومنها): أنه قد اختَلَف أهل الأصول في الأمر بعد الاستئذان، هل
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 96.
(2)
"المفهم" 4/ 605.
يكون كالأمر بعد الحظر، أو لا؟ فرَجَّح صاحب "المحصول" أنه مثله، والراجح عند غيره أنه للإباحة، كما رَجّح جماعة في الأمر بعد الحظر أنه للاستحباب، قاله في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أول الكتاب قال:
[4228]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأتُ عَلَى مَالِكٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ (ح) وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِإسنَادِ اللَّيْثِ، وَمَعْنَى حَدِيثِهِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة عشر:
1 -
(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم قريبًا.
2 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التجيبيّ المصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله المصريّ الحافظ، تقدم أيضًا قريبًا.
4 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الكلابيّ الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
6 -
(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) بن الزبير المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
7 -
(بَكْرُ بْنُ وَائِلِ) بن داود التيميّ الكوفيّ، صدوقٌ [8](م 4).
رَوَى عن الزهريّ، وعبد الله بن دينار، وأبي الزبير، وموسى بن عقبة، ونافع، وسعيد بن أبي عروبة، وغيرهم.
وروى عنه شعبة، وابن عيينة، وهشام بن عروبة، وهو أكبر منه، وأبوه وائل بن داود، وهمام بن يحيى، وقريش بن حبان، وعامتهم من أقرانه، وروى سفيان عن أبيه وائل قال: كان ابنه يجالس الزهريّ معنا.
(1)
"الفتح" 15/ 363 - 364 رقم (6698).
قال أبو حاتم: صالح، وقال النسائيّ: ليس به بأس، مات قبل أبيه، وقال الحاكم: وائل وابنه ثقتان، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال عبد الحقّ في "الأحكام": ضعيف، ورَدّ ذلك عليه ابن القطان، فأجاد، وقال: لم يذكره أحد ممن صنّف في الضعفاء، ولا قال فيه أحد: إنه ضعيف. انتهى
(1)
.
أخرج له المصنّف، والأربعة، وليس في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
[تنبيه]: رواية مالك، عن ابن شهاب، ساقها البخاريّ في "صحيحه"، فقال:
(2610)
- حدّثنا عبد اللهِ بن يُوسُفَ، أخبرنا مَالِكٌ، عن ابن شِهَاب، عن عُبَيْدِ اللهِ بن عبد اللهِ، عن ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ سَعْدَ بن عُبَادَةَ رضي الله عنه اسْتَفْتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ، وَعَلَيْهَا نَذْر، فقال:"اقْضِهِ عنها". انتهى
(2)
.
وأما رواية ابن عيينة، عن الزهريّ، فساقها ابن أبي شيبة في "مصنّفه"، فقال:
(12080)
- حدّثنا ابن عُيَيْنَةَ، عن الزُّهْرِيِّ، عن عُبَيْدِ اللهِ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ، أَنَّ سَعْدَ بن عُبَادَةَ اسْتَفْتَى النبيّ صلى الله عليه وسلم في نَذْرٍ كان على أمه، تُوُفّيت قبل أَنْ تَقْضِيَهُ، فقال:"اقْضِهِ عنها". انتهى
(3)
.
وأما رواية يونس، عن الزهريّ، فساقها أبو عوانة في "مسنده"، فقال:
(5830)
- حدّثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنبأ ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن سعد بن عبادة استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه، ماتت قبل أن تقضيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اقضيه عنها". انتهى
(4)
.
وأما رواية معمر، عن الزهريّ، فساقها أيضًا أبو عوانة في "مسنده"، فقال:
(1)
"تهذيب التهذيب" 1/ 428.
(2)
"صحيح البخاريّ" 3/ 1015.
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة" 3/ 58.
(4)
"مسند أبي عوانة" 4/ 6.
(5828)
- حدّثنا محمد بن مهل، ومحمد بن إسحاق بن الصباح، والدَّبَريّ الصنعانيّون، وحمدان السلميّ، قالوا: ثنا عبد الرزاق، قال: أنبأ معمر، عن الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، أن سعد بن عبادة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نذر كان على أمه، فأمر بقضائه. انتهى
(1)
.
وأما رواية بكر بن وائل، عن الزهريّ، فساقها أبو يعلى في "مسنده"، فقال:
(2683)
- حدّثنا عبد الله بن عمر بن أبان، حدّثنا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن بكر بن وائل، عن الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، قال: جاء سعد بن عبادة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أمي ماتت، وعليها نذر، ولم تقضه، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اقضه عنها". انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(2) - (بَابُ النَّهْيِ عَنِ النَّذْرِ، وَأنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا)
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أول الكتاب قال:
[4229]
(1639) - (وَحَدثنى زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا يَنْهَانَا عَنِ النَّذْرِ، وَيَقُولُ: "إِنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الشَّحِيحِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْب) أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) الحنظليّ مولاهم، المعروف بابن راهويه، أبو محمد المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ إمام حجة [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
(1)
مسند أبي عوانة 4/ 5 - 6.
(2)
"مسند أبي يعلى" 5/ 83.
3 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188) تقدم في "المقدمة"(ع) 6/ 50.
4 -
(مَنْصُورُ) بن المعتمر السلميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 296.
5 -
(عَبدُ اللهِ بْنُ مرَّةَ) الهَمْدانيّ الخارفيّ الكوفيّ، ثقةٌ [3](ت 100)، أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 217.
[تنبيه]: عبد الله بن مرّة هذا هو الخارفيّ -بالخاء المعجمة، والراء والفاء- وهو من رجال الجماعة، كما أشرت إليه آنفًا، ولهم عبد الله بن مرّة آخر في طبقته، وهو الزَّوْفيّ -بالزاي المفتوحة، وسكون الواو، ثم فاء- وليس له رواية في "الصحيحين"، بل هو من رجال أصحاب "السنن" سوى النسائيّ.
ولهم أيضًا عبد الله بن مرّة الزُّرقيّ- بضم الزاي، وفتح الراء، بعدها قاف- المدنيّ، لكنه متأخر من الطبقة السادسة، وهو مجهول، من أفراد النسائيّ، له عنده حديث واحد في "النكاح"، والله تعالى أعلم.
6 -
(عَبْدُ اللهِ بْن عُمَرَ) بن الخطّاب العدويّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ (ت 3 أو 74)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مرَّةَ) وقع في رواية للبخاريّ بلفظ: "أخبرنا عبد الله بن مرّة، قال في "الفتح": هو الْهَمْدانيّ -بسكون الميم- الخارفيّ- بمعجمة، وراء مكسورة، ثم فاء-، تابعيّ كبير، ولهم شيخ آخر في طبقته، يقال له: عبد الله بن مرّة الزَّوْفيّ- بزاي، وواو ساكنة، ثم فاء- مصريّ
(1)
، ويقال له: عبد الله بن أبي مُرّة، وهو بها أشهر. انتهى
(2)
.
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما أنه (قَالَ: أَخَذَ)؛ أي: شرع
(1)
قال في "تهذيب التهذيب": شَهِدَ فتح مصر.
(2)
"الفتح" 15/ 222، كتاب "القدر" رقم (6608).
(رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا يَنْهَانَا عَنِ النَّذْرِ)، وفي الرواية الثالثة:"نهى عن النذر"، وفي حديث أبي هريرة الآتي:"لا تنذروا" بصريح النهي.
قال الخطّابيّ رحمه الله: هذا غريبٌ من العلم، وهو أن يُنهَى عن الشيء أن يُفعَل، حتى إذا فُعل وقع واجبًا. انتهى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا النذر محلّه أن يقول: إن شَفَى الله مريضي، أو قَدِم غائبي فعليّ عتق رقبة، أو صدقة كذا، أو صوم كذا، ووجه هذا النهي هو أنه لَمّا وقف فعل هذه القربة على حصول غرض عاجل ظهر، أنه لم يتمحّض له نيّة التقرّب إلى الله تعالى بما صدر منه، بل سلك فيها مسلك المعاوضة، ألا ترى أنه لو لم يحصل غرضه لم يفعل؟ وهذه حال البخيل، فإنه لا يُخرج من ماله شيئًا إلا بعوض عاجل يربي على ما أخرج، وهذا المعنى هو الذي أشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم:"إنما يُستخرج به من البخيل ما لم يكن البخيل يُخرجه"، ثم يُضاف إلى هذا اعتقاد جاهل يظنّ أن النذر يوجب حصول ذلك الغرض، أو أن الله تعالى يفعل معه ذلك الغرض لأجل ذلك النذر، وإليهما الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم:"فإن النذر لا يردّ من قدر الله شيئًا"، وهاتان جهالتان، فالأولى تقارب الكفر، والثانية خطأٌ صُرَاح.
وإذا تقرّر هذا، فهل هذا النهي محمول على التحريم، أو على الكراهة؟ المعروف من مذاهب العلماء الكراهة، قال القرطبيّ: والذي يظهر لي حمله على التحريم في حقّ من يُخاف عليه ذلك الاعتقاد الفاسد، فيكون إقدامه على ذلك محرّمًا، والكراهة في حقّ من لم يعتقد ذلك، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو حسنٌ جدًّا، وسيأتي بيان ما قاله العلماء في معنى النهي عن النذر تفصيلًا في المسألة الرابعة، إن شاء الله تعالى.
(وَيَقُولُ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّهُ)؛ أي: النذر (لَا يَرُدُّ شَيْئًا)؛ أي: مما قدّره الله تعالى، وفي رواية سفيان التالية:"النذر لا يقدّم شيئًا، ولا يؤخّره"، وفي رواية شعبة الثالثة:"إنه لا يأت بخير"، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"فإن النذر لا يُغني من القدر شيئًا"، وفي حديثه الآخر: "إن النذر لا يُقرّب من ابن آدم شيئًا لم
(1)
"المفهم" 4/ 606 - 607.
يكن الله قدّره له، ولكن النذر يوافق القدر، فيُخرَج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يُخرِج".
وقال في "الفتح" عند قوله: "لا يأتي بخير"؛ أي: أنّ عقباه لا تُحمَد، وقد يتعذّر الوفاء به، وقد يكون معناه: لا يكون سببًا لخير لم يُقدّر، كما في الحديث، وبهذا الاحتمال الأخير صدّر ابن دقيق العيد كلامه، فقال: يَحْتَمِل أن تكون الباء للسببيّة؛ كأنه قال: لا يأتي بسبب خير في نفس الناذر، وطبعه في طلب القربة، والطاعة من غير عِوَض يحصل له، وإن كان يترتّب عليه خير، وهو فعل الطاعة التي نذرها، لكن سبب ذلك الخير حصول غرضه. انتهى.
(وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ) بالبناء للمجهول (مِنَ الشَّحِيحِ")، وفي الرواية التالية:"من البخيل"، وفي رواية ابن ماجه:"من اللئيم"، ومدار الجميع على منصور بن المعتمر، عن عبد الله بن مرّة، فالاختلاف في اللفظ المذكور من الرواة عن منصور، والمعاني متقاربة؛ لأن الشحّ أخصّ، واللؤم أعمّ، قال الراغب الأصفهانيّ: البخل إمساك الْمُقْتَنَيات عمّا لا يَحِقُّ حبسها، والشحّ بخلٌ مع حرص، واللؤم فعل ما يلام عليه. انتهى
(1)
.
وقال البيضاويّ: عادة الناس تعليق النذر على تحصيل منفعة، أو دفع مضرّة، فنُهي عنه؛ لأنه فعل البخلاء، إذ السخيّ إذا أراد أن يتقرّب بادر إليه، والبخيل لا تُطاوعه نفسه بإخراج شيء من يده إلا في مقابلة عوض، يستوفيه أوّلًا، فيلتزمه في مقابلة ما يحصُل له، وذلك لا يُغني من القدر شيئًا، فلا يسوق إليه خيرًا لم يُقدّر له، ولا يردّ عنه شرًّا قُضي عليه، لكن النذر قد يوافق القدر، فيُخرج من البخيل ما لولاه لم يكن ليُخرِجه، ذكره في "الفتح"
(2)
.
[فإن قيل]: هذا الحديث بظاهره يعارض ما أخرجه الترمذيّ من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا: "إن الصدقة لتطفئ غضب الربّ، وتدفع مِيتة السوء"، فكيف يُجمع بينهما؟.
[أُجيب]: بأنه يُجمع بينهما بأن الصدقة تكون سببًا لدفع مِيتة السوء، والأسباب مقدّرة؛ كالمسبّبات، وقد قال صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن الرُّقَى: هل تردّ من
(1)
راجع: "الفتح" 15/ 354.
(2)
"الفتح" 15/ 355.
قدر الله شيئًا؟ قال: "هي من قدر الله"، أخرجه أبو داود، والحاكم، ونحوه قول عمر رضي الله عنه:"نفرّ من قدر الله إلى قدر الله"، ومثل ذلك مشروعيّة الطبّ، والتداوي.
قال الجامع عفا الله عنه: حديث أنس رضي الله عنه المذكور: "إن الصدقة لتطفئ
…
إلخ"، وإن حسّنه الترمذي، ضعيف؛ لأن في سنده عبد الله بن عيسى الخزّار، وهو ضعيف، فلا يصلح لمعارضة حديث الباب، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقال ابن العربيّ رحمه الله: النذر شبيه بالدعاء؛ فإنه لا يردّ القدر، ولكنّه من القدر أيضًا، ومع ذلك نُهي عن النذر، ونُدب إلى الدعاء، والسبب فيه أن الدعاء عبادة عاجلة، ويظهر به التوجّه إلى الله، والتضرّع له، والخضوع، وهذا بخلاف النذر، فإن فيه تأخير العبادة إلى حين الحصول، وترك العمل إلى حين الضرورة. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 4229 و 4230 و 4231 و 4232، (1639)، و (البخاريّ) في "القدر"(6608) و"الأيمان والنذور"(6692 و 6693)، و (أبو داود) في "الأيمان والنذور"(3287)، و (الترمذيّ) في "جامعه"(4/ 112)، و (النسائيّ) في "الأيمان والنذور"(7/ 15 - 16) و"الكبرى"(3/ 133 - 134)، و (ابن ماجه) في "الكفّارات"(2122)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(8/ 443)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 94)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 61 و 86 و 412 و 463)، و (الدارميّ) في "سننه"(2340)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(1/ 362 - 363)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4375 و 4377)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 7 و 8 و 9)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 77)، والله تعالى أعلم.
(1)
راجع: "الفتح" 15/ 355 - 356.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان النهي عن النذر، وسيأتي أقوال أهل العلم في معنى هذا النهي في المسألة التالية، إن شاء الله تعالى.
2 -
(ومنها): ما قال ابن العربيّ رحمه الله: فيه حجة على وجوب الوفاء بما التزمه الناذر؛ لأن الحديث نصّ على ذلك بقوله: "يُستخرج به"، فإنه لو لم يلزمه إخراجه لَمَا تمّ المراد من وصفه بالبخل من صدور النذر عنه، إذ لو كان مخيّرًا في الوفاء لاستمرّ لبخله على عدم الإخراج.
3 -
(ومنها): أن فيه الردّ على القدريّة، حيث إن القدر دفع البخيل أن يخرج ماله، فلو كان يخلق أفعال نفسه لَمَا أخرج ذلك.
4 -
(ومنها): أن كلّ شيء يبتلله المكلّف من وجوه البرّ أفضل مما يتلزمه بالنذر، قاله الماورديّ رحمه الله.
5 -
(ومنها): أن فيه الحثّ على الإخلاص في عمل الخير.
6 -
(ومنها): أن فيه ذمّ البخل.
7 -
(ومنها): أن من اتّبع المأمورات، واجتنب المنهيّات لا يُعدّ بخيلًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في معنى النهي عن النذر: قال في "الفتح": وقد اختلف العلماء في هذا النهي، فمنهم: من حمله على ظاهره، ومنهم من تأوّله، قال ابن الأثير في "النهاية": تكرّر النهي عن النذر في الحديث، وهو تأكيد لأمره، وتحذيرٌ عن التهاون به بعد إيجابه، ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يُفعل لكان في ذلك إبطال حكمه، وإسقاط لزوم الوفاء به، إذ كان بالنهي يصير معصية، فلا يلزم، وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أنّ ذلك أمرٌ لا يجرّ لهم في العاجل نفعًا، ولا يَصرف عنهم ضرًّا، ولا يُغيّر قضاءً، فقال: لا تنذروا على أنكم تدركون بالنذر شيئًا لم يقدّر الله لكم، أو تَصرِفوا به عنكم ما قدّره عليكم، فإذا نذرتم، فاخرُجوا بالوفاء، فإن الذي نذرتموه لازم لكم. انتهى كلامه.
ونسبه بعض شُرّاح "المصابيح" للخطّابيّ، وأصله من كلام أبي عُبيد فيما نقله ابن المنذر في "كتابه الكبير"، فقال: كان أبو عبيد يقول: وجه النهي عن
النذر، والتشديد فيه ليس هو أن يكون مأثمًا، ولو كان كذلك ما أمر الله أن يُوفَى به، ولا حُمِد فاعله، ولكن وجهه عندي تعظيم شأن النذر، وتغليظ أمره؛ لئلا يتهاون به، فيفرّط في الوفاء به، ويترك القيام به، ثم استدلّ بما ورد من الحثّ على الوفاء به في الكتاب والسُّنَة، وإلى ذلك أشار المازريّ بقوله: ذهب بعض علمائنا إلى أن الغرض بهذا الحديث التحفّظ في النذر، والحضّ على الوفاء به، قال: وهذا عندي بعيد من ظاهر الحديث.
ويَحْتَمِل عندي أن يكون وجه الحديث أن الناذر يأتي بالقربة مستقلًا لها لَمّا صارت عليه ضربة لازب، وكلّ ملزوم، فإنه لا ينشط للفعل نشاط مطلق الاختيار.
ويَحْتَمِل أن يكون سببه أن الناذر لمّا لم ينذر القربة إلا بشرط أن يُفْعَل له ما يُريد؛ صار كالمعاوضة التي تقدح في نيّة المتقرّب.
قال: ويشير إلى هذا التأويل قوله: "إنه لا يأتي بخير"، وقوله:"إنه لا يقرّب من ابن آدم شيئًا لم يكن الله قدّره له"، وهذا كالنصّ على هذا التعليل. انتهى.
والاحتمال الأول يعُمّ أنواع النذر، والثاني يخصّ نوع الْمُجازات، وزاد القاضي عياض: ويقال: إن الإخبار بذلك وقع على سبيل الإعلام من أنه لا يغالِب القدرَ، ولا يأتي الخيرُ بسببه، والنهي عن اعتقاد خلاف ذلك خشية أن يقع ذلك في ظنّ بعض الجهلة، قال: ومُحصّل مذهب مالك أنه مباحٌ، إلا إذا كان مؤيّدًا لتكرّره عليه في أوقات، فقد يثقل عليه فعله، فيفعله بالتكلّف من غير طيب نفس، وغير خالص النيّة، فحينئذ يكره، قال: وهذا أحد محتملات قوله: "لا يأتي بخير"، كما تقدّم بيانه.
وقال الخطّابيّ في "الأعلام": هذا باب من العلم غريبٌ، وهو أن يُنهى عن فعل شيء حتى إذا فُعِل كان واجبًا، وقد أكثر الشافعيّةُ -ونقله أبو عليّ السنجيّ عن نصّ الشافعيّ- أن النذر مكروه؛ لثبوت النهي عنه، وكذا نُقل عن المالكيّة، وجزم به عنهم ابن دقيق العيد، وأشار ابن العربيّ إلى الخلاف عنهم، والجزم عن الشافعيّة بالكراهة، قال: واحتجّوا بأنه ليس طاعة محضة؛ لأنه لم يَقصد به خالص القربة، وإنما قصد أن ينفع نفسه، أو يدفع عنها ضررًا بما التزمه.
وجزم الحنابلة بالكراهة، وعندهم رواية في أنها كراهة تحريم، وتوقّف بعضهم في صحّتها.
وقال الترمذيّ بعد أن ترجم كراهية النذر، وأورد حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ثم قال: وفي الباب عن ابن عمر، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وغيرهم كرهوا النذر، وقال ابن المبارك: معنى الكراهة في النذر في الطاعة، وفي المعصية، فإن نذر الرجل في الطاعة، فوفى به، فله فيه أجرٌ، ويكره له النذر، قال ابن دقيق العيد: وفيه إشكالٌ على القواعد، فإنها تقتضي أن الوسيلة إلى الطاعة طاعة، كما أن الوسيلة إلى المعصية معصية، والنذر وسيلة إلى التزام القربة، فيلزم أن يكون قربة، إلا أن الحديث دلّ على الكراهة، ثم أشار إلى التفرقة بين نذر المجازات، فحمل النهي عليه، وبين نذر الابتداء، فهو قربةٌ محضة.
وقال ابن أبي الدم في "شرح الوسيط": القياس استحبابه، والمختار أنه خلاف الأولى، وليس بمكروه، كذا قال، ونوزع بأن خلاف الأولى ما اندرج في عموم نهي، والمكروه ما نُهي عنه بخصوصه، وقد ثبت النهي عن النذر بخصوصه، فيكون مكروهًا.
قال الحافظ: وإني لأتعجّب ممن انطلق لسانه بأنه ليس بمكروه مع ثبوت النهي الصريح عنه، فأقلّ درجاته أن يكون مكروهًا كراهة تنزيه.
وممن بنى على استحبابه النوويّ في "شرح المهذّب"، فقال: إن الأصحّ أن التلفّظ بالنذر في الصلاة لا يُبطلها؛ لأنها مناجاة الله، فأشبه الدعاء. انتهى.
وإذا ثبت النهي عن الشيء مطلقًا، فترك فعله داخل الصلاة أولى، فكيف يكون مستحبًّا؟ وأحسن ما يُحمل به عليه كلام هؤلاء نذر التبرّر المحض بأن يقول: لله عليّ أن أفعل كذا، أو لأفعلنّه على المجازاة
(1)
.
وقد حمل بعضهم النهي على من علم من حاله عدم القيام بما التزمه، حكاه العراقيّ في "شرح الترمذيّ".
(1)
هكذا نسخة "الفتح"، والظاهر أن الصواب: لا على المجازاة بزيادة "لا"، فليتأمل.
ولَمّا نقل ابن الرفعة عن أكثر الشافعيّة كراهة النذر، وعن القاضي حسين المتولّي بعده، والغزاليّ أنه مستحبّ؛ لأن الله أثنى على من وفى به، ولأنه وسيلة إلى القربة، فيكون قربة. قال: ويمكن أن يتوسّط، فيقال: الذي دلّ عليه الخبر على كراهته نذر المجازاة، وأما نذر التبرّر، فهو قربة محضة؛ لأن للناذر فيه غرضًا صحيحًا، وهو أن يثاب عليه ثواب الواجب، وهو فوق ثواب التطوّع. انتهى
(1)
.
وجزم القرطبيّ في "المفهم" بحمل ما ورد في الأحاديث من النهي على نذر المجازاة، فقال: هذا النذر محلّه أن يقول مثلًا: إن شفى الله مريضي، فعليّ صدقة كذا، ووجه هذه الكراهة أنه لَمّا وقّف فعل هذه القربة على حصول الغرض المذكور ظهر أنه لم يتمحّض له نيّة التقرّب إلى الله تعالى بما صدر منه، بل سلك فيها مسلك المعاوضة، ويوضّحه أنه لو لم يُشف مريضه لم يتصدّق بما علّقه على شفائه، وهذه حالة البخيل، فإنه لا يُخرج من ماله شيئًا إلا بعوض عاجل يزيد على ما أخرج غالبًا، وهذا المعنى هو الذي أشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم:"إنما يُستخرَج به من البخيل ما لم يكن البخيل يُخرجه"، قال: وقد ينضمّ إلى هذا اعتقاد جاهل يظنّ أن النذر يوجب حصول ذلك الغرض، أو أن الله تعالى يفعل معه ذلك الغرض لأجل ذلك النذر، وإليهما الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم:"فإن النذر لا يردّ من قدر الله شيئًا"، والحالة الأولى تقارب الكفر، والثانية خطأٌ صريح، قال الحافظ: بل تقرب من الكفر أيضًا.
ثم نقل القرطبيّ عن العلماء حمل النهي الوارد في الخبر على الكراهة، وقال: الذي يظهر لي حمله على التحريم في حقّ من يُخاف عليه ذلك الاعتقاد الفاسد، فيكون إقدامه على ذلك محرّمًا، والكراهة في حقّ من لم يعتقد ذلك. انتهى
(2)
.
قال الحافظ: وهو تفصيلٌ حسن، ويؤيّده قصّة ابن عمر راوي الحديث في النهي عن النذر، فإنها في نذر المجازاة.
(1)
"الفتح" 15/ 351 - 353، كتاب "الأيمان والنذور" رقم (6692).
(2)
"المفهم" 4/ 606 - 607.
وقد أخرج الطبريّ بسند صحيح عن قتادة في قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7]، قال: كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة والصيام، والزكاة، والحجّ، والعمرة، وما افترض الله عليهم، فسمّاهم الله أبرارًا، وهذا صريحٌ في أن الثناء وقع في غير نذر المجازاة. وقد يُشعر التعبير بالبخيل أن المنهيّ عنه من النذر ما فيه مالٌ، فيكون أخصّ من المجازاة، لكن قد يوصف بالبخل من تكاسل عن الطاعة، كما في الحديث المشهور:"البخيل من ذُكرتُ عنده، فلم يُصلّ عليّ"، أخرجه النسائيّ، وصححه ابن حبّان، أشار إلى ذلك الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ".
ثم نقل القرطبيّ الاتفاق على وجوب الوفاء بنذر المجازاة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله تعالي، فليُطعه"، ولم يفرّق بين المعلّق وغيره. انتهى.
قال الحافظ: والاتفاق الذي ذكره مسلّمٌ، لكن في الاستدلال بالحديث المذكور لوجوب الوفاء بالنذر المعلّق نظر. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي لا نظر في ذلك، بل ما قاله القرطبيّ واضحٌ، حيث إن المعلّق في جملة الأمر بالوفاء بالنذر، فيكون واجبًا، فتأمله، والله تعالى أعلم.
ثم قال القرطبيّ: ومما يلحق بهذا النهي في الكراهة: النذر على وجه التبرّم، والتحرّج، فالأول: كمن استثقل عبدًا لقلّة منفعته، وكثرة مؤنته، فينذر عتقه تخلّصًا منه، وإبعادًا له، وإنما يكره ذلك لعدم تمحّض نيّة القربة.
والثاني: أن يقصد التضييق على نفسه، والحمل عليها، بأن ينذر كثيرًا من الصوم، أو من الصلاة، أو غيرهما مما يؤدّي إلى الحرج والمشقّة مع القدرة عليه، فأما لو التزم بالنذر ما لا يُطيقه لكان ذلك محرّمًا، فأما النذر الخارج عما تقدّم، فما كان منه غير معلّق على شيء، وكان طاعة جاز الإقدام عليه، ولزم الوفاء به، وأما ما كان منه على جهة الشكر، فهو مندوبٌ إليه، كمن شُفي مريضه، فقال: لله عليّ أن أصوم كذا، أو أتصدّق بكذا شكرًا لله تعالى.
وقد روي عن مالك كراهة النذر مطلقًا، فيمكن حمله على الأنواع التي بيّنّا كراهتها، ويُمكن حمله على جميع أنواعه، لكن من حيث إنه أوجب على نفسه ما يخاف عليه التفريط فيه، فيتعرّض لِلَوم الشرع، وعقوبته، كما قد كُره
الدخول في الاعتكاف، وعلى هذا فتكون هذه الكراهة من باب تسمية ترك الأولى مكروهًا، ووجه هذا واضحٌ، وهو أن فعل القرب من غير التزام خيرٌ محضٌ، عرِيّ عن خوف العقاب، بخلاف الملتزم لها، فإنه يُخاف عليه ذلك فيها، وقد شهد لهذا ذمّ من قصّر فيما التزم في قوله تعالى:{فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} الآية [الحديد: 27]، ولا إشكال في أن النذر من جملة العقود، والعهود المأمور بالوفاء بها، وأن الوفاء بذلك من أعظم القرَب الْمُثْنَى عليها، وكفى بذلك مدحًا، وتعزيزًا قوله تعالى:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)} [الإنسان: 7]. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما تقدم عن القرطبي من حمل النهي عن النذر على نذر المجازاة؛ كأن يقول: إن شفى الله مريضي فعلي نذر أن أتصدق بكذا هو الأرجح؛ لأنَّ آخر الحديث يدلّ عليه، حيث قال:"إنه لا يرد شيئًا"، وقال أيضًا:"لا يأتي النذر على ابن آدم شيئًا لم أقدره عليه"، وقال أيضًا:"النذر لا يقدم شيئًا ولا يؤخره"، فكل هذه النصوص تدُلّ دلالة واضحة على أنَّ النذر المنهيّ عنه هو الذي كان في مقابلة حصول شيء، أو دفع شيء، وأما ما خلا عن المجازاة فهو حسنٌ، ولا كراهة فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:
[4230]
(
…
) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَي، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَكِيم، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "النَّذْرُ لَا يُقَدِّمُ شَيْئًا، وَلَا يُؤَخِّرُهُ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى) قيل: هو محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، ولم أجد تحقيق ذلك، والله أعلم.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ) الكنانيّ، أبو عبد الله الْعَدنيّ، صدوقٌ [9].
(1)
"المفهم" 4/ 607 - 608.
رَوَى عن عَطّاف بن خالد المخزوميّ، وعمر بن صُهبان، ومقاتل بن سليمان، وجدّه يزيد بن مملك العدنيّ، وعبد الله بن عمر العمري، وزمعة بن صالح، ومالك، والثوريّ، ومسلم بن خالد الزنجيّ، والحكم بن أبان العدنيّ، وغيرهم.
وروى عنه إسحاق بن راهويه، وعبد الله بن منير، وأحمد بن عبد الله بن يوسف العرعريّ، ويزيد بن سنان البصريّ، وسلمة بن شبيب وعبد بن حميد، وغيرهم.
قال الآجريّ: عن أبي داود: لا بأس به، وقال: سألته عنه والفريابيّ، فقال: الفريابيّ أعلي، وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: صالح الحديث، وكنت عزمت على الخروج إليه، فخالفني رفيقي، وركب السفينة، ولم ينتظرني، فتركت الخروج إلى صنعاء، وخرجت إلى مصر، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مستقيم الحديث، ومات بعد عشرين ومائتين، أو فيها.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث، وكذا له عند البخاريّ حديث واحد في "الزكاة".
[تنبيه]: لَمْ يرمز في ترجمة يزيد بن أبي حكيم هذا لمسلم في "التقريب"، ولا في "التهذيبين"، مع أنه أخرج له هذا الحديث هنا، فليُتنبّه.
3 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، أبو عبد لله الكوفي، من رؤوس [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ) العدويّ مولاهم، أبو عبد الرَّحمن المدنيّ، ثقةٌ [4](ت 127)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.
و"ابن عمر رضي الله عنهما" ذُكر قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبله، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4231]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّي، وَابْنُ بَشَارٍ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى- حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَر، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنِ النَّذْرِ، وَقَالَ:"إِنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل بابين.
2 -
(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد المعروف ببندار، تقدّم قريبًا.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغُندر، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام المشهور، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الباب، ولله الحمد والمنّة، وله الفضل والنعمة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:
[4232]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا مُفَضَّلٌ (ع) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَثي، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، كِلَاهُمَا عَنْ مَنْصُورٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ جَرِيرٍ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِع) تقدّم قبل باب.
2 -
(يَحْيَى بْنُ آدَمَ) بن سليمان الأمويّ مولاهم، أبو زكرياء الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ، من كبار [9](ت 203)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
3 -
(مُفَضَّلُ) بن مُهَلْهَل السعديّ، أبو عبد الرَّحمن الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ نبيلٌ عابدٌ [7](ت 167)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
4 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن مهديّ، تقدّم قبل باب.
والباقون ذُكروا قبله، و"سفيان" هو: الثوريّ.
[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ، عن منصور، ساقها الإمام أحمد في "مسنده"، فقال:
(5275)
- ثنا عبد الرَّحمن، عن سُفْيَانَ، عن مَنْصُورٍ، عن عبد اللهِ بن
مُرَّةَ، عَنِ ابن عُمَرَ، قال: نهى رَسَولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّذْرِ، وقال:"إنه لَا يَرُدُّ مِنَ الْقَدَرِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ". انتهى
(1)
.
وأما رواية مُفَضَّل بن مُهَلْهَل، عن منصور، فلم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4233]
(1640) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ -يَعْنِي: الدَّرَاوَرْدِيَّ- عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَنْذُرُوا، فَإِنَّ النَّذْرَ لَا يُغْنِي مِنَ الْقَدَرِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ فِيَ الْبَخِيلِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْن سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب.
2 -
(عَبْدُ العَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ) ابن محمد، الجهني مولاهم المدني، صدوق [8] تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
3 -
(الْعَلَاءُ) بن عبد الرَّحمن المدنيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
4 -
(أَبُوهُ) عبد الرَّحمن بن يعقوب المدنيّ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4، وشرح الحديث يُعلم مما مضى.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 4233 و 4234 و 4235 و 4236](1640)، و (البخاريّ) في "صحيحه"(6609 و 6694)، و (أبو داود) في "الأيمان والنذور"(2288)، و (الترمذيّ) في "جامعه"(4/ 112)، و (النسائيّ) في "الأيمان والنذور"(7/ 16) و"الكبرى"(3/ 134)، و (ابن ماجه) في "الكفّارات"(2123)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1112)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 242 و 314)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(932)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4376)،
(1)
"مسند أحمد بن حنبل" 2/ 61.
و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(1/ 364)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 304)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 8 و 9)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 77)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:
[4234]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّي، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ الْعَلَاءَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ نَهَى عَنِ النَّذْرِ، وَقَالَ: "إِنَّهُ لَا يَرُدُّ مِنَ الْقَدَرِ
(1)
، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، وكذلك شرح الحديث، وهو متَّفقٌ عليه، وقد مضى تخريجه في الحديث الماضي، وبالله تعالى التوفيق.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4235]
(
…
) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ- عَنْ عَمْرٍو -وَهْوَ ابْنُ أَبِي عَمْرٍو- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِن النَّذْرَ لَا يُقَرِّبُ مِنِ ابْنِ آدَمَ شَيْئًا لَمْ يَكُنِ اللهُ قَدَّرَهُ لَهُ، وَلَكِنِ النَّذْرُ
(2)
يُوَافِقُ الْقَدَرَ، فَيُخْرَجُ بِذَلِكَ مِنَ الْبَخِيلِ، مَا لَمْ يَكُنِ الْبَخِيلُ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أيُّوبَ) المقابريّ البغداديّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) المروزيّ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ المدنيّ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
4 -
(عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو) ميسرة مولى المطّلب، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ربّما وَهِمَ [5] مات بعد (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.
(1)
وفي نسخة: "من القدر شيئًا".
(2)
وفي نسخة: "وَلَكِنَّ النَّذْرَ".
5 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجُ) ابن هُرْمُز، مولى ربيعة بن الحارث، أبو داود المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.
والباقيان ذُكرا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4236]
(
…
) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ - يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيَّ - وَعَبْدُ العَزِيزِ - يَعْنِي: الدَّرَاوَرْدِيَّ - كِلَاهُمَا عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ) المدنيّ، نزيل الإسكندريّة، ثقة [8](ت 181)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 35/ 245.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: رواية عبد العزيز الدراورديّ، عن عمرو بن أبي عمرو ساقها أبو عوانة في "مسنده"، فقال:
(5838)
- حدّثنا أبو أمية، قثنا
(1)
يحيى بن صالح (ع) وحدّثنا الوكيعيّ، قثنا خالد بن خِدَاش، قالا: ثنا عبد العزيز بن محمد، قثنا عمرو بن أبي عمرو، عن عبد الرَّحمن الأعرج، عن أبي هريرة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن النذر لا يُقَرِّب من بني آدم شيئًا لَمْ يكن الله قدَّره له، ولكن النذر يوافق القَدَرَ، فيُخْرِج من البخيل ما لَمْ يكن البخيل أن يُخْرِجه". انتهى
(2)
.
وأما رواية يعقوب بن عبد الرَّحمن القاريّ، عن عمرو بن أبي عمرو، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
(1)
قوله: "قثنا" في المواضع الثلاثة مختصر من "قال: حدّثنا"، فتنبّه.
(2)
"مسند أبي عوانة" 4/ 8.
(3) - (بَابٌ لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4237]
(1641) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ -وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ- قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: كَانَتْ ثَقِيفُ حُلَفَاءَ لِبَني عُقَيْلٍ، فَأَسَرَتْ ثَقِيفُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَسَرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنْ بَنِي عُقَيْلٍ، وَأَصَابُوا مَعَهُ الْعَضْبَاءَ، فَأَتَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهْوَ فِي الْوَثَاقِ، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَأَتَاهُ، فَقَالَ: "مَا شَأْنُكَ؟ "، فَقَالَ: بِمَ أَخَذْتَنِي، وَبِمَ أَخَذْتَ سَابِقَةَ الْحَاجِّ؟ فَقَالَ إِعْظَامًا لِذَلِكَ: "أَخَذْتُكَ بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِكَ ثَقِيفَ"، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ، فَنَادَاهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَحِيمًا رَقِيقًا، فَرَجَعَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: "مَا شَأْنُكَ؟ "، قَالَ: إِنِّي مُسْلِمٌ، قَالَ: "لَوْ قُلْتَهَا وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَكَ أَفْلَحْتَ كُلَّ الْفَلَاحِ"، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَنَادَاهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ، فَأَتَاهُ، فَقَالَ: "مَا شَأْنُكَ؟ "، قَالَ: إِنِّي جَائِعٌ فَأَطْعِمْنِي، وَظَمْآنُ فَأَسْقِنِي، قَالَ: "هَذِهِ حَاجَتُكَ"، فَفُدِي بِالرَّجُلَيْنِ، -قَالَ: - وَأُسِرَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ، وَأُصِيبَتِ الْعَضْبَاءُ، فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْوَثَاقِ، وَكَانَ الْقَوْمُ يُرِيحُونَ نَعَمَهُمْ بَيْنَ يَدَي بُيُوتهِمْ، فَانْفَلَتَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنَ الْوَثَاقِ، فَأَتَتِ الإِبِلَ، فَجَعَلَتْ إِذَا دَنَتْ مِنَ الْبَعِيرِ رَغَا، فَتَتْرُكُهُ، حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى الْعَضْبَاءِ، فَلَمْ تَرْغُ، قَالَ: وَنَاقَةٌ مُنَوَّقَةٌ، فَقَعَدَتْ فِي عَجُزِهَا، ثُمَّ زَجَرَتْهَا، فَانْطَلَقَتْ، وَنَذِرُوا بِهَا، فَطَلَبُوهَا، فَأَعْجَزَتْهُمْ -قَالَ: - وَنَذَرَتْ لِلَّهِ إِنْ نَجَّاهَا اللهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، فَلَمَّا قَدِمَتِ الْمَدِينَةَ، رَآهَا النَّاسُ، فَقَالُوا: الْعَضْبَاءُ نَاقَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: إِنَّهَا نَذَرَتْ إِنْ نَجَّاهَا اللهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: "سُبْحَانَ اللهِ بِئْسَمَا جَزَتْهَا، نَذَرَتْ لِلَّهِ إِنْ نَجَّاهَا اللهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ"، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حُجْرٍ: "لَا نَذْرَ في مَعْصِيَةِ اللهِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن عليّة، تقدّم قبل بابين.
2 -
(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة السَّخْتيانيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(أَبُو قِلَابَةَ) عبد الله بن زيد بن عمرو، أو عامر الْجَرْميّ البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، يقال: فيه نصبٌ يسير [3](ت 104) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.
4 -
(أَبُو الْمُهَلَّبِ)
(1)
الْجَرْميّ البصري، عمّ أبي قلابة، اسمه عمرو، أو عبد الرَّحمن بن معاوية، وقيل غير ذلك، ثقةٌ [2](بخ م 4) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 19/ 1296.
5 -
(عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنِ) بن عُبيد بن خَلَف الْخُزاعيّ، أبو نُجيد الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، أسلم عام خيبر، وكان فاضلًا، وقضى بالكوفة، ومات سنة (52) بالبصرة (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 479.
والباقيان تقدما في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه مسلسل بالبصريين من إسماعيل، وشيخاه بغداديان، فابن حجر، وإن كان مروزيًّا إلَّا أنه سكن بغداد، وفيه ثلاثة من ثقات التابعين البصريين روى بعضهم عن بعض: أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلّب، ورواية الراوي عن عمّه، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: كَانَتْ ثَقِيفُ) - بفتح الثاء المثلّثة، وكسر القاف، بعدها مثنّاة تحتيّة، ثم فاء - أبو قبيلة، قال ابن الأثير رحمه الله: هو: ثقيف بن منبّه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خَصَفَة بن قيس بن عَيْلان، وقيل: إن اسم ثقيف: قسي، نزلوا الطائف، وانتشروا في البلاد في الإسلام. انتهى
(2)
، وهو غير منصرف؛ لكونه عَلَمًا على القبيلة. (حُلَفَاءَ لِبَنِي
(1)
قال النوويّ رحمه الله: هو بضم الميم، وفتح الهاء، واللام المشدّدة، اسمه: عبد الرَّحمن بن عمرو، وقيل: معاوية بن عمرو، وقيل: عمرو بن معاوية، وقيل: النضر بن عمرو الْجَرميّ البصريّ، والله أعلم. انتهى.
(2)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 240.
عُقَيْلٍ) بضمّ أوله، بصيغة التصغير، وبنو عُقيل قبيلة من بني عُقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صَعْصَعة بن معاوية بن بكر، قاله في "اللباب"
(1)
. (فَأَسَرَتْ ثَقِيفُ رَجُلَيْنِ)؛ أي: أخذتهما أسيرين، قال المجد رحمه الله: الأسير: الأَخِيذ، والمقيّد، والمسجون، جمعه أُسراء، وأُسَاري، وأَسَارَي، وأَسْرى. انتهى
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: أَسَرْتُهُ أَسْرًا، من باب ضرب، فهو أَسِيرٌ، وامرأة أَسِيرٌ أيضًا؛ لأنَّ فعيلًا بمعنى مفعول ما دام جاريًا على الاسم يستوي فيه المذكر والمؤنث، فإن لَمْ يُذْكَر الموصوف أُلْحِقت العلامة: وقيل: قتلت الأَسِيرَة، كما يقال: رأيت القتيلة، وجمع الأَسِير: أَسْرَي، وأَسَارَي، بالضم، مثل سَكْرَى وسُكَاري، وأَسَرَهُ الله أَسْرًا: خَلَقَه خَلْقًا حسنًا، قال تعالى:{وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} [الإنسان: 28]؛ أي: قوّينا خلقهم، وآسَرْتُ الرجلَ، من باب أكرم لغة في الثلاثيّ، وأُسْرَة الرجل وزانُ غُرْفَة: رَهْطُهُ، والإِسَارُ، مثل كتاب: القِدّ، ويُطلَق على الأَسِير، وحللتُ إِسَارَهُ: أي: فككته، وخُذْه بِأَسْرِه؛ أي: جميعه. انتهى
(3)
.
ثم إن الرجلين، وكذا الرجل الآتي لا تعرف أسماؤهم، كما قاله صاحب "التنبيه"
(4)
.
وقوله: (مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بيان لـ "رجلين"(وَأَسَرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا) لا يعرف اسمه، كما أسلفته آنفًا (مِنْ بَنِي عُقَيْلٍ) مصغّرًا (وَأَصَابُوا مَعَهُ الْعَضْبَاءَ) -بفتح العين المهملة، وسكون الضاد المعجمَة، بعدها موحّدة، بالمدّ- وأصله هي الناقة المشقوقة الأذن، ولكن ناقة النبيّ صلى الله عليه وسلم ليست مشقوقة الأذن، وإنما لُقّبت بذلك؛ لنجابتها، قال الفيّوميّ رحمه الله: وعَضِبتِ الشاةُ والناقة عَضَبًا، من باب تَعِبَ: إذا شُقّ أُذنها، فالذكر أعضبُ، والأنثى عضباءُ، مثلُ أحمر، وحمراء، ويُعدّى بالألف، فيقال: أعضبتها، وكانت ناقة النبيّ صلى الله عليه وسلم تُلَقّب العَضْباء؛ لنجابتها، لا لشقّ أُذنها. انتهى
(5)
.
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 350.
(2)
"القاموس المحيط" ص 46.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 14.
(4)
راجع: "تنبيه المعلم" ص 276 - 277.
(5)
"المصباح المنير" 2/ 414.
وقال ابن الأثير رحمه الله: كان اسم ناقة النبيّ صلى الله عليه وسلم الْعَضْباءَ، وهو عَلَم لها منقول من قولهم: ناقةٌ عضباءُ؛ أي: مشقوقة الأذن، ولم تكن مشقوقة الأذن، وقال بعضهم: إنها كانت مشقوقة الأذن، والأول أكثر. انتهى
(1)
.
(فَأَتَى عَلَيْهِ)؛ أي: على ذلك الرجل الأسير (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهْوَ فِي الْوَثَاقِ) جملة حاليّة من الضمير المجرور، و"الوثاق" -بفتح الواو وكسرها-: القيد، والحبل، ونحوه، ويقال: وَثُق الشيء بالضمّ وَثَاقَةً: قَوِيَ وثبت، فهو وثيقٌ ثابتٌ مُحكمٌ، وأوثقته: جعلته وَثيقًا
(2)
.
(قَالَ) الرجل (يَا مُحَمَّدُ، فَأَتَاهُ)؛ أي: أتى النبي صلى الله عليه وسلم الرجلَ (فَقَالَ: "مَا شَأْنُكَ؟ ")؛ أي: ما حالك حيث ناديتني (فَقَالَ: بِمَ أَخَذْتَنِي)؛ أي: بأيّ سبب أسرني أصحابك؟ (وَبِمَ أَخَذْتَ سَابِقَةَ الْحَاجِّ)؛ أي: الناقة التي تسبق نُوق الحجاج رحمه الله، وكانت العضباء المذكورة معروفة بذلك.
قال القرطبيّ رحمه الله: قول الرجل: "يا محمد بم أخذتني
…
إلخ" هو استفهام عن السبب الذي أوجب أخذه، وأخذ ناقته، وكأنَّه كان يعتقد: أن له ولقبيلته عهدًا من النبيّ صلى الله عليه وسلم "، فأجابَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بذكر السبب إعظامًا لحق الوفاء، وإبعادًا لنسبة الغدر إليه، فقال:"أخذتُك بجريرة حلفائِك ثقيفٍ"؛ أي: بما فعلته ثقيفٌ من الجناية التي نقضوا بها ما كانَ بينَهم وبينَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد
(3)
، وكانت بنو عُقَيل دخلوا معهم في ذلك، فإمَّا بحكم الشرط، وفيه بُعْد، والظاهر أنَّهم دخلوا معهم بحكم الحِلْف الذي كان بينَهم، ولذلك ذكر حلفهم في الحديث، ولَمّا سَمِع الرَّجلُ ذلك لَمْ يجدْ جوابًا، فسكتَ.
(1)
"النهاية في غريب الحديث والأثر" 3/ 251.
(2)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 647.
(3)
كتب في هامش "المفهم" هنا 4/ 610 ما نضه: فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15] قيل: لَمَّا نقض حلفاؤهم رضوا بذلك، والراضي كالفاعل، وجواب ثانٍ: أي: أنهم كفّار لا عهد لهم، والكافر الذي لا عهد له مباح ماله ودمه، فيكون معنى قوله:"بجريرة حلفائك": أي: بمثل دينهم من الكفر، وجواب ثالث: أن يقدَّر في الكلام حذف، معناه: أخذناك لنُفادي بك من حلفائك. انتهى.
وعَنَى بسابقة الحاجِّ: ناقته العضباء، فإنها كانت لا تُسبق. وقد كانت معروفة بذلك، حتى جاء أعرابيٌّ بقَعودٍ له فسبقَها، فَعَظُمَ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: سُبقت العضباء. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إن حقًّا على اللهِ ألا يُرفعَ شيء من الدُّنيا إلَّا وضعه"
(1)
. انتهى
(2)
.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (إِعْظَامًا لِذَلِكَ)؛ أي: تكريمًا لسؤاله، وقال القرطبيّ رحمه الله: إعظامًا لحقّ الوفاء، وإبعادًا لنسبة الغدر إليه. انتهى. ("أَخَذْتُكَ بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِكَ)؛ أي: بجنايتهم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: الْحُلَفاء: جمع حَلِيف؛ كظرفاء: جمع ظريف، والحليف: اسم فاعل من حَلَف، عُدِل عن حالف للمبالغة، وقد كَثُر حتى صار كالأسماء، والمحالفة، والتحالف: التعاهد، والتعاقد على التناصر والتعاضد.
والأسر: الأخذ، وأصله: الشَّدُّ والرَّبط، قاله القتبي.
والعضباء: اسم للناقة. وهي التي صارت للنبيّ إما بحكم سهمه الخاصّ به من المغنم المسمَّى بـ "الصَّفِيِّ"، وإمَّا بالمعاوضة الصحيحة، وهي المسمَّاة بالْجَدْعاء، والْقَصْواء، والْخَرْماء في روايات أخر، وقد ذكرنا الخلاف فيها فيما تقدَّم.
والعَضْب، والقصو، والجدع، والخرم، كلها بمعنى القطع، وسُمِّيت هذه الناقة بتلك الأسماء؛ لأنَّها كان في أذنها قطع، وسميت به، فصدقت عليها تلك الأسماء كلها، وعلى هذا، فأصول هذه الأسماء تكون صفات لها، ثم كثرت فاستعملت استعمال الأسماء. انتهى
(3)
.
وقد سبق في "كتاب الحجِّ" بيان الخلاف: هل العضباء، والقصواء، والجدعاء ثلاث، أم واحدة؟ فراجعه تستفد، وبالله -عَزَّوَجَلَّ- التوفيق.
(1)
أخرجه البخاريّ في "صحيحه" من طريق حميد الطويل، عن أنس رضي الله عنه، قال: كانت ناقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تُسَمَّى العضباء، وكانت لا تسبق، فجاء أعرابي على قَعُود له، فسبقها، فاشتد ذلك على المسلمين، وقالوا: سُبِقت العضباء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن حقًّا على الله أن لا يَرْفَعَ شيئًا من الدنيا إلَّا وضعه". انتهى.
(2)
"المفهم" 4/ 609 - 610.
(3)
"المفهم" 4/ 609.
وقوله: (ثَقِيفَ") بدل من "حلفائك".
(ثُمَّ انْصَرَفَ)؛ أي: رجع صلى الله عليه وسلم (عَنْهُ)؛ أي: عن الرجل (فَنَادَاهُ)؛ أي: نادى الرجل النبيّ صلى الله عليه وسلم مرّة أخرى (فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا النِّداء من الرَّجل على جهة الاستلطاف، والاستعطاف، ولذلك رقَّ له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فرجعَ له، وقال له:"ما شأنك؟ " -رحمةً ورفقًا- على مقتضى خُلُقه الكريم، ولذلك قال الرَّاوي:(وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَحِيمًا رَقِيقًا)؛ أي: رقيق القلب، شديد الرأفة على أمته، كما وصفه تعالى بقوله:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]، (فَرَجَعَ) صلى الله عليه وسلم إليه، (فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:"مَا شَأْنُكَ؟ "، قَالَ: إِنِّي مُسْلِمٌ) قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهر هذا اللفظ أنَّه قد صار مسلمًا بدخوله في دين الإسلام، وظاهر قوله صلى الله عليه وسلم أنه لَمْ يَقْبَل ذلك منه؛ لمّا أجابه بقوله:"لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كلَّ الفلاح"، وحينئذ يلزم منه إشكال عظيم؛ فإن ظاهره أنه لَمْ يقبل إسلامه؛ لأنه أسيرٌ مغلوبٌ عليه، لا يملك نفسه، وعلى هذا: فلا يصح إسلام الأسير في حال كونه أسيرًا، وصحة إسلامه معلوم من الشريعة، ولا يُخْتَلف فيه، غير أن إسلامه لا يُزيل ملك مالكه بوجه، وهو أيضًا معلوم من الشرع.
ولمّا ظهر هذا الاشكال اختلفوا في الانفصال عنه، فقال بعض العلماء: يمكن أن يكون عَلِمَ النبيّ صلى الله عليه وسلم من حاله أنه لَمْ يَصْدُق في ذلك بالوحي، ولذلك لما سأله في المرَّة الثانية، فقال:"إني جائع فأطعمني، وظمآن فاسقني"، فقال:"هذه حاجتك".
وقال بعضهم: بل إسلامه صحيح، وليس فيه ما يدلّ على أنَّه ردَّ إسلامه، فأمَّا قوله:"لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كلَّ الفلاح"؛ أي: لو قلت كلمة الإسلام قبل أن تؤسر لبقيت حرًّا من أحرار المسلمين، لك ما لهم من الحرية في الدّنيا، وثواب الجَنَّة في الآخرة، وأمَّا إذا قلتها وأنت أسير، فإن حكم الرقّ لا يزول عنك بإسلامك.
[فإن قيل]: فلو كان مسلمًا فكيف يفادى به من الكفار رجلان مسلمان؟!.
[فالجواب]: أنَّه ليس في الحديث نصٌّ على أنَّه رجع إلى بلاده بلاد الكفر، فيمكن أن يُقال: إنما فُدِي بالرَّجلين من الرِّق، فأُعتق منه بسبب ذلك، وبقي مع المسلمين حرًّا من الأحرار، وليس في قوله:"هذه حاجتك" ما يدلُّ على أن إسلامه ليس بصحيح، كما ظنه القائل الأول، فإنما معتى ذلك: هذه حاجتك حاضرة مُتيسِّرة.
قال القرطبيّ رحمه الله: وهذا الوجه الثاني أولى؛ لأنه لا نصّ في الحديث يردَّه، ولا قاعدة شرعية تبطله، والله أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن الوجه الأول هو الأولي، والأرجح، فالظاهر أنه صلى الله عليه وسلم عَلِم أنه ليس صادقًا في دعواه الإسلام؛ فهذا هو الذي يدلّ عليه سياق الحديث دلالة واضحة، فقوله:"هذه حاجتك" ظاهر في أن ما سبق له من دعوى الإسلام إنما هو لهذا الغرض، وكذا قوله:"ففُدي بالرجلين" ظاهر في أنه على دينه، فلذا دُفع إلى قومه فداءً لفكّ الرجلين، فتأمله حقّ التأمل، والله تعالى أعلم.
ثم وجدت الإمام ابن حبّان رحمه الله قد أوضح هذا المعنى في "صحيحه" حيث قال -بعد إخراج الحديث-: قول الأسير: إني مسلم، وترك النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك منه، كان لأنه صلى الله عليه وسلم عَلِمَ منه بإعلام الله -جَلّ وعَزّ- إياه أنه كاذب في قوله، فلم يَقْبَل ذلك منه في أسره، كما كان يَقْبَل مثله من مثله، إذا لَمْ يكن أسيرًا، فأما اليوم فقد انقطع الوحي، فإذا قال الحربيّ: إني مسلم قُبِل ذلك منه، ورُفِع عنه السيف، سواء كان أسيرًا أو محاربًا. انتهى كلام ابن حبّان رحمه الله
(2)
، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم للأسير حين قال: إني مسلم: "لو قلتها، وأنت تملك أمرك أفلحت كلّ الفلاح" إلى قوله: "ففُدي بالرجلين": معناه: لو قلت كلمة الإسلام قبل الأسر حين كنت مالك أمرك أفلحت كلَّ الفلاح؛ لأنه لا يجوز أسرك لو أسلمت قبل الأسر، فكنت فُزْتَ بالإسلام، وبالسلامة من الأسر، ومن اغتنام مالك، وأما إذا أسلمت بعد الأسر، فيسقط الخيار في
(1)
"المفهم" 4/ 611 - 612.
(2)
"صحيح ابن حبان" 11/ 198.
قتلك، ويبقى الخيار بين الاسترقاق والمنّ والفداء، وفي هذا جواز المفاداة، وأن إسلام الأسير لا يسقط حقّ الغانمين منه، بخلاف ما لو أسلم قبل الأسر، وليس في هذا الحديث أنه حين أسلم، وفادى به رجع إلى دار الكفر، ولو ثبت رجوعه إلى دارهم، وهو قادر على إظهار دينه؛ لقوة شوكة عشيرته، أو نحو ذلك لَمْ يحرُم ذلك، فلا إشكال في الحديث، وقد استشكله المازريّ، وقال: كيف يُرَدّ المسلم إلى دار الكفر؟ وهذا الإشكال باطلٌ، مردود بما ذكرته. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد عرفت ما ترجّح لديّ في المسألة فيما ذكرته آنفًا، فتأمله حقّ التأمل، والله تعالى وليّ التوفيق.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("لَوْ قُلْتَهَا")؛ أي: كلمة الإسلام (وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَكَ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل (أفلَحْتَ كُلَّ الْفَلَاحِ") بنصب "كلَّ" على أنه مفعول مطلق على النيابة، كما قال في "الخلاصة":
وَقَدْ يَنُوبُ عَنْهُ مَا عَلَيْهِ دَلّْ
…
كَـ "جِدَّ كُلَّ الْجِدِّ"، و"افْرَحِ الْجَذَلْ"
(ثُمَّ انْصَرَفَ)؛ أي: رجع صلى الله عليه وسلم عن الرجل (فَنَادَاهُ) الرجلُ (فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ، فَأَتَاهُ) صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ: "مَا شَأْنُكَ؟ "، قَالَ: إِنِّي جَائِعٌ فَأَطْعِمْنِي، وَظَمْآنُ فَأَسْقِنِي، قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("هَذِهِ حَاجَتُكَ")؛ أي: حاجتك المهمّة التي ادّعيت بسببها الإسلام، وكرّرت من أجلها مناداتي (فَفُدِي بِالرَّجُلَيْنِ) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: أُعطي فداء للصحابيين اللذين أسرتهما ثقيف، كما تقدّم.
قال المجد رحمه الله: فَدَاهُ يَفْديه فِدَاءً، وفِدًى، ويُفْتَحُ، وافتَدَى به، وفاداه: أعطى شيئًا فأنقذه، والفِدَاء ككِسَاء، وكَعَلَي، وإِلَي، وكَفِتْيَةٍ: ذلك المعطى. انتهى
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: فَدَاهُ من الأسر يَفْدِيهِ فِدًى مقصورٌ، وتُفْتَح الفاء، وتُكْسَر: إذا استنقذه بمال، واسم ذلك المال: الفِدْيَةُ، وهو عِوَضُ الأسير، وجمعها: فِدًى، وفِدْيَاتٌ، مثل سِدْرَة، وسِدَر، وسِدْرات، وفَادَيْتُهُ مُفَادَاةً، وفِدَاءً، مثل قاتلته مقاتلةً، وقتالًا: أطلقته، وأخذت فِدْيَتَهُ، وقال الْمُبَرِّد:
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 100.
(2)
"القاموس المحيط" 1/ 1702.
المُفَادَاةُ: أن تدفع رجلًا، وتأخذ رجلًا، والفِدَى: أن تشتريه، وقيل: هما واحد، وتَفَادَى القوم: اتَّقَى بعضُهم ببعض، كأن كلّ واحد يجعل صاحبه فِدَاهُ، وفَدَتِ المرأةُ نفسَها من زوجها تَفْدِي، وافْتَدَتْ: أعطته مالًا، حتى تخلصت منه بالطلاق. انتهى
(1)
.
(قَالَ) عمران رضي الله عنه: (وَأُسِرَتِ) بالبناء للمفعول، والنائب عن الفاعل، قوله:(امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ) ذكر السهيليّ في "الروض الأُنُف" أن اسمها ليلي، وقال أبو داود بعد إخراج الحديث: هذه المرأة امرأة أبي ذرّ
(2)
. انتهى
(3)
.
وقصّة أسرها ذكرها ابن هشام رحمه الله في "السيرة"، فقال: ثم قدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فلم يُقم بها إلَّا ليالي قلائل، حتى أغار عُيينة بن حِصن بن حُذيفة بن بدر الفَزَاريّ، في خيل من غَطَفان على لقاحٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالغابة، وفيها رجلٌ من بني غفار، وامرأة له، قتلوا الرجل، واحتملوا المرأة في اللقاح. انتهى
(4)
.
(وَأُصِيبَتِ الْعَضْبَاءُ، فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْوَثَاقِ) تقدّم أنه بفتح الواو وكسرها، وهو: ما يُشدّ به من الحبل وغيره (وَكَانَ الْقَوْمُ)؛ أي: الذين أسروا المرأة والعضباء (يُرِيحُونَ) بضمّ أوله، من الإراحة، يقال: أراح الإبلَ: إذا ردّها إلى الْمُرَاح، بالضمّ؛ أي: الْمَأوَي، قاله المجد رحمه الله
(5)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: وأما راحت الإبل، فهي رَائِحَةٌ، فلا يكون إلَّا بالعشيّ، إذا أَرَاحَهَا راعيها على أهلها، يقال: سَرَحَتْ بالغداة إلى الرَّعْيِ، ورَاحَتْ بالعشيّ على أهلها؛ أي: رجعت من الْمَرْعَى إليهم، وقال ابن فارس:
(1)
"المصباح المنير" 2/ 465.
(2)
هكذا قال، والذي في "سيرة ابن هشام" يدلّ على أنَّ الرجل غفاريّ من قوم أبي ذرّ، وليس هو أبا ذر؛ لأنه ذكر أن القوم قتلوه، واحتملوا امرأته، وأبو ذرّ رضي الله عنه لَمْ يُقتل في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، بل عاش بعده، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(3)
راجع ما كتبه الشيخ مشهور بن حسن على هامش: "تنبيه المعلم"(ص 277).
(4)
"سيرة ابن هشام" بشرح السهيليّ 6/ 391.
(5)
"القاموس المحيط" ص 540.
الرَّوَاحُ رواح العشيّ، وهو من الزوال إلى الليل، والمُرَاحُ -بضم الميم- حيث تأوي الماشية بالليل، والمُنَاخُ، والمَأْوَى مِثْلُهُ، وفتح الميم بهذا المعنى خطأٌ؛ لأنه اسم مكان، واسم المكان، والزمان، والمصدر، من أفعل بالألف مُفْعَلٌ بضم الميم، على صيغة اسم المفعول، وأما الْمَرَاحُ -بالفتح- فاسم الموضع من رَاحَتْ، بغير ألف، واسم المكان من الثلاثي بالفتح، والْمَرَاحُ بالفتح أيضًا الموضع الذي يَرُوحُ القومُ منه، أو يرجعون إليه. انتهى
(1)
.
(نَعَمَهُمْ) -بفتحتين- هو المال الراعي، وهو جمع لا واحد له من لفظه، وأكثر ما يقع على الإبل، قال أبو عبيد: النَّعَمُ: الجمال فقط، ويؤنَّث، ويُذكَّر، وجمعه: نُعْمَانٌ، مثل حَمَلٍ وحُمْلان، وأَنْعَامٌ أيضًا، وقيل: النَّعَمُ: الإبل خاصّةً، والأنْعَامُ: ذوات الخفّ والظِّلْف، وهي الإبل، والبقر، والغنم، وقيل: تُطْلَق الأنعام على هذه الثلاثة، فإذا انفردت الإبل فهي: نَعَمٌ، وإن انفردت: البقر، والغنم، لَمْ تسمَّ نَعَمًا، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وكان القوم يريحون نعمهم بين أيدي بيوتهم": النعم هنا: الإبل، وإراحتها: إناختها لتستريح من تعب السَّير ومشقة السفر. انتهى
(3)
.
(بَيْنَ يَدَي بُيُوتهِمْ)؛ أي: أمامها، وقال القرطبيّ: بين أيدي بيوتهم: بمعنى عند بيوتهم وبحضرتها. انتهى
(4)
. (فَانْفَلَتَتْ)؛ أي: خَرَجت تلك المرأة بسرعة، يقال: أفلت الطائر وغيره إفلاتًا: تخلّص، وأفلته: إذا أطلقته، وخلّصته، يُستعمل لازمًا ومتعدّيًا، وفَلَتَ فَلْتًا، من باب ضَرَبَ لغةٌ، وفَلَّتُهُ أنا، يُستعمل أيضًا لازمًا ومتعدّيًا، وانفَلَتَ: خَرَجَ بسرعة، وكان ذلك فَلْتَةً؛ أي: فَجْأَةً، حتى كأنه انفلتَ سَرِيعًا، قاله الفيّوميّ: رحمه الله
(5)
.
وقوله: (ذَاتَ لَيْلَةٍ)؛ أي: ليلة من الليالي، قيل:"ذات" مقحمة، وقيل: بل هي من إضافة الشيء لنفسه، على رأي من يُجيزه، قاله في "الفتح"
(6)
.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 243.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 613 - 614.
(3)
"المفهم" 4/ 612.
(4)
"المفهم" 4/ 612.
(5)
"المصباح المنير" 2/ 480.
(6)
"الفتح" 11/ 391.
وقوله: (مِنَ الْوَثَاقِ) متعلّق بـ "انفلتت"(فَأَتَتِ الإِبِلَ)؛ أي: لعلها تجد ما يطاوعها للركوب حتى تشرد منهم إلى بلدها (فَجَعَلَتْ)؛ أي: شرعت (إِذَا دَنَتْ مِنَ الْبَعِيرِ رَغَا)؛ أي: صَوّت، والرُّغاء بالضمِّ وزانُ غُراب: صوت البعير، ورغَت الناقة ترْغُو: صوّتت، فهي راغية
(1)
. (فتَتْرُكُهُ)؛ أي: لئلا يوقظ القوم من نومهم، فيعلمون بها، فيأخذونها، ويمنعونها من الرجوع إلى بلدها (حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى الْعَضْبَاءِ) ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم (فَلَمْ تَرْغُ)؛ أي: لَمْ تصح؛ لكونها معلّمة مدرّبةً، كما بيّنه بقوله:(قَالَ) الراوي، والظاهر أنه عمران رضي الله عنه (وَنَاقَةٌ مُنَوَّقَةٌ) بضم الميم، وفتح النون، والواو المشدّدة؛ أي: مُذلَّلةً
(2)
.
وقال المجد رحمه الله: والمُنَوَّقُ؛ كمُعَظَّمٍ: المُذَلَّلُ من الجِمالِ، ومن النَّخْلِ: المُلَقَّحُ، ومن غيرِها: المُصَفَّفُ، والمُطَرَّقُ، والمُسَلَّكُ، وهي: بهاءٍ، والنَّوَّاقُ: رائِضُ الأمورِ، ومُصْلِحُها، والنَّوْقَةُ: الحَذاقَةُ في كلِّ شيءٍ. انتهى
(3)
.
وقال النوويّ رحمه الله عن قوله الآتي: "ناقة ذَلُولٌ مُجَرَّسة": وفي رواية: "مُدَرَّبة"، أما المجرسة فبضم الميم، وفتح الجيم، والراء المشددة، وأما الْمُدَرَّبة، فبفتح الدال المهملة، وبالباء الموحّدة، والمجرَّسة، والمدرّبة، والمنوّقة، والذَّلُول كله بمعنى واحد. انتهى
(4)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وناقةٌ مُنوَّقة"؛ أي: مُذَلَّلَةٌ، مدرَّبةٌ، لا نَفْرَةَ عندها، وهي المجرَّبة أيضًا، هذا قول العلماء، ويظهر لي: أن كونها مدرَّبة ليس موجبًا لئلا ترغو؛ لأنا قد شاهدنا من الأباعر والنُّوق ما لَمْ يَزَل مدرَّبًا على العمل، ومع ذلك فيرغو عند ركوبه، وعند الحمل عليه، وكأن هذه الناقة إنما كانت كذلك، إما لأنَّها دُرِّبت على ترك الرُّغاء من صغرها، وإما لأنَّها كان لها هوًى في السَّير والْجَرْي لنشاطها، فكلما حُرِّكت بادرت لما في هواها، وإما لأنَّها خُصَّت في أصل خلقتها بزيادة هدوء، أو كان غير ذلك ببركة ركوب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها. انتهى
(5)
.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 232.
(2)
شرح النوويّ" 11/ 100 - 101.
(3)
"القاموس المحيط" ص 1326.
(4)
"شرح النوويّ" 11/ 102.
(5)
"المفهم" 4/ 612.
(فَقَعَدَتْ فِي عَجُزِهَا)؛ أي: ركبتها في مؤخّرها، قال المجد رحمه الله:"الْعَجْزُ" مثلّثةً، وكَنَدُسٍ، وكَتِفٍ: مؤخّر الشيء، ويؤنّث، جمعه أعجازٌ. انتهى
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: والْعَجُزُ من كلّ شيء: مؤخّره، ويذكَّر، ويؤنّث، وقال قبل ذلك: والْعَجُز من الرجل والمرأة: ما بين الْوَرِكين، وهي مؤنّثةٌ، وبنو تميم يُذكّرون، وفيها أربع لغات: فتح العين، وضمّها، ومع كلّ واحدة ضمّ الجيم، وسكونها، والأفصح وزان رَجُل، والجمع أعجاز. انتهى
(2)
.
(ثُمَّ زَجَرَتْهَا)؛ أي: ساقتها (فَانْطَلَقَتْ، وَنَذِرُوا بِهَا) بفتح النون، وكسر الذال المعجمة، من باب علم؛ أي: عَلِمَ القوم بذهاب تلك المرأة، قال الفيّوميّ رحمه الله: وأنذرته بكذا، فَنَذِرَ به، مثلُ أعلمته، فَعَلِمَ، وزنًا ومعنًى، فالصلة فارقة بين الفعلين. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "نَذِروا بها"؛ أي: عَلِمُوا بها، وهو بكسر الذال المعجمة في الماضي، وفتحها في المستقبل نِذَارَةً في المصدر، ونَذَر يَنْذُر -بفتحها في الماضي، وكسرها في المستقبل
(4)
- نذرًا؛ أي: أوجب، يقال: نَذِرتُ بالشيء؛ أي: عَلِمتُهُ، ونَذَرْتُ الشيءَ؛ أي: أوجبته.
قال ابن عرفة: النذر: ما كان وعدًا على شرط، فإن لَمْ يكن شرط لَمْ يكن نذرًا، فلو قال: لله عليَّ صدقة؛ لَمْ يكن ناذرًا حتى يقول: إن شفى الله مريضي، أو قدم غائبي.
قال القرطبيّ: والمشهور عدم التفرقة، وأن كلّ ذلك نذر عند اللغويين والفقهاء، والإنذار: الإعلام بما يخاف منه. انتهى
(5)
.
(فَطَلَبُوهَا، فَأَعْجَزَتْهُمْ)؛ أي: سبقتهم، ففاتتهم، فعجزوا عن إدراكها، ومنه
(1)
"القاموس المحيط" ص 842.
(2)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 394.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 599.
(4)
قوله: "وكسرها" في المستقبل، تقدّم أن الصواب أنه يجوز كسر الذال، وضمها، في المضارع، من بابي ضرب، ونصر، فتنبّه.
(5)
"المفهم" 4/ 612 - 613.
قوله تعالى: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12)} [الجنّ: 12]؛ أي: لن نفوته، فلا يعجز عنّا
(1)
.
(قَالَ) الراوي (وَنَذَرَتْ) بفتح النون والذال، من بابي نصر، وضرب؛ أي: ألزمت نفسها، وجعلت عليها (لِلَّهِ إِنْ نَجَّاهَا اللهُ عَلَيْهَا)؛ أي؛ حال كونها راكبةً على تلك الناقة (لَتَنْحَرَنَّهَا) اللام هي الموطّئة للقسم؛ أي: والله لتنحرنّها.
قال القرطبيّ رحمه الله: ظنت هذه المرأة أن ذلك النَّذر يلزمها؛ بناءً منها على أنَّها لما استنقذتها من أيدي العدوّ ملكتها، أو جاز لها التصرُّف فيها لذلك، فلمَّا أُعلم بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم أجابها بما يُوَضِّح لها أنَّها لَمْ تملكها، وأن تصرُّفها فيها غير صحيح. انتهى.
(فَلَمَّا قَدِمَتِ) بكسر الدال (الْمَدِينَةَ) النبويّة (رَآهَا النَّاسُ، فَقَالُوا: الْعَضْبَاءُ) خبر لمحذوف؛ أي: هذه العضباء، وقوله:(نَاقَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) برفع "ناقةُ" على البدليّة (فَقَالَتْ) المرأة (إِنَّهَا) فيه الالتفات، إذ الظاهر أن تقول: إني نذرت (نَذَرَتْ إِنْ نَجَّاهَا اللهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ)؛ أي: ما قالته المرأة من نذرها بنحرها (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("سُبْحَانَ اللهِ) تعجّبًا من سوء مجازاتها لها (بِئْسَمَا جَزَتْهَا)؛ أي: كافأتها على إحسانها بإنجائها من عدوّها.
قال القرطبيّ رحمه الله: وقوله صلى الله عليه وسلم: "بئسما جَزَتْها" ذمٌّ لذلك النذر، من حيث إنه لَمْ يصادف محلًا مملوكًا لها، ولو كانت ملكًا لها للزمها الوفاء بذلك النذر؛ إذ كان يكون نذر طاعةٍ، فيلزم الوفاء به اتفاقًا، هذا إن كان ذلك الذمُّ شرعيًّا.
ويمكن أن يقال: إنَّما صدر هذا الذمُّ منه؛ لأنَّ ذلك النذر مستقبحٌ عادة؛ لأنه مقابلة الإحسان بالإساءة، وذلك أن النَّاقة نَجَّتها من الْهَلَكة، فقابلتها على ذلك بأن تُهلكها، وهذا هو الظاهر من قوله صلى الله عليه وسلم:"سبحان الله! بئس ما جزتها! نذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنَّها". انتهى
(2)
.
(نَذَرَتْ لِلَّهِ إِنْ نَجَّاهَا اللهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ) قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهر هذه الكلمة يدلّ على أنَّ ما صدر من المرأة نذر معصية؛
(1)
"المفهم" 4/ 613.
(2)
"المفهم" 4/ 613.
لأنَّها التزمت أن تُتلف ملك الغير، فتكون عاصية بهذا القصد، وهذا ليس بصحيح؛ لأنَّ المرأة لم يتقدَّم لها من النبيّ صلى الله عليه وسلم بيان تحريم ذلك، ولم تقصد ذلك، وانَّما معنى ذلك -والله أعلم- أن من أقدم على ذلك بعد التَّقْدِمة فيه، وبيان أن ذلك محرَّم، كان عاصيًا بذلك القصد، ولا يدخل في ذلك المعلَّق على الملك؛ كقوله: إن ملكت هذا البعير فهو هدي، أو صدقة؛ لأنَّ ذلك الحكم معلَّق على ملكه، لا ملك غيره، وليس مالكًا في الحال، فلا نذر، وقد تقدَّم الكلام على هذا في الطلاق والعتق المعلَّقين على الملك، وأن الصحيح لزوم المشروط عند وقوع الشرط. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
(وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ")؛ أي: ولا نذر أيضًا في الشيء الذي لا يملكه العبد، قال النوويّ رحمه الله: هذا محمول على ما إذا أضاف النذر إلى معين، لا يملكه، بأن قال: إن شفى الله مريضي فللَّه عليّ أن أعتق عبد فلان، أو أتصدق بثوبه، أو بداره، أو نحو ذلك، فأما إذا التزم في الذِّمة شيئًا لا يملكه، فيصحّ نذره، مثل أن يقول: إن شفى الله مريضي فللَّه عليّ عتق رقبة، وهو في ذلك الحال لا يملك رقبةً، ولا قيمتها، فيصح نذره، فإن شُفِي المريضُ، فقد ثبت العتق في ذمته. انتهى
(2)
.
وقوله: (وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حُجْرٍ) بيان لاختلاف شيخيه، حيث قال شيخه الثاني عليّ بن حجر:("لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ") بدل قول شيخه الأول زهير بن حرب: "لا وفاء لنذر في معصية"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عمران بن حُصين رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
"المفهم" 4/ 614.
(2)
"شرح النوويّ" 11/ 101.
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 4237 و 4238](1641)، و (أبو داود) في "الأيمان والنذور"(3316)، و (الترمذيّ) في "السير" مختصرًا (1568)، و (النسائيّ) في "الأيمان والنذور" مختصرًا أيضًا (3839 و 3878) و"الكبرى"(5/ 175)، و (ابن ماجه) في "الكفّارات"(2124)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(5/ 207)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 318)، و (الحميديّ) في "مسنده"(829)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 430 - 433 - 434)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 308)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(933)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(2/ 397)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4859)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(18/ 190 و 192)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 10)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(1/ 112)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(4/ 183)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 320 و 9/ 67 و 72) و"دلائل النبوّة"(4/ 188 - 189) و"المعرفة"(6/ 560 - 561)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أنه لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد.
2 -
(ومنها): بيان أن من نذر بمعصية الله تعالى؛ كشرب الخمر، ونحو ذلك فنذره باطل، لا ينعقد، وفي لزوم الكفّارة له خلاف، قال القرطبيّ رحمه الله: وفيه دليل: على أنَّ من نذر معصية حَرُم عليه الوفاء بها، وأنَّه لا يلزمه على ذلك حكم بكفارة يمين، ولا غيره؛ إذ لو كان هنالك حكم لبيَّنه للمرأة؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وعليه جمهور العلماء، وذهب الكوفيون: إلى أنه يحرم عليه الوفاء بالمعصية، لكن تلزمه كفارة يمين؛ متمسكين في ذلك بحديث مُعْتَلٍّ عند أهل الحديث، وهو ما يروى من حديث عائشة رضي الله عنها، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين"، ذكره أبو داود، والطحاوي، والصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها ما خرَّجه البخاريّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه"، وليس فيه شيء من ذلك، والله أعلم. انتهى
(1)
.
(1)
"المفهم" 4/ 614 - 615.
قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي في المسألة الرابعة تحقيق الخلاف، وترجيح القول بوجوب الكفّارة في نذر المعصية؛ لصحة الحديث بذلك خلاف ما قاله القرطبيّ، فتنبّه.
3 -
(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: إن فيه حجَّةً على أنَّ ما وُجِد من أموال المسلمين بأيدي الكفار، وغَلَبوا عليه، وعُرف مالكه؛ أنَّه له دون آخذه، وفيه مُستروحٌ لقول من يقول: إن الكفار لا يملكون، وقد تقدَّم الكلام في ذلك. انتهى
(1)
.
4 -
(ومنها): جواز سفر المرأة وحدها، بلا زوج، ولا محرم، ولا غيرهما، إذا كان سفر ضرورة؛ كالهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، وكالْهَرَب ممن يريد منها فاحشةً، ونحو ذلك، والنهي عن سفرها وحدها محمول على غير الضرورة، قاله النوويّ رحمه الله
(2)
.
5 -
(ومنها): ما قاله النوويّ أيضًا: في هذا الحديث دلالةٌ لمذهب الشافعيّ وموافقيه أن الكفار إذا غَنِموا مالًا للمسلم لا يملكونه، وقال أبو حنيفة، وآخرون: يملكونه إذا حازوه إلى دار الحرب، وحجة الشافعيّ وموافقيه هذا الحديث، وموضع الدلالة منه ظاهر، والله أعلم. انتهى
(3)
.
6 -
(ومنها): أنه استُدلّ بهذا الحديث على صحّة النذر في المباح؛ لأنَّ فيه نفي النذر في المعصية، فبقي ما عداه ثابتًا.
واحتجّ من قال: إنه يُشرع في المباح بما أخرجه أبو داود، من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، وأخرجه أحمد، والترمذيّ من حديث بُريدة رضي الله عنه: أن امرأةً قالت: يا رسول الله، إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدّفّ، فقال:"أوف بنذرك"، وزاد في حديث بُريدة أن ذلك وقت خروجه في غزوة، فنذرت إن ردّه الله تعالى سالمًا، قال البيهقيّ: يُشبه أن يكون أذن لها في ذلك لِمَا فيه من إظهار الفرح بالسلامة، ولا يلزم من ذلك القول بانعقاد النذر به، ويدلّ على أنَّ النذر لا ينعقد في المباح ما أخرجه البخاريّ (6704)
(1)
"المفهم" 4/ 615.
(2)
"شرح النوويّ" 11/ 102.
(3)
"شرح النوويّ" 11/ 102.
من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال: بينا النبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب، إذا هو برجل قائم، فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل، نذر أن يقوم، ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"مره، فليتكلم، وليستظلَّ، وليقعد، ولْيُتِمَّ صومه"، فقد أمر صلى الله عليه وسلم هذا الناذر بأن يقوم، ولا يقعد، ولا يتكلّم، ولا يستظلّ، ويصوم، ولا يُفطر بأن يتمّ صومه، ويتكلّم، ويستظلّ، ويقعد، فأمره بفعل الطاعة، وأسقط عنه المباح.
وأصرح من ذلك ما أخرجه أحمد من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه أيضًا:"إنما النذر ما يُبتغى به وجه الله".
والجواب عن قصّة التي نذرت الضرب بالدّفّ ما أشار إليه البيهقيّ، ويمكن أن يقال: إن من قسم المباح ما قد يصير بالقصد مندوبًا؛ كالنوم في القائلة؛ للتقّوِّي على قيام الليل، وأكلة السحر للتقوّي على صيام النهار، فيمكن أن يقال: إن إظهار الفرح بعَوْد النبيّ صلى الله عليه وسلم سالمًا معنًى مقصود يحصل به الثواب.
وقد اختُلف في جواز الضرب بالدف في غير النِّكَاح، والختان، ورجّح الرافعيّ في "المحرّر"، وتبعه النوويّ في "المنهاج" الإباحة، والحديث حجة في ذلك، وحَمَل بعضهم إذنه لها في الضرب بالدفّ على أصل الإباحة، لا على خصوص الوفاء بالنذر، كما تقدّم، ويُشكل عليه أن في رواية أحمد في حديث بُريدة:"إن كنتِ نذرت، فاضربي، وإلا فلا". وزعم بعضهم أن معنى قولها: "نذرتُ": حلفتُ، والإذن فيه البرّ بفعل المباح، ويؤيّد ذلك أن في آخر الحديث: أن عمر رضي الله عنه دخل، فتركت، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن الشيطان ليخاف منك يا عمر"، فلو كان ذلك مما يُتقرّب به ما قال ذلك. لكن هذا بعينه يُشكل على أنَّه مباح لكونه نسبه إلى الشيطان.
ويجاب بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم اطّلع على أنَّ الشيطان حضر لمحبّته في سماع ذلك؛ لِمَا يرجوه من تمكّنه من الفتنة به، فلَمّا حضر عمر فرّ منه؛ لعلمه بمبادرته إلى إنكار مثل ذلك، أو أن الشيطان لم يحضُر أصلًا، وإنما ذُكِر مثالًا لصورة ما صدر من المرأة المذكورة، وهي إنما شرعت في شيء أصله من اللَّهو، فلما دخل عمر رضي الله عنه خشيت من مبادرته لكونه لم يَعلَم بخصوص النذر،
أو اليمين الذي صدر منها، فشبّه النبيّ صلى الله عليه وسلم حالها بحالة الشيطان الذي يخاف من حضور عمر رضي الله عنه، والشيء بالشيء يُذكر.
وَيقْرُب من قصّتها قصّة القينتين اللتين كانتا تُغنّيان عند النبيّ صلى الله عليه وسلم في يوم عيد، فأنكر أبو بكر عليهما، وقال: أبمزمور الشيطان عند النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فأعلمه النبيّ صلى الله عليه وسلم بإباحة مثل ذلك في يوم عيد، أفاده في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن أصل الدفّ من الشيطان؛ لأنه من آلات اللهو، ولذا قال أبو بكر رضي الله عنه: "أبمزمور الشيطان
…
إلخ؟ "، ولكنه يباح في حالات، مثل إعلان النِّكَاح، ومثل الفرح بقدومه صلى الله عليه وسلم سالِمًا، فلذلك كان وفاء النذر به لازمًا، كما قال صلى الله عليه وسلم للمرأة: "أوف بنذرك"؛ أي: لكونه مباحًا في مثل هذا، وأما قصّة أبي إسرائيل، فالظاهر أنه إنما رخّص له النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لتضرّره بذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في لزوم الكفّارة في نذر المعصية:
قال في "الفتح": اختُلِف فيمن وقع منه النذر في معصية، هل تجب فيه كفارة؟ فقال الجمهور: لا، وعن أحمد، والثوريّ، وإسحاق، وبعض الشافعية، والحنفية: نعم، ونقل الترمذيّ اختلاف الصحابة في ذلك كالقولين، واتفقوا على تحريم النذر في المعصية، واختلافهم إنما هو في وجوب الكفّارة.
واحتَجَّ من أوجبها بحديث عائشة رضي الله عنها: "لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين"، أخرجه أصحاب السنن، ورواته ثقات، لكنه معلول، فإن الزهريّ رواه عن أبي سلمة، ثم بيَّن أنه حمله عن سليمان بن أرقم، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، فدَلَّسه بإسقاط اثنين، وحسن الظنّ بسليمان، وهو عند غيره ضعيف باتفاقهم.
وحَكَى الترمذيّ عن البخاريّ أنه قال: لا يصحّ، ولكن له شاهد من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما، أخرجه النسائيّ، وضَعَّفه، وأخرج الدارقطنيّ من حديث عديّ بن حاتم نحوه.
(1)
راجع: "الفتح" 13/ 447 - 448.
وفي الباب أيضًا عموم حديث عقبة بن عامر: "كفارة النذر كفارة اليمين"، أخرجه مسلم.
وقد حمله الجمهور على نذر اللَّجَاج، والغضب، وبعضهم على النذر المطلق، لكن أخرج الترمذيّ، وابن ماجه حديث عقبة بلفظ:"كفارة النذر إذا لم يُسَمَّ كفارة يمين"، ولفظ ابن ماجه: "من نذر نذرًا لم يسمه
…
" الحديث
(1)
.
وفي الباب حديث ابن عباس رفعه: "من نذر نذرًا لم يسمه، فكفارته كفارة يمين"، أخرجه أبو داود، وفيه:"ومن نذر في معصية، فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين"، ورواته ثقات، لكن أخرجه ابن أبي شيبة موقوفًا، وهو أشبه
(2)
، وأخرجه الدارقطنيّ من حديث عائشة
(3)
.
وحمله أكثر فقهاء أصحاب الحديث على عمومه، لكن قالوا: إن الناذر مُخَيَّر بين الوفاء بما التزمه، وكفارة اليمين.
وقد تقدم حديث عائشة المذكور أول الباب قريبًا، وهو بمعنى حديث:"لا نذر في معصية"، ولو ثبتت الزيادة
(4)
لكانت مبيّنة لِمَا أُجمِل فيه.
واحتَجَّ بعض الحنابلة بأنه ثبت عن جماعة من الصحابة، ولا يحفظ عن صحابيّ خلافه، قال: والقياس يقتضيه؛ لأنَّ النذر يمين، كما وقع في حديث عقبة، لَمَّا نَذَرت أخته أن تحج ماشية:"لِتُكَفِّر عن يمينها"، فسمى النذر يمينًا، ومن حيث النظر هو عقدة لله تعالى بالتزام شيء، والحالف عقد يمينه بالله
(1)
قال الجامع: أما رواية الترمذيّ، فضعيفة؛ لأنَّ في سندها محمد بن يزيد مولى المغيرة بن شعبة، قال أبو حاتم: مجهول، وكذا تكلّم فيه غيره، وأما رواية ابن ماجة، فأضعف منه؛ لأنَّ في سندها عبد الملك بن محمد الصنعانيّ، وهو ضعيف؛ وخارجة بن مصعب متروك الحديث، يدلس عن الكذّابين، بل يقال: كذّبه ابن معين.
(2)
الصحيح وقفه.
(3)
في إسناده غالب بن عبيد الله العقيليّ مجمع على تركه، فتنبّه.
(4)
قد عرفت أن زيادة "إذا لم يُسمّ" غير ثابتة، فتنبّه.
ملتزمًا بشيء، ثم بيَّن أن النذر آكد من اليمين، ورتّب عليه أنه لو نذر معصية ففعلها لم تسقط عنه الكفّارة، بخلاف الحالف، وهو وجه للحنابلة، واحتُجَّ له بأن الشارع نهى عن المعصية، وأمر بالكفارة، فتعيّنت. انتهى ما في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع: عندي أن ما ذهب إليه فقهاء أصحاب الحديث من حملهم قوله صلى الله عليه وسلم: "كفّارة النذر كفّارة يمين" على عمومه هو الحق، وعلى هذا فقول أحمد، وإسحاق، والثوريّ، وغيرهم من وجوب كفّارة اليمين في نذر المعصية هو الأرجح.
والحاصل أن من نذر شيئًا فهو مخيّر بين الوفاء بما التزم، وبين كفّارة يمين، وهذا إذا كان نذر طاعة، أو مباح، وأما إذا كان نذر معصية، فلا وفاء أصلًا، بل تجب الكفّارة؛ لحديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا:"لا نذر في معصية، وكفّارتها كفّارة يمين"، وهو صحيح، كما أوضحته في "شرح النسائيّ"، ويؤيّده عموم حديث عقبة رضي الله عنه مرفوعًا:"كفّارة النذر كفّارة اليمين"، رواه مسلم.
وخلاصة القول في هذه المسألة أن الأرجح مذهب من قال بمشروعيّة الكفّارة في النذر مطلقًا، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في بيان أقسام النذر، ومذاهب العلماء في حكم كلّ قسم منها:
ذكر العلّامة ابن قُدامة رحمه الله في كتابه "المغني" أن النذر سبعة أقسام:
(أحدها): نذر اللَّجَاج والغضب، وهو الذي يُخرجه مخرج اليمين للحثّ على فعل شيء، أو المنع منه، غير قاصد به النذر، ولا القربة، فهذا حكمه حكم اليمين.
(القسم الثاني): نذر طاعة وتبرّر، مثلُ الصلاة، والصيام، والحج، والعمرة، والعتق، والصدقة، والاعتكاف، والجهاد، وما في معناها، فهذا يلزم الوفاء به؛ لقوله تعالى:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7]، وقوله: {وَلْيُوفُوا
(1)
"الفتح" 15/ 367 - 368.
نُذُورَهُمْ} [الحج: 29]، ولحديث عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله، فليُطعه
…
" الحديث، رواه البخاريّ، وحديث عمران بن حصين رضي الله عنهما، مرفوعًا: "ثم يجيء قوم ينذرون، ولا يَفُون
…
" الحديث، رواه البخاريّ أيضًا، قال: وهو ثلاثة أنواع:
[أحدها]: التزام طاعة في مقابلة نعمة استجلبها، أو نقمة استدفعها؛ كقوله: إن شفاني الله، فللَّه عليّ صوم شهر، فتكون الطاعة الملتزمة مما له أصل في الوجوب بالشرع؛ كالصوم، والصلاة، والصدقة، والحج، فهذا يلزم الوفاء به بإجماع أهل العلم.
[النوع الثاني]: التزام طاعة من غير شرط؛ كقوله ابتداءً: لله على صوم شهر، فيلزمه الوفاء به، في قول أكثر أهل العلم، وهو قول أهل العراق، وظاهر مذهب الشافعيّ، وقال بعض أصحابه: لا يلزم الوفاء به؛ لأنَّ أبا عمر غلام ثعلب قال: النذر عند العرب وعد بشرط، ولأن ما التزمه الآدميّ بعوض يلزمه بالعقد؛ كالمبيع، والمستأجر، وما التزمه بغير عوض، لا يلزمه بمجرّد العقد؛ كالهبة.
[النوع الثالث]: نذر طاعة، لا أصل لها في الوجوب؛ كالاعتكاف، وعيادة المريض، فيلزمه الوفاء به عند عامّة أهل العلم، وحُكي عن أبي حنيفة أنه لا يلزمه الوفاء به؛ لأنَّ النذر فرع على المشروع، فلا يجب به ما لا يجب له نظير بأصل الشرع.
قال: ولنا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يُطيع الله فليُطعه"، وذمّه الذين ينذرون، ولا يوفون، وقول الله تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)} [التوبة: 75 - 77]، وقد صحّ أن عمر رضي الله عنه قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إني نذرت أن أعتكف ليلةً في المسجد الحرام؟، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أوف بنذرك". متّفقٌ عليه، ولأنه ألزم نفسه قربةً على وجه التبرّر، فتلزمه، كموضع الإجماع، وكما لو ألزم نفسه أضحيّة، أو أوجب هديًا، وكالاعتكاف، وكالعمرة، فإنهم قد سلّموها، وليست واجبة عندهم، وما ذكروه يَبطُلُ بهذين
الأصلين، وما حكوه عن أبي عمر لا يصحّ، فإن العرب تسمّي نذرًا، وإن لم يكن بشرط، قال جَميل [من الطويل]:
فَلَيْتَ رِجَالًا فِيكِ قَدْ نَذَرُوا دَمِي
…
وَهَمُّوا بِقَتْلِي يَا بُثَيْنُ لَقُونِي
والجَعَالةُ وعد بشرط، وليست بنذر.
(القسم الثالث): النذر المبهم، وهو أن يقول: لله عليّ نذرٌ، فهذا تجب به الكفّارة في قول أكثر أهل العلم، وروي ذلك عن ابن مسعود، وابن عبّاس، وجابر، وعائشة رضي الله عنهم، وبه قال الحسن، وعطاء، وطاوس، والقاسم، وسالِمٌ، والشعبيّ، والنخعيّ، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومالكٌ، والثوريّ، ومحمد بن الحسن، ولا أعلم فيه مخالفًا إلَّا الشافعيّ، قال: لا ينعقد نذره، ولا كفّارة فيه؛ لأنَّ من النذر ما لا كفّارة فيه. ولنا ما رواه عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفّارة النذر إذا لم يُسمّ كفّارة يمين"، رواه الترمذيّ، وقال: هذا حديث حسنٌ صحيح غريب.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث في إسناده محمد بن يزيد مولى المغيرة بن شعبة مجهول، فتصحيح الترمذيّ له لعله من تساهلاته، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.
قال: ولأنه نصٌّ، وهذا قول من سمّينا من الصحابة والتابعين، ولا نعرف لهم في عصرهم مخالفًا، فيكون إجماعًا.
(القسم الرابع): نذر المعصية، فلا يحلّ الوفاء به إجماعًا؛ ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من نذر أن يعصي الله فلا يعصه"، ولأن معصية الله تعالى لا تحلّ في حال، ويجب على الناذر كفّارة يمين. روي نحو هذا عن ابن مسعود، وابن عبّاس، وجابر، وعمران بن حصين، وسمُرة بن جندب رضي الله عنهم، وبه قال الثوريّ، وأبو حنيفة، وأصحابه، وروي عن أحمد ما يدلّ على أنَّه لا كفّارة عليه، فإنه قال فيمن نذر لَيهدِمنّ دار غيره لبنةً لبنةً: لا كفّارة عليه، وهذا في معناه. وروي هذا عن مسروق، والشعبيّ، وهو مذهب مالك، والشافعيّ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد"، رواه مسلم، وقال:"ليس على الرجل نذرٌ فيما لا يملك"، متّفقٌ عليه، وقال:"لا نذر إلَّا ما ابتُغي به وجه الله"، رواه أبو داود، وقال: "من نذر أن يعصي الله فلا
يعصه"، ولم يأمر بكفّارة. ولما نذرت المرأة التي كانت مع الكفّارت، فنجت على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنحرها، قالت: يا رسول الله، إني نذرت إن أنجاني الله عليها أن أنحرها؟ قال: "بئسما جزيتها، لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد"، رواه مسلم، ولم يأمرها بكفّارة، وقال لأبي إسرائيل حين نذر أن يقوم في الشمس، ولا يقعد، ولا يستظلّ، ولا يتكلّم: "مُرُوه، فليتكلّم، وليجلس، وليستظلّ، وليُتِمّ صومه"، رواه البخاريّ، ولم يأمره بكفّارة، ولأن النذر التزام الطاعة، وهذا التزام معصية، ولأنه نذر غير منعقد، فلم يوجب شيئًا؛ كاليمين غير المنعقدة.
ووجه الأول ما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: "لا نذر في معصية، وكفّارته كفّارة يمين"، رواه الإمام أحمد في "مسنده"، وأبو داود في "سننه"، وقال الترمذيّ: هو حديث غريب، وعن أبي هريرة، وعمران بن حُصين رضي الله عنهم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثله.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث صحيح من حديث عائشة رضي الله عنها لا من حديث أبي هريرة، وعمران رضي الله عنهما، كما بيّنته في "شرح النسائيّ".
قال: روى الجوزجانيّ بإسناده عن عمران بن حُصين قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "النذر نذران: فما كان من نذر في طاعة الله، فذلك لله، وفيه الوفاء، وما كان من نذر في معصية الله، فلا وفاء فيه، ويكفّره ما يكفّر اليمين". وهذا نصّ.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث ضعيف، كما بيّنته في "شرح النسائيّ"، فتنبّه
(1)
.
قال: ولأن النذر يمين، بدليل ما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"النذر حَلْفَة"، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأخت عقبة رضي الله عنه لَمّا نذرت المشي إلى بيت الله الحرام، فلم تطقه:"تكفّر يمينها"، صحيحٌ
(2)
أخرجه أبو داود، وفي رواية:
(1)
وصححه الشيخ الألبانيّ رحمه الله، والظاهر أن تصحيحه لشواهده، فليُتنبّه.
(2)
بل ضعيف؛ لأن في سنده شريكًا القاضي، وقد عنعنه، وهو مدلّس، ومتكلّم فيه.
"ولتصم ثلاثة أيام"
(1)
، قال أحمد: إليه أذهب. وقال ابن عبّاس في التي نذرت ذبح ابنها: كفّري يمينك
(2)
، ولو حلف على فعل معصية لزمته الكفّارة، فكذلك إذا نذرها.
فأما أحاديثهم، فمعناها لا وفاء بالنذر في معصية الله، وهذا لا خلاف فيه، وقد جاء مصرّحًا به هكذا في رواية مسلم، ويدلّ على هذا أيضًا أن في سياق الحديث:"ولا يمين في قطيعة رحم"؛ يعني: لا يبَرُّ فيها، ولو لم يبيّن الكفّارة في أحاديثهم، فقد بيَّنها في أحاديثنا، فإن فعل ما نذره من المعصية، فلا كفّارة عليه، كما لو حلف ليفعلنّ معصيةً، ففعلها. ويحتمل أن تلزمه الكفّارة حتمًا؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم عيّن فيه الكفّارة، ونهى عن فعل المعصية.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الاحتمال الثاني هو الظاهر؛ لظاهر النصّ، فتأمّل.
والحاصل أن الأرجح وجوب الكفّارة على من نذر أن يفعل معصية، سواء تركها، وهو الواجب عليه، أو فعلها مع حرمتها؛ لإطلاق النصّ، والله تعالى أعلم.
(القسم الخامس): المباح، كلبس الثوب، ورُكوب الدابّة، وطلاق المرأة على وجه مباح، فهذا يتخيّر الناذر فيه بين فعله، فيبَرُّ بذلك؛ لِمَا رُوي أن امرأة أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدّفّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أوف بنذرك"، رواه أبو داود، ولأنه لو حلف على فعل مباح برّ بفعله، فكذلك إذا نذره؛ لأنَّ النذر كاليمين، وإن شاء تركه، وعليه كفّارة يمين، ويتخرّج أن لا كفّارة فيه، فإن أصحابنا قالوا فيمن نذر أن يعتكف، أو يصلّي في مسجد معيّن: كان له أن يصلي، ويعتكف في غيره، ولا كفّارة، ومن نذر أن يتصدّق بماله كلّه: أجزأه الصدقة بثلثه بلا كفّارة، وهذا مثله. وقال مالك، والشافعيّ: لا ينعقد نذره؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا نذر إلَّا فيما ابتغي وجه الله". وقد رَوَى ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ، إذا هو
(1)
حديث الأمر بالصيام ضعيف، وإنما الصحيح الأمر بالهدي، فتنبّه.
(2)
صحيح موقوفًا.
برجل قائم، فسأل عنه؟، فقالوا: أبو إسرائيل، نذر أن يقوم في الشمس، ولا يستظلّ، ولا يتكلّم، ويصوم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"مروه، فليجلس، وليستظلّ، وليتكلّم، وليُتمّ صومه"، رواه البخاريّ. وعن أنس رضي الله عنه قال: نذرت امرأة أن تمشي إلى بيت الله الحرام، فسئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال:"إن الله لغنيّ عن مشيها، مروها فلتركب"، قال الترمذيّ: هذا حديث حسن صحيح، ولم يأمر بكفّارة. وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يُهادى بين اثنين، فسأل عنه؟ فقالوا: نذر أن يحجّ ماشيًا، فقال:"إن الله لغنيّ عن تعذيب هذا نفسه، مروه فليركب". متّفقٌ عليه، ولم يأمره بكفّارة، ولأنه نذرٌ غير موجب لفعل ما نذره، فلم يوجب كفّارةً؛ كنذر المستحيل.
قال: ولنا ما تقدّم في القسم الذي قبله، فأما حديث التي نذرت المشي، فقد أمر فيه بالكفَّارة في حديث آخر، ففيه زيادة عند أبي داود، ولفظه:"مروها، فلتركب، ولتكفّر عن يمينها"
(1)
، وهذه زيادة يجب الأخذ بها، ويجوز أن يكون الراوي للحديث روى البعض، وترك البعض، أو يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم ترك ذكر الكفّارة في بعض الحديث إحالةً على ما عُلم من حديثه في موضع آخر.
ومن هذا القسم إذا نذر فعل مكروه؛ كطلاق امرأته، فإنه مكروه، بدليل قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أبغض الحلال إلى الله الطلاق"
(2)
، فالمستحبّ أن لا يفي، ويكفّر، فإن وفى بنذره، فلا كفّارة عليه، والخلاف فيه كالذي قبله.
(القسم السادس): نذر الواجب؛ كالصلاة المكتوبة، فقال أصحابنا: لا ينعقد نذره، وهو قول أصحاب الشافعيّ؛ لأنَّ النذر التزامٌ، ولا يصحّ التزام ما هو لازم له، ويَحْتَمِل أن ينعقد نذره موجبًا كفّارة يمين إن تركه، كما لو حلف على فعله، فإن النذر كاليمين، وقد سمّاه النبيّ صلى الله عليه وسلم يمينًا، وكذلك لو نذر معصيةً، أو مباحًا، لو يلزمه، ويكفّر إذا لم يفعله.
(القسم السابع): نذر المستحيل؛ كصوم أمس، فهذا لا ينعقد، ولا
(1)
ضعيف بهذا اللفظ؛ لأن في سنده شريكًا القاضي، وإنما الصحيح بلفظ:"ولتُهد هديًا"، أو "ولتُهد بدنة"، فتنبّه.
(2)
رواه أبو داود، وابن ماجه، وهو حديث ضعيف، ومنهم من حسّنه؛ لطرقه.
يوجب شيئًا؛ لأنه لا يُتصوّر انعقاده، ولا الوفاء به، ولو حلف على فعله لن تلزمه كفّارة، فالنذر أولى.
وعقدُ الباب في صحيح المذهب أن النذر كاليمين، وموجبه موجبها، إلَّا في لزوم الوفاء به، إذا كان قربةً، وأمكنه فعله، ودليل هذا الأصل قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لأخت عقبة لَمّا نذرت المشي، فلم تطقه:"ولتكفّر يمينها"
(1)
، وفي رواية:"فلتصم ثلاثة أيام"، قال أحمد: إليه أذهب. وعن عقبة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "كفّارة النذر كفّارة اليمين"، أخرجه مسلم. وقول ابن عبّاس رضي الله عنهما للتي نذرت ذبح ولدها:"كفّري يمينك"
(2)
، ولأنه قد ثبت أن حكمه حكم اليمين في أحد أقسامه، وهو نذر اللجاج، فكذلك سائره في سوى ما استثناه الشرع. انتهى كلام ابن قدامة رحمه الله
(3)
، وإنما نقلته بطوله؛ لاستيفائه معظم أقوال أهل العلم بأدلتها في هذه الأقسام السبعة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4238]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ -يَعْنِي: ابْنَ زَيْدٍ- (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ، كِلَاهُمَا عَنْ أَيُّوبِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ، وَفِي حَدِيثِ حَمَّادٍ قَالَ: كَانَتِ الْعَضْبَاءُ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي عُقَيْلٍ، وَكَانَتْ مِنْ سَوَابِقِ الْحَاجِّ، وَفي حَدِيثِهِ أَيْضًا: فَأَتْتْ عَلَى نَاقِةٍ ذَلُولٍ مُجَرَّسَةٍ، فَي حَدِيثِ الثَّقَفِيِّ: وَهِيَ نَاقَةٌ مُدَرَّبَةٌ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ) سليمان بن داود الزهرانيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(حَمَّادُ بْنُ زَيْدِ) بن درهم، تقدّم أيضًا قريبًا.
(1)
تقدَّم أنه ضعيف بلفظ: "ولتكفّر عن يمينها"، وكذا بلفظ:"فلتصم ثلاثة أيام"، وإنَّما الصحيح بلفظ:"ولتُهد هديًا"، فتنبّه.
(2)
موقوفٌ صحيح.
(3)
"المغني" لابن قُدامة 13/ 622 - 629.
3 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، ثم المكيّ، تقدَّم قريبًا.
5 -
(عَبْدُ الوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ) بن عبد المجيد، تقدّم أيضًا قريبًا.
و"أيوب" ذُكر قبله.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ أَيُّوبِ)؛ يعني: حماد بن زيد، وعبد الوهّاب الثقفيّ رويا هذا الحديث عن أيوب السختيانيّ.
[تنبيه]: رواية حمّاد بن زيد، عن أيوب السختيانيّ ساقها أبو داود في "سننه"، فقال:
(3316)
- حدّثنا سُلَيْمَانُ بن حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بن عِيسَي، قالا: ثنا حَمَّادٌ، عن أَيُّوبَ، عن أبي قِلَابَةَ، عن أبي الْمُهَلَّبِ، عن عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ، قال: كانت الْعَضْبَاءُ لِرَجُلٍ من بَنِي عُقَيْلٍ، وَكَانَتْ من سَوَابِقِ الْحَاجِّ، قال: فَأُسِرَ، فَأَتَى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو في وَثَاقٍ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم على حِمَارٍ، عليه قَطِيفَةٌ، فقال: يا محمد عَلَامَ تَأْخُذُنِي، وَتَأْخُذُ سَابِقَةَ الْحَاجِّ؟ قال:"نَأْخُذُكَ بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِكَ ثَقِيفَ"، قال: وكان ثَقِيفُ قد أَسَرُوا رَجُلَيْنِ من أَصْحَابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: وقد قال فِيمَا قال: وأنا مُسْلِمٌ، أو قال: وقد أَسْلَمْتُ، فلما مَضَى النبيّ صلى الله عليه وسلم قال أبو دَاوُد: فَهِمْتُ هذا من مُحَمَّدِ بن عِيسَى- نَادَاهُ يا محمد يا محمد، قال: وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم رَحِيمًا رَفِيقًا، فَرَجَعَ إليه، قال:"ما شَأنُكَ؟ " قال: إِنِّي مُسْلِمٌ، قال: لو قُلْتَهَا، وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَكَ أَفْلَحْتَ كُلَّ الْفَلَاحِ- قال أبو دَاوُد: ثُمَّ رَجَعْتُ إلى حديث سُلَيْمَانَ- قال: يا محمد إنِّي جَائِع فَأَطْعِمْنِي، إنِّي ظَمَآن فَاسْقِنِي، قال: فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "هذه حَاجَتُكَ" -أو قال- "هذه حَاجَتُهُ"، قال: فَفُودِيَ الرَّجُلُ بَعْدُ بِالرَّجُلَيْنِ، قال: وَحَبَسَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم الْعَضْبَاءَ لِرَحْلِهِ، قال: فَأَغَارَ الْمُشْرِكُونَ على سَرْحِ الْمَدِينَةِ، فَذَهَبُوا بِالْعَضْبَاءِ، قال: فلما ذَهَبُوا بها، وَأَسَرُوا امْرَأَةً من الْمُسْلِمِينَ، قال: فَكَانُوا إذا كان اللَّيْلُ يُرِيحُونَ إبلَهُمْ في أَفْنِيَتِهِمْ، قال: فَنُوِّمُوا لَيْلَةً، وَقَامَت الْمَرْأَةُ، فَجَعَلَتْ لَا تَضَعُ يَدَهَا على بَعِيرٍ إلَّا
رَغَا، حتى أَتَتْ على الْعَضْبَاءِ، قال: فَأَتَتْ على نَاقَةٍ ذَلُولٍ مُجرَّسَةٍ، قال: فَرَكِبَتْهَا، ثُمَّ جَعَلَتْ لِلَّهِ عليها إن نَجَّاهَا الله لَتَنْحَرَنَّهَا، قال: فلما قَدِمَت الْمَدِينَةَ عُرِفَت النَّاقَةُ نَاقَةُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَأُخْبِرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بذَلِكَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَجِيءَ بها، وَأُخْبِرَ بِنَذْرِهَا، فقال:"بِئْسَ ما جَزَيْتِيهَا -أو- جَزَتْهَا إن الله أَنْجَاهَا عليها لَتَنْحَرَنَّهَا، لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ في مَعْصِيَةِ اللهِ، ولا فيما لَا يَمْلِكُ ابن آدَمَ".
قال أبو دَاوُد: وَالْمَرْأَةُ هذه امْرَأَةُ أبي ذَرٍّ
(1)
. انتهى
(2)
.
وأما رواية عبد الوهّاب الثقفيّ، عن أيوب، فساقها أبو عوانة في "مسنده"، فقال:
(5848)
- حدّثنا الربيع بن سليمان، قثنا الشافعيّ، قال: أنبا الثقفيّ -يعني: عبد الوهاب- عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلَّب، عن عمران بن حصين، قال: أَسَرَ (ح) وحدّثنا عمر بن شَبَّةَ، قثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفيّ، قثنا أيوب، عن أبي قلابة، أن عمران بن حصين، قال: أَسَرَ أصحابُ النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلًا من بني عُقيل، وتركوه في الحرَّة، وقال الربيع: فأوثقوه، وطرحوه في الحرّة، فمَرَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن معه، أو قال: أتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على حمار، وتحته قَطِيفة، فقال:"ما شأنك؟ " فقال: فيما أخذتني؟، وفيما أخذت سابقة الحاج؟ قال:"أُخذت بجريرة حلفائكم ثقيف"، كانت ثقيف، قد أَسَرَت رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتركه ومضي، فنادى: يا محمد، فرحمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع إليه، فقال:"ما شأنك؟ " قال: إني مسلم، قال:"لو قلتها وأنت تملك أمرك، أفلحت كلَّ الفلاح"، فتركه ومضي، فنادى: يا محمد يا محمد، فرجع إليه، فقال:"ما شأنك؟ " قال: إني جائع فأطعمني، قال: وأحسبه قال: وإني ظمآن فاسقني،
(1)
تقدّم أن قول أبي داود هذا فيه نظر؛ بل الذي يظهر من القصّة في السِّيَر أنَّها امرأة لرجل من غفار، وليس أبا ذرّ؛ لأنه قُتل في تلك الإغارة، وأُسرت امرأته، وأبو ذرّ عاش بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم دهرًا، فليُتأمّل.
(2)
"سنن أبي داود" 3/ 239.
قال: "هذه حاجتك"، ففداه رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجلين اللذين أسرتهما ثقيف، وأُخذت ناقته تلك، وسُبيت امرأة من الأنصار، فكانت الناقة قد أصيبت قبلها، فكانت تكون فيهم، فكانوا يجيئون بالنعم إليهم، فانفلتت ذات ليلة من الوثاق، فأتت الإبل، فجعلت كلما مَسَّت بعيرًا رغا، فتركته، حتى أتت تلك الناقة، فمَسّتها، فلم ترغ، وهي ناقة مُدَرَّبةٌ، فقعدت على عجزها، ثم صاحت بها، فانطلقت، فطُلِبت من ليلتها، فلم يقدر عليها، فجعلت لله إن أنجاها لتنحرنها، فلما قدمت عرفوا الناقة، وقالوا: ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: إنها قد جعلت لله عليها، إن أنجاها عليها لتنحرنها، قالوا: لا، والله لا نَدَعُك تنحريها حتى نُؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوه، فأخبروه -وقال الشافعيّ صلى الله عليه وسلم فأخبروه بالقصّة أن فلانة قد جاءت على ناقتك، وإنها قد جعلت لله عليها إن أنجاها عليها لتنحرنها، فقال:"سبحان الله، بئس ما جزيتيها، إذ نجاها الله عليها لتنحرنها، لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا وفاء لنذر فيما لا يملك العبد"، وقال ابن شَبَّةَ:"فيما لا يملك ابن آدم". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(4) - (بَابُ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى الْكَعْبَةِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4239]
(1642) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ -وَاللَّفْظُ لَهُ- حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، حَدَّثَنِي ثَابِتٌ، عَنْ أَنْسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَىَ شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ، فَقَالَ:"مَا بَالُ هَذَا؟ "، قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ، قَالَ:"إِنَّ اللهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ"، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ).
(1)
"مسند أبي عوانة" 4/ 11 - 12.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) أبو زكريّاء النيسابوريّ، تقدّم قبل بابين.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ) العيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
3 -
(مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيةَ الْفَزَارِيُّ) أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل مكة، ثم دمشق، ثقةٌ حافظ، كان يدلّس أسماء الشيوخ [8](ت 193)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 138.
4 -
(حُمَيْدُ) بن أبي حُميد الطويل، أبو عبيدة البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [5](ت 2 أو 143)(ع) تقدم في "الطهارة" 23/ 639.
5 -
(ثَابِت) بن أسلم الْبُنانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4] مات سنة بضع و (120)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
6 -
(أَنَسُ) بن مالك الصحابيّ الشهير رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
و"ابن أبي عمر" تقدم في الحديث الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أنس رضي الله عنه المشهور بخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، خدمه عشر سنين، ونال دعوته المباركة، فعُمّر، وكثرت أولاده، وأمواله، وأحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة، وقد جاوز عمره المائة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ حُمَيْدٍ) الطويل (عَنْ ثَابِتٍ) البنانيّ، وفي رواية مَرْوَان بْنِ مُعَاوِيةَ قال:(حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، حَدَّثَنِي ثَابِثٌ) قال في "الفتح": هكذا قال أكثر الرواة عن حميد، وهذا الحديث مما صرّح حميد فيه بالواسطة بينه وبين أنس، وقد حذفه في وقت آخر، فأخرجه النسائيّ من طريق يحيى بن سعيد الأنصاريّ، والترمذيّ من طريق ابن أبي عديّ، كلاهما عن حميد، عن أنس، وكذا أخرجه أحمد، عن ابن أبي عديّ، ويزيد بن هارون، جميعًا عن حميد بلا واسطة، ويقال: إن غالب رواية حميد عن أنس بواسطة، لكن أخرج البخاريّ من حديث حميد، عن أنس أشياء كثيرةً بغير واسطة، مع الاعتناء ببيان سماعه لها من أنس، وقد
وافق عمران القطّان عن حميد الجماعة على إدخال ثابت بينه وبين أنس رضي الله عنه، ولكن خالفهم في المتن، أخرجه الترمذيّ من طريقه، بلفظ: نذرت امرأةٌ أن تمشي إلى بيت الله، فسُئل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟، فقال:"إن الله لغنيّ عن مشيها، مروها فلتركب". انتهى
(1)
.
(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَىَ شَيْخًا) رأى رجلًا (يُهَادَى) -بضمّ أوله- من المهاداة، وهو أن يمشي مُعتمِدًا على غيره؛ لضعفه عن المشي بنفسه، وللترمذيّ من طريق خالد بن الحارث، عن حميد:"يتهادى" بفتح أوله، ثم مثناة (بَيْنَ ابْنَيْهِ) وفي رواية للنسائيّ:"بين رجلين"، وفي حديث أبي هريرة التالي:"أدرك شيخًا يمشي بين ابنيه، يتوكَّأ عليهما"، ولفظ ابن حبّان:"بين اثنين".
قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسم هذا الشيخ، ولا على اسم ابنيه، وقرأت بخطّ مغلطاي: الرجل الذي يُهادي، قال الخطيب: هو أبو إسرائيل، كذا قال، وتبعه ابن الملقّن، وليس ذلك في كتاب الخطيب، وإنما أورده من حديث مالك، عن حميد بن قيس وثور، أنهما أخبراه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا قائمًا في الشمس، فقال:"ما بال هذا؟ "، قالوا: أبو إسرائيل نذر أن لا يستظل، ولا يتكلَّم، ويصوم
…
الحديث. قال الخطيب: هذا الرجل هو أبو إسرائيل، ثم ساق حديث عكرمة، عن ابن عبّاس صلى الله عليه وسلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يخطب يوم الجمعة، فرأى رجلًا يقال له: أبو إسرائيل، فقال:"ما باله؟ "، قالوا: نذر أن يصوم، ويقوم في الشمس، ولا يتكلّم
…
الحديث، وهذا الحديث أخرجه البخاريّ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، والمغايرة بينه وبين حديث أنس رضي الله عنه ظاهرة من عدّة أوجه، فيحتاج من وحّد بين القصّتين إلى مُسْتنَد، والله المستعان. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(2)
، وهو تحقيق حسن.
(فَقَالَ: "مَا بَالُ هَذَا؟ ")؛ أي: أيّ شيء شأنه، وحاله، وفي حديث أبي هريرة:"ما شأن هذا؟ "(قَالُوا) في حديث أبي هريرة التالي بيان القائل، وهما
(1)
"الفتح" 5/ 171، كتاب "جزاء الصيد" رقم (1865).
(2)
"الفتح" 5/ 171 - 172 رقم (1865).
ابناه، ولفظه:"قال ابناه: يا رسول الله كان عليه نذر"، وقوله:(نَذَرَ) تقدّم أنه من بابي نصر، وضرب (أَنْ يَمْشِيَ)؛ أي: على قدميه بلا ركوب، يقال: مَشَى يمشي مَشْيًا، من باب رَمَى: إذا كان على رجليه سريعًا كان أو بطيئًا، فهو ماشٍ، والجمع مُشاةٌ، ويتعدّى بالهمزة والتضعيف، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "نَذَر أن يمشي" يعني به: إلى بيت الله تعالى؛ لأنَّه عرَّف نذر المشي، كما قال عقبة: إن أخته نذرت أن تمشي إلى بيت الله تعالي، وقال الطحاويّ: إلى الكعبة، ولم يَرِد فيما صحَّ من الحديث أكثر من هذين اللفظين: بيت الله، والكعبة. والحق العلماء بهما ما في معناهما، مثل أن يقول: إلى مكة، أو ذكر جزءًا من البيت. وهذا قول مالك وأصحابه، واختلف أصحابه فيما إذا قال: إلى الحرم، أو مكانًا فيه، أو مكانًا من مدينة مكة، أو المسجد، هل يرجع إلى البيت أم لا؟ على قولين، وقال الشافعي: متى قال: عليَّ المشي إلى شيء مما يشتمل عليه الحرم؛ لزمه، وإن ذكر ما خرج عنه، لم يلزمه. وبه قال أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وابن حبيب من أصحابنا، إلَّا إذا ذكر عرفات؛ فيلزمه وإن كانت خارج الحرم. وقال أبو حنيفة: لا يلزمه في هذا مشي ولا مسير في القياس، لكن الاستحسان في قوله: إلى بيت الله، أو الكعبة، أو مكة فقط. وكل هذا إذا ذكر المشي، فلو قال: عليّ المسير إلى مكة، أو الانطلاق، أو الذهاب؛ فلا شيء عليه؛ إلَّا أن يقول: في حجِّ، أو عمرةٍ، أو ينويهما. وتردد قول مالك في الرُّكوب، وأوجب أشهب الحج والعمرة فيهما؛ كالمشي. وكل هذا: إذا ذكر مكة، أو موضعًا منها على ما فصّلناه، فلو قال: عليَّ المشي إلى مسجد من المساجد الثلاثة لم يلزمه المشي عند ابن القاسم، بل المضي إليها، وقال ابن وهب: يلزمه المشي. وهو القياس. ولو قال: إلى مسجد غير هذه الثلاثة، قال ابن الموَّاز: إن كان قريبًا كالأميال، لزمه المشي إليه، وإن كان بعيدًا لم يلزمه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن من نذر إلى أحد المساجد
(1)
"المصباح المنير" 2/ 574.
(2)
"المفهم" 4/ 618 - 619.
الثلاثة يلزمه الوفاء به، وأما ما عداها من المساجد، فلا يُشرع النذر بالمشي إليها؛ للحديث المتّفق عليه: "لا تشدّ الرحال، إلَّا إلى ثلاثة مساجد
…
" الحديث، كما تقدّم، فيكون النذر إلى غيرها غير طاعة، فلا يلزم الوفاء بنذره، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّ اللهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ)؛ أي: بالمشي مع العجز، والجارّ والمجرور متعلّق بـ "غنيّ"، و"تعذب" مصدر مضاف إلى اسم الإشارة، وهو من إضافة المصدر إلى مفعوله، و"نفسُهُ" مرفوع على الفاعليّة، كما قال في "الخلاصة":
وَبَعْدَ جَرِّهِ الَّذِي أُضيفَ لَهْ
…
كَمِّلْ بِنَصْبٍ أَوْ بِرَفْعٍ عَمَلَهْ
وقوله: (لَغَنِيُّ) خبر "إنّ"، قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغنيّ"؛ أي: لم يكلفه بذلك، ولم يُحْوِجه إليه؛ لأنه غير مستطيع، وفي اللفظ الآخر:"إن الله لغني عنك، وعن نذرك"؛ أي: عن مشيك الذي لا تستطيعه، لا أنَّ أصل النذر يسقط عنه؛ فإنَّه قد أمره بالرُّكوب، قال: وخرجت هذه العبارة على ما تعارفناه بيننا، من أنَّ من استغنى عن شيء لم يلتفت إليه، ولم يعبأ به، وكيف لا، والله تعالى هو الغني الحميد، وكل الموجودات مفتقرة إليه افتقار ضعفاء العبيد. انتهى
(1)
.
(وَأَمَرَهُ) صلى الله عليه وسلم (أَنْ يَرْكَبَ)، وفي رواية للنسائيّ:"مُرْهُ، فَلْيَرْكَبْ"، زاد أحمد عن الأنصاريّ، عن حميد:"فركب"، قال في "الفتح": وإنما لم يأمره صلى الله عليه وسلم بالوفاء بالنذر، إما لأنَّ الحجِّ راكبًا أفضل من الحجِّ ماشيًا، فنذر المشي يقتضي التزام ترك الأفضل، فلا يجب الوفاء به، أو لكونه عجز عن الوفاء بنذره، وهذا هو الأظهر.
انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(1)
"المفهم" 4/ 616 - 617.
(2)
"الفتح" 5/ 172، كتاب "جزاء الصيد" رقم (1865).
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 4239](1642)، و (البخاريّ) في "جزاء الصيد"(1865) و"الأيمان والنذور"(6701)، و (أبو داود) في "الإيمان والنذور"(3301)، و (الترمذيّ) في "النذور والأيمان"(1537)، و (النسائيّ) في "الأيمان والنذور"(7/ 19 و 30) و"الكبرى"(3/ 136)، و (عبد الرزّاق) في "مصنفه"(8/ 449 و 450 و 452)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 92 و 93 و 96)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 114 و 183 و 235 و 271)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3532 و 3842 و 3881)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 361)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 240)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(939)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 13)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(3044)، و (ابن حبَّان) في "صحيحه"(4382 و 4383)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(9/ 28)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 128 - 129)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 78) و"المعرفة"(7/ 341) و"الصغرى"(8/ 533)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2444)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن من عجز عن الوفاء بنذره لا يجب عليه الوفاء، وسيأتي بيان اختلاف العلماء في وجوب الهدي عليه في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى-.
2 -
(ومنها): مشروعيّة النذر إلى بيت الله الحرام.
3 -
(ومنها): يُسر الدين وسهولة أمره، حيث يراعي عجز العاجزين، فلا يأمرهم بما يشقّ عليهم، كما قال الله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} الآية [الحج: 78].
4 -
(ومنها): إثبات صفة الغنى لله سبحانه وتعالى، فهو الغنيّ، والخلق مفتقرون إليه سبحانه وتعالى، كما قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [فاطر: 15]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في أقوال أهل العلم فيمن نذر المشي إلى بيت الله الحرام:
قال ابن قُدامة رحمه الله: من نذر المشي إلى بيت الله الحرام لزمه الوفاء بنذره. وبهذا قال مالك، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وأبو عُبيد، وابن المنذر، ولا نعلم فيه خلافًا. وذلك لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا تشدّ الرحال إلَّا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى"، متّفقٌ عليه. قال: ولا يجزئه المشي إلَّا في حجّ، أو عمرة، وبه يقول الشافعيّ، ولا أعلم فيه خلافًا، وذلك لأنَّ المشي المعهود في الشرع هو المشي في حجّ، أو عمرة، فإذا أطلق الناذر حُمل على المعهود الشرعيّ، ويلزمه المشي فيه؛ لنذره المشي، فإن عجز عن المشي ركب، وعليه كفّارة يمين. وعن أحمد رواية أخرى أنه يلزمه دم، وهو قول الشافعيّ، وأفتى به عطاء؛ لِمَا روى ابن عباس رضي الله عنهما:"أن أخت عقبة بن عامر رضي الله عنه نذرت المشي إلى بيت الله الحرام، فأمرها النبيّ صلى الله عليه وسلم أن تركب، وتُهدي هديًا"، رواه أبو داود، وفيه ضعف.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: بل هو حديث صحيح، ولتراجع كلام الشيخ الألباني رحمه الله في "الصحيحة"(6/ 1037)، والله تعالى أعلم.
قال: ولأنه أخلّ بواجب في الإحرام، فلزمه هديٌ، كتارك الإحرام من الميقات. وعن ابن عمر، وابن الزبير رضي الله عنهم قالا: يحجّ من قابل، ويركب ما مشي، ويمشي ما ركب، ونحوه عن ابن عبّاس، وزاد، فقال: ويُهدي. وعن الحسن مثل الأقوال الثلاثة. وعن النخعيّ روايتان: إحداهما؛ كقول ابن عمر. والثانية؛ كقول ابن عبّاس. وهذا قول مالك. وقال أبو حنيفة: عليه هديٌ، سواء عجز عن المشي، أو قدر عليه، وأقلّ الهدي شاة. وقال الشافعيّ: لا يلزمه مع العجز كفّارة بحال، إلَّا أن يكون النذر مشيًا إلى بيت الله الحرام، فهل يلزمه هديٌ، فيه قولان. وأما غيره، فلا يلزمه مع العجز شيء. قال: ولنا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم حين قال لأخت عقبة بن عامر لمّا نذرت المشي إلى بيت الله الحرام: "لتمش، ولتركب، ولتكفّر عن يمينها"
(1)
، وفي رواية: "ولتصم ثلاثة
(1)
ضعيف؛ لأنَّ في سنده شريك بن عبد الله النخعي، سيئ الحفظ، ويدلّس، وقد عنعنه.
أيام"
(1)
، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"كفّارة النذر كفّارة اليمين"
(2)
. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله باختصار
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: في هذا الحديث، وحديث أخت عقبة المذكور بعد هذا -وهو أنصُّ مما قبله-؛ دليلٌ على أنَّ نذر المشي إلى البيت الحرام يجب الوفاء به لمن قدر عليه، فإن لم يقدر وجب عليه المضيّ راكبًا، وظاهرهما لزوم المشي، وإن لم يذكر حجًّا ولا عمرة، كما هو مذهب مالك؛ لأنه لما سأله عقبة عمَّن نذر المشي إلى البيت مطلقًا، فأجاب عنه، ولم يستفصل، تعيَّن حملُ الجواب على إطلاق ذلك السؤال؛ إذ لو اختَلَف الحال بقيدٍ لسأل عنه، أو لبيَّنه؛ إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وإلى هذا ذهب الشافعيّ، وهو مرويّ عن عليّ، وابن عباس، وقال أبو حنيفة: إن لم يُسَمّ حجًّا ولا عمرة لم يلزمه مشيٌّ، ولا شيء جملة واحدة، وقال الحسن البصريّ: إن نذر حجًّا أو عمرة فلا مشي عليه، ويركب وعليه دم، وقاله أبو حنيفة أيضًا، والحجَّة عليهما ما تقدَّم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(4)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما ذهب إليه مالك، والشافعيّ، وروي عن عليّ وابن عبّاس رضي الله عنهما من أن من نذر المشي إلى بيت الله الحرام وجب الوفاء عليه، سواء سمّى حجًّا أو عمرة، أم لم يسمّ هو الراجح؛ لإطلاق حديث أنس، وعقبة بن عامر رضي الله عنهما، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.
(المسألة الخامسة): قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهر حديث هذا الشيخ أنَّه كان قد عجز عن المشي في الحال، وفيما يأتي بعد، ولذلك لم يقل له النبيّ صلى الله عليه وسلم ما قال لأخت عقبة:"مُرْها فلتمش ولتركب"؛ فإنَّها كانت ممن يقدر على بعض المشي، فأمرها أن تركب ما عجزت عنه، وتمشي ما قدرت عليه، وهذا هو
(1)
حديث الأمر بالصوم ضعيف؛ لأنه من رواية عبيد الله بن زحر، وهو ضعيف عند الأكثرين.
(2)
رواه مسلم.
(3)
"المغني" 13/ 635 - 636.
(4)
"المفهم" 4/ 616.
المناسب لقواعد الشريعة، ولم يذكر لواحد منهما وجوب دم عليه، ولا ذكر لأخت عقبة وجوب الرُّجوع لتمشي ما ركبته.
فأمَّا من يئس عن المشي فلا رجوع عليه قولًا واحدًا، ولا يلزمه دم؛ إذ لم يخاطب بالمشي، فيكون الدَّم بدله، وإنما هو استحباب عند مالك.
وأمَّا من خوطب بالمشي فركب لموجب من مرض، أو عجز: فيجب عليه الهدي عند الجمهور، وقال الشافعيّ: لا يجب عليه الهدي، ويُختار له الهدي، وروى عن ابن الزبير: أنه لم يجعل عليه دمًا؛ متمسِّكًا بما قررناه من الظاهر.
وقد تمسَّك الجمهور بزيادةٍ زادها أبو داود والطحاويّ في حديث عقبة، وهذا لفظه: قال عقبة بن عامر: أنه أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخبره: أن أخته نذرت أن تمشي إلى الكعبة حافية ناشرة شعرها، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"مرها فلتركب، ولتختمر، ولْتُهْدِ هديًا"، وعند أبي داود:"بدنة"، وليس فيه:"ناشرة شعرها"، وزيادة الهدي قد رواها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مع عقبة: ابنُ عبَّاس، ورواها عنهما الثقات، فلا سبيل إلى ردِّها، وليس سكوت من سكت عنها حجَّة على من نطق بها، وقد عَمِل بها الجماهير من السلف وغيرهم.
قال الجامع عفا الله عنه: القول بلزوم الهدي هو الحقّ؛ لصحّة الحديث بذلك، كما حقّقه القرطبيّ رحمه الله في كلامه المذكور آنفًا، والله تعالى أعلم.
قال: ثم هل يجب عليه مع الهدي الرجوع فيمشي ما ركبه أم لا يجب؛ اختُلِف فيه: فقيل: لا يجب عليه مطلقًا. وإليه ذهب الشافعي، وأهل الكوفة، وهذا أحد قولي ابن عمر. وقيل: يرجع، وإليه ذهب سلف أهل المدينة، وابن الزبير، وهو القول الآخر عن ابن عمر، وفرَّق مالك فقال: إن كان المشي يسيرًا لم يرجع، ويرجع في الكثير، ما لم يرجع لبلده البعيدة، فيكفيه الدَّم.
قال القرطبيّ رحمه الله: والتمسُّك بحديث عقبة في ترك إيجاب الرُّجوع ظاهر، وعمل سلف أهل المدينة باهر. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: العمل بما دلّ عليه حديث عقبة هو الأرجح.
(1)
"المفهم" 4/ 617 - 618.
والحاصل أن القول بلزوم الرجوع مما لا دليل عليه، فالحقّ ما ذهب إليه القائلون بعدم الرجوع؛ لوضح حجته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4240]
(1643) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقتيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ- عَنْ عَمْرٍو -وَهُوَ ابْنُ أَبِي عَمْرٍو- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَدْرَكَ، صلى الله عليه وسلم شَيْخًا يَمْشِي بَيْنَ ابْنَيْهِ، يَتَوَكّأ عَلَيْهِمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَا شَأْنُ هَذَا؟ "، قَالَ ابْنَاهُ: يَا رَسُولَ اللهِ كَانَ عَلَيْهِ نَذْرٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "ارْكَبْ أَيُّهَا الشَّيْخُ، فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكَ، وَعَنْ نَذْرِكَ"، وَاللَّفْظُ لِقُتَيْبَةَ، وَابْنِ حُجْرٍ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
وهو الإسناد الذي تقدّم بعينه.
وقوله: (يَتَوَكّأُ عَلَيْهِمَا)؛ أي: يعتمد عليهما، يقال: توكّأ على عصاه: اعتَمَد عليها، وتمام شرح الحديث تقدّم في حديث أنس رضي الله عنه قبله.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 4240 و 4241](1643)، و (ابن ماجه) في "سننه"(1/ 689)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 373)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 240)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(4/ 347)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 14)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 235)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 78)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4241]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ -يَعْنِي: الدَّرَاوَرْدِيَّ- عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
وقد ذُكروا قبله، وقبل أيضًا، و"عبد العزيز" هو: ابن محمد الدراورديّ المدنيّ.
[تنبيه]: رواية عبد العزيز الدراورديّ، عن عمرو بن أبي عمرو ساقها ابن ماجه في "سننه"، فقال:
(2135)
- حدثنا يَعْقُوبُ بن حُمَيْدِ بن كَاسِبٍ، ثنا عبد الْعَزِيزِ بن مُحَمَّدٍ، عن عَمْرِو بن أبي عَمْرٍو، عن الْأَعْرَجِ، عن أبي هُرَيْرَةَ، قال: رَأَى النبيّ صلى الله عليه وسلم شَيْخًا يَمْشِي بين ابْنَيْهِ، فقال:"ما شَأْنُ هذا؟ " قال ابْنَاهُ: نَذْر يا رَسُولَ اللهِ، قال:"ارْكَبْ أَيُّهَا الشَّيْخُ، فإنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكَ، وَعَنْ نَذْرِكَ". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤئف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:
[4242]
(1644) - (وَحَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى بْنِ صَالِحٍ الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ -يَعْنِي: ابْنَ فَضَالَةَ- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّهُ قَالَ: نَذَرَتْ أُخْتِى أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللهِ حَافِيَةً، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتيَ لَهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَفْتَيْتُهُ، فَقَالَ: "لِتَمْشِ، وَلْتَرْكَبْ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى بْنِ صَالِح الْمِصْرِيُّ) هو: زكريا بن يحيى بن صالح بن يعقوب القُضاعيّ، أبو يحيىًا لمصرى الْحَرَسيّ -بمهملة، وراء مفتوحتين، ثم مهملة- كاتب العُمَريّ القاضي، ثقةٌ [10].
رَوَى عن المفضل بن فَضَالة، ونافع بن يزيد، وابن وهب، ورِشْدين بن سَعْد.
وروى عنه مسلم، وإسماعيل بن داود بن وردان، والحسين بن إدريس الأنصاريّ الهرويّ، ومحمد بن زَبّان بن حبيب، وغيرهم.
(1)
"سنن ابن ماجه" 1/ 689.
قال ابن يونس: تُوُفّي يوم الأربعاء لإحدى وعشرين ليلة خَلَت من شعبان سنة (242) وكانت القُضاة تقبله، وقال مَسْلَمة: أخبرنا عنه ابن زَبّان، وكان ثقةً، وقال الصَّدَفيّ: سألت العُقَيليّ عنه، فقال: ثقةٌ حَدَّث عن المفَضَّل بأحاديث مستقيمة.
تفرّد به المصنّف، وليس له عنده في هذا الكتاب إلَّا حديثان، هذا برقم (1644)، وحديث (1886):"يُغْفَر للشهيد كلُّ ذنب إلَّا الدَّين".
2 -
(الْمُفَضَّلُ بْنُ فَضَالَةَ) بن عُبيد بن ثُمامة الْقِتْبانيّ، أبو معاوية المصريّ القاضي، ثقةٌ فاضلٌ عابدٌ، أخطأ ابن سعد في تضعيفه [8](ت 181)(ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 6/ 1625.
3 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَيَّاشٍ) -بمثنّاة، ومعجمة - ابن عباس - بموحّدة، ومهملة - الْقِتبانيّ - بكسر القاف، بعدها مثنّاة ساكنة، ثم موحّدة - أبو حفص المصريّ، صدوق يَغْلَط [7].
رَوَى عن أبيه، ويزيد بن أبي حبيب، وعبد الرَّحمن بن هرمز الأعرج، وعبيد الله بن أبي جعفر، والزهريّ، وأبي عُشّانة الْمَعَافريّ، وغيرهم.
وروى عنه الليث، وهو من أقرانه، ومُفَضَّل بن فَضَالة، وابن وهب، وزيد بن الْحُباب، وعبد الله بن يزيد المقريّ، وغيرهم.
قال أبو حاتم: ليس بالمتين، صدوقٌ، يُكْتَب حديثه، وهو قريب من ابن لَهِيعة، وقال أبو داود، والنسائيّ: ضعيف، وقال ابن يونس: منكر الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة سبعين ومائة.
روى له المصنّف، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث، أخرجه المصنّف في الشواهد.
4 -
(يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ) اسم أبيه سُويد، أبو رجاء المصريّ، ثقةٌ فقيه، وكان يُرسل [5](ت 128) وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.
5 -
(أَبُو الْخَيْرِ) مَرْثد بن عبد الله الْيَزَنيّ المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ [3](ت 90)(ع) تقدم في "الإيمان" 168/ 16.
6 -
(عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ) الجُهنيّ الصحابيّ المشهور، أبو حمّاد، وقيل: غيره، ولي إمرة مصر لمعاوية ثلاث سنين، وكان فقيهًا فاضلًا، مات في قرب الستين (ع) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه مسلسلٌ بالمصريين من أوله إلى آخره، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وصحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنه.
شرح الحديث:
(عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ) وفي الرواية التالية: عن عقبة بن عامر الْجُهَنيّ (أَنَّهُ قَالَ: نَذَرَتْ أُخْتِي) قال الحافظ رحمه الله: قال المنذريّ، وابن القسطلانيّ، والقطب الحلبيّ، ومن تبعهم: هي أم حِبَّان بنت عامر -وهي بكسر المهملة، وتشديد الموحّدة- ونسبوا ذلك لابن ماكولا، فَوَهِمُوا، فإن ابن ماكولا إنما نقله عن ابن سعد، وابن سعد إنما ذكر في طبقات النساء أم حِبّان بنت عامر بن نابي -بنون، وموحّدة- ابن زيد بن حَرَام -بمهملتين- الأنصارية، قال: وهي أخت عقبة بن عامر بن نابي، شَهِد بدرًا، وهي زوج حَرَام بن مُحَيِّصة، وكان ذَكَر قبلُ عقبةَ بن عامر بن نابي الأنصاريّ، وأنه شَهِد بدرًا، ولا رواية له، وهذا كله مغاير للجهنيّ، فإن له رواية كثيرة، ولم يَشْهَد بدرًا، وليس أنصاريًا، فعلى هذا لم يُعْرَف اسم أخت عقبة بن عامر الجهنيّ، وقد كنت تبعت في المقدمة مَن ذكرتُ، ثم رجعت الآن عن ذلك، وبالله التوفيق. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو بحث مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللهِ حَافِيَةً)؛ أي: بدون نعل، يقال: حَفِي الرجلُ يَحْفَي، من باب تَعِبَ حَفَاءً، مثلُ سلام: مشَى بغير نعلٍ، ولا خُفّ، فهو حافٍ، والجمع حُفاةٌ، مثلُ قاضٍ وقُضاة، والْحِفَاءُ بالمدّ: اسم منه
(1)
.
وفي رواية لأحمد، وأصحاب السنن من طريق عبد الله بن مالك، عن عقبة بن عامر الجهنيّ:"أن أخته نَذَرت أن تمشي حافيةً، غير مختمرة"، وزاد الطبريّ من طريق إسحاق بن سالم، عن عقبة بن عامر:"وهي امرأة ثقيلة، والمشي يشق عليها"، ولأبي داود من طريق قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أن عقبة بن عامر سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أخته نذرت أن تمشي إلى
(1)
"المصباح المنير" 1/ 142.
البيت، وشكا إليه ضعفها" (فَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتيَ لَهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: أسأل لها الفتوي، يقال: أفتى العالم: إذا بيّن الحكم، واستفتيه: إذا سألته أن يُبيّن الحكم، والْفَتْوى اسم منه، وهو بفتح الفاء، وبالواو، ويقال: الْفُتيا، بالياء مع ضمّ الفاء، وجمع الفتوى: الفَتَاوِي بكسر الواو على الأصل، ويجوز الْفَتَاوَى بالفتح؛ للتخفيف، أفاده الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
(فَاسْتَفْتَيْتُهُ، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لِتَمْشِ) بكسر اللام، وهي لام الأمر، ولذا جُزم الفعل بعدها، ووقع في النسخة الهنديّة:"لتمشي" بثبوت الياء، ويُخرّج على لغة من يحذف الحركة المقدّرة على حروف العلّة في الفعل المعتلّ، كما في قول الشاعر [من الطويل]:
وَتَضْحَكُ مِنِّي شَيْخَةٌ عَبْشَمِيّةٌ
…
كَأنْ لم تَرَى قَبْلِي أَسِيرًا يَمَانِيَا
وخَرَّج بعضهم عليه قراءة قُنبل: "إنه من يتقي ويصبر"[يوسف: 90] بإثبات الياء في {يَتقِي} وجزم "يصبر"
(2)
.
وقوله: (وَلْتَرْكَبْ) بكسر اللام، ويجوز تسكينها؛ تخفيفًا؛ تشبيهًا لها بـ "كتف"، والتسكين بعد الواو، والفاء أكثر، وتحريكها بعد "ثُمَّ" أجود، وبنو سُليم يفتحونها كلام الابتداء
(3)
.
قال النوويّ رضي الله عنه: معناه: تمشي في وقت قدرتها على المشي، وتركب إذا عجزت عن المشي، أو لحقتها مشقّة ظاهرةٌ، فتركب، وعليها دم، قال: وهذا الذي ذكرناه من وجوب الدم في الصورتين هو راجح القولين للشافعيّ، وبه قال جماعة، والقول الثاني لا دم عليه، بل يستحب الدم، وأما المشي حافيًا فلا يلزمه الحفاء، بل له لبس النعلين. انتهى
(4)
.
وفيه دليلٌ على صحة نذر المشي، وإلا لَمَا لزمها رضي الله عنها ذلك وقت القدرة.
(1)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 462.
(2)
راجع: "حاشية الخضريّ على سْرح ابن عَقِيل على الخلاصة" في "باب عوامل الجزم" 2/ 184.
(3)
راجع: "حاشية الخضريّ على شرح ابن عَقِيل على الخلاصة" 1/ 67.
(4)
"شرح النوويّ" 11/ 102 - 103.
وفي رواية عبد الله بن مالك، عن عقبة، عند أحمد، وأصحاب السنن:"مُرْها، فلتختمر، ولتركب، ولتصم ثلاثة أيام"، قال في "الفتح": ورَوَى مسلم عقب هذا الحديث حديث عبد الرَّحمن بن شِمَاسة وهو بكسر المعجمة، وتخفيف الميم، بعدها مهملة، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر رفعه:"كفارة النذر كفارة اليمين"، ولعله مختصر من هذا الحديث، فإن الأمر بصيام ثلاثة أيام هو أحد أوجه كفارة اليمين، لكن وقع في رواية عكرمة المذكورة:"قال: فلتركب، ولْتُهْد بدنة"
(1)
.
وقال في موضع آخر: وإنما أمر الناذر في حديث أنس رضي الله عنه أن يركب جزمًا، وأمر أخت عقبة أن تمشي، وأن تركب؛ لأنَّ الناذر في حديث أنس كان شيخًا ظاهر العجز، وأُخت عقبة لم توصف بالعجز، فكأنه أمرها أن تمشي إن قدرت، وتركب إن عجزت، وبهذا ترجم البيهقيّ للحديث، وأورده في بعض طرقه من رواية عكرمة، عن ابن عبّاس: أن أخت عقبة نذرت أن تحُجّ ماشية، فقال:"إن الله غنيّ عن مشي أختك، فلتركب، ولتُهد بدنة". وأورده من طريق أخرى بلفظ: "ولتُهد هديًا"، وَوَهِمَ من نسب إليه أنه أخرج هذا الحديث بلفظ:"ولتهد بدنة". وأورده من طريق أخرى عن عكرمة بغير ذكر الهدي. وأخرجه الحاكم من حديث ابن عبّاس بلفظ: جاء رجلٌ، فقال: إن أختي حلفت أن تمشي إلى البيت، وإنه يشقّ عليها المشي، فقال:"مُرْها، فلتركب إذا لم تستطع أن تمشي، فما أغنى الله أن يشقّ على أختك". ومن طريق كريب، عن ابن عبّاس: جاء رجلٌ، فقال: يا رسول الله، إن أختي نذرت أن تحُجّ ماشيةً، فقال:"إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئًا، لتحُجّ راكبةً، ثم لتكفّر يمينها". وأخرجه أصحاب السنن من طريق عبد الله بن مالك، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، قال: نذرت أختي أن تحُجّ ماشيةً، غير مختمرة، فذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"مُر أختك، فلتختمر، ولتركب، ولتصُم ثلاثة أيام".
ونقل الترمذيّ، عن البخاريّ أنه لا يصحّ فيه الهدي.
وقد أخرج الطبرانيّ من طريق أبي تَميم الجَيْشانيّ، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه
(1)
"الفتح" 5/ 173.
في هذه القصّة: نذرت أن تمشي إلى الكعبة حافيةً، حاسرةً، وفيه:"لتركب، ولتلبس، ولتصم". وللطحاويّ من طريق أبي عبد الرَّحمن الْحُبُليّ، عن عقبة نحوه. وأخرج البيهقيّ بسند ضعيف، عن أبي هريرة رضي الله عنه: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في جوف الليل؛ إذ بصر بخيال، نفرت منه الإبل، فإذا امرأة عريانة، نافضةٌ شعرها، فقالت: نذرتُ أن أحجّ ماشيةً عريانةً، نافضة شعري، فقال:"مرها، فلتلبس ثيابها، ولتُهرق دمًا". وأورد من طريق الحسن، عن عمران، رفعه:"إذا نذر أحدكم أن يحجّ ماشيًا، فليُهد هديًا، وليركب"، وفي سنده انقطاع. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عقبة بن عامر الْجُهَنيّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 4242 و 4243 و 4244](1644)، و (البخاريّ) في "جزاء الصيد"(1866)، و (أبو داود) في "الأيمان والنذور"(3299)، و (الترمذيّ) في "النذور والأيمان"(1544)، و (النسائيّ) في "الأيمان والنذور"(7/ 19 و 20) و"الكبرى"(3/ 136)، و (ابن ماجه) في "سننه"(2134)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(8/ 451)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 92 و 215)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 143 و 145 و 147 و 149 و 151 و 4/ 152)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 239)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(3045)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(17/ 273)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(1/ 191)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 282 و 4/ 15 - 16)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 78)، و"الصغرى"(8/ 535)، و"المعرفة"(7/ 342)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان حكم من نذر المشي إلى الكعبة، وذلك أنه يلزمه
(1)
"الفتح" 15/ 369 - 370، كتاب "الأيمان والنذور" رقم (6701).
المشي، إن قدر، وإلا ركب، وكفّر، كما تدلّ عليه رواية:"ولتُهد"، وأما رواية "ولتصُم ثلاثة أيام"، فإنها ضعيفة، والصحيح أنه أمرها بالهدي.
2 -
(ومنها): جواز النذر من المرأة، كما يجوز من الرجل.
3 -
(ومنها): عدم انعقاد النذر في المعصية، فإنها لَمّا نذرت أن تحجّ حاسرة شعرها، أمرها النبيّ صلى الله عليه وسلم بالاختمار؛ لأن تكشّف المرأة معصية.
4 -
(ومنها): جواز النذر بالحجّ والعمرة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4243]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، أَنَّ يَزِيدَ بْنَ أَبِي حَبِيبٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَا الْخَيْرِ حَدَّثَهُ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: نَذَرَتْ أُخْتِي، فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ مُفَضَّلٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ في الْحَدِيثِ: "حَافِيَةً"، وَزَادَ: وَكَانَ أبُو الْخَيْرِ لَا يُفَارِقُ عُقْبَةَ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم قبل بابين.
3 -
(ابْنُ جُرَيْج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم قريبًا.
4 -
(سَعِيدُ بْن أَبِي أَيُّوبَ) الخُزاعيّ، أبو يحيى المصريّ، واسم أبيه مِقْلاص، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 161) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 15.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ مُفَضَّلٍ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير سعيد بن أبي أيوب.
وقوله: (وَكَانَ أَبُو الْخَيْرِ لَا يُفَارِقُ عُقْبَةَ) قال في "الفتح": هو قول يزيد بن أبي حبيب الراوي عن أبي الخير، والمراد بذلك بيان سماع أبي الخير له من عقبة. انتهى
(1)
.
(1)
"الفتح" 5/ 173، كتاب "جزاء الصيد" رقم (1865).
[تنبيه]: رواية سعيد بن أبي أيوب عن يزيد بن أبي حبيب هذه ساقها البخاريّ
(1)
في "صحيحه"، فقال:
(1767)
- حدّثنا إِبْرَاهِيمُ بن مُوسَي، أخبرنا هِشَامُ بن يُوسُفَ، أَنَّ ابن جُرَيْج أَخْبَرَهُمْ، قال: أخبرني سَعِيدُ بن أبي أَيُّوبَ، أَنَّ يَزِيدَ بن أبي حَبِيبٍ أخبره، أَنَّ أَبَا الْخَيْرِ حدّثه، عن عُقْبَةَ بن عَامِرٍ قال: نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إلى بَيْتِ اللهِ، وَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَفْتَيْتُهُ، فقال عليه السلام:"لِتَمْشِ، وَلْتَرْكَبْ"، قال: وكان أبو الْخَيْرِ لَا يُفَارِقُ عُقْبَةَ. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4244]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَابْنُ أَبِي خَلَفٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، أَنَّ يَزِيدَ بْنَ أَبِي حَبِيبٍ أَخْبَرَهُ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، مِثْلَ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون البغداديّ، مروزيّ الأصل، صدوقٌ فاضلٌ، ربّما وَهِمَ [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.
2 -
(ابْنُ أَبِي خَلَفٍ) محمد بن أحمد بن أبي خَلَف السلميّ، أبو عبد الله البغداديّ القَطِيعيّ، ثقةٌ [10](ت 237)(م د) تقدم في "الإيمان" 92/ 502.
(1)
وأما من رواية عبد الرزّاق، عن ابن جريجٍ، فأخرجها الطبرانيّ في "المعجم الكبير" 17/ 273 فقال:
(750)
- حدّثنا إِسْحَاقُ بن إبراهيم الدَّبَرِيُّ، عن عبد الرَّزَّاقِ، عَنِ ابن جُرَيْجٍ، أنا سَعِيدُ بن أبي أَيُّوبَ، أنَّ يَزِيدَ بن أبي حَبِيب أخبره، أَنَّ أَبَا الْخَيْرِ حدثه عن عُقبَةَ بن عَامِرٍ، قال: نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إلى بَيْتِ الله، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لها، فَاسْتَفْتَيْتُ لها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"لِتَمْشِ، وَلْتَرْكَبْ"، وكان أبو الْخَيْرِ لا يُفَارِقُ عُقْبَةَ. انتهى.
(2)
"صحيح البخاريّ" 2/ 660.
3 -
(رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ) بن العلاء بن حسّان الْقَيسيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، له تصانيف [9](ت 7 أو 205)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 476.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: رواية روح بن عبادة، عن ابن جُريج هذه ساقها البيهقيّ في "الصغرى"، فقال:
(4128)
- وأخبرنا أبو نصر محمد بن إسماعيل البزار بالطابران، ثنا عبد الله بن أحمد بن منصور الطوسيّ، ثنا محمد بن إسماعيل الصائغ، قالا: أنا رَوْح بن عُبادة، أنا ابن جريجٍ، أخبرني يحيى بن أيوب، أن يزيد بن أبي حبيب أخبره، أن أبا الخير أخبره، عن عقبة بن عامر أنه قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله، فأمرتني أن أستفتي لها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فاستفيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"لتمش، ولتركب"، قال: وكان أبو الخير لا يفارق عقبة. انتهى
(1)
،
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(5) - (بَابٌ فِي كَفَّارَةِ النَّذْرِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4245]
(1645) - (وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، وَيُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَي، وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَي، قَالَ يُونُسُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ كعْبِ بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شمَاسَةَ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ) السعديّ مولاهم، أبو جعفر نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253) وله (83) سنةً (م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.
(1)
"السنن الصغرى" للبيهقي (نسخة الأعظمي) 8/ 535.
2 -
(يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى) بن ميسرة الصَّدَفيّ، أبو موسى المصريّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 264) وله (96) سنةً (م س ق) تقدم في "الإيمان" 75/ 393.
3 -
(أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى) بن حسّان المصريّ المعروف بابن التستريّ، صدوق تُكُلّم في بعض سماعاته، قال الخطيب: بلا حجة [10](ت 243)(خ م س ق) تقدم في "الإيمان" 8/ 134.
4 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله، تقدّم قبل بابين.
5 -
(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) المصريّ، تقدّم قريبًا.
6 -
(كَعْبُ بْنُ عَلْقَمَةَ) بن كعب المصريّ التَّنُوخيّ، أبو عبد الحميد، صدوقٌ [5](ت 127) أو بعدها (بخ م د س ق) تقدم في "الصلاة" 7/ 855.
7 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شَمَاسَةَ
(1)
"الْمَهْريّ
(2)
المصريّ، ثقةٌ [3](ت 101) أو بعدها (م 4) تقدم في "الإيمان" 57/ 328.
والباقيان ذُكرا في السند الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه مسلسل بالمصريين من أوله إلى آخره، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: كعب، عن ابن شماسة، عن أبي الخير، وفيه قوله: قال يونس: أخبرنا
…
إلخ، وفائدته بيان اختلاف شيوخه في كيفيّة التحمّل والأداء، فيونس أخذه عن ابن وهب بقراءة غيره عليه، ولذا قال:"أخبرنا"، وأما هارون، وأحمد فسمعاه من لفظه، ولذا قالا:"حدّثنا"، فقوله:"ابن وهب" مرفوع على الفاعليّة تنازعه كلّ من "أخبرنا"، و"حدّثنا"، كما قال في "الخلاصة":
إِنْ عَامِلَانِ اقْتَضَيَا فِي اسْم عَمَلْ
…
قَبْلُ فَلِلْوَاحِدِ مِنْهُمَا الْعَمَلْ
وَالثَّانِ أَوْلَى عِنْدَ أَهْلِ الْبَصْرَهْ
…
وَاخْتَارَ عَكْسًا غَيْرُهُمْ ذَا أُسْرَهْ
(1)
بكسر الشين المعجمة، وضمها، وتخفيف الميم، بعدها مهملة، هكذا ضبطه بعضهم بكسر الشين، وضمّها، وفي "القاموس": وشُماسة، كثُمامة، ويُفتح: اسم. انتهي، فعلى هذا فيكون مثلّث الشين، والله تعالى أعلم.
(2)
بفتح الميم، وسكون الهاء.
شرح الحديث:
(عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ") قال النوويّ رحمه الله: اختَلَف العلماء في المراد به، فحمله جمهور أصحابنا على نَذْر اللَّجَاج، وهو أن يقول إنسان يريد الامتناع من كلام زيد مثلًا: إن كلمت زيدًا مثلًا فللَّه عليّ حجةٌ، أو غيرها، فيكلمه، فهو بالخيار بين كفارة يمين، وبين ما التزمه، هذا هو الصحيح في مذهبنا، وحمله مالك، وكثيرون، أو الأكثرون على النذر المطلق، كقوله: عليَّ نَذْرٌ، وحمله أحمد، وبعض أصحابنا على نذر المعصية، كمن نذر أن يشرب الخمر، وحمله جماعة من فقهاء أصحاب الحديث على جميع أنواع النذر، وقالوا: هو مُخَيَّر في جميع النذورات بين الوفاء بما التزم، وبين كفارة يمين، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "كفارة النَّذر كفارة اليمين"؛ يعني به: النذر الذي لم يسمَّ مخرجه بدليلين:
[أحدهما]: أن هذا الحديث قد رواه أبو داود من حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما مرفوعًا: "من نذر نذرًا لم يسمه فكفارته كفارة يمين"، فقيَّد في هذا الحديث ما أطلقه في حديث عقبة.
[وثانيهما]: أنَّه صلى الله عليه وسلم أمر أبا إسرائيل بإتمام الصوم الذي نذره، وقال:"من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعص الله فلا يعصه"، ولا يتميَّزُ آحاد النوعين إلَّا بالتعيين والتسمية، والمفهوم من الأمر بالوفاء بالنذر: أن يفعل عين ما التزمه، وأما ما لم يُعيّن لفظًا ولا نية: فالأصل عدم لزومه، وما ذكرناه هو مذهب مالك، وأصحابه، وكثير من أهل العلم، وقد ذهبت طائفة من فقهاء المحدثين وأبو ثور: إلى أن كفارة اليمين تجري في جميع أبواب النذر تمسُّكًا بإطلاق الحديث الأول، والحجَّة عليهم ما ذكرناه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما ذهب إليه جماعة فقهاء أصحاب الحديث من حمله على جميع أنواع النذور هو الأرجح؛ لأن حمله على بعض تلك الأنواع التي حملوها عليه يحتاج إلى دليل.
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 104.
(2)
"المفهم" 4/ 620 - 621.
وأما ترجيح القرطبيّ حمْله على النذر الذي لم يُسمّ بدليلين، ففيه نظر؛ لأن الدليل الأول وهو "من نذر نذرًا لم يسمّه
…
إلخ " فزيادة "لم يسمّه" ضعيفة، كما قدّمنا بيانه؛ لأن في سندها عبيد الله بن زحر، وهو ضعيف عند الأكثرين، وأما قصّة أبي إسرائيل فليس فيها ما ينافي حديث الباب؛ لأنَّ حديث الباب فيه زيادة عليه، والزيادة من الثقة مقبولة، ومما يؤيّد هذا أن كثيرًا من القائلين بهذا يقولون بوجوب الكفّارة في نذر المعصية، وليس في قصّة أبي إسرائيل ذكر الكفّارة في نذر المعصية، بل زائد من حديث آخر، فكذلك ما هنا، فتأمله.
وقد تقدّم البحث في هذا مستوفًى في المسألة الرابعة من المسائل المذكورة في شرح حديث عمران بن حُصين رضي الله عنهما الطويل الذي تقدّم قبل باب، والله تعالى أعلم بالصواب.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 4245](1645)، و (أبو داود) في "الأيمان والنذور"(3/ 214)، و (الترمذيّ) في "النذور والأيمان"(1528)، و (النسائيّ) في "الأيمان والنذور"(7/ 26) و "الكبرى"(3/ 142)، و (ابن ماجه) في "سننه"(2127)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 144 و 146 و 147)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(1/ 158 و 191)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 15)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(17/ 272 و 273 و 313)، و (البيهقيّ) في "المعرفة"(7/ 315 و 333)، و"الصغرى"(8/ 511)، و"الكبرى"(10/ 45 و 67 و 71)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
* * *
26 - (كِتَابُ الأَيْمَانِ)
" الإيمان" -بفتح الهمزة- جمع يمين، وأصل اليمين في اللغة اليد، وأُطلقت على الحلف لأنهم كانوا إذا تحالفوا أخَذَ كلٌّ بيمين صاحبه. وقيل: لأنَّ اليد اليمنى من شأنها حفظ الشيء، فسُمّي الحلف بذلك لحفظ المحلوف عليه، وسمّي المحلوف عليه يمينًا لتلبّسه بها. ويُجمع اليمين أيضًا على أَيمُن، كرَغِيفٍ وأَرْغُف. وعُرِّفت شرعًا بأنها توكيد الشيء بذكر اسم، أو صفة لله تعالى. وهذا أخصر التعاريف، وأقربها. قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال ابن قُدامة رحمه الله: الأصل في مشروعيّة الإيمان الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع، أما الكتاب، فقوله سبحانه وتعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} الآية [المائدة: 89]. وقال تعالى: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] وأمر نبيّه صلى الله عليه وسلم بالحلف في ثلاثة مواضع، فقال:{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} الآية [يونس: 53]، وقال تعالى:{قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} الآية [سبأ: 3]، والثالث:{قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} الآية [التغابن: 7].
وأما السُّنَّة فقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إني والله إن شاء الله، لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرًا منها، إلَّا أتيت الذي هو خير، وتحلّلتها"، متّفقٌ عليه. وكان أكثر قَسَم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ومُصَرِّفِ القلوب"، و"مقلّب القلوب"، ثبت هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في آي، وأخبار سوى هذين كثيرة.
وأجمعت الأمة على مشروعيّة اليمين، وثبوت حكمها، ووضعُها في الأصل لتوكيد المحلوف عليه. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله
(2)
.
(1)
"الفتح" 15/ 249، كتاب "الأيمان والنذور" رقم (6621).
(2)
"المغني" 13/ 435.
(1) - (بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى)
" الْحَلِفُ" -بفتح الحاء المهملة، وكسر اللام، وتسكّن تخفيفًا، قال المجد رحمه الله: حَلَفَ يَحْلِف حَلْفًا -أي: بالفتح- ويُكسر، وحَلِفًا، ككَتِفٍ، ومحلوفًا، ومحلوفةً، ويقال: لا، ومحلوفائِهِ بالمدّ، ومَحْلُوفَةً بالله؛ أي: أحلِف مَحْلُوفةً؛ أي: قَسَمًا، والأحْلُوفةُ: أُفْعُولةٌ، من الْحَلِف. انتهى
(1)
.
وقال الفيوميّ رحمه الله: حَلَفَ بالله حِلْفًا بكسر اللام، وسكونُها تخفيفٌ، وتؤنّث، الواحدة بالهاء، فيقال: حَلْفَةٌ، ويقال في التعدّي: أحلفته إحلافًا، وحلّفته تحليفًا، واستحلفته. انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4246]
(1646) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ (ع) وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَي، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَاب، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ"، قَالَ عُمَرُ: فَوَاللهِ مَا حَلَفْتُ بِهَا مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهَا ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ) المصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجيبيّ المصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(ابْنُ وَهْب) هو: عبد الله المصريّ الحافظ، تقدَّم في السند الماضي.
4 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم قريبًا.
5 -
(ابْنُ شِهَاب) محمد بن مسلم الزهريّ الإمام، تقدّم أيضًا قريبًا.
(1)
"القاموس المحيط" ص 313.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 146.
6 -
(سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمر القرشيّ العدويّ، أبو عمر، أو أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ عابد فاضل فقيهٌ، كان يُشبَّه بأبيه في الهدي والسمت، من كبار [3](ت 106) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 162.
7 -
(أَبُوهُ) عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
شرح الحديث:
(عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ) عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما أنه (قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ -عَزَّوَجَلَّ- يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ") وسبب نهيه له أنه سمعه يحلف بأبيه، ففي رواية ابن عيينة التالية:"سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم عمر، وهو يحلف بأبيه"، ولفظ النسائيّ:"سمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم عمر مرّة، وهو يقول: وأبي، وأبي"، وفي رواية نافع، عن ابن عمر الآتية:"أنه صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطّاب في ركب، وعمر يحلف بأبيه"، وفي رواية إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر من الزيادة:"وكانت قُريش تحلف بآبائها".
("إِنَّ اللهَ -عَزَّوَجَلَّ- يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ" في رواية الليث، عن نافع:"فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ووقع في "مصنف ابن أبي شيبة" من طريق عكرمة قال:"قال عمر: حَدَّثت قومًا حديثًا، فقلت: لا وأبي، فقال رجل من خلفي: لا تحلفوا بآبائكم، فالتفَتُّ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لو أن أحدكم حلف بالمسيح هلك، والمسيح خير من آبائكم"، قال الحافظ رحمه الله: وهذا مرسل يتقوى بشواهده، وقد أخرج الترمذيّ من وجه آخر، عن ابن عمر أنه سمع رجلًا يقول: لا والكعبةِ، فقال: لا تحلف بغير الله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"مَن حَلَف بغير الله فقد كفر، أو أشرك"، قال الترمذيّ: حسنٌ، وصححه الحاكم، والتعبير بقوله:"فقد كفر، أو أشرك" للمبالغة في الزجر، والتغليظ في ذلك، وقد تمسك به من قال بتحريم ذلك. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: القول بالتحريم هو الظاهر القويّ؛ لظهور حجته، فتأمل، والله تعالى أعلم.
(قَالَ عُمَرُ) رضي الله عنه (فَوَاللهِ مَا حَلَفْتُ بِهَا)؛ أي: بهذه الحلفة، وهي الحلف
بالأب (مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهَا) وقوله: (ذَاكِرًا) منصوب على الحال؛ أي: حال كوني ذاكرًا؛ أي: عامدًا، وقال البغويّ رحمه الله: لم يُرد به الذكر الذي هو ضدّ النسيان، بل أراد به: محدّثًا عن نفسي، متكلّمًا به. انتهى
(1)
.
(وَلَا أَثِرًا) بالمدّ، وكسر المثلثة؛ أي: حاكيًا عن غيري؛ أي: ما حلفت بها، ولا حكيت ذلك عن غيري، ويدلّ عليه ما وقع في رواية عُقيل عن ابن شهاب الآتية:"ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنها، ولا تكلمت بها".
وقال الحميديّ بعد ذكر الحديث: قال سفيان
(2)
: سمعت محمد بن عبد الرَّحمن مولى آل طلحة -وكان بصيرًا بالعربيّة- يقول: "ولا آثرًا" آثُرُه عن غيري، أُخبر عنه أنه حَلَف بها، وقال أبو عبيد في "الغريب":"ولا آثرًا" يريد به: ولا مخبرًا عن غيري أنه حلف به، يقول: لا أقول: إن فلانًا قال: وأبي لا أفعل كذا وكذا، ومن هذا قيل: حديث مأثور؛ أي: يخبر به الناس بعضهم بعضًا، يقال منه: أَثَرتُ -مقصورًا- الحديثَ آثُرُه أَثْرًا، فهو مأثور، وأنا آثرٌ، على مثال فاعلٍ، قال الأعشى:
إِن الَّذِي فِيهِ تَمَاريتُمَا
…
بَيِّنٌ للسَّامِعِ وَالآثِرِ
(3)
وقال في "الفتح" بعد ذكر بعض ما تقدّم ما نصّه: وقد استُشْكِل هذا التفسير لتصدير الكلام بـ"حلفتُ"، والحاكي عن غيره لا يسمى حالفًا.
وأجيب باحتمال أن يكون العامل فيه محذوفًا؛ أي: ولا ذكرتها آثرًا عن غيري، أو يكون ضَمَّنَ حَلَفْتُ معنى تكلمت، ويقويه رواية عُقيل، وجوّز الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ" لقوله:"آثرًا" معنى آخر؛ أي: مختارًا، يقال: آثَرَ الشيءَ: إذا اختاره، فكأنه قال: ولا حلفت بها مُؤثرًا لها على غيرها.
(1)
"شرح السُّنَّة" 10/ 4.
(2)
هو ابن عيينة، فتنبّه.
(3)
"غريب الحديث" لأبي عبيد 2/ 59.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "من آثر الشيءَ
…
إلخ" فيه نظر لا يخفى؛ لأنَّ آثر الشيء رباعيّ، واسم فاعله مؤثر، كما ذكره في كلامه، وليس آثرًا، فإنه اسم فاعل، من أَثَرَ الخبر: إذا نقله، وليس بمعنى اختاره.
والحاصل أن هذا المعنى الذي ذكره العراقيّ، وكذا الاحتمال الذي بعده، لا يخفى بُعدهما، فالأولى ما تقدّم من تفسير "آثرًا" بمعنى ناقلًا عن غيري، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
قال العراقيّ أيضًا: وَيَحْتَمِل أن يرجع قوله: "آثرًا" إلى معنى التفاخر بالآباء في الإكرام لهم، ومنه قولهم: مَأثرة، ومآثر، وهو ما يُرْوَى من المفاخر، فكأنه قال: ما حلفت بآبائي ذاكرًا لمآثرهم، وجَوَّز في قوله:"ذاكرًا" أن يكون من الذُّكْر بضم المعجمة، كأنه احترز عن أن يكون ينطق بها ناسيًا، وهو يناسب تفسير آثرًا بالاختيار، كأنه قال: لا عامدًا، ولا مختارًا.
وجزم ابن التين في "شرحه" بأنه من الذِّكْر بالكسر، لا بالضم، قال: وإنَّما هو لم أقله من قِبَلِ نفسي، ولا حَدَّثت به عن غيري أنه حَلَف به، قال: وقال الداوديّ: يريد ما حلفت بها، ولا ذكرت حَلْفَ غيري بها، كقوله: إن فلانًا قال: وحَقِّ أبي مثلًا.
واستُشْكِل أيضًا أن كلام عمر المذكور يقتضي أنه تورع عن النطق بذلك مطلقًا، فكيف نطق به في هذه القصَّة؟.
وأجيب بأنه اغتُفِر ذلك لضرورة التبليغ. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 4246 و 4247 و 4248 و 4249 و 4250 و 4251](1646)، و (البخاريّ) في "الشهادات"(2679) و"الأيمان والنذور"
(1)
"الفتح" 15/ 275 - 276.
(6646 و 6647)، و (أبو داود) في "الأيمان والنذور"(3249 و 3250)، و (الترمذيّ) في "النذور والأيمان"(1534)، و (النسائيّ) في "الأيمان والنذور"(7/ 4 - 5) و"الكبرى"(3/ 122 و 123)، و (ابن ماجة) في "الكفّارات"(2094)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 480)، و (ابن المبارك) في "مسنده"(1/ 103)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(15922 و 15925)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 78)، و (الحميديّ) في "مسنده"(624 و 686)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 7 و 8 و 11 و 17 و 18 و 19 و 32 و 36 و 142)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 185)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4359 و 4360)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 368 و 400)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 24)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(922)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 32)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(3/ 48 و 234)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 28 و 29) و"المعرفة"(7/ 306) و"الصغرى"(8/ 429429)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2431)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): هذا الحديث رُوي من مسند عمر، ومن مسند ابن عمر رضي الله عنهما، قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: أخرجه من الطريق الأولى -يعني: كونه عن عمر رضي الله عنه مسلم، وأبو داود من رواية أبي الحسن بن العبد من هذا الوجه من طريق عبد الرزّاق، عن معمر، واتّفق الشيخان من طريق يونس بن يزيد، وأخرجه مسلم من رواية عُقيل بن خالد، والنسائيّ، وابن ماجه من رواية ابن عيينة، والنسائيّ من رواية الزُّبيديّ، أربعتهم عن الزهريّ، عن سالم، عن أبيه، عن عمر، وفي رواية عُقيل:"ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنها، ولا تكلّمت بها"، ولم يقل:"ذاكرًا، ولا آثرًا".
وأخرجه من الطريق الثانية -يعني: كونه عن ابن عمر- مسلم، والترمذيّ، والنسائيّ، من هذا الوجه من رواية سفيان بن عُيينة، عن الزهريّ، عن سالم، عن أبيه، وذكره البخاريّ تعليقًا، فقال بعد ذكر الطريق الأولى: تابعه عُقيل، والزُّبيديّ، وإسحاق الكلبيّ، عن الزهريّ، وقال ابن عيينة، ومعمر، عن الزهريّ، عن سالم، عن ابن عمر، سمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم عمر. انتهى.
وقد ظهر بذلك الاختلاف على سالم، أو الزهريّ في أن الحديث في
مسند عمر، أو ابن عمر، والاختلاف على ابن عيينة أيضًا، فالجمهور جعلوه من طريقه من مسند ابن عمر، حكاه عنهم الحافظ العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذيّ"، ورواه محمد بن عبد الله بن يزيد المقريّ، وسعيد بن عبد الرَّحمن المخزوميّ، ومحمد بن يحيى بن أبي عمر عنه بإثبات عمر.
وأخرجه من الطريق الثالثة -يعني: طريق نافع- البخاريّ، من طريق مالك، والشيخان من طريق الليث بن سعد، ومسلم، والترمذيّ، والنسائيّ في "الكبرى" من طريق عبيد الله بن عمر، ومسلم أيضًا من طريق أيوب السختيانيّ، والوليد بن كثير، وإسماعيل بن أميّة، والضحّاك بن عثمان، وابن أبي ذئب، وعبد الكريم الجزريّ، تسعتهم عن نافع، عن ابن عمر.
ورواه أبو داود عن أحمد بن يونس، عن زُهير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، وجعل المزّيّ في "الأطراف" رواية عبد الكريم الجزريّ عند مسلم بإثبات عمر، وليس كذلك، وقد ظهر الاختلاف فيه على نافع كسالم. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن الحديث صحيح من مسند ابن عمر، ومن مسند عمر رضي الله عنهما جميعًا، قال الحافظ رحمه الله: ويشبه أن يكون ابن عمر رضي الله عنهما سمع المتن من النبيّ صلى الله عليه وسلم، والقصّة التي وقعت لعمر رضي الله عنه منه، فحدّث به على الوجهين. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في فوائده:
1 -
(منها): النهي عن الحلف بغير الله تعالي، وانما خصّ في حديث عمر بالآباء؛ لوروده على سبب، وهو أنه صلى الله عليه وسلم مرّ به، وهو يحلف بأبيه، فقال له ذلك، أو خصّ لكونه غالبًا عليهم؛ كما بيّنته رواية:"وكانت قريش تحلف بآبائها"، ويدلّ على التعميم قوله:"من كان حالفًا، فلا يحلف إلَّا بالله"، وأما ما ورد في القرآن من القسم بغير الله تعالي، فللعلماء فيه جوابان، سيأتي بيانهما قريبًا، إن شاء الله تعالى.
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 140 - 142.
(2)
"الفتح" 15/ 278 رقم (6646).
2 -
(ومنها): أن من حلف بغير الله تعالى مطلقًا لا تنعقد يمينه، وسيأتي تمام البحث فيه أيضًا.
3 -
(ومنها): أن فيه الردّ على من قال: إن من قال: إن فعلت كذا كذا، فأنا يهوديّ، أو نصرانيّ، أو كافر أنه ينعقد يمينًا، ومتى فعل تجب عليه الكفّارة، وقد نُقل ذلك عن الحنفيّة، والحنابلة، ووجه الدلالة من الخبر أنه لم يحلف بالله، ولا بما يقوم مقام ذلك.
4 -
(ومنها): أن من قال: أقسمت لأفعلنّ كذا، لا يكون يمينًا، وعند الحنفيّة يكون يمينًا، وكذلك قال مالك، وأحمد، لكن بشرط أن ينوي بذلك الحلف بالله، وهو متّجه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا قال في "الفتح"، وعندي أنه غير متّجه؛ لأنه يصدق عليه أنه حلف بغير الله، ولا تنفعه النيّة المذكورة، وإلا فيلزمنا أن نجيز بالتأويل حلف من قال:"وأبي"؛ أي: أحلف برب أبي، وهو باطلٌ، فتأمّل، والله تعالى أعلم.
5 -
(ومنها): أن الحلف بالأمانة ليس يمينًا؛ لانتفاء الاسم والصفة، وبه قال الشافعيّ، حكاه عنه الخطّابيّ. قال وليّ الدين: والذي في كتب أصحابنا أنه إذا قال: عليّ أمانة الله لأفعلنّ كذا، وأراد اليمين، فهو يمين، وإن أراد غير اليمين كالعبادات، فليس يمينًا، وإن أطلق فوجهان، أصحّهما أنه ليس يمينًا؛ لتردّد اللفظ، وقد فُسّرت الأمانة في قوله تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} الآية [الأحزاب: 72] بالعبادات، وقال المالكيّة: يكره الحلف بأمانة الله، وفيه الكفّارة إن قصد الصفة. وقال الحنابلة: إن قال: وأمانةِ الله، فهو يمين، وإن قال: والأمانة لم يكن يمينًا إلَّا أن ينوي صفة الله. وعن أحمد رواية أخرى أنه يمين مطلقًا.
وحكى الخطّابيّ عن أصحاب الرأي أنه إذا قال: وأمانة الله كان يمينًا، ولزمته الكفّارة فيها. وفي "سنن أبي داود" بإسناد صحيح، عن بريدة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف بالأمانة، فليس يمينًا".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما تقدّم عن الإمام الشافعيّ رحمه الله من أن الحلف بالأمانة ليس يمينًا مطلقًا هو الحقّ؛ لدخوله في نهي: "من كان
حالفًا، فلا يحلف إلَّا بالله"، وأصرح منه حديث أبي داود المذكور، وهو حديثٌ صحيحٌ، فإنه نصّ في النهي عن الحلف بالأمانة، فلا يجوز، والله تعالى أعلم بالصواب.
6 -
(ومنها): ما قال المهلّب رحمه الله: كانت العرب تحلف بآبائها، وآلهتها، فأراد الله نسخ ذلك من قلوبهم؛ ليُنسيهم ذكر كلّ شيء سواه، ويبقى ذكره؛ لأنه الحقّ المعبود، فلا يكون اليمين إلَّا به، والحلف بالمخلوقات في حكم الحلف بالاباء.
7 -
(ومنها): ما قال الطبريّ رحمه الله في حديث عمر رضي الله عنه يعني: حديث الباب - أن: اليمين لا تنعقد إلَّا بالله، وأن من حلف بالكعبة، أو آدم، أو جبريل، ونحو ذلك لم تنعقد يمينه، ولزمه الاستغفار؛ لإقدامه على ما نُهِيَ عنه، ولا كفّارة في ذلك.
قال: وأما ما وقع في القرآن من القسم بشيء من المخلوقات، فقال الشعبيّ: الخالق يُقْسِمُ بما شاء من خلقه، والمخلوق لا يُقسم إلَّا بالخالق، قال: ولأن أُقسم بالله، فأحنث أحبّ إليّ من أن أُقسم بغيره، فأبرّ. وجاء مثله عن ابن عبّاس، وابن مسعود، وابن عمر رضي الله عنهم، ثم أسند عن مطرّف، عن عبد الله أنه قال: إنما أقسم الله بهذه الأشياء ليُعَجِّبَ بها المخلوقين، وُيعرّفهم قدرته لعظم شأنها عندهم، ولدلالتها على خالقها.
وقد أجمع العلماء على أنَّ من وجبت له يمين على آخر في حقّ عليه أنه لا يحلف له إلَّا بالله، فلو حلف له بغيره، وقال: نويت ربّ المحلوف به لم يكن ذلك يمينًا. انتهى.
8 -
(ومنها): ما قال ابن هُبيرة في "كتاب الإجماع": أجمعوا على أنَّ اليمين منعقدة بالله، وبجميع أسمائه الحسني، وبجميع صفات ذاته، كعزّته، وجلاله، وعلمه، وقوّته، وقدرته، واستثنى أبو حنيفة علم الله، فلم يره يمينًا، وكذا حقّ الله. واتفقوا على أنَّه لا يحلف بمعظّم غير الله، كالنبيّ، وانفرد أحمد في رواية، فقال: تنعقد. انتهى.
9 -
(ومنها): ما قال عياض رحمه الله: لا خلاف بين فقهاء الأمصار أن
الحلف بأسماء الله، وصفاته لازم، إلَّا ما جاء عن الشافعيّ من اشتراط نيّة اليمين في الحلف بالصفات، وإلا فلا كفّارة.
وتُعُقّب إطلاقه ذلك عن الشافعيّ، وإنما يحتاج إلى النيّة عنده ما يصحّ إطلاقه عليه سبحانه وتعالى، وعليه غيره، وأما ما لا يُطلق في معرض التعظيم شرعًا إلَّا عليه، تنعقد اليمين به، وتجب الكفّارة إذا حنث، كمقلّب القلوب، وخالق، ورازقِ كلّ حيّ، وربّ العالمين، وفالق الحبّ، وبارئ النسمة، وهذا في حكم الصريح، كقوله: والله. وفي وجه لبعض الشافعيّة أن الصريح الله فقط. ويظهر أثر الخلاف فيما لو قال: قصدت غير الله، هل ينفعه في عدم الحنث؟
والمشهور عند المالكيّة التعميم، وعن أشهب التفصيل في مثل: وعزّة الله، إن أراد التي جعلها بين عباده، فليست بيمين، وقياسه أن يطّرد في كلّ ما يصحّ إطلاقه عليه، وعلى غيره. وقال به سحنون منهم في عزّة الله. وفي "العتبيّة": أن من حلف بالمصحف لا تنعقد، واستنكره بعضهم، ثم أوّلها على أنَّ المراد إذا أراد جسم المصحف. والتعميم عند الحنابلة، حتى لو أراد بالعلم، والقدرة المعلوم، والمقدور، انعقدت. ذكره في "الفتح".
10 -
(ومنها): ما قال النوويّ رحمه الله: إن قيل: فقد أقسم الله تعالى بمخلوقاته، فإنه قال تعالى:{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1)} ، {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1)} ، {وَالطُّورِ (1)} .
فالجواب: أن لله تعالى أن يُقسم بما شاء من مخلوقاته، تنبيهًا على شرفه. انتهى
(1)
.
قال وليّ الدين: وتعبيره بقوله: "لله" منكرٌ، ولو قال: إن الله تعالى يُقسم بما يشاء، لكان أحسن.
وفي "مصنّف ابن أبي شيبة"، عن ميمون بن مهران، قَال: إن الله تعالى يُقسم بما شاء من خلقه، وليس لأحد أن يُقسم إلَّا بالله. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": وأما ما ورد في القرآن من القَسَم بغير الله، ففيه جوابان:
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 105.
(2)
"طرح التثريب" 7/ 145.
[أحدهما]: أن فيه حذفًا، والتقدير ورب الشمس، ونحوه.
[والثاني]: أن ذلك يختصّ بالله تعالي، فإذا أراد تعظيم شيء من مخلوقاته أقسم به، وليس لغيره ذلك. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الجواب الثاني هو الصحيح، وأما الأول ففيه نظر لا يخفى. فتأمّله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم الحلف بغير الله تعالى:
قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: وقد اختلف العلماء في أن الحلف بمخلوق حرامٌ، أو مكروه، والخلاف عند المالكيّة، والحنابلة، لكن المشهور عند المالكيّة الكراهة، وعند الحنابلة التحريم، وبه قال أهل الظاهر، ويوافقه ما جاء عن ابن عبّاس رضي الله عنهما:"لأن أحلف بالله مائة مرّة، فآثم، خيرٌ من أن أحلف بغيره، فأبرّ".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الحنابلة، والظاهريّة من أنه للتحريم هو الحقّ؛ لتوارد الأدلّة الصحيحة الصريحة على ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تحلفوا بآبائكم"، وقوله:"من كان حالفًا، فلا يحلف إلَّا بالله"، وقوله:"من حلف بغير الله فقد كفر"، وغير ذلك، فتأمل بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: فيه -يعني: حديث الباب- أنه لا يجوز الحلف بغير الله، وهذا أمر مجمع عليه، ثم قال: أجمع العلماء على أنَّ اليمين بغير الله مكروهة، منهيّ عنها، لا يجوز الحلف لأحد بها، واختلفوا في الكفّارة إذا حنث، فأوجبها بعضهم، وأباها بعضهم، وهو الصواب. انتهى.
وقال الشافعيّ: أخشى أن يكون الحلف بغير الله معصيةً، قال أصحابه؛ أي: حرامًا وإثمًا، قالوا: فأشار إلى تردّد فيه، وقال إمام الحرمين: المذهب القطع بأنه ليس بحرام، بل مكروه، ولذا قال النوويّ في "شرح مسلم": هو عند أصحابنا مكروهٌ، وليس بحرام، ويوافقه تبويب الترمذيّ عليه:"كراهية الحلف بغير الله".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حمْل كلام الترمذيّ على الكراهة بمعنى
خلاف الأولى غير صحيح، بل مراد الترمذيّ بهذه العبارة التحريم، وعليك أن تتّبع تراجمه بهذه العبارة في كثير من المحرّمات التي لا خلاف في تحريمها تجده واضحًا، وذلك أن السلف لا يطلقون الكراهة إلَّا على الحرام، وهو الموافق لكتاب الله؛ فإنه سبحانه وتعالى قال -بعد ذكر عدّة محرّمات، من الشرك، والقتل، والزنا، وغيرها-:{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)} [الإسراء: 38]، وإنّ من استعمل الكراهة لخلاف الأولى هم متأخرو الفقهاء، فتنبّه لذلك، فإنه مزلّة أقدام، وقد ذكرت هذا البحث مستوفى في غير هذا المحلّ، ولله الحمد والمنّة.
قال وليّ الدين: وقيّد ذلك -أي: القول بالكراهة- في "شرح الترمذيّ" بالحلف بغير اللات والعزّي، وملّة غير الإسلام، فأما الحلف بنحو هذا فهو حرامٌ، وكأن ذلك لأنَّها قد عُظّمت بالعبادة. وقد قال أصحابنا: إنه لو اعتقد الحالف بالمخلوق في المحلوف به من التعظيم ما يعتقده في الله تعالى كفر، وعلى هذا يُحمل ما روي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من حلف بغير الله، فقد كفر". انتهى.
فمعظّم اللات والعزّى كافرٌ؛ لأنَّ تعظيمها لا يكون إلَّا للعبادة، بخلاف مُعَظِّم الأنبياء، والملائكة، والكعبة، والآباء، والعلماء، والصالحين، لمعنى غير العبادة، لا تحريم فيه، لكن الحلف به مكروه، أو محرّم على الخلاف في ذلك؛ لورود النهي عنه، وحكمته أن حقيقة العظمة مختصّة بالله تعالي، كما قال تعالى: "الكبرياء ردائي، والعظمة إزاريّ
…
"، فلا ينبغي مضاهاة غيره به في الألفاظ، وإن لم تُرَد تلك العظمة المخصوصة بالإله المعبود.
قال الجامع: قد عرفت فيما سبق أن الحق تعميم التحريم، فإن نصوص التحريم لم تفرّق بين الأنبياء، والملائكة، والأصنام، واللات والعزّي، بل قال صلى الله عليه وسلم:"من حلف بغير الله فقد كفر". فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم.
قال: وأما الحلف بالنصرانيّة، ونحوها، فلا أشكّ في أنه كفر؛ لأنَّ تعظيمها بأيّ وجه كان يقتضي حقيّتها، وذلك كفر، إلَّا أن يتأول الحالف أنه أراد تعظيمها حين كانت حقًّا قبل نسخها، فلا أكفّره حينئذ، ولكن أحكم عليه
بالعصيان؛ لبشاعة هذا اللفظ، والتشبّه فيه بأهل الكفر والضلال، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ العراقيّ رحمه الله.
قال وليّ الدين: وهذا الذي ذكره أصحابنا، رواه الترمذيّ، عن ابن عمر أنه سمع رجلًا يقول: لا والكعبة، فقال ابن عمر: لا تحلف بغير الله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من حلف بغير الله، فقد كفر"، أو "أشرك"، وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن. وأخرجه الحاكم في "مستدركه"، وقال: إنه صحيح على شرط الشيخين، وهو في "سنن أبي داود" في رواية ابن العبد، دون رواية اللؤلؤيّ.
وقال الترمذيّ: تفسير هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن قوله: "كفر"، أو "أشرك" على التغليظ، والحجة في ذلك حديث ابن عمر:"إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم"، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه:"من حلف، فقال في حلفه: واللات والعزّي، فليقل: لا إله إلَّا الله"، وهذا مثل ما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الرياء شرك"، فقد فسّر أهل العلم هذه الآية:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، قال: لا يرائي. انتهى.
وقال ابن العربيّ: يريد به شرك الأعمال، وكفرها، ليس شرك الاعتقاد، ولا كفره، كقوله صلى الله عليه وسلم:"من أبق من مواليه، فقد كفر"، ونسبة الكفر إلى النساء.
وفي "مصنّف ابن أبي شيبة" عن الحسن، قال: مرّ عمر بالزبير رضي الله عنهما، وهو يقول: لا، والكعبة، فرفع عمر الدّرّة، وقال: الكعبة، لا أمّ لك، تُطعمك، وتسقيك؟. وهذا منقطع.
وعن عكرمة، قال: قال عمر رضي الله عنه: حدّثت قومًا حديثًا، فقلت: لا، وأبي، فقال رجل من خلفي: لا تحلفوا بآبائكم، قال: فالتفتّ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"إن أحدكم حلف بالمسيح هلك، والمسيح خيرٌ من آبائكم". وهذا منقطع أيضًا.
وعن كعب الأحبار أنه قال: إنكم تشركون، قالوا: وكيف، يا أبا إسحاق؟، قال: يحلف الرجل: لا وأبي، لا وأبيك، لا لعمري، لا لَحياتي، ولا وحرمة المسجد، لا والإسلام، وأشباهه من القول.
وعن القاسم بن مُخيمِرةَ قال: ما أبالي حلفت بحياة رجل، أو بالصليب، رواها كلها ابن أبي شيبة. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": قال ابن المنذر: اختلف أهل العلم في معنى النهي عن الحلف بغير الله، فقالت طائفة: هو خاصّ بالأيمان التي كان أهل الجاهليّة يحلفون بها تعظيمًا لغير الله تعالي، كاللات، والعزّي، والآباء، فهذه يأثم الحالف بها، ولا كفّارة فيها، وأما ما كان يؤول إلى تعظيم الله، كقوله: وحقّ النبيّ، والإسلام، والحجّ، والعمرة، والهدي، والصدقة، والعتق، ونحوها، مما يراد به تعظيم الله، والقربة إليه، فليس داخلًا في النهي.
وممن قال بذلك أبو عُبيد، وطائفة، ممن لقيناه، واحتجّوا بما جاء عن الصحابة من إيجابهم على الحالف بالعتق، والهدي، والصدقة ما أوجبوه مع كونهم رأوا النهي المذكور، فدلّ على أنَّ ذلك عندهم ليس على عمومه، إذ لو كان عامًّا لنهوا عن ذلك، ولم يوجبوا فيه شيئًا. انتهى.
وتعقّبه ابن عبد البرّ بأن ذكر هذه الأشياء، وإن كانت بصورة الحلف، فليست يمينًا في الحقيقة، وإنما خرج على الاتّساع، ولا يمين في الحقيقة إلَّا بالله. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، "إليه المرجع، والمآب.
(المسألة السادسة): في أقوال أهل العلم في الجمع بين أحاديث النهي عن الحلف بغير الله تعالي، وبين قول النبيّ صلى الله عليه وسلم للأعرابيّ:"أفلح وأبيه إن صدق"، فقد أجابوا عن ذلك بأجوبة:
[أحدها]: تضعيف هذا الحديث، كان كان في "الصحيح"، قال ابن عبد البرّ: هذه لفظة غير محفوظة في هذا الحديث من حديث من يُحتجّ به، وقد روى هذا الحديث مالكٌ وغيره، لم يقولوا ذلك، وقد روي عن إسماعيل بن جعفر هذا الحديث، وفيه:"أفلح والله، إن صدق، أو دخل الجنّة والله إن صدق"، وهذا أولى من رواية من روى:"وأبيه"؛ لأنَّها لفظة منكرة، تردّها الآثار الصحاح. انتهى.
(1)
"طرح التثريب" 7/ 142 - 144.
(2)
"الفتح" 15/ 278 - 281 رقم (6646).
وزعم بعضهم أن بعض الرواة عنه صحّف قوله: "وأبيه" من قوله: "والله"، وهو محتملٌ، ولكن مثل ذلك لا يثبت بالاحتمال، وقد ثبتٌ مثل ذلك من لفظ أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه في قصّة السارق الذي سَرَق حلي ابنته، فقال في حقّه:"وأبيك ما ليلك بليل سارق". أخرجه في "الموطّإ" وغيره.
قال السهيليّ: وقد ورد نحوه في حديث آخر مرفوع، قال للذي سأل: أيّ الصدقة أعظم أجرًا؟ فقال: "أما وأبيك لَتُنَبَّأَنَّهُ"، أخرجه مسلم.
فإذا ثبتٌ ذلك، فيجاب بأجوبة:
[الأول]: أن هذا اللفظ كان يجري على ألسنتهم من غير أن يقصدوا به القَسَم، والنهي إنما ورد في حقّ من قصد حقيقة الحلف، وإلى هذا جنح البيهقيّ، وقال النوويّ: إنه الجواب المرضيّ.
[الثاني]: أنه كان يقع على وجهين: أحدهما: للتعظيم، والآخر للتأكيد، والنهي إنما وقع عن الأول، فمن أمثلة ما وقع في كلامهم للتأكيد، لا للتعظيم قول الشاعر:
لَعَمْرُ ابِي الْوَاشِينَ إِنِّي أُحِبُّهَا
وقول الآخر [من الطويل]:
فَإِنْ تَكُ لَيْلَى اسْتَوْدَعَتْنِي أَمَانَةً
…
فَلَا وَأَبِي أَعْدَائِهَا لَا أُذِيعُهَا
فلا يُظنّ أن قائل ذلك قصد تعظيم والد أعدائها، كما لم يقصد الآخر تعظيم والد من وَشَى به، فدلّ على أنَّ القصد بذلك تأكيد الكلام، لا التعظيم.
وقال البيضاويّ: هذا اللفظ من جملة ما يُزاد في الكلام لمجرّد التقرير، والتأكيد، ولا يُراد به القسم، كما تزاد صيغة النداء لمجرّد الاختصاص، دون القصد إلى النداء.
وقد تُعقّب الجواب بأن ظاهر سياق حديث عمر يدلّ على أنَّه كان يحلّفه؛ لأن في بعض طرقه أنه كان يقول: لا وأبي، لا وأبي، فقيل له: لا تحلفوا، فلولا أنه بصيغة الحلف ما صادف النهي محلًّا، ومن ثمّ قال بعضهم: وهو:
[الجواب الثالث]: إن هذا كان جائزًا، ثمّ نسخ، قاله الماورديّ، وحكاه البيهقيّ، وقال السبكيّ: أكثر الشرّاح عليه، حتى قال ابن العربيّ: ورُوي أنه صلى الله عليه وسلم-
كان يحلف بأبيه حتى نُهي عن ذلك، قال: وترجمة أبي داود تدلّ على ذلك. يعني قوله: "باب الحلف بالآباء"، ثم أورد الحديث المرفوع الذي فيه:"أفلح وأبيه، إن صدق"، قال السهيليّ: ولا يصحّ؛ لأنه لا يُظنّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يحلف بغير الله، ولا يُقسم بكافر، تالله إنّ ذلك لبعيد من شيمته.
وقال المنذريّ: دعوى النسخ ضعيفة؛ لإمكان الجمع، ولعدم تحقّق التاريخ.
[والجواب الرابع]: أن في الجواب حذفًا، تقديره: أفلح وربّ أبيه، قاله البيهقيّ، وقد تقدّم.
[الخامس]: أنه للتعجّب، قاله السهيليّ، قال: ويدلّ عليه أنه لم يرد بلفظ "أبي"، وإنما ورد بلفظ "وأبيه" بالإضافة إلى ضمير المخاطب حاضرًا، أو غائبًا.
[السادس]: أن ذلك خاصّ بالشارع، دون غيره من أمّته.
وتُعُقّب بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال، قاله في "الفتح".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أرجح الأقوال قول من قال: إنه لمجرّد التأكيد لا للتعظيم، كالبيتين السابقين، وكقول الآخر [من الطويل]:
أَطِيبُ سَفَاهًا مِنْ سَفَاهَةِ رَأيِهَا
…
لأَهْجُوَهَا لَمَّا هَجَتْنِي مُحَارِبُ
فَلَا وَأَبِيهَا إِنَّنِي بِعَشِيرَتِي
…
وَنَفْسِيَ عَنْ ذَاكَ الْمَقَامِ لَرَاغِبُ
فإنه محالٌ أن يُقسم بأبي من يهجوه على سبيل الإعظام لحقّه، في أمثلة كثيرة، والنهي إنما ورد في التعظيم.
والحاصل أن ما وقع في الحديث المذكور من قوله: "أفلح وأبيه" من هذا النوع، وما تقدّم من التعقّب بأن ظاهر سياق حديث عمر يدلّ على أنَّه كان يحلفه
…
إلخ، فنقول: نعم إنه كان حالفًا به، على الوجه المذموم، كما هو عادة قريش، فنهاه الشارع من أجل هذا، وأما استعماله صلى الله عليه وسلم فليس من هذا الباب، بل من النوع الآخر الذي هو مجرد التأكيد، فافهم الفرق بينهما تُرشَدْ، والله الهادي إلى سواء السبيل.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4247]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ (ع) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ عُقَيْلٍ: مَا حَلَفْتُ بِهَا مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْهَا، وَلَا تَكَلَّمْتُ بِهَا، وَلَمْ يَقُلْ: ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ) الْفَهْميّ مولاهم، أبو عبد الله المصريّ، ثقةٌ [11](ت 248)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.
2 -
(أَبُوهُ) شُعيب بن الليث بن سعد الفَهْميّ مولاهم، أبو عبد الملك المصريّ، ثقةٌ نبيلٌ فقية، من كبار [10](ت 199)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.
3 -
(جَدُّهُ) الليث بن سعد الإمام المصريّ المشهور، تقدّم قريبًا.
4 -
(عُقَيْلُ بْنُ خَالِدِ) بن عَقِيل الأيليّ، أبو خالد الأمويّ مولاهم، نزيل المدينة، ثم الشام، ثمّ مصر، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 144) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 133.
5 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل بابين.
6 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الْكِسّيّ، تقدّم قريبًا.
7 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام تقدّم قبل باب.
8 -
(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم أيضًا قريبًا.
و"الزهريُّ" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية عُقيل بن خالد، عن الزهريّ، ساقها أبو عوانة في "مسنده"، فقال:
(5897)
- حدثنا يوسف بن مسلم، قثنا حجاج، قثنا الليث، حدّثني عُقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر أخبره، أن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم"، قال عمر: فوالله ما حلفت بها منذ يومِ سمعت من
رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنها، ولا تكلمت بها. انتهى
(1)
.
ورواية معمر، عن الزهريّ، ساقها عبد بن حُميد في "مسنده"، فقال:
(9)
- أخبرنا عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن الزهريّ، عن سالم، عن ابن عمر، عن عمر، قال: سمعني رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلف بأبي، فقال:"إن الله - عَزَّوَجَلَّ - ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم"، قال عمر: فوالله ما حلفت بها ذاكرًا ولا آثرًا. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4248]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ، وَهُوَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، بِمِثْلِ رِوَايَةِ يُونُسَ، وَمَعْمَرٍ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قريبًا.
2 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) النسائيّ، ثم البغدادي، تقدّم قبل بابين.
4 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4249]
- (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ -وَاللَّفْظُ لَهُ- أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أبينهُ أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي رَكْبٍ، وَعُمَرُ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ
(3)
، فَنَادَاهُمْ
(1)
"مسند أبي عوانة" 4/ 24.
(2)
"مسند عبد بن حميد" 1/ 24.
(3)
وفي نسخة: "في ركب، وهو يحلف بأبيه".
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَلا إِنَّ اللهَ -عَزَّوَجَلَّ- يَنْهَاكمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ، أَوْ لِيَصْمُتْ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ) بن المهاجر، تقدّم قريبًا.
3 -
(نَافِعٌ) مولى ابن عمر، تقدَّم قريبًا.
والباقيان ذُكرا في الباب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (280) من رباعيّات الكتاب.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن عمر رضي الله عنهما (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) قال الحافظ رحمه الله: هذا السياق يقتضي أن الخبر من مسند ابن عمر، وكذا وقع في رواية عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: ولم أر عن نافع في ذلك اختلافًا إلَّا ما حَكَى يعقوب بن شيبة أن عبد الله بن عمر الْعُمَريّ الضعيف المكبر رواه عن نافع، فقال: عن ابن عمر، عن عمر، قال: ورواه عبيد الله بن عمر العمرفي المصغر الثقة، عن نافع، فلم يقل فيه: عن عمر، وهكذا رواه الثقات، عن نافع، لكن وقع في رواية أيوب، عن نافع، أن عمر لم يقل فيه: عن ابن عمر، وقد أخرجه مسلم من طريق أيوب، فذكره، وأخرجه أيضًا عن جماعة من أصحاب نافع بموافقة مالك، ووقع للمزيّ في "الأطراف" أنه وقع في رواية عبد الكريم عن نافع، عن ابن عمر في "مسند عمر"، وهو مُعتَرَضٌ، فإن مسلمًا ساق أسانيده فيه إلى سبعة أنفس، من أصحاب نافع، منهم عبد الكريم، ثم قال سبعتهم: عن نافع، عن ابن عمر، بمثل هذه القصة، وقد أورد المزيّ طرق الستة الآخرين في "مسند ابن عمر" على الصواب، ووقع الاختلاف في رواية سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه
(1)
، وقد تقدّم بيان ذلك مفصّلًا، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 15/ 273 - 274، كتاب "الأيمان والنذور" رقم (6646).
(فِي رَكْبٍ) -بفتح، فسكون-: جمع راكب، كصاحب وصَحْبٍ، ويُجمع أيضًا على رُكْبَان.
وفي "مسند يعقوب بن شيبة" من طريق ابن عباس، عن عمر:"بينا أنا راكب، أسير في غَزَاة، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
(وَعُمَرُ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ) وفي نسخة: "في ركب، وهو يحلف بأبيه"، وفي رواية سفيان بن عيينة، عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سَمِعَ عمر، وهو يحلف بأبيه، وهو يقول: وأبي، وأبي، وفي رواية إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، من الزيادة:"وكانت قريش تحلف بآبائها".
(فَنَادَاهُمْ)؛ أي: الركبَ (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ألَا) بفتح الهمزة، وتخفيف اللام: أداة استفتاح وتنبيه (إِنَّ اللهَ عز وجل يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ) ووقع في "مصنف ابن أبي شيبة" من طريق عكرمة قال: قال عمر: حَدَّثتُ قومًا حديثًا، فقلت: لا وأبي، فقال رجل من خلفي:"لا تحلفوا بِآبَائِكُمْ"، فالتفتّ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لو أن أحدكم حلف بالمسيح هلك، والمسيح خيرٌ من آبَائِكُمْ"، قال الحافظ: وهذا مرسل يتقوى بشواهده. انتهى.
(فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ، أَوْ لِيَصْمُتْ") بضمّ الميم، يقال: صَمَتَ يَصْمُتُ صَمْتًا، من باب نصر: إذا سكت، وصُمُوتًا، وصُمَاتًا، فهو صامت، وأصمته غيره، وربّما استُعمل الرباعيّ لازمًا أيضًا، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
قال في "الفتح": قال العلماء: السرّ في النهي عن الحلف بغير الله أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه، والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده، وظاهر الحديث تخصيص الحلف بالله خاصّة، لكن قد اتَّفَقَ الفقهاء على أنَّ اليمين تنعقد بالله، وذاته، وصفاته العليّة، واختلفوا في انعقادها ببعض الصفات، كما سبق، وكأن المراد بقوله:"بالله" الذاتُ، لا خصوص لفظ "الله"، وأما اليمين بغير ذلك، فقد ثبت المنع فيها، وهل المنع للتحريم؟ قولان عند المالكية، كذا قال ابن دقيق العيد، والمشهور عندهم الكراهة، والخلاف أيضًا عند الحنابلة، لكن المشهور عندهم التحريم، وبه جزم الظاهرية.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 346 - 347.
قال الجامع عفا الله عنه: كونه للتحريم، كما هو المشهور عند الحنابلة، وجزم به الظاهريّة هو الأرجح؛ لظهور حجته، كما لا يخفى على من تأمّل بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
وقال ابن عبد البرّ: لا يجوز الحلف بغير الله بالإجماع، ومراده بنفي الجواز الكراهة، أعمّ من التحريم والتنزيه، فإنه قال في موضع آخر: أجمع العلماء على أنَّ اليمين بغير الله مكروهة، منهيّ عنها، لا يجوز لأحد الحلف بها، والخلاف موجود عند الشافعية، من أجل قول الشافعيّ: أخشى أن يكون الحلف بغير الله معصية، فأشعر بالتردد، وجمهور أصحابه على أنَّه للتنزيه.
وقال إمام الحرمين: المذهب القطع بالكراهة، وجزم غيره بالتفصيل، فإن اعتقد في المحلوف فيه من التعظيم ما يعتقده في الله حَرُم الحلف به، وكان بذلك الاعتقاد كافرًا، وعليه يتنزل الحديث المذكور، وأما إذا حلف بغير الله لاعتقاده تعظيم المحلوف به على ما يليق به من التعظيم، فلا يكفر بذلك، ولا تنعقد يمينه.
وقال الماورديّ: لا يجوز لأحد أن يُحَلِّف أحدًا بغير الله، لا بطلاق، ولا عَتَاق، ولا نذر، وإذا حَلَّف الحاكم أحدًا بشيء من ذلك وجب عزله؛ لجهله. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قبل حديثين، ولله الحمد والمنّة، وله الفضل والنعمة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4250]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّي، حَدَّثَنَا يَحْيَى -وَهُوَ الْقَطَّانُ- عَنْ عُبَيْدِ اللهِ (ح) وَحَدَّثَنى بِشْرُ بْنُ هِلَالٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الْوَليدِ بْنِ كَثِيرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، أَخْبَرَنَا الضَّحَّاكُ،
(1)
"الفتح" 15/ 274 - 275 رقم (6646).
وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ، كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، بِمِثْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: ثلانة وعشرون:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
2 -
(أَبُوه) عبد الله بن نمير، تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
4 -
(يَحْيَى الْقَطَّانُ) ابن سعيد الإمام الشهير، تقدّم قريبًا.
5 -
(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر الْعُمريّ المدنيّ الفقيه، تقدّم أيضًا قريبًا.
6 -
(بِشْرُ بْنُ هِلَالٍ) الصّوّاف، أبو محمد النُّمَيريّ البصريّ، ثقةٌ [10].
رَوَى عن جعفر بن سليمان، وعبد الوارث بن سعيد، ويزيد بن زُريع، ويحيى القطان، وغيرهم.
وروى عنه الجماعة، إلَّا البخاريّ، وإسحاق الْكَوْسَج، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وحرب الكرمانيّ، وابن خزيمة، وأبو حاتم.
قال أبو حاتم: محله الصدق، وكان أيقظ من بشر بن معاذ، ووَثقه النسائيّ في أسماء شيوخه، وأبو عليّ الجيانيّ في أسماء شيوخ أبي داود، وقال ابن حبان في "الثقات": يُغْرِب.
وقال ابن أبي عاصم: مات سنة (247).
روى عنه المصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1646)، وحديث (2186): "باسم الله أرقيك من كلّ شيء يؤذيك
…
" الحديث.
7 -
(عَبْدُ الْوَارِثِ) بن سعيد بن ذكوان تقدّم قريبًا.
8 -
(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة السَّخْتِيانيّ، تقدّم قبل بابين.
9 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدّم قريبًا.
10 -
(أَبُو أسَامَةَ) حمّاد بن أسامة، تقدّم أيضًا قريبًا.
11 -
(الْوَليدُ بْنُ كَثِيرٍ) المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، ثم الكوفيّ، صدوق عارف بالمغازي، ورُمي برأي الخوارج [6](ت 151)(ع) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.
12 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعدنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قبل بابين.
13 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ) بن عمرو بن سعيد بن العاص بن أُميّة الأمويّ، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 144) أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
14 -
(ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ) محمد بن إسماعيل بن مسلم المدنيّ، تقدّم قريبًا.
15 -
(الضَّحَّاكُ) بن عثمان بن عبد الله بن خالد بن حِزَام الأسديّ الْحِزَاميّ، أبو عثمان المدنيّ، صدوقٌ يَهِم [7](م 4) تقدم في "الحيض" 16/ 774.
16 -
(ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ) محمد بن عبد الرَّحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب القرشيّ العامريّ، أبو الحارث المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ [7](ت 8 أو 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 93.
17 -
(عَبْدُ الْكَرِيمِ) بن مالك الْجَزَريّ، أبو سعيد الأمويّ مولاهم، الْخِضْرميّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ [5]
(1)
(ت 127)(ع) تقدم في "الصيام" 15/ 2609.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (عَنْ عُبَيْدِ اللهِ) هو العمريّ، وهو شيخ عبد الله بن نمير، ويحيى القطّان، وكان الأولى للمصنّف رحمه الله، كما جرت به عادته أن يقول في مثل هذا: كلاهما عن عبيد الله؛ لئلا يُتوهّم أن عبد الله بن نُمير ممن روى مع السبعة عن نافع، وهذا وإن كان واضحًا؛ لأنه لم يلق نافعًا، إلَّا أنه ربّما يشتبه على من لا دراية له بطبقات الراوة، وما أكثرهم في هذا الزمن، بل وقبله بفترة طويلة، فقد قلّ من يعتني بهذا الفنّ، وصار فنًّا مهجورًا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقوله: (كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ نَافِعٍ
…
إلخ)؛ يعني: أن هؤلاء السبعة، وهم: عبيد الله العمريّ، وأيوب السّخْتيَانيّ، والوليد بن كثير، وإسماعيل بن أُميّة،
(1)
جعله في "التقريب" من السادسة، وعندي أنه من الخامسة؛ لأنه رأى أنسًا رضي الله عنه، كما في "تهذيب التهذيب"، فتنبّه.
والضَّحَّاك بن عثمان، وابن أبي ذئب، وعبد الكريم الْجَزَريّ رووا هذا الحديث عن نافع، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما بِمِثْلِ قِصَّةِ عمر رضي الله عنه السابقة، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (بِمِثْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أراد به أن هؤلاء السبعة رووه عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجعلوه من مسند ابن عمر، لا من مسند عمر رضي الله عنهما، فتنبّه.
[تنبيه]: رواية عبد الله بن نُمير، عن عبيد الله العمريّ، عن نافع ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(6288)
- ثنا ابن نُمَيْبر، ثنا عُبَيْدُ اللهِ، عن نَافِعٍ، عَنِ ابن عُمَرَ، قال: أَدْرَكَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ بن الْخَطَّاب، وهو في رَكْبٍ، وهو يَحْلِفُ بأَبِيهِ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أَلَا إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَلْيَحْلِفْ حَالَفٌ بِاللهِ، أو لِيَسْكُتْ". انتهى
(1)
.
وأما رواية يحيى القطّان، عن عبيد الله، فساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(7663)
- أخبرنا عبيد الله بن سعيد، قال: ثنا يحيي، عن عبيد الله، عن نافع، عن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر في ركب يحلف بأبيه، فقال:"إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفًا فليحلف بالله، أو ليسكت". انتهى
(2)
.
وأما رواية أيوب السَّخْتيانيّ، عن عبيد الله، فساقها الطبرانيّ رحمه الله في "الأوسط"، فقال:
(8463)
- حدّثنا معاذ، قال: نا عبد الرَّحمن بن المبارك، قال: نا وهيب بن خالد، قال: نا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سمعه، وهو في ركب، وهو يقول: وأبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفًا فليحلف بالله، أو ليسكت".
قال: لم يرو هذا الحديث عن أيوب إلَّا وهيب، تفرد به عبد الرَّحمن بن المبارك. انتهى
(3)
.
(1)
"مسند أحمد بن حنبل" 2/ 142.
(2)
"سنن النسائي الكبرى" 4/ 394.
(3)
"المعجم الأوسط" 8/ 223.
قال الجامع عفا الله عنه: دعواه تفرّد وُهيب بالرواية عن أيوب يردّه ما وقع عند مسلم هنا من رواية عبد الوارث بن سعيد، عن أيوب، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وأما رواية الوليد بن كثير، عن نافع، فقد ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(19610)
- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن عبد الحميد الحارثيّ، ثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، حدَّثني نافع مولى عبد الله بن عمر، أن ابن عمر رضي الله عنهما حدّثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر رضي الله عنه، وهو في رَكْب، وهو يحلف بأبيه، فلما سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَهْلًا، فإنَّ الله قد نهاكم أن تحلفوا بِآبَائِكُم، من حلف فليحلف بالله، أو ليسكت". انتهى
(1)
.
وأما رواية إسماعيل بن أُمتة، عن نافع، فساقها الْحُميديّ رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(686)
- حدّثنا الحميديّ
(2)
، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر قال: أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر، وهو في سفره، وهو يقول: وأبي، وأبي، فقال:"أَلا إنَّ الله ينهاكم أن تحلفوا بِآبَائِكُمْ، فمن كان حالفًا فليحلف بالله، أو ليَصْمُت". انتهى
(3)
.
وأما رواية ابن أبي ذئب، عن نافع، فقد ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(5905)
- حدّثنا أبو عُتْبة أحمد بن الفرج الحمصيّ، قثنا ابن أبي فُديك، عن ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر، وهو في ركب، وهو يحلف بابيه، فقال:"إن الله ينهاكم أن تحلفوا بِآبَائِكُم، من كان حالفًا فليحلف بالله، أو ليسكت". انتهى
(4)
.
(1)
"سنن البيهقي الكبرى" 10/ 28.
(2)
هذا قول الراوي عن الحميديّ، فتنبّه.
(3)
"مسند الحميديّ" 2/ 301.
(4)
"مسند أبي عوانة" 4/ 26.
وأما رواية عبد الكريم الجزريّ، عن نافع، فقد ساقها أيضًا أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، إلَّا أنه قال: عبد الكريم بن أبي المخارق، فقال:
(5898)
- حدّثنا الدَّبَرِيّ، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الكريم بن أبي الْمُخارق، أن نافعأ أخبره، عن ابن عمر، عن عمر، قال: سمعني النبيِّ صلى الله عليه وسلم أحلف بأبي، فقال:"يا عمر لا تحلف بأبيك، احلف بالله، ولا تحلف بغير الله"، قال: فما حلفت بعدُ إلَّا بالله، ورآني أبول قائمًا، قال:"يا عمر لا تبل قائمًا"، قال: فما بُلْتُ قائما بعدُ. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ظاهر صنيع المصنّف رحمه الله يقتضي أن عبد الكريم هو الجزريّ المتّفق على كونه ثقةً، وأن روايته كرواية الستة الذين عُطف عليهم هو، فيكون ممن جعل الحديث من مسند ابن عمر رضي الله عنهما، لا من مسند عمر رضي الله عنه، وهو الذي أشار إليه الحافظ رحمه الله فيما مرّ مما نقلته عن "الفتح"، وكذلك صرّح الحافظ المزيّ رحمه الله في "تحفة الأشراف"
(2)
أنه عبد الكريم بن مالك الْجَزَريّ، إلَّا أنه جعله ممن جعلوا الحديث من مسند عمر رضي الله عنه، فاعترض عليه الحافظ في كلامه السابق.
وأما صنيع أبي عوانة رحمه الله في هذه الرواية فصريحة أنه عبد الكريم بن أبي المخارق المتّفق على ضعفه، وأنه جعل الحديث من مسند عمر، لا من مسند ابن عمر رضي الله عنهما، وأن سياقه فيه من الزيادة البول قائمًا، وهو بهذا السياق ضعيف، وقد ذكرت البحث عنه في "الطهارة" من "شرح النسائيّ"، فراجعه تستفد.
وخلاصة البحث أن الرواية التي ساقها أبو عوانة غير الرواية التي أحالها مسلم على رواية الليث عن نافع، فإنها من رواية عبد الكريم الجزري الثقة الحافظ، وأن متنها هو المتن الذي رواه الليث وغيره، وأنه من مسند ابن عمر رضي الله عنهما.
ومما يؤيّد هذا أن المصنّف رحمه الله لو أراد رواية عبد الكريم بن أبي الْمُخارق لأشار إلى ما فيها من المخالفة، وزيادة قصّة البول؛ لأنَّ المحلّ محلّ
(1)
"مسند أبي عوانة" 4/ 25.
(2)
راجع: "تحفة الأشراف" 6/ 117.
حاجة، وإيضاح، ومن عادته رحمه الله العناية بمثل هذه الاختلافات، مع أن ابن أبي الْمُخارق من الضعفاء المشهورين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4251]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَي، وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرُونَ: حَدثَنَا إِسْمَاعِيلُ - وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلَا يَحْلِفْ إِلَّا بِاللهِ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَحْلِفُ بِآبَائِهَا، فَقَالَ: "لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَار) مولى ابن عمر المدنيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قبل أربعة أحاديث، ولله الحمد والمنّة.
(2) - (بَابٌ مَنْ حَلَفَ بِاللَّاتِ وَالْعُزى فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله، أوّل الكتاب قال:
[4252]
(1647) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ (ح) وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَي، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ، فَقَالَ في حَلِفِهِ: بِاللَّاتِ، فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ، فَلْيَتَصَدَّقْ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 105)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
2 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخيه، فالأولى تفرّد به هو وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، والثاني تفرّد به هو، والنسائيّ، وابن ماجه، وأن نصفه الأول مسلسل بالمصريين، والثاني بالمدنيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ، فَقَالَ: بِاللَّاتِ) وفي الرواية التالية: "من حلف باللَّات وَالْعُزَّى"؛ أي: قال في حلفه: باللات والْعُزَّى؛ أي: أحلف بهما إما بالجمع، أو بإفراد أحدهما؛ أي: بلا قصد، بل جرى على لسانه، كما جرت العادة بينهم بذلك؛ حيث كانوا قريبي عهد بجاهليّة.
أخرج البخاريّ في "صحيحه" من طريق أبي الأشهب -جعفر بن حيّان-، عن أبي الجوزاء -أوس بن عبد الله-، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما في قوله "اللات، والعُزّى": كان اللات رجلًا يَلُتُّ سويق الحاجّ. قال في "الفتح": قال الإسماعيليّ: هذا التفسير على قراءة من قرأ "اللاتّ" بتشديد التاء. قال الحافظ: وليس بلازم، بل يَحْتَمِل أن يكون هذا أصله، وخُفّف لكثرة الاستعمال، والجمهور على القراءة بالتخفيف. وقد روي التشديد عن قراءة ابن عبّاس، وجماعة من أتباعه، ورُويت عن ابن كثير أيضًا، والمشهور عنه التخفيف كالجمهور.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عبّاس، ولفظه فيه زيادة: "كان يلُتّ السويق على الْحَجَر، فلا يشرب منه
أحدٌ إلَّا سَمِنَ، فعبدوه". واختُلف في اسم هذا الرجل، فروى الفاكهيّ من طريق مجاهد، قال: كان رجلٌ في الجاهليّة على صخرة بالطائف، وعليها له غنم، فكان يسلو من رِسْلها، ويأخذ من زبيب الطائف، والأقط، فيجعل منه حَيْسًا، ويُطعم من يمرّ به من الناس، فلَمّا مات عبدوه"، وكان مجاهد يقرأ "اللَّات" مشدّدةً.
ومن طريق ابن جُريج نحوه، قال: وزعم بعض الناس أنه عامر بن الظَّرِب. انتهي، وهو - بفتح الظاء المشالة، وكسر الراء، ثم موحّدة - وهو الْعُدْوانيّ - بضمّ المهملة، وسكون الدال - وكان حَكَمَ العرب في زمانه، وفيه يقول شاعرهم:
وَمِنَّا حَكَمٌ يَقْضِي
…
وَلَا يُنْقَضُ مَا يَقْضِي
وحَكَى السهيليّ أنه عمرو بن لُحَيّ بن قمعة بن إلياس بن مضر، قال: ويقال: هو عمرو بن لُحَيّ، وهو ربيعة بن حارثة، وهو والد خُزاعة. انتهى.
قال: وحرّف بعض الشرّاح كلام السهيليّ، وظن أن ربيعة بن حارثة قول آخر في اسم اللات، وليس كذلك، وإنما ربيعة بن حارثة اسم لُحيّ فيما قيل، والصحيح أن اللات غير عمرو بن لُحيّ، فقد أخرج الفاكهيّ من وجه آخر، عن ابن عبّاس أن اللات لَمّا مات قال لهم عمرو بن لُحيّ: إنه لم يمت، ولكنّه دخل الصخرة، فعبدوها، وبنوا عليها بيتًا، وقد ثبت أن عمرو بن لُحيّ هو الذي حمل العرب على عبادة الأصنام.
وحكى ابن الكلبيّ أن اسمه صرمة بن غنم، وكانت اللاتّ بالطائف.
وقيل: بنخلة. وقيل: بعُكَاظ، والأول أصحّ.
وقد أخرجه الفاكهيّ أيضًا من طريق مِقسم، عن ابن عبّاس، قال هشام بن الكلبيّ: كانت مناة أقدم من اللات، فهدمها عليّ عام الفتح بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكانت اللات أحدث من مناة، فهدمها المغيرة بن شعبة بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا أسلمت ثقيف، وكانت العزّى أحدث من اللات، وكان الذي اتّخذها ظالم بن سعد بوادي نخلة فوق ذات عرق، فهدمها خالد بن الوليد بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم عام الفتح. انتهى
(1)
.
(1)
"الفتح" 10/ 646 - 647، كتاب "التفسير" رقم (4860).
وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: اللات، والعزّي، ومناة أصنامٌ ثلاثةٌ كانت في جوف الكعبة. وقيل: اللات بالطائف، والعُزّى بغَطَفان، وهي التي هدمها خالد بن الوليد، ومناة بقُدَيد. وقيل: بالمشلَّل. فأما اللات، فقيل: إنهم أرادوا به تأنيث اسم الله تعالى. وقيل: أرادوا يسمّوا بعض آلهتهم باسم الله تعالي، فصرف الله ألسنتهم عن ذلك، فقالوا: اللات؛ صيانة لذلك الاسم العظيم أن يُسمّى به غيره، كما صرف ألسنتهم عن سبّ محمد صلى الله عليه وسلم إلى مُذَمَّم، فكانوا إذا تكلّموا باسمه في غير السبّ، قالوا: محمد، فإذا أرادوا أن يسبّوه، قالوا: مذمّم، حتى قال النبيّ صلى الله عليه وسلم "ألا تعجبون مما صرف الله عنّي من أذى قريش؟ يسبّون مذمّمًا، وأنا محمد"، رواه البخاريّ.
ولَمّا نشأ القوم على تعظيم تلك الأصنام، وعلى الحلف بها، وأنعم الله عليهم بالإسلام، بقيت تلك الأسماء تجري على ألسنتهم من غير قصد للحلف بها، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم من نطق بذلك أن يقول بعده: لا إله إلَّا الله، تكفيرًا لتلك اللفظة، وتذكيرًا من الغفلة، وإتمامًا للنعمة. وخصَّ اللات بالذكر في هذا الحديث؛ لأنَّها أكثر ما كانت تجري على ألسنتهم، وحكم غيرها من أسماء آلهتهم حكمها؛ إذ لا فرق بينها.
والْعُزَّى تأنيث الأعزّ، كالْجُلَّى تأنيث الأجلّ. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
(فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)؛ أي: استدراكًا لما فاته من تعظيم الله تعالى في محلّه، ونفيًا لِمَا تعاطى من تعظيم الأصنام صورةً، وأما من قصد الحلف بالأصنام تعظيمًا لها، فإنه كافر بلا خلاف، -نعوذ بالله تعالى من ذلك-.
وأخرج أحمد، والنسائيّ، وابن ماجه، وصححه ابن حبّان عن مصعب بن سعد، عن أبيه، قال: كنا نَذْكُر بعض الأمر، وأنا حديث عهد بالجاهلية، فحلفت باللات والعُزَّي، فقال لي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئسما قلت، أئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فإنا لا نراك إلَّا قد كفرت، فأتيته، فأخبرته، فقال لي: "قل: لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، ثلاثَ مرّات، وتعوّذ بالله من
(1)
"المفهم" 4/ 625 - 626.
الشيطان ثلاثَ مرّات، واتْفُلْ عن يسارك ثلاث مرّات، ولا تَعُدْ له".
وقال الخطّابيّ: اليمين إنما تكون بالمعبود المعظّم، فإذا حلف باللات، ونحوها، فقد ضاهى الكفّار، فأمر أن يتدارك بكلمة التوحيد. وقال ابن العربيّ: من حلف بها جادًّا، فهو كافر، ومن قالها جاهلًا، أو ذاهلًا، يقول: لا إله إلَّا الله، يكفّر الله عنه، ويردّ قلبه عن السهو إلى الذكر، ولسانه إلى الحقّ، وينفي عنه ما جرى به من اللغو
(1)
.
(وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ) بالجزم على أنَّه جواب الأمر، والمقامرة مصدر قامره: إذا طلب كلّ منهما أن يَغْلِب على صاحبه في فعل أمر، أو قولٍ، ليأخذ مالًا جَعَلاه للغالب منهما، وهذا حرام بالإجماع، إلَّا أنه استُثني منه نحو سِبَاق الخيل، وقد استوفيت بحثه في "شرح النسائيّ"، فراجعه، وبالله تعالى التوفيق.
(فَلْيَتَصَدَّقْ") قال الخطّابيّ رحمه الله: أي بالمال الذي كان يريد أن يقامر به. وقيل: بصدقةٍ ما؛ لتكفّر عنه القول الذي جرى على لسانه. قال النوويّ رحمه الله: وهذا هو الصواب، وعليه يدلّ ما في رواية مسلم:"فليتصدّق بشيء"، وزعم بعض الحنفيّة أنه يلزمه كفّارة يمين، وفيه ما فيه. انتهى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: القول فيه كالقول في اللات؛ لأنهم كانوا اعتادوا المقامرة، وهي من أكل المال بالباطل، ولمّا ذمها النبيّ صلى الله عليه وسلم بالغ في الزجر عنها، وعن ذكرها، حتّى إذا ذكرها الإنسان طالبًا للمقامرة بها أمره بصدقة.
والظاهر وجوبها عليه؛ لأنَّها كفّارة مأمور بها، وكذلك قول: لا إله إلَّا الله على من قال: واللاتِ.
ثم هذه الصدقة غير محدودة، ولا مقدّرة، فيتصدّق بما تيسّر له مما يصدق عليه الاسم، كالحال في حدقة مناجاة الرسول في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} الآية [المجادلة: 12]، فإنها غير مقدّرة.
وقال الخطّابيّ: يتصدّق بقدر ما أراد أن يقامر به، وليس في اللفظ ما
(1)
راجع: "الفتح" 10/ 647، رقم (4860).
يدلّ عليه، ولا في قواعد الشرع، ولا للعقل مجالٌ في تقدير الكفّارات، فهو تحكّم، وأبعد من هذا قولُ من قال من الحنفيّة: إن المراد بها كفّارة اليمين، وهذا فاسدٌ قطعًا؛ لأنَّ كفّارة اليمين ما هي صدقة فقط، بل عتقٌ، أو كسوةٌ، أو إطعام، فإن لم يجد فصيامٌ، فكيف يصحّ أن يقال: أطلق الصدقة، وهو يُريد به إطعام عشرة مساكين، وأنه مخيّرٌ بينه وبين غيره، من الخصال المذكورة معه في الآية؟. وأيضًا فإنه لا يتمشّى على أصل الحنفيّة المتقدّم الذكر، فإنهم قالوا: لا تجب الكفّارة إلَّا بالحنث في قوله: يهوديّ، أو نصرانيّ، إلى غير ذلك، مما ذكروه، وهذا حكم معلّقٌ على نطق بقولٍ ليس فيه يمين، ولا التزام، وإنما هو استدعاءٌ للمقامرة، فأين الأرض من السماء؟، والعرش من الثرى؟. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله، وهو تحقيق نفيس جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 4252 و 4253](1647)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4860) و"الأدب"(6107) و"الاستئذان"(6301) و"الأيمان والنذور"(6650)، و (أبو داود) في "الأيمان والنذور"(3247)، و (الترمذيّ) في "النذور والأيمان"(1545)، و (النسائيّ) في "الأيمان والنذور"(7/ 7) و"الكبرى"(3/ 125 و 6/ 246 و 474)، و (ابن ماجه) في "الكفّارات"(2096)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(8/ 469)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 309)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 27)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1/ 197)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1/ 28)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(13/ 49)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(3/ 27) و"الأوسط"(9/ 73)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 148 و 10/ 30) و"المعرفة"(1/ 242)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان حكم الحلف باللات والْعُزّي، وهو وجوب قول:"لا إله إلَّا الله" على من حلف بذلك.
2 -
(ومنها): تحريم الحلف بالأصنام، والأوثان، وغيرها مما يعظّم من دون الله - عَزَّوَجَلَّ -.
3 -
(ومنها): تحريم القمار، كما نصّ الله عليه في كتابه المبين، حيث قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة: 90].
4 -
(ومنها): أن من طلب من آخر أن يقامره، وجب عليه أن يتصدّق بشيء من ماله؛ كفّارة لمعصيته، وأما ما قاله السنديّ تبعًا لغيره من أن التصدّق مندوب، غير صحيح، بل الأصحّ أنه واجب، كما تقدّم تحقيقه في كلام القرطبيّ رحمه الله؛ كما أن قول:"لا إله إلَّا الله" الماضي واجبٌ؛ وذلك لأنه أتى به الأمر، وأَمْرُ الشارع للوجوب ما لم يوجد له صارف، وليس له هنا صارف، فتنبّه.
5 -
(ومنها): ما قال ابن بطال
(1)
، عن المهلَّب: أمره صلى الله عليه وسلم للحالف باللات والعزَّى بقوله: لا إله إلَّا الله؛ خشيةَ أن يستديم حاله على ما قال، فيُخشَى عليه من حبوط عمله فيما نطق به، من كلمة الكفر بعد الإيمان، قال: ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن"، فنفى عنه الإيمان في حالة الزنا خاصّةً. انتهى.
وقال في موضع آخر: ليس في هذا الحديث إطلاق الحلف بغير الله، وإنما فيه تعليم من نَسِيَ، أو جَهِلَ، فحَلَف بذلك أن يبادر إلى ما يُكَفّر عنه ما وقع فيه، وحاصله أنه أرشد من تلفظ بشيء مما لا ينبغي له التلفظ به، أن يبادر إلى ما يرفع الحرج عن القائل أن لو قال ذلك قاصدًا إلى معنى ما قال.
قال الحافظ: ومناسبة الأمر بالصدقة لمن قال: أقامرك، من حيث إنه أراد إخراج المال في الباطل، فأُمر بإخراجه في الحقّ. انتهى
(2)
.
(1)
راجع: "شرح البخاريّ" لابن بطال 9/ 291.
(2)
"الفتح" 13/ 683، كتاب "الأدب" رقم (6107).
6 -
(ومنها): أن القاضي عياضًا رحمه الله قال: في هذا الحديث حجة للجمهور أن العزم على المعصية إذا استقرّ في القلب كان ذنبًا يُكتب عليه، بخلاف الخاطر الذي لا يستمرّ
(1)
.
وتعقّبه الحافظ، فقال: ولا أدري من أين أخذ ذلك مع التصريح في الحديث بصدور القول حيث نطق بقوله: "تعال أُقامرك"، فدعاه إلى المعصية، والقمار حرامٌ باتفاق، فالدعاء إلى فعله حرام، فليس هنا عزمٌ مجرّد
(2)
.
7 -
(ومنها): ما في "الفتح": قال جمهور العلماء: مَن حَلَف باللات والْعُزَّي، أو غيرهما من الأصنام، أو قال: إن فعلت كذا فأنا يهوديّ، أو نصرانيّ، أو بريء من الإسلام، أو من النبيّ صلى الله عليه وسلم لم تنعقد يمينه، وعليه أن يستغفر الله تعالي، ولا كفارة عليه، ويستحبّ أن يقول: لا إله إلَّا الله، وعن الحنفية: تجب الكفّارة إلَّا في مثل قوله: أنا مبتدعٌ، أو بريء من النبيّ صلى الله عليه وسلم، واحتَجُّوا بإيجاب الكفّارة على المظاهِر مع أن الظهار منكر من القول وزور، كما قال الله تعالي، والحلف بهذه الأشياء منكر.
وتُعُقّب بهذا الخبر؛ لأنه لم يُذْكَر فيه إلَّا الأمر بـ "لا إله إلَّا الله"، ولم يذكر فيه كفارة، والأصل عدمها حتى يقام الدليل، وأما القياس على الظهار فلا يصحّ؛ لأنهم لم يوجبوا فيه كفارة الظهار، واستثنوا أشياء لم يوجبوا فيها كفارة أصلًا مع أنه منكر من القول.
وقال النوويّ رحمه الله في "الأذكار": الحلف بما ذُكِر حرام، تجب التوبة منه، وسبقه إلى ذلك الماورديّ وغيره، ولم يتعرضوا لوجوب قول: لا إله إلَّا الله، وهو ظاهر الخبر، وبه جزم ابن درياس في "شرح المهذَّب". انتهى
(3)
.
8 -
(ومنها): ما قاله البغويّ في "شرح السُّنَّة" تبعًا للخطابيّ: في هذا الحديث دليل على أنَّ لا كفارة على من حلف بغير الإسلام، وإن أثم به، لكن تلزمه التوبة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمره بكلمة التوحيد، فأشار إلى أن عقوبته تختص بذنبه،
(1)
راجع: "الإعلام" 3/ 1918.
(2)
"الفتح" 10/ 648 رقم (4860).
(3)
"الفتح" 15/ 283، كتاب "الأيمان والنذور" رقم (6650).
ولم يوجب عليه في ماله شيئًا، وإنما أمره بالتوحيد؛ لأنَّ الحلف باللات والعزى يضاهي الكفّار، فأمره أن يتدارك بالتوحيد.
9 -
(ومنها): ما قال الطيبيّ رحمه الله: الحكمة في ذكر القمار بعد الحلف باللات أن من حلف باللات وافق الكفار في حلفهم، فأُمر بالتوحيد، ومن دعا إلى المقامرة وافقهم في لعبهم، فأُمر بكفارة ذلك بالتصدق.
10 -
(ومنها): ما قاله أيضًا: في الحديث أن من دعا إلى اللعب، فكفارته أن يتصدق، ويتأكد ذلك في حقّ من لعب بطريق الأولى.
11 -
(ومنها): ما قال النوويّ رحمه الله: فيه أن من عَزَم على المعصية حتى استقرّ ذلك في قلبه، أو تكلَّم بلسانه أنه تكتبه عليه الحفظة.
قال الحافظ رحمه الله: كذا قال، وفي أخذ هذا الحكم من هذا الدليل وقفةٌ.
انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:
[4253]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَحَدِيثُ مَعْمَرٍ مِثْلُ حَدِيثِ يُونُسَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ:"فَلْيَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ"، وَفِي حَدِيثِ الأَوْزَاعِيِّ:"مَنْ حَلَفَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ) الْهَرَويّ، ثمّ الْحَدَثانيّ، أبو محمد، صدوقٌ في نفسه، إلَّا أنه عَمِيَ، فصار يُلَقَّن ما ليس من حديثه، من قُدماء [10](ت 240) وله مائة سنة (م،) تقدم في "المقدمة" 6/ 87.
2 -
(الْوَليدُ بْنُ مُسْلِمٌ) القُرشيّ مولاهم، أبو العبَّاس الدمشقيّ، ثقة، لكنه كثير التدليس والتسوية [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.
(1)
"الفتح" 15/ 283 رقم (6650).
3 -
(الأَوْزَاعِيُّ) عبد الرَّحمن بن عمرو بن أبي عمرو، أبو عمرو الفقيه، ثقةٌ جليلٌ [7](ت 157)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
[تنبيه]: رواية معمر، عن الزهريّ ساقها عبد الرّزّاق في "مصنّفه"، فقال:
(15931)
- عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، عن حميد بن عبد الرَّحمن بن عوف، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حَلَف، فقال في حلفه: واللاتِ، فليقل: لا إله إلَّا الله، ومن قال لصاحبه: تَعَالَ أُقامرْك، فليتصدق بشيء". انتهى
(1)
.
وأما رواية الأوزاعيّ، عن الزهريّ، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(5756)
- حدّثني إِسْحَاقُ، أخبرنا أبو الْمُغِيرَةِ، حدثنا الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عن حُمَيْدٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ، قال: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "منْ حَلَفَ مِنْكُمْ، فقال في حَلِفِهِ: بِاللَّاتِ وَالْعُزَّي، فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إلَّا الله، وَمَنْ قال لِصَاحِبهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ، فَلْيَتَصَدَّقْ". انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
(قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ مُسْلِمٌ: هَذَا الْحَرْفُ -يَعْنِي قَوْلَهُ: "تَعَالَ أُقَامِرْكَ، فَلْيَتَصَدَّقْ"- لَا يَرْوِيهِ أَحَدٌ غَيْرُ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: وَلِلْزُّهْرِيِّ نَحْوٌ مِنْ تِسْعِينَ حَدِيثًا، يَرْوِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ، بِأَسَانِيدَ جِيَادٍ).
وقوله: (قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ) هو صاحب الكتاب، وقوله:(مُسْلِمٌ) بدل مما قبله؛ أي: مسلم بن الحجّاج (هَذَا الْحَرْفُ - يَعْنِي قَوْلَهُ: "تَعَالَ أُقَامِرْكَ، فَلْيَتَصَدَّقْ") أراد بالحرف الجملة (لَا يَرْوِيهِ أَحَدٌ غَيْرُ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: وَلِلزهْرِيِّ نَحْوٌ مِنْ تِسْعِينَ حَدِيثًا) وقع في بعض النسخ: "من سبعين حرفًا"، والظاهر أنه تصحيف، والصواب "تسعين"، كما في معظم النسخ، فتنبّه.
(يَرْوِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ)؛ أي: في الحديث المذكور، وفي بعض النسخ:"فيها"؛ أي: في تلك الأحاديث (أَحَدٌ، بِأَسَانِيدَ جِيَادٍ).
(1)
مصنف عبد الرزاق 8/ 469.
(2)
صحيح البخاري 5/ 2264.
قال في "الفتح" بعد نقل كلام مسلم هذا ما نصّه: وإنما قَيَّد التفرد بقوله: "تعال أقامرك"؛ لأنَّ لبقية الحديث شاهدًا من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، يستفاد منه سبب حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه النسائيّ بسند قويّ، قال: كنا حديثي عهد بجاهلية، فحلفت باللات والعزي، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"قل: لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير، وانفُثْ عن شمالك، وتعوَّذ بالله، ثم لا تَعُدْ"، فيمكن أن يكون المراد بقوله في حديث أبي هريرة:"فليقل: لا إله إلَّا الله" إلى آخر الذكر المذكور إلى قوله قدير، ويَحْتَمِل الاكتفاء بـ "لا إله إلَّا الله"؛ لأنَّها كلمة التوحيد، والزيادة المذكورة في حديث سعد تأكيدٌ. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلِّفِ رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:
[4254]
(1648) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَي، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا تَحْلِفُوا بِالطَّوَاغِي، وَلَا بِآبَائِكُمْ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم ابن عثمان الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
2 -
(عَبْدُ الأَعْلَى) بن عبد الأعلى الساميّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.
3 -
(هِشَامُ) بن حسّان الأزديّ الْقُرْدوسيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ، من أثبت الناس في ابن سيرين، وفي روايته عن الحسن وعطاء مقال؛ لأنه قيل: كان يرسل عنهما [6](ت 7 أو 148)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
4 -
(الْحَسَنُ) بن أبي الحسن يسار الأنصاريّ مولاهم، أبو سعيد
(1)
"الفتح" 14/ 271، كتاب"الاستئذان" رقم (6301).
البصريّ، ثقةٌ فقيةٌ فاضلٌ مشهوز، يرسل كثيرًا، ويدلّس رأس [4](ت 110) وقد قارب التسعين (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 306.
5 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ) بن حَبِيب بن عبد شمس الْعَبْشميّ، أبو سعيد، صحابيّ، من مسلمة الفتح، يقال: كان اسمه: عبد كلال، افتتح سِجِسْتان، ثم سكن البصرة، ومات بها سنة خمسين، أو بعدها (ع) تقدم في "الكسوف" 5/ 2118.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه مسلسلٌ بالبصريين، غير شيخه، فكوفيّ، ورجاله رجال الجماعة، سوى شيخه أيضًا، فما أخرج له الترمذيّ.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَحْلِفُوا بِالطَّوَاغِي) قال أهل اللغة والغريب: الطواغي هي الأصنام، واحدها طاغية، ومنه:"هذه طاغية دَوْس"؛ أي: صنمهم، ومعبودهم، سُمِّي بإسم المصدر؛ لطغيان الكفار بعبادته؛ لأنه سبب طغيانهم وكفرهم، وكل ما جاوز الحد في تعظيم أو غيره فقد طَغَي، فالطغيان المجاوزة للحد، ومنه قوله تعالى:{إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} الآية [الحاقة: 11]؛ أي: جاوز الحدّ، وقيل: يجوز أن يكون المراد بالطواغي هنا مَنْ طَغَى من الكفّار، وجاوز القدر المعتاد في الشرّ، وهم عظماؤهم، وفي رواية النسائيّ وغيره:"لا تحلفوا بالطواغيت" بالتاء، وهو جمع طاغوت، وهو الصنم، ويطلق على الشيطان أيضًا، ويكون الطاغوت واحدًا، وجمعًا، ومذكَّرًا، ومؤنثًا، قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} الآية [الزمر: 17]، وقال تعالى:{يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء: 60]، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: الطاغوتُ: تاؤها زائدة، وهي مشتقّة من طغا، والطاغوت يُذكّر، ويؤنّث، والاسم الطُّغيان، وهو مجاوزة الحدّ، وكلّ شيء جاوز المقدار والحدَّ في العصيان، فهو طاغ، وأطغيته: جعلته طاغيًا، وطغا
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 108.
السيل: ارتفع حتى جاوز الحدّ في الكثرة، والطاغوت: الشيطان، وهو في تقدير فَعَلُوت بفتح العين، لكن قُدّمت اللام موضع العين، واللامُ واوٌ محرّكةٌ، مفتوحٌ ما قبلها، فقُلبت ألفًا، فبقي في تقدير فَلَعُوت، وهو من الطغيان. قاله الزمخشريّ. انتهى
(1)
.
وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله ما نصّه: الطواغي: جمع طاغية، كالرَّوَابي: جمع رابية، والدَّوالي: جمع دالية، وهي مأخوذ من الطغيان، وهو الزيادة على الحدّ، ومنه قوله تعالى:{إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11)} الآية [الحاقة: 11]؛ أي: زاد. قال: والطواغي، والطواغيت: كلّ معبود سوى الله تعالى. قال: وقد تقرّر أن اليمين بذلك محرّم، وعلى ذلك فلا كفّارة فيه عند الجمهور؛ لأجل الحلف بها، ولا لأجل الحنث فيها، أما الأول؛ فلأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد قال:"من قال: واللات والعزّي، فليقل: لا إله إلَّا الله"، ولم يذكر كفّارةً، ولو كانت لوجب تبيينها لتعيّن الحاجة لذلك. وأما الثاني، فليست بيمين منعقدة، ولا مشروعة، فيلزمَ بالحنث فيها الكفّارة، وقد شذّ بعض الأئمّة
(2)
، وتناقض فيما إذا قال: أُشرك بالله، أو أكفُر بالله، أو هو يهوديٌّ، أو نصرانيّ، أو بريء من الإسلام، أو من النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو من القرآن، وما أشبه ذلك، فقال: هي أيمانٌ يلزم بها كفارةٌ إذا حنِثَ فيها، أما شذوذه، فلأنه لا سلف له فيه من الصحابة، ولا موافق له من أئمّة الفتوى فيما أعلم. وأما تناقضه، فلأنه قال: لو قال: واليهوديّةِ، والنصرانيّة، والنبيّ، والكعبةِ، لم يجب عليه كفّارة عنده، مع أنَّها على صيغ الإيمان اللغويّة، فأوجب الكفّارة فيما لا يُقال عليه يمين، لا لغةً، ولا شرعًا، ولا هو من ألفاظها، ولو عكس لكان أولي، وأمسّ، ولا حجة له في آية كفّارة اليمين؛ إذ تلك الكلمات ليست أيمانًا، كما بيّنّاه، ولو سلّمنا أنَّها أيمان، فليست بمنعقدة، فلا يتناولها العموم، ثم يلزم بحكم العموم أن يوجب الكفّارة في كلّ ما يقال عليه يمينٌ لغةً، وعرفًا، ولم يقل بذلك، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله بتصرّف يسير، وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 373 - 374.
(2)
هو الإمام أبو حنيفة رحمه الله.
(وَلَا) تحلفوا (بِآبَائِكُمْ") تقدّم شرحه مستوفًى في شرح حديث عمر رضي الله عنه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الرَّحمن بن سمُرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 4254](1648)، و (النسائيّ) في "الأيمان والنذور"(3801) و"الكبرى"(4715)، و (ابن ماجه) في "الكفّارات"(2095)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 375)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 62)، وبقيّة متعلّقات الحديث من الفوائد وغيرها تقدّمت قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(3) - (بَابُ نَدْبِ مَنْ حَلَفَ يَمِينًا، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، أَنْ يَأتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4255]
(1649) - (حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، وَقتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَيَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثيُّ -وَاللَّفْظُ لِخَلَفٍ- قَالُوا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي رَهْطٍ مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ نَسْتَحْمِلُهُ، فَقَالَ: "وَاللهِ لَا أَحْمِلُكُمْ، وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ"، قَالَ: فَلَبِثْنَا مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِإِبِلٍ، فَأَمَرَ لَنَا بِثَلَاثِ ذَوْدٍ، غُرِّ الذُّرَي، فَلَمَّا انْطَلَقْنَا قُلْنَا -أَوْ قَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ-: لَا يُبَارِكُ اللهُ لَنَا، أَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَسْتَحْمِلُهُ، فَحَلَفَ أَنْ لَا يَحْمِلَنَا، ثُمَّ حَمَلَنَا، فَأَتَوْهُ، فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: "مَا أَنَا حَمَلْتُكُمْ، وَلَكِنَّ اللهَ حَمَلَكُمْ، وَإِنِّي وَاللهِ -إِنْ شَاءَ اللهُ- لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، ثُمَّ أَرَى خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي، وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(خَلَفُ بْنُ هِشَامِ) بن ثعلب البزّار المقرئ البغداديّ، ثقةٌ، له اختيارات في القراءات [10](ت 229)(م د) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
2 -
(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب.
3 -
(يَحْيَى بْنُ حَبِيب الْحَارِثيُّ) البصريّ، ثقةٌ [10](ت 248) أو بعدها (م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.
4 -
(حَمَّادُ بْنُ زيدِ) بن درهم الْجهضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةُ ثبتٌ فقيه، من كبار [8](ت 179)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
5 -
(غَيْلَانُ بْنُ جَرِيرٍ) الْمِعْوليّ الأزديّ البصريّ، ثقةٌ [5](ت 129)(ع) تقدم في "الطهارة" 15/ 598.
6 -
(أَبُو بُرْدَةَ) بن أبي موسى الأشعريّ، قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث، ثقةٌ [3](ت 104) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
7 -
(أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ) عبد الله بن قيس بن سُليم بن حضّار الصحابيّ الشهير، أَمّره عمر، ثم عثمان، وهو أحد الْحَكَمين بصفّين، مات سنة (50) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه مسلسل بالبصريين من شيخه يحيى بن حبيب، وخلف بغداديّ، وقتيبة بغلانيّ، وأبو موسى رضي الله عنه كان أمير البصرة، ووُلد له أبو بردة هناك، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والابن عن أبيه، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، قال فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن عبد الله بن قيس أعطي مزمارًا من مزامير آل داود عليه السلام"، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي مُوسَى) عبد الله بن قيس رضي الله عنه (الأَشْعَرِيِّ) نسبة إلى أشعر قبيلة مشهورة من اليمن، والأشعر هو: نبت بن أُدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، وإنما قيل له: الأشعر؛ لأنَّ أمه ولدته، والشعر على
بدنه، قاله في "اللباب"
(1)
. أنه (قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي رَهْطٍ) بفتح، فسكون؛ أي: جماعة، قال الفيّوميّ رحمه الله: الرَّهْط: ما دون عشرةٍ من الرجال، ليس فيهم امرأة، وسكون الهاء أفصح من فتحها، وهو جمع لا واحد له من لفظه، وقيل: الرَّهْطُ من سبعة إلى عشرة، وما دون السبعة إلى الثلاثة نَفَرٌ، وقال أبو زيد: الرَّهْطُ، والنَّفَرُ: ما دون العشرة من الرجال، وقال ثعلب أيضًا: الرَّهْطُ، وَالنَّفَرُ، وَالقَوْمُ، وَالمَعْشَرُ، وَالعَشِيرَةُ: معناهم الجمع، لا واحد لهم من لفظهم، وهو للرجال دون النساء، وقال ابن السِّكِّيت: الرَّهْطُ، وَالْعَشِيرَةُ: بمعنًى، ويقال: الرَّهْطُ: ما فوق العشرة إلى الأربعين، قاله الأصمعيّ في "كتاب الضاد والظاء"، ونقله ابن فارس أيضًا، ورَهْطُ الرجل: قومُهُ، وقبيلته الْأَقربونَ. انتهى
(2)
.
وفي رواية للبخاريّ من طريق عبد السلام بن حرب، عن أيوب بلفظ:"إنا أتينا النبيّ صلى الله عليه وسلم نفرٌ من الأشعريين"، فاستَدَلّ به ابن مالك لصحّة قول الأخفش: يجوز أن يُبدل الظاهر من ضمير الحاضر بدل كلّ من كلّ، وحمل عليه قوله تعالى:{لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} الآية [الأنعام: 12]، قال ابن مالك: واحترزت بقولي بدل كلّ من كلّ عن البعض، والاشتمال، فذلك جائز اتفاقًا، وإليه أشار في "الخلاصة" بقوله:
وَمِنْ ضَمِيرِ الْحَاضِرِ الظَّاهِرَ لَا
…
تُبْدِلْهُ إِلَّا مَا إِحَاطَةً جَلَا
أَوِ اقْتَضَى بَعْضًا أَوِ اشْتِمَالَا
…
كَأَنَّكَ ابْتِهَاجَكَ اسْتَمَالا
ولَمَّا حكاه الطيبيّ أقرّه، وقال: هو عند علماء البديع يُسمَّى التجريد، لكن تعقّب الحافظ ذلك، وقال: لا يحسن الاستشهاد به، إلَّا لو اتفقت الرواة، والواقع أنه بهذا اللفظ انفرد به عبد السلام، وقد أخرجه البخاريّ في مواضع أخرى بإثبات "في"، فقال في معظمها:"في رهط"، كما هي رواية ابن عُليّة، عن أيوب في "كفّارات الإيمان"، وفي بعضها:"في نفر"، كما هي رواية حماد، عن أيوب في "فرض الخمس". انتهى
(3)
.
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 64.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 241 - 242.
(3)
"الفتح" 15/ 407.
(مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ نَسْتَحْمِلُهُ)؛ أي: نطلب منه ما يحملنا من الإبل، ويَحمل أثقالنا (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَاللهِ لَا أَحْمِلُكُمْ) إنما قال هذا القول المؤكّد؛ لأنهم أتوه في وقت غضبه، كما سيأتي قول أبي موسى:"ووافقته، وهو غضبان، ولا أشعر"، وقال القرطبيّ رحمه الله: فيه جواز اليمين عند المنع، وردّ السائل الملْحِف عند تعذّر الإسعاف، وتأديبه بنوع من الإغلاظ بالقول (وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ")؛ أي: ليس عندي شيء من الإبل أحملكم عليه، وإنما ذكر صلى الله عليه وسلم هذه الجملة -والله أعلم- اعتذارًا، وبيانًا لسبب حلفه (قَالَ) أبو موسى رضي الله عنه (فَلَبِثْنَا مَا شَاء اللهُ)؛ أي: من الوقت، وفي الرواية التالية:"فلم ألبث إلَّا سُويعةً"(ثمَّ أُتيَ بِإِبِلٍ) بكسر الهمزة، والموحّدة: اسم جمع لا واحد لها، وهي مؤنثة؛ لأنَّ اسم الجمع الذي لا واحد له من لفظه إذا كان لِمَا لا يعقل يلزمه التأنيث، وتدخله الهاء إذا صُغِّر، نحو أُبَيْلَةٍ، وغُنيمة، وسُمع إسكان الباء للتخفيف، ومن التأنيث وإسكان الباء قول أبي النّجم:
والإِبْلُ لا تَصْلُح للبُسْتانِ
…
وحنَّتِ الإِبْلُ إلى الأوطانِ
والجمع: آبالٌ، وأَبيلٌ، وِزَانُ عبيد، وإذا ثُنِّي، أو جُمع، فالمراد قَطِيعان، أو قَطِيعات، وكذلك أسماء الجموع، نحو أبقار، وأغنام، والإِبلُ بناءٌ نادرٌ، قال سيبويه: لم يجئ على فِعِل بكسر الفاء والعين من الأسماء إلَّا حرفان: إبل، وحِبر، وهو القَلَح، ومن الصفات إلَّا حرف، وهي امرأة بِلْزٌ، وهي الضخمة، وبعض الأئمة يذكر ألفاظًا غير ذلك، لم يثبت نقلها عن سيبويه، ذكره الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
[تنبيه]: رواية مسلم بلفظ "إبل"، ووقع في بعض الرواية عند البخاريّ بلفظ:"بشائل"، قال في "الفتح": قوله: "فأتي بإبل"، كذا للأكثر، ووقع هنا في رواية الأصيليّ، وكذا لأبي ذرّ عن السرخسيّ، والمستملي:"بشائل" -بعد الموحَّدة شين معجمة، وبعد الألف تحتانية مهموزة، ثم لام- قال ابن بطال
(2)
: إن صحت، فأظنها شوائل، كأنه ظنّ أن لفظ "شائل" خاصّ بالمفرد،
(1)
"المصباح المنير" 1/ 2.
(2)
"شرح ابن بطال على البخاري" 6/ 185.
وليس كذلك، بل هو اسم جنس، وقال ابن التين: جاء هكذا بلفظ الواحد، والمراد به الجمع، كالسامر، وقال صاحب "العين": ناقة شائلة، ونُوقٌ شائلٌ التي جَفّ لبنها، وشَوَّلَتِ الإبل -بالتشديد- لَصِقَت بطونها بظهورها، وقال الخطابيّ: ناقة شائل قَلّ لبنها، وأصله من شال الشيءُ: إذا ارتفع، كالميزان، والجمع شَوْل، كصاحب وصَحْب، وجاء شوائل جمع شائل، وفيما نُقِل من خطّ الدمياطيّ الحافظ: الشائل الناقة التي تَشُول بذنبها للقاح، وليس لها لبن، والجمع شُوَّلٌ -بالتشديد- كراكع ورُكَّع، وحَكَى قاسم بن ثابت في "الدلائل" عن الأصمعيّ: إذا أتى على الناقة من يوم حملها سبعة أشهر جَفّ لبنها، فهي شائلة، والجمع شَوْلٌ -بالتخفيف- وإذا شالت بذنبها بعد اللقاح، فهي شائل، والجمع شُوَّلٌ -بالتشديد- وهذا تحقيق بالغٌ، وأما ما وقع في "المطالع" إن شائل جمع شائلة، فليس بجيِّد. انتهى
(1)
.
وقوله أيضًا: (أُتيَ بِإِبِلٍ) بالبناء للمفعول. وفي رواية: "فأتي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بنَهب إبل"- بفتح النون، وسكون الهاء، بعدها موحّدة-؛ أي: غنيمة، وأصله ما يؤخذ اختطافًا بحسب السبق إليه على غير تسوية بين الآخذين. وفي رواية بُريدة، عن أبي بُردة أنه صلى الله عليه وسلم ابتاع الإبل التي حَمَل عليها الأشعريين من سعد
(2)
، وفي الجمع بينها وبين رواية الباب عُسْرٌ، لكن يَحْتَمِل أن تكون الغنيمة لَمّا حصَلت حصل لسعد منها القدر المذكور، فابتاع النبيّ صلى الله عليه وسلم منه نصيبه، فحملهم عليه، قاله في "الفتح"
(3)
.
(فَأَمَرَ لَنَا)؛ أي: أمر أن نُعطى ذلك، وفي رواية ابن عُليّة عند البخاريّ:"فقيل: أين الأشعريّون؟ فأتينا، فأمر لنا"، وفي رواية حماد:"وأتي بنهب إبل، فسأل عنّا، فقال: أين النفر الأشعريّون؟ فأمر لنا"، وفي رواية بُرَيد: "فلم ألبث
(1)
"الفتح" 15/ 394 - 395، كتاب "كفّارات الأيمان" رقم (2718).
(2)
قال في "الفتح" 9/ 558: لم يتعيّن لي من هو سعد إلى الآن، إلا أنه يهجس في خاطري أنه سعد بن عبادة. انتهى.
قال الجامع: كونه يهجس في خاطره لا يكفي في كونه هو، فليتأمّل.
(3)
"الفتح" 15/ 408.
إلا سُويعة، إذ سمعت بلالًا ينادي، أين عبد الله بن قيس؟ فأجبته، فقال: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك، فلما أتيته، قال: خذ".
(بِثَلَاثِ ذَوْدٍ) قال النوويّ رحمه الله: هو من إضافة الشيء إلى نفسه، وقد يحتجّ به من يُطلق الذّود على الواحد، قال: وقوله: "بثلاث"، ووقع في الرواية الأخيرة:"بثلاثة ذود"، بإثبات الهاء، وهو صحيح، يعود إلى معنى الإبل، وهو الأبعرة. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "بثلاث ذَود" كذا لأبي ذرّ، ولغيره:"بثلاثة ذَوْد"، وقيل: الصواب الأول؛ لأن الذّود مؤنّثٌ، ووُجِّهَ بأنه إنما ذكّره باعتبار لفظ الذود، أو أنه يُطلق على الذكور والإناث، أو الرواية بالتنوين، والذود إما بدلٌ، فيكون مجرورًا، أو مستأنف، فيكون مرفوعًا.
و"الذَّوْد" -بفتح الذال المعجمة، وسكون الواو، بعدها مهملةٌ-: من الثلاث إلى العشر. وقيل: إلى السبع. وقيل: من الاثنين إلى التسع من النُّوق، قال في "الصحاح": لا واحد له من لفظه، والكثير أَذْوَاد، والأكثر على أنه خاصّ بالإناث، وقد يُطلق على الذكور، أو على أعمّ من ذلك، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:"ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة". ويؤخذ من هذا الحديث أيضًا أن الذود يُطلق على الواحد، بخلاف ما أطلق الجوهريّ. انتهى.
ووقع في رواية بلفظ: "خمس ذود" قال النوويّ: لا منافاة بينهما، إذ ليس في ذكر الثلاث نفي للخمس، والزيادة مقبولة. انتهى.
وقال في "الفتح": قال ابن التين: الله أعلم أيهما يصحّ. قال الحافظ: لعلّ الجمع بينهما يحصل من الرواية التي بلفظ: "خذ هذين القرينين، وهذين القرينين، وهذين القرينين"، فلعلّ رواية الثلاث باعتبار ثلاثة أزواج، ورواية الخمس باعتبار أن أحد الأزواج كان قرينه تبعًا، فاعتدّ به تارة، ولم يعتدّ به أُخرى.
ويمكن الجمع بأنه أمر لهم بثلاث ذَوْد أوّلًا، ثم زادهم اثنين، فإن لفظ
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 109.
زَهْدَم: "ثم أتي بنهب ذَوْد، غُرِّ الذُّرَى، فأعطاني خمس ذود"، فوقعت في رواية زَهْدَم جملة ما أعطاهم، وفي رواية غيلان، عن أبي بردة مبدأ ما أمر لهم به، ولم يذكر الزيادة. وأما رواية "خذ هذين القرينين ثلاث مرار"، وفي لفظ:"ستة أبعرة" فيمكن أن تكون السادسة تبعًا، ولم تكن ذروتها موصوفة بذلك، كما تقدّم. انتهى
(1)
.
(غُرِّ الذُّرَى) قال النوويّ رحمه الله: أما الذُّرَى فبضم الذال، وكسرها، وفتح الراء المخففة: جمع ذُرْوَة بكسر الذال وضمها، وذُروة كلِّ شيء أعلاه، والمراد هنا الأسنمة، وأما الْغُرّ: فهي البيض، وكذلك البقع المراد بها البيض، وأصلها ما كان فيه بياض وسواد، ومعناه: أمر لنا بإبل بِيضٍ الأسنمة. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "غُرِّ الذُّرى" غرُّ: جمع أغرَّ، وأصله: الذي في جبهته بياض من الخيل. و"الذُّرَى": جمع ذُروة، وهي: من كل شيء أعلاه. والمراد بـ "غُرّ الذُّرى": أن تلك الإبل كانت بيض الأسنمة. وقد روي: "بُقْعُ الذُّرى"؛ أي: فيها لُمَعٌ بِيضٌ وسُودٌ. ومنه قيل: الغراب الأبقع، والشَّاة البقعاء: إذا كانا كذلك. انتهى
(3)
.
(فَلَمَّا انْطَلَقْنَا)؛ أي: ذهبنا من عند النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: "فاندفعنا"، وفي رواية:"فلبثنا غير بعيد"(قُلْنَا -أَوْ قَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ-:)"أو" للشكّ من الراوي، وفي رواية للبخاريّ:"فقلت لأصحابي"، وفي رواية:"قلنا: ما صنعنا"، فيجمع على أنهم تكلّموا فيما بينهم، والبادئ هو أبو موسى رضي الله عنه (لَا يُبَارِكُ اللهُ لنَا)؛ أي: فيما أعطانا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الذَّوْد، إن سكتنا عن ذلك، ولم نعرّفه، ثم بيّن سبب عدم البركة بقوله:(أتيْنَا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نَسْتَحْمِلُهُ، فَحَلَفَ أَنْ لَا يَحْمِلنَا، ثُمَّ حَمَلنَا)؛ أي: بعد الحلف، فإن هذا مما لا يرضاه الله، وفي رواية ابن عليّة:"نسي رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه، والله لئن تغفّلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه، لا نُفلح أبدًا"، وفي رواية عبد السلام:"فلما قبضناها، قلنا: تغفّلنا رسول الله كل صلى الله عليه وسلم يمينه، لا نفلح أبدًا".
(1)
راجع: "الفتح" 15/ 395 رقم (6718).
(2)
"شرح النوويّ" 11/ 109.
(3)
"المفهم" 4/ 628.
ووقع في الرواية التالية زيادة قول أبي موسى رضي الله عنه لأصحابه: "والله لا أدعكم حتى ينطلق معي بعضكم إلى من سمع مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم"، يعني في منعهم أوّلًا، وإعطائهم ثانيًا إلى آخر القصّة. قال القرطبيّ رحمه الله: فيه استدراك جبر خاطر السائل الذي يؤدّب على الحاجة بمطلوبه إذا تيسّر، وأن من أخذ شيئًا يَعلَم أن المعطي لم يكن راضيًا بإعطائه، لا يُبارك له فيه.
(فَأَتَوْهُ، فَأَخْبَرُوهُ) وفي رواية: قَالَ أَبُو مُوسَى: "فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ"، وفي رواية: "فرجعنا، فقلنا: يا رسول الله أتيناك نستحملك، فحلفت أن لا تحملنا، ثم حملتنا، فظننا، أو فعرفنا أنك نسيتَ يمينك، قال: انطلقوا، فإنما حملكم الله
…
".
(فَقَالَ: "مَا أنَا حَمَلْتُكُمْ، وَلَكِن اللهَ حَمَلَكُمْ) قال العلماء: المراد بذلك إزالة المنّة عنهم، وإضافة النعمة لمالكها الأصليّ، ولم يُرد أنه لا صنع له أصلًا في حملهم؛ لأنه لو أراد ذلك ما قال بعد ذلك:"لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرًا منها، إلا أتيت الذي هو خير، وكفرت".
وقال المازريّ: معناه أن الله تعالى أعطاني ما حملتكم عليه، ولولا ذلك لم يكن عندي ما أحملكم عليه.
وقيل: يحتمل أنه كان نسي يمينه، والناسي لا يُضاف إليه الفعل.
ويردّه التصريح بقوله: "والله ما نسيتها"، كما سيأتي عند مسلم. وقيل:
المراد بالنفي عنه، والإثبات لله الإشارةُ إلى ما تفضّل الله به من الغنيمة المذكورة؛ لأنها لم تكن بتسبّب من النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا كان متطلّعًا إليها، ولا منتظرًا لها، فكان المعنى: ما أنا حملتكم لعدم ذلك أوّلًا، ولكن الله حملكم بما ساقه إلينا من هذه الغنيمة، أفاده في "الفتح"
(1)
.
وقال القاضي عياض: ويجوز أن يكون أُوحي إليه أن يحملهم، أو يكون المراد دخولهم في عموم من أمر الله تعالى بالقَسْم فيهم، والله أعلم. انتهى
(2)
.
(وَإِنِّي وَاللهِ -إِنْ شَاءَ اللهُ-) قال أبو موسى المدينيّ في كتابه "الثمين في استثناء اليمين": لم يقع قوله: "إن شاء الله" في أكثر الطرق لحديث أبي
(1)
راجع: "الفتح" 15/ 411.
(2)
راجع: "شرح النوويّ" 11/ 110.
موسى، وأشار إلى أنه صلى الله عليه وسلم قالها للتبرّك، لا للاستثناء. قال الحافظ: وهو خلاف الظاهر.
(لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ)؛ أي: محلوف يمين، فأطلق عليه لفظ "يمين"؛ للملابسة، والمراد ما شأنه أن يكون محلوفًا عليه، فهو من مجاز الاستعارة، ويجوز أن يكون فيه تضمين، فقد وقع في رواية:"على أمر"، ويَحْتَمِل أن تكون "على" بمعنى الباء، فقد وقع في رواية النسائيّ:"إذا حلفت بيمين"، ورُجّح الأول بقوله:"فرأيت غيرها خيرًا منها"؛ لأن الضمير في "غيرها" لا يصحّ عوده على اليمين.
وأجيب بأنه يعود على معناه المجازيّ للملابسة أيضًا.
وقال ابن الأثير في "النهاية": الحلف هو اليمين، فقوله:"أحلف"؛ أي: أعقد شيئًا بالعزم والنيّة، وقوله:"على يمين" تأكيد لعقده، وإعلامٌ بأنه ليست لغوًا.
قال الطيبيّ: ويؤيّده رواية النسائيّ بلفظ: "ما على الأرض يمين أَحلِف عليها
…
" الحديث، قال: فقوله: "أحلف عليها" صفة مؤكّدة لليمين، نحو أمسِ الدابرُ لا يعودُ؛ أي: فإني لا أحلف على حلف، قال: والمعنى: لا أحلف يمينًا جزمًا، لا لغو فيها، ثم يظهر لي أمرٌ آخر يكون فعلُه أفضلَ من المضيّ في اليمين المذكور إلا فعلته، وكفّرت عن يميني، قال: فعلى هذا يكون قوله: "على يمين" مصدرًا مؤكّدًا لقوله: "أحلف"، أفاده في "الفتح"
(1)
.
(ثُمَّ أَرَى خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي، وَأتيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ") أخذ النسائيّ رحمه الله من هذه الرواية جواز الكفّارة قبل الحنث، فترجم عليه، فقال:"الكفّارة قبل الحنث"، لكن تعقّبه السنديّ، فقال: فيه أن التقديم اللفظيّ لا يدلّ على التقديم المعنويّ، والعطف بالواو لا يدلّ على الترتيب، فيجوز أن يكون المتأخّر متقدّمًا، نعم قد يُقال: الأمر في الرواية الآتية لا دلالة له على وجوب تقديم الحنث، كما لا دلالة له على وجوب تقديم الكفّارة، ومقتضى
(1)
راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2439 للطيبيّ رحمه الله، و"الفتح" 15/ 409 - 410، رقم (6721).
الإطلاق دليل للمطلوب، وعلى هذا فقول من أوجب تقديم الحنث مخالف لهذا الإطلاق، فلا بدّ له من دليل يُعارض هذا الإطلاق، ويترجّح عليه حتى يستقيم الأخذ به، وتركُ هذا الإطلاق. انتهى كلام السنديّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي تحقيق الخلاف في هذه المسألة في المسألة الرابعة -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 4255 و 4256 و 4257 و 4258 و 4259 و 4260 و 4261 و 4262](1649)، و (البخاريّ) في "فرض الخمس"(3133) و"المغازي"(4385) و"الذبائح والصيد"(5517) و"الأيمان والنذور"(6649 و 6680)، وفي "كفارات الأيمان"(6721) و"التوحيد"(7555)، و (أبو داود) في "الأيمان والنذور"(3276) مختصرًا، و (الترمذيّ) في "الأطعمة"(1826) وفي "الشمائل"(148)، و (النسائيّ) في "الأيمان والنذور"(3806 و 3807) و"كتاب الصيد والذبائح"(4373 و 4374) و"الكبرى"(4720 و 4721 و 4858 و 4859)، و (ابن ماجه) في "الكفّارات"(2107)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 68)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 338)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 81)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 398 و 401 و 418)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4351 و 4354)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 229)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(1/ 369)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 31 و 33 و 35 و 40)، و (الحاكم) في "مستدركه"(4/ 334)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 31 - 32 و 51 - 52) و"المعرفة"(7/ 321) و"الصغرى"(8/ 446 و 473)، والله تعالى أعلم.
(1)
"شرح السنديّ على النسائيّ" 7/ 9 - 10.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرًا منها عليه أن يأتي الذي هو خير، ويكفّر عن يمينه.
2 -
(ومنها): أن بعضهم استدلّ به على جواز التكفير قبل الحنث، وفيه اختلافٌ بين العلماء، سنفصّله في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى-.
3 -
(ومنها): أنه يدلّ على جواز اليمين عند التبرّم.
4 -
(ومنها): انعقاد اليمين في حال الغضب.
5 -
(ومنها): جواز ردّ السائل المثقل عند تعذّر الإسعاف.
6 -
(ومنها): مشروعيّة تأديب السائل إذا لم يتيسّر للمسؤول إعطاؤه بنوع من إغلاظ القول، وذلك أنهم سألوه صلى الله عليه وسلم في حال تحقّق فيها أنه لم يكن عنده شيء، فأدّبهم بذلك القول، ثم إنه صلى الله عليه وسلم بقي مترقّبًا لما يُسعِف به طَلِبَتَهم، ويَجبُرُ به انكسارهم، فلَمّا يسّر الله تعالى عليه ذلك أعطاهم، وجبرهم على مُقتضى كرم خُلُقه الكريم صلى الله عليه وسلم، قاله القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
7 -
(ومنها): أن من حلف على فعل شيء، أو تركه، وكان الحنث خيرًا من التمادي على اليمين، عليه أن يحنث عن يمينه، وتلزمه الكفّارة، وهذا متّفقٌ عليه.
8 -
(ومنها): أن الإمام البخاريّ رحمه الله ترجم لهذا الحديث في "كتاب التوحيد" من "صحيحه" بقوله: "قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 96] "، وأراد أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وهذا مذهب أهل السُّنَّة؛ خلافًا للمعتزلة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم التكفير قبل الحنث: قال النوويّ رحمه الله: أجمعوا على أنه لا تجب الكفّارة قبل الحنث، وعلى أنه يجوز تأخيرها عن الحنث، وعلى أنه لا يجوز تقديمها على اليمين، واختلفوا في جوازها بعد اليمين وقبل الحنث، فجوّزها مالك، والأوزاعيّ، والثوريّ، والشافعيّ، وأربعة عشر صحابيًّا، وجماعات من التابعين، وهو قول
(1)
"المفهم" 4/ 629.
جماهير العلماء، لكن قالوا: يستحبّ كونها بعد الحنث، واستثنى الشافعيّ التكفير بالصوم، فقال: لا يجوز قبل الحنث؛ لأنه عبادة بدنيّة، فلا يجوز تقديمها على وقتها؛ كالصلاة، وصوم رمضان، وأما التكفير بالمال، فيجوز تقديمه كما يجوز تعجيل الزكاة. واستثنى بعض أصحابنا حنث المعصية، فقال؛ لا يجوز تقديم كفّارته؛ لأن فيه إعانة على المعصية، والجمهور على إجزائها كغير المعصية.
وقال أبو حنيفة، وأصحابه، وأشهب المالكيّ: لا يجوز تقديم الكفّارة على الحنث بكلّ حال. ودليل الجمهور ظواهر هذه الأحاديث، والقياس على تعجيل الزكاة. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": قال ابن المنذر: رأى ربيعة، والأوزاعيّ، ومالك، والليث، وسائر فقهاء الأمصار غير أهل الرأي أن الكفارة تجزئ قبل الحنث، إلا أن الشافعيّ استثنى الصيام، فقال: لا يُجزئ إلا بعد الحنث. وقال أصحاب الرأي: لا تجزئ الكفّارة قبل الحنث. ونقل الباجيّ عن مالك وغيره روايتين، واستثنى بعضهم عن مالك الصدقة، والعتق، ووافق الحنفيّة أشهب من المالكيّة، وداود الظاهريّ، وخالفه ابن حزم، واحتجّ لهم الطحاويّ بقوله تعالى:{ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} الآية [المائدة: 89]، فإن المراد إذا حلفتم، فحنِثتم، وردّه مخالفوه، فقالوا: بل التقدير: فأردتم الحنث، وأولى من ذلك أن يقال: التقدير أعمّ من ذلك، فليس أحد التقديرين بأولى من الآخر.
واحتجّوا أيضًا بأن ظاهر الآية أن الكفّارة وجبت بنفس اليمين. وردّه من أجاز بأنها لو كانت بنفس اليمين لم تسقط عمن لم يحنث اتفاقًا.
واحتجّوا أيضًا بأن الكفّارة بعد الحنث فرضٌ، وإخراجها قبله تطوّعٌ، فلا يقوم التطوّع مقام الفرض.
وانفصل عنه من أجاز بأنه يشترط إرادة الحنث، وإلا فلا يجزئ، كما في تقديم الزكاة. وقال عياض: اتفقوا على أن الكفّارة لا تجب إلا بالحنث، وأنه يجوز تأخيرها بعد الحنث، واستحبّ مالكٌ، والشافعيّ، والأوزاعيّ،
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 108 - 109.
والثوريّ تأخيرها بعد الحنث، قال عياض: ومنع بعض المالكيّة تقديم كفّارة حنث المعصية؛ لأن فيه إعانة على المعصية. وردّه الجمهور.
قال ابن المنذر: واحتُجّ للجمهور بأن اختلاف ألفاظ حديثي أبي موسى، وعبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنهما لا يدلّ على تعيين أحد الأمرين، وإنما أمر الحالف بأمرين، فإذا أتى بهما جميعًا، فقد فعل ما أُمر به، وإذا لم يدلّ الخبر على المنع، فلم يبق إلا طريق النظر، فاحتُجّ للجمهور بأن عقد اليمين لَمّا كان يحلّه الاستثناء، وهو كلام، فلأن تحلّه الكفّارة، وهي فعل ماليّ، أو بدنيّ أولى. ويرجّح قولهم أيضًا بالكثرة. وذكر أبو الحسن ابن القصّار، وتبعه عياضٌ، وجماعةٌ أن عدّة من قال بجواز تقديم الكفّارة أربعة عشر صحابيًّا، وتبعهم فقهاء الأمصار، إلا أبا حنيفة، مع أنه قال فيمن أخرج ظبية من الحرم إلى الحلّ، فولدت أولادًا، ثم ماتت في يده هي وأولادها أن عليه جزاءها، وجزاء أولادها، لكن إن كان حين إخراجها أدّى جزاءها لم يكن عليه في أولادها شيء، مع أن الجزاء الذي أخرجه عنها كان قبل أن تلد أولادها، فيحتاج إلى الفرق، بل الجواز في كفّارة اليمين أولى.
وقال ابن حزم: أجاز الحنفيّة تعجيل الزكاة قبل الحول، وتقديم زكاة الزرع، وأجازوا تقديم كفّارة القتل قبل موت المجنيّ عليه.
واحتجّ الشافعيّ بأن الصيام من حقوق الأبدان، ولا يجوز تقديمها قبل وقتها؛ كالصلاة والصيام، بخلاف العتق، والكسوة، والإطعام، فإنها من حقوق الأموال، فيجوز تقديمها؛ كالزكاة، ولفظ الشافعيّ في "الأمّ": إن كفّر بالإطعام قبل الحنث رجوت أن يُجزئ عنه، وأما الصوم فلا؛ لأن حقوق المال يجوز تقديمها، بخلاف العبادات، فإنها لا تقدّم على وقتها؛ كالصلاة، والصوم، وكذا لو حجّ الصغير، والعبد، لا يجزئ عنهما إذا بلغ، أو عتق.
وقال في موضع آخر: من حلف، فأراد أن يحنث، فأَحبّ إليّ أن لا يكفّر حتى يَحنَثَ، فإن كفّر قبل الحنث أجزأ، وساق نحوه، مبسوطًا.
وادّعى الطحاويّ أن إلحاق الكفّارة بالكفّارة أولى من إلحاق الإطعام بالزكاة. وأجيب بالمنع، وأيضًا فالفرق الذي أشار إليه الشافعيّ بين حقّ المال، وحقّ البدن ظاهر جدًّا، وإنما خصّ منه الشافعيّ الصيام بالدليل
المذكور. ويؤخذ من نصّ الشافعيّ أن الأولى تقديم الحنث على الكفّارة، وفي مذهبه وجهٌ، اختَلَف فيه الترجيح أن كفّارة المعصية يُستحبّ تقديمها.
قال عياضٌ: الخلاف في جواز تقديم الكفّارة مبنيٌّ على أن الكفّارة رخصة لحلّ اليمين، أو لتكفير مأثمها بالحنث، فعند الجمهور أنها رخصةٌ، شرعها الله لحلّ ما عقد من اليمين، فلذلك تجزئ قبلُ وبعدُ.
قال المازريّ: للكفّارة ثلاث حالات:
[أحدها]: قبل الحلف، فلا تجزئ اتفاقًا.
[ثانيها]: بعد الحلف والحنث، فتجزئ اتفاقًا.
[ثالثها]: بعد الحلف، وقبل الحنث، ففيها الخلاف. وقد اختَلَف لفظ الحديث، فقدّم الكفّارة مرّةً، وأخّرها أُخرى، لكن بحرف الواو الذي لا يوجب ترتيبًا، ومن منع رأى أنها لم تجز، فصارت كالتطوّع، والتطوّع لا يُجزئ عن الواجب.
وقال الباجيّ، وابن التين، وجماعة: الروايتان دالّتان على الجواز؛ لأن الواو لا ترتّب، قال ابن التين: فلو كان تقديم الكفّارة لا يجزئ لَأبانه، ولقال: فليأت، ثم ليكفّر؛ لأن تأخير البيان عن الحاجة لا يجوز، فلما تركهم على مقتضى اللسان دلّ على الجواز، قال: وأما الفاء في قوله: "فأت الذي هو خير، وكفّر عن يمينك"، فهي كالفاء الذي في قوله:"فكفّر عن يمينك، وائت الذي هو خير"، ولو لم تأت الثانية لَمَا دلّت الفاء على الترتيب؛ لأنها أبانت ما يفعله بعد الحلف، وهما شيئان: كفّارة، وحنث، ولا ترتيب فيهما، وهو كمن قال: إذا دخلت الدار، فكل، واشرب.
قال الحافظ: قد ورد في بعض الطرق بلفظ: "ثمّ" التي تقتضي الترتيب، عند أبي داود، والنسائيّ في حديث الباب، ولفظ أبو داود من طريق سعيد بن أبي عَروبة، عن قتادة، عن الحسن، به:"كفّر عن يمينك، ثم ائت الذي هو خير"، وقد أخرجه مسلم من هذا الوجه، لكن أحال بلفظ المتن على ما قبله. وأخرجه أبو عوانة في "صحيحه" من طريق سعيد كأبي داود. وأخرجه النسائيّ من رواية جرير بن حازم، عن الحسن مثله. لكن أخرجه البخاريّ، ومسلم، من رواية جرير بالواو، وهو في حديث عائشة عند الحاكم أيضًا بلفظ:"ثمّ".
وفي حديث أمّ سلمة عند الطبرانيّ نحوه، ولفظه:"فليكفّر عن يمينه، ثم ليفعل الذي هو خير". انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما تقدّم من الأدلة أن ما ذهب إليه الجمهور، من جواز التكفير قبل الحنث هو الأرجح؛ لقوّة دليله، كما سبق تقريره، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.
(المسألة الخامسة): اختُلف: هل كفّر النبيّ صلى الله عليه وسلم عن يمينه المذكور؟ كما اختُلف: هل كفّر في قصّة حلفه على شرب العسل، أو على غشيانه مارية رضي الله عنهما؟ فرُوي عن الحسن البصريّ رحمه الله أنه قال: لم يُكفّر أصلًا؛ لأنه مغفور له، وإنما نزلت كفّارة اليمين تعليمًا للأمة. وتُعُقّب بما أخرجه الترمذيّ من حديث عمر رضي الله عنه في قصّة حلفه على العسل، أو مارية، فعاتبه الله، وجعل له كفّارة يمين. وهذا ظاهر في أنه كفّر، وإن كان ليس نصًّا في ردّ ما ادّعاه الحسن، وظاهر قوله أيضًا في حديث الباب:"وكفّرت عن يميني" أنه لا يترك ذلك، ودعوى أن ذلك كلّه للتشريع بعيد. قاله في "الفتح"
(1)
، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4256]
(
…
) - (حَدَّثَنَا عبْدُ اللهِ بْنُ بَرَّادٍ الأَشْعَرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ -وَتَقَارَبَا فِي اللَّفْظِ- قَالَا: حَدَّثنا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: أَرْسَلَني أَصْحَابِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَسْأَلُهُ لَهُمُ الْحُمْلَانَ، إِذْ هُمْ مَعَهُ فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ -وَهِيَ غَزْوَةُ تَبُوكَ- فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنَّ أَصْحَابِي أَرْسَلُونِي إِلَيْكَ لِتَحْمِلَهُمْ، فَقَالَ:"وَاللهِ لَا أَحْمِلُكُمْ عَلَى شَيءٍ"، وَوَافَقْتُهُ وَهُوَ غَضْبَانُ، وَلَا أَشْعُرُ، فَرَجَعْتُ حَزِينًا مِنْ مَنْعِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَمِنْ مَخَافَةِ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ عَلَيَّ، فَرَجَعْتُ إِلَى أَصْحَابِي، فَأَخْبَرْتُهُمُ الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ أْلبَثْ
(2)
إِلَّا سُويعَةً، إِذْ سَمِعْتُ بِلَالًا يُنَادِي: أَيْ
(1)
راجع: "الفتح" 15/ 410.
(2)
وفي بعض النسخ: "فلم يلبث".
عَبْدَ اللهِ بْنَ قَيْسٍ، فَأجَبْتُهُ، فَقَالَ: أجِبْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُوكَ، فَلَمَا أتيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"خُذْ هَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ، وَهَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ، وَهَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ- لِسِتَّةِ أَبْعِرَةٍ ابْتَاعَهُنَّ حِينَئِذٍ مِنْ سَعْدٍ -فَانْطَلِقْ بِهِن إِلَى أَصْحَابِكَ، فَقُلْ: إِن الله- أَوْ قَالَ: إِن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَحْمِلُكُمْ عَلَى هَؤُلَاءِ، فَارْكَبُوهُنَّ"، قَالَ أَبُو مُوسَى: فَانْطَلَقْتُ إِلَى أَصْحَابِي بِهِن، فَقُلْتُ: إِن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَحْمِلُكُمْ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَلَكِنْ وَاللهِ لَا أَدَعُكُمْ حَتى يَنْطَلِقَ مَعي بَعْضُكُمْ إِلَى مَنْ سَمِعَ مَقَالَةَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ سَأَلتُهُ لَكُمْ، وَمَنْعَهُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ، ثُمَّ إِعْطَاءهُ إِيَّايَ بَعْدَ ذَلِكَ، لَا تَظُنُّوا أَنِّي حَدَّثْتُكُمْ شَيْئًا لَمْ يَقُلْهُ، فَقَالُوا لِي
(1)
: وَاللهِ إِنَّكَ عِنْدَنَا لَمُصَدَّقٌ، وَلَنَفْعَلَنَّ مَا أَحْبَبْتَ، فَانْطَلَقَ أَبُو مُوسَى بِنَفَرٍ مِنْهُمْ، حَتى أتوُا الَّذِينَ سَمِعُوا قَوْلَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَنْعَهُ إِيَّاهُمْ، ثُمَّ إِعْطَاءَهُمْ بَعْدُ، فَحَدَّثُوهُمْ بِمَا حَدَّثَهُمْ بِهِ أَبُو مُوسَى سَوَاءً).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ الله بْنُ بَرَّادٍ الأَشْعَرِيُّ) هو: عبد الله بن بَرّاد بن يوسف بن أبي بُرْدة بن أبي موسى الأشعريّ، أبو عامر الكوفيّ، صدوقٌ [10](خت م 4) تقدم في "الإيمان" 6/ 51.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ) أبو كريب، تقدّم قبل باب.
3 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة، تقدّم أيضًا قبل باب.
4 -
(بُرَيْدُ) بن عبد الله بن أبي بُرْدة بن أبي موسى الأشعريّ الكوفيّ، ثقةٌ [6](ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه مسلسلٌ بالكوفيين، من أوله إلى آخره، ولا ينافي هذا ما تقدّم من جعلنا السند الماضي مسلسلًا بالبصريين؛ لأن أبا موسى رضي الله عنه سكن الكوفة والبصرة، وكذا وَلَده، وأنه مسلسلٌ أيضًا بأسرة واحدة غير أبي أسامة،
(1)
وفي نسخة: "فقالوا: لا والله".
فعبد الله بن برّاد من نسل أبي موسى رضي الله عنه، كما أسلفته في نسبه، وبريد حفيد أبي بردة، وهو ولد أبي موسى-رضي الله عنه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي مُوسَى) الأشعريّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: أَرْسَلَنِي أَصْحَابِي إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَسْأَلُهُ لَهُمُ الْحُمْلَانَ) بضمّ الحاء المهملة؛ أي: الشيء الذي يركبون عليه، ويحملهم، قاله في "الفتح".
وقال في "القاموس"، و"شرحه":"الْحُمْلانُ بالضمّ: ما يُحْمَل عليه، من الدوابّ في الهبَة خاصّةً، كذا في "المحكم"، و"الْعُباب"، قال الليث: ويكون الْحُمْلان أجرًا لما يُحمَل، زاد الصغانيّ: وحُمْلانُ الدراهم في اصطلاح الصاغة: ما يُحْمَلُ على الدراهم من الْغِشِّ؛ تسمية بالمصدر، وهو مجاز". انتهى
(1)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله: الْحُمْلان: مصدر حَمَلَ يَحْمِل حُمْلانًا، وذلك لأنهم أرسلوه يطلب منه شيئًا يركبون عليه. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما تقدّم من "القاموس"، و"شرحه" أولى وأقرب من تفسير ابن الأثير، فتأملّ.
(إِذْ هُمْ)"إذ" ظرف متعلّق بمقدَّر؛ أي: يركبونه وقت كونهم (مَعَهُ) صلى الله عليه وسلم (فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ) -بمهملتين الأولى مضمومة، وبعدها سكون- مأخوذ من قوله تعالى:{الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة: 117]، وهي غزوة تبوك كما بيّنه بقوله:(وَهِيَ غَزْوَةُ تَبُوكَ) وفي حديث ابن عباس: "قيل لعمر: حدّثنا عن شأن ساعة العسرة، قال: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فأصابنا عطش
…
" الحديث، أخرجه ابن خزيمة، وفي تفسير عبد الرزاق: عن معمر، عن ابن عقيل قال: "خرجوا في قلّة من الظَّهر، وفي حرّ شديد، حتى كانوا ينحرون البعير، فيشربون ما في كَرْشه من الماء، فكان ذلك عُسْرة من الماء،
(1)
"تاج العروس من جواهر القاموس" 7/ 288.
(2)
"النهاية في غريب الحديث والأثر" 1/ 443.
وفي الظَّهر، وفي النفقة، فسميت غزوة العسرة، وتبوك المشهور فيها عدم الصرف؛ للتأنيث والعلمية، ومن صرفها أراد الموضع، ووقعت تسميتها بذلك في الأحاديث الصحيحة، منها حديث مسلم:"إنكم ستأتون غدًا عين تبوك"، وكذا أخرجه أحمد، والبزار، من حديث حذيفة، وقيل: سميت بذلك لقوله صلى الله عليه وسلم للرجلين اللذين سبقاه إلى العين: "ما زلتما تبوكانها منذ اليوم"، قال ابن قتيبة: فبذلك سميت عين تبوك، والَبَوْك كالْحَفْر. انتهى.
والحديث المذكور عند مالك، ومسلم بغير هذا اللفظ، أخرجاه من حديث معاذ بن جبل:"إنهم خرجوا في عام تبوك مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: "إنكم ستأتون غدًا إن شاء الله تعالى عين تبوك، فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئًا"، فجئناها وقد سبق إليها رجلان، والعين مثل الشراك تَبِضّ بشيء من ماء
…
" فذكر الحديث في غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه ويديه بشيء من مائها، ثم أعاده فيها، فجرت العين بماء كثير، فاستقى الناس.
وبينها وبين المدينة من جهة الشام أربع عشرة مرحلة، وبينها وبين دمشق إحدى عشرة مرحلة.
وكان السبب فيها ما ذكره ابن سعد، وشيخه، وغيره، قالوا: بلغ المسلمين من الأنباط الذين يَقْدَمون بالزيت من الشام إلى المدينة أن الروم جَمَعَت جموعًا، وأجلبت معهم لَخْم وجُذَام، وغيرهم من مُتَنَصِّرة العرب، وجاءت مقدمتهم إلى الْبَلْقاء، فَنَدَب النبيّ صلى الله عليه وسلم الناس إلى الخروج، وأعلمهم بجهة غزوهم، كما سيأتي في الكلام على حديث كعب بن مالك رضي الله عنه.
ورَوَى الطبرانيّ من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: كانت نصارى العرب كتبت إلى هِرَقْل أن هذا الرجل الذي خرج يَدَّعي النبوة هلك، وأصابتهم سنون، فهَلَكت أموالهم، فبعث رجلًا من عظمائهم، يقال له قباذ، وجَهَّز معه أربعين ألفًا، فبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك، ولم يكن للناس قوة، وكان عثمان قد جَهَّز عِيرًا إلى الشام، فقال: يا رسول الله هذه مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها، ومائتا أوقية، قال: فسمعته يقول: "لا يَضُرّ عثمان ما عَمِلَ بعدها"، وأخرجه الترمذيّ، والحاكم، من حديث عبد الرحمن بن حبان نحوه.
وذكر أبو سعيد في "شرف المصطفى"، والبيهقيّ في "الدلائل"، من طريق
شهر بن حَوْشب، عن عبد الرحمن بن غَنْم: أن اليهود قالوا: يا أبا القاسم إن كنت صادقًا فالْحَقْ بالشام، فإنها أرض المحشر، وأرض الأنبياء، فغزا تبوك لا يريد إلا الشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله تعالى الآيات من سورة بني إسرائيل:{وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} الآية [الإسراء: 76]. انتهى، وإسناده حسنٌ، مع كونه مرسلًا.
(فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِن أَصْحَابِي أَرْسَلُونِي إِلَيْكَ يتَحْمِلَهُمْ)؛ أي: لتعطيهم ما يَحملون عليه أنفسهم، وأثقالهم (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَاللهِ لَا أَحْمِلُكُمْ عَلَى شيءٍ") وفي رواية للبخاريّ:"لا أجد ما أحملكم عليه"، وفي رواية موسى بن عقبة، عن ابن شهاب:"وجاء نفر كلهم معسر يستحملونه، لا يحبون التخلف عنه، فقال: لا أجد، قال: ومن هؤلاء نفر من الأنصار، ومن بني مزينة"، وفي مغازي ابن إسحاق: أن البكائين سبعة نفر: سالم بن عمير، وأبو ليلى بن كعب، وعمرو بن الحمام، وعبد الله بن مُغَفَّل، وقيل: ابن غنمة، وعلية بن زيد، وهرمي بن عبد الله، وعِرْباض بن سارية، وسلمة بن صخر، قال: فبلغني أن أبا ياسر اليهوديّ، وقيل: ابن يامين جَهَّز أبا ليلى، وابن مغفل، وقيل: كان في البكائين بنو مُقَرِّن السبعة: مَعْقِلٌ، وإخوته، قاله في "الفتح"
(1)
.
(وَوَافَقْتُهُ وَهُوَ غَضْبَانُ) قال القرطبيّ رحمه الله: حلفه في تلك الحال يدلّ لمالك على صحّة قوله بلزوم حكم اليمين الواقعة في حال الغضب، وهو له حجة على الشافعيّ حيث قال: إنها لا تلزم، ويدلّ أيضًا على قول مالك حديث عديّ بن حاتم الآتي. انتهى
(2)
.
(وَلَا أَشْعُرُ) بضمّ العين، من باب قَعَد؛ أي: لا أعلم بغضبه صلى الله عليه وسلم (فَرَجَعْتُ حَزِينًا مِنْ مَنْعِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَمِنْ مَخَافَةِ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قَدْ وَجَدَ) بفتح الواو والجيم، من باب وَعَدَ، يقال: وَجَدَ عليه مَوْجِدةً: إذا غضب (فِي نَفْسِهِ عَلَيَّ، فَرَجَعْتُ إِلَى أَصْحَابِي، فَأَخبَرْتُهُمُ الَّذِي قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ ألْبَثْ) بصيغة المتكلّم، وفي نسخة:"فلم يلبث" بصيغة الغائب؛ أي: لم يتأخّر (إِلَّا سُوَيْعَةً) تصغير ساعة للتقليل؛ أي: إلا زمنًا قليلًا (إِذْ سَمِعْتُ بِلَالًا) هو
(1)
"الفتح" 8/ 112.
(2)
"المفهم" 4/ 630 - 631.
الصحابيّ الشهير، مؤذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتوفّى سنة (17) أو (18) وقيل غير ذلك. (يُنَادِي: أَيْ عَبْدَ اللهِ بْنَ قَيْسٍ) "أي" حرف نداء قيل: للأوسط، وقيل: للبعيد، وإلى هذا أشرت في "التحفة المرضيّة" حيث قلت:
"أَيْ" لِنَدَا الأَوْسَطِ أَوْ ذِي قُرْبِ أَوْ
…
ذِي الْبُعْدِ وَالتَّفْسِيرَ أَيْضًا قَدْ رَأَوْ
(فَأَجَبْتُهُ، فَقَالَ: أَجبْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وقوله: (يَدْعُوكَ) جملة حاليّة من "رسول الله صلى الله عليه وسلم"(فَلَمَّا أتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أخُذْ هَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ)؛ أي: الجملين المشدود أحدهما إلى الآخر، وقيل: النظيرين المتساويين (وَهَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ، وَهَذَيْنِ الْقَرِينَيْنن)، وقوله:(لِسِتَّةِ أَبْعِرَةٍ) بيان لما تكرّر من قوله: "هذين القرينين".
وقال في "الفتح": وفي رواية أبي ذرّ، عن المستملي:"هاتين القرينتين"؛ أي: الناقتين، وتقدّم أنه صلى الله عليه وسلم أمر لهم بخمسِ ذَوْد، وقال هنا:"لستة أبعرة"، فإما تعددت القصة، أو زادهم على الخمس واحدًا، وأما قوله:"هاتين القرينتين، وهاتين القرينتين"، فيَحْتَمِل أن يكون اختصارًا من الراوي، أو كانت الأولى اثنتين، والثانية أربعة؛ لأن القرين يصدق على الواحد، وعلى الأكثر، وأما الرواية التي فيها:"هذين القرينين"، فذَكَّر، ثم أنَّث، فالأُولى على إرادة البعير، والثانية على إرادة الاختصاص، لا على الوصفية. انتهى
(1)
.
(ابْتَاعَهُنَّ حِينَئِذٍ مِنْ سَعْدٍ) تقدّم أن سعدًا هذا لم يُعْرَف (فَانْطَلِقْ بهنَّ إِلَى أَصْحَابِكَ، فَقُلْ: إِنَّ اللهَ- أَوْ) للشكّ من الراوي (قَالَ: إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَحْمِلُكُمْ عَلَى هَؤُلَاءِ، فَارْكَبُوهُنَّ") في الحديث استحباب حنث الحالف في يمينه، إذا رأى غيرها خيرًا منها، كما سبق البحث فيه مستوفًى، وانعقاد اليمين في الغضب.
(قَالَ أَبُو مُوسَى) رضي الله عنه (فَانْطَلَقْتُ إِلَى أَصْحَابِي بِهِنَّ)؛ أي: بتلك القرينات (فَقُلْتُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَحْمِلُكُمْ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَلَكِنْ وَاللهِ لَا أَدَعُكُمْ)؛ أي: أترككم (حَتَّى يَنْطَلِقَ مَعي بَعْضُكُمْ إِلَى مَنْ سَمِعَ مَقَالَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ سَأَلتُهُ لَكُمْ، وَمَنْعَهُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ، ثُمَّ إِعْطَاءَهُ إِيَّاي بَعْدَ ذَلِكَ، لَا تَظُنُّوا)؛ أي: إنما طلبت
(1)
"الفتح" 9/ 557 - 558.
منكم هذا؛ لئلا تظنّوا (أَنِّي حَدَّثْتُكُمْ شَيْئًا لَمْ يَقُلْهُ) صلى الله عليه وسلم (فَقَالُوا لِي: وَاللهِ) وفي بعض النسخ: "فقالوا: لا، والله"(إِنَّكَ عِنْدَنَا لَمُصَدَّقٌ، وَلَنَفْعَلَنَّ مَا أَحْبَبْتَ)؛ أي: لكن مع كونك مصدّقًا عندنا لنذهبنّ معك، حتى نسمع ما طلبت سماعه (فَانْطَلَقَ أَبُو مُوسَى بِنَفَرٍ مِنْهُمْ، حَتَّى أَتَوُا الَّذِينَ سَمِعُوا قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَنْعَهُ إِيَّاهُمْ، ثُمَّ إِعْطَاءَهُمْ بَعْدُ، فَحَدَّثُوهُمْ بِمَا حَدَّثَهُمْ بِهِ أَبُو مُوسَى سَوَاءً)؛ أي: من غير زيادة، ولا نقص.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة، وله الفضل والنعمة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4257]
(
…
) - (حَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ -يَعْنِي: ابْنَ زَيْدٍ- عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ زَهْدَم الْجَرْمِيِّ- قَالَ أَيُّوبُ: وَأنَا لِحَدِيثِ الْقَاسِمِ أَحْفَظُ مِنِّي لِحَدِيثِ أَبِي قِلَابَةَ -قَالَّ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى، فَدَعَا بِمَائِدَتِهِ، وَعَلَيْهَا لَحْمُ دَجَاجٍ، فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللهِ، أَحْمَرُ، شَبِيهٌ بالْمَوَالِي، فَقَالَ لَهُ: هَلُمَّ، فَتَلَكَّأَ، فَقَالَ: هَلُمَّ، فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ مِنْهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ شَيْئًا، فَقَذِرْتُهُ، فَحَلَفْتُ أَنْ لَا أَطْعَمَهُ، فَقَالَ: هَلُمَّ، أُحَدِّثْكَ عَنْ ذَلِكَ، إِنَّي أتيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فِي رَهْطٍ مِنَ الأَشْعَريِّينَ نَسْتَحْمِلُهُ، فَقَالَ: "وَاللهِ لَا أَحْمِلُكُمْ، وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ"، فَلَبِثْنَا مَا شَاءَ اللهُ، فَأُتيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِنَهْبِ إِبِلٍ، فَدَعَا بِنَا، فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْدٍ، غُرِّ الذُّرَى، قَالَ: فَلَمَّا انْطَلَقْنَا قَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ: أَغْفَلْنَا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَمِينَهُ، لَا يُبَارَكُ لَنَا، فَرَجَعْنَا إِلَيْهِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا أتيْنَاكَ نَسْتَحْمِلُكَ، وَإِنَّكَ حَلَفْتَ أَنْ لَا تَحْمِلَنَا، ثُمَّ حَمَلْتَنَا، أفَنَسِيتَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: "إِنِّي وَاللهِ -إِنْ شَاءَ اللهُ- لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أتيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَتَحَلَّلْتُهَا، فَانْطَلِقُوا، فَإنَّمَا حَمَلَكُمُ اللهُ عز وجل").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ) سليمان بن داود الزهرانيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(حَمَّادُ بْنُ زيدٍ) تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(أَيُّوبُ) السَّخْتيانيّ، تقدّم قبل باب.
4 -
(أَبُو قِلَابَةَ) عبد الله بن زيد بن عمرو، تقدّم قريبًا.
5 -
(الْقَاسِمُ بْنُ عَاصِمٍ) التميميّ، ويقال: الْكُلَيْنيّ -بنون بعد التحتانيّة- ويقال: الليثيّ البصريّ، ثقةٌ
(1)
[4].
رَوَى عن رافع بن خَدِيج، وزَهْدَم بن مُضَرِّب الْجَرْميّ، وسعيد بن المسيِّب، وعطاء الخراسانيّ.
وروى عنه أيوب السختيانيّ، وحميد الطويل، وخالد الحذاء، ذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود في "المراسيل"، والترمذيّ في "الشمائل"، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
6 -
(زَهْدَمٌ الْجَرْمِيُ) هو: زَهْدَم -بوزن جعفر- ابن مُضَرِّب الأزديّ الْجَرْميّ، أبو مسلم البصريّ، ثقةٌ [3].
رَوَى عن أبي موسى، وعمران بن حصين، وابن عباس رضي الله عنهم.
وروى عنه أبو قلابة، وأبو جمرة الضُّبَعيّ، والقاسم بن عاصم التميميّ، وأبو السَّلِيل ضُرَيب بن نُقَير، وقتادة، ومَطَر الورّاق، وغيرهم.
قال العجليّ: تابعيّ ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا
الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1649) وأعاده بعده، وحديث (2535): "إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم
…
" الحديث، وكذا له عند الباقين هذان الحديثان فقط.
و"أبو موسى الأشعريّ رضي الله عنه" ذُكر قبله.
(1)
قال في "التقريب": مقبول، وعندي أنه ثقةٌ؛ لأنه روى عن جماعة، وروى عنه جماعة، وأخرج له الشيخان، ووثقه ابن حبّان، فليُتنبّه.
شرح الحديث:
(عَنْ أيُّوبَ) بن أبي تميمة السّختيانيّ، وفي رواية أحمد: عن عبد الله بن الوليد، عن سفيان: حدّثنا أيوب، حدّثني أبو قلابة (عَنْ أَبِي قِلَابَةَ) عبد الله بن زيد (وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَاصِمٍ) هكذا جمع حماد بن زيد بين أبي قلابة، والقاسم بن عاصم، وكذا هو عند البخاريّ في "فرض الخمس"، وكذا قال وهيب: عن أيوب عنهما، كما يأتي عند مسلم، ورواه سفيان الثوريّ، عند البخاريّ، وابن عيينة عند مسلم، كلاهما عن أيوب، عن أبي قلابة، وهكذا قال عبد السلام بن حرب عند البخاريّ: عن أيوب، وقال عبد الوارث عنده: عن أيوب، عن القاسم بدل أبي قلابة، وكذا قال ابن علية، عن أيوب
(1)
.
(عَنْ زَهْدَم) بفتح الزاي، بوزن جعفر، هو ابن مُضَرِّب -بفتح الضاد المعجمة، وكسر الراء المشدّدة، بعدها موحّدةٍ (الْجَرْمِيِّ) بفتح الجيم، وإسكان الراء: نسبة إلى جَرْم، وهي قبيلة، وهو: جَرْم بن زَيّان بن عمران بن الحاف بن قُضاعة، قاله في "اللباب"
(2)
.
[تنبيه]: قال في "الفتح": زهدم هذا ليس له في البخاريّ سوى حديثين: هذا الحديث، وقد أخرجه في مواضع له، وحديث آخر أخرجه عن عمران بن حصين في "المناقب"، وذكره في مواضع أخرى أيضًا. انتهى.
وقال في القاسم بن عاصم التميميّ: ليس له في البخاريّ سوى هذا الحديث، فقد أورده عنه في مواضع مقرونًا ومفردًا مختصرًا ومطولًا، مشتملًا على قصّة الرجل الذي امتنع من أكل الدجاج، وحلف على ذلك، وفتوى أبي موسى له بأن يُكَفِّر عن يمينه، وياكل، وقَصّ له الحديث في ذلك، وسببه، وهو طلبهم من النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يحملهم. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: أما زهدم، فقد أسلفت آنفًا أنه ليس له عند المصنّف، ولا عند البخاريّ، والترمذيّ، والنسائيّ إلا هذان الحديثان.
(1)
راجع: "الفتح" 12/ 494، كتاب "الذبائح والصيد" رقم (5517 و 5518).
(2)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 273.
(3)
"الفتح" 12/ 495.
وأما القاسم، فقد أسلفت أنه ليس له عند المصنّف إلا هذا الحديث، فتنبّه.
(قَالَ؛ أَيُّوبُ) السَّخْتيانيّ (وَأنا لِحَدِيثِ الْقَاسِمِ أَحْفَظُ مِنِّي لِحَدِيثِ أَبِي قِلَابَةَ)؛ يعني: أن حفظه حديث القاسم أتمّ من حفظه لحديث أبي قلابة (قَالَ) زَهْدم (كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى) الأشعريّ رضي الله عنه (فَدَعَا بِمَائِدَتِهِ، وَعَلَيْهَا لَحْمُ دَجَاجٍ) هو اسم جنس، مُثَلَّث الدال، ذكره المنذريّ في "الحاشية"، وابن مالك وغيرهما، ولم يحك النوويّ الضم، والواحدة دجاجة مثلثةً أيضًا، وقيل: إن الضم فيه ضعيف، قال الجوهريّ: دخلتها الهاء للوحدة، مثل الحمامة، وأفاد إبراهيم الحربيّ في "غريب الحديث" أن الدِّجَاج بالكسر: اسم للذكران دون الإناث، والواحد منها دِيكٌ، وبالفتح الإناث، دون الذكران، والواحدة دَجَاجة بالفتح أيضًا، قال: وسُمّي به لإسراعه في الإقبال والإدبار، من دَجّ يَدِجُّ: إذا أسرع.
ودجاجة اسم امرأة، وهي بالفتح فقط، ويسمى بها الْكُبّة من الْغَزْل، قاله في "الفتح"
(1)
.
(فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللهِ) هو اسم قبيلة يقال لهم أيضًا: تيم اللات، وهم من قُضاعة (أحْمَرُ، شَبِيهٌ بِالْمَوَالِي)؛ أي: بالعجم، قال الداوديّ: يعني: أنه من سبي الروم، قال الحافظ: كذا قال، فإن كان اطّلَع على نقل في ذلك، وإلا فلا اختصاص لذلك بالروم دون الْفُرْس، أو النَّبَط، أو الديلم. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: قال في "الفتح": هذا الرجل هو زَهْدَم الراوي، أبهم نفسه، فقد أخرج الترمذيّ من طريق قتادة، عن زهدم، قال:"دخلت على أبي موسى، وهو يأكل دجاجًا، فقال: ادْنُ، فَكُلْ، فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكله" مختصرًا، وقد أشكل هذا؛ لكونه وُصِف الرجل في رواية الباب بأنه من بني تيم الله، وزهدم من بني جَرْم، فقال بعض الناس: الظاهر أنهما امتنعا معًا: زهدم، والرجل التيميّ، وحَمَلَهُ على دعوى التعدد استبعاد أن يكون الشخص
(1)
"الفتح" 12/ 493 - 494، رقم (5517 و 5518).
(2)
"الفتح" 15/ 406 رقم (6721 و 6722).
الواحد ينسب إلى تيم الله، وإلى جرم، ولا بُعْد في ذلك، بل قد أخرج أحمد الحديث المذكور عن عبد الله بن الوليد، هو العدنيّ، عن سفيان، هو الثوريّ، فقال في روايته:"عن رجل من بني تيم الله، يقال له: زهدم، قال: كنا عند أبي موسى، فأُتِيّ بلحم دجاج"، فعلى هذا فلعل زهدمًا كان تارة يُنسب إلى بني جَرْم، وتارةً إلى بني تيم الله، وجرم قبيلة في قضاعة، يُنسبون إلى جَرْم بن زَبّان - بزاي، ومُوَحَّدة ثقيلة- ابن عمران بن الحاف بن قُضاعة، وتيم الله بطن من بني كلب، وهم قبيلة في قُضاعة أيضًا، ينسبون إلى تيم الله بن رُفَيدة- براء، وفاء، مصغرًا- ابن ثور بن كلب بن وَبَرَة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قُضاعة، فحلوان عمّ جَرْم.
قال الرشاطيّ في "الأنساب": وكثيرًا ما يَنسُبُون الرجل إلى أعمامه.
قال الحافظ: وربما أبهم الرجل نفسه، كما تقدم في عدة مواضع، فلا بُعْد في أن يكون زهدم صاحبَ القصّة، والأصل عدم التعدد.
وقد أخرج البيهقيّ من طريق الفِرْيابيّ، عن الثوريّ بسنده المذكور في هذا الباب إلى زَهْدَم: قال: "رأيت أبا موسى يأكل الدجاج، فدعاني، فقلت: إني رأيته يأكل نتنًا، قال: ادْنُهْ، فَكُلْ"، فذكر الحديث المرفوع.
ومن طريق الصَّعْق بن حَزْن، عن مطر الورّاق، عن زَهْدَم، قال:"دخلت على أبي موسى، وهو يأكل لحم دجاج، فقال: ادن، فكُلْ، فقلت: إني حلفت لا آكله" الحديث، وقد أخرجه مسلم عن شيبان بن فَرُّوخ عن الصعق، لكن لم يسق لفظه، وكذا أخرجه أبو عوانة في "صحيحه" من وجه آخر، عن زهدم نحوه، وقال فيه:"فقال لي: ادن، فكل، فقلت: إني لا أريده" الحديث.
فهذه عِدَّة طُرُق صَرَّح زهدم فيها بأنه صاحب القصّة، فهو المعتمد.
ولا يَعْكُر عليه إلا ما وقع في "الصحيحين" مما ظاهره المغايرة بين زهدم، والممتنع من أكل الدجاج، ففي رواية:"عن زهدم: كنا عند أبي موسى، فدخل رجل من بني تيم الله أحمر، شبيه بالموالي، فقال: هَلُمّ فتلكأ" الحديث، فإن ظاهره أن الداخل دخل، وزهدم جالس عند أبي موسى، لكن يجوز أن يكون مراد زهدم بقوله:"كنا" قومه الذين دخلوا قبله على أبي موسى، وهذا مجاز قد استَعْمَل غيره مثله، كقول ثابت البنانيّ: خطبنا عمران بن
حصين؛ أي: خطب أهل البصرة، ولم يدرك ثابت خطبة عمران المذكورة، فَيَحْتَمِل أن يكون زهدم دخل، فجرى له ما ذُكر، وغاية ما فيه أنه أبهم نفسه، ولا عجب فيه، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو بحث لا بأس فيه، وإن كان فيه نوع تكلّف، والله تعالى أعلم.
(فَقَالَ) أبو موسى رضي الله عنه (لَهُ)؛ أي: لهذا الرجل الداخل عليه (هَلُمَّ)؛ أي: احضر، قال الفيّوميّ رحمه الله: هَلُمَّ كلمة بمعنى الدعاء إلى الشيء، كما يقال: تَعَال، قال الخليل: أصله: لُمَّ، من الضم والجمع، ومنه: لَمَّ الله شَعْثَهُ، وكأن المنادِي أراد: لُمَّ نفسَك إلينا، و"هَا" للتّنبيه، وحُذِفت الألف تخفيفًا؛ لكثرة الاستعمال، وجُعلا اسمًا واحدًا، وقيل: أصلها: هَلْ أُمَّ؛ أي: قُصِد، فنُقِلت حركة الهمزة إلى اللام، وسقطت، ثم جُعلا كلمة واحدة للدعاء، وأهل الحجاز ينادون بها بلفظ واحد للمذكر، والمؤنث، والمفرد، والجمع، وعليه قوله تعالى:{وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب: 18]، وفي لغة نجد تَلحقها الضمائرُ، وتُطَابَقُ، فيقال: هَلُمِّي، وهَلُمَّا، وهَلُمُّوا، وهَلْمُمْنَ؛ لأنهم يجعلونها فعلًا، فيلحقونها الضمائر، كما يلحقونها قُمْ، وقوما، وقوموا، وقمن، وقال أبو زيد: استعمالها بلفظ واحد للجميع من لغة عُقيل، وعليه قيسٌ بعدُ، وإلحاق الضمائر من لغة بني تميم، وعليه أكثر العرب، وتستعمل لازمة، نحو:{هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب: 18]؛ أي: أقبل، ومتعدية، نحو {هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} [الأنعام: 150]؛ أي: أحضروهم. انتهى
(1)
.
(فَتَلَكَّأَ)؛ أي: أبطأ، وتأخّر عن الحضور، قال في "القاموس": وتلكّأَ عليه: اعتَلَّ، وعنه: أبطأ. انتهى
(2)
. (فَقَالَ) أبو موسى رضي الله عنه (هَلُمَّ، فَإنِّي) الفاء للتعليل؛ أي: إنما أمرتك بذلك لأني (قَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ مِنْهُ)؛ أي: من لحم الدجاج، وفيه إباحة لحم الدجاج، وملاذّ الأطعمة، قاله النوويّ رحمه الله، وقال في "الفتح": ويستفاد من الحديث جواز أكل الطيبات على الموائد، واستخدام الكبير من يباشر له نقل طعامه، ووضعه بين يديه، قال القرطبيّ: ولا يناقض ذلك الزهد، ولا ينقصه؛ خلافًا لبعض المتقشِّفة.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 639 - 640.
(2)
"القاموس المحيط" ص 1185.
وتعقّبه الحافظ، فقال: والجواز ظاهر، وأما كونه لا ينقص الزهد، ففيه وقفةٌ. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أنه لا وقفة في ذلك؛ فإن أفضل الزاهدين، وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يفعله، فإنه قد أكل الطيّبات، من لحم الدجاج وغيره، وكان يُخدَم، ويُنقَل الطعام إليه، فهل نقص زهده بذلك؟، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ شَيْئًا، فَقَذِرْتُهُ) بكسر الذال المعجمة؛ أي: كرِهته، والْقَذَرُ بفتحتين: الوَسَخ، وهو مصدر قَذِر الشيءُ، فهو قَذِر، من باب تَعِبَ: إذا لم يكن نظيفًا، وقَذِرته، من باب تَعِبَ أيَضًا، واستقذرته، وتقذّرته: كَرِهته لوسَخه، وأقذرته بالألف: وجدتُهُ كذلك، قاله الفيّوميّ
(2)
.
وقال في "الفتح": قوله: "إني رأيته يأكل شيئًا، فقذِرته" بكسر الذال المعجمة، وفي رواية أبي عوانة:"إنى رأيتها تأكل قَذِرًا"، وكأنه ظن أنها أكثرت من ذلك، بحيث صارت جلّالةً، فَبَيَّن له أبو موسى أنها ليست كذلك، أو أنه لا يلزم من كون تلك الدجاجة التي رآها كذلك، أن يكون كل الدجاج كذلك. انتهى
(3)
.
(فَحَلَفْتُ أَنْ لَا أَطْعَمَهُ، فَقَالَ) أبو موسى (هَلُمَّ، أُحَدِّثْكَ عَنْ ذَلِكَ) بجزم "أُحَدّث" على أنه جواب الأمر (إِنِّي أتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَهْطٍ مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ نَسْتَحْمِلُهُ)؛ أي: نطلب منه الْحُملان (فَقَالَ: "وَاللهِ لَا أحْمِلُكُمْ، وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ"، فَلَبِثْنَا مَا شَاءَ اللهُ، فَأُتِيَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِنَهْبِ إِبِلٍ) قال أهل اللغة: النَّهْبُ: الغنيمة، وهو بفتح النون، وجمعه نِهابٌ، بكسرها، ونُهُوب بضمّها، وهو مصدر، بمعنى المنهوب، كالخلق بمعنى المخلوق، قاله النوويّ رحمه الله
(4)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: نَهَبْتُهُ نَهْبًا، من باب نَفَعَ، وانْتَهَبْتُهُ انْتِهَابًا، فهو
(1)
"الفتح" 15/ 406.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 494.
(3)
"الفتح" 12/ 497، كتاب "الذبائح والصيد" رقم (5517).
(4)
"شرح النوويّ" 11/ 112.
مَنْهُوبٌ، والنُّهْبَةُ مثالُ غرفة، والنُّهْبَى بزيادة ألف التأنيث: اسم للمنهوب، ويتعدى بالهمزة إلى ثان، فيقال: أَنْهَبْتُ زيدًا المالَ، ويقال أيضًا: أَنْهَبْتُ المال إِنْهَابًا: إذا جعلته نَهْبًا يُغَار عليه، وهذا زمان النَّهْبِ؛ أي: الانتهاب، وهو الغلبة على المال والقهر. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: إضافة نَهَب إلى إبل من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: فأُتي بإبل منهوبة، والله تعالى أعلم.
وقال في "الفتح": قوله: "فأُتي رسولُ الله-صلى الله عليه وسلم بنهب إبل" بفتح النون، وسكون الهاء، بعدها مُوَحَّدة؛ أي: غنيمة، وأصله ما يؤخذ اختطافًا بحسب السبق إليه على غير تسوية بين الآخذين، وفي رواية غيلان بن جرير، عن أبي بردة، عن موسى بلفظ:"فأُتي بإبل"، وفي روايةٍ:"شائل"، وتقدم الكلام عليها، وفي رواية بُريد، عن أبي بردة: أنه صلى الله عليه وسلم ابتاع الإبل التي حَمَل عليها الأشعريين من سعد، وفي الجمع بينها وبين هذا الحديث عُسْرٌ، لكن يَحْتَمِل أن تكون الغنيمة لَمّا حَصَلت حَصَل لسعد منها القدر المذكور، فابتاع النبيّ صلى الله عليه وسلم منه نصيبه، فحملهم عليه. انتهى
(1)
.
(فَدَعَا بِنَا)؛ أي: بأبي موسى، وأصحابه الأشعريين (فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْدٍ) كذا وقع بإضافة "خمس" إلى "ذَوْد"، واستنكره أبو البقاء في "غريبه"، قال: والصواب تنوين "خمس"، وأن يكون "ذود" بدلًا من "خمس"، فإنه لو كان بغير تنوين لتغيّر المعنى؛ لأن العدد المضاف غير المضاف إليه، فيلزم أن يكون خمس ذود خمسة عشر بعيرًا؛ لأن الإبل الذود ثلاثة. انتهى.
وتعقّبه الحافظ، فقال: وما أدري كيف يحكم بفساد المعنى إذا كان العدد كذا؟، وكون عدد الإبل خمسة عشر بعيرًا، فما الذي يضرّ؟ وقد ثبت في بعض طرقه:"خُذْ هذين القرينين، والقرينين" إلى أن عَدّ ست مرات، والذي قاله إنما يتم أن لو جاءت رواية صريحة أنه لم يعطهم سوى خمسة أبعرة، وعلى تقدير ذلك فأطلق لفظ ذود على الواحد مجازًا، كإبل، وهذه الرواية الصحيحة لا
(1)
"الفتح" 408، كتاب "الأيمان والنذور" رقم (6721).
تمنع إمكان التصوير. انتهى
(1)
.
وقوله: (غُرِّ الذُّرَى) الْغُرّ: بضم المعجمة: جمع أَغَرّ، والأغرّ: الأبيض، والذُّرَى: بضم المعجمة، والقصر: جمع ذُروة، وذروة كل شيء أعلاه، والمراد هنا أسنمة الإبل، ولعلها كانت بيضاء حقيقةً، أو أراد وصفها بأنها لا علة فيها، ولا دَبَرَ، ويجوز في "غُرّ" النصب والجر.
(قَالَ) أبو موسى (فَلَمَّا انْطَلَقْنَا قَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ: أَغْفَلْنَا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَمِينَهُ) قال النوويّ رحمه الله: "أغفلنا" بإسكان اللام؛ أي: جعلناه غافلًا، ومعناه: كنّا سبب غفلته عن يمينه، ونسيانه إياها، وما ذَكَّرناه إياها؛ أي: أخذنا ما أخذنا، وهو ذاهلٌ عن يمينه. انتهى
(2)
. (لَا يُبَارَكُ لَنَا) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: لا يبارك الله تعالى لنا فيما أعطانا بسبب إغفالنا له (فَرَجَعْنَا إِلَيْهِ) صلى الله عليه وسلم (فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا أتيْنَاكَ نَسْتَحْمِلُكَ، وَإِنَّكَ حَلَفْتَ أَنْ لَا تَحْمِلَنَا، ثُمَّ حَمَلْتَنَا، أفَنَسِيتَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: "إِنِّي وَاللهِ -إِنْ شَاءَ اللهُ- لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ)؛ أي: على شيء محلوف عليه (فَأَرَى غَيْرَهَا)؛ أي: غير تلك اليمين، وأنّت الضمير؛ لأن اليمين مؤنّثة، كما تقدّم تحقيقه أول "كتاب الأيمان"(خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أتيْتُ)؛ أي: فعلت الأمر (الَّذِي هُوَ خَيْرٌ) وقوله: (وَتَحَلَّلْتُهَا) قال في "الفتح": كذا في رواية حماد، وعبد الوارث، وعبد الوهاب، كلهم عن أيوب، ولم يذكر في رواية عبد السلام:"وتحللتها"، وكذا لم يذكرها أبو السَّلِيل، عن زهدم، عند مسلم، ووقع في رواية غَيْلان، عن أبي بردة:"إلا كَفَّرت عن يميني"، بدل "وتحللتها"، وهو يُرَجِّح أحد احتمالين أبداهما ابن دقيق العيد، ثانيهما: إتيان ما يقتضي الحنث، فإن التحلل يقتضي سبق العقد، والعقد هو ما دلت عليه اليمين، من موافقة مقتضاها، فيكون التحلل الإتيانَ بخلاف مقتضاها، لكن يلزم على هذا أن يكون فيه تكرارٌ؛ لوجود قوله:"أتيت الذي هو خير"، فإن إتيان الذي هو خير تحصل به مخالفة اليمين، والتحلل منها، لكن يمكن أن تكون فائدته التصريح بالتحلل، وذَكَرَه بلفظ يناسب الجواز صريحًا؛ ليكون أبلغ مما لو ذَكَره بالاستلزام.
(1)
"الفتح" 12/ 497 رقم (5517 و 5518).
(2)
"شرح النوويّ" 11/ 112.
وقد يقال: إن الثاني أقوى؛ لأن التأسيس أولى من التأكيد، وقيل: معنى "تحللتها": خرجت من حُرمتها إلى ما يَحِلّ منها، وذلك يكون بالكفّارة، وقد يكون بالاستثناء بشرطه السابق، لكن لا يتجه في هذه القصّة، إلا إن كان وقع منه استثناء لم يشعروا به، كأن يكون قال: إن شاء الله مثلًا، أو قال: والله لا أحملكم إلا إن حصل شيء، ولذلك قال:"وما عندي ما أحملكم"
(1)
.
(فَانْطَلِقُوا)؛ أي: اذهبوا إلى رحالكم (فَإِنَّمَا حَمَلَكُمُ اللهُ عز وجل") قال العلماء: المراد بذلك إزالة المنة عنهم، وإضافة النعمة لمالكها الأصليّ، ولم يُرِد أنه لا صُنْعَ له أصلًا في حملهم؛ لأنه لو أراد ذلك ما قال بعد ذلك:"لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرًا منها، إلا أتيت الذي هو خير، وكفّرت عن يميني".
وقال المازريّ: معنى قوله: "إن الله حملكم": إن الله أعطاني ما حملتكم عليه، ولولا ذلك لم يكن عندي ما حملتكم عليه، وقيل: يَحْتَمِل أنه كان نسي يمينه، والناسي لا يضاف إليه الفعل، ويرُدّه التصريح في هذه الرواية بقوله:"والله ما نسيتها"، وقيل: المراد بالنفي عنه، والإثبات لله الإشارة إلى ما تفضل الله به من الغنيمة المذكورة؛ لأنها لم تكن بتسبب من النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا كان متطلِّعًا إليها، ولا منتظرًا لها، فكأن المعنى: ما أنا حملتكم؛ لعدم ذلك أوّلًا، ولكن الله حملكم بما ساقه إلينا من هذه الغنيمة، ذكره في "الفتح"
(2)
.
[تنبيه]: وفي هذا الحديث من الفوائد: جواز دخول المرء على صديقه في حال أكله، واستدناء صاحب الطعام الداخل، وعرضه الطعام عليه، ولو كان قليلًا؛ لأن اجتماع الجماعة على الطعام سبب للبركة فيه؛ وفيه جواز أكل الدجاج إنسيةً، ووحشيةً، وهو بالاتفاق، إلا عن بعض المتعمقين على سبيل الورع، إلا أن بعضهم استثنى الجلَّالة، وهي ما تأكل الأقذار، وظاهر صنيع أبي موسى رضي الله عنه أنه لم يبال بذلك.
والجلَّالة: عبارة عن الدابة التي تأكل الْجِلَّة - بكسر الجيم، وتشديد اللام
(1)
"الفتح" 15/ 410 - 411 رقم (6721).
(2)
"الفتح" 15/ 411، كتاب "الأيمان والنذور" رقم (6721 و 6722).
- وهي البعر، وادَّعَى ابن حزم اختصاص الجلّالة بذوات الأربع، والمعروف التعميم.
وقد أخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يحبس الدجاجة الجلّالة ثلاثًا، وقال مالك، والليث: لا بأس بأكل الجلّالة من الدجاج وغيره، وإنما جاء النهي عنها للتقذُّر، وقد ورد النهي عن أكل الجلّالة من طرُق، أصحها ما أخرجه الترمذيّ، وصححه، وأبو داود، والنسائيّ، من طريق قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الْمُجَثَّمة، وعن لبن الجلّالة، وعن الشرب من في السِّقَاء".
قال الحافظ: وهو على شرط البخاريّ في رجاله، إلا أن أيوب رواه عن عكرمة، فقال: عن أبي هريرة، وأخرجه البيهقيّ، والبزار، من وجه آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلّالة، وعن شرب ألبانها، وأ كلها، وركوبها".
ولابن أبي شيبة بسند حسن، عن جابر رضي الله عنه:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلَّالة أن يؤكل لحمها، أو يُشْرَب لبنها"، ولأبي داود، والنسائيّ من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وعن الجلَّالة، عن ركوبها، وأكل لحمها"، وسنده حسن.
وقد أطلق الشافعية كراهة أكل الجلالة إذا تغيّر لحمها بأكل النجاسة، وفي وجه: إذا أكثرت من ذلك، ورجّح أكثرهم أنها كراهة تنزيه، وهو قضية صنيع أبي موسى، ومن حجتهم أن العلف الطاهر إذا صار في كرشها تنجس، فلا تتغذى إلا بالنجاسة، ومع ذلك، فلا يُحكم على اللحم واللبن بالنجاسة، فكذلك هذا.
وتُعُقّب بأن العلف الطاهر إذا تنجس بالمجاورة جاز إطعامه للدابة؛ لأنها إذا أكلته لا تتغذى بالنجاسة، وإنما تتغذى بالعلف، بخلاف الجلَّالة.
وذهب جماعة من الشافعية، وهو قول الحنابلة إلى أن النهي للتحريم، وبه جزم ابن دقيق العيد عن الفقهاء، وهو الذي صححه أبو إسحاق المروزيّ، والقفال، وإمام الحرمين، والبغويّ، والغزاليّ، وألحقوا بلبنها ولحمها بيضها.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذهب إليه هؤلاء الجماعة، من أن
النهي للتحريم هو الظاهر؛ لظواهر النصوص المتقدّمة، فتأمّل، والله تعالى أعلم.
وفي معنى الجلّالة ما يتغذى بالنجس، كالشاة ترضع من كَلْبة، والمعتبر في جواز أكل الجلَّالة زوال رائحة النجاسة، بعد أن تُعْلف بالشيء الطاهر على الصحيح، وجاء عن السلف فيه توقيت، فعند ابن أبي شيبة، عن ابن عمر أنه كان يحبس الدجاجة الجلَّالة ثلاثًا، كما تقدم، وأخرج البيهقيّ بسند فيه نظر، عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: أنها لا تؤكل حتى تُعْلَف أربعين يومًا. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى بيان المسائل المتعلّقة به قبل حديث، ولله الحمد والمنّة، وله الفضل والنعمة.
وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4258]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، وَالْقَاسِمِ التَّمِيمِيِّ، عَنْ زَهْدَمٍ الْجَرْمِيِّ، قَالَ: كَانَ بَيْنَ هَذَا الْحَيِّ مِنْ جَرْمٍ، وَبَيْنَ الأَشْعَرِيِّينَ وُدٌّ وَإِخَاءٌ، فَكُنّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، فَقُرِّبَ إِلَيْهِ طَعَامٌ، فِيهِ لَحْمُ دَجَاجٍ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(عَبْدُ الْوَهَابِ الثَّقَفِيُّ) ابن عبد المجيد، تقدّم قبل أربعة أبواب.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (كَانَ بَيْنَ هَذَا الْحَيِّ) بفتح الحاء المهملة، وتشديد التحتانيّة؛ معناه: القبيلة.
وقوله: (مِنْ جَرْمٍ) بفتح، فسكون: اسم قبيلة، كما تقدّم، والجارّ والمجرور بيان لـ "الحيّ".
(1)
"الفتح" 12/ 497 - 498 رقم (5517 و 5518).
وقوله: (وُدٌّ) بفتح الواو، وضمّها، وتشديد الدال المهملة: مصدر وَدّه: إذا أحبّه، يقال: وَدِدته أَوَدّه، من باب تَعِبَ وُدًّا بفتح الواو، وضمّها: أحببته، والاسم الْمَوَدّة، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
وقوله: (وَإِخَاءٌ) بكسر الهمزة: مصدر آخاه إخاءً ومؤاخاةً: إذا اتّخذه صاحبًا.
[تنبيه]: رواية عبد الوهّاب الثقفيّ، عن أيوب السختيانيّ هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(6273)
- حدّثنا قُتَيْبَةُ، حدّثنا عبد الْوَهَّابِ، عن أَيُّوبَ، عن أبي قِلَابَةَ، وَالْقَاسِمِ التَّمِيمِيُّ، عن زَهْدَمٍ، قال: كان بين هذا الْحَيِّ من جَرْمٍ، وَبَيْنَ الْأَشْعَرِيِّينَ وُدٌّ وَإِخَاءٌ، فَكُنَّا عِنْدَ أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، فَقُرِّبَ إليه طَعَامٌ، فيه لَحْمُ دَجَاجٍ، وَعِنْدَهُ رَجُلٌ من بَنِي تَيْمِ اللهِ أَحْمَرُ، كَأَنَّهُ من الْمَوَالِي، فَدَعَاهُ إلى الطَّعَام، فقال: إني رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ شيئًا فَقَذِرْتُهُ، فَحَلَفْتُ أَنْ لَا آكله، فقال: قُمْ، فَلَأُحَدِّثَنَّكَ عن ذَاكَ، إني أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم في نَفَرٍ من الْأَشْعَريِّينَ، نَسْتَحْمِلُهُ، فقال:"والله لَا أَحْمِلُكُمْ، وما عِنْدِي ما أَحْمِلُكُمْ عليه"، فَأُتِيَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم بِنَهْبِ إبلٍ، فَسَألَ عَنَّا، فقال:"أَيْنَ النَّفَرُ الْأَشْعَرِيُّونَ؟ " فَأَمَرَ لنا بِخَمْسِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى، فلما انْطَلَقْنَا، قُلْنَا: ما صَنَعْنَا، حَلَفَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَحْمِلُنَا، وما عِنْدَهُ ما يَحْمِلُنَا، ثُمَّ حَمَلَنَا، تَغَفَّلْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمِينَهُ، والله لَا نُفْلِحُ أَبَدًا، فَرَجَعْنَا إليه، فَقُلْنَا له: إِنَّا أَتَيْنَاكَ لِتَحْمِلَنَا، فَحَلَفْتَ أَنْ لَا تَحْمِلَنَا، وما عِنْدَكَ ما تَحْمِلُنَا، فقال:"إني لَسْتُ أنا حَمَلْتُكُمْ، وَلَكِنَّ اللهَ حَمَلَكُمْ، والله لَا أَحْلِفُ على يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا منها، إلا أَتَيْتُ الذي هو خَيْرٌ، وَتَحَلَّلْتُهَا". انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4259]
(
…
) - (وَحَدَّثَني عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ الْقَاسِمِ التَّمِيمِيُّ، عَنْ زَهْدَمٍ
(1)
"المصباح المنير" 2/ 653.
(2)
"صحيح البخاريّ" 6/ 2450.
الْجَرْمِيِّ (ح) وَحَدَّثنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ زَهْدَمٍ الْجَرْمِيِّ (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، وَالْقَاسِمِ، عَنْ زَهْدَمٍ الْجَزمِيِّ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى، وَاقْتَضُوا جَمِيعًا لْحَدِيثَ بِمَعْنَى حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زيدٍ).
رجال هذا الإسناد: اثنا عشر:
1 -
(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ) المروزيّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، تقدّم قبل باب.
4 -
(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) تقدّم قبل أربعة أبواب.
5 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم قبل باب.
6 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ) هو: محمد بن إسحاق بن جعفر الصّغَانيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 270)(م 4) تقدم في "الإيمان" 4/ 116.
7 -
(عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمِ) بن عبد الله الباهليّ، أبو عثمان الصفّار البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، قال ابن المدينيّ: كان إذا شكّ في حرف من الحديث تركه، وربّما وَهِمَ، من كبار [5](ت 220)(ع) تقدم في "المقدمة 6/ 44.
8 -
(وُهَيْبُ) بن خالد بن عجلان الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، تغيّر قليلًا بآخره [7](ت 165) أو بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (وَاقْتَضُوا جَمِيعًا الْحَدِيثَ
…
إلخ) الظاهر أن الضمير لإسماعيل ابن عُليّة، وسفيان بن عيينة، ووُهيب بن خالد، وَيحتَمِل أن يكون لشيوخه الخمسة، والأول هو الذي أولى؛ لأنه يؤيّده قوله:"بمعنى حديث حماد بن زيد"، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية إسماعيل ابن عُليّة، عن أيوب السختيانيّ، ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(6342)
- حدّثنا عَلِيُّ بن حُجْرٍ، حدثنا إِسْمَاعِيلُ بن إبراهيم، عن أَيُّوبَ،
عن الْقَاسِمِ الْتَّمِيمِيِّ، عن زَهْدَمٍ الْجَرْمِيِّ، قال: كنا عِنْدَ أبي مُوسَى، وكان بَيْنَنَا وَبَيْنَ هذا الْحَيِّ من جَرْمٍ إِخَاءٌ، وَمَعْرُوفٌ، قال: فَقُدِّمَ طعامه، قال: وَقُدِّمَ في طَعَامِهِ لَحْمُ دَجَاج، قال: وفي الْقَوْمِ رَجُلٌ من بَنِي تَيْمِ اللهِ أَحْمَرُ، كَأَنَّهُ مَوْلًى، قال: فلم يَدْنُ، فقال له أبو مُوسَى: ادْنُ، فَإِنِّي قد رأيت رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ منه، قال: إني رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ شيئًا، قَذِرْتُهُ، فَحَلَفْتُ أَنْ لَا أَطْعَمَهُ أَبَدًا، فقال: ادْنُ أُخْبِرْكَ عن ذلك، أَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم في رَهْطٍ من الْأَشْعَرِيِّينَ أَسْتَحْمِلُهُ، وهو يَقْسِمُ نَعَمًا من نَعَمِ الصَّدَقَةِ، قال أَيُّوبُ: أَحْسِبُهُ قال: وهو غَضْبَانُ، قال: والله لَا أَحْمِلُكُمْ، وما عِنْدِي ما أَحْمِلُكُمْ عليه، قال: فَانْطَلَقْنَا، فأتى رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم بِنَهْبِ إبلٍ، فَقِيلَ: أَيْنَ هَؤُلَاءِ الْأَشْعَرِيُّونَ؟ فَأَتَيْنَا، فَأَمَرَ لنا بِخَمْسِ ذَوْدٍ، غُرِّ الذرى، قال: فَانْدَفَعْنَا، فقلت لِأَصْحَابِي: أَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَسْتَحْمِلُهُ، فَحَلَفَ أَنْ لَا يَحْمِلَنَا، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْنَا، فَحَمَلَنَا، نَسِيَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمِينَهُ، والله لَئِنْ تَغَفَّلْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمِينَهُ لَا نُفْلِحُ أَبَدًا، ارْجِعُوا بِنَا إلى رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلْنُذَكِّرْهُ يَمِينَهُ، فَرَجَعْنَا، فَقُلْنَا: يا رَسُولَ اللهِ أَتَيْنَاكَ نَسْتَحْمِلُكَ، فَحَلَفْتَ أَنْ لَا تَحْمِلَنَا، ثُمَّ حَمَلْتَنَا، فَظَنَنَّا، أو فَعَرَفْنَا أَنَّكَ نَسِيتَ يَمِينَكَ، قال:"انْطَلِقُوا، فإِنَّمَا حَمَلَكُمُ الله، إني والله -إن شَاءَ الله- لَا أَحْلِفُ على يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا منها، إلا أَتَيْتُ الذي هو خَيْرٌ، وَتَحَلَّلْتُهَا". انتهى
(1)
.
وأما رواية سفيان بن عيينة، عن أيوب، فساقها الحميديّ رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(766)
- حدّثنا الحميديّ، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن زهدم، عن أبي موسى الأشعريّ، قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نستحمله، فأُتي بذَوْدٍ غُرّ الذُّرَى، فقلنا: يا رسول الله احملنا، فحلف أن لا يحملنا، ثم أتي بذود أخرى، فقلنا: يا رسول الله احملثا، فحملنا، فلما أدبرنا قلنا: ماذا صنعنا؟ تغفلنا رسول الله يمينه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذَكَرْنا ذلك
(1)
"صحيح البخاريّ" 6/ 2471.
له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرًا منها، إلا أتيت الذي هو خير، وكَفَّرت عن يميني". انتهى
(1)
.
وأما رواية وُهيب بن خالد، عن أيوب، فساقها البيهقيّ في "الكبرى"، فقال:
(19733)
- وأخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، أنبأ أبو بكر أحمد بن سلمان الفقيه، ثنا محمد بن العباس المؤذب، ثنا عفان، ثنا وُهيب، ثنا أيوب، عن أبي قلابة، وعن القاسم التميميّ، عن زهدم الجرميّ، قال: كان بيننا وبين الأشعريين إخاء، قال: فكنا عند أبي موسى، فقَرَّب إلينا طعامًا فيه لحم دجاج، وفي القوم رجل أحمر شبيه بالموالي، من تيم الله، فقال أبو موسى: ادْنُ فكل-يعني- فقال: إني رأيته يأكل نتنًا، فحلفت أن لا أطعمه أبدًا، فقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل منه، ثم حَدّث أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من الأشعريين يستحمله، فأتاه وهو يَقسِم ذَوْدًا من إبل الصدقة، فقلت: يا رسول الله احملنا، وهو غضبان، فقال:"والله لا أحملكم، ولا أجد ما أحملكم عليه"، ثم أتي بنَهْبِ ذَوْدٍ غُرّ الذُّرَى، فأعطانا رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس ذود غُرّ الذرى، فقلت: تغفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نفلح أبدًا، فأتيناه، فقلنا: يا رسول الله كنتَ حلفتَ أن لا تحملنا، فقال:"إني لست أنا حملتكم، ولكن الله حملكم، والله لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرًا منها، إلا أتيت الذي هو خير، وتحللت عن يميني". انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل الى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4260]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا الصَّعْقُ -يَعْنِي: ابْنَ حَزْنٍ- حَدَّثَنَا مَطَرٌ الْوَرَّاقُ، حَدَّثَنَا زَهْدَمٌ الْجَرْمِيُّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي مُوسَى، وَهُوَ يَأْكُلُ لَحْمَ دَجَاجٍ
(3)
، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ، وَزَادَ فِيهِ: قَالَ: "إِنِّي وَاللهِ مَا نَسِيتُهَا").
(1)
"مسند الحميديّ" 2/ 338.
(2)
"سنن البيهقي الكبرى" 10/ 50.
(3)
وفي نسخة: "لحم الدجاج".
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الْحَبَطيّ، أبو محمد الأُبُلّيّ، صدوقٌ يَهِمُ، ورُمي بالقدر، من صغار [9](ت 5 أو 236) وله بضع وتسعون سنةً تقدم في "الإيمان" 12/ 157.
2 -
(الصَّعْقُ
(1)
بْنُ حَزْنِ)
(2)
بن قيس البكريّ، ثم العيشيّ، أبو عبد الله البصريّ، صدوقٌ يَهِمُ، وكان زاهدًا [7].
رَوَى عن الحسن البصريّ، ومطر الورّاق، وقتادة، وأبي جمرة الضُّبَعيّ، وغيرهم.
وروى عنه ابن المبارك، ويونس بن محمد، وأبو أسامة، ويزيد بن هارون، وعارم، وموسى بن إسماعيل، وشيان بن فَرُّوخ، وغيرهم.
قال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ليس به بأس، وقال الدّوريّ، عن ابن معين: ثقةٌ، وكذا قال أبو زرعة، وأبو داود، والنسائيّ، وقال أبو حاتم: ما به بأسٌ، وقال الآجريّ، عن أبي داود: قُرّة فوقه، وقال محمد بن الحسين بن أبي الجنيّ: حدّثنا عارم، عن الصعق، وكانوا يرونه من الأبدال، وقال موسى بن إسماعيل: ثنا الصعق، وكان صدوقًا، وقال يعقوب بن سفيان: صالح الحديث، وقال العجليّ: ثقةٌ، وقال الدارقطنيّ: ليس بالقويّ، وذكره ابن حبان في "الثقات"
(3)
.
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود في "المراسيل"، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث متابعةً.
3 -
(مَطَرٌ الْوَرَّاقُ) ابن طَهْمان السلميّ مولاهم، أبو رجاء الْخُرَاسانيّ، سكن البصرة، صدوقٌ كثير الخطأ، وحديثه عن عطاء ضعيف [6](ت 125) وقيل غير ذلك (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 1/ 103.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ) الفاعل ضمير مطر الورّاق.
(1)
"الصعق" بفتح الصاد المهملة، وكسر العين المهملة، وإسكانها، والكسر أشهر، قاله النوويّ في "شرحه" 11/ 112 - 113.
(2)
بفتح الحاء المهملة، وسكون الزاي.
(3)
"تهذيب التهذيب" 4/ 372.
وقوله: (بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ) كان الظاهر أن يقول: بنحو حديثهما بضمير التثنية؛ لأنه يرجع إلى أبي قلابة، والقاسم بن عاصم التميميّ، إلا أن يكون على قول من يقول: إن أقل الجمع اثنان.
ويَحْتَمل أن يكون فاعل "وساق" ضمير شيبان بن فرّوخ شيخه، وضمير "حديثهم" لشيوخه المذكورين في السند الماضي.
[تنبيه]: إسناد هذا الحديث مما استدركه الدارقطنيّ، فقال: الصعق، ومطرٌ ليسا بالقويين، ومع ذلك فمطرٌ لم يسمعه من زهدم، وإنما رواه عن القاسم بن عاصم عنه، قال ذلك ثابت بن حمّاد، عن مطر. انتهى.
قال النوويّ بعد ذكر كلام الدارقطنيّ المذكور ما نصّه: وهذا الاستدلال فاسد؛ لأن مسلمًا لم يذكره متأصلًا، وإنما ذكره متابعةً للطرق الصحيحة السابقة، وقد سبق أن المتابعات يُحْتَمَل فيها الضعف؛ لأن الاعتماد على ما قبلها، وقد سبق ذكر مسلم لهذه المسألة في أول خطبة كتابه، وشرحناه هناك، وأنه يذكر بعض الأحاديث الضعيفة متابعةً للصحيحة، وأما قوله: إنهما ليسا قويين، فقد خالفه الأكثرون، فقال يحيى بن معين، وأبو زرعة في الصعق: هو ثقةٌ، وقال أبو حاتم: ما به بأس، وقال هؤلاء الثلاثة في مطر الوراق: هو صالح، وإنما ضعفوا روايته عن عطاء خاصةً. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال الحافظ الرشيد العطّار رحمه الله في "غرر الفوائد": أخرج مسلم في "كتاب الأيمان": حديث الصَّعْق بن حَزْن، عن مطر الورّاق، عن زهدم الجرميّ، قال: دخلت على أبي موسى الأشعريّ، وهو يأكل لحم دجاج .. الحديث.
قال: وهذا الحديث أيضًا قد انتقده الحافظ أبو الحسن الدارقطنيّ، وعاب على مسلم إخراجه من هذا الوجه، وقال: الصعق ومطر ليسا بالقويين، ومع هذا لم يسمعه مطر من زهدم، إنما رواه عن القاسم بن عاصم، عنه، قال ذلك ثابت بن حماد، عن مطر.
قال العطّار: وهذا الحديث أيضًا قد أخرجه مسلم في "صحيحه" من
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 113.
طرق صحاح متصلة، عن زهدم، عن أبي موسى، وطريق مطر التي انتقدها الدارقطنيّ إنما أوردها مسلم في الشواهد لا في الأصول.
وإذا كان الحديث متصلًا من وجه صحيح، ثم روي من وجه آخر دونه في الصحة، وفي اتصاله نظر، فلا يؤثر ذلك في ثبوته واتصاله من الوجه الآخر.
على أن مطرًا قد قال فيه: حدّثنا زهدم، وليس هو ممن يُتَّهَم بالكذب، لكنه سيئ الحفظ عندهم، وقد سئل عنه يحيى بن معين، فقال: صالح، وكذلك قال أبو حاتم الرازي.
ويَحْتَمِل أن يكون مطر قد سمعه من القاسم بن عاصم، عن زهدم، كما ذكر الدارقطنيّ، ثم لقي زهدمًا، فسمعه منه، فحدّث به تارةً هكذا، وتارةً هكذا، والله أعلم بالصواب. انتهى كلام الرشيد العطّار رحمه الله
(1)
، وهو تحقيق نفيسٌ.
[تنبيه آخر]: رواية مطر الورّاق، عن زهدم الْجَرْميّ هذه ساقها الطبرانيّ رحمه الله في "المعجم الصغير"، فقال:
(150)
- حدّثنا أحمد بن إسماعيل الوساوسيّ البصريّ، حدّثنا شيبان بن فَرُّوخ، حدّثنا الصَّعْق بن حَزْن العيشيّ، حدّثنا مَطَرٌ الورّاق، حدّثنا زَهْدم الْجَرْميّ، قال: دخلت على أبي موسى الأشعريّ، وهو يأكل لحم دجاج، فقال: هَلُمّ، فكُلْ، فقلت: إني حلفت لا آكل لحم الدجاج، فقال أبو موسى: كُلْ، فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل منه، وسأنبئك عن يمينك، أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأصحابي -وأصحاب لي- نستحمله، فحلف أن لا يحملنا، وما عنده حُمْلان، فوالله ما بَرِحْنا، حتى أتته قلائصُ، غُرّ الذُّرَى، فأمر لنا بحُمْلان، فلما خرجنا ذَكَرْنا يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجعنا إليه، فقال:"ما رَدَّكم؟ "، قلنا: ذَكَرْنا يمينك يا رسول الله، وخشينا أن تكون نسيتها، فقال صلى الله عليه وسلم:"إني والله ما نسيتها، ولكن من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرًا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفّر عن يمينه".
(1)
"غرر الفوائد المجموعة"(ص 33).
وقال: "لم يروه عن مطر إلا الصعق". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4261]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ ضُرَيْبِ بْنِ نُقَيْر الْقَيْسِيِّ، عَنْ زَهْدَمٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيّ، قَالَ: أتيْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَسْتَحْمِلهُ، فَقَالَ: "مَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ، وَاللهِ مَا أَحْمِلُكُمْ"، ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِثَلَاَثَةِ ذَوْدٍ بُقْعِ الذرَى، فَقُلْنَا: إِنَّا أتيْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَسْتَحْمِلُهُ، فَحَلَفَ أَنْ لَا يَحْمِلَنَا، فَأَتيْنَاهُ، فَأَخْبَرْنَاهُ، فَقَالَ: "إِنِّي لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، أَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إِلا أتيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ").
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبّيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ) ابن طرخان، أبو المعتمر البصريّ، نزل في بني تيم، فنُسب إليهم، ثقةٌ عابدٌ [4](ت 143) وهو ابن (97) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
3 -
(ضُرَيْبُ بْنُ نُقَيْرٍ الْقَيْسِيُّ) بتصغير الاسمين
(2)
، أبو السليل الْجُريريّ، ثقةٌ [6](م 4) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 45/ 1885.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (بِثَلاثَةِ ذَوْدٍ) تقدّم الجمع بينه وبين رواية "خمس ذود" بأنّ ذِكْر الأقلّ لا ينافي الأكثر، فلا تغفل.
وقوله: (بُقْعِ الذُّرَى)"البُقْع" -بضمّ الموحّدة، وسكون القاف، آخره عين مهملة-: جمع أبقع، والمراد بها البِيض، وأصلها ما كان فيه بياض وسواد، ومعناه هنا: أَمَر لنا بإبل بِيض الأسنمة، قاله النوويّ رحمه الله
(3)
.
(1)
"المعجم الصغير"(الروض الداني) 1/ 106، وأخرجه أيضًا البيهقيّ في "السنن الكبرى" 10/ 31.
(2)
قال النوويّ رحمه الله: أما "ضُرَيب"، فبضاد معجمة مصغّر، و"نُقَير" بضمّ النون، وفتح القاف، وآخره راء، هذا هو المشهور المعروف عن أكثر الرواة في كتب الأسماء، ورواه بعضهم بالفاء، وقيل: نُفَيل بالفاء، وآخره لام. انتهى. "شرح النوويّ" 11/ 113.
(3)
"شرح النوويّ" 11/ 109.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان المسائل المتعلّقة به في شرح حديث أول الباب، ولله الحمد والمنّة، وله الفضل والنعمة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4262]
(
…
) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى التَّيْمِيّ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيهِ، حَدَّثَنَا أَبُو السَّلِيلِ، عَنْ زَهْدَمٍ، يُحَدِّثُهُ عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: كُنَّا مُشَاةً، فَأَتَيْنَا نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَسْتَحْمِلُه، بِنَحْوِ حَدِيثِ جَرِيرٍ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى التَّيْمِيُّ) أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ [10](ت 245)(م قد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 92/ 503.
وقوله: (التَّيْمِيّ) هكذا معظم النسخ، ووقع في النسخة الهنديّة:"التميمي"، بميمين، ولم أر في "التهذيبين" لا هذا، ولا هذا، وإنما ذكر فيهما:"القيسيّ"، فقط، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
2 -
(الْمُعْتَمِرُ) بن سليمان التيميّ، أبو محمد البصريّ، يُلقّب بالطُّفيل، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187) وقد جاوز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.
والباقون ذُكروا قبله، و"أبو السَّليل" -بفتح السين المهملة، وكسر اللام- هو ضُريب بن نُقير المذكور في السند الماضي.
[تنبيه]: رواية المعتمر بن سليمان، عن أبيه هذه ساقها ابن حبّان في "صحيحه"، فقال:
(4354)
- أخبرنا عمر بن محمد الهمدانيّ، قال: حدّثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا معتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: حدّثنا أبو السَّلِيل، عن زهدم، عن أبي موسى الأشعريّ، قال: كنا مُشَاةً، فأتينا نبي الله صلى الله عليه وسلم نستحمله، فقال:"والله لا أحملكم اليوم -أو قال: - والله لا أحملكم"، قال: فلما رجعنا إلى المنزل- أو قال: حين رجعنا إلى المنزل- أتاه قطيع من إبل، فإذا قد بعث إلينا بثلاثٍ بُقْعِ الذُّرَى، قال بعضنا لبعض: أنركب، وقد حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فأتيناه، فقلنا: يا نبي الله إنك قد حلفت، قال: "إني والله ما أحملكم، إنما حملكم الله، وما على الأرض من يمين أحلف عليها، ثم أرى
خيرًا منها، إلا أتيتها -أو أتيته-". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب فال:
[4263]
(1650) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أَعْتَمَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ رَجَعَ اِلَى أَهْلِهِ، فَوَجَدَ الصِّبْيَةَ قَدْ نَامُوا، فَأَتَاهُ أَهْلُهُ بِطَعَامِهِ، فَحَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ أَجْلِ صِبْيَتِهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ، فَأَكَلَ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيَأْتِهَا، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ")
(2)
.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.
2 -
(مَرْوَانُ بْنُ مُعاوِيةَ الفَزَارِيُّ) أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل مكة، ثم دمشق، ثقةٌ حافظٌ، كان يدلّس أسماء الشيوخ [8](ت 193)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.
3 -
(يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ) اليشكريّ، أبو إسماعيل، أو أبو مُنَين الكوفيّ، صدوقٌ يُخطئ [6](بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.
4 -
(أبُو حَازِمٍ) سلمان الأشجعيّ الكوفيّ، ثقةٌ [3](ت 100)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: أَعْتَمَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: تأخّر عنده إلى عَتَمَة الليل، وهي شدّة ظلمته، ولعله يريد بذلك أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العتمة، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم أخّرها منتظرًا للناس، فإنَّه صلى الله عليه وسلم-كان إذا رآهم قد اجتمعوا عجَّل، وإذا رآهم قد أبطؤوا أخّر؛ يعني: في العشاء الآخرة
(3)
.
(1)
"صحيح ابن حبان" 10/ 196.
(2)
وفي نسخة: "وليكفّر يمينه".
(3)
"المفهم" 4/ 631.
[تنبيه]: قال صاحب "التنبيه": لا أعرف الرجل المذكور، ولا أهله، وصبيته. انتهى
(1)
.
(ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، فَوَجَدَ الصِّبْيَةَ) بكسر الصاد المهملة: جمع صَبيّ، وهو الصغير، ويُجمع أيضًا على صِبيان (قَدْ نَامُوا، فَأَتَاهُ أَهْلُهُ بِطَعَامِهِ، فَحَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ أَجْلِ صِبْيَتِهِ)؛ أي: من أجل أنهم ناموا قبل الأكل (ثُمَّ بَدَا لَهُ)؛ أي: ظهر لهذا الرجل أن يأكل بعدما حَلَف (فَأَكَلَ، فَأَتَى رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ)؛ أي: أَكْله بعد الحلف (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ"؛ أي: على أمر محلوف عليه (فَرَأَى غَيْرَهَا) أنّث الضمير؛ لكون اليمين مؤنّثة (خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيَأْتِهَا)؛ أي: فليفعل الشيء المحلوف عليه (وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ") وفي نسخة: "وليكفّر يمينه"، وفي الرواية الآتية:"فليُكفّر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير"، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا أمر من النبيّ صلى الله عليه وسلم بتقديم الكفَّارة على الحنث، وهو نص الردِّ على أبي حنيفة، فإن أقلّ مراتب هذا الأمر أن يكون من باب الإرشاد إلى المصلحة، وأقلّ مراتب المصلحة أن تكون مباحة، فالكفارة قبل الحنث جائزة مجزية، وقد تضافر على هذا المعنى فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم المتقدِّم في حديث أبي موسى رضي الله عنه، وأمره هذا، وكذلك حديث عديّ رضي الله عنه الآتي بعد هذا.
قال: وقوله: "فليفعل الذي هو خير"؛ أي: الذي هو أكثر خيرًا؛ أي: الذي هو أصلح، يعني: من الاستمرار على موجب اليمين، أو ما يخالف ذلك مما يحنث به، والأصلح تارة يكون من جهة الثواب وكثرته، وهو الذي أشار إليه في حديث عديّ رضي الله عنه، حيث قال:"فليأت التقوى"، وقد يكون من حيث المصلحة الراجحة الدنيويَّة التي تطرأ عليه بسبب تركها حرجٌ ومشقَّةٌ، وهي التي أشار إليها النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يكفّر"، رواه مسلم، يعني بذلك أن استمراره على مقتضى يمينه إذا أفضى به إلى الحرج -وهو المشقة- قد يفضي به إلى أن يأثم، فالأولى به أن يفعل ما
(1)
"تنبيه المعلم"(ص 279).
شرع الله له من تحنيثه نفسه، وفعل الكفارة. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 4263 و 4264 و 4265 و 4266](1650)، و (الترمذيّ) في "النذور والأيمان"(1530)، و (مالك) في "الموطأ"(2/ 478)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 361)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 38 - 39)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4349)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 232 و 10/ 32 و 53) و"المعرفة"(7/ 321) و"الصغرى"(8/ 477)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2438)، وفوائد الحديث تقدّمت، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4264]
(
…
) - وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَالِكٌ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا
(2)
، فَلْيُكَّفرْ عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَفْعَلْ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم قريبًا.
2 -
(سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ) أبو يزيد المدنيّ، صدوقٌ تغيّر بآخره [6](ت 138)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 161.
3 -
(أَبُوهُ) أبو صالح ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 100)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل بابين.
(1)
"المفهم" 4/ 631 - 632.
(2)
وفي نسخة: "فرأى خيرًا منها".
والحديث من أفراد المصنّف، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4265]
(
…
) - (وَحَدَّثَني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثنَا ابْنُ أَبِي أوَيْسٍ، حَدَّثَني عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُطَّلِبِ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَرأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(ابْنُ أَبِي أوَيْسٍ) هو: إسماعيل بن عبد الله بن عبد الله بن أُويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحيّ، أبو عبد الله المدنيّ، صدوقٌ أخطأ في أحاديث من حفظه [10](ت 226)(خ م د ت ق) تقدم في "الحج" 17/ 2921.
2 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُطَّلِبِ) بن عبد الله بن حنطب المخزوميّ، أبو طالب المدنيّ، صدوقٌ [7] مات في خلافة المنصور (خت م ت ق) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4266]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَني سُلَيْمَانُ -يَعْني: ابْنَ بِلَالٍ - حَدَّثَنِى سُهَيْل فِي هَذَا الْإِسْنَادِ بِمَعْنَى حَدِيثِ مَالِكٍ: "فَلْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ
(1)
، وَلْيَفْعَلِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ) بن دينار القرشيّ، أبو محمد الكوفيّ الطحّانُ، وربّما نسب لجدّه، ثقةٌ [11] مات في حدود (250)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
(1)
وفي نسخة: "فليكفّر عن يمينه".
2 -
(خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ) الْقَطَوانيّ، أبو الهيثم البجليّ مولاهم الكوفيّ، صدوق يتشيّع، وله أفراد، من كبار [10](ت 213) أو بعدها (خ م كد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 65/ 367.
3 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو أيوب المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 177)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.
و"سُهَيْلٌ" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية سليمان بن بلال، عن سهيل بن أبي صالح هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(19747)
- أخبرنا أبو القاسم عبد الخالق بن عليّ بن عبد الخالق المؤذن، أنبأ أبو بكر محمد بن أحمد بن خنب، أنبأ أبو إسماعيل الترمذيّ، ثنا أيوب بن سليمان بن بلال، حدّثني أبو بكر بن أبي أويس، حدّثني سليمان بن بلال، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا حلف أحدكم بيمين، ثم رأى خيرًا مما حَلَفَ عليه، فليكفر يمينه، وليفعل الذي هو خير منه". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4267]
(1651) - (حَدَّثنَا قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ - يَعْنِي: ابْنَ رُفَيْعٍ- عَنْ تَمِيم بْنِ طَرَفَةَ، قَالَ: جَاءَ سَائِلٌ إِلَى عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، فَسَأَلهُ نَفَقَةً فِي ثَمَنِ خَادِمِ، أَوْ فِي بَعْضِ ثَمَنِ خَادِمٍ، فَقَالَ: لَيْسَ عِنْدِي مَا أُعْطِيكَ إِلَّا دِرْعي وَمِغْفَرِي، فَأَكْتُبُ إِلَى أَهْلِي أَنْ يُعْطُوكَهَا، قَالَ: فَلَمْ يَرْضَ، فَغَضِبَ عَدِيّ، فَقَالَ: أَمَا وَاللهِ لَا أُعْطِيكَ شَيْئًا، ثُمَّ إِنَّ الرَّجُلَ رَضِيَ، فَقَالَ: أَمَا وَاللهِ لَوْلَا أَنَّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، ثُمَّ رَأَى أَتْقَى لِلَّهِ مِنْهَا، فَلْيَأْتِ التَّقْوَى"، مَا حَنَّثْتُ يَمِينِي)
(2)
.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ) الأسديّ، أبو عبد الله المكيّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ [4](103) أو بعدها (ع) تقدم في "الجمعة" 15/ 2010.
(1)
"سنن البيهقيّ الكبرى" 10/ 53.
(2)
وفي نسخة: "ما حلّلتُ يميني".
2 -
(تَمِيمُ بْنُ طَرَفَةَ) الطائيّ الْمُسْلِيّ الكوفيّ، ثقةٌ [3](ت 95)(م د س ق) تقدم في "الصلاة" 27/ 971.
3 -
(عَدِيُّ بْنُ حَاتِمِ) بن عبد الله بن سعد بن الْحَشْرج الطائيّ، أبو طَرِيف الصحابيّ الشهير، كان ممن ثبت على الإسلام في الردّة، وحضر فتوحٍ العراق، وحروب عليّ رضي الله عنه، ومات رضي الله عنه سنة (68) وهو ابن (120) سنة، وقيل: وثمانين (ع) تقدم في "الجمعة" 15/ 2010.
والباقيان ذُكرا في الباب، و"جرير" هو: ابن عبد الحميد الضّبّيّ.
شرح الحديث:
(عَنْ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ) بفتح الطاء المهملة، والراء أنه (قَالَ: جَاءَ سَائِل) قال صاحب "التنبيه": لا أعرف هذا السائل
(1)
. (إِلَى عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ) رضي الله عنه (فَسَأَلهُ نَفَقَةً) قال المجد رحمه الله: النفقة: ما تُنفقُه من الدراهم، ونحوها. انتهى
(2)
، والمعنى هنا: سأله مالًا يُنفقه (فِي ثَمَنِ خَادِم)؛ يعني: يشتري به عبدًا أو أمة للخدمة، والخادم يُطلق على الذكر والأنثى، قال الفيّوميّ رحمه الله: خَدَمَهُ يَخْدْمُهُ خِدْمَةً، من بابي ضرب، ونصر، فهو خادم غلامًا كان أو جارية، والخَادِمَةُ بالهاء في المؤنث قليل، والجمع: خَدَمٌ، وخُدَّامٌ، وقولهم: فُلانَةٌ خَادِمَةٌ غَدًا ليس بوصف حقيقيّ، والمعنى ستصير كذلك، كما يقال: حائضة غدًا، وأَخْدَمْتُهَا بالألف: أعطيتها خادمًا، وخَدَّمْتُهَا بالتثقيل للمبالغة والتكثير، واسْتَخْدَمْتُهُ: سألته أن يَخدمني، أو جعلته كذلك. انتهى
(3)
.
(أَوْ) للشكّ من الراوي (فِي بَعْضِ ثَمَنِ خَادِمٍ، فَقَالَ) عديّ رضي الله عنه (لَيْسَ عِنْدِي مَا أُعْطِيكَ إِلَّا دِرْعِي) بكسر الدال، وسكون الراء، بعدها عين مهملة: قال الفيّوميّ رحمه الله: دِرْعُ الحديد مؤنثة في الأكثر، وتُصَغّر على دُرَيْعٍ، بغير هاء، على غير قياس، وجاز أن يكون التصغير على لغة من ذكّر، وربما قيل: دُريعَةٌ بالهاء، وجمعها: أَدْرُعٌ، ودُرُوعٌ، وأَدْرَاعٌ، قال ابن الأثير: وهي الزَّرَدِيَّةُ، ودِرْعُ
(1)
"تنبيه المعلم"(ص 280).
(2)
"القاموس المحيط"(ص 1306).
(3)
"المصباح المنير" 1/ 165 بزيادة من "تاج العروس" 8/ 269.
المرأة: قميصها مذكَّر. انتهى
(1)
.
(وَمِغْفَري) بكسر الميم، وسكون الغين المعجمة، بعدها راء: ما يُلبس تحت البيضةَ
(2)
. (فَأَكْتُبُ إِلَى أَهْلِي أَنْ يُعْطُوكَهَا) كذا في معظم النسخ بإفراد الضمير، فيعود إلى النفقة، ووقع في النسخة الهنديّة، بضمير التثنية، وهو ظاهر؛ لأنه يعود إلى الدرع والمغفر، فتنبّه (قَالَ) الراوي، وهو طرفة (فَلَمْ يَرْضَ)؛ أي: لم يرض ذلك السائل بما قاله عديّ رضي الله عنه، إما استقلالًا لذلك، وإما لغير ذلك (فَغَضِبَ عَدِيٌّ) رضي الله عنه (فَقَالَ: أَمَا وَاللهِ لَا أُعْطِيكَ شَيْئًا) قال القرطبيّ رحمه الله: وغضبُ عديّ رضي الله عنه في هذا الحديث ويمينه سببهما أن الرَّجل السائل لم يرض بالدِّرع والمغفر مع أنه لم يكن عنده غيرهما، ويمينه في الحديث الآتي، وما يفهم من غضبه فيه سببه فيما يظهر من مساق الحديث أن عديًّا استقلَّ ما سُئِل منه، ألا ترى قوله: تسألني مائة درهم، وأنا ابن حاتم؟! فكأنه قال: تسألني هذا الشيء اليسير، وأنا من عُرِفْتُ؛ أي: نحن معروفون ببذل الكثير، فهذا سبب غير السبب الأول، هذا ظاهر الحديث، غير أن القاضي عياضًا قال: معنى قوله عندي: وأنا ابن حاتم؛ أي: قد عُرِفت بالجود، وورثتُهُ، ولا يمكنني ردُّ سائل إلا لعذر، وقد سأله، ويعلم أنه ليس عنده ما يعطيه، فكانه أراد أن يُبَخله، فلذلك قال: والله لا أعطيك؛ إذ لم يعذره.
قال القرطبيّ: وهذا المعنى إنما يليق بالحديث الأول، لا بالثاني، فتأمَّلهما.
وفيه من الفقه: أن اليمين في الغضب لازمة كما تقدم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(3)
.
(ثمَّ إِنَّ الرَّجُلَ رَضِيَ)؛ أي: بما قاله عديّ رضي الله عنه (فَقَالَ) عديّ رضي الله عنه (أَمَا) أداة استفتاح وتنبيه، كـ "ألا" (وَاللهِ لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، ثُمَّ رَأَى أَتْقَى للَّهِ مِنْهَا، فَلْيَأْتِ التقْوَى") هو بمعنى الروايات
(1)
"المصباح المنير" 1/ 192.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 449.
(3)
"المفهم" 4/ 632 - 633.
السابقة: "فرأى خيرًا منها، فليأت الذي هو خير"، كذا قال النوويّ رحمه الله، لكن هذه الرواية مشعرة بقصر ذلك على ما فيه طاعة، ومفاد الرواية السابقة العموم
(1)
، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.
(مَا) نافية (حَنَّثْتُ يَمِينِي)؛ أي: ما جعلتها ذات حِنث، بل بقِيتُ بارًّا بها، وافيًا بموجبها، وهو جواب "لولا".
ووقع في بعض النسخ: "ما حلّلتُ يميني"، وهو بمعناه، يقال: حَنِث في يمينه يَحْنَثُ حِنْثًا، من عَلِم يعلم عِلْمًا: إذا لم يَفِ بموجِبِهَا، فهو حانثٌ، وحنّثته بالتشديد: جعلته حانثًا، والحِنْثُ: الذنب
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عديّ بن حاتم رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [3/ 4267 و 4268 و 4269 و 4270 و 4271 و 4272](1651)، و (النسائيّ) في "الأيمان والنذور"(7/ 10 - 11) و"الكبرى"(4727)، و (ابن ماجه) في "الكفّارات"(2108)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 256 و 257 و 258 و 259 و 378)، و (الدارميّ) في "سننه"(2345)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4346)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 42)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف: رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4268]
(
…
) - (وَحَدَّثنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثنَا أَبِي، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِم، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيَتْرُكْ يَمِينَهُ").
(1)
راجع: "حاشية النسخة التركيّة" 5/ 85.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 154.
رجال هذا الإسناد: ستةٌ:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) الْعَنْبَريّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10]، (ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
2 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن حسّان بن نصر الْعَنْبَريّ، أبو المثنّى البصريّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام المشهور، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (وَلْيَتْرُكْ يَمِينَهُ) معناه: فليحنث فيها، وليُكفّر عنها، والله تعالى أعلم.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى شرحه، ومسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4269]
(
…
) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ طَرِيفٍ الْبَجَلِيُّ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ طَرِيفٍ- قَالَا: حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ تَمِيم الطَّائِيِ، عَنْ عَدِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا حَلَفَ أَحَدُكُمْ عَلَى الْيَمِينِ، فَرَأى خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيُكَفرْهَا، وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) تقدّم قبل باب.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ طَرِيفٍ الْبَجَلِيُّ) أبو جعفر الكوفيّ، صدوقٌ، من صغار [10](ت 242) أو قبل ذلك (م د ت س) تقدم في "الإيمان" 90/ 489.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلِ) بن غزوان الضبّيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ رُمي بالتشيّع [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.
4 -
(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4270]
(
…
) - (وَحَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ طَرِيفٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ تَمِيمٍ الطَّائِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، أنَّهُ سَمِعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ذَلِكَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(الشَّيْبَانِيُّ) سليمان بن أبي سليمان فيروز، أبو إسحاق الكوفيّ، ثقةٌ [5] مات في حدود (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 38/ 259.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4272]
(
…
) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِم، وَأتاهُ رَجُلٌ يَسْأَلهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: تَسْأَلُنِي مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَأنَا ابْنُ حَاتِم؟ وَاللهِ لا أُعْطِيكَ، ثُمَّ قَالَ: لَوْلَا أني سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ حَلَفَ عَلى يَمِينٍ، ثُمَّ رَأَى خَيْرًا مِنْهَا
(1)
، فَلْيَأتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قريبًا.
2 -
(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد المعروف ببندار، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغندر، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(سِمَاكُ بْنُ حَرْب) بن أوس بن خالد الذهليّ البكريّ، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوقٌ تغيّر بآخره [4](ت 123)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.
والباقون ذُكروا قبله.
(1)
وفي نسخة: "ثم رأى غيرها خيرًا منها".
وقوله: (تَسْأَلُنِي مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَأَنَا ابْنُ حَاتِمٍ؟) الظاهر أن هذا من عديّ رضي الله عنه إنكار، واستقلال لِمَا سأله السائل، فكأنه يقول: كيف تسألني هذا الشيء اليسير، وأنا من عُرفتُ؟ أي: نحن معروفون ببذل الكثير، والله تعالى أعلم.
وكتب بعض الشرّاح ما حاصله: اختَلَف الشرّاح في تفسيره، فحاصل ما قاله القرطبيّ رحمه الله أن عديّ بن حاتم رضي الله عنه استَقَلّ هذا السؤال، فكأنه قال: تسألني هذا القدر اليسير، وأنا ابن حاتم الطائيّ المعروف ببذل الكثير والسخاء؟.
وحاصل ما قاله القاضي عياض رحمه الله: أن السائل سأله، وهو يعلم أنه ليس عنده ما يُعطيه الآن، فكأن السائل أراد أن يُظهر بُخله ومنعه، فقال: تسألني مائة درهم، وأنت تعلم أنها ليست عندي، وأنا ابن حاتم، فيشقّ عليّ المنع، فلذلك قال: والله لا أعطيك شيئًا، ولم يعذره.
قال: ثم إن سبب اليمين في هذه الرواية غير ما ذُكر قبلُ في رواية جرير، عن عبد العزيز بن رُفيع، وظاهر كلام القرطبيّ، وأبي الحسن السنديّ- رحمهما الله- أنهما يَحمِلان الروايتين على واقعتين، قال: ولا يطمئنّ إليه خاطري؛ لأن الحديث واحد، والراوي واحد، وكلتا الروايتين رواهما تميم بن طَرَفَةَ، ومضمون كلّ منهما مماثل لمضمون الآخر.
قال: ويمكن التطبيق على تفسير القرطبيّ رحمه الله بأن السائل كان يريد أن يُظهر بخله ومنعه، فسأله في حين كان يَعلم أنه ليس عنده مائة درهم، فقال له عديّ رضي الله عنه: تسألني مائة درهم في هذه الحال، ولكني ابن حاتم، فأكتب لك إلى أهلي أن يعطوكها، فلما لم يرض بذلك عَرَف أنه لا يريد الخير، فحلف على أن لا يعطيه، فذكر بعض الرواة ما لم يذكره الآخر، والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لا بُعد في حمل الحديثين على واقعتين، بل هو أولى من هذا التأويل المتكلّف، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.
(1)
"تكملة فتح الملهم" 2/ 202.
وقوله: (ثُمَّ رَأَى خَيْرًا مِنْهَا) وفي بعض النسخ: "ثمّ رأى غيرها خيرًا منها".
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4272]
(
…
) - (حَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثنَا بَهْزٌ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، حَدَّثنَا سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ تَمِيمَ بْنَ طَرَفَةً قَالَ: سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَزَادَ: وَلَكَ أَرْبَعُمِائَةٍ في عَطَائِي).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون السمين البغداديّ، مروزيّ الأصل، صدوق فاضلٌ، ربّما وَهِمَ [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.
2 -
(بَهْزُ) بن أسد الْعَمَيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9] مات بعد المائتين، أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (وَلَكَ أَرْبَعُمِائَةٍ فِي عَطَائِي)؛ أي: أعطيك أربعمائة عند خروج عطائي من بيت المال.
[تنبيه]: رواية بهز، عن شعبة هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4273]
(1652) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ لَا تَسْأَلِ الإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(جَرِيرُ بْنُ حَازِمِ) أبو النضر البصريّ، ثقةٌ، في حديثه عن قتادة ضعف [6](ت 170)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 81.
2 -
(الْحَسَنُ) البصريّ، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
4 -
(شيبانُ بنُ فرّوخَ) الأبلي، تقدم في "الإيمان" 12/ 157.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (282) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسلٌ بالبصريين، وبالتحديث من أوله إلى آخره.
شرح الحديث:
عن الْحَسَنِ البصريّ رحمه الله، أنه قال:(حَدَّثنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ) رضي الله عنه، هكذا صرّح الحسن بالتحديث في هذه الرواية، وفي رواية أبي عوانة من طريق إبراهيم بن صدقة، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن عبد الرحمن بن سمرة، وكان غزا معه كَابُل شَتْوَةً، أو شَتْوَتَيْن، وكذا للطبراني من طريق أبي حمزة إسحاق بن الربيع، عن الحسن، لكن بلفظ:"غزونا مع عبد الرحمن بن سمرة". (قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ لَا تَسْأَلِ)"لا" ناهية، ولذا جُزم الفعل بعدها، وكُسرت اللام؛ لالتقاء الساكنين، وذكر القاري أنه روي بالنفي؛ يعني: أن "لا" نافية، فهذه إن صحّت الرواية بها، فالفعل يكون مرفوعًا، ولكن النفي في مثل هذا للنهي البليغ، كما مرّ غير مرّة (الإِمَارَةَ) بكسر الهمزة؛ أي: الحكومة، وقال ابن الملقّن رحمه الله: الإمارة بكسر الهمزة: الولاية عامّةً كانت، أو خاصّةً، ويدخل فيها القضاء، والْحِسْبةُ، وغيرها، وفيها لغة أخرى: إِمْرة، بسكون الميم، أما الأمارة بالفتح، فالعلامة، وأما الأَمَرة، بفتح الميم، فالمرّة الواحدة من الأمر. انتهى
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: والإِمْرة، والإمارة بكسر الهمزة: الولاية، يقال: أَمَرَ
(1)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 9/ 241 - 242.
على القوم يأمُر، من باب قتل، فهو أمير، والجمع: الأمراء، ويُعدّى بالتضعيف، فيقال: أَمّرته تأميرًا، والأمارة: العلامة وزنًا ومعنى، ولك عليّ أَمْرة لا أعصيها بالفتح؛ أي: مرّةٌ واحدةٌ. انتهى
(1)
.
وقال المجد رحمه الله: الأَمْرُ: مصدر أَمَرَ علينا، مثلّثةً: إذا وَليَ، والاسم: الإِمْرةُ بالكسر، وقول الجوهريّ: مصدرٌ، وَهَمٌ، وله عليّ أَمْرةٌ مطاعة، بالفتح للمرّة منه؛ أي: له عليّ أَمْرةٌ أُطيعه فها. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد أفادت عبارة المجد رحمه الله أن أَمَر مثلّث، فيكون من باب ضرب، ونصر، وكرُم، فتنبّه.
(فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا) بالبناء للمفعول، وفي لفظ:"إن أُوتيتَها"، وهو بمعناه (عَنْ مَسْأَلَةٍ)؛ أي: بعد سؤلك إياها، فـ "عن" بمعنى "بعد"، أو المعنى: إعطاء صادرًا عن مسألة (وُكِلْتَ إِلَيْهَا) بضمّ الواو، وكسر الكاف مخفّفةً، وفتح التاء للمخاطب؛ أي: خُلِّيتَ إليها، وتُركت معها من غير إعانة فيها.
وقال ابن الملقّن رحمه الله: معنى "وُكِلتَ إليها": لم تُعَن عليها؛ أي: لا يكون فيك كفاية لها، ومَن هذا شأنه لا يُولَّى، يقال: وَكَلَهُ إلى نفسه وَكْلًا، ووُكُولًا، قال: وفي كثير من نُسخ مسلم بدل الواو همزة، وقال القاضي عياض: هو في أكثرها كذلك، والصواب بالواو. انتهى
(3)
.
(وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا) بالبناء للمفعول؛ أي: أعانك الله عز وجل على تلك الإمارة، قال الطيبيّ رحمه الله: معناه: أن الإمارة أمر شاقّ لا يَخرُج عن عهدتها إلا أفراد الرجال، فلا تسألها عن تشرّف نفس، فإنك إن سألتها تُركتَ معها، فلا يُعينك الله تعالى عليها، وإن أوتيتها عن غير مسألة أعانك الله تعالى عليها.
قال الجامع عفا الله عنه: وسيأتي البحث في مسألة الإمارة في "كتاب الإمارة"-إن شاء الله تعالى-.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 22.
(2)
"القاموس المحيط" ص 60.
(3)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 9/ 242.
(وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ) تقدّم توجيهه في الكلام على حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قريبًا في قوله: "لا أحلف على يمين".
وقد اختُلِف فيما تضمّنه حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه، هل لأحد الحكمين تعلّقٌ بالآخر، أو لا؟ فقيل: له به تعلُّق، وذلك أن أحد الشقين أن يُعْطَى الإمارة من غير مسألة، فقد لا يكون له فيها أَرَبٌ، فيمتنع، فَيُلْزَمُ، فيَحْلِف، فأُمِر أن يَنظُر، ثم يفعل الذي هو أولى، فإن كان في الجانب الذي حَلَفَ على تركه، فيَحْنَثُ، ويُكَفِّر، ويأتي مثلُهُ في الشق الآخر، قاله في "الفتح"
(1)
.
(فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا)؛ أي: رأيت غير المحلوف عليه، قال في "الفتح": وظاهر الكلام عود الضمير على اليمين، ولا يصحّ عوده على اليمين بمعناها الحقيقيّ، بل بمعناها المجازيّ، كما تقدم، والمراد بالرؤية هنا: الاعتقاديّة، لا البصريّة.
قال القاضي عياض رحمه الله: معناه إذا ظهر له أن الفعل، أو الترك خير له في دنياه، أو آخرته، أو أوفق لمراده وشهوته، ما لم يكن إِثْمًا.
قال الحافظ رحمه الله: ما تقدّم في حديث عديّ بن حاتم رضي الله عنه: "فرأى غيرها أتقى لله، فليأت التقوى"، يُشعر بقصر ذلك على ما فيه طاعة.
قال: وينقسم المأمور به أربعة أقسام: إن كان المحلوف عليه فعلًا، فكان الترك أولى، أو كان المحلوف عليه تركًا، فكان الفعل أولى، أو كان كل منهما فعلًا، وتركًا، لكن يدخل القسمان الأخيران في القسمين الأولين؛ لأن مِن لازم فعل أحد الشيئين، أو تركه، تركَ الآخر، أو فعله. انتهى
(2)
.
(فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ") كذا لكثير من الرواة، ووقع للأكثر منهم بلفظ:"فأت الذي هو خير، وكفّر عن يمينك"، وقد تقدّم ذكر من رواه بلفظ:"ثم ائت الذي هو خير"، ووقع في رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، عند أبي داود: "فرأى غيرها خيرًا منها، فَلْيَدْعها، وليأت الذي
(1)
"الفتح" 15/ 416 "كتاب كفّارات الأيمان" رقم (6721 - 6722).
(2)
"الفتح" 15/ 416 رقم (6721).
هو خير، فإن كفارتها تركُها"، فأشار أبو داود إلى ضعفه، وقال: الأحاديث كلها: "فليُكَفّر عن يمينه"، إلا شيئًا لا يُعبأ به، قال الحافظ: كأنه يشير إلى حديث يحيى بن عبيد الله، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، رفعه: "مَن حَلَفَ، فرأى غيرها خيرًا منها، فليأت الذي هو خير، فهو كفارته"، ويحيى ضعيف جدًّا.
قال: وقد وقع في حديث عديّ بن حاتم عند مسلم ما يوهم ذلك، وأنه أخرجه بلفظ:"مَن حَلَف على يمين، فرأى غيرها خيرًا منها، فليأت الذي هو خير، وليترك يمينه"، هكذا أخرجه من وجهين، ولم يذكر الكفارة
(1)
، ولكن أخرجه من وجه آخر بلفظ:"فرأى خيرًا منها، فليكفّرها، وليأت الذي هو خير"، ومداره في الطرُق كلها على عبد العزيز بن رُفيع، عن تميم بن طَرَفَة، عن عديّ، والذي زاد ذلك حافظ، فهو المعتمد.
قال الشافعيّ رحمه الله: في الأمر بالكفارة مع تعمد الحنث دلالةٌ على مشروعية الكفارة في اليمين الغموس؛ لأنها يمين حانثة، واستدلّ به على أن الحالف يجب عليه فعل أيّ الأمرين كان أولى، من المضيّ في حلفه، أو الحنث والكفارة، وانفصل عنه من قال: إن الأمر فيه للندب بما مضى في قصة الأعرابيّ الذي قال: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، فقال: أفلح إن صدق، فلم يأمره بالحنث والكفارة، مع أن حلفه على ترك الزيادة مرجوح بالنسبة إلى فعلها. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الرحمن بن سَمُرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [3/ 4273 و 4274](1652) و"الإمارة"[4707 و 4708]، و (البخاريّ) في "الأيمان والنذور"(6622) و"كفّارات الأيمان"
(1)
لكن الرواية الثانية ليس فيها: "وليترك يمينه"، فتنبّه.
(2)
"الفتح" 15/ 416 - 417، كتاب "كفّارات الأيمان" رقم (6721).
(6722)
، و"الأحكام"(7146 و 7147)، و (أبو داود) في "الأيمان والنذور"(3277 و 3278)، و (الترمذيّ) في "النذور والأيمان"(1529)، و (النسائيّ) في "الأيمان والنذور"(7/ 10 و 11 و 12) و"آداب القضاء"(8/ 225) و"الكبرى"(3/ 463 و 464 و 5/ 226)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 320)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1351)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 375 و 6/ 419)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 61 و 62 و 63)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 186)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(929 و 998)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4348)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3/ 85)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 35 و 36 و 37 و 38 و 376 و 377 و 378)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 9 و 185 و 2/ 80 و 84 و 141)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 31 و 50 و 52 و 100) و"المعرفة"(7/ 310 و 319) و"الصغرى"(8/ 474)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه هذا مداره على الحسن البصريّ رحمه الله تعالى، وقد رواه عنه الجمّ الغفير:
فقد أخرجه المصنّف رواية جرير بن حازم، وسماك بن عطيّة، ويونس بن عُبيد، وهشام بن حسّان، وقتادة كلهم عن الحسن، وأخرجه النسائيّ من رواية سليمان بن طرخان، ومنصور بن زاذان، وعبد الله بن عون، ومنصور بن المعتمر، كلهم عنه.
ورواه عنه سماك بن حرب عند الطبرانيّ في "الكبير"، وحُميدٌ الطويل عند مسلم، وهشام بن حسّان عند أبي نعيم في "مستخرجه على مسلم"، والربيع وهو ابن مسلم على ما جزم به الدمياطيّ في "حاشيته"، وقال الحافظ: والذي يغلب على ظني أنه ابن صَبِيح، فقد وقع لنا في "الشيرانيّات" من رواية شبابة، عن الربيع بن صَبِيح -بوزن عَظِيم- عن الحسن، وأخرجه أبو عوانة، من طريق الأسود بن عامر، عن الربيع بن صَبِيح، وأخرجه الطبرانيّ، من رواية مسلم بن إبراهيم، حدّثنا قرّة بن خالد، والمبارك بن فَضَالة، والربيع بن صَبِيح، قالوا: حدّثنا الحسن به.
قال: ووقع لنا من رواية الربيع غير منسوب عن الحسن، أخرجه الحافظ
يوسف بن خليل في الجزء الذي جمع فيه طُرُق هذا الحديث، من طريق وكيع، عن الربيع، عن الحسن، وهذا يَحْتَمِل أن يكون هو الربيع بن صَبِيح المذكور، ويَحْتَمِل أن يكون الربيع بن مسلم.
وأخرجه أبو عوانة من طريق عليّ بن زيد بن جُدْعان، ومن طريق إسماعيل بن مسلم، ومن طريق إسماعيل بن أبي خالد، كلهم عن الحسن.
وأخرجه الطبرانيّ في "المعجم الكبير" عن نحو الأربعين من أصحاب الحسن، فيهم ممن لم يتقدم ذكره: يزيد بن إبراهيم، وأبو الأشهب، واسمه جعفر بن حَيّان، وثابت البنانيّ، وحبيب بن الشهيد، وخُليد بن دُعْلُج، وأبو عمرو بن العلاء، ومحمد بن نوح، وعبد الرحمن السّرّاج، وعُرْفُطة، والمعلى بن زياد، وصفوان بن سُليم، ومعاوية بن عبد الكريم، وزياد مولى مصعب، وسهل السراج، وشبيب بن شيبة، وعمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، ومحمد بن عقبة، والأشعث بن سوّار، والأشعث بن عبد الملك، والحسن بن دينار، والحسن بن ذكوان، وسفيان بن حسين، والسريّ بن يحيى، وأبو عَقيل الدورقيّ، وعباد بن راشد، وعباد بن كثير، فهؤلاء أربعة وأربعون نفسًا.
وقد خرّج طرقه الحافظ عبد القادر الرّهاويّ في "الأربعين البلدانيّات" له عن سبعة وعشرين نفسًا من الرواة عن الحسن، فيهم ممن لم يتقدّم ذكره: يحيى بن أبي كثير، وإسرائيل أبو موسى، ووائل بن داود، وعبد الله بن عون، وقرّة بن خالد، وأبو خالد الجزّار، وأبو عبيدة الباجيّ، وخالد الحذّاء، وعوف الأعرابيّ، وحمّاد بن نَجِيح، ويونس بن يزيد، ومطر الورّاق، وعليّ بن رفاعة، ومسلم بن أبي الذّيّال، والعوّام بن جُويرية، وعقيل بن صبيح، وكثير بن زياد، وسودة بن أبي العالية. ثم قال: رواه عن الحسن العدد الكثير من أهل مكة، والمدينة، والبصرة، والكوفة، والشام، ولعلهم يزيدون على الخمسين.
ثم ذكر طرقه الحافظ يوسف بن خليل، عن أكثر من ستّين نفسًا، عن الحسن، عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه.
وسرد الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن ابن الحافظ أبي عبد الله بن منده في "تذكرته" أسماء من رواه عن الحسن، فبلغوا مائة وثمانين نفسًا، وزيادة. ثم قال: رواه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن سمرة: عبدُ الله بن عمرو، وأبو
موسى، وأبو الدرداء، وأبو هريرة، وأنس، وعديّ بن حاتم، وعائشة، وأم سلمة، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وأبو سعيد الخدريّ، وعمران بن حُصين. انتهى.
ولما أخرج الترمذيّ حديث عبد الرحمن بن سمرة، قال: وفي الباب،
فذكر الثمانية المذكورين أوّلًا، وأهمل خمسة، واستدركهم الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ"، إلا ابن مسعود، وابن عمر، وزاد معاوية بن الحكم، وعوف بن مالك الْجُشَميَّ والد أبي الأحوص، وأُذينة والد عبد الرحمن، فكملوا ستة عشر نفسًا.
قال الحافظ رحمه الله تعالى: أحاديث المذكورين كلّها فيما يتعلّق باليمين، وليس في حديث واحد منهم:"لا تسأل الإمارة"، لكن ساذكر من روى معنى ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في "كتاب الأحكام"، إن شاء الله تعالى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وأنا سأذكر ما ذكره الحافظ في "كتاب الإمارة" -في "باب النهي عن طلب الإمارة، والحرص عليها"- إن شاء الله تعالى-.
قال: ولم يذكر ابن منده أن أحدًا رواه عن عبد الرحمن بن سمرة غير الحسن، لكن ذكر عبد القادر أن محمد بن سيرين رواه عن عبد الرحمن، ثم أسند من طريق أبي عامر الخرّاز عن الحسن، وابن سيرين أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن سمرة: "لا تسأل الإمارة
…
" الحديث، وقال: غريبٌ ما كتبته إلا من هذا الوجه، والمحفوظ رواية الحسن، عن عبد الرحمن. انتهى.
قال الحافظ: وهذا مع ما في سنده من ضعف، ليس فيه التصريح برواية ابن سيرين عن عبد الرحمن.
وأخرجه يوسف بن خليل الحافظ من رواية عكرمة مولى ابن عبّاس، عن عبد الرحمن بن سمرة، أورده من "المعجم الأوسط" للطبرانيّ، وهو في ترجمة محمد بن عليّ المروزيّ بسنده إلى عكرمة، قال: كان اسم عبد الرحمن بن سمرة: عبد كلوب، فسمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، فمرّ به، وهو يتوضّأ، فقال: "تعال يا عبد الرحمن، لا تطلب الإمارة
…
" الحديث، وهذا لم يصرّح فيه عكرمة بأنه حمله عن عبد الرحمن، لكنه مُحْتَمِلٌ.
قال الطبرانيّ: لم يروه عن عكرمة، إلا عبد الله بن كيسان، ولا عنه إلا ابنه إسحاق، تفرّد به أبو الدرداء عبد العزيز بن منيب.
قال الحافظ: عبد الله بن كيسان ضعّفه أبو حاتم الرازيّ، وابنه إسحاق ليّنه أبو أحمد الحاكم. انتهى
(1)
. والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في فوائده:
1 -
(منها): ما قاله الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: ظاهره يقتضي كراهية سؤال الإمارة مطلقًا، والفقهاء تصرّفوا فيه بالقواعد الكلية، فمن كان متعيّنًا للولاية وجب عليه قبولها إن عُرِضت عليه، وطلبها إن لم تُعْرَض؛ لأنه فرض كفاية، لا يتأدى إلا به فيتعين عليه القيام به، وكذا إذا لم يتعين، وكان أفضل من غيره، ومنعنا ولاية المفضول مع وجود الفاضل.
وإن كان غيره أفضل منه، ولم نمنع تولية المفضول مع وجود الفاضل فههنا يكره له أن يدخل في الولاية، وأن يسألها، وحَرَّم بعضهم الطلب، وكره للإمام أن يوليه، وقال: إن ولاه انعقدت ولايته، وقد استخطئ فيما قال
(2)
.
ومن الفقهاء من أطلق القول بكراهية القضاء، لأحاديث وردت فيه. انتهى.
فمن الأحاديث ما رواه أصحاب السنن، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبيّ عن بُريد بن الحصيب رضي الله عنه، مرفوعًا:"القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة: رجل عَلِم الحقَّ، فقضى به، فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل، فهو في النار، ورجل عَرَف الحقّ، فجار في الحكم فهو في النار".
ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا: "من ولي القضاء، فقد ذُبح بغير
(1)
راجع: "الفتح" 15/ 413 - 415، كتاب "كفّارات الأيمان" رقم (6721).
(2)
أي: في طلبه الولاية، أي: قد أخطأ في طلبها مع النهي عنه، فارتكب ما نُهي عنه، ويَحتَمِل أن الذي أخطأ هو البعض الذي حرّم الطلب، أو كره للإمام أن يولّيه، كذا قيل، ولا يخفى أن الاحتمال الآخر هو المتعيّن، راجع:"العدّة حاشية العمدة" 4/ 386.
سكين"، رواه أحمد، والترمذيّ، وابن ماجه، وحسّنه الترمذيّ مع الغرابة، وقال الحاكم: صحيح الإسناد.
مع أن بعض العلماء يؤوّل هذا على المدح، وقال: لاجتهاده في طلب الحقّ، والظاهر أنه على الذمّ؛ لعجزه عن القيام، وعدم المُعِين له على الحقّ.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذرّ رضي الله عنه: "لا تأمّرنّ على اثنين"، رواه مسلم.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنكم ستحرصون على الإمارة، وإنها ستكون ندامة، وحسرة يوم القيامة، فنعم المرضعة، وبئست الفاطمة" رواه البخاريّ.
قال العلامة ابن الملقّن رحمه الله بعد ذكر ما تقدّم: ومن أصحابنا من قال: القضاء من أعلى القربات، ومنهم إمام الحرمين، وابن الصبّاغ، والأحاديث المحذّرة منه محمولة على الخائن، أو الجاهل، بدليل الحديث السالف: "القضاة ثلاثة
…
"، وقال ابن الصبّاغ: الأحاديث المحذّرة دالّة على عِظَم قدره حتى لا يُقدم عليه من لا يَثِق بنفسه، ويُحمَل حديث عبد الرحمن بن سَمُرة، وما في معناه، كحديث أبي موسى في "الصحيحين": "لن نستعمل في عملنا هذا من أراده"، على من سأل لمجرّد الرئاسة والنُّبْل، ومن استحبّه فهو لمن قصد به القربة، وبالغ إمام الحرمين وجماعة، فقالوا: القيام بفرض الكفاية أحرى بإحراز الدرجات، وأعلى في قبول القربات من القيام بفرض العين، فإن فاعل فرض العين وتاركه يختصّ الثواب والعقاب به، وفاعل فرض الكفاية كافٍ نفسه، وسائر المخاطبين العقاب، وأمل أفضل الثواب.
وبالجملة فقد امتنع من الدخول فيه الشافعيّ رحمه الله حين استدعاه المأمون ليولّيه قضاء الشرق والغرب، واقتدى به الصدر الأول من أصحابه، حتى إن أبا عليّ بن خيران لَمّا طُلب للقضاء هَرَبَ، فخُتم على عقاره، وامتنع أيضًا أبو حنيفة رحمه الله حين استدعاه المنصور له، فضربه وحبسه، ثم أطلقه، وقيل: إن أبا حنيفة ولي القضاء بالرُّصافة أيّامًا، والشافعيّ وليه بنجران من بلاد اليمن أيّامًا، ولا يصحّ، ودخول معظم السلف من الصدر الأول فيه كان لعلمهم يقينًا أو ظنًّا بالقيام به لله، لا لشيء من حظوظ الدنيا، ووجود من يعينهم على الحقّ، وامتناعُ الصدر الثاني والثالث؛ لِمَا فيه من الخطر، وعدم براءة الذمّة فيه، وتحيّلوا على الامتناع منه بأسباب توهم الجنون، أو قلّة المروءة، وارتكبوا
ذلك؛ للخلاص من المحرم، أو المكروه. انتهى كلام ابن الملقّن رحمه الله
(1)
.
2 -
(ومنها): أن في الحديث إشارةً إلى ألطاف الله تعالى بالعبد فيما قضاه وقدّره، وأوجبه عليه بالإعانة على إصابة الصواب في فعله وقوله، تفضلًا زائدًا على مجرد التكليف والهداية إلى النجدين، فإنه لما كان خطر الولاية عظيمًا، بسبب أمور في الوالي، وبسبب أمور خارجة عنه كان طلبها تكلّفًا، ودخولًا في غرر عظيم، فهو جدير بعدم العون، ولما كانت إذا أتت من غير مسألة لم يكن فيها هذا التكلف كانت جديرة بالعون على أعبائها وأثقالها، قال ابن دقبق العيد رحمه الله: وهي مسألة أصولية، كثر فيها الكلام في فنّها، والذي يحتاج إليه في الحديث ما أشرنا إليه الآن
(2)
.
3 -
(ومنها): أن من يتعاطى أمرًا سوّلت له نفسه أنه أهلٌ له لا يقوم به، بخلاف من عجَّز نفسه وقصرها عن ذلك، وهذا من ثمرات التواضع، فإن من سأل الإمارة لم يسألها إلا وهو يرى نفسه أهلًا لها، فيوكل إليها، فلا يُعان، ويُخذل
(3)
.
4 -
(ومنها): أن فيه بيانَ كرم الله عز وجل على عباده في عدم الوقوف عند الأيمان، وبأنه يَحْنَث فيها؛ لئلا يؤدّي ذلك إلى المنع من الخير، وترك البرّ
(4)
.
5 -
(ومنها): أن للحديث تعلقًا بالتكفير قبل الحنث، ومن يقول بجوازه قد يتعلق بالبداءة بقوله صلى الله عليه وسلم:"فكفّر عن يمينك، وأْتِ الذي هو خير"، قال ابن دقيق العيد رحمه الله: وهذا ضعيف؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب، والمعطوف والمعطوف عليه بها كالجملة الواحدة.
وليس بجيد طريقة من يقول في مثل هذا إن الفاء تقضي الترتيب والتعقيب، فيقتضي ذلك أن يكون التكفير مستعقبًا لرؤية الخير في الحنث، فإذا استعقبه التكفير تأخر الحنث ضرورة، وإنما قلنا:"إنه ليس بجيد"؛ لِمَا بيّناه من حكم الواو فلا فرق بين قولنا: "فكفِّر، وأْتِ الذي هو خير" وبين قولنا:
(1)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 9/ 243 - 244.
(2)
راجع: "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 9/ 245.
(3)
"الإعلام" 9/ 245.
(4)
"الإعلام" 9/ 248.
"فافعل هذين"، ولو قال كذلك لم يقتض ترتيبًا ولا تقديمًا، فكذلك إذا أتى بالواو.
وهذه الطريقة التي أشرنا إليها ذكرها بعض الفقهاء في اشتراط الترتيب في الوضوء، وقال: إن الآية تقتضي تقديم غسل الوجه، بسبب الفاء، وإذا وجب تقديم غسل الوجه وجب الترتيب في بقية الأعضاء اتفاقًا، وهو ضعيف لِمَا بيّناه.
6 -
(ومنها): أن الحديث يقتضي تأخير مصلحة الوفاء بمقتضى اليمين إذا كان غيره خيرًا، بنصّه.
وأما مفهومه: فقد يشير بأن الوفاء بمقتضى اليمين عند عدم رؤية الخير في غيرها مطلوب، وقد تنازع المفسرون في معنى قوله تعالى:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا} الآية [البقرة: 224]، وحمله بعضهم على ما دلّ عليه الحديث، ويكون معنى "عرضة"؛ أي: مانعًا، و"أن تبروا" بتقدير: من أن تبروا
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: وقع في بعض النسخ في آخر هذا الحديث ما نصّه: (قَالَ أَبُو أَحْمَدَ الْجُلُودِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَاسَرْجَسِيُّ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، بِهَذَا الْحَدِيثِ) هكذا في معظم النسخ، ووقع في النسخة الهنديّة:"قال أبو أحمد الْجُلوديّ: نا أبو العبّاس الْمَاسَرْجسيّ، قال: نا شيبان بن فَرُّوخَ، ثنا جرير بن حازم، بهذا الإسناد".
قال النوويّ رحمه الله: ومراده أنه علا برجل. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: معنى هذا الكلام أن أبا أحمد الجلوديّ روى هذا الحديث عن أبي إسحاق إبراهيم محمد بن سفيان، عن مسلم، عن شيبان بن فرّوخ، فكان بينه وبين شيبان واسطتان، فلما رواه، عن الماسرجسيّ، عن شيبان كان بينه وبين شيبان واسطة واحدة، فَعَلا برجل، والله تعالى أعلم.
(1)
"إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" 3/ 116 - 118.
[تنبيه]: "أبو أحمد الجلوديّ" هذا هو تلميذ أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان تلميذ الإمام مسلم، وهو: أبو أحمد محمد بن عيسى بن محمد بن عبد الرحمن بن عمرويه بن منصور الزاهد النيسابوريّ الْجُلُوديّ المتوفّى يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من ذي الحجة سنة (368 هـ) وهو ابن (80) سنة، وقد تقدّمت ترجمته في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 64.
و"الْجُلوديّ" بضم الميم واللام: نسبة إلى سكة الجلود بنيسابور، وقيل: نسبة إلى جمع جِلْد، وتقدّم البحث فيه مستوفى في "شرح المقدّمة"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
وأما أبو العبّاس الماسرجسيّ، فهو: أحمد بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن أحمد بن محمد بن الحسين المَاسَرْجِسيّ، ذكره الحاكم في "التاريخ"، فقال: أبو العباس بن أبي نصر الماسرجسيّ ابن بنت الحسن بن عيسى، فذكر شمائل سلفه، ومحاسنهم، وأما أبو العباس فإني لمّا خرّجت الفوائد لأبيه، رأيت له سماعات كثيرة عن أبي حامد ابن الشَّرْقيّ، ومكي بن عبدان، وأقرانهما، وحدَّث أبو العباس بعد ذلك سنين، وتُوُفّي في النصف من شهر ربيع الأول سنة ثمان وسبعين وثلاث مئة، قاله السمعانيّ رحمه الله في "الأنساب"
(1)
.
و"الْمَاسَرْجِسيّ" بفتح السين المهملة، وسكون الراء، وكسر الجيم، آخره سين مهملة: نسبة إلى ماسَرْجِس اسم لجدّ، قاله السمعانيّ
(2)
.
[تنبيه آخر]: رواية الجلوديّ هذه أخرجها البيهقيّ في "السنن الكبرى"، فقال:
(19739)
- وأخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهانيّ، أنبأ أبو أحمد محمد بن عيسى الجلوديّ، حدثني أبو العباس الماسرجسيّ، ثنا شيبان بن فروخ، ثنا جرير بن حازم، ثنا الحسن، ثنا عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة، وُكلت إليها، وإن أُعطيتها من غير مسألة، أُعنت عليها،
(1)
"الأنساب" للسمعانيّ 5/ 50.
(2)
"الأنساب" 5/ 48.
وإذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرًا منها، فكفِّر عن يمينك، وائت الذي هو خير". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4274]
(
…
) - (حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ يُونُسَ، وَمَنْصُورٍ، وَحُمَيْدٍ (ح) وَحَدَّثنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ عَطِيَّةَ، ويُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، وَهِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، في آخَرِينَ (ح) وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيهِ (ح) وَحَدَّثنا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ الْعَمِّيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، كلُّهُمْ عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ أَبِيهِ ذِكْرُ الإِمَارَةِ).
رجال هذا الإسناد: تسعة عشر:
1 -
(هُشَيْمُ) بن بشير السلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ، كثير التدليس، والإرسال الخفيّ [7](ت 183) وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(يُونُسُ) بن عبيد بن دينار الْعَبْديّ، أبو عبيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ ورعٌ [5](ت 139)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.
3 -
(مَنْصُورُ) بن زاذان الثقفيّ، أبو المغيرة الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [6](ت 120) على الصحيح (ع) تقدم في "الصلاة" 35/ 1019.
4 -
(حُمَيْدُ) بن أبي حميد الطويل، أبو عبيدة البصري، ثقة [5](ت 2 أو 143) وهو قائم يصلي، وله (75) سنة (ع) تقدم في "الطهارة" 23/ 639.
5 -
(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فُضيل بن حسين البصريّ، ثقة حافظ [10](ت 237) وله أكثر من ثمانين سنة (خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
6 -
(سِمَاكُ بْنُ عَطِيَّةَ) البصريّ الْمِرْبديّ -بكسر الميم، وسكون الراء، بعدها موحّدة- ثقةٌ [6].
(1)
"سنن البيهقي الكبرى" 10/ 52.
رَوَى عن الحسن البصريّ، وعمرو بن دينار القهرمانيّ، وأيوب السختيانيّ.
وروى عنه حماد بن زيد، وحرب بن ميمون، وهَيْثَم بن الربيع العقيليّ.
قال ابن معين: ثقةٌ، وقال حماد بن زيد: كان من جلساء أيوب، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وأعاده في "كتاب الإمارة".
7 -
(هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ) القُردوسيّ، تقدّم في الباب الماضي.
8 -
(عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ الْعَمِّيُّ) أبو عبد الملك البصريّ، ثقة [11](تم د ت ق) تقدم في "الإيمان" 27/ 220.
9 -
(سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ) الضُّبَعيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ صالح، ربما وَهِمَ [9](ت 208) وله (86) سنةً (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 4/ 1608.
10 -
(سَعِيدُ) بن أبي عروبة مِهْران اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف، لكنه كثير التدليس، واختلط، وكان من أثبت الناس في قتادة [6](ت 6 أو 157)(ع) تقدم في "الإيمان " 6/ 127.
[تنبيه]: وقع في جميع نسخ "صحيح مسلم" التي بين يديّ أن الراوي عن قتادة هنا هو سعيد بن أبي عروبة، ووقع في "تحفة الأشراف"
(1)
للحافظ المزّيّ رحمه الله بدله شعبة، ولا أدري من أين له ذلك، وكلاهما يرويان عن قتادة، ويروي عنهما سعيد بن عامر، ولعله وقع له ذلك في نسخته، والله تعالى أعلم.
11 -
(قَتَادَةُ) بن دِعامة السّدوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقة ثبت يدلّس، رأس الطبقة [4](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: رواية هشيم، عن يونس، ومنصور، وحميد، كلهم عن الحسن، ساقها ابن حبّان في "صحيحه"، فقال:
(4479)
- أخبرنا محمد بن أبي عون، قال: حدّثنا عليّ بن حُجْر
(1)
راجع: "تحفة الأشراف" 6/ 483 نسخة د. بشّار عوّاد.
السعديّ، قال: حدّثنا هشيم، عن منصور بن زاذان، وحميد الطويل، ويونس بن عبيد، جميعًا عن الحسن، عن عبد الرحمن بن سمرة القرشيّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة، فإنك إن أوتيتها عن مسألة، وُكلت إليها، وإن أوتيتها عن غير مسألة أُعنت عليها، وإذا آليت على يمين، ورأيت غيرها خيرًا، فَأْتِ الذي هو خير، وكَفر عن يمينك". انتهى
(1)
.
وأما رواية سماك بن عطيّة، ويونس بن عبيد، وهشام بن حسّان، كلهم عن الحسن، فساقها الطبراني رحمه الله في "المعجم الأوسط"، فقال:
(8047)
- حدّثنا موسى بن هارون، ثنا أبو كامل الجحدريّ، نا حماد بن زيد، عن يونس، وسماك بن عطية، وهشام، في آخرين، عن الحسن، عن عبد الرحمن بن سمرة، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة، وُكلت إليها، وإن أُعطيتها عن غير مسألة، أُعنت عليها، وإذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرًا منها، فأْتِ الذي هو خير، وكَفر عن يمينك".
قال: لم يرو هذا الحديث عن حماد بن زيد إلا أبو كامل. انتهى
(2)
.
وأما رواية المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحسن، فساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(5949)
- حدّثنا أحمد بن يحيى الحلوانيّ، قثنا الفيض بن وثيق، قال: سمعت المعتمر يحدث، قال: حدّثثي أبي، عن الحسن، عن عبد الرحمن بن سمرة، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إذا حلف أحدكم على يمين، فرأى غيرها خيرًا منها، فليَأْتِ الذي هو خير، فليكفِّر عن يمينه". انتهى
(3)
.
وأما رواية سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، فساقها الحافظ أحمد بن عمرو بن الضحاك أبو بكر الشيبانيّ المتوفَّى سنة (287 هـ) في "الآحاد والمثاني"، فقال:
(568)
- حدّثنا يحيى بن خلف، نا عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة،
(1)
"صحيح ابن حبان" 10/ 332.
(2)
"المعجم الأوسط" 8/ 87 - 86.
(3)
"مسند أبي عوانة" 4/ 38.
عن الحسن، عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تسأل الإمارة، فإنك إن أُعطيتها عن مسألة، وُكلت إليها، وإن أُعطيتها عن غير مسألة، أُعنت عليها، وإذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرًا منها، فكَفِّر عن يمينك، ثم أئْتِ الذي هو خير". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
(4) - (بَاب الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4275]
(1653) - (حَدَّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ -قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا هُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِيِ صَالِحٍ، وَقَالَ عَمْرٌو: حَدَّثنا هُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي صَالِحٍ- عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ عَلَيْهِ صَاحِبُكَ"، وَقَالَ عَمْرٌو: "يُصَدِّقُكَ بِهِ صَاحِبُكَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ويقال له: عبّاد، كما في الإسناد التالي، ليّن الحديث [6].
رَوَى عن أبيه، وسعيد بن جبير، وعنه ابن جريج، وهشيم، وابن أبي ذئب، وعبد الله بن الوليد المزنيّ، وجابر بن سليم الزُّرَقيّ، وموسى بن يعقوب الزَّمَعِيّ.
قال البخاريّ عن عليّ ابن المدينيّ: ليس بشيء، وقال ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو داود: عبّاد بن أبي صالح هو عبد الله، وقال البخاريّ في "تاريخه الصغير": منكر الحديث، وقال الساجيّ، وتبعه الأزديّ: ثقة، إلا أنه رَوَى عن أبيه ما لم يتابع عليه.
(1)
"الآحاد والمثاني" 1/ 409.
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، وليس له عندهم إلا هذا الحديث، وأعاده المصنّف بعده.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي، وقبل بابين.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَمِينُكَ) مبتدأ خبره
قوله: (عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ عَلَيْهِ صَاحِبُكَ) قال القرطبيّ رحمه الله: يعني: أن يمينك التي يجوز لك أن تحلفها؛ هى التي تكون صادقة في نفسها، بحيث لو اطَّلع عليها صاحبك لعَلِمَ أنها حقّ وصدقٌ، وأن ظاهر الأمر فيها كباطنه، وسِرَّه كعَلَنِه، فيصَدّقك فيما حلفت عليه، فهذا خطاب لمن أراد أن يُقْدِم على يمين، فحقُّه أن يَعْرِض اليمين على نفسه، فإن رآها كما ذكرناه حلف إن شاء، وإلا أمسك؛ فإنَّها لا تحل له، هذا فائدة هذا اللفظ.
فأمَّا قوله: "اليمين على نيّة المستحلف" فمقصوده: أن من توجَّهت عليه يمين في حق ادُّعي عليه به؛ فحلف على ذلك لفظًا، وهو ينوي غيره، لم تنفعه نيَّته، ولا يخرج بها عن إثم تلك اليمين، ويظهر من كلام الأئمة على هذين الحديثين: أن معنى الأول مردودٌ إلى الثاني، وما ذكرته أَوْلى إن شاء الله تعالى، ويتبيَّن لك ذلك من سياق اللفظين. فتأملهما تجد ما ذكرته.
وإذا تقرر هذا؛ فاعلم: أن اليمين إما أن يتعلَّق بها حقّ لآدمي أو لا، فإن لم يتعلَّق بها حق لآدمي، وجاء صاحبها مستفتيًا، ولم يضبط بشهادة؛ فله نيّته، قال القاضي: ولا خلاف في ذلك نعلمه، وأما إن حلف لغيره في حق عليه؛ فلا خلاف أنه يُحكم عليه بظاهر يمينه إذا قامت عليه بيّنَة، سواء حلف متبرعًا، أو مُسْتَحْلفًا، وأمَّا فيما بينه وبين الله تعالى: فاختلف فيه قول مالك وأصحابه اختلافًا كثيرًا، فقيل: على نية المحلوف له. وقيل: على نية الحالف، وقيل: إن كان مستحلفًا؛ فاليمين على نيِّة المحلوف له. وإن كان متبرعًا؛ فعلى نيِّة الحالف. وهو ظاهر قول مالك، وابن القاسم. وقيل: عكسه. وقيل: تنفعه نيَّته فيما لا يقضى عليه فقط.
ورُوي عن مالك: إن كان على وجه المكر والخديعة؛ فهو آثم، وإن كان
على وجه العُذر فلا، وعكسه ابن حبيب. ذكر هذه الأقوال كلها القاضي عياض، وقال: ولا خلاف في أن الحالف بما يقتطع بها حق غيره ظالم، آثم، حانث. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث محمول على الحلف باستحلاف القاضي، فإذا ادَّعَى رجل على رجل حقًّا، فحلّفه القاضي فحلّف، ووَرَّى، فنوى غير ما نوى القاضي، انعقدت يمينه على ما نواه القاضي، ولا تنفعه التورية، وهذا مجمع عليه، ودليله هذا الحديث، والإجماع، فأما إذا حَلَف بغير استحلاف القاضي، ووَرَّى تنفعه التورية، ولا يحنث، سواء حَلَفَ ابتداءً من غير تحليف، أو حلّفه غير القاضي، وغير نائبه في ذلك، ولا اعتبار بنيّة المستحلِف غير القاضي.
وحاصله أن اليمين على نية الحالف في كل الأحوال، إلا إذا استحلفه القاضي، أو نائبه في دعوى توجهت عليه، فتكون على نية المستحلِف، وهو مراد الحديث، أما إذا حَلَف عند القاضي من غير استحلاف القاضي في دعوى، فالاعتبار بنية الحالف، وسواء في هذا كله اليمين بالله تعالى، أو بالطلاق والعتاق، إلا أنه إذا حَلَّفه القاضي بالطلاق أو بالعتاق تنفعه التورية، ويكون الاعتبار بنيّة الحالف؛ لأن القاضي ليس له التحليف بالطلاق والعتاق، وإنما يستحلف بالله تعالى.
(واعلم): أن التورية، وإن كان لا يحنث بها فلا يجوز فعلها حيث يبطل بها حقّ مستحقّ، وهذا مجمع عليه، هذا تفصيل مذهب الشافعيّ وأصحابه، ونقل القاضي عياض عن مالك وأصحابه في ذلك اختلافًا وتفصيلًا، فقال: لا خلاف بين العلماء أن الحالف من غير استحلاف، ومن غير تعلّق حقّ بيمينه له نيّته، ويُقْبَل قوله، وأما إذا حلف لغيره في حقّ أو وثيقة متبرعًا أو بقضاء عليه، فلا خلاف أنه يُحكم عليه بظاهر يمينه، سواء حلف متبرعًا باليمين، أو باستحلاف، وأما فيما بينه وبين الله تعالى، فقيل: اليمين على نية المحلوف له، وقيل: على نية الحالف، وقيل: إن كان مستحلَفًا فعلى نية المحلوف له،
(1)
"المفهم" 4/ 633 - 635.
وإن كان متبرعًا باليمين فعلى نية الحالف، وهذا قول عبد الملك وسحنون، وهو ظاهر قول مالك، وابن القاسم، وقيل: عكسه، وهي رواية يحيى عن ابن القاسم، وقيل: تنفعه نيّته فيما لا يُقْضَى به عليه، ويفترق التبرع وغيره فيما يُقْضَى به عليه، وهذا مروي عن ابن القاسم أيضًا، وحُكِي عن مالك أن ما كان من ذلك على وجه المكر والخديعة، فهو فيه آثمٌ، حانثٌ، وما كان على وجه العذر فلا بأس به، وقال ابن حبيب عن مالك: ما كان على وجه المكر والخديعة فله نيّته، وما كان في حقّ فهو على نية المحلوف له، قال القاضي: ولا خلاف في إثم الحالف بما يقع به حقّ غيره، وإن وَرَّى، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال الإمام ابن حزم رحمه الله: وأما من لزمته يمين لخصمه -وهو مبطل- فلا ينتفع بتوريته، وهو عاص لله تعالى في جحوده الحق، عاص له في استدفاع مطلب خصمه بتلك اليمين، فهو حالف يمين غموس، ولا بد، ثم أورد حديث الباب، ثم قال: ولا يكون صاحب المرء إلا من له معه أمر يجمعهما يصطحبان فيه، وليس إلا ذو الحق الذي له عليك يمين تؤديها إليه ولا بد.
وأما من لا يمين له عندك فليس صاحبك في تلك اليمين. انتهى
(2)
.
وقال الصنعانيّ رحمه الله: الحديث دليل على أن اليمين تكون على نية المحلِّف، ولا ينفع فيها نية الحالف إذا نوى بها غير ما أظهره، وظاهره الإطلاق، سواء كان المحلِّف له الحاكم، أو المدَّعِي للحقّ، والمراد حيث كان المحلف له التحليف، كما يشير إليه قوله:"على ما يصدقك به صاحبك"، فإنه يفيد أن ذلك حيث كان للمحلِّف التحليف، وهو حيث كان صادقًا فيما ادّعاه على الحالف، وأما لو كان على غير ذلك كانت النية نية الحالف، واعتبرت الشافعية أن يكون المحلِّف الحاكمَ، وإلا كانت النية نية الحالف. انتهى
(3)
.
وقال الشوكانيّ رحمه الله: في الحديث دَلِيلٌ على أَنَّ الاعْتِبَارَ بِقَصْدِ الْمُحَلِّفِ من غَيْرِ فَرْقٍ بين أَنْ يَكُونَ الْمُحَلِّفُ هو الْحَاكِمَ أو الْغَرِيمَ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 119 - 120.
(2)
"المحلّى" 5/ 849.
(3)
"سبل السلام" 4/ 102.
الْمُحَلِّفُ ظَالِمًا أو مَظْلُومًا، صَادِقًا أو كَاذِبًا، وَقِيلَ: هو مُقَيَّد بِصِدْقِ الْمُحَلَّفِ فِيمَا ادَّعَاهُ، أَمَّا لو كان كَاذِبًا كان الاعْتِبَارُ بِنِيَّةِ الْحَالِفِ، وقد ذَهَبَت الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ تَخْصِيصَ الحديث بِكَوْنِ الْمُحَلِّفِ هو الْحَاكِمَ، وَلَفْظُ:"صَاحِبِك" في الحديث يَرُدُّ عليهم، وَكَذَلِكَ ما ثَبَتَ في رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ بِلَفْظِ:"الْيَمِينُ على نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ".
ثم ذكر كلام النوويّ السابق، ثم قال: وقد حَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ الْإِجْمَاعَ على أَنَّ الْحَالِفَ من غَيْرِ اسْتِحْلافٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَعَلُّقِ حَق بِيَمِينِهِ له نِيّتهُ، وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَأَمَّا إذَا كان لِغَيْرِهِ حَق عليه فَلا خِلافَ أَنَّهُ يُحْكَمُ عليه بِظَاهِرِ يَمِينِهِ، سَوَاءٌ حَلَفَ مُتَبَرِّعًا، أو بِاسْتِحْلافٍ. انتهى مُلَخَّصًا.
قال: وإذا صَحَّ الْإِجْمَاعُ على خِلافِ ما يَقْضِي بِهِ ظَاهِرُ الحديث كان الاعْتِمَادُ عليه، قال: وُيمْكِنُ التَّمَسُّكُ لِذَلِكَ بِحَدِيثِ سُوَيْد بن حَنْظَلَةَ الآتي، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم حَكَمَ له بِالْبِرِّ في يَمِينِهِ، مع أَنَّهُ لا يَكُونُ بَارًّا إلَّا بِاعْتِبَارِ نِيَّةِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْأُخُوَّةَ الْمَجَازِيَّةَ، وَالْمُسْتَحْلِفُ له قَصْدُ الْأُخُوَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَلَعَلَّ هذا هو مُسْتَنَدُ الْإِجْمَاعِ. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يترجّح عندي أن يكون حديث الباب على إطلاقه، ويُستثنى من ذلك إذا كان يترتّب عليها نفع لمسلم، أو دفع ضرر عنه، سواء كان الحالف نفسه، أو غيره من المسلمين، فتكون على نيّة الحالف، ودليل ذلك ما أخرجه أبو داود، وابن ماجه من حديث سُويد بن حنظلة رضي الله عنه أنه قال: خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدُوّ له، فتحرّج القوم أن يحلفوا، وحَلَفت أنه أخي، فخُلِّي سبيله، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته أن القوم تحرّجوا أن يحلفوا، وحلفت أنه أخي، قال:"صدقتَ، المسلم أخو المسلم"، وهو حديث صحيح
(2)
.
فقد دلّ هذا الحديث على أن اليمين إذا ترتب عليها نفع لمسلم، أو دفع
(1)
"نيل الأوطار" 9/ 112 - 113.
(2)
حديث صحيح، أخرجه أبو داود في "سننه".
ضرر عنه، تكون على نيّة الحالف، وأما ما عدا ذلك من الأيمان فعلى نيّة المستحلِف، كما هو ظاهر إطلاق حديث الباب، وبهذا يُجمع بين الحديثين، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.
وقوله: (وَقَالَ عَمْرٌو: يُصَدِّقُكَ بِهِ صَاحِبُكَ) بيّن به اختلاف الواقع بين شيخيه: يحيى بن يحيى، وبين عمرو الناقد، فالأول قال:"على ما يُصدّقك عليه صاحبك" بـ "على"، والثاني قال:"على ما يُصدِّقك به صاحبك"، بالباء الموحّدة، ولا اختلاف في الحقيقة، فإن "على" تأتي بمعنى الباء، كما في قوله تعالى:{حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف: 105] وقد قرأ أُبيّ بالباء، ويقال: اركب على اسم الله، قاله ابن هشام الأنصاريّ رحمه الله في "مغنيه"
(1)
.
والباء أيضًا تأتي بمعنى "على"، كما قوله تعالى:{وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30)} [المطففين: 30]، بدليل قوله تعالى:{وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ} الآية [الصافات: 137]، قاله ابن هشام أيضًا
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 4275 و 4276](1653)، و (أبو داود) في "الأيمان والنذور"(3255)، و (الترمذيّ) في "الأحكام"(1354)، و (ابن ماجه) في "الكفارات"(2121)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 112)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 228)، و (الدارميّ) في "سننه"(2349)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 48 - 49)، و (ابن الأعرابيّ) في "معجمه"(4/ 19)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(4/ 157)، و (الحاكم) في "مستدركه"(4/ 336)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 65) و"المعرفة"(7/ 327) و"الصغرى"(8/ 505)، والله تعالى أعلم بالصواب.
(1)
"مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 286.
(2)
"مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 203 - 204.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4276]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ هُشَيْمِ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتحْلِفِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) بن زاذان السلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقةٌ متقنٌ عابدٌ [9](ت 206) وقد قارب التسعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 45.
والباقون ذُكروا قبله، و"عبّاد بن أبي صالح" لقب لعبد الله المذكور في السند السابق.
وقوله: (الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ) هو بمعنى الحديث الماضي: "يمينك على ما يصدّقك به صاحبك"، فمؤدّاهما واحد، فالمعنى: أن يمين الحالف تُحمل على نيّة المستحلف، وهذا إذا كان مستحقّا للتحليف، فالاعتبار بنيّته، لا بما أضمره الحالف، وأما إذا كان المستحلف ظالمًا، فإنها تكون على نيّة الحالف، كما تقدّم في حديث سويد بن حنظلة رضي الله عنه، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(5) - (بَابُ الاسْتِثْنَنَاءِ فِي الْيَمِينِ وَغَيْرِهَا)
" الاستثناء": لغة: استفعالٌ من الثَّنْي، بمعنى العطف؛ لأن المستثنَى معطوفٌ عليه بإخراجه من الحكم، أو بمعنى الصرف؛ لأنه مصروفٌ عن حكم المستثنى منه، وحقيقته اصطلاحًا: الإخراج بـ "إلا"، أو إحدى أخواتها لِمَا كان داخلًا، أو كالداخل، قاله الخُضَريّ في "حاشيته"
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: الاستثناء استفعالٌ، من ثنيتُ الشيءَ أَثْنِيه ثَنْيًا، من
(1)
راجع: "حاشية الخضريّ على شرح ابن عَقِيل على الخلاصة" 1/ 300.
باب رَمَى: إذا عطفتُه، ورددتُه، وَثَنَيْتُهُ عن مراده: إذا صرفتُهُ عنه، وعلى هذا فالاستثناء صرف العامل عن تناول المستثنى، ويكون حقيقةً في المتّصل، وفي المنفصل أيضًا؛ لأن "إلا" هي التي عدَّت الفعل إلى الاسم حتى نصبه، فكانت بمنزلة الهمزة في التعدية، والهمزةُ تُعدّي الفعلَ إلى الجنس، وغير الجنس حقيقةً وفاقًا، فكذلك ما هو بمنزلتها. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": الاستثناء: استفعالٌ من الثُّنْيا -بضمّ المثلّثة، وسكون النون، بعدها تحتانيّةٌ- ويقال لها: الثَّنْوَى أيضًا بواو بدل الياء، مع فتح أوّله، وهي من ثنيت الشيء: إذا عطفته، كان المستثنيَ عطف بعض ما ذكره؛ لأنها في الاصطلاح إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، وأدواتها "إلّا" وأخواتها، وتُطلق أيضًا على التعاليق، ومنها التعليق على المشيئة، وهو المراد في هذه الترجمة، فإذا قال: لأفعلنّ كذا، إن شاء الله تعالى، استثنى، وكذا إذا قال: لا أفعل كذا إن شاء الله، ومثله في الحكم أن يقول: إلا أن يشاء الله، أو إلا إن شاء الله، ولو أتى بالإرادة، والاختيار بدل المشيئة جاز، فلو لم يفعل إذا أثبت، أو فعل إذا نفى، لم يَحنَث، فلو قال: إلا إن غيّر الله نيّتي، أو بدّل، أو إلا أن يبدُو لي، أو يظهر، أو إلا أن أشاء، أو أريد، أو أختار، فهو استثناء، لكن يُشترط وجود المشروط. انتهى
(2)
.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4277]
(1654) - (حَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ، وَأَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ -وَاللَّفْظُ لأَبِي الرَّبِيعِ- قَالَا: حَدَّثنا حَمَّاد -وَهُوَ ابْنُ زَيْدٍ- حَدَّثنا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كانَ لِسُلَيْمَانَ سِتُّونَ امْرأَةً، فَقَالَ: لأَطُوفَنَّ عَلَيْهِنَّ اللَّيْلَةَ، فتَحْمِلُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، فتَلِدُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَ غُلَامًا فَارِسًا، يُقَاتِلُ في سَبِيلِ اللهِ، فَلَمْ تَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلَّا وَاحِدَة، فَوَلَدَتْ نِصْفَ إِنْسَانٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كَانَ اسْتَثْنَى لَوَلَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا فَارِسًا، يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ").
(1)
"المصباح المنير" 1/ 85.
(2)
"الفتح" 15/ 392، كتاب "كفّارات الأيمان" رقم (6718).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ) بن سيرين الأنصاريّ مولاهم، أبو بكر بن أبي عمرة البصريّ، ثقة ثبتٌ عابد، كبير القدر [3](ت 110)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 308.
والباقون كلهم تقدّموا في البابين السابقين، و"أبو الربيع الْعَتَكيّ " هو: سليمان بن داود الزهرانيّ، و"أيوب" هو: السختيانيّ.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَ لِسُلَيْمَانَ) بن داود عليه السلام (سِتُّونَ امْرَأَةً) كذا في هذه الرواية، وفي رواية هشام بن حُجير، عن طاوس:"لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأةً"، وفي رواية أبي الزناد، عن الأعرج:"على تسعين امرأة"، وكلها في مسلم، ووقع عند البخاريّ في رواية أبي الزناد بلفظ:"على سبعين امرأة"، فقال في "الفتح": قوله: "على سبعين امرأة" كذا هنا من رواية مغيرة، وفي رواية شعيب:"فقال: تسعين"، وقد ذكر البخاريّ ذلك عقب هذا الحديث، ورَجَّح "تسعين" بتقديم المثناة على "سبعين"، وذكر أن ابن أبي الزناد رواه كذلك، قال الحافظ: وقد رواه سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، فقال:"سبعين"، ولكن رواه مسلم، عن ابن أبي عمر، عن سفيان، فقال:"سبعين" بتقديم السين، وكذا هو في "مسند الحميديّ"، عن سفيان، وكذا أخرجه مسلم من رواية وَرْقاء، عن أبي الزناد، وأخرجه الإسماعيليّ، والنسائيّ، وابن حبان، من طريق هشام بن عروة، عن أبي الزناد، قال:"مائة امرأة"، وكذا قال طاوس، عن أبي هريرة، وكذا قال أحمد، عن عبد الرزاق، من رواية هشام بن حُجير، عن طاوس:"تسعين"، ورواه مسلم عن عبد بن حميد، عن عبد الرزاق، فقال:"سبعين"، ورواه أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة:"كان لسليمان ستون امرأة"، ورواه أحمد، وأبو عوانة، من طريق هشام، عن ابن سيرين، فقال:"مائة امرأة"، وكذا قال عمران بن خالد، عن ابن سيرين، عند ابن مردويه، ووقع عند البخاريّ في "الجهاد" من طريق جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، قال:"مائة امرأة، أو تسع وتسعون"، على الشك.
فمحصل الروايات: ستون، وسبعون، وتسعون، وتسع وتسعون ومائة، والجمع بينها أن الستين كُنّ حرائر، وما زاد عليهن كنّ سَراري، أو بالعكس وأما السبعون فللمبالغة، وأما التسعون والمائة، فكنّ دون المائة وفوق التسعين، فمن قال: تسعون ألغى الكسر، ومن قال مائة جَبَره، ومن ثم وقع التردد في رواية جعفر.
وقال في "الفتح" أيضًا في موضع آخر: وذكر أبو موسى المدينيّ في كتابه "الثمين في استثناء اليمين" أن في بعض نسخ مسلم عقب قصة سليمان: هذا الاختلاف في هذا العدد، وليس هو من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من الناقلين.
ونَقَل الكرمانيّ أنه ليس في "الصحيح" أكثر اختلافًا في العدد من هذه القصة.
قال الحافظ: وغاب عن هذا القائل حديث جابر في قدر ثمن الجمل، وقد مضى بيان الاختلاف فيه في موضعه.
وقد أجاب النووي ومن وافقه عن اختلاف هذا العدد في قصة سليمان عليه السلام بأن مفهوم العدد ليس بحجة عند الجمهور، فذِكْرُ القليل لا ينفي ذكر الكثير.
وقد تُعُقّب بأن الشافعيّ نصّ على أن مفهوم العدد حجة، وجزم بنقله عنه الشيخ أبو حامد، والماورديّ، وغيرهما، ولكن شرطه أن لا يخالفه المنطوق.
قال الحافظ: والذي يظهر مع كون مخرج الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، واختلاف الرواة عنه أن الحكم للزائد؛ لأن الجميع ثقات. انتهى
(1)
.
[فائدة]: حَكَى وهب بن مُنَبِّه في "المبتدأ" أنه كان لسليمان ألف امرأة: ثلاثمائة مُهَيرة، وسبعمائة سرية، ونحوه مما أخرج الحاكم في "المستدرك" من طريق أبي معشر، عن محمد بن كعب، قال: بلغنا أنه كان لسليمان ألف بيت من قوارير على الخشب، فيها ثلاثمائة صريحة، وسبعمائة سرية. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذه الحكاية من الإسرائيليّات التي تحتاج إلى
(1)
"الفتح" 15/ 398 - 399، كتاب "كفّارات الأيمان" رقم (6718).
(2)
"الفتح" 8/ 36 - 37، كتاب "أحاديث الأنبياء" رقم (3423).
التثبّت فيها، والذي ثبت عندنا في "الصحيحين" ما جاوز المائة، فالعمدة عليه، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.
(فَقَالَ) سليمان عليه السلام (لأَطُوفَنَّ عَلَيْهِنَّ اللَّيْلَةَ) وفي رواية: "لأُطيفنّ" قال القرطبيّ رحمه الله: كلاهما صحيح في اللغة، يقال: أطفت بالشيء، أُطيف به، وأنا مُطيف، وطُفْتُ على الشيء، وبه، أطوف، وأنا طائفٌ، كما قال تعالى:{فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ} [القلم: 19]، وأصله الدَّوَرَانُ حولَ الشيء، ومنه الطواف بالبيت، وهو في هذا الحديث كناية عن الجماع، كما جاء عن نبيّنا صلى الله عليه وسلم:"أنه كان يطوف على نسائه، وهنّ تسع، في ساعة واحدة، من ليل، أو نهار"، متّفقٌ عليه.
قال: وهذا الكلام قَسَمٌ، وإن لم يُذكر فيه مُقْسَم به؛ لأن لام "لأطوفنّ" هي الداخلة على جواب القسم، فكثيرًا ما تَحْذِف معها العربُ المُقْسَم به؛ اكتفاءً بدلالتها على المُقْسَم به، لكنها لا تدلّ على مُقْسَم به معيّن. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": اللام جواب القسم، كأنه قال مثلًا: والله لأطوفنّ، ويرشد إليه ذكر الحنث في قوله:"لم يحنث"؛ لأن ثبوته ونفيه يدلّ على سبق اليمين، وقال بعضهم: اللام ابتدائية، والمراد بعدم الحنث وقوع ما أراد، وقد مشى ابن المنذر على هذا في كتابه الكبير، فقال:"باب استحباب الاستثناء في غير اليمين لمن قال: سأفعل كذا"، وساق هذا الحديث، وجزم النوويّ بأن الذي جرى منه ليس بيمين؛ لأنه ليس في الحديث تصريح بيمين، كذا قال، وقد ثبت ذلك في بعض طرق الحديث، واختُلِف في الذي حَلَف عليه، هل هو جميع ما ذُكِر، أو دورانه على النساء فقط دون ما بعده، من الحمل، والوضع، وغيرهما؟ والثاني أوجه؛ لأنه الذي يقدر عليه، بخلاف ما بعده، فإنه ليس إليه، وإنما هو مجرد تمني حصول ما يستلزم جلب الخير له، وإلا فلو كان حلف على جميع ذلك لم يكن إلا بوحي، ولو كان بوحي لم يتخلف، ولو كان بغير وحي لزم أنه حلف على غير مقدور له، وذلك لا يليق بجنابه.
(1)
"المفهم" 4/ 635 - 636.
قال الحافظ: وما المانع من جواز ذلك، ويكون لشدّة وثوقه بحصول مقصوده، وجزم بذلك، وأَكَّد بالحلف، فقد ثبت في الحديث الصحيح:"إنّ من عباد الله، من لو أقسم على الله لأبرّه"
(1)
، متّفقٌ عليه.
(فَتَحْمِلُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُن، فتلِدُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا) قال القرطبيّ رحمه الله: الغلام هو الصغير، لكن أراد هنا الشابّ المطيق للقتال.
(فَارِسًا) قال الفيّوميّ رحمه الله: الفَارِسُ: الراكب على الحافر، فرسًا كان، أو بغلًا، أو حمارًا، قاله ابن السِّكِّيت، يقال: مرّ بنا فَارِسٌ على بغل، وفَارِسٌ على حمار، وفي "التهذيب": فَارِسٌ على الدابة بَيِّنُ الفروسية، قال الشاعر [من الطويل]:
وإني امْرُؤٌ لِلْخَيْلِ عِنْدِي مَزِيَّةٌ
…
عَلىَ فَارِسِ البِرْذَوْنِ أَو فَارِسِ البَغْل
وقال أبو زيد: لا أقول لصاحب البغل، والحمار: فَارِسٌ، ولكن أقول: بَغّالٌ، وحَمّارٌ، وجمع الفَارِسِ: فُرْسَانٌ، وفَوَارِسُ، وهو شاذّ؛ لأن فواعل إنما هو جمع فاعلة، مثل ضَارِبَةِ، وضَوَارِبَ، وصَاحِبَة وصَوَاحِبَ، أو جمع فاعل صفة لمؤنث، مثل حائِض وحَوَائِضَ، أو كان جمع ما لا يعقل، نحو جمل بَاِزلٍ وبَوَازِلَ، وحائط وحَوَائِطَ، وأما مذكرُ مَن يعقل، فقالوا: لم يأتِ فيه فَوَاعِلُ، إلّا فَوَارِسُ، وَنَواكِسُ، جمع ناكس الرأس، وهوالك، ونواكص، وسوابق، وخوالف، جمع خالف، وخالفة، وهو القاعد المتخفف، وقوم ناجعة ونواجع، وعن ابن القطان: ويُجمع الصاحب على صواحب. انتهى كلام الفيّويّ رحمه الله
(2)
، وهو بحث مفيدٌ جدًّا.
وقد أشار ابن مالك رحمه الله إلى ما ذُكر من القاعدة في "الخلاصة" حيث قال:
فَوَاعِلٌ لَفَوْعَلٍ وَفَاعَلِ
…
وَفَاعِلَاءَ مَعَ نَحْوِ كَاهِلِ
وَحَائِضٍ وَصَاهِلٍ وَفَاعِلَهْ
…
وَشَذَّ فِي الْفَارِسِ مَعْ مَا مَاثَلَهْ
(يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ)؛ أي: لإعلاء كلمة الله عز وجل، هذا قاله سليمان عليه السلام
(1)
"الفتح" 15/ 399 رقم (6718).
(2)
"المصباح المنير" 2/ 467 - 468.
على سبيل التمنّي للخير، وإنما جزم به؛ لأنه غلب عليه الرجاء؛ لكونه قصد به الخير، وأمر الآخرة، لا لغرض الدنيا، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا الكلام من سليمان عليه السلام ظاهره الجزم على أن الله يفعل ذلك الذي أراد، لكن الذي حمله على ذلك صِدْقُ نيّته في حصول الخير، وظهور الدِّين، وفعل الجهاد، وغلبة رجاء فضل الله تعالى في إسعافه بذلك، ولا يَظُنُّ به أنه قطع بذلك على الله تعالى إلا مَن جَهِل حالة الأنبياء عليهم السلام في معرفتهم بالله تعالى وبحدوده، وتأدبهم معه. انتهى
(2)
.
(فَلَمْ تَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلَّا وَاحِدَةٌ، فَوَلَدَتْ نِصْفَ إِنْسَانٍ) وفي رواية هشام بن حجير التالية: "جاء بشقّ غلام"، وفي رواية ورقاء:"فجاءت بشق رجل"، قال في "الفتح": حكى النقّاش في "تفسيره" أن الشق المذكور هو الجسد الذي أُلقي على كرسيّه، قال: وقد تقدّم قول غير واحد من المفسّرين: إن المراد بالجسد المذكور شيطان، وهو المعتمد، والنقّاش صاحب مناكير. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قال فيه: هو المعتمد لا ينبغي أن يُعتمد عليه؛ لأن قصّة الشيطان التي يحكونها فيها ما لا يخفى من تلاعب الشيطان بنبيّ الله سليمان عليه السلام، وهضم منصب النبوّة، فالأقرب ما قاله النقّاش، فتأمّل القصّة بالإمعان، والله تعالى المستعان.
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لوْ كَانَ اسْتَثْنَى)؛ أي: لو قال سليمان عليه السلام: إن شاء الله، كما نبّهه عليه صاحبه (لَوَلَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا فَارِسًا، يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ") وفي رواية هشام بن حجير التالية: "ولو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان دَرَكًا له في حاجته"، وفي رواية ورقاء الآتية:"وايم الذي نفس محمد بيده، لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فُرسانًا أجمعون".
قال في "الفتح": ولا يلزم من إخباره صلى الله عليه وسلم بذلك في حقّ سليمان عليه السلام في هذه القصة أن يقع ذلك لكل من استثنى في أمنيته، بل في الاستثناء رَجاءُ الوقوع، وفي ترك الاستثناء خشية عدم الوقوع، وبهذا يجاب عن قول موسى
(1)
"الفتح" 8/ 37 - 38، كتاب "أحاديث الأنبياء" رقم (3423).
(2)
"المفهم" 4/ 635 - 636.
(3)
"الفتح" 8/ 39.
للخضر: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} [الكهف: 69] مع قول الخضر له آخرًا: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 82]. انتهى
(1)
.
وقال في موضع آخر: وقد قيل: هو خاص بسليمان عليه السلام، وأنه لو قال في هذه الواقعة: إن شاء الله حصل مقصوده، وليس المراد أن كل من قالها وقع ما أراد، ويؤيِّد ذلك أن موسى عليه السلام قالها عندما وعد الخضر أنه يصبر عما يراه منه، ولا يسأله عنه، ومع ذلك فلم يصبر، كما أشار إلى ذلك في الحديث الصحيح:"رَحِمَ اللهُ موسى، لوددنا لو صبر حتى يَقُصَّ الله علينا من أمرهما"، وقد قالها الذبيح عليه السلام فوقع ما ذُكِر في قوله عليه السلام:{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]، فصبر حتى فداه الله بالذبح، وقد سئل بعضهم عن الفرق بين الكليم والذبيح في ذلك، فأشار إلى أن الذبيح بالغ في التواضع في قوله:{مِنَ الصَّابِرِينَ} حيث جَعَل نفسه واحدًا من جماعة، فرزقه الله الصبر.
قال الحافظ رحمه الله: وقد وقع لموسى عليه السلام أيضًا نظير ذلك مع شعيب حيث قال له: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص: 27]، فرزقه الله ذلك. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 4277 و 4278 و 4279 و 4280 و 4281 و 4282](1654)، و (البخاريّ) في "أحاديث الأنبياء"(2424) وأخرجه تعليقًا (2819) و"النكاح"(5242) و"كفّارة الأيمان"(6639 و 6720) و"التوحيد"(7469)، و (الترمذيّ) في "النذور والأيمان"(1532)، و (النسائيّ) في "الأيمان والنذور"(7/ 25 - 26) و"الكبرى"(3/ 141 و 385)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 136)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 494)، و (أحمد) في
(1)
"الفتح" 8/ 39، كتاب "أحاديث الأنبياء" رقم (3423).
(2)
"الفتح" 15/ 400، كتاب "كفّارت الأيمان" رقم (6718).
"مسنده"(2/ 229 و 275 و 506)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4337 و 4338)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 230)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 52 - 53)، و (ابن الأعرابيّ) في "معجمه"(4/ 336)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(4/ 287)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 44) و"المعرفة"(7/ 314)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(79)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن من حلف، فقال في حلفه: إن شاء الله فقد استثنى، فله استثناؤه.
2 -
(ومنها): أنه إذا حلف رجل، ولم يستثن، فقال له آخرُ، مذكّرًا: قل: إن شاء الله، فقال ذلك، هل يكون ذلك استثناء صحيحًا، أم لا؟، والظاهر نعم.
3 -
(ومنها): أن فيه فضل فعل الخير، وتعاطي أسبابه، وأن كثيرًا من المباح، والملاذّ يصير مستحبًّا بالنيّة والقصد.
4 -
(ومنها): استحباب الاستثناء لمن قال: سأفعل كذا، وأن إتباع المشيئة اليمين يرفع حكمها، وهو متّفق عليه بشرط الاتّصال.
5 -
(ومنها): أن الاستثناء لا يكون إلا باللفظ، ولا تكفي فيه النيّة، وهو اتّفاق، إلا ما حُكي عن بعض المالكيّة.
6 -
(ومنها): ما خُصّ به الأنبياء عليهم السلام من القوّة على الجماع الدّالّ ذلك على صحّة البِنْية، وقوّة الفُحُوليّة، وكمال الرجوليّة، مع ما هم فيه من الاشتغال بالعبادة والعلوم، وقد وقع لنبيّنا صلى الله عليه وسلم من ذلك أبلغ المعجزة؛ لأنه مع اشتغاله بعبادة ربّه، وعلومه، ومعالجة الخلق، كان متقلّلًا من المآكل، والمشارب المقتضية لضعف البدن على كثرة الجماع، ومع ذلك فكان يطوف على نسائه في ليلة بغسل واحد، وهنّ إحدى عشرة امرأة، وقد تقدّم هذا في "كتاب الغسل". ويقال: إن كلّ من كان أتقى لله، فشهوته أشدّ؛ لأن الذي لا يتّقي يتفرّج بالنظر، ونحوه.
7 -
(ومنها): ما قاله بعض السلف: نبّه النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث على آفة التمنّي، والإعراض عن التفويض، قال: ولذلك نسي الاستثناء؛ ليمضي فيه القدر.
8 -
(ومنها): جواز الإخبار عن الشيء، ووقوعه في المستقبل، بناءً على غلبة الظنّ، فإن سليمان عليه السلام جزم بما قال، ولم يكن ذلك عن وحيٍ، وإلا لوقع، كما قيل.
وقال القرطبيّ رحمه الله: لا يَظُنُّ بسليمان عليه السلام أنه قطع بذلك على ربّه، إلا من جهِلَ حالَ الأنبياء، وأدبهم مع الله تعالى.
وقال ابن الجوزيّ رحمه الله: [فإن قيل]: من أين لسليمان عليه السلام أن يُخلَق من مائه هذا العدد في ليلة؟ لا جائز أن يكون بوحيٍ؛ لأنه ما وقع، ولا جائز أن يكون الأمر في ذلك إليه؛ لأن الإرادة لله.
[والجواب]: أنه من جنس التمنّي على الله، والسؤال له أن يفعل، والقسمِ عليه، كقول أنس بن النضر رضي الله عنه:"والله لا تكسر سنّها".
ويَحْتَمِل أن يكون لَمّا أجاب الله دعوته أن يهب له ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، كان هذا عنده من جملة ذلك، فجزم به، وأقرب الاحتمالات ما ذكرته أوّلًا، وبالله التوفيق.
قال الحافظ رحمه الله: ويَحْتَمِل أن يكون أُوحي إليه بذلك مقيّدًا بشرط الاستثناء، فنسي الاستثناء، فلم يقع ذلك؛ لفقدان الشرط، ومن ثَمّ ساغ له أوّلًا أن يحلف، وأبعد من استدلّ به على جواز الحلف على غلبة الظنّ. انتهى
(1)
.
9 -
(ومنها): جواز السهو على الأنبياء عليهم السلام وأن ذلك لا يقدَح في علوّ منصبهم.
10 -
(ومنها): جواز الإخبار عن الشيء أنه سيقع، ومُستَنَدُ المخبِرِ الظنّ، مع وجود القرينة القويّة لذلك.
11 -
(ومنها): جواز إضمار المقسم به في اليمين؛ لقوله: "لأطوفنّ"، مع قوله عليه السلام:"لم يَحنث"، فدلّ على أن اسم الله فيه مقدّرٌ، فإن قال أحدٌ بجواز ذلك، فالحديث حجة له، بناء على أن شرع من قبلنا شرعٌ لنا، إذا ورد على لسان الشارع، وإن وقع الاتّفاق على عدم الجواز، فيحتاج إلى تأويله،
(1)
"الفتح" 8/ 40، رقم (3423).
كأن يقال: لعلّ التلفّظ باسم الله وقع في الأصل، وإن لم يقع في الحكاية، وذلك ليس بممتنع، فإن من قال: والله لأطوفنّ، يصدُقُ أنه قال: لأطوفنّ، فإن اللافظ بالمركّب لافظٌ بالمفرد.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا قال في "الفتح"، أما قوله: "فإن قال أحدٌ بجواز ذلك
…
إلخ" فعجيب منه، فإنه ذكر في الفائدة التالية ما نصّه:
12 -
(ومنها): أنه احتجّ به من قال: لا يُشترط التصريح بمقسَم به معيّن، فمن قال: أحلف، أو أشهد، ونحو ذلك، فهو يمين، وهو قول الحنفيّة، وقيّده المالكيّة بالنيّة. وقال بعض الشافعيّة: ليست بيمين مطلقًا. انتهى.
فكيف يقول: "إن قال أحد بجواز ذلك"، مع أنه نسبه إلى الحنفيّة والمالكيّة في كلامه هذا؟، فتأمّل.
ونصّ القرطبيّ رحمه الله في "المفهم": هذا الكلامُ قَسَمٌ، وإن لم يُذكر فيه مُقْسَمٌ به؛ لأن لام "لأطوفنّ" هي التي تدخل على جواب القسم، فكثيرًا ما تَحذف معها العرب المقسَم به اكتفاء بدلالتها على المقسم به، لكنها لا تدلّ على مقسم به معيّن، وعلى هذا، ففيه من الفقه ما يدلّ على أن من قال: أحلف، أو أشهد، أو ما أشبه ذلك، مما يُفيد القسم، ونوى بذلك الحلف بالله تعالى، كانت يمينًا جائزةً، منعقدةً، وهو مذهب مالك، وقد قال الشافعيّ: لا تكون يمينًا بالله تعالى؛ حتّى يتلفّظ بالمقسم به، وقال أبو حنيفة: هي يمين أراد بها اليمين بالله تعالى، أم لا، وكأن الأَولى ما صار إليه مالك؛ لأن ذلك اللفظ صالحٌ وضعًا للقسم بالله تعالى، فإذا أراده الحالف لزمه كسائر الألفاظ المقيّدة بالمقاصد من العمومات، والمطلقات، وغير ذلك، وأما إذا لم يرد باللفظ القسم، أو القسم بغير الله تعالى
(1)
، فلا يلزمه شيء؛ لأن الأول لا يكون يمينًا، والثاني غير جائز، ولا منعقِد، فلا يلزم به حكم على ما تقدّم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
(1)
هكذا وقع في نسخة "المفهم"، والظاهر أن صواب العبارة:"أو أراد القسم بغير الله تعالى"، بزيادة لفظة "أراد"، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.
(2)
"المفهم" 4/ 635.
وأما مسألة شرعُ من قبلنا شرعٌ لنا، فقد تقدّم في عدّة مواضع أنه الصواب، وأنه مذهب المصنّف، والبخاريّ، والنسائيّ، وغيرهم، من أهل الحديث، فإنهم يبوّبون في كتبهم بشيء، ثم يوردون دليلًا عليه مما ذكره النبيّ صلى الله عليه وسلم للأنبياء السابقين، أو لأُممهم، مثل ما فعل المصنّف هنا، وكذا البخاريّ.
والحاصل أن شريعة من قبلنا شرعٌ لنا بشروط مذكورة في غير هذا المحلّ، والله تعالى أعلم.
13 -
(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليلٌ على جواز "لو"، و"لولا" بعد وقوع المقدور، وقد وقع من ذلك مواضع كثيرةٌ في الكتاب والسُّنَّة، وكلام السلف، كقوله تعالى:{لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80]، وكقوله {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} [الفتح: 25]: وكقوله صلى الله عليه وسلم: "لولا حوّاءُ لم تخُن أنثى زوجها الدهر، ولولا بنو إسرائيل لم يخبُث الطعام، ولم يَخنَز اللحم"، متفقٌ عليه.
فأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقولنّ أحدكم: "لو"، فإن "لو" تفتح عمل الشيطان"، رواه مسلم، فمحمولٌ على من يقول ذلك مُعْتَمِدًا على الأسباب، مُعرضًا عن المقدور، أو متضجّرًا منه، كما حكاه الله تعالى من قول المنافقين، حيث قالوا:{لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران: 168] ثم ردّ الله قولهم، وبيّن لهم عجزهم، فقال:{قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 168] ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في ذلك الحديث: "المؤمن القويّ خيرٌ، وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلّ خيرٌ، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، ولا تقل: لو كان كذا لكان كذا، فإن "لو" تفتح عمل الشيطان، قل: ما شاء الله كان، وما شاء فعل"، فالواجب عند وقوع المقدور التسليم لأمر الله، وترك الاعتراض على الله، والإعراض عن الالتفات إلى ما فات، فيجوز النطق بـ "لو" عند السلامة من تلك الآفات. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: فيه جواز قول "لو"، و"لولا"، قال القاضي عياض:
(1)
"المفهم" 4/ 638 - 639.
هذا يُسْتَدّل به على جواز قول "لو"، و"لولا"، قال: وقد جاء في القرآن كثيرًا، وفي كلام الصحابة، والسلف، وترجم البخاريّ على هذا "بابُ ما يجوز من اللو"، وأدخل فيه قول لوط عليه السلام:{لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} ، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لو كنت راجمًا بغير بيّنة لرجمت هذه"، و"لو مُدّ لي الشهر لواصلت"، و"لولا حِدْثان قومك بالكفر لأتممت البيت على قواعد إبراهيم"، و"لولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار"، وأمثال هذا، قال: والذي ينفهم من ترجمة البخاريّ، وما ذكره في الباب من القرآن والآثار، أنه يجوز استعمال "لو"، و"لولا" فيما يكون للاستقبال، مما امتُنِعَ من فعله لامتناع غيره، وهو من باب الممتنَع من فعله؛ لوجود غيره، وهو من باب "لولا"؛ لأنه لم يُدخِل في الباب سوى ما هو للاستقبال، أو ما هو حقّ صحيحٌ متيقنٌ؛ كحديث:"لولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار"، دون الماضي والمنقضي، أو ما فيه اعتراض على الغيب، والقدر السابق.
وقد ثبت في الحديث الآخر في "صحيح مسلم" قوله صلى الله عليه وسلم: "وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قَدَّرَ اللهُ، وما شاء فَعَلَ"، قال القاضي: قال بعض العلماء: هذا إذا قاله على جهة الحتم والقطع بالغيب أنه لو كان كذا لكان كذا، من غير ذكر مشيئة الله تعالى، والنظر إلى سابق قدره، وخَفِيَ علمُهُ علينا، فأما من قاله على التسليم، وردّ الأمر إلى المشيئة، فلا كراهة فيه.
قال القاضي: وأشار بعضهم إلى أن "لولا" بخلاف "لو"، قال القاضي: والذي عندي أنهما سواء، إذا استُعملتا فيما لم يُحِط به الإنسان علمًا، ولا هو داخل تحت مقدور قائلهما، مما هو تحكّم على الغيب، واعتراض علي القدر، كما نبّه عليه في الحديث، ومِثلُ قول المنافقين:{لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} ، {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران: 156]، و {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران: 154]، فرَدَّ الله تعالى عليهم باطلهم، فقال:{فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 168]، فمثل هذا هو الْمَنْهِيّ عنه، وأما هذا الحديث الذي نحن فيه، فإنما أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه عن يقين نفسه، أن سليمان عليه السلام لو قال: إن شاء الله لجاهدوا؛ إذ ليس هذا مما يُدْرَك بالظنّ
والاجتهاد، وإنما أخبر عن حقيقةٍ أعلمَهُ الله تعالى بها، وهو نحو قوله صلى الله عليه وسلم:"لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم، ولولا حواء لم تخن امرأة زوجها"، فلا معارضة بين هذا، وبين حديث النهي عن "لو"، وقد قال الله تعالى:{قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154]، {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28]، وكذلك ما جاء من "لولا"، كقوله تعالى:{لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ} [الأنفال: 68]، {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا} [الزخرف: 33]، {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ} [الصافات: 143 - 144]؛ لأن الله تعالى مخبر في كل ذلك عما مضى، أو يأتي عن علم خبرًا قطعيًّا، وكل ما يكون من "لو"، و"لولا" مما يخبر به الإنسان عن علة امتناعه من فعله، مما يكون فعله في قدرته، فلا كراهة فيه؛ لأنه إخبار حقيقة عن امتناع شيء؛ لسبب شيء، وحصول شيء؛ لامتناع شيء.
وتأتي "لو" غالبًا لبيان السبب الموجب، أو النافي، فلا كراهة في كل ما كان من هذا، إلا أن يكون كاذبًا في ذلك، كقول المنافقين:{لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ} [آل عمران: 167]، والله أعلم. انتهى
(1)
.
14 -
(ومنها): جواز استعمال الكناية في اللفظ الذي يُستقبح ذكره؛ لقوله عليه السلام: "لأطوفنّ"، بدل قوله: لأُجامعنّ
(2)
.
15 -
(ومنها): أنه استَدَلّ بهذا الحديث من قال: إن الاستثناء إذا عَقَبَ اليمينَ، ولو تخلّل بينهما شيء يسير لا يضرّ، فإن الحديث دلّ على أن سليمان عليه السلام لو قال: إن شاء الله عقب قول صاحبه له: قل: إن شاء الله لأفاد، مع التخلّل بين كلاميه بمقدار قول الصاحب.
وأجاب القرطبيّ باحتمال أن يكون الملَك قال ذلك في أثناء كلام سليمان عليه السلام، قال الحافظ: وهو احتمال ممكن يسقط به الاستدلال المذكور. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما دلّ عليه ظاهر الحديث كافٍ
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 121 - 123.
(2)
"الفتح" 8/ 41 رقم (3423).
(3)
"الفتح" 8/ 40 رقم (3423).
للتمسّك به، فإنه يدلّ على أن الملك ذكّر سليمان عليه السلام، بعد سماعه كلامه، وتأكّده من عدم استثنائه، فاحتمال أنه ذكّره في أثناء كلامه بعيدٌ جدًّا؛ لأنه لا يَدْري هل يستثني بعد كلامه، أم لا؟، فلما تحقّق لديه أنه ما استثنى مع حاجته إلى الاستثناء ذكّره.
والحاصل أن الاحتمال الذي ذكره القرطبيّ بعيدٌ، فلا يسقط الاستدلال المذكور، فتأمّل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الاستثناء في اليمين: قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: في هذا الحديث دليل على أن اليمين إذا قُرن بها "إن شاء الله" لفظًا منويًّا، لم يلزم الوفاء بها، ولا يقع الحنث فيها، ولا خلاف في ذلك، واختلفوا فيما إذا وقع الاستثناء منفصلًا عن اليمين، فالجمهور على أنه لا ينفع الاستثناء حتى يكون متّصلا به، منويًّا معه، أو مع آخر حرف من حروفه، وإليه ذهب مالكٌ، والشافعيّ، والأوزاعيّ، والجمهور، وقد اتّفق مالكٌ، والشافعيّ على أن السُّعال، والعطاس، وما أشبه ذلك لا يكون قاطعًا إذا كان ناويًا له، وقال بعض المالكيّة: لا ينفع الاستثناء إلا أن ينويه قبل نطقه بجميع حروف اليمين، وعند هؤلاء أن السكوت المختار الذي يقطع به كلامه، أو يأخذ في غيره لا ينفع معه الاستثناء.
وكان الحسن، وطاوس، وجماعة من التابعين يرون للحالف الاستثناء ما لم يقم من مجلسه. وقال قتادة: ما لم يقم، أو يتكلّم. وعن عطاء: قدر حَلْبة ناقة. وعن سعيد بن جُبير: بعد أربعة أشهر. وروي عن ابن عبّاس: بعد سنة. وقد أُنكرت هذه الرواية عنه، وضُعّفت، وتأوّلها بعضهم بأن له أن يستثني امتثالًا لأمر الله تعالى:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} الآية [الكهف: 23 - 24] لا لحلّ اليمين.
وإلى هذه الاختلافات أشار السيوطي رحمه الله في "الكوكب الساطع" في "مبحث التخصيص"، حيث قال:
فَمِنْهَا الاسْتِثْنَاءُ الاخْرَاجُ بِمَا
…
يُفِيدُهُ مِنْ وَاحِدٍ تَكَلَّمَا
وَقِيلَ مُطْلَقًا وَوَصْلُهُ وَجَبْ
…
عُرْفًا وَللْفَصْلِ ابْنُ عَبَّاسِ ذَهَبْ
قِيلَ لِشَهْرٍ وَلعَامٍ وَالأَبَدْ
…
وَسَنَتَيْنِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَرَدْ
وَابْنُ جُبَيْرٍ ثُلْثَ عَامٍ يَأْتَسِي
…
وَعَنْ عَطَا وَحَسَنٍ فِي الْمَجْلِسِ
وَقِيلَ قَبْلَ الأَخْذِ فِي كَلَامِ
…
وَقِيلَ إِنْ يَقْصِدْهُ فِي الْكَلَامِ
وَقِيلَ فِي كَلَامِهِ جَل فَقَطْ
…
وَالْقَصْدَ مَنْ رَأَى اتِّصَالَهُ شَرَطْ
قال القرطبيّ: والصحيح الأول، إن شاء الله؛ لأنه لو لم يُشتَرط الاتصال لَمَا انعقد يمين، ولا تُصُوّر عليها ندم، ولا حِنْث، ولا احتيج للكفّارة فيها، وكلّ ذلك حاصل بالاتّفاق، فاشتراط الاتصال صحيح.
وقد احتجّ من قال بفصل الاستثناء بقصّة سليمان عليه السلام المذكور في الباب، فإن سليمان عليه السلام لَمّا حلف، قال له صاحبه: قل: إن شاء الله، ووجه الاستدلال به أنه إنما عرض عليه الاستثناء بعد فراغه من اليمين، فلو قالها بعد فراغ قول صاحبه لكان قولها غير متّصل باليمين، ومع ذلك فلو قالها لكانت تنفع، ولم يَحنَث، كما قال صلى الله عليه وسلم:"لو قال: إن شاء الله لم يحنث".
وأجاب المشترطون للاتّصال بمنع أنه قاله بعد فراغه من اليمين، بل لعلّه قال ذلك في أضعاف يمينه؛ لأن يمينه كثرت كلماتها، فطالت، وليس ذلك الاحتمال بأولى من هذا، فلا حجة فيه، لا له، ولا عليه.
قال الجامع عفا الله عنه: قد عرفت بما أسلفته لك من تعقّب كلام القرطبيّ هذا، فلا تغفل، والله تعالى وليّ التوفيق.
قال: واحتجّوا أيضًا بما رواه أبو داود عن عكرمة مولى ابن عبّاس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والله لأغزونّ قريشًا، والله لأغزونّ قريشًا، والله لأغزونّ قريشًا"، ثم قال:"إن شاء الله"، وفي رواية: ثم سكت، ثم قال:"إن شاء الله".
قال أبو داود: زاد الوليد بن مسلم، عن شريك:"ثم لم يغزهم".
لكن الحديث مرسل، وقد أُسند من حديث عبد الواحد بن صفوان، وليس حديثه بشيء، على ما قاله أهل الحديث، والمرسل هو الصحيح.
قال القرطبيّ: وهذا الحديث حجة ظاهرةٌ على جواز الفصل بالسكوت اليسير، وأن ذلك القدر ليس بقاطع؛ لأن الحال شاهدة على الاتصال، لكن عند من يقبل المرسل، ويحتمل أن يكون ذلك السكوت عن غلبة نَفَسٍ خارجٍ، أو أمر طارئ، وفيه بُعْدٌ.
قال القرطبيّ: ثم اختلف العلماء في الاستثناء بمشيئة الله تعالى، هل يرفع حكم الطلاق، والْعَتَاق، والمشي لمكة، وغيرها من الأيمان بغير الله تعالى، أم لا؟ فذهب مالكٌ، والأوزاعيّ إلى أن ذلك لا يرفع شيئًا من ذلك، وذهب الكوفيّون، والشافعيّ، وأبو ثور، وبعض السلف إلى أنه يرفع ذلك كله، وقَصَر الحسن الرفع على العتق، والطلاق خاصّة.
وسبب الخلاف اختلافهم في معنى قوله صلى الله عليه وسلم في حديث: "من حلف على يمين، فاستثنى، فإن شاء مضى، وإن شاء ترك"، وهو حديث صحيح
(1)
، فحمل مالكٌ، ومن قال بقوله الحديث على اليمين الجائزة، وهي اليمين بأسماء الله وصفاته، بناءً على أنه هو المقصود الأصليّ، واليمين العرفيّ، وحمله المخالف على العموم في كلّ ما يمكن أن يقال عليه يمين.
قال القرطبيّ: والصحيح الأول؛ لِمَا قدّمناه من أن هذا النوع الذي قد أطلق عليه الفقهاء يمينًا، لا يُسمّى يمينًا، لا لغةً، ولا شرعًا؛ إذ ليس من ألفاظها اللغويّة، ولا من معانيها الشرعيّة، كما بيّنّاه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله، والله تعالى أعلم ..
وقال في "الفتح": واتفق العلماء، كما حكاه ابن المنذر على أن شرط الحكم بالاستثناء أن يتلفّظ المستثنى به، وأنه لا يكفي القصد إليه بغير لفظ، وذكر عياضٌ أن بعض المتأخرين منهم خرّج من قول مالك: إن اليمين تنعقد بالنيّة أن الاستثناء يجزئ بالنيّة، لكن نقل في "التهذيب" أن مالكًا نصّ على اشتراط التلفّظ باليمين، وأجاب الباجيّ بالفرق بأن اليمين عقدٌ، والاستثناء حَلّ، والعقد أبلغ من الحلّ، فلا يلتحق باليمين.
قال ابن المنذر: واختلفوا في وقته، فالأكثر على أنه يشترط أن يتّصل بالحلف، قال مالك: إذا سكت، أو قطع كلامه فلا ثُنيا. وقال الشافعيّ: يُشترط وصل الاستثناء بالكلام الأول، ووصْلُه أن يكون نَسَقًا، فإن كان بينهما سكوت انقطع، إلا إن كانت سكتة تذكّر، أو تنفّس، أو عِيّ، أو انقطاع
(1)
حديث صحيح، أخرجه أحمد، وأصحاب السنن عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا بإسناد صحيح.
صوت، وكذا يقطعه الأخذ في كلام آخر. ولخّصه ابن الحاجب، فقال: شرطه الاتّصال لفظًا، أو فيما في حكمه، كقطعه لتنفّس، أو سُعال، ونحوه، مما لا يمنع الاتصال عرفًا، واختُلف: هل يقطعه ما يقطع القبول عن الإيجاب؟ على وجهين للشافعيّة، أصحّهما أنه ينقطع بالكلام اليسير الأجنبيّ، وإن لم ينقطع به الإيجاب والقبول، وفي وجه لو تخلّل "أستغفر الله" لم ينقطع، وتوقّف فيه النوويّ، ونصّ الشافعيّ يؤيّده، حيث قال: تذكر فإنه من صور الذِّكر عرفًا، ويلتحق به لا إله إلا الله، ونحوها. وعن طاوس، والحسن: له أن يستثني ما دام في المجلس. وعن أحمد نحوه، وقال: ما دام في ذلك الأمر. وعن إسحاق مثله، وقال: إلا أن يقع سكوت. وعن قتادة: إذا استثنى قبل أن يقوم، أو يتكلّم. وعن عطاء: قدر حلب ناقة. وعن سعيد بن جبير: إلى أربعة أشهر. وعن مجاهد: بعد سنتين. وعن ابن عبّاس أقوال: منها: ولو بعد حين. وعنه كقول سعيد. وعنه: شهر. وعنه: سنة. وعنه: أبدًا. قال أبو عُبيد: وهذا لا يؤخذ على ظاهره؛ لأنه يلزم منه أن لا يحنث أحدٌ في يمينه، وأن لا تتصوّر الكفارة التي أوجبها الله تعالى على الحالف، قال: ولكن وجه الخبر سقوط الإثم عن الحالف لتركه الاستثناء؛ لأنه مأمور به في قوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ، فقال ابن عبّاس: إذا نسي أن يقول: إن شاء الله يستدركه، ولم يُرد أن الحالف إذا قال ذلك بعد أن انقضى كلامه أن ما عقده باليمين ينحلّ.
وحاصله حمل الاستثناء المنقول عنه على لفظ إن شاء الله فقط، وحمل إن شاء الله على التبرّك، وعلى ذلك حمل الحديث المرفوع الذي أخرجه أبو داود وغيره، موصولًا، ومرسلًا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لأغزونّ قريشًا"، ثلاثًا، ثم سكت، ثم قال:"إن شاء الله"، أو على السكوت لتنفّس، أو نحوه. وكذا ما أخرجه ابن إسحاق في سؤال من سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن قصّة أصحاب الكهف:"غدًا أجيبكم"، فتأخّر الوحي، فنزلت:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ، فقال: إن شاء الله، مع أن هذا لم يرد هكذا من وجه ثابت.
ومن الأدلة على اشتراط اتصال الاستثناء بالكلام قوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف
على يمين، فرأى غيرها خيرًا منها، فليكفّر عن يمينه، وليات الذي هو خير". فإنه لو كان الاستثناء يفيد بعد قطع الكلام لقال: فليستثن؛ لأنه أسهل من التكفير، وكذا قوله تعالى:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44]، فإن قوله: استثن أسهل من التحيّل لحلّ اليمين بالضرب، وللزم بطلان الإقرارات، والطلاق، والعتق، فيستثني من أقرّ، أو طلّق، أو أعتق بعد زمان، ويرتفع حكم ذلك، فالأولى تأويل ما نُقل عن ابن عبّاس وغيره من السلف في ذلك.
وإذا تقرّر ذلك، فقد اختُلِفَ: هل يُشترط قصد الاستثناء من أول الكلام، أو لا، حَكَى الرافعيّ فيه وجهين، ونُقل عن أبي بكر الفارسيّ أنه نقل الإجماع على اشتراط وقوعه قبل فراغ الكلام، وعلّله بأن الاستثناء بعد الانفصال ينشأ بعد وقوع الطلاق مثلًا، وهو واضحٌ، ونقله معارض بما نقله ابن حزم أنه لو وقع متّصلًا به كفى، واستدلّ بحديث ابن عمر رضي الله عنهما رفعه:"من حلف، فقال: إن شاء الله، لم يحنث"، واحتجّ بأنه عقّب الحلف بالاستثناء باللفظ، وحينئذ يتحصّل ثلاث صور: أن يقصد من أوله، أو من أثنائه، ولو قبل فراغه، أو بعد تمامه، فيختصّ نقلُ الإجماع بانه لا يفيد في الثالث، وأبعدَ من فَهِم أنه لا يفيد في الثاني أيضًا، والمراد بالإجماع المذكور إجماع من قال: يُشترط الاتصال، وإلا فالخلاف ثابتٌ، كما تقدّم، والله أعلم.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: دعوى الإجماع هنا، لا وجه له، كما يظهر لمن تتبّع الأقوال في هذه المسألة، إلا أن يدّعى لأهل مذهب معيّن أنهم أجمعوا على ذلك، فليُتأمل، والله تعالى أعلم.
وقال ابن العربيّ: قال بعض علمائنا: يشترط الاستثناء قبل تمام اليمين، قال: والذي أقول: إنه لو نوى الاستثناء مع اليمين لم يكن يمينًا، ولا استثناء، وإنما حقيقة الاستثناء أن يقع بعد عقد اليمين، فيحلّها الاستثناء المتّصل باليمين. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي الذي قاله ابن العربيّ رحمه الله هو الأشبه مما ادّعاه مَن سبق قوله مِن الإجماع على خلافه. فتنبّه، والله تعالى أعلم.
واتّفقوا على أن من قال: لا أفعل كذا إن شاء الله، إذا قصد به التبرّك فقط، ففعل يحنث، وإن قصد به الاستثناء، فلا حنث عليه.
واختلفوا إذا أطلق، أو قدّم الاستثناء على الحلف، أو أخّره، هل يفترق الحكم؟، وقد تقدّم في الطلاق.
واتّفقوا على دخول الاستثناء في كل ما يُحلَف به، إلا الأوزاعيّ، فقال: لا يدخل في الطلاق، والعتق، والمشي إلى بيت الله، وكذا جاء عن طاوس، وعن مالك مثله، وعنه إلا المشي. وقال الحسن، وقتادة، وابن أبي ليلى، والليث: يدخل في الجميع، إلا الطلاق. وعن أحمد: يدخل الجميع إلا العتق. واحتجّ بتشوّف الشارع له. وورد فيه حديث عن معاذ رضي الله عنه رفعه: "إذا قال لامرأته: أنت طالقٌ إن شاء الله، لم تطلق، وإن قال لعبده: أنت حرّ، إن شاء الله، فإنه حرّ"، قال البيهقيّ: تفرّد به حميد بن مالك، وهو مجهول، واختُلف عليه في إسناده.
واحتَجّ من قال: لا يدخل في الطلاق بأنه لا تحلّه الكفّارة، وهي أغلظ على الحالف من النطق بالاستثناء، فلمّا لم يحلّه الأقوى، لم يحلّه الأضعف.
وقال ابن العربيّ: الاستثناء أخو الكفّارة، وقد قال الله تعالى:{ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]، فلا يدخل في ذلك إلا اليمين الشرعيّة، وهي الحلف بالله. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما قاله ابن العربيّ رحمه الله من أن الاستثناء لا يدخل إلا اليمين الشرعية، وهي الحلف بالله أو بصفة من صفاته هو الأقرب؛ لِمَا ذكره.
والحاصل أن الاستثناء في اليمين ينفع إذا كان متّصلًا اتصالًا عرفيًّا، فلا يضرّه الانقطاع الضروريّ، كالسعال، والعطاس، ونحو ذلك، كما هو مذهب مالك والشافعيّ، وغيرهما، وهذا هو الذي يدلّ عليه ظاهر حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا:"من حلف، فقال: إن شاء الله، لم يحنث"، وهو حديث صحيح، كما أسلفته، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4278]
(
…
) - (وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ أَبِي عُمَرَ- قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حُجَيْرٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ نَبِيُّ اللهِ: لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً، كُلُّهُنَّ تَأْتِي بِغُلَامٍ، يُقَاتِلُ في سَبِيلِ اللهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ، أَو الْمَلَكُ: قُلْ: إِنْ شَاءَ اللهُ، فَلَمْ يَقُلْ، وَنَسِيَ، فَلَمْ تَأْتِ وَاحِدَةٌ مِنْ نِسَائِهِ، إِلَّا وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ غُلَامٍ"، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَلَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ، لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ دَرَكًا لَهُ في حَاجَتِهِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ) بن الزِّبْرِقَان المكيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ يَهِمُ [10](ت 234)(خ م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.
2 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعدنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قبل باب.
3 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة الإمام الشهير، تقدّم أيضًا قبل باب.
4 -
(هِشَامُ بْنُ حُجَيْرٍ) -مصغّرًا- المكيّ، صدوقٌ، له أوهامٌ [6](خ م س) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.
5 -
(طَاوُسُ) بن كيسان الْحِميريّ مولاهم، أبو عبد الرحمن اليمانيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ [3](ت 106) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
و"أبو هريرة رضي الله عنه" ذكر قبله.
ووقوله: (عَنْ هِشَام بْنِ حُجَيْرٍ) وفع في رواية الحميديّ، عن سفيان بن عيينة:"حدّثنا هشام بن حُجَير".
وقوله: (كُلُّهُنَّ تَأْتِي بِغُلَامٍ) فيه حذف تقديره: فحملت، فتأتي بغلام؛ أي: تلد غلامًا، وكذا في قوله:"يقاتل" تقديره: فينشأ، فيتعلّم الفروسيّة، فيقاتل، وساغ الحذف؛ لأن كلّ فعل منها مسبَّب عما قبله، وسبب السبب سبب، أفاده في "الفتح"
(1)
.
(1)
"الفتح" 15/ 399 رقم (6718).
وقوله: (فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ، أَوِ الْمَلَكُ) كذا في هذه الرواية بالشكّ، وفي رواية البخاريّ:"فقال له صاحبه، قال سفيان: يعني الملك"، وفي رواية للبخاريّ، في "النكاح"، من طريق معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه:"فقال له الملك"، بالجزم.
وقال في "الفتح" -عند قول سفيان: يعني الملك-: وفي هذا إشعار بأن تفسير صاحبه بالملك ليس بمرفوع، لكن في "مسند الحميديّ" عن سفيان:"فقال له صاحبه، أو الملك- بالشك"، ومثلها لمسلم، وفي الجملة ففيه ردٌّ على من فسَّر صاحبه بأنه الذي عنده علم من الكتاب، وهو آصِف- بالمدّ، وكسر المهملة، بعدها فاء -ابن برخيا- بفتح الموحدة، وسكون الراء، وكسر المعجمة، بعدها تحتانية-.
وقال القرطبيّ: قوله: "فقال له صاحبه، أو الملك" هذا شكّ من أحد الرواة في الذي قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم منهما، فإن كان صاحبه فيعني به وزيره من الإنس، أو الجنّ، وإن كان الملك فهو الذي كان يأتيه بالوحي، قال: وقد أبعد من قال: المراد به خاطره. انتهى.
وقال النوويّ: قيل: المراد بصاحبه الملك، وهو الظاهر من لفظه، وقيل: القرين، وقيل: صاحب له آدمي.
قال الحافظ: ليس بين قوله: صاحبه والملك منافاة، إلا أن لفظة صاحبه أعمّ، فمن ثم نشأ لهم الاحتمال، ولكن الشك لا يؤثر في الجزم، فمن جزم بأنه الملك حجة على من لم يجزم. انتهى
(1)
.
وقوله: (قُلْ: إِنْ شَاءَ اللهُ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا تذكير له بأن يقول بلسانه، لا أنه غفل عن التفويض إلى الله تعالى بقلبه؛ فإن ذلك بعيدٌ على الأنبياء عليهم السلام وغير لائق بمناصبهم الرفيعة، ومعارفهم المتوالية، وإنَّما هذا كما قد اتفق لنبينا صلى الله عليه وسلم لمّا سئل عن الرُّوح، والخضر، وذي القرنين؛ فوعدهم بأن يأتي بالجواب غدًا، جازمًا بما عنده من معرفته بالله تعالى، وصدقِ وعده في تصديقه، وإظهار كلمته، لكنه ذَهِل عن النطق بكلمة:"إن شاء الله"، لا عن
(1)
"الفتح" 8/ 38، كتاب "أحاديث الأنبياء" رقم (3423).
التفويض إلى الله تعالى بقلبه، فأُدِّب بأن تأخر الوحي عنه؛ حتى رموه بالتكذيب لأجلها، ثم إن الله تعالى علَّمه وأدَّبه بقوله:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} الآية [الكهف: 23 - 24]، فكان بعد ذلك يستعمل هذه الكلمة في الواجب، وهذا لعلوِّ مناصب الأنبياء عليهم السلام وكمال معرفتهم بالله تعالى، يناقَشون، ويعاتَبون على ما لا يعاتَب عليه غيرهم، كما قد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في حق لوط عليه السلام:"يرحم الله لوطًا لقد كان يأوي إلى ركن شديد"، فعَتَب عليه نُطْقَه بكلمة يسوغ لغيره أن ينطق بها. انتهى
(1)
.
وقوله: (فَلَمْ يَقُلْ، وَنَسِيَ)؛ أي: لم ينطق بلفظ إن شاء الله بلسانه ذُهولًا ونسيانًا، أنساه الله تعالى إياها، لينفُذ قدر الله تعالى الذي سبق به علمه، من جَعْل ذلك سببًا لعدم وقوع ما تمنّاه وقصده سليمان عليه السلام، قاله القرطبيّ رحمه الله
(2)
. وليس المراد أنه غفل عن التفويض إلى الله بقلبه، والتحقيق أن اعتقاد التفويض مستمرّ له، لكن المراد بقوله:"فنسي" أنه نسي أن يقصد الاستثناء الذي يرفع حكم اليمين، ففيه تعقّب على من استَدَلَّ به لاشتراط النطق في الاستثناء. انتهى.
وقوله أيضًا: (وَنَسِيَ) قال النوويّ: ضبطه بعض الأئمة بضمّ النون، وتشديد السين، وهو ظاهر حسن. انتهى.
وقوله: (وَكَانَ دَرَكًا لَهُ فِي حَاجَتِهِ) بفتح الراء: اسم من الإدراك؛ أي: لحاقًا، قال لله تعالى:{لَا تَخَافُ دَرَكًا} [طه: 77].
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4279]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزَّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ، أَوْ نَحْوَهُ).
(1)
"المفهم" 4/ 637.
(2)
"المفهم" 4/ 638.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان القرشيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقة فقيه [5](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.
2 -
(الأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز القرشيّ مولاهم، أبو داود المدنيّ، ثقةُ فقيه [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.
والباقون ذُكروا قبله، و"سفيان" هو ابن عيينة.
وقوله: (مِثْلَهُ، أَوْ نَحْوَهُ) ظاهر هذا أن فيه تفريقًا بين قوله: "مثله"، وقوله:"نحوه"، وقد تقدّم أن الحاكم أبا عبد الله ذكر أن لفظ "مثل" يُطلق على ما اتّحد لفظًا، ولفظ "نحو" يُطلق على ما اتّحد معنى، ولكن كثيرًا من صنيع المصنّف رحمه الله ليس على هذه القاعدة، كما قدّمت بيان ذلك في أوائل هذا الشرح، وذكرت على ذلك أدلّة، فلتُراجعها.
ويَحْتَمِل أن هذا الشك ليس من مسلم، وإنما هو من الراوي عنه، شكّ في قول مسلم، هل قال:"مثله"، أو قال:"نحوه"، ولا يستلزم ذلك التفريق بينهما، وإنما يفيد بيان الشك في اللفظ الذي صدر عن مسلم، فتأمل، والله تعالى وليّ التوفيق.
[تنبيه] رواية أبي الزناد، عن الأعرج هذه ساقها الحميديّ في "مسنده"، فقال:
(1174)
- حدّثنا الحميديّ
(1)
، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حَلَف سليمان بن داود، فقال: لأُطيفنّ الليلة بسبعين امرأة، كلهنّ تجيء بغلام يقاتل في سبيل الله عز وجل، فقال له صاحبه، أو قال له الملك: قل: إن شاء الله، فنسي، فأطاف بسبعين امرأة، فلم تجئ واحدة منهنّ بشيء، إلا واحدة، جاءت بشق غلام". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو قال: إن شاء الله، لَمَا حَنِثَ، ولكان دَرَكًا في حاجته". انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
هذا من كلام الراوي عن الحميديّ، فتنبّه.
(2)
"مسند الحميديّ" 2/ 494.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4280]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ: لأُطِيفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً، تَلِدُ كُلّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا، يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقِيلَ لَهُ: قُلْ: إِنْ شَاءَ اللهُ، فَلَمْ يَقُلْ، فَأَطَافَ بِهِنَّ، فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَة نِصْفَ إِنْسَانٍ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ، لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ دَرَكًا لِحَاجَتِهِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ) الصنعانيّ، تقدّم أيضًا قبل بابين.
3 -
(مَعْمَرُ) بن راشد، تقَدّم أيضًا قبل بابين.
4 -
(ابْنُ طَاوُسٍ) عبد الله، الْحِمْيريّ مولاهم، أبو محمد اليمانيّ، ثقةٌ فاضلٌ عابدٌ [6](ت 132)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
والباقيان ذُكرا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديثين، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4281]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، حَدَّثَنِي وَرْقَاءُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ: لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةَ، كُلُّهَا تَأْتِي بِفَارِسٍ، يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: قُلْ: إِنْ شَاءَ اللهُ، فَلَمْ يَقُلْ: إِنْ شَاءَ اللهُ، فَطَافَ عَلَيْهِنَّ جَمِيعًا، فَلَمْ تَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَهٌ وَاحِدَةٌ، فَجَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ، وَايْمُ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ، لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.
2 -
(شَبَابَةُ) بن سَوّار المدائنيّ، خُراسانيّ الأصل، يقال: كان اسمه مروان، مولى بني فزارة، ثقةٌ حافظٌ رُمي بالإرجاء [9](ت 4 أو 5 أو 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.
3 -
(وَرْقَاءُ) بن عُمر اليشكريّ، أبو بشر الكوفيّ، نزيل المدائن، ثقة في غير منصور بن المعتمر، ففيه لين [7](ع) تقدم في "الصلاة" 31/ 999.
والباقون ذُكروا قبل حديث.
[تنبيه]: قوله: "وايم" بكسر الهمزة، وبفتحها، والميم مضمومة. وحكى الأخفش كسرها مع كسر الهمزة، وهو اسم عند الجمهور، وحرفٌ عند الزّجّاج، وهمزته همزة وصل عند الأكثر، وهمزة قطع عند الكوفيين، ومن وافقهم؛ لأنه عندهم جمع يمين، وعند سيبويه، ومن وافقه أنه اسم مفرد، واحتجّوا بجواز كسر همزته، وفتح ميمه، قال ابن مالك: فلو كان جمعًا لم تُحذف همزته، واحتحّ بقول عروة بن الزبير لَمّا أُصيب بولده، ورجله:"لَيْمُنُكَ، لئن ابتليتَ، لقد عافيت، ولئن كُنت سَلَبْتَ، لقد أبقيتَ"، قال: فلو كان جمعًا، لم يُتصرّف فيه بحذف بعضه، قال: وفيه اثنتا عشرة لغةً، جمعتها في بيتين، وهما [من البسيط]:
هَمْزَ اُيْمُ أَيْمُنُ فَافْتَحِ وَاَكْسِر أَو أَمُ قُلْ
…
أَوْ قُلْ مُ أَوْ مُنُ بِالتَّثْلِيثِ قَدْ شُكِّلَا
وَأَيْمُنَ اخْتِمْ بِهِ وَاللهِ كُلًّا أَضِفْ
…
إِلَيْهِ فِي قَسَمٍ تَسْتَوْفِ مَا نُقِلَا
قال ابن أبي الفتح تلميذ ابن مالك: فاته أَم بفتح الهمزة، وهيم بالهاء بدل الهمزة، وقد حكاها القاسم بن أحمد المعلم الأندلسيّ في "شرح المفصل".
وقال غيره: أصله يمين الله، ويجمع: أيمنًا، فيقال: وأيمن، حكاه أبو عُبيدة، وأنشد لزُهير بن أبي سُلْمَى [من الوافر]:
فَتُجْمَعُ أَيْمُنٌ مِنَّا وَمِنْكُمْ
…
بِمُقْسَمَةٍ تَمُورُ بِهَا الدِّمَاءُ
وقالوا عند القسم: وأيمن الله، ثم كثر، فحذفوا النون، كما حذفوها من لم يكن، فقالوا: لم يك، ثم حذفوا الياء، فقالوا: أم الله، ثم حذفوا الألف، فاقتصروا على الميم مفتوحة، ومضمومة، ومكسورة، وقالوا أيضًا: مِنُ الله
بكسر الميم، وضمّها، وأجازوا في أيمن فتح الميم، وضمّها، وكذا في أيم، ومنهم من وصل الألف، وجعل الهمزة زائدة، أو مسهلة، وعلى هذا تبلغ لغاتها عشرين. وقال الجوهريّ: قالوا: أيم الله، وربّما حذفوا الياء، فقالوا: أمُ الله، وربّما أبقوا الميم وحدها مضمومة، فقالوا: مُ الله، وربّما كسروها؛ لأنها صارت حرفًا واحدًا، فشبّهوها بالباء، قالوا: وألفها ألف وصل عند أكثر النحويين، ولم يجئ ألف وصل مفتوحة غيرها، وقد تدخل اللام للتأكيد، فيقال: لَيْمُن الله، قال الشاعر [من الطويل]:
فَقَالَ فَرِيقُ الْقَوْمِ لَمَّا نَشَدتُهُمْ
…
نَعَمْ وَفَرِيق لَيْمُنُ اللهِ مَا نَدْرِي
وذهب ابن كيسان، وابن درستويه إلى أن ألفها ألف قطع، وإنما خُفّفت همزتها في الوصل لكثرة الاستعمال. وحكى ابن التين عن الداوديّ قال: أيم الله: معناه اسم الله، ابدلت السين ياءً، وهو غلط فاحش؛ لأن السين لا تبدل ياءً. وذهب المبرّد إلى أنها عوضٌ من واو القسم، وأن معنى قوله: وأيم الله: والله لأفعلنّ. ونقل عن ابن عبّاس أن يمين الله من أسماء الله تعالى، ومنه قول امرئ القيس [من الطويل]:
فَقُلْتُ يَمِينُ اللهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا
…
وَلَوْ قَطَعُوا رَأْسِي لَدَيْكِ وَأَوْصَالِي
ومن ثمّ قال المالكيّة، والحنفيّة: إنه يمين. وعند الشافعيّة: إن نوى اليمين انعقدت، وإن نوى غير اليمين لم ينعقد يمينًا، وإن أطلَقَ فوجهان: أصحّهما لا ينعقد إلا أن ينوي. وعن أحمد روايتان: أصحّما الانعقاد. وحكى الغزاليّ في معناه وجهين: أحدهما أنه كقولهم: تالله. والثاني: كقوله: أحلف بالله، وهو الراجح. ومنهم من سوّى بينه وبين "لعمر الله". وفرّق الماورديّ بأن "لعمر الله" شاع في استعمالهم عرفًا، بخلاف أيم الله. واحتجّ بعض من قال منهم بالانعقاد مطلقًا بأن معناه يمين الله، ويمين الله من صفاته، وصفاته قديمة. وجزم النوويّ في "التهذيب" أن قول: وأيم الله، كقوله: وحقّ الله، وقال: إنه ينعقد به اليمين عند الإطلاق، وقد استغربوه. ويقوّيه قوله صلى الله عليه وسلم:"وايم الذي نفس محمد بيده، لو قال: إن شاء الله لجاهدوا". واستدلّ من قال بالانعقاد مطلقًا بهذا الحديث. قال الحافظ: ولا حجة فيه إلا على التقدير المتقدّم، وأن معناه: وحقّ الله. انتهى.
وقوله: (فُرْسَانًا) بضمّ الفاء: جمع فارس، وقد تقدّم ما يتعلّق به مفصّلًا في شرح الحديث الأول من أحاديث الباب، فارجع إليه.
وقوله: (أَجْمَعُونَ) هكذا الرواية في "الصحيحين"، ووقع في رواية النسائيّ في "المجتبى" بلفظ:"أَجْمَعِينَ""، الأول هو الموافق لغالب الاستعمال، فإن المشهور في اللغة أن تستعمل "أجمعون" تأكيدًا، ولمَا في النسائيّ أيضًا وجه، وهو أن يُعْرَب حالًا، وقد وقع مثله في بعض روايات البخاريّ في حديث: "فصلّوا قعودًا أجمعون" بلفظ "أجمعين".
وأما تغليط الفيّوميّ للمحدّثين في هذه الرواية، وقال: غَلِطَ من قال: إنه نُصِب على الحال؛ لأن ألفاظ التوكيد معارفُ، والحال لا تكون إلا نكرة، وما جاء منها معرفةً فمسموع، وهو مؤوّلٌ بالنكرة، والوجه في الحديث:"فصلّوا قُعُودًا أجمعون"، وإنما هو تصحيفٌ من المحدّثين في الصدر الأول، وتمسّك المتأخّرون بالنقل. انتهى.
فمما لا يُلتفت إليه، بل الرواية صحيحة، وقد أجاز بعض أهل اللغة ذلك، قال ابن منظور رحمه الله: و"أجمع" من الألفاظ الدالّة على الإحاطة، وليست بصفة، ولكنّه يُلَمُّ به ما قبله من الأسماء، ويُجرَى على إعرابه، فلذلك قال النحويّون: صفةٌ، والدليل على أنه ليس بصفة قولهم: أجمعون، فلو كان صفة لم يَسلَم جمعه، ولكان مكسّرًا، والأنثى جَمْعاء، وكلاهما معرفة، لا يُنكّر عند سيبويه، وأما ثعلب، فحكى فيهما التنكير، والتعريف جميعًا، تقول: أعجبني القصر أجمعُ، وأجمعَ، الرفع على التوكيد، والنصب على الحال. انتهى
(1)
.
فقد ثبت صحة هذا الاستعمال بنقل ثعلب، وهو ممن يُعتمد في اللغة على نقله، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، فقد ثبت النصب روايةً عن المحدّثين، ونقلًا عن اللغويين، فلا التفات إلى من ادّعى غَلَطَ المحدّثين، بناءً على نفي بعض اللغويين لها، فالمثبت مقدّم على النافي، فتنبّه، وبالله تعالى التوفيق.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.
(1)
"لسان العرب" 8/ 60.
وبالسند المتصل الى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4282]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِيهِ سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "كُلُّهَا تَحْمِلُ غُلَامًا، يُجَاهِدُ في سَبِيلِ اللهِ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ) الْحَدَثانيّ، تقدّم قبل بابين.
2 -
(حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ) الْعُقَيليّ، أبو عمر الصنعانيّ، نزيل عسقلان، ثقةٌ ربَّما وَهِمَ [8](ت 181)(خ م مد س ق) تقدم في "الإيمان" 87/ 461.
3 -
(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عيّاش الأسديّ مولاهم، ثقةٌ فقيةٌ إمام في المغازي [5](ت 141) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.
و"أبو الزناد ذُكر قبله".
[تنبيه]: رواية موسى بن عُقبة، عن أبي الزناد هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى" -لكن لم يذكر باللفظ الذي استثناه المصنّف- فقال:
(19694)
- حدّثثا السيد أبو الحسن محمد بن الحسين بن داود العلويّ رحمه الله إملاءً، أنبأ أبو حامد بن الشرقيّ، ثنا محمد بن عقيل، ثنا حفص بن عبد الله، ثنا إبراهيم بن طهمان، عن موسى بن عقبة، قال: أخبرني أبو الزناد، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال سليمان بن داود عليهم السلام لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة، كل واحدة تأتي بفارس يقاتل في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله، فلم يفعل، ولم يقل: إن شاء الله، فطاف عليهنّ جميعًا، فلم تَحْمِل منهنّ إلا امرأة واحدة، جاءت بشقّ رجل، وايم الذي نفس محمد بيده، لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله أجمعون". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"سنن البيهقي الكبرى" 10/ 44.
(6) - (بابُ النَّهْي عَنِ الإِصْرَارِ عَلَى الْيَمِينِ فِيمَا يَتَأَذَّى بِهِ أَهْلُ الْحَالِفِ، مِمَّا لَيْسَ بِحَرَامٍ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4283]
(1655) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَاللهِ لأَنْ يَلَجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ، آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللهِ مِنْ أَنْ يُعْطيَ كَفَّارَتَهُ الَّتي فَرَضَ الله").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهِ) بن كامل الأبناويّ، أبو عُقبة، أخو وهب بن منبّه الصنعانيّ، ثقةٌ [4](ت 132)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
شرح الحديث:
(عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنبِّهٍ) بصيغة اسم الفاعل المضعّف (قَالَ) همّام (هَذَا) إشارة إلى الحديث الآتي، وهو من الأحاديث التي ذُكرت في "صحيفة همّام بن منبّه"(مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ)؛ أي: همّام (أَحَادِيثَ)؛ أي: كثيرة، وعددها (138) حديثًا، كما مرّ غير مرّة (مِنْهَا) الجارّ والمجرور خبر مقدّم لقوله:(وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) فهو محكيّ؛ لقصد لفظه، كما مرّ إيضاحه غير مرّة.
[تنبيه]: أخرج البخاريّ رحمه الله هذا الحديث في "كتاب الأيمان والنذور" من "صحيحه"، فقال: حدّثني إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همام بن مُنَبِّهٍ، قال: هذا ما حدّثنا به أبو هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"نحن الآخرون السابقون يوم القيامة"، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله لأن يَلِجّ أحدكم بيمينه في أهله، آثم له عند الله من أن يُعطي كفارته التي افترض الله
عليه". انتهى
(1)
.
فقال في "الفتح": قوله: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة" طَرَف من حديث تقدّم بتمامه في أول "كتاب الجمعة"، لكن من وجه آخر عن أبي هريرة، وقد كَرَّرَ البخاريّ منه هذا القدر في بعض الأحاديث التي أخرجها من صحيفة هَمّام، من رواية معمر عنه، والسبب فيه أن حديث "نحن الآخرون" هو أول حديث في النسخة، وكان هَمَّام يعطف عليه بقية الأحاديث بقوله: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلك في ذلك البخاريّ ومسلم مسلكين: أحدهما هذا، والثاني مسلك مسلم، فإنه بعد قول همام: هذا ما حدّثنا به أبو هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: فذكر أحاديث، منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استَمَرّ على ذلك في جميع ما أخرجه من هذه النسخة، وهو مسلك واضح.
وأما البخاريّ فلم يَطَّرِد له في ذلك عمل، فإنه أخرج من هذه النسخة في "الطهارة"، وفي "البيوع"، وفي "النفقات"، وفي "الشهادات"، وفي "الصلح"، و"قصة موسى"، و"التفسير"، و"خلق آدم"، و"الاستئذان"، وفي "الجهاد" في مواضع، وفي "الطب"، و"اللباس"، وغيرها، فلم يُصَدِّر شيئًا من الأحاديث المذكورة بقوله:"نحن الآخرون السابقون"، وإنما ذكر ذلك. في بعض دون بعض، وكأنه أراد أن يُبَيِّن جواز كلٍّ من الأمرين.
وَيَحْتَمِل أن يكون ذلك من صنيع شيخ البخاريّ، وقال ابن بطال: يَحْتَمِل أن يكون أبو هريرة سمع ذلك من النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي نسق واحد، فحدّث بهما جميعًا، كما سمعهما، ويَحْتَمِل أن يكون الراوي فعل ذلك؛ لأنه سمع من أبي هريرة أحاديث في أوائلها ذَكَرها على الترتيب الذي سمعه.
قال الحافظ: ويعكر عليه ما تقدّم في أواخر "الوضوء"، وفي أوائل "الجمعة"، وغيرها. انتهى
(2)
، وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
("وَاللهِ لأَنْ يَلَجَّ) بفتح اللام، وهي اللام المؤكِّدة للقسم، و"يَلِجَّ" بكسر اللام، ويجوز فتحها، بعدها جيم، من اللَّجَاج، وهو أن يتمادى في الأمر،
(1)
"صحيح البخاريّ" 6/ 2444.
(2)
"الفتح" 15/ 253 - 254، كتاب "الأيمان والنذور" رقم (6621).
ولو تَبَيَّنَ له خطؤه، وأصل اللَّجَاج في اللغة: هو الإصرار على الشيء مطلقًا، يقال: لَجَجْتُ أَلِجّ، بكسر الجيم في الماضي، وفتحها في المضارع، ويجوز العكس، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: لَجَّ في الأمر لَجَجًا، من باب تَعِبَ، ولَجَاجًا، ولَجَاجَةً، فهو لَجُوج، ولَجُوجَةٌ مبالغةٌ: إذا لازم الشيءَ، وواظبه، ومن باب ضرب لغةٌ، قال ابن فارس: اللَّجَاجُ: تَمَاحُك الخصمين، وهو تماديهما، واللَّجَّةُ بالفتح: كثرة الأصوات، قال:
فِي لَجَّةٍ أَمْسِكْ فُلَانًا عَنْ فُلِ
أي: في ضَجّة، يقال فيها ذلك، والتَجَّتِ الأصوات: اختلطت، والفاعل: مُلْتَجٌّ. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: اللجاج في اليمين هو المضيّ على مقتضاها، وإن لزم من ذلك حرَجٌ ومشقّةٌ، أو ترك ما فيه منفعةٌ عاجلةٌ، أو آجلةٌ، فإن كان فيه شيء من ذلك فالأَولى له أن تحنيث نفسه، وفعل الكفّارة. انتهى
(3)
.
(أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ، آثَمُ) بالمدّ: أصله: أأثم بوزن أفعل التفضيل؛ أي: أشدّ إثمًا (لَهُ عِنْدَ اللهِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَتَهُ الَّتِي فَرَضَ اللهُ") وفي رواية أحمد عن عبد الرزاق: "من أن يعطي كفارته التي فرض الله".
قال النوويّ رحمه الله: معنى الحديث: أنّ مَن حَلَف يمينًا تتعلق بأهله، بحيث يتضررون بعدم حنثه فيه، فينبغي أن يَحْنَث، فيفعلَ ذلك الشيء، ويُكفِّر عن يمينه، فإن قال: لا أحنث، بل أتورَّع عن ارتكاب الحنث؛ خشيةَ الإثم، فهو مخطئ بهذا القول، بل استمراره على عدم الحنث، وإدامة الضرر على أهله أكثر إثمًا من الحنث، واللجاج في اللغة: هو الإصرار على الشيء، قال: فهذا مختصر بيان معنى الحديث، ولا بد من تنزيله على ما إذا كان الحنث ليس بمعصية. انتهى.
قال: وأما قوله: "آثم" فخرج على لفظ المفاعلة المقتضية للاشتراك في
(1)
"الفتح" 15/ 354 رقم (6621).
(2)
"المصباح المنير" 2/ 549.
(3)
"المفهم" 4/ 643.
الإثم؛ لأنه قصد مقابلة اللفظ على زعم الحالف، وتوهّمه، فإنه يتوهم أن عليه إثمًا في الحنث، مع أنه لا إثم عليه، فقال صلى الله عليه وسلم:"الإثم عليه في اللجاج أكثر لو ثبت الإثم -أي: في الحنث-"
(1)
.
وقال البيضاويّ رحمه الله: المراد أن الرجل إذا حلف على شيء، يتعلق بأهله، وأصرّ عليه، كان ذلك أدخل في الوزر، وأفضى إلى الإثم من أن يحنث في يمينه، ويُكفّر عنها؛ لأنه جَعَلَ الله تعالى عُرْضَة للامتناع عن البرّ والمواساة مع الأهل والإصرار على اللجاج، وقد نُهِي عن ذلك بقوله تعالى:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224]، قال: و"آثم" اسم تفضيل، وأصله أن يطلق لِلّاجّ الآثم، فأُطلق للّجَاج المُوجِب للإثم على سبيل الاتّساع، والمراد به أنه يوجب مزيدًا، ثم مطلقًا بالإضافة إلى ما نُسِب إليه، فإنه أمر مندوب على ما تشهد به الأحاديث المتقدّمة عليه، لا إثم فيه، وقيل: معناه أنه كان يتحرّج عن الحنث والتأثّم فيه، ويرى ذلك، فاللَّجَاج إثم على زعمه وحسبانه. انتهى كلام البيضاويّ.
وتعقّبه الطيبيّ، فقال: قوله: والمراد به أنه يوجب مزيدًا، ثم مطلقًا، فيه نظر؛ لأن "مِنْ" التفصيليّة في قوله:"من أن يُعطي" تنافي الإطلاق؛ لأن "آثَم" حينئذ يكون بمعنى اسم الفاعل، وهو لا يتعدّى بـ "مِنْ"، كما في قولهم: الناقص والأشجّ أعْدَلا بني مروان، ويوسف أحسن إخوته في وجه، ولا يُستبعد أن يقال: إنه من باب قولهم: الصيف أحرّ من الشتاء، يعني أن إثم اللجاج في بابه أبلغ من ثواب إعطاء الكفّارة في بابه، وكذا في قوله: "أصله أن يُطلق للّاجّ الآثم، فأطلقه
…
إلى آخره" بحثٌ؛ لأن المعنى أن استمراره على عدم الحنث، وإدامة الضرر على أهله أكثر إثمًا من الحنث، وفائدة ذكر "أهله" في هذا المقام مبالغةٌ. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله
(2)
.
[تنبيه]: أخرج البخاريّ رحمه الله بعد هذا الحديث حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استَلَجَّ في أهله بيمين، فهو أعظم إثمًا ليبرّ -يعني: الكفّارة-".
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 123 - 124.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2440.
قال في "الفتح": وقوله: "من استَلَجَّ استَفْعَل من اللجاج، وذكر ابن الأثير أنه وقع في رواية: "استلجَجَ" بإظهار الإدغام، وهي لغة قريش.
قوله: "فهو أعظم إثمًا ليبرّ، -يعني: الكفارة-"، وكذا وقع في رواية ابن السكن، وكذا لأبي ذرّ عن الكشميهنيّ بلام مكسورة، بعدها تحتانية مفتوحة، ثم راء مشدّدة، واللام لام الأمر، بلفظ أمر الغائب من البر، أو الإبرار، و"يعني" بفتح التحتانية، وسكون المهملة، وكسر النون، تفسير للبرّ، والتقدير: ليترك اللجاج، ويبرّ، ثم فسَّر البرّ بالكفارة، والمراد أنه يترك اللجاج فيما حَلف، ويفعل المحلوف عليه، ويحصل له البرّ بأداء الكفارة عن اليمين الذي حلفه إذا حَنِثَ.
ومعنى قوله: "في أهله" ما تقدم في الطريق التي قبلها من تصويره بأن يحلف أن يضر أهله مثلًا، فيلجّ في ذلك اليمين، ويقصد إيقاع الإضرار بهم؛ لتنحلّ يمينه، فكأنه قيل له: دَعْ اللجاج في ذلك، واحنِثْ في هذا اليمين، واترك إضرارهم، ويحصل لك البرّ، فإنك إن أصررت على الإضرار بهم، كان ذلك أعظم إثمًا من حنثك في اليمين.
ووقع في رواية النسفيّ، والأصيليّ:"ليس تغني الكفارة" بفتح اللام، وسكون التحتانية، بعدها سين مهملة، و"تغني" بضم المثناة الفوقانية، وسكون الغين المعجمة، وكسر النون، و"الكفارةُ" بالرفع، والمعنى: أن الكفارة لا تغني عن ذلك، وهو خلاف المراد، والرواية الأولى أوضح.
ومنهم مَن وَجَّه الثانية بأن المفضَّل عليه محذوف، والمعنى أن الاستلجاج أعظم إثمًا من الحنث، والجملة استئناف، والمراد أن ذلك الإثم لا تغني عنه كفارة.
وقال ابن الأثير في "النهاية": وفيه: "إذا استلجّ أحدكم بيمينه، فإنه آثم له عند الله من الكفارة"، وهو استَفْعَل من اللجاج، ومعناه: أن من حلف على شيء، ويرى أن غيره خير منه، فيقيم على يمينه، ولا يحنث فيكفّر، فذلك آثم له، وقيل: هو أن يرى أنه صادق فيها، مصيب، فيلجّ، ولا يكَفّرها. انتهى، وانتَزَع ذلك كله من كلام الخطابيّ.
وقد قُيِّد في رواية الصحيح بالأهل، ولذلك قال النوويّ ما تقدم في الطريق الأُولى، وهو منتزع أيضًا من كلام عياض.
وذكر القرطبيّ في "مختصر البخاريّ" أنه ضُبِط في بعض الأمهات "تغني" بالتاء المضمومة، والغين المعجمة، وليس بشيء، وفي الأصل المعتمد عليه بالتاء الفوقانية المفتوحة، والعين المهملة، وعليه علامة الأصيليّ، وفيه بُعدٌ، ووجدناه بالياء المثناة من تحتُ، وهو أقرب، وعند ابن السكن:"يعني ليس الكفارة"، وهو عندي أشبهها، إذا كانت ليس استثناءً، بمعنى "إلّا"؛ أي: إذا لجّ في يمينه، كان أعظم إثْمًا إلا أن يكفّر.
قال الحافظ: وهذا أحسن لو ساعدته الرواية، إنما الذي في النسخ كلها بتقديم "ليس" على "يعني".
وقد أخرجه الإسماعيليّ من طريق إبراهيم بن سعيد الجوهريّ، عن يحيى بن صالح، بحذف الجملة الأخيرة، وآخرُ الحديث عنده:"فهو أعظم إثمًا".
وقال ابن حزم: لا جائز أن يُحْمَل على اليمين الغموس؛ لأن الحالف بها لا يسمى مستلجًّا في أهله، بل صورته أن يحلف أن يحسن إلى أهله، ولا يضرهم، ثم يريد أن يحنث، ويلجّ في ذلك، فيضرهم، ولا يحسن إليهم، ويكفّر عن يمينه، فهذا مستلجّ بيمينه في أهله، آثم.
ومعنى قوله: "لا تغني الكفارة" أن الكفارة لا تَحُطّ عنه إثم إساءته إلى أهله، ولو كانت واجبة عليه، وإنما هي متعلقة باليمين التي حلفها.
وقال ابن الجوزيّ قوله: "ليس تغني الكفارة" كأنه أشار إلى أن إثمه في قصده أن لا يبرّ، ولا يفعل الخير، فلو كفّر لم ترفع الكفارة سبق ذلك القصد.
وبعضهم ضبطه بفتح نون "يغني"، وهو بمعنى يترك؛ أي: إن الكفارة لا ينبغي أن تترك.
وقال ابن التين: قوله: "ليس تغني الكفارة" بالمعجمة، يعني مع تعمد الكذب في الأيمان، قال: وهذا على رواية أبي ذرّ، كذا قال، وفي رواية أبي الحسن، يعني القابسيّ:"ليس يعني الكفارة" بالعين المهملة، قال: وهذا موافق لتأويل الخطابيّ أنه يستديم على لجاجه، ويمتنع من الكفارة، إذا كانت خيرًا
من التمادي. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 4283](1655)، و (البخاريّ) في "الأيمان والنذور"(6625 و 6626)، و (ابن ماجه) في "الكفّارات"(2114)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 278 و 317)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 42)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 32) و"الصغرى"(8/ 448)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن الحنث في اليمين أفضل من التمادي، إذا كان في الحنث مصلحة، ويختلف باختلاف حكم المحلوف عليه، فإن حلف على فعل واجب، أو ترك حرام فيمينه طاعة، والتمادي واجب، والحنث معصية، وعكسه بالعكس، وإن حلف على فعل نفل، فيمينه أيضًا طاعة، والتمادي مستحب، والحنث مكروه، وإن حلف على ترك مندوب، فبعكس الذي قبله، وإن حلف على فعل مباح، فإن كان يتجاذبه رجحان الفعل، أو الترك، كما لو حلف لا يأكل طيبًا، ولا يلبس ناعمًا، ففيه عند الشافعية خلاف، وقال ابن الصباغ، وصوّبه المتأخرون: إن ذلك يختلف باختلاف الأحوال، وإن كان مستوي الطرفين، فالأصح أن التمادي أولى، والله أعلم.
2 -
(ومنها): أنه يُستنبط من معنى الحديث أن ذكر الأهل خرج مخرج الغالب، وإلا فالحكم يتناول غير الأهل، إذا وُجدت العلة، والله أعلم.
3 -
(ومنها): ما قال القاضي عياض رحمه الله: في الحديث أن الكفارة على الحانث فرض، قال: ومعنى يَلَجّ: أن يقيم على ترك الكفارة، كذا قال، والصواب على ترك الحنث؛ لأنه بذلك يقع التمادي على حكم اليمين، وبه يقع الضرر على المحلوف عليه، ذكره في "الفتح". والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 15/ 255 - 257.
(7) - (بَابُ نَذْرِ الْكَافِرِ، وَمَا يَفْعَلُ فِيهِ إِذَا أَسْلَمَ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4284]
(1656) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ -وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ- قَالُوا: حَدَّثنا يَحْيى -وَهُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ- عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي نَذَرْتُ
(1)
فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً، فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، قَالَ:"فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ) هو: محمد بن أبي بكر بن عليّ بن عطاء بن مُقَدَّم الثقفيّ مولاهم، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى العنزيّ أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.
4 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ) تقدّم قريبًا.
5 -
(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر الْعُمريّ المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
6 -
(نَافِعٌ) مولى ابن عمر، تقدم أيضًا قريبًا.
7 -
(ابْنُ عُمَرَ) عبد الله رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قريبًا.
8 -
(عُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله عنه، تقدّم أيضًا قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه مسلسل بالمدنيين، من عبيد الله، والباقون كلهم بصريّون، غير زهير، فبغداديّ، وأن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، والابن عن أبيه، وتابعيّ، عن تابعيّ، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، روى
(1)
وفي نسخة: "إني قد نذرت".
(2630)
حديثًا، وفيه عمر رضي الله عنه أحد الخلفاء الراشدين الأربعة، والعشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم أجمعين.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَن عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنه (قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ) هذه الرواية ظاهرة في أن هذا الحديث من مسند ابن عمر رضي الله عنهما، وكذا رواية أيوب، عن نافع التالية، وسيشير المصنّف إلى أنه وقع في رواية حفص بن غياث عن ابن عمر، عن عمر، وكذا وقع في رواية النسائيّ من طريق ابن عيينة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، فصرّح بكونه من مسند عمر رضي الله عنه، ولا يضرّ ذلك، فإن ابن عمر رضي الله عنهما قد حضر القصّة، فإنها كانت في غزوة حنين، ففي الرواية الآتية من طريق جرير بن حازم، أن أيوب حدثه، أن نافعًا حدّثه، أن عبد الله بن عمر حدّثه، أن عمر بن الخطّاب سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بالجعرانة، بعد أن رجع من الطائف، فقال: يا رسول الله، إني نذرت في الجاهليّة أن أعتكف يومًا في المسجد الحرام، فكيف ترى؟ قال:"اذهب، فاعتكف يومًا"، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطاه جارية من الخُمس، فلما أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا الناس، قال عمر: يا عبد الله اذهب إلى تلك الجارية، فخلّ سبيلها.
وفي رواية معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: لَمّا قفل النبيّ صلى الله عليه وسلم من حنين، سأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نذر كان نذره في الجاهليّة، اعتكافِ يومٍ، فذكره.
فقد تبيّن بهذا أن ابن عمر رضي الله عنهما كان حاضرًا سؤال عمر رضي الله عنه للنبيّ صلى الله عليه وسلم.
ويَحْتَمِل أن يكون غائبًا في بعض حاجته حينما سأل عمر رضي الله عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخبره عمر به، فكان يحدّث عنه تارةً، ويرسله أخرى، ومرسل الصحابيّ حجة، كما هو مقرّر في محلّه، والله تعالى أعلم.
وقال في "الفتح" بعدما ذكر أن القصّة كانت بالجعرانة لَمّا رجعوا من حُنين ما نصّه: ويستفاد منه الردّ على من زعم أن اعتكاف عمر رضي الله عنه كان قبل
المنع من الصيام في الليل؛ لأن غزوة حنين متأخّرة عن ذلك. انتهى
(1)
.
(إِنِّي نَذَرْتُ) وفي بعض النسخ: "إني قد نذرت"، وتقدّم أنه من بابي ضرب، ونصر، يقال: نذرتُ أنذُر نذرًا: إذا أوجبت على نفسك شيئًا تبرّعًا، من عبادة، أو صدقة، أو غير ذلك، قاله في "النهاية"
(2)
. (فِي الْجَاهِلِيَّةِ) المراد بالجاهليّة هنا جاهليّة عمر رضي الله عنه، وهو ما قبل إسلامه، لا أنه أراد ما قبل بعثة النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن جاهليّة كلّ أحد بحسبه، وَوَهِمَ من قال: الجاهليّة في كلامه زمن فترة النبوّة، والمراد بها هنا ما قبل بعثة نبيّنا صلى الله عليه وسلم، فإن هذا يتوقّف على النقل، وقد ثبت أنه نذر قبل أن يُسْلِم، وبين البعثة، وإسلامه مدّة، قاله في "الفتح".
وقال أيضًا: وفيه ردٌّ على من زعم أن المراد بالجاهليّة ما قبل فتح مكّة، وأنه نَذَر في الإسلام، وأصرح من ذلك ما أخرجه الدارقطنيّ، من طريق سعيد بن بشير، عن عُبيد الله، بلفظ:"نذر عمر أن يعتكف في الشرك". انتهى
(3)
.
(أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً) قال في "الفتح": استُدلّ به على جواز الاعتكاف بغير صوم؛ لأن الليل ليس ظرفًا للصوم، فلو كان شرطًا لَأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم به.
وتُعُقّب بأن في رواية شعبة عن عبيد الله عند مسلم: "يومًا" بدل "ليلةً"، فجمع ابن حبّان وغيره بين الروايتين بأنه نذر اعتكاف يوم وليلة، فمن أطلق ليلة أراد بيومها، ومن أطلق يومًا أراد بليلته، وقد ورد الأمر بالصوم في رواية عمرو بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما صريحًا، لكن إسنادها ضعيف، وقد زاد فيها: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له: "اعتكف، وصم"، أخرجه أبو داود، والنسائيّ، من طريق عبد الله بن بديل، وهو ضعيف، وذكر ابن عديّ، والدارقطنيّ أنه تفرّد بذلك، عن عمرو بن دينار، ورواية من روى "يومًا" شاذّة
(4)
، وقد وقع في رواية
(1)
"الفتح" 5/ 480، كتاب "الاعتكاف" رقم (2032).
(2)
"النهاية في غريب الحديث والأثر" 5/ 39.
(3)
"الفتح" 5/ 480 رقم (2032).
(4)
قال الجامع عفا الله عنه: دعوى الشذوذ فيها نظر؛ لأنه أخرجه مسلم من رواية=
سليمان بن بلال عند البخاريّ: "فاعتَكَفَ ليلةً"، فدلّ على أنه لم يزد على نذره شيئًا، وأن الاعتكاف لا صوم فيه، وأنه لا يُشترط له حدٌّ معيّن. انتهى ما في "الفتح"، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أن أعتكف ليلةً" يَحتجّ به من يُجيز الاعتكاف بالليل، وبغير صوم، ولا حجة له فيه؛ لأنه قد قال في الرواية الأخرى:"أنه نذر أن يعتكف يومًا"، والقصّة واحدة، فدلّ مجموع الراويتين على أنه نذر يومًا وليلةً، غير أنه أفرد أحدهما بالذكر لدلالته على الآخر من حيث إنهما تلازما في الفعل، ولهذا قال مالكٌ: إن أقلّ الاعتكاف يومٌ وليلة، فلو نذر أحدهما لزمه تكميله بالآخر، ولو سلّمنا أنه لم يجئ لليوم ذكرٌ لَمَا كان في تخصيص الليلة بالذكر حجة؛ لإمكان حمل ذلك الاعتكاف على المجاورة؛ فإنها تُسمّى اعتكافًا لغةً، وهي تصحّ بالليل والنهار، وبصوم، وبغير صوم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد علمت الجواب عن ما قاله القرطبيّ مما سبق عن "الفتح"، وخلاصته أن الأمر بالصوم لم يثبت، وقد وقع في رواية سليمان بن بلال عند البخاريّ:"فاعتَكَفَ ليلةً"، فالحقّ أن الاعتكاف يجوز بلا صوم، وتقدّم ذكر اختلاف العلماء، وأدلتهم، وترجيح الراجح من ذلك في "كتاب الاعتكاف"، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، والله تعالى وليّ التوفيق.
(فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) زاد عمرو بن دينار في رواياته: "عند الكعبة"(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَأوْفِ) بقطع الهمزة، من أوفى إيفاءً رباعيًّا، يقال: أوفى فلانًا حقَّه: أعطاه وافيًا، كوفّاه، ووافاه، قاله المجد رحمه الله
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: وَفَيْتُ بالعهد، والوعد، أَفِي به وَفَاءً، والفاعل: وَفِيٌّ، والجمع: أَوْفِيَاءُ، مثل صَدِيق وأصدقاء، وأَوْفَيْتُ به إِيْفَاءً، وقد جمعهما الشاعر، فقال [من البسيط]:
أَمَّا ابْنُ طَوْقٍ فَقَدْ أَوْفَى بِذِمَّتِهِ
…
كَمَا وَفَى بِقِلاصِ النَّجْمِ حَادِيهَا
وقال أبو زيد: أَوْفَى نذره: أحسن الإيفاء، فجعل الرباعيّ يتعدى بنفسه،
= شعبة، وأيوب السختياني، وابن إسحاق، فكيف يُدّعى الشذوذ؟ فتنبّه.
(1)
"المفهم" 4/ 645 - 646.
(2)
"القاموس المحيط" ص 1411.
وقال الفارابيّ أيضًا: أَوْفَيْتُهُ حَقَّهُ، ووَفَّيْتُهُ إياه بالتثقيل، وأَوْفَى بما قال، ووَفَّى بمعنًى. انتهى
(1)
.
(فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ") هذا فيه أن نذر الكافر ينعقد، ولا مانع من القول أن نذره ينعقد موقوفًا على إسلامه، فإن أسلم لزمه الوفاء به في الخير، والكفرُ وإن كان يمنع عن انعقاده منجّزًا، لكن لا يمنع أن يعقد موقوفًا، وحديث:"الإسلام يَجُبُّ ما قبله" محمولٌ على الخطايا، وليس النذر منها، وسيأتي قريبًا تمام البحث، إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [7/ 4284 و 4285 و 4286 و 4287 و 4288 و 4289](1656)، و (البخاريّ) في "الاعتكاف"(2032 و 2043) و"فرض الخمس"(3144) و"الأيمان والنذور"(6697)، و (أبو داود) في "الأيمان والنذور"(2325)، و (الترمذيّ) في "النذور والأيمان"(1539)، و (النسائيّ) في "الأيمان والنذور"(3847 و 3848 و 3849) و"الكبرى"(4762 و 4763 و 4764)، و (ابن ماجه) في "الصيام"(1772) و"الكفّارات"(2129)، و (أحمد) في "مسنده"(257 و 4691 و 5514 و 6382)، و (الدارميّ) في "سننه"(2333)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4379 و 4380 و 4381)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 133)، و (ابن الجاورد) في "المنتقى"(1/ 237)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 17 - 18)، و (البزّار) في "مسنده"(1/ 250 و 251)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1/ 218)، و (الطبرانيّ) في "المعجم الأوسط"(6/ 330)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 199)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 318 و 10/ 76) و"الصغرى"(3/ 461)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(1)
"المصباح المنير" 2/ 667.
1 -
(منها): بيان أن الكافر إذا نذر، ثم أسلم قبل الوفاء به، وفّى به، بعد إسلامه.
2 -
(ومنها): ما قاله في "الفتح": وفي الحديث لزوم النذر للقربة من كلّ أحد حتى قبل الإسلام.
وقد أجاب ابن العربيّ بأن عمر لَمَّا نذر في الجاهليّة، ثم أسلم أراد أن يُكفّر ذلك بمثله في الإسلام، فلما أراده، ونواه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأعلمه أنه لزمه، قال: وكلّ عبادة ينفرد بها العبد عن غيره تنعقد بمجرّد النيّة العازمة الدائمة كالنذر في العبادة، والطلاق في الأحكام، وإن لم يتلفّظ بشيء من ذلك.
كذا قال، ولم يوافق على ذلك، بل نقل بعض المالكيّة الاتّفاق على أن العبادة لا تلزم إلا بالنيّة مع القول، أو الشروع، وعلى التنزّل، فظاهر كلام عمر رضي الله عنه مجرّد الإخبار بما وقع مع الاستخبار عن حكمه، هل لزم، أو لا؟ وليس فيه ما يدلّ على ما ادّعاه من تجديد نيّة منه في الإسلام.
وقال الباجيّ: قصّة عمر رضي الله عنه هي كمن نذر أن يتصدّق بكذا إن قدم فلانٌ بعد شهر، فمات فلان قبل قدُومه، فإنه لا يلزم الناذر قضاؤها، فإن فعله فحسن، فلمّا نَذَر عمر قبل أن يسلم، وسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم أمره بوفائه استحبابًا، وإن كان لا يلزمه؛ لأنه التزمه في حالة لا ينعقد فيها.
3 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: فيه دلالة لمذهب الشافعيّ وموافقيه في صحة الاعتكاف بغير صوم، وفي صحته بالليل، كما يصح بالنهار، سواء كانت ليلة واحدة، أو بعضها، أو أكثر، ودليله حديث عمر رضي الله عنه هذا، وأما الرواية التي فيها اعتكاف يوم، فلا تخالف رواية اعتكاف ليلة؛ لأنه يَحْتَمِل أنه سأله عن اعتكاف ليلة، وسأله عن اعتكاف يوم، فأمره بالوفاء بما نذر، فحصل منه صحة اعتكاف الليل وحده، ويؤيده رواية نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه نذر أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له:"أوف بنذرك"، فاعتكف عمر ليلةً، رواه الدارقطنيّ، وقال: إسناده ثابت، هذا مذهب الشافعيّ، وبه قال الحسن البصريّ، وأبو ثور، وداود، وابن المنذر، وهو أصح الروايتين عن أحمد، قال ابن المنذر: وهو مرويّ عن عليّ، وابن مسعود.
وقال ابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وعروة بن الزبير، والزهريّ، ومالك، والأوزاعيّ، والثوريّ، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق في رواية عنهما: لا يصحّ إلا بصوم، وهو قول أكثر العلماء. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم في "كتاب الاعتكاف" ترجيح ما ذهب إليه الأولون من صحة الاعتكاف ليلًا، وبغير صوم بأدلّته، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.
4 -
(ومنها): ما قاله الحافظ العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذيّ": إنه استُدلّ به على أن الكفّار مخاطبون بفروع الشريعة، وإن كان لا يصحّ منهم إلا بعد أن يُسلموا؛ لِأَمْر عمر رضي الله عنه بوفاء ما التزمه في الشرك، ونقل أنه لا يصحّ الاستدلال به؛ لأن الواجب بأصل الشرع كالصلاة لا يجب عليهم قضاؤها، فكيف يكلّفون بقضاء ما ليس واجبًا بأصل الشرع؟ قال: ويُمكن أن يُجاب بأن الواجب بأصل الشرع مؤقّتٌ بوقت، وقد خرج قبل أن يُسلم الكافر، ففات وقتُ أدائه، فلم يؤمر بقضائه؛ لأن الإسلام يَجُبّ ما قبله، فأما إذا لم يؤقّت نذره، فلم يتعيّن له وقتٌ حتى أسلم، فإيقاعه له بعد الإسلام يكون أداءً؛ لاتساع ذلك باتّساع العمر.
قال الحافظ: وهذا البحث يقوّي ما ذهب إليه أبو ثور، ومن قال بقوله -يعني قولهم: إن نذر الاعتكاف قبل الإسلام لزمه الوفاء إذا أسلم- وإن ثبت النقل عن الشافعيّ بذلك، فلعلّه كان يقوله أوّلًا، فأخذه عنه أبو ثور.
ويمكن أن يؤخذ من الفرق المذكور وجوب الحجّ على من أسلم لاتساع وقته، بخلاف ما فات وقته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم فيمن نذر كافرًا، ثم أسلم: قال النوويّ رحمه الله: اختَلَفَ العلماء في صحة نذر الكافر، فقال مالك، وأبو حنيفة، وسائر الكوفيين، وجمهور أصحابنا: لا يصحّ، وقال المغيرة المخزوميّ، وأبو ثور، والبخاريّ، وابن جرير، وبعض أصحابنا: يصحّ،
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 124 - 126.
وحجتهم ظاهر حديث عمر رضي الله عنه، وأجاب الأولون عنه بأنه محمول على الاستحباب؛ أي: يستحب لك أن تفعل الآن مثل ذلك الذي نذرته في الجاهلية. انتهى
(1)
.
وقال أبو محمد بن حزم رحمه الله: ومن نذر في حال كفر طاعةً لله عز وجل، ثم أسلم لزمه الوفاء به؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من نذر أن يُطيع الله فليُطعه"، وهو صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الجنّ والإنس، وطاعته فرض على كلّ مؤمن، وكافر، من قال غير هذا: فليس مسلمًا، وهذه جملة لم يَختلف فيها أحد ممن يدّعي الإسلام، ثم نقضوا في التفصيل.
ثم أورد بسند مسلم حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرأيت أمورًا كنت أتحنّث بها في الجاهليّة، من صدقة، أو عَتاقة، أو صِلَة رحم، أفيها أجرٌ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسلمت على ما أسلفت من خير".
ثم أخرج بسنده حديث قصّة عمر رضي الله عنه المذكور في الباب: "نذرت نذرًا في الجاهليّة، ثم أسلمت، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأمرني أن أوفي بنذري"، قال: فهذا حكم لا يسع أحدًا الخروج عنه.
وأورد أيضًا حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتّفق عليه، قال: "بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم خيلًا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال له: ثُمامة بن أُثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد
…
" وفيه: "أن ثمامة أسلم بعد أن أطلقه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال: يا محمد، والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليّ، والله ما كان من دِين أبغض إلي من دِينك، فأصبح دِينك أحب الدِّين إليّ، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إليّ، وإن خيلك أخذتني، وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشّره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر
…
" الحديث.
قال: فهذا كافر خرج يريد العمرة، فأسلم، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم بإتمام نيّته.
قال: وروينا عن طاوس: من نذر في كفره، ثم أسلم، فَلْيُوفِ بنذره، وعن الحسن، وقتادة نحوه، وبهذا قال الشافعيّ، وأبو سليمان- يعني: داود
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 124.
الظاهريّ- وأصحابهما. انتهى المقصود من كلام ابن حزم رحمه الله
(1)
.
وقال الشوكانيّ رحمه الله: وفي حديث عمر رضي الله عنه دليلٌ على أنه يجب الوفاء بالنذر من الكافر متى أسلم، وقد ذهب إلى هذا بعض أصحاب الشافعيّ، وعند الجمهور: لا ينعقد النذر من الكافر، وحديث عمر رضي الله عنه حجة عليهم.
وقد أجابوا عنه بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا عرف أن عمر رضي الله عنه قد تبرعّ بفعل ذلك أذن له به؛ لأن الاعتكاف طاعة، ولا يخفى ما في هذا الجواب من مخالفة الصواب.
وأجاب بعضهم بأنه صلى الله عليه وسلم أمره بالوفاء استحبابًا، لا وجوبًا.
ويُردّ بأن هذا الجواب لا يصلح لمن ادّعى عدم الانعقاد. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر من أقوال أهل العلم، وأدلتهم أن الصحيح قول من قال بانعقاد نذر الكافر، ووجوب الوفاء عليه بعد إسلامه؛ لِمَا ذُكِر من الأدلّة الصحيحة الصريحة في الأمر بالوفاء، والمانعون لم يأتوا بحجة مقنعة، فتبصّر بإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4285]
(
…
) - (وَحَدَّثنا أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، حَدَّثنا أَبُو أسَامَةَ (ح) وَحَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ -يَعْنِي: الثقَفِيَّ- (ح) وَحَدَّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَبَلَةَ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، كُلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَالَ حَفْصٌ
(3)
مِنْ بَيْنِهِمْ: عَنْ عُمَرَ، بِهَذَا الْحَدِيثِ، أمّا أَبُو أسَامَةَ، وَالثَّقَفِيُّ فَفِي حَدِيثِهِمَا: اعْتِكَافُ لَيْلَةٍ، وَأَمَّا فِي حَدِيثِ شُعْبَةَ، فَقَالَ: جَعَلَ عَلَيْهِ يَوْمًا يَعْتَكِفُهُ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ حَفْصٍ ذِكْرُ يَوْمٍ وَلَا لَيْلَةٍ).
(1)
"المحلَّى" 8/ 25 - 26، كتاب "النذر".
(2)
"نيل الأوطار" 8/ 260.
(3)
وفي نسخة: "قال حفصٌ".
رجال هذه الأسانيد: أربعة عشر:
1 -
(أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ) عبد الله بن سعيد بن حُصين الْكِنديّ الكوفِيّ، ثقةٌ، من صغار [10](257)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 17.
2 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة بنٍ زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبتٌ، من كبار [9](ت 201) وهو ابن (80) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
3 -
(عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ) ابن عبد المجيد بن الصَّلْت، أبو محمد البصريّ، ثقة [8](ت 194) عن نحو (80) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.
4 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل بابين.
5 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدّم قريبًا.
6 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) المعروف بابن راهويه، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
7 -
(حَفْصُ بْنُ غِيَاثِ) بن طَلْق النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ القاضي، ثقةٌ فقيهٌ تغيّر حفظه قليلًا في الآخر [8](ت 4 أو 195) وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.
8 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَبَلَةَ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ) هو: محمد بن عمرو بن عبّاد بن جَبَلَة بن أبي رَوّاد الْعَتَكيّ، أبو جعفر البصريّ، صدوقٌ [11](ت 234)(م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 348.
9 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغندر، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
10 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الشهير، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ. . . إلخ)؛ أي: كلّ هؤلاء الأربعة: أبو أسامة، وعبد الوهّاب الثقفيّ، وحفص بن غياث، وشعبة رووا هذا الحديث عن عبيد الله الْعُمَريّ، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر قال. . . إلخ.
وقوله: (وَقَالَ حَفْصٌ) وفي نسخة: "قال حفص"؛ أي: قال حفص بن غياث من بين هؤلاء الأربعة مخالفًا لهم: "عَنْ عُمَرَ"؛ أي: زاد بعد قوله: "عن ابن عمر" قولَهُ: "عن عمر"، فجعله من مسند عمر رضي الله عنه، وهم جعلوه من مسند ابن عمر رضي الله عنهما، وقد تقدّم أن الحديث محفوظ من كلتا الطريقين، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقوله: (اعْتِكَافُ لَيْلَةٍ) وَفِي حَدِيثِ شُعْبَةَ: "جَعَلَ عَلَيْهِ يَوْمًا يَعْتَكِفُهُ"، قال النوويّ رحمه الله: لا تَخالُف بين الروايتين؛ لأنه يحتمل أنه سأله عن اعتكاف ليلة، وسأله عن اعتكاف يوم، فأمره بالوفاء بما نذر، فحصل منه اعتكاف الليل وحده، ويؤيّده رواية نافع، عن ابن عمر أن عمر نذر أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له:"أوف بنذرك"، فاعتكف عمر ليلة، رواه الدارقطنيّ، وقال: إسناده ثابت. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": جمع ابن حبّان وغيره بين الروايتين بأنه نذر اعتكاف يوم وليلة، فمن أطلق ليلة أراد بيومها، ومن أطلق يومًا أراد بليلته. انتهى
(2)
.
وعبارة ابن خزيمة في "صحيحه": وقال بعض الرواة في خبر نافع، عن ابن عمر، عن عمر قال: إني نذرت أن أعتكف يومًا، فإن ثبتت هذه اللفظة، فهذا من الجنس الذي أُعلمتُ أن العرب قد تقول يومًا بليلته، وتقول ليلة تريد بيومها، وقد ثبتت الحجة في كتاب الله في هذا. انتهى
(3)
.
وعبارة ابن حبّان في "صحيحه": قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: أَلْفَاظُ أَخْبَارِ ابْنِ عُمَرَ مُصَرِّحَةٌ أَنَّ عُمَرَ نَذَرَ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ، إِلا هَذَا الْخَبَرَ، فَإِنَّ لَفْظَهُ أَنَّ عُمَرَ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ، فَإِنْ صَحَّتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ يُشْبِهُ انْ يَكُونَ ذَلِكَ يَوْمًا أَرَادَ بِهِ بِلَيْلَتِهِ، وَلَيْلَةً أَرَادَ بِهَا بِيَوْمِهَا، حَتَّى لا يَكُونَ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ تَضَادٌّ. انتهى
(4)
.
[تنبيه]: رواية أبي أسامة، عن عبيد الله بن عمر، ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(1938)
- حدّثنا عُبَيْدُ بن إِسْمَاعِيلَ، حدثنا أبو أُسَامَةَ، عن عُبَيْدِ اللهِ، عن نَافِع، عن ابن عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه نَذَرَ في الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَعْتَكِفَ في الْمَسْجِدِ الْحَرَام، قال: أُرَاهُ قال: لَيْلَةً، قال له رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَوْفِ بِنَذْرِكَ". انتهى
(5)
.
(1)
"شرح النوويّ" 11/ 124 - 125.
(2)
"الفتح" 5/ 480، كتاب "الاعتكاف" رقم (2032).
(3)
"صحيح ابن خزيمة" 3/ 347.
(4)
"صحيح ابن حبان" 10/ 226.
(5)
"صحيح البخاريّ" 2/ 718.
وأما رواية عبد الوهّاب الثقفيّ، عن عبيد الله، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وأما رواية حفص بن غياث، عن عبيد الله، فقد ساقها الدارميّ رحمه الله في "سننه"، فقال:
(2333)
- حدّثنا عبد اللهِ بن سَعِيدٍ، ثنا حَفْصٌ، ثنا عُبَيْدُ اللهِ، عن نَافِعٍ، عن ابن عُمَرَ، عن عُمَرَ، قال: قلت: يا رَسُولَ اللهِ، إني نَذَرْتُ نَذْرًا في الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ جاء الْإِسْلَامُ، قال:"أوف بِنَذْرِكَ". انتهى
(1)
.
وأما رواية شعبة، عن عبيد الله، فقد ساقها النسائيّ رحمه الله في "السنن الكبرى"، فقال:
(3351)
- أنبأ أحمد بن عبد الله بن الحكم، قال: حدّثنا محمد بن جعفر، قال: حدَّثنا شعبة، قال: سمعت عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أن عمر كان قد جَعَل عليه يومًا يعتكفه في الجاهلية، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأمره أن يعتكف. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4286]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، أَنَّ أَيُّوبَ حَدَّثَهُ، أَن نَافِعًا حَدَّثَهُ، أَن عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ، بَعْدَ أَنْ رَجَعَ مِنَ الطَّائِفِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمًا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَكَيْفَ تَرَى؟ قَالَ:"اذْهَبْ، فَاعْتَكِفْ يَوْمًا"، قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَعْطَاهُ جَارَيةً مِنَ الْخُمْسِ، فَلَمَّا أَعْتَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَبَايَا النَّاسِ، سَمِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَصْوَاتَهُمْ، يَقُولُونَ
(3)
: أَعْتَقَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: أَعْتَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَبَايَا النَّاسِ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا عَبْدَ اللهِ، اذْهَبْ إِلَى تِلْكَ الْجَارِيةِ، فَخَلِّ سَبِيلَهَا).
(1)
"سنن الدارمي" 2/ 239.
(2)
"سنن النسائي الكبرى" 2/ 261.
(3)
وفي نسخة: "أصواتهنّ يقلن".
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن السرح، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ) تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
4 -
(أَيُّوبُ) السختيانيّ، تقدّم قبل باب.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ) قال الفيّوميّ رحمه الله: الجِعْرَانَةُ: موضع بين مكة والطائف، وهي على سبعة أميال من مكة، وهي بالتخفيف، واقتَصَر عليه في "البارع"، ونقله جماعة عن الأصمعيّ، وهو مضبوط كذلك في "الْمُحْكَمِ"، وعن ابن المدينىّ: العراقيون يثقلون الجِعْرَانَةَ، والحُدَيْبِيَةَ، والحجازيون يخففونهما، فأخذ به المحدِّثون، على أن هذا اللفظ ليس فيه تصريح بأن التثقيل مسموع من العرب، وليس للتثقيل ذكر في الأصول المعتمدة عن أئمة اللغة، إلا ما حكاه في "الْمُحْكَم" تقليدًا له في الحديبية، وفي "الْعُبَاب": والجِعْرَانَةُ بسكون العين، وقال الشافعيّ: المحدِّثون يخطئون في تشديدها، وكذلك قال الخطابيّ. انتهى
(1)
.
وقوله: (بَعْدَ أَنْ رَجَعَ مِنَ الطَّائِفِ)؛ أي: غزوة الطائف، قال الفيّوميّ رحمه الله: الطائف: بلاد الْغَوْر، وهي على جبل غَزْوان، وهو أبرد مكان بالحجاز، وهو بلاد ثَقِيف. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": الطائف: بلد كبير مشهور كثير الأعناب، والنخيل، على ثلاث مراحل، أو اثنتين من مكة، من جهة المشرق، قيل: أصلها أن جبريل عليه السلام اقتلع الجنة التي كانت لأصحاب الصَّرِيم، فسار بها إلى مكة، فطاف بها حول البيت، ثم أنزلها حيث الطائف، فسُمِّي الموضع بها، وكانت أولًا بنواحي صنعاء، واسم الأرض: وَجّ بتشديد الجيم، سُمِّيت برجل، وهو ابن عبد الجن من العمالقة، وهو أول من نزل بها، وسار النبيّ صلى الله عليه وسلم إليها بعد مُنْصَرَفه من حُنين، وحَبَس الغنائم بالجعرانة، وكان مالك بن عوف النصريّ
(1)
"المصباح المنير" 1/ 102.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 380 - 381.
قائد هوازن، لَمّا انهزم دخل الطائف، وكان له حصن بلية، وهي بكسر اللام، وتخفيف التحتانية، على أميال من الطائف، فمَرّ به النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو سائر إلى الطائف، فأمر بهدمه. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: كانت غزوة الطائف في شوّال سنة ثمان من الهجرة، قاله موسى بن عقبة، وعليه جمهور أهل المغازي، وقيل: بل وصل إليها في أول ذي القعدة، ذكره في "الفتح"
(2)
.
وقوله: (وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَعْطَاهُ جَارِيةً مِنَ الْخُمْسِ) وقال ابن إسحاق في "المغازي": حدّثني أبو وَجْرة يزيد بن عبيد السعديّ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى من سبي هوازن عليّ بن أبي طالب جارية، يقال لها: ريطة بنت حبان بن عمير، وأعطى عثمان جارية، يقال لها: زينب بنت خناس، وأعطى عمر قلابة، فوهبها لابنه، قال ابن إسحاق: فحدثني نافع، عن ابن عمر، قال: بعثت جاريتي إلى أخوالي في بني جُمَح؛ ليصلحوا لي منها حتى أطوف بالبيت، ثم أتيتهم، فخرجت من المسجد، فإذا الناس يشتدّون، قلت: ما شأنكم؟ قالوا: رَدّ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءنا، وأبناءنا، فقلت: دونكم صاحبتكم، فهي في بني جُمَح، فانطلقوا، فأخذوها.
قال الحافظ رحمه الله: وهذا لا ينافي قوله في رواية حماد بن زيد: أنه وهب عمر جاريتين، فيجمع بينهما بأن عمر أعطى إحدى جاريتيه لولده عبد الله، والله أعلم.
قال: وذكر الواقديّ أنه أعطى لعبد الرحمن بن عوف، وآخرين معه من الجواري، وأن جارية سعد بن أبي وقاص اختارته، فاقامت عنده، وولدت له، والله أعلم. انتهى
(3)
.
وقوله: (سَبَايَا النَّاسِ) "السبايا: جمع سَبِيّة، كعطايا جمع عطيّة، من سبيتُ العدوّ سبيًا: إذا أخذتهم عبيدًا وإماءً، فالغلام سَبِيّ، أو مسبيّ، والجارية سبيّة، أو مسبيّة، وقومٌ سَبْيٌ وَصْفٌ بالمصدر.
(1)
"الفتح" 9/ 449 - 450.
(2)
راجع: "الفتح" 9/ 449 - 450.
(3)
راجع: "الفتح" 9/ 437 - 438، كتاب "المغازي" رقم (4303).
وقوله: (سَمِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَصْوَاتَهُمْ، يَقُولُونَ. . . إلخ) وفي نسخة: "سمِعَ أصواتهنّ، يقُلن".
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، ولله الحمد والمنّة، والفضل والنعمة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4287]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمَّا قَفَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ حُنَيْنٍ، سَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نَذْرٍ كَانَ نَذَرَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، اعْتِكَافِ يَوْمٍ، ثُمَّ ذَكَرَ بِمَعْنَى حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكِسّيّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم أيضًا قبل باب.
3 -
(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم أيضًا قبل باب.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ بِمَعْنَى حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير معمر بن راشد.
[تنبيه]: رواية معمر، عن أيوب هذه ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(4381)
- أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَزْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ -لَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ حُنَيْنٍ- سَأَلَ عُمَرَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نَذَرٍ كَانَ نَذَرَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، اعْتِكَافِ يَوْمٍ، فَأَمَرَهُ بِهِ، قَالَ: فَانْطَلَقَ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: فَبَعَثَ مَعِي بِجَارِيةٍ أَصَابَهَا مِنْ سَبْيِ حُنَيْنٍ، قَالَ: فَجَعَلْتُهَا فِي بُيُوتِ الأَعْرَابِ، حَتَّى نَزَلْتُ، فَإِذَا أَنَا بِسَبْيِ حُنَيْنٍ، فَخَرَجُوا يَسْعَوْنَ، يَقُولُونَ: قَدْ أَعْتَقَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عُمَرُ لِعَبْدِ اللهِ: اذْهَبْ،
فَأَرْسِلْهَا، قَالَ: فَذَهَبْتُ، فَأَرْسَلْتُهَا. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4288]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ عُمْرَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْجِعْرَانَةِ، فَقَالَ: لم يَعْتَمِرْ مِنْهَا. قَالَ: وَكَانَ عُمَرُ نَذَرَ اعْتِكَاتَ لَيْلَةٍ في الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، وَمَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ) أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ، رُمي بالنصب
(2)
[10](ت 245)(م 4) تقدم في "الإيمان" 1/ 103.
2 -
(حَمَّادُ بْنُ زيدٍ) تقدّم قبل باب.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (ذُكِرَ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ عُمْرَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْجِعْرَانَةِ، فَقَالَ: لم يَعْتَمِرْ مِنْهَا) قال النوويّ رحمه الله: هذا محمول على نفي علمه؛ أي: أنه لم يعلم ذلك، وقد ثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم اعتَمَرَ من الجعرانة، والإثبات مقدَّم على النفي؛ لِمَا فيه من زيادة العلم، وقد ذكر مسلم في "كتاب الحج" اعتمار النبيّ صلى الله عليه وسلم من الجعرانة عام حنين، من رواية أنس رضي الله عنه، والله أعلم. انتهى.
وقال أبو الفضل بن عمّار الشهيد رحمه الله في "العلل" -بعد أن أورد رواية المصنّف هذه- ما نصّه: وهذا حديث لم يروه غير ابن عبدة، عن حماد، وهو غير صحيح، وقد صحّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم اعتمر من الجعرانة. انتهى
(3)
.
ونقل أبو مسعود الدمشقيّ رحمه الله في "الأجوبة" عن الدارقطنيّ أنه قال:
(1)
"صحيح ابن حبان" 10/ 226 - 225.
(2)
هكذا قال في "التقريب"، وفيه نظر؛ لأن ابن ماجه أخرج في "سننه" من طريقه حديثًا صحيحًا في فضل أهل البيت، راجع:"سننه" رقم (142) في "مناقب الحسن بن عليّ رضي الله عنهما".
(3)
"علل أحاديث في صحيح مسلم" لابن عمار الشهيد 1/ 18.
وأخرج مسلم عن أحمد بن عبدة، عن حمّاد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعتمر من الجِعرانة، قال: يقال: تفرّد به أحمد بن عبدة، عن حمّاد، ولم يُتابع عليه، وقد صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه اعتمر من الجعرانة.
قال أبو مسعود: وهذه اللفظة في هذا الحديث قوله: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعتمر من الجعرانة"، فهي لفظة تفرّد بها حماد بن زيد، لا أحمد بن عبدة، وإنما أخرجه مسلم في "النذور" عن أحمد بن عبدة بإسناده أن عمر قال: يا رسول الله عليّ اعتكاف يوم، وفيه هذه اللفظة، ولم يخرجه في "الحج".
وقد أخرجه البخاريّ أيضًا بطوله في "كتاب الخمس"(3144) عن أبي النعمان، عن حمّاد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن عمر، قال: يا رسول الله. . . الحديث، وفيه: قال نافع: ولم يعتمر النبيّ صلى الله عليه وسلم من الجعرانة، ولو اعتمر لم يَخْفَ على عبد الله.
قال أبو مسعود: وهذا يتابع أحمد بن عبدة، وإن كان الحديث مرسلًا، وقد رواه جرير بن حازم، ومعمر، وحمّاد بن سلمة، وأيوب مسندًا مجوّدًا، ولم يأتوا بهذه اللفظة التي أتى بها حماد بن زيد.
قال أبو مسعود: وقوله: وقد صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بخلافه، فهو كما قال، غير أنه حديث تفرّد به همّام بن يحيى، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم اعتمر أربعًا، وفسّره، ورواه مجاهد، عن عائشة، ولم يُفسّر من أين اعتمر النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: سبب خفاء عمرة النبيّ صلى الله عليه وسلم من الجعرانة على ابن عمر وكثير من الصحابة رضي الله عنهم ما أخرجه أبو داود، والنسائيّ، والترمذيّ، واللفظ له، بإسناد حسن، عن مُحَرِّش الكعبيّ رحمه الله "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الجعرانة ليلًا معتمرًا، فدخل مكة ليلًا، فقضا عمرته، ثم خرج عن ليلته، فأصبح بالجعرانة كبائت، فلما زالت الشمس من الغد خرج من بطن سرف، حتى جامع الطريق طريق جمع ببطن سَرِف، فمن أجل ذلك خَفِيت عمرته عن الناس". انتهى.
(1)
"الأجوبة" لأبي مسعود الدمشقيّ رحمه الله (ص 8).
وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ. . . إلخ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير حمّاد بن زيد.
[تنبيه]: رواية حماد بن زيد، عن أيوب هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(5878)
- حدّثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، قثنا
(1)
أحمد بن عبدة، قثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، قال: ذُكِر عند ابن عمر عمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة، قال: لم يعتمر منها، قال: وكان عمر نذر اعتكاف ليلة في الجاهلية، فسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يَفِي به، فدخل المسجد تلك الليلة، فلما أصبح الناس إذا السبي في الطريق يقولون: أعتقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وكان لعمر جاريتان من السبي، قد حبسهما في بيت، فقال لي: اذهب، فأطلقهما. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[4289]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، حَدَّثنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ (ح) وَحَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ خَلَفٍ، حَدَّثنَا عَبْدُ الأَعْلَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، كِلَاهُمَا
(3)
عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، بِهَذَا الْحَدِيثِ، في النَّذْرِ، وَفِي حَدِيثِهِمَا جَمِيعًا: اعْتِكَافُ يَوْمٍ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) أبو محمد السمرقنديّ الحافظ، صاحب "المسند"، ثقةٌ فاضلٌ متقنٌ [11](ت 255) وله (74) سنةً (م دت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.
2 -
(حَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ) الأنماطيّ السلميّ، وقيل: البرسانيّ مولاهم، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ [9].
رَوَى عن جرير بن حازم، والحمادين، وشعبة، وعبد العزيز الماجشون، وهمام، ويزيد بن إبراهيم التستريّ، وغيرهم.
(1)
قوله: "قثنا" في الموضعين مختصر من "قال: حدّثنا"، فتنبّه.
(2)
"مسند أبي عوانة" 4/ 19.
(3)
وفي نسخة: "كليهما".
وروى عنه البخاريّ، وروى له الباقون بواسطة الدارميّ، وبندار، وأبي موسى، وصاعقة، والخلال، والذهليّ، وعبد بن حميد، وإسحاق الكوسج، والجوزجانيّ، وعمرو بن منصور، وغيرهم.
قال أحمد: ثقةٌ، ما أرى به بأسًا، وقال أبو حاتم: ثقة فاضلٌ، وقال العجليّ: ثقةٌ، رجل صالح، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن قانع: ثقة مأمون، وقال الفلاس: ما رأيت مثله فضلًا ودينًا، وقال أبو داود: إذا اختلفا فعفان، وحجاج أفضل الرجلين، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن منده: ثنا عليّ بن الحسن أبو حاتم، ثنا حجاج بن المنهال، وكان من خيار الناس.
وقال خلف بن محمد كردوس: مات سنة (216) وكان صاحب سُنَّة يظهرها، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، مات في شوال سنة (217)، وكذا أرّخه البخاريّ.
أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
3 -
(يَحْيَى بْنُ خَلَفٍ) الباهليّ، أبو سلمة البصريّ الْجُوباريّ
(1)
، ثقة
(2)
[10](ت 242)(م د ت ق) تقدم في "الإيمان" 100/ 530.
4 -
(عَبْدُ الأَعْلَى) بن عبد الأعلى الساميّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.
5 -
(حَمَّادُ) بن سلمة بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقةٌ عابد، تغيّر حفظه بآخره، من كبار [8](ت 169)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
6 -
(مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ) بن يسار، أبو بكر المطلبيّ مولاهم المدنيّ، نزيل العراق، إمام المغازي، ثقةٌ يدلّس، ورُمي بالتشيّع والقدر، من صغار [5](ت 150) أو بعدها (خت م 4) تقدم في "الصلاة" 42/ 1085.
والباقون ذُكروا قبله، و"أيوب" هو السختيانيّ.
[تنبيه]: رواية أيوب، عن نافع هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(1)
بجيم مضمومة، وواو ساكنة، ثم موحّدة.
(2)
قال في "التقريب": صدوق، والظاهر أنه ثقةٌ؛ لأنه روى عنه جماعة، ومنهم المصنّف، ووثقه البزّار، وابن حبّان، ولم يطعن فيه أحد، فتأمل.
(5879)
- حدّثنا إسماعيل القاضي، قثنا حجاج بن منهال، قثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أن عمر قال بجعرانة: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية، أن أعتكف يومًا في المسجد الحرام، قال:"اذهب، فأوف بنذرك". انتهى
(1)
.
وأما رواية محمد بن إسحاق، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
قال الجامع الفقير إلى مولاه الغني القدير محمد ابن الشيخ العلامة عليّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة:
قد انتهيتُ من كتابة الجزء الثامن والعشرين من "شرح صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحرَ المحيطَ الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" وقت الضحى يوم الأحد المبارك، وهو اليوم الثاني عشر من شهر رجب (12/ 7/ 1430 هـ الموافق 5 يوليو 2009 م).
أسأل الله العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رءوف رحيم.
وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].
{وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية [الأعراف: 43].
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 183].
"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".
(1)
"مسند أبي عوانة" 4/ 19.
"السلام على النبيّ ورحمة الله وبركاته".
ويليه -إن شاء الله تعالى- الجزء التاسع والعشرون مفتتحًا بـ (8) - "بَابُ صُحْبَةِ الْمَمَالِيكِ، وَكَفَّارَةِ مَنْ لَطَمَ عَبْدَهُ" رقم [4290](1657).
"سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".
* * *