المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم يوم الثلاثاء الرابع عشر من شهر رجب - البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج - جـ ٢٩

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

يوم الثلاثاء الرابع عشر من شهر رجب الحرام 14/ 7/ 1430 هـ أول الجزء التاسع والعشرين من شرح "صحيح الإمام مسلم، المسمّى، البحر المحيط الثجّاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج، رحمه الله تعالى.

(8) - (بَابُ صُحْبَةِ الْمَمَالِيكِ، وَكَفَّارَةِ مَنْ لَطَمَ عَبْدَهُ)

قال الجامع عفا الله عنه: كان الأولى للمصنّف رحمه الله أن يقدّم هذه الأحاديث إلى "كتاب العتق"، كما فعل القرطبيّ في "مختصره"؛ لِمَا لا يخفى من المناسبة، فتأمّل، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4290]

(1657) - (حَدَّثَنِي أبو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ فِرَاسٍ، عَنْ ذَكْوَانَ أبِي صَالِحٍ، عَنْ زَاذَانَ أَبِي عُمَرَ، قَالَ: أَتيْتُ ابْنَ عُمَرَ، وَقَدْ أَعْتَقَ مَمْلُوكًا، قَالَ: فَأَخَذَ مِنَ الأَرْضِ عُودًا، أوْ شَيْئًا، فَقَالَ: مَا فِيهِ مِنَ الأَجْرِ مَا يَسْوَى هَذَا، إِلَّا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ لَطَمَ مَمْلُوكَهُ، أَوْ ضَرَبَهُ، فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يُعْتِقَهُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(أَبُو عَوَانَةَ) الوضاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ البزّاز، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

3 -

(فِرَاسُ) -بكسر أوله، وبمهملة- ابن يحيى الْهَمْدانيّ الخارفيّ -بمعجمة، وفاء- أبو يحيى الكوفيّ المكتب، ثقة

(1)

، ربّما وَهِمَ [6].

(1)

هذا أولى من قول "التقريب": صدوق، كما يظهر من كلام الأئمة فيه، فتنبّه.

ص: 5

رَوَى عن الشعبيّ، وعطية العوفيّ، وأبي صالح السمان، وفُديك بن عُمارة.

وروى عنه منصور بن المعتمر، وهو من أقرانه، وزكرياء بن أبي زائدة، وشعبة، وشيبان، وسفيان الثوريّ، والحسن بن عمارة، وأبو عوانة، وشريك، وغيرهم.

قال أحمد، وابن معين، والنسائيّ: ثقة، وقال أبو حاتم: شيخ ما بحديثه بأس، وقال ابن المدينيّ، عن يحيى بن سعيد: ما بلغني عنه شيء، وما أنكرت من حديثه إلا حديث الاستبراء، وقال العجليّ: كوفيّ ثقة، من أصحاب الشعبيّ، في عداد الشيوخ، ليس بكثير الحديث، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال ابن عمار: ثقة، وقال عثمان -يعني: ابن أبي شيبة-: صدوقٌ، قيل له: ثبت؟ قال: لا، وقال يعقوب بن شيبة: كان مكتبًا، وفي حديثه لين، وهو ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة تسع وعشرين ومائة، وكان متقنًا.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث، فقط، هذا الحديث برقم (1657) وأعاده بعده، وحديث (1961): "من صلى صلاتنا، ووجّه قبلتنا

" الحديث، و (2450): "يا فاطمة أما ترضين أن تكوني سيّدة نساء المؤمنين، أو سيّدة نساء هذه الأمة

" الحديث، وأعاده بعده.

4 -

(ذَكْوَانُ أَبُو صَالِحٍ) السفان، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

5 -

(زَاذَانُ أَبُو عُمَرَ) الْكِنْديّ مولاهم البزّاز الكوفيّ الضرير، ويكنى أيضًا أبا عبد الله، صدوقٌ يُرسل، وفيه شيعيّة [2].

يقال: إنه شَهِد خطبة عمر بالجابية، ورَوَى عنه، وعن عليّ، وابن مسعود، وسلمان، وحذيفة، وأبي هريرة، وعائشة، وابن عمر، وجرير، والبراء بن عازب، وعابس، ويقال: عبس الغفاريّ.

وروى عنه أبو صالح السمان، والمنهال بن عمرو، وأبو اليقظان عثمان بن عمير، وهلال بن يساف، وأبو هاشم الرُّمّانيّ، وعمرو بن مرة، وعطاء بن السائب، وغيرهم.

قال شعبة: قلت للحكم: ما لك لم تحمل عن زاذان؟ قال: كان كثير

ص: 6

الكلام، وقال شعبة عن سلمة بن كُهيل: أبو البختري أحب إليّ منه، وقال ابن الجنيد، عن ابن معين: ثقةٌ لا يُسأل عن مثله، وقال ابن عديّ: أحاديثه لا بأس بها إذا روى عنه ثقة، قلت: وقال ابن حبان في "الثقات": كان يخطئ كثيرًا مات بعد الجماجم، وقال ابن سعد: كان ثقةً كثير الحديث، وقال محمد بن الحسين البغداديّ: قلت: لابن معين: ما تقول في زاذان، رَوَى عن سلمان؟ قال: نعم، روى عن سلمان وغيره، وهو ثبت في سلمان، وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالمتين عندهم، وقال ابن عديّ: رَوَى عن ابن مسعود، وتاب على يديه، وكناه الأكثرون أبا عمر، وكذا وقع في كثير من الأسانيد، وقال الخطيب: كان ثقةَ، وقال العجليّ: كوفيّ، تابعيّ، ثقةٌ.

وقال خليفة: مات سنة (82).

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1657) وأعاده بعده، وحديث (1997): "نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحنتم، وهي الجرّة

" الحديث.

6 -

(ابْنُ عُمَرَ) عبد الله رضي الله عنهما، تقدم في الباب السابق.

شرح الحديث:

(عَنْ زَاذَانَ) بزاي، وبعد الألف ذال معجمة، وقوله:(أَبِي عُمَرَ) بدل، أو عطف بيان لما قبله (قَالَ: أَتَيْتُ ابْنَ عُمَرَ) رضي الله عنهما (وَقَدْ أَعْتَقَ مَمْلُوكًا) جملة في محل نصب على الحال من المفعول، والمملوك هذا لا يُعرف اسمه

(1)

. (قَالَ) زاذان (فَأَخَذَ) ابن عمر (مِنَ الأَرْضِ عُودًا) بضمّ العين المهملة؛ أي: خشبًا، قال الفيّوميّ رحمه الله: عُودُ الخشب: جمعه أعواد، وعِيدانٌ، والأصل عِوْدان، لكن قُلبت الواو ياءً؛ لمجانسة الكسرة قبلها. انتهى

(2)

. (أَوْ شَيْئًا)"أو" للشكّ من الراوي (فَقَالَ: مَا فِيهِ)"ما" نافية؛ أي: ليس في عتق هذا المملوك، وقوله:(مِنَ الأَجْرِ) بيان مقدّم لـ "ما" في قوله: (مَا) موصولة، وقوله:(يَسْوَى هَذَا)؛ يعني: أنه ليس لي في هذا الإعتاق أجرٌ يساوي هذا العود؛ لأني لم أُعتقه إلا

(1)

راجع: "تنبيه المعلم" ص 281.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 436.

ص: 7

كفّارةً لضربي إياه، فكأنه ظن أن أجر الكفّارة كفاف ضربه، فلم يبق له شيء.

وقوله: "يَسْوَى" بوزن "يَخْشَى"، قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع في معظم النسخ: "ما يَسْوَى"، وفي بعضها:"ما يُساوِي" بالألف، وهذه هي اللغة الصحيحة المعروفة، والأولى عدَّها أهل اللغة في لحن العوامّ، وأجاب بعض العلماء عن هذه اللفظة بأنها تغيير من بعض الرواة، لا أن ابن عمر رضي الله عنهما نَطَق بها، ومعنى كلام ابن عمر رضي الله عنهما: أنه ليس في إعتاقه أجر المعتَق تبرعًا، وإنما أعتقه كفارةَ لضربه، وقيل: هو استثناء منقطع، وقيل: بل هو متصل، ومعناه: ما أعتقته إلا لأني سمعت كذا. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: سَاوَاهُ مُسَاوَاةً: ماثله، وعادله قدرًا، أو قيمةً، ومنه قولهم: هذا يساوي درهمًا؛ أي: تعادل قيمته درهمًا، وفي لغة قليلة: سَوِيَ درهمًا يَسْوَاهُ، من باب تَعِبَ، ومنعها أبو زيد، فقال: يقال: يُسَاوِيهِ، ولا يقال: يَسْوَاهُ، قال الأزهريّ: وقولهم: لا يَسْوَى ليس عربيًّا صحيحًا. انتهى

(2)

.

قال القرطبيّ رحمه الله: كان ضربُ ابن عمر رضي الله عنهما لعبده أدبًا على جناية، غير أنه أفرط في أدبه بحسب الغضب البشريّ، حتى جاوز مقدار الأدب، ولذلك أثَّر الضرب في ظهره، وعندما تحقق ذلك رأى أنه لا يخرجه مما وقع فيه إلا عِتقه، فأعتقه بنيّة الكفارة، ثم فَهِمَ أن الكفارة غايتها إذا قُبلت أن تكفر إثم الجناية، فيخرج الجاني رأسًا برأس، لا أجر، ولا وزر، ولذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما:"ما لي فيه من الأجر شيء". انتهى

(3)

.

(إِلَّا إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أكثر النسخ على أن "إلا" حرف استثناء، وقيل: إنه "أَلَا" حرف تحضيض، ومعنى الثاني ظاهر، ومعنى الأول، وهو الأرجح روايةً: أنه ليس لي من الأجر شيء إلا أجر الكفارة، وهو كفاف لضربي، وقيل: معناه: لا أُعتقه لوجه من الوجوه إلا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم

إلخ، وقيل: إنه استثناء منقطع؛ أي: لكني سمعت

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 128.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 298.

(3)

"المفهم" 4/ 347.

ص: 8

رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأول أرجح

(1)

.

(يَقُولُ: (مَنْ لَطَمَ مَمْلُوكَهُ)؛ أي: ضربه بباطن كفّه، يقال: لَطَمت المرأة وجهها لَطْمًا، من باب ضَرَبَ: ضربته بباطن كفها، واللطمة بالفتح: المرّة

(2)

. (أَوْ ضَرَبَهُ) الظاهر أن "أو" للشك من الراوي، وَيحْتَمِل أن تكون للتنويع؛ إذ اللطم خاصّ بالوجه، أي: أو حصل منه ضرب لسائر بدنه (فَكَفَّارَتُهُ)؛ أي: الذي يكفر هذا الذنب؛ أي: يستره عن أعين الملائكة حتى لا يكتبوه، أو يمحوه من صحيفته (أَنْ يُعْتِقَهُ") بضمّ أوله، من الإعتاق رباعيًّا"؛ أي: يُحرّره، ويفك رقبته من أسر العبوديّة.

قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهر هذا الحديث والأحاديث المذكورة بعده: أن من لطم عبده، أو تعدَّى في ضربه وجب عليه عتقه لأجل ذلك، ولا أعلم من قال بذلك غير أن أصول أهل الظاهر تقتضي ذلك.

وإنما اختلف العلماء فيمن مَثَّل بعبده مُثلة ظاهرة، مثل قطع يده، أو فقء عينه، فقال مالك، والليث: يجب عليه عتقه، وهل يعتق بالحكم، أو بنفس وقوع المثلة؟ قولان لمالك. وذهب الجمهور: إلى أن ذلك لا يجب. وسبب الخلاف اختلافهم في تصحيح ما روي من ذلك من قوله: "مَن مَثَّلَ بعبده عَتَق عليه".

قال: ومحمل الحديث الأول عند العلماء على التغليظ على من لطم عبده، أو تعدَّى في ضربه لينزجر السَّادة عن ذلك، فمن وقع منه ذلك أثم، وأُمر بأن يرفع يده عن ملكه عقوبة، كما رفع يده عليه ظلمًا، أو محمله عندهم على الندب، وهو الصحيح؛ بدليل قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لبني مقرِّن حين أمرهم بعتق الملطومة، فقالوا: ليس لنا خادم غيرها، فقال:"فليستخدِمُوها، فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها"، فلو وجب العتق بنفس اللطم لَحَرُم الاستخدام؛ لأنها كانت تكون حرَّة، واستخدام الحر بغير رضاه حرام، فمقصود هذه الأحاديث -والله أعلم-: أن من تعدَّى على عبده أثم، فإن أعتقه يكفّر أجر عتقه إثم

(1)

راجع: "شرح الأبيّ" 4/ 383، و"تكملة فتح الملهم" 2/ 224.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 553.

ص: 9

تعدّيه، وصارت الجناية كأن لم تكن، ومع ذلك: فلا يُقضى عليه بذلك؛ إذ ليس بواجب، على ما تقدَّم. انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [8/ 4290 و 4291 و 4292](1657)، و (أبو داود) في "سننه"(4/ 342)، و (عبد الرزاق) في "مصنفه"(9/ 445)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 25 و 45 و 61)، و (البخاريُّ) في "الأدب المفرد"(177 و 180)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 68)، و (الطبرانيّ) في "المعجم الأوسط"(5/ 30) و"الكبير"(12/ 342)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 214)، و (البيهقىّ) في "الكبرى"(8/ 10)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم لطم المملوك، أو ضربه.

2 -

(ومنها): أن لطمه إثم تترتّب عليه الكفّارة، وهي أن يُعتقه.

3 -

(ومنها): أنه يدل على أنه يجوز للسيد أن يضرب عبده للتأديب، ولكن يكون ضربًا خفيفًا، غير مبرّح، بل لا يجاوز به عشرة أسواط.

ومما يدلّ على الجواز حديث: "إذا ضرب أحدكم خادمه، فليتّق الوجه"، متّفق عليه، فإنه يفيد إباحة ضربه في غيره، ومن ذلك أيضًا الإذن لسيّد الأمَة أن يحدّها.

4 -

(ومنها): ما قال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: في هذا الحديث الرفق بالمماليك، وحسن صحبتهم، وكفّ الأذى عنهم، وكذلك في الأحاديث بعده، وأجمع المسلمون على أن عتقه بهذا ليس واجبًا، وإنما هو مندوب رجاء كفارة ذنبه فيه، وإزالة إثم ظلمه، ومما استدلوا به لعدم وجوب إعتاقه حديث سُويد بن

(1)

"المفهم" 4/ 347 - 349.

ص: 10

مُقَرِّن بعده أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمرهم حين لطم أحدهم خادمهم بعتقها، قالوا: ليس لنا خادم غيرها، قال:"فليستخدموها، فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها"، قال القاضي عياض: وأجمع العلماء أنه لا يجب إعتاق العبد لشيء مما يفعله به مولاه، مثل هذا الأمر الخفيف، قال: واختلفوا فيما كَثُر من ذلك، وشَنُع من ضَرْب مُبَرِّح مُنْهِك لغير موجِب لذلك، أو حَرَّقه بنار، أو قَطَع عضوًا له، أو أفسده، أو نحو ذلك، مما فيه مُثلة، فذهب مالك، وأصحابه، والليث إلى عتق العبد على سيده بذلك، ويكون ولاؤه له، ويعاقبه السلطان على فعله، وقال سائر العلماء: لا يَعتِق عليه، واختَلَف أصحاب مالك فيما لو حلق رأس الأمة، أو لحية العبد، واحتَجَّ مالك بحديث ابن عمرو بن العاص في الذي جَبَّ عبده، فأعتقه النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

.

وقال الشوكانيّ رحمه الله بعد ذكر الأحاديث المذكورة: وقد دلّت الأدلة على أنه يجوز للسيد أن يضرب عبده للتأديب، ولكن لا يجاوز به عشرة أسواط، ومن ذلك حديث:"إذا ضرب أحدكم خادمه، فليجتنب الوجه"، متّفق عليه، فأفاد أنه يباح ضربه في غيره، ومن ذلك الإذن لسيد الأمة يحدّها، فلا بُدّ من تقييد مطلق الضرب الوارد في حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا بما ورد من الضرب المأذون به، فيكون موجب العتق للعتق هو ما عداه. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: إن صخ الإجماع المدّعَى فذاك، وإلا فظواهر الأحاديث تدل على وجوب العتق؛ أي: فيما عدا الضرب المباح، وأما حديث سُويد بن مقرّن رضي الله عنه، فلا ينافي الوجوب، فقد أمرهم صلى الله عليه وسلم بعتقها، فلما شَكَوا إليه أنهم ليس خادم غيرها استثنى لهم خدمتها، فإذا استغنوا عنها خلّوا سبيلها، فوجوب العتق ظاهر فيه أيضًا، فتأمل بالإمعان، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4291]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى- قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ فِرَاسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 127.

(2)

"نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار" 6/ 292.

ص: 11

ذَكْوَانَ يُحَدِّثُ عَنْ زَاذَانَ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ دَعَا بِغُلَام لَهُ، فَرَأَى بِظَهْرِهِ أثَرًا، فَقَالَ لَهُ: أَوْجَعْتُكَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَأَنْتَ عَتِيقٌ، قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ شَيْئًا مِنَ الأَرْضِ، فَقَالَ: مَا لِي فِيهِ مِنَ الأَجْرِ مَا يَزِنُ هَدَا، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"مَنْ ضَرَبَ غُلَامًا لَهُ، حَدًّا لم يَأْتِهِ، أَوْ لَطَمَهُ، فَإِنَّ كَفارَتَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

وكلهم ذُكروا في الباب، والباب الماضي.

وقوله: (بِظَهْرِهِ أثَرًا)؛ أي: علامة ضرب.

وقوله: (عَتِيقٌ) فَعِيل بمعنى مفعول؛ أي: مُعتَق.

وقوله: (حَدًّا لم يَأْتِهِ) إتيان الحدّ كناية عن ارتكاب ما يوجبه، فالمراد أن السيّد إذا أقام على عبده حدًّا لم يرتكبه، فكفّارته إعتاقه.

[استطراد]: قال نافع: "كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إذا اشتدّ عَجَبُه بشيء من ماله تقرّب به إلى الله تعالى، وكان عبيده قد عرفوا منه ذلك، فربما لزم أحدهم المسجد، فإذا رآه ابن عمر على تلك الحال الحسنة أعتقه، فيقول له أصحابه: إنهم يخدعونك، فيقول: من خدعنا بالله انخدعنا له". كذا في "تهذيب الأسماء واللغات" للنوويّ رحمه الله

(1)

.

والحديث هذا من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4292]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ أبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ فِرَاسٍ، بِإِسْنَادِ شُعْبَةَ، وَأَبِي عَوَانَةَ، أمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَهْدِيٍّ فَدَكَرَ فِيهِ:"حَدًّا لم يَأْتِهِ"، وَفِي حَدِيثِ وَكِيعٍ:"مَنْ لَطَمَ عَبْدَهُ"، وَلَمْ يَذْكُرِ الْحَدَّ).

(1)

"تهذيب الأسماء واللغات" 1/ 279 - 280، وراجع:"تكملة فتح الملهم" 2/ 225.

ص: 12

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح بن مَلِيح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابد، من كبار [9](ت 6 أو 197) وله (70) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

3 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن مهديّ بن حسّان الْعَنبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ عارف بالرجال والحديث [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.

4 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فقيه عابد إمام حجة، وربّما دلّس، من رؤوس الطبقة [7](ت 161) وله (64) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية وكيع، عن سفيان الثوريّ هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(6051)

- حدّثنا ابن أبي رجاء، قثنا وكيعٌ، قثنا سفيان، عن فِرَاس، عن أبي صالح، عن زاذان، أن ابن عمر أعتق غلامًا له، فقال: ما لي من الأجر في عتقه مثل هذا، وتناول شيئًا من الأرض، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من لطم غلامه، فكفارته عتقه". انتهى

(1)

.

وأما رواية عبد الرحمن بن مهديّ، عن سفيان الثوريّ هذه، فساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(5267)

- حدّثنا عبد اللهِ، ثنا أبي، ثنا عبد الرحمن، عن سُفْيَانَ، عن فِرَاسٍ، أخبرني أبو صَالِحٍ، عن زَاذَانَ، قال: كنت عِنْدَ ابن عُمَرَ، فَدَعَا غُلَامًا له، فَأَعْتَقَهُ، ثُمَّ قال: مالي فيه من أَجْرٍ ما يَسْوَى هذا، أو يَزِنُ هذا، سمعت رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول:"من ضَرَبَ عَبْدًا له حَدًّا لم يَأْتِهِ، أو ظَلَمَهُ، أو لَطَمَهُ، شَكَّ عبد الرحمن، فإن كَفَّارَتَهُ أنْ يُعْتِقَهُ". انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 67.

(2)

"مسند أحمد بن حنبل" 2/ 61.

ص: 13

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4293]

(1658) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ (ح) وَحَدَّثنَا ابْنُ نُمَيْرٍ -وَاللَّفْظُ لَهُ- حَدَّثنَا أَبِي، حَدَّثنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كهَيْلٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدٍ، قَالَ: لَطَمْتُ مَوْلًى لَنَا، فَهَرَبْتُ، ثُمَّ جِئْتُ قُبَيْلَ الظُّهْرِ، فَصَلَّيْتُ خَلْفَ أبِي، فَدَعَاهُ، وَدَعَانِي، ثُمَّ قَالَ: امْتَثِلْ مِنْهُ، فَعَفَا، ثُمَّ قَالَ: كُنَّا بَني مُقَرِّنٍ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ لنَا إِلَّا خَادِمٌ وَاحِدَةٌ، فَلَطَمَهَا أَحَدُنَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"أعْتِقُوهَا"، قَالُوا: لَيْسَ لَهُمْ خَادِمٌ غَيْرُهَا، قَالَ:"فَلْيَسْتَخْدِمُوهَا، فَإِذَا اسْتَغْنَوْا عَنْهَا، فَلْيُخَلُّوا سَبِيلَهَا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، تقدّم قبل أربعة أبواب.

2 -

(أَبُوهُ) عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ الْهَمدانيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(سَلَمَةُ بْنُ كهَيْلٍ) الْحَضرميّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 122) أو بعدها (ع) تقدم في "الحيض" 5/ 704.

4 -

(مُعَاوِيَةُ بْنُ سُويدِ) بن مُقَرِّن الْمُزَنيّ، أبو سُوَيد الكوفيّ، ثقةٌ [3]، لم يُصِب من زعم أن له صحبة.

رَوَى عن أبيه، والبراء بن عازب، وعنه أشعث بن أبي الشعثاء، والشعبيّ، وأبو السفر سعيد بن يُحْمِد، وسلمة بن كُهيل، وعمرو بن مرة.

ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العجليّ: كوفيّ تابعيّ ثقة، وذكره أبو أحمد العسكريّ في الصحابة، وقال: ليس يصححون سماعه، وقد رَوَى مرسلًا.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1658)، وحديث (2066):"أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع. . ." الحديث.

وقال في "تهذيب التهذيب": له في الكتب حديثان. انتهى.

5 -

(أَبُوهُ) سُويد بن مُقَرِّن بن عائذ المزنيّ، أبو عَدِيّ، ويقال: أبو عمرو الكوفيّ، أخو النعمان، صحابيّ مشهور، نزل الكوفة، رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه معاوية، ومولاه أبو سعيد، وهلال بن يساف، وأبو جعفر شيخ

ص: 14

لسوادة بن أبي الأسود، وأبو مصعب هلال بن يزيد المازنيّ، ويقال: الشيبانيّ. أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، كرّره ثلاث مرّات.

والباقيان ذُكرا قبله، و"سفيان" هو: الثوريّ.

شرح الحديث:

(عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُويدٍ) بالتصغير، أنه (قَالَ: لَطَمْتُ) تقدّم أنه من باب ضرب، وهو الضرب بباطن الكفّ (مَوْلًى لَنَا) لا يُعرف اسمه، قاله صاحب "التنبيه"

(1)

.

(فَهَرَبْتُ) من باب نصر، يقال: هَرَب يَهرُبُ هَرَبًا، وهُرُوبًا: إذا فرَّ، والموضع الذي يُهرَبُ إليه: مَهْرَبٌ، مثالُ جَعْفر، ويتعدَّى بالتثقيل، فيقال: هَرَّبته، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(2)

. (ثُمَّ جِئْتُ قُبَيْلَ الظُّهْرِ، فَصَلَّيْتُ خَلْفَ أَبِي) سويد بن مقرّن رضي الله عنه (فَدَعَاهُ)؛ أي: دعا المولى الملطوم (وَدَعَانِي، ثمَّ قَالَ) للمولى (امْتَثِلْ مِنْهُ) وفي رواية أبي داود: "اقتَصَّ منه"، وفي رواية لأحمد:"اتئد منه"، يعني: قال للمولى: اقتَصّ منه، والامتثال مأخوذ من المِثل، أن يفعل الرجل بصاحبه مثلَ ما فَعَلَ هو به

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "امتثل منه"؛ أي: استقِدْ؛ أي: خذ الْقَوَد. انتهى

(4)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "امتثل" قيل: معناه: عاقبه قصاصًا، وقيل: افعل به مثل ما فَعَلَ بك، وهذا محمول على تطييب نفس المولى المضروب، وإلا فلا يجب القصاص في اللطمة ونحوها، وإنما واجبه التعزير، لكنه تبرع، فأمكنه من القصاص فيها، وفيه الرفق بالموالي، واستعمال التواضع. انتهى

(5)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "فلا يجب القصاص في اللطمة ونحوها"

(1)

راجع: "تنبيه المعلم" ص 281.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 637.

(3)

"تكملة فتح الملهم" 2/ 126.

(4)

"المفهم" 4/ 349.

(5)

"شرح النوويّ" 11/ 128.

ص: 15

فيه نظر لا يخفى، والحقّ أن القصاص واجب في اللطمة، ونحوها؛ للأدلة الصحيحة الكثيرة، وقد حقّقت ذلك في "شرح النسائيّ"، وسيأتي في هذا الشرح أيضًا في محلّه -إن شاء الله تعالى-.

(فَعَفَا) ذلك الملطوم عن القصاص (ثُمَّ قَالَ) سويد رضي الله عنه (كُنَّا بَنِي مُقَرِّنٍ)"بني" منصوب على الاختصاص، كما قال في "الخلاصة":

الاخْتِصَاصُ كَنِدَاءٍ دُونَ "يَا"

كـ "أَيُّهَا الْفَتَى" بِإِثْرِ "ارْجُونِيَا"

وَقَدْ يُرَى ذَا دُونَ "أَيِّ" تَلْوَ "أَلْ"

كَمِثْلِ "نَحْنُ الْعُرْبَ أسْخَى مَنْ بَذَلْ"

وفي رواية أبي داود: "فإنا معشر بني مقرِّن كنا سبعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم".

(عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: في زمنه (لَيْسَ لَنَا إِلَّا خَادِمٌ) يُطلق على الذكر، والأنثى، وهي المرادة هنا، بدليل قوله:(وَاحِدَةٌ) وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "إلا خادم واحدة" هكذا هو في جميع النسخ، والخادم بلا هاء يُطلق على الجارية، كما يطلق على الرجل، ولا يقال: خادمة بالهاء إلا في لغة شاذة قليلة، أوضحتها في "تهذيب الأسماء واللغات". انتهى

(1)

.

(فَلَطَمَهَا أحَدُنَا)؛ أي: أحد بني مقرّن، وفي الرواية الآتية: قال: "لقد رأيتني سابع سبعة من بني مقرّن، ما لنا خادم إلا واحدة، لطمها أصغرنا، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نُعتقها".

وقال صاحب "التنبيه": خادم بني مقرّن لا أعرفها، وكذا اللاطم لها

(2)

.

(فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "أَعْتِقُوهَا") بقطع الهمزة، من الإعتاق رباعيًّا (قَالُوا: لَيْسَ لَهُمْ) فيه التفات؛ إذ الظاهر: ليس لنا (خَادِمٌ غَيْرُهَا، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَلْيَسْتَخْدِمُوهَا، فَإِذَا اسْتَغْنَوْا عَنْهَا)؛ أي: عن خدمتها (فَلْيُخَلُّوا سَبيلَهَا")؛ أي: يتركوا استخدامها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سويد بن مقرّن رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 128 - 129.

(2)

راجع: "تنبيه المعلم" ص 281.

ص: 16

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 4293 و 4294 و 4295 و 4296 و 4297](1658)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(178)، و (أبو داود) في "سننه"(5167)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(3/ 193 و 194)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(9/ 441)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 447 و 5/ 444)، و (الترمذيّ) في "جامعه"(4/ 114)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 67)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 12)، و (أبو بكر الشيبانيّ) في "الآحاد والمثاني"(2/ 319)

(1)

، وفوائد الحديث تقدّمت في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4294]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ -وَاللَّفْظُ لأَبِي بَكْرٍ- قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ، قَالَ: عَجِلَ شَيْخٌ، فَلَطَمَ خَادِمًا لَهُ، فَقَالَ لَهُ سُويدُ بْنُ مُقَرِّنٍ: عَجَزَ عَلَيْكَ إِلَّا حُرُّ وَجْهِهَا، لَقَدْ رَأَيْتُنِي سَابعَ سَبْعَةٍ مِنْ بَنِي مُقَرِّنٍ، مَا لَنَا خَادِمٌ إِلَّا وَاحِدَةٌ، لَطَمَهَا أصْغَرُنَا، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نُعْتِقِهَا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(ابْنُ إِدْرِيسَ) هو: عبد الله بن إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن الأوديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [8](ت 192) وله بضع وسبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

2 -

(حُصَيْنُ) بن عبد الرحمن السلميّ، أبو الْهُذيل الكوفيّ، ثقةٌ تغيّر حفظه في الآخر [5](ت 136) وله (93) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 285.

3 -

(هِلَالُ بْنُ يَسَافٍ) -بكسر التحتانيّة، ثم مهملة، ثم فاء-، ويقال: إساف الأشجعيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ [3](خت م 4) تقدم في "الطهارة" 9/ 576.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (عَجِلَ شَيْخٌ) -بفتح العين المهملة، وكسر الجيم- من باب

(1)

هو للحافظ أحمد بن عمرو بن الضحاك، أبي بكر الشيباني المتوفى سنة (287 هـ).

ص: 17

تَعِبَ؛ أي: أسرع، والشيخ المذكور لا يُعرف اسمه، وكذا الخادم الملطوم

(1)

.

وفي رواية لأبي داود: "كنا نزولًا في دار سُويد بن مقرّن، وفينا شيخ فيه حِدّةٌ، ومعه جاريةٌ، فلطم وجهها، فما رأيت سُويدًا أشدّ غضبًا منه ذاك اليوم، قال: عجز عليك. . . إلخ".

وقوله: (عَجَزَ عَلَيْكَ إِلَّا حُرُّ وَجْهِهَا) قال النوويّ رحمه الله: معناه: عجزت، ولم تجد أن تضرب إلا حُرّ وجهها، وحُرّ الوجه صفحته، وما رَقّ من بشرته، وحُرُّ كلِّ شيء: أفضله، وأرفعه، قيل: ويَحْتَمِل أن يكون مراده بقوله: "عجز عليك"؛ أي: امتنع عليك، و"عَجَزَ" بفتح الجيم على اللغة الفصيحة، وبها جاء القرآن:{أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ} [المائدة: 31]، ويقال: بكسرها. انتهى

(2)

.

وقوله: (لَقَدْ رَأَيْتُنِي)؛ أي: رأيت نفسي، وهذا مما اختصّت به أفعال القلوب، من جواز كون فاعلها ومفعولها ضميرين متّصلين لمسمّى واحد، ومنه قوله تعالى:{أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق: 7]، ويقال: ظننتني قائمًا، وخلتني لي اسم، وألحق بها في ذلك "رأى" الحلميَّة، والبصريّة بكثرة، نحو:{إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] وقول الشاعر:

وَلَقَدْ أَرَانِي لِلرِّمَاحِ دَرِيئَةً

مِنْ عَنْ يَمِينِي تَارَةً وَأَمَامِي

و"عَدِمَ"، و"فَقَدَ"، و"وَجَدَ" بمعنى لَقِي، دون باقي الأفعال، فلا يقال: ضربتني اتفاقًا؛ لئلا يكون الفاعل مفعولًا، بل ضربت نفسي، وظلمت نفسي؛ ليتغاير اللفظان

(3)

، وقد تقدّم غير مرّة.

وقوله: (سَابِعَ سَبْعَةٍ)؛ أي: أحد سبعة، وهذا هو الذي ذكره ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" في "باب العدد" بقوله:

وَإِنْ تُرِدْ بَعْضَ الّذِي مِنْهُ بُنِي

تُضِفْ إِلَيْهِ مِثْلَ بَعْضٍ بَيِّنِ

وقوله: (فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نُعْتِقَهَا) قال النوويّ رحمه الله: هذا محمول على أنهم كلهم رضوا بعتقها، وتبرّعوا به، وإلا فاللطمة إنما كانت من واحد

(1)

راجع: "تنبيه المعلم" ص 281.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 129.

(3)

راجع: "حاشية الخضريّ على شرح ابن عَقِيل على الخلاصة" 1/ 221 - 222.

ص: 18

منهم، فسَمَحُوا له بعتقها؛ تكفيرًا لذنبه. انتهى

(1)

.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى تمام شرحه، وتخريجه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4295]

(. . .) - (حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ، قَالَ: كُنَّا نَبِيعُ الْبَزَّ فِي دَارِ سُويدِ بْنِ مُقَرِّنٍ أَخِي النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ، فَخَرَجَتْ جَارِيةٌ، فَقَالَتْ لِرَجُلٍ مِنَّا كَلِمَةً، فَلَطَمَهَا، فَغَضِبَ سُويدٌ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ إِدْرِيسَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ [9](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (كُنَّا نَبِيعُ الْبَزَّ) -بفتح الموحّدة، وتشديد الزاي-: نوع من الثياب، وقيل: الثياب خاصّة من أمتعة البيت، وقيل: أمتعة التاجر من الثياب، ورجلٌ بَزاز، والحرفة: الْبِزَازة بالكسر، والْبِزّة بالكسر مع الهاء: الْهَيئةُ، يقال: حسنُ الْبِزّة، ويقال في السلاح: بِزّةٌ بالكسر مع الهاء، وبَزّ بالفتح مع حذفها، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(2)

.

وقوله: (أَخِي النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ) بن عائذ المزنيّ، أبي عمرو، ويقال: أبو الحكيم، أخو سُويد بن مقرِّن، وإخوته السبعة، صحابيّ مشهور، استُشهد بنهاوند سنة إحدى وعشرين، ووهِمَ من زَعَم أنه النعمان بن عمرو بن مقرّن، فذاك آخر، وهو ابن أخي هذا، وهو تابعيّ، قاله في "التقريب"

(3)

، وللنعمان بن مقرّن هذا عند مسلم حديث واحد سيأتي برقم (1731): "اغزوا باسم في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله

" الحديث، وسنستوفي ترجمته هناك -إن شاء الله تعالى-.

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 129.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 47 - 48.

(3)

"التقريب" ص 359.

ص: 19

وقوله: (فَخَرَجَتْ جَارِيَةٌ) وقع في "مسند أحمد" التصريح بأن تلك الجارية لسويد بن مقرّن رضي الله عنه، قال الإمام أحمد رحمه الله:

(23792)

- حدثنا محمد بن جفر، ثنا شعبة، عن حُصين، قال: سمعت هلال بن يساف يحدث عن سويد بن مقرن، قال: كنا نبيع اللبن في دار سويد بن مقرن، قال: فخرجت جارية لسويد، فكلّمت رجلًا منا، فسَبَّته، فلطم وجهها، فقال سويد: لطمتها، لقد رأيتني وإني لسابع سبعة من إخوتي، ما لنا إلا خادم، فعمد أحدنا، فلطمها، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعتقها. انتهى

(1)

.

وقوله: (فَقَالَتْ لِرَجُلٍ مِنَّا كَلِمَةً)؛ أي: قبيحة، وقد بيّن في رواية أحمد المذكورة أن المراد بها السبّ، قال:"فكلّمت رجلًا منا، فسبّته".

وقوله: (فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ إِدْرِيسَ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير شعبة؛ أي: ذكر شعبة عن حصين نحو ما ذكره عبد الله بن إدريس عنه.

[تنبيه]: رواية شعبة، عن حُصين بن عبد الرحمن هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(6058)

- حدّثنا أبو حميد مولى بني هاشم، قثنا

(2)

حجاج بن محمد، عن شعبة، عن حصين، عن هلال بن يساف، قال: كنا نبيع البزّ في دار سُويد بن مُقَرِّن، فخرجت جارية له، فقالت لرجل شيئًا، فلطمها، فرأى ذلك سويد بن مقرِّن، فقال: ألطمت وجهها؟ لقد رأيتني سابع سبعة، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما لنا إلا خادم واحد، فلطمها أحدنا، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعتقها. انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4296]

(. . .) - (وَحَدّثنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَني أَبِي، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، قَالَ: قَالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ: مَا اسْمُكَ؟ قُلْتُ: شُعْبَةُ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ: حَدَّثَنى أَبُو شُعْبَةَ الْعِرَاقِيُّ، عَنْ سُويدِ بْنِ مُقّرِّنٍ، أَنَّ جَارِيَةً لَهُ لَطَمَهَا إِنْسَانٌ، فَقَالَ

(1)

"مسند أحمد بن حنبل" 5/ 444.

(2)

مختصر من "قال: حدّثنا".

(3)

"مسند أبي عوانة" 4/ 69.

ص: 20

لَهُ سُويْدٌ: أمَا عَلِمْتَ أنَّ الصُّورَةَ مُحَرَّمَةٌ؟ فَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنِّي لَسَابعُ إِخْوَةٍ لِي، مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا لَنَا خَادِمٌ غَيْرُ وَاحِدٍ، فَعَمَدَ أحَدُنَا فَلَطَمَهُ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ نُعْتِقَهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدُ الصَّمَدِ) أبو عبيدة البصريّ، صدوقٌ [11](ت 252)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 49/ 311.

2 -

(أبُوهُ) عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد الْعَنبريّ مولاهم التّنّوريّ، أبو سهل البصريّ، ثقةٌ ثبت في شعبة [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ) بن عبد الله بن الْهُدَير التيميّ المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [3](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

4 -

(أَبُو شُعْبَةَ الْعِرَاقيُّ) المزنيّ مولاهم الكوفيّ، مقبول [3].

وفي "تهذيب التهذيب": أبو شعبة مولى سُويد بن مقرّن المزنيّ، كوفيّ، روى عن مولاه في تحريم لطم الصورة، وعنه ابن المنكدر، ذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال شعبة: قال لي ابن المنكدر: ما اسمك؟ قلت: شعبة، فقال: حدّثني أبو شعبة، وكان لطيفًا. انتهى

(1)

.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

[فإن قلت]: كيف أخرج المصنف رواية أبي شعيب، فهو وإن وثّقه ابن حبّان، إلا أنه مجهول؛ لأنه لم يرو عنه إلا محمد بن المنكدر، ولذا قال عنه في "التقريب" مقبول؟.

[قلت]: إنما أخرج له متابعة، ومثله يُحتمل في المتابعات، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

والباقيان ذُكرا قبله.

(1)

"تهذيب التهذيب" 4/ 536.

ص: 21

وقوله: (مَا اسْمُكَ؟) إنما سأله عن اسمه إيناسًا له، وتلطّفًا معه حيث إن المحدّث له بهذا الحديث يوافق كنية والده.

وقوله: (أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الصُّورَةَ مُحَرَّمَةٌ؟) قال النوويّ رحمه الله: فيه إشارة إلى ما صَرَّح به في الحديث الآخر: "إذا ضرب أحدكم العبد، فليجتنب الوجه"؛ إكرامًا له؛ لأن فيه محاسن الإنسان، وأعضاءه اللطيفة، وإذا حصل فيه شين، أو أثر، كان أقبح. انتهى

(1)

.

وقال الأبّي نقلًا عن القاضي عياض: قوله: "محرّمة"؛ أي: ذات حُرمة، ويَحْتمل أن يريد تحريم الضرب، وهو إشارة إلى الحديث الآخر:"إذا ضَرَب أحدكم العبد، فليجتنب الوجه"؛ إكرامًا له؛ لاجتماع محاسن الإنسان، وأعضائه الرئيسة فيه، ولأن التشويه فيه أقبح، وقد علّله في الحديث الآخر بأنها الصورة التي خلق عليها آدم، واختارها الله خليفةً في أرضه. انتهى

(2)

.

وقوله: (وَمَا لَنَا خَادِمٌ غَيْرُ وَاحِدٍ) تقدّم ما يدلّ على أنها جارية، ولعل تذكيره هنا باعتبار لفظ خادم، والله تعالى أعلم.

وقوله: (فَعَمَدَ أَحَدُنَا) يقال: عَمَدتُ للشيء عَمْدًا، من باب ضرب، وعمدت إليه: قصدته، ومثله تعمّدته

(3)

؛ أي: قصد أحدنا للطمه (فَلَطَمَهُ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نُعْتِقَهُ) بضمِّ النون، من الإعتاق.

والحديث من أفراد المصنف، وقد مضى شرحه، وتخريجه قبل حديثين، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4297]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَدُ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ، أخْبَرَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: قَالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ: مَا اسْمُكَ؟ فَدَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ عَبْدِ الصَّمَدِ).

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 129 - 130.

(2)

"شرح الأبّي" 4/ 385.

(3)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 428.

ص: 22

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ) بن حازم الأزديّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 315.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ عَبْدِ الصَّمَدِ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير وهب بن جرير.

[تنبيه]: رواية وهب بن جرير، عن شعبة هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(6059)

- حدّثنا إبراهيم بن مرزوق، قثنا وهب بن جرير، قثنا شعبة، عن محمد بن المنكدر، قال: سألني عن اسمي، فقلت: شعبة، فقال: ثنا أبو شعبة، قال: لطم رجل وجه خادم له عند سويد بن مقرِّن، فقال سويد: ألم تعلم أن الصورة محرَّمة؟ لقد رأيتني، وأنا سابع سبعةِ إخوةٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما لنا إلا خادم واحد، فلطم أحدنا وجهه، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن نُعتقه. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4298]

(1659) - (حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ -يَعْني: ابْنَ زِيَادٍ- حَدَّثنَا الأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ: كُنْتُ أضْرِبُ غُلَامًا لِي بِالسَّوْطِ، فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِي: "اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ"، فَلَمْ أَفْهَمِ الصَّوْتَ مِنَ الْغَضَبِ- قَالَ: فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إِذَا هُوَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: "اعْلَمْ أَبا مَسْعُودٍ، اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ"، قَالَ: فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِي، فَقَالَ: "اعْلَمْ أَبا مَسْعُودٍ، أَن اللهَ أَقْدرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَدَا الْغُلَامِ"، قَالَ: فَقُلْتُ: لَا أضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا).

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 69.

ص: 23

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ) الْعَبْديّ مولاهم، البصريّ، ثقة [8](ت 176) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

2 -

(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم قبل أربعة أبواب.

3 -

(إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ) بن يزيد بن شريك، أبو أسماء الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ، يرسل، ويدلّس [5](ت 92) وله أربعون سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 406.

4 -

(أَبُوهُ) يزيد بن شَرِيك بن طارق التيميّ الكوفيّ، يقال: إنه أدرك الجاهليّة [2] مات في خلافة عبد الملك (ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 406.

5 -

(أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ) عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاريّ الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه قبل الأربعين، وقيل: بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 458.

و"أبو كامل الجحدري" هو: فضيل بن حسين ذُكِر أول الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه مسلسل بالكوفيين من الأعمش، والباقيان بصريّان، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: الأعمش، عن إبراهيم التيميّ، عن أبيه، وفيه رواية الراوي عن أبيه، وفيه أن صحابيّه منسوب إلى خلاف الظاهر، فإنه إذا قيل: فلان البدريّ، فإنما يتبادر إلى الذهن أنه حضر وقعة بدر، وهو ليس كذلك عند الأكثرين، فإنه إنما نُسب إلى بدر لمجاورته لبدر، لا لشهوده وقعتها، وإلى هذا أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث" في "باب من نُسِب إلى خلاف الظاهر" فقال:

وَنَسَبُوا الْبَدْرِيَّ وَالْخُوزِيَّا

لِكَوْنِهِ جَاوَرَ وَالتَّيْمِيَّا

لكن الذي اختاره البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" أنه ممن شهد وقعة بدر، حيث عدّه في جملة أهل بدر حيث ذكر اسمه فيهم، فعلى هذا فهو منسوب إلى الظاهر، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ) يزيد بن شَرِيك، أنه (قَالَ: قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ) عقبة بن عمرو (الْبَدْرِيُّ) نسبة إلى بدر المكان المعروف؛ إما لكونه

ص: 24

جاور، كما قال الكثيرون، وإما لكونه حضر غزوة بدر، كما صححه البخاريّ رحمه الله، وهو الراجح. (كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي) لم يُعرف اسمه، كما قال صاحب "التنبيه"

(1)

. (بِالسَّوْطِ) بفتح، فسكون: هو الذي يُضرب به، جمعه أسواط، وسِياطٌ، مثل ثوب وأثواب، وثياب

(2)

. (فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِي)؛ أي: صوت إنسان من ورائي يقول: ("اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ") منادى بحذف حرف النداء اختصارًا، كما قال الحريري في "ملحته":

وحَذْفُ "يَا" يَجُوزُ فِي النِّدَاءِ

كَقَوْلِهِمْ "رَبِّ اسْتَجِبْ دُعَائِي"

(فَلَمْ أَفْهَمِ الصَّوْتَ مِنَ الْغَضَبِ)؛ أي: لأجل شدّة غضبي على العبد (قَالَ: فَلَمَّا دَنَا)؛ أي: قرُب (مِنِّي إِذَا) فجائيّة؛ أي: ففاجأني (هُوَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَإذَا هُوَ يَقُولُ: "اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ") كرّره للتأكيد عليه (قَالَ) أبو مسعود (فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِي، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("اعْلَمْ أَبا مَسْعُودٍ، أَنَّ اللهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ")؛ أي: أتمّ، وأبلغ من قدرتك على عبدك هذا؛ يعني: أن قدرة الله على تعذيبك أكثر وأشد من قدرتك على تعذيب هذا العبد.

وفي الحديث هداية بليغة إلى أن الرجل ينبغي له أن يذكر عند سَوْرة غضبه مقامه في الآخرة بين يدي ربّه، ويستحضر ذلك، حين يطلب من الله تعالى العفو والغفران، فمن بذل ذلك لمن هو في قدرته رجا حصول ذلك له من الله سبحانه وتعالى، ومن لم يبذله فرجاؤه على خطر عظيم، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العزيز الحكيم.

(قَالَ) أبو مسعود (فَقُلْتُ: لَا أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا) قال النوويّ رحمه الله: فيه الحثّ على الرفق بالمملوك، والوعظ، والتنبيه على استعمال العفو، وكظم الغيظ، والحكم كما يحكم الله تعالى على عباده. انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

راجع: "تنبيه المعلم" ص 281.

(2)

راجع: "الصحاح" ص 523، و"المصباح المنير" 1/ 295.

(3)

"شرح النوويّ" 11/ 130.

ص: 25

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي مسعود البدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [8/ 4298 و 4299 و 4300 و 4301 و 4302](1659)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(171)، و (أبو داود) في "سننه"(5159 و 5160)، و (الترمذيّ) في "جامعه"(1948)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 120 و 273 و 274)، و (أبو عوانة)(4/ 70)، و (الطبرانيّ) في (المعجم الكبير" (17/ 245)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 10)، وأما فوائد الحديث، فقد تقدّمت، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب تال:

[4299]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَثَنَا مُحَمَدُ بْنُ حُمَيْدٍ -وَهُوَ الْمَعْمَرِيُّ- عَنْ سُفْيَانَ (ح) وَحَدثنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ (ح) وَحَدَثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَانُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، كُلُّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ، بِإِسْنَادِ عَبْدِ الْوَاحِدِ، نَحْوَ حَدِيثِهِ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ: فَسَقَطَ مِنْ يَدِي السَّوْطُ مِنْ هَيْبَتِهِ).

رجال هذا الإسناد: أحد عشر:

1 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضّبّيّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.

2 -

(مُحَمَدُ بْنُ حُمَيْدٍ) اليشكريّ، أبو سفيان الْمَعَمريّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقة، مشهورٌ بالصلاح والعبادة [9].

رَوَى عن معمر، وهشام بن حسّان، وسفيان الثوريّ.

وروى عنه يحيى بن يحيى النيسابوريّ، والنفيليّ، وعبد الله بن عون الخراز، ومحمد بن عيسى بن الطباع، وأبو خيئمة زهير بن حرب، وعمرو الناقد، وغيرهم.

قال ابن أبي خيثمة وغير واحد عن ابن معين: ثقةٌ، وقال عثمان

ص: 26

الدارميّ، عن ابن معين: رجل صدوق، وقال صالح بن محمد الأسديّ، وابن معين: المعمريّ أحب إليّ من عبد الرزاق، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال أبو داود: ثقة، وقال النسائيّ: ليس به بأس، ووثقه أبو خيثمة زهير بن حرب فيما ذكره ابن شاهين في "الثقات"، وذكره العقيليّ في "الضعفاء"، وقال: في حديثه نظر، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال ابن قانع: مات سنة اثنتين وثمانين ومائة.

أخرج له البخاريّ في التعاليق، والمصنف، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا الحديث برقم (1659)، وحديث (2846): "تحاجّت النار والجنّة، فقالت

" الحديث.

[تنبيه]: قوله: (وَهُوَ الْمَعْمَرِيُّ) -بفتح الميمين، وإسكان العين المهملة بينهما-: نسبة إلى معمر، وإنما قيل له ذلك؛ لأنه رحل إلى معمر بن راشد، وقيل: لأنه كان يتتبع أحاديث معمر

(1)

.

3 -

(عَفَّانُ) بن مسلم الصفار، تقدّم قبل أربعة أبواب.

4 -

(أَبُو عَوَانَةَ) الوضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ، تقدّم في الباب الماضي.

والباقون ذُكروا في الباب، والبابين قبله، و "سفيان" هو: الثوريّ.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ)؛ يعني: الثلاثة: جرير بن عبد الحميد، وسفيان الثوريّ، وأبا عوانة، فكلهم رووا هذا الحديث عن الأعمش بإسناد عبد الواحد، عنه نحو حديثه.

وقوله: (مِنْ هَيْبَتِهِ)؛ أي: لأجل إجلاله، وتعظيمه، يقال: هَابَهُ يَهَابه، من باب تَعِبَ هَيْبةً: حَذِرَهُ، قال ابن فارس: الْهَيْبَةُ: الإجلال، فالفاعل: هائبٌ، والمفعول: هَيُوبٌ، ومَهِيبٌ أيضًا، وَيهِيبه، من باب ضرب لغةٌ، وتهيّبته: خِفْتُهُ، وتهيّبني: أفزعني، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(2)

.

[تنبيه]: رواية جرير بن عبد الحميد، عن الأعمش، لم أجد من ساقها بتمامها، غير أن الطبرانيّ قال في "المعجم الكبير":

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 130.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 644.

ص: 27

(685)

- حدّثنا إِدْرِيسُ بن عبد الْكَرِيمِ الْحَدَّادُ، ثنا عَاصِمُ بن عَلِيٍّ، ثنا قَيْسُ بن الرَّبِيع، عَنِ الأَعْمَشِ، عن إبراهيم التَّيْمِيِّ، عن أبيه، عن أبي مَسْعُودٍ، قال: بَيْنَمَا أَنا أَضْرِبُ غُلامًا لي، إِذْ سمعت صَوْتًا من خَلْفِي:"اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ"، فَالْتَفَت، فإذا هو رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَقَطَ السَّوْطُ من يَدِي، من هَيْبَتِهِ، فقال:"أَمَا وَاللهِ، لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ على هذا".

(686)

- حدّثنا الْحُسَيْنُ بن إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بن عبد اللهِ الْحَضْرَمِيُّ، قَالا: ثنا عُثْمَانُ بن أبي شَيْبَةَ، ثنا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عن إبراهيم التَّيْمِيِّ، عن أبيه، عن أبي مَسْعُودٍ، قال: إني لأَضْرِبُ غُلامًا لي، إِذْ سمعت صَوْتًا من خَلْفِي:"اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ"، فَالْتَفَتُّ، فإذا هو رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فذكر نَحْوَهُ. انتهى

(1)

.

وأما رواية سفيان الثوريّ، عن الأعمش، فساقها عبد الرزّاق رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:

(17959)

- عبد الرزاق، عن الثوريّ، عن الأعمش، عن إبراهيم التيميّ، عن أبيه، عن أبي مسعود الأنصاريّ، قال: بينا أنا أضرب غلامًا لي، إذ سمعت صوتًا من ورائي:"اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود" ثلاثًا، فالتفت، فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"واللهِ للهُ أقدر عليك منك على هذا"، فحلفت أن لا أضرب مملوكًا لي أبدًا. انتهى

(2)

.

وأما رواية أبي عوانة، عن الأعمش، فساقها الطبرانيّ رحمه الله في "الكبير" مقرونًا بشعبة، فقال:

(684)

- حدّثنا زَكَرِيَّا بن حَمْدَويهِ الصَّفَّارُ، ثنا عَفَانُ، ثنا شُعْبَةُ، وأبو عَوَانَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عن إبراهيم التَّيْمِيِّ، عن أبيه، عن أبي مَسْعُودٍ، قال: بَيْنَمَا أنا أَضْرِبُ غُلامًا لي بِالسَّوْطِ، إِذْ سمعت صَوْتًا من خَلْفِي:"اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ"، فَجَعَلْتُ لا أَعْقِلُ مِنَ الْغَضَبِ، حتى دَنَا مِنِّي رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فلما رَأَيْتُهُ وَقَعَ السَّوْطُ من يَدِي، فقال:"اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَن اللهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ"،

(1)

"المعجم الكبير" 17/ 246.

(2)

"مصنف عبد الرزاق" 9/ 446.

ص: 28

فقلت: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لا أَضْرِبُ عَبْدًا أبدًا. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4300]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي، فَسَمِعْتُ مِنْ خَلْفِي صَوْتًا:"اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ"، فَالْتَفَتُّ، فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ، فَقَالَ: "أَمَا لَوْ لم تَفْعَلْ

(2)

لَلَفَحَتْكَ النَّارُ، أوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَدُ بْنُ الْعَلَاءِ) أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقة، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِمُ في حديث غيره، وقد رُمي بالإرجاء، من كبار [9](ت 195) وله (82) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ)؛ أي: أتمّ، وأبلغ من قدرتك على عبدك، قال الطيبيّ رحمه الله: عَلَّق عمل اعلم باللام الابتدائية، و"الله" مبتدأ، و"أقدر" خبره، و "عليك" صلة "أقدر"، و"منك" متعلق به، وقوله:"عليه" لا يجوز أن يتعلق بقوله: "أقدر"؛ لأنه أخذ ماله، ولا بمصدر مقدَّر عند قوله:"منك"؛ أي: من قدرتك كما ذهب إليه المظهر؛ لأن المعنى يأباه، بل هو حال من الكاف؛ أي: أقدر منك حال كونك قادرًا عليه

(3)

.

وقوله: (فَالْتَفَتُّ)؛ أي: نظرت إلى خلفي.

وقوله: (فَقُلْتُ)؛ أي: بسبب نظرته المباركة.

(1)

"المعجم الكبير" 17/ 245.

(2)

وفي نسخة: "أما والله لو لم تفعل".

(3)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 10/ 351 - 350.

ص: 29

وقوله: (هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ)؛ أي: لابتغاء مرضاته، قال القاضي عياض رحمه الله: ليس فيه أنه صلى الله عليه وسلم أمره بعتقه، ولكنه رأى أنه زاد على حدّ الأدب مما استوجب به عقوبة الله تعالى، ألا ترى كيف كان العبد يستغيث منه بالله تعالى، وهو يضربه، حتى استعاذ برسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

.

وقوله: ("أَمَا لَوْ لم تَفْعَلْ) وفي نسخة: "أما والله لو لم تفعل"، و"أما" بالتخفيف للتنبيه، والاستفتاح، كـ "ألا"؛ أي: لو ما فعلت ما فعلت من إعتاق هذا العبد.

وقوله: (لَلَفَحَتْكَ النَّارُ، أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ")"أو" للشكّ من الراوي؛ أي: أحرقتك، أو لمستك النار؛ أي: أصابتك؛ إذ ضربته ظلمًا، ولم يَعْفُ عنك.

وقال القرطبيّ رحمه الله: فيه تنبيه على أن الذي فعله من ضرب عبده حرام، فكأنه تعدَّى في أصل الضرب؛ بأن ضربه على ما لا يستحقّ، أو في صفة الضرب، فزاد على المستَحَق. ولا يُخْتَلَف: في أن تأديب العبد بالضرب، والحبس، وغيره جائز إذا وقع في محله وعلى صفته.

ومساق الرواية الأخرى يدلُّ على تحريم قذف المملوك، وأنَّه ليس فيه في الدنيا حدٌّ للقذف، وهو مذهب مالك، والجمهور، وهو المفهوم من قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لم يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4]، فإن الإحصان هنا يمكن حمله على الإسلام والحرية والعفة، على قول من يرى: أن اللفظ المشترك يحمل على جميع محامله، ولأن العبد ناقص عن درجة الحر نقصانًا عن كفر، فلا يحدُّ قاذفه، كما لا يحذ قاذف الكافر، ولأنَّه ناقصٌ عن درجة الحُر، فلا يحدُّ الحر بقذفه؛ كما لا يقتل به.

وقد ذهب قوم: إلى أن الحرَّ يحدُّ إذا قذف العبد. والحجة عليهم كلّ ما ذكرناه من الحديث، والقرآن، والقياس. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي تحقيق هذه المسألة بأدلّتها في محلها -إن شاء الله تعالى-.

(1)

راجع: "شرح الأبّيّ" 4/ 385 - 386.

(2)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 4/ 349 - 350.

ص: 30

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4301]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى- قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِبهِ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، أَنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ غُلَامَهُ

(1)

، فَجَعَلَ يَقُولُ: أعُوذُ بِاللهِ -قَالَ- فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ، فَقَالَ: أعُوذُ بِرَسُولِ اللهِ، فَتَرَكَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:(وَاللهِ لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ"، قَالَ: فَأَعْتَقَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

وكلّهم ذُكروا في الباب، و "ابن أبي عديّ" هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، و "سليمان" هو: الأعمش.

وقوله: (فَقَالَ: أَعُوذُ بِرَسُولِ اللهِ، فَتَرَكَهُ) تأوّل العلماء -رحمهم الله تعالى- هذا عن أبي مسعود رضي الله عنه بأنه لعله لم يسمع استعاذته بالله تعالى؛ لشدّة غضبه، كما لم يسمع نداء النبيّ صلى الله عليه وسلم، حتى كرّره ثلاث مرّات:"يا أبا مسعود"، أو يكون لَمّا استعاذ برسول الله صلى الله عليه وسلم تنبّه لمكانه، ذكره النوويّ رحمه الله

(2)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4302]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ -يَعْنِي: ابْنَ جَعْفَرٍ- عَنْ شُعْبَةَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَهُ: أعُوذُ بِاللهِ، أَعُوذُ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ) العسكريّ، أبو محمد الفرائضيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ يُغْرِبُ [10](ت 3 أو 255)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 200.

والباقيان ذُكرا قبله، "ومحمد بن جعفر" هو: المعروف بغندر.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَهُ

إلخ) فاعل "لم يذكر" ضمير محمد بن جعفر.

(1)

وفي نسخة: "يضرب غلامًا له".

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 131.

ص: 31

[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر، عن شعبة هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(22404)

- حدثنا محمد بن جَعْفَرٍ، ثنا شُعْبَةُ، عن سُلَيْمَانَ، عن إبراهيم التيميّ، عن أبيه، عن أبي مَسْعُودٍ، أنه كان يَضْرِبُ غُلَامًا له، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"والله، لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عليه"، قال: يا نبيّ اللهِ، فإني أُعْتِقُهُ لِوَجْهِ اللهِ. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(9) - (بَابُ التَّغْلِيظِ عَلَى مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ بِالزِّنَا)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4303]

(1660) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ غَزْوَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي نُعْم، حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ بِالزِّنَا، يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(فُضَيْلُ بْنُ غَزْوَانَ) -بفتح الغين المعجمة، وسكون الزاي- ابن جرير الضّبيّ مولاهم، أبو الفضل الكوفيّ، ثقةٌ، من كبار [7] مات بعد سنة (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 405.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي نُعْمٍ) -بضمّ النون، وسكون العين المهملة- البَجَليّ، أبو الحكم الكوفيّ، صدوقٌ عابدٌ [3] مات قبل المائة (ع) تقدم في "الزكاة" 45/ 2451.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي، وقبل بابين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه مسلسلٌ بالكوفيين إلا الصحابيّ، فمدنيّ، وأنه مسلسل بالتحديث،

(1)

"مسند أحمد بن حنبل" 5/ 273.

ص: 32

والسماع من أوله إلى آخره، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.

شرح الحديث:

عَن (عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي نُعْمٍ) البجليّ، أنه قال:(حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم) وفي الرواية التالية: "سمعتُ أبا القاسم صلى الله عليه وسلم نبيّ التوبة"("مَنْ) موصولة مبتدأ، خبره جملة "يقام

إلخ " (قَذَفَ مَمْلُوكَهُ بِالزِّنَا) وفي رواية الإسماعيليّ: "من قَذَفَ عبده بشيء"، ومعناه: رماه به، يقال: قذف بالحجارة قذْفًا، من باب ضرب: رمى بها، وقَذَفَ المحصنة قَذْفًا: رماها بالفاحشة، والْقَذِيفة: الْقَبِيحة، وهي الشتم، وقذَف بقوله: تكلّم من غير تدبّر، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

زاد في البخاريّ: "وهو بريء مما قال"، وهي جملة حاليّة.

(يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ")؛ أي: فلا يُحدّ، وفي رواية النسائي من هذا الوجه:"أقام عليه الحدَّ يوم القيامة"، وأخرج من حديث ابن عمر رضي الله عنهما:"من قذف مملوكه كان لله في ظهره حدّ يوم القيامة، إن شاء أخذه، وإن شاء عفا عنه".

قال النوويّ رحمه الله: فيه إشارة إلى أنه لا حدّ على قاذف العبد في الدنيا، وهذا مجمع عليه، لكن يُعَزَّر قاذفه؛ لأن العبد ليس بمحصَن، وسواء في هذا كله من هو كامل الرق، وليس فيه سبب حرية، والمدبرُ والمكاتبُ، وأم الولد، ومن بعضه حرّ، هذا في حكم الدنيا، أما في حكم الآخرة فيُسْتَوْفَى له الحدّ من قاذفه؛ لاستواء الأحرار والعبيد في الآخرة. انتهى

(2)

، وسيأتي تمام البحث في المسألة الثالثة -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 494 - 495.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 131 - 132.

ص: 33

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 4303 و 4304](1660)، و (البخاريّ) في "الحدود"(6858)، و (أبو داود) في "سننه"(5165)، و (الترمذيّ) في (1947)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 325)، و (مالك) في "الموطإ"(2/ 568)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 431 و 499)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 272)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 71)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 130)، و (الدارقطنيّ) في "مستدركه"(4/ 411)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم فيمن قذف عبده بالزنا:

قال في "الفتح": قال المهلَّب: أجمعوا على أن الحرّ إذا قذف عبدًا لم يجب عليه الحدّ، ودلّ هذا الحديث على ذلك؛ لأنه لو وجب على السيد أن يُجلَد في قذف عبده في الدنيا لَذَكَره، كما ذَكَره في الآخرة، وإنما خُصّ ذلك بالآخرة تمييزًا للأحرار من المملوكين، فأما في الآخرة فإن مُلْكهم يزول عنهم، ويتكافئون في الحدود، ويُقْتَصّ لكل منهم، إلا أن يعفو، ولا مفاضلة حينئذ إلا بالتقوى.

قال الحافظ رحمه الله: في نقله الإجماع نظرٌ، فقد أخرج عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن نافع، سئل ابن عمر عمن قَذَف أم ولد لآخر، فقال: يُضْرَب الحدَّ صاغرًا، وهذا بسند صحيح، وبه قال الحسن، وأهل الظاهر، وقال ابن المنذر: اختلفوا فيمن قذف أم ولد، فقال مالك، وجماعة: يجب فيه الحدّ، وهو قياس قول الشافعيّ بعد موت السيد، وكذا كل من يقول: إنها عَتَقت بموت السيد، وعن الحسن البصريّ أنه كان لا يرى الحدّ على قاذف أم الولد، وقال مالك، والشافعيّ: من قذف حرًّا يظنه عبدًا، وجب عليه الحدّ. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يترجّح عندي هو ما ذهب إليه الجمهور من عدم وجوب الحدّ على من قذف مملوكه في الدنيا، وإنما يعزّر، كما تقدّم عن النوويّ، وذلك لعدم نصّ يوجب الحدّ عليه، بل حديث الباب ظاهر في ذلك؛ لأنه لو كان عليه حدّ في الدنيا لذكره، كما ذكر الحدّ في الآخرة، فليتأمل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"الفتح" 15/ 710 - 711، كتاب "الحدود" رقم (6858).

ص: 34

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4304]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الأَزْرَقُ، كِلَاهُمَا عَنْ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَفِي حَدِيثِهِمَا: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم نَبِيَّ التَّوْبَةِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الأَزْرَقُ) الواسطيّ، ثقةٌ [9](195)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 191.

والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي.

قوله: (سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم نَبِيَّ التَّوْبَةِ) قال القاضي عياض رحمه الله: وسُمِّي بذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بُعِث بقبول التوبة بالقول، والاعتقاد، وكانت توبةُ مَن قَبْلَنا بقتل أنفسهم، قال: ويَحْتَمِل أن يكون المراد بالتوبة الإيمان، والرجوع عن الكفر إلى الإسلام، وأصل التوبة الرجوع. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: رواية إسحاق الأزرق، عن فُضيل بن غزوان هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(16907)

- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا الحسن بن عليّ بن عفان العامريّ، ثنا عبيد الله بن موسى، أنبأ فُضيل بن غزوان (ح) وأخبرنا أبو عمرو الأديب، أنبأ أبو بكر الإسماعيليّ، أنبأ أبو يعلى، أنبأ أبو خيثمة، ثنا إسحاق بن يوسف، عن فضيل بن غزوان، عن ابن أبي نُعْم، عن أبي هريرة، سمعت نبيّ التوبة أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول:"أيما رجل قذف مملوكه، وهو بريء مما قال، أقيم عليه الحدّ يوم القيامة، إلا أن يكون كما قال له"، لفظ حديث إسحاق. انتهى

(2)

.

وأما رواية وكيع، عن فُضيل، فلم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

راجع: "شرح النوويّ" 11/ 132.

(2)

"سنن البيهقي الكبرى" 8/ 250.

ص: 35

(10) - (بَابُ إِطْعَامِ الْمَمْلُوكِ مِمَّا يَأْكُلُ، وَإِلْبَاسِهِ مَمَّا يَلْبَسُ، وَلَا يُكَلِّفُهُ مَا يَغْلِبُهُ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4305]

(1661) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، قَالَ: مَرَرْنَا بِأَبِي ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ، وَعَلَيْهِ بُرْدٌ، وَعَلَى غُلَامِهِ مِثْلُهُ، فَقُلْنَا: يَا أَبَا ذَرٍّ، لَوْ جَمَعْتَ بَيْنَهُمَا كَانَتْ حُلَّةً، فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ بَيْني وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ إِخْوَانِي كَلَامٌ، وَكَانَتْ أَمُّهُ أَعْجَمِيَّةً، فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَشَكَانِي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَقِيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَةٌ"، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ سَبَّ الرِّجَالَ سَبُّوا أَبَاهُ وَأُمُّهُ، قَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّة، هُمْ إِخْوَانُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(الْمَعْرُورُ بْنُ سُويدٍ) الأسديّ، أبو أميّة الكوفيّ، ثقةٌ [2] عاش مائة وعشرين سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 42/ 279.

2 -

(أَبُو ذَرٍّ) الغِفَاريّ الصحابيّ المشهور، اسمه جُنْدب بن جُنادة على الأصحّ، وقيل: بُرَير بموحّدة مصغّرًا، ومكبّرًا، واختُلف في أبيه كذلك، فقيل: جُندب، وقيل غير ذلك، تقدّم إسلامه، وتأخّرت هجرته، فلم يشهد بدرًا، مات رضي الله عنه سنة (32)(ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 224.

والباقون تقدّموا في البابين الماضيين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه مسلسلٌ بالكوفيين، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ مخضرم، وفيه أبو ذرّ الصحابيّ المشهور، أسلم قديمًا، ورُوي عنه قال: أنا رابع أربعة في الإسلام، ويقال: كان خامس خمسة، أسلم بمكة، ثم رجع إلى بلاد قومه، فأقام بها حتى مضت بدر، وأُحُد، والخندق، ثم هاجر إلى المدينة، فصَحِب النبيّ صلى الله عليه وسلم-

ص: 36

إلى أن مات، ومناقبه جمة، وزهده مشهور، وتواضعه وزهده مشبهان في الحديث بتواضع عيسى؛ وزهدِهِ، ومن مذهبه أنه يحرم على الإنسان ادّخار ما زاد على حاجته من المال

(1)

، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ الْمَعْرُورِ) -بالعين المهملة والراء- (ابْنِ سُويدٍ) مصغّرًا، قال الأعمش: رأيته، وهو ابن مائة وعشرين سنة أسود الرأس واللحية.

وفي رواية للبخاريّ في "العتق": "سمعت المعرور بن سُويد"(قَالَ: مَرَرْنَا بِأَبِي ذَرٍّ) الغفاريّ رضي الله عنه، نسبة إلى غِفار بكسر الغين المعجمة: قبيلة من كنانة (بِالرَّبَذَةِ) -بفتح الراء، والباء الموحّدة، والذال المعجمة-: موضع بالبادية، بينه وبين العراق ثلاث مراحل، وهو منزل من منازل حجاج العراق، قريب من ذات عرق

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الرَّبَذَةُ -وزانُ قَصَبَة- خِرْقة الصائغ يجلو بها الحُلِيَّ، وبها سُمِّيت الرَّبَذَةُ، وهي قرية كانت عامرةً في صدر الإسلام، وبها قبر أبي ذرّ الغفاريّ، وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم، وهي في وقتنا دارسةٌ لا يُعْرَف بها رسم، وهي عن المدينة في جهة الشرق على طريق حاج العراق نحو ثلاثة أيام، هكذا أخبرني به جماعة من أهل المدينة، في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة. انتهى

(3)

.

(وَعَلَيْهِ بُرْدٌ) -بضمّ الموحّدة، وسكون الراء-: كساء صغير مربَّعٌ، ويقال: كساء أسود صغير، قاله الفيّوميّ

(4)

.

وقال المجد رحمه الله: والْبُرْدُ بالضمّ: ثوبٌ مُخَطَّطٌ، جمعه: أبرادٌ، وأبرُدٌ، وبُرُودٌ، وأكسيةٌ يُلْتَحَف بها، الواحدة بِهاء. انتهى

(5)

.

(وَعَلَى غُلَامِهِ مِثْلُهُ) كذا في هذه الرواية، وفي الرواية الآتية: "رأيت أبا

(1)

"عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 2/ 50.

(2)

"الفتح" 1/ 161 كتاب "الإيمان" رقم (30)، و "عمدة القاري" 1/ 326.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 215.

(4)

"المصباح" 1/ 43.

(5)

"القاموس المحيط" ص 92.

ص: 37

ذرّ، وعليه حلّة، وعلى غلامه مثلها"، وقال في "الفتح" عند شرح رواية البخاريّ بلفظ: "وعليه حلّة، وعلى غلامه حلّة" ما نصّه: هكذا رواه أصحاب شعبة عنه، لكن في رواية الإسماعيلي من طريق معاذ، عن شعبة:"أتيت أبا ذرّ، فإذا حلة عليه منها ثوب، وعلى عبده منها ثوب"، وهذا يوافق ما في اللغة أن الحلة ثوبان من جنس واحد، ويؤيده ما في رواية الأعمش، عن المعرور عند البخاريّ في "الأدب" بلفظ:"رأيت عليه بُردًا، وعلى غلامه بردًا، فقلت: لو أخذت هذا، فلبسته كانت حلة"، وفي رواية مسلم:"فقلنا: يا أبا ذرّ لو جمعت بينهما كانت حلةً"، ولأبي داود:"فقال القوم: يا أبا ذر لو أخذت الذي على غلامك، فجعلته مع الذي عليك لكانت حلة"، فهذا موافق لقول أهل اللغة؛ لأنه ذكر أن الثوبين يصيران بالجمع بينهما حلة، ولو كان كما في الأصل على كل واحد منهما حلة، لكان إذا جمعهما يصير عليه حلتان.

قال: ويمكن الجمع بين الروايتين بأنه كان عليه بُرد جيّد، تحته ثوب خَلَقٌ من جنسه، وعلى غلامه كذلك، وكأنه قيل له: لو أخذت البرد الجيّد، فأضفته إلى البرد الجيد الذي عليك، وأعطيت الغلام البُرد الخَلَق بدله، لكانت حلة جيدة، فتلتئم بذلك الروايتان.

ويُحْمَل قوله في حديث الأعمش: "لكانت حلةً"؛ أي: كاملة الجودة، فالتنكير فيه للتعظيم، والله أعلم.

وقد نقل بعض أهل اللغة أن الحلّة لا تكون إلا ثوبين جديدين يَحُلُّهما من طَيِّهما، فأفاد أصلَ تسمية الحلّة.

قال: وغلام أبي ذر المذكور لم يُسَمَّ، ويَحْتَمِل أن يكون أبا مُراوح مولى أبي ذر، وحديثه عنه في "الصحيحين"، وذكر مسلم في الكنى أن اسمه سعد. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

، وقد تعقّبه العينيّ في ما ذكره من الجمع بين الروايات، وكذا في قوله: وَيحْتَمل أن يكون أبا مُراوح

(2)

.

ودونك حاصل ما ذكره في وجه الجمع، قال رحمه الله ما حاصله: قد

(1)

"الفتح" 1/ 161، كتاب "الإيمان" رقم (30).

(2)

"عمدة القاري" 1/ 328.

ص: 38

اختلفت ألفاظ هذا الحديث في الحلة، فقد وقع بلفظ:"عليه حلةٌ، وعلى غلامه حلةٌ"، وفي رواية الأعمش بلفظ:"رأيت عليه بردًا، وعلى غلامه بردًا، فقلت: لو أخذت هذا فلبسته، كانت حلةً"، وفي رواية لمسلم بلفظ:"فقلنا: يا أبا ذرّ لو جمعت بينهما كانت حلة"، وفي رواية أبي داود:"فقال القوم: يا أبا ذر لو أخذت الذي على غلامك، فجعلته مع الذي عليك لكانت حلة"، وفي رواية الإسماعيليّ من طريق معاذ، عن شعبة:"أتيت أبا ذرّ، فإذا حلة عليه، منها ثوب، وعلى عبده منها ثوب"، وقد بيّنا أن الحلة ثوبان من جنس واحد.

قال: والتوفيق بين هذه الألفاظ أن لفظه ههنا

(1)

يدل على الحلتين: حلة على أبي ذرّ، وحلة على عبده، ولفظه في رواية الأعمش يدل على أن الذي كان عليه هو البرد، وعلى غلامه كذلك، ولا يسمى هذا حلةً إلا بالجمع بينهما، ولهذا قال في رواية مسلم:"لو جمعت بينهما كانت حلة"، وكذا في رواية أبي داود، وروايةُ الاسماعيليّ تدل على أنها كانت حلة واحدة باعتبار جمع ما كان على أبي ذرّ وعلى عبده من الثوبين، فتُحمل "عليه حلّة، وعلى غلامه حلّة" على المجاز باعتبار ما يؤول، ويضم إلى الثوب الذي كان على كل واحد منهما ثوب آخر، أو باعتبار إطلاق اسم الكل على الجزء، فلما رأى المعرور على أبي ذرّ ثوبًا، وعلى غلامه ثوبًا من الأبراد، أطلق على كل واحد منهما حلةً باعتبار ما يؤول، وتدل عليه رواية مسلم:"لو جمعت بينهما كانت حلةً"، وكذا رواية أبي داود، وأما رواية الإسماعيليّ، بلفظ:"فإذا حلة عليه، منها ثوب، وعلى عبده منها ثوب"، فإنها أيضًا مجاز، ولكن المجاز فيها في موضع واحد، وأما في الرواية التي فيها لفظ:"وعليه حلّة، وعلى غلامه حلّة" فالمجاز في الموضعين، فافهم. هذا حاصل ما ذكره العينيّ رحمه الله

(2)

من وجه الجمع بين هذه الروايات، وهو جمع حسنٌ، والله تعالى أعلم.

(فَقُلْنَا) وفي رواية: "فقال القوم"(يَا أَبَا ذَرٍّ، لَوْ جَمَعْتَ بَيْنَهُمَا)؛ أي: بين

(1)

يعني: رواية البخاريّ في "الإيمان" بلفظ: "لقيت أبا ذرّ بالربذة، وعليه حلّة، وعلى غلامه حلّة".

(2)

راجع: "عمدة القاري" 1/ 328، كتاب "الإيمان".

ص: 39

البُرد الذي عليك، والبرد الذي على غلامك (كَانَتْ حُلَّةً) بالنصب على أنه خبر "كانت"، واسمها مقدّر؛ أي: كانت المجموعةُ حلةً، وَيَحْتَمل أن تكون "كان" تامّةً، و"حُلةٌ" مرفوع على الفاعليّة؛ أي: حصلت حلّةٌ كامةٌ، وإنما قال ذلك؛ لأن الحلّة عند العرب ثوبان، ولا تُطلَق على ثوب واحد، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "العمدة": الْحُلّة -بضم الحاء المهملة، وتشديد اللام-: هي إزار ورداء، ولا يُسَمَّى حُلَّةً حتى تكون ثوبين، ويقال: الحلة ثوبان غير لفقين، رداء وإزار، سُمِّيا بذلك؛ لأن كل واحد منهما يَحُلّ على الآخر. انتهى.

[تنبيه]: قد جاء في سبب إلباس أبي ذر غلامه مثل لبسه أثر مرفوع أصرح من هذا وأخص: أخرجه الطبراني من طريق أبي غالب عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أبا ذر عبدًا فقال: "أطعمه مما تأكل وألبسه مما تلبس"، وكان لأبي ذر ثوب فشقّه نصفين، فأعطى الغلام نصفه فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال: قلت: يا رسول الله أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبَسون، قال:"نعم".

(فَقَالَ) أبو ذرّ رضي الله عنه (إِنَّهُ) الضمير للشأن، وهو الضمير الذي تفسّره جملة بعده، كما قال ابن مالك في "الكافية الشافية":

وَمُضْمَرُ الشَّأنِ ضَمِيرٌ فُسِّرَا

بِجُمْلَةٍ كَـ "إِنَّهُ زيدٌ سَرَى"

لِلابْتِدَا أَوْ نَاسِخَاتِهِ انتسَبْ

إِذَا أَتَى مُرْتَفِعًا أَوِ انْتَصَبْ

وَإِنْ يَكُنْ مَرْفُوعَ فِعْلٍ اسْتَتَرْ

حَتْمًا وَإِلَّا فَتَرَاهُ قَدْ ظَهَرْ

فِي بَابِ "إِنَّ" اسْمًا كَثِيرًا يُحْذَفُ

كَـ "إِنَّ مَنْ يَجْهَلْ يَسَلْ مَنْ يَعْرِفُ"

وَجَائِزٌ تَأْنِيثُهُ مَتْلُوَّ مَا

أُنِّثَ أَوْ تَشْبِيهَ أُنْثَى أَفْهَمَا

وَقَبْلَ مَا أُنِّثَ عُمْدَةً فَشَا

تَأْنِيثُهُ كَـ "إِنَّهَا هِنْدٌ رَشَا"

(كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ إِخْوَانِي) يريد أُخُوّة الإسلام، قيل: إن هذا الرجل هو بلال المؤذّن مولى أبي بكر رضي الله عنهما، وروى ذلك الوليد بن مسلم منقطعًا

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: أما قوله: "رجل من إخواني" فمعناه: رجل من المسلمين، والظاهر أنه كان عبدًا، وإنما قال: من إخواني؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 132.

(2)

راجع: "الفتح" 1/ 162.

ص: 40

له: "إخوانكم خَوَلكم، فمن كان أخوه تحت يده". انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "كان بيني وبين رجل من إخواني"؛ يعني به: عبده، وأطلق عليه أنه من إخوانه لقوله صلى الله عليه وسلم:"إخوانكم خولكم"، ولأنه أخ في الدِّين. انتهى

(2)

.

(كَلَام) وفي الرواية التالية: "أنه سابّ رجلًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم"(وَكَانَتْ أَمُّهُ أَعْجَمِيةً) زاد في رواية للبخاريّ: "فنِلتُ منها"، والأعجميّ من لا يُفْصِح باللسان العربيّ، سواء كان عربيًّا أو عجميًّا (فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ)؛ أي: نسبته إلى العار، وفي رواية:"قلت له: يا ابن السوداء".

قال الحافظ رحمه الله: والفاء في "فعيّرته" قيل: هي تفسيرية، كأنه بَيَّن أن التعيير هو السب، والظاهر أنه وقع بينهما سباب، وزاد عليه التعيير، فتكون عاطفة، ويدلّ عليه رواية مسلم التالية:"قال: أعيّرته بأمه؟ فقلت: من سب الرجال سَبُّوا أباه وأمه".

[تنبيه]: في هذا الحديث دليل على جواز تعدية "عيّرته" بالباء، وقد أنكره ابن قُتيبة، وتبعه بعضهم، وأثبت آخرون أنها لغة، قاله في "الفتح"

(3)

، وقال في موضع آخر: وفي قوله: "بأمّه" ردٌّ على من زعم أنه لا يتعدّى بالباء، وإنما يقال: عيّرته أمّه، ومثل الحديث قول الشاعر:

أَيُّهَا الشَّامِتُ الْمُعَيِّرُ بِالدَّهْرِ

(4)

وقال الفيّوميّ رحمه الله: وعَيَّرته كذا، وعَيَّرته به: قَبّحتُهُ عليه، ونَسَبْتُه إليه، يتعدَّى بنفسه، وبالباء، قال المرزوقيّ في "شرح الْحَمَاسَة": والمختار أن يتعدَّى بنفسه، قال الشاعر [من الطويل]:

أَعَيرْتَنَا أَلْبَانَهَا وَلُحُومَهَا

وَذَلِكَ عَارٌ يَا ابْنَ ريطَةَ ظَاهِرُ

يقول: عَيَّرتنا كثرة الإبل واللبن، وليس ذلك للتجارة، بل للضيوف،

(1)

شرح النوويّ" 11/ 132.

(2)

"المفهم" 4/ 351.

(3)

"الفتح" 1/ 162 - 163، كتاب "الإيمان" رقم (30).

(4)

"الفتح" 6/ 378، كتاب "العتق" رقم (2545).

ص: 41

وذلك عارٌ لا يُستحيا منه. انتهى

(1)

.

وعبارة "القاموس"، و"شرحه": وقد عَيَّرَهُ الأَمْرَ، ولا تَقُلْ: عَيَّرَه بالأَمْرِ، فإِنَّهُ قَولُ العَامَّة؛ هكذا صَوَّبَه الحَرِيرِيُّ في "دُرّة الغَوّاص"، وقد صَرَّح المَرْزوقيّ في شَرْحِ الحَمَاسة بأَنَّه يَتَعَدَّى بالباءِ، قال: والمختار تَعْديَتُه بنَفْسِه، قاله شَيْخُنا، وأَنشد الأَزهريُّ للنابِغَة:

وعَيّرَتْنِي بَنُو ذُبْيَانَ خَشْيَتَهُ

وهَلْ عَلَيَّ بأَنْ أَخْشَاكَ من عَارِ

(2)

.

وعبارة "شرح ديوان الْحَمَاسة" بعد قوله [من الطويل]:

تُعَيِّرُنَا أَنَّا قَلِيلٌ عَدِيدُنَا

فَقُلْتُ لَهَا إِنَّ الْكِرَامَ قَلِيلُ

ما نصّه: يقال: عَيَّرتُهُ كذا، وهو المختار الحسن، وقد جاء: عيّرته بكذا، قال عديٌ [من الخفيف]:

أَيُّهَا الشَّامِتُ الْمُعَيِّرُ بِالدَّهْـ

رِ أَأَنْتَ الْمُبَرَّأُ الْمَوْفُورُ

(3)

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن "أعيرته بأمه؟ " استعمال صحيح، وإن كان الأكثر تعديته إلى الثاني بنفسه أيضًا، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(فَشَكَانِي إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وفي الرواية الآتية: "فأتى الرجل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له"(فَلَقِيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ")؛ أي: خَصْلةٌ من خصال الجاهلية، وقال في "الفتح": التنوين للتقليل، والجاهليّة: ما قبل الإسلام، ويَحْتَمِل أن يراد بها هنا الجهل؛ أي: إن فيك جهلًا

(4)

.

وقال أيضًا: والظاهر أن ذلك كان من أبي ذرّ رضي الله عنه قبل أن يعرف تحريمه، فكانت تلك الخصلة من خصال الجاهلية باقية عنده، فلهذا قال في الرواية الآتية:"قلت: على حال ساعتي هذه من الكبر؟ قال: نعم على حال ساعتك من الكبر"، كأنه تعجب من خفاء ذلك عليه، مع كبر سنه، فبيّن له صلى الله عليه وسلم

(1)

"المصباح المنير" 2/ 439.

(2)

"تاج العروس" 1/ 3266.

(3)

"شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي الأصفهانيّ 1/ 31.

(4)

"الفتح" 13/ 603، كتاب "الأدب" رقم (6050).

ص: 42

كون هذه الخصلة مذمومةً شرعًا، وكان رضي الله عنه بعد ذلك يساوي غلامه في الملبوس وغيره؛ أخذًا بالأحوط، وإن كان لفظ الحديث يقتضي اشتراط المواساة، لا المساواة، أفاده في "الفتح"

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "فيك جاهلية"؛ أي: هذا التعيير من أخلاق الجاهلية، ففيك خُلُقٌ من أخلاقهم، وينبغي للمسلم أن لا يكون فيه شيء من أخلاقهم، ففيه النهي عن التعيير، وتنقيص الآباء والأمهات، وأنه من أخلاق الجاهلية. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "إنك امرؤ فيك جاهلية"؛ أي: خصلة من خصالهم؛ يعني بها تعييره بأمه، فإن الجاهلية كانوا يعيِّرون بالآباء والأمهات، وذلك شيء أذهبه الإسلام بقوله تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أذهب عنكم عُبِّيَّةَ

(3)

الجاهلية، وفخرها بالآباء، الناس كلهم بنو آدم، وآدم خُلق من تراب"

(4)

.

(قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ سَبَّ الرِّجَالَ سَبُّوا أَبَاهُ وَأُمُّهُ)؛ يعني: أنه إنما عيّره بأمه لأن عادة الناس جارية على ذلك، فمن سبّ الناس سبّ المسبوب أباه وأمه، فجريت على العادة، وهذا اعتذار من أبي ذرّ رضي الله عنه من وقوعه في هذا المحذور.

وقال النوويّ رحمه الله: معنى كلام أبي ذرّ رضي الله عنه: الاعتذار عن سبّه أمَّ ذلك الإنسان؛ يعني أنه سبّني، ومن سبّ إنسانًا سبّ ذلك الإنسان أبا السابّ وأمه،

(1)

راجع: "الفتح" 1/ 162، كتاب "الإيمان" رقم (30).

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 132 - 133.

(3)

"الْعُبَيّةُ" بالضمّ، والكسر: الكبر، والفخر.

(4)

أخرجه أبو داود (5116)، والترمذيّ (3955)، ولفظ أبي داود: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عُبّيّة الجاهلية، وفخرها بالآباء، مؤمن تقيّ، وفاجر شقيّ، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، لَيَدَعَنّ رجال فخرهم بأقوام، إنما هم فَحْمٌ من فحم جهنم، أو ليكونُنّ أهون على الله من الْجِعلان التي تدفع بأنفها النتن"، وإسناد أبي داود حسن، وقد حسّن الحديث الشيخ الألبانيّ رحمه الله.

ص: 43

فأنكر عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال: هذا من أخلاق الجاهلية، وإنما يباح للمسبوب أن يسب الساب نفسه بقدر ما سبّه، ولا يتعرض لأبيه، ولا لأمه. انتهى

(1)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ امْرُؤٌ) قال في "العمدة": "امرؤ" من نوادر الكلمات؛ إذ حركة عين الكلمة تابعة للامها في الأحوال الثلاث، وفي "العباب": المرء: الرجل، يقال: هذا امرؤ صالح، ورأيت مرأ صالحًا، ومررت بمرء صالح، وضم الميم في الأحوال الثلاث لغةٌ، وهما مرآن صالحان، ولا يجمع على لفظه، وتقول هذا مَرْءٌ بالرفع، ورأيت مَرْأً بالنصب، ومررت بِمَرء بالجرّ، معربًا من مكانين، وتقول: هذا امْرَأٌ بفتح الراء، وكذلك رأيت امرَأً، ومررت بامرَئ بفتح الراءآت، وبعضهم يقول: هذه مَرْأَةٌ صالحةٌ، ومَرَةٌ أيضًا بترك الهمزة، وتحريك الراء بحركتها، فإن جئت بألف الوصل كان فيه أيضًا ثلاث لغات: فتح الراء على كل حال، حكاها الفرّاء، وضمّها على كل حال، وإعرابها على كل حال، وتقول: هذا امرُؤٌ، ورأيت امرَأً، ومررت بامرِئٍ معربًا من مكانين، وهذه امرَأَةٌ مفتوحة الراء على كل حال، وإعرابها على كل حال، فإن صُغرت أَسقطتَ ألف الوصل، فقلت: مُرَيءٌ، ومُرَيْئَةٌ. انتهى

(2)

.

(فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ) كرّره تأكيدًا وتشديدًا (هُمْ)؛ أي: العبيد، أو الخدم، حتى يدخل من ليس في الرق منهم، وقرينة قوله:"تحت أيديكم" ترشد إليه، قاله في "الفتح"

(3)

. (إِخْوَانُكُمْ) فيه مجاز عن مطلق القرابة؛ لأن الكل أولاد آدم عليه السلام، أو عن أخوّة الإسلام، والمماليك الكفرة إما أن نجعلهم في هذا الحكم تابعين للمماليك المؤمنين، أو نخصّص هذا الحكم بالمؤمنين

(4)

، والأول أقرب، والله تعالى أعلم.

وقال النوويّ رحمه الله: الضمير في "هم إخوانكم" يعود إلى المماليك، والأمر بإطعامهم مما يأكل السيد، وإلباسهم مما يلبس محمول على الاستحباب، لا على الإيجاب، وهذا بإجماع المسلمين، وأما فعل أبي ذرّ رضي الله عنه

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 133.

(2)

"عمدة القاري" 1/ 326 - 327.

(3)

"الفتح" 13/ 604، كتاب "الأدب" رقم (6051).

(4)

"عمدة القاري" 1/ 329.

ص: 44

في كسوة غلامه مثل كسوته، فعملٌ بالمستحبّ، وإنما يجب على السيد نفقة المملوك وكسوته بالمعروف، بحسب البلدان والأشخاص، سواء كان من جنس نفقة السيد ولباسه، أو دونه، أو فوقه، حتى لو قَتَّر السيدُ على نفسه تقتيرًا خارجًا عن عادة أمثاله، إما زهدًا، وإما شُحًّا، لا يحل له التقتير على المملوك، وإلزامه، وموافقته، إلا برضاه، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز أن يكلفه من العمل ما لا يطيقه، فإن كلّفه ذلك لزمه إعانته بنفسه أو بغيره. انتهى

(1)

.

(جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ)؛ أي: فيه مجاز عن القدرة، أو عن الملك (فَأَطْعِمُوهُمْ) بقطع الهمزة، من الإطعام (مِمَّا تَأْكُلُونَ) إنما قال:"مما تأكلون"، ولم يقل: مما تطعمون؛ رعايةَ للمطابقة، كما في قوله:"وألبسوهم مما تلبسون"؛ لأن الطعم يجيء بمعنى الذوق، يقال: طَعِمَ يَطْعَم، من باب تَعِب، طَعْمًا: إذا ذاق، أو أكل، قال الله تعالى:{وَمَنْ لم يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249]؛ أي: من لم يذقه، فلو قال: مما تطعمون لتوهّم أنه يجب الإذاقة مما يذوقون، وذلك غير واجب.

وإنما لم يقل: فلتؤكلوهم مما تأكلون؛ إشارةً إلى أنه لا بدّ من إذاقته مما يأكل، وإن لم يشبعه من ذلك الأكل، أفاده في "العمدة"

(2)

.

وقال في "الفتح": قوله: "فليطعمه مما يأكل"؛ أي: من جنس ما يأكل؛ للتبعيض الذي دلَّت عليه "من"، ويؤيد ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي:"فإن لم يُجلسه معه، فليناوله لقمةً"، فالمراد المواساة، لا المساواة من كل جهة، لكن مَنْ أخذَ بالأكمل، كأبي ذرّ رضي الله عنه فعل المساواة، وهو الأفضل، فلا يستأثر المرء على عياله من ذلك، وإن كان جائزًا، وفي "الموطأ"، و"صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"للمملوك طعامه، وكسوته بالمعروف، ولا يكلَّف من العمل ما لا يطيق"، وهو يقتضي الردّ في ذلك إلى العُرف، فمن زاد عليه كان متطوعًا، وأما ما حكاه ابن بطال عن مالك أنه سئل عن حديث أبي ذرّ، فقال: كانوا يومئذٍ ليس لهم هذا القوت، واستحسنه، ففيه نظر لا يخفى؛ لأن

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 133.

(2)

راجع: "عمدة القاري" 1/ 329.

ص: 45

ذلك لا يمنع حمل الأمر على عمومه في حقّ كل أحد بحسبه. انتهى

(1)

، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

(وَأَلْبِسُوهُمْ) بقطع الهمزة أيضًا، من الإلباس (مِمَّا تَلْبَسُونَ) بفتح أوله، مضارع لَبِسَ، من باب تَعِبَ، لُبْسًا بضمّ فسكون (وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ) بضمّ أوله، وفتح الكاف، وتشديد اللام، من التكليف، وهو: تحميل النفس شيئًا معه كُلْفة؛ أي: مشقة، وقيل: هو الأمر بما يشقّ (مَا يَغْلِبُهُمْ) المعنى: لا تأمروهم بعمل ما تصير قدرتهم فيه مغلوبة؛ أي: ما يعجزون عنه؛ لعظمه، أو صعوبته.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ولا تكلفوهم

إلخ"؛ أي: لا تكلّفوهم ما لا يطيقون، وهو نهيٌ، وظاهره التحريم. انتهى

(2)

.

(فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ)؛ أي: ما يغلبهم من العمل، وحُذف المفعول؛ للعلم به (فَأَعِينُوهُمْ")؛ أي: ساعدوهم على ذلك العمل الغالب لهم، والمراد أن يُكَلَّف العبد جنس ما يقدر عليه، فإن كان يستطيعه وحده، وإلا فليُعِنْه سيّده، إما بنفسه، أو بغيره، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي ذرّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [10/ 4305 و 4306 و 4307](1661)، و (البخاريّ) في "الإيمان"(30) و"العتق"(2545) و"الأدب"(605)، و (أبو داود) في "سننه"(5157 و 5158 و 5161)، و (الترمذيّ) في "جامعه"(1945)، و (ابن ماجه) في "سننه"(3690)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(9/ 448)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 158 و 161 و 168 و 173)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 73)، و (البزّار) في "مسنده"(9/ 402)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 7) و"المعرفة"(6/ 127)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(1)

"الفتح" 6/ 378 - 379.

(2)

"المفهم" 4/ 352.

ص: 46

1 -

(منها): النهي عن سبّ الرقيق، وتعييرهم بمن وَلَدَهم، والحثّ على الإحسان إليهم، والرفق بهم، فلا يجوز لأحد تعيير أحد بشيء من المكروه، يعرفه في آبائه، وخاصّة نفسه، كما نُهِيَ عن الفخر بالآباء، ويُلْحَق بالعبد مَن في معناه من أجير، وخادم، وضعيف، وكذا الدوابّ ينبغي أن يُحْسَن إليها، ولا يُكلَّف من العمل ما لا يُطيقه، فإن كُلِّف ذلك لزم السيّد إعانته بنفسه أو بغيره.

2 -

(ومنها): أنه لا ينبغي للمسلم أن يترفّع على أخيه المسلم، وأن لا يحتقره، وإن كان عبدًا ونحوه من الضَّعَفَة؛ لأن الله تعالى قال:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وقد تظاهرت الأدلة على الأمر باللطف بالضَّعَفَة، وخفض الجناح لهم، وعلى النهي عن احتقارهم، والترفع عليهم

(1)

.

3 -

(ومنها): المحافظة على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

4 -

(ومنها): إطلاق الأخ على الرقيق، فإن أريد القرابة فهو على سبيل المجاز؛ لنسبة الكل إلى آدم عليه السلام، أو المراد أُخُوّة الإسلام، ويكون العبد الكافر بطريق التبع، أو يختص الحكم بالمؤمن.

5 -

(ومنها): أنه يؤخذ منة المبالغة في ذم السبّ واللعن؛ لِمَا فيه من احتقار المسلم، وقد جاء الشرع بالتسوية بين المسلمين في معظم الأحكام، وأن التفاضل الحقيقيّ بينهم إنما هو بالتقوى، فلا يفيد الشريفَ النسبِ نسبه إذا لم يكن من أهل التقوى، وينتفع الوضيع النسب بالتقوى، كما قال تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].

ولقد أحسن من قال:

عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ فِي كُلِّ حَالَةٍ

فَلَا تَتْرُكِ التَّقْوَى اتِّكَالًا عَلَى النَّسَبْ

فَقَدْ رَفَعَ الإِسْلَامُ سَلْمَانَ فَارِسٍ

قَدْ وَضَعَ الْكُفْرُ الشَّرِيفَ أَبَا لَهَبْ

6 -

(ومنها): استحباب إطعام العبيد مما يأكله السيّد، وإلباسهم مما يلبسه، وقال القاضي عياض رحمه الله: الأمر محمول على الاستحباب، لا على الإيجاب بالإجماع، بل إن أطعمه من الخبز ما يقتاته كان قد أطعمه مما يأكل؛

(1)

راجع: "عمدة القاري" 1/ 330.

ص: 47

لأن "من" للتبعيض، ولا يلزمه أن يُطعمه من كل ما يأكل على العموم من الأُدُم، وطيبات العيش، ومع ذلك فيستحب أن لا يستأثر على عياله، ولا يُفَضِّل نفسه في العيش عليهم.

وقال القرطبيّ رحمه الله عند قوله: "فأطعموهم مِمَّا تأكلون، وألبسوهم مِمَّا تلبسون"؛ أي: من نوع ما تأكلون وما تلبسون، وهذا الأمر على الندب؛ لأن السَّيد لو أطعم عبده أدنى مما يأكله، وألبسه أقل مما يلبسه صفةً ومقدارًا لم يذمَّه أحدٌ من أهل الإسلام؛ إذ قام بواجبه عليه، ولا خلاف في ذلك فيما علمته، وإنما موضع الذمِّ: إذا منعه ما يقوم به أَوَدَهُ، ويدفع به ضرورته، كما نصَّ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"كفى بالمرء إثْمًا أن يحبس عمن يملك قوته"

(1)

، وإنما هذا على جهة الحضّ على مكارم الأخلاق، وإرشادٌ إلى الإحسان، وإلى سلوك طريق التواضع حتى لا يرى لنفسه مزية على عبده؛ إذ الكل عبيد الله، والمال مال الله، ولكن سَخَّر بعضهم لبعض، وملَّك بعضهم بعضًا؛ إتمامًا للنعمة، وتنفيذًا للحكمة. انتهى

(2)

.

7 -

(ومنها): منع تكليفه من العمل ما لا يطيق أصلًا، ولا يطيق الدوام عليه، والنهي للتحريم بلا خلاف، فإن كلّفه ذلك أعانه بنفسه، أو بغيره؛ لقوله:"فإن كلفتموهم فأعينوهم".

8 -

(ومنها): أنه منقبة لأبي ذرّ رضي الله عنه، حيث إنه امتثل أمره صلى الله عليه وسلم، فقد ناصف عبده الحلّة الواحدة، فلبس نصفها، وألبسه نصفها؛ امتثالًا لقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث:"ولْتُلْبِسُوهُم مما تلبسون"، قال في "الفتح": وقد جاء في سبب إلباس أبي ذرّ رضي الله عنه غلامه مثل لبسه أثرٌ مرفوعٌ، أصرح من هذا، وأخصّ، أخرجه الطبرانيّ من طريق أبي غالب، عن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أعطى أبا ذرّ عبدًا، فقال:"أطعمه مما تأكل، وألبسه مما تلبس"، وكان لأبي ذرّ ثوب، فشقه نصفين، فأعطى الغلام نصفه، فرآه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسأله، فقال:

(1)

رواه مسلم في "صحيحه" بهذا اللفظ، ورواه أبو داود بلفظ:"كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت".

(2)

"المفهم" 4/ 352.

ص: 48

"قلتَ: يا رسول الله أطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، قال: نعم". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4306]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ اِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، كُلُّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ زُهَيْرٍ، وَأَبِي مُعَاوِيَةَ بَعْدَ قَوْلِهِ:"إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ" قَالَ: قُلْتُ: عَلَى حَالِ سَاعَتِي مِنَ الْكِبَرِ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ:"نَعَمْ عَلَى حَالِ سَاعَتِكَ مِنَ الْكِبَرِ"، وَفِي حَدِيثِ عِيسَى:"فَإِنْ كَلَّفَهُ مَا يَغْلِبُهُ، فَلْيَبِعْهُ"، وَفِي حَدِيثِ زُهَيْرٍ:"فَلْيُعِنْهُ عَلَيْهِ"، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ:"فَلْيَبِعْهُ"، وَلَا "فَلْيُعِنْهُ". انتهى عِنْدَ قَوْلهِ:"وَلَا يُكَلِّفْهُ مَا يَغْلِبُهُ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ) هو: أحمد بن عبد الله بن يونس، منسوب لجدّه التميميّ اليربوعيّ، أبو عبد الله الكوفى، ثقةُ حافظُ، من كبار [10](ت 227) وهو ابن (94) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

2 -

(زُهَيْرُ) بن معاوية بن حُديج الْجُعفيّ، أبو خيثمة الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 2 أو 3 أو 174)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.

3 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قبل باب.

4 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم أيضًا قبل باب.

5 -

(إِسْحَاقُ بْنُ اِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم أيضًا قبل باب.

6 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبيعيّ الكوفيّ، ثقةٌ مأمونٌ [8] (ت 187) وقيل:(191)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

و"الأعمش" ذُكر قبله.

وقوله: (عَلَى حَالِ سَاعَتِي مِنَ الْكِبَرِ؟) استبعاد منه أن يبقى فيه شيء من خصال الجاهلية مع كبر سنه، وطول عمره في الإسلام، فلما أخبره النبيّ صلى الله عليه وسلم-

ص: 49

ببقاء ذلك عليه زال استبعاده، ووجب تسليمه لذلك القول وانقياده، قاله القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (فَلْيَبِعْهُ") هكذا صرّح المصنّف رحمه الله أن رواية عيسى بن يونس بلفظ: "فليبعه"، من البيع، بخلاف رواية زهير، فإنها بلفظ:"فليُعنه"، من الإعانة، والذي وقع في رواية أبي داود الآتية في التنبيه بلفظ:"فليُعنه"، كرواية زهير، والظاهر أن المصنف وقع له بلفظ البيع، كما وقع لأبي داود بلفظ الإعانة.

قال القاضي عياض رحمه الله: هذا -يعني قوله: "فليبعه"- وَهَمٌ، والصواب:"فليُعنه"، كما رواه الجمهور. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "فليبعه"، وفي رواية:"فليُعنه عليه"، وهذه الثانية هي الصواب الموافقة لباقي الروايات. انتهى

(3)

.

وقال القرطبي رحمه الله: قوله: "فإن كلفتموهم فأعينوهم"؛ أي: إن أخطأتم فوقع ذلك منكم، فارفعوا عنهم ذلك بأن تعينوهم على ذلك العمل، فإن لم يمكنكم ذلك فبيعوهم؛ كما جاء في الرواية الأخرى ممن يرفق بهم. انتهى

(4)

.

وقال بعضهم: معنى "فليبعه" أن السيّد إذا كلّف عبده ما يعجز عنه، فإنه قد عجز عن القيام بحقّ عبده، فالواجب عليه حينئذ أن لا يمسكه عنده، بل يبيعه لآخر؛ لأنه لو أمسكه أثم بتكليفه ما لا يُطيق، وإن كان ذلك الأمر الشاقّ من ضروراته، ولم يكلّف العبد به، فإن وجود العبد عنده لا يفيده، فالأحسن أن يبيعه، ويشتري مكانه آخر أقوى منه، قال: ولكن هذه الرواية مرجوحة، والمحفوظ عن أكثر الثقات:"فليُعِنه"؛ يعني: أنه إن كلّف السيد عبده ما يشقّ عليه، فليُعنه على ذلك بنفسه، أو بغيره، وهذا المعنى واضح جدًّا، والله تعالى أعلم

(5)

.

(1)

"المفهم" 4/ 352.

(2)

راجع: "عمدة القاري" 1/ 330.

(3)

"شرح النوويّ" 11/ 133 - 134.

(4)

"المفهم" 4/ 352.

(5)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 2/ 237.

ص: 50

[تنبيه]: رواية زهير بن معاوية، عن الأعمش ساقها البيهقيّ رحمه الله، في "الكبرى"، فقال:

(15554)

- وأخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن غالب الخوارزميّ ببغداد، ثنا أبو العباس محمد بن أحمد هو ابن حمدان النيسابوريّ، ثنا محمد بن عمرو بن النضر الْحَرَشِيّ، ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، ثنا زُهير، ثنا الأعمش، عن المعرور، قال: قَدِمْنا الرَّبَذَةَ، فأتينا أبا ذرّ، فإذا عليه حلّة، وإذا على غلامه أخرى، قال: فقلنا: لو كسوت غلامك غير هذا، وجمعت بينهما، فكانت حلةً، قال: فقال: سأحدّثكم عن هذا، إنيّ ساببت رجلًا، وكانت أمه أعجمية، فنِلْتُ منها، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فشكاني إليه، فقال لي:"أساببت فلانًا؟ " قلت: نعم، قال:"فهل ذكرت أمه؟ " فقلت: من يسابب الرجال ذُكِر أبوه وأمه يا رسول الله، قال:"إنك امرؤ فيك جاهلية"، قال: قلت: على ساعتي من الكبر؟ قال: "نعم، إنما هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه من طعامه، وليلبسه من لباسه، ولا يكلفه ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه، فليُعنه عليه"

(1)

.

وأما رواية أبي معاوية، عن الأعمش، فلم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وأما رواية عيسى بن يونس، عن الأعمش، فساقها أبو داود رحمه الله في "سننه"، فقال:

(5158)

- حدّثنا مسدّد، ثنا عيسى بنِ يونس، ثنا الأعمش، عن المعرور بن سُويد، قال: دخلنا على أبي ذر بالرَّبَذة، فإذا عليه بُرْد، وعلى غلامه مثله، فقلنا: يا أبا ذرّ لو أخذت بُرْد غلامك إلى بردك، فكانت حلّةً، وكسوته ثوبًا غيره، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يديه فليطعمه مما يأكل، ولْيَكْسُهُ مما يَلْبَسْ، ولا يكلِّفه ما يغلبه، فإن كلّفه ما يغلبه فليعنه". انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"سنن البيهقي الكبرى" 8/ 7.

(2)

"سنن أبي داود" 2/ 761.

ص: 51

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4307]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى- قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَر، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ وَاصِلٍ الأَحْدَبِ، عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا ذَرٍّ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلَامِهِ مِثْلُهَا، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ: فَذَكَرَ أَنَّهُ سَابَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَعَيَّرَهُ بِأُمِّهِ. قَالَ: فَأَتَى الرَّجُلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكَ امْرُؤ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوَانُكُمْ، وَخَوَلُكُمْ جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدَيْهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كلَّفْتُمُوهُمْ، فَأَعِينُوهُمْ عَلَيْهِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(وَاصِل الأَحْدَبُ) هو: واصل بن حيّان -بفتح الحاء المهملة، وتشديد التحتانيّة- الأسديّ الكوفيّ السابريّ -بمهملة، وموحّدة- ثقةٌ [6](ت 120)(ع) تقدم في "الإيمان" 42/ 279.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.

وقوله: (عَنْ وَاصِلٍ الأَحْدَبِ) وللبخاريّ في "العتق": حدّثنا واصل الأحدب.

وقوله: (عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ) وللبخاريّ في "العتق": "سمعت المعرور بن سُويد".

وقوله: (فَذَكَرَ أَنَّهُ سَابَّ رَجُلًا) تقدّم أن الرجل هو بلال رضي الله عنه، ومعنى "سابّ": شاتم، ووقع بينهما سِباب بالتخفيف، وهو من السبّ بالتشديد، وأصله القطع، وقيل: مأخوذ من السبّة، وهي حلقة الدبر، سُمّي الفاحش من القول بالفاحش من الجسد، فعلى الأول: المراد قطع المسبوب، وعلى الثاني: المراد كشف عورته؛ لأن من شأن السابّ إبداء عورة المسبوب، قاله في "الفتح"

(1)

.

(1)

"الفتح" 1/ 162.

ص: 52

وقوله: (إِخْوَانُكُمْ، وَخَوَلُكُمْ) قال الفيوميّ رحمه الله: الخوَلُ: مثالُ الخدَمِ، والْحَشَمِ وزنًا ومعنًى. انتهى

(1)

.

وقال المجد رحمه الله: الخوَل - محرّكةً- أصل فأس اللجام، وما أعطاك الله تعالى من النِّعَم، والعبيد، والإماءِ، وغيرهم من الحاشية، للواحد، والجمع، والمذكر، والمؤنث، ويقال للواحد: خائلٌ. انتهى

(2)

.

وقال في "العمدة": خَوَلُ الرجل بفتح الواو: حَشَمُهُ، الواحد خائل، وقد يكون الخوَل واحدًا، وهو اسم يقع على العبد والأمة، قال الفرّاء: هو جمع خائل، وهو الراعي، وقال غيره: هو من التخويل، وهو التمليك، وقيل: الخوَل: الخدَمُ، وسُمُّوا به؛ لأنهم يتخوّلون الأمور؛ أي: يصلحونها، وقال القاضي: أي: خَدَمُكُم، وعبيدكم، الذين يتخولون أموركم؛ أي: يصلحون أموركم، ويقومون بها، يقال: خال المالَ يخوله: إذا أحسن القيام عليه، ويقال: هو لفظ مشترك، تقول: خال المالَ، والشيءَ يخول، وخُلْتُ أخول خَوْلًا: إذا أسست الشيء، وتعاهدته، وأحسنت القيام عليه، والخائل: الحافظ، ويقال: خايل المال، وخايل مال، وخَوْليُّ مال، وخَوَّله الله الشيءَ: أي ملّكه إياه، قاله في "العمدة"

(3)

.

وقوله أيضًا: (إخْوَانُكُمْ، وَخَوَلُكُمْ) هكذا رواية المصنف بالعطف، فيكون "إخوانكم" خبرًا لمحذوف؛ أي: هم إخوانكم، وكذا قوله:"وخولكم"، أو هو عطف على "إخوانكم".

ووقع في رواية البخاريّ في "الإيمان" بلفظ: "إخوانُكُم خَوَلكم"، على أنه مبتدأ وخبره، قال في "العمدة": وفيه حصرٌ، وذلك لأن أصل الكلام أن يقال: خولكم إخوانكم؛ لأن المقصود هو الحكم على الخوَل بالأُخُوّة، ولكن لمّا قُصد حصر الخول على الإخوان، قُدِّم الإخوان؛ أي: ليسوا إلا إخوانًا، وإنما قُدِّم الإخوان؛ لأجل الاهتمام ببيان الأخُوّة، ويجوز أن يكون من باب القلب الْمُورِثِ لملاحة الكلام، نحو قوله [من الخفيف]:

(1)

"المصباح المنير" 1/ 184.

(2)

"القاموس المحيط" ص 405.

(3)

"عمدة القاري" 1/ 326.

ص: 53

نَمْ وَإِنْ لم أَنَمْ كَرَايَ كَرَاكَا

شَاهِدَيِ الدَّمْعِ إِنَّ ذَاكَ كَذَاكَا

وقال بعض المعانيِّين: إن المبتدأ والخبر إذا كانا معرفتين أيَّ تعريف كان يفيد التركيبُ الحصر، وقال التيميّ: كأنه قال: هم إخوانكم، ثم أراد إظهار هؤلاء الإخوان، فقال: خولكم، قاله في "العمدة"

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، ولله الحمد والمنة، وله الفضل والنعمة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4308]

(1662) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ بُكَيْرَ بْنَ الأَشَجِّ حَدَّثَهُ، عَنِ الْعَجْلَانِ مَوْلَى فَاطِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ، وَكِسْوَتُهُ، وَلَا يُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا يُطِيقُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ حافظٌ [7] مات قبل (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.

2 -

(بُكَيْرُ بْنُ الأَشَجِّ) هو: بُكير بن عبد الله بن الأشجّ المخزوميّ مولاهم، أبو عبد الله، أو أبو يوسف المدنيّ، نزيل مصر، ثقة [5](ت 120)(ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.

3 -

(الْعَجْلَانُ مَوْلَى فَاطِمَةَ) بنت عُتبة بن ربيعة المدنيّ، لا بأس به [4]. رَوَى عن مولاته، وأبي هريرة، وزيد بن ثابت، وروى عنه ابنه محمد، وبكير بن عبد الله بن الأشجّ، وإسماعيل بن أبي حبيبة، إن كان محفوظًا.

قال النسائيّ: لا بأس به، وقال الآجريّ، عن أبي داود: لم يرو عنه غير أبنه محمد، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له البخاريّ في التعاليق، والمصنف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

(1)

"عمدة القاري" 1/ 329.

ص: 54

والباقون تقدّموا في الباب الماضي، وقبل بابين.

شرح الحديث:

(عَنِ الْعَجْلَانِ مَوْلَى فَاطِمَةَ) بنت عتبة المدنيّ، والد محمد (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "لِلْمَمْلُوكِ) جارّ ومجرور خبر مقدّم لقوله: (طَعَامُهُ) بفتح الطاء: اسم لما يؤكل، كالشَّراب: اسم لما يشرب، قاله الفيّومي رحمه الله

(1)

.

(وَكِسْوَتُهُ)؛ أي: لباسه، وزاد في رواية أبي عوانة، من طريق مالك، عن ابن عجلان، عن أبيه:"بالمعروف"، والكسوة بكسر الكاف، وضمّها لغتان، والكسر أفصح، وبه جاء القرآن الكريم، والجمع كُسًى، بالضمّ، كمُدْية ومُدًى.

وهذا الحديث بمعنى حديث أبي ذر رضي الله عنه الماضي: "فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون"، ونبّه بالطعام، والكسوة على سائر الْمُؤَن التي يحتاج إليها العبد، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

(وَلَا يُكَلَّفُ) بالبناء للمفعول، قال الفيّوميّ رحمه الله: وكَلِفْتُ الأمرَ، من باب تَعِبَ: حَمَلتُهُ على مشقة، ويتعدّى إلى مفعول ثانٍ بالتضعيف، فيقال: كَلَّفْتُهُ الأمرَ، فتكلّفه، مثلُ حَمَّلتُهُ، فتحمّله وزنًا ومعنًى على مشقّة أيضًا، قال: والْكُلْفة: ما تُكلَّفه على مشفة، والجمع كُلَفٌ، مثلُ غُرْفة وغُرَفٍ، والتكاليف: الْمَشاقّ أيضًا، الواحدة تَكْلِفَةٌ. انتهى

(3)

. وقوله: (مِنَ الْعَمَلِ) بيان مقدّم لقوله: (إِلَّا مَا يُطِيقُ") بضمّ أوله، من الإطاقة رباعيًّا، يقال: أطقتُ الشيءَ إطاقةً: قَدَرتُ عليه، فأنا مُطيقٌ، والاسم: الطاقةُ، مثلُ الطاعة، من أطاع، ويقال: طوّقته الشيءَ: جعلته طَوْقَهُ، ويُعبّر به عن التكليف، وطَوْقُ كلِّ شيءٍ: ما استدار به، ومنه قيل للحمامة: ذاتُ طَوْق

(4)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "للمملوك طعامه، وكسوته"؛ أي: يجب ذلك له على سيده، كما قال في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "يقول عبدك: أنفق عليّ،

(1)

"المصباح المنير" 2/ 373.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 134.

(3)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 537 - 538.

(4)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 381.

ص: 55

أو بعني"، وهذا لا يُختَلَف فيه، والقدر الواجب من ذلك ما يدفع به ضرورته، وما زاد على ذلك مندوب إليه. انتهى

(1)

.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [10/ 4308](1662)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(192 و 193)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 247 و 342)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 74 - 75)، وذكره (مالك) في "الموطّإ" من بلاغاته، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4309]

(1663) - (وَحَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا صَنَعَ لأَحَدِكُمْ خَادِمُهُ طَعَامَهُ، ثُمَّ جَاءَهُ بِهِ، وَقَدْ وَلِيَ حَرَّهُ وَدُخَانَهُ، فَلْيُقْعِدْهُ مَعَهُ، فَلْيَأْكُلْ، فَإِنْ كَانَ الطعَامُ مَشْفُوهًا قَلِيلًا، فَلْيَضَعْ فِي يَدِهِ مِنْهُ أُكْلَةً، أَوْ أُكْلَتَيْنِ"، قَالَ دَاوُدُ: يَعْنى لُقْمَةً، أَوْ لُقْمَتَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(الْقَعْنَبِيُّ) عبد الله بن مسلمة بن قَعْنب الحارثيّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، مدنيّ الأصل، وقد سكنها مدّةً، ثقةٌ عابدٌ، من صغار [9](ت 221) بمكة (خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 17/ 617.

2 -

(دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ) الفرّاء الدبَّاغ القرشيّ مولاهم، أبو سليمان المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [5] مات في خلافة أبي جعفر (خت م 4) تقدم في "الصلاة" 42/ 1084.

3 -

(مُوسَى بْنُ يَسَارٍ) المطّلبيّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ [4](خت م د س ق) تقدم في "البيوع" 7/ 3825.

(1)

"المفهم" 4/ 353.

ص: 56

و"أبو هريرة رضي الله عنه " ذُكر قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (283) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسل بالمدنيين، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، وهو رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا صَنَعَ لأَحَدِكُمْ خَادِمُهُ) بالرفع على الفاعليّة، وتقدّم أن الخادم يُطلق على الذكر والأنثى، وهو أعمّ من أن يكون رقيقًا، أو حرًّا، ومحلّه فيما إذا كان السيد رجلًا أن يكون الخادم إذا كان أنثى مُلْكه، أو مَحْرمه، أو ما في حكمه، وبالعكس، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقوله: (طَعَامَهُ) بالنصب على المفعوليّة (ثُمَّ جَاءَهُ بهِ)؛ أي: بذلك الطعام الذي صنعه له، وقوله:(وَقَدْ وَليَ حَرَّهُ) جملة في محلَّ نصب على الحال من الفاعل، و"وَلي" بفتح، فكسر، يقال: وَليتُ الأمرَ أَلِيه -بكسرتين، من باب وَعَدَ -وِلايةَ- بالكسر: تولّيته.

و"الْحَرُّ" بالفتح: خلاف الْبَرْد، يقال: حَرَّ اليومُ، والطعامُ يَحَرُّ، من باب تَعِبَ، وحَرّ حَرًّا، وحُرُورًا، من بابي ضرب، وقَعَد لغة، والاسم الحرارة، قاله الفيّوميّ

(2)

.

وقوله: (وَدُخَانَهُ) بالنصب عطفًا على "حرّه"، و"الدُّخَان" بضمّ الدال المهملة، وتخفيف الخاء المعجمة، جمعه دَوَاخِن، وبمعناه ووزنه: عُثَانٌ، وعَوَاثنُ، ولا نظير لهما، ويقال: دَخِنت النار تَدْخِنُ، وتَدْخُنُ، من بابي ضَرَبَ، وقَتَلَ، دُخُونًا: ارتفع دُخانها، أفاده الفيّوميّ رحمه الله

(3)

.

وقال المجد رحمه الله: الدُّخانُ كغُراب، وجَبَلٍ، ورُمّانٍ: الْعُثَانُ، جمعه

(1)

"الفتح" 12/ 389، كتاب "الأطعمة" رقم (5460).

(2)

"المصباح المنير" 1/ 129.

(3)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 191.

ص: 57

أدخنةٌ، ودواخِنُ، ودواخينُ. انتهى

(1)

.

(فَلْيُقْعِدْهُ) بضمّ حرف المضارعة، من الإقعاد رباعيًّا؛ أي: فليُجلسه (مَعَهُ، فَلْيَأْكُلْ) وفي رواية إسماعيل بن أبي خالد، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عند أحمد، والترمذيّ:"فليُجلسه معه، فإن لم يجلسه معه فليناوله"، وفي رواية لأحمد عن عجلان، عن أبي هريرة:"فادعه، فإن أبى فاطعمه منه"، ولابن ماجه من طريق جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، عن أبي هريرة:"فليدعهن فليأكل معه، فإن لم يفعل فَلْيَأْخُذْ لُقْمَةً، فَلْيَجْعَلْهَا في يَدِهِ"، وفاعل "أبى"، وكذا:"إن لم يفعل" يَحْتَمِل أن يكون السيدَ، والمعنى: إذا ترفع عن مؤاكلة غلامه، ويَحْتَمِل أن يكون الخادمَ إذا تواضع عن مؤاكلة سيده، ويؤيد الاحتمال الأول أن في رواية جابر عند أحمد:"أُمِرنا أن ندعوه، فإن كَرِه أحدُنا أن يَطْعَم معه، فليُطعمه في يده"، وإسناده حسن، قاله في "الفتح"

(2)

.

(فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ مَشْفُوهًا) بالشين المعجمة، والفاء، وفسّره الراوي بقوله:"قليلًا"، وأصل المشفوه: الماء الذي تَكْثُر عليه الشِّفَاه، حتى يَقِلّ، وقيل: أراد: فإن كان مكثورًا عليه؛ أي: كثُرت أَكَلَته، قاله ابن الأثير رحمه الله

(3)

.

وقال الزمخشريّ: وماءٌ مَشْفُوهٌ: كَثُرت عليه الواردة، وما أظنُّ إبلك إلا ستشفه علينا الماء، وما التَفّتِ الشفاهُ على كلام أحسن منه، قال: وطعام مشفوه: كثرت عليه الأيدي، وكاد العيال يشفهون مالي. انتهى

(4)

.

وقال في "الفتح": فيه إشارةٌ إلى أن محل الإجلاس، أو المناولة، ما إذا كان الطعام قليلًا، وإنما كان كذلك؛ لأنه إذا كان كثيرًا وَسِعَ السيدَ والخادمَ، والعلةُ في الأمر بذلك أن تسكن نفس الخادم بذلك، وهو حاصل مع الكثرة دون القلة، فإن القلة مَظِنّة أن لا يفضل منه شيء، ويؤخذ من قوله:"فإن كان مشفوهًا" أن الأمر الوارد لمن طَبَخَ بتكثير المرق ليس على سبيل الوجوب، والله أعلم

(5)

.

(1)

"القاموس المحيط" ص 420.

(2)

"الفتح" 12/ 389 رقم (5460).

(3)

"النهاية" 2/ 488.

(4)

"أساس البلاغة" 1/ 245.

(5)

"الفتح" 12/ 390.

ص: 58

وقوله: (قَلِيلًا) تفسير من الراوي، فهو مدرجٌ، تدلّ عليه رواية أبي داود بلفظ:"يعني: قليلًا".

(فَلْيَضَعْ فِي يَدِهِ)؛ أي: يد الخادم (مِنْهُ)؛ أي: من ذلك الطعام (أُكْلَةً، أَوْ أُكْلَتيْنِ") بضمّ الهمزة؛ أي: لقمة أو لقمتين، وأما الأَكْلة بالفتح، فهي المرّة من الأكل، ولا يناسب هنا، و"أو" للتقسيم بحسب حال الطعام، وحال الخادم.

وقوله: (قَالَ دَاوُدُ)؛ أي: ابن قيس الراوي عن موسى بن يسار، مفسِّرًا لقوله:"أُكلةً، أو أُكلتين"(يَعْني: لُقْمَةً، أَوْ لُقْمَتَيْنِ) قال الفيّوميّ رحمه الله: "اللُّقْمة" -أي: بضمّ، فسكون- من الخبز: اسم لما يُلقَم في مرّة، كالْجُرْعة: اسم لما يُجْرَع في مرّة، ولَقِمْتُ الشيءَ لَقَمًا، من باب تَعِبَ، والْتَقَمته: أكلته بسُرْعة، ويُعدَّى بالهمزة والتضعيف، فيقال: لقّمته الطعامَ تلقيمًا، وألقمته إياه إِلْقَامًا، فتلقّمه تلقُّمًا. انتهى

(1)

.

وفي رواية البخاريّ: "فإن لم يُجلسه معه، فليناوله أُكلةً، أو أُكلتين، أو لُقمة، أو لُقمتين، فإنه ولي حرّه، وعلاجه"، و"أو" الأُولى للتقسيم، كما مرّ آنفًا، والثانية للشكّ من الراوي.

وقوله: "فإنه وَليَ حَرَّه"؛ أي: عند الطبخ، "وعلاجه"؛ أي: عند تحصيل آلاته، وقبل وضع القِدْر على النار، ويؤخذ من هذا أن في معنى الطبّاخ حاملَ الطعام؛ لوجود المعنى فيه، وهو تعلُّق نفسه به، بل يؤخذ منه الاستحباب في مطلق خَدَمِ المرء ممن يعاني ذلك، وفي هذا تعليل الأمر المذكور، وإشارة إلى أن للعين حظًّا في المأكول، فينبغي صرفها بإطعام صاحبها من ذلك الطعام؛ لتَسْكُن نفسه، فيكون أَكَفَّ لشرّه.

قال المهلّب رحمه الله: هذا الحديث يُفَسِّر حديث أبي ذرّ رضي الله عنه في الأمر بالتسوية بين العبد وبين سيده في المطعم والكسوة، أنه على سبيل الحضّ والندب والتفضل، لا على سبيل الإيجاب على السيد؛ لأنه لم يُسَوِّه في هذا الحديث بسيّده في المؤاكلة، وجعل إلى السيد الخيار في إجلاسه للأكل معه أو تركه، ثم حضّه على أنه إن لم يأكل معه أن يُنيله من ذلك الطعام الذي تَعِبَ فيه

(1)

"المصباح المنير" 2/ 557.

ص: 59

وشَمَّه. انتهى

(1)

.

وتعقّبه الحافظ رحمه الله، فقال: وليس في الأمر في قوله في حديث أبي ذرّ رضي الله عنه: "أطعموهم مما تطعمون" إلزام بمؤاكلة الخادم، بل فيه أن لا يستأثر عليه بشيء، بل يُشْرِكه في كل شيء، لكن بحسب ما يدفع به شرّ عَيْنه، وقد نقل ابن المنذر عن جميع أهل العلم أن الواجب إطعام الخادم من غالب القوت الذي يأكل منه مثله في تلك البلدة، وكذلك القول في الأُدُم، والكسوة، وأن للسيد أن يستأثر بالنفيس من ذلك، وإن كان الأفضل أن يُشرك معه الخادم في ذلك

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 4309](1663)، و (البخاريّ) في "العتق"(2557) و"الأطعمة"(5460)، و (أبو داود) في "الأطعمة"(3846)، و (الترمذيّ) في "الأطعمة"(1854)، و (ابن ماجه) في "الأطعمة"(3289 و 3290)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(10/ 421)، و (ابن أبي شيبة) في "مسنده"(1/ 250)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1072)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 277 و 283 و 295 و 299 و 316 و 406 و 430 و 464 و 473 و 505)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 151)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 176)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 146)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 56)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 75)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 8)، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: هذا الحديث رواه عن أبي هريرة رضي الله عنه جماعة غير موسى بن يسار، فقد رواه عنه محمد بن زياد عند البخاريّ، وأحمد، والأعرجُ عند ابن

(1)

"شرح ابن بطال" 13/ 69.

(2)

"الفتح" 12/ 389 - 390، كتاب "الأطعمة" رقم (5460).

ص: 60

ماجه، وأحمد، وسعيد المقبريّ، عند الحميديّ، وإسماعيل بن أبي خالد، عن أبيه عند البخاريّ في "الأدب المفرد"، والترمذيّ، وابن ماجه، وأحمد، وعجلان، وهمّام، وعمّار بن أبي عمّار، وأبو صالح، وأبو سلمة عند أحمد، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): الحثّ على مكارم الأخلاق، والمواساة في الطعام، لا سيما في حقّ من صنعه، أو حمله؛ لأنه وَليَ حَرَّه ودخانه، وتعلقت به نفسه، وشمَّ رائحته.

2 -

(ومنها): أن فيه الأمر بتعلُّم التواضع، وترك الكبر على العبد، وهذا كان خُلُقه صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يأكل مع العبد، ويطحن مع الخادم، ويشاركه في عمله، ويقول:"إنما أنا عبدٌ آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد"

(1)

.

3 -

(ومنها): أنه اختُلف في حكم هذا الأمر بالإجلاس، أو المناولة، فقال الشافعيّ رحمه الله بعد أن ذكر الحديث: هذا عندنا -والله أعلم- على وجهين: أولهما معناه: أن إجلاسه معه أفضل، فإن لم يفعل فليس بواجب، أو يكون بالخيار بين أن يُجلسه، أو يناوله، وقد يكون أمره اختيارًا غير حتم. انتهى، ورجّح الرافعيّ الاحتمال الأخير، وحَمَل الأول على الوجوب، ومعناه أن الإجلاس لا يتعيّن، لكن إن فعله كان أفضل، وإلا تعيّنت المناولة، ويَحْتَمِل أن الواجب أحدهما لا بعينه، والثاني أن الأمر للندب مطلقًا، قاله في "الفتح"

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن وجوبه هو الأظهر؛ لظاهر الأمر، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

حديث صحيح، أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"، وأبو يعلى في "مسنده"، والطبراني في "معجمه".

(2)

"الفتح" 12/ 390، كتاب "الأطعمة" رقم (5460).

ص: 61

(11) - (بَابُ ثَوَاب الْعَبْدِ، وَأَجْرِهِ إِذَا نَصَحَ لِسَيِّدِهِ، وَأحْسَنَ عِبَادَةَ اللهِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4310]

(1664) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا نَصَحَ لِسَيِّدِهِ، وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ اللهِ، فَلَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، تقدّم قريبًا.

3 -

(نَافِعٌ) مولى ابن عمر، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(ابْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما تقدّم قبل بابين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات هذا الكتاب، كسابقه، وهو (284) من رباعيّات الكتاب، وهو مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وقد دخل المدينة.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا نَصَح لِسَيِّدِهِ)؛ أي: أخلص في خدمته، يقال: نصحتُ لزيد أنصَحُ نُصحًا، ونصيحةً، هذه هي اللغة الفصيحة، وعليها قوله تعالى:{إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ} [هود: 34]، وفي لغة يتعدّى بنفسه، فيقال: نصحته، وهو الإخلاص، والصدق، والْمَشُورةُ، والعمل، والفاعل ناصحٌ، ونصيحٌ، والجمع: نُصحاء، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

(وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ اللهِ) وفي رواية: "وأحسن عبادة ربه"؛ أي: طاعته المتوجهة عليه، بأن أقامها بشروطها، وواجباتها، وما يمكنه من مندوباتها، ولم

(1)

"المصباح المنير" 2/ 607.

ص: 62

يُفَوِّت حق سيده، قاله الزرقانيّ رحمه الله

(1)

.

وقال القاري رحمه الله: أي: طاعته الشاملة للمأمورات والمنهيات، والترتيبُ الذّكريّ، إما للترقي، وإما للاهتمام بحق المخلوق؛ لاحتياجه، بخلاف الخالق؛ لاستغنائه، قاله القاري رحمه الله

(2)

.

(فَلَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ") وفي رواية: "كان له أجره مرتين"؛ أي: مضاعفٌ؛ فإن الأجر على قدر المشقة، وهو قد جمع بين القيام بالطاعتين، وفي الحقيقة طاعة مالكه من طاعة ربه، والحاصل أن العبد مكلف بأمر زائد على الحرّ، فيثاب عليه، ومن هذه الحثيثية يُفَضَّل على الحر. انتهى

(3)

.

قال الإمام ابن عبد البرّ رحمه الله: معنى هذا الحديث عندي -والله أعلم- أن العبد لمّا اجتمع عليه أمران واجبان: طاعة سيده في المعروف، وطاعة ربه، فقام بهما جميعًا كان له ضعفا أجر الحرّ المطيع لربه مثل طاعته؛ لأنه قد أطاع الله فيما أمره به من طاعة سيده، ونُصحه، وأطاعه أيضًا فيما افترض عليه، ومن هذا المعنى عندهم أنه من اجتمع عليه فرضان، فأدّاهما جميعًا، وقام بهما كان أفضل ممن ليس عليه إلا فرض واحد فأدّاه، فمن وجبت عليه زكاة وصلاة، فقام بهما على حسب ما يجب فيهما، كان له أجران، ومن لم تجب عليه زكاة، وأذى صلاته كان له أجر واحد، إلا أن الله يوفق من يشاء، ويتفضل على من يشاء، وعلى حسب هذا يعصي الله تعالى من اجتمعت عليه فروض من وجوه، فلم يؤدّ شيئًا منها، وعصيانه له أكثر من عصيان من لم يجب عليه إلا بعض تلك الفروض، وقد سئل عبد الله بن العباس رضي الله عنهما عن رجل كثير الحسنات، كثير السيئات، أهو أحب إليك، أم رجل قليل الحسنات، قليل السيئات؟ فقال: ما أعدل بالسلامة شيئًا. انتهى

(4)

.

وقال الحافظ رحمه الله بعد نقل كلام ابن عبد البرّ المذكور: والذي يظهر أن مزيد الفضل للعبد الموصوف بالصفة لِمَا يدخل عليه من مشقة الرقّ، وإلا فلو

(1)

"شرح الزرقاني" 4/ 509.

(2)

"مرقاة المفاتيح" 6/ 472.

(3)

"مرقاة المفاتيح" 6/ 472.

(4)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 14/ 236 - 237.

ص: 63

كان التضعيف بسبب اختلاف جهة العمل لم يختص العبد بذلك.

وقال ابن التين: المراد أن كل عمل يعمله يضاعَف له، قال: وقيل: سبب التضعيف أنه زاد لسيده نصحًا، وفي عبادة ربه إحسانًا، فكان له أجر الواجبين، وأجر الزيادة عليهما، قال: والظاهر خلاف هذا، وأنه بين ذلك؛ لئلا يَظُنّ ظانّ أنه غير مأجور على العبادة. انتهى.

قال الحافظ: وما ادَّعَى أنه الظاهر لا ينافي ما نقله قبل ذلك.

[فإن قيل]: يلزم أن يكون أجر المماليك ضعف أجر السادات.

اْجاب الكرمانيّ رحمه الله: بأن لا محذور في ذلك، أو يكون أجره مضاعفًا من هذه الجهة، وقد يكون للسيد جهات أخرى يستحق بها أضعاف أجر العبد، أو المراد ترجيح العبد المؤدي للحقّين على العبد المؤدي لأحدهما. انتهى.

قال الحافظ: ويَحْتَمِل أن يكون تضعيف الأجر مختصًّا بالعمل الذي يتحد فيه طاعة الله وطاعة السيد، فيعمل عملًا واحدًا، ويؤجر عليه أجرين بالاعتبارين، وأما العمل المختلِف الجهة، فلا اختصاص له بتضعيف الأجر فيه على غيره من الأحرار. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 4310 و 4311](1664)، و (البخاريّ) في "العتق"(2546 و 2550)، و (أبو داود) في "الأدب"(5169)، و (مالك) في "الموطّإ"(2/ 981)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 18 و 20 و 102 و 142)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 75)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(1/ 80)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(2/ 298)، و (الربيع بن حبيب) في "مسنده"(1/ 267)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 12)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"الفتح" 6/ 381 - 382، كتاب "العتق" رقم (2546).

ص: 64

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4311]

(

) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى، وَهْوَ الْقَطَّانُ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو أُسَامَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ (ح) وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنى أُسَامَةُ، جَمِيعًا عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكٍ).

رجال هذا الإسناد: اثنا عشر:

1 -

(يَحْيَى) بن سعيد الْقَطَّانُ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر العمريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ) أبو جعفر نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253) وله (83) سنةً (م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.

5 -

(أُسَامَةُ) بن زيد الليثيّ مولاهم، أبو زيد المدنيّ، صدوقٌ يَهِم [7](153)(خت م 4) تقدم في "الصلاة" 42/ 1085.

والباقون ذُكروا في الباب، والبابين قبله.

وقوله: (كلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ) الضمير يعود إلى كل من يحيى القطّان، وعبد الله بن نُمير، وأبي أسامة، فالثلاثة رووا هذا الحديث عن عبيد الله بن عمر العمريّ، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (جَمِيعًا عَنْ نَافِعٍ) يعود إلى عبيد الله العمريّ، وأسامة بن زيد الليثيّ، فكلاهما رويا هذا الحديث عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

[تنبيه]: رواية يحيى القطّان، عن عبيد الله ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(2412)

- حدّثنا مُسَدَّدٌ، حدّثنا يحيى، عن عُبَيْدِ اللهِ، حدّثني نَافِعٌ، عن

ص: 65

عبد اللهِ رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا نَصَحَ الْعَبْدُ سَيِّدَهُ، وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ، كان له أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ". انتهى

(1)

.

وأما رواية عبد الله بن نُمير، عن عبيد الله، فساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(6273)

- حدثنا ابن نُمَيْرٍ، حدّثنا عُبَيْدُ اللهِ، عن نَافِعٍ، عَنِ ابن عُمَرَ، أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا نَصَحَ الْعَبْدُ لِسَيّدِهِ، وأحسن عِبَادَة رَبِّهِ، كان له الأَجْرُ مَرَّتَيْنِ". انتهى

(2)

.

وأما رواية ابن نُمير، وأبي أسامة، كليهما عن عبيد الله، فساقها القضاعيّ رحمه الله

(3)

في "مسند الشهاب"، فقال:

(1400)

- أخبرنا قاضي القضاة أبو العباس أحمد بن محمد السعديّ، أنبا القاضي أبو الطاهر محمد بن أحمد الذهبيّ، ثنا أبو أحمد -يعني: ابن عبدوس- ثنا أبو بكر -يعني: ابن أبي شيبة- ثنا ابن نمير، وأبو أسامة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا نصح العبد لسيده، وأحسن عبادة ربه، كان له الأجر مرتين". انتهى

(4)

.

وأما رواية أسامة بن زيد الليثيّ، عن نافع، فساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(6084)

- حدّثنا بحر بن نصر الخولانيّ، قثنا

(5)

ابن وهب، أخبرني أسامة بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أحسن العبد عبادة ربه، ونصح لسيده، كان له أجره مرتين". انتهى

(6)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"صحيح البخاريّ" 2/ 900.

(2)

"مسند أحمد بن حنبل" 2/ 142.

(3)

هو: الحافظ محمد بن سلامة بن جعفر أبو عبد الله القضاعيّ، المتوفى سنة (454 هـ).

(4)

"مسند الشهاب" 2/ 298.

(5)

تقدّم غير مرّة أنه مختصر من "قال: حدّثنا"، فلا تغفل.

(6)

"مسند أبي عوانة" 4/ 76.

ص: 66

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4312]

(1665) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبِ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، يَقُولُ: قالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لِلْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ الْمُصْلِحِ أَجْرَانِ"، وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ، لَوْلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالْحَجُّ، وَبِرُّ أُمَّي لأَحْبَبْتُ أَنْ أَمُوتَ، وَأَنَا مَمْلُوكٌ. قَالَ: وَبَلَغَنَا أَن أَبَا هُرَيْرَةَ لم يَكُنْ يَحُجُّ

(1)

حَتَّى مَاتَتْ أُمُّهُ؛ لِصُحْبَتِهَا، قَالَ أَبُو الطَّاهِرِ فِي حَدِيثِهِ:"لِلْعَبْدِ الْمُصْلِحِ"، وَلَمْ يَذْكُرِ "الْمَمْلُوكَ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجيبيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ الإمام، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) بن حزن المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، ثقة ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [3](ت 94)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.

والباقون ذُكروا في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمدنيين، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه ابن المسيِّب أحد الفقهاء السبعة، وأبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ شِهَاب) الزهريّ، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، يَقُولُ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لِلْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ) وَصَفَه به؛ لأن العبد يُطلق على الحرّ أيضًا حيث إنه عبد لله، وليس مرادًا هنا (الْمُصْلِحِ أَجْرَانِ")

(1)

وفي نسخة: "لم يكن حجّ".

ص: 67

مبتدأ مؤخّر، خبره الجارّ والمجرور قبله، والمصلح: اسم فاعل من أصلح: إذا أتى بالصلاح، وهو الخير، والصواب

(1)

، والمراد به هنا هو الناصح لسيّده، المحسن في عبادة ربّه، كما بيّن في الحديث السابق.

ووقع عند البخاريّ بلفظ: "للعبد المملوك الصالح أجران"، فقال في "الفتح": اسم الصلاح يشمل إحسان العبادة، والنصح للسيّد، ونصيحة السيّد تشمل أداء حقّه من الخدمة وغيرها، وفي حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه عند البخاريّ:"ويؤدّي إلى سيّده الذي له عليه من الحقّ، والنصيحة، والطاعة"

(2)

.

(وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ، لَوْلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالْحَجُّ، وَبِرُّ أُمِّي"؛ أي: القيام بمصالحها، والنفقة، والْمُؤَن، والخدمة، ونحو ذلك، مما لا يمكن فعله من الرقيق

(3)

.

[فائدة]: اسم أم أبي هريرة رضي الله عنه أُميمة

(4)

-بالتصغير- وقيل: ميمونة، وهي صحابية، ذُكر إسلامها في "صحيح مسلم"، وبيان اسمها في "ذيل المعرفة" لأبي موسى المدينيّ رحمه الله

(5)

.

(لأَحْبَبْتُ أَنْ أَمُوتَ، وَأَنَا مَمْلُوكٌ" جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل.

[تنبيه]: قوله: "والذي نفس أبي هريرة

إلخ " هذا صريح بأن هذا من قول أبي هريرة رضي الله عنه، وليس من المرفوع، لكن وقع عند البخاريّ بلفظ: "والذي نفسي بيده لولا الجهاد

إلخ"، فظن بعضهم كونه مرفوعًا.

قال في "الفتح": قوله: "والذي نفسي بيده لولا الجهاد في سبيل الله

إلخ" ظاهر هذا السياق رفع هذه الجمل إلى آخرها، وعلى ذلك

(1)

"المصباح" 1/ 345.

(2)

"الفتح" 6/ 380، كتاب "العتق" رقم (2548).

(3)

"شرح النوويّ" 11/ 136.

(4)

قال صاحب "تنبيه المعلم" ص 283: وأمه أُميمة بنت صُفيح بن الحارث بن دَوْس، ذكره ابن قُتيبة في "المعارف"، كذا رأيته بخط والدي. انتهى.

(5)

"الفتح" 6/ 381.

ص: 68

جرى الخطابيّ، فقال: لله أن يمتحن أنبياءه وأصفياءه بالرق، كما امتحن يوسف. انتهى، وجزم الداوديّ، وابن بطال، وغير واحد بأن ذلك مُدْرَج من قول أبي هريرة، ويدل عليه من حيث المعنى قوله:"وبِرُّ أمي"، فإنه لم يكن للنبيّ صلى الله عليه وسلم حينئذٍ أمّ يبرها، ووجّهه الكرمانيّ، فقال: أراد بذلك تعليم أمّته، أو أورده على سبيل فرض حياتها، أو المراد: أمه التي أرضعته. انتهى.

قال: وفاته التنصيص على إدراج ذلك، فقد فصله الإسماعيليّ من طريق أخرى، عن ابن المبارك، ولفظه: "والذي نفس أبي هريرة بيده

إلخ"، وكذلك أخرجه الحسين بن الحسن المروزيّ في "كتاب البرّ والصلة"، عن ابن المبارك، وكذلك أخرجه مسلم من طريق عبد الله بن وهب، وأبي صفوان الأمويّ، والبخاريّ في "الأدب المفرد" من طريق سليمان بن بلال، والإسماعيليّ من طريق سعيد بن يحيى اللَّخْميّ، وأبو عوانة، من طريق عثمان بن عمر، كلهم عن يونس، زاد مسلم في آخر طريق ابن وهب: "قال -يعني: الزهريّ-: وبلغنا أن أبا هريرة لم يكن يحج حتى ماتت أمه؛ لصحبتها"، ولأبي عوانة، وأحمد من طريق سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، أنه كان يسمعه يقول: لولا أمران لأحببت أن أكون عبدًا، وذلك أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما خلق الله عبدًا يؤدي حق الله عليه، وحق سيده إلا وفّاه الله أجره مرتين".

فعُرف بذلك أن الكلام المذكور من استنباط أبي هريرة رضي الله عنه، ثم استدَلُّ له بالمرفوع، وإنما استثنى أبو هريرة رضي الله عنه هذه الأشياء؛ لأن الجهاد، والحج يُشترط فيهما إذن السيد، وكذلك برّ الأم، فقد يُحتاج فيه إلى إذن السيد في بعض وجوهه، بخلاف بقية العبادات البدنية، ولم يتعرض للعبادات المالية، إما لكونه كان إذ ذاك لم يكن له مال يزيد على قدر حاجته، فيمكنه صرفه في القربات بدون إذن السيد، وإما لأنه كان يرى أن للعبد أن يتصرف في ماله بغير إذن السيد. انتهى

(1)

.

وقوله: (قَالَ: وَبَلَغَنَا) هدا من قول الزهريّ رحمه الله كما أسلفته عن "الفتح"

(1)

"الفتح" 6/ 380 - 381، كتاب "العتق" رقم (2548).

ص: 69

آنفًا (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (لم يَكُنْ يَحُجُّ) وفي بعض النسخ: "حجّ" بصيغة الماضي، قال النوويّ رحمه الله: المراد به حجّ التطوّع؛ لأنه قد كان حجّ حجة الإسلام في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم (حَتى مَاتَتْ أُمُّهُ) تقديمًا لبرّها على حجّ التطوّع؛ لأن بِرّها فرض، فقدّمه على التطوّع، قال النوويّ رحمه الله: مذهبنا، ومذهب مالك أن للأب والأمّ منعَ الولد من حجة التطوّع دون حجة الفرض. انتهى

(1)

.

وقوله: (لِصُحْبَتِهَا) من إضافة المصدر إلى مفعوله؛ أي: لأجل أن يصحبها بالخدمة، والإحسان.

(قَالَ أَبُو الطَّاهِرِ)؛ يعني: شيخه الأول أحمد بن عمرو بن عبد الله بن السرح (فِي حَدِيثِهِ: "لِلْعَبْدِ الْمُصْلِحِ"، وَلَمْ يَذْكُرِ "الْمَمْلُوكَ") أراد به بيان اختلاف شيخيه، فحرملة بن يحيى قال في روايته:"للعبد المملوك المصلح"، وقال أبو الطاهر:"للعبد المصلح"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 4312 و 4313](1665)، و (البخاريّ) في "العتق"(2548)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 335 و 402)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 76)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 12) والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن فيه فضيلةً ظاهرةً للمملوك المصلِح، وهو الناصح لسيده، والقائم بعبادة ربه المتوجهة عليه، وأن له أجرين لقيامه بالحقّين، ولانكساره بالرقّ.

2 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن العبد لا جهاد عليه، ولا حج في حال العبودية، وإن صح ذلك منه.

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 136.

ص: 70

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقول أبي هريرة رضي الله عنه: "لولا الجهاد، والحج، وبرُّ أمِّي

إلخ" تصريح: بأن العبد لا يجب عليه جهاد، ولا حجّ، وهو المعلوم من الشرع؛ لأن الحجّ، والجهاد لا يخاطَب بهما إلا المستطيع لهما، والعبد غير مستطيع؛ إذ لا استقلال له بنفسه، ولا مال؛ إذ لا يملك عند كثير من العلماء، وإن مَلَك عندنا فليس مستقلًّا بالتصرف فيه، ويظهر من تمني أبي هريرة رضي الله عنه كونه مملوكًا أنه فضّل العبودية على الحرية، وكأنَّه فَهِم هذا من مضاعفة أجر العبد الصالح، وهذا لا يصحُّ مطلقًا؛ فإن المعلوم من الشرع خلافه؛ إذ الاستقلال بأمور الدين والدُّنيا إنما حصل بالأحرار، والعبد كالمفقود؛ لعدم استقلاله، وكالآلة المصرّفة بالقهر، والبهيمة المسخَّرة بالجبر، ولذلك سُلِب مناصب الشهادات، ومعظم الولايات، ونقصت حدوده عن حدود الأحرار، إشعارًا بخسَّة المقدار، وكونه له أجره مرتين؛ إنما ذلك لتعدد الجهتين؛ لأنه مطالب من جهة الله تعالى بعبادته، ومن جهة سيده بطاعته، ومع ذلك فالحرّ وإن طولب من جهة واحدة، فوظائفه فيها أكثر، وغناؤه أعظم، فثوابه أكبر، وقد أشار إلى هذا أبو هريرة رضي الله عنه بقوله: "لولا الجهاد، والحجّ، وبرُّ أمِّي، لأحببت أن أموت عبدًا"؛ أي: لولا النقص الذي يلحق العبد لفوت هذه الأمور. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

3 -

(ومنها): أن برّ الأم فرض، فلا يُترك للعبادة النافلة، ومن هنا أجمع العلماء على أن حج التطوّع لا يجوز بغير إذن الوالدين، وفي الحج المفروض خلاف، فقال مالك، والشافعيّ: لا يجوز للوالدين المنع منه، ولا يمتنع الولد منه إن منعاه، وقيل: لا يجوز الحج حتى يأذن له الوالدان

(2)

.

4 -

(ومنها): أنه يدل على أن العبد المتقي لله المؤدي لحقّ الله، وحق سيده أفضل من الحرّ، قاله ابن عبد البرّ رحمه الله، وقد تقدّم ما قاله القرطبيّ رحمه الله، وهو الأقرب، فتأمل بالإمعان، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"المفهم" 4/ 357.

(2)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 2/ 243.

ص: 71

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4313]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو صَفْوَانَ الأُمُوِيُّ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَلَمْ يَذْكُرْ: بَلَغَنَا وَمَا بَعْدَهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبُو صَفْوَانَ الأُمُوِيُّ) عبد الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان الدمشقيّ، نزيل مكة، ثقةٌ [9] مات على رأس المائتين (خ م د ت س) تقدم في "الحج" 88/ 3367.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: رواية أبي صفوان الأمويّ، عن يونس، هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4413]

(1666) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَدَّى الْعَبْدُ حَقَّ اللهِ، وَحَقَّ مَوَالِيهِ، كَانَ لَهُ أَجْرَانِ"، قَالَ: فَحَدَّثْتُهَا كَعْبًا، فَقَالَ كعْبٌ: لَيْسَ عَلَيْهِ حِسَابٌ، وَلَا عَلَى مُؤْمِنٍ مُزْهِدٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان، تقدّم قبل بابين.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أن فيه أحدَ مشايخ الجماعة بلا واسطة، وهو أبو كريب، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَدَّى الْعَبْدُ حَقَّ اللهِ) هو أن يعبده، ولا يشرك به شيئًا، كما فُسّر في حديث معاذ رضي الله عنه، فقد أخرج الشيخان عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "يا معاذ أتدري ما حقّ الله على العباد؟ " قال: الله ورسوله أعلم، قال:"أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئًا، أتدري ما حقهم عليه؟ " قال: الله ورسوله أعلم،

ص: 72

قال: "أن لا يعذبهم"(وَحَقَّ مَوَالِيهِ) هو أن ينصح لهم في معاملاته، ولا يقصّر في ذلك، إن لم يكن معصيةً؛ إذ لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق (كَانَ لَهُ أَجْرَانِ") أجر لأدائه حقّ الله تعالى، وأجر لأدائه حقّ مواليه (قَالَ) أبو هريرة رضي الله عنه (فَحَدَّثْتُهَا)؛ أي: أخبر بهذه الرواية (كَعْبًا) هو كعب بن ماتع الْحِمْيَريّ، أبو إسحاق المعروف بكعب الأحبار، كان من أهل اليمن، ثم سكن الشام، ومات في خلافة عثمان رضي الله عنه، وقد زاد عمره على المائة، تقدّمت ترجمته في "الإيمان" 92/ 497. (فَقَالَ كَعْبٌ: لَيْسَ عَلَيْهِ حِسَابٌ، وَلَا عَلَى مُؤْمِنٍ مُزْهِدٍ) قال النوويّ رحمه الله: المزهد -بضم الميم، وإسكان الزاي- ومعناه: قليل المال، والمراد بهذا الكلام أن العبد إذا أدَّى حقّ الله تعالى، وحقَّ مواليه، فليس عليه حساب؛ لكثرة أجره، وعدم معصيته، وهذا الذي قاله كعب يَحْتَمِل أنه أخذه بتوقيف، ويَحْتَمِل أنه بالاجتهاد؛ لأن من رَجَحَتْ حسناته، وأُوتي كتابه بيمينه، فسوف يحاسب حسابًا يسيرًا، وينقلب إلى أهله مسرورًا. انتهى

(1)

.

وقال المازريّ: يعني بالمزهد: القليل المال، يقال: أزهد الرجلُ يُزهد إزهادًا: إذا قلّ ماله، قال الأعشى:

فَلَنْ يَطْلُبُوا سِرَّهَا لِلْغَنِيِّ

وَلَنْ يُسْلِمُوهَا لإزْهَادِهَا

فالإزهاد: قلّة المال، والسرّ في هذا البيت يعني به النكاح، والشيء الزهيد هو القليل.

وقال القاضي عياض رحمه الله: معنى قول كعب: ليس عليه حساب؛ أي: ليس على عبد أدّى حقّ الله، وحقّ سيِّده حسابٌ؛ لكثرة أجره، فإما أن يقولها كعب عن توقيف عنده، وأن هذا مما خُصّ بذلك، كما خُصّ به السبعون ألفًا المذكورون في الحديث، ومن خُصّ بذلك من غيرهم، أو يكون اجتهادًا منه؛ لتخفيف حسابه، فكان كمن لم يُحاسَب؛ لغلبة حسناته وكثرتها، كما قال تعالى:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)} [الانشقاق: 7 - 9]. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"شرح مسلم" 11/ 136 - 137.

(2)

"إكمال المعلم" 4/ 437 - 438.

ص: 73

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 4314 و 4315](1666)، و (الترمذيّ)(1985)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 252 و 390)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 76)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 12) و"شعب الإيمان"(6/ 384)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4315]

(. . . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ، تقدّم قبل بابين.

والباقيان ذُكرا في الباب.

[تنبيه]: رواية جرير بن عبد الحميد، عن الأعمش هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4316]

(1667) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نِعِمَّا لِلْمَمْلُوكِ أَنْ يُتَوَفَّى يُحْسِنُ عِبَادَةَ اللهِ، وَصَحَابَةَ سَيِّدِهِ، نِعِمَّا لَهُ").

هذا الإسناد رجاله خمسة، وقد تقدّم بعينه قبل خمسة أبواب.

شرح الحديث:

(عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ) أنه (قَالَ: هَذَا) إشارة إلى ما يأتي من الأحاديث، وقد تقدّم غير مرّة أن هذا من "صحيفة همّام بن منبّه"، فلا تغفل (مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ)؛ أي: أبو هريرة رضي الله عنه (أَحَادِيثَ، مِنْهَا)؛ أي: من تلك الأحاديث التي ذكرها أبو هريرة رضي الله عنه، وقد تقدّم أن الجارّ

ص: 74

والمجرور هذا خبر مقدّم لقوله: (وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ لأنه محكيّ؛ لقصد لفظه، فهو مبتدأ مؤخّر، فتنبّه. ("نِعِمَّا لِلْمَمْلُوكِ) قال القرطبيّ رحمه الله: هي "نعم" التي للمدح، زيدت عليها "ما" النكرة، وهي في موضع نصب على التمييز، كقوله تعالى:{فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة: 271]. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: إعراب "ما" نكرة منصوبة على التمييز هو أحد الوجهين اللذين ذكرهما المعربون، والثاني أنها اسم معرفة، وهي الفاعل، وإلى هذين الوجهين أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" بقوله:

وَ"مَا" مُمَيِّزٌ وَقِيلَ فَاعِلُ

فِي نَحْوِ "نِعْمَ" مَا يَقُولُ الْفَاضِلُ

وقال النوويّ رحمه الله: أما "نعما" ففيها ثلاث لغات، قرئ بهنّ في السبع: إحداها: كسر النون مع إسكان العين، والثانية كسرهما، والثالثة فتح النون مع كسر العين، والميم مشددة في جميع ذلك؛ أي: نعم شيءٌ هو، ومعناه: نعم ما هو، فأدغمت الميم في الميم، قال القاضي عياض: ورواه العذري: "نعمًى" بضم النون، منونًا، وهو صحيح؛ أي: له مسرة، وقرة عين، يقال: نُعْمًا له، ونِعْمةً له. انتهى.

(أَنْ يُتَوَفَّى) بالبناء للمفعول؛ أي: يميته الله تعالى، ولفظ أبي عوانة:"أن يتوفّاه الله"، وهو إشارة إلى أن العبرة بالخواتيم، وقوله:(يُحْسِنُ عِبَادَةَ اللهِ) جملة حاليّة من النائب عن الفاعل، وهو بضمّ حرف المضارعة، من الإحسان، و"عبادةَ" منصوب على المفعوليّة، وقد تقدّم قريبًا معنى إحسان العبادة (وَصَحَابَةَ سَيِّدِهِ) بفتح الصاد المهملة: بمعنى الصحبة، وقوله:(نِعِمَّا لَهُ") كرّره للتأكيد.

ووقع في رواية البخاريّ بلفظ: "نعمّا لأحدهم يُحسن عبادة ربّه، ويَنصح لسيّده"، قال في "الفتح": قوله: "نعمّا" بفتح النون، وكسر العين، وإدغام الميم في الأخرى، ويجوز كسر النون، وتكسر النون، وتفتح أيضًا، مع إسكان العين، وتحريك الميم، فتلك أربع لغات، قال الزجاج:"ما، بمعنى الشيء، فالتقدير: نعم الشيء، ووقع لبعض رواة مسلم: "نعمى" بضم النون، وسكون العين، مقصورًا بالتنوين وغيره، وهو متجه المعنى إن ثبتت به الرواية، وقال

(1)

"المفهم" 4/ 355.

ص: 75

ابن التين: وقع في نسخة الشيخ أبي الحسن - أي: القابسيّ - "نعمّ ما" بتشديد الميم الأولى، وفتحها، ولا وجه له، وإنما صوابه إدغامها في "ما"، وهي كقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [النساء: 58].

وقوله: "يُحسِن" هو مبيّن للمخصوص بالمدح في قوله: "نِعْم"، زاد مسلم من طريق همام، عن أبي هريرة:"نعما للمملوك أن يُتَوَفَّى يُحسن عبادة الله"؛ أي: يموت على ذلك، وفيه إشارة إلى أن الأعمال بالخواتيم. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 4316](1667)، و (البخاريّ) في "العتق"(2549)، و (الترمذيّ) في "جامعه"(1985)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 270 و 318)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 424)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 77)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(3/ 318)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(12) - (بَابُ مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ)

قال الجامع عفا الله عنه: يُستغرب من المصنّف رحمه الله إعادة أحاديث هذا الباب، مع أنها تقدّمت في "العتق"، قال النوويّ رحمه الله: وذكر حديث الاستسعاء، وقد سبقت هذه الأحاديث في "كتاب العتق" مبسوطة بطرقها، وعَجَبٌ من إعادة مسلم لها ها هنا على خلاف عادته، من غير ضرورة إلى إعادتها، وسبق هناك شرحها. انتهى

(2)

.

(1)

"الفتح" 6/ 382، كتاب "العتق" رقم (2549).

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 137 - 138.

ص: 76

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4317]

(1501)

(1)

- (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قُلْتُ لِمَالِكٍ: حَدَّثَكَ نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ العَبْدِ، قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْعَدْلِ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ"؟).

قال الجامع عفا الله عنه: قد استوفيت الكلام على هذا الحديث سندًا ومتنًا في "كتاب العتق" رقم [1/ 3765](1501)، والسند من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو هناك (240).

(وقول يحيى): "قلت لمالك. . . إلخ"، هو بتقدير أداة الاستفهام؛ أي: أحدّثك نافع. . . إلخ، ثم إنه لم يُذكر في هذه الرواية قول مالك: نعم، وفيه خلاف مذكور في "كتب المصطلح"، والأصحّ أنه يكفي، وإن لم يذكر ذلك قولًا، وقد تقدّم تحقيق ذلك بالرقم المذكور.

وقوله: (شِرْكًا) بكسر الشين المعجمة، وإسكان الراء؛ أي: نصيبًا، وفي رواية للبخاريّ:"شِقْصًا"، وهو بشين معجمة، وقاف، وصاد مهملة، بوزن "شِرْكًا"، وفي رواية:"نَصِيبًا"، والكل بمعنًى، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى بالرقم المذكور.

وقوله: (قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْعَدْلِ) ببناء الفعل للمفعول، من التقويم، وفي رواية:"في ماله قيمة عدل، لا وكسَ، ولا شطط"، والوَكْس - بفتح الواو، وسكون الكاف، بعدها مهملة -: النقص، والشطط - بمعجمة، ثم مهملة مكررة، والفتحِ - الجور.

وقوله: (فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ) ببناء الفعل للفاعل، ونصب "شُركاءَه" على المفعوليّة، وكذا هو عند الأكثرين، وضبطه بعضهم بالبناء للمفعول، و"شركاؤه" مرفوع على أنه نائب الفاعل.

وقوله: (حِصَصَهُمْ) هو المفعول الثاني، وهو بكسر، ففتح: جمع حصّة،

(1)

هذا ترقيم الأستاذ محمد فؤاد: وهو مكرّر، فقد سبق في كتاب "العتق"، فتنبّه.

ص: 77

وهي القِسْم، والنصيب، قال الفيّوميّ رحمه الله: الْحِصّةُ: الْقِسْم، والجمع حِصَصٌ، مثلُ سِدْرَة وسِدَرٍ، وحَصَّهُ من المال كذا يَحُصّهُ، من باب قَتَل: حَصَلَ له ذلك نَصِيبًا، وأحصصته بالألف: أعطيته حصّةً، وتحاصّ الغُرماء: اقتسموا المال بينهم حِصَصًا. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "حِصَصَهم"؛ أي: قيمة حِصَصِهم؛ أي: إن كان له شركاء، فإن كان له شريك أعطاه جميع الباقي، وهذا لا خلاف فيه، فلو كان مشترَكًا بين الثلاثة، فأَعتق أحدهم حِصّته، وهي الثلث، والثاني حصته، وهي السدس، فهل يُقَوَّم عليهما نصيب صاحب النصف بالسوية، أو على قدر الْحِصَص؟، الجمهور على الثاني، وعند المالكية والحنابلة خلاف، كالخلاف في الشفعة، إذا كانت لاثنين، هل يأخذان بالسويّة، أو على قدر الملك؟. انتهى

(2)

.

وقوله: (وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ) قال الداوديّ: هو بفتح العين من الأول، ويجوز الفتح والضم في الثاني، وتعقبه ابن التين بأنه لم يقله غيره، وإنما يقال: عَتَقَ بالفتح، وأُعتق بضم الهمزة، ولا يعرف عُتِق بضم أوله؛ لأن الفعل لازمٌ غير متعدّ. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: قد أجاد ابن التين في تعقّبه هذا، فقد تقدّم في أول "كتاب العتق" ما قاله أهل اللغة، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه مستوفًى، وكذا تخريجه، وبقيّة مسائله في "كتاب العتق" بالرقم المتقدّم فراجعه تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4318]

(. . .) - (حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ مِنْ مَمْلُوكٍ، فَعَلَيهِ عِتْقُهُ كُلِّهِ، إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ").

(1)

"المصباح المنير" 1/ 139.

(2)

"الفتح" 6/ 346.

ص: 78

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهم تقدّموا في الباب الماضي، و"ابن نُمير" هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، و"عبيد الله" هو ابن عمر الْعُمريّ.

وقوله: (فَعَلَيْهِ عِتْقُهُ كُلِّهِ) بجرّ "كلِّهِ" توكيدًا للضمير المضاف إليه، وهكذا أعربه في "الفتح"، فما وقع في النسخ من ضبطه بالقلم برفع اللام فلا وجه له، فافهم.

وقوله: (عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ) بفتح العين فيهما، مبنيًّا للفاعل، وقد غلط من ضبط الثاني بالضمّ؛ لأنه لا يقال: عُتق بالضمّ؛ لكونه لازمًا، وإنما يقال: أُعتق بالهمزة مبنيًّا للمفعول، وقد تقدّم تحقيق هذا في "العتق"، فلترجع إليه، وبالله تعالى التوفيق.

والحديث متّفقٌ عليه، وشرحه، وبيان مسائله سبق الكلام فيها في الحديث الماضي، وبالله تعالى التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4319]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَكَانَ لَهُ مِنَ الْمَالِ قَدْرُ مَا يَبْلُغُ قِيمَتَهُ، قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وقد تقدّموا قريبًا، وهو من رباعيات المصنّف رحمه الله، وهو (284) من رباعيّات الكتاب.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ) قال في "الفتح": ظاهره العموم، لكنه مخصوص بالاتفاق، فلا يصحّ من المجنون، ولا من المحجور عليه لسفه، وفي المحجور عليه بفَلْس، والعبدِ، والمريضِ مرضَ الموت، والكافر، تفاصيل للعلماء بحسب ما يظهر عندهم من أدلة التخصيص، ولا يُقَوَّم في مرض الموت عند الشافعية، إلا إذا وسعه الثلث،

ص: 79

وقال أحمد: لا يُقَوَّم في المرض مطلقًا، قال: وخرج بقوله: "أَعْتَقَ ما إذا أُعْتِق عليه"، بأن وَرِثَ بعض من يُعتَق عليه بقرابة، فلا سراية عند الجمهور، وعن أحمد رواية، وكذلك لو عجز المكاتب بعد أن اشترى شِقْصًا يَعتِق على سيده، فإن الملك والعتق يحصلان بغير فعل السيد، فهو كالإرث، ويدخل في الاختيار ما إذا أُكرِه بحقّ، ولو أوصى بعتق نصيبه من المشترَك، أو بعتق جزء ممن له كله، لم يَسْرِ عند الجمهور أيضًا؛ لأن المال ينتقل للوارث، ويصير الميت معسرًا، وعن المالكية رواية، وحجة الجمهور مع مفهوم الخبر أن السراية على خلاف القياس، فيختص بمورد النصّ، ولأن التقويم سبيله سبيل غرامة المتلفات، فيقتضي التخصيص بصدور أمر يُجْعَل إتلافًا، ثم ظاهر قوله:"من أَعتَق" وقوع العتق مُنَجَّزًا، وأجرى الجمهور المعلَّق بصفة إذا وُجِدت مجرى المنجز. انتهى

(1)

.

(نَصِيبًا لَهُ فِي عَبْدٍ) وفي رواية: "شِرْكًا له"، وفي أخرى:"شِقْصًا"، والكل بمعنى، إلا أن ابن دُريد قال: الشقص هو القليل والكثير، وقال القزاز: لا يكون الشقص إلا كذلك، والشِّرْك في الأصل مصدرٌ أُطلق على مُتعلَّقه، وهو العبد المشترَك، ولا بُدّ في السياق من إضمار جزء، أو ما أشبهه؛ لأن المشترَك هو الجملة، أو الجزء المعيَّن منها، وظاهره العموم في كل رقيق، لكن يُستثنى الجاني، والمرهون، ففيه خلاف، والأصح في الرهن والجناية منع السراية؛ لأن فيها إبطالَ حقّ المرتهن، والمجنيّ عليه، فلو أَعتق مشتركًا بعد أن كاتباه، فإن كان لفظ العبد يتناول المكاتب، وقعت السراية، وإلا فلا، ولا يكفي ثبوت أحكام الرق عليه، فقد تثبت ولا يستلزم استعمال لفظ العبد عليه، ومثله ما لو دَبَّراه، لكن تناول لفظ العبد للمدبَّر أقوى من المكاتَب، فيسري هنا على الأصح، فلو أَعتق من أمة ثبت كونها أم ولد لشريكه، فلا سراية؛ لأنها تستلزم النقل من مالك إلى مالك، وأم الولد لا تقبل ذلك عند من لا يرى بيعها، وهو أصح قولي العلماء، قاله في "الفتح"

(2)

.

(1)

"الفتح" 6/ 344، كتاب "العتق" رقم (2521).

(2)

"الفتح" 6/ 344 - 345 رقم (2521).

ص: 80

(فَكَانَ لَهُ مِنَ الْمَالِ قَدْرُ مَا يَبْلُغُ قِيمَتَهُ)؛ أي: شيء يبلغ قيمة ذلك العبد، وتقييده بقوله:"يبلغ" يُخرج ما إذا كان له مالٌ لكنه لا يبلغ قيمة النصيب، وظاهره أنه في هذه الصورة لا يُقَوَّم عليه مطلقًا، لكن الأصحّ عند الشافعيّة، وهو مذهب مالك أنه يسري إلى القدر الذي هو موسر به؛ تنفيذًا للعتق، بحسب الإمكان، قاله في "الفتح".

قال الجامع عفا الله عنه: عدم السراية هو الظاهر عندي؛ عملًا بالتقييد المذكور، فإنه ظاهر في إخراج هذا، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

(قُوِّمَ عَلَيْهِ) ببناء الفعل للمفعول (قِيمَةَ عَدْلٍ) بنصب "قيمة" على المصدريّة (وَإِلَّا) هي "إن" الشرطيّة أُدغمت في "لا" النافية؛ أي: وإن لم يكن له مال يبلغ قيمة العبد (فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ") ببناء الفعلين للفاعل، ومن ضَبَط الثاني بضم العين، فقد غلط؛ لأنه لازم لا يبنى للمفعول، فتنبّه؛ أي: صار الجزء الذي أعتقه هذا المعتق حرًّا، ويبقى نصيب الشريك رقيقًا، فيُستسعى العبد في تخليص رقبته، غير مشقوق عليه، كما بُيّن في الروايات الأخرى.

والحديث متّفق عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، وبيان المسائل المتعلّقة به في "كتاب العتق" برقم [1/ 3765](1501) فارجع إليه تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4320]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ، وَأَبُو كَامِلٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، وَهُوَ ابْنُ زَيْدٍ (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - يَعْنِي: ابْنَ عُلَيَّةَ - كِلَاهُمَا عَنْ أَيُّوبَ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ (ح) وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ - يَعْنِي: ابْنَ زَيْدٍ - كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ فِي

ص: 81

حَدِيثِهِمْ: "وَاِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ"، إِلَّا فِي حَدِيثِ أَيُّوبَ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، فَإِنَّهُمَا ذَكَرَا هَذَا الْحَرْفَ فِي الْحَدِيثِ، وَقَالَا: لَا نَدْرِي أَهُوَ شَيْءٌ فِي الْحَدِيثِ، أَوْ قَالَهُ نَافِعٌ مِنْ قِبَلِهِ؟ وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا فِي حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ).

قال الجامع عفا الله عنه: هذه الروايات بإحالاتها قد تقدّمت في "كتاب العتق"، وتقدّم شرحها، وإكمال الإحالات فيها بما فيه الكفاية، فلم يبق غير رواية زهير بن حرب، عن إسماعيل ابن عليّة، عن أيوب، فلم تُذكر هناك، فنسوقها هنا، فقد ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(4956)

- أخبرنا عمرو بن زُرارة، قال: أنا إسماعيل، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من أعتق نصيبًا له، أو قال: شِقْصًا، أو قال: شِرْكًا له في عبد، وكان له من المال ما يبلغ ثمنَهُ بقيمة عدل، فهو عتيق، وإلا فقد عَتَقَ ما عَتَقَ"، قال أيوب: وربما قال نافع هذا في الحديث، وربما لم يقله، فلا أدري هو في الحديث، أم قال نافع من قبله؟ يعني قوله:"فقد عَتَقَ منه ما عَتَقَ". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وقوله: (وَقَالَا: لَا نَدْرِي أَهُوَ شَيْءٌ فِي الْحَدِيثِ، أَوْ قَالَهُ نَافِعٌ مِنْ قِبَلِهِ)؛ أي: قال أيوب، ويحيى بن سعيد في حديثهما:"لا ندري. . . إلخ"، وفي رواية البخاريّ:"قال أيوب: لا أدري، أشيء قاله نافع، أو شيء في الحديث؟ "، قال في "الفتح": قوله: "قال أيوب: لا أدري، أشيء قاله نافع، أو شيء في الحديث؟ " هذا شكّ من أيوب في هذه الزيادة المتعلقة بحكم المعسر، هل هي موصولة مرفوعة، أو منقطعة مقطوعة، وقد رواه عبد الوهاب، عن أيوب، فقال في آخره:"وربما قال: وإن لم يكن له مال، فقد عَتَقَ منه ما عَتَقَ، وربما لم يقله، وأكثر ظني أنه شيء يقوله نافع من قبله"، أخرجه النسائيّ، وقد وافق أيوب على الشكّ في رفع هذه الزيادة يحيى بن سعيد، عن نافع، أخرجه مسلم، والنسائيّ. ولفظ النسائيّ: "وكان نافع يقول: قال يحيى: لا أدري،

(1)

"سنن النسائي الكبرى" 3/ 183.

ص: 82

أشيء كان من قبله يقوله، أم شيء في الحديث؟ فإن لم يكن عنده، فقد جاز ما صنع"، ورواها من وجه آخر عن يحيى فجزم بأنها عن نافع، وأدرجها في المرفوع من وجه آخر، وجزم مسلم بأن أيوب ويحيى قالا: "لا ندري، أهو في الحديث، أو شيء قاله نافع من قبله؟ "، ولم يُخْتَلف عن مالك في وصلها، ولا عن عبيد الله بن عمر، لكن اختُلِف عليه في إثباتها وحذفها، كما تقدم، والذين أثبتوها حُفّاظ، فإثباتها عن عبيد الله مقدم، وأثبتها أيضًا جرير بن حازم، وإسماعيل بن أمية عند الدارقطنيّ، وقد رجّح الأئمة رواية من أثبت هذه الزيادة مرفوعةً، قال الشافعيّ: لا أَحْسَب عالِمًا بالحديث يشك في أن مالكًا أحفظ لحديث نافع من أيوب؛ لأنه كان ألزم له منه، حتى ولو استويا فشكّ أحدهما في شيء لم يشك فيه صاحبه، كانت الحجة مع من لم يشك، ويؤيد ذلك قول عثمان الدارميّ: قلت لابن معين: مالكٌ في نافع أحبُّ إليك، أو أيوب؟ قال: مالكٌ، وقد تقدّم هذا البحث في "كتاب العتق" برقم [1/ 3765](1501) فراجعه تستفد علْمًا، وبالله تعالى التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4321]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ، أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ، قُوِّمَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ قِيمَةَ عَدْلٍ، لَا وَكْسَ، وَلَا شَطَطَ، ثُمَّ عَتَقَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، إِنْ كَانَ مُوسِرًا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، تقدّم قريبًا.

2 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، ثم المكيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) الإمام الشهير، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(عَمْرُو) بن دينار الأثرم الْجُمحيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.

ص: 83

5 -

(سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمر بن الخطّاب العدويّ، أبو عمر، أو أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه عابدٌ فاضلٌ، من كبار [3](ت 106)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 162.

و"ابن عمر رضي الله عنهما" ذُكر قبله.

وقوله: (لَا وَكْسَ، وَلَا شَطَطَ) قال العلماء: الْوَكْسُ: الغِشّ، والْبَخْسُ، وأما الشَّطَطُ: فهو الْجَوْرُ، يقال: شَطَّ الرجلُ، وأشطّ، واستشط: إذا جار، وأفرط، وأبعد في مجاوزة الحدّ، والمراد: يُقَوَّم بقيمة عدل، لا بنقص، ولا بزيادة، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح": والْوَكْسُ - بفتح الواو، وسكون الكاف، بعدها مهملة -: النقص، والشَّطَطُ - بمعجمة، ثم مهملة مكررة، والفتحِ -: الْجَوْر، واتَّفَقَ مَن قال من العلماء على أنه يباع عليه في حصة شريكه جميعُ ما يباع عليه في الدَّين، على اختلاف عندهم في ذلك، ولو كان عليه دَين بقدر ما يملكه، كان في حكم الموسر على أصح قولي العلماء، وهو كالخلاف في أن الدَّين هل يمنع الزكاة أم لا؟ ووقع في رواية الشافعيّ، والحميديّ:"فإنه يقوّم عليه بأعلى القيمة، أو قيمة عدل"، وهو شكّ من سفيان، وقد رواه أكثر أصحابه عنه بلفظ:"قُوِّم عليه قيمةَ عدلٍ"، وهو الصواب. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4322]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، عَتَقَ مَا بَقِيَ في مَالِهِ، إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلهم تقدّموا في الباب، وقبله، غير عبد بن حُميد، فتقدّم قبل أربعة أبواب.

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 138 - 139.

(2)

"الفتح" 6/ 345، كتاب "العتق" رقم (2521).

ص: 84

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4323]

(1502) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى - قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الْمَمْلُوكِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، فَيُعْتِقُ أَحَدُهُمَا، قَالَ: "يَضْمَنُ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدُوسيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(النَّضْرُ بْنُ أَنَسِ) بن مالك الأنصاريّ، أبو مالك البصريّ، وَلَدُ الصحابيّ الجليل، ثقةٌ [3] مات سنة بضع ومائة (ع) تقدم في "العتق" 2/ 3767.

3 -

(بَشِيرُ بْنُ نَهِيكٍ) - بفتح النون، وكسر الهاء - السَّدُوسيّ، ويقال: السَّلُوليّ، أبو الشعثاء البصريّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "العتق" 2/ 3767.

والباقون تقدّموا في البابين الماضيين.

وقوله: ("يَضْمَنُ") يَحْتَمِل أن يكون بفتح أوله، وثالثه، مبنيًّا للفاعل، من ضَمِنَ، من باب تَعِبَ، والفاعل ضمير "أحدهما"، ويَحْتَمِل أن يكون بضمّ أوله، وتشديد الميم، مبنيًّا للمفعول؛ أي: يُغَرَّم المُعتِقُ للذي لم يُعتِق.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه برقم [2/ 3767](1502)، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4324]

(1503) - (وَحَدَّثَنَاه عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، قَالَ: "مَنْ أَعْتَقَ شَقِيصًا مِنْ مَمْلُوكٍ، فَهُوَ حُرٌّ مِنْ مَالِهِ").

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) العنبريّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان العنبريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا. و"شعبة" ذُكر قبله.

ص: 85

وقوله: (مَنْ أَعْتَقَ شَقِيصًا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في معظم النسخ "شقيصًا" بالياء، وفي بعضها:"شِقْصًا" بحذفها، وكذا سبق في "كتاب العتق"، وهما لغتان: شِقْصٌ، وشَقِيصٌ، كنِصْفٍ، ونَصِيفٍ؛ أي: نصيب. انتهى

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى في "كتاب العتق"، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4325]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أنسٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أعْتَقَ شَقِيصًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَخَلَاصُهُ فِي مَالِهِ، إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اسْتُسْعِيَ الْعَبْدُ، غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ) هو: سعيد بن أبي عروبة مِهْرَان، تقدّم قريبًا. والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (مَنْ أَعْتَقَ شَقِيصًا لَهُ)؛ أي: نصيبًا، ومثله "الشِّقْصُ"، و"الشِّرْكُ" بكسر، فسكون فيهما.

وقوله: (فَخَلَاصُهُ فِي مَالِهِ)"الخلاص" بالفتح: مصدرٌ، يقال: خَلَصَ الشيءُ من التَّلَف خُلُوصًا، من باب قَعَدَ، وخلاصًا، ومَخْلَصًا: سَلِمَ، ونَجَا، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(2)

.

والمعنى هنا: أن تخليص رقبة العبد من الرقّ في نصيب صاحبه يكون على المعتِق في ماله.

وقوله: (اسْتُسْعِيَ الْعَبْدُ) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: إذا كان المعتِقُ فقيرًا ليس له مالك يُخلّص به رقبة العبد، طُلِب من العبد أن يسعى في تخليص رقبته من نصيب الشريك الذي لم يُعتقه.

وقوله: (غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ) بنصب "غيرَ" على الحال، قال ابن التين رحمه الله:

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 139.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 177.

ص: 86

معناه: لا يُستغلى عليه في الثمن، وقيل: معناه: غير مكاتَب، وهو بعيد جدًّا، قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب إذا أعتق نصيبًا في عبد وليس له مال استُسعي العبدُ غير مشقوق عليه، على نحو الكتابة"، قال الحافظ رحمه الله: أشار البخاريّ بهذه الترجمة إلى أن المراد بقوله في حديث ابن عمر: "وإلا فقد عَتَقَ منه ما عَتَقَ"؛ أي: وإلا فإن كان المعتِق لا مال له، يبلغ قيمةَ بقيةِ العبد، فقد تَنَجَّز عتقُ الجزء الذي كان يملكه، وبقي الجزء الذي لشريكه على ما كان عليه أوّلًا إلى أن يُسْتَسْعَى العبدُ في تحصيل القدر الذي يُخَلِّص به باقيه من الرقّ، إن قَوِيَ على ذلك، فإن عَجَّزَ نفسه استمَرَّت حصة الشريك موقوفةً، وهو مصيرٌ منه إلى القول بصحة الحديثين جميعًا، والحكم برفع الزيادتين معًا وهما قوله في حديث ابن عمر رضي الله عنهما:"وإلا فقد عَتَقَ منه ما عَتَقَ"، وقوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"فاستُسْعيَ به غيرَ مشقوق عليه". انتهى

(2)

. وقد تقدّم تمام البحث في هذا في "كتاب العتق" برقم [2/ 3768](1503) فارجع إليه تستفد علْمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4326]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَفِي حَدِيثِ عِيسَى:"ثُمَّ يُسْتَسْعَى فِي نَصِيبِ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ، غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ، قاضي الْمَوْصِل، ثقةٌ [8](189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

(1)

"الفتح" 6/ 351، كتاب "العتق" رقم (2526).

(2)

"الفتح" 6/ 350 - 351 رقم (2526 و 2527).

ص: 87

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) الْعَبديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.

3 -

(عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ) المروزيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257) وقد قارب المائة (م ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.

والباقون ذُكروا في الباب والبابين السابقين.

[تنبيه]: رواية عليّ بن مُسْهِر، عن سعيد بن أبي عروبة، ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:

(21726)

- حدّثنا أبو بكر، قال: حدّثنا عليّ بن مسهر، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نَهِيك، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق شِقْصًا له في مملوك، أو نصيبًا فعليه خلاصه من ماله، إن كان له مال، وإن لم يكن له مال استُسْعِي العبد في قيمته، غير مشقوق عليه". انتهى

(1)

.

وأما رواية محمد بن بشر، عن سعيد بن أبي عروبة، فقد ساقها أبو داود رحمه الله في "سننه"، فقال:

(3938)

- حدّثنا نَصْرُ بن عَلِيٍّ، أخبرنا يَزِيدُ - يَعْنِي: ابن زُرَيْعٍ - (ح) وثنا عَلِيُّ بن عبد اللهِ، ثنا محمد بن بِشْرٍ، وَهَذَا لَفْظُهُ، عن سَعِيدِ بن أبي عَرُوبَةَ، عن قَتَادَةَ، عن النَّضْرِ بن أَنَسٍ، عن بَشِيرِ بن نَهِيكٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ، عن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:"من أَعْتَقَ شِقْصًا له، أو شَقِيصًا له، في مَمْلُوكٍ، فَخَلَاصُهُ عليه في مَالِهِ، إن كان له مَالٌ، فَإِنْ لم يَكُنْ له مَالٌ، قُوِّمَ الْعَبْدُ قِيمَةَ عَدْلٍ، ثُمَّ اسْتُسْعِيَ لِصَاحِبِهِ في قِيمَتِهِ، غير مَشْقُوقٍ عليه"، قال أبو دَاوُد: في حَدِيثِهِمَا جميعًا: "فَاسْتُسْعِيَ غير مَشْقُوقٍ عليه"، وَهَذَا لَفْظُ عَلِيٍّ. انتهى

(2)

.

وأما رواية إسحاق بن راهويه، عن عيسى بن يونس، عن سعيد بن أبي عروبة، فقد ساقها إسحاق رحمه الله نفسه في "مسنده"، فقال:

(101)

- أخبرنا عيسى بن يونس، نا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بَشِير بن نَهِيك، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

"مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 422.

(2)

"سنن أبي داود" 4/ 24.

ص: 88

قال: "من أعتق شِقْصًا في مملوك، فعليه خلاصه في ماله، إن كان له مال، فإن لم يكن له مال قُوِّم العبد قيمةَ عدل، ثم يُسْتَسعَى في نصيب الذي لم يُعْتِق، غير مشقوق عليه". انتهى

(1)

.

أما رواية عليّ بن خَشْرَم، عن عيسى بن يونس، فقد ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:

(1348)

- حدّثنا عَلِيُّ بن خَشْرَمٍ، أخبرنا عِيسَى بن يُونُسَ، عن سَعِيدِ بن أبي عَرُوبَةَ، عن قَتَادَةَ، عن النَّضْرِ بن أَنَسٍ، عن بَشِيرِ بن نَهِيكِ، عن أبي هُرَيْرَةَ، قال: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "من أَعتق نَصِيبًا، أو قال: شِقْصًا في مَمْلُوكٍ، فَخَلَاصُهُ في مَالِهِ، إن كان له مَالٌ، فَإِنْ لم يَكُنْ له مَالٌ، قُوِّمَ قِيمَةَ عَدْلٍ، ثُمَّ يُسْتَسْعَى في نَصِيبِ الذي لم يُعْتَقْ، غير مَشْقُوقٍ عليه". انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4327]

(1668) - (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا اِسْمَاعِيلُ - وَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ - عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ، فَدَعَا بِهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَزَّأَهُمْ أَثْلَاثًا، ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ، وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً، وَقَالَ لَهُ قَوْلًا شَدِيدًا).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ) المروزيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُوْ قِلَابَةَ) عبد الله بن زيد بن عمرو الْجَرْميّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(أَبو الْمُهَلَّبِ) الْجَرميّ البصريّ، عمّ أبي قلابة، اسمه عمرو، أو عبد الرحمن بن معاوية، أو ابن عمر، وقيل غير ذلك، ثقةٌ [2](بخ م 4) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 19/ 1296.

4 -

(عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنِ) بن عُبيد بن خَلَف الخزَاعيّ، أبو نُجَيد الصحابيّ

(1)

"مسند إسحاق بن راهويه" 1/ 160.

(2)

"جامع الترمذيّ" 3/ 630.

ص: 89

الشهير، أسلم عام خيبر، وكان فاضلًا، وقضى بالكوفة، ومات رضي الله عنه سنة (50) بالبصرة (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 479.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه مسلسلٌ بالبصريين من ابن عُليّة، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض، وفيه رواية الراوي عن عمه.

شرح الحديث:

(عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَجُلًا) لا يُعرف اسمه، ولا عبيده الذين أعتقهم، وفي الرواية التالية:"أن رجلًا من الأنصار أوصى عند موته، فأعتق ستة مملوكين"(أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ لَهُ) وفي رواية أبي داود: "ستة أعبد له"(عِنْدَ مَوْتِهِ) قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهره أنه نَجَّز عتقهم في مرض موته، وفي الرواية الأخرى:"أنه أوصى بعتقهم"، وهذا اضطراب؛ لأن القضية واحدة، ويرتفع ذلك بأن بعض الرواة تجوَّز في لفظ:"أوصى" لَمّا نُفِّذ عتقهم بعد موت سيدهم في ثلثه؛ لأنه قد تساوى في هذه الصورة حكم تنجيز العتق، وحكم الوصية به؛ إذ كلاهما يَخرُج من الثلث، وإنما كان يظهر الفرق بينهما لو لم يمت، فإنه كان يكون له الرجوع عن الوصية بالعتق دون تنجيز العتق؛ فإنه إذا صحَّ لزمه إما عتق جميعهم له، وإما عتق ثلثهم؛ إذ ليس له مال غيرهم على الخلاف الذي في ذلك لأهل العلم

(1)

.

(لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ) بالرفع صفة لـ "مالٌ"(فَدَعَا بِهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية النسائيّ: "فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فغَضِبَ من ذلك، وقال: لقد هممتُ أن لا أصلي عليه"، وفي رواية أبي داود:"لو شهدته قبل أن يدفن، لم يُدفن في مقابر المسلمين"(فَجَزَّأَهُمْ) بتشديد الزاي، وتخفيفها لغتان مشهورتان، ذكرهما ابن السِّكِّيت وغيره، ومعناه: قَسَّمَهُم، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

(أَثْلَاثًا)؛ أي: ثلاث أجزاء، وهو منصوب على أنه مفعول مطلق لـ "جزأ"

(1)

"المفهم" 4/ 356.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 140.

ص: 90

مبيّن لعدده، وإنما ذكّره؛ لأن المعدود لم يُذكر بعده، كما أسلفناه غير مرّة.

قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهره أنه اعتَبَر عدد أشخاصهم دون قيمتهم، وإنما فَعَل ذلك لتساويهم في القيمة والعدد، فلو اختلفت قيمتهم لم يكن بُدٌّ من تعديلهم بالقيمة؛ مخافة أن يكون ثلثهم في العدد أكثر من ثلث الميت في القيمة، ولو اختلفوا في القيمة أو في العدد لَجُزِّئوا بالقيمة، ولعَتَق منهم ما يُخرجه السهم، وإن كان أقلّ من ثلث العدد، وكيفية العمل في ذلك مفصّلة في كتب أئمتنا. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله القرطبيّ من أن قيمتهم متساوية محلّ نظر؛ إذ ليس في الحديث ما يدلّ عليه، فتأمل بالإمعان، والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ) يقال: أقرعت بينهم إقراعًا: هيّأتُهم للقُرعة على شيء، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(2)

. (فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ، وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا نصٌّ في صحَّة اعتبار القرعة شرعًا، وهو حجَّة للجمهور: مالك، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق على أبي حنيفة حيث يقول: إنه يَعْتق من كل واحد منهم ثلثه، ولا يُقرع بينهم، وهذا مخالف لنصّ الحديث، ولا حجَّة له بأن يقول: إن هذا الحديث مخالف للقياس، فلا يُعمل به؛ لأنا قد أوضحنا في الأصول أن القياس في مقابلة النصّ فاسد الوضع، ولو سلَّمنا: أنه ليس بفاسد الوضع لكانا كالدليلين المتعارضين، وحينئذٍ يكون الأخذ بالحديث أولى؛ لكثرة الاحتمالات في القياس وقلّتها في الحديث، كما بيّناه في الأصول. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله القرطبيّ رحمه الله من فساد وضع القياس عند معارضته للحديث الصحيح هو الحقّ الحقيق بالقبول، وما عداه باطل مردود مخذول، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد.

(وَقَالَ لَهُ قَوْلًا شَدِيدًا)؛ أي: أغلظ له القول، حيث قال صلى الله عليه وسلم لمّا بلغه

(1)

"المفهم" 4/ 356.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 499.

(3)

"المفهم" 4/ 356.

ص: 91

ذلك: "لقد هممتُ أن لا أصلي عليه"، رواه النسائيّ، وفي رواية أبي داود:"لو شهدته قبل أن يُدفن، لم يُدفن في مقابر المسلمين".

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وقال له قولًا شديدًا"؛ أي: غلّظ له بالقول، والذم، والوعيد؛ لأنه أخرج كل ماله عن الورثة، ومنعهم حقوقهم منه، ففيه دليل على أن المريض محجور عليه في ماله، وأن المدبَّر، والوصايا، إنما تُخرج من الثلث، وأن الوصية إذا مَنَع من تنفيذها على وجهها مانعٌ شرعي استحالت إلى الثلث، كما يقوله مالك. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "وقال له قولًا شديدًا": معناه: قال في شأنه قولًا شديدًا؛ كراهيةً لفعله، وتغليظًا عليه، وقد جاء في رواية أخرى تفسير هذا القول الشديد، قال:"لو علمنا ما صلينا عليه"

(2)

، وهذا محمول على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وحده كان يترك الصلاة عليه؛ تغليظًا وزجرًا لغيره على مثل فعله، وأما أصل الصلاة عليه فلا بُدّ من وجودها من بعض الصحابة رضي الله عنهم. انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 4327 و 4328 و 4329](1668)، و (أبو داود) في "العتق"(3958)، و (الترمذيّ) في "الأحكام"(1364)، و (النسائيّ)

(1)

"المفهم" 4/ 356.

(2)

أخرجه البيهقيّ بهذا اللفظ، من رواية الحسن البصريّ، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما: أنه مات رجل، وترك ستة رجال، فأعتقهم عند موته، فجاء ورثته، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"لو علمنا ما صلينا عليه، وقال: ادعهم لي"، فدعاهم، فأقرع بينهم، فأعتق اثنين، ورَدّ أربعة في الرقّ. انتهى. "السنن البيهقي الكبرى" 10/ 286.

(3)

"شرح النوويّ" 11/ 140.

ص: 92

في "الجنائز"(1558) و"الكبرى"(1/ 636 و 3/ 187 و 188)، و (ابن ماجه) في "الأحكام"(2345)، و (مالك) في "الموطّإ"(1506)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(16763)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 194)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 113)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 27 و 7/ 280)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 367)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 428 و 430 و 431 و 439 و 440)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(18/ 334 - 335) و"الأوسط"(1/ 235 و 293 و 8/ 28)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(408)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 462)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4320 و 4542 و 5052)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 238)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 487)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 286) و"المعرفة"(7/ 463 و 488 و 500 و 501) و"الصغرى"(6/ 47 و 9/ 290 و 291 و 294)، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال الإمام أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: ذكر مالك رحمه الله في هذا الباب سنّةً وعملًا بالمدينة، "فالسُّنَّة في ذلك رواها عمران بن حصين، وأبو هريرة رضي الله عنهم، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وحديث عمران أشهر، وأكثر طُرُقًا، وهي سُنَّة انفرد بها أهل البصرة، واحتاج فيها إليهم أهل المدينة وغيرهم، رواها عن عمران بن حصين: الحسن، وابن سيرين، وأبو المهلَّب الْجَرْميّ، ورواها عن الحسن، عن عمران بن حصين جماعة، منهم: قتادة، وحميد الطويل، وسماك بن حرب، ويونس بن عبيد، ومبارك بن فَضَالة، وخالد الحذّاء.

ورواها عن محمد بن سيرين، عن عمران بن حصين: أيوب السختيانيّ، وهشام بن حسان، ويحيى بن عتيق، ويزيد بن إبراهيم التستريّ، وغيرهم.

وروى هذا الحديث يزيد التستريّ عن الحسن وابن سيرين جميعًا، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما.

ورواه أيوب وغيره عن أبي قلابة، عن أبي المهلَّب، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما.

وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فرواه محمد بن زياد، عن أبي هريرة، وروى إسماعيل بن أمية، وقيس بن سعد، وسليمان بن موسى، كلهم سمعوا مكحولًا يقول: سمعت سعيد بن المسيِّب يقول: "أَعتقت امرأة - وفي رواية

ص: 93

قيس بن سعد: أعتقت امرأته - أو رجل ستة أعبد لها عند الموت، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس لها مال غيرهم، فأقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، فأعتق اثنين، وأرقّ أربعة".

قال أبو عمر: وقد ذكرنا طُرُق هذا الحديث بالأسانيد في "التمهيد". انتهى

(1)

.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن الوصيّة جائزة في المرض.

2 -

(ومنها): بيان أن العتق في مرض الموت جائزٌ، وأنه يُعتبر من الثلث.

3 -

(ومنها): بيان أن الوصية جائزة لغير الوالدين، والأقربين؛ لأن عتق العبيد في المرض وصية لهم، ومعلوم أنهم لم يكونوا بوالدين لمالكهم المعتِق لهم، ولا بأقربين له، وقد قال بأن الوصية لا تجوز إلا للأقربين غير الوارثين، ولا تجوز لغيرهم، ولا عند عدمهم طائفةٌ من التابعين، قاله ابن عبد البرّ رحمه الله.

4 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على أن أفعال المريض كلَّها من عتق، وهبة، وعطية، كالوصية لا يجوز فيها أكثر من الثلث، وقد خالف في ذلك قوم، زعموا أن أفعال المريض في رأس ماله كأفعال الصحيح، ولم يجعلوا ذلك كالوصايا، قاله ابن البرّ رحمه الله -أيضًا.

5 -

(ومنها): أن فيه إبطالَ السعاية التي زعمها أهل الكوفة، كما سيأتي تحقيقه في المسألة الثانية - إن شاء الله تعالى -.

6 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: في هذا الحديث دلالة لمذهب مالك، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وداود، وابن جرير، والجمهور، في إثبات القُرْعة في العتق ونحوه، وأنه إذا أَعتق عبيدًا في مرض موته، أو أوصى بعتقهم، ولا يَخرُجون من الثلث أُقرع بينهم، فيُعْتَق ثلثهم بالقرعة، وقال أبو حنيفة: القرعة باطلة، لا مدخل لها في ذلك، بل يُعتق من كل واحد قسطه، ويُستسعى في الباقي؛ لأنها خطر، وهذا مردود بهذا الحديث الصحيح، وأحاديث كثيرة. قال: وقوله في الحديث: "فأَعتَقَ اثنين، وأرقّ أربعةً" صريح

(1)

"الاستذكار" 7/ 321 - 322.

ص: 94

في الردّ على أبي حنيفة، وقد قال بقول أبي حنيفة: الشعبيّ، والنخعيّ وشُريح، والحسن، وحُكي أيضًا عن ابن المسيِّب. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في الرجل يُعتِق في مرض موته عبيدًا له، ولا مال له غيرهم:

قال أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: اختلف العلماء في ذلك، فقال مالك، والشافعيّ، وأصحابهما بهذا الأثر الصحيح، وذهبوا إليه، وبه قال أحمد، وإسحاق، وداود، والطبريّ، وجماعة من أهل الرأي والحديث.

قال: ولم يختلف مالك، وأصحابه في الذي يوصي بعتق عبيده في مرضه، ولا مال له غيرهم أنه يُقرَع بينهم، فيُعْتَق ثلثهم بالسهم، وكذلك لم يَختلف الأكثر منهم أن هذا حكم الذي أعتق عبيده في مرضه عتقًا بَتْلًا، ولا مال له غيرهم، وقال أشهب، وأصبغ: إنما القرعة في الوصية، وأما البتل فهم كالمدبَّرين.

قال أبو عمر: قول أشهب، وأصبغ خلاف السُّنَّة المذكورة في صدر هذا الباب، وخلاف أهل الحجاز، وأهل العراق، ولم تَرِد السنّةُ إلا فيمن أَعتَق في مرضه ستة أعبد له عتقًا بَتْلًا، ولا مال له غيرهم، لا فيمن أوصى بعتقهم، فَحَكَم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم بحكم الوصايا، فأَرَقَّ ثلثيهم، وأَعتق ثلثهم، فكيف يجوز لأحد أن يقول بالحديث في الوصية دون العتق البتلّ، فيخالفهم نصه؟

وقال الشافعيّ: وإذا أَعتق الرجل في مرضه عبيدًا له عِتْقَ بَتَاتٍ انْتُظِر بهم، فإن صحّ عَتَقُوا من رأس ماله، وإن مات، ولا مال له غيرهم أُقرِع بينهم، وأُعتق ثلثهم، قال الشافعيّ: والحجة في أن العتق البتات في المرض وصية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرع بين ستة مملوكين، أعتقهم الرجل في مرضه، وأنزل عتقهم وصيةً، فأَعتَق ثلثهم، قال الشافعيّ: ولو أعتق في مرضه عبدًا له عِتْقَ بَتَاتٍ، وله مدبَّرون وعبيد أوصى بعتقهم بعد موته، بُدئ بالذين بَتَّ عِتْقهم في مرضه؛ لأنهم يُعتقون عليه إن صَحَّ، وليس له الرجوع فيهم بحال.

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 140.

ص: 95

قال: وقال أحمد بن حنبل في هذا كله كقول الشافعيّ سواء.

قال: وذَكَرَ عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني سليمان بن موسى، قال: سمعت مكحولًا يقول: "أَعتقت امرأة من الأنصار عبيدًا لها ستةً، لم يكن لها مال غيرهم، فلما بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم غَضِبَ، وقال في ذلك قولًا شديدًا، ثم دعا بستة قِداح، فأقرع بينهم، فأَعتق اثنين".

قال سليمان بن موسى: كنت أُراجع مكحولًا، فأقول: إن كان ثَمَنُ عَبْدٍ ألف دينار أصابته القرعة ذهب المال، فقال: قِفْ عند أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن جريج: قلت لسليمان: الأمر يستقيم على ما قال مكحول، قال: كيف؟ قلت: يقيمون قيمةً، فإن زاد اللذان أُعتقا على الثلث أُخذ منهما الثلث، وإن نقصا عَتَقَ ما بقي أيضًا بالقرعة، فإن فَضَل عليه أُخذ منهم، قال: ثم بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقامهم.

قال أبو عمر: قد رُوي في حديث ابن سيرين، عن عمران بن حصين، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم جزّأهم ثلاثة أجزاء، وهذا يدُلّ على أنه أقامهم، وعدّلهم بالقيمة، ولا يمكن غير ذلك في إخراج الثلث.

قال: وهذا كله قول مالك، والشافعيّ، وأحمد بن حنبل، ومن ذكرنا معهم.

وقال أبو حنيفة - فيمن أَعتق عبيدًا له في مرضه، ولا مال له غيرهم -: عَتَقَ من كل واحد منهم ثلثه، وسعوا في الباقي، وهو قول الحسن بن حيّ، وقال أبو حنيفة: حُكْم كل واحد منهم ما دام يسعى حُكْم المكاتب، وقال أبو يوسف ومحمد: هم أحرار، وثُلثا قيمتهم دَيْن عليهم، يسعون في ذلك، حتى يؤدوه إلى الورثة.

قال أبو عمر: رَدّ الكوفيون السُّنَّة المأثورة في هذا الباب، إما بأن لم تبلغهم، أو بأن لم تصح عندهم، ومن أصل أبي حنيفة، وأصحابه عرض أخبار الآحاد على الأصول المجتمع عليها، أو المشهورة المنتشرة.

قال: والحجة قائمة على من ذهب مذهبهم بالحديث الصحيح الجامع في هذا الباب، وليس الجهل بالسُّنَّة، ولا الجهل بصحتها علّةً يصح لعاقل الاحتجاج بها، وقد أنكرها قبلهم شيخهم حماد بن أبي سليمان.

ص: 96

ورَوَى مؤمل بن إسماعيل، عن حماد بن زيد، عن محمد بن ذكوان أنه سمع حماد بن أبي سليمان، وذكر الحديث الذي جاء في القرعة بين الأعبد الستة الذين أعتقهم سيدهم في مرضه الذي مات فيه، قال: هذا قول الشيخ - يعني: إبليس - فقال محمد بن ذكوان له: وُضِع القلم عن المجنون حتى يفيق، فقال له حماد: ما دعاك إلى هذا؟ فقال له محمد بن ذكوان: وأنت ما دعاك إلى هذا؟ قال: وكان حماد ربما صُرِع في بعض الأوقات.

قال أبو عمر: بنى الكوفيون مذهبهم على أن العبيد المعتقين في كلمة واحدة في مرض الموت، قد استَحَقَّ كل واحد منهم العتق، لو كان لسيدهم مال يَخرُجون من ثلثه، فإن لم يكن له مال، لم يكن واحد منهم أحقّ بالعتق من غيره، وكذلك عَتَقَ من كل واحد ثلثه، وسعى في ثلثي قيمته للورثة؛ لقولهم بالسعاية في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في معسر أعتق حصته من عبد بينه وبين آخر، على ما قدّمنا ذِكْره.

قال: وهذا عندنا لا يجوز أن تُرَدَّ سُنَّة بمعنى ما في أخرى، إذا أمكن استعمال كل واحد منهما بوجهٍ مَا، وبالله التوفيق والصواب، لا شريك له. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لقد أجاد الإمام أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله في ردّه على الكوفيين حيث ردُّوا السُّنَّة الصحيحة الثابتة برأيهم، وذلك لأن الواجب على العاقل أن يقبلها إذا صحّت لديه، ولا يعارضها برأيه.

ويا للعجب كم ردّ هؤلاء من الأحاديث الصحيحة، مما في "الصحيحين"، وغيرهما بدعوى أنها أخبار آحاد، عارضت القياس؟.

فلو رأيت ما كتبه بعضهم في الدفاع عن الحنفيّة في هذه المسألة، كما فعل صاحب "تكملة فتح الملهم"، ومن أخذ منهم، لرأيت تعصّبًا بغيضًا، وتحاملًا مريضًا، قاتل الله التعصّب، وكيف تردّ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة، ويُترك ظواهر ما دلّت عليه؟ وهي التي أوجب الله تعالى قبولها،

(1)

"الاستذكار" 7/ 321 - 322.

ص: 97

والانقياد لها، حيث قال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)} [الحشر: 7].

ونفى الإيمان عمن لم يُحَكِّمها في القليل والكثير من أمره حيث قال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65].

وتوعّد من خالفها بالفتنة، والعذاب الأليم، حيث قال:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النور: 63] كيف تُرَدّ بالقياس المستنبط من عقول آحاد الناس غير المعصومين؟ إن هذا لهو العَجَب الْعُجَاب، ولقد أحسن من قال، وأجاد في المقال [من الوافر]:

إِذَا جَالَتْ خُيُولُ النَّصِّ يَوْمًا

تُجَارِي فِي مَيادِينِ الْكِفَاحِ

غَدَتْ شُبَهُ الْقِيَاسِيِّينَ صَرْعَى

تَطِيرُ رُؤُوسُهُنَّ مَعَ الرِّيَاحِ

{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]، اللهمّ أرنا الحق حقًّا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4328]

(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، عَنِ الثَّقَفِيِّ، كِلَاهُمَا عَنْ أَيُّوبَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، أَمَّا حَمَّادٌ فَحَدِيثُهُ كَرِوَايَةِ ابْنِ عُلَيَّةَ، وَأَمَّا الثَّقَفِيُّ فَفِي حَدِيثِهِ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ أَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ، فَأَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، و"حمّاد" هو ابن زيد، و"إسحاق بن إبراهيم" هو ابن راهويه، و"الثقفيّ" هو: عبد الوهّاب بن عبد المجيد، و"ابن أبي عمر" هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، ثم المكيّ، و"أيوب" هو: السختيانيّ.

وقوله: "كلاهما" الضمير لحمّاد بن زيد، والثقفيّ.

ص: 98

[تنبيه]: رواية حمّاد بن زيد، عن أيوب ساقها أبو داود الطيالسيّ رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(845)

- حدّثنا أبو داود، قال: حدّثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلَّب، عن عمران بن حصين، أن رجلًا أَعْتَق ستة مماليك له، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأَرَقَّ أربعةً. انتهى

(1)

.

وأما رواية عبد الوهّاب الثقفيّ، فساقها الإمام الشافعيّ رحمه الله في "مسنده"، فقال:

أخبرنا عبد الوهاب، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلَّب، عن عمران بن حصين، أن رجلًا من الأنصار، أوصى عند موته، فأعتق ستة مماليك، ليس له مال غيرهم، أو قال: أعتق عند موته ستة مماليك له، وليس له شيء غيرهم، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال فيه قولًا شديدًا، ثم دعاهم، فجزأهم ثلاثة أجزاء، فأقرع بينهم، فأَعتَقَ اثنين، وأَرَقَّ أربعةً. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4329]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ الضَّرِيرُ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ، وَحَمَّادٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ الضَّرِيرُ) التميميّ، أبو عبد الله، أو أبو جعفر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 231)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 60/ 336.

2 -

(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ) الضبّيّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.

3 -

(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) الْعَيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

(1)

"مسند الطيالسي" 1/ 113.

(2)

"مسند الشافعيّ" 1/ 194.

ص: 99

4 -

(هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ) الْقُردوسيّ، تقدّم قريبًا.

5 -

(مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ) الإمام الشهير، تقدّم أيضًا قريبًا.

6 -

(عُمْرانُ بنُ حُصَيْنٍ) تقدّم قريبًا.

[تنبيه]: رواية محمد بن سيرين، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "السنن الصغرى"، فقال:

(4443)

- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أحمد بن سليمان، أنا إسماعيل بن إسحاق، أنا محمد بن المنهال، أنا يزيد بن زُريع، أنا هشام بن حسّان، عن محمد بن سيرين، عن عمران بن حصين: أن رجلًا كان له ستة أعبد لم يكن له مال غيرهم، وأعتقهم عند موته، فرُفع ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَكَرِهَ ذلك ثم جزّأهم أجزاء، وأقرع بينهم، فأَعتق اثنين، وأرقّ أربعة. انتهى

(1)

.

[تنبيهٌ آخر]: اعترض الدارقطنيّ رحمه الله على مسلم رحمه الله في إخراجه رواية محمد بن سيرين، عن عمران بن حُصين رضي الله عنهما، فقال: وهذا لم يسمعه محمد من عمران فيما يقال، وإنما أرسله عنه

(2)

، وإنما سمعه من خالد الحذّاء، عن أبي قلابة، عن أبي المهلَّب، عن عمران رضي الله عنه، قاله عليّ ابن المدينيّ، عن معاذ بن معاذ، عن أشعث، عن محمد، عن خالد الحذّاء. انتهى.

وقد نقل العلائيّ استدراك الدارقطنيّ هذا في "جامع التحصيل" مقرّرًا له، بل أكّده بقوله: والحكم بالإرسال في حديث العتق أقوى من جهة إدخال ثلاثة رجال بين ابن سيرين، وعمران فيه. انتهى

(3)

.

وقد أجاب النوويّ رحمه الله بأنه ليس فيما ذكره الدارقطنيّ تصريح بأن ابن سيرين لم يسمع من عمران، ولو ثبت عدم سماعه منه لم يقدح ذلك في صحّة هذا الحديث، ولم يتوجّه على الإمام مسلم فيه عتبٌ؛ لأنه إنما ذكره متابعة بعد ذكره الطرق الصحيحة الواضحة، وقد سبق لهذا نظائر. انتهى

(4)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن اعتراض الدارقطنيّ المذكور فيه نظر؛ لأمور:

(1)

"السنن الصغرى" للبيهقيّ 9/ 291.

(2)

المراد بالإرسال هنا الإعضال؛ لأنه سقط منه ثلاثة، فتنبّه.

(3)

"جامع التحصيل" 1/ 259.

(4)

"شرح النوويّ" 11/ 140 - 141.

ص: 100

(منها): أن دعوى عدم سماع ابن سيرين عن عمران بن حصين رضي الله عنهما لا تسلّم له؛ لأنه خالفه غيره في ذلك، فقد أثبت سماعه منه يحيى بن معين وغيره، كما في "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم

(1)

.

(ومنها): أن ابن سيرين بريء من وصمة التدليس، وحيث ثبت سماعه من عمران، فعنعنته محمولة على السماع حتى يظهر خلافه، ولم يظهر هنا.

(ومنها): صنيع الإمام مسلم رحمه الله هنا؛ لأنه، وإن احتمل أن يكون أورده متابعة مع انقطاعه، إلا أن هذا خلاف الأصل.

(ومنها): أن الدارقطني إنما اعترض على رواية المصنّف برواية أشعث، حيث أدخل ثلاث وسائط، فقد رواه عن ابن سيرين، عن خالد الحذّاء، عن أبي قلابة، عن أبي المهلّب، عن عمران رضي الله عنه، ورواه المصنّف عن هشام بن حسّان، عن ابن سيرين، عن عمران، وهشام أثبت الناس في ابن سيرين، وتابعه على ذلك أيوب السختيانيّ، ويحيى بن عتيق، وحبيب بن الشهيد، وكلهم ثقات، فمخالفة أشعث لهؤلاء الحفّاظ لا تُقبل، على أن الدارقطنيّ لم يُبيّن من هو أشعث؟ أهو الحمرانيّ، وهو ثقة، أو الْحُدّانيّ، وهو صدوق؟ وكلاهما يرويان عن ابن سيرين.

والحاصل أن رواية أشعث بإدخال الوسائط مخالفًا للحفاظ المذكورين فيها نظرٌ لا يخفى.

وخلاصة البحث أن رواية المصنّف صحيحة، لا يؤثّر فيها ما انتقد به الدارقطنيّ من رواية أشعث، فتأمله بالإنصاف، وقد أجاد البحث في هذا الشيخ ربيع المدخليّ فيما كتبه على تتبع الدارقطنيّ، فراجعه تستفد

(2)

، وبالله تعالى التوفيق.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

راجع: "الجرح والتعديل" 7/ 280.

(2)

راجع: "بين الإمامين: مسلم والدارقطنيّ" ص 293 - 296.

ص: 101

(13) - (بَابُ جَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ)

" المدبّر": اسم مفعول، من دبّر الرجل عبده تدبيرًا: إذا أعتقه بعد موته، ويقال: أعتق عبده عن دُبُر؛ أي: بعد دُبُر؛ أي: في آخر أمره.

وقال في "الفتح": المدبّر: هو الذي عَلّق مالكه عتقه بموته، سُمّي بذلك؛ لأن الموت دُبُر الحياة، أو لأن فاعله دَبّر أمر دنياه وآخرته، أما دنياه، فباستمراره على الانتفاع بخدمة عبده، وأما آخرته فبتحصيل ثواب العتق، وهو راجع إلى الأول؛ لأن تدبير الأمر مأخوذ من النظر في العاقبة، فيرجع إلى دبر الأمر، وهو آخره. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4330]

(997)

(2)

- (حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْعَتَكِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ - يَعْنِي ابْنَ زَيْدٍ - عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ أَعْتَقَ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي"، فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ. قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: عَبْدًا قِبْطِيًّا، مَاتَ عَامَ أَوَّلَ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حرام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بالمدينة بعد السبعين، وهو ابن (94) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كالإسنادين التاليين، وهو (285) من رباعيّات الكتاب.

(1)

"الفتح" 5/ 711.

(2)

ترقيم محمد فؤاد رحمه الله مكرّر، فقد تقدّم في كتاب "الزكاة"، "باب الابتداء في النفقة بالنفس، ثم أهله، ثم القرابة".

ص: 102

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ) هو أبو مذكور (أَعْتَقَ غُلَامًا لَهُ) اسمه يعقوب (عَنْ دُبُرٍ) معناه: أنه قال له: أنت حرّ عن دبري؛ أي: بعد موتي، وسُمِّي هذا تدبيرًا؛ لأنه يَحْصُلُ العتق فيه في دُبُر الحياة.

وقوله: (لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ) فيه بيان سبب بيعه، وهو كونه لا يملك شيئًا غيره، وأصرح من هذا رواية للبخاريّ، من طريق عطاء بن أبي ربّاح، عن جابر:"أن رجلًا أعتق غلامًا له عن دبر"، فاحتاج، فأخذه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"من يشريه منّي. . ." الحديث، ففيها التصريح بأنّ سبب بيعه هو احتياجه إلى ثمنه.

وقد جاءت رواية أخرى فيها بيان أن سببه هو الدَّين، فقد أخرج الإسماعيليّ، من طريق أبي بكر بن خلّاد، عن وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، وفيه:"أعتق غلامًا له، وعليه دَينٌ".

وقد جاءت رواية أخرى بيّنت السببين معًا، فقد أخرج النسائيّ من طريق الأعمش، عن سلمة بن كُهَيل، بلفظ:"أنّ رجلًا من الأنصار أعتق غلامًا له عن دُبُر، وكان محتاجًا، وكان عليه دَينٌ، فباعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بثمانمائة درهم، فأعطاه، وقال: اقض دَينك".

والحاصل أنّ سبب بيعه كونه فقيرًا محتاجًا إليه، حيث لا مال له سواه، وتحمّله الدَّين، والله تعالى أعلم.

(فَبَلَغَ ذَلِكَ)؛ أي: عتقه المذكور (النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) بالنصب على المفعوليّة (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَنْ) استفهاميّة مبتدأ، خبره قوله:(يَشْتَرِيهِ مِنِّي) فيه جواز بيع المدبَّر، وفيه خلاف بين أهل العلم، والراجح جوازه مطلقًا، وهو قول الشافعيّ، وأهل الحديث.

ومنهم من منع مطلقًا، وهو قول مالك، والأوزاعيّ، والكوفيين.

ومنهم من أجازه للحاجة، وهو قول الليث بن سعد.

قال النوويّ رحمه الله: وفي هذا الحديث دلالة لمذهب الشافعيّ، وموافقيه أنه يجوز بيع المدبَّر قبل موت سيّده؛ لهذا الحديث قياسًا على الموصَى بعتقه، فإنه

ص: 103

يجوز بيعه بالإجماع، وممن جوّزه: عائشة، وطاوس، وعطاء، والحسن، ومجاهد، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وداود رضي الله عنهم.

وقال أبو حنيفة، ومالك، وجمهور العلماء، والسلف من الحجازيين، والشاميين، والكوفيين - رحمهم الله تعالى -: لا يجوز بيع المدبَّر، قالوا: وإنما باعه النبيّ صلى الله عليه وسلم في دَين كان على سيده، وقد جاء في رواية للنسائيّ، والدارقطنيّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له:"اقضِ به دَينك"، قالوا: وإنما دفع إليه ثمنه ليقضي به دَينه، وتأوّله بعض المالكية على أنه لم يكن له مال غيره، فردّ تصرفه، قال هذا القائل: وكذلك يُرَدّ تصرّف من تصدق بكل ماله، وهذا ضعيف، بل باطل، والصواب نفاذ تصرف من تصدق بكل ماله.

وقال القاضي عياض رحمه الله: الأشبه عندي أنه فعل ذلك نظرًا له؛ إذ لم يترك لنفسه مالًا، والصحيح ما قدمناه أن الحديث على ظاهره، وأنه يجوز بيع المدبَّر بكل حال، ما لم يمت السيد، والله أعلم.

قال: وأجمع المسلمون على صحة التدبير، ثم مذهب الشافعيّ، ومالك، والجمهور، أنه يُحسب عتقه من الثلث، وقال الليث، وزفر - رحمهما الله تعالى -: هو من رأس المال.

وفي هذا الحديث: نظرُ الإمام في مصالح رعيته، وأمْره إياهم بما فيه الرفق بهم، وبإبطالهم ما يضرّهم من تصرفاتهم التي يمكن فسخها.

وفيه جواز البيع فيمن يُدَبَّر، وهو مجمع عليه الآن، وقد كان فيه خلاف ضعيف لبعض السلف. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ.

وقال السنديّ رحمه الله في "شرح النسائيّ": من لا يرى بيع المدبَّر، منهم من يَحْمِله على أنه كان مدبَّرًا مقيَّدًا بمرضٍ، أو بمدّة، كعلمائنا - يعني: الحنفيّة - ومنهم من يَحْمِله على أنه دبّره، وهو مديونٌ، كأصحاب مالك، والأول بعيدٌ، والثاني يردّه آخر الحديث. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله السنديّ رحمه الله إنصاف منه حيث

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 141 - 142.

(2)

راجع: شرح السندي لهذا الكتاب 5/ 70.

ص: 104

ردّ على أهل مذهبه، وغيرهم؛ لمخالفتهم الحديث، فيا ليت أصحاب المذاهب المتأخّرين كلهم كانوا هكذا، وانقادوا للنصّ إذا اتّضح لهم الحقّ، ولا يعاندوا، ولا يتعصّبوا لمذهبهم، ولا يتعلّلوا بتعليلات باردة في إعراضهم عن النصّ بالتأويل البعيد.

فلو رأيت ما كتبه صاحب "تكملة فتح الملهم" في هذ المجال لرأيت أمرًا فظيعًا، وتحاملًا شنيعًا، فإنّا لله، وإنا إليه راجعون، اللهمّ أرنا الحق حقًّا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، إنك أرحم الراحمين، آمين.

(فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن أُسيد بن عبد عوف بن عبيد بن عُويج بن عديّ بن كعب القرشيّ العدويّ، المعروف بـ "النحّام"، قيل له ذلك؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له: "دخلت الجنّة، فسمعت نَحْمة

(1)

من نُعيم"، وقد تقدّمت ترجمته في "كتاب الزكاة" برقم [13/ 2313](997).

(بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ) قال في "الفتح": اتفقت الطُّرُق على أنّ ثمنه ثمانمائة درهم، إلا ما أخرجه أبو داود من طريق هشيم، عن إسماعيل، قال:"سبعمائة، أو تسعمائة". انتهى.

(فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ)؛ أي: دفع النبيّ صلى الله عليه وسلم الدراهم إلى الرجل المعتِق، زاد في رواية الأوزاعيّ، عن عطاء بن أبي رباح، عند أبي داود في آخره:"أنت أحقّ بثمنه، والله أغنى عنه".

(قَالَ عَمْرٌو)؛ أي: ابن دينار (سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: عَبْدًا قِبْطِيًّا)؛ أي: أعتَقَ عبدًا منسوبًا إلى قبط، قال في "اللباب": الْقِبْطي: - بكسر القاف، وسكون الباء الموحّدة، بعدها طاء مهملة - نسبة إلى القبط، وهم أهل مصرَ، نُسبوا إلى قِبْط بن قرط بن حام، والثاني: إلى القبط: بطنٍ من حِمْيَر، والثالث: نسبة إلى فرس يقال له: القبطيّ، وكان سابقًا، نُسب إليه عبد الملك بن عُمير؛ لأنه كان صاحبه. انتهى باختصار

(2)

.

(1)

"النحْمَةُ": هي السَّعْلَة التي تكون في آخر النَّحْنَحَة الممدود آخرها.

(2)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 13.

ص: 105

وقوله: (مَاتَ عَامَ أَوَّلَ) هكذا نُسخ مسلم بفتح الجزأين، وكذا وقع في "صحيح البخاريّ" في أكثر من موضع، وليس هذا من تركيب الاسمين، كبعلبكّ؛ لأنه ممنوع عند أهل اللغة وإنما هو مضاف ومضاف إليه، كما سيأتي.

قال الفيّوميّ رحمه الله: تقول: عامٌ أوّلُ، إن جعلته صفةً لم تصرفه؛ لوزن الفعل والصفة، وإن لم تجعله صفةً صرفت، وجاز عامُ الأولِ بالتعريف والإضافة، ونقل الجوهريّ عن ابن السِّكِّيت منعها، ولا يقال: عامَ أوّلَ على التركيب. انتهى

(1)

.

وقال في "القاموس"، و"شرحه": وإذا جعلت "أوّلًا" صفةً منعته من الصرف، وإلا صرفته، تقول: لقِيته عامًا أوّلَ ممنوعًا من الصرف، وعامًا أوّلًا مصروفًا، قال ابن السِّكِّيت: ولا تقل: عام الأولِ، وقال غيره: هو قليلٌ، قال أبو زيد: يقال: لقيته عامَ الأوّلِ، ويومَ الأوّلِ بجرّ آخره، كقولك: أتيتُ مسجدَ الجامعِ، قال الأزهريّ: هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه، وتقول: ما رأيته مذ عامٌ أوّلُ ترفعه على الوصف لـ "عامٌ"، كأنه قال: أوّلَ من عامنا، وتنصبه على الظرف، كأنه قال: مذ عامٍ قبلَ عامنا. انتهى

(2)

.

وقيل في "العمدة": قوله: "عامَ أوّلَ" بالصرف، وعدم الصرف لأنه إما أفعل، أو فوعل، ويجوز بناؤه على الضم، وهذه الإضافة من إضافة الموصوف إلى صفته، وأصله: عامًا أول. انتهى

(3)

.

وقال في موضع آخر: "قوله: عامَ أوّلَ" بفتح اللام، على البناء، وهو من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة، والبصريون يقولون: إنه مما يقدّر فيه المضاف نحو: عامَ الزمن الأول. انتهى

(4)

.

قال الجامع عفا الله عنه: فتبيّن بما ذُكر أن الأقرب في الإعراب أن يقال: إن "عامَ أول" مضاف ومضاف إليه، فالأول منصوب على الظرفيّة، والثاني

(1)

"المصباح المنير" 1/ 31.

(2)

"القاموس" مع شرحه "تاج العروس" 8/ 150.

(3)

"عمدة القاري" 13/ 94.

(4)

"عمدة القاري" 23/ 222.

ص: 106

مضاف إليه مجرور بالفتحة؛ لمنعه من الصرف للوصفيّة ووزن الفعل، ومعناه: في الزمن الأول؛ أي: قبل عامنا هذا، والله تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تمام شرحه، وبيان مسائله في "كتاب الزكاة" برقم [13/ 2313](997)، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4331]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ: سَمِعَ عَمْرٌو جَابِرًا يَقُولُ: دَبَّرَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ غُلَامًا لَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَبَاعَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ جَابِرٌ: فَاشْتَرَاهُ ابْنُ النَّحَّامِ، عَبْدًا قِبْطِيًّا، مَاتَ عَامَ أَوَّلَ، فِي إِمَارَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، والباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقه، ولاحقه، وهو (286) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (فَاشْتَرَاهُ ابْنُ النَّحَّامِ) - بالنون المفتوحة، والحاء المهملة المشددة - قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ: "ابن النَّحّام" بزيادة "ابن"، قالوا: وهو غلط، وصوابه:"فاشتراه النّحّام"، فإن المشتري هو نُعيم، وهو النَّحّام، سُميّ بذلك؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"دخلتُ الجنة، فسمعت فيها نَحْمَةً لنعيم"، والنحمة: الصوت، وقيل: هي السَّعْلة، وقيل: النحنحة. انتهى

(1)

.

وقوله: (فِي إِمَارَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ)؛ أي: في زمن خلافة عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه في الحديث الماضي، والله أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 142 - 143.

ص: 107

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4332]

(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ رُمْحٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمُدَبَّرِ، نَحْوَ حَدِيثِ حَمَّادٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم، المكيّ، صدوق، يدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله، و"ابْنُ رُمْحٍ" هو: محمد بن رُمْح بن المهاجر.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنف رحمه الله، كسابقيه، وهو (287) من رباعيّات الكتاب.

[تنبيه آخر]: رواية الليث بن سعد، عن أبي الزبير هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "المجتبى"، فقال:

(2546)

- أخبرنا قُتَيْبَةُ، قال: حدّثنا اللَّيْثُ، عن أبي الزُّبَيْرِ، عن جَابِرٍ، قال: أَعْتَقَ رَجُلٌ من بَنِي عُذْرَةَ عَبْدًا له، عن دُبُرٍ، فَبَلَغَ ذلك رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال:"أَلَكَ مَالٌ غَيْرُهُ؟ " قال: لَا، فقال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم:"من يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟ "، فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بن عبد اللهِ الْعَدَوِيُّ بثمانمائة دِرْهَمٍ، فَجَاءَ بها رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَفَعَهَا إليه، ثُمَّ قال:"ابْدَأْ بِنَفْسِكَ، فَتَصَدَّقْ عليها، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ، فَلِأَهْلِكَ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ عن أَهْلِكَ، فَلِذِي قَرَابَتِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عن ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ، فَهَكَذَا، وَهَكَذَا، يقول: بين يَدَيْكَ، وَعَنْ يَمِينِكَ، وَعَنْ شِمَالِكَ". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"سنن النسائيّ - المجتبى" 5/ 69.

ص: 108

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4333]

(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ - يَعْنِي: الْحِزَامِيَّ - عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ (ح) وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ هَاشِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى - يَعْنِي: ابْنَ سَعِيدٍ - عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ ذَكْوَانَ الْمُعَلِّمِ، حَدَّثَنِي عَطاءٌ، عَنْ جَابِرٍ (ح) وَحَدَثَنِي أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، حَدَّثَنَا مُعَاذٌ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ مَطَرٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَأَبِي الزُّبَيْرِ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ حَدَّثَهُمْ فِي بَيْعِ الْمُدَبَّرِ، كُلُّ هَؤُلَاءِ قَالَ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَى حَدِيثِ حَمَّادٍ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرٍ).

رجال هذا الإسناد: أربعة عشر:

1 -

(الْمُغِيرَةُ الْحِزَامِيُّ) هو: المغيرة بن عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد بن حِزَام المدنيّ يُلقّب بقصيّ، ثقةٌ له غرائبُ [7](ع) تقدم في "الطهارة" 26/ 653.

2 -

(عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ سُهَيْلِ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو وهب، أو أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ [6](خ م د س) تقدم في "البيوع" 39/ 4074.

3 -

(عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ) أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، لكنه كثير الإرسال [3](ت 114)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ هَاشِمِ) بن حيّان الْعَبْديّ، أبو عبد الرحمن الطُّوسيّ، سكن نيسابور، ثقةٌ صاحب حديث، من صغار [10] مات سنة بضع و (250)، من أفراد المصنّف، تقدم في "الإيمان" 3/ 112.

5 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، تقدّم قبل باب.

6 -

(الْحُسَيْنُ بْنُ ذَكْوَانَ الْمُعَلِّمُ) المكتب الْعَوْذيّ البصريّ، ثقةٌ ربّما وَهِمَ [6](ت 145)(ع) تقدم في "الإيمان" 19/ 179.

7 -

(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ) مالك بن عبد الواحد البصريّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م د) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.

8 -

(مُعَاذُ) بن هشام الدستوائيّ البصريّ، سكن اليمن، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

ص: 109

9 -

(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

10 -

(مَطَرُ) بن طهمان الورّاق، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب السابق.

وقوله: (كُلُّ هَؤُلَاءِ) إشارة إلى عطاء بن أبي رَبَاح، وأبي الزبير، وعمرو بن دينار.

[تنبيه]: رواية عبد المجيد بن سُهيل، عن عطاء بن أبي رباح، ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(5812)

- حدّثنا أحمد بن شعيب النسائيّ، قثنا قتيبة، قثنا المغيرة بن عبد الرحمن، عن عبد المجيد بن سهيل، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله، أن رجلًا من الأنصار، أعتق غلامًا له عن دُبُر، وكان محتاجًا، فذُكِر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه، فقال:"أعتقت غلامك؟ "، قال: نعم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أنت أحوج إليه"، ثم قال:"من يشتريه؟ "، قال نعيم بن عبد الله: أنا، فاشتراه، فأخذ النبيّ ثمنه، فدفع إلى صاحبه. انتهى

(1)

.

وأما رواية الحسين بن ذكوان، عن عطاء، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(2273)

- حدّثنا مُسَدَّدٌ، حدّثنا يَزِيدُ بن زُرَيْعٍ، حدّثنا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ، حدّثنا عَطَاءُ بن أبي رَبَاحٍ، عن جَابِرِ بن عبد اللهِ رضي الله عنهما قال: أَعْتَقَ رَجُلٌ غُلَامًا له عن دُبُرٍ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟ "، فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بن عبد اللهِ، فَأَخَذَ ثَمَنَهُ، فَدَفَعَهُ إليه". انتهى

(2)

.

وأما رواية مطر الورّاق، عن عطاء بن أبي رباح، وأبي الزبير، وعمرو بن دينار، فساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(5807)

- حدّثنا مسلم بن الحجاج أبو الحسين إملاءً ببغداد، قثنا أبو غَسّان الْمِسْمَعِيّ، قثنا معاذ بن هشام، قثنا أبي، عن مطر، عن عطاء بن أبي رباح، وأبي الزبير، وعمرو بن دينار، أن جابر بن عبد الله حدثهم، أن رجلًا

(1)

"مسند أبي عوانة" 3/ 491 - 492.

(2)

"صحيح البخاريّ" 2/ 846.

ص: 110

أعتق مملوكه، إن حَدَثَ به حَدَثٌ، فدعا به النبيّ صلى الله عليه وسلم، فباعه من نعيم بن عبد الله، أخي بني عديّ بن كعب. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

* * *

(1)

"مسند أبي عوانة" 3/ 491.

ص: 111

‌27 - (كِتَابُ الْقَسَامَةِ، وَالْمُحَارِبِينَ، وَالْقِصَاصِ، وَالدِّيَاتِ)

(1) - (بَابُ الْقَسَامَةِ)

" الْقَسَامَةُ" - بفتح القاف، وتخفيف المهملة -: اليمين، وهي في عرف الشرع: حَلِفٌ معيّنٌ عند التهمة بالقتل على الإثبات، أو النفي، وقيل: مأخوذةٌ من قِسْمة الأيمان على الحالفين، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال في موضع آخر: هي الأيمان تُقسم على أولياء القتيل، إذا ادّعوا الدم، أو على المدّعى عليهم الدم، وخُصَّ القَسَم على الدم بلفظ القسامة، وقال إمام الحرمين: القسامة عند أهل اللغة: اسم للقوم الذين يُقسِمون، وعند الفقهاء اسم للأيمان، وقال في "المحكم": القسامة: الجماعة يُقسِمون على الشيء، أو يَشهدون به، ويمين القسامة منسوب إليهم، ثم أُطلق على الأيمان نفسها. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: القسامة - بالفتح -: الأيمان، تُقسَم على أولياء القتيل، إذا ادَّعَوا الدمَ، يقال: قُتِل فلانٌ بالقسامة: إذا اجتمع جماعةٌ من أولياء القتيل، فادَّعَوا على رجل أنه قتل صاحبهم، ومعهم دليلٌ دون البيّنة، فحَلَفوا خمسين يمينًا أنّ المدّعَى عليه قَتَل صاحبهم، فهؤلاء الذين يُقسمون على دعواهم، يُسَمَّون قَسَامَةً. انتهى

(3)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: القَسَامة - بالفتح -: اليمين، كالقَسَم، وحقيقتها أن يُقسِم من أولياء الدم خمسون نفرًا على استحقاقهم دم صاحبهم، إذا وَجدوه

(1)

"الْفَتْحُ" 7/ 543.

(2)

"الفتح" 14/ 221.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 503.

ص: 112

قتيلًا بين قوم، ولم يُعرَف قاتله، فإن لم يكونوا خمسين، أقسم الموجودون خمسين يمينًا، ولا يكون فيهم صبيّ، ولا امرأة، ولا مجنون، ولا عبدٌ، أو يُقسم بها المتّهمون على نفي القتل عنهم، فإن حلف المدّعون استحقّوا الدية، وإن حلف المتّهمون لم تلزمهم الدية، وقد أقسم يُقسم قَسَمًا، وقَسَامةً، وقد جاء على بناء الْغَرَامَة، والْحَمَالَة،؛ لأنها تلزم أهل الموضع الذي يوجد فيه القتيل، ومنه حديث عمر رضي الله عنه:"القَسَامةُ توجب العقل"؛ أي: توجب الدية، لا الْقَوَدَ، وفي حديث الحسن:"القسامة جاهليّةٌ"؛ أي: كان أهل الجاهليّة يدِينون بها، وقد قرّرها الإسلام، وفي رواية:"القتلُ بالقسامة جاهليّةٌ"؛ أي: أن أهل الجاهليّة كانوا يقتُلُون بها، أو أن القتل بها من أعمال الجاهليّة، كأنه إنكار لذلك، واستعظام. انتهى

(1)

.

وقال ابن منظور رحمه الله: تفسير القسامة في الدم أن يُقتل رجلٌ، فلا تَشهَد على قتل القاتل إياه بيّنة عادلة كاملةٌ، فيجيء أولياء المقتول، فيدّعون قِبَلَ رجل أنه قتله، ويُدْلُون بِلَوْثٍ من البيّنة، غير كاملة، وذلك أن يوجد الْمُدّعَى عليه، مُتلطّخًا بدم القتيل في الحال التي وُجد فيها، ولم يَشهد رجل عدلٌ، أو امرأة ثقةٌ أن فلانًا قتله، أو يُوجَدَ القتيلُ في دار القاتل، وقد كانت بينهما عداوة ظاهرةٌ قبل ذلك، فإذا قامت دلالة من هذه الدلالات، سبَقَ إلى قلب من سمعه أن دعوى الأولياء صحيحةٌ، فيُستَحلَف أولياء القتيل خمسين يمينًا أن فلانًا الذي ادّعَوا قتله انفرد بقتل صاحبهم، ما شَرِكَه في دمه أحدٌ، فإذا حلفوا خمسين يمينًا، استحقّوا دية قتيلهم، فإن أبوا أن يحلفوا مع اللَّوْث الذي أَدْلَوا به، حلف الْمُدَّعَى عليه، وبَرِئ، وإن نكَلَ المدّعَى عليه عن اليمين، خُيِّر ورثة القتيل بين قتله، أو أخْذِ الدية من مال المدَّعَى عليه، وهذا جميعه قول الشافعيّ رحمه الله. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: في "الصحاح": يقال: أقسمتُ: حَلَفتُ، وأصله من القسامة، وهي الأيمان تُقسم على الأولياء في الدم، والْقَسَمُ - بالتحريك -:

(1)

"النهاية في الحديث والأثر" 4/ 62.

(2)

"لسان العرب" 12/ 481.

ص: 113

اليمين، وكذلك الْمَقْسَمُ، وهو المصدر، مثلُ الْمَخْرَج، والْمَقْسم أيضًا: موضع القَسَم، قال زهير [من الوافر]:

فَتُجْمَعُ أَيْمُنٌ مِنَّا وَمِنْكُمْ

بِمَقْسَمَةٍ تَمُورُ بِهَا الدِّمَاءُ

يعني: بمكة. انتهى

(1)

.

وقال العلامة ابن قُدامة رحمه الله: القسامة: مصدر أقسم قَسَمًا، وقَسَامة، ومعناه: حَلَف حَلِفًا، والمراد بالقسامة ههنا: الأيمان المكررة في دعوى القتل، قال القاضي: هي الأيمان إذا كثرت على وجه المبالغة، قال: وأهل اللغة يذهبون إلى أنها القوم الذين يحلفون، سُمُّوا باسم المصدر، كما يقال: رجلٌ زُورٌ، وعدلٌ، ورِضًا، وأيُّ الأمرين كان، فهو من القَسَمِ، الذي هو الحلف.

والأصل في القسامة: ما رَوَى يحيى بن سعيد الأنصاري، عن بَشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة، ورافع بن خَدِيج: أن مُحَيِّصة بن مسعود، وعبد الله بن سهل، انطلقا إلى خيبر، فتفرقا في النخيل، فقُتِل عبد الله بن سهل، فاتَّهموا اليهود، فجاء أخوه عبد الرحمن، وابنا عمه حُوَيِّصة ومحيصة، إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فتكلم عبد الرحمن، في أمر أخيه، وهو أصغرهم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"كبِّر، كبِّر"، الحديث، متّفقٌ عليه

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب.

[4334]

(1669) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ يَحْيَى - وَهُوَ ابْنُ سَعِيدٍ - عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ - قَالَ يَحْيَى: وَحَسِبْتُ قَالَ -: وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، أَنَّهُمَا قَالَا: خَرَجَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَهْلِ بْنِ زَيْدٍ، وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسعُودِ بْنِ زَيْدٍ، حَتَّى إِذَا كَانَا بِخَيْبَرَ، تَفَرَّقَا فِي بَعْضِ مَا هُنَالِكَ، ثُمَّ إِذَا مُحَيِّصَةُ

(3)

يَجِدُ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَهْلٍ قَتِيلًا، فَدَفَنَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَحُوَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، وَكَانَ أَصْغَرَ الْقَوْمِ، فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لِيَتَكَلَّمَ قَبْلَ صَاحِبَيْهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"كَبِّرِ"، الْكُبْرَ فِي السِّنِّ، فَصَمَتَ، فَتَكَلَّمَ صَاحِبَاهُ، وَتَكَلَّمَ مَعَهُمَا، فَذَكَرُوا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَقْتَلَ

(1)

"المفهم" 5/ 5.

(2)

"المغني" لابن قُدامة 12/ 188.

(3)

وفي نسخة: "ثمّ إنّ محيّصة".

ص: 114

عَبْدِ اللهِ بْنِ سَهْلٍ، فَقَالَ لَهُمْ:"أَتَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا، فَتَسْتَحِقُّونَ صَاحِبَكُمْ؟ "، أَوْ "قَاتِلَكُمْ؟ "، قَالُوا: وَكَيْفَ نَحْلِفُ، وَلَمْ نَشْهَدْ؟ قَالَ:"فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا؟ "، قَالُوا: وَكَيْفَ نَقْبَلُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ؟ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى عَقْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رَجاء البَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240) عن (90) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(لَيْثُ) بن سعد بن عبد الرحمن الْفَهْميّ مولاهم، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ حجةٌ إمام [7](175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

3 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ) بن قيس الأنصاريّ، أبو سعيد المدنيّ القاضي، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت 144) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.

4 -

(بُشَيْرُ بْنُ يَسَارٍ) الحارثيّ الأنصاريّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [3] تقدم في "البيوع" 14/ 3880.

5 -

(سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ) بن ساعدة بن عامر الأنصاريّ الخزْرجيّ المدنيّ، صحابي صغير، وُلد سنة ثلاث من الهجرة، مات في خلافة معاوية رضي الله عنهما (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 57/ 1947.

6 -

(رَافِعُ بْنُ خَدِيجِ) بن عديّ الحارثيّ الأوسيّ الأنصاريّ الصحابيّ الشهير، مات سنة (3 أو 74) وقيل: قبل ذلك (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 489.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه مسلسلٌ بالمدنيين من يحيى، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، عن صحابيين.

شرح الحديث:

(عَنْ بُشَيْرِ) - بالموحدة، والمعجمة، مصغرًا - (ابْنِ يَسَارٍ) - بتحتانية، ثم مهملة خفيفة - قال الحافظ رحمه الله: لا أعرف اسم جدّه، وهو من موالي بني حارثة من الأنصار، قال ابن إسحاق: كان شيخًا كبيرًا فقيهًا، أدرك عامة

ص: 115

الصحابة، ووثقه يحيى بن معين، والنسائيّ، وكناه محمد بن إسحاق في روايته: أبا كيسان. انتهى

(1)

.

(عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ) - بفتح المهملة، وسكون المثلّثة - واسم أبي حَثْمَة: عامر بن ساعدة بن عامر، ويقال: اسم أبيه: عبد الله، فاشتهر هو بالنسبة إلى جدّه، وهو من بني حارثة: بطن من الأوس.

(قَالَ يَحْيَى) بن سعيد الأنصاريّ (وَحَسِبْتُ قَالَ)؛ أي: ظننت أن بُشير بن يسار قال: "وعن رافع. . . إلخ"، فقوله:(وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ) مقول "قال"، وفي رواية حماد بن زيد التالية:"عن سهل بن أبي حثمة، ورافع بن خَدِيج" من غير شكّ، قال في "الفتح": وثبت ذكر رافع بن خديج في هذا الحديث - غير مسمى -: عند أبي داود، من طريق أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل، عن سهل بن أبي حثمة، أنه أخبره هو ورجل من كبراء قومه. وعند ابن أبي عاصم، من طريق إسماعيل بن عياش، عن يحيى، عن بُشَير، عن سهل، ورافع، وسُويد بن النعمان، أن القسامة كانت فيهم في بني حارثة، فذكر بُشير عنهم أن عبد الله بن سهل خرج. . . فذكر الحديث.

(أَنَّهُمَا قَالَا: خَرَجَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَهْلِ بْنِ زَيْدٍ) الأنصاريّ الحارثيّ، له ذكر في هذا الحديث، ووقع في رواية ابن إسحاق أنه خرج مع أصحابه إلى خيبر يمتارون تمرًا، فوُجد في عين، قد كُسرت عنقه، ثم طُرِح فيها

(2)

. (وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ زَيْدٍ) و"مُحَيِّصَةُ" -: بضمّ الميم، وفتح الحاء المهملة، وتشديد التحتانيّة المكسورة في الأشهر، ويجوز تسكين الياء. وقال في "الفتح":"محيصة": بضم الميم، وفتح المهملة، وتشديد التحتانية، مكسورة، بعدها صاد مهملة، وكذا ضَبْطُ أخيه حُوَيِّصة، وحُكي التخفيف في الاسمين معًا، ورجحه طائفة، وهو ابن مسعود بن كعب بن عامر بن عديّ بن مَجْدَعَة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاريّ، شهد أُحدًا، وسائر المشاهد.

(1)

"الفتح" 16/ 82.

(2)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 4/ 106.

ص: 116

(حَتَّى إِذَا كَانَا بِخَيْبَرَ) البلدة المعروفة (تَفَرَّقَا فِي بَعْضِ مَا هُنَالِكَ)؛ أي: في بعض أماكن خيبر، وفي الرواية الآتية:"أن نفرًا منهم انطلقوا إلى خيبر، فتفرقوا فيها"، بصيغة الجمع، ويُجمع بينهما بحمل هذه الرواية على أنه كان معهما تابع لهما، وقد وقع في رواية محمد بن إسحاق عن بُشير بن يسار، عن ابن أبي عاصم:"خرج عبد الله بن سهل في أصحاب له يمتارون تمرًا"، زاد سليمان بن بلال في روايته الآتية:"في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي يومئذٍ صلح، وأهلها يهود"، والمراد أن ذلك وقع بعد فتحها، فإنها لما فُتِحت أقرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أهلها فيها على أن يعملوا في المزارع بالشطر مما يخرج منها، كما تقدم بيانه في "المزارعة"، أفاده في "الفتح"

(1)

.

(ثُمَّ إِذَا مُحَيِّصَةُ)"إذا" هنا هي الْفُجائيّة؛ أي: ففوجئ محيّصة، وفي بعض النسخ:"ثمّ إن محيّصة" بلفظ "إنّ"(يَجدُ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَهْلٍ قَتِيلًا، فَدَفَنَهُ) وفي رواية بشر بن المفضَّل عند البخاريّ: "فأَتَى مُحَيِّصة إلى عبد الله بن سهل، وهو يتشحط في دمه قتيلًا"؛ أي: يضطرب، فيتمرَّغ في دمه، "فدفنه"، وفي رواية سليمان بن بلال الآتية:"فوُجِد في شَرَبَة مقتولًا، فدفنه صاحبه"، وفي رواية أبي ليلى:"فأُخبِر محيّصة أن عبد الله قُتِل، وطُرِح في فَقِير" - بفاء مفتوحة، ثم قاف مكسورة؛ أي: حفيرة

(2)

.

(ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ)؛ أي: مُحَيِّصة، وإنما أتى بالضمير المنفصل؛ ليمكنه عطف قوله:"وَحُوَيِّصَةُ"؛ لأن العطف على ضمير الرفع المتّصل بلا فاصل ضعيف، كما قال ابن مالك:

وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ

عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ

أَوْ فَاصِلٍ مَا وَبِلَا فَصْلٍ يَرِدْ

فِي النَّظْمِ فَاشِيًا وَضُعْفَهُ اعْتَقِدْ

(وَحُوَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ) و"حُوَيِّصَة": بضمّ الحاء المهملة، وفتح الواو، وتشديد التحتانيّة، وقد تُسكّن.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ثم أقبل هو وأخوه حويّصة"؛ يعني به: محيّصة، وهما ابنا مسعود بن زيد، والمشهور في حويّصة، ومُحيِّصة: تخفيف

(1)

راجع: "الفتح" 16/ 83.

(2)

"الفتح" 16/ 83.

ص: 117

الياء، وقد رويا بكسر الياء، وتشديدها، وعلى الوجهين، فهما مصغّران، والمقتول عبد الله بن سهل بن زيد، وأخوه عبد الرحمن بن سهل، فالأربعة بنو عمّ بعضهم لبعض، وإنما تقدّم محيّصة بالكلام؛ لكونه كان بخيبر حين قُتل عبد الله، غير أنه كان أصغر سنًّا من حُوَيّصةَ، ولذلك قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"كبّر كبّر": أي: قدّم للكلام قبلك من هو أكبر سنًّا منك، فتقدّم حويّصة، وكأنه كان أكبر منه، ومن عبد الرحمن أخي المقتول. انتهى

(1)

.

(وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ) أخو عبد الله بن سهل المقتول (وَكَانَ أَصْغَرَ الْقَوْمِ)؛ أي: كان عبد الرحمن أصغر الثلاثة: محيّصة، وحُويّصة، وعبد الرحمن (فَذَهَبَ)؛ أي: أخذ، وشرع (عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن سهل (لِيَتَكَلَّمَ)؛ أي: ليذكر القصّة، ويشرحها للنبيّ صلى الله عليه وسلم (قَبْلَ صَاحِبَيْهِ) محيّصة، وحُويّصة، وإنما تقدّم عليهما؛ لكونه أخا المقتول، وهما ابنا عمّه (فَقَالَ لَهُ)؛ أي: لعبد الرحمن (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كَبِّرِ") أمر من التكبير؛ أي: قدّم الأكبر عليك سنًّا في الكلام، وقوله:(الْكُبْرَ فِي السِّنِّ) يَحْتَمل أن يكون من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه قال:"كبّر"، ثم قال تأكيدًا:"الكُبرَ في السنّ"، وهو بمعنى الأول، ويَحْتَمل أن يكون تفسيرًا من الراوي، فيكون مفعولًا لفعل مقدّر؛ أي: يريد بقوله: "كَبّر": الكبرَ في السنّ، وهذا هو الذي ذكره النوويّ رحمه الله، وعبارته: وقوله: "الكُبْرَ في السنّ"؛ معناه: يريد الكبر في السنّ، و"الكبرَ" منصوب بإضمارِ: يُرِيد، ونحوها، وفي بعض النسخ:"للكبر" باللام، وهو صحيح. انتهى

(2)

.

(فَصَمَتَ)؛ أي: سكت عبد الرحمن (فَتَكَلَّمَ صَاحِبَاهُ)؛ أي: محيّصة، وحُويّصة (وَتَكَلَّمَ مَعَهُمَا)؛ أي: تكلّم أيضًا عبد الرحمن بعد كلامهما.

قال النوويّ رحمه الله: معنى هذا الكلام: أن المقتول هو عبد الله، وله أخ اسمه عبد الرحمن، ولهما ابنا عمّ، وهما: مُحَيِّصة وحُوَيِّصة، وهما أكبر سنًّا من عبد الرحمن، فلما أراد عبد الرحمن أخو القتيل أن يتكلم، قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"كَبِّرْ"؛ أي: يتكلم أكبر منك.

واعلم: أن حقيقة الدعوى إنما هي لأخيه عبد الرحمن، لا حقّ فيها

(1)

"المفهم" 5/ 8.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 146.

ص: 118

لابني عمه، وإنما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتكلم الأكبر، وهو حُوَيِّصة؛ لأنه لم يكن المراد بكلامه حقيقة الدعوى، بل سماع صورة القصة، وكيف جرت، فإذا أراد حقيقة الدعوى تكلم صاحبها.

ويَحْتَمِل أن عبد الرحمن وَكَّل حُوَيِّصة في الدعوى، ومساعدته، أو أمر بتوكيله، وفي هذا فضيلة السنّ عند التساوي في الفضائل، ولهذا نظائر، فإنه يُقَدَّم بها في الإمامة، وفي ولاية النكاح ندبًا، وغير ذلك. انتهى

(1)

.

(فَذَكَرُوا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَقْتَلَ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَهْلٍ)؛ أي: قتله (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَهُمْ) وفي الرواية الآتية: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إما أن يَدُوا صاحبكم وإما أن يُؤْذِنوا بحرب"، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم في ذلك، فكتبوا: إنا والله ما قتلناه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن:"أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ ".

("أَتَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا) فيه أنه يبدأ بأيمان أهل الدم في القسامة، وبهذا أخذ معظم القائلين بأن القسامة يُستحقّ بها الدم، وخالف في ذلك بعضهم، وسيأتي تمام البحث في ذلك قريبًا - إن شاء الله تعالى -.

قال النوويّ رحمه الله: قد يقال: كيف عُرِضت اليمين على الثلاثة، وإنما يكون اليمين للوارث خاصّةً، والوارث عبد الرحمن خاصّةً، وهو أخو القتيل، وأما الآخران فابنا عمّ لا ميراث لهما مع الأخ؟.

والجواب: أنه كان معلومًا عندهم أن اليمين تختص بالوارث، فأطلق الخطاب لهم، والمراد: من تختص به اليمين، واحتُمِل ذلك لكونه معلومًا للمخاطبين، كما سمع كلام الجميع في صورة قتله، وكيفيةِ ما جرى له، وإن كانت حقيقة الدعوى وقت الحاجة مختصّةً بالوارث. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: وقع عند البخاريّ من رواية سعيد بن عُبيد، عن بُشير بن يسار:"فقال لهم - يعني: النبيّ صلى الله عليه وسلم: تأتون بالبيّنة على من قتله، قالوا: ما لنا بيّنة"، قال في "الفتح": كذا في رواية سعيد بن عبيد، ولم يقع في رواية يحيى بن سعيد الأنصاريّ، ولا في رواية أبي قلابة للبيّنة ذِكر، وإنما قال يحيى في

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 146.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 146.

ص: 119

رواية: "أتحلفون، وتستحقون قاتلكم، أو صاحبكم؟ "، هذه رواية بشر بن المفضَّل عنه، وفي رواية حماد عنه:"أتستحقون قاتلكم، أو صاحبكم، بأيمان خمسين منكم؟ "، وفي رواية عند مسلم:"يُقْسِم خمسون منكم على رجل منهم، فيُدْفَع بِرُمّته"، وفي رواية سليمان بن بلال:"تحلفون خمسين يمينًا، وتستحقون"، وفي رواية ابن عيينة، عن يحيى، عند أبي داود:"تبرئكم يهود بخمسين يمينًا تحلفون"، فبدأ بالمدَّعى عليهم، لكن قال أبو داود: إنه وَهَمٌ، كذا جزم بذلك، وقد قال الشافعيّ: كان ابن عيينة لا يُثْبِت: أقَدَّم النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأنصار في الأيمان، أو اليهود؟، فيقال له: إن في الحديث أنه قَدَّم الأنصار، فيقول: هو ذاك، وربما حَدَّث به كذلك، ولم يشكّ.

(فَتَسْتَحِقُّونَ صَاحِبَكُمْ؟ "، أَوْ "قَاتِلَكُمْ؟ ") وفي رواية: "فيُدفع إليكم برمّته"، وهو نصّ في أن القسامة يُستحقّ بها الدم، وهو قول معظم الحجازيين، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك قريبًا - إن شاء الله تعالى -.

قوله: "فتستحقّون قاتلكم، أو صاحبكم": معناه: يثبت حقّكم على من حلفتم عليه، وهل ذلك الحقّ قصاص، أو دية؟ فيه الخلاف السابق بين العلماء.

قال: واعلم: أنهم إنما يجوز لهم الحلف إذا علموا، أو ظنوا ذلك، وإنما عَرَض عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم اليمين إن وُجِد فيهم هذا الشرط، وليس المراد الإذن لهم في الحلف من غير ظنّ، ولهذا قالوا: كيف نحلف، ولم نشهد؟. انتهى

(1)

.

(قَالُوا)؛ أي: حُويّصة، ومحيّصة، وعبد الرحمن (وَكَيْفَ نَحْلِفُ، وَلَمْ نَشْهَدْ؟) قتل عبد الله، زاد في رواية:"ولم نحضر"، وفي رواية يحيى بن سعيد:"كيف نحلف، ولم نَشْهَد، ولم نَرَ؟ "، وفي رواية حماد عنه:"أَمْرٌ لم نَرَهُ"، وفي رواية سليمان:"ما شَهِدنا، ولا حضرنا".

قال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليلٌ: على أن الأيمان في القسامة على القطع، وهو الأصل في الأيمان، إلا أن يتعذر ذلك فيها، كما سيأتي تفصيل ذلك،

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 146 - 147.

ص: 120

وسبب ذلك أن الحالف جازم في دعواه، فلا يحلف إلا على ما تحققه، كالشاهد، غير أنَّه لا يُشرط في تحقيق ذلك الحضور والمشاهدة؛ إذ قد يحصل له التحقيق من الأخبار، والنَّظر في قرائن الأحوال. انتهى

(1)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَتُبْرِئُكُمْ) يَحْتَمل أن يكون مخفّفًا، من الإبراء، أو مشدّدًا، من التبرئة (يَهُودُ) مرفوع على الفاعلية، وهو غير منصرف؛ لأنه علم على القبيلة والطائفة، ففيه العلميّة والتأنيث (بِخَمْسِينَ يَمِينًا") قال النوويّ رحمه الله: معنى فتبرئكم يهود. . . إلخ": تبرأ إليكم يهود بخمسين يمينًا، وقيل: معناه: يُخلّصونكم من اليمين بأن يحلفوا، فإذا حَلَفوا انتهت الخصومة، ولم يثبت عليهم شيء، وخلصتم أنتم من الأيمان، وفي هذا دليلٌ لصحّة يمين الكافر والفاسق. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: معنى "تبرئكم يهود"؛ أي: يبرؤون إليكم مما طالبتموهم به، فتبرؤون أنتم منهم؛ إذ ينقطع طلبكم عنهم شرعًا.

قال: وفيه دليل على أن الأيمان المردودة لا تكون أقل من خمسين يمينًا من خمسين رجلًا إذا كان المدَّعَى عليهم خمسين، فإن كانوا أقل من ذلك؛ حلفوا خمسين يمينًا، ورُدَّت عليهم بحسب عددهم، وهل لهم أن يستعينوا بمن يحلف معهم من أوليائهم أم لا؟ قولان. فمشهور مذهب مالك: لهم الاستعانة. وعليه: فلا يحلف فيها أقل من اثنين. ولا يحلفُ المدَّعى عليه معهم إلا أن لا يجد من يحلفُ معه، فيحلفُ هو خمسين يمينًا. ورَوَى مُطَرِّف عن مالك: أنه لا يحلفُ مع المدَّعى عليه أحدٌ، ويحلفُ هم أنفسهم كانوا واحدًا أو أكثر خمسين يمينًا يبرئون بها أنفسهم. وهو قول الشّافعيّ، وهو الصحيح؛ لأن من لم يُدَّع عليه لم يكن له سبب يتوجَّه عليه به يمين، ثم مقصود هذه الأيمان: البراءة من الدَّعوى، ومن لم يُدَّع عليه بريء، ولأن أيمانهم على أن وليَّهم لم يُقتل شهادةٌ على نفي، وهي باطل. وأيضًا فقد قال الله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15]. انتهى

(3)

.

(1)

"المفهم" 5/ 13.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 147.

(3)

"المفهم" 5/ 14.

ص: 121

(قَالُوا: وَكَيْفَ نَقْبَلُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ") وفي رواية: "ما يبالون أن يقتلونا أجمعين، ثم يحلفون".

قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "كيف نقبل أيمانَ قومٍ كُفَّار": استبعاد لصدقهم، وتقريبٌ لإقدامهم على الكذب، وجرأتهم على الأيمان الفاجرة، وعلى هذا يدل قولهم:"ليسوا بمسلمين"؛ أي: ما هم عليه من الكفر والعداوة للمسلمين يُجَرِّؤهم على الأيمان الكاذبة، لكنهم مع هذا كله لو رَضُوا بأيمانهم لَحُلِّفوا، ولا خلاف أعلمه في أن الكافر إذا توجَّهت عليه يمين: أنه يحلفها أو يُعَدُّ ناكلًا.

وبماذا يُحَلَّف؛ فالمشهور عن مالك: أنَّه إنما يُحَلَّف بالله؛ الذي لا إله إلا هو، سواء كان يهوديًّا، أو نصرانيًّا، أو غيرهما من الأديان، كما يحلَّف المسلم، وفيه نظر. وروى الواقدي عن مالك: أن اليهوديّ يحلف بالله الذي أنزل التوراة على موسى، والنصراني: بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، وهذا القول أمشى على الأصل من الأول، وذلك: أنَّا إذا أجبرنا النصرانيّ على أن يحلف بالتوحيد مع قطعنا: بأنَّه خلاف معتقده، ودينه؛ فقد أجبرناه على الخروج عن دينه، مع أنا قد عاهدناه على إبقائه على اعتقاده، ودينه. وأيضًا: فلا مانع له من أن يُقْدِم على الحلف بذلك؛ إذ هو في اعتقاده ليس بصحيح. فالأولى القول الثاني. ويحلَّف في المواضع التي يَعتقد تعظيمها. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح" ما حاصله: لم يُذكَر في رواية سعيد بن عبيد، عرض الأيمان على المدَّعين، كما لم يقع في رواية يحيى بن سعيد، طلب البيّنة أَوّلًا.

وطريق الجمع أن يقال: حَفِظ أحدهم ما لم يحفظ الآخر، فيُحْمَل على أنه طلب البيّنة، أوّلًا، فلم تكن لهم بيّنة، فعَرَض عليهم الأيمان، فامتنعوا، فعرض عليهم تحليف المدعَى عليهم، فأَبَوا.

وأما قول بعضهم: إنَّ ذِكر البيّنة وَهَمٌ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم، قد عَلِمَ أن خيبر حينئذٍ، لم يكن بها أحد من المسلمين، فدعوى نفي العلم مردودة، فإنه وإن سُلِّم أنه لم يسكن مع اليهود فيها أحد من المسلمين، لكن في نفس القصة، أن جماعة

(1)

"المفهم" 5/ 14 - 15.

ص: 122

من المسلمين خرجوا يمتارون تمرًا، فيجوز أن تكون طائفة أخرى خرجوا لمثل ذلك، وإن لم يكن في نفس الأمر كذلك، وقد وجدنا لطلب البيّنة، في هذه القصة شاهدًا من وجه آخر، أخرجه النسائيّ من طريق عبيد الله بن الأخنس، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جدّه: أن ابن محيصة الأصغر أصبح قتيلًا على أبواب خيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أقم شاهدين على من قتله، أدفعه إليك برمته"، قال: يا رسول الله، أَنَّى أُصيب شاهدين؟، وإنما أصبح قتيلًا على أبوابهم، قال:"فتحلف خمسين قسامة"، قال: فكيف أحلف على ما لا أعلم؟، قال:"تستحلف خمسين منهم"، قال:"كيف وهم يهود؟ ".

قال الحافظ: وهذا السند صحيح حسن، وهو نَصٌّ في الحمل الذي ذكرته، فتعيّن المصير إليه.

وقد أخرج أبو داود أيضًا، من طريق عَباية بن رِفاعة، عن جدّه رافع بن خَدِيج، قال: أصبح رجل من الأنصار، بخيبر مقتولًا، فانطلق أولياؤه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم"، قال: لم يكن ثَمَّ أحد من المسلمين، وإنما هم اليهود، وقد يجترئون على أعظم من هذا. انتهى

(1)

.

(فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى عَقْلَهُ)؛ أي: ديته، وفي رواية:"فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قِبَله"، وفي رواية:"فعقله رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده"، وفي رواية سعيد بن عبيد عند البخاريّ:"فوداه مائة من إبل الصدقة".

قال في "الفتح": زعم بعضهم أن قوله: "من إبل الصدقة" غلط من سعيد بن عبيد؛ لتصريح يحيى بن سعيد بقوله: "من عنده"، وجمع بعضهم بين الروايتين، باحتمال أن يكون اشتراها من إبل الصدقة، بمال دفعه من عنده، أو المراد بقوله:"من عنده"؛ أي: بيت المال الْمُرَصَّد للمصالح، وأَطلَقَ عليه صدقة، باعتبار الانتفاع به مَجّانًا؛ لما في ذلك من قطع المنازعة، وإصلاح ذات البين، وقد حمله بعضهم على ظاهره، فحَكَى القاضي عياض، عن بعض العلماء: جواز صرف الزكاة في المصالح العامة، واستدل بهذا الحديث، وغيره، وتقدم شيء من ذلك في "كتاب الزكاة"، في الكلام على حديث أبي

(1)

راجع: "الفتح" 16/ 85.

ص: 123

لاس رضي الله عنه، قال:"حملنا النبيّ صلى الله عليه وسلم، على إبل من إبل الصدقة، في الحج"، وعلى هذا فالمراد بالعندية، كونها تحت أمره، وحكمه، وللاحتراز من جعل ديته على اليهود، أو غيرهم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: إنما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مقتضى كرم خُلُقه، وحسن سياسته، وجلبًا للمصلحة، ودفعًا للمفسدة، وإطفاء للثائرة، وتأليفًا للأغراض المتنافرة، ولا سيما عند تعذر الوصول إلى استيفاء الحقّ، ورواية من قال:"من عنده" أصح من رواية من قال: "من إبل الصدقة"، وقد قيل: إنها غلط، والأَولى أن لا يُغَلَّط الراوي ما أمكن، فيَحْتَمِل أوجهًا، فذكر ما تقدم، وزاد: أن يكون تَسَلَّفَ ذلك من إبل الصدقة؛ ليدفعه من مال الفيء، أو أن أولياء القتيل، كانوا مستحقين للصدقة، فأعطاهم، أو أعطاهم ذلك من سهم المؤلفة؛ استئلافًا لهم، واستجلابًا لليهود. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "أعطى عقله"؛ أي: ديته، وفي الرواية الأخرى:"فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبله"، وفي رواية:"من عنده"، فقوله:"وداه" بتخفيف الدّال؛ أي: دفع ديته، وفي رواية:"فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه، فوداه مائة من إبل الصدقة".

قال: إنما وداه رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعًا للنزاع، وإصلاحًا لذات البين، فإن أهل القتيل لا يستحقّون إلا أن يَحلِفوا، أو يستحلفوا المدَّعَى عليهم، وقد امتنعوا من الأمرين، وهم مكسورون بقتل صاحبهم، فأراد صلى الله عليه وسلم جبرهم، وقطع المنازعة، وإصلاح ذات البين بدفع ديته من عنده.

قال: وقوله: "فوداه من عنده" يَحْتَمِل أن يكون من خالص ماله في بعض الأحوال صادف ذلك عنده، ويَحْتَمِل أنه من مال بيت المال، ومصالح المسلمين.

وأما قوله في الرواية الأخيرة: "من إبل الصدقة"، فقد قال بعض العلماء: إنها غلط من الرواة؛ لأن الصدقة المفروضة لا تُصْرَف هذا المصرف، بل هي لأصناف سمّاهم الله تعالى، وقال الإمام أبو إسحاق المروزيّ من

(1)

"المفهم" 5/ 15 - 16.

ص: 124

أصحابنا: يجوز صرفها من إبل الزكاة لهذا الحديث، فأخذ بظاهره، وقال جمهور أصحابنا، وغيرهم: معناه: اشتراه من أهل الصدقات بعد أن ملكوها، ثم دفعها تبرعًا إلى أهل القتيل.

وحَكَى القاضي عن بعض العلماء: أنه يجوز صرف الزكاة في مصالح العامة، وتأوّل هذا الحديث عليه، وتأوّله بعضهم على أن أولياء القتيل كانوا محتاجين، ممن تباح لهم الزكاة، وهذا تأويل باطلٌ؛ لأن هذا قدر كثير لا يدفع إلى الواحد الحامل من الزكاة، بخلاف أشراف القبائل، ولأنه سماه ديةً، وتأوله بعضهم على أنه دفعه من سهم المؤلفة من الزكاة؛ استئلافًا لليهود، لعلهم يسلمون، وهذا ضعيفٌ؛ لأن الزكاة لا يجوز صرفها إلى كافر، فالمختار ما حكيناه عن الجمهور أنه اشتراها من إبل الصدقة. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سهل بن أبي حثمة، ورافع بن خَدِيج رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 4334 و 4335 و 4336 و 4337 و 4338 و 4339 و 4340 و 4341](1669)، و (البخاريّ) في "الصلح"(2702) و"الجزية، والموادعة"(3173) و"الأدب"(6142) و"الديات"(6898) و"الأحكام"(7192)، و (أبو داود) في "الديات"(4520 و 4521 و 4523)، و (الترمذيّ) في "الديات"(1422)، و (النسائيّ) في "القسامة"(4712 و 4713 و 4714 و 4715 و 4716 و 4717 و 4718 و 4719 و 4720 و 4721) وفي "الكبرى"(6913 و 6914 و 6915 و 6916 و 6917 و 6918 و 6919 و 6920 و 6921)، و (مالك) في "الموطّإ"(1630)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 113 - 114)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(18259)، و (الحميديّ) في

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 148.

ص: 125

"مسنده"(403)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(9/ 383)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 2 و 142)، و (الدارميّ) في "سننه"(2247)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6009)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(800)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(4428 و 5625 و 5629)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(3/ 197 و 198) و (الدارقطنيّ) في "سننه"(3/ 108 و 109 و 110)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 60 و 61)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 118 و 119) و"الصغرى"(7/ 141) و"المعرفة"(6/ 141 و 255 و 258)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(2546)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): مشروعية القسامة، وبه يقول جمهور أهل العلم، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك في المسألة التالية، إن شاء الله تعالى.

2 -

(ومنها): بيان كون الابتداء في القسامة بالمدّعين، وهم أولياء المقتول.

3 -

(ومنها): ردّ اليمين على المدّعَى عليهم إذا نَكَل المدّعون في القسامة.

4 -

(ومنها): أنه ينبغي للإمام مراعاة المصالح العامة، والاهتمام بإصلاح ذات البين.

5 -

(ومنها): أنه استدلّ به من يرى جواز الحكم على الغائب، وسماع الدعوى في الدماء من غير حضور الخصم.

6 -

(ومنها): جواز اليمين بالظن، وإن لم يَتَيَقَّن.

7 -

(ومنها): بيان أن الحكمَ بين المسلم والكافر يكون بحكم الإسلام.

8 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على تقديم الأسن في الأمر المهم، إذا كانت فيه أهلية ذلك، لا ما إذا كان عَرِيًّا عن ذلك، وعلى ذلك يُحْمَل الأمر بتقديم الأكبر، في حديث الباب، إما لأن ولي الدم، لم يكن متأهلًا، فأقام الحاكم قريبه مقامه في الدعوى، وإما لغير ذلك، قاله في "الفتح"

(1)

.

(1)

"الفتح" 16/ 91.

ص: 126

وقال القرطبيّ رحمه الله: فيه من الفقه: أن المشترِكين في طلب حقّ ينبغي لهم أن يقدِّموا للكلام واحدًا منهم، وأحقهم لذلك أسنُّهم؛ إذا كانت له أهلية القيام بذلك، وهذا كما قال في الإمامة:"فإن كانوا في السُّنَّة سواءً، فأقدمهم سنًّا"، وقد قدَّمنا أنَّ كبر السنِّ لم يستحق التقديمَ إلا من حيث القِدَم في الإسلام، والسبقُ إليه، والعلمُ به، وممارسة أعماله وأحواله، والفقه فيه، ولو كان الشيخُ عَرِيًّا عن ذلك لاستحقّ التأخير، ولكان المتصفُ بذلك هو المستحق للتقديم - وإن كان شابًا -، وقد قدِم وفدٌ على عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فتقدَّم شابٌّ للكلام، فقال له عمرُ: كبِّر، كبِّر. فقال: يا أمير المؤمنين! لو كان الأمرُ بالسنِّ لكان هنا من هو أولى بالخلافة منك! فقال: تكلَّم. فتكلم فأبلغ، وأوجز. انتهى

(1)

.

9 -

(ومنها): إنَّ فيه التأنيسَ، والتسليةَ لأولياء المقتول، وليس فيه أنه حكم على الغائبين

(2)

؛ لأنه لم يتقدم صورة دعوى على غائب، وإنما وقع الإخبار بما وقع، فذكر لهم قصة الحكم على التقديرين، ومن ثم كتب إلى اليهود، بعد أن دار بينهم الكلام المذكور.

10 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه أن مجرد الدعوى، لا توجب إحضار الْمُدَّعَى عليه؛ لأن في إِحضاره مَشْغَلةً عن أشغاله، وتضييعًا لماله، من غير موجب ثابت لذلك، أما لو ظهر ما يُقَوِّي الدعوى، من شبهة ظاهرة، فهل يسوغ استحضار الخصم، أو لا؟ محل نظر، والراجح أن ذلك يختلف بالقرب والبعد، وشدة الضرر، وخفته.

11 -

(ومنها): أن فيه الاكتفاءَ بالمكاتبة، وبخبر الواحد مع إمكان المشافهة، فإنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى اليهود في هذه الواقعة، وكتبوا إليه بالجواب.

12 -

(ومنها): أن اليمين قبل توجيهها من الحاكم، لا أثر لها؛ لقول اليهود في جوابهم: والله ما قتلنا.

(1)

"المفهم" 5/ 9.

(2)

قد تقدّم في الرقم (5) أن المسألة فيها خلاف، فمن العلماء من يرى جواز الحكم على الغائب، ويستدلّ بهذا الحديث، واستدلاله ظاهر، فتأمله بالإنصاف.

ص: 127

13 -

(ومنها): أن في قولهم: لا نرضى بأيمان اليهود، استبعادًا لصدقهم؛ لِمَا عرفوه من إقدامهم على الكذب، وجراءتهم على الأيمان الفاجرة.

14 -

(ومنها): أن أهل الذِّمَّة يُحكم عليهم بحكم الإسلام، لا سيما إذا كان الحكم بين ذمِّي ومسلم، فإنَّه لا يُختلف في ذلك. وكذلك لو كان المقتول من أهل الذمة فادُّعِي به على مسلم؛ فإن وُلاة الدَّم يحلفون خمسين يمينًا، ويستحقون دية ذمِّي. هذا قول مالك. وقال بعض أصحابه: يحلف المسلم المدَّعى عليه خمسين يمينًا، ويبرأ، ولا تحمل العاقلة ديته. فلو قام للذميِّ شاهدٌ واحدٌ بالقتل؛ فقال مالك: يحلف ولاته يمينًا واحدة ويستحقون الدِّية من ماله في العمد، ومن عاقلته في الخطأ. وقال غيره: يحلف المدَّعى عليه خمسين يمينًا ويُجلد مائة، ويُحبس عامًا.

15 -

(ومنها): أن فيه ما يدلُّ على جواز سماع حجَّة أحد الخصمين في غيبة الآخر، وأن أهل الذمَّة إن امتنعوا من فعل ما وجب عليهم انتقض عهدهم.

16 -

(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: وهذا الحديث أيضًا حجة للجمهور على من أنكر العمل بالقسامة، فإن ظاهره: أنَّه صلى الله عليه وسلم وجدَ الناس على عمل، فلمَّا أسلموا، واستقل بتبليغ الأحكام أقرَّها على ما كانت عليه، فصار ذلك حكمًا شرعيًّا يُعمل عليه، ويُحكم به، لكن يجب أن يُبحث عن كيفية عملهم الذي كانوا يعملونه فيها، وشروطهم التي اشترطوها، فيُعْمَل بها من جهة إقرار النبيّ صلى الله عليه وسلم عليها، لا من جهة الاقتداء بالجاهلية فيها. انتهى

(1)

.

17 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن الدعوى في القسامة، لا بد فيها من عداوة، أو لَوْث، واختُلف في سماع هذه الدعوى، ولو لم توجب القسامة، فعن أحمد روايتان، وبسماعها قال الشافعيّ؛ لعموم حديث:"اليمينُ على المدعَى عليه"، بعد قوله:"لو يُعطَى الناس بدعواهم، لادَّعَى قوم دماء رجال، وأموالهم"، رواه مسلم، ولأنها دعوى في حقّ آدمي، فتُسمع، ويُستحلف، وقد

(1)

"المفهم" 5/ 18.

ص: 128

يُقِرّ، فيثبت الحق في قتله، ولا يُقبل رجوعه عنه، فلو نكل رُدَّت على المدعِي، واستحق القَوَد في العمد، والدية في الخطأ، وعن الحنفية: لا تردّ اليمين، وهي رواية عن أحمد.

18 -

(ومنها): أنه استُدِلَّ به على أن المدّعين، والمدعَى عليهم، إذا نَكَلوا عن اليمين، وجبت الدية في بيت المال، وسيأتي ما فيه قريبًا - إن شاء الله تعالى -.

19 -

(ومنها): أنه استَدَلّ به الحنفية على جواز سماع الدعوى في القتل، على غير معيَّن؛ لأن الأنصار ادَّعَوا على اليهود، أنهم قتلوا صاحبهم، وسمع النبيّ صلى الله عليه وسلم دعواهم.

ورُدّ بأن الذي ذكره الأنصار أوّلًا، ليس على صورة الدعوى بين الخصمين؛ لأن مِنْ شَرْطها إذا لم يحضر المدَّعَى عليه، أن يتعذر حضوره.

سلّمنا، ولكن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قد بيَّن لهم أن الدعوى، إنما تكون على واحد؛ لقوله:"تقسمون على وجل منهم، فيدفعَ إليكم برمته؟ ".

20 -

(ومنها): أنه استُدِلّ بقوله: "على رجل منهم"، على أن القسامة إنما تكون على رجل واحد، وهو قول أحمد، ومشهور قول مالك، وقال الجمهور: يُشترط أن تكون على معيَّن، سواء كان واحدًا، أو أكثر، واختلفوا هل يختص القتل بواحد، أو يُقتل الكل؟، وسيأتي البحث فيه.

وقال أشهب: لهم أن يحلفوا على جماعة، ويختاروا واحدًا للقتل، ويُسجن الباقون عامًا، ويضربون مائة مائة، وهو قول لم يُسبَق إليه.

21 -

(ومنها): أن الحلف في القسامة لا يكون إلا مع الجزم بالقاتل، والطريق إلى ذلك المشاهدة، وإخبار من يوثَق به، مع القرينة الدالة على ذلك.

22 -

(ومنها): أن من توجهت عليه اليمين، فنكل عنها، لا يُقضى عليه، حتى يُرَدَّ اليمين على الآخر، وهو المشهور عند الجمهور، وعند أحمد، والحنفية: يقضى عليه، دون ردّ اليمين، وقال ابن أبي ليلى: يؤخذ باليمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم هل يُعمل بالقسامة، أم لا؟: قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: الحديث كله حجة واضحة للجمهور من

ص: 129

السلف، والخلف على من أنكر العمل بالقسامة، وهم: سالم بن عبد الله، وأبو قلابة، ومسلم بن خالد، وقتادة، وابن عُليّة، وبعض المكيّين، فنفوا الحكم بها شرعًا في العمد، والخطأ. وقد رُوي ذلك عن عمر بن عبد العزيز، والحكم بن عُتيبة، وقد رُوي عنهما العمل بها. وقد رُوي نفي العمل بها عن سليمان بن يسار، والصحيح عنه روايته المذكورة عنه هنا، حيث قال، عن رجال من الأنصار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرّ القسامة على ما كانت عليه في الجاهليّة، وظاهر هذا: أنه يقول بها. انتهى

(1)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: حديث القسامة أصل من أصول الشرع، وقاعدة من قواعد الأحكام، وركن من أركان مصالح العباد، وبه أخذ العلماء كافّةً، من الصحابة، والتابعين، ومَنْ بَعْدَهم، من علماء الأمصار، الحجازيين، والشاميين، والكوفيين، وغيرهم - رحمهم الله تعالى - وإن اختلفوا في كيفية الأخذ به.

ورُوِي عن جماعة إبطال القسامة، وأنه لا حُكم لها، ولا عمل بها، وممن قال بهذا: سالم بن عبد الله، وسليمان بن يسار، والْحَكَم بن عُتَيبة، وقتادة، وأبو قلابة، ومسلم بن خالد، وابن عُلية، وغيرهم، وإليه ينحو البخاريّ.

وعن عمر بن عبد العزيز روايتان كالمذهبين، واختلف القائلون بها فيما إذا كان القتل عمدًا، هل يجب القصاص بها؟ فقال معظم الحجازيين: يجب، وهو قول الزهريّ، وربيعة، وأبي الزناد، ومالك، وأصحابه، والليث، والأوزاعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وداود، وهو قول الشافعيّ في القديم، ورُوي عن ابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، قال أبو الزناد: قلنا بها، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، إني لأرى أنهم ألف رجل، فما اختَلَف منهم اثنان.

وقال الكوفيون، والشافعيّ في أصح قوليه: لا يجب بها القصاص، وإنما تجب الدية، وهو مرويّ عن الحسن البصريّ، والشعبيّ، والنخعيّ، وعثمان

(1)

"المفهم" 1/ 5.

ص: 130

البَتِّيِّ، والحسن بن صالح، ورُوي أيضًا عن أبي بكر، وعمر، وابن عباس، ومعاوية رضي الله عنهم.

واختلفوا فيمن يَحْلِف في القسامة، فقال مالك، والشافعيّ، والجمهور: يَحْلِف الورثة، ويجب الحقّ بحلفهم خمسين يمينًا، واحتجوا بهذا الحديث الصحيح، وفيه التصريح بالابتداء بيمين الْمُدَّعِي، وهو ثابت من طرق كثيرة صحاح، لا تندفع، قال مالك: الذي أجمعت عليه الأئمة قديمًا وحديثًا أن المدَّعِين يبدؤون في القسامة، ولأن جَنَبَة المدعِي صارت قويّة باللَّوْث.

قال القاضي: وضَعَّف هؤلاء روايةَ مَن روى الابتداء بيمين الْمُدَّعَى عليهم، قال أهل الحديث: هذه الرواية وَهَمٌ من الراوي؛ لأنه أَسقط الابتداء بيمين الْمُدَّعِي، ولم يَذْكُر رَدَّ اليمين، ولأن مَن روى الابتداء بالمدّعين معه زيادة، ورواياتها صحاح، من طرق كثيرة مشهورة، فوجب العمل بها، ولا تعارضها رواية مَن نَسِيَ.

وقال كلُّ من لم يوجب القصاص، واقتصر على الدية: يُبدأ بيمين الْمُدَّعَى عليهم، إلا الشافعيّ، وأحمد، فقالا بقول الجمهور: إنه يُبدأ بيمين الْمُدَّعِي، فإن نَكَلَ رُدَّت على الْمُدَّعَى عليه.

وأجمع العلماء على أنه لا يجب قصاص، ولا دية، بمجرد الدعوى، حتى تقترن بها شبهة يغلب الظن بها، واختلفوا في هذه الشبهة المعتبرة الموجبة للقسامة، ولها سبع صور:

[الأولى]: أن يقول المقتول في حياته: دمي عند فلان، وهو قتلني، أو ضربني، وإن لم يكن به أثرٌ، أو فَعَلَ بي هذا، من إنفاذ مقاتلي، أو جرحني، ويذكر العمد، فهذا موجب للقسامة عند مالك، والليث، وادَّعَى مالك: أنه مما أجمع عليه الأئمة قديمًا وحديثًا، قال القاضي: ولم يقل بهذا من فقهاء الأمصار غيرهما، ولا رُوي عن غيرهما، وخالف في ذلك العلماء كافّةً، فلم يَرَ أحد غيرهما في هذا قسامةً، واشترط بعض المالكية وجود الأثر والجرح في كونه قسامةً، واحتجّ مالك في ذلك بقضية بني إسرائيل، وقوله تعالى:{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} الآية [البقرة: 73]، قالوا: فَحَيِيَ الرجل، فأخبر بقاتله، واحتجّ أصحاب مالك أيضًا بأن تلك حالةٌ يُطْلَب بها غفلةُ

ص: 131

الناس، فلو شرطنا الشهادة، وأبطلنا قول المجروح أدَّى ذلك إلى إبطال الدماء غالبًا، قالوا: ولأنها حالة يتحرى فيها المجروح الصدق، ويتجنب الكذب، والمعاصي، ويتزود البرّ والتقوى، فوجب قبول قوله.

واختلف المالكية في أنه: هل يكتفي في الشهادة على قوله بشاهد أم لا بدّ من اثنين؟

[الثانية]: اللَّوْثُ من غير بيّنة على معاينة القتل، وبهذا قال مالك، والليث، والشافعيّ، ومن اللوث: شهادة العدل وحده، وكذا قول جماعة ليسوا عدولًا.

[الثالثة]: إذا شَهِد عدلان بالجرح، فعاش بعده أيامًا، ثم مات قبل أن يُفيق منه، قال مالك، والليث: هو لَوْثٌ، وقال الشافعيّ، وأبو حنيفة: لا قسامة هنا، بل يجب القصاص بشهادة العدلين.

[الرابعة]: أن يوجد المتهم عند المقتول، أو قريبًا منه، أو آتيًا من جهته، ومعه آلة القتل، وعليه أثره، من لطخ دم وغيره، وليس هناك سَبُع، ولا غيره مما يمكن إحالة القتل عليه، أو تفرق جماعة عن قتيل، فهذا لَوْثٌ موجب للقسامة عند مالك، والشافعيّ.

[الخامسة]: أن يقتتل طائفتان، فيوجد بينهما قتيل، ففيه القسامة عند مالك، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وعن مالك روايةٌ: لا قَسَامَةَ، بل فيه دية على الطائفة الأخرى، إن كان من أحد الطائفتين، وإن كان من غيرهما، فعلى الطائفتين ديته.

[السادسة]: أن يوجد الميت في زحمة الناس، قال الشافعيّ: تثبت فيه القسامة، وتجب بها الدية، وقال مالك: هو هَدَرٌ، وقال الثوريّ، وإسحاق: تجب دية في بيت المال، ورُوي مثله عن عمر، وعليّ رضي الله عنهما.

[السابعة]: أن يوجد في مَحِلَّة قوم، أو قبيلتهم، أو مسجدهم، فقال مالك، والليث، والشافعيّ، وأحمد، وداود، وغيرهم: لا يثبت بمجرد هذا قسامة، بل القتل هَدَرٌ؛ لأنه قد يَقتُل الرجلُ الرجلَ، ويُلقيه في محلة طائفة ليُنْسَب إليهم، قال الشافعيّ: إلا أن يكون في محلة أعدائه، لا يخالطهم غيرهم، فيكون كالقصة التي جرت بخيبر، فحَكَم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالقسامة لورثة

ص: 132

القتيل لِمَا كان بين الأنصار وبين اليهود من العداوة، ولم يكن هناك سواهم، وعن أحمد نحو قول الشافعيّ.

وقال أبو حنيفة، والثوريّ، ومعظم الكوفيين: وجود القتيل في المحلة والقرية يوجب القسامة، ولا تثبت القسامة عندهم في شيء من الصور السبع السابقة إلا هنا؛ لأنها عندهم هي الصورة التي حَكَمَ النبيّ صلى الله عليه وسلم فيها بالقسامة، ولا قسامةَ عندهم إلا إذا وُجِد القتيل، وبه أثرٌ، قالوا: فإن وُجد القتيل في المسجد حُلِّف أهلُ المحلة، ووجبت الدية في بيت المال، وذلك إذا ادَّعَوا على أهل المحلة.

وقال الأوزاعيّ: وجود القتيل في المحلة يوجب القسامة، وإن لم يكن عليه أثرٌ، ونحوه عن داود. هذا آخر كلام القاضي رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن ما ذهب إليه جمهور أهل العلم من العمل بالقسامة هو الحقّ؛ لظهور حجته، كما هو ظاهر لمن تأمّله بالإمعان.

ولقد أجاد الإمام ابن عبد البرّ رحمه الله حيث أنكر على الذين عارضوا حديث القسامة بآرائهم، فقال ما نصّه: أما الذين دفعوا القسامة جملة، وأنكروها، ولم يقولوا بها، فإنما ردّوها بآرائهم؛ لخلافها للسنّة المجتمع عليها عندهم:"البيّنة على الْمُدَّعي، واليمين على الْمُدَّعَى عليه" - وفي لفظ: "على من أنكر" - قال: والاعتراض بهذه على ردّ القسامة فاسدٌ؛ لأن الذي سنّ البيّنة على الْمُدَّعي، واليمين على المنكر في الأموال: هو الذي خَصَّ هذا المعنى في القسامة، وبيّنه لأمته صلى الله عليه وسلم، وكانت القسامة في الجاهليّة خمسين يمينًا على الدماء، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصارت سُنَّةً، بخلاف الأموال التي سَنَّ فيها يمينًا واحدةً، والأصول لا يُرَدّ بعضها ببعض، ولا يقاس بعضها على بعض، بل يوضع كل واحد منها موضعه، كالعرايا، والمزابنة، وكالمساقاة، وكالقراض، مع الإجارات، ومثل هذا كثير، وعلى المسلمين التسليم في كل ما

(1)

"إكمال المعلم" 5/ 448 - 451، و"شرح النوويّ" 11/ 143 - 146.

ص: 133

سَنَّ لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلافهم فيمن يُبدأ في القسامة:

ذهب معظم القائلين بالقسامة إلى أنها تبدأ بالمدعين، ثم تردّ إذا أبوا على المدعى عليهم، واحتجوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه:"البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه، إلا القسامة"، وبقول مالك: أجمعت الأئمة في القديم والحديث، على أن المدعين يبدأون في القسامة، ولأن جنبة المدعي إذا قويت بشهادة أو شبهة، صارت اليمين له، وههنا الشبهة قوية، وقالوا: هذه سُنَّة بحيالها، وأصل قائم برأسه؛ لحياة الناس، ورَدْع المعتدين، وخالفت الدعاوي في الأموال، فهي على ما ورد فيها، وكلٌّ أصلٌ، يُتَّبَع، ويُستعمل، ولا تُطرح سُنَّة لسُنَّة.

وأجابوا عن رواية سعيد بن عبيد - يعني: المذكورة في الباب التالي - بقول أهل الحديث: إنه وَهَمٌ من راويه، أسقط من السياق تبرئة المدعين باليمين؛ لكونه لم يَذكُر فيه ردّ اليمين، واشتملت رواية يحيى بن سعيد على زيادة من ثقة حافظ، فوجب قبولها، وهي تقضي على من لم يعرفها.

وقال القرطبي: الحديث دليلٌ على أن القسامة يبدأ فيها المدّعون بالأيمان، وهو قول معظم القائلين بأن القسامة يُستوجب بها الدم، وقال مالك: الذي أجمعت عليه الأمة في القديم والحديث: أن المدّعين يبدؤون في القسامة.

وخالف في ذلك الكوفيّون، وكثير من أهل البصرة، والمدنيين، والأوزاعيّ، وروي عن الزهريّ، وعمر بن الخطّاب رضي الله عنه، فقالوا: يُبدأ بالمدّعى عليهم، متمسّكين في ذلك بالأصل الذي دلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم للمدّعي:"شاهداك، أو يمينه"، وبأنه قد رُوي هذا الحديث من طرق، ذكرها أبو داود، والنسائيّ، ذكر فيها أنه صلى الله عليه وسلم طالب المدّعين بالبيّنة، فقالوا: ما لنا بيّنة، فقال:"فتحلف لكم يهود خمسين يمينًا"، وهذا هو الأصل المقطوع به في باب

(1)

"الاستذكار" 25/ 328 - 329.

ص: 134

الدعاوي الذي نبّه الشرع على حكمته بقوله: "لو أُعطي الناس بدعاويهم لاستحلّ رجالٌ دماء رجال، وأموالهم، ولكن البيّنة على المدّعي، واليمين على من أنكر".

وأجاب الجمهور عن ذلك بأن الصحيح المشهور المعروف من حديث حويّصة، ومُحيّصة تبدئة المدّعين بالأيمان، وهي رواية الأئمة الحفّاظ بالطرق المسندة المستفيضة، وما ذكروه مما رواه أبو داود، والنسائيّ مراسيل، وغير معروفة عند المحدّثين، وليست مما تُعارض بها الطرق الصحاح، فيجب ردّها بذلك.

وأجابوا عن التمسّك بالأصل بأن هذا الحكم أصل بنفسه؛ لحرمة الدماء، ولتعذّر إقامة البيّنة على القتل فيها غالبًا، فإن القاصد للقتل يقصد الخلوة، والْغِيلة، بخلاف سائر الحقوق، وبشهادة الروايات الصحيحة لهذا الأصل الخاصّ بهذا الحكم الخاصّ، وبقي ما عداه على ذلك الأصل الآخر، ثم ليس ذلك خروجًا عن ذلك الأصل بالكلّيّة، وذلك أن المدعَى عليه، إنما كان القول قوله؛ لقوة جانبه بشهادة الأصل له بالبراءة مما ادُّعِيَ عليه، وذلك المعنى موجود هنا، فإنه إنما كان القول قولَ المدّعين؛ لقوة جانبهم باللَّوث الذي يشهد لهم بصدقهم، فقد أعملنا ذلك الأصل، ولم نطرحه بالكليّة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الأرجح هو القول بأنه يُبدأ في القسامة بأيمان أولياء المقتول، ثم تردّ على أولياء القاتل، لقوّة حجته، فتأمل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في وجوب الْقَوَد بالقسامة:

قال القرطبيّ رحمه الله ما حاصله: ذهب معظم الحجازيين إلى أن القسامة، يُستَحقّ بها الدم، لقوله صلى الله عليه وسلم:"فتستحقّون دم صاحبكم"، وفي رواية:"فيُدفع إليكم برُمَّته"، وهو قول الزهريّ، وربيعة، والليث، ومالك، وأصحابه، والأوزاعيّ، وأبي ثور، وأحمد، وإسحاق، وداود، وأحد قولي الشافعيّ،

(1)

"المفهم" 5/ 10 - 11.

ص: 135

ورُوي ذلك عن ابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز رحمهم الله تعالى. قال أبو الزناد: قتلنا بالقسامة، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، إني لأراهم ألف رجل، فما اختلف منهم في ذلك اثنان.

وذهب الكوفيّون، وإسحاق، والشافعيّ في قوله الآخر إلى أنه إنما تجب به الدية، وهو قول الحسن البصريّ، والحسن بن حيّ، والبَتِّيَ، والنخعيّ، والشعبيّ. وروي عن أبي بكر، وعمر، وابن عبّاس، ومعاوية رضي الله عنهم، قال القرطبيّ: والحديث المتقدّم نصٌّ في موضع الخلاف، فلا ينبغي العدول عنه. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح" ما حاصله: استُدِلَّ بحديث الباب على ثبوت الْقَوَد في القسامة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فتستحقون قاتلكم"، وفي الرواية الأخرى:"دم صاحبكم"، قال ابن دقيق العيد: الاستدلال بالرواية التي فيها: "فيُدفَع بِرُمَّته"، أقوى من الاستدلال بقوله:"دم صاحبكم"؛ لأن قوله: "يُدفَع برُمَّته" لفظ مستعمل في دفع القاتل للأولياء للقتل، ولو أن الواجب الدية لَبَعُد استعمال هذا اللفظ، وهو في استعماله في تسليم القاتل أظهر، والاستدلال بقوله:"دم صاحبكم"، أظهر من الاستدلال بقوله:"قاتلكم"، أو "صاحبكم"؛ لأن هذا اللفظ لا بد فيه من إضمار، فيحتمل أن يُضمَر: ديةَ صاحبكم، احتمالًا ظاهرًا، وأما بعد التصريح بالدم، فيحتاج إلى تأويل اللفظ بإضمار: بدل دم صاحبكم، والإضمار على خلاف الأصل، ولو احتيج إلى إضمار، لكان حَمْله على ما يقتضي إراقة الدم أقرب، وأما من قال: يَحْتَمِل أن يكون قوله: "دم صاحبكم" هو القتيل، لا القاتل، فيردّه قوله:"دم صاحبكم"، أو "قاتلكم".

وتُعُقّب بأن هذه القصة واحدة، اختلفت ألفاظ الرواة فيها، على ما تقدم بيانه، فلا يستقيم الاستدلال بلفظ منها؛ لعدم تحقق أنه اللفظ الصادر من النبيّ صلى الله عليه وسلم.

واستَدَلَّ من قال بالقود أيضًا، بما أخرجه مسلم، والنسائيّ من طريق الزهريّ، عن سليمان بن يسار، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أناس من

(1)

"المفهم" 5/ 12.

ص: 136

أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن القسامة كانت في الجاهلية، وأقرّها النبيّ صلى الله عليه وسلم على ما كانت عليه من الجاهلية، وقضى بها بين ناس من الأنصار، في قتيل ادَّعَوه على يهود خيبر".

وهذا يَتوقَّف على ثبوت أنهم كانوا في الجاهلية يقتلون في القسامة، وعند أبي داود، من طريق عبد الرحمن بن بُجيد - بموحدة، وجيم، مصغرًا - قال: إن سهلًا - يعني: ابن أبي حثمة - وَهِمَ في الحديث: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كتب إلى يهود: إنه قد وجد بين أظهركم قتيل، فَدُوه، فكتبوا يحلفون: ما قتلناه، ولا علمنا قاتلًا، قال: فوداه من عنده"، وهذا ردّه الشافعي، بأنه مرسَل، ويعارض ذلك: ما أخرجه ابن مَنْدَهْ في "الصحابة" من طريق مكحول: حدثني عمرو بن أبي خزاعة، أنه قُتِل فيهم قتيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل القسامة على خُزاعة: بالله ما قتلنا، ولا علمنا قاتلًا، فحلف كل منهم عن نفسه، وغَرِم الدية، وعمرو مختلف في صحبته.

وأخرج ابن أبي شيبة بسند جيد إلى إبراهيم النخعيّ، قال: كانت القسامة في الجاهلية، إذا وُجد القتيل بين ظهري قوم، أقسم منهم خمسون خمسين يمينًا: ما قتلنا، ولا علمنا، فإن عجزت الأيمان، رُدّت عليهم، ثم عَقَلوا.

وتمسك من قال: لا يجب فيها إلا الدية، بما أخرجه الثوريّ في "جامعه"، وابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور، بسند صحيح، إلى الشعبيّ، قال: وُجد قتيل بين حيَّين من العرب، فقال عمر: قيسوا ما بينهما، فأيهما وجدتموه إليه أقرب، فأحلفوهم خمسين يمينًا، وأغرموهم الدية. وأخرجه الشافعي، عن سفيان بن عيينة، عن منصور، عن الشعبيّ:"أن عمر كتب في قتيل، وُجد بين خيران ووادعة، أن يقاس ما بين القريتين، فإلى أيهما كان أقرب، أُخرج إليه منهم خمسون رجلًا، حتى يوافوه مكة، فأدخلهم الحِجْر، فأحلفهم، ثم قضى عليهم الدية، فقال: حَقَنَت أيمانكم دماءكم، ولا يُطَلُّ دم رجل مسلم"، قال الشافعيّ: إنما أخذه الشعبي، عن الحارث الأعور، والحارث غير مقبول. انتهى.

قال الحافظ: وله شاهد مرفوع، من حديث أبي سعيد رضي الله عنه عند أحمد:

ص: 137

"أن قتيلًا وُجد بين حيين، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقاس إلى أيهما أقرب، فألقى ديته على الأقرب"، ولكن سنده ضعيف.

وقال عبد الرزاق في "مصنّفه": قلت لعبيد الله بن عمر الْعُمَريّ: أعلمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاد بالقسامة؟ قال: لا، قلت: فأبو بكر؟ قال: لا، قلت: فعمر؟، قال: لا، قلت: فَلِمَ تجترئون عليها؟، فسكت.

وأخرج البيهقي من طريق القاسم بن عبد الرحمن: أن عمر رضي الله عنه، قال: القسامة توجب العَقل، ولا تُسقط الدم، أفاده في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من احتجاج الفريقين على ثبوت القصاص بالقسامة، وعدمه، أن القول بثبوته هو الأرجح؛ لقوة أدلّته، كما سبق إيضاحه آنفًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): في اختلاف أهل العلم في عدد الحالفين في القسامة:

ذهب الأئمة: مالك، والليث، وربيعة، والثوريّ، والأوزاعيّ، وأحمد، وداود، وأهل الظاهر إلى وجوب كون العدد في القسامة خمسين، فلا يجزئ فيها أقلّ منهم، فإن كان المستحقّون خمسين، حلف كلّ واحد منهم يمينًا واحدة، فإن كانوا أقلّ من ذلك، أو نَكَل منهم من لا يجوز عفوه، رُدّت الأيمان عليهم بحسب عددهم، ولا يحلف في العمد أقلّ من اثنين من الرجال، لا يحلف فيه الواحد من الرجال، ولا النساءُ، يحلف الأولياء، ومن يستعين بهم الأولياء من العصبة خمسين يمينًا. واختُلف عن مالك فيما إذا زاد الأولياء على الخمسين، هل يحلف كلهم يمينًا، يمينًا؟ أويُقتصر منهم على خمسين؟، قال القرطبيّ: وهذا أولى؛ لقوله: "يحلف خمسون منكم"، و"من" للتبعيض، والخطاب لجميع الأولياء، فأفاد ذلك أنهم إذا حلف منهم خمسون أجزأ، أفاده في "المفهم"

(2)

.

وقال في "الفتح": اختُلِف في عدد الحالفين، فقال الشافعيّ: لا يجب الحق حتى يحلف الورثة خمسين يمينًا، سواء قَلُّوا، أم كثروا، فلو كان بعدد

(1)

"الفتح" 16/ 89 - 90.

(2)

"المفهم" 5/ 11 - 12.

ص: 138

الأيمان حلف كل واحد منهم يمينًا، وإن كانوا أقل، أو نَكَل بعضهم، رُدَّت الأيمان على الباقين، فإن لم يكن إلا واحد، حلف خمسين يمينًا واستحقّ، حتى لو كان من يرث بالفرض والتعصيب، أو بالنسب والولاء، حلف واستحق. وقال مالك: إن كان وليّ الدم واحدًا، ضُمَّ إليه آخر من العصبة، ولا يستعان بغيرهم، وإن كان الأولياء أكثر، حلف منهم خمسون، قال الليث: لم أسمع أحدًا يقول: إنها تنزل عن ثلاثة أنفس. وقال الزهريّ، عن سعيد بن المسيِّب: أول من نقص القسامة عن خمسين معاوية، قال الزهريّ: وقضى به عبد الملك، ثم ردّه عمر بن عبد العزيز إلى الأمر الأول. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: القول بتعيّن عدد الخمسين هو الأرجح؛ عملًا بظاهر النصّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة): في اختلاف أهل العلم فيمن يحلف في القسامة:

ذهبت طائفة إلى أنه لا يُشترط أن يكون من يحلف في القسامة رجلًا، ولا بالغًا؛ لإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم:"خمسين منكم"، وبه قال ربيعة، والثوريّ، والليث، والأوزاعيّ، وأحمد.

وذهب مالك إلى أنه لا مدخل للنساء في القسامة؛ لأن المطلوب في القسامة القتل، ولا يُسمع من النساء.

وذهب الشافعيّ إلى أنه لا يحلف في القسامة إلا الوارث البالغ؛ لأنها يمين، في دعوى حكمية، فكانت كسائر الأيمان، ولا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة، أفاده في "الفتح"

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: القول بعدم اشتراط الرجل والبالغ هو الأظهر؛ عملًا بإطلاق النصّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة التاسعة): في اختلاف أهل العلم: هل القسامة معقولة المعنى، أم لا؟:

قال في "الفتح": واختُلِف في القسامة، هل هي معقولة المعنى، فيقاس عليها، أو لا؟، والتحقيق أنها معقولة المعنى، لكنه خفيّ، ومع ذلك، فلا

(1)

"الفتح" 16/ 91.

(2)

"الفتح" 16/ 92.

ص: 139

يقاس عليها؛ لأنها لا نظير لها في الأحكام، وإذا قلنا أن المبدأ فيها يمين المدَّعِي، فقد خرجت عن سنن القياس، وشرط القياس أن لا يكون معدولًا به عن سنن القياس، كشهادة خزيمة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي القول أن الاختلاف في كون القسامة، هل هي معقولة المعنى، أم لا؟ مما لا جدوى تحته، فلا ينبغي الاشتغال بمثله؛ لأنه من فضول المسائل، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: ادَّعَى بعضهم أنّ قوله صلى الله عليه وسلم: "تحلفون، وتستحقون": استفهام إنكار، واستعظام للجمع بين الأمرين.

وتُعُقِّب بأنهم لم يبدأوا بطلب اليمين، حتى يصح الإنكار عليهم، وإنما هو استفهام تقرير، وتشريع، قاله في "الفتح"

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4335]

(. . .) - وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، أَنَّ مُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ سَهْلٍ انْطَلَقَا قِبَلَ خَيْبَرَ، فَتَفَرَّقَا فِي النَّخْلِ، فَقُتِلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَهْلٍ، فَاتَّهَمُوا الْيَهُودَ، فَجَاءَ أَخُوهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَابْنَا عَمَّهِ: حُوَيِّصَةُ، وَمُحَيِّصَةُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَتَكَلَّمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي أَمْرِ أَخِيهِ، وَهُوَ أَصْغَرُ مِنْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"كَبِّرِ الْكُبْرَ - أَوْ قَالَ - لِيَبْدَإِ الأَكْبَرُ"، فَتَكَلَّمَا فِي أَمْرِ صَاحِبِهِمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ

(3)

"، قَالُوا: أَمْرٌ لَمْ نَشْهَدْهُ، كَيْفَ نَحْلِفُ؟ قَالَ: "فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ قَوْمٌ كُفَّارٌ، قَالَ:

(1)

"الفتح" 16/ 92.

(2)

"الفتح" 16/ 92.

(3)

وفي نسخة: "فندفع برمّته".

ص: 140

فَوَدَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قِبَلِهِ، قَالَ سَهْلٌ: فَدَخَلْتُ مِرْبَدًا لَهُمْ يَوْمًا، فَرَكَضَتْنِي نَاقَةٌ، مِنْ تِلْكَ الإِبِلِ رَكْضَةً بِرِجْلِهَا، قَالَ حَمَّادٌ: هَذَا، أَوْ نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ) أبو سعيد البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 235)(خ م د س) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 75.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) تقدّم في الباب الماضي.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (قِبَلَ خَيْبَرَ) بكسر القاف، وفتح الموحّدة؛ أي: جهتها.

وقوله: (يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ) قال النوويّ رحمه الله: هذا مما يجب تأويله؛ لأن اليمين إنما تكون على الوارث خاصّة، لا على غيره من القبيلة، وتأويله عند أصحابنا أن معناه: يؤخذ منكم خمسون يمينًا، والحالف هم الورثة، فلا يحلف أحد من الأقارب غير الورثة، يَحْلِف كل الورثة ذكورًا كانوا أو إناثًا، سواء كان القتل عمدًا أو خطأً، هذا مذهب الشافعيّ، وبه قال أبو ثور، وابن المنذر، ووافقنا مالك فيما إذا كان القتل خطأً، وأما في العمد فقال: يحلف الأقارب خمسين يمينًا، ولا تحلف النساء، ولا الصبيان، ووافقه ربيعة، والليث، والأوزاعيّ، وأحمد، وداود، وأهل الظاهر، واحتجّ الشافعيّ بقوله صلى الله عليه وسلم:"تحلفون خمسين يمينًا، فتستحقّون صاحبكم"، فجعل الحالف هو المستحقّ للدية والقصاص، ومعلوم أن غير الوارث لا يستحق شيئًا، فدلّ أن المراد: حَلِف من يستحق الدية. انتهى

(1)

.

وقوله: (فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ) الرُّمّة - بضم الراء -: الحبل، والمراد هنا: الحبل الذي يُرْبَط في رقبة القاتل، ويُسَلَّم به إلى ولي القتيل.

وفي هذا دليل لمن قال: إن القسامة يثبت فيها القصاص، وقد سبق بيان مذهب العلماء فيه، وتأوله القائلون: لا قصاص، بأن المراد: أن يُسَلَّم ليستوفى منه الدية؛ لكونها ثبتت عليه.

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 149.

ص: 141

وفيه أن القسامة إنما تكون على واحد، وبه قال مالك، وأحمد، وقال أشهب وغيره: يحلف الأولياء على ما شاءوا، ولا يقتلون إلا واحدًا، وقال الشافعيّ: إن ادعوا على جماعة حلفوا عليهم، وثبتت عليهم الدية على الصحيح عند الشافعيّ، وعلى قولٍ أنه يجب القصاص عليهم، وإن حلفوا على واحد استحقّوا عليه وحده، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (مِنْ قِبَلِهِ) - بكسر القاف، وفتح الموحّدة - هو بمعنى قوله في الرواية الأخرى:"من عنده".

وقوله: (قَالَ سَهْلٌ) هو ابن أبي حثمة راوي القصّة.

وقوله: (فَدَخَلْتُ مِرْبَدًا لَهُمْ) الْمِرْبَد - بكسر الميم، وإسكان الراء، وفتح الموحّدة -: هو الموضع الذي تُجمَع فيه الإبل، وتُحبَس، والرَّبْد: الحبسُ.

وقوله: (فَرَكضَتْنِي نَاقَةٌ. . . إلخ)؛ أي: رَفَسَتني، يقال: رَكَضَ الرجل رَكْضًا، من باب قتل: ضرب برجله، ويتعدّى إلى مفعول، فيقال: رَكَضتُ الفرسَ: إذا ضربته؛ ليَعْدُوَ، ثم كثُر حتى أُسند الفعل إلى الفرس، واستُعْمِل لازمًا، فقيل: رَكَضَ الفرسُ، قال أبو زيد: يُستعمَل لازمًا، ومتعدّيًا، فيقال: رَكَضَ الفرسُ، وركضته، ومنهم من منع استعماله لازمًا، ولا وجه للمنع بعد نقل العدل، وركضَ البعيرُ: ضرب برجله، مثلُ رَمَحَ الفرسُ، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(2)

.

قال النوويّ رحمه الله: وأراد سهل رضي الله عنه بهذا الكلام أنه ضَبَط الحديث، وحَفِظَهُ حفظًا بليغًا. انتهى.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى بيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4336]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 149.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 237.

ص: 142

نَحْوَهُ، وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: فَعَقَلَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ، وَلَمْ يَقُلْ فِي حَدِيثِهِ: فَرَكَضَتْنِي نَاقَةٌ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ) بن لاحق الرَّقَاشيّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدّم في "الإيمان" 10/ 145.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية بشر بن المفضّل، عن يحيى بن سعيد هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "المجتبى"، فقال:

(4714)

- أخبرنا عَمْرُو بن عَلِيٍّ، قال: حدّثنا بِشْرٌ - وهو ابن الْمُفَضَّل - قال: حدّثنا يحيى بن سَعِيدٍ، عن بُشَيْرِ بن يَسَارٍ، عن سَهْلِ بن أبي حَثْمَةَ، أنَّ عَبْدَ اللهِ بن سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةَ بنَ مَسْعُودِ بن زَيْدٍ، أَنَّهُمَا أَتَيَا خَيْبَرَ، وهو يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ، فَتَفَرَّقَا لِحَوَائِجِهِمَا، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ على عبد اللهِ بن سَهْلٍ، وهو يَتَشَحَّطُ في دَمِهِ قَتِيلًا، فَدَفَنَهُ، ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَانْطَلَقَ عبد الرحمن بن سَهْلٍ، وَحُوَيِّصَةُ، وَمُحَيِّصَةُ إلى رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَهَبَ عبد الرحمن يَتَكَلَّمُ، وهو أَحْدَثُ الْقَوْم سِنًّا، فقال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم:"كَبِّرْ، الْكُبْرَ"، فَسَكَتَ، فَتَكَلَّمَا، فقال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَتَحْلِفُونَ بِخَمْسِينَ يَمِينًا مِنْكُمْ، فَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ، أو قَاتِلِكُمْ؟ "، قالوا: يا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ نَحْلِفُ، ولم نَشْهَدْ، ولم نَرَ؟ قال:"تُبَرِّئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا"، قالوا: يا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ نَأْخُذُ إيمان قَوْمٍ كُفَّارٍ؟ فَعَقَلَهُ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم من عِنْدِهِ. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4337]

(. . .) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ - يَعْنِي: الثَّقَفِيَّ - جَمِيعًا عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ).

(1)

"سنن النسائي - المجتبى" 8/ 9.

ص: 143

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، تقدّم قبل باب.

2 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل باب.

4 -

(عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ) ابن عبد المجيد، تقدّم أيضًا قبل باب.

والباقون ذُكروا قبله، و"القواريريّ" هو: عبيد الله بن عمر المذكور في السند الماضي.

[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد، ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

أخبرنا محمد بن منصور المكيّ، قال: حدّثنا سفيان، قال: حدّثنا يحيى بن سعيد، عن بُشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة، قال: وُجِد عبد الله بن سهل قتيلًا، فجاء أخوه، وعَمّاه: حُوَيِّصة، ومُحَيِّصة، وهما عَمّا عبد الله بن سهل، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب عبد الرحمن يتكلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الْكُبْرَ الْكُبْرَ"، قالا: يا رسول الله، إنا وجدنا عبد الله بن سهل قتيلًا في قَلِيب من قُلُب خيبر، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من تتهمون؟ " قالوا: نتّهم يهود، قال:"فتُقسمون خمسين يمينًا أن اليهود قتلته؟ " قالوا: وكيف نُقسم على ما لم نر؟ قال: "فتبرئكم اليهود بخمسين أنهم لم يقتلوه"، قالوا: وكيف نرضى بأيمانهم، وهم مشركون؟، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده. انتهى.

وأما رواية عبد الوهّاب الثقفيّ، فساقها أيضًا النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(6919)

- أخبرنا محمد بن بشار، قال: حدّثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني بُشير بن يسار، عن سهل بن أبي حَثْمة، أن عبد الله بن سهل الأنصاريّ، ومُحَيِّصة بن مسعود خرجا إلى خيبر، فتفرقا في حاجتهما، فقُتِل عبد الله بن سهل الأنصاريّ، فجاء مُحَيِّصة وعبد الرحمن أخو المقتول، وحُوَيِّصة بن مسعود، حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب عبد الرحمن يتكلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الْكُبْرَ، الْكُبْرَ"، فتكلم محيِّصة،

ص: 144

وحُويِّصة، فذكروا شأن عبد الله بن سهل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تحلفون خمسين يمينًا، فتستحقون قاتلكم؟ " قالا: كيف نحلف ولم نشهد، ولم نحضر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فتبرئكم يهود بخمسين يمينًا؟ " قالوا: يا رسول الله كيف نَقْبَل أيمان قوم كفار؟ قال: فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال بُشير بن يسار: قال لي سهل بن أبي حثمة: لقد ركضتني فريضة من تلك الفرائض، في مربد لنا. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4338]

(. . .) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَهْلِ بْنِ زَيْدٍ، وَمُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودِ بْنِ زَيْدٍ الأَنْصَارِيَّيْنِ، ثُمَّ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ، خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهِي يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ، وَأَهْلُهَا يَهُودُ، فَتَفَرَّقَا لِحَاجَتِهِمَا، فَقُتِلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَهْلٍ، فَوُجِدَ فِي شَرَبَةٍ مَقْتُولًا، فَدَفَنَهُ صَاحِبُهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَشَى أَخُو الْمَقْتُولِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةُ، وَحُوَيِّصَةُ، فَذَكَرُوا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَأْنَ عَبْدِ اللهِ، وَحَيْثُ قُتِلَ، فَزَعَمَ بُشَيْرٌ، وَهُوَ يُحَدِّثُ عَمَّنْ أَدْرَكَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: "تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ"، أَوْ "صَاحِبَكُمْ؟ "، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَا شَهِدْنَا، وَلَا حَضَرْنَا، فَزَعَمَ أَنَّهُ قَالَ: "فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ"، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كيْفَ نَقْبَلُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ؟ فَزَعَمَ بُشَيْرٌ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَقَلَهُ مِنْ عِنْدِهِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو أيوب المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 177)(ع) تقدّم في "الإيمان" 14/ 160.

والباقيان ذُكرا قبله.

(1)

"سنن النسائي الكبرى" 4/ 210.

ص: 145

[تنبيه]: ظاهر هذه الرواية الإرسال؛ لأن بُشير بن يسار تابعيّ لم يشهد القصّة، لكن قوله الآتي في أثناء الحديث:"وهو يُحدّث عمّن أدرك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" يدلّ على أنه متّصل؛ لأنه رواه عمن أدرك من الصحابة، وقد عيّن منهم سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه، كما في السند التالي، وعيّنه ورافع بن خَدِيج، كما سبق ذلك.

وقوله: (وَهِي يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ)؛ يعني أن خيبر يوم خروجهما أرض صلح، حيث صالح النبيّ صلى الله عليه وسلم أهلها على شطر ما يخرج منها.

وقوله: (فِي شَرَبَةٍ) - بفتح الشين المعجمة، والراء - وهو حوض يكون في أصل النخلة، وجمعه: شَرَبٌ، كثَمَرَة وثَمَر

(1)

.

وقوله: (فَزَعَمَ بُشَيْرٌ)؛ أي: قال؛ لأن الزعم يُطلق على الحقّ، وإن كان أكثر إطلاقاته على الباطل، كما قوله عز وجل:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُو} الآية [التغابن: 7].

وقوله: (عَمَّنْ أَدْرَكَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) تقدّم أنه ذكر منهم سهل بن أبي حَثْمة، ورافع بن خديج رضي الله عنهما.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى في الحديث المذكور أول الباب، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4339]

(. . .) - وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ، يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللهِ بْنُ سَهْلِ بْنِ زَيْدٍ انْطَلَقَ هُوَ، وَابْنُ عَمٍّ لَهُ، يُقَالُ لَهُ: مُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ زَيْدٍ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِ اللَّيْثِ إِلَى قَوْلِهِ: فَوَدَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ، قَالَ يَحْيَى: فَحَدَّثَنِي بُشَيْرُ بْنُ يَسَارٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ، قَالَ: لَقَدْ رَكَضَتْنِي فَرِيضَةٌ مِنْ تِلْكَ الْفَرَائِضِ بِالْمِرْبَدِ).

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 150.

ص: 146

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم قبل باب.

2 -

(هُشَيْمُ) بن بَشِير الواسطيّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ) فاعل "ساق" ضمير هُشيم.

وقوله: (فَرِيضَةٌ مِنْ تِلْكَ الْفَرَائِضِ) قال القرطبيّ رحمه الله: "الفريضة": واحدة الفرائض، وهي النُّوق المأخوذة في الزكاة والدية، وأصل الفرض: التقدير، ولا معنى لقول من قال: إنها المسنّة من الإبل. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: رواية هُشيم بن بَشِير، عن يحيى بن سعيد هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4340]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا بُشَيْرُ بْنُ يَسَارٍ الأَنْصَارِيُّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ الأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ نَفَرًا مِنْهُمُ انْطَلَقُوا إِلَى خَيْبَرَ، فَتَفَرَّقُوا فِيهَا، فَوَجَدُوا أَحَدَهُمْ قَتِيلًا، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَقَالَ فِيهِ: فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ، فَوَدَاهُ مِائَةً مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير، تقدّم أيضًا قبل بابين.

3 -

(سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ) الطائيّ، أبو الْهُذيل الكوفيّ، ثقة [6](خ م د ت س) تقدّم في "المقدّمة" 2/ 5.

[تنبيه]: قال الحافظ أبو عليّ الجيّانيّ الغسّانيّ رحمه الله في "التقييد": في نسخة أبي العلاء في هذا الإسناد: "سعد بن عبيد"، بسكون العين، والمحفوظ: سعيد، بياء بعد العين. انتهى

(2)

.

(1)

"المفهم" 5/ 17.

(2)

"تقييد المهمل" 3/ 871.

ص: 147

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث آخر الفوات الذي لم يسمعه إبراهيم بن سفيان من مسلم، وقد قدّمنا بيان أوله، وقولُه عَقِب هذا: حدّثني إسحاق بن منصور، قال: أخبرنا بشر بن عمر، قال: سمعت مالك بن أنس يقول: حدّثني أبو ليلى، هو أول سماع إبراهيم بن سفيان من مسلم، من هذا الموضع، هكذا هو في معظم النسخ، وفي نسخة الحافظ ابن عساكر أن آخر الفوات آخر حديث إسحاق بن منصور هذا الذي ذكرناه، وأول السماع قوله عقبه: حدّثني أبو الطاهر، وحرملة بن يحيى، والأول أصح. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم أول الفوات في "كتاب الوصايا"، وهو أول حديث فيه، قال:

[4196]

(1627) - حدّثنا أبو خيثمة زهير بن حرب، ومحمد بن المثنى الْعَنَزيُّ - واللفظ لابن المثنى - قالا: حدّثنا يحيى - وهو ابن سعيد القطان - عن عبيد الله، أخبرني نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما حقُّ امرئ مسلم، له شيءٌ، يريد أن يوصي فيه، يبيت ليلتين، إلا ووصيته مكتوبة عنده". انتهى

(2)

.

قال الشيخ ابن الصلاح رحمه الله: والفوات فيه مقدار عشرة أوراق. انتهى. وقد تقدّم البحث في هذا في "شرح المقدّمة"، فراجعه

(3)

تستفد علمًا جمًّا، والله تعالى وليّ التوفيق.

[تنبيه آخر]: رواية سعيد بن عُبيد، عن يحيى بن سعيد هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(6040)

- حدّثنا أبو أميّة الطرسوسيّ، قثنا أبو نعيم، قثنا سعيد بن عُبيد الطائيّ، عن بُشير بن يسار، أن رجلًا من الأنصار، يقال له: سهل بن أبي حَثْمة، أخبره أن نفرًا من قومه انطلقوا إلى خيبر، فتفرقوا فيها، فوجدوا أحدهم

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 151.

(2)

"صحيح مسلم" 5/ 70.

(3)

راجع: "قرّة عين المحتاج في شرح مقدّمة صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" 1/ 66 - 67.

ص: 148

قتيلًا، فقالوا للذين وجدوه عندهم: قتلتم صاحبنا، قالوا: ما قتلنا، ولا عَلِمنا، قال: فانطلقوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا نبيّ الله انطلقنا إلى خيبر، فوجدنا أحدنا قتيلًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الْكُبْرَ الْكُبْرَ"، فقال لهم: تأتون بالبينة على من قتل؟ قالوا: ما لنا بينة، قال:"فيحلفون لكم؟ "، قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكَرِهَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعطل

(1)

دمه فوداه بمائة من إبل الصدقة. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4341]

(. . .) - (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: حَدَّثَنِي أَبُو لَيْلَى بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ رِجَالٍ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ، مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ، فَأَخْبَرَ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ، وَطُرِحَ فِي عَيْنٍ، أَوْ فَقِيرٍ، فَأَتَى يَهُودَ، فَقَالَ: أنتُمْ وَاللهِ قَتَلْتُمُوهُ، قَالُوا: وَاللهِ مَا قَتَلْنَاهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ، فَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَقْبَلَ هُوَ، وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ لِيَتَكَلَّمَ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِمُحَيِّصَةَ:"كَبِّرْ كَبِّرْ"، يُرِيدُ السِّنَّ، فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ يُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ

(3)

"، فَكَتَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبُوا: إِنَّا وَاللهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِحُوَيِّصَةَ، وَمُحَيِّصَةَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ: "أَتَحْلِفُونَ، وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ "، قَالُوا: لَا، قَالَ: "فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودُ؟ "، قَالُوا: لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ

(4)

، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِائَةَ نَاقَةٍ، حَتَّى أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمُ الدَّارَ، فَقَالَ سَهْلٌ: فَلَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ).

(1)

كذا وقع في "مسند أبي عوانة"، والذي في "صحيح مسلم" بلفظ:"أن يبطل دمه"، من الإبطال، فتنبّه.

(2)

"مسند أبي عوانة" 4/ 62 - 63.

(3)

وفي نسخة: "بحرب من الله".

(4)

وفي نسخة: "ليسوا مسلمين".

ص: 149

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الكوسج، تقدّم قبل باب.

2 -

(بِشْرُ بْنُ عُمَرَ) بن الحكم الزهرانيّ الأزديّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [9](ت 7 أو 209)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 93.

3 -

(مَالِكُ بْنُ أنَسٍ) إمام دار الهجرة، تقدّم قبل باب.

4 -

(أَبُو لَيْلَى بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ) الأنصاريّ الحارثيّ المدنيّ، ويقال: اسمه عبد الله، ثقةٌ [4].

رَوَى عن سهل بن أبي حَثْمة، ورجال، وقيل: عن رجال من كبراء قومه.

وروى عنه مالك بن أنس، وقيل: عن مالك، عن أبي ليلى عبد الله بن سهل

(1)

، قال ابن سعد: أبو ليلى اسمه عبد الله بن سهل بن عبد الرحمن بن سهل بن كعب، من بني عامر بن عديّ بن جُشَم بن مَجْدعة بن الأوس، وهو الذي روى عنه مالك حديث القسامة، وقال البخاريّ: عبد الله بن سهل سمع عائشة، ورَوَى محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن سهل بن عبد الرحمن بن سهل بن أبي حثمة، عن عائشة، وجابر كذا نسبه، وقال ابن حبان في "الثقات": عبد الله بن سهل بن عبد الرحمن بن سهل أحد بني حارثة، كنيته أبو ليلى، وكذا قال مسلم، والنسائي، والدُّولابيّ، وغيرهم، وقال ابن أبي حاتم في "الكنى": سئل أبو زرعة عن أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن الحارثيّ، فقال أيضًا: ثقةٌ، وكان قد ذكر عبد الله بن سهل في الأسماء، وقال ابن عبد البرّ: أجمعوا على أنه ثقة.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

(1)

قال أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله في "التمهيد"(24/ 150): اختُلِف في اسم أبي ليلى هذا، فقيل: اسمه عبد الله بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل بن أبي حثمة، وقيل: عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل، وقيل: داود بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل، وقال فيه ابن إسحاق: أبو ليلى عبد الله بن سهل بن عبد الرحمن بن سهل بن أبي حثمة. انتهى.

ص: 150

و"سهل رضي الله عنه" ذُكر قبله.

[تنبيه]: وقع في بعض نسخ "صحيح مسلم" في هذا الإسناد قوله: "حدّثني أبو ليلى عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل"، فجعل "عبد الله" مرفوعًا بدلًا من "أبو ليلى" على أنه اسمه، ووقع في النسخة الهنديّة، وشرح الأبّيّ بلفظ:"حدّثني أبو ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل"، وهذا هو الذي وقع في "الموطّإ"، و"صحيح البخاريّ"

(1)

، والظاهر أن هذا هو الصواب، فليُتأمل، والله تعالى أعلم.

وقوله: (عَنْ رِجَالٍ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ) هكذا عند مسلم في هذه الرواية، والذي في "صحيح البخاري":"عن سهل بن أبي حثمة، أنه أخبره هو ورجال من كبراء قومه"، بعطف "رجالٌ" على ضمير سهل، والظاهر أن هذا هو الصواب، ومعناه أن سهل بن أبي حثمة، ورجالًا من كبراء قومه أخبروا أبا ليلى، وأما على ما هنا فيكون سهل بن أبي حثمة أخبر أبا ليلى راويًا عن رجال من كبراء قومه، وهذا مخالف للرواية الكثيرة التي مضت أن سهلًا هو الذي شهد القصّة، وأخبر بها، لا أنه أخذها من كبراء قومه، وقد تقدّم في رواية بُشير بن يسار أنه رواه عن سهل بن أبي حثمة، ورافع بن خَدِيج، وفي رواية أنه رواه عن سهل بن أبي حثمة، ورافع بن خَديج، وسُويد بن النعمان، فيَحْتمل أن هؤلاء أخبروا أيضًا أبا ليلى، ولم أر من تكلّم في هذا، والله تعالى أعلم بالصواب.

وقوله: (مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ) بفتح الجيم، وإسكان الهاء: الشدّة، والمشقّة.

وقوله: (فَأَتَى مُحَيِّصَةُ) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: أتاه آت، فأخبره بقتل عبد الله بن سهل.

وقوله: (وَطُرِحَ فِي عَيْنٍ، أَوْ فَقِيرٍ) قال النوويّ رحمه الله: الفقير هنا على لفظ الفقير في الآدميين، والفقير هنا: البئر القريبة الْقَعْر الواسعة الفم، وقيل: هو

(1)

راجع: "صحيح البخاريّ" في كتاب "الأحكام" رقم (7192) 17/ 23 بنسخة "الفتح"، و"الموطّأ" رقم (787)، و"التمهيد" 23/ 150.

ص: 151

الْحَفِيرة التي تكون حول النخل. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقيل: الفقير: هو الحفر الذي يُحفَر للفَسِيلة. انتهى

(2)

.

وقوله: (فَأَتَى يَهُودَ) بترك الصرف؛ للعلميّة والتأنيث، كما تقدّم قريبًا.

وقوله: (حَتَّى قَدِمَ) بكسر الدال، كتَعِبَ.

وقوله: (إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ)؛ أي: يُعطوا ديته، قال الفيّوميّ رحمه الله: وَدَى القاتلُ القتيلَ يَدِيهِ دِيَةً: إذا أعطى وَلِيَّهُ المالَ الذي هو بدلُ النفس، وفاؤها محذوفة، والهاء عِوَضٌ، والأصل: وِدْيَةٌ، مِثلُ وِعْدَةٌ، وفي الأمر: دِ القتيلَ، بدال مكسورة، لا غيرُ، فإن وقفت قلت: دِهْ، ثم سُمّي ذلك المال دِيَةً تسميةً بالمصدر، والجمع: دِيَاتٌ، مثل هِبَةٍ وهِبَات، وعِدَةٍ وعِدَات، واتَّدَى الوليُّ على افتعل: إذا أخذ الديةَ، ولم يَثْأَرْ بقتيله. انتهى

(3)

.

وقوله: (وَإِمَّا أَنْ يُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ) بضمّ حرف المضارعة، من الإيذان، وهو الإعلام، ووقع في بعض النسخ:"بحرب من الله".

قال النوويّ رحمه الله: قوله: "إما أن يدوا صاحبكم. . . إلخ": معناه: إن ثبت القتل عليهم بقسامتكم، فإما أن يَدُوا صاحبكم؛ أي: يدفعوا إليكم ديته، وإما أن يُعلمونا أنهم ممتنعون من التزام أحكامنا، فينتقض عهدهم، ويصيرون حربًا لنا، وفيه دليل لمن يقول: الواجب بالقسامة الدية دون القصاص. انتهى

(4)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه قريبًا، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف- رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4342]

(1670) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ أَبُو الطَّاهِرِ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ حَرْمَلَةُ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَسُلَيمَانُ بْنُ يَسَارٍ مَوْلَى مَيْمُونَةَ زَوْجِ

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 151 - 152.

(2)

"المفهم" 5/ 17.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 654.

(4)

"شرح النوويّ" 11/ 152 - 153.

ص: 152

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الأَنْصَارِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَقَرَّ الْقَسَامَةَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، ثقةٌ مكثرٌ [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.

2 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ مَوْلَى مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، من كبار [3] مات بعد المائة، وقيل: قبلها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 489.

3 -

(رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الأَنْصَارِ) لم يُسَمَّ.

والباقون تقدّموا قبل بابين.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ أنه قال: (أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن عوف (وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ مَوْلَى مَيْمُونَةَ) بنت الحارث رضي الله عنها، وقوله:(زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) بدل من "ميمونة"، تقدّمت ترجمتها في "الحيض" 1/ 687. (عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) لم أجد من ذكر اسمه، والله تعالى أعلم، وقوله: (مِنَ الأَنْصَارِ) متعلّق بحال مقدّر من "رجل"، أو صفة له بعد صفة، وفي رواية صالح بن كيسان، عن ابن شهاب الآتية: "عن أناس من الأنصار" (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَقَرَّ الْقَسَامَةَ) من التقرير؛ أي: أثبتها، وأبقى العمل بها (عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ)؛ أي في الزمن الذي قبل بعثته صلى الله عليه وسلم.

زاد في رواية ابن جريج التالية: "وقَضَى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أناس من الأنصار في قتيل ادّعَوْهُ على اليهود".

قال القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث حجة للجمهور على من أنكر العمل بالقسامة، فإن ظاهره: أنَّه صلى الله عليه وسلم وجدَ الناس على عمل، فلمَّا أسلموا، واستقلّ بتبليغ الأحكام أقرَّها على ما كانت عليه، فصار ذلك حكمًا شرعيًا يُعمل عليه، ويحكم به، لكن يجب أن يُبْحَث عن كيفية عملهم الذي كانوا يعملونه فيها،

ص: 153

وشروطهم التي اشترطوها، فَيُعْمَل بها من جهة إقرار النبيّ صلى الله عليه وسلم عليها، لا من جهة الاقتداء بالجاهلية فيها. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): أن حديث رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا في القسامة من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 4342 و 4343 و 4344](1670)، و (أبو داود) في "سننه"(4526)، و (النسائيّ) في "القسامة"(8/ 4 - 5) و"الكبرى"(4/ 206)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 62 و 5/ 375 و 432)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 201)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 65)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(10/ 304)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 122 و 130) و"المعرفة"(6/ 263)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4343]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ، وَزَادَ: وَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ نَاسٍ مِنَ الأَنْصَارِ فِي قَتِيلٍ ادَّعَوْهُ عَلَى الْيَهُودِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلهم تقدّموا في الباب، وقبل باب.

وقوله: (وَزَادَ) فاعل "زاد" ضمير ابن جُريج.

وقوله: (ادَّعَوْهُ) هو افتعال من دعا يدعو، فالدّالُ مشدّدة مفتوحة، وكذا العين مفتوحة، فما وقع في النسخة المطبوعة مضبوطًا بضمّ العين ضَبْطَ قلم فغلط، فتنبّه.

[تنبيه]: رواية ابن جُريج، عن ابن شهاب هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(1)

"المفهم" 5/ 18.

ص: 154

(16219)

- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو عمرو الحيريّ، ثنا عبد الله بن محمد، ثنا محمد بن رافع، ثنا عبد الرزاق، حدّثني ابن جريج، أخبرني ابن شهاب، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، عن رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرَّ القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية، فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ناس من الأنصار، في قتيل ادَّعَوه على اليهود. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4344]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ - وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ - حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، أَخْبَرَاهُ عَنْ نَاسٍ مِنَ الأَنْصَارِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ) الخلال، نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ له تصانيف [11](ت 242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

2 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

3 -

(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجة [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

4 -

(صَالِحُ) بن كيسان الْغِفَاريّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو الحارث المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [4] مات بعد (130) أو بعد (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

والباقون تقدّموا في الباب.

[تنبيه]: رواية صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(6046)

- حدّثنا عباس الدُّوريّ، قثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، قثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، أن أبا سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن

(1)

"سنن البيهقيّ الكبرى" 8/ 122.

ص: 155

يسار، أخبراه عن أناس من الأنصار، أن القسامة كانت في الجاهلية، فأقرّها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كانت عليه في الجاهلية، وقَضَى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أناس من الأنصار، في قتيل ادَّعَوْه على اليهود بالقسامة. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(2) - (بَابُ حُكْمِ الْمُحَارِبِينَ، وَالْمُرْتَدِّينَ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4345]

(1671) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ هُشَيْمٍ - وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى - قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، وَحُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ نَاسًا

(2)

مِنْ عُرَيْنَةَ، قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، فَاجْتَوَوْهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَخْرُجُوا إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ، فَتَشْرَبُوا

(3)

مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا"، فَفَعَلُوا، فَصَحُّوا، ثُمَّ مَالُوا عَلَى الرِّعَاءِ، فَقَتَلُوهُمْ، وَارْتَدُّوا عَنِ الإِسْلَامِ، وَسَاقُوا ذَوْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَبَعَثَ فِي أَثْرِهِمْ، فَأتِيَ بِهِمْ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي الْحَرَّةِ، حَتَّى مَاتُوا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ) الْبُنانيّ البصريّ، ثقةٌ [4](ت 130)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

2 -

(حُمَيْدٌ) الطويل، أبو عُبيدة البصريّ، ثقةٌ عابد [5](ت 2 أو 143)(ع) تقدم في "الطهارة" 23/ 639.

3 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِكِ) بن النضر بن ضمضم الأنصاريّ الخزرجيّ الصحابيّ الخادم الشهير، مات رضي الله عنه سنة (2 أو 93) وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 65.

(2)

وفي نسخة: "إن أُناسًا".

(3)

وفي نسخة: "فتشربون".

ص: 156

والباقون تقدّموا في البابين الماضيين.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّ نَاسًا) وفي بعض النسخ: "أن أُناسًا"، قيل: هما لغتان بمعنى واحد، وقيل: بل مختلفتان، قال الفيّوميّ رحمه الله في مادّة "نَوَس": النَّاسُ اسمٌ وُضِع للجمع، كالقوم، والرهط، وواحده: إِنْسَانٌ من غير لفظه، مشتقّ من نَاسَ يَنُوسُ: إذا تَدَلَّى، وتَحَرَّك، فيطلق على الجنّ والإنس، قال تعالى:{الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)} ثم فَسَّر النّاس بالجنّ والإنس، فقال:{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)} ، وسُمِّي الجنّ نَاسًا كما سُمُّوا رجالًا، قال تعالى:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 6]، وكانت العرب تقول: رأيت نَاسًا من الجن، ويُصَغَّر النَّاسُ على نُوَيْسٍ، لكن غَلَبَ استعماله في الإنس. انتهى.

وقال قبل ذلك في مادّة "أنس": والأُنَاسُ، قيل: فُعال، بِضَمّ الفَاءِ، مُشْتَقّ مِنَ الإنس، لكن يجوزُ حذف الهمزة تخفيفًا على غير قياس، فيبقى النَّاسَ، وعنِ الكسائي أن الأُنَاسَ، والنَّاسَ لُغَتانِ بِمَعْنًى واحد، وليس أحدهما مشتقًّا من الآخر، وهو الوجهُ؛ لأنهما مادَّتَانِ مُخْتلِفَتانِ في الاشْتِقَاق، كما سَيَأْتي في نوس، والحذف تَغْيِيرٌ، وهو خِلافٌ الأَصْلِ. انتهى

(1)

.

(مِنْ عُرَيْنَةَ) كذا في هذه الرواية، ورواية معاوية بن قرّة، ورواية همّام، ولفظها:"رهط من عُرينة"، وفي رواية حجاج، عن أبي رجاء:"أن نفرًا من عُكل ثمانيةً"، وفي رواية أيوب، عن أبي رجاء:"قومٌ من عُكل، أو عرينة"، وكلها عند مسلم في هذا الباب.

وقال في "الفتح" عند قوله: "من عُكل، أو عرينة": الشكّ فيه من حماد، وللبخاريّ في "المحاربين" عن قتيبة، عن حماد:"أن رهطًا من عُكل، أو قال: من عرينة، ولا أعلمه إلا قال: من عكل"، وله في "الجهاد" عن وهيب، عن أيوب:"أن رهطًا من عُكل"، ولم يشكّ، وكذا في "المحاربين" عن يحيى بن

(1)

"المصباح المنير" 1/ 26 و 2/ 630.

ص: 157

أبي كثير، وفي "الديات" عن أبي رجاء، كلاهما عن أبي قلابة، وله في "الزكاة" عن شعبة، عن قتادة، عن أنس:"أن ناسًا من عرينة"، ولم يشكّ أيضًا، وكذا لمسلم من رواية معاوية بن قُرّة، عن أنس، وفي "المغازي" عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة:"أن ناسًا من عكل وعرينة" بالواو العاطفة، وهو الصواب، ويؤيده ما رواه أبو عوانة، والطبريّ، من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أنس، قال:"كانوا أربعة من عرينة، وثلاثة من عكل"، ولا يخالف هذا ما وقع عند الشيخين:"أن رهطًا من عكل ثمانيةً"؛ لاحتمال أن يكون الثامن من غير القبيلتين، وكان من أتباعهم، فلم يُنسب. وغَفَل من نَسَب عِدّتهم ثمانية لرواية أبي يعلى، وهي عند الشيخين.

وزعم ابن التين تبعًا للداوديّ أن عرينة هم عُكلٌ، وهو غلطٌ، بل هما قبيلتان، متغايرتان: عُكل من عدنان، وعُرينة من قحطان.

و"عُكْل" - بضم العين المهملة، وإسكان الكاف -: قبيلة من تيم الرَّبَاب.

و"عُرينة" - بالعين، والراء المهملتين، والنون، مصغرًا -: حيّ من قضاعة، وحيّ من بَجِيلة، والمراد هنا الثاني، كذا ذكره موسى بن عقبة في "المغازي"، وكذا رواه الطبريّ من وجه آخر عن أنس.

ووقع عند عبد الرزاق من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد ساقط: أنهم من بني فزارة، وهو غلطٌ؛ لأن بني فزارة من مُضَر، لا يجتمعون مع عُكْل، ولا مع عُرينة أصلًا.

وذكر ابن إسحاق في "المغازي" أن قدومهم كان بعد غزوة ذي قَرَد، وكانت في جمادى الآخرة، سنة ست، وذكرها البخاريّ بعد الحديبية، وكانت في ذي القعدة منها، وذكر الواقديّ أنها كانت في شوال منها، وتبعه ابن سعد، وابن حبان، وغيرهما، والله أعلم.

وللبخاريّ في "المحاربين" من طريق وُهيب، عن أيوب أنهم كانوا في الصُّفّة قبل أن يطلبوا الخروج إلى الإبل. انتهى

(1)

.

(قَدِمُوا) بكسر الدال (عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، فَاجْتَوَوْهَا)؛ أي:

(1)

راجع: "الفتح" 1/ 573 - 574، كتاب "الوضوء" رقم (233).

ص: 158

كَرِهُوا المقام بها، وفي رواية أبي رجاء:"فبايعوه على الإسلام، فاستوخموا الأرض، وسَقُمَت أجسامهم".

قال ابن فارس: اجتويت البلد: إذا كَرِهت الْمُقام فيه، وإن كنت في نعمة، وقَيَّده الخطابيّ بما إذا تضرر بالإقامة، وهو المناسب لهذه القصّة، وقال القزاز: اجتووا؛ أي: لم يوافقهم طعامها، وقال ابن العربيّ: الجوي: داء يأخذ من الوباء، وفي رواية أبي رجاء المذكورة:"فاستوخموا الأرض"، قال: وهو بمعناه، وقال غيره: الجوي داء يصيب الجوف، وفي رواية للبخاريّ من طريق سعيد، عن قتادة، في هذه القصّة:"فقالوا: يا نبي الله، إنا كنا أهل ضَرْع، ولم نكن أهل رِيفٍ"، وله من رواية ثابت، عن أنس:"أن ناسًا كان بهم سُقْم قالوا: يا رسول الله، آونا، وأطعمنا، فلما صَحُّوا، قالوا: إن المدينة وَخْمَة".

قال الحافظ رحمه الله: والظاهر أنهم قَدِمُوا سِقَامًا، فلما صَحّوا من السقم كرهوا الإقامة بالمدينة؛ لوخمها، فأما السقم الذي كان بهم، فهو الهزال الشديد، والجهد من الجوع، فعند أبي عوانة، من رواية غيلان، عن أنس:"كان بهم هُزَال شديد"، وعنده من رواية أبي سعد، عنه:"مُصْفرّةٌ ألوانهم"، وأما الوَخْم الذي شَكَوا منه بعد أن صَحَّت أجسامهم، فهو من حُمَّى المدينة، كما عند أحمد، من رواية حميد، عن أنس.

(فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَخْرُجُوا إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ) جواب الشرط محذوف؛ أي: فافعلوا، وفي رواية حجاج، عن أبي رجاء التالية:"فقال: ألا تخرجون مع راعينا في إبله، فتصيبوا من أبوالها وألبانها، فقالوا: بلى"، وفي رواية أيوب، عن أبي رجاء:"فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلِقاح، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها، وألبانها".

قال النوويّ رحمه الله: في هذا الحديث أنها إبل الصدقة، وفي غير مسلم أنها لِقاح النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكلاهما صحيح، فكأن بعض الإبل للصدقة، وبعضها للنبيّ صلى الله عليه وسلم، واستدلّ أصحاب مالك، وأحمد بهذا الحديث أن بول ما يؤكل لحمه وروثه طاهران، وأجاب أصحابنا وغيرهم من القائلين بنجاستهما بأن شربهم الأبوال كان للتداوي، وهو جائز بكل النجاسات، سوى الخمر والمسكرات.

ص: 159

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن ما ذهب إليه مالك، وأحمد من طهارة الأبوال والأرواث هو الصحيح؛ لهذا الحديث، وأما قول الشافعيّة بالنجاسة فمما لا دليل عليه، وحملهم الحديث على أنه للتداوي، وهو يجوز بالنجاسات يردّه حديث:"إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم"، وهو حديث صحيح، فتبصَّر، والله تعالى أعلم.

قال: فإن قيل: كيف أَذِنَ لهم في شرب لبن الصدقة؟ فالجواب أن ألبانها للمحتاجين من المسلمين، وهؤلاء إذ ذاك منهم. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": يَحْتَمِل أن تكون اللام في "فأمر لهم بلقاح" زائدة، أو للتعليل، أو لِشِبْهِ المُلك، أو للاختصاص، وليست للتمليك، وعند أبي عوانة، من رواية معاوية بن قُرّة التي سيُخرج مسلم إسنادها:"إنهم بدؤوا بطلب الخروج إلى اللقاح، فقالوا: يا رسول الله، قد وقع هذا الوجع، فلو أذنت لنا، فخرجنا إلى الابل"، وللبخاريّ، من رواية وهيب، عن أيوب:"إنهم قالوا: يا رسول الله، ابْغِنا رِسْلًا"؛ أي: اطلب لنا لبنًا، قال:"ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بالذَّوْد"، وفي رواية أبي رجاء:"هذه نَعَمٌ لنا تخرج، فاخرجوا فيها".

و"اللقاح" - باللام المكسورة، والقاف، وآخره حاء مهملة -: النُّوق ذوات الألبان، واحدها لِقْحَةٌ - بكسر اللام، وإسكان القاف.

وقال أبو عمرو: يقال لها ذلك إلى ثلاثة أشهر، ثم هي لبون.

قال الحافظ رحمه الله: وظاهر ما مضى أن اللقاح كانت للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وصَرّح بذلك في رواية البخاريّ في "المحاربين"، فقال:"إلا أن تَلْحَقوا بإبل رسول الله صلى الله عليه وسلم"، والجمع بين هذا، وقوله في رواية الباب:"إلى إبل الصدقة"، أن إبل الصدقة كانت ترعى خارج المدينة، وصادف بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم بلقاحه إلى المرعى طلبُ هؤلاء النفر الخروج إلى الصحراء لشرب ألبان الإبل، فأمرهم أن يخرجوا مع راعيه، فخرجوا معه إلى الإبل، ففعلوا ما فعلوا، وظهر بذلك مصداق قوله صلى الله عليه وسلم:"إن المدينة تنفي خبثها"، وقد تقدّم في "كتاب الحجّ".

وذكر ابن سعد أن عدد لقاحه صلى الله عليه وسلم كانت خمس عشرة، وأنهم نحروا منها

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 154.

ص: 160

واحدةً يقال لها: الحنّاء، وهو في ذلك متابع للواقديّ، وقد ذكره الواقديّ في "المغازي" بإسناد ضعيف مرسل. انتهى

(1)

.

(فَتَشْرَبُوا) وفي بعض النسخ: "فتشربون"، بإثبات النون، ووجه الأول أنه معطوف على "تخرجوا"، فهو منصوب، ووجه الثاني أن يكون مستأنفًا؛ أي: فأنتم تشربون (مِنْ ألْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا") وفي رواية أبي رجاء عند البخاريّ: "فاخرجوا، فاشربوا من ألبانها وأبوالها"، بصيغة الأمر، وفي رواية شعبة، عن قتادة عند البخاريّ:"فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة، فيشربوا من ألبانها، وأبوالها".

قال في "الفتح": فأما شربهم ألبان الصدقة فلأنهم من أبناء السبيل، وأما شربهم لبن لقاح النبيّ صلى الله عليه وسلم فبإذنه المذكور، وأما شربهم البول فاحتجّ به من قال بطهارته، أما من الإبل فبهذا الحديث، وأما من مأكول اللحم فبالقياس عليه، وهذا قول مالك، وأحمد، وطائفة من السلف، ووافقهم من الشافعية ابن خزيمة

(2)

، وابن المنذر، وابن حبان، والإصطخريّ، والرويانيّ، وذهب الشافعيّ، والجمهور إلى القول بنجاسة الأبوال، والأرواث كلها من مأكول اللحم وغيره.

واحتجّ ابن المنذر لقوله بأن الأشياء على الطهارة حتى تثبت النجاسة، قال: ومن زَعَم أن هذا خاصّ بأولئك الأقوام فلم يُصب؛ إذ الخصائص لا تثبت إلا بدليل، قال: وفي ترك أهل العلم بيع الناس أبعار الغنم في أسواقهم، واستعمال أبوال الإبل في أدويتهم قديمًا وحديثًا من غير نكير دليل على طهارتها.

وتعقّبه صاحب "الفتح"، فقال: وهو استدلال ضعيف؛ لأن المختلَف فيه لا يجب إنكاره، فلا يدلّ ترك إنكاره على جوازه فضلًا عن طهارته.

(1)

"الفتح" 1/ 575 - 576.

(2)

عَدُّ ابن خزيمة، وابن حبّان، وابن المنذر من مقلدي الشافعيّ رأي باطل، وقول عاطل؛ فإن هؤلاء لا يقلّدون الشافعيّ، وإنما هم مجتهدون، متّبعون للأدلة، سواء وافقت قول الشافعيّ، أم لا، وقد فنّدت هذا القول في "شرح مقدّمة صحيح مسلم"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

ص: 161

قال الجامع عفا الله عنه: هذا التعقّب مما لا معنى له، فكيف لا يجب الإنكار على المختلف فيه، ولا سيما ما خالف الأدلّة؟ وكم من مسائل اختلف فيها، قد أنكرها أهل العلم، وردّوها، وهذا مما لا يخفى على من أمعن النظر، فتأمل بالإنصاف.

قال: وقد دلّ على نجاسة الأبوال كلها حديث أبي هريرة: الذي قدمناه قريبًا.

قال الجامع عفا الله عنه: أراد بحديث أبي هريرة: ما أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه"، وغيره عنه مرفوعًا:"استنزهوا من البول، فإن عامّة عذاب القبر منه"، واستدلاله بهذا غير صحيح، فإن المراد من البول في هذا الحديث بول الإنسان، فـ "أل" فيه للعهد، وقد أشار إلى ذلك البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، وأن المراد به بول الإنسان، بدليل حديث صاحبي القبرين.

والحاصل أن الأصحّ طهارة الأبوال والأرواث؛ لقوّة حجته، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفًى في "كتاب الطهارة"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(فَفَعَلُوا)؛ أي: ما أمرهم به، من شرب أبوالها، وألبانها (فَصَحُّوا) زاد في رواية وُهيب عند البخاريّ:"وسَمِنُوا"، وللإسماعيليّ من رواية ثابت:"ورجعت إليهم ألوانهم"(ثُمَّ مَالُوا عَلَى الرِّعَاءِ) وفي نسخة شرح النوويّ: "على الرعاة"، قال: وفي بعض الأصول المعتمدة: "على الرعاء"، وهما لغتان، يقال: راع ورُعاة، كقاض وقُضاة، وراع ورِعاء بكسر الراء، وبالمدّ، مثلُ صاحب وصِحاب. انتهى

(1)

. (فَقَتَلُوهُمْ، وَارْتَدُّوا عَنِ الإِسْلَامِ، وَسَاقُوا ذَوْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) الذّود - بفتح الذال المعجمة، وسكون الواو، آخره دال مهملة -: ما بين سن الثلاث إلى العشر من الابل، وهي مؤنّثة، والجمع أذواد

(2)

.

(فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية للبخاريّ: "فجاء الخبر في أول النهار"، وفي رواية:"فجاء الصريخ" بالخاء المعجمة، وهو فعيل بمعنى فاعل؛ أي: صرخ بالإعلام بما وقع منهم، وهذا الصارخ أحد الراعيين، كما ثبت في

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 154 - 155.

(2)

راجع: "المصباح" 1/ 211.

ص: 162

"صحيح أبي عوانة" من رواية معاوية بن قُرّة، عن أنس، وقد أخرج مسلم إسناده، ولفظه:"فقتلوا أحد الراعيين، وجاء الآخر قد جَزِعَ، فقال: قد قتلوا صاحبي، وذهبوا بالإبل"، واسم راعي النبيّ صلى الله عليه وسلم المقتول يسار - بياء تحتانية، ثم مهملة خفيفة - كذا ذكره ابن إسحاق في "المغازي"، ورواه الطبراني موصولًا من حديث سلمة بن الأكوع بإسناد صالح، قال:"كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم غلام، يقال له: يسار" زاد ابن إسحاق: "أصابه في غزوة بني ثعلبة"، قال سلمة:"فرآه يحسن الصلاة، فأعتقه، وبعثه في لِقاح له بالحرّة، فكان بها"، فذكر قصة العرنيين، وأنهم قتلوه، قال الحافظ: ولم أقف على تسمية الراعي الآتي بالخبر، والظاهر أنه راعي إبل الصدقة، ولم تختلف روايات البخاريّ في أن المقتول راعي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي ذِكره بالإفراد، وكذا لمسلم لكن عنده من رواية عبد العزيز بن صهيب، عن أنس:"ثم مالوا على الرُّعاة، فقتلوهم"، بصيغة الجمع، ونحوه لابن حبان من رواية يحيى بن سعيد، عن أنس، فَيَحْتَمِل أن إبل الصدقة كان لها رُعاة، فقُتل بعضهم مع راعي اللقاح، فاقتصر بعض الرواة على راعي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذكر بعضهم معه غيره، ويَحْتَمِل أن يكون بعض الرواة ذكره بالمعنى، فتجوّز في الإتيان بصيغة الجمع، وهذا أرجح؛ لأن أصحاب المغازي لم يذكر أحد منهم أنهم قتلوا غير يسار، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(فَبَعَثَ) زاد في رواية للبخاريّ: "الطَّلَبَ"(فِي أَثْرِهِمْ)؛ أي: بعدهم، يقال: جئتُ في أَثَره - بفتحتين -، وإِثْرِهِ - بكسر، فسكون -؛ أي: تبعته عن قُرب

(2)

.

وفي حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: "خيلًا من المسلمين، أميرهم كُرْز بن جابر الْفِهْريّ"، وكذا ذكره ابن إسحاق، والأكثرون، وهو بضم الكاف، وسكون الراء، بعدها زاي، وللنسائيّ من رواية الأوزاعيّ:"فبعث في طلبهم قافةً"، وهو جمع قائف.

وفي رواية معاوية بن قُرّة، عن أنس الآتية لمسلم: "وعنده شباب من

(1)

"الفتح" 1/ 578.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 4.

ص: 163

الأنصار، قريب من عشرين، فأرسلهم إليهم، وبعث معهم قائفًا يقتصّ أثرهم"، قال الحافظ: ولم أقف على اسم هذا القائف، ولا على اسم واحد من العشرين، لكن في مغازي الواقديّ: أن السرية كانت عشرين رجلًا، ولم يقل: من الأنصار، بل سَمَّى منهم جماعةً من المهاجرين، منهم بُريدة بن الْحُصَيب، وسلمة بن الأكوع الأسلميان، وجندب، ورافع ابنا مُكيث الْجُهنيان، وأبو ذرّ، وأبو رُهْم الغفاريان، وبلال بن الحارث، وعبد الله بن عمرو بن عوف، المزنيان، وغيرهم، والواقديّ لا يحتج به إذا انفرد، فكيف إذا خالف، لكن يَحْتَمِل أن يكون من لم يسمّه الواقديّ من الأنصار، فأطلق الأنصار تغليبًا، أو قيل للجميع: أنصار بالمعنى الأعمّ.

وفي مغازي موسى بن عقبة أن أمير هذه السرية سعيد بن زيد، كذا عنده بزيادة ياء، والذي ذكره غيره أنه سعد - بسكون العين - ابن زيد الأشهليّ، وهذا أيضًا أنصاريّ، فَيَحْتَمِل أنه كان رأس الأنصار، وكان كُرز أمير الجماعة.

وروى الطبري وغيره من حديث جرير بن عبد الله البجليّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعثه في آثارهم، لكن إسناده ضعيف، والمعروف أن جريرًا تأخر إسلامه عن هذا الوقت بمدة، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(فَأُتِيَ بِهِمْ)؛ أي: إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أُسارى، وفي رواية للبخاريّ:"فلما ارتفع النهار جيء بهم"؛ أي: فأدركوا في ذلك اليوم، فأُخذوا، فلما ارتفع النهار جيء بهم أسارى.

(فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ) وفي رواية البخاريّ: "فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم"، قال الداوديّ رحمه الله: يعني قطع يَدَيْ كلِّ واحد ورجليه، وتعقّبه الحافظ بأنه تردّه رواية الترمذيّ:"من خلاف"، وكذا ذكره الإسماعيليّ، عن الفريابيّ، عن الأوزاعيّ، بسنده.

(وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ) بتخفيف الميم، واللام، وفي رواية أبي قلابة:"وَسُمِرت أعينهم"، قال الخطابيّ: السَّمْلُ: فَقْءُ العين بأي شيء كان، قال أبو ذؤيب الْهُذَليّ:

(1)

"الفتح" 1/ 578 - 579.

ص: 164

وَالْعَيْنُ بَعْدَهُمُ كَأَنَّ حِدَاقَهَا

سُمِلَتْ بِشَوْكٍ فَهْيَ عُورٌ تَدْمَعُ

قال: والسَّمْر لغة في السَّمْل، ومخرجهما متقارب، قال: وقد يكون من المسمار، يريد أنهم كُحِلوا بأميال، قد أُحميت، قال الحافظ: قد وقع التصريح بالمراد عند البخاريّ من رواية وهيب، عن أيوب، ومن رواية الأوزاعيّ، عن يحيى، كلاهما عن أبي قلابة، ولفظه:"ثم أَمَرَ بمسامير، فأُحميت، فكَحَلهم بها"، فهذا يوضح ما تقدم، ولا يخالف ذلك رواية السَّمْل؛ لأنه فقء العين بأي شيء كان كما مضى. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "وسمل أعينهم" هكذا هو في معظم النسخ: "سَمَلَ" باللام، وفي بعضها:"سَمَرَ" بالراء، والميمُ مخفَّفة، وضبطناه في بعض المواضع في البخاريّ:"سَمَّرَ" بتشديد الميم، ومعنى "سَمَلَ" باللام: نَقّاها، وأذهب ما فيها، ومعنى "سَمَرَ" بالراء: كَحَلها بمسامير مَحْمِيّة، وقيل: هما بمعنى. انتهى

(2)

.

(وَتَرَكَهُمْ فِي الْحَرَّةِ) - بفتح الحاء المهملة، وتشديد الراء -: أرض ذات حجارة سُود، معروفة بالمدينة، وإنما أُلقوا فيها؛ لأنها قُرْبَ المكان الذي فَعَلوا فيه ما فعلوا (حَتَّى مَاتُوا) وفي رواية حجاج، عن أبي رجاء:"ثم نُبِذوا في الشمس حتى ماتوا"، وفي رواية أيوب، عن أبي رجاء:"وأُلقوا في الحرّة، يستسقون، فلا يُسقون"، وفي رواية شعبة عن قتادة عند البخاريّ:"يَعَضُّون الحجارة"، وعنده من رواية ثابت:"قال أنس: فرأيت الرجل منهم يَكْدُم الأرض بلسانه حتى يموت"، ولأبي عوانة:"يَعَضّ الأرض ليجد بَرْدَها، مما يجد من الحرّ والشدّة".

وزعم الواقديّ أنهم صُلِبُوا، والروايات الصحيحة ترُدّه، لكن عند أبي عوانة من رواية أبي عقيل، عن أنس:"فصَلَب اثنين، وقَطَع اثنين، وسَمَل اثنين"، كذا ذكر ستة فقط، قال الحافظ رحمه الله: فإن كان محفوظًا، فعقوبتهم كانت مُوَزَّعةً.

ومال جماعة، منهم ابن الجوزيّ إلى أن ذلك وَقَع عليهم على سبيل

(1)

"الفتح" 1/ 579 - 580.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 155.

ص: 165

القصاص؛ لِمَا عند مسلم من حديث سليمان التيميّ، عن أنس رضي الله عنه:"إنما سَمَل النبيّ صلى الله عليه وسلم أعينهم؛ لأنهم سَمَلوا أعين الرعاة"، وقَصَّر من اقتصر في عزوه للترمذيّ، والنسائيّ.

وتعقبه ابن دقيق العيد بأن المُثلة في حقهم وقعت من جهات، وليس في الحديث إلا السمل، فيحتاج إلى ثبوت البقية.

قال الحافظ: كأنهم تمسكوا بما نقله أهل المغازي أنهم مَثّلوا بالراعي.

وذهب آخرون إلى أن ذلك منسوخ، قال ابن شاهين - عن حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما في النهي عن المثلة -: هذا الحديث ينسخ كلَّ مثلة.

وتعقبه ابن الجوزيّ بأن ادّعاء النسخ يحتاج إلى تاريخ.

قال الحافظ: يدل عليه ما رواه البخاريّ في "الجهاد" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في النهي عن التعذيب بالنار بعد الإذن فيه، وقصة العرنيين قبل إسلام أبي هريرة رضي الله عنه، وقد حضر الإذن، ثم النهي، وروى قتادة، عن ابن سيرين أن قصتهم كانت قبل أن تُنْزَل الحدود، ولموسى بن عقبة في "المغازي": وذكروا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى بعد ذلك عن المُثلة بالآية التي في "سورة المائدة"، وإلى هذا مال البخاريّ، وحكاه إمام الحرمين في "النهاية" عن الشافعيّ.

واستَشْكَل القاضي عياض رحمه الله عدم سقيهم الماء للإجماع على أن من وجب عليه القتل، فاستسقى لا يُمنع.

وأجاب بأن ذلك لم يقع عن أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا وقع منه نهي عن سقيهم. انتهى.

وتعقّبه الحافظ، فقال: وهو ضعيف جدًّا؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم اطَّلَع على ذلك، وسكوته كاف في ثبوت الحكم.

وأجاب النوويّ: بأن المحارب المرتدّ لا حرمة له في سقي الماء، ولا غيره، ويدلّ عليه أن من ليس معه ماء إلا لطهارته، ليس له أن يسقيه للمرتد، ويتيممَ، بل يستعمله، ولو مات المرتد عطشًا.

وقال الخطابيّ رحمه الله: إنما فَعَل النبيّ صلى الله عليه وسلم بهم ذلك؛ لأنه أراد بهم الموت بذلك.

ص: 166

وقيل: إن الحكمة في تعطيشهم؛ لكونهم كفروا نعمة سقي ألبان الإبل التي حصل لهم بها الشفاء من الجوع، والوخم، ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا بالعطش على من عَطَّش آل بيته في قصة رواها النسائيّ، فَيَحْتَمِل أن يكونوا في تلك الليلة مَنَعُوا إرسال ما جرت به العادة من اللبن الذي كان يُراح به إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم من لِقاحه في كل ليلة، كما ذكر ذلك ابن سعد، والله أعلم. انتهى

(1)

.

زاد في رواية البخاريّ: "قال أبو قلابة: فهؤلاء سَرَقُوا، وقَتَلُوا، وكَفَرُوا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله".

فقوله: قال أبو قلابة: "فهؤلاء سرقوا"؛ أي: لأنهم أخذوا اللقاح من حِرز مثلها، وهذا قاله أبو قلابة استنباطًا، وسيأتي البحث فيه - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 4345 و 4346 و 4347 و 4348 و 4349 و 4350 و 4351 و 4352](1671)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(233) و"الجهاد"(3018) و"المغازي"(4193) و"التفسير"(4610) و"الطبّ"(5685) و"الحدود"(6802 و 6803 و 6804 و 6805) و"الديات"(6899)، و (أبو داود) في "الحدود"(4364)، و (الترمذيّ) في "الطهارة"(72 و 73) و"الأطعمة"(1845) و"الطبّ"(2042)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 160 و 161) و"تحريم الدم"(7/ 93 و 94 و 95 و 96) و"الكبرى"(1/ 130 و 2/ 293 و 294 و 295 و 296 و 4/ 371)، و (ابن ماجه) في "الحدود"(2578)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(17132)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 268)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 75)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 161 و 186 و 198 و 107 و 205)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 180)، و (البزّار) في "مسنده"(14/ 36)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6/ 63 و 224 و 465 و 7/ 12)،

(1)

"الفتح" 1/ 341.

ص: 167

و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 78 و 85 و 88)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1386 و 1387 و 1388)، و (الطبرانيّ) في "الصغير"(1/ 165) و"الأوسط"(9/ 29)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 131)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 62 و 282 و 9/ 69 و 10/ 4) و"الصغرى"(7/ 329 و 8/ 388)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(2569)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان قدوم الوفود على الإمام، ونظره في مصالحهم، ومراعاة أحوالهم بما يَصلح لهم، من طعام، أو شراب، أو غير ذلك.

2 -

(ومنها): أن الإمام مالكًا استدلّ بهذا الحديث على طهارة بول ما يؤكل لحمه، وبه قال أحمد، ومحمد بن الحسن، والإصطخريّ، والروياني الشافعيان، وهو قول الشعبيّ، وعطاء، والنخعيّ، والزهريّ، وابن سيرين، والحكم، والثوريّ، وغيرهم

(1)

، وهو مذهب الإمام البخاريّ، والنسائيّ، وهو المذهب الصحيح، وقد استوفيت البحث في هذا في "كتاب الطهارة"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

3 -

(ومنها): مشروعية الطبّ والتداوي بألبان الإبل وأبوالها.

4 -

(ومنها): أن كل جسد يُطَبّ بما اعتاده، ويلائمه إذا كان طاهرًا.

5 -

(ومنها): مشروعيّة قتل الجماعة بالواحد، سواء قتلوه غِيلةً، أو حِرَابةً، إن قلنا: إن قتلهم كان قصاصًا.

6 -

(ومنها): مشروعية المماثلة في القصاص، وليس ذلك من المُثلة المنهيّ عنها.

7 -

(ومنها): جواز عقوبة المحاربين، وهو موافق لقوله تعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية [المائدة: 33]، وهل كلمة "أو" فيها للتخيير، أو للتنويع؟ قولان

(2)

.

8 -

(ومنها): ثبوت حكم المحاربة في الصحراء، فإنه صلى الله عليه وسلم بعث في طلبهم لمّا بلغه فِعْلهم بالرعاء، واختَلَف العلماء في ثبوت أحكامها في

(1)

راجع: "عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" للعلامة العينيّ 5/ 92.

(2)

"عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 5/ 94.

ص: 168

الأمصار، فنفاه أبو حنيفة، وأثبته مالك، والشافعي

(1)

.

9 -

(ومنها): مشروعيّة قتل المرتدّ من غير استتابة، وفي كونها واجبة، أو مستحبة خلاف مشهور، وقيل: هؤلاء حاربوا، والمرتدّ إذا حارب لا يستتاب؛ لأنه يجب قتله، فلا معنى للاستتابة.

10 -

(ومنها): جواز استعمال أبناء السبيل إبل الصدقة في الشرب، وفي غيره قياسًا عليه بإذن الإمام.

11 -

(ومنها): مشروعيّة العمل بقول القائف، وللعرب في ذلك المعرفة التامة

(2)

.

12 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: هذا الحديث أصل في عقوبة المحاربين، وهو موافق لقوله تعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)} [المائدة: 33].

قال ابن بطال: رحمه الله: ذهب البخاريّ إلى أن آية المحاربة نزلت في أهل الكفر والردّة، وساق حديث العرنيين، وليس فيه تصريح بذلك، ولكن أخرج عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة حديث العرنيين، وفي آخره: قال: بلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33]. ووقع مثله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وممن قال ذلك: الحسن، وعطاء، والضحاك، والزهري، قال: وذهب جمهور الفقهاء إلى أنها نزلت فيمن خرج من المسلمين، يسعى في الأرض بالفساد، ويقطع الطريق، وهو قول مالك، والشافعيّ، والكوفيين، ثم قال: وليس هذا منافيًا للقول الأول؛ لأنها وإن نزلت في العرنيين بأعيانهم، لكن لفظها عام يدخل في معناه كل من فعل مثل فعلهم، من المحاربة والفساد.

قال الحافظ رحمه الله: بل هما متغايران، والمرجع إلى تفسير المراد

(1)

راجع: "عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 5/ 94.

(2)

راجع: "الفتح" 1/ 582، كتاب "الوضوء" رقم (233).

ص: 169

بالمحاربة، فمن حملها على الكفر خص الآية بأهل الكفر، ومن حملها على المعصية عمَّم، ثم نقل ابن بطال عن إسماعيل القاضي، أن ظاهر القرآن، وما مضى عليه عمل المسلمين، يدل على أن الحدود المذكورة في هذه الآية، نزلت في المسلمين، وأما الكفار فقد نزل فيهم:{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} إلى آخر الآية [محمد: 4]، فكان حكمهم خارجًا عن ذلك. وقال تعالى في آية المحاربة:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} الآية [المائدة: 34]، وهي دالة على أن من تاب من المحاربين يسقط عنه الطلب بما ذُكر بما جناه فيها، ولو كانت الآية في الكافر لنفعته المحاربة، ولكن إذا أحدث الحرابة مع كفره اكتفينا بما ذُكر في الآية، وسَلِمَ من القتل، فتكون الحرابة خفَّفت عنه القتل.

وأجيب عن هذا الإشكال بأنه لا يلزم من إقامة هذه الحدود على المحارب المرتدّ مثلًا، أن تسقط عنه المطالبة بالعود إلى الإسلام، أو القتل، وقد نقل البخاريّ في تفسير "سورة المائدة"، عن سعيد بن جبير أن معنى المحاربة لله: الكفر به. وأخرج الطبريّ من طريق رَوْح بن عبادة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس في آخر قصة العرنيين، قال: فذُكر لنا أن هذه الآية نزلت فيهم: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33]، وأخرج نحوه من وجه آخر عن أنس. وأخرج الإسماعيلي هناك من طريق مروان بن معاوية، عن معاوية بن أبي العباس، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} قال: هم من عُكْل.

قال الحافظ رحمه الله: والمعتمد أن الآية نزلت أولًا فيهم، وهي تتناول بعمومها من حارب من المسلمين بقطع الطريق، لكن عقوبة الفريقين مختلفة، فإن كانوا كفارًا يخيَّر الإمام فيهم إذا ظَفِرَ بهم، وإن كانوا مسلمين فعلى قولين: أحدهما: وهو قول الشافعيّ، والكوفيين: يُنظر في الجناية، فمن قَتل قُتل، ومن أخذ المال قُطع، ومن لم يقتل ولم يأخذ مالًا نُفي، وجعلوا "أو" للتنويع. وقال مالك: بل هي للتخيير، فيتخيَّر الإمام في المحارب المسلم بين الأمور

ص: 170

الثلاثة، ورجَّح الطبري الأول، ذكره في "الفتح"

(1)

.

[تنبيه]: أشكل قوله في آية المحاربين: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)} مع حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الدالّ على أن من أقيم عليه الحد في الدنيا كان له كفارةً، فإن ظاهر الآية أن المحارب يُجمَع له الأمران.

[والجواب]: أن حديث عبادة رضي الله عنه مخصوص بالمسلمين، بدليل أن فيه ذكرَ الشرك، مع ما انضمّ إليه من المعاصي، فلما حصل الإجماع على أن الكافر إذا قُتل على شركه، فمات مشركًا أن ذلك القتل لا يكون كفارة له، قام إجماع أهل السُّنَّة على أن من أقيم عليه الحد، من أهل المعاصي، كان ذلك كفارةً لإثم معصيته، والذي يَضْبِط ذلك قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية [النساء: 48]، والله أعلم، ذكره في "الفتح"

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد ذكرتُ في "شرح النسائيّ"

(3)

عشر مسائل تتعلّق بالآية المذكورة، فراجعها تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

* وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4346]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ - وَاللَّفْظُ لأَبِي بَكْرٍ - قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ، حَدَّثَنِي أَبُو رَجَاءٍ مَوْلَى أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، حَدَّثَنِي أَنَسٌ أَنَّ نَفَرًا مِنْ عُكْلٍ ثَمَانِيَةً، قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَايَعُوهُ عَلَى الإِسْلَامِ، فَاسْتَوْخَمُوا الأَرْضَ، وَسَقُمَتْ أَجْسَامُهُمْ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"أَلَا تَخْرُجُونَ مَعَ رَاعِينَا، فِي إِبِلِهِ، فَتُصِيبُونَ مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا"، فَقَالُوا: بَلَى، فَخَرَجُوا، فَشَرِبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَصَحُّوا، فَقَتَلُوا الرَّاعِيَ، وَطَرَدُوا الإِبِلَ

(4)

، فَبَلغَ ذَلِكَ

(1)

راجع: "الفتح" 14/ 66 - 67.

(2)

"الفتح" 15/ 594، كتاب "الحدود" رقم (6805).

(3)

راجع: "ذخيرة العقبى في شرح المجتبى" 31/ 330 - 340.

(4)

وفي نسخة: "واطّردوا الإبل".

ص: 171

رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ، فَأُدْرِكُوا، فَجِيءَ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ، فَقُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ، وَسُمِرَ أَعْيُنُهُمْ، ثُمَّ نُبِذُوا فِي الشَّمْسِ، حَتَّى مَاتُوا، وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاحِ فِي رِوَايَتِهِ: وَاطَّرَدُوا النَّعَمَ، وَقَالَ: وَسُمِّرَتْ أَعْيُنُهُمْ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ) الدُّولابيّ البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 227)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.

2 -

(ابْنُ عُلَيَّةَ) هو: إسماعيل بن إبراهيم، تقدّم قبل بابين.

3 -

(حَجَّاجُ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ) ميسرة، أو سالم الصوّاف، أبو الصَّلْت الكنديّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [6](ت 143)(ع) تقدم في "الإيمان" 52/ 318.

4 -

(أَبُو رَجَاءٍ مَوْلَى أَبِي قِلَابَةَ) اسمه سلمان الْجَرْميّ البصريّ، ثقةٌ [6].

رَوَى عن مولاه، وعمر بن عبد العزيز، وروى عنه أيوب، وحجاج الصوّاف، وابن عون، وحميد الطويل.

وثّقه العجليّ، وذكره ابن حبان في "الثقات"،

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، هذا الحديث في قصّة العرنيين، فقط.

5 -

(أَبُو قِلَابَةَ) عبد الله بن زيد بن عمرو الْجَرْميّ، تقدّم قبل بابين.

والباقيان ذُكرا في الباب.

قوله: (مِنْ عُكْلٍ) - بضم العين المهملة، وسكون الكاف، وآخره لام - وعكل خمس قبائل، وذلك أن عوف بن عبد مناف وَلَد قيسًا، فولد قيس وائلًا، وعوانة، فولد وائل عوفًا، وثعلبة، فولد عوف بن وائل الحارث، وجُشَمًا، وسعدًا، وعليًّا، وقيسًا، وأمهم بنت ذي اللحية؛ لأنه كان مطائلًا لحيته، فحضنتهم أمة سوداء، يقال لها: عُكْل، كذا قاله الكلبي وغيره، ويقال: عُكْل امرأة حَضَنت ولد عوف بن إياس بن قيس بن عوف بن عبد مناة بن أدّ بن طابخة.

وزعم السمعانيّ أنهم بطن من غَنْم، ورَدّ ذلك عليه أبو الحسن الجزري بأن عكل امرأة من حِمْير، يقال لها: بنت ذي اللحية، تزوجها عوف بن قيس بن

ص: 172

وائل بن عوف بن عبد مناة بن أدّ، فولدت له سعدًا، وجُشَمًا وعليًا، ثم هلكت الحميرية، فحضنت عكل ولدها، وهم من جملة الرَّبَاب تحالفوا على بني تميم.

وقوله: (فَاسْتَوْخَمُوا الأَرْضَ)؛ أي: استثقلوها، ولم يوافق هواؤها أبدانهم.

وقوله: (وَسَقُمَتْ أَجْسَامُهُمْ) بكسر القاف، وضمّها، يقال: سَقِمَ سَقَمًا، من باب تَعِب: طال مرضه، وسَقُم سُقمًا، من باب قَرُب، فهو سقيم، والجمع سِقَام، مثلُ كريم وكِرام، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (فَصَحُّوا) زاد في رواية: "وَسَمِنُوا"، وفي رواية:"ورجعت إليهم ألوانهم".

وقوله: (وَطَرَدُوا الإِبِلَ)؛ أي: ساقوها، قال المجد رحمه الله: الطَّرْد - بفتح، فسكون، ويُحرّك: الإبعاد، وضمّ الإبل من نواحيها. انتهى

(2)

.

وقوله: (فَأَمَرَ بِهِمْ)؛ أي: أمر صلى الله عليه وسلم بقطعهم.

وقوله: (وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاحِ فِي رِوَايَتِهِ. . . إلخ) بيان لاختلاف شيخيه: محمد بن الصبّاح، وابن أبي شيبة، فابن أبي شيبة قال:"وطردوا النَّعم" بتخفيف الطاء، من الطرد ثلاثيًّا، وسُمِرت أعينهم - بتخفيف الميم - من السمر، مبنيًّا للمفعول، وابن الصبّاح قال:"واطَّردوا النعم"، بتشديد الطاء، من الاطّراد، من باب الافتعال، وكذا قال:"وَسُمِّرَتْ أَعْيُنُهُمْ" بتشديد الميم، من التسمير مبنيًّا للمفعول أيضًا.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4347]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ مَوْلَى أَبِي قِلَابَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو

(1)

"المصباح المنير" 1/ 280.

(2)

"القاموس المحيط" ص 796.

ص: 173

قِلَابَةَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَوْمٌ مِنْ عُكْلٍ، أَوْ عُرَيْنَةَ، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِلِقَاحٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، بِمَعْنَى حَدِيثِ حَجَّاجِ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ، قَالَ: وَسُمِرَتْ أَعْيُنُهُمْ، وَأُلْقُوا فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ، فَلَا يُسْقَوْنَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن مروان الْحَمّال، أبو موسى البغداديّ البزّاز، ثقةُ [10](ت 243) وقد ناهز الثمانين (م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.

2 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ) الأزديّ الواشحيّ البصريّ، القاضي بمكة، ثقةٌ إمام حافظ [9](ت 224) وله (80) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 68.

3 -

(أَيُّوبُ) السختيانيّ، تقدّم قبل بابين.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

وقوله: (مِنْ عُكْلٍ، أَوْ عُرَيْنَةَ) تقدَّم ما يتعلّق بعُكل، وأما عُرينة، فهو: - بضم العين، وفتح الراء، وسكون الياء آخر الحروف، وفتح النون - ابن نذير بن قيس بن عبقر بن أنمار بن الغوث بن طي بن أُدَد، وزعم اليشكريّ أن عرينة: ابن عزيز بن نذير، قاله في "العمدة"

(1)

.

وقوله: (فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ)؛ أي: أصابهم الْجَوَى - بالجيم - وهو داء الجوف إذا تطاول، ويقال: الاجتواء كراهية الْمُقام، يقال: اجتويت البلد: إذا كرهتها، وإن كانت موافقة لك في بدنك، واستوبلتها: إذا لم توافقك في بدنك، وإن أحببتها

(2)

.

وقوله: (بِلِقَاحٍ) - بكسر اللام - وهي الإبل، الواحدة: لَقُوحٌ، وهي الْحَلُوب، مثلُ قَلُوص وقِلاص، قال أبو عمرو: إذا أنتجت فهي لَقُوح شهرين، أو ثلاثة، ثم هي لبون بعد ذلك. انتهى.

وقوله: (وَسُمِرَتْ أَعْيُنُهُمْ) - بضم السين، وتخفيف الميم، وتشديدها -؛ أي: كُحِلت بمسامير محمّاة.

(1)

"عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 5/ 86.

(2)

"عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 5/ 86.

ص: 174

وقوله: (وَأُلْقُوا فِي الْحَرَّةِ) - بفتح الحاء المهملة، وتشديد الراء -: هي الأرض ذات الحجارة السود، والمراد من الحرة هذه: حَرّة بظاهر مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، بها حجارة سُود كثيرة، وكانت بها الوقعة المشهورة أيام يزيد بن معاوية

(1)

.

وقوله: (يَسْتَسْقُونَ، فَلَا يُسْقَوْنَ) حَكَى ابن بطال

(2)

عن المهَلَّب أن الحكمة في ترك سقيهم كفرهم نعمة السقي التي أنعشتهم من المرض الذي كان بهم، قال: وفيه وجه آخر يؤخذ مما أخرجه ابن وهب من مرسل سعيد بن المسيِّب أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لَمّا بلغه ما صنعوا: "عَطَّش الله مَن عَطَّش آل محمد الليلةَ"، قال: فكان ترك سقيهم إجابة لدعوته صلى الله عليه وسلم.

قال الحافظ: وهذا لا ينافي أنه عاقبهم بذلك، كما ثبت أنه سَمَلهم؛ لكونهم سَمَلوا أعين الرُّعاة، وإنما تركهم حتى ماتوا؛ لأنه أراد إهلاكهم، كما مضى في الحسم، وأبعد من قال: إنَّ تَرْكَهُم بلا سقي لم يكن بعلم النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى

(3)

.

[تنبيه]: رواية أيوب السختيانيّ، عن أبي رجاء هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(233)

- حدّثنا سليمان بن حرب، قال: حدّثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: قَدِمَ أناس من عكل، أو عرينة، فاجتووا المدينة، فأمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بلقاح، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا، فلما صَحُّوا قتلوا راعي النبيّ صلى الله عليه وسلم، واستاقوا النَّعَمَ، فجاء الخبر في أول النهار، فبعث في آثارهم، فلما ارتفع النهار جيء بهم، فأَمَرَ، فقَطَعَ أيديهم وأرجلهم، وسُمِرت أعينهم، وأُلْقُوا في الحرّة، يستسقون، فلا يُسْقَون، قال أبو قلابة: فهؤلاء سَرَقُوا، وقَتَلُوا، وكَفَروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله. انتهى

(4)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 5/ 87.

(2)

راجع: "شرح البخاريّ" لابن بطّال 8/ 421 - 422.

(3)

"الفتح" 15/ 592 - 593، كتاب "الحدود" رقم (6804).

(4)

"صحيح البخاريّ" 1/ 92.

ص: 175

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4348]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيُّ، حَدَّثَنَا أَزْهَرُ السَّمَّانُ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ مَوْلَى أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا خَلْفَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ لِلنَّاسِ

(1)

: مَا تَقُولُونَ فِي الْقَسَامَةِ؟ فَقَالَ عَنْبَسَةُ: قَدْ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ كَذَا وَكَذَا، فَقُلْتُ: إِيَّايَ حَدَّثَ أَنَسٌ، قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَوْمٌ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِ أَيُّوبَ وَحَجَّاجٍ.

قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: فَلَمَّا فَرَغْتُ قَالَ عَنْبَسَةُ: سُبْحَانَ اللهِ - قَالَ أَبُو قِلَابَةَ - فَقُلْتُ: أَتَتَّهِمُنِي يَا عَنْبَسَةُ؟ قَالَ: لَا، هَكَذَا حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، لَنْ تَزَالُوا بِخَيْرٍ يَا أَهْلَ الشَّامِ مَا دَامَ فِيكُمْ هَذَا، أَوْ مِثْلُ هَذَا).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل بابين.

2 -

(مُعَاذُ بْنُ مُعَاذِ) بن نصر بن حسّان الْعَنْبَريّ، أبو المثنّى البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

3 -

(أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيُّ) أبو عثمان البصريّ، يُلقّب أبا الْجَوْزاء، ثقة [11](ت 246)(م ت س) تقدم في "الإيمان" 65/ 369.

4 -

(أَزْهَرُ السَّمَّانُ) ابن سعد، أبو بكر الباهليّ البصريّ، ثقةٌ [9](ت 203) وهو ابن (94) سنةً (خ م د ت س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 26/ 1344.

5 -

(ابْنُ عَوْنٍ) عبد الله، أبو عون البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [5](ت 150)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 303.

والباقون ذُكروا قبله.

(1)

وفي نسخة: "فقال لناس".

ص: 176

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي قِلَابَةَ) عبد الله بن زيد، أنه (قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا خَلْفَ عُمَرَ بْنِ عَبْدُ الْعَزِيزِ) الخليفة الزاهد المشهور المتوفّى سنة (101 هـ) تقدّمت ترجمته في "المقدّمة" 6/ 46. (فَقَالَ لِلنَّاسِ) وفي بعض النسخ: "فقال لناس" (مَا) استفهاميّة؛ أي: أَيَّ شيء (تَقُولُونَ فِي الْقَسَامَةِ؟)؛ أي: في حكمها، هل يقاد بها أم لا؟.

قال في "الفتح": زاد أحمد بن حرب، عن إسماعيل ابن عُلَيّة، عند أبي نعيم في "المستخرج":"فَأَضَبَّ الناسُ"؛ أي: سكتوا مُطْرقين، يقال: أَضَبُّوا: إذا سكتوا، وأضبوا: إذا تكلموا، وأصل أضبّ: أضمر ما في قلبه، ويقال: أضب على الشيء: لَزِمه، والاسم: الضَّبّ كالحيوان المشهور، ويَحْتَمِل أن يكون المراد أنهم عَلِمُوا رأي عمر بن عبد العزيز في إنكار القسامة، فلما سألهم سكتوا، مضمرين مخالفته، ثم تكلم بعضهم بما عنده في ذلك، كما وقع في هذه الرواية:"قالوا: نقول: القسامة الْقَوَد بها حقّ، وقد أقادت بها الخلفاء"، وأرادوا بذلك ما تقدم نقله عن معاوية، وعن عبد الله بن الزبير، وكذا جاء عن عبد الملك بن مروان، لكن عبد الملك أقاد بها، ثم نَدِمَ كما ذكره أبو قلابة بعد ذلك، في رواية حماد بن زيد، عن أيوب، وحجاج الصَّوّاف، عن أبي رجاء:"أن عمر بن عبد العزيز استشار الناس في القسامة، فقال قوم: هي حقٌّ قَضَى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقضى بها الخلفاء"، أخرجه أبو عوانة في "صحيحه"، وأصله عند الشيخين من طريقه. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ عَنْبَسَةُ) - بفتح المهملة، وسكون النون، وفتح الموحدة، بعدها سين مهملة - ابن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أُميّة، أبو أيوب، ويقال: أبو خالد الأمويّ، أخو عمرو الأشدق، ثقةٌ [3].

رَوَى عن أبي هريرة، وأنس، وعمر بن عبد العزيز قوله في القسامة.

ورَوَى عنه أبو قلابة، والزهريّ.

قال ابن معين، وأبو داود، والنسائيّ، والدارقطنيّ: ثقة، وقال أبو حاتم:

(1)

"الفتح" 16/ 93 - 94، كتاب "الديات" رقم (6899).

ص: 177

لا بأس به، وقال الدارقطنيّ: كان جليس الحجاج، ورَوَى عنه أيضًا محمد بن عمرو بن علقمة، قال الزبير: كان انقطاعه إلى الحجاج، وحُكِي أنه بعد موت أبيه دعا مروان بن الحكم في وليمة عرسه، ورأى بِزّةً حسنةً، فسأله: أعليك دَين؟ قال: نعم، فقال: لِمَ لا جعلت هذه الْبِزّة في وفائه؟ قال: فاهتممت بذلك حتى قضيت دَيني، واقتنيت المال بعدُ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ووَثّقه يعقوب بن سفيان.

وقال في "الفتح": عنبسة المذكور هو الأمويّ، أخو عمرو بن سعيد المعروف بالأشدق، واسم جدّه العاص بن سعيد بن العاص بن أمية، وكان عنبسة من خيار أهل بيته، وكان عبد الملك بن مروان بعد أن قتل أخاه عمرو بن سعيد يُكرمه، وله رواية، وأخبار مع الحجاج بن يوسف، ووثقه ابن معين وغيره. انتهى

(1)

.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الموضع.

(قَدْ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه (كَذَا وَكَذَا) وفي رواية: فقال عنبسة بن سعيد: فأين حديث أنس بن مالك في الْعُكْليين؟ قال في "الفتح": كذا في هذه الرواية، وتقدَّم في "الطهارة" وغيرها بلفظ:"الْعُرنيين"، وأوضحت أن بعضهم كان من عُكْل، وبعضهم كان من عُرينة، وثبت كذلك في كثير من الطرق. انتهى.

قال أبو قلابة: (فَقُلْتُ: إِيَّايَ حَدَّثَ أَنَسٌ) رضي الله عنه؛ أي: حدَّثني أنس رضي الله عنه بحديث العرنيين، فقال:(قَدِمَ) بكسر الدال (عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَوْمٌ) وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ) فاعل "ساق" ضمير ابن عون؛ أي: ساق حديث قصّة العرنيين (بِنَحْوِ) سياق (حَدِيثِ أَيُّوبَ) السختياني المذكور في الحديث الذي قبله (وَ) بسياق حديث (حَجَّاجِ) بن أبي عثمان المذكور قبل حديث.

قال الجامع عفا الله عنه: رواية ابن عون هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "التفسير" من "صحيحه"، فقال:

(1)

"الفتح" 16/ 95 رقم (6899).

ص: 178

(4610)

- حدّثنا عليّ بن عبد الله، حدّثنا محمد بن عبد الله الأنصاريّ، حدّثنا ابن عون، قال: حدّثني سلمان أبو رجاء مولى أبي قلابة، عن أبي قلابة، أنه كان جالسًا خلف عمر بن عبد العزيز، فذكروا، وذكروا

(1)

، فقالوا، وقالوا: قد أقادت بها الخلفاء، فالتفت إلى أبي قلابة، وهو خلف ظهره، فقال: ما تقول يا عبد الله بن زيد؟ أو قال: ما تقول يا أبا قلابة؟ قلت: ما عَلِمت نفسًا حَلّ قتلها في الإسلام إلا رجل زنى بعد إحصان، أو قتل نفسًا بغير نفس، أو حارب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقال عنبسة: حدّثنا أنس بكذا وكذا، قلت: إياي حدّث أنسٌ، قال: قَدِمَ قوم على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكلموه، فقالوا: قد استوخمنا هذه الأرض، فقال: "هذه نَعَمٌ لنا تَخْرُج

(2)

، فاخرجوا فيها، فاشربوا من ألبانها وأبوالها"، فخرجوا فيها، فشربوا من أبوالها وألبانها، واستصحّوا

(3)

، ومالوا على الراعي فقتلوه، واطَّردوا

(4)

النَّعَمَ، فما يستبطأ من هؤلاء؟ قتلوا النفس، وحاربوا الله ورسوله، وخَوَّفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سبحان الله، فقلت: تتهمني؟ قال: حدّثنا بهذا أنس، قال: وقال: يا أهل كذا، إنكم لن تزالوا بخير ما أُبقي هذا فيكم، ومثل هذا. انتهى

(5)

.

(قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: فَلَمَّا فَرَغْتُ)؛ أي: حديث أنس رضي الله عنه (قَالَ عَنْبَسَةُ) بن سعيد (سُبْحَانَ اللهِ) تعجّبًا من حفظ أبي قلابة للحديث، ومعرفته بمعناه، وفي رواية البخاريّ:"إن سمعت كاليوم قط"، و"إن" بالتخفيف، وكسر الهمزة بمعنى

(1)

أي: ذكروا القسامة.

(2)

قوله: "هذه نَعَم لنا" مغاير لقوله في الطريق المتقدمة: "اخرجوا إلى إبل الصدقة"، ويُجمع بأن في قوله:"لنا" تجوزًا سوّغه أنه كان يحكم عليها، أو كانت له نَعَم ترعى مع إبل الصدقة، وفي سياق بعض طرقه ما يؤيد هذا الأخير، حيث قال فيه:"هذه نَعَم لنا تخرج، فاخرجوا فيها"، وكان نَعَمه في ذلك الوقت كان يريد إرسالها إلى الموضع الذي ترعى فيه إبل الصدقة، فخرجوا صحبةَ النعم، قاله في "الفتح" 10/ 89.

(3)

أي: حصلت لهم الصحّة.

(4)

بتشديد الطاء؛ أي: أخرجوها طردًا؛ أي: سوقًا.

(5)

"صحيح البخاريّ" 4/ 1685.

ص: 179

"ما" النافية، وحذف مفعول "سمعت"، والتقدير: ما سمعت قبل اليوم مثل ما سمعت منك اليوم، وفي رواية:"فقال عنبسة: يا قوم ما رأيت كاليوم قطّ".

(قَالَ أَبُو قِلَابَةَ - فَقُلْتُ: أَتَتَّهِمُنِي يَا عَنْبَسَةُ؟) وفي رواية البخاريّ: "أترُدّ عليّ حديثي يا عنبسة؟ "، قال في "الفتح": كأن أبا قلابة فَهِمَ من كلام عنبسة إنكار ما حدّث به. انتهى

(1)

.

(قَالَ) عنبسة (لَا)؛ أي: لا أتّهمك فيما حدّثت به من حديث العُكليين (هَكَذَا حَدَّثَنَا أنسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه، وفي رواية البخاريّ:"قال: لا، ولكن جئت بالحديث على وجهه"، وهذا دالّ على أنَّ عنبسة كان سمع حديث الْعُكليين من أنس رضي الله عنه، وفيه إشعار بأنه كان غير ضابط له على ما حَدّث به أنس رضي الله عنه، فكان يظن أن فيه دلالة على جواز القتل في المعصية، ولو لم يقع الكفر، فلما ساق أبو قلابة الحديث تذكر أنه هو الذي حدّثهم به أنس رضي الله عنه، فاعترف لأبي قلابة بضبطه، ثم أثنى عليه

(2)

، ولذا قال عنبسة بعده:(لَنْ تَزَالُوا بخَيْرٍ يَا أَهْلَ الشَّامِ مَا دَامَ فِيكُمْ هَذَا)؛ يعني: أبا قلابة، وقوله:(أَوْ مِثْلُ هَذَا)"أو" فيه للشكّ من الراوي، وفي رواية البخاريّ:"والله لا يزال هذا الجند بخير، ما كان هذا الشيخ بين أظهرهم"، والمراد بالجند أهل الشام، كما بُيّن في هذه الرواية، وفي رواية:"والله لا يزال هذا الجند بخير ما أبقاك الله بين أظهرهم".

[تنبيه]: ساق البخاريّ رحمه الله حديث أبي قلابة هذا مطوّلًا في "كتاب الديات" من "صحيحه"، فقال:

(6899)

- حدّثنا قتيبة بن سعيد، حدّثنا أبو بشر إسماعيل بن إبراهيم الأسديّ، حدّثنا الحجاج بن أبي عثمان، حدّثني أبو رجاء من آل أبي قلابة، حدّثني أبو قلابة: أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يومًا للناس، ثم أَذِنَ لهم، فدخلوا، فقال: ما تقولون في القسامة؟ قال: نقول: القسامة الْقَوَد بها حقّ، وقد أقادت بها الخلفاء، قال لي: ما تقول يا أبا قلابة؟ ونَصَبَني للناس،

(1)

"الفتح" 16/ 96، كتاب "الديات" رقم (6899).

(2)

"الفتح" 16/ 96 رقم (6899).

ص: 180

فقلت: يا أمير المؤمنين عندك رؤوس الأجناد، وأشراف العرب، أرأيت لو أن خمسين منهم شَهِدوا على رجل محصن بدمشق، أنه قد زنى، ولم يروه، أكنت ترجمه؟ قال: لا، قلت: أرأيت لو أن خمسين منهم شَهِدوا على رجل بحمص أنه سرق، أكنت تقطعه، ولم يروه؟ قال: لا: قلت: فوالله ما قَتَل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدًا قط إلا في إحدى ثلاث خصال: رجل قَتَل بجريرة نفسه، فقُتِل، أو رجل زنى بعد إحصان، أو رجل حارب الله ورسوله، وارتدّ عن الإسلام، فقال القوم: أوَ ليس قد حَدَّث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في السَّرَق، وسَمَرَ الأعين، ثم نبذهم في الشمس؟ فقلت: أنا أحدثكم حديث أنس، حدّثني أنس أن نفرًا من عُكْل ثمانية، قَدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعوه على الإسلام، فاستَوْخَمُوا الأرض، فسَقُمَت أجسامهم، فَشَكَوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"أفلا تخرجون مع راعينا في إبله، فتصيبون من ألبانها وأبوالها؟ "، قالوا: بلي، فخرجوا، فَشَرِبُوا من ألبانها وأبوالها، فَصَحُّوا، فقَتَلُوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واطَّردوا النَّعَمَ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل في آثارهم، فأُدركوا، فجيء بهم، فأمَرَ بهم، فقُطِّعَت أيديهم وأرجلهم، وسَمَرَ أعينهم، ثم نَبَذهم في الشمس حتى ماتوا، قلت: وأيّ شيء أشَدّ مما صنع هؤلاء؟ ارتدوا عن الإسلام، وقتلوا، وسرقوا.

فقال عنبسة بن سعيد: والله إن سمعت كاليوم قط، فقلت: أتردّ عليّ حديثي يا عنبسة؟ قال: لا، ولكن جئت بالحديث على وجهه، والله لا يزال هذا الجند بخير ما عاش هذا الشيخ بين أظهرهم.

قلت: وقد كان في هذا سُنَّة من رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

، دخل عليه نفر من

(1)

قال في "الفتح": كذا أورد أبو قلابة هذه القصّة مرسلة، ويغلب على الظنّ أنها قصّة عبد الله بن سهل ومحيّصة، فإن كان كذلك فلعلّ عبد الله بن سهل ورفقته تحدّثوا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يتوجّهوا إلى خيبر، ثم توجّهوا، فقُتل عبد الله بن سهل، كما تقدّم، وهو المراد بقوله هنا:"فخرج رجل منهم بين أيديهم، فقُتل". انتهى.

قال الجامع: كون هذه القصّة هي قصّة عبد الله بن سهل ومحيّصة لا يخفى بُعده، فليُتأمل، والله تعالى أعلم.

ص: 181

الأنصار، فتحدثوا عنده، فخرج رجل منهم بين أيديهم، فقُتِل فخرجوا بعده، فإذا هم بصاحبهم يتشحط في الدم، فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله صاحبنا كان تحدث معنا، فخرج بين أيدينا، فإذا نحن به يتشحط في الدم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"بمن تظنون، أو ترون قتله؟ "، قالوا: نرى أن اليهود قتلته، فأرسل إلى اليهود، فدعاهم، فقال:"آنتم قتلتم هذا؟ " قالوا: لا، قال:"أترضون نَفْل خمسين من اليهود ما قتلوه؟ " قالوا: ما يبالون أن يقتلونا أجمعين، ثم ينتفلون، قال:"أفتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم؟ " قالوا: ما كنا لنحلف، فوداه من عنده.

قلت: وقد كانت هُذَيل خَلَعُوا خَلِيعًا لهم في الجاهلية، فطَرَقَ أهلَ بيت من اليمن بالبطحاء، فانتبه له رجل منهم، فحذفه بالسيف، فقتله، فجاءت هُذيل، فأخذوا اليمانيّ، فرفعوه إلى عمر بالموسم، وقالوا: قَتَل صاحبنا، فقال: إنهم قد خلعوه، فقال: يُقسم خمسون من هذيل ما خلعوه، قال: فأقسم منهم تسعة وأربعون رجلًا، وقَدِم رجل منهم من الشأم، فسألوه أن يُقسم، فافتدى يمينه منهم بألف درهم، فأدخلوا مكانه رجلًا آخر، فدفعه إلى أخي المقتول، فقُرنت يده بيده، قالوا: فانطلقنا، والخمسون الذين أقسموا، حتى إذا كانوا بنخلة أخذتهم السماء، فدخلوا في غار في الجبل، فانهجم الغار على الخمسين الذين أقسموا، فماتوا جميعًا، وأفلت القرينان، واتّبَعهما حجر، فكسر رجل أخي المقتول، فعاش حولًا، ثم مات.

قلت: وقد كان عبد الملك بن مروان أقاد رجلًا بالقسامة، ثم نَدِمَ بعدما صنع، فأمر بالخمسين الذين أقسموا، فَمُحُوا من الديوان، وسَيَّرهم إلى الشأم. انتهى.

شرح غريبه:

(نَصَبني للناس) أظهرني حتى يراني الناس، وكان قد أجلسه خلف سريره للإفتاء والعلم.

(السَّرَق) السرقة، أو جمع سارق.

(نبذهم) ألقاهم وطرحهم.

ص: 182

(إن سمعت كاليوم قط) ما سمعت قبل اليوم مثل ما سمعت منك اليوم أبدًا.

(يتشحط) يضطرب. (نَفْل) حَلِف، وأصل النفل النفي، سُمّيت يمين القسامة به؛ لأنها تنفي القصاص. (فوداه) أعطى ديته. (خَلَعوا خليعًا) نقضوا حِلْفه، وكانوا إذا فعلوا ذلك لم يطالبوه بجناية. (فطَرَق) هَجَم عليهم ليلًا. (فحذفه) رماه. (أخذتهم السماء) هَطَلت المطر عليهم. (انهجم الغارُ) سقط. (أفلت) نجا وخلص. (القرينان) أخو المقتول، والرجل الذي أكمل الخمسين، وهما اللذان قرنت يد أحدهما بالآخر.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى قبل حديثين، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4349]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي شُعَيْبٍ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا مِسْكِينٌ - وَهُوَ ابْنُ بُكَيْرٍ الْحَرَّانِيُّ - أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَمَانِيَةُ نَفَرٍ، مِنْ عُكْلٍ، بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ، وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ: وَلَمْ يَحْسِمْهُمْ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(الْحَسَنُ بْنُ أَبِي شُعَيْبٍ الْحَرَّانِيُّ) هو: الحسن بن أحمد بن أبي شُعيب، نُسب لجدّه، أبو مسلم الْحَرَّانيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ يُغرب [11](ت 250) أو بعدها (م مد ت) تقدم في "الحيض" 6/ 714

(1)

.

2 -

(مِسْكِينُ بْنُ بُكَيْرٍ الْحَرَّانِيُّ) أبو عبد الرحمن الْحَذّاء، صدوقٌ يُخطئ، وكان صاحب حديث [9](ت 198) تقدم في "الحيض" 6/ 714.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) أبو محمد السمَرْقندي الحافظ،

(1)

له عند مسلم حديثان فقط، هذا الحديث، وحديث آخر تقدَّم في كتاب "الحيض":"كان يطوف على نسائه بغسل واحد".

ص: 183

صاحب "المسند"، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ متقنٌ [11](ت 255) وله (74) سنةً (م د ت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) بن واقد بن عثمان الضبيّ مولاهم، أبو عبد الله الْفِرْيابيّ

(1)

، نزيل قيسارية من ساحل الشام، ثقةٌ فاضل، مقدّم في الثوريّ على عبد الرزّاق [9].

أدرك الأعمش، ورَوَى عن فطر بن خليفة، وإبراهيم بن أبي عَبْلة، والأوزاعيّ، وجرير بن حازم، ومالك بن مغول، ويونس بن أبي إسحاق، وورقاء، والثوريّ، ولازمه، وزائدة، وإسرائيل، وغيرهم.

وروى عنه البخاريّ، وروى هو والباقون بواسطة أحمد بن حنبل، وإسحاق الْكَوْسَج، ومحمد بن يحيى، وعيسى بن محمد النحاس الرملي، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارميّ، وغيرهم.

قال حرب عن أحمد: الفريابيّ سمع من سفيان بالكوفة، وصحبه، وكتبت أنا عنه بمكة، وقال الفضل بن زياد عن أحمد: كان رجلًا صالِحًا، وقال أبو عمير بن النحاس: سألت ابن معين، قلت: أيهما أحب إليك، كتاب الفريابيّ، أو كتاب قبيصة؟ قال: كتاب الفريابيّ، وقال ابن أبي خيثمة: سئل ابن معين عن أصحاب الثوريّ، أيهم أثبت؟ فقال: هم خمسة: القطان، ووكيع، وابن المبارك، وابن مهديّ، وأبو نعيم، وأما الفريابيّ، وأبو حُذيفة، وقَبِيصة، وعبيد الله بن موسى، وأبو أحمد الزبيريّ، وعبد الرزاق، وأبو عاصم، والطبقة، فهم كلهم في سفيان بعضهم قريب من بعض، وهم ثقات، كلهم دون أولئك في الضبط والمعرفة، وقال الدُّوريّ، وعثمان الدارميّ، عن ابن معين نحو ذلك في الفريابيّ، وقال العجليّ: الفريابيّ ثقة، وهو ويحيى بن آدم، والزبيريّ، وقَبِيصة، ومعاوية ثقاتٌ، ووكيع، وأبو نعيم، والأشجعيّ، والقطان، وابن مهديّ أثبت في حديث سفيان منهم، وقال أبو بشر الدُّولابيّ، عن البخاريّ: ثنا محمد بن يوسف، وكان من أفضل أهل زمانه، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عن الفريابيّ، ويحيى بن يمان،

(1)

بكسر الفاء، وسكون الراء، بعدها تحتانيّة، وبعد الألف موحّدة.

ص: 184

فقال: الفريابيّ أحب إلي، قال: وسألت أبي عن الفريابيّ، فقال: صدوقٌ ثقةٌ، وقال محمد بن عبد الملك بن زنجويه: ما رأيت أروع من الفريابيّ، وقال السلمي: سألت الدارقطنيّ، إذا اجتمع قَبِيصة والفريابيّ، مَن تُقَدِّم منهما؟ قال: الفريابيّ؛ لفضله، ونُسكه، وقال محمد بن سهل بن عسكر: خرجنا مع الفريابيّ للاستسقاء، فرفع يديه، فما أرسلهما حتى مُطِرنا، وقال البخاريّ: رأيت قومًا دخلوا على الفريابيّ، فقيل له: يا أبا عبد الله، إن هؤلاء مُرجئة، فقال: أخرجوهم، فتابوا، ورجعوا، قال العجليّ: كانت سنته كوفية، قال: وقال بعض البغداديين: أخطأ محمد بن يوسف في مائة وخمسين حديثًا من حديث سفيان، وقال ابن عديّ: له إفرادات عن الثوريّ، وله حديث كثير عن الثوريّ، وقد يُقَدَّم الفريابيّ في الثوريّ على جماعة، مثل عبد الرزاق، ونظرائه، قالوا: الفريابيّ أعلم بالثوريّ منهم، ورحل إليه أحمد قاصدًا، فلما قَرُب من قيسارية نُعِي إليه، فعَدَل إلى حِمْصَ، والفريابيّ فيما يتبيَّن صدوقٌ لا بأس به

(1)

.

أنكر عليه ابن معين حديثه عن ابن عيينة، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد:"الشعر في الأنف أمان من الجذام"، وقال: هذا باطل.

وفي "الزهرة": رَوَى عنه البخاريّ ستة وعشرين حديثًا

(2)

.

قال الفريابيّ: وُلدت سنة عشرين ومائة، وقال أبو زرعة: نُعِي إلينا سنة اثنتي عشرة ومائتين، وفيها أَرَّخه البخاريّ، وغير واحد، وزاد بعضهم: في ربيع الأول.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث برقم (1671) و (1865) و (1888) و (1955) و (2036) و (2380) و (2662).

5 -

(الأَوْزَاعِيُّ) عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو، أبو عمرو الفقيه، ثقةٌ إمام جليلٌ [7](ت 157)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

(1)

قوله: "والفريابيّ. . . إلخ" من تَتِمّة كلام ابن عديّ، فتنبّه.

(2)

قال الجامع: الذي سُجّل له في برنامج الحديث أن له في "صحيح البخاريّ"(88) حديثًا، وهذا فرق كبير بينه وبين ما في "الزهرة"، والظاهر أن ما في البرنامج هو الصواب؛ لأن أحاديثه كلها مذكورة بالنصّ أمام كلّ رقم، فتأمل.

ص: 185

6 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) صالح بن المتوكّل، أبو نصر البصريّ، ثم اليماميّ، ثقةٌ ثبتٌ يُدلّس ويرسل [5](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ) فاعل "زاد" ضمير يحيى بن أبي كثير.

وقوله: (وَلَمْ يَحْسِمْهُمْ)؛ أي: لَمْ يَكْوِ ما قُطع منهم بالنار؛ لينقطع الدم، بل تركه يَنْزِف. انتهى.

وقال في "الفتح": الحسم - بفتح الحاء، وسكون السين المهملتين -: الكَيّ بالنار؛ لقطع الدم، حَسَمْته، فانحسم، كقطعته فانقطع، وحَسَمتُ العِرْقَ: معناه: حبست دم العرق، فمنعته أن يسيل، وقال الداوديّ: الحسم هنا أن توضع اليد بعد القطع في زيت حارّ.

قال الحافظ: وهذا من صُوَر الحسم، وليس محصورًا فيه. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: رواية يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، مختصرةً، فقال:

(6803)

- حدّثنا محمد بن الصَّلْتِ أبو يعلَى، حدّثنا الْوَلِيدُ، حدّثني الْأَوْزَاعِيُّ، عن يحيى، عن أبي قِلَابَةَ، عن أَنَسٍ، أَنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ الْعُرَنِيِّينَ، ولم يَحْسِمْهُمْ حتى مَاتُوا. انتهى

(2)

.

وساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" مطوّلةً

(3)

، فقال:

(4467)

- أخبرنا ابن سلم، قال: حدّثنا عبد الرحمن بن إبراهيم، قال: حدّثنا الوليد، عن الأوزاعيّ، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: قَدِمَ ثمانية نفر من عُكْل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة، فأمر

(1)

"الفتح" 15/ 592، كتاب "الحدود" رقم (6803).

(2)

"صحيح البخاريّ" 6/ 2495.

(3)

إنما سُقت رواية البخاريّ، وإن كانت غير موافقة لما أشار إليه المصنّف؛ لكونها أصح الروايات، وإنما سُقت رواية ابن حبّان؛ لموافقتها ما أشار إليه المصنّف، فتنبّه.

ص: 186

بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة، فيشربوا من ألبانها وأبوالها، ففعلوا، فقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم قافَةً، فأُتي بهم، فقَطَعَ أيديهم وأرجلهم، وسَمَرَ أعينهم، وتركهم، ولم يحسمهم. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4350]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَفَرٌ مِنْ عُرَيْنَةَ، فَأَسْلَمُوا، وَبَايَعُوهُ، وَقَدْ وَقَعَ بِالْمَدِينَةِ الْمُومُ - وَهُوَ الْبِرْسَامُ - ثُمَّ ذَكرَ نَحْوَ حَدِيثِهِمْ، وَزَادَ: وَعِنْدَهُ شَبَابٌ مِنَ الأَنْصَارِ، قَرِيبٌ مِنْ عِشْرِينَ، فَأَرْسَلَهُمْ إِلَيْهِمْ، وَبَعَثَ مَعَهُمْ قَائِفًا يَقْتَصُّ أَثَرَهُمْ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) بن درهم، ويقال: ابن زياد بن درهم النَّهْديّ مولاهم، أبو غسّان الكوفيّ، سبط حمّاد بن أبي سليمان ابن بنته، ثقةٌ متقنٌ عابدٌ، صحيح الكتاب، من صغار [9].

رَوَى عن عبد الوهاب بن سليمان بن الغسيل، وعبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، والحسن بن حيّ، وإسرائيل، وأسباط بن نصر، وزهير بن معاوية، وابن عيينة، وشريك، وغيرهم.

ورَوَى عنه البخاريّ، وروى له الباقون بواسطة هارون بن عبد الله الحمال، وأبي بكر بن أبي شيبة، ويوسف بن موسى القطان، وأحمد بن عثمان بن حكيم الأوديّ، والذُّهْليّ، وأحمد بن سليمان الرُّهاويّ، وعبد الأعلى بن واصل، وغيرهم.

قال محمد بن علي بن داود البغداديّ: سمعت ابن معين يقول لأحمد: إنْ سَرَّك أن تكتب عن رجل ليس في قلبي منه شيء، فاكتب عن أبي غسان، وقال أبو حاتم: ظَنّ ابن معين ليس بالكوفة أتقن من أبي غسان، وعن ابن

(1)

"صحيح ابن حبان" 10/ 319.

ص: 187

معين قال: هو أجود كتابًا من أبي نعيم، وقال يعقوب بن شيبة: ثقةٌ صحيح الكتاب، وكان من العابدين، وقال مرةً: كان ثقةً متقنًا، وقال ابن نُمير: أبو غسان أحب إليَّ من الصَّلْت، أبو غسان محدِّث من أئمة المحدثين، وقال أبو حاتم: كان أبو غسان يملي علينا من أصله، وكان لا يملي حديثًا حتى يقرأه، وكان ينجو، ولم أر بالكوفة أتقن منه، لا أبو نعيم، ولا غيره، وهو أتقن من إسحاق بن منصور، السَّلُوليّ، وهو متقن ثقة، وكان له فضلُ وصلاحُ وعبادةٌ وصحة حديث، واستقامة، وكانت عليه سجادتان كنت إذا نظرت إليه كأنه خرج من قبره، وقال أبو داود: كان صحيح الكتاب، جيّد الأخذ، وقال النسائيّ: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات".

وقال ابن سعد: كان أبو غسان صدوقًا شديد التشيع، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال عثمان بن أبي شيبة: أبو غسان صدوقٌ، ثبتٌ، متقنٌ، إمام من الأئمة، ولولا كَلِمته لَمَا كان يفوقه بالكوفة أحد، وقال معاوية بن صالح، عن ابن معين: ثقة، وقال العجليّ: ثقة، وكان متعبدًا، وكان صحيح الكتاب، وقال الذهبيّ في "الميزان": ذكره ابن عديّ، واعترف بصدقه، وعدالته، لكن ساق قول الثوريّ: كان حسنيًّا - يعني: الحسن بن صالح - على عبادته، وسوء مذهبه، هذا كلام السعديّ، وهو إبراهيم بن يعقوب الْجُوزَجانيّ، وعَنَى بذلك أن الحسن بن صالح بن حيّ مع عبادته كان يتشيع، فتبعه مالك هذا في الأمرين. انتهى.

قال ابن سعد: مات سنة تسع عشرة ومائتين في غُرّة ربيع الأول، وفيها أَرّخه غير واحد.

أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

2 -

(زُهَيْرُ) بن معاوية بن حُدَيج، تقدّم قريبًا.

3 -

(سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ) البكريّ، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوقٌ تغيّر في آخره، فربما تلقّن، وروايته عن عكرمة مضطربة [4](ت 123)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

4 -

(مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ) بن إياس بن هلال المزنيّ، أبو إياس البصريّ، ثقة فقيه [3](ت 113) وهو ابن (76) سنةً تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 36/ 1853.

والباقيان ذُكرا في الباب.

ص: 188

وقوله: (نَفَرٌ مِنْ عُرَيْنَةَ) تقدّم في رواية أنهم من عُكل، وفي رواية أنهم من عُكل، وعرينة، ويُجمع بأن بعضهم من عرينة، وبعضهم من عُكل.

وقوله: (وَقَدْ وَقَعَ بِالْمَدِينَةِ الْمُومُ) - بضم الميم، وسكون الواو - قال:(وهو البرسامُ) - بكسر الموحّدة - سريانيّ مُعَرَّب، أُطلق على اختلال العقل، وعلى وَرَم الرأس، وعلى وَرَم الصدر، والمراد هنا الأخير، فعند أبي عوانة من رواية همام، عن قتادة، عن أنس في هذه القصّة:"فعظُمت بطونهم".

وقال في "القاموس"، و"شرحه": والموم: الْبِرْسام كما في "الصحاح"، وقيل: مع الْحُمّى، وقيل: هو بَثْرٌ أصغر من الْجُدَريّ، وأنشد الجوهريّ لذي الرمة يصف صائدًا [من البسيط]:

إِذَا تَوَجَّسَ رِكْزًا مِنْ سَنَابِكِهَا

أَوْ كَانَ صَاحِبَ أَرْضٍ أَوْ بِهِ الْمُومُ

فالأرض الزكام، والموم البرسام، وقال الليث: قيل: الموم أشدّ الْجُدَريّ، وبه فسّر البيت، وقيل: هو الْجُدَريّ الذي يكون كلّه قُرْحة، واحدةٌ فارسيّة، وقيل: عربيّة، وقد مِيمَ الرجلُ، كقِيل يُمَامُ، ولا يكون يَموم؛ لأنه مفعول به. انتهى

(1)

.

وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِهِمْ) فاعل "ذَكَر"، وكذا "زاد" ضمير معاوية بن قُرّة.

وقوله: (قَرِيبٌ مِنْ عِشْرِينَ) تقدَّم أنه صلى الله عليه وسلم بعثهم، وجعل أميرهم كرز بن جابر الفِهْريّ رضي الله عنه.

وقوله: (وَبَعَثَ مَعَهُمْ قَائِفًا يَقْتَصُّ أَثَرَهُمْ) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسم هذا القائف.

و"القائف": اسم فاعل، من قاف الرجلُ الأثرَ قَوْفًا، من باب قال: تَبِعَه، واقتافه كذلك، والجمع قافة، مثل كفار وكفَرَة، ومُقتاف

(2)

.

[تنبيه]: رواية معاوية بن قُرّة، عن أنس رضي الله عنه هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(1)

راجع: "تاج العروس من جواهر القاموس" 9/ 70.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 519.

ص: 189

(6123)

- حدّثنا أبو داود الحرّانيّ، وجعفر بن محمد الصائغ، قالا: قثنا أبو غَسّان مالك بن إسماعيل، قثنا زهير بن معاوية، قثنا سماك بن حرب، عن معاوية بن قُرّة، عن أنس بن مالك، قال: أَتَى نفرٌ من عُرينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلموا، وبايعوه، ووقع بالمدينة الْمُومُ - وهو الْبِرْسَامُ - فقالوا: قد وقع هذا الوجع يا رسول الله، فلو أَذِنت لنا، فخرجنا إلى الإبل، فكنا فيها، قال: فخرجوا، قتلوا

(1)

أحد الراعيين، وجاء الآخر قد جُرِح، فقال: قد قتلوا صاحبي، وذَهَبُوا بالإبل، قال: وعنده شباب من الأنصار، قريب من عشرين، فأرسلهم إليهم، وبعث معهم قائفًا، يقتصّ أَثَرَهم، فأُتي بهم، فقَطَعَ أيديهم وأرجلهم، وسَمَرَ أعينهم. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4351]

(. . .) - (حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أنُسٍ، وَفِي حَدِيثِ هَمَّامٍ: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَهْطٌ مِنْ عُرَيْنَةَ، وَفِي حَدِيثِ سَعِيدٍ: مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ، بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(هَدَّابُ بْنُ خَالِدِ) بن الأسود الْقَيسيّ، أبو خالد البصريّ، ويقال له: هُدْبةُ، ثم قيل: أحدهما اسمه، والآخر لقبه، ثقة عابد، تفرد النسائيّ بتليينه، من صغار [9] مات سنة بضع (230)(خ م د) تقدم في "الإيمان" 11/ 151.

2 -

(هَمَّامُ) بن يحيى بن دينار الْعَوذيّ، البصريّ، ثقة [7](ت 4 أو 165)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

3 -

(عَبْدُ الأَعْلَى) بن عبد الأعلى الساميّ البصريّ، تقدّم قريبًا. والباقون ذُكروا في الباب، وقبل بابين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

(1)

هكذا النسخة، والظاهر أنه سقط منها عاطف، أو غير ذلك، فليُحرّر.

(2)

"مسند أبي عوانة" 4/ 89.

ص: 190

أن الأول من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (288) من رباعيّات الكتاب.

[تنبيه آخر]: رواية همّام، عن قتادة ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(6096)

- وحدّثنا الصغانيّ، قثنا عفان، قال: ثنا هَمَّام، قثنا قتادة، عن أنس بن مالك، قال: قَدِمَ رهط من عُرينة على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنا قد اجتوينا المدينة، فعَظُمت بطوننا، وارتهشت أعضادنا، قال: فأمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يلحقوا براعي الإبل، فيشربوا من ألبانها وأبوالها، قال: فلَحِقوا براعي الإبل، قال: فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فبعث في طلبهم، فجيء بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم. انتهى

(1)

.

وأما رواية سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(3956)

- حدّثني عبد الأعلى بن حماد، حدَّثنا يزيد بن زُريع، حدّثنا سعيد، عن قتادة، أن أنسًا رضي الله عنه حدّثهم، أن ناسًا من عُكل وعُرينة قَدِموا المدينة على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتكلموا بالإسلام، فقالوا: يا نبي الله إنا كنا أهل ضرع، ولم نكن أهل رِيف، واستوخموا المدينة، فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذَوْد، وراع، وأمرهم أن يخرجوا فيه، فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرّة كفروا بعد إسلامهم، وقَتَلوا راعي النبيّ صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الذود، فبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فبعث الطلب في آثارهم، فأمر بهم، فسَمَروا أعينهم، وقطعوا أيديهم، وتُرِكوا في ناحية الحرّة حتى ماتوا على حالهم. انتهى

(2)

.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4352]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ الأَعْرَجُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: إِنَّمَا سَمَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَعْيُنَ أُولَئِكَ؛ لأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُنَ الرِّعَاءِ).

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 79.

(2)

"صحيح البخاريّ" 4/ 1535.

ص: 191

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ الأَعْرَجُ) البغداديّ، خراسانيّ الأصل، ثقةٌ [11](ت 255) وقد جاوز السبعينَ (خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 43.

2 -

(يَحْيَى بْنُ غَيْلَانَ) بن عبد الله بن أسماء بن حارثة الْخُزاعيّ، ثم الأسلميّ، أبو الفضل البغداديّ، ويقال: يحيى بن عبد الله بن غيلان، ثقةٌ [10].

رَوَى عن مالك، والمفضل بن فَضَالة، ويزيد بن زُريع، وفضيل بن سليمان، وغيرهم.

ورَوى عنه الفضل بن سهل الأعرج، وأحمد بن حنبل، ومحمد بن عبد الرحيم البزاز، ومحمد بن سهل بن عسكر، وغيرهم.

قال الفضل بن سهل: ثقة مأمون، وقال الخطيب: كان ثقةً، وقال ابن قانع: صالحٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة ثلاث عشرة ومائتين، وقال ابن سعد: كان ثقةً، نزل بغداد، ثم خرج إلى البصرة في حاجة له، فمات هناك سنة عشرين ومائتين، وفيها أرّخه مُطَيَّن.

أخرج له المصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

3 -

(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) العيشيّ البصريّ، تقدّم قبل بابين.

4 -

(سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ) بن بلال المدنيّ، تقدّم في الباب الماضي. و"أنس رضي الله عنه" ذُكر قبله.

وقوله: (إِنَّمَا سَمَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. . . إلخ)؛ أي: إنما فعل صلى الله عليه وسلم من سَمْل أولئك المحاربين؛ لكونهم فعلوا ذلك بالرعاة، فكان ذلك قصاصًا، وهذا هو الصحيح في الجواب عما فعله صلى الله عليه وسلم بهم من التعذيب والتمثيل.

وقوله: (أَعْيُنَ الرِّعَاءِ) بكسر الراء، والمدّ: جمع راع، ويُجمع أيضًا على رُعاة، كقاضٍ وقُضاة، كما تقدّم بيانه.

[تنبيه]: حديث أنس رضي الله عنه هذا بهذا السياق من أفراد (المصنّف) رحمه الله، أخرجه هنا [2/ 4352](1671)، والترمذيّ في "الطهارة"(1/ 108)، والنسائيّ

ص: 192

في "المجتبى" في "كتاب المحاربة"(7/ 100) و"الكبرى"(2/ 298)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 89)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(7/ 117)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 199) و"الكبير"(12/ 324)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(3) - (بَابُ ثُبُوتِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ بِالْحَجَرِ، وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُحَدَّدَاتِ، وَالْمُثَقَّلَاتِ، وَقَتْلِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4353]

(1672) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى - قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَن يَهُودِيًّا قَتَلَ جَارِيَةً، عَلَى أَوْضَاحٍ لَهَا، فَقَتَلَهَا بِحَجَرٍ - قَالَ - فَجِيءَ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَبِهَا رَمَقٌ، فَقَالَ لَهَا: "أَقَتَلَكِ فُلَانٌ؟ "، فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ لَا، ثُمَّ قَالَ لَهَا الثَّانِيَةَ، فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أنْ لَا، ثُمَّ سَأَلَهَا الثَّالِثَةَ، فَقَالَتْ: نَعَمْ، وَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا، فَقَتَلَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ حَجَرَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) بُندار، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غندر، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الشهير، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(هِشَامُ بْنُ زَيْدِ) بن أنس بن مالك الأنصاريّ البصريّ، ثقة [5](ع) تقدم في "الحيض" 6/ 714.

والباقيان ذُكرا في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه مسلسلٌ بالبصريين، وأن شيخيه ممن اتّفق الجماعة بالرواية عنهم بلا واسطة، وفيه رواية الراوي عن جده، فهشام حفيد أنس بن مالك رضي الله عنه، وفيه

ص: 193

أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة، وقد جاوز عمره مائة سنة، وهو الخادم الشهير، خدم النبيّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فنال بركته.

شرح الحديث:

(عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ) جدّه (أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّ يَهُودِيًّا) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسمه (قَتَلَ جَارِيَةً) وفي رواية: "رَضّ رأس جارية"، الرَّضّ - بالضاد المعجمة - والرضخ بمعنى واحد، والجارية يَحْتَمِل أن تكون أمةً، ويَحْتَمِل أن تكون حرّةً، لكن دون البلوغ، وفي رواية:"خرجت جارية، عليها أوضاح بالمدينة، فرماها يهوديّ بحجر"، وفي رواية:"عَدَا يهوديّ على جارية، فأخذ أوضاحًا كانت عليها، ورَضَخ رأسها - وفيه -: فأتى أهلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي في آخر رَمَقٍ"، وهذا لا يعيّن كونها حرّةً؛ لاحتمال أن يراد بأهلها مواليها، رقيقةً كانت، أو عتيقةً، قال الحافظ أيضًا: ولم أقف على اسمها، لكن في بعض طرقه أنها من الأنصار، ولا تنافي بين قوله:"رَضّ رأسها بين حجرين"، وبين قوله:"رماها بحجر"، وبين قوله:"رضخ رأسها"؛ لأنه يُجْمَع بينها بأنه رماها بحجر، فأصاب رأسها، فسقطت على حجر آخر.

وقوله: (عَلَى أَوْضَاحٍ لَهَا)"على" بمعنى الباء؛ أي: بسبب أوضاح، وهي بالضاد المعجمة، والحاء المهملة: جمع وَضَحٍ، قال أبو عبيد: هي حلي الفضة، ونقل عياض: أنها حليّ من حجارة، ولعله أراد حجارة الفضة؛ احترازًا من الفضة المضروبة، أو المنقوشة، قاله في "الفتح"

(1)

.

(فَقَتَلَهَا بِحَجَرٍ - قَالَ - فَجِيءَ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَبِهَا رَمَقٌ) بفتحتين: بقيّة الحياة والروح (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَهَا)؛ أي: لتلك الجارية ("أَقَتَلَكِ فُلَانٌ؟ ") وفي رواية: "فقيل لها: من فعل بك هذا؟ أفلان، أو فلان؟ حتى سَمّى اليهوديّ"، وفي رواية:"فلان، أو فلان" بحذف الهمزة، وفي رواية:"أفلان؟ أفلان؟ " بالتكرار بغير واو عطف (فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ لَا)؛ أي: بأنه لم يقتلها (ثُمَّ قَالَ

(1)

"الفتح" 16/ 25 - 26، كتاب "الديات" رقم (6876).

ص: 194

لَهَا الثَّانِيَةَ، فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ لَا، ثُمَّ سَأَلهَا الثَّالِثَةَ، فَقَالَتْ)؛ أي: أشارت، كما في الرواية الأخرى (نَعَمْ) فقوله:(وَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا) تأكيد لمعنى "قالت"، ووقع في رواية للبخاريّ بيان الإيماء المذكور، وأنه كان تارة دالًّا على النفي، وتارةً دالًّا على الإثبات، ولفظه:"فلان قتلك؟ فرفعت رأسها، فأعاد، فقال: فلان قتلك، فرفعت رأسها، فقال لها في الثالثة: فلان قتلك، فخفضت رأسها"، وهو مشعر بأن فلانًا الثاني غير الأول، وقد وقع التصريح بذلك في رواية أخرى:"فأتى بها أهلها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وهي في آخر رَمَق، وقد أُصمتت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتلك فلان؟ لغير الذي قتلها، فأشارت برأسها أن لا، قال: فقال لرجل آخر غير الذي قتلها، فأشارت أن لا، فقال: ففلان؟ لقاتلها، فأشارت أن نعم".

(فَقَتَلَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ حَجَرَيْنِ) وفي الرواية الآتية: "فأُخِذ اليهوديّ، فأقرّ، فأَمَر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُرَضّ رأسه بالحجارة"، وفي رواية البخاريّ:"فأُتي به النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يزل به حتى أَقَرّ"، وفي رواية:"فجيء به يعترف، فلم يزل به حتى اعترف".

قال أبو مسعود: لا أعلم أحدًا قال في هذا الحديث: "فاعتَرَف"، ولا "فأقرّ" إلا همام بن يحيى

(1)

.

وقوله: (فَقَتَلَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ حَجَرَيْنِ) وفي رواية: "فَرَضّ رأسه بالحجارة"؛ أي: دَقّ، وفي رواية:"فَرَضَخ رأسه بين حجرين"، قال القاضي عياض: رَضْخُه بين حجرين، ورَمْيُه بالحجارة، ورَجْمه بها بمعنى، والجامع أنه رمي بحجر، أو أكثر، ورأسه على آخر.

وقال ابن التين: أجاب بعض الحنفية بأن هذا الحديث لا دلالة فيه على المماثلة في القصاص؛ لأن المرأة كانت حيّةً، والقَوَد لا يكون في حيّ.

وتعقبه بأنه إنما أمر بقتله بعد موتها؛ لأن في الحديث: "أفلان قتلك؟ "، فدلّ على أنها ماتت حينئذ؛ لأنها كانت تجود بنفسها، فلما ماتت اقتُصّ منه.

وادَّعَى ابن المرابط من المالكية أن هذا الحكم كان في أول الإسلام،

(1)

"الفتح" 16/ 27 رقم (6876).

ص: 195

وهو قبول قول القتيل، وأما ما جاء أنه اعترف فهو في رواية قتادة، ولم يقله غيره، وهذا مما عُدّ عليه. انتهى.

وتعقّبه الحافظ، فقال: ولا يخفى فساد هذه الدعوي، فقتادة حافظ، زيادته مقبولة؛ لأن غيره لم يتعرض لنفيها، فلم يتعارضا، والنسخ لا يثبت بالاحتمال. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 4353 و 4354 و 4355 و 4356 و 4357](1672)، و (البخاريّ) في "الخصومات"(2413) و"الوصايا"(2746) و "الطلاق"(5295) و"الديات"(6876 و 6877 و 6879)، و (أبو داود) في "الديات"(4527 و 4528 و 5429 و 4535)، و (الترمذيّ) في "الديات"(1394)، و (النسائيّ) في "القسامة"(8/ 22) و"الكبرى"(4/ 219)، و (ابن ماجه) في "الديات"(2665 و 2666)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(10171 و 18233 و 18525)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1986)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(9/ 295)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 171 و 183 و 203 و 269)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 190)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2866 و 3149)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(837 و 838)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 90 و 92)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5991 و 5992 و 5993)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 179)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(3/ 168 - 169)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 42) و"الصغرى"(7/ 11) و"المعرفة"(6/ 266)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(2528)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان مشروعيّة القصاص في القتل بالحجر وغيره من

(1)

"الفتح" 16/ 28.

ص: 196

المحدّدات، والمثقّلات، ولا يختص بالمحدّدات، قال النوويّ رحمه الله: وهذا مذهب الشافعيّ، ومالك، وأحمد، وجماهير العلماء.

وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا قصاص إلا في القتل بمحدّد من حديد، أو حجر، أو خشب، أو كان معروفًا بقتل الناس بالمنجنيق، أو بالإلقاء في النار، واختَلَفت الرواية عنه في مثقل الحديد، كالدبوس، أما إذا كانت الجناية شبه عمد، بأن قَتَل بما لا يُقصَد به القتل غالبًا، فتعمّد القتل به؛ كالعصا، والسوط، واللَّطمة، والقضيب، والبندقة، ونحوها، فقال مالك، والليث: يجب فيه القود، وقال الشافعيّ، وأبو حنيفة، والأوزاعيّ، والثوريّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وجماهير العلماء، من الصحابة، والتابعين، فمن بعدهم: لا قصاص فيه، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما ذهب إليه مالك، والليث من وجوب القصاص في الأشياء المذكورة هو الأرجح عندي؛ لإطلاق النصوص في ذلك، والله تعالى أعلم.

2 -

(ومنها): مشروعيّة قتل الرجل بالمرأة، قال النوويّ: وهو إجماعُ مَن يُعْتَدّ به، وقال القرطبيّ: وهو قول الجمهور، خلافًا لمن شذّ، فقال: لا يُقتل بها، وهو عطاء، والحسن. وقد روي عن عليّ رضي الله عنه، وأَمَّا القصاص بينهما في الأطراف، فهو أيضًا مذهب الجمهور، وقد ذهب إلى نفيه فيها من نفاه في النفس، وأبو حنيفة، وحمّاد، وإن قالا به في النفس، والصحيح قول الجمهور في المسألتين؛ لقوله تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} إلى آخر الآية [المائدة: 45].

3 -

(ومنها): أن الجاني عمدًا يُقتَل قصاصًا على الصفة التي قَتل، فإن قَتَل بسيف قُتل هو بالسيف، وإن قَتل بحجر، أو خشب، أو نحوهما، قُتل بمثله؛ لأن اليهوديّ رَضَخها، فرُضِخ هو.

4 -

(ومنها): جواز سؤال الجريح مَن جَرَحك؟، وفائدة السؤال أن يُعْرَف المتهم؛ ليطالَب، فإن أقرّ ثبت عليه القتل، وإن أنكر فالقول قوله مع يمينه،

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 158 - 159.

ص: 197

ولا يلزمه شيء بمجرد قول المجروح، قال النوويّ: هذا مذهبنا، ومذهب الجماهير، ومذهب مالك ثبوت القتل على المتهم بمجرد قول المجروح، وتعلقوا بهذا الحديث، قال: وهذا تعلّق باطل؛ لأن اليهوديّ اعتَرَف، كما صرح به مسلم في أحد رواياته التي ذكرناها، وإنما قُتل باعترافه، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال في "الفتح" بعد ذكر كلام النوويّ المذكور ما نصّه: ونازعه بعض المالكية، فقال: لم يقل مالك، ولا أحد من أهل مذهبه بثبوت القتل على المتهم بمجرد قول المجروح، وإنما قالوا: إن قول المحتضر عند موته: فلان قتلني لَوْثٌ يوجب القسامة، فيُقسم اثنان فصاعدًا من عصبته بشرط الذكورية، وقد وافق بعض المالكية الجمهور. انتهى

(2)

.

5 -

(ومنها): ما قال المهلَّب: فيه أنه ينبغي للحاكم أن يستدلّ على أهل الجنايات، ثم يتلطف بهم حتى يقروا؛ ليؤخذوا بإقرارهم، وهذا بخلاف ما إذا جاؤوا تائبين، فإنه يُعْرِض عمن لم يصرِّح بالجناية، فإنه يجب إقامة الحد عليه إذا أقرّ، وسياق القصة يقتضي أن اليهودي لم تقم عليه بينة، وإنما أُخذ بإقراره، وأنه تجب المطالبة بالدم بمجرد الشكوى، وبالإشارة، قال: وفيه دليل على جواز وصية غير البالغ، ودعواه بالدَّين والدم.

وتعقّبه الحافظ، فقال: وفي هذا نظر؛ لأنه لم يتعيّن كون الجارية دون البلوغ.

6 -

(ومنها): ما قال المازريّ: فيه الرد على من أنكر القصاص بغير السيف، وقتل الرجل بالمرأة.

7 -

(ومنها): أنه استدلّ به بعضهم على التدمية؛ لأنها لو لم تُعتبر لم يكن لسؤال الجارية فائدة، قال: ولا يصح اعتباره مجردًا؛ لأنه خلاف الإجماع، فلم يبق إلا أنه يفيد القسامة.

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 159.

(2)

"الفتح" 16/ 27، كتاب "الديات" رقم (6876).

ص: 198

واحتجّ من قال بالتدمية إن دعوى من وصل إلى تلك الحالة، وهي وقت إخلاصه، وتوبته عند معاينة مفارقة الدنيا، يدلُّ على أنه لا يقول إلا حقًّا، قالوا: وهي أقوى من قول الشافعية: إن الولي يُقسم إذا وَجَد قرب وليّه المقتول رجلًا معه سكين؛ لجواز أن يكون القاتل غير من معه السكين، ذكره في "الفتح"

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وفيه: ما يدلُّ على اعتبار التَّدمية على الجملة، وقد تقدَّم الكلام فيها، لكن الصحيح في هذا الحديث: أن اليهوديّ إنَّما قُتل بالمرأة بإقراره، لا بمجرد التَّدمية. والرواية التي يظهر منها: أنَّه قُتل بمجرد التَّدمية مردودة إلى الرواية التي ذكر فيها: أنه قُتل بإقراره لوجهين:

أحدهما: أن القصَّة واحدة وإن اختلفت الرِّوايات، فيُحْمَل مُطْلَقُها على مقيِّدِها.

والثاني: أن ظاهر تلك الرِّواية المطلقة مجمع على تركه؛ إذ لم يقل أحد من المسلمين: أن التَّدمية بمجردها يُقتَل بها، وإنَّما هي عند من قال بها لَوْثٌ يُقْسِم معها، ولم يُسمع قطّ في شيء من طرق هذا الحديث، ولا رواياته أن أولياء هذه الجارية أقسموا على اليهودي. انتهى

(2)

.

8 -

(ومنها): أنه استُدلّ به على وجوب القصاص على الذميّ.

وتُعُقّب بأنه ليس فيه تصريح بكونه ذميًّا، فَيَحْتَمِل أن يكون معاهَدًا، أو مستأمَنًا، والله أعلم.

9 -

(ومنها): جواز ذِكْر من اتُّهِم، وعَرْضِهم على المقتول واحدًا، واحدًا بعينه واسمه، وإن لم تتم دلالة على لطخه أكثر من أنَّه يَحتَمِل ذلك احتمالًا قريبًا، ولا يكون ذلك عرضًا يستباح.

10 -

(ومنها): قتل الكبير بالصَّغير؛ لأن الجارية اسم لمن لم يبلغ من النساء؛ كالغلام من الرجال، وهذا لا يُختلف فيه، قاله القرطبيّ رحمه الله

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"الفتح" 16/ 27، كتاب "الديات" رقم (6876).

(2)

"المفهم" 5/ 24 - 25.

(3)

"المفهم" 5/ 25.

ص: 199

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في صفة القصاص:

قال العلّامة محمد ابن رُشد رحمه الله في كتابه "بداية المجتهد": اختلفوا في صفة القصاص في النفس، فمنهم من قال: يُقتصّ من القاتل على الصفة التي قَتَل، فمن قتل تغريقًا قُتل تغريقًا، ومن قتل بضرب بحجر قُتل بمثل ذلك، وبه قال مالكٌ، والشافعيّ، قالوا: إلا أن يطول تعذيبه بذلك، فيكون السيف له أروح. واختلف أصحاب مالك فيمن حرّق آخر، هل يُحرّق؟ مع موافقتهم لمالك في احتذائه صورة القتل، وكذلك فيمن قتل بالسهم.

وقال أبو حنيفة، وأصحابه: بأيّ وجه قتله لم يُقتل إلا بالسيف، وعمدتهم ما رَوى الحسن عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا قود إلا بحديدة".

وعمدة الفريق الأول حديث أنس رضي الله عنه: "أن يهوديًّا رضخ رأس امرأة بحجر، فرضخ النبيّ صلى الله عليه وسلم رأسه بحجر"، أو قال:"بين حجرين"، وقوله:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} الآية [البقرة: 178]، والقصاص يقتضي المماثلة. انتهى كلام ابن رُشد رحمه الله

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: اختُلف في أن من قَتَل بشيء قُتل به، فذهب الجمهور: إلى أنَّه يُقتل بمثل ما قَتَل من حجر، أو عصا، أو تغريق، أو خنق، أو غير ذلك ما لم يقتله بفسق كاللوطية، وإسقاء الخمر؛ فيُقتل بالسيف.

وحجَّتهم هذا الحديث - يعني: قصّة اليهوديّ - وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، وقوله تعالى:{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]. والقصاص أصله: المساواة في الفعل، ومن هؤلاء من خالف في التحريق بالنار، وفي قتله بالعصا. فجمهورهم: على أنَّه يقتل بذلك. وقال ابن الماجشون وغيره: لا يحرَّق بالنار؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يعذِّب بالنَّار إلا ربّ النار"

(2)

، وقال مالك في إحدى الروايتين عنه: أنَّه إن كان في قتله بالعصا تطويل، وتعذيب قُتل بالسَّيف. وفي الأخرى: يُقتل بها وإن كان فيه ذلك، وهو قول الشافعيّ، وقال الشافعيّ فيمن حبس رجلًا أيَّامًا في بيت حتَّى

(1)

"بداية المجتهد، ونهاية المقتصد" 2/ 404.

(2)

حديث صحيح، أخرجه أحمد، وأبو داود.

ص: 200

مات جوعًا، أو عطشًا، أو قطع يديه ورجليه، ورمى به من جبل أنَّه يُفعل به مثل ذلك، فإن مات، وإلا قتل.

وذهبت طائفة إلى خلاف ذلك كلِّه فقالوا: لا قود إلا بالسيف، وهو مذهب أبي حنيفة، والشعبيّ، والنخعيّ، واحتجوا على ذلك بما روي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا قود إلا بحديدة"

(1)

، وبالنهي عن المُثلة، والصحيح مذهب الجمهور؛ لِمَا تقدم، ولأن الحديث الذي هو:"لا قود إلا بحديدة" ضعيف عند المحدثين، لا يروى من طريق صحيح، ولأن النهي عن المُثلة نقول بموجبه إذا لم يمثِّل بالمقتول، فإذا مَثَّل به مثَّلنا به؛ لقوله تعالى:{فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} ، ولحديث العُرَنِيِّين على ما تقدم.

وقد شذَّ بعضهم فقال فيمن قَتَل بخنق، أو بسمّ، أو تردية من جبل أو في بئر، أو بخشبة: أنه لا يُقتل، ولا يُقتص منه إلا إذا قتل بمحدَّد: حديد، أو حجر، أو خشب، أو كان معروفًا بالخنق والتردية، وهذا منه ردٌّ للكتاب، والسُّنّة، وإحداث ما لم يكن عليه أمر الأمَّة، وذريعةٌ إلى رفع القصاص الذي شرعه الله حياة للنفوس، فليس عنه مناصٌ. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الأرجح ما قاله الأولون، وهو أن يُقتصّ منه بمثل ما فعل بالمقتول.

والحاصل أن الحقّ كون القصاص بمثل ما قَتل به القاتل، إذا أمكن؛ لحديث الباب المتّفق عليه، ولظاهر الآية الكريمة:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} الآية، وأما الحديث الذي استدلّ به الفريق الثاني، وهو:"لا قود إلا بحديدة"، فإنه من مرسل الحسن البصريّ، وقد رُوي متصلًا من طرق لا تثبت، والصحيح أنه من مرسله، وهو ضعيف، وقد أجاد الشيخ الألباني رحمه الله في تخريجه في كتابه "إرواء الغليل"، فراجعه تستفد

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

حديث ضعيف.

(2)

"المفهم" 5/ 24 - 25.

(3)

راجع: "إرواء الغليل" 7/ 285 - 289 رقم الحديث (2228).

ص: 201

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم فيما إذا قَتَله بما لا يَقْتُل مِثْلُه غالبًا، كالعضَّة واللَّطمة، وضربة السَّوط، والقضيب، وشبه ذلك:

فقال مالك، والليث: هو عمدٌ، وفيه القود، قال أبو عمر: وقال بقولهما جماعة من السلف من الصحابة والتابعين. وذهب جمهور فقهاء الأمصار: إلى أن هذا كلُّه شبه عمد، إنما فيه الدِّية مغلظة. وهو قول الثوريّ، والأوزاعيّ، وأبي حنيفة، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وقد ذُكر عن مالك، وقاله ابن وهب، وجماعة من الصحابة والتابعين.

قال القرطبيّ: وهو الصحيح - إن شاء الله تعالى - إذ العمد: القصدُ إلى القتل، وهو أمر لا يُطَّلعُ عليه، فلا بُدَّ من دليل عليه، ولا بدَّ أن تكون تلك الدَّلالة واضحة رافعة للشَّك، ودلالة ما يقتل مثله غالبًا دلالة محقَّقة، صحيحة، وليس كذلك اللطمة، وضربة السوط، فلا دلالة فيها، والدِّماء أحقّ ما احتيط لها؛ إذ الأصل صيانتها في أُهُبها، فلا نستبيحها إلا بأمر بيِّن، لا إشكال فيه، وهذا فيه إشكال، ولا نستبيح به دمًا، ولمّا كان مترددًا بين العمد والخطأ؛ حُكم له بشبه العمد، وهو حُكْمٌ بين حُكمين، فلا هو عمد محضّ، ولا خطأ محضّ، فلا قود فيه؛ إذ لم يتحقق العمد، ومع ذلك فيمكن أن يكون قصد القتل، فتكون فيه الدِّية المغلظة، هذا مع ما قد رواه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم الفتح بمكة، فذكر الحديث، وقال فيه:"ألا وإن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسَّوط، أو العصا مائة من الإبل، أربعون في بطونها أولادها"، وهذا نصٌّ في الباب، فلا ينبغي أن يُعدل عنه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما ذهب إليه الأولون من مشروعيَّة القصاص في اللطمة، ونحوها هو الحقّ؛ لظواهر النصوص، وقد أجاد الإمام ابن قيّم الجوزيّة رحمه الله في هذا الموضوع في كتابه "تهذيب السنن"، فقال:

قد اختَلَفَ الناس في هذه المسألة، وهي القصاص في اللطمة، والضربة، ونحوهما، مما لا يمكن المقتصّ أن يفعل بخصمه مثل ما فعله به من كلّ

(1)

"المفهم" 5/ 26 - 27.

ص: 202

وجه، هل يسوغ القصاص في ذلك، أو يُعدل إلى عقوبته بجنس آخر، وهو التعزير؟ على قولين:

[أصحّهما]: أنه يُشرَع فيه القصاص، وهو مذهب الخلفاء الراشدين، ثبت ذلك عنهم، حكاه عنهم أحمد، وأبو إسحاق الْجُوزجانيّ في "المترجم"، ونصّ عليه الإمام أحمد في رواية الشالنجيّ، وغيره، قال شيخنا - يعني: ابن تيميّة -: وهو قول جمهور السلف.

[القول الثاني]: أنه لا يُشرع فيه القصاص، وهو المنقول عن الشافعيّ، ومالك، وأبي حنيفة، وقول المتأخّرين من أصحاب أحمد، حتى حَكَى بعضهم الإجماع على أنه لا قصاص فيه، وليس كما زَعَم، بل حكاية إجماع الصحابة على القصاص أقرب من حكاية الإجماع على منعه، فإنه ثبت عن الخلفاء الراشدين، ولا يُعلم لهم مخالف فيه.

ومأخذ القولين أن الله تعالى أمر بالعدل في ذلك، فبقي النظر في أَيِّ الأمرين أقرب إلى العدل؟.

فقال المانعون: المماثلة لا تمكن هنا، فكان العدل يقتضي العدول إلى جنس آخر، وهو التعزير، فإن القصاص لا يكون إلا مع المماثلة، ولهذا لا يجب في الجرح حتى ينتهي إلى حدّ، ولا في القطع إلا من منفصل؛ لِتُمْكِنَ الماثلة، فإذا تعذّرت في القطع، والجرح صرنا إلى الدية، فكذا في اللطمة، ونحوها لَمّا تعذّرت صرنا إلى التعزير.

قال المجوّزون: القصاص في ذلك أقرب إلى الكتاب، والسُّنّة، والقياس، والعدل من التعزير.

وأما الكتاب: فإن الله سبحانه وتعالى قال: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} الآية [الشورى: 40]، وقال:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} الآية [البقرة: 194]، ومعلوم أن المماثلة مطلوبةٌ بحسب الامكان، واللطمة أشدّ مماثلة للّطمة، والضربة للضربة من التعزير لها، فإنه ضرب في غير الموضع، غير مماثل، لا في الصورة، ولا في المحلّ، ولا في القدر، فأنتم فررتم من تفاوت لا يمكن الاحتراز منه بين اللطمتين، فصرتم إلى أعظم تفاوتًا منه، بلا نصّ، ولا قياس.

ص: 203

قالوا: وأما السُّنّة، فما ذُكِر من الأحاديث في هذا الباب، ولو لم يكن في الباب إلا سُنّة الخلفاء الراشدين، لكفى بها دليلًا، وحجةً. قالوا: فالتعزير لا يُعتبر فيه جنس الجناية، ولا قدرها، بل قد يُعزّر بالسوط والعصا، ويكون إنما ضربه بيده، أو رجله، فكانت العقوبة بحسب الإمكان في ذلك أقرب إلى العدل الذي أنزل الله به كُتُبه، وأرسل به رُسُله. قالوا: وقد دلّ الكتاب والسُّنّة في أكثر من مائة موضع على أن الجزاء من جنس العمل في الخير والشرّ، كما قال تعالى:{جَزَاءً وِفَاقًا (26)} [النبأ: 26] أي: وفق أعمالهم، وهذا ثابتٌ شرعًا، وقدرًا، أما الشرع، فلقوله تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} الآية [المائدة: 45]، فأخبر سبحانه وتعالى أن الجروح قصاص، مع أن الجارح قد يشتدّ عذابه إذا فُعل به كما فَعَل، حتى يُستوفَى منه. وقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أنه رضخ رأس اليهوديّ"، كما رضخ رأس الجارية، وهذا القتل قصاص؛ لأنه لو كان لنقض العهد، أو للحرابة لكان بالسيف، ولا يُرضخ الرأس. ولهذا كان أصحّ الأقوال أنه يُفعل بالجاني مثلُ ما فعل بالمجنيّ عليه، ما لَمْ يكن محرّمًا لحقّ الله؛ كالقتل باللواطة، وتجريع الخمر، ونحوه، فيُحَرَّق كما حرّق، ويُلقى من شاهق كما فَعَل، ويُخنق كما خَنَق؛ لأنَّ هذا أقرب إلى العدل، وحصولِ مُسمّى القصاص، وإدراك الثأر، والزجر المطلوب من القصاص، وهذا مذهب مالك، والشافعيّ، وإحدى الروايتين عن أحمد.

قالوا: وأما كون القصاص لا يجب في الجرح حتى ينتهي إلى حدّ، ولا في الطرَف حتى ينتهي إلى مَفصل؛ لتحقّق المماثلة، فهذا إنما اشتُرط؛ لئلا يزيد المقتصّ على مقدار الجناية، فيصير المجنيّ عليه مظلومًا بذهاب ذلك الجزء، فتعذّرت المماثلة، فصرنا إلى الدية، وهذا بخلاف اللطمة، والضربة، فإنه لو قدّر تعدّي المقتصّ فيها لم يكن ذلك بذهاب جزء، بل بزيادة ألم، وهذا لا يمكن الاحتراز منه، ولهذا توجبون التعزير، مع أن ألمه يكون أضعاف ألم اللطمة، والبَرْد من سنّ الجاني مقدار ما كسر من سنّ المجنيّ عليه، مع شدّة الألم، وكذلك قلع سنّه، وعينه، أو نحو ذلك، لا بدّ فيه من زيادة ألم ليصل المجنيّ عليه إلى استيفاء حقّه، فهلّا اعتبرتم هذا الألم المقدّرة زيادته في

ص: 204

اللطمة، والضربة، كما اعتبرتموه فيما ذكرنا من الصور، وغيرها؟.

قال المانعون: كما عدلنا في الإتلاف الماليّ إلى القيمة، عند تعذّر المماثلة، فكذلك ههنا، بل أولى لحرمة البشر، وتأكّدها على حرمة المال.

قال المجوّزون: هذا قياس فاسدٌ من وجهين:

[أحدهما]: أنكم لا تقولون بالمماثلة في إتلاف المال، فإنه إذا أتلف عليه ثوبًا لم تجوّزوا أن يُتلف عليه مثله من كلّ وجه، ولو قطع يده، وقتله لقطعت يده، وقُتل به، فعُلم الفرق بين الأموال والأبشار، ودلّ على أن الجناية على النفوس والأطراف يُطلب فيها الْمُقاصَّة بما لا يُطلب في الأموال.

[والثاني]: من هو الذي سلّم لكم أن غير المكيل والموزون يُضمن بالقيمة، لا بالنظير، ولا إجماع في المسألة، ولا نصّ؟، بل الصحيح أنه يجب المِثْل في الحيوان وغيره بحسب الإمكان، كما ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم في جزاء الصيد أنهم قضوا فيه بمِثله من النَّعم، بحسب الإمكان، فقضوا في النعامة ببدنة، وفي بقرة الوحش ببقرة، وفي الظبي بشاة، إلى غير ذلك.

قال المانعون: هذا على خلاف القياس، فيصار إليه؛ اتّباعًا للصحابة، ولهذا منعه أبو حنيفة، وقدَّم القياس عليه، وأوجب القيمة.

قال المجوّزون: قولكم: إن هذا على خلاف القياس، فرع على صحّة الدليل الدّالّ على أن المعتبر في ذلك هو القيمة، دون النظير، وأنتم لم تذكروا على ذلك دليلًا، من كتاب، ولا سُنّة، ولا إجماع، حتّى يكون قضاء الصحابة بخلافه، على خلاف القياس، فأين الدليل؟.

قال المانعون: الدليل على اعتبار القيمة في إتلاف الحيوان، دون المِثل، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ضمّن معتق الشِّقص إذا كان موسرًا بقيمته، ولم يضمّنه نصيب الشريك بمثله، فدلّ على أن الأصل هو القيمة في غير المكيل والموزون.

قال المجوّزون: هذا أصل ما بنيتم عليه اعتبار القيمة في هذه المسائل وغيرها، ولكنه بناء على غير أساس، فإن هذا ليس مما نحن فيه في شيء، فإن هذا ليس من باب ضمان المتلفات بالقيمة، بل هو من باب تملّك مال الغير بالقيمة، كتملّك الشقص المشفوع بثمنه، فإن نصيب الشريك يقدّر دخوله في ملك المعتِقِ، ثم يَعتِق عليه بعد ذلك، والقائلون بالسراية متّفقون على أنه يَعتِق

ص: 205

كله على ملك المعتِقِ، والولاء له، دون الشريك. واختلفوا، هل يسري العتق عقب إعتاقه، أو لا يَعتق حتى يؤدّي الثمن؟ على قولين للشافعيّ، وهما في مذهب أحمد، قال شيخنا - يعني: ابن تيميّة -: والصحيح أنه لا يَعتق إلا بالأداء.

وعلى هذا ينبني ما إذا أعتق الشريك نصيبه بعد عتق الأول، وقبل وزن القيمة، فعلى الأول لا يعتق عليه، وعلى الثاني يعتق عليه، ويكون الولاء بينهما.

وعلى هذا أيضًا ينبني ما إذا قال أحدهما: إذا أعتقت نصيبك، فنصيبي حرّ، فعلى القول الأول لا يصحّ هذا التعليق، ويَعتق كله في مال المعتِقِ، وعلى القول الثاني يصحّ التعليق، ويَعتق نصيب الشريك من ماله.

فظهر بهذا أن استدلالكم بالعتق استدلالٌ باطلٌ، بل إنما يكون إتلافًا إذا قتله، فلو ثبت لكم بالنصّ أنه ضمِّن قاتل العبد بالقيمة دون المثل، كان حجةً، وأنَّى لكم بذلك؟.

قالوا: وأيضًا فالفرق واضحٌ بين أن يكون الْمُتْلَفُ عينًا كاملةً، أو بعضَ عين، فلو سلّمنا أن التضمين كان تضمين إتلافٍ لم يجب مثله في العين الكاملة، والفرق بينهما أن حقّ الشريك في العين التي لا يمكن قسمتها في نصف القيمة مثلًا، أو ثلثها، فالواجب له من القيمة بنسبة مُلكه، ولهذا يُجبر شريكه على البيع إذا طلبه ليتوصّل إلى حقّه من القيمة، والنبيّ صلى الله عليه وسلم راعى ذلك، وقوَّم عليه العبد قيمةً كاملةً، ثم أعطاه حقّه من القيمة، ولم يقوّم عليه الشقص وحده، فيعطيه قيمته، فدلّ على أن حقّ الشريك في نصف قيمته، فإذا كان كذلك، فلو ضمّنّا المعتِق نصيب الشريك بمثله من عبد آخر لم نُجبره على البيع إذا طلبه شريكه؛ لأنه إذا لم يكن له حقّ في القيمة، بل حقّه في نفس العين، فحقّه باقٍ منها.

قالوا: فظهر أنه ليس معكم أصلٌ تقيسون عليه، لا من كتاب، ولا سُنّة، ولا إجماع. وقد ثبت في "الصحيح": أن النبيّ صلى الله عليه وسلم اقترض بَكْرًا، وقضى خيرًا منه، واحتجَّ به من يُجوّز قرض الحيوان، مع أن الواجب في القرض ردّ المثل، وهذا يدلّ على أن الحيوان مثليّ.

ص: 206

ومن العجب أن يقال: إذا اقترض حيوانًا ردّ قيمته، ويقال: ذلك على الإتلاف، والغصب، فيُترك موجَب النصّ الصحيح؛ لقياس لم يثبت أصله بنصّ، ولا إجماع، ونصوص أحمد: أن الحيوان في القرض يُضمن بمثله. وقال بعض أصحابه: بل بالقيمة؛ طردًا للقياس على الغصب. واختلف أصحابه في موجَب الضمان في الغصب، والإتلاف على ثلاثة أوجه:

[أحدها]: أن الواجب القيمة في غير المكيل والموزون.

[والثاني]: الواجب المثل في الجميع.

[والثالث]: الواجب المثل في غير الحيوان، ونصّ عليه أحمد في الثوب، والقصعة، ونحوهما، ونصّ عليه الشافعيّ في الجدار المهدوم ظلمًا يُعاد مثله، وأقول الناس بالقيمة أبو حنيفة، ومع هذا فعنده إذا أتلف ثوبًا ثبت في ذمّته مثله، لا قيمته، ولهذا يجوز الصلح عنه بأكثر من قيمته، ولو كان الثابت في الذّمّة القيمة لَمَا جاز الصلح عنها بأكثر منها.

فظهر أنّ من لم يعتبر المثل، فلا بدّ من تناقضه، أو مناقضته للنّصّ الصريح، وهذا ما لا مخلص منه.

وأصل هذا كلّه هو الحكومة التي حكم فيها داود وسليمان عليهما السلام وقصّها الله تعالى علينا في كتابه، وكانت في الحرث، وهو البستان، وقيل: إنها كانت أشجار عنب، فنفشت فيها الغنم - والنفش إنما يكون ليلًا - فقضى داود عليه السلام لأصحاب البستان بالغنم؛ لأنه اعتبر قيمة ما أفسدته، فوجده يساوي الغنم، فأعطاهم إياها، وأما سليمان عليه السلام فقضى على أصحاب الغنم بالمثل، وهو أن يعمّروا البستان كما كان، ثم رأى أنّ مغلّه إلى حين عَوْده يفوت عليهم، ورأى أن مغلّ الغنم يساويه، فأعطاهم الغنم يستغلّونها حتى يعود بستانهم كما كان، فإذا عاد ردّوا إليهم غنمهم.

فاختلف العلماء في مثل هذه القضيّة على أربعة أقوال:

[أحدها]: القول بالحكم السليمانيّ في أصل الضمان، وكيفيّته، وهو أصحّ الأقوال، وأشدّها مطابقة لأصول الشرع، والقياس، كما قد بيّنّا ذلك في كتاب مفرد في الاجتهاد، وهذا أحد القولين في مذهب أحمد، نصّ عليه في غير موضع، ويُذكر وجهًا في مذهب مالك، والشافعيّ.

ص: 207

[والثاني]: موافقته في النفش، دون المِثل، وهذا هو المشهور من مذهب الشافعيّ، ومالك، وأحمد.

[والثالث]: عكسه، وهو موافقته في المثل، دون النفش، وهو قول داود، وغيره، فإنهم يقولون: إذا أتلف البستان بتفريطه ضَمِنه بمثله، وأما إذا انفلتت الغنم ليلًا لم يضمَن صاحبها ما أتلفته.

[والرابع]: أن النفش لا يوجب الضمان، ولو أوجبه لم يكن بالمثل، بل بالقيمة، فلم يوافقه لا في النفش، ولا في المثل، وهو مذهب أبي حنيفة، وهذا من اجتهادهم في القياس، والعدل هو الذي أوجبه الله.

فكلّ طائفة رأت العدل هو قولَها، وإن كانت النصوص، والقياس، وأصول الشرع تشهد بحكم سليمان عليه السلام، كما أن الله سبحانه وتعالى أثنى عليه به، وأخبر أنه فهّمه إياه.

وذِكرُ مأخذ هذه الأقوال، وأدلّتها، وترجيح الراجح منها، له موضعٌ غير هذا، أليق به من هذا.

والمقصود أن القياس، والنصّ يدلّان على أنه يُفْعَل به كما فَعَل، وقد تقدّم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم: رضّ رأس اليهوديّ، كما رضّ رأس الجارية، وأن ذلك لم يكن لنقض العهد. ولا للحرابة؛ لأن الواجب في ذلك القتلُ بالسيف، وعن أحمد في ذلك أربع روايات:

[إحداهنّ]: أنه لا يُستوفى القَوَد إلا بالسيف في العنق، وهذا مذهب أبي حنيفة.

[والثانية]: أنه يُفعَلُ به كما فَعَلَ، إذا لم يكن محرّمًا لحقّ الله تعالى، وهذا مذهب مالك، والشافعيّ.

[والثالثة]: إن كان الفعلُ، أو الجرح مُرهقًا فُعِل به نظيرُهُ، وإلا فلا.

[والرابعة]: إن كان الجرح، أو القطع موجبًا للقود لو انفرد فُعِل به نظيره، وإلا فلا. وعلى الأقوال كلّها إن لم يمت بذلك قُتل. وقد أباح الله تعالى للمسلمين أن يُمَثِّلوا بالكفّار إذا مَثَّلُوا بهم، وإن كانت المُثْلة منهيًّا عنها، فقال تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} الآية [النحل: 126]، وهذا دليلٌ على أن العقوبة بجدع الأنف، وقطع الأذن، وبَقْرِ البطن، ونحو

ص: 208

ذلك هي عقوبةٌ بالمثل، ليست بعُدوان، والمثلُ هو العدل.

وأما كون المُثلة منهيًّا عنها؛ فلِمَا روى أحمد في "مسنده" من حديث سمرة بن جندب، وعمران بن حصين رضي الله عنهم، قالا:"ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبةً، إلا أمرنا بالصدقة، ونهانا عن المثلة".

[فإن قيل]: لو لم يمُت إذا فُعل به نظير ما فعل، فأنتم تقتلونه، وذلك زيادة على ما فعل، فأين المماثلة؟.

[قيل]: هذا يُنتقض بالقتل بالسيف، فإنه لو ضربه في العنق، ولم يوجبه، كان لنا أن نضربه ثانيةً، وثالثةً، حتى يوجبه اتفاقًا، وإن كان الأول إنما ضربه ضربة واحدة، واعتبار المماثلة له طريقان:

[إحداهما]: اعتبار الشيء بنظيره ومثله، وهو قياس العلّة الذي يُلحق فيه الشيء بنظيره.

[والثاني]: قياس الدلالة الذي يكون الجمع فيه بين الأصل والفرع بدليل العلّة، ولازمها، فإن انضاف إلى واحد من هذين عموم لفظيّ كان من أقوى الأدلّة؛ لاجتماع العمومين: اللفظيّ، والمعنويّ، وتضافر الدليلين: السمعيّ، والاعتباريّ.

فيكون موجَبُ الكتاب، والميزان، والقصاص في مسألتنا هو من هذا الباب، كما تقدّم تقريره، وهذا واضحٌ، لا خفاء به، ولله الحمد، والمنّة. انتهى كلام الإمام ابن القيّم رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لقد أعطى الإمام ابن القيّم رحمه الله هذه المسألة حقّها من التحقيق، والاستقصاء في الاستدلال، فأجاد، وأفاد، وأسهب، وأعاد، فجزاه الله تعالى خيرًا.

وخلاصة البحث أن الصواب وجوب القصاص في الطعنة، واللطمة، والجبْذة، ونحوها؛ لعموم الأدلّة، وعَمَل الخلفاء الراشدين، وجمهور السلف بذلك، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"تهذيب السنن" 12/ 175 - 180. من هامش "عون المعبود".

ص: 209

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4354]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ - يَعْنِي: ابْنَ الْحَارِثِ - (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، نَحْوَهُ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ إِدْرِيسَ: فَرَضَخَ رَأْسَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثيُّ) البصريّ، ثقة [10](ت 248) أو بعدها (م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.

2 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) بن عبيد الْهُجيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.

3 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قريبًا.

4 -

(ابْنُ إِدْرِيسَ) هو: عبد الله الأوديّ الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا. و"شعبة" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية خالد بن الحارث، عن شعبة هذه، ساقها النسائيّ رحمه الله في "المجتبى"، فقال:

(4779)

- أخبرنا إسماعيل بن مسعود، قال: حدّثنا خالد، عن شعبة، عن هشام بن زيد، عن أنس، أن يهوديًّا رأى على جارية أوضاحًا، فقتلها بحجر، فأُتِي بها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبها رَمَقٌ، فقال:"أقتلك فلان؟ "، فأشار شعبة برأسه يحكيها أن لا، فقال:"أقتلك فلان؟ "، فأشار شعبة برأسه يحكيها أن لا، قال:"أقتلك فلان؟ "، فأشار شعبة برأسه يحكيها أن نعم، فدعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتله بين حجرين. انتهى

(1)

.

وأما رواية عبد الله بن إدريس، عن شعبة هذه فقد ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(6483)

- حدّثنا محمد، أخبرنا عبد الله بن إدريس، عن شعبة، عن هشام بن زيد بن أنس، عن جدّه أنس بن مالك، قال: خرجت جارية عليها

(1)

"سنن النسائي - المجتبى" 8/ 35.

ص: 210

أوضاح بالمدينة، قال: فرماها يهوديّ بحجر، قال: فجيء بها إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبها رَمَقٌ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فلان قتلك؟ "، فرفعت رأسها، فأعاد عليها، قال:"فلان قتلك؟ "، فرفعت رأسها، فقال لها في الثالثة:"فلان قتلك؟ "، فخفضت رأسها، فدعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتله بين الحجرين. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4355]

(. . .) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ قَتَلَ جَارِيَةً مِنَ الأَنْصَارِ، عَلَى حُلِيٍّ لَهَا، ثُمَّ أَلْقَاهَا فِي الْقَلِيبِ، وَرَضَخَ رَأْسَهَا بِالْحِجَارَةِ، فَأُخِذَ، فَأُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ

(2)

حَتَّى يَمُوتَ، فَرُجِمَ حَتَّى مَاتَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم تقدّموا قبل ثلاثة أبواب، و"أنس رضي الله عنه" ذُكر في السند الماضي.

وقوله: (أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ) قال الحافظ: لم أقف على اسمه.

وقوله: (قَتَلَ جَارِيَةً مِنْ الْأَنْصَارِ) قال في "الفتح": يَحْتَمِل أن تكون الجارية أمة، ويَحْتَمل أن تكون حرّة، لكن دون البلوغ.

وقوله: (عَلَى حُلِيٍّ لَهَا) بضمّ الحاء المهملة، وكسر اللام، وتشديد الياء التحتانيّة، جمع حَلْي - بفتح، فسكون - كثَدْيٍ وثُدِيّ، والأصل فُعُول، كفلس وفُلُوس؛ أي: لأجل زينتها، فـ "على" بمعنى اللام.

وفي رواية: "أن يهوديًّا أخذ أوضاحًا من جارية"، و"الأوضاح" بحاء مهملة: هي نوع من الْحُليّ تصاغ من الفضّة، سمّيت بها؛ لبياضها، واحدها وَضَحٌ - بضمتين -، ولا يُعرف اسم الجارية.

وقال في "الفتح": معنى: "على أوضاح": بسبب أوضاح، وهي بالضاد المعجمة، والحاء المهملة جمعُ وَضَحٍ، قال أبو عُبيد: هي حليّ الفضّة. ونقل

(1)

"صحيح البخاريّ" 6/ 2521.

(2)

وفي نسخة: "فأمر أن يُرجَمَ".

ص: 211

عياض أنها حليّ من حجارة، ولعله أراد حجارة الفضّة؛ احترازًا من الفضّة المضروبة، أو المنقوشة. انتهى.

وقوله: (ثُمَّ أَلْقَاهَا فِي الْقَلِيبِ) - بفتح القاف، وكسر اللام -: البئر، وهو مذكّرٌ، قال الأزهريّ: القليب عند العرب: البئر العادِيّة القديمة، مَطويّةً كانت، أو غير مطويّة، والجمع قُلُبٌ - بضمّتين - مثلُ بَرِيد وبُرُد، أفاده الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (وَرَضَخَ) بضاد، وخاء معجمتين، مبنيًّا للفاعل، وقد ذكر أهل اللغة أنه يقال أيضًا: رَضَح بالحاء المهملة، قال الفيّوميّ رحمه الله: رَضَحته رَضْحًا؛ أي: - بالحاء المهملة - من باب نَفَعَ، وهو كسره، ودقّه، كالنوى وغيره، ورَضَحتُ رأسه: إذا كسرته، والخاء المعجمة لغة فيهما. انتهى

(2)

.

وفي رواية: "رَضَّ رأس جارية"، والرضّ بالضاد المعجمة بمعنى الرضخ.

وقوله: (رَأْسَهَا بِالْحِجَارَةِ) وفي رواية: "رضّ رأسها بين حجرين"، وفي رواية:"رماها بحجر"، وفي رواية:"رضخ رأسها"، قال في "الفتح": لا تنافي بين هذه الروايات؛ لأنه يُجمع بينها بأنه رماها بحجر، فأصاب رأسها، فسقطت على حجر آخر. انتهى.

وقوله: (فَاُخِذَ) بالبناء للمفعول، وكذا قوله:(فأُتِيَ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم).

وقوله: (فَأَمَرَ بِهِ) بالبناء للفاعل؛ أي: أمر صلى الله عليه وسلم بقتل ذلك اليهوديّ، بعد أن اعترف بقتلها، كما بُيّن ذلك في الرواية الماضية.

وقوله: (أَنْ يُرْجَمَ حَتَّى يَمُوتَ) ببناء الفعل للمفعول.

والحديث متفقّ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4356]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الْكَوْسَج، تقدّم قبل باب.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 512.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 228.

ص: 212

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرِ) بن عثمان الْبُرْسانيّ، أبو عثمان البصريّ، صدوقٌ [9](ت 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 65/ 369.

3 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم قبل باب. والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية ابن جريج، عن معمر، هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(6131)

- حدثنا يوسف بن مسلم، قثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريجٍ، قال: أخبرني معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك: أن رجلًا من اليهود قتل جارية من الأنصار، على حُلِيّ لها، ثم ألقاها في قَلِيب، ورَضَخَ رأسها بالحجارة، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يُرْجَم، حتى يموت، فَرُجِمَ. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:

[4357]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسِ بْن مَالِكٍ، أَنَّ جَارِيةً وُجِدَ رَأْسُهَا قَدْ رُضَّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَسَأَلُوهَا، مَنْ صَنَعَ هَذَا بِكِ؟

(2)

فُلَانٌ، فُلَانٌ، حَتَّى ذَكَرُوا يَهُودِيًّا، فَأَوْمَتْ بِرَأْسِهَا، فَأُخِذَ الْيَهُودِيُّ، فَأَقَرَّ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرَضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وقد تقدّم الإسناد نفسه في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (289) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (قَدْ رُضَّ) بالبناء للمفعول: أي: دُقّ رأسها، وكُسر.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث المذكور أولَ الباب، ولله الحمد، والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 92.

(2)

وفي نسخة: "من فعل بك هذا؟ ".

ص: 213

(4) - (بَابٌ الصَّائِلُ

(1)

عَلَى نَفْسِ الإِنْسَانِ، أَوْ عُضْوِهِ، إِذَا دَفَعَهُ الْمَصُولُ عَلَيْهِ، فَأَتْلَفَ نَفْسَهُ، أَوْ عُضْوَهَ، لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4358]

(1673) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: قَاتَلَ يَعْلَى ابْنُ مُنْيَةَ، أَوِ ابْنُ أُمَيَّةَ رَجُلًا، فَعَضَّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ فَمِهِ

(2)

، فَنَزَعَ ثَنِيَّتَهُ - وَقَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: ثَنِيَّتَيْهِ - فَاخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"أَيَعَضُّ أَحَدُكُمْ كَمَا يَعَضُّ الْفَحْلُ؟ لَا دِيَةَ لَهُ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(زُرَارَةَ) - بضمّ الزاي - ابن أوفى العامريّ الْحَرَشيَ، أبو حاجب البصريّ، ثقةٌ عابد [3] مات فَجْأةً في الصلاة سنة (93)(ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 338.

2 -

(عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ) رضي الله عنهما، تقدّم قبل أربعة أبواب.

والباقون تقدّموا في البابين الماضيين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه مسلسل بالبصريين من أوله إلى آخره، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ مخضرم، وفيه أن شيخيه من التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.

شرح الحديث:

(عَنْ زُرَارَةَ) - بضم الزاي المعجمة، ثم مهملتين: الأولى خفيفة، بينهما ألف، بغير همز - هو العامريّ، ووقع عند الإسماعيليّ في رواية عليّ بن الجعد:"عن شعبة، أخبرني قتادة، أنه سَمِع زُرارة"، قاله في "الفتح"

(3)

.

(1)

"بابٌ" بالتنوين، الصائل مرفوع على أنه مبتدأ خبره جملة "إذا"، ويَحْتمل أن يكون "باب" مضافًا إلى "الصائل".

(2)

وفي نسخة: "من فيه".

(3)

"الفتح" 16/ 61.

ص: 214

(عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ) رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: قَاتَلَ)؛ أي: ضارب (يَعْلَى ابْنُ مُنْيَةَ، أَوِ ابْنُ أُمَيَّةَ)"أو" للشكّ من الراوي، وهو: يعلى بن أُميّة بن أبي عُبيدة بن همام التميميّ، حليف قريش، وهو: يعلى ابن مُنْية - بضمّ الميم، وسكون النون، بعدها تحتانية مفتوحة - وهي أمه، صحابيّ مشهور، مات سنة بعض وأربعين، تقدّمت ترجمته في "صلاة المسافرين وقصرها" 1/ 1573.

قال النوويّ رحمه الله: أما "مُنَية": فبضم الميم، وإسكان النون، وبعدها ياء مثناة تحتُ، وهي أم يعلى، وقيل: جدته، وأما "أمية" فهو أبوه، فيصح أن يقال: يعلى بن أمية، ويعلى ابن منية. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "قاتل يعلى بن أمية - أو: ابن مُنْيَة - رجلًا" كذا صواب هذا اللفظ، وصحيح مُنْيَة: بميم مضمومة، ونون ساكنة، وياء باثنتين من تحتها. وهي امرأة، وبها كان يُعرف. واختُلِف فيها؛ هل كانت أُمُّه، أو جدَّته؟ قال أبو الحسن الدارقطني: مُنْيَة بنت الحارث هي جدة يعلي، وبها كان يُعرف، قاله الزبير بن بكَّار، وقال: أهل الحديث يقولون: هي أُمُّه، وأنها مُنْيَة بنت غزوان، وقال الطبري: يعلى بن أمية، أُمُّه: مُنْيَة بنت جابر. ومن قال: "مُنَبِّه" بنون مفتوحة، وباء مكسورة بواحدة تحتها فقد صحَّف؛ قاله القاضي عياض.

قلت: ويُعرف أيضًا بأبيه، وقد صحَّت نسبته إليهما في كتب الحديث، فمرة نُسب إلى أبيه، وهو: أميَّة، ومرة نُسب إلى هذه المرأة. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": و"مُنية" التي نُسب إليها يعلى هنا هي أمه، وقيل: جدّته، والأول المعتمد، وأبوه - كما تقدم في الروايات - أمية بن أبي عُبيد بن همام بن الحارث التميميّ الحنظليّ، أسلم يوم الفتح، وشَهِد مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ما بعدها، كحُنين، والطائف، وتبوك.

و"مُنية" أمه - بضم الميم، وسكون النون، بعدها تحتانية - هي بنت جابر عمةُ عتبة بن غَزْوان، وقيل: أخته.

وذكر عياض أن بعض رواة مسلم صحَّفها، وقال: مُنَبِّه - بفتح النون،

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 160.

(2)

"المفهم" 5/ 31 - 32.

ص: 215

وتشديد الموحدة - وهو تصحيف، وأغرب ابن وضاح، فقال: مُنْبِه - بسكون النون - أمه، وبفتحها، ثم موحدة أبوه، ولم يوافقه أحد على ذلك. انتهى

(1)

.

وقوله: (رَجُلًا) هو يعلى بن أمية المذكور، كما سيأتي بيانه.

قال في "الفتح" ما حاصله: في رواية محمد بن جعفر، عن شعبة عن زُرارة، عن عمران عند مسلم، والنسائيّ:"قال: قاتل يعلى بن أمية رجلًا، فعضّ أحدهما صاحبه. ." الحديث، قال شعبة: وعن قتادة عن عطاء وهو ابن أبي رباح عن ابن يعلى؛ يعني: صفوان، عن يعلى بن أمية، قال مثله، وكذا أخرجه النسائيّ من طريق عبد الله بن المبارك، عن شعبة بهذا السند، فقال في روايته: بمثل الذي عضّ، فَنَدَرَت ثنيّته. . الحديث، ولشعبة فيه سند آخر إلى يعلي، أخرجه النسائيّ من طريق ابن أبي عدي، وعن عُبيد بن عقيل كلاهما عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، عن يعلى. ووقع في رواية عُبيد بن عُقيل:"أن رجلًا من بني تميم، قاتل رجلًا، فعضّ يده"، ويستفاد من هذه الرواية، تعيين أحد الرجلين المبهمين، وأنه يعلى بن أمية.

وقد روى يعلى هذه القصة، فبَيَّنَ في بعض طرقه، أن أحدهما كان أجيرًا له، ولفظه:"غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فذكر الحديث، وفيه:"فاستأجرت أجيرًا، فقاتل أجيري رجلًا، فعضّ الآخر"، فعُرف أن الرجلين المبهمين، يعلى وأجيره، وأن يعلى أبهم نفسه، لكن عيَّنه عمران بن حصين.

قال الحافظ: ولم أقف على تسمية أجيره، وأما تمييز العاضّ من المعضوض، فوقع بيانه عند البخاريّ في "غزوة تبوك" من "المغازي" من طريق محمد بن بكر، عن ابن جريجٍ، في حديث يعلي، قال عطاء: فلقد أخبرني صفوان بن يعلي، أيّهما عض الآخر، فنسيته، فظن أنه مستمرّ على الإبهام، ولكن وقع عند مسلم، والنسائيّ من طريق بُدَيل بن ميسرة، عن عطاء، بلفظ:"أن أجيرًا ليعلى ابن منية، عَضّ آخر ذراعه"، وأخرجه النسائيّ أيضًا عن إسحاق بن إبراهيم، عن سفيان، بلفظ:"فقاتل أجيري رجلًا، فعضه الآخر"، ويؤيده ما أخرجه النسائيّ من طريق صفوان بن عبد الله، عن عميه: سلمة بن أمية، ويعلى بن

(1)

"الفتح" 16/ 65 رقم (6892).

ص: 216

أمية، قالا:"خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في غزوة تبوك، ومعنا صاحب لنا، فقاتل رجلًا من المسلمين، فعضّ الرجل ذراعه"، ويؤيده أيضًا رواية عُبيد بن عُقيل عند النسائيّ بلفظ:"أن رجلًا من بني تميم، قاتل رجلًا، فعضّ يده"، فإن يعلى تميمي، وأما أجيره فإنه لَمْ يقع التصريح بأنه تميميّ، وأخرج النسائي أيضًا من رواية محمد بن مسلم الزهريّ، عن صفوان بن يعلى، عن أبيه، نحو رواية سلمة، ولفظه:"فقاتل رجلًا، فعضّ الرجل ذراعه، فلمَّا أوجعه نترها"، وعُرف بهذا أن العاضَّ هو يعلى بن أمية، ولعل هذا هو السر في إبهامه نفسه.

وقد أنكر القرطبي أن يكون يعلى هو العاضَّ، فقال: يظهر من هذه الرواية أن يعلى هو الذي قاتل الأجير، وفي الرواية الأخرى: أن أجيرًا ليعلى عضَّ يد رجل، وهذا هو الأولى، والأليق؛ إذ لا يليق ذلك الفعل بيعلى، مع جلالته وفضله.

قال الحافظ: لم يقع في شيء من الطريق أن الأجير هو العاضّ، وإنما التبس عليه أن في بعض طرقه عند مسلم - كما بيَّنته -:"أن أجيرًا ليعلى عض رجل ذراعه"، فجوَّز أن يكون العاضّ، غير يعلي، وأما استبعاد أن يقع ذلك من يعلى مع جلالته، فلا معنى له، مع ثبوت التصريح به في الخبر الصحيح، فَيَحْتَمِل أن يكون ذلك صدر منه في أوائل إسلامه، فلا استبعاد.

وقال النووي: وأما قوله - يعني: في الرواية الأولى -: "أن يعلى هو المعضوض"، وفي الرواية الثانية، والثالثة:"المعضوض هو أجير يعلى، لا يعلى"، فقال الحفاظ: الصحيح المعروف أن المعضوض أجير يعلى، لا يعلى، قال: ويَحْتَمِل أنهما قضيتان جرتا ليعلى، ولأجيره في وقت، أو وقتين، وتعقبه شيخنا - يعني: الحافظ العراقيّ - في "شرح الترمذيّ" بأنه ليس في رواية مسلم، ولا رواية غيره، في الكتب الستة، ولا غيرها: أن يعلى هو المعضوض، لا صريحًا، ولا إشارةً، وقال شيخنا: فيتعيَّن على هذا أن يعلى هو العاضّ، والله أعلم.

قال الحافظ: وإنما تردد عياض، وغيره في العاضّ، هل هو يعلى، أو آخر أجنبي؟ كما قدمته، من كلام القرطبيّ، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(فَعَضَّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ)؛ أي: أمسكها بأسنانه، يقال: عَضِضْتُ اللُّقمةَ،

(1)

"الفتح" 16/ 61 - 63، كتاب "الديات" رقم (6892).

ص: 217

وبها، وعليها عضًّا: أَمْسَكَهَا بالأسنان، وهو من باب تَعِبَ في الأكثر، لكن المصدر ساكنٌ، ومن باب نفع لغةٌ قليلةٌ، وفي "أفعال ابن القَطّاع" من باب قَتَل: وعضّ الفرسُ على لجامه، فهو عَضُوضٌ، مثلُ رَسُول، والاسم العِضِيضُ، والْعِضَاض بالكسر، ويقال: ليس في الأمر مَعَضٌّ؛ أي: مُستَمْسكٌ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"عليكم بسنّتي، وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي، عَضُّوا عليها"؛ أي: الزموها، واستمسكوا بها، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

وقال المجد رحمه الله: عَضِضْته، وعَضِضْتُ عليه، كسَمِعَ، ومَنَعَ. انتهى.

لكن تعقّبه الشارح نقلًا عن شيخه، فقال: وزنه بـ "منَعَ" وَهَمٌ؛ إذ الشرط غير موجود

(2)

، كما في "الناموس"، إلا أن يُحمل على تداخل اللغتين. انتهي، ثم أطال البحث فيه، ثم قال أخيرًا: فالصواب الذي لا محيد عنه أنه من باب سَمِعَ فقال. انتهى

(3)

، وهو بحث مفيد، فتنبّه.

(فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ فَمِهِ) وفي بعض النسخ: "من فيه"، وهذه لغة في الفم، وهي من الأسماء الستة التي ترفع بالواو، وتنصب بالألف، وتجرّ بالياء، كما قال ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة":

وَارْفَعْ بِوَاوٍ وَانْصِبَنَّ بِالأَلِفْ

وَاجْرُرْ بَيَاءٍ مَا مِنَ الأَسْمَا أَصِفْ

مِنْ ذَاكَ "ذُو" إِنْ صُحْبَةً أَبَانَا

و"الْفَمُ" حَيْثُ الْمِيمُ مِنْهُ بَانَا

"أَبٌ""أَخٌ""حَمٌ" كَذَاكَ و"هَنُ"

وَالنَّقْصُ فِي هَذَا الأَخِيرِ أَحْسَنُ

وَفي "أَبٍ" وَتَالِيَيْهِ يَنْدُرُ

وَقَصْرُهَا مِنْ نَقْصِهِنَّ أَشْهَرُ

وفي رواية: "عَضّ ذراع رجل، فجذبه"، وفي رواية للبخاريّ:"فعَضّ إصبع صاحبه، فانتزع إصبعه".

قال الحافظ رحمه الله: وفي الجمع بين الذراع والإصبع عُسْر، ويبعد الحمل على تعدد القصّة؛ لاتحاد المخرج؛ لأن مدارها على عطاء، عن صفوان بن يعلى،

(1)

"المصباح المنير" 2/ 415.

(2)

لأن شرط ما يأتي من باب فَعَلَ يَفْعَل - بفتح العين فيهما - أن يكون عين فعله، أو لامه واحدًا من أحرف الحلق الستة، كما هو معروف في كتب الصرف، فتنبّه.

(3)

راجع: "تاج العروس من جواهر القاموس" 5/ 54 - 55.

ص: 218

عن أبيه، فوقع في رواية إسماعيل ابن عليّة، عن ابن جريج، عنه:"إصبعه"، وهذه في البخاريّ، ولم يسق مسلم لفظها، وفي رواية بُدَيل بن ميسرة، عن عطاء، عند مسلم، وكذا في رواية الزهريّ، عن صفوان، عند النسائيّ:"ذراعه"، ووافقه سفيان بن عيينة، عن ابن جريج، في رواية إسحاق بن راهويه، عنه.

فالذي يترجح الذراع، وقد وقع أيضًا في حديث سلمة بن أمية، عند النسائيّ مثل ذلك، وانفراد ابن علية، عن ابن جريج بلفظ الإصبع لا يقاوم هذه الروايات المتعاضدة على الذراع، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(فَنَزَعَ ثَنِيَّتَهُ)؛ أي: أخرجها من فيه، و"الثنيّة" من الأضراس: هي الأربع في مقدّم الفم: ثنتان من فوقُ، وثنتان من أسفل، قاله المجد رحمه الله

(2)

.

وقوله: (وَقَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: ثَنِيَّتَيْهِ) بيّن به اختلاف شيخيه: محمد بن بشّار، ومحمد بن المثنى، فالأول قال في روايته:"ثنيّته" بالإفراد، والثاني قال:"ثنيَّتيه" بالتثنية، ووقع في رواية للبخاريّ بلفظ:"فوقعت ثنيّتاه"، قال في "الفتح": كذا للأكثر بالتثنية، وللكشميهنيّ:"ثناياه" بصيغة الجمع، قال: وقد تترجح رواية التثنية؛ لأنه يمكن حمل الرواية التي بصيغة الجمع عليها، على رأي من يجيز في الاثنين صيغة الجمع، وردّ الرواية التي بالإفراد إليها، على إرادة الجنس.

لكن وقع في رواية محمد بن بكر: "فانتزع إحدى ثنيّتيه"، فهذه أصرح في الوحدة، وقول من يقول في هذا بالحمل على التعدد بعيد أيضًا؛ لاتحاد المخرج، ووقع في رواية الإسماعيليّ:"فندرت ثنيته". انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأولى ترجيح رواية: "ثنيّته" بالإفراد؛ فإنه لم يقع في روايات النسائيّ مع كثرتها، إلا بلفظ الإفراد، سوى رواية واحدة بالشكّ، ويؤيّد هذا أيضًا التصريح بها في رواية محمد بن بكر، حيث قال:"فانتزع إحدى ثنيّتيه"، كما مرّ آنفًا، فتأمّل، والله تعالى أعلم.

(فَاخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية البخاريّ: "فاختصموا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم" بصيغة الجمع، قال في "الفتح": كذا في هذا الموضع، والمراد يعلى،

(1)

"الفتح" 16/ 63، كتاب "الديات" رقم (6892).

(2)

"القاموس المحيط" ص 183.

(3)

"الفتح" 16/ 63.

ص: 219

وأجيره، ومن انضم إليهما، ممن يلوذ بهما، أو بأحدهما، وفي الرواية الآتية:"فرُفِع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية ابن سيرين الآتية:"فاستعدى رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية:"فانطلق"، وفي لفظ:"فأتى"، وفي لفظ:"فأتيا".

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَيَعَضُّ) - بفتح أوله، والعين المهملة، بعدها ضاد معجمة ثقيلة - وفي رواية:"يَعْمِد أحدكم إلى أخيه، فيعضّه"، وأصل عَضَّ عَضِضَ بكسر الأولى، يَعْضَض، بفتحها، فأُدغمت، قاله في "الفتح"

(1)

.

(أَحَدُكُمْ كَمَا يَعَضُّ الْفَحْلُ؟) وفي حديث سلمة: "كعضيض الفحل"، وهو بالحاء المهملة: الذَّكر من الإبل، ويُطلَق على غيره من ذكور الدوابّ، وفي رواية هشام بن معاذ الآتية:"أردت أن يقضمها - بسكون القاف، وفتح الضاد المعجمة، على الأفصح - كما يقضم الفحل"، من القضم، وهو الأكل بأطراف الأسنان، والخضم - بالخاء المعجمة، بدل القاف -: الأكل بأقصاها، وبأدنى الأضراس، ويُطْلَق على الدّقّ والكسر، ولا يكون إلا في الشيء الصُّلْب، حكاه صاحب "الراعي" في اللغة، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال في "اللسان": القضم: الأكل بأطراف الأسنان، والأضراس، وقيل: هو أكل الشيء اليابس، والخَضْمُ: الأكل بجميع الفم، وقيل: هو أكل الشيء الرطب، والقضم دون ذلك، وقولهم: يُبْلغ الخَضْمُ بالقضم؛ أي: أن الشَّبْعَة قد تُبْلغ بالأكل بأطراف الفم، ومعناه: أن الغاية البعيدة قد تُدرَك بالرفق، قال الشاعر [من الطويل]:

تَبَلَّغْ بِأَخْلَاقِ الثِّيَابِ جَدِيدَهَا

وبِالْقَضْمِ حَتَّى تُدْرِكَ الْخَضْمَ بِالْقَضْمِ

(لَا دِيَةَ لَهُ") في رواية الكشميهنيّ في البخاريّ: "لا دية لك"، ووقع في رواية هشام بن معاذ:"فأبطله، وقال: أردت أن تأكل لحمه"، وفي حديث سلمة:"ثم تأتي تلتمس العقل، لا عقل لها، فأبطلها"، وفي رواية ابن سيرين الآتية:"فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تأمرني؟ تأمرني أن آمره أن يَدَعَ يده في فيك، تقضمها كما يقضم الفحل، ادفع يدك حتى يعَضّها، ثم انزعها"، كذا لمسلم، وعند أبي نعيم في "المستخرج" من الوجه الذي أخرجه مسلم: "إن شئت

(1)

"الفتح" 16/ 64.

(2)

"الفتح" 16/ 64.

ص: 220

أمرناه، فعَضّ يدك، ثم انتزعها أنت"، وفي حديث يعلى بن أمية: "فأهدر ثنيّته"، وفي رواية: "فأبطلها"، وهي رواية الإسماعيليّ

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عمران بن حُصين رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 4358 و 4359 و 4360 و 4361 و 4362 و 4363 و 4364 و 4365](1673 و 1674)، و (البخاريّ) في "الإجارة"(2265) و"الجهاد"(2973) و"المغازي"(4417) و"الديات"(6892)، و (أبو داود) في "الديات"(4584 و 4585)، و (الترمذيّ) في "الديات"(1416)، و (النسائيّ) في "القسامة"(8/ 20 و 29 و 30 و 31)، و"الكبرى"(2/ 12 و 4/ 223 و 224)، و (ابن ماجه) في "الديات"(2656 و 2657)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(1546 و 1547 و 1548 و 1759)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 100)، و (الحميديّ) في "مسنده"(788)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1324)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 222 و 223 و 224 و 427 و 428 و 435)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(792)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(22/ 648 و 649 و 650 و 652) و"الأوسط"(1/ 76)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5997 و 5998 و 5999 و 6000)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 95 و 95)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 70)، و (البزّار) في "مسنده"(9/ 73)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 336)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(10/ 252)، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال القاضي عياضٌ رحمه الله: وهذا الباب مما تتبعه الدارقطنيّ على مسلم؛ لأنه ذكر أوّلًا حديث شعبة، عن قتادة، عن زُرارة، عن عمران بن حصين، قال: قاتل يعلى. . وذكر مثله عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، ثم عن شعبة، عن قتادة، عن عطاء، عن ابن يعلى، ثم عن همام، عن

(1)

"الفتح" 16/ 64 رقم (6892)، كتاب "الديات".

ص: 221

عطاء، عن ابن يعلى، ثم حديث ابن جريح، عن عطاء، عن ابن يعلى، ثم حديث معاذ، عن أبيه، عن قتادة، عن بُدَيل، عن عطاء بن صفوان بن يعلى، وهذا اختلاف على عطاء، وذكر أيضًا حديث قُريش بن يونس، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن عمران، ولم يذكر فيه سماعًا منه، ولا من ابن سيرين من عمران، ولم يخرج البخاري لابن سيرين عن عمران شيئًا، والله أعلم.

والجواب عن هذا الإنكار بوجهين:

[أحدهما]: أنه لا يلزم من الاختلاف على عطاء ضعف الحديث، ولا من كون ابن سيرين لم يصرح بالسماع من عمران، ولا رَوَى له البخاريّ عنه شيئًا، أن لا يكون سمع منه، بل هو معدود فيمن سمع منه.

[والثاني]: لو ثبت ضعف هذا الطريق، لم يلزم منه ضعف المتن، فإنه صحيح بالطرق الباقية، التي ذكرها مسلم، وقد سبق مرات أن مسلمًا يذكر في المتابعات من هو دون شرط الصحيح

(1)

، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان حكم الصائل على نفس الإنسان، أو عضوه، إذا دفعه المصول عليه، فأتلف نفسه، أو عضوه لا ضمان عليه، قال البغويّ رحمه الله: والعمل على هذا عند أهل العلم أن من عَضّ رجلًا، فلم يكن له سبيل إلى الخلاص منه إلا بقلع سنّه، أو قصد نفسه، فلم يمكنه دفعه إلا بالقتل، فقتله يكون دمه هدرًا؛ لأنه هو الذي اضطرّه إلى ذلك، ومن جنى على نفسه لا يؤاخذ به غيره، وكذلك لو قصد رجل الفجور بامرأة، فدفعته عن نفسها، فقتلته لا شيء عليها. رُفع إلى عمر رضي الله عنه جارية كانت تحتطب، فاتّبعها رجل، فراودها عن نفسها، فرمته بفِهْر، أو حجر، فقتلته، فقال عمر رضي الله عنه: هذا قتيل الله، والله لا يُودَى أبدًا. انتهى

(2)

، وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى -.

2 -

(ومنها): التحذير من الغضب، وأن من وقع له، ينبغي له أن يَكْظِمه

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 161.

(2)

"شرح السُّنَّة" 10/ 252، وأثر عمر رضي الله عنه المذكور أخرجه عبد الرزّاق في "مصنّفه"(171919)، والبيهقيّ في "الكبرى"(8/ 337) بإسناد رجال ثقات.

ص: 222

ما استطاع؛ لأنه أَدَّى إلى سقوط ثنية الغضبان؛ لأن يعلى غَضِب من أجيره، فضربه، فدافع الأجير عن نفسه، فعضه يعلى، فنزع يده، فسقطت ثنية العاضّ، ولولا الاسترسال مع الغضب، لَسَلِم من ذلك.

3 -

(ومنها): جواز استئجار الحرّ للخدمة، وكفاية مؤنة العمل في الغزو، لا ليقاتِل عنه.

4 -

(ومنها): رفع الجناية إلى الحاكم، من أجل الفصل، وأن المرء لا يقتصّ لنفسه، وأن المعتدي بالجناية يَسقُط ما ثبت له قبلها من جناية، إذا ترتبت الثانية على الأولى.

5 -

(ومنها): جواز تشبيه فعل الآدمي بفعل البهيمة، إذا وقع في مقام التنفير عن مثل ذلك الفعل.

6 -

(ومنها): أن من وقع له أمرٌ يَأنفُه، أو يحتشم من نسبته إليه، إذا حكاه كنى عن نفسه، بأن يقول: فعل رجل، أو إنسان، أو نحو ذلك كذا وكذا، كما وقع ليعلى رضي الله عنه في هذه القصة، وكما وقع لعائشة رضي الله عنها، حيث قالت:"قَبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأةً من نسائه، فقال لها عروة: هل هي إلا أنت؟ فتبسّمت"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم فيمن عضّ يد شخصٍ، فانتزع المعضوض يده من في العاضّ، فقلع سنًّا من أسنان العاضّ:

ذهبت طائفة إلى أنه لا ضمان عليه، رُوي ذلك عن أبي بكر الصّدّيق، وشُريح، وهو قول الكوفيين، والشافعيّ، قالوا: ولو جرحه المعضوض في موضع آخر، فعليه ضمانه. وذهب ابن أبي ليلي، ومالكٌ إلى أنه ضامن لدية يده. وقال عثمان الْبَتِّيُّ: إن كان انتزعها من ألم، ووجع أصابه، فلا شيء عليه، وإن كان انتزعها من غير ألم، فعليه الدية. واحتجّ الكوفيّون، والشافعيّ بحديث الباب، وقالوا: ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم: "أَيَدَع يده في فيه، فيعضّه كما يعضّ الفحل؟، لا دية له"، وهذا لا يجوز خلافه؛ لصحّة مجيئه، وأنه لا شيء يُخالفه مما رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قالوا: ولا يختلفون أن من شهر سلاحًا، وأومأ إلى قتله، وهو صحيح العقل، فقتله المشهور عليه، دافعًا له عن نفسه،

ص: 223

أنه لا ضمان عليه، فإذا لم يضمن نفسه بدفعه إياه عن نفسه، فكذلك لا يضمن سنّه بدفعه إياه عن عضّه، أفاده ابن بطّال رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح": قد أخذ بظاهر هذه القصة الجمهور، فقالوا: لا يلزم المعضوض قصاص، ولا دية؛ لأنه في حكم الصائل، واحتجوا أيضًا بالإجماع، بأن من شهر على آخر سلاحًا ليقتله، فدفع عن نفسه، فقَتَلَ الشاهرَ، أنه لا شيء عليه، فكذا لا يضمن سنّه بدفعه إياه عنها، قالوا: ولو جرحه المعضوض في موضع آخر، لم يلزمه شيء.

وشرط الإهدار أن يتألم المعضوض، وأن لا يمكنه تخليص يده بغير ذلك، من ضربٍ في شدقيه، أو فَكّ لحيته؛ ليرسلها، ومهما أمكن التخليص بدون ذلك، فعدل عنه إلى الأثقل لم يهدر، وعند الشافعية وجهٌ آخر: أنه يُهْدَر على الإطلاق، ووجهٌ: أنه لو دفعه بغير ذلك ضَمِن.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الوجه الذي قاله الشافعيّة من إهداره مطلقًا هو الأظهر عندي؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل حينما أهدر ثنيّة العاضّ، وإنما قال:"لا دية لك"، فلم يسأله كيف نزع يده، وهل كان يمكن أن يدفعه بأقلّ من ذلك؟ والله تعالى أعلم.

قال: وعن مالك روايتان: أشهرهما يجب الضمان، وأجابوا عن هذا الحديث باحتمال أن يكون سبب الإندار شدة العضّ، لا النزع، فيكون سقوط ثنية العاض بفعله، لا بفعل المعضوض، إذ لو كان مِن فعل صاحب اليد، لأمكنه أن يخلص يده من غير قلع، ولا يجوز الدفع بالأثقل، مع إمكان الأخف.

وقال بعض المالكية: العاض قصد العضو نفسه، والذي استحق في إتلاف ذلك العضو، غير ما فعل به، فوجب أن يكون كل منهما ضامنًا ما جناه على الآخر، كمن قلع عين رجل، فقطع الآخر يده.

وتُعُقّب بأنه قياس في مقابل النصّ، فهو فاسد.

وقال بعضهم: لعل أسنانه كانت تتحرك، فسقطت عقب النزع، وسياق هذا الحديث يدفع هذا الاحتمال.

(1)

"شرح البخاري" 8/ 521.

ص: 224

وتمسك بعضهم بأنها واقعة عين، ولا عموم لها.

وتُعُقِّب بأن البخاريّ أخرج في "الإجارة" عقب حديث يعلى هذا، من طريق أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أنه وقع عنده مثل ما وقع عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقضى فيه بمثله.

قال الحافظ: وما تقدم من التقييد ليس في الحديث، وإنما أُخذ من القواعد الكلية، وكذا إلحاق عضو آخر غير الفم به، فإن النص إنما ورد في صورة مخصوصة، نبَّه على ذلك ابن دقيق العيد.

وقد قال يحيى بن عمر: لو بلغ مالكًا هذا الحديث لَمَا خالفه، وكذا قال ابن بطال: لم يقع هذا الحديث لمالك، وإلا لما خالفه، وقال الداودي: لم يروه مالك؛ لأنه من رواية أهل العراق، وقال أبو عبد الملك: كأنه لم يصح الحديث عنده؛ لأنه أتى من قبل المشرق.

قال الحافظ: وهو مُسَلَّم في حديث عمران رضي الله عنه، وأما طريق يعلى بن أمية، فرواها أهل الحجاز، وحملها عنهم أهل العراق.

واعتذر بعض المالكية بفساد الزمان، ونقل القرطبيّ عن بعض أصحابهم: إسقاط الضمان، وقال: وضَمَّنه الشافعيّ، وهو مشهور مذهب مالك.

وتُعُقِّب بأن المعروف عن الشافعيّ: أنه لا ضمان، وكأنه انعكس على القرطبيّ. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما سبق أن الصواب هو ما ذهب إليه الجمهور من أنه لا يلزم المعضوض قصاص، ولا دية؛ لصريح النصّ، والقياس في مقابلة النصّ باطلٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4359]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ يَعْلَى، عَنْ يَعْلَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

(1)

"الفتح" 16/ 66 - 67، كتاب "الديات" رقم (6892).

ص: 225

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عَطَاءُ) بن أبي رَبَاح، تقدّم قبل بابين.

2 -

(ابْنُ يَعْلَى) هو: صفوان بن يعلى بن أميّة التميمي المكيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الجمعة" 16/ 2011.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية عطاء بن أبي رباح، عن صفوان بن يعلى هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4360]

(. . .) - (حَدَّثَنِي أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، حَدَّثَنَا مُعَاذٌ - يَعْنِي: ابْنَ هِشَامٍ - حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّ رَجُلًا عَضَّ ذِرَاعَ رَجُلٍ، فَجَذَبَة، فَسَقَطَتْ ثَنِيَّتُهُ، فَرُفِعَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَبْطَلَهُ، وَقَالَ: "أَرَدْتَ أَنْ تَأْكُلَ لَحْمَهُ؟ ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلهم تقدّموا في الباب، وقبل بابين، و"أبو غسَّان" هو: مالك بن عبد الواحد، و"معاذ" هو: ابن هشام الدستوائيّ.

وقوله: (فَأَبْطَلَهُ) نصّ صريح في إسقاط القصاص، والدية في ذلك.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4361]

(1674) - (حَدَّثَنِي أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ بُدَيْلٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى، أَنَّ أَجِيرًا لِيَعْلَى ابْنِ مُنْيَةَ غَضَّ رَجُلٌ ذِرَاعَهُ، فَجَذَبَهَا، فَسَقَطَتْ ثَنِيَّتُهُ، فَرُفِعَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَبْطَلَهَا، وَقَالَ: "أَرَدْتَ أَنْ تَقْضَمَهَا، كَمَا يَقْضَمُ الْفَحْلُ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(بُدَيْلُ) - مصغّرًا - ابن ميسرة الْعُقَيليّ البصريّ، ثقةٌ [5](ت 125 أو 130)(م 4) تقدم في "الصلاة" 47/ 1115.

ص: 226

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (أَنَّ أَجِيرًا لِيَعْلَى ابْنِ مُنْيَةَ) تقدّم أنه لا يُعرف اسم الأجير.

وقوله: (عَضَّ رَجُلٌ ذِرَاعَهُ) العاضّ هو يعلى.

[تنبيه]: خالف هشام الدستوائيّ في هذه الرواية شعبة، فرواه عن قتادة، عن بُدَيل بن ميسرة، عن عطاء، عن صفوان بن يعلى، أن أجيرًا ليعلى ابن مُنْية عضّ رجلٌ ذراعَهُ. . . إلخ.

فخالفه في شيئين:

[أحدهما]: أنه أدخل بين عطاء، وصفوان بُديلَ بن ميسرة، وشعبة رواه عن عطاء، عن صفوان.

[والثاني]: أنه جعله مرسلًا؛ لأن صفوان حَكَى قصّة لم يحضرها، ومن حَكَى قصّة لم يحضرها كانت حكايته منقطعة، والأرجح في هذا رواية شعبة؛ لأمرين:

[أحدهما]: أنه مقدّم على هشام في قتادة وغيره؛ إذ هو أحفظ منه، فقد قال أبو بكر البرديجيّ رحمه الله: أصحّ الناس روايةً عن قتادة شعبةُ، كان يوقّف قتادة على الحديث

(1)

، وقال أيضًا: إذا خالف هشامٌ شعبةَ فالقول قول شعبة، ذكره الحافظ ابن رجب رحمه الله في "شرح علل الترمذيّ"

(2)

.

[الثاني]: موافقة روايته لرواية غيره، فقد رواه عمرو بن دينار، وابن جريجٍ، كلاهما عن عطاء، عن صفوان بن يعلى، عن أبيه، فلم يدخلا بينهما بُديلًا، وجعلاه متّصلًا بذكر يعلى، وقد حققت ذلك في "شرح النسائيّ، فراجعه

(3)

تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

[تنبيه آخر]: قال في "الفتح": وقد اعترض الدارقطنيّ على مسلم في تخريجه هذه الطريق - أي: لكونها مرسلةً - وتخريجه طريق محمد بن سيرين، عن عمران الآتية، وابن سيرين لم يسمع منه، قال: وأجاب النوويّ بما حاصله:

(1)

أي: يسأله عن كون الحديث متّصلًا، فكان لا يكتب عنه إلا ما صرّح فيه بالسماع من شيخه.

(2)

راجع: "شرح علل الترمذيّ" لابن رجب رحمه الله ص 283 بتحقيق صبحي السامرائيّ.

(3)

راجع: "ذخيرة العقبى" 36/ 71 - 74.

ص: 227

إن المتابعات يُغتفر فيها ما لا يُغتفر في الأصول، وهو كما قال. انتهى

(1)

.

والحديث مرسلٌ، كما أسلفناه آنفًا، وهو من أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4362]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيُّ، حَدَّثَنَا قُرَيْشُ بْنُ أَنَسٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ يْنِ سِيرِينَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّ رَجُلًا عَضَّ يَدَ رَجُلٍ، فَانْتَزَعَ يَدَهُ، فَسَقَطَتْ ثَنِيَّتُهُ، أَوْ ثَنَايَاهُ، فَاسْتَعْدَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا تَأْمُرُنِي؟ تَأْمُرُنِي أَنْ آمُرَهُ أَنْ يَدَعَ يَدَهُ فِي فِيكَ، تَقْضَمُهَا كَمَا يَقْضَمُ الْفَحْلُ؟ ادْفَعْ يَدَكَ حَتَّى يَعَضَّهَا، ثُمَّ انْتَزِعْهَا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيُّ) تقدّم قبل باب.

2 -

(قُرَيْشُ بْنُ أَنَسٍ) الأنصاريّ، ويقال: الأمويّ مولاهم، أبو أنس البصريّ، صدوقٌ تغيّر بآخره قدر ستّ سنين [9].

رَوَى عن ابن عون، وعوف الأعرابي، وحماد بن سلمة، وحبيب بن الشهيد، وحميد الطويل، وأشعث بن عبد الملك، وغيرهم.

وروى عنه عليّ ابن المدينيّ، ويحيى بن معين، وهارون الحمال، وأحمد بن عثمان النوفليّ، وبندار، وغيرهم.

قال عليّ ابن المدينيّ: كان ثقة، وقال أبو حاتم: لا بأس به، إلا أنه تغيّر، وقال أبو داود: سمعت إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد يقول: إنه تغيّر، وكذا ذكر البخاريّ عن إسحاق الشهيديّ، وزاد أنه اختلط ست سنين في البيت، ومات سنة تسع ومائتين، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو داود، عن محمد بن عمر المقدَّميّ: مات في رمضان سنة (208) قبل سعيد بن عامر بثمانية أيام، وقال ابن حبان: اختَلَط، فظهر في حديثه مناكير، فلم يجز الاحتجاج بانفراده، وقال أبو حاتم الرازيّ: يقال: إنه تغيّر عقله، وكان سنة (203) صحيح العقل، مات سنة (208).

(1)

"الفتح" 16/ 65، كتاب "الديات" رقم (6892).

ص: 228

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس له عند المصنّف، والنسائيّ إلا هذا الحديث، وله عند البخاريّ، والترمذيّ، والنسائيّ حديث العقيقة، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه.

3 -

(ابْنُ عَوْنٍ) هو: عبد الله، تقدّم قبل باب.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ) تقدّم قبل أربعة أبواب.

و"عمران بن حصين" رضي الله عنهما ذُكر في الباب.

[تنبيه]: رواية ابن سيرين هذه انتقدها الدارقطنيّ رحمه الله بأن ابن سيرين لم يسمع من عمران بن حُصين، وبأن قريشًا تفرّد بها عن ابن عون، عن ابن سيرين.

والجواب أن سماع ابن سيرين عن عمران رضي الله عنه قد أثبته ابن معين وغيره، وهو لم يُطعن بالتدليس، فعنعنته محمولة على السماع.

وأما تفرّد قريش، فلا يضرّ، فإنه ثقةٌ كما تقدّم، وإن طُعن بالتغيّر في آخره، فقد روى عنه الأئمة قبل تغيّره.

وأيضًا فإن أيوب السختيانيّ تابع ابن عون في روايته عن ابن سيرين، فقد رواه عبد الرزّاق في "مصنّفه" عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عمران بن حصين أن رجلًا عضّ يد رجل، فانتزع يده، فسقطت ثنيّته. . . الحديث

(1)

.

وقد رواه مسلم قبل هذا من طريق شعبة، ومن طريق هشام الدستوائيّ، كلاهما عن قتادة، عن زُرارة بن أوفى، عن عمران رضي الله عنه، فالحديث صحيح، وقد تقدّم جواب القاضي عياض، والنووي قريبًا، فلا تغفل، والله تعالى وليّ التوفيق.

وقوله: (فَسَقَطَتْ ثَنِيَّتُهُ، أَوْ ثَنَايَاهُ)"أو" هنا للشكّ من الراوي، وقد تقدّم ترجيح الإفراد، فلا تنس، وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: (فَاسْتَعْدَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: طلب منه أن ينصره، يقال: استعديتُ الأميرَ على الظالم: طلبتُ منه النُّصْرة، فأعداني عليه؛ أي: أعانني، ونصرني، فالاستعداءُ: طلبُ التقوية والنُّصرة، والاسم: الْعَدْوَى بالفتح، قال ابن فارس: الْعَدْوى: طلبُك إلى والٍ لِيُعديك على من ظلمك؛ أي: ينتقم منه

(1)

"مصنّف عبد الرزّاق" 9/ 355، ورواه أحمد في "مسنده" 4/ 430.

ص: 229

باعتدائه عليك، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (مَا تَأْمُرُنِي؟)"ما" استفهاميّة والاستفهام إنكاريّ؛ أي: أيّ شيء تأمرني به؟.

وقوله: (تَقْضَمُهَا كَمَا يَقْضَمُ الْفَحْلُ)؛ أي: يعضّها كما يعضّ الفحل، كما في الرواية الأخرى، يقال: قَضِمت الدابّة شعيرها بكسر الضاد تَقْضَمه بفتحها على اللغة الفصيحة: إذا أكلته بأطراف أسنانها، وخَضِمته - بالخاء المنقوطة بواحدة من فوقها -: إذا أكلته بفيها كلِّه، ويقال: الخضم: أكل الرُّطب واللَّيِّن، والقضم: أكل اليابس، ومنه قول الحسن: تخضمون ونقضم، والموعد: الحساب

(2)

.

[تنبيه]: قال في "الفتح": وقد حَكَى الكرمانيّ أنه رأى مَن صَحَّف قوله: "كما يقضم الفحل" بالجيم بدل الحاء المهملة، وحمله على البقل المعروف، وهو تصحيف قبيح. انتهى

(3)

.

وقوله: (ادْفَعْ يَدَكَ. . . إلخ) هذا أمر على جهة الإنكار، كما قال قبل ذلك:"بم تأمرني؟ تأمرني أن آمره. . . إلخ".

قال النوويّ رحمه الله: قوله: "ادفع يدك حتى يعضها ثم انتزعها" ليس المراد بهذا أمره بدفع يده ليعضها، وإنما معناه الإنكار عليه؛ أي: إنك لا تدع يدك في فيه يعَضّها، فكيف تنكر عليه أن ينتزع يده من فيك، وتطالبه بما جنى في جذبه لذلك؟ انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا ذكر النوويّ في "شرحه"، ومن الغريب أن صاحب "الفتح" قال: لم يتكلّم النوويّ على رواية ابن سيرين، ودونك عبارته:

[تنبيه]: لم يتكلم النوويّ على ما وقع في رواية ابن سيرين، عن عمران، فإن مقتضاها إجراء القصاص في الْعَضّة، قال: وقد يقال: إن الْعَضّ هنا إنما أَذِن فيه للتوصل إلى القصاص في قلع السنّ، لكن الجواب السديد في هذا أنه استفهمه استفهام إنكار، لا تقرير شرع، هذا الذي يظهر لي، والله أعلم. انتهى

(4)

.

وقد عرفت أن النوويّ تكلم بما استظهره صاحب "الفتح" أخيرًا،

(1)

"المصباح المنير" 2/ 397 - 398.

(2)

"المفهم" 5/ 32.

(3)

"الفتح" 16/ 67.

(4)

"الفتح" 16/ 67 رقم (6892).

ص: 230

وحاصله أن قوله صلى الله عليه وسلم: "ادفع يدك. . . إلخ" من باب الإنكار، وليس من باب تقرير القصاص، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4363]

(. . .) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا عَطَاءٌ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى ابْنِ مُنْيَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، وَفَدْ عَضَّ يَدَ رَجُلٍ، فَانْتَزَعَ يَدَهُ، فَسَقَطَتْ ثَنِيَّتَاهُ - يَعْنِي: الَّذِي عَضَّهُ - قَالَ: فَأَبْطَلَهَا

(1)

النَّبِيُّ، وَقَالَ:"أَرَدْتَ أَنْ تَقْضَمَهُ، كَمَا يَقْضَمُ الْفَحْلُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) تقدّم قبل أربعة أبواب.

2 -

(هَمَّامُ) بن يحيى الْعَوْذيّ، تقدّم في الباب الماضي. والباقون ذُكروا قبل حديث.

وقوله: (أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، وَقَدْ عَضَّ يَدَ رَجُلٍ) تقدَّم أن العاضّ هو يعلى، والمعضوض هو أجيره، فتنبّه.

والحديث مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4364]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، أَخْبَرَنِي صَفْوَانُ بْنُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةَ تَبُوكَ - قَالَ: وَكَانَ يَعْلَى يَقُولُ: تِلْكَ الْغَزْوَةُ أَوْثَقُ عَمَلِي عِنْدِي - فَقَالَ عَطَاءٌ: قَالَ صَفْوَانُ: قَالَ يَعْلَى: كَانَ لِي أَجِيرٌ، فَقَاتَلَ إِنْسَانًا، فَعَضَّ أَحَدُهُمَا يَدَ الآخَرِ - قَالَ: لَقَدْ أَخْبَرَنِي صَفْوَانُ، أَيُّهُمَا عَضَّ الآخَرَ - فَانْتَزَعَ الْمَعْضُوضُ يَدَهُ مِنْ فِي الْعَاضِّ، فَانْتَزَعَ إِحْدَى ثَنِيَّتَيْهِ، فَأَتَيَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَهْدَرَ ثَنِيَّتَهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، تقدّم قبل باب.

(1)

وفي نسخة: "فأبطلهما".

ص: 231

2 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة، تقدّم قريبًا.

3 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم في الباب الماضي. والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةَ تَبُوكَ) وفي رواية للنسائيّ: "غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش العسرة"، وهو غزوة تبوك، وسُمّيت بذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نَدّب الناس إلى الغزو في شدّة القَيْظ - أي: الحرّ - وكانت وقت إيناع الثمرة، وطيب الظلال، فعسُر ذلك عليهم، وشقّ، والعُسر ضدّ اليُسر، وهو الضِّيق، والشدّة، والصعوبة، قاله ابن الأثير رحمه الله

(1)

.

وقوله: (وَكَانَ يَعْلَى يَقُولُ: تِلْكَ الْغَزْوَةُ أَوْثَقُ عَمَلِي عِنْدِي)؛ يعني: أن خروجه في غزوة تبوك من أفضل أعماله التي عمِلها في الإسلام، وذلك لِمَا في الجهاد في سبيل الله من الفضل عمومًا، ولِمَا في هذه الغزوة خصوصًا؛ حيث أثنى الله في كتابه المبين على أهلها، فقال:{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} الآية [التوبة: 117].

وقوله: (فَقَاتَلَ إِنْسَانًا، فَعَضَّ أَحَدُهُمَا يَدَ الآخَرِ) تقدّم أن الإنسان المقاتل هو يعلى نفسه، وهو العاضّ يد أجيره، فانتُزعت ثنيّته، فأهدرها النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (فَأَهْدَرَ ثَنِيَّتَهُ)؛ أي: جعل النبيّ صلى الله عليه وسلم قَلْعَ ثنيّته هدرًا، لا ضمان فيها، ولا قصاص، ولا دية؛ لكونه هو المعتدي على نفسه، ولأن المعضوض مدافع عن نفسه، والمدافع لا شيء عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[4365]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ) بن واقد الكلابيّ، أبو محمد بن أبي عمرو النيسابوريّ المقرئ الحافظ، ثقةُ ثبتٌ [10].

رَوى عن أبي بكر بن عياش، وهُشيم، وعبد الوارث الثقفيّ، ومروان بن

(1)

"النهاية في غريب الحديث والأثر" 3/ 235.

ص: 232

معاوية، والقاسم بن مالك المزني، وأبي عبيدة الحداد، وزياد البكائيّ، وابن علية، وابن عيينة، وغيرهم.

روى عنه البخاريّ، ومسلم، والنسائيّ، وأحمد بن سلمة النيسابوريّ، وأحمد بن سيار المروزيّ، والذُّهليّ، وعبد الله الدارمي، وإبراهيم بن أبي طالب، وغيرهم.

قال النسائيّ، وأبو بكر الجاروديّ: كان ثقة. وقال عمرو المستملي: سمعت محمد بن عبد الوهاب يقول: عمرو بن زرارة ثقة ثقة. وقال داود بن الحسين البيهقيّ: كنا نختلف إليه، فخرج علينا يومًا، فضحك رجل، فغضب، ولم يحدثنا بحرف. وقال أحمد بن سلمة عن عمرو بن زرارة: صحبت ابن علية ثلاث عشرة سنة، فما رأيته يبتسم فيها. وروى الحاكم في "تاريخه" عن محمد بن عبد الوهاب قال: كان عليّ بن عَثّام يسترجح عمرو بن زرارة. وقال أبو العباس السراج: حدّثنا عمرو بن زرارة، رجل فيه زهادة، ويقال: كان مجاب الدعوة.

قال البخاريّ: وابن حبان: مات سنة (238 هـ). وقال السراج: مات قبله، وله (78) سنةً.

تفرّد به البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب ستّة أحاديث فقط

(1)

.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) المعروف بابن علية، ثقةٌ ثبتٌ [8] تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

و"ابن جريج" ذكر قبله.

وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَهُ)؛ أي: بإسناد ابن جريجٍ الماضي، وهو: عن عطاء، عن صفوان بن يعلى، عن أبيه.

[تنبيه]: رواية إسماعيل بن إبراهيم، عن ابن جريج هذه ساقها البخاريّ: في "صحيحه"، فقال:

(2146)

- حدّثنا يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا إسماعيل ابن عُليّة، أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني عطاء، عن صفوان بن يعلى، عن يعلى بن أمية رضي الله عنه

(1)

وقال في "تهذيب التهذيب" 8/ 31: وفي "الزهرة": روى عنه البخاري ثلاث عشرة، ومسلم ثمانية أحاديث. انتهى.

ص: 233

قال: غزوت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم جيش العُسرة، فكان من أوثق أعمالي في نفسي، فكان لي أجير، فقاتل إنسانًا، فعض أحدهما إصبع صاحبه، فانتزع إصبعه، فأندر ثنيته، فسقطت، فانطلق إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأهدر ثنيته، وقال:"أفيدع إصبعه في فيك تقضمها - قال: أحسبه قال: - كما يقضم الفحل؟ ".

قال ابن جريج: وحدّثني عبد الله بن أبي مليكة عن جدّه بمثل هذه الصفة، أن رجلًا عضّ يد رجل، فأندر ثنيته، فأهدرها أبو بكر رضي الله عنه. انتهى

(1)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(5) - (بَابُ إِثْبَاتِ الْقِصَاصِ فِي الأَسْنَانِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا)

[4366]

(1675) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ أُخْتَ الرُّبَيِّعِ أُمَّ حَارِثَةَ، جَرَحَتْ إِنْسَانًا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْقِصَاصَ، الْقِصَاصَ"، فَقَالَتْ أُمُّ الرَّبِيعِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُقْتَصُّ مِنْ فُلَانَةَ؟ وَاللهِ لَا يُقْتَصُّ مِنْهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "سُبْحَانَ اللهِ، يَا أُمَّ الرَّبِيعِ الْقِصَاصُ كِتَابُ اللهِ"، قَالَتْ: لَا، وَاللهِ لَا يُقْتَصُّ مِنْهَا أَبَدًا، قَالَ: فَمَا زَالَتْ حَتَّى قَبِلُوا الدِّيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ، مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في السند الماضي.

2 -

(عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ) الباهليّ الصفّار، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [10](ت 220)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 44.

3 -

(حَمَّادُ) بن سلمة بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقةٌ عابد، أثبت الناس في ثابت، من كبار [8](ت 167)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

4 -

(ثَابِتُ) بن أسلم الْبُنانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4] مات سنة بضع و (120) وله (86) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

(1)

"صحيح البخاري" 2/ 790.

ص: 234

5 -

(أنسُ) بن مالك رضي الله عنه، تقدّم قبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فكوفيّ، وفيه حماد بن سلمة أثبت الناس في ثابت، وفيه ثابت أثبت الناس في أنس رضي الله عنه، يقال: لزمه أربعين سنة، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة، وآخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم في البصرة، وقد جاوز المائة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَس) بن مالك رضي الله عنه (أَنَّ أُخْتَ الرُّبَيِّعِ) بضم الراء، وتشديد المثنّاة التحتانيّة، بصيغة التصغير (أُمَّ حَارِثَةَ) بالنصب بدل من "أُخْتَ" (جَرَحَتْ إِنْسَانًا) قال القرطبيّ رحمه الله: كذا وقع هذا اللفظ في كتاب مسلم، قال القاضي عياض: المعروف أن الرُّبَيِّع هي صاحبة القصّة، وكذا جاء مفسّرًا في البخاريّ، في الروايات الصحيحة أنها الرُّبيّع بنت النضر، وأُخت أنس بن النضر، وعمّة أنس بن مالك، وأن الذي أقسم هو أخوها أنس بن النضر، وكذا في المصنّفات، وجاء مفسّرًا عند البخاريّ وغيره: أنها لطمت جاريةً، فكسرت ثنيّتها، ورواية البخاريّ هذه تدلّ على أن الإنسان المجروح المذكور في رواية مسلم هو جاريةٌ، فلا يكون فيه حجةٌ لمن ظنّ أنه رجلٌ، فاستدلّ به على أن القصاص جارٍ بين الذكر والأنثى فيما دون النفس، والصحيح أن الإنسان يطلق على الذكر والأنثى، وهو من أسماء الأجناس، وهي تعمّ الذكر والأنثى، كالفرس، يعمّ الذكر والأنثى. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: رواية البخاريّ التي أشار إليها نصّها:

(4500)

- حدّثني عبد الله بن مُنير، سمع عبد الله بن بكر السهميّ، حدّثنا حميد، عن أنس: أن الرُّبَيِّع عمته، كسرت ثنيّة جارية، فطلبوا إليها العفو فأبوا، فعرضوا الأرش فأبوا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبوا إلا القصاص، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص، فقال أنس بن النضر: يا رسول الله أتكسر ثنية الرُّبَيِّع؟ لا، والذي بعثك بالحقّ لا تكسر ثنيتها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أنس

(1)

"المفهم" 5/ 34 - 35.

ص: 235

كتاب الله القصاص"، فرضي القوم، فعَفَوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله، من لو أقسم على الله لأبرَّه". انتهى

(1)

.

وحال الاختلاف بينها وبين رواية مسلم هذه من وجهين:

[أحدهما]: أن الجارية في روايته هي أخت الرُّبَيِّع، وفي رواية البخاريّ أنها الرُّبَيّع نفسها.

[والثاني]: أن الحالف في رواية مسلم أن لا تكسر ثنيتها هي أم الرَّبِيع - بفتح الراء، وكسر الموحّدة - وفي رواية البخاريّ هو أنس بن النضر رضي الله عنه.

قال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: المعروف في الروايات رواية البخاريّ، وقد ذكرها البخاريّ من طرقه الصحيحة، وكذا رواها أصحاب "كتب السنن".

قال: إنهما قضيتان: أما الرُّبَيِّع الجارحة في رواية البخاريّ، وأخت الجارحة في رواية مسلم، فهي بضم الراء، وفتح الباء، وتشديد الياء، وأما أم الرَّبِيع الحالفة في رواية مسلم، فبفتح الراء، وكسر الباء، وتخفيف الياء. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": جزم ابن حزم بأنهما قصتان صحيحتان، وقعتا لامرأة واحدة:[إحداهما]: أنها جرحت إنسانًا، فقضي عليها بالضمان، والأخرى: أنَّها كسرت ثنيّة جارية، فقضي عليها بالقصاص، وحلفت أمها في الأولى، وأخوها في الثانية.

وقال البيهقيّ - بعد أن أورد الروايتين -: ظاهر الخبرين يدل على أنهما قصتان، فإن قُبِل هذا الجمع، وإلا فثابت أحفظ من حميد.

قال الحافظ: في القصتين مغايرات: منها: هل الجانية الرُّبَيِّع، أو أختها؟ وهل الجناية كسر الثنية، أو الجراحة؟ وهل الحالف أم الرَّبِيع، أو أخوها أنس بن النضر؟ وأما ما وقع في أول "الجنايات" عند البيهقيّ من وجه آخر، عن حميد، عن أنس، قال: لطمت الرُّبَيِّعُ بنت مُعَوِّذ جارية، فكسرت ثنيّتها، فهو غلط في ذكر أبيها، والمحفوظ أنها بنت النضر، عمة أنس رضي الله عنه كما وقع التصريح به، في "صحيح البخاريّ". انتهى

(3)

.

(1)

"صحيح البخاريّ" 4/ 1636.

(2)

"شرح مسلم" 11/ 164 - 165.

(3)

"الفتح" 16/ 53، كتاب "الديات" رقم (6886).

ص: 236

(فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْقِصَاصَ الْقِصَاصَ") قال النوويّ رحمه الله: هما منصوبان؛ أي: أَدُّوا القصاص، وسَلِّموه إلى مستحقه. انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله: الرواية بنصب "القصاص" في اللفظين، ولا يجوز غيره، وهو منصوب بفعل مضمر، لا يجوز إظهاره، تقديره: ألزمكم القصاص، أو أقيموا القصاص، غير أن هذا الفعل لا تظهره العرب قطّ؛ لأنهم استغنوا عنه بتكرار اللفظ، كما قالوا: الجدارَ الجدارَ، والصبيَّ الصبيَّ. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: أشار القرطبيّ رحمه الله إلى أن نصب "القصاصَ" واجب؛ لأن قاعدة التحذير والإغراء إذا تكرر الاسم، أو كان بالعطف: النصب بفعل مضمر وجوبًا؛ لقيام التكرار مقامه، كقوله:

أَخَاكَ أَخَاكَ إِنَّ مَنْ لَا أَخَا لَهُ

كَسَاعٍ إِلَى الْهَيْجَا بِغَيْرِ سِلَاحِ

وإلى هذه القاعدة أشار ابن مالك في "الخلاصة" حيث قال:

"إِيَّاكَ وَالشَّرَّ" وَنَحْوَهُ نَصَبْ

مُحَذِّرٌ بِمَا اسْتِتَارُهُ وَجَبْ

وَدُونَ عَطْفٍ ذَا لِـ "إِيًّا" انْسُبْ وَمَا

سِوَاهُ سَتْرُ فِعْلِهِ لَنْ يَلْزَمَا

إِلَّا مَع الْعَطْفِ أَوِ التَّكْرَارِ

كَـ "الضَّيْغَمَ الضَّيْغَمَ يَا ذَا السَّارِي"

وَشَذَّ "إِيَّايَ" و"إِيَّاهُ" أَشَذّْ

وَعَنْ سَبِيلِ الْقَصْدِ مَنْ قَاسَ انْتَبَذْ

وَكَمُحَذَّرٍ بِلَا "إِيَّا" اجْعَلَا

مُغْرًى بِهِ فِي كُلِّ مَا قَدْ فُصِّلَا

(فَقَالَتْ أُمُّ الرَّبِيعِ) بفتح الراء، وكسر الموحّدة، وتخفيف الياء (يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُقْتَصُّ مِنْ فُلَانَةَ؟ لَا وَاللهِ، لَا يُقْتَصُّ مِنْهَا أَبَدًا)"لا" الثانية تأكيد للأولى، وهذا إخبارٌ منها بأن الكسر لا يتحقّق، وليس ردًّا للحكم، قال النوويّ رحمه الله: هذا ليس معناه ردّ حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم، بل المراد به الرغبة إلى مستحقّ القصاص أن يعفو، وإلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في الشفاعة إليهم في العفو، وإنما حلفت ثقةً بهم أن لا يُحَنِّثُوها، أو ثقة بفضل الله، ولطفه أن لا يحنّثها بل يلهمهم العفو. انتهى

(2)

.

وقال أبو العبَّاس القرطبيّ رحمه الله ما حاصله: ولَمّا فهِم أنس بن النضر - على ما في الرواية الآتية، أو أم الربيع على في هذه الرواية - لزوم القصاص، عَظُم عليه أن تُكسر ثنية الجانية، فبذلوا الأرش، فلم يرضَ أولياء

(1)

"المفهم" 5/ 36.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 163.

ص: 237

المجنيّ عليها به، فكُلِّم أهلها في ذلك، فأبَوا، فلما رأى امتناعهم من، ذلك، وأن القصاص قد تعيّن، قال:"أيُقتصّ من فلانة؟، والله لا يُقتصّ منها"، ثقةً منه بفضل الله تعالى، وتعويلًا عليه في كشف تلك الكُرْبة، لا أنه ردَّ حكم الله تعالى، وعانده، بل هو منزّهٌ عن ذلك؛ لِمَا عُلم من فضله، وعظيم قدره، وبشهادة النبيّ صلى الله عليه وسلم بما له عند الله تعالى من المنزلة، وهذا التأويل أولى من تأويل من قال: إن ذلك القَسَم كان منه على جهة الرغبة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، أو للأولياء؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أنكر ذلك عليه بقوله:"سبحان الله، كتاب الله القصاص"، ولو كان رغبةً لَمَا أنكره، وأيضًا فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد سمّاه قَسَمًا، وأخبر أنه قسمٌ على الله، وأن الله تعالى قد أبرّه فيه؛ لَمَّا قال:"إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرّه". انتهى

(1)

.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "سُبْحَانَ اللهِ) تعجبًّا من تأكيد نفيها القصاص بالحلف، ولفظِ "أبدًا"، ووجه تعجّبه صلى الله عليه وسلم أن هذه المرأة أقسمت على نفي فعل غيرها مع إصرار ذلك الغير على إيقاع ذلك الفعل، فكان قضيّة ذلك في العادة أن تحنث في يمينها، فألهم الله تعالى الغير العفوَ، فبَرّ قسمها، والله تعالى أعلم.

(يَا أُمَّ الرَّبِيعِ الْقِصَاصُ كِتَابُ اللهِ") وفي رواية البخاري: "يا أنس كتاب الله القصاص"، قال في "الفتح": اختُلف في ضبط: "كتاب الله القصاص": فالمشهور أنهما مرفوعان، على أنَّهما مبتدأ وخبر، وقيل: منصوبان على أنه مما وُضع فيه المصدر موضع الفعل؛ أي: كَتَبَ اللهُ القصاصَ، أو نصب "كتاب الله" على الإغراء، و"القصاصَ" بدل منه، فينصب، أو ينصب بفعل محذوف، ويجوز رفعه، بأن يكون خبر مبتدأ محذوف.

واختُلف أيضًا في المعنى، فقيل: المراد حُكم كتاب الله القصاص، فهو على تقدير حذف مضاف، وقيل: المراد بالكتاب الحكم؛ أي: حكم الله القصاص، وقيل: أشار به إلى قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]، وقيل:

(1)

"المفهم" 5/ 36.

ص: 238

إلى قوله: {فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]، وقيل: إلى قوله: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} في قوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} الآية [المائدة: 45]، بناءً على أنَّ شَرْع من قبلنا شَرْع لنا، ما لم يَرِدْ في شرْعنا ما يرفعه. انتهى

(1)

.

(قَالَتْ: لَا وَاللهِ لَا يُقْتَصُّ مِنْهَا أَبَدًا، فَمَا زَالَتْ)؛ أي: في ترديد كلامها المذكور مرّةً بعد أخرى (حَتَّى قَبِلُوا) بكسر الباء الموحّدة (الدِّيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ، مَنْ لَوْ أقسَمَ عَلَى اللهِ)؛ أي: متوكِّلًا عليه في حصول المحلوف عليه (لَأَبَرَّهُ")؛ أي: لأبرّ قسمه، فلا يحنثه؛ لكرامته عليه.

وقال في "الفتح" في شرح قصّة أنس بن النضر رضي الله عنه ما نصّه: وأشار بقوله: "إن من عباد الله. . . إلخ" إلى أن هذا الاتفاق إنما وقع؛ إكرامًا من الله تعالى لأنس بن النضر رضي الله عنه؛ ليبرَّ يمينه، وأنه من جملة عباد الله الذين يُجيب دعاءهم، ويُعطيهم أَرَبهم. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه متّفقٌ عليه، وإن اختلفت القصّة، على ما بيّناه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 4366](1675)، و (البخاريّ) في "الصلح"(2793) و"الجهاد"(2806) و"التفسير"(4499 و 4500 و 4611) و"الديات"(6894)، و (أبو داود) في "الديات"(4695)، و (النسائيّ) في "القسامة"(8/ 27 - 28) و"الكبرى"(4/ 222 و 223 و 5/ 78 و 6/ 335)، و (ابن ماجه) في "الديات"(2649)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 128 و 167 و 284)، و (عبد بن حُميد)(1/ 400)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6490 و 6491)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6/ 124 و 231)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 96 و 97)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(24/ 664)، و (البيهقيّ) في "الكبير"(8/ 25 و 64)، و"الصغرى"(7/ 35 و 64)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(2529)، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 16/ 69 - 70.

ص: 239

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وجوب القصاص في السنّ، قال النوويّ رحمه الله: وهو مُجْمَع عليه، إذا قلعها كلها، فإن كسر بعضها، ففيه، وفي كسر سائر العظام خلاف مشهور للعلماء، والأكثرون على أنه لا قصاص. انتهى

(1)

، وسيأتي بيان اختلاف العلماء فيه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

2 -

(ومنها): جواز الحلف فيما يظنه الإنسان.

3 -

(ومنها): جواز الثناء على من لا يُخاف عليه الفتنة بذلك.

4 -

(ومنها): استحباب العفو عن القصاص.

5 -

(ومنها): استحباب الشفاعة في العفو.

6 -

(ومنها): أن الخِيَرَة في القصاص والدية إلى مستحقه، لا إلى المستَحَقّ عليه.

7 -

(ومنها): إثبات القصاص بين الرجل والمرأة، وفيه ثلاثة مذاهب:

[أحدها]: مذهب عطاء والحسن: أنه لا قصاص بينهما في نفس، ولا طرف، بل تتعيّن دية الجناية؛ تعلقًا بقوله تعالى:{وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [البقرة: 178].

[الثاني]: وهو مذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين، فمن بَعدهم: ثبوت القصاص بينهما في النفس، وفيما دونها، مما يقبل القصاص، واحتجوا بقوله تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية [المائدة: 45]، وهذا وإن كان شرعًا لمن قبلنا، وفي الاحتجاج به خلاف مشهور للأصوليين، فإنما الخلاف إذا لم يَرِد شرعنا بتقريره، وموافقته، فإن ورد كان شرعًا لنا بلا خلاف، وقد ورد شرعنا بتقريره في حديث أنس رضي الله عنه هذا، والله أعلم.

[والثالث]: وهو مذهب أبي حنيفة، وأصحابه: يجب القصاص بين الرجال والنساء في النفس، ولا يجب فيما دونها.

8 -

(ومنها): أن فيه إثباتَ كرامات الأولياء.

9 -

(ومنها): إثبات القصاص بين النساء في الجراحات، وفي الأسنان.

10 -

(ومنها): جواز الصلح على الدية، وجريان القصاص في كسر السن،

(1)

"شرح مسلم" 11/ 165.

ص: 240

ومحله فيما إذا أمكن التماثل، بأن يكون المكسور مضبوطًا، فَيُبْرَد من سن الجاني ما يقابله بالْمِبْرَد مثلًا، قال أبو داود في "السنن": قلت لأحمد: كيف؟ فقال: يُبرد، ومنهم من حمل الكسر في هذا الحديث على القلع، وهو بعيد من هذا السياق، قاله في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في أقوال أهل العلم في القصاص بالسنّ:

قال العلامة ابن قُدامة رحمه الله: أجمع أهل العلم على القصاص في السن؛ للآية، وحديث الرُّبَيِّع، ولأن القصاص فيها ممكن؛ لأنها محدودة في نفسها، فوجب فيها القصاص، كالعين، وتؤخذ الصحيحة بالصحيحة، وتؤخذ المكسورة بالصحيحة؛ لأنه يأخذ بعض حقه، وهل يأخذ مع القصاص أرش الباقي؟ فيه وجهان.

قال: ولا يُقتَصّ إلَّا من سنّ من أَثْغَر؛ أي: سقطت رَوَاضعه، ثم نبتت، يقال لمن سقطت رواضعه: ثُغِرَ، فهو مثغور، فإذا نبتت قيل: أَثْغَر، واثَّغَرَ، لغتان، وإن قُلِع سن من لَمْ يُثغِر، لَمْ يُقتَصَّ من الجاني في الحال، وهذا قول مالك، والشافعيّ، وأصحاب الرأي؛ لأنها تعود بحكم العادة، فلا يقتص منها، كالشِّعر، ثم إن عاد بدل السن في محلها مثلها، على صفتها، فلا شيء على الجاني، كما لو قلع شعرة، ثم نبتت، وإن عادت مائلة عن محلها، أو متغيرة عن صفتها، كان عليه حكومة؛ لأنها لو لم تَعُد ضمن السن، فإذا عادت ناقصة، ضَمِن ما نقص منها بالحساب، ففي ثلثها ثلث ديتها، وفي ربعها ربعها، وعلى هذا، وإن عادت والدم يسيل، ففيها حكومة؛ لأنه نقصٌ حصل بفعله، وإن مضى زمن عودها، ولم تعد سئل أهل العلم بالطب، فإن قالوا: قد يُئِس من عودها، فالمجني عليه بالخيار بين القصاص أو دية السن، فإن مات المجني عليه قبل الإياس من عودها، فلا قصاص؛ لأن الاستحقاق له غير متحقق، فيكون ذلك شبهة في درئه، وتجب الدية؛ لأن القلع موجود، والعود مشكوك فيه. ويحتمل أنه إذا مات قبل مجيء وقت عودها، أن لا يجب شيء؛ لأن العادة عودها، فأشبه ما لو حلق شعره، فمات قبل نباته.

فاما إن قلع سن من قد أثغر وجب القصاص له في الحال؛ لأن الظاهر

(1)

"الفتح" 16/ 70، كتاب "الديات" رقم (6894).

ص: 241

عدم عودها، وهذا قول بعض أصحاب الشافعيّ، وقال القاضي: يُسأل أهل الخبرة، فإن قالوا: لا تعود فله القصاص في الحال، وإن قالوا: يُرجى عودها إلى وقتٍ ذكروه، لم يقتص حتى يأتي ذلك الوقت، وهذا قول بعض أصحاب الشافعي؛ لأنها تحتمل العود، فأشبهت سنّ من لم يُثغر. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما سبق أن وجوب القصاص في السنّ مجمع عليه بين أهل العلم؛ للآية المذكورة، وحديث الباب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في القصاص في سائر عظام الجسد:

قال العلامة ابن بطّال رحمه الله: أجمع العلماء على أن هذه الآية؛ يعني: قوله تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} الآية [المائدة: 45] في العمد، فمن أصاب سنّ أحد عمدًا، ففيه القصاص على حديث أنس رضي الله عنه، واختَلَف العلماء في سائر عظام الجسد إذا كُسرت عمدًا، فقال مالك: عظام الجسد كلّها فيها القَوَد، إذا كُسرت عمدًا: الذراعان، والعضدان، والساقان، والقدمان، والكعبان، والأصابع إلا ما كان مجوَّفًا، مثل الفخذ، وشبهه، كالمأمومة، والمنقّلة، والهاشمة، والصلب، ففي ذلك الدية.

وقال الكوفيّون: لا قصاص في عظم يُكسر إلا السنّ؛ لقوله تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} الآية [المائدة: 45]، وهو قول الليث، والشافعيّ. واحتجّ الشافعيّ، فقال: إن دون العظم حائلًا من جلد، ولحم، وعَصَب، فلو استيقنّا أنا نكسر عظمة كما كسر عظمة، لا يزيد، ولا ينقص فعلناه، ولكنا لا نصل إلى العظم حتى ننال منه ما دونه، مما ذكرنا أنا لا نعرف قدره، مما هو أقلّ، أو أكثر مما نال غيره، وأيضًا فإنا لا نقدر أن يكون كسر ككسر أبدًا، فهو ممنوع.

وقال الطحاويُّ: اتفقوا على أنه لا قصاص في عظم الرأس، فكذلك سائر العظام.

والحجة لمالك حديث أنس رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في سنّ الربيّع:

(1)

"المغني" 11/ 552 - 554.

ص: 242

"كتاب الله القصاص"، فلمّا جاز القصاص في السنّ إذا كُسرت، وهي عظم، فكذلك سائر العظام، إلا عظمًا أجمعوا أنه لا قصاص فيه؛ لخوف ذهاب النفس منه، وأنه لا يقدر على الوصول فيه إلى مثل الجناية بالسواء، فلا يجوز أن يُفعل ما يؤدّي في الأغلب إلى التلف، إذا كان الجارح الأول لم يؤدِّ فعله إلى التلف.

وقال ابن المنذر: ومن قال: لا قصاص في عظم، فهو مخالفٌ للحديث، والخروج إلى النظر غير جائز مع وجود الخبر. انتهى كلام ابن بطّال رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح": اختلفوا في سائر عظام الجسد، فقال مالك: فيها القود، إلا ما كان مُجَوَّفًا، أو كان كالمأمومة، والْمُنَقِّلة، والهاشمة، ففيها الدية، واحتج بالآية، ووجه الدلالة منها: أن شرع من قبلنا شرع لنا، إذا ورد على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم بغير إنكار، وقد دلّ قوله:{وَالسِّنَّ باِلسِّنِّ} على إجراء القصاص في العظم؛ لأن السن عظم، إلا ما أجمعوا على أن لا قصاص فيه، إما لخوف ذهاب النفس، وإما لعدم الاقتدار على المماثلة فيه. وقال الشافعي، والليث، والحنفية: لا قصاص في العظم، غير السن؛ لأن دون العظم حائلًا من جلد، ولحم، وعصب، يتعذر معه المماثلة، فلو أمكنت لحكمنا بالقصاص، ولكنه لا يصل إلى العظم حتى ينال ما دونه، مما لا يعرف قدره.

وقال الطحاوي: اتفقوا على أنه لا قصاص في عظم الرأس، فليلتحق بها سائر العظام. وتُعُقب بأنه قياس مع وجود النص، فإن في حديث الباب أنها كَسَرت الثنيةَ، فأَمَر صلى الله عليه وسلم بالقصاص، مع أن الكسر لا تطّرد فيه المماثلة. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه الإمام مالك رحمه الله من وجوب القصاص في العظام التي يمكن مماثلتها هو الحقّ؛ لآية: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]، ولحديث الباب، حيث إنه صلى الله عليه وسلم قال في كسر السنّ، وهو من العظام:"كتاب الله القصاص"، فبيّن الحكم العامّ فيه، وفي أمثاله، فتأمل بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"شرح صحيح البخاري" لابن بطال 8/ 522 - 523.

(2)

"الفتح" 16/ 68، كتاب "الديات" رقم (6894).

ص: 243

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(6) - (بَابُ مَا يُبَاحُ بِهِ دَمُ الْمُسْلِمِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4367]

(1676) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِ، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ، الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في السند الماضي.

2 -

(حَفْصُ بْنُ غِيَاثِ) بن طلق بن معاوية النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ القاضي، ثقةٌ فقيهٌ، تغيّر في الأخير قليلًا [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.

3 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم قريبًا.

4 -

(وَكِيعُ) بن الْجَرّاح، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم أيضًا قريبًا.

6 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مُرَّةَ) الْهَمْدانيّ الْخَارفيّ الكوفيّ، ثقةٌ [3](ت 100) أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 217.

7 -

(مَسْرُوقُ) بن الأجدع بن مالك الْهَمْدانيّ، أبو عائشة الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ مخضرم [2](ت 2 أو 63)(ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 217.

8 -

(عَبْدُ اللهِ) بن مسعود بن غافل بن حبيب الْهُذلِيّ، أبو عبد الرحمن الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (32) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه مسلسلٌ بالكوفيين من أوله إلى آخره، وفيه ثلاثة من ثقات التابعين الكوفيين روى بعضهم عن بعض: الأعمش، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق، وفيه الصحابيّ الشهير جمّ المناقب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

ص: 244

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ)؛ أي: ابن مسعود رضي الله عنه؛ لأنه المراد عند الإطلاق في سند الكوفيين، كما أشار إليه السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث":

وَحَيْثُمَا أُطْلِقَ عَبْدُ اللهِ فِي

طَيْبَةَ فَابْنُ عُمَرٍ وَإِنْ يَفِي

بِمَكَّةٍ فَابْنُ الزُّبَيْرِ أَوْ جَرَى

بِكُوفَةٍ فَهْوَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُرَى

وَالْبَصْرَةِ الْبَحْرُ وَعِنْدَ مِصْرِ

وَالشَّامِ مَهْمَا أُطْلِقَ ابْنُ عَمْرِو

(قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَحِلُّ) زاد في رواية الثوريّ الآتية في أوله: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والذي لا إله غيره لا يحلّ"، وظاهر قوله:"لا يحلّ" إثبات إباحة قتل من استثني، وهو كذلك بالنسبة لتحريم قتل غيرهم، وإن كان قتل من أبيح منهم واجبًا في الحكم، قاله في "الفتح"

(1)

. (دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ) وفي رواية الثوريّ: "دم رجل"، والمراد: لا يحلّ إراقة دمه؛ أي: كلّه، وهو كناية عن قتله، ولو لم يُرَق دمه (يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ) هي صفة ثانية ذُكِرت لبيان أن المراد بالمسلم هو الآتي بالشهادتين، أو هي حال مُقَيِّدة للموصوف؛ إشعارًا بأن الشهادة هي العمدة في حقن الدم، وهذا ما رجحه الطيبيّ، واستَشْهَد بحديث أسامة رضي الله عنه مرفوعًا:"كيف تصنع بلا إله إلا الله؟ "(إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ)؛ أي: خصالٍ ثلاثٍ، ووقع في رواية الثوريّ:"إلا ثلاثة نفر"، (الثَّيِّبُ الزَّانِ)؛ أي: فيحل قتله بالرجم، وقد وقع في حديث عثمان رضي الله عنه عند النسائيّ بلفظ:"رجلٌ زنى بعد إحصانه، فعليه الرجم"، قال النوويّ رحمه الله: قوله: "الزان" هكذا هو في النسخ، من غير ياء بعد النون، وهو لغة صحيحة، قُرئ بها في السبع، كما في قوله تعالى:{الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد: 9]، وغيره، والأشهر في اللغة إثبات الياء في كلّ هذا. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: وإلى هذه القاعدة التي ذكر النوويّ رحمه الله أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:

وَحَذْفُ يَا الْمَنْقُوصِ ذِي التَّنْوِينِ مَا

لَمْ يُنْصَبَ اوْلَى مِنْ ثُبُوتٍ فَاعْلَمَا

(1)

"الفتح" 16/ 30، كتاب "الديات" رقم (6878).

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 164.

ص: 245

وَغَيْرُ ذِي التَّنْوِينِ بِالْعَكْسِ وَفِي

نَحْوِ "مُرٍ" لُزُومُ رَدِّ الْيَا اقْتُفِي

(وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ)؛ أي: مَن قَتَل عمدًا بغير حقّ قُتل بشرطه، ووقع في حديث عثمان رضي الله عنه:"قَتَل عمدًا، فعليه الْقَوَد"، وفي حديث جابر عند البزار:"ومن قَتَل نفسًا ظلمًا"(وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ، الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ") كذا هو عند البخاريّ في رواية أبي ذرّ، عن الكشميهنيّ، وللباقين:"والمارق من الدين"، لكن عند النسفيّ، والسرخسيّ، والمستملي:"والمارق لدينه".

قال الطيبيّ رحمه الله: المارق لدينه: هو التارك له، من المروق، وهو الخروج، والمراد بالجماعة: جماعة المسلمين؛ أي: فارقهم، أو تركهم بالارتداد، فهي صفة للتارك، أو المفارق، لا صفة مستقلّة، وإلا لكانت الخصال أربعًا، وهو كقوله قبل ذلك:"مسلم يشهد أن لا إله إلا الله"، فإنها صفة مفسِّرة لقوله:"مسلم"، وليست قيدًا فيه؛ إذ لا يكون مسلمًا إلا بذلك، قال الحافظ رحمه الله: ويؤيد هذا أنه وقع في حديث عثمان رضي الله عنه: "أو يكفر بعد إسلامه"، أخرجه النسائيّ بسند صحيح، وفي لفظ له صحيح أيضًا:"ارتد بعد إسلامه"، وله من طريق عمرو بن غالب، عن عائشة رضي الله عنها:"أو كَفَرَ بعد ما أسلم"، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما، عند النسائيّ:"مُرْتَدّ بعد إيمان".

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: الردة سبب لإباحة دم المسلم بالإجماع في الرجل، وأما المرأة ففيها خلاف، وقد استُدِلّ بهذا الحديث للجمهور في أن حكمها حكم الرجل؛ لاستواء حكمهما في الزنا.

وتُعُقّب بأنها دلالة اقتران، وهي ضعيفة.

وقال البيضاويّ رحمه الله: "التارك لدينه" صفة مؤكِّدة لـ "المارق"؛ أي: الذي ترك جماعة المسلمين، وخرج من جملتهم، قال: وفي الحديث دليل لمن زعم أنه لا يُقتل أحد دخل في الإسلام بشيء غير الذي عُدِّد، كترك الصلاة، ولم ينفصل عن ذلك، وتبعه الطيبيّ.

وقال ابن دقيق العيد: قد يؤخذ من قوله: "المفارق للجماعة" أن المراد المخالف لأهل الإجماع، فيكون مُتَمَسَّكًا لمن يقول: مخالف الإجماع كافر، وقد نُسِب ذلك إلى بعض الناس، وليس ذلك بالهيِّن، فإن المسائل الإجماعية تارةً يصحبها التواتر بالنقل عن صاحب الشرع، كوجوب الصلاة مثلًا، وتارةً لا

ص: 246

يصحبها التواتر، فالأول يكفر جاحده؛ لمخالفة التواتر، لا لمخالفة الإجماع، والثاني لا يكفر به.

قال الحافظ العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذيّ": الصحيح في تكفير منكر الإجماع تقييده بإنكار ما يُعْلَم وجوبه من الدين بالضرورة، كالصلوات الخمس، ومنهم من عَبَّر بإنكار ما عُلِم وجوبه بالتواتر، ومنه القول بحدوث العالم.

وقد حَكَى عياض وغيره الإجماع على تكفير من يقول بقدم العالم.

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: وقع هنا من يَدَّعي الْحِذْق في المعقولات، ويميل إلى الفلسفة، فظَنّ أن المخالف في حدوث العالم لا يكفر؛ لأنه من قبيل مخالفة الإجماع، وتمسك بقولنا: إن منكر الإجماع لا يكفر على الإطلاق، حتى يثبت النقل بذلك متواترًا عن صاحب الشرع، قال: وهو تمسك ساقطٌ، إما عن عَمًى في البصيرة، أو تعامٍ؛ لأن حدوث العالم من قبيل ما اجتمع فيه الإجماع والتواتر بالنقل.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "التارك لدينه" عامّ في كل من ارتدّ أيّ رِدّة كانت، فيجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام، وقوله:"المفارق للجماعة" يتناول كلَّ خارج عن الجماعة، ببدعة، أو نفي إجماع، كالروافض، والخوارج، وغيرهم، كذا قال، وسيأتي البحث فيه.

وقال القرطبيّ رحمه الله في "المفهم": ظاهر قوله: "المفارق للجماعة" أنه نعت للتارك لدينه؛ لأنه إذا ارتدّ فارق جماعة المسلمين، غير أنه يلتحق به كل من خرج عن جماعة المسلمين، وإن لم يرتدّ، كمن يمتنع من إقامة الحدّ عليه، إذا وجب، ويقاتَل على ذلك، كأهل البغي، وقطاع الطريق، والمحاربين من الخوارج، وغيرهم، قال: فيتناولهم لفظ المفارق للجماعة بطريق العموم، ولو لم يكن كذلك لم يصحّ الحصر؛ لأنه يلزم أن يُنفَى مَن ذُكِر، ودمه حلال، فلا يصح الحصر، وكلام الشارع منزَّه عن ذلك، فدلّ على أن وصف المفارقة للجماعة يعمّ جميع هؤلاء، قال: وتحقيقه أن كلَّ من فارق الجماعة ترك دينه، غير أن المرتدّ ترك كله، والمفارق بغير ردة ترك بعضه. انتهى.

قال الحافظ: وفيه مناقشة؛ لأن أصل الخصلة الثالثة الارتداد، فلا بدّ من وجوده، والمفارق بغير ردّة لا يسمى مرتدًّا، فيلزم الخلف في الحصر.

ص: 247

والتحقيق في جواب ذلك: أن الحصر فيمن يجب قتله عينًا، وأما من ذَكَرهم، فإنّ قتل الواحد منهم إنما يباح إذا وقع حال المحاربة، والمقاتلة، بدليل أنه لو أُسِر لم يجز قتله صبرًا اتفاقًا في غير المحاربين، وعلى الراجح في المحاربين أيضًا، لكن يَرِد على ذلك قتل تارك الصلاة، وسيأتي مزيد بسط لذلك في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 4367 و 4368 و 4369 و 4370](1676)، و (البخاريّ) في "الديات"(6878)، و (أبو داود) في "الحدود"(4352)، و (الترمذيّ) في "الديات"(1402)، و (النسائيّ) في "تحريم الدم"(7/ 90 و 91) و"الكبرى"(2/ 301)، و (ابن ماجه) في "الحدود"(2534)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(289)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 321) وفي "مسنده"(1/ 70)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 181 و 382 و 428 و 444)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 218)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(3/ 914)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 128)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 97)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4407 و 4408)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(3/ 82 - 83)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 19 و 194 - 195 و 213 و 283 و 294) و"المعرفة"(6/ 321 و 356) و"الصغرى"(7/ 229)، و (المقدسيّ) في "المختارة"(1/ 443 و 445)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(2517)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم دم المسلم إلا بإحدى الثلاث المذكورة.

2 -

(ومنها): إثبات قتل الزاني المحصن، والمراد: رميه بالحجارة حتى يموت، وهذا بإجماع المسلمين، وسيأتي إيضاحه، وبيان شروطه في بابه - إن شاء الله تعالى -.

3 -

(ومنها): بيان وجوب القصاص فيمن قتل نفسًا بشروطه، قال

ص: 248

النوويّ رحمه الله: وقد يستَدِلّ به أصحاب أبي حنيفة رحمه الله، في قولهم: يُقتَل المسلم بالذميّ، ويقتل الحر بالعبد، وجمهور العلماء على خلافه، منهم مالك، والشافعيّ، والليث، وأحمد. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: يُردّ على الحنفيّة بالحديث المتّفق عليه الصريح، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"ولا يُقتل مسلم بكافر"، فتنبّه.

4 -

(ومنها): وجوب قتل المرتدّ، بأي وجه كانت ردّته إن لم يتب.

5 -

(ومنها): أنه استُدلّ بقوله: "النفس بالنفس" على تساوي النفوس في القتل العمد، فيقاد لكلّ مقتول من قاتله، سواء كان حُرًّا أو عبدًا.

6 -

(ومنها): أنه تمسَّك به الحنفية، وادَّعَوا أن آية المائدة المذكورة:{أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ناسخة لآية البقرة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} الآية [البقرة: 178]، ومنهم من فرّق بين عبد الجاني وعبد غيره، فأقاد من عبد غيره دون عبد نفسه.

وقال الجمهور: آية البقرة مفسِّرة لآية المائدة، فيُقتل العبد بالحرّ، ولا يُقتل الحرّ بالعبد؛ لنقصه، وقال الشافعيّ: ليس بين العبد والحر قصاص، إلا أن يشاء الحرّ، واحتُجّ للجمهور بأن العبد سلعة، فلا يجب فيه إلا القيمة لو قُتل خطأ، قاله في "الفتح"

(1)

.

7 -

(ومنها): أنه استُدِلّ بعمومه على جواز قتل المسلم بالكافر المستأمَن، والمعاهَد.

وتُعُقّب بأن حديث: "ولا يُقتل مسلم بكافر" خاصّ يُقدّم عليه.

8 -

(ومنها): جواز وصف الشخص بما كان عليه، ولو انتقل عنه لاستثنائه المرتدّ من المسلمين، وهو باعتبار ما كان.

9 -

(ومنها): ما ذكره ابن دقيق العيد: استُدلّ بهذا الحديث أن تارك الصلاة لا يُقتل بتركها؛ لكونه ليس من الأمور الثلاثة.

قال الحافظ: تارك الصلاة اختُلِف فيه، فذهب أحمد، وإسحاق، وبعض المالكية، ومن الشافعية ابن خزيمة، وأبو الطيب بن سلمة، وأبو عبيد بن

(1)

"الفتح" 16/ 35.

ص: 249

جويرية، ومنصور الفقيه، وأبو جعفر الترمذيّ إلى أنه يُكَفَّر بذلك، ولو لم يجحد وجوبها، وذهب الجمهور إلى أنه يُقتل حدًّا، وذهب الحنفية، ووافقهم المزنيّ إلى أنه لا يكفّر، ولا يُقتل.

قال: ومن أقوى ما يُستدَلّ به على عدم كفره حديث عبادة، رفعه:"خمسُ صلوات كتبهن الله على العباد. . ." الحديث، وفيه:"ومن لم يأت بهنّ فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة"، أخرجه مالك، وأصحاب "السنن"، وصححه ابن حبان، وابن السكن، وغيرهما، وتمسك أحمد، ومن وافقه بظواهر أحاديث، وَرَدَت بتكفيره، وحَمَلها من خالفهم على المستحلّ جمعًا بين الأخبار، والله أعلم.

وقد تعقّب الصنعانيّ رحمه الله في "العدّة" على استدلال الحافظ المذكور، فقال: وأما الحديث الذي قال ابن حجر: إنه أقوى ما يُستدلّ به، فلفظه:"خمس صلوات افترضهنّ الله تعالى، مَنْ أحسن وضوءهنّ، وصلاهنّ لوقتهنّ، وأتمّ ركوعهنّ، وخشوعهنّ كان له على الله عهد أن يَغفر له، ومن لم يفعل، فليس له على الله عهد، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه".

فقوله: "ومن لم يفعل"؛ أي: لم يأت بهنّ على تلك الصفات، لا أنه لم يأت بهنّ أصلًا، وهذا الاحتمال أقوى، فلا يتمّ معه الاستدلال. انتهى، وهو تعقّب جيّد، ومفيدٌ، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

10 -

(ومنها): أنه قد استَدَلّ بهذا الحديث بعض الشافعية لقتل تارك الصلاة؛ لأنه تارك للدين الذي هو العمل، وانما لم يقولوا بقتل تارك الزكاة؛ لإمكان انتزاعها منه قهرًا، ولا يُقتل تارك الصيام؛ لإمكان منعه المفطرات، فيحتاج هو أن ينوي الصيام؛ لأنه يعتقد وجوبه.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الاستدلال قويّ جدًّا، وقد تقدّم البحث في تارك الصلاة مستوفًى في "كتاب الصلاة"، فارجع إليه تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.

11 -

(ومنها): استُدِلّ به على أن الحر لا يُقتل بالعبد؛ لأن العبد لا يُرجم إذا زنى، ولو كان ثيّبًا، حكاه ابن التين، قال: وليس لأحد أن يفرّق ما جمعه الله إلا بدليل، من كتاب، أو سُنَّة، قال: وهذا بخلاف الخصلة الثالثة،

ص: 250

فإن الإجماع انعقد على أن العبد والحر في الردّة سواء، فكأنه جعل أن الأصل العمل بدلالة الاقتران ما لم يأت دليل يخالفه.

[تنبيه]: قال الحافظ العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذي": استثنى بعضهم من الثلاثة قتل الصائل، فإنه يجوز قَتْله للدفع، وأشار بذلك إلى قول النوويّ: يُخصّ من عموم الثلاثة الصائل، ونحوه، فيباح قتله في الدفع.

وقد يجاب بأنه داخل في المفارق للجماعة، أو يكون المراد: لا يحلّ تعمّد قتله، بمعنى أنه لا يحل قتله إلا مدافعة، بخلاف الثلاثة، واستحسنه الطيبيّ، وقال: هو أولى من تقرير البيضاويّ؛ لأنه فسَّر قوله: "النفس بالنفس": يَحِلّ قتل النفس قصاصًا للنفس التي قتَلها عدوانًا، فاقتضى خروج الصائل، ولو لم يقصد الدافع قتله.

قال الحافظ: والجواب الثاني هو المعتمَد، وأما الأول فتقدَّم الجواب عنه.

وحَكَى ابن التين عن الداوديّ أن هذا الحديث منسوخ بآية المحارَبة: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} الآية [المائدة: 32] قال: فأباح القتل بمجرد الفساد في الأرض، قال: وقد ورد في القتل بغير الثلاث أشياء، منها: قوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} الآية [الحجرات: 9]، وحديث:"من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوه"، وحديث:"من أَتَى بهيمةً، فاقتلوه"، وحديث:"من خرج، وأمْرُ الناس جميعٌ، يريد تفرّقهم، فاقتلوه"، وقول عمر:"تَغِرَّة أن يُقْتَلا"، وقول جماعة من الأئمة: إن تاب أهل القَدَر، وإلا قُتلوا، وقول جماعة من الأئمة: يُضْرَب المبتدِع حتى يرجع، أو يموت، وقول جماعة من الأئمة: يُقتَل تارك الصلاة، قال: وهذا كله زائد على الثلاث.

وزاد غيره: قَتْلَ مَن طَلَب أخذ مال إنسان، أو حريمه بغير حقّ، ومانع الزكاة المفروضة، ومن ارتدّ، ولم يفارق الجماعة، ومن خالف الإجماع، وأظهر الشقاق والخلاف، والزنديق إذا تاب - على رأي - والساحر.

والجواب عن ذلك كله: أن الأكثر في المحارَبة أنه إن قَتَل قُتِل، وبأن حُكْمَ الآية في الباغي أن يقاتَل، لا أن يُقْصَد إلى قتله، وبأن الخبرين في اللواط، وإتيان البهيمة لم يصحّا، وعلى تقدير الصحة فهما داخلان في الزنا، وحديث الخارج عن المسلمين تقدَّم تأويله بأن المراد بقتله: حبْسِه ومِنْعه من

ص: 251

الخروج، وأثرُ عمر من هذا القبيل، والقول في القدرية، وسائر المبتدعة مُفَرَّعٌ على القول بتكفيرهم، وبأن قتل تارك الصلاة عند من لا يُكَفِّره مختلَفٌ فيه كما تقدم إيضاحه، وأما من طلب المال، أو الحريم، فمِنْ حُكْم دَفْع الصائل، ومانع الزكاة تقدم جوابه، ومخالف الإجماع داخل في مفارق الجماعة، وقتلُ الزنديق لاستصحاب حُكْم كُفْره، وكذا الساحر، والعلم عند الله تعالى.

وقد حَكَى ابن العربيّ عن بعض أشياخه أن أسباب القتل عشرة، قال ابن العربيّ: ولا تخرج عن هذه الثلاثة بحال، فان مَن سحَر، أو سَبّ نبي الله صلى الله عليه وسلم كَفَر، فهو داخل في التارك لدينه. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4368]

(. . .) - (حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، كُلُّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نمير، تقدَّم قريبًا.

2 -

(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَني، ثم المكيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم قبل أربعة أبواب.

5 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم أيضًا قريبًا.

6 -

(عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ) المروزيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257 أو بعدها)، وقد قارب المائة (م ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.

7 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبيعيّ الكوفيّ، ثقةٌ مأمونٌ [8] (ت 187) وقيل:(191)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

و"الأعمش" ذُكر قبله.

(1)

"الفتح" 16/ 34 - 35، كتاب "الديات" رقم (6878).

ص: 252

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ)؛ يعني: أن الثلاثة: عبد الله بن نُمير، وسفيان بن عُيينة، وعيسى بن يونس رووا هذا الحديث عن الأعمش بسنده الماضي.

[تنبيه]: رواية عبد الله بن نُمير، عن الأعمش ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(6155)

- حدَّثنا الحسن بن عليّ بن عفان، قثنا عبد الله بن نمير، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، قال: قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحلّ دم رجل يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا إحدى ثلاثة نَفَر: النفس بالنفس، والثيب الزان، والتارك لدينه المفارق للجماعة". انتهى

(1)

.

وأما روايتا سفيان بن عيينة، وعيسى بن يونس، كلاهما عن الأعمش، فلم أجد من ساقهما، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4369]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى - وَاللَّفْظُ لأَحْمَدَ - قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، لَا يَحِلُّ دَمُ رَجُلٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، إِلَّا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ

(2)

: التَّارِكُ لِلإِسْلَامِ، الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ، أَوِ الْجَمَاعَةَ - شَكَّ فِيهِ أَحْمَدُ - وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ". قَالَ الأَعْمَشُ: فَحَدَّثْتُ بِهِ إِبْرَاهِيمَ، فَحَدَّثَنِي عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ بِمِثْلِهِ).

رجال هذين الإسنادين: أحد عشر:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ) هو: أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيبانيّ، أبو عبد الله المروزيّ، نزيل بغداد، أحد الأئمة، ثقة ثبتٌ حافظ فقيه حجة، رأس الطبقة [10](ت 241)(ع) تقدم في "الإيمان" 80/ 427.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ، تقدّم قبل باب.

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 97.

(2)

وفي نسخة: "إلا ثلاثة: التارك للإسلام".

ص: 253

3 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيّ) بن حسّان الْعَنبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ إمام [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.

4 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ عابدٌ إمامٌ حجة، وربما دلّس، من رؤوس الطبقة [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

5 -

(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ، يرسل كثيرًا [5](96)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.

6 -

(الأَسْوَدُ) بن يزيد بن قيس النخعيّ، خال إبراهيم الراوي عنه، أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن الكوفيّ، مخضرمٌ ثقةٌ مكثرٌ فقيهٌ [2](ت 4 أو 75)(ع) تقدم في "الطهارة" 32/ 674.

7 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315. والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: خطيبًا.

وقوله: (إِلَّا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ)

(1)

هو على حذف مضاف؛ أي: إلا دم ثلاثة نفر، وفي بعض النسخ:"إلا ثلاثة".

وقوله: (التَّارِكُ لِلإِسْلَامِ) وفي بعض النسخ: "التارك الإسلامِ" بحذف لام الجرّ، فيجوز جرّ "الإسلام" بإضافة "التارك" إليه، من إضافة الصفة إلى مفعولها، وجازت الإضافة مع كون المضاف بـ "أل"؛ لكونه اسم فاعل يعمل عمل الفعل مع دخولها في الثاني، كما قال في "الخلاصة":

وَوَصْلُ "أَلْ" بِذَا الْمُضَافِ مُغْتَفَرْ

إِنْ وُصِلَتْ بِالثَّانِ كَـ "الْجَعْدِ الشَّعَرْ"

ويجوز نصب "الإسلامَ" على المفعوليّة لاسم الفاعل.

وقوله: (أَوِ الْجَمَاعَةَ)"أو" للشكّ كما بيّنه بقوله: (شَكَّ فِيهِ أَحْمَدُ)؛ أي: ابن حنبل رحمه الله، و"الجماعة" يجوز فيه الجرّ، والنصب، كما في "الإسلام" المذكور قبله.

وقوله: (قَالَ الأَعْمَشُ. . . إلخ) هو موصول بالسند السابق، وليس معلّقًا.

(1)

وفي نسخة: "إلا ثلاثة: التارك للإسلام".

ص: 254

وقوله: (فَحَدَّثْتُ بِهِ إِبْرَاهِيمَ)؛ أي: ابن يزيد النخعيّ (فَحَدَّثَنِي)؛ أي: إبراهيمُ (عَنِ الأَسْوَدِ)؛ يعني: ابن يزيد النخعيّ (عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها.

والغرض من هذا بيان ثبوت الحديث عن الصحابيّين: ابن مسعود، وعائشة رضي الله عنهما، وأن الأعمش، وإبراهيم النخعيّ استفاد كلّ منهما من صاحبه ما ليس عنده، فالأعمش كان عنده حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وليس عنده حديث عائشة رضي الله عنها، وإبراهيم بالعكس، فاستفاد كلّ منهما من الآخَر ما ليس عنده، فتفطّن، وبالله تعالى التوفيق.

[تنبيه]: حديث عائشة رضي الله عنها هذا أخرجه أبو داود في "سننه" من طريق آخر، فقال:

(4353)

- حدّثنا محمد بن سنان الباهليّ، ثنا إبراهيم بن طهمان، عن عبد العزيز بن رُفيع، عن عُبيد بن عُمير، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحلّ دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصان، فإنه يُرْجَم، ورجل خرج محاربًا لله ورسوله، فإنه يُقْتَل، أو يُصْلب، أو ينفى من الأرض، أو يَقتل نفسًا، فيُقتل بها". انتهى

(1)

.

[تنبيه آخر]: هذه الرواية أغفل الحافظ أبو الحجّاج المزيّ رحمه الله ذِكْرها في "الأطراف" في مسند عائشة رضي الله عنها، وأغفل التنبيه عليها في ترجمة عبد الله بن مرّة، عن مسروق، عن ابن مسعود رضي الله عنه، قاله في "الفتح"

(2)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4370]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، قَالَا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ شَيْبَانَ، عَنِ الأَعْمَشِ، بِالإِسْنَادَيْنِ جَمِيعًا، نَحْوَ حَدِيثِ سُفْيَانَ، وَلَمْ يَذْكُرْ

(3)

في الْحَدِيثِ قَوْلَهُ: "وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ").

(1)

"سنن أبي داود" 2/ 530.

(2)

"الفتح" 16/ 31.

(3)

وفي نسخة: "ولم يذكرا" بالتثنية.

ص: 255

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: حجاج بن أبي يعقوب يوسف بن حجاج الثقفي البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 259)(م د) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.

2 -

(الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ) بن دينار القرشيّ، أبو محمد الكوفيّ الطحّان، وربما نُسب لجدّه، ثقةٌ [11] مات في حدود (250)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

3 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى) بن أبي المختار باذام الْعَبْسيّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ يتشيّع [9](ت 213) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

4 -

(شَيْبَانُ) بن عبد الرحمن التميمي مولاهم النحويّ، أبو معاوية البصريّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ صاحب كتاب [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

و"الأعمش" ذُكر قبله.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ) هكذا في النسخة الهنديّة: "ولم يذكُر" بالإفراد، والضمير يرجع إلى شيبان، وهو ظاهر، ووقع في بعض النسخ:"ولم يذكرا" بالتثنية، وله أيضًا وجه، وهو أنه يرجع إلى شيخيه: حجاج، والقاسم، لكن الأول أظهر، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية شيبان، عن الأعمش هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(6161)

- حدّثنا أبو أمية، قثنا عبيد الله بن موسى، قثنا شيبان

(1)

، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا ثلاثة نفر: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة"، زاد: قال: فذكرت ذلك لإبراهيم، فقال: حدثنيه الأسود، عن عائشة. انتهى

(2)

.

(1)

وقع في النسخة: "سفيان" بدل "شيبان"، وهو مصحّف بلا شكّ؛ كما يبينه السند التالي، وكذا قال الحافظ في "الفتح" 16/ 31: إن أبا عوانة أخرجه عن شيبان، فتنبّه.

(2)

"مسند أبي عوانة" 4/ 98.

ص: 256

(7) - (بَابُ بَيَانِ إِثْمِ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4371]

(1677) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ - قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا؛ لأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلهم تقدّموا في الباب الماضي.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُرَّةَ) قال في "الفتح": في رواية حفص بن غياث، عن الأعمش: حدّثني عبد الله بن مرّة، وهو الخارفيّ بمعجمة، وراء مكسورة، وفاء، كوفيّ، وفي السند ثلاثة من التابعين في نسقٍ كوفيون. انتهى

(1)

. (عَنْ مَسْرُوقٍ) هو ابن الأجدع الهَمْدانيّ (عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا) وفي رواية للبخاريّ: "وليس من نفس تُقتَلُ ظلمًا". قال القرطبيّ رحمه الله: يَدخل فيه بحكم عمومه نَفْسُ الذمّيّ، والمعاهَد، إذا قُتلا ظُلمًا؛ لأنّ نفسًا نكرة في سياق النفي، فهي للعموم. انتهى

(2)

.

(إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ) بالجرّ صفة لـ "ابن"؛ أي: الذي هو أوَّلٌ في القتل، ويَحْتَمِل أن يكون المراد: الأول في الولادة، والله أعلم.

وقال في "الفتح": وهو قابيل، عند الأكثر، وعَكَس القاضي

(1)

"الفتح" 16/ 15، كتاب "الديات" رقم (6867).

(2)

"المفهم" 5/ 40.

ص: 257

جمال الدين بن واصل في "تاريخه"، فقال: اسم المقتول: قابيل، اشتُقّ من قَبول قربانه. وقيل: اسمه قابن بنون بدل اللام بغير ياء. وقيل: قبن مِثْله بغير ألف. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح" أيضًا في موضع آخر: واختُلف في اسم القاتل، فالمشهور قابيل بوزن المقتول، لكن أوله هاء. وقيل: اسم المقتول: قَيْن بلفظ الْحَدَّاد. وقيل: قاين بزيادة ألف. وذكر السدّيّ في "تفسيره" عن مشايخه بأسانيده أن سبب قَتْل قابيل لأخيه هابيل أن آدم عليه السلام كان يزوَّج ذكر كلّ بطن من ولده بأنثى الآخر، وأن أخت قابيل كانت أحسن من أخت هابيل، فأراد قابيل أن يستأثر بأخته، فمنعه آدم، فلمّا ألحّ عليه أمَرهما أن يُقرّبا قُربانًا، فقرّب قابيل حُزْمة من زرع، وكان صاحب زرع، وقرّب هابيل جذعة سمينة، وكان صاحب مَوَاشٍ، فنزلت نار، فأكلت قربان هابيل، دون قابيل، وكان ذلك سبب الشرّ بينهما، وهذا هو المشهور.

ونقل الثعلبيّ بسند واهٍ عن جعفر الصادق أنه أنكر أن يكون آدم زوّج ابنًا له بابنة له، وإنما زوّج قابيل جنّيّةً، وزوّج هابيل حُوريّةً، فغضب قابيل، فقال: يا بُنيّ ما فعلته إلا بأمر من الله، فقرِّبا قربانًا. وهذا لا يَثْبُت عن جابر، ولا عن غيره، ويلزم منه أن بني آدم من ذرّيّة إبليس؛ لأنه أبو الجنّ كلّهم، أو من ذرّيّة الحور العين، وليس لذلك أصلٌ، ولا شاهد. انتهى

(2)

.

وأخرج الطبريّ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما: كان من شأنهما أنه لم يكن مسكين يُتصدّق عليه، إنما كان القربان يقرّبه الرجل، فمهما قُبل تنزل النار، فتأكله، وإلا فلا.

وعن الحسن: لَمْ يكونا وَلَدَيْ آدم لصلبه، وإنما كانا من بني إسرائيل، أخرجه الطبريّ.

ومن طريق ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، قال: كانا وَلَدَيْ آدم لصُلبه، وهذا هو المشهور، ويؤيّده حديث الباب لوصفه "ابنَ" بأنه الأول؛ أي: أول ما

(1)

"الفتح" 16/ 15.

(2)

"الفتح" 7/ 614، كتاب "أحاديث الأنبياء" رقم (3335).

ص: 258

وَلَد آدم، ويقال: إنه لم يولد في الجنّة لآدم غيره وغير توأمته، ومن ثَمّ فَخَر على أخيه هابيل، فقال: نحن من أولاد الجنّة، وأنتما من أولاد الأرض، ذكر ذلك ابن إسحاق في "المبتدإ".

وعن الحسن: ذُكر لي أن هابيل قُتل وله عشرون سنة، ولأخيه القاتل خمس وعشرون سنة. وتفسير هابيل: هبة الله، ولَمّا قُتل هابيل، وحزِن عليه آدم وُلد له بعد ذلك شيث، ومعناه عطيّة الله، ومنه انتشرت ذرّية آدم.

وقال الثعلبيّ: ذَكَر أهلُ العلم بالقرآن أن حوّاء وَلَدت لآدم أربعين نفسًا في عشرين بطنًا، أولهم قابيل، وأخته إقليما، وآخرهم عبد المغيث، وأمة المغيث، ثم لم يَمُت حتى بلغ ولده، وولد ولده أربعين ألفًا، وهلكوا كلّهم، فلم يبق بعد الطوفان إلا ذرّيّة نوح، وهو من نسل شيث، قال الله تعالى:{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77)} [الصافات: 77]، وكان معه في السفينة ثمانون نفسًا، وهم المشار إليهم بقوله تعالى:{وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40]، ومع ذلك فما بقي إلا نَسْل نوح، فتوالدوا حتى ملأوا الأرض. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه الحكايات معظمها تكون من الإسرائيليّات، فالله تعالى أعلم بصحّتها.

[تنبيه]: اختُلف في كيفيّة قتله، وموضعه: فعن السدّيّ: شَدَخ رأس أخيه بحجر، فمات. وعن ابن جريج: تمثّل له إبليس، فأخذ بحجر، فشدخ به رأس طير، ففعل ذلك قابيل، وكان ذلك على جبل ثور. وقيل: على عقبة حراء. وقيل: بالهند. وقيل: بموضع المسجد الأعظم بالبصرة، وكان من شأنه في دفنه ما قصّه الله تعالى في كتابه. قاله في "الفتح".

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه الاختلافات من جنس ما قبلها، لا يُعتمد على شيء منها؛ إذ لا تَعتمد على حُجة، فلا ينبغي الركون إليها، وإنما الركون والاعتماد على ما قصّه الله في كتابه العزيز، فقط، حيث قال الله سبحانه وتعالى:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا} إلى قوله عز وجل: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 27 - 31]، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 16/ 15 - 16، كتاب "الديات" رقم (6867).

ص: 259

(كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا) بكسر الكاف، وسكون الفاء: النصيب، وأكثر ما يُطلق على الأجر، والضِّعْفُ على الإثم، ومنه قوله تعالى:{كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد: 28]، ووقع على الإثم في قوله تعالى:{وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء: 85]. قاله في "الفتح"، (لأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ")؛ أي: فهو متبوع في هذا الفعل، وللمتبوع نصيب من فِعْل تابعه، وإن لم يقصد التابع اتّباعه في الفعل.

وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا نصّ على تعليل ذلك الأمر؛ لأنه لما كان أول من قتل، كان قَتْله ذلك تنبيهًا لمن أتى بعده، وتعليمًا له، فمن قتل كأنه اقتدى به في ذلك، فكان عليه من وزره، وهذا جارٍ في الخير والشرّ، كما قد نصّ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"من سنّ في الإسلام سُنّة حسنة، كان له أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ في الإسلام سُنّة سيّئةً كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة"، رواه مسلم. قال: وبهذا الاعتبار يكون على إبليس كفلٌ من معصية كلّ من عصى بالسجود؛ لأنه أول من عصى به. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 4371 و 4372](1677)، و (البخاريّ) في "أحاديث الأنبياء"(3335) و"الديات"(6867) و"الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة"(7321)، و (الترمذيّ) في "العلم"(2673)، و (النسائيّ) في "المحاربة"(7/ 81) و"الكبرى"(2/ 284 و 6/ 334)، و (ابن ماجه) في "الديات"(2616)، و (عبد الرّزّاق) في "مصنّفه"(19718)، و (ابن أبي شيبة) في "مسنده"(1/ 171) و"مصنّفه"(5/ 435 و 7/ 269)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 383 و 430 و 433)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5983)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 99)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 346)، و (الطحاويّ) في "شرح مشكل الآثار"(1/ 483)، و (الطبريّ) في "التفسير"(11738 و 11739)، و (البيهقيّ)

ص: 260

في "الكبرى"(8/ 15)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(111)، و"التفسير"(2/ 31)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان إثم من سنّ القتل.

2 -

(ومنها): بيان تحريم دم المسلم إلا بالحق، كما قال الله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} الآية [الإسراء: 33].

3 -

(ومنها): أن من سنّ شيئًا، كُتب له، أو عليه، وقد أخرج مسلم، وأصحاب السنن، من حديث جرير بن عبد الله البجليّ رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سنَّ في الإسلام سُنَّة حسنة، فعُمِل بها بعده، كُتِب له مثلُ أجر من عمل بها، ولا يَنْقُص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سُنَّة سيئة، فعُمل بها بعده، كُتب عليه مثل وِزر من عَمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء".

وهذا محمولٌ على إذا ما لم يَتُبْ ذلك القاتل الأول من تلك المعصية؛ فإن آدم عليه السلام أول من خالف في أكل ما نُهي عنه، ولا يكون عليه شيء من أوزار من عصى بأكل ما نُهي عنه، ممن بعدَه بالإجماع؛ لأن آدم عليه السلام تاب من ذلك الذنب، وتاب الله عليه، فصار كأن لم يَجْنِ، فإن التائب من الذنب، كمن لا ذنب له، أفاده القرطبيّ

(1)

.

4 -

(ومنها): أن هذا الحديث أصل في أن المعونة على ما لا يحلّ حرام، قاله في "الفتح"

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4372]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، وَعِيسَى بْنُ يُونُسَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، كُلُّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَفِي حَدِيثِ جَرِيرٍ، وَعِيسَى بْنِ يُونُسَ:"لأَنَّهُ سَنَّ الْقَتْلَ"، لَمْ يَذْكُرَا

(3)

أَوَّلَ).

(1)

"المفهم" 5/ 41.

(2)

"الفتح" 16/ 16.

(3)

وفي نسخة: "لم يذكرا" بالواو.

ص: 261

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عثمان بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الْعَبسيّ، أبو الحسن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 239) تقدم في "الإيمان" 35/ 246.

2 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم قريبًا.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ)؛ يعني: أن جرير بن عبد الحميد، وعيسى بن يونس، وسفيان بن عيينة رووا هذا الحديث عن الأعمش بسنده السابق.

[تنبيه]: رواية جرير بن عبد الحميد، عن الأعمش، ساقها الحميديّ رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(118)

- حدّثنا الحميديّ

(1)

، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نفس تُقْتَل ظلمًا، إلا كان على ابن آدم الأولِ كِفْلٌ منها؛ لأنه سَنَّ القتل أوّلًا". انتهى

(2)

.

وأما رواية عيسى بن يونس، عن الأعمش، فساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:

(2616)

- حدّثنا هِشَامُ بن عَمَّارٍ، ثنا عِيسَى بن يُونُسَ، ثنا الْأَعْمَشُ، عن عبد اللهِ بن مُرَّةَ، عن مَسْرُوقٍ، عن عبد اللهِ، قال: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا، إلا كان على ابن آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ من دَمِهَا؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ من سَنَّ الْقَتْلَ". انتهى

(3)

.

وأما رواية سفيان بن عُيينة، عن الأعمش، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(6890)

- حدّثنا الْحُمَيْدِيُّ، حدّثنا سُفْيَانُ، حدّثنا الْأَعْمَشُ، عن عبد اللهِ بن مُرَّةَ، عن مَسْرُوقٍ، عن عبد اللهِ، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ليس من

(1)

هذا كلام الراوي عن الحميديّ، فتنبّه.

(2)

"مسند الحميديّ" 1/ 65.

(3)

"سنن ابن ماجه" 2/ 873.

ص: 262

نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا، إلا كان على ابن آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ منها - وَرُبَّمَا قال سُفْيَانُ - من دَمِهَا؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ من سَنَ الْقَتْلَ أَوَّلًا". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(8) - (بَابُ الْمُجَازَاةِ بِالدِّمَاءِ فِي الآخِرَةِ، وَأَنَّهَا أَوَّلُ مَا يُقْضَى فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4373]

(1678) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، جَمِيْعًا عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الأَعْمَشِ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَوَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الكلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [8](ت 187) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 339.

2 -

(أَبُو وَائِلٍ) شقيق بن سلمة الأسديّ الكوفيّ، مخضرمٌ، ثقةٌ [2](ت 82)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

والباقون تقدّموا في البابين الماضيين.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)"أول" مبتدأ، و"ما" موصول حرفيّ، والفعل مبنيّ للمفعول، والظرفان متعلّقان به، وقوله:(فِي الدِّمَاءِ") متعلق بمحذوف، خبر

(1)

"صحيح البخاريّ" 6/ 2669.

ص: 263

للمبتدإ، والتقدير: أول القضاء بين الناس يوم القيامة كائن في الأمر المتعلّق بالدماء؛ أي: التي وقعت بينهم في الدنيا، ويَحْتمل أن تكون "ما" موصولًا اسميًّا، ويكون التقدير: أول الأمر الذي يُقضَى فيه بينهم هو الأمر الكائن في الدماء، ويَحْتَمل أن تكون نكرة موصوفة، والتقدير: أول شيء يُقضى فيه الأمر الكائن في الدماء.

[فإن قلت]: هذا يعارض حديث أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: "إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته. . ." الحديث، أخرجه أصحاب السنن، فكيف يُجمع بينهما؟.

[قلت]: يُجمع بينهما بأن هذا محمول على ما يتعلق بمعاملات الخلق، والثاني فيما يتعلق بعبادة الخالق، أو هذا من فعل السيّئات، وذاك من ترك العبادات، وقيل: المحاسبة غير القضاء، فتكون المحاسبة أَوّلًا في الصلاة، ويكون القضاء أوّلًا في الدماء، وقيل غير ذلك.

وقد جمع النسائيّ في روايته في حديث ابن مسعود رضي الله عنه بين الخبرين، ولفظه:"أول ما يحاسب العبد عليه صلاته، وأول ما يقضى بين الناس في الدماء".

قال في "الفتح": وتقدّم في تفسير "سورة الحجّ" ذكر هذه الأولية بأخصّ مما في حديث الباب، وهو عن عليّ رضي الله عنه قال:"أنا أول من يجثو للخصومة يوم القيامة، يعني هو ورفيقاه: حمزة، وعُبيدة، وخصومهم: عتبة، وشيبة، ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، الذين بارزوا يوم بدر، قال أبو ذرّ رضي الله عنه: فيهم نزلت: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} الآية [الحج: 19]، قال: وفي حديث الصُّوْر الطويل، عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: "أول ما يُقْضَى بين الناس في الدماء، ويأتي كلُّ قتيل قد حَمَل رأسه، فيقول: يا رب سَلْ هذا فيم قتلني. . ."، الحديث، وفي حديث نافع بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه: "يأتي المقتول مُعَلِّقًا رأسَهُ بإحدى يديه، مُلَبِّبًا قاتله بيده الأخرى، تَشْخُب أوداجه دمًا، حتى يقفا بين يدي الله. . ." الحديث، ونحوه عند ابن المبارك، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفًا.

ص: 264

وأما كيفية القصاص فيما عدا ذلك فيُعلم من الحديث الثاني

(1)

.

وأخرج ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه: "نحن آخر الأمم، وأول من يحاسب يوم القيامة. . ."

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 4373 و 4374](1678)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6533) و"الديات"(6864)، و (الترمذيّ) في "الديات"(1396 و 1397)، و (النسائيّ) في "تحريم الدم"(7/ 83) و"الكبرى"(2/ 285 و 286)، و (ابن ماجه) في "الديات"(2615 و 2617)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(269)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(19717)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(9/ 426 و 14/ 100)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 440 و 441 و 442)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5215)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7344)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(10425)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(7/ 88)، و (ابن المبارك) في "الزهد"(1358)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 100)، و (الشاشيّ) في "مسنده"(2/ 64 و 65 و 66)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(212)، و (ابن أبي عاصم) في "الأوائل"(34)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 21)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): تعظيم أمر الدم، فإن البداءة إنما تكون بالأهم، والذنبُ

(1)

أشار به إلى ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كانت عنده مظلمة لأخيه، فليتحلَّله منها، فإنه ليس ثَمَّ دينار، ولا درهم، من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات، أُخِذ من سيئات أخيه، فطُرحت عليه". انتهى.

(2)

"الفتح" 15/ 51 - 52، كتاب "الرقاق" رقم (6533).

ص: 265

يَعْظُم بحسب عُظْم المفسدة، وتفويت المصلحة، وإعدام البنية الإنسانية غاية في ذلك، وقد ورد في التغليظ في أمر القتل آيات كثيرة وآثار شهيرة مذكورة في كتب السُّنَّة.

2 -

(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث يدلّ على أنه ليس في حقوق الآدميين أعظم من الدماء، ولا تعارض بين هذا وبين قوله صلى الله عليه وسلم:"أول ما يحاسب به العبد من عمله الصلاة"؛ لأنَّ كل واحد منهما أولٌ في بابه، فأول ما يُنظر فيه من حقوق الله: الصلاة؛ فإنَّها أعظم قواعد الإسلام العملية، وأول ما ينظر فيه من حقوق الآدميين: الدِّماء؛ لأنَّها أعظم الجرائم، وقد تقدم هذا في كتاب الصلاة. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): أنه قد استَدَلّ به بعضهم على أن القضاء يختص بالناس، ولا مدخل فيه للبهائم، وهو غلطٌ؛ لأن مفاده حصر الأولية في القضاء بين الناس، وليس فيه نفي القضاء بين البهائم، بل غاية ما يفيده أن يكون القضاء بين البهائم بعد القضاء بين الناس، وقد وردت النصوص الدالّة على ثبوت القصاص بين البهائم، فقد أخرج مسلم في "صحيحه" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لتُؤَدَّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الْجَلْحاء من الشاة القرناء".

وفي لفظ لأحمد: "حتى يُقتصّ للشاة الجمّاء من الشاة القرناء تنطحها"، وإسناده صحيح، وله طريق أخرى عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ:"ألا والذي نفسي بيده ليختصمن كلُّ شيء يوم القيامة، حتى الشاتان فيما انتطحتا"، قال الشيخ الألبانيّ رحمه الله: وإسناده حسن لغيره، وورد أيضًا:"يَقْتَصّ الخلق بعضهم من بعض، حتى الجماء من القرناء، وحتى الذَّرّة من الذرّة"، وإسناده صحيح، وعن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاتين تنتطحان، فقال:"يا أبا ذر أتدري فيما تنتطحان؟ " قلت: لا، قال:"لكن ربك يدري، وسيقضي بينهما يوم القيامة"، وإسناده صحيح، أورد ذلك كلّه الشيخ الألبانيّ رحمه الله في "السلسلة الصحيحة"

(2)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"المفهم" 15/ 122.

(2)

راجع: "السلسلة الصحيحة" 4/ 115.

ص: 266

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4374]

(. . .) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ - يَعْنِي: ابْنَ الْحَارِثِ - (ح) وَحَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ، غَيْرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ عَنْ شُعْبَةَ:"يُقْضَى"، وَبَعْضُهُمْ قَالَ:"يُحْكَمُ بَيْنَ النَّاسِ").

رجال هذا الإسناد: ثلاثة عشر:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) الْعَنْبريّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان العنبريّ، أبو المثنّى البصريّ، ثقة متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

3 -

(يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ) بن عربيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) الْهُجَيميّ البصريّ، تقدَّم أيضًا قريبًا.

5 -

(بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ) الْعَسْكريّ، أبو محمد الفرائضيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ يُغْرِب [10](ت 3 أو 255)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 200.

6 -

(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

والباقون تقدّموا قبل ثلاثة أبواب.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ)؛ يعني: أن معاذ بن معاذ، وخالد بن الحارث، ومحمد بن جعفر غُندر، وابن أبي عديّ رووا هذا الحديث عن شعبة، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

[تنبيه]: رواية خالد بن الحارث، عن شعبة، هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "السنن الكبرى"، فقال:

(3454)

- أخبرنا محمد بن عبد الأعلى، عن خالد، حدّثنا شعبة، عن سليمان، قال: سمعت أبا وائل، يحدِّث عن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

ص: 267

"أول ما يُحكَم بين الناس في الدماء". انتهى

(1)

.

وأما رواية ابن أبي عديّ، عن شعبة، فساقها البزّار رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(1678)

- حدّثنا محمد بن المثنى، قال: نا محمد بن أبي عديّ، عن شعبة، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أول ما يُقْضَى بين الناس في الدماء"، يعني: يوم القيامة. انتهى

(2)

.

وأما رواية معاذ بن معاذ، عن شعبة فلم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(9) - (بَابُ تَغْلِيظِ تَحْرِيمِ الدِّمَاءِ، وَالأَعْرَاضِ، وَالأَمْوَالِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4375]

(1679) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَيَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثيُّ - وَتَقَارَبَا فِي اللَّفْظِ - قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ:"إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ شَهْرُ مُضَرَ، الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ - ثُمَّ قَالَ -: أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ ". قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ - قَالَ -: فَسَكَتَ، حَتَّى ظنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ:"أَلَيْسَ ذَا الْحِجَّةِ؟ "، قُلْنَا: بَلَى، قَالَ:"فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ "، قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ - قَالَ -: فَسَكَتَ، حَتَّى ظنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ:"ألَيْسَ الْبَلْدَةَ؟ "، قُلْنَا: بَلَى، قَالَ:"فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ "، قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ - قَالَ -: فَسَكَتَ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ:"أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟ "، قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:

(1)

"السنن الكبرى" للنسائيّ 2/ 285.

(2)

"مسند البزار" 5/ 100.

ص: 268

"فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ - قَالَ مُحَمَّدٌ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ -: وَأَعْرَاضَكُمْ، حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، فَلَا تَرْجِعُنَّ بَعْدِي كُفَّارًا

(1)

- أَوْ ضُلَّالًا - يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، أَلَا، لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يُبَلَّغُهُ يَكُونُ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ"، ثُمَّ قَالَ: "أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟ ".

قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ فِي رِوَايَتِهِ: "وَرَجَبُ مُضَرَ"، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ:"فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ) هو ابن عبد المجيد البصريّ، تقدَّم قريبًا.

2 -

(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السختيانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(ابْنُ سِيرِينَ) هو: محمد الإمام الشهير، تقدَّم أيضًا قريبًا.

4 -

(ابْنُ أَبِي بَكْرَةَ) هو: عبد الرحمن بن أبي بكرة الثقفيّ البصريّ، أول مولود في الإسلام بالبصرة، ثقةٌ [2](ت 96)(ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 266.

5 -

(أَبُو بَكْرَةَ) نُفيع بن الحارث بن كَلَدَةَ بن عَمرو الثقفيّ الصحابيّ الشهير، مشهور بكنيته، قيل: اسمه مَسْرُوح، أسلم بالطائف، ثم نزل البصرة، ومات بها سنة (1 أو 52)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 481.

والباقيان تقدَّما في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه أبي بكر، فكوفيّ، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: أيوب، عن ابن سيرين، عن ابن أبي بكرة، وفيه رواية الراوي عن أبيه، وفيه أن صحابيّه ممن اشتهر بلقب هو بصورة الكنية، فأبو بكرة لقب، وكنيته أبو عبد الرحمن، والله تعالى أعلم.

(1)

وفي نسخة: "فلا ترجعنّ بعدي ضُلّالًا".

ص: 269

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ) هو: عبد الرحمن، كما سيأتي التصريح به في الرواية التالية.

[تنبيه]: قال الحافظ الرشيد العطّار رحمه الله في "غرر الفوائد": و"ابن أبي بكرة" المبهم اسمه في هذا الإسناد هو عبد الرحمن، ثقةٌ متّفق عليه، بيّن ذلك عبد الله بن عون وغيره في رواياتهم لهذا الحديث عن أيوب، وبنو أبي بكرة ستة، فيما ذكر عليّ ابن المدينيّ، وهم: عبد الرحمن، ومسلم، وعبد العزيز، ويزيد، وعبيد الله، وداود، وزاد غيره: كَيِّسَة بنت أبي بكرة، وهي بفتح الكاف، وتشديد الياء المعجمة باثنتين من تحتها، وسين مهملة، وتشتبه بكبشة - بالباء الموحّدة، وبالشين المعجمة -.

فأما عبد الرحمن فاتَّفَقَ البخاريّ ومسلم على إخراج حديثه عن أبيه، وأما مسلم فانفرد به مسلم، وأما عبد العزيز فأخرج له أبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، وأما كيِّسة فأخرج لها أبو داود، عن أبيها، والباقون لم يُخرَّج لهم شيء في الكتب الستة فيما أعلم، والله عز وجل أعلم.

وقد ذكر عبد الغنيّ بن سعيد الحافظ كَيّسة هذه، وقيَّدها كما ذكرناه، إلا أنه قال بإسكان الياء، وبالتشديد قيّدها الأمير أبو نصر ابن ماكولا، وذكر أن غير ذلك تصحيف، والله أعلم

(1)

.

(عَنْ أَبِي بَكْرَةَ) نُفَيع بن الحارث رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ الزَّمَانَ) المراد بالزمان: السنَة (قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ) الكاف صفة مصدر محذوف، تقديره: استَدَار استدارةً مثلَ صفته يوم خلق الله السماوات والأرض، ولفظ الزمان يُطلق على قليل الوقت وكثيره، وزعم يوسف بن عبد الملك في كتابه "تفضيل الأزمنة" أن هذه المقالة صدرت من النبيّ صلى الله عليه وسلم في شهر مارس، وهو آذار، وهو برمهات بالقبطيِّة، وفيه يستوي الليل والنهار عند حلول الشمس بُرْجَ الحمل، ووقع في حديث ابن عمر، عند ابن مردويه: "إن الزمان قد استدار، فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السماوات

(1)

"غرر الفوائد المجموعة" 1/ 50.

ص: 270

والأرض"، قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي زعمه يوسف بن عبد الملك سيأتي ردّه في كلام القرطبيّ رحمه الله، فتنبَّه.

وقال النوويّ رحمه الله: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الزمان قد استدار. . . إلخ": فقال العلماء: معناه أنهم في الجاهلية يتمسكون بملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم في تحريم الأشهر الحُرُم، وكان يَشُقّ عليهم تأخير القتال ثلاثة أشهر متواليات، فكانوا إذا احتاجوا إلى قتال أخَّروا تحريم المحرَّم إلى الشهر الذي بعده، وهو صَفَر، ثم يؤخرونه في السنة الأخرى إلى شهر آخر، وهكذا يفعلون في سنة بعد سنة، حتى اختلط عليهم الأمر، وصادفت حَجة النبيّ صلى الله عليه وسلم تحريمهم، وقد تطابق الشرع، وكانوا في تلك السنة قد حرَّموا ذا الحِجة لموافقة الحساب الذي ذكرناه، فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن الاستدارة صادفت ما حَكَم الله تعالى به يوم خلق السماوات والأرض، وقال أبو عبيد: كانوا يُنسئون؛ أي: يؤخِّرون، وهو الذي قال الله تعالى فيه:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37]، فربما احتاجوا إلى الحرب في المحرم، فيؤخرون تحريمه إلى صفر، ثم يؤخرون صفر في سنة أخرى، فصادف تلك السنة رجوع المحرم إلى موضعه، وذكر القاضي عياض وجوهًا أُخَر في بيان معنى هذا الحديث، ليست بواضحة، ويُنكَر بعضها. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إن الزمان قد استدار كهيئته. . . إلخ": اختُلِف في معنى هذا اللفظ على أقوال كثيرة، وأشبه ما فيها ثلاثة أقوال:

[أحدها]: قاله إياس بن معاوية، وذلك: أن المشركين كانوا يحسِبون السنة اثني عشر شهرًا وخمسة عشر يومًا، فكان الحجُّ يكون في رمضان، وفي ذي القعدة، وفي كل شهر من السَّنة بحكم استدارة الشهر بزيادة الخمسة عشر يومًا، فحجَّ أبو بكر رضي الله عنه سنة تسع في ذي القعدة، بحكم الاستدارة، ولم يحج

(1)

"الفتح" 7/ 498، كتاب "بدء الخلق" رقم (3197)، و 10/ 176، كتاب "التفسير" رقم (4662).

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 168 - 169.

ص: 271

النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما كان في العام المقبل وافق الحجّ ذا الحجَّة في العشر، ووافق ذلك الأهلة، وقد رُوي أن أبا بكر إنما حجَّ في ذي الحجة.

[الثاني]: رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه قال: كانوا إذا كانت السنة التي يُنسأ فيها، قام خطيبهم وقد اجتمع إليه الناس يوم الصَّدر فقال: أيها الناس! إني قد نسأت العام صَفَرًا الأول، يعني: الْمُحَرَّم، فيطرحونه من المشهور، ولا يعتدُّون به، ويبدؤون العدَّة، فيقولون لصفر وشهر ربيع الأول: صفران، ولربيع الآخر وجمادى الأولى: شهرا ربيع، ولجمادى الآخرة ورجب: جماديان، ولشعبان: رجب، ولرمضان: شعبان، وهكذا إلى محرَّم. ويُبطلون من هذه السَّنة شهرًا، فيحجون في كل سنة حجتين، ثم ينسأ في السَّنة الثالثة صفرًا الأوّل في عدَّتهم، وهو الأخير في العدَّة المستقيمة، حتى يكون حجهم في صفر حجتين، وكذلك الشهور كلها حتى يستدير الحجَّ في كل أربع وعشرين سنة إلى المحرم الشهر الذي ابتدؤوا فيه النَّساء، ونحوه قال ابن الزبير، إلا أنه قال: يفعلون ذلك في كل ثلاث سنين، يزيدون شهرًا، قيل: وكانوا يتصدون بذلك موافقة شهور المعجم لشهور الأهلة حتى تأتي الأزمان واحدة.

[الثالث]: قيل: كانت العرب تحجُّ عامين في ذي القعدة، وعامين في ذي الحجة، فصادفت حجَّة أبي بكر رضي الله عنه ذا القعدة من السَّنة الثانية، وصادفت حجَّة النبيّ صلى الله عليه وسلم ذا الحجة بالاستدارة.

قال القرطبيّ: والأشبه القول الأول؛ لأنَّه هو الذي استفيد نفيه من قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الزمان قد استدار"؛ أي: زمان الحجِّ عاد إلى وقته الأصليّ؛ الذي عيّنه الله تعالى له يوم خلق السموات والأرض بأصل المشروعية التي سبق بها علمه، ونفذ بها حكمه، ثم قال:"السَّنة اثنا عشر شهرًا" ينفي بذلك الزيادة التي زادوها في السَّنة؛ وهي الخمسة عشر يومًا بتحكمهم، ثم هذا موافق لقوله تعالى:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36]، فتعيَّن الوقت الأصليّ، وبَطَل التحكُّم الجهليّ، والحمد لله.

قال: وهذه أقوال سلف هذه الأمَّة، وعلماء أهل السُّنَّة، وقد تكلَّم على هذا الحديث بعض من يدَّعي علم التعديل بقولٍ صدر عنه من غير تحقيق ولا

ص: 272

تحصيل، فقال: إن الله سبحانه أول ما خلق الشمس أجراها في برج الحمل، وكان الزمان الذي أشار إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم صادف حلول الشمس في برج الحمل.

قال القرطبيّ: وهذا تقوُّل بما لم يصحّ نقله؛ إذ مقتضى قوله: إن الله تعالى خلق البروج قبل الشمس، وأنه أجراها في أول برج الحمل، وهذا لا يُتَوَصَّل إليه إلا بالنقل عن الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - ولا نَقْلَ صحيحًا عنهم بشيء من ذلك، ومن ادَّعاه فليُسْنده، ثمَّ: إن العقل يُجَوِّز خلاف ما قال، وهو: أن يخلق الله تعالى الشمس قبل البروج، ويجوز أن يخلق كل ذلك دفعة واحدة، ثم إن علماء التعديل قد اختبروا كلام ذلك الرجل فوجدوه خطأ صراحًا؛ لأنَّهم اعتبروا بحساب التعديل اليوم الذي قال فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك القول، فوجدوا الشمس فيه في برج الحوت، بينها وبين الحمل عشرون درجة، ومنهم من قال: عشر درجات. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

(السَّنَةُ)؛ أي: العربية الهلالية (اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا) قال في "الفتح": ذَكَر الطبريّ في سبب ذلك من طريق حُصين بن عبد الرحمن، عن أبي مالك:"كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرًا"، ومن وجه آخر: كانوا يجعلون السنة اثني عشر شهرًا وخمسة وعشرين يومًا، فتدور الأيام والشهور كذلك. انتهى.

وقال التوربشتيّ رحمه الله: قوله: "إن الزمان قد استدار. . . إلخ": الزمان اسم لقليل الوقت وكثيره، وأراد به هنا السنةَ. انتهى، قال الطيبيّ رحمه الله: وذلك أن قوله: "السنة اثنا عشر شهرًا" إلى آخره جملة مستأنَفة مبيِّنة للجملة الأولى، فالمعنى أن الزمان في انقسامه إلى الأعوام، والأعوام إلى الأشهر عاد إلى أصل الحساب والوضع الذي اختاره الله، ووضَعه يوم خلق السماوات والأرض، والهيئة صورة الشيء، وشكله، وحاله، والكاف صفة مصدر محذوف؛ أي: استدار استدارة مثل حالته يوم خلق الله السماوات والأرض

(2)

.

(مِنْهَا)؛ أي: من الاثني عشر شهرًا (أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ)؛ أي: محترمة، لا يجوز انتهاكها، و"الْحُرُمُ" بضمّتين: جمع حَرام بالفتح.

(1)

"المفهم" 5/ 43 - 44.

(2)

راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 2014.

ص: 273

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "منها أربعة حُرُم"؛ أي: من الاثني عشر شهرًا، وأولها المحرّم، سُمي بذلك: لتحريم القتال فيه، ثمَّ صفر، سُمي بذلك: لخلوِّ مكة من أهلها فيه، وقيل: وقع فيه وباءٌ فاصفرَّت وجوههم، وقال أبو عبيد: لِصِفْر الأواني من اللَّبن، ثم الربيعان: لارتباع الناس فيهما؛ أي: لإقامتهم في الربيع، ثم جماديان، وسُمِّيا بذلك: لأن الماء جَمَد فيهما، ثم رجب، وسُمي بذلك: لترجيب العرب إياه؛ أي: لتعظيمهم له، أو لأنَّه لا قتال فيه، والأرجب: الأقطع، ثم شعبان، وسُمي بذلك: لتشعّب القبائل فيه. ثم رمضان، وسمِّي بذلك: لشدَّة الرمضاء فيه، ثم شوَّال، وسُمِّي بذلك: لأن اللقاح تَشُول فيه أذنابها، ثم ذو القعدة، سُمِّي بذلك لقعودهم فيه عن الحرب، ثم ذو الحجَّة، وسمِّي بذلك: لأن الحجَّ فيه، ويجوز في فاء ذي القِعدة وذي الْحِجَّة الفتح والكسر، غير أن الفتح في القعدة أفصح.

وسمِّيت الْحُرُم حُرُمًا: لاحترامها وتعظيمها بما خُصَّت به من أفعال البِر، وتحريم القتال، وتشديد أمر البغي والظلم فيها، وذلك: أن العرب كانت في غالب أحوالها، ومعظم أوقاتها قبل مجيء الإسلام أهل غارة، ونهب، وقتال، وحرب، يأكل القوي الضعيف، ويصول على المشروف الشريف، لا يرجعون لسلطان قاهر، ولا لأمر جامع، وكانوا فَوْضَى فَضًا

(1)

، من غلب سلب، ومن عز بزَّ

(2)

، لا يأمن لهم سِرْب، ولا يستقر لهم حال، فلطف الله بهم أن جعل في نفوسهم احترام أمور يمتنعون فيها من الغارة، والقتال، والبغي، والظلم، فيأمن بها بعضهم من بعض، ويتصرَّفون فيها في حوائجهم، ومصالحهم، فلا يهيِّج فيها أحدٌ أحدًا، ولا يتعرَّض له، حتى إن الرَّجل يلتقي فيها بقاتل أبيه وأخيه فلا يتعرض له بشيء، ولا بغدر؛ بما جعل الله في قلوبهم من تعظيم تلك الأمور، ولا يبعد أن يكون أصل ذلك مشروعًا لهم من دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كالحجِّ، والعمرة، وغيرهما مما كان عندهم من شرائعهما.

وهذه الأمور من الزمان: الأشهر الحرم، ومن المكان: حَرَم مكة، ومن

(1)

يقال: فوضى فضًا؛ أي: سواء بينهم، وأمرهم فضًا بينهم؛ أي: لا أمير عليهم.

(2)

أي: من غَلَب أخذ السَّلَب.

ص: 274

الأموال: الهدي والقلائد، ويشهد لِمَا ذكرناه قوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217]، وقوله تعالى:{مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36]، ثم قال:{ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [التوبة: 36]، وقوله تعالى في الحَرَم:{وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97]، وقوله:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67]، وقوله:{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125]، وقوله تعالى:{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ} [المائدة: 97]، ومعنى كون هذه الأمور قيامًا للناس؛ أي: تقوم بها أحوالهم، وتنتظم بها مصالحهم من أمر أديانهم ومعايشهم، هذا معنى ما قاله المفسرون، فلما جاء الإسلام لم يزد تلك الأمور إلَّا تعظيمًا وتشريفًا، غير أنه لمَّا حدَّ الحدود، وشرع الشرائع، ونصب العقوبات والزواجر؛ اتفقت كلمة المسلمين، والتُزمت شرائع الدين، فأمِن الناس على دمائهم ونفوسهم، وأموالهم، فامتنع أهل الظلم من ظُلمِهم، وكفَّ أهل البغي عن بغيهم، واستوى في الحق القويُّ والضعيف، والمشروف والشريف، فمن صدر عنه بغي، أو عدوان قمعته كلمة الإسلام، وأقيمت عليه الأحكام، فحينئذ لا يعيده شيء من تلك المحرَّمات، ولا يحول بينه وبين حُكم الله تعالى أحدٌ من المخلوقات، فالحمد لله الذي هدانا لهذا الدِّين القويم، والمنهج المستقيم، وهو المسؤول بأن ينعم علينا بالدَّوام، والتَّمام، ويحشرنا في زمرة واسطة النظام محمد عليه الصلاة والسلام.

والْهَدْي: ما يُهدى من الأنعام إلى البيت الحرام والقلائد؛ يعني به: ما تُقلَّدُ به الهدايا، وذلك بأن يُجعل في عنق البعير حبل يُعلَّق فيه نعل، كما تقدَّم في كتاب الحج، ويعني بذلك: أن الهدي مهما أُشعر وقُلِّد لم يَجُز لأحد أن يتملَّكه، ولا أن يأخذه إن وجده. بل يجب عليه أن يحمله إلى مكة إن أمكنه ذلك حتى يُنْحَر هناك على ما تقدَّم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ) تفسير لأربعة حُرُم؛ أي: يتلو بعضها بعضًا، كما قال في الرواية الأخرى:"ثلاثة سَرْدٌ، وواحدٌ فردٌ"، ووقع في البخاريّ بلفظ:

(1)

"المفهم" 5/ 44 - 46.

ص: 275

"ثلاث متواليات"، فقال ابن التين: الصواب: "ثلاثة متوالية"؛ يعني: لأن المميِّز الشهرُ، قال: ولعله أعاده على المعنى؛ أي: ثلاث مُدَد متواليات. انتهى، وزاد الحافظ: أو باعتبار العدة، مع أن الذي لا يُذْكَر التمييز معه يجوز فيه التذكير والتأنيث. انتهى

(1)

.

(ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ) قال النوويّ رحمه الله: أما ذو القعدة، فبفتح القاف، وذو الحجة، بكسر الحاء، هذه هي اللغة المشهورة، ويجوز في لغة قليلة كسر القاف، وفتح الحاء. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: وإلى هذا الضبط أشار بعضهم بقوله:

وَفَتْحَ قَافِ قَعْدَةٍ قَدْ رَجَّحُوا

وَكَسْرَ حَاءِ حِجَّةٍ قَدْ صَحَّحُوا

وقال في "الفتح": إنما ذكرها من سنتين لمصلحة التوالي بين الثلاثة، وإلا فلو بدأ بالمحرّم لفات مقصود التوالي، وفيه إشارة إلى إبطال ما كانوا يفعلونه في الجاهلية، من تأخير بعض الأشهر الحرم، فقيل: كانوا يجعلون المحرَّم صَفَرًا، ويجعلون صفرًا المحرم؛ لئلا يتوالى عليهم ثلاثة أشهر، لا يتعاطون فيها القتال، فلذلك قال:"متواليات"، وكانوا في الجاهلية على أنحاء: منهم من يسمى المحرَّم صفرًا، فيُحِلّ فيه القتال، ويحرِّم القتال في صفر، ويسميه المحرم، ومنهم من كان يجعل ذلك سنة هكذا، وسنة هكذا، ومنهم من يجعله سنتين هكذا، وسنتين هكذا، ومنهم من يؤخِّر صفرًا إلى ربيع الأول، وربيعًا إلى ما يليه، وهكذا إلى أن يصير شوال ذا القعدة، وذو القعدة ذا الحجة، ثم يعود، فيعيد العدد على الأصل. انتهى

(2)

.

(وَرَجَبٌ شَهْرُ مُضَرَ) قال في "الفتح": أضافه إليهم لأنهم كانوا متمسكين بتعظيمه، بخلاف غيرهم، فيقال: إن ربيعة كانوا يجعلون بدله رمضان، وكان من العرب من يجعل في رجب وشعبان ما ذُكر في المحرّم وصفر، فيحلّون رجبًا، ويحرِّمون شعبان، ووصفه بقوله:(الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ) تأكيدًا، وكان أهل الجاهلية قد نسئوا بعض الأشهر الحرم؛ أي: أخَّروها، فيُحِلُّون

(1)

"الفتح" 10/ 176 رقم (4662).

(2)

"الفتح" 10/ 176، كتاب "التفسير" رقم (4662).

ص: 276

شهرًا حرامًا، ويحرِّمون مكانه آخر بدله، حتى رُفِض تخصيصُ الأربعة بالتحريم أحيانًا، ووقع تحريم أربعة مطلقة من السَّنَة، فمعنى الحديث أن الأشهر رجعت إلى ما كانت عليه، وبطل النسيء.

وقال النوويّ رحمه الله: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان": إنما قيّده هذا التقييد مبالغةً في إيضاحه، وإزالةً للَّبْس عنه. قالوا: وقد كان بين بني مضر وبين ربيعة اختلاف في رجب، فكانت مضر تجعل رجبًا هذا الشهر المعروف الآن، وهو الذي بين جمادى وشعبان، وكانت ربيعة تجعله رمضان، فلهذا أضافه النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى مضر، وقيل: لأنهم كانوا يعظمونه أكثر من غيرهم، وقيل: إن العرب كانت تسمي رجبًا وشعبان الرجبين، وقيل: كانت تسمي جمادى ورجبًا جمادين، وتسمي شعبان رجبًا. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "رجب شهر مُضَر الذي بين جمادى وشعبان": هذه مبالغةٌ في تعيين هذا الشهر؛ ليتميَّز عمَّا كانوا يتحكَّمون به من النَّساء، ومن تغيير أسماء المشهور، وقد تقدَّم: أنهم كانوا يُسقطون من السَّنة شهرًا، وينقلون اسم الشهر للَّذي بعده، حتى سَمُّوا شعبان رجبًا، ونسبة هذا الشهر لِمُضَر: إما لأنهم أول من عظَّمه، أو لأنهم كانوا أكثر العرب له تعظيمًا، واشتهر ذلك حتى عُرِفَ بهم. انتهى

(2)

.

وقال الخطابيّ رحمه الله

(3)

: كانوا يخالفون بين أشهر السنة بالتحليل والتحريم، والتقديم والتأخير لأسباب تَعْرِض لهم، منها استعجال الحرب، فيستحلون الشهر الحرام، ثم يحرِّمون بدَلَه شهرًا غيره، فتتحول في ذلك شهور السنة، وتتبدل، فإذا أتى على ذلك عدة من السنين استدار الزمان، وعاد الأمر إلى أصله، فاتفق وقوع حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم عند ذلك.

[تنبيه]: أبدى بعضهم لِمَا استقر عليه الحال من ترتيب هذه الأشهر الحرم مناسبةً لطيفةً، حاصلها أن للأشهر الحرم مزية على ما عداها، فناسب أن يبدأ بها العام، وأن تتوسطه، وأن تُختَم به، وإنما كان الختم بشهرين لوقوع الحج

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 168.

(2)

"المفهم" 5/ 47.

(3)

راجع: "الأعلام" 3/ 1782.

ص: 277

ختام الأركان الأربع؛ لأنها تشتمل على عمل مال محض، وهو الزكاة، وعمل بدن حض، وذلك تارة يكون بالجوارح، وهو الصلاة، وتارة بالقلب، وهو الصوم؛ لأنه كَفٌّ عن المفطرات، وتارة عمل مركَّب من مال وبدن، وهو الحج، فلمّا جمعهما ناسب أن يكون له ضُعف ما لواحد منهما، فكان له من الأربعة الحرم شهران، والله أعلم، ذكره في "الفتح"

(1)

.

(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ ". قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) قال النوويّ رحمه الله: هذا السؤال، والسكوت، والتفسير أراد به التفخيم، والتقرير، والتنبيه على عِظَم مرتبة هذا الشهر، والبلد، واليوم، وقولهم:"الله ورسوله أعلم" هذا من حُسن أدبهم، وأنهم عَلِمُوا أنه صلى الله عليه وسلم لا يخفى عليه ما يعرفونه من الجواب، فعرفوا أنه ليس المراد مطلق الإخبار بما يعرفون. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "أيُّ شهر هذا؟. . . إلخ"، وسكوته بعد كل واحد منها؛ كان ذلك منه استحضارًا لفهومهم، وتنبيهًا لغفلتهم، وتنويهًا بما يذكره لهم؛ حتى يُقبلوا عليه بكليتهم، ويستشعروا عظمة حرمة ما عنه يخبرهم، ولذلك قال بعد هذا:"فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا"، وهذا منه صلى الله عليه وسلم مبالغة في بيان تحريم هذه الأشياء، وإغياءٌ في التنفير عن الوقوع فيها؛ لأنَّهم كانوا قد اعتادوا فِعْلها، واعتقدوا حِلّيتها، كما تقدَّم من بيان أحوالم، وقبح أفعالهم. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح" بعد ذكر كلام القرطبيّ المذكور ما نصّه: ومناط التشبيه في قوله: "كحرمة يومكم"، وما بعده ظهوره عند السامعين؛ لأن تحريم البلد، والشهر، واليوم، كان ثابتًا في نفوسهم، مقرّرًا عندهم، بخلاف الأنفس، والأموال، والأعراض، فكانوا في الجاهلية يستبيحونها، فطرأ الشرع عليهم بأن تحريم دم المسلم، وماله، وعرضه أعظم من تحريم البلد والشهر واليوم، فلا يَرِد كون المشبَّه به أخفض رتبة من المشبَّه؛ لأن الخطاب إنما وقع بالنسبة لما اعتاده المخاطَبون قبل تقرير الشرع.

(1)

"الفتح" 10/ 176 - 177 رقم (4662).

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 169.

(3)

"المفهم" 5/ 47.

ص: 278

ووقع في هذه الرواية جوابهم عن كل سؤال بقولهم: "الله ورسوله أعلم"، وذلك من حُسْن أدبهم؛ لأنهم علموا أنه لا يخفى عليه ما يعرفونه من الجواب، وأنه ليس مراده مطلق الإخبار بما يعرفونه، ولهذا قال:"حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه"، ففيه إشارة إلى تفويض الأمور الكلية إلى الشارع، ويستفاد منه الحُجة لمثبتي الحقائق الشرعية. انتهى ببعض تصرّف

(1)

.

(قَالَ) أبو بكرة رضي الله عنه (فَسَكَتَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَلَيْسَ ذَا الْحِجَّةِ؟ ") بالنصب على أنه خبر "ليس"، وقع في بعض الروايات:"أليس ذو الحجة؟ "، وعليها فهو اسم "ليس"، وخبرها محذوف؛ أي: أليس ذو الحجة هو هذا الشهر؟، وقدّره ابن مالك رحمه الله ضميرًا متّصلًا، والتقدير: أليسه ذو الحجة؟ ومِنْ حذف الضمير المتّصل خبرًا لـ "كان"، وأخواتها قول الشاعر [من الطويل]:

فَأَطْعَمَنَا مِنْ لَحْمِهَا وَسَدِيفِهَا

(2)

شِوَاءً وَخَيْرُ الْخَيْرِ مَا كَانَ عَاجِلُهْ

أراد: وخير الخير الذي كأنه عاجلُه، ومثله قول الآخَر [من الطويل]:

أَخٌ مُخْلِصٌ وَافٍ صَبُورٌ مُحَافِظٌ

عَلَى الْوُدِّ وَالْعَهْدِ الَّذِي كَانَ مَالِكُ

أراد الذي كانه مالك، والذي وَصِلَته مبتدأ، وقد أخبر عنه بخمسة أخبار متقدَّمة، ومثل هذا البيت في الاكتفاء بنيّة الخبر عن لفظه قوله [من الكامل]:

شَهِدَتْ دَلَائِلُ جَمَّةٌ لَمْ أُحْصِهَا

أَنَّ الْمُفَضَّلَ لَنْ يَزَالَ عَتِيقُ

أراد: لن يزاله

(3)

.

(قُلْنَا: بَلَي، قَالَ: "فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ "، قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ - قَالَ -: فَسَكَتَ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: "أَليْسَ الْبَلْدَةَ؟ ") بالنصب أيضًا على أنه خبر "ليس"، ويحتمل الرفع على أنه اسمها، وخبرها محذوف؛ أي: أليست البلدة هي هذه؟، وفي رواية البخاريّ:"أليست بالبلدة الحرام؟ "، قال في "الفتح": كذا فيه بتأنيث البلدة، وتذكير الحرام، وذلك أن لفظ الحرام اضمَحَلّ منه معنى الوصفية، وصار اسمًا، قال الخطابيّ: يقال: إن البلدة اسم

(1)

"الفتح" 1/ 281، كتاب "العلم" رقم (67).

(2)

السديف: لحم السنام.

(3)

راجع: "شواهد التوضيح" ص 35.

ص: 279

خاص بمكة، وهي المرادة بقوله تعالى:{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} الآية [النمل: 91].

وقال التوربشتيّ رحمه الله: وجه تسميتها بالبلدة - وهي تقع على سائر البلدان - أنها البلدة الجامعة للخير، المستحقّة أن تُسمّى بهذا الاسم؛ لتفوّقها سائر مسمّيات أجناسها تفوّقَ الكعبة في تسميتها بالبيت سائر مسمّيات أجناسها، حتى كأنها هي المحلّ المستحقّ للإقامة بها، قال ابن جني: من عادة العرب أن يوقعوا على الشيء الذي يختصّونه بالمدح اسم الجنس، ألا تراهم كيف سَمَّوا الكعبة بالبيت، وكتاب سيبويه بالكتاب. انتهى

(1)

.

(قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: "فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ "، قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ - قَالَ -: فَسَكَتَ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْر اسْمِهِ، قَالَ: "أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟ ") بالنصب، ويَحتمل الرفع كسابقه، والتقدير عليه: أي: أليس يومُ النحر هذا اليومَ؟ (قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ).

[فائدة]: وقع في حديث الباب: "فسكتنا" بعد السؤال، ووقع في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر، فقال:"أي يوم هذا؟ " قالوا: "يوم حرام"، وظاهرهما التعارض، والجمع بينهما أن الطائفة الذين كان فيهم ابن عباس أجابوا، والطائفة الذين كان فيهم أبو بكرة لم يجيبوا، بل قالوا: الله ورسوله أعلم، أو تكون رواية ابن عباس بالمعنى؛ لأن في حديث أبي بكرة أنه لما قال:"أليس يوم النحر؟ " قالوا: بلي، بمعنى قولهم:"يوم حرام" بالاستلزام، وغايته أن أبا بكرة نَقَل السياق بتمامه، واختصره ابن عباس، وكأن ذلك كان بسبب قرب أبي بكرة منه؛ لكونه كان آخذًا بخطام الناقة.

وقال بعضهم: يَحْتَمِل تعدد الخطبة، فإن أراد أنه كررها في يوم النحر، فيحتاج لدليل، فإن في حديث ابن عمر عند البخاريّ في "الحج" أن ذلك كان يوم النحر بين الجمرات في حجته، أفاده في "الفتح"

(2)

.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 2015، و"الفتح" 4/ 701 رقم (1739).

(2)

راجع: "الفتح" 1/ 281 - 282، كتاب "العلم" رقم (67).

ص: 280

وقال في موضع آخر: قيل في الجمع بين الحديثين: لعلهما واقعتان، وليس بشيء؛ لأن الخطبة يوم النحر إنما تُشْرَع مرّة واحدةً، وقد قال في كل منهما: إن ذلك كان يوم النحر، وقيل في الجمع بينهما: إن بعضهم بادر بالجواب، وبعضهم سكت، وقيل في الجمع: إنهم فوَّضوا أوّلًا كلهم بقولهم: الله ورسوله أعلم، فلما سكت أجاب بعضهم دون بعض، وقيل: وقع السؤال في الوقت الواحد مرتين بلفظين، فلما كان في حديث أبي بكرة فخامة ليست في الأول؛ لقوله فيه:"أتدرون" سكتوا عن الجواب، بخلاف حديث ابن عباس؛ لخلوّه عن ذلك، أشار إلى ذلك الكرمانيّ رحمه الله، وقيل: في حديث ابن عباس اختصار، بيَّنته رواية أبي بكرة، وابن عمر، فكأنه أطلق قولهم:"يوم حرام" باعتبار أنهم قرروا ذلك بقولهم: "بلى"، وسكت في رواية ابن عمر عن ذِكر جوابهم، وهذا جمعٌ حسن. انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

(قَالَ: "فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ) هذا الكلام على تقدير مضاف؛ أي: سفك دمائكم، وأخذ أموالكم، وثَلْبَ أعراضكم (قَالَ مُحَمَّدٌ)؛ أي: ابن سيرين (وَأَحْسِبُهُ)؛ أي: أظنّ ابن أبي بكرة، كأنه شكّ في قوله:"وأعراضكم"، أقالها ابن أبي بكرة أم لا؟، ووقع في الرواية التالية الجزم بها، ولفظه:"فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام. . .". (قَالَ: وَأَعْرَاضَكُمْ) و"الْعِرْضُ" - بكسر العين المهملة، وسكون الراء، آخره ضاد معجمة -: هو موضع المدح والذّمّ من الإنسان، سواء كان في نفسه، أو سَلَفه، وقيل: العِرْض: الْحَسَب، وقيل: الخُلُق، وقيل: النفس، قاله في "العمدة"

(2)

.

وقال التوربشيّ: قوله: و"أعراضكم"؛ أي: أنفسكم وأحسابكم، فإن العِرض يقال للنفس، وللحسب، يقال: فلانٌ نَقِيُّ العِرْض؛ أي: بريء أن يُشتم، أو يُعاب، والعِرض: رائحة الجسد، وغيره، طيّبة كانت أو خبيثة. انتهى.

(1)

"الفتح" 4/ 699، كتاب "الحجّ" رقم (1741).

(2)

"عمدة القاري" 2/ 55.

ص: 281

وقال في "شرح السُّنّة": لو كان المراد من العرض النفوس لكان تكرارًا؛ لأن ذكر الدماء كافٍ؛ إذ المراد به النفوس.

قال الطيبيّ: الظاهر أنه أراد بالأعراض الأخلاق النفسانيّة، والكلام فيه يحتاج إلى فضلِ تأمَّل، فالمراد بالعرض هنا: الخُلُقُ كما سبق، وفي قول الحماسيّ [من الطويل]:

إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَدْنَسْ

(1)

مِنَ اللَّوْمِ عِرْضُهُ

فَكُلُّ رِدَاءٍ يَرْتَدِيهِ جَمِيلُ

وفي قول أبي ضمضم: اللهمّ إني تصدّقت بعرضي على عبادك ما يرجع عليه عيبه، والتحقيق ما ذكره صاحب "النهاية": العرض موضع المدح والذّمّ من الإنسان، سواء كان في نفسه، أو في سلفه، ولَمّا كان موضع العِرض النفس قال من قال: العرض النفس؛ إطلاقًا للمحلّ على الحالّ، وحين كان المدح نسبة الشخص إلى الأخلاق الحميدة، والذمّ نسبته إلى الذميمة، سواء كانت فيه، أو لا قال من قال: العِرض الْخُلُق؛ إطلاقًا لاسم اللازم على الملزوم. انتهى قول الطيبيّ رحمه الله

(2)

.

(حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ) قال القرطبيّ رحمه الله: أي: ستوقفون في موقف العَرض موقف مَن لَقِي، فحَبَس حتَّى تُعْرَض عليه أعماله، فيُسأل عنها، وهذا إخبارٌ بمقام عظيم، وأمر هائل، لا يُقْدَرُ قدرُه، ولا يُتصوَّر هوله، أصبح الناس عن التذكر فيه معرضين، وعن الاستعداد له متشاغلين، فالأمر كما قال في كتابه المكنون:{قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68)} [ص: 67، 68]، فنسأل الله تعالى من فضله أن يوقظنا من رقدتنا، وينبهنا من غفلتنا، ويجعلنا ممن استعدَّ للقائه، وكُفِي فواجِئَ نِقْمَه وبلائه. انتهى

(3)

.

(فَلَا تَرْجِعُنَّ) قال ابن مالك رحمه الله: رجع هنا استُعمل كصار معنى وعملًا؛ أي: لا تصيرُنَّ بعدي كفَّارًا، ومنه قول الشاعر [من البسيط]:

(1)

من باب فَرِحَ.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 2015 - 2016.

(3)

"المفهم" 5/ 48.

ص: 282

قَدْ يَرْجِعُ الْمَرْءُ بَعْدَ الْمَقْتِ ذَا مِقَةٍ

بِالْحِلْمِ فَادْرَأْ بِهِ بَغْضَاءَ ذِي إِحَنْ

(بَعْدِي)؛ أي: بعد موتي، أو بعد مقامي هذا، (كُفَّارًا

(1)

- أَوْ ضُلَّالًا) "أو" للشكّ من الراوي، و"الضلّال" بضم الضاد المعجمة، وتشديد اللام: جمع ضالّ، كالكفّار: جمع كافر، كما قال في "الخلاصة":

وَفُعَّلٌ لِفَاعِلٍ وَفَاعِلَهْ

وَصْفَيْنِ نَحْوُ عَاذِلٍ وَعَاذِلَهْ

وَمِثْلُهُ الْفُعَّالُ فِيمَا ذُكِّرَا

وَذَانِ فِي الْمُعَلِّ لَامًا نَدَرَا

قال الجامع عفا الله عنه: تقدَّم في "كتاب الإيمان" في شرح حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه[31/ 230](65) بيان ما قيل في قوله صلى الله عليه وسلم: "فلا ترجعنّ بعدي كفّارًا. . . إلخ"، وهي عشرة أقوال، فراجعها تستفد

(2)

.

وأقرب الأقوال عندي قول من قال: لا تفعلوا فعل الكفّار؛ لأنهم الذين يقتل بعضهم بعضًا، أما المسلم فواجبه أن ينصر أخاه المسلم، فإذا ترك ذلك، وقاتَله فقد فَعل فِعل الكفّار، والله تعالى أعلم.

(يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) بجزم "يضرب" على أنه جواب النهي، وبرفعه على الاستئناف، أو يُجعَل حالًا، فعلى الأول يَقْوَى الحمل على الكفر الحقيقيّ، ويُحتاج إلى التأويل بالمستحلّ مثلًا، وعلى الثاني لا يكون متعلقًا بما قبله، ويَحْتَمِل أن يكون متعلقًا، وجوابه ما تقدم، قاله في "الفتح"

(3)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله بعد ذكر جواز الوجهين: أقول: على الرفع جملة مستأنفة مبيِّنة لقوله: "فلا ترجعنّ بعدي ضُلَّالًا"، فينبغي أن يُحمل على العموم، وأن يقال: لا يظلم بعضكم بعضًا، فلا تسفكوا دماءكم، ولا تهتكوا أعراضكم، ولا تستبيحوا أموالكم، ونحوه - أي: في إطلاق الخاصّ، وإرادة العامّ - قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} الآية [النساء: 10]. انتهى

(4)

.

قال النوويّ رحمه الله: لا حجة فيه لمن يقول بالتكفير بالمعاصي، بل المراد

(1)

وفي نسخة: "فلا ترجعنّ بعدي ضُلَّالًا".

(2)

راجع: 2/ 447 من هذا الشرح.

(3)

"الفتح" 16/ 447، كتاب "الفتن" رقم (7078).

(4)

"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 2016.

ص: 283

به: كفران النِّعم، أو هو محمول على من استحلّ قتال المسلمين بلا شبهة. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: بهذا وأشباهه كَفّر الخوارج عليًّا، ومعاوية، وأصحابهما، وهذا إنما صدر عنهم؛ لأنَّهم سمعوا الأحاديث ولم يُحِطْ بها فهمهم، كما قرؤوا القرآن، ولم يجاوز تراقيهم، فكأنهم ما قرؤوا قول الله عز وجل:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 9 - 10]، فأبقى عليهم اسم الإيمان وأخوّته، مع أنهم قد تقاتلوا، وبغت إحداهما على الأخرى، وقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48 و 116]، والقتل ليس بشرك بالاتفاق والضرورة، وكأنهم لم يسمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، فمن وفّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئًا من ذلك فعوقب به فهو كفارةٌ له"، وقد تقدم هذا المعنى في "كتاب الإيمان".

وإنَّما يُحْمَل الحديث على التشبيه تغليظًا؛ وذلك: أن المسلمين إذا تحاجزوا، وتقاتلوا؛ فقد ضلَّت الطائفة الباغية منهما، أو كلاهما إن كانتا باغيتين عن الحق، وكفرت حقّ الأخرى وحرَّمتها، وقد تشبَّهوا بالكفار، وكأنه صلى الله عليه وسلم اطَّلع على ما يكون في أمَّته من الْمِحَن والفتن، فحذَّر من ذلك، وغلَّظه بذلًا للنصيحة، ومبالغة في الشفقة. انتهى

(2)

.

(أَلَا، لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ)؛ أي: الحاضر في هذا المجلس (الْغَائِبَ)؛ أي: الذي غاب عنه، والمراد: إما تبليغ الخطبة المذكورة، أو تبليغ جميع الأحكام، (فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يُبَلَّغُهُ) بضمّ أوله، وتشديد اللام، مبنيًّا للمفعول، (يَكُونُ أَوْعَى)؛ أي: أحفظ، من الوعي، وهو الحفظ والفهم

(3)

. (لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ")"من" صلة لأفعل التفضيل، وجاز الفصل بينهما؛ لِأنْ يُتوسّع في الظرف، وأيضًا فليس الفاصل أجنبيًّا.

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 169.

(2)

"المفهم" 5/ 48 - 49.

(3)

"عمدة القاري" 2/ 55.

ص: 284

ووقع في رواية: "فربّ مُبَلَّغٍ أوعى من سامع"، والْمُبَلَّغ - بفتح اللام - أي: رب شخص بَلَغَه كلامي، فكان أحفظ له، وأفهم لمعناه من الذي نقله له، قال المهلَّب رحمه الله: فيه أنه يأتي في آخر الزمان من يكون له من الفهم في العلم ما ليس لمن تقدمه، إلا أن ذلك يكون في الأقل؛ لأن "رُبّ" موضوعة للتقليل.

قال الحافظ: هي في الأصل كذلك، إلا أنها استُعملت في التكثير بحيث غلبت على الاستعمال الأول، لكن يؤيد أن التقليل هنا مرادٌ أنه وقع في رواية أخرى:"عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه". انتهى

(1)

.

(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟ ") قال القرطبيّ رحمه الله: هذا استفهام على جهة التقرير؛ أي: قد بلّغتكم ما أُمرت بتبليغه لكم، فلا عُذر لكم؛ إذ لم يقع مني تقصير في التبليغ.

ويَحْتَمِل: أن يكون على جهة استعلام ما عندهم، واستنطاقهم بذلك، كما تقدَّم في حديث جابر رضي الله عنه، حيث ذكر خطبته صلى الله عليه وسلم بعرفة، فقال:"وأنتم تسألون عنِّي، فما أنتم قائلون؟ "، قالوا: نشهد: أنك قد بلَّغت، وأَدَّيت، ونصحت، فقال بإصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء، ويَنْكُبُها إلى الناس:"اللهم! اشهد - ثلاث مرات -". انتهى

(2)

.

وقوله: (قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ) هو يحيى شيخه الثاني (فِي رِوَايَتِهِ: "وَرَجَبُ مُضَرَ"، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: "فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي") هذا كلّه بيان لاختلاف شيخيه: أبي بكر بن أبي شيبة، ويحيى بن حبيب في بعض ألفاظ المتن، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي بكرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 4375 و 4376 و 4377 و 4378](1679)،

(1)

"الفتح" 4/ 701، كتاب "الحجّ" رقم (1739).

(2)

"المفهم" 5/ 49 - 50.

ص: 285

و (البخاريّ) في "العلم"(67 و 105) و"الحجّ"(1741) و"بدء الخلق"(3197) و"المغازي"(4406) و"التفسير"(4662) و"الأضاحي"(5550) و"الفتن"(7078) و"التوحيد"(7447)، و (أبو داود) في "المناسك"(1948)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 469)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(233)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 37 و 39 و 45 و 49)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2952)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3848 و 5973 و 5974)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 103)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(3/ 196)، و (البزّار) في "مسنده"(9/ 85 و 12/ 299)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 140 و 165 و 166) و"المعرفة"(4/ 152)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(1965)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): الحث على تبليغ العلم، قال النوويّ رحمه الله: فيه وجوب تبليغ العلم، وهو فرض كفاية، فيجب تبليغه بحيث ينتشر، وقال القرطبيّ رحمه الله: فيه الأمر بتبليغ العلم، ونَشْره، وهو فرضٌ من فروض الكفايات. انتهى.

2 -

(ومنها): جواز التحمل قبل كمال الأهلية، وأن الفهم ليس شرطًا في الأداء.

3 -

(ومنها): أنه قد يأتي في الآخِر من يكون أفهم ممن تقدَّمه، لكن بقلّة؛ لقوله:"ربّ مبلَّغ. . . إلخ".

4 -

(ومنها): أنه استنبط ابن الْمُنِّير رحمه الله من تعليل كون المتأخِّر أرجح نظرًا من المتقدِّم أن تفسير الراوي أرجح من تفسير غيره.

5 -

(ومنها): تأكيد التحريم، وتغليظه بأبلغ ممكن من تكرار ونحوه.

6 -

(ومنها): مشروعية ضرب المَثَل، وإلحاق النظير بالنظير؛ ليكون أوضح للسامع، وإنما شبَّه صلى الله عليه وسلم حرمة الدم، والعرض، والمال بحرمة اليوم، والشهر، والبلد؛ لأن المخاطَبين بذلك كانوا لا يرون تلك الأشياء، ولا يرون هتك حرمتها، ويعيبون على من فعل ذلك أشد العيب، وإنما قدم السؤال عنها تذكارًا لحرمتها، وتقريرًا لِمَا ثبت في نفوسهم ليبني عليه ما أراد تقريره على

ص: 286

سبيل التأكيد، قاله في "الفتح"

(1)

.

7 -

(ومنها): جواز القعود على ظهر الدواب، وهي واقفة إذا احتيج إلى ذلك، وحُمِل النهي الوارد في ذلك على ما إذا كان لغير ضرورة.

8 -

(ومنها): استحباب الخطبة على موضع عال؛ ليكون أبلغ في إسماعه للناس، ورؤيتهم إياه.

9 -

(ومنها): ما قاله القرطبي من أن قوله صلى الله عليه وسلم: "فلعل بعض من يبلَّغه. . . إلخ": فيه حجة على جواز أخذ العلم والحديث عمَّن لا يفقه ما ينقل؛ إذا أدَّاه كما سمعه، وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم فيما خرَّجه الترمذي:"نضَّر الله امرءًا سمع منَّا حديثًا فبلَّغه غيره كما سمعه، فربَّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه، وربَّ حامل فقه ليس بفقيه"، فأمَّا نقلُ الحديث بالمعنى، فمن جوَّزه إنَّما جوَّزه من الفقيه العالم بمواقع الألفاظ، ومن أهل العلم من مَنع ذلك مطلقًا، وقد تقدَّم ذلك. انتهى.

10 -

(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: وفيه حجَّة على أن المتأخر قد يَفْهَم من الكتاب والسُّنّة ما لم يخطر للمتقدم؛ فإن الفهم فضل الله يؤتيه من يشاء، لكن هذا يندر ويَقِلّ، فأين البحر من الوَشَل

(2)

، والعَلُّ من العَلَلِ؟ ليس التكحُّل في العينين كالكَحَل. انتهى

(3)

.

11 -

(ومنها): أن العالم يجب عليه تبليغ عِلمه لمن لم يبلغه، وتفهيمه لمن لم يفهمه، وهذا هو الميثاق الذي أخذه الله تعالى على العلماء بقوله عز وجل:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} الآية [آل عمران: 187].

12 -

(ومنها): أن من كان حافظًا للعلم غير عالم بمعناه محسوب في زمرة أهل العلم.

(1)

"الفتح" 4/ 701 رقم (1739).

(2)

"الوشل": الماء القليل يتحلّب من جبل، أو صخرة، يقطر منه قليلًا، لا يتّصل قطره.

(3)

"المفهم" 5/ 49.

ص: 287

13 -

(ومنها): استحباب الخطبة يوم النحر لقول أبي بكرة رضي الله عنه: "خطبنا النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم النحر. . ."، وفيه ردّ على من قال: إنها لا تُشرع، وقد تقدَّم البحث في هذا مستوفًى في "كتاب الحجّ"، ولله الحمد والمنّة.

14 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: وقد أجمع المسلمون على أن الأشهر الحرم الأربعة، هي هذه المذكورة في الحديث، ولكن اختلفوا في الأدب المستحبّ في كيفية عَدِّها، فقالت طائفة من أهل الكوفة، وأهل الأدب: يقال: المحرم، ورجب، وذو القعدة، وذو الحجة؛ لتكون الأربعة من سنة واحدة، وقال علماء المدينة، والبصرة، وجماهير العلماء: هي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، ثلاثة سردٌ، وواحد فردٌ، وهذا هو الصحيح الذي جاءت به الأحاديث الصحيحة، منها هذا الحديث الذي نحن فيه، وعلى هذا الاستعمال أطبق الناس من الطوائف كلها. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4376]

(. . .) - (حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ، قَعَدَ عَلَى بَعِيرِهِ، وَأَخَذَ إِنْسَانٌ بِخِطَامِهِ، فَقَالَ: "أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ "، قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوَى اسْمِهِ، فَقَالَ: "أَليْسَ بِيَوْمِ النَّحْرِ؟ "، قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ "، قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "أَلَيْسَ بِذِي الْحِجَّةِ؟ "، قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ "، قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ - قَالَ -: حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوَى اسْمِهِ، قَالَ: "أَلَيْسَ بِالْبَلْدَةِ؟ "، قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ"، قَالَ: ثُمَّ انْكَفَأَ إِلَى كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، فَذَبَحَهُمَا، وَإِلَى جُزَيْعَةٍ مِنَ الْغَنَمِ، فَقَسَمَهَا بَيْنَنَا).

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 168.

ص: 288

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ) البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، طُلب للقضاء، فامتنع [10](ت 250) أو بعدها (ع) أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.

2 -

(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) الْعَيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَوْنِ) بن أرطبان، أبو عون البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ فقيهٌ [5](ت 150) على الصحيح (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 303.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (لَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ) أراد به يوم النحر، كما بيّنه في الرواية الثالثة، بقوله:"خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر".

وقوله: (قَعَدَ عَلَى بَعِيرِهِ) بفتح الموحّدة، وبعض العرب يكسرها، وهو الجمل، ويُطلق على الأنثى أيضًا.

وقوله: (وَأَخَذَ إِنْسَانٌ بِخِطَامِهِ) ووقع في رواية للبخاريّ: "وأمسك إنسان بخطامه، أو بزمامه" على الشكّ، قال في "الفتح": الشك من الراوي، والزمام، والخطام بمعنى، وهو الخيط الذي تُشَدّ فيه الحلقة التي تُسَمَّى بِالْبُرَة - بضم الموحدة، وتخفيف الراء المفتوحة - في أنف البعير.

وهذا المُمْسِك سمّاه بعض الشراح بلالًا رضي الله عنه، واستَنَد إلى ما رواه النسائيّ من طريق أم الحصين رضي الله عنها، قالت: حججت، فرأيت بلالًا يقود بخطام راحلة النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى.

وقد وقع في "السنن" من حديث عمرو بن خارجة رضي الله عنه قال: كنت آخذًا بزمام ناقة النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى، فذكر بعض الخطبة، فهو أولى أن يفسَّر به المبهَم من بلال، لكن الصواب أنه هنا أبو بكرة، فقد ثبت ذلك في رواية الإسماعيليّ، من طريق ابن المبارك، عن ابن عون، ولفظه:"خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته يوم النحر، وأمسكتُ، إما قال: بخطامها، وإما قال: بزمامها"، واستفدنا من هذا أن الشك ممن دون أبي بكرة، لا منه،

ص: 289

وفائدة إمساك الخطام صون البعير عن الاضطراب، حتى لا يشوّش على راكبه. انتهى

(1)

.

وقوله: (قَالَ: ثُمَّ انْكَفَأَ إِلَى كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، فَذَبَحَهُمَا، وَإِلَى جُزَيْعَةٍ مِنَ الْغَنَمِ، فَقَسَمَهَا بَيْنَنَا).

قال النوويّ رحمه الله: قوله: (انكفأ) بهمز آخره؛ أي: انقلب، والأملح هو الذي فيه بياض وسواد، والبياض أكثر.

وقوله: (جزيعة) بضم الجيم، وفتح الزاي، ورواه بعضهم: جَزِيعة بفتح الجيم، وكسر الزاي، وكلاهما صحيح، والأول هو المشهور في رواية المحدِّثين، وهو الذي ضبطه الجوهريّ وغيره من أهل اللغة، وهي القطعة من الغنم، تصغير جِزْعة، بكسر الجيم، وهي القليل من الشيء، يقال: جَزَعَ له من ماله؛ أي: قطع، وبالثاني ضبطه ابن فارس في "المجمل"، قال: وهي القطعة من الغنم، وكأنها فَعِيلة بمعنى مفعولة، كضَفِيرة بمعنى مضفورة.

قال القاضي عياض: قال الدارقطنيّ: قوله: "ثم انكفأ" إلى آخر الحديث وَهَمٌ من ابن عون فيما قيل، وإنما رواه ابن سيرين، عن أنس، فأدرجه ابن عون هنا في هذا الحديث، فرواه عن ابن سيرين، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال القاضي: وقد رَوَى البخاريّ هذا الحديث عن ابن عون، فلم يَذكر فيه هذا الكلام، فلعله تركه عمدًا، وقد رواه أيوب، وقُرّة، عن ابن سيرين في كتاب مسلم في هذا الباب، ولم يذكروا فيه هذه الزيادة، قال القاضي: والأشبه أن هذه الزيادة إنما هي في حديث آخر في خطبة عيد الأضحى، فوَهِم فيها الراوي، فذَكَرها مضمومة إلى خُطبة الحَجة، أو هما حديثان ضمّ أحدهما إلى الآخر.

وقد ذكر مسلم هذا بعد هذا في "كتاب الضحايا" من حديث أيوب، وهشام، عن ابن سيرين، عن أنس، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى، ثم خطب، فأمر من كان ذبح قبل الصلاة أن يعيد، ثم قال في آخر الحديث:"فانكفأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كبشين أملحين، فذبحهما، فقام الناس إلى غُنيمة، فتوزّعوها"، فهذا هو

(1)

"الفتح"1/ 280، كتاب "العلم" رقم (67).

ص: 290

الصحيح، وهو دافع للإشكال. انتهى

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه دون قوله: "ثم انكفأ. . . إلخ"، كما سمعته آنفًا، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4377]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدٌ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ، جَلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَعِيرٍ - قَالَ -: وَرَجُلٌ آخِذٌ بِزِمَامِهِ - أَوْ قَالَ بِخِطَامِهِ - فَذَكَر نَحْوَ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ) التميميّ، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ [9](ت 202)(ع) تقدم في "الصلاة" 51/ 1140.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (فَذَكَر نَحْوَ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير حمّاد بن مسعدة.

[تنبيه]: رواية حمّاد بن مسعدة، عن ابن عون هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4378]

(. . .) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، وَعَنْ رَجُلٍ آخَرَ، هُوَ فِي نَفْسِي أَفْضَلُ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَبَلَةَ، وَأَحْمَدُ بْنُ خِرَاشٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا قُرَّةُ، بِإِسْنَادِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ - وَسَمَّى الرَّجُلَ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ،

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 170 - 172.

ص: 291

فَقَالَ: "أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ "، وَسَاقُوا الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ عَوْنٍ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَذْكُرُ:"وَأعْرَاضَكُمْ"، وَلَا يَذْكُرُ: ثُمَّ انْكَفَأَ إِلَى كَبْشَيْنِ، وَمَا بَعْدَهُ، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ:"كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، أَلَا، هَلْ بَلَّغْتُ؟ "، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ:"اللَّهُمَّ اشْهَدْ").

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ) البغداديّ، مروزيّ الأصل، صدوق فاضلٌ، ربما وَهِم [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.

2 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، تقدّم قريبًا.

3 -

(قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ) السَّدُوسيّ البصريّ، ثقةٌ حافظ [6](ت 155)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 126.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَبَلَةَ) هو: محمد بن عمرو بن عبّاد بن جَبَلَةَ بن أبي رَوّاد الْعَتَكيّ، أبو جعفر البصريّ، صدوقٌ [11](ت 234)(م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 348.

5 -

(أَحْمَدُ بْنُ خِرَاشٍ) هو: أحمد بن الحسن بن خِرَاش البغداديّ، أبو جعفر، صدوقٌ [11](242)(م ت) تقدم في "الإيمان" 42/ 280.

6 -

(أبو عَامِرٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو) القيسيّ البصريّ، ثقةٌ [9](ت 4 أو 205)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.

7 -

(حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) الْحِمْيَريّ البصريّ، ثقةٌ فقيهٌ [3](ع) تقدم في "المقدمة" جـ 2 ص 491.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (وَعَنْ رَجُلٍ آخَرَ، هُوَ فِي نَفْسِي أَفْضَلُ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ) الرجل هو: حميد بن عبد الرحمن الحميريّ، كما في الرواية التالية، وإنما كان عند ابن سيرين أفضل من عبد الرحمن بن أبي بكرة؛ لأنه دخل في الولايات، وكان حميد زاهدًا، قاله في "الفتح"

(1)

.

(1)

"الفتح" 4/ 700، كتاب "الحجّ" رقم (1741).

ص: 292

وقوله: (وَسَمَّى الرَّجُلَ. . . إلخ) فاعل "سَمَّى" ضمير لأبي عامر عبد الملك بن عمرو.

وقوله: (وَسَاقُوا الْحَدِيثَ. . . إلخ) هكذا النُّسخ، والظاهر أن الصواب أن يقول:"وساق الحديث" بإفراد الضمير، وهو ضمير قُرّة، وكذا الضمير في "لم يذكر" في الموضعين بعده، وإنما جزمت بالتصويب؛ لأنه هكذا وقع بالإفراد في "مستخرج أبي عوانة على صحيح مسلم"(4/ 103 - 104).

ويمكن أن يكون لِمَا هنا وجه أيضًا، وهو أن الواو ضمير شيوخه الثلاثة: محمد بن حاتم، ومحمد بن عمرو، وأحمد بن خِراش، ولكن لا بعده، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَذْكُرُ) في الموضعين الظاهر أن الفاعل ضمير قُرّة، وكذا قوله الآتي:"وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ. . . إلخ"، والله تعالى أعلم.

وقوله: (اللَّهُمَّ اشْهَدْ) إنما قال ذلك؛ لأنه كان فرضًا عليه أن يبلِّغ، فأشهد الله على أنه أَدَّى ما أوجبه عليه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ) بفتح "يومَ" وكسره مع التنوين وعدمه، وترك التنوين مع الكسر هو الذي ثبتت به الرواية، قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: وإنما جاز في "يوم" الوجهان؛ لأنه أضيف إلى جملة فعليّة، فِعلها معرَّب، فجاز فيه الوجهان على الأصحّ، كما أشار إليه ابن مالك في "الخلاصة":

وَابْنِ أَوَ اعْرِبْ مَا كَـ "إِذْ" قَدْ أُجْرِيَا

وَاخْتَرْ بِنَا مَتْلُوِّ فِعْلٍ بُنِيَا

وَقَبْلَ فِعْلٍ مُعْرَبٍ أَوْ مُبْتَدَا

أَعْرِبْ وَمَنْ بَنَى فَلَنْ يُفَنَّدَا

[تنبيه]: رواية يحيى بن سعيد القطّان، عن قرّة بن خالد، عن محمد بن سيرين، ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(6667)

- حدّثنا مسدّد، حدّثنا يحيى، حدّثنا قُرّة بن خالد، حدّثنا ابن سيرين، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبي بكرة، وعن رجل آخر، هو

(1)

"الفتح" 4/ 701، كتاب "الحجّ" رقم (1741).

ص: 293

أفضل في نفسي

(1)

من عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبي بكرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس، فقال:"ألا تدرون أيُّ يوم هذا؟ "، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال:"أليس بيوم النحر؟ "، قلنا: بلى يا رسول الله، قال:"أيّ بلد هذا؟ أليست بالبلدة؟ "، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: "فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، وأبشاركم

(2)

، عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ "، قلنا: نعم، قال: "اللهم اشهد، فليبلغ الشاهدُ الغائبَ، فإنه ربّ مُبَلَّغ يبلِّغه من هو أوعى له"، فكان كذلك

(3)

، قال:"لا ترجعوا بعدي كفارًا، يضرب بعضكم رقاب بعض".

فلما كان يومُ حُرِّقَ ابنُ الحضرميّ

(4)

حين حرَّقه جارية بن قدامة، قال: أَشْرِفوا على أبي بكرة

(5)

، فقالوا: هذا أبو بكرة يراك

(6)

، قال عبد الرحمن: فحدثتني أمي

(7)

، عن أبي بكرة، أنه قال: لو دخلوا عليّ ما بَهِشتُ بِقَصَبَةٍ

(8)

. انتهى

(9)

.

(1)

قوله: "رجل آخر" هو حميد بن عبد الرحمن بن عوف.

(2)

(أبشاركم) جمع بشرة وهي ظاهر الجلد من الإنسان.

(3)

(فكان كذلك) من كلام محمد بن سيرين؛ أي: وقع ما قاله صلى الله عليه وسلم، فقد بلّغ كثيرون غيرهم، وكان المبلَّغون أحفظ وأكثر فهمًا من المبلِّغين.

(4)

(ابن الحضرمي) هو: عبد الله بن عمرو بن الحضرمي. وكان معاوية رضي الله عنه أرسل ابن الحضرمي يستنصر أهل البصرة على علي رضي الله عنهم، فوجّه علي رضي الله عنه جارية بن قدامة فحصره، فتحصَّن ابن الحضرمي في دار فأحرقها عليه. وكان هذا سنة ثمان وثلاثين. راجع:"الفتح" 16/ 473، كتاب "الفتن" رقم (7078).

(5)

(أشرفوا على أبي بكرة) ليروا هل هو منقاد لعلي رضي الله عنه أم لا؟ وكان أبو بكرة رضي الله عنه يسكن البصرة.

(6)

(يراك) وما صنعت بابن الحضرمي؛ أي: ولم يُنكر عليك بكلام ولا بسلاح.

(7)

(أمي) هالة بنت غليظ العجلية رضي الله عنها.

(8)

(ما بهشت بقصبة) بفتح الهاء، وقيل: بفتحها؛ أي: ما دفعتهم بها، قال ذلك حين سمعهم قالوا ما قالوا؛ لأنه رضي الله عنه كان يكره الفتنة بين المسلمين، ولا يرى التحرك إليها مع إحدى الطائفتين، بل يُؤْثِر العزلة في هذا.

(9)

"صحيح البخاريّ" 6/ 2593.

ص: 294

وأما رواية أبي عامر عبد الملك بن عمرو، عن قرّة بن خالد، عن محمد بن سيرين، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" أيضًا، فقال:

(1654)

- حدّثني عبد الله بن محمد، حدّثنا أبو عامر، حدّثنا قُرّة، عن محمد بن سيرين، قال: أخبرني عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبي بكرة، ورجل أفضل في نفسي من عبد الرحمن، حميد بن عبد الرحمن، عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر، قال: أتدرون أيّ يوم هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت، حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليس يوم النحر؟ " قلنا: بلى، قال: "أي شهر هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت، حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: "أليس ذو الحجة؟ " قلنا: بلى، قال: "أي بلد هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت، حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليست بالبلدة الحرام؟ " قلنا: بلى، قال: "فإن دماءكم، وأموالكم، عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقون ربكم، إلا هل بلغت؟ " قالوا: نعم، قال:"اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلَّغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارًا، يضرب بعضكم رقاب بعض". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(10) - (بَابُ صِحَّةِ الإِقْرَارِ بِالْقَتْلِ، وَتَمْكِينِ وَلِيِّ الْقَتِيلِ مِنَ الْقِصَاصِ، وَاسْتِحْبَابِ طَلَبِ الْعَفْوِ مِنْهُ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4379]

(1680) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أبِي، حَدَّثَنَا أَبُو يُونُسَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، أَنَّ عَلْقَمَةَ بْنَ وَائِلٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، قَالَ: إِنِّي لَقَاعِدٌ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ

(2)

يَقُودُ آخَرَ بِنِسْعَةٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا قَتَلَ أَخِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَقْتَلْتَهُ؟ "، فَقَالَ: إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ أَقَمْتُ

(1)

"صحيح البخاريّ" 2/ 620.

(2)

وفي نسخة: "إذ جاءه رجل".

ص: 295

عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ، قَالَ: نَعَمْ قَتَلْتُهُ، قَالَ:"كَيْفَ قَتَلْتَهُ؟ "، قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَهُوَ نَخْتَبِطُ مِنْ شَجَرَةٍ، فَسَبَّنِي، فَأَغْضَبَنِي، فَضَرَبْتُهُ بِالْفَأْسِ عَلَى قَرْنِهِ، فَقَتَلْتُهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"هَلْ لَكَ مِنْ شَيْءٍ تُؤَدِّيهِ عَنْ نَفْسِكَ؟ "، قَالَ: مَا لِي مَالٌ، إِلَّا كسَائِي، وَفَأْسِي، قَالَ:"فَتَرَى قَوْمَكَ يَشْتَرُونَكَ؟ "، قَالَ: أَنَا أَهْوَنُ عَلَى قَوْمِي مِنْ ذَاكَ، فَرَمَى إِلَيْهِ بِنِسْعَتِهِ، وَقَالَ:"دُونَكَ صَاحِبَكَ"، فَانْطَلَقَ بِهِ الرَّجُلُ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ"، فَرَجَعَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ

(1)

قُلْتَ: "إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ"، وَأَخَذْتُهُ بِأَمْرِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَمَا تُرِيدُ أَنْ يَبُوءَ بِإِثْمِكَ، وَإِثْمِ صَاحِبِكَ"، قَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ - لَعَلَّهُ، قَالَ: - بَلَى، قَالَ:"فَإِنَّ ذَاكَ كَذَاكَ"، قَالَ: فَرَمَى بِنِسْعَتِهِ، وَخَلَّى سَبِيلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) تقدّم قبل باب.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ العنبريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قبل باب.

3 -

(أَبُو يُونُسَ) حاتم بن أبي صغيرة البصريّ، وأبو صغيرة اسمه مسلم، وهو جدّه لأمه، وقيل: زوج أمه، ثقةٌ [6](ع) تقدم في "الحج" 67/ 3249.

4 -

(سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قريبًا.

5 -

(عَلْقَمَةُ بْنُ وَائِلِ) بن حُجْر الحضرميّ الكوفيّ، صدوقٌ [3](ي م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

6 -

(أَبُوهُ) وائل بن حُجْر - بضمّ المهملة، وسكون الجيم - ابن سعد بن مسروق الْحَضْرميّ، صحابيّ جليلٌ، وكان من ملوك اليمن، ثم سكن الكوفة، مات رضي الله عنه في ولاية معاوية رضي الله عنه (ر م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

شرح الحديث:

(عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، أَنَّ عَلْقَمَةَ بْنَ وَائِلٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ) فيه تصريح بسماع علقمة من أبيه، وفيه خلاف، والأصحّ أنه سمع منه، فقد ذكر الإمامان:

(1)

وفي نسخة: "يا رسول الله، بلغني أنك قلت".

ص: 296

البخاريّ في "تاريخه"، والترمذيّ في "جامعه" أنه سمع من أبيه، وإنما الذي لم يسمع من أبيه هو أخوه عبد الجبّار، وهو مذهب الإمام مسلم رحمه الله، حيث أخرج حديثه هنا مصرِّحًا بتحديث أبيه له، فما قاله في "تقريب التهذيب": إنه لم يسمع من أبيه غير صحيح، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.

(قَالَ) وائل رضي الله عنه (إِنِّي) بكسر الهمزة؛ لوقوعها في الابتداء، كما قال في "الخلاصة":

فَاكْسِرْ فِي الابْتِدَا وَفِي بَدْءِ صِلَهْ

وَحَيْثُ "إِنَّ" لِيَمِينٍ مُكْمِلَهْ

(لَقَاعِدٌ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ) وفي بعض النسخ: "إذ جاءه رجلٌ"(يَقُودُ آخَرَ)؛ أي: رجلًا آخر، قال صاحب "التنبيه": لا أعرف الرجلين، ولا المقتول. انتهى

(1)

. (بِنِسْعَةٍ) - بنون مكسورة، ثم سين ساكنة، ثم عين مهملة -: هي حبلٌ من جلود مضفورة، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "النِّسْعَةُ": ما ضُفّر من الأَدَم كالحبال، وجمْعُها أنساع، فإذا فُتل، ولم يُضفَّر، فهو الجديل، والْجَدْلُ: الفتل، وفيه من الفقه: العنف على الجاني، وتوثيقه، وأخْذ الناس له، حتى يُحضروه إلى الإمام، ولو لَمْ يُجعل ذلك للناس لفرّ الْجُناة، وفاتوا، ولَتعذّر نصر المظلوم، وتغيير المنكر. انتهى

(3)

.

(فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا قَتَلَ أَخِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَقَتَلْتَهُ؟ ")؛ أي: أخا المدّعي (فَقَالَ) الرجل المدّعي (إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ)؛ أي: يُقرّ بقتله (أَقَمْتُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ) قال القرطبيّ رحمه الله: فيه بيان أن الأصل في ثبوت الدماء الإقرار، أو البيّنة، وأما القسامة فعلى خلاف الأصل، كما تقدّم، وفيه استقرار المحبوس، والمتهدّد، وأَخْذه بإقراره، وقد اختَلفَ في ذلك العلماء، واضطرب مذهب مالك في إقراره بعد الحبس والتهديد، هل يُقبل جملةً، أو لا يقبل جملةً؟، والفرق: فيُقبل إذا عيَّن ما اعترف به، من قَتْل، أو سرقة، ولا يُقبل إذا لم يُعيِّن، ثلاثة أقوال. انتهى

(4)

.

(1)

"تنبيه المعلم" ص 288.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 172.

(3)

"المفهم" 5/ 52.

(4)

"المفهم" 5/ 52 - 53.

ص: 297

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "وأما القسامة. . . إلخ" فيه نظر لا يخفى، وقد قدّمنا تحقيقه في بابه، ثم إن القول بأخذه بالإقرار هو الظاهر؛ لهذا الحديث، فتأمل، والله تعالى أعلم.

(قَالَ) الرجل المدّعَى عليه (نَعَمْ قَتَلْتُهُ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم مستثبتًا كيفيّة قتله "كَيْفَ قتَلْتَهُ؟ ")؛ أي: هل قتلته عمدًا، أو خطأ؟

قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "كيف قتلته؟ ": سؤال استكشاف عن حال القتل؛ لإمكان أن يكون خطأً، أو عمدًا، ففيه من الفقه وجوب البحث عن تحقيق الأسباب التي تنبني عليها الإحكام، ولا يُكتفَى بالإطلاق، وهذا كما فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم مع ماعزٍ رضي الله عنه، حين اعترف على نفسه بالزنى. انتهى

(1)

.

(قَالَ) الرجل (كُنْتُ أَنَا) أتى بـ "أنا"؛ ليُمكنه عطف "هو" على الضمير المتّصل، كما قال في "الخلاصة":

وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ

عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ

أَوْ فَاصِلٍ مَّا وَبِلَا فَصْلٍ يَرِدْ

فِي النَّظْمِ فَاشِيًا وَضَعْفَهُ اعْتَقِدْ

(وَهُوَ نَخْتَبِطُ مِنْ شَجَرَةٍ)؛ أي: نجمع الْخَبَط، وهو بفتحتين: ورق السَّمُر، بأن يُضرب الشجر بالعصا، فيسقط ورقه، فيجمعه عَلَفًا - أي: للدوابّ - قاله النوويّ

(2)

.

وقال القرطبيّ: "نختبط" نفتعل من الخبط، وهو ضرب الشجر بالعصا ليقع يابس ورقها، فتأكله الماشية.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: خَبَطْتُ الورَقَ من الشجر خَبْطًا، من باب ضَرَب: أسقطته، فإذا سقط، فهو خَبَطٌ، بفتحتين، فَعَلٌ بمعنى مفعول، مسموع كثيرًا. انتهى

(3)

.

ووقع عند النسائيّ بلفظ: "نحتطب من شجرة" - بالحاء المهملة - من الاحتطاب، يقال: حَطَب الْحَطَب حَطْبًا، من باب ضربَ: إذا جمع الحطب، واحتطب مثله.

(1)

"المفهم" 5/ 53.

(2)

شرح النوويّ" 11/ 172 - 173.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 163.

ص: 298

ولا تعارض بين الروايتين؛ لاحتمال أن يكونا يجمعان الحطب، والْخَبَط معًا، والله تعالى أعلم.

(فَسَبَّنِي، فَأَغْضَبَنِي، فَضَرَبْتُهُ بِالْفَأْسِ) قال الفيّوميّ: هي أنثى، وهي مهموزة، ويجوز التخفيف، وجَمْعُها أَفْؤُسٌ، وفُؤُسٌ، مثلُ فَلْسٍ، وأَفْلُسٍ، وفُلُوس. انتهى

(1)

.

(عَلَى قَرْنِهِ) بفتح، فسكون؛ أي: جانب رأسه، وقال في "المفهم": قرنُ الرأس جانبه الأعلى، قال الشاعر:

وَضَرَبْتُ قَرْنَيْ كَبْشِهَا فَتَجَدَّلَا

(فَقَتَلْتُهُ، فَقَالَ لَهُ)؛ أي: لهذا القاتل (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ لَكَ مِنْ شَيْءٍ)؛ أي: من مالك (تُؤَدِّيهِ عَنْ نَفْسِكَ؟ ")؛ أي: ديةً للمقتول، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم قد ألزمه حُكم إقراره، وأن قَتْله كان عمدًا، إذ لو كان خطأً لَمَا طالبه بالدية، ولطولب بها العاقلة، ويدلّ على هذا أيضًا قوله:"أترى قومك يشترونك؟ "؛ لأنه لَمّا استحقّ أولياء المقتول نفسه بالقتل العمد، صاروا كالمالكين له، فلو دَفع أولياء القاتل عنه عِوَضًا، فقَبِله أولياء المقتول، لكان كالبيع، وهذا كله إنما عَرَضه النبيّ صلى الله عليه وسلم على القاتل بناء منه على أنه إذا تيسّر له ما يؤدّي إلى أولياء المقتول، سألهم في العفو عنه، ففيه من الفقه السعي في الإصلاح بين الناس، وجواز الاستشفاع، وإن رُفعت حقوقهم للإمام، بخلاف حقوق الله تعالى، فإنه لا تجوز الشفاعة فيها، إذا بلغت الإمام. انتهى

(2)

.

(قَالَ) الرجل (مَا لِي مَالٌ، إِلَّا كِسَائِي، وَفَأْسِي) فيه من الفقه أن المال يُقال لكلّ ما يُتَمَوّل من العُروض وغيرها، وأن ذلك ليس مخصوصًا بالإبل، ولا بالعين، قاله القرطبيّ رحمه الله

(3)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَتَرَى) بتقدير همزة الاستفهام؛ أي: أفتعلم أن (قَوْمَكَ يَشْتَرُونَكَ؟ ")؛ أي: يؤدّون عنك دية المقتول، فينقذونك من القتل قِصاصًا؟ (قَالَ) الرجل (أَنَا أَهْوَنُ عَلَى قَوْمِي مِنْ ذَاكَ)؛ أي: من أن يشتروني (فَرَمَى) صلى الله عليه وسلم،

(1)

"المصباح المنير" 2/ 483.

(2)

"المفهم" 5/ 53 - 54.

(3)

"المفهم" 5/ 54.

ص: 299

فيه أنه صلى الله عليه وسلم كان آخذًا بنسعته (إِلَيْهِ)؛ أي: إلى أخي المقتول (بِنِسْعَتِهِ، وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("دُونَكَ صَاحِبَكَ")؛ أي: خذه، فاصنع به ما شئت، و"دون" من أسماء الأفعال، كما قال في "الخلاصة":

وَالْفِعْلُ مِنْ أَسْمَائِهِ "عَلَيْكَا"

وَهَكَذَا "دُونَكَ" مَعْ "إِلَيْكَا"

قال القرطبيّ رحمه الله: إنما حَكَم بهذا النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا تحقّق السبب، وتعذّر عليه الإصلاح، وبعد أن عَرَض على الوليّ العفو، فأبى، كما قاله ابن أشوع، وبعد أن عَلِم أنه لا مُستحقّ للدم إلا ذلك الطالب خاصّةً، ولو كان هناك مستحقّ آخر لتعيّن استعلام ما عنده من القصاص، أو العفو.

وفيه ما يدلّ على أن القاتل إذا تحقّق عليه السبب، وارتفعت الموانع لا يقتله الإمام، بل يدفعه للوليّ يفعل به ما يشاء، من قتل، أو عفو، أو حبس، إلى أن يرى رأيه فيه، ولا يسترقّه بوجه؛ لأن الحرّ لا يُملَك، قال القرطبيّ: ولا خلاف فيه فيما أعلمه. انتهى

(1)

.

(فَانْطَلَقَ)؛ أي: ذهب (بِهِ الرَّجُلُ) أخو المقتول؛ ليقتله قصاصًا (فَلَمَّا وَلَّى)؛ أي: أدبر من مجلسه صلى الله عليه وسلم (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ" وفي الرواية التالية: "القاتل والمقتول في النار"، وهذا قاله صلى الله عليه وسلم بعد أن شفع إليه، وطلب منه أن يأخذ الدية، فيعفو عنه، ففي رواية النسائيّ:"فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لوليّ المقتول: أتعفو؟ قال: لا، قال: أتأخذ الدية؟ قال: لا، قال: فتقتله؟ قال: نعم، قال: اذهب به، فلما ذهب به، فولّى من عنده دعاه، فقال له: أتعفو؟ قال: لا، قال: أتأخذ الدية؟ قال: لا، قال: فتقتله؟ قال: نعم، قال: اذهب به. . ." الحديث.

وقال النوويّ رحمه الله: أما قوله: "إن قتله فهو مثله" فالصحيح في تأويله أنه مثله في أنه لا فَضْل، ولا مِنّة لأحدهما على الآخر؛ لأنه استوفى حقه منه، بخلاف ما لو عَفَى عنه، فإنه كان له الفضل والمنة، وجزيل ثواب الآخرة، وجميل الثناء في الدنيا، وقيل: فهو مثله في أنه قاتل، وإن اختلفا في التحريم والإباحة، لكنهما استويا في طاعتهما الغضب، ومتابعة الهوى، لا سيما وقد

(1)

"المفهم" 5/ 54.

ص: 300

طلب النبيّ صلى الله عليه وسلم منه العفو، وإنما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم ما قال بهذا اللفظ الذي هو صادق فيه للإيهام لمقصود صحيح، وهو أن الوليّ ربما خاف، فعفا، والعفو مصلحة للوليّ، والمقتولِ في دِينهما؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"يبوء بإثمك، وإثم صاحبك"، وفيه مصلحة للجاني، وهو إنقاذه من القتل، فلمّا كان العفو مصلحة توصّل إليه بالتعريض.

وقد قال الضمريّ

(1)

وغيره، من علماء أصحابنا وغيرهم: يستحب للمفتي إذا رأى مصلحة في التعريض للمستفتي أن يُعَرِّض تعريضًا يحصل به المقصود، مع أنه صادق فيه، قالوا: ومثاله أن يسأله إنسان عن القاتل، هل له توبة؟ ويَظْهَر للمفتي بقرينة أنه إن أفتى بأن له توبة، ترتب عليه مفسدة، وهي أن الصائل يستهون القتل؛ لكونه يجد بعد ذلك منه مخرجًا، فيقول المفتي في الحالة هذه: صحّ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لا توبة لقاتل، فهو صادق في أنه صح عن ابن عباس، وإن كان المفتي لا يعتقد ذلك، ولا يوافق ابن عباس في هذه المسألة، لكن السائل إنما يَفهم منه موافقته ابن عباس، فيكون سببًا لزجره، فهكذا، وما أشبه ذلك، كمن يُسأل عن الغيبة في الصوم، هل يُفطر بها؟ فيقول: جاء في الحديث: "الغيبة تفطر الصائم"، والله أعلم.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "القاتل والمقتول في النار"، فليس المراد به في هذين، فكيف تصحّ إرادتهما، مع أنه إنما أخذه ليقتله بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، بل المراد غيرهما، وهو إذا التقى المسلمان بسيفيهما في المقاتلة المحرَّمة، كالقتال عصبيةً، ونحو ذلك، فالقاتل والمقتول في النار، والمراد به التعريض، كما ذكرناه، وسبب قوله ما قدّمناه؛ لكون الوليّ يفهم منه دخوله في معناه، ولهذا ترك قتله، فحصل المقصود، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: التأويلان اللذان ذكرهما النوويّ في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن قتلته كنت مثله" نقلهما عن المازريّ، والقاضي عياض، وأحسن منهما ما يأتي في كلام القرطبيّ رحمه الله، الآتي بعدُ فتنبّه.

(1)

هكذا النسخة، ولعله الصّيمريّ بالصاد المهملة، بعدها ياء، فليُحرّر.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 173 - 174.

ص: 301

وقال القرطبيّ رحمه الله: ظاهره إنْ قتله كان عليه من الإثم مِثل ما على القاتل الأول، وقد صرّح بهذا في الرواية الأخرى التي قال فيها:"القاتل والمقتول في النار"، وهذا فيه إشكالٌ عظيم، فإن القاتل الأول قَتَل عمدًا، والثاني قصاصًا، ولذلك لَمّا سمع الوليّ ذلك، قال: يا رسول الله قلت ذلك، وقد أخذته بأمرك؟، فاختلف العلماء في تأويل هذا على أقوال:

[الأول]: قال الإمام أبو عبد الله المازريّ: أَمْثَلُ ما قيل فيه: أنهما استويا بانتفاء التباعة عن القاتل بالقصاص.

قال القرطبيّ: وهذا كلام غير واضح، ويعني به - والله أعلم - أن القاتل إذا قُتل قصاصًا، لم يبق عليه تبعة من القتل، والمقتصّ لا تبعة عليه؛ لأنه استوفى حقّه، فاستوى الجاني والوَلِيّ المقتصّ في أن كلّ واحد منهما لا تبعة عليه.

[الثاني]: قال القاضي عياض: معنى قوله: "فهو مثله"؛ أي: قاتلٌ مثله، وإن اختلفا في الجواز والمنع، لكنهما اشتركا في طاعة الغضب، وشفاء النفس، لا سيّما مع رغبة النبيّ صلى الله عليه وسلم في العفو، على ما جاء في الحديث.

قال القرطبيّ: والعجيب من هذين الإمامين، كيف قَنِعا بهذين الْخَيالين، ولم يتأمّلا مَساق الحديث، وكأنهما لم يسمعا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم حين انطلق به يجرّه ليقتله:"القاتل والمقتول في النار"، وهذه الرواية مفسّرة لقوله في الرواية المتقدّمة:"إن قتله فهو مثله"؛ لأنها ذُكرت بدلًا منها، فعلى مقتضى قوله:"مثله"؛ أي: هو في النار مثله، ومن هنا عَظُم الإشكال، ولا يُلتفت لقول من قال: إن ذلك إنما قاله صلى الله عليه وسلم للوليّ لِمَا علم منه من معصية يَستحقّ بها دخول النار؛ لأن المعصية المقدّرة إما أن يكون لها مدخلٌ في هذه القصّة، أو لا مدخل لها فيها، فإن كان الأولُ، فينبغي لنا أن نبحث عنها حتى نتبيّنها، ونعرف وجه مناسبتها لهذا الوعيد الشديد، وإن لم يكن لها مدخلٌ في تلك القضيّة، لم يلِق بحكمة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا ببلاغته، ولا ببيانه أن يذكر وعيدًا شديدًا في قضيّةٍ ذات أحوال، وأوصاف متعدّدة، ويقرُن ذلك الوعيد بتلك القصّة، وهو يُريد أن ذلك الوعيد إنما هو لأجل شيء لم يذكره هو، ولا جرى له ذكرٌ من غيره، ثم إن المقول له ذلك، قد فَهِم أن ذلك إنما كان لأمر جرى

ص: 302

في تلك القصّة، ولذلك قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: تقول ذلك، وقد أخذته بأمرك؟، ولو كان كما قاله هذا القائل؛ لقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: إنما قلت ذلك للمعصية التي فعلتَ، أو الحالة التي أنت عليها، لا لهذا، ولَمَا كان يسكته عن ذلك، ولبادر لبيانه في تلك الحال؛ لأن الحاجة له داعيةٌ، والنصيحة، والبيان واجبان عليه صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.

[الثالث]: أن أبا داود روى هذا الحديث من طريق أبي هريرة رضي الله عنه وقال فيه: قُتل رجلٌ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرُفع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فدفعه إلى وليّ المقتول، فقال القاتل: يا رسول الله، والله ما أردت قتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للوليّ:"أمَا إنه إن كان صادقًا، ثم قتلته دخلت النار"، فحاصله أن هذا المعترف بالقتل زعم أنه لم يُرد قتله، وحَلَف عليه، فكان القتل خطأً، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم خاف أن يكون القاتل صدق فيما حلَف عليه، وأن القاتل يَعلم ذلك، لكن سلّمه له بحكم إقراره بالعمد، ولا شاهد يشهد له بالخطإ، ومع ذلك، فتوقّع صدقه، فقال:"إن قتلته دخلت النار"، فكأنه قال: إن كان صادقًا، وعلمت أنت صدقه، ثم قتلته، فأنت في النار، وهذا على ما فيه من التكلّف يُبطله قوله:"القاتل، والمقتول في النار"، فسوّى بينهما في الوعيد، فلو كان القاتل مخطئًا لَمَا استحقّ بذلك النار، ولَمَا باء بإثمه، وإثم صاحبه، فإن المخطئ لا يكون آثمًا، ولا يتحمّل إثم من أخطأ عليه.

[الرابع]: أن أبا داود روى هذا الحديث عن وائل بن حُجْرٍ رضي الله عنه، وذكر فيه ما يدلّ على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قصد تخليصه، فعَرَضَ الدية، أو العفوَ على الوليّ ثلاث مرّات، والوليّ في كلّ ذلك يأبى إلا القتل، مُعْرِضًا عن شفاعة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن حرصه على تخليص الجاني من القتل، فكان الوليّ صدر منه جفاءٌ في حقّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث ردّ متأكَّدَ شفاعته، وخالفه في مقصوده، ويظهر هذا من مساق الحديث، وذلك أن وائل بن حُجْر رضي الله عنه قال: كنت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، إذ جيء برجلٍ قاتل، في عُنُقه نِسْعَةٌ، قال: فدعا وليّ المقتول، فقال:"أتعفو؟ "، قال: لا، فقال:"أتأخذ الدية؟ "، قال: لا، قال:"أتقتل؟ "، قال: نعم، قال:"اذهب به"، فلما ولّى، قال:"أتعفو؟ "، قال: لا، قال:"أفتأخذ الدية؟ "، قال: لا، قال:"أفتقتل؟ "، قال: نعم، قال:"اذهب به"، فلما كان في

ص: 303

الرابعة، قال:"أما إنك إن عفوت عنه، يبوء بإثمه، وإثم صاحبه"، قال: فعفا عنه. فهذا المساق يُفهم منه صحّة قصد النبيّ صلى الله عليه وسلم لتخليص ذلك القاتل، وتأكّد شفاعته له في العفو، أو قبول الدية، فلمّا لم يلتفت الوليّ إلى ذلك كلّه، صدرت منه صلى الله عليه وسلم تلك الأقوال الوعيديّة، مشروطةً باستمراره على لَجَاجه، ومُضيّه على جفائه، فلمّا سمع الوليّ ذلك القول عفا، وأحسن، فقُبل، وأُكرم، وهذا أقرب من تلك التأويلات، والله أعلم بالمشكِلات، وهذا الذي أشار إليه ابن أشوع، حيث قال: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم سأله أن يعفو، فأبى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قول ابن أشوع المذكور هو الآتي للمصنّف في الرواية التالية لهذه الرواية - إن شاء الله تعالى -.

[تنبيه]: قال القرطبيّ: إنما عَظُم الإشكال من جهة قوله صلى الله عليه وسلم: "القاتل والمقتول في النار"، ولَمّا كان ذلك قال بعض العلماء: إن هذا اللفظ - يعني: قوله: "القاتل والمقتول في النار" -، إنما ذكره النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث آخر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار" متفقّ عليه، فَوَهِم بعض الرواة، فضمّه إلى هذا الحديث الآخر.

قال القرطبيّ: وهذا بعيدٌ، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا التحقيق الذي قاله القرطبيّ رحمه الله في تأويل قوله صلى الله عليه وسلم: "إنْ قَتَله، فهو مثله" تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب.

(فَرَجَعَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ

(2)

قُلْتَ: "إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ"، وَأَخَذْتُهُ بِأَمْرِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَمَا تُرِيدُ أَنْ يَبُوءَ) بهمزة، بعد الواو؛ أي: ينقلب، ويرجع، قال القرطبيّ رحمه الله: وأكثر ما يُستعمل باء بكذا في الشرّ، ومنه قوله تعالى: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} [البقرة: 90] انتهى. (بِإثْمِكَ وَإِثْمِ صَاحِبِكَ؟ ") قال القرطبيّ رحمه الله: يعني بذلك - والله تعالى أعلم - أن المقتول ظلمًا تُغفر ذنوبه عند قتل القاتل له، والوليّ يُغفر له عند عفوه عن القاتل، فصار

(1)

"المفهم" 5/ 54 - 58.

(2)

وفي نسخة: "يا رسول الله، بلغني أنك قلت".

ص: 304

ذهاب ذنوبهما بسبب القاتل، فلذلك قيل عنه: إنه باء بذنوب كلّ واحد منهما. هذا أحسن ما قيل فيه، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

وقال السنديّ رحمه الله: ظاهره أن الوليّ إذا عفا عن القاتل بلا مال يتحمّل القاتل إثم الوليّ والمقتول جميعًا، ولا يخلو عن إشكال، فإن أهل التفسير قد أوّلوا قوله تعالى:{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} الآية [المائدة: 29]، فضلًا عن إثم الوليّ، ولعل الوجه في هذا الحديث أن يقال: المراد برجوعه بإثمهما هو رجوعه متلبّسًا بزوال إثمهما عنهما.

ويَحْتَمِل أنه تعالى يرضى بعفو الوليّ، فيغفر له، ولمقتوله، فيرجع القاتل، وقد أُزيل عنهما إثمهما بالمغفرة.

والمشهور هي الرواية الآتية، وهي:"يبوء بإثمه، وإثم صاحبه"؛ أي: المقتول، وقيل في تأويله: أي: يرجع متلبّسًا بإثمه السابق، وبالإثم الحاصل له بقتل صاحبه، فأُضيف إلى الصاحب؛ لأدنى ملابسة، بخلاف ما لو قُتِلَ، فإن القتل يكون كفّارة له عن إثم القتل، وهذا المعنى لا يصلح للترغيب، إلا أن يقال: الترغيب باعتبار إيهام الكلام بالمعنى الظاهر، ويجوز الترغيب بمثله توسّلًا به إلى العفو، وإصلاح ذات البين، كما يجوز التعريض في محلّه. والله تعالى أعلم. انتهى.

وقال النوويّ رحمه الله: قيل: معناه يتحمّل إثم المقتول بإتلافه مهجته، وإثم الوليّ؛ لكونه فَجَعه في أخيه، ويكون قد أُوحي إليه صلى الله عليه وسلم بذلك، في هذا الرجل خاصة، ويَحْتَمِل أن معناه: يكون عفوك عنه سببًا لسقوط إثمك، وإثم أخيك المقتول، والمراد إثمهما السابق بمعاصٍ لهما متقدمة، لا تعلّق لها بهذا القاتل، فيكون معنى "يبوء" يُسقط، وأطلق هذا اللفظ عليه مجازًا. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأقرب ما استحسنه القرطبيّ رحمه الله، في كلامه السابق، وحاصله أن القاتل تسبب في حصول المغفرة لكلّ من المقتول بقتله، والوليّ لَمّا عفا عنه، فصحّ نسبة ذهاب ذنوبهما إليه، والله تعالى أعلم.

(1)

"المفهم" 5/ 58.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 174 - 175.

ص: 305

(قَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ) وقوله: (لَعَلَّهُ، قَالَ: بَلَى) من كلام الراوي حيث شكّ في لفظ "بلى" بعد قوله: "يا نبيّ الله"، فـ "بلى" جواب لوليّ القتيل أجاب به النبيّ صلى الله عليه وسلم في سؤاله بقوله:"أما تريد أن يبوء بإثمك، وإثم صاحبك؟ "، فقال: بلى؛ أي: أريد ذلك.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَإِنَّ ذَاكَ) إشارة إلى كونه يبوء بإثمه وإثم صاحبه إن عفا عنه، (كَذَاكَ")؛ أي: كما قلت لك: إنه يبوء. . . إلخ (قَالَ) الراوي، وهو وائل بن حُجْر رضي الله عنه (فَرَمَى بِنِسْعَتِهِ)؛ أي: فرمى وليّ المقتول بالنسعة التي كان يقود بها القاتل (وَخَلَّى سَبِيلَهُ)؛ أي: تركه يذهب حيث شاء، وفي رواية النسائيّ:"فعفا عنه، فأرسله، قال: فرأيته يجرّ نسعته"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث وائل بن حجر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 4379 و 4380](1680)، و (أبو داود) في "الديات"(4499 و 4501)، و (الترمذيّ) في "جامعه"(4/ 22)، و (النسائيّ) في "القسامة"(423 و 4726 و 4728 و 4729 و 4731) وفي "آداب القضاة"(5417) وفي "الكبرى"(6925 و 6928 و 6929 و 6931)، و (ابن ماجه) في "الديات"(2/ 897)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 463)، و (الدارميّ) في "سننه"(2253)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(1/ 26 و 54) و"التفسير"(10/ 173)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(22/ 17)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 54)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان مشروعيّة القصاص في القتل العمد.

2 -

(ومنها): أن فيه الإغلاظَ على الْجُنَاة، وربطهم، وإحضارهم إلى وليّ الأمر.

ص: 306

3 -

(ومنها): أن فيه سؤالَ المدعَى عليه، عن جواب الدعوى، فلعله يُقِرُّ، فيستغني المدعي، والقاضي عن التعب في إحضار الشهود، وتعديلهم، ولأن الحكم بالإقرار حكمٌ بيقين، وبالبينة حكم بالظن.

4 -

(ومنها): سؤالُ الحاكم، وغيره الوليّ عن العفو عن الجاني.

5 -

(ومنها): أن فيه جوازَ العفو بعد بلوغ الأمر إلى الحاكم.

6 -

(ومنها): جوازُ أخذ الدية في قتل العمد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في تمام الحديث: "هل لك من شيء تؤديه عن نفسك؟ ".

7 -

(ومنها): قبول الإقرار بقتل العمد.

8 -

(ومنها): ما قال القاضي عياض رحمه الله: فيه أن قتل القصاص لا يكفّر ذنب القاتل بالكلية، وإن كفّرها بينه وبين الله تعالى، كما جاء في الحديث الآخر:"فهو كفارة له، ويبقى حق المقتول".

9 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: في قوله صلى الله عليه وسلم: "أتقتله؟ " من الفقه سماع دعوى المدّعِي في الدم قبل إثبات الموت، والولاية، ثم لا يثبت الحكم حتى يثبُت كلُّ ذلك.

[فإن قيل]: فقد حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم على القاتل في هذا الحديث من غير إثبات ولاية المدّعي؟.

[فالجواب]: أن ذلك كان معلومًا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعند غيره، فاستغنى عن إثباته لشهرة ذلك.

10 -

(ومنها): استقرار المدّعى عليه بعد سماع الدعوى لإمكان إقراره، فتسقط وظيفة إقامة البيّنة عن المدّعي، كما جرى في هذا الحديث، قاله القرطبيّ رحمه الله

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4380]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:

(1)

"المفهم" 5/ 52.

ص: 307

أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ قَتَلَ رَجُلًا، فَأَقادَ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ مِنْهُ، فَانْطَلَقَ بِهِ، وَفِي عُنُقِهِ نِسْعَةٌ يَجُرُّهَا، فَلَمَّا أَدْبَرَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ"، فَأَتَى رَجُلٌ الرَّجُلَ، فَقَالَ لَهُ مَقَالَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَخَلَّى عَنْهُ. قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِحَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَشْوَعَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا سَأَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، فَأَبَى).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الضبيّ، أبو عثمان الواسطيّ الْبَزّاز، نزيل بغداد، لقبه سعدويه، وسَمَّى ابن حِبَّان جدّه كنانةَ، وسَمَّى ابن عساكر جدَّه نَشيطًا، فوَهِمَ، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [10].

رَوَى عن سليمان بن كثير، وسليمان بن المغيرة، وحماد بن سلمة، والليث بن سعد، ومبارك بن فضالة، وزهير بن معاوية، وهشيم، وغيرهم.

وروى عنه البخاريّ، وأبو داود بلا واسطة، والباقون بواسطة محمد بن عبد الرحيم صاعقة، والحسن بن محمد الزعفرانيّ، ومحمد بن حاتم بن ميمون، وهارون الحمّال، والذُّهْليّ، والدارميّ، وغيرهم.

قال أبو حاتم: ثقة مأمون، ولعله أوثق من عَفّان، وقال صالح بن محمد عنه: ما دَلَّستُ قط، ليتني أُحَدِّث بما قد سمعت، قال: وسمعته يقول: حججت ستين حجة، وقال الدُّوريّ: سئل ابن معين عنه، وعن عمرو بن عون، فقال: كان سعدويه أَكْيَسهما، وقال جعفر الطيالسيّ، عن ابن معين: كان سعدويه قبل أن يُحَدِّث أَكْيَس منه حين حَدَّثَ، وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: كان صاحب تصحيف ما شئتَ، وقال العجليّ: واسطيّ ثقةُ، قيل له بعد ما رجع من المحنة: ما فعلتم؟ قال: كَفَرْنَا، ورَجَعنا، وقال ابن سعد: كان ثقةً كثير الحديث، تُوُفّي ببغداد لأربع خلون من ذي الحجة سنة خمس وعشرين ومائتين، وقال السَّرّاج: سمعت عبدوس بن مالك يقول: سمعت مولى سعدويه يقول: مات وله مائة سنة، وذكره ابن حِبّان في "الثقات".

أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

ص: 308

3 -

(هُشَيْمُ) بن بَشِير الواسطيّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ) الأسديّ، أبو يحيى الكوفيّ، نزل بغداد قبل أن تُبْنَى، ويقال: إنه أخو محمد بن سالم، ثقةٌ ثبتٌ [6].

رَوَى عن الشعبيّ، وحبيب بن أبي ثابت، وعلقمة بن وائل، وأبي صالح السمان، وسعيد بن المسيِّب، وغيرهم.

وروى عنه ابنه يحيي، والعلاء بن المسيَّب، وهشيم، وأبو عوانة، والثوريّ، وغيرهم.

قال ابن المدينيّ: له نحو عشرة أحاديث، وقال ابن سعد: كان ثقةً ثبتًا، وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: فراس أقدم موتًا من إسماعيل، وإسماعيل أوثق منه، فراس فيه شيء من ضعف، وإسماعيل أحسن منه استقامةً، وأقدم سماعًا، سمع من سعيد بن جبير، وكذا قال مسلم، عن أحمد، وقال عبد الله، عن أبيه أيضًا: ثقةٌ ثقةٌ، وقال المروزيّ، عن أحمد: ليس به بأس، وهو أكبر من مُطَرِّف، ثم قال: قد كانت عنده أحاديث الشيعة، وقد نَظَر له شعبة في كتبه، وقال أبو داود: سألت أحمد عنه، فقال: بَخٍ، قال: وسمعته يقول: صالح الحديث، وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقة، أوثق من أساطين مسجد الجامع، سمع من هشيم، وقال ابن أبي مريم وغيره عنه: ثقة، زاد ابن أبي مريم: حجةٌ، وقال الدُّوريّ عنه: سمع إسماعيلُ من أبي صالح ذكوان، وقد سمع من أبي صالح باذام، وقال أبو زرعة، وأبو حاتم، والنسائيّ، وابن خِرَاش، والدارقطنيّ: ثقة، وقال أبو حاتم أيضًا: مستقيم الحديث، وقال ابن عديّ: له أحاديث يُحَدِّث عنه قوم ثقات، وأرجو أنه لا بأس به، وقال يعقوب الفَسَويّ: لا بأس به، كوفيّ ثقةٌ، وقال أبو عليّ الحافظ: ثقةٌ عَسِرٌ في الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ) ببناء الفعل للمفعول.

ص: 309

وقوله: (فَأقَادَ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ مِنْهُ)؛ أي: حَكَم النبيّ صلى الله عليه وسلم بإجراء القَوَد، وهو القِصاص، ومكّن منه.

وقوله: (فَانْطَلَقَ بِهِ)؛ أي: ذهب وليّ المقتول بالقاتل؛ ليقتصّ منه.

وقوله: (وَفِي عُنُقِهِ نِسْعَةٌ يَجُرُّهَا) في محل نصب جملة حاليّة من الضمير المجرور في "به".

وقوله: (فَلَمَّا أَدْبَرَ)؛ أي: ذهب الرجل من مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ) تقدّم اختلاف العلماء في تأويله، في الحديث الماضي، فلا تغفل.

وقوله: (فَأَتَى رَجُلٌ الرَّجُلَ) لا يُعرف الرجلان، والرجل الثاني هو وليّ الدم.

وقوله: (فَقَالَ لَهُ مَقَالَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: ذَكَر له قوله صلى الله عليه وسلم: "القاتل والمقتول في النار".

وقوله: (فَخَلَّى عَنْهُ)؛ أي: ترك القاتل، بعد أن راجع النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك، وتأكّد صدور هذا الكلام منه.

وقوله: (قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِحَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ)؛ أي: ذكرت هذا الحديث، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:"القاتل والمقتول في النار".

وحبيب بن أبي ثابت، واسم أبيه قيس، ويقال: هند بن دينار الأسديّ مولاهم، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ جليلٌ، لكنه كثير الإرسال والتدليس [3](ت 119)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 1/ 1.

وقوله: (حَدَّثَنِي ابْنُ أَشْوَعَ) هو: سعيد بن عمرو بن أشوع الْهَمْدانيّ الكوفيّ قاضيها، ثقةٌ رُمي بالتشيّع [6] مات في حدود (120)(خ م ت) تقدم في "الإيمان" 83/ 449.

وقوله: (إِنَّمَا سَأَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، فَأَبَى) أراد ابن أشوع بهذا الكلام أن يبيّن سبب قوله صلى الله عليه وسلم: "القاتل والمقتول في النار"، وذلك أن الرجل أعرض عن طاعته صلى الله عليه وسلم حيث عَرَض عليه العفو، ثم الدية ثلاث مرّات، فأبى، ورفض شفاعته صلى الله عليه وسلم، وحِرْصه على تخليص الجاني من القتل، وصدر منه الجفاء في حقّه صلى الله عليه وسلم، فقال عند ذلك:"القاتل والمقتول في النار".

ص: 310

وقال الأبيّ رحمه الله: كون الوليّ من أهل النار إنما هو لأمر آخر عَلِمه النبيّ صلى الله عليه وسلم، لا من أجل قصاصه، أو يكون استحقّ ذلك؛ لإغضابه صلى الله عليه وسلم إذ لم يقبل ما أمره به من العفو مرّة بعد أخرى، فإنه جاء أنه أَمَره أربع مرّات، وفي كلّها يأبى، وقيل: ليس المراد بقوله: "القاتل والمقتول في النار" هذين الشخصين؛ لأنه كيف يصحّ، وقد أباح له قتله؟ وإنما قاله صلى الله عليه وسلم في المتقاتلين عصبيّةً، كقوله:"إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار"، فلما سَمِع الوليّ هذا لم يفهم معناه، وتورّع لعمومه، وهذا التأويل بعيد من لفظ الحديث، ومن إقرار النبيّ صلى الله عليه وسلم على تركه، وهو موضع بيان، وقال النوويّ: ليس ببعيد؛ لأن المقصود به التعريض، كما تقدّم للقاضي عياض.

وفي الحديث أن قَتْل القِصاص لا يُكفّر ذنب القاتل بالكليّة، وإنما يكفّر ما بينه وبين الله عز وجل، كما جاء في الحديث الآخر:"فهو كفّارة له".

وقال ابن رُشد: إذا أقيد من القاتل، فمن أهل العلم من يقول: إن القصاص كفّارة له؛ لحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: "ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب، فهو كفّارة له. . ." الحديث، متّفق عليه، ومنهم من قال: لا تكون كفّارةً؛ لأن القتيل لا منفعة له في القصاص، وإنما ينتفع به الأحياء؛ لينزجر الناس عن القتل، فالقصاص على هذا القول مخصّص لعموم حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه المذكور، ويبقى الحديث مستعملًا فيما هو من حقوق الله لا يتعلّق به حقّ لمخلوق، ويشهد لكون الحدود لا تكون كفّارةً قوله تعالى في المحاربين:{ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33]. انتهى كلام الأبيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"شرح الأبيّ" 4/ 428 - 429.

ص: 311

(11) - (بَابُ دِيَةِ الْجَنِينِ، وَوُجُوبِ الدِّيَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَإِ، وَشِبْهِ الْعَمْدِ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي)

[4381]

(1681) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ، رَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى، فَطَرَحَتْ جَنِينَهَا، فَقَضَى فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِغُرَّةٍ: عَبْدٍ، أَوْ أَمَةٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(أَبُو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4، وشرح الحديث يأتي في الذي بعده، وإنما أخّرته إليه؛ لكونه أتمّ من هذا، والله تعالى أعلم.

[4382]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَنِينِ امْرَأَةٍ، مِنْ بَنِي لِحْيَانَ، سَقَطَ مَيِّتًا، بِغُرَّةٍ: عَبْدٍ، أَوْ أَمَةٍ، ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأةَ الَّتِي قُضِيَ عَلَيْهَا بِالْغُرَّةِ تُوُفِّيَتْ، فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا، وَزَوْجِهَا، وَأَنَّ الْعَقْلَ عَلَى عَصَبَتِهَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدِ) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(لَيْثُ) بن سعد بن عبد الرحمن الفهميّ مولاهم، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ حجة إمام [7](175)(ع) تقدم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

3 -

(ابْنُ الْمُسَيِّبِ) هو: سعيد بن الْمُسَيِّب بن حَزْن بن أبي وهب

ص: 312

المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، أحد العلماء الأثبات، والفقهاء الكبار، من كبار [3] مات بعد التسعين، وقد ناهز الثمانين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أن رجاله كلهم رجال الجماعة، وأنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ، والليث، فمصريّ، وأنه من أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه ابن المسيّب أحد الفقهاء السبعة المعروفين بالمدينة، (ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ) هكذا في رواية الليث، وفي رواية يونس التالية:"عن ابن شهاب، عن ابن المسيِّب، وأبي سلمة"، وفي رواية معمر، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، وتقدّم في أول الباب من رواية يحيى بن يحيى:"عن مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن"، وعند النسائيّ في رواية ابن القاسم:"عن مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيّب"، مرسلًا، وكلها طرق صحيحة، ثابتة، لا تعارض بينها.

قال في "الفتح" في رواية مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ما حاصله: كذا قال عبد الله بن يوسف، عن مالك، وقال - كما في الباب الذي يليه - عن الليث، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، وكِلا القولين صواب، إلا أن مالكًا كان يرويه عن ابن شهاب، عن سعيد مرسلًا، وعن أبي سلمة موصولًا، وقد مضى في "الطب" عن قتيبة، عن مالك بالوجهين، وهو عند الليث من رواية أبي سلمة أيضًا، لكن بواسطة، كما تقدم في "الطب" أيضًا، عن سعيد بن عُفَير، عن الليث، عن عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، ورواه يونس بن يزيد، عن ابن شهاب عنهما جميعًا، كما في الباب الذي يليه أيضًا، ورواه معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة وحده، أخرجه مسلم، وأخرجه أبو داود، والترمذيّ، من طريق محمد بن عمرو، عن

ص: 313

أبي سلمة. انتهى

(1)

.

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّهُ قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَنِينِ امْرَأَةٍ) الجنين بجيم، ونونين، بوزن عَظِيم: حَمْلُ المرأة ما دام في بطنها، سُمّي بذلك لاستتاره، فإن خرج حيًّا فهو ولدٌ، أو ميتًا فهو سِقْطٌ، وقد يُطلق عليه جنين، قال الباجيّ في "شرح "الموطأ": الجنين: ما ألقته المرأة مما يُعرف أنه ولد، سواء كان ذكرًا أو أنثى، ما لم يستهلّ صارخًا، كذا قال، ذكره في "الفتح"

(2)

.

(مِنْ بَني لِحْيَانَ) - بكسر اللام، وسكون المهملة - ابن هُذيل بن مُدركة بن إلياس بن مُضَر، وفي رواية مالك السابقة:"أن امرأتين من هُذيل رمت إحداهما الأخرى"، وفي رواية يونس التالية:"اقتتلت امرأتان، من هُذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلتها"، وفي رواية حَمَل بن مالك عند النسائيّ:"إحداهما لحيانيّة"، ولحيان بطن من هذيل، وهاتان المرأتان كانتا ضرّتين، وكانتا تحت حَمَل بن النابغة الْهُذَلي، فعند النسائيّ من طريق ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس، عن عمر رضي الله عنه، أنه نشد قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقام حَمَل بن مالك، فقال: كنت بين حُجرتي امرأتين، وفي رواية أبي داود: بين امرأتين، فضربت إحداهما الأخرى. . . الحديث، هكذا رواه موصولًا، وأخرجه الشافعيّ، عن سفيان بن عيينة:"عن عمر"، فلم يذكر "ابن عباس" في السند، ولفظه: أن عمر قال: "أُذَكِّرُ اللهَ امرءًا سمع من النبي صلى الله عليه وسلم في الجنين شيئًا"، وكذا قال عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه:"أن عمر استشار"، وأخرج الطبراني من طريق أبي الْمَلِيح بن أسامة بن عُمير الْهُذلي، عن أبيه، قال: كان فينا رجل، يقال له: حَمَلُ بن مالك، له امرأتان: إحداهما: هذلية، والأخرى عامرية، فضربت الهذلية بطن العامرية، وأخرجه الحارث، من طريق أبي المليح، فأرسله، لم يقل:"عن أبيه"، ولفظه: أن حمل بن النابغة، كانت له امرأتان: مُليكة، وأم عفيف، وأخرج الطبراني من طريق عون بن عُويم، قال: كانت

(1)

"الفتح" 16/ 105 - 106.

(2)

"الفتح" 16/ 105، كتاب "الديات" رقم (6904).

ص: 314

أختي مليكة، وامرأة منا يقال لها: أم عفيف بنت مسروح، تحت حَمَل بن النابغة، فضربت أم عفيف مليكة، ووقع في رواية عكرمة، عن ابن عباس في آخر هذه القصة، قال ابن عباس:"إحداهما مليكة، والأخرى أم غُطيف"، أخرجه أبو داود، والنسائيّ، وبالآخر جزم الخطيب في "المبهمات"، وزاد بعض شُرّاح "العمدة": وقيل: أم مكلف، وقيل: أم مليكة. انتهى ما في "الفتح" بتصرّف

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "أم عفيف" هكذا نسخة "الفتح"، والذي عند النسائيّ، وأبي داود:"أم غُطيف"، بِالْغَين المعجمة، وفي "الإصابة":"أم عفيف"، ويقال: أم غُطيف بنت مسروح الهذليّة، زوج حَمَل بن مالك الهُذليّ، تقدّم ذكرها في مليكة. انتهى.

(سَقَطَ مَيِّتًا)؛ أي: بعد أن ضربتها، ففي رواية يونس التالية:"رمت إحداهما الأخرى بحجر"، وفي حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه الآتي:"ضربت ضرّتها بعمود فُسطاط، فقتلتها".

(بِغُرَّةٍ) متعلّق بـ "قضى"(عَبْدٍ، أَوْ أَمَةٍ) المشهور تنوين "غُرّة"، وما بعده بدل منه، أو عطف بيان، ورواه بعضهم بالإضافة، و"أو" للتقسيم، لا للشكّ، فإن كلًّا من العبد، والأمة يقال له:"غُرّة"، إذ الغرّة اسم للإنسان المملوك، ويُطلق على مَعانٍ أُخَر أيضًا، قاله السنديّ.

وقال في "المغني"

(2)

: يقال: غُرَّةٌ، عبدٌ بالصفة، وغُرَّةُ عبدٍ بالإضافة، والصفة أحسن؛ لأن الغرة اسم للعبد نفسه، قال مهلهل [من الرجز]:

كُلُّ قَتِيلٍ فِي كُلَيْبٍ غُرَّهْ

حَتَّى يَنَال الْقَتْلُ آلَ مُرَّهْ

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "بغرّة عبد"، ضبطناه على شيوخنا في الحديث والفقه، "بغرة" بالتنوين، وهكذا قيّده جماهير العلماء في كتبهم، وفي مصنفاتهم في هذا، وفي شروحهم، وقال القاضي عياض: الرواية فيه "بغرة" بالتنوين، وما بعده بدل منه، قال: ورواه بعضهم بالإضافة، قال: والأول أوجَه وأقْيَس،

(1)

"الفتح" 16/ 106، كتاب "الديات" رقم (6904).

(2)

"المغني" 12/ 59.

ص: 315

وذكر صاحب "المطالع" الوجهين، ثم قال: الصواب رواية التنوين، قلنا: ومما يؤيده، ويوضحه رواية البخاريّ في "صحيحه" في "كتاب الديات" في "باب دية جنين المرأة"، عن المغيرة بن شعبة، قال:"قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغرة، عبدًا، أو أمةً"، وقد فَسَّر الغرة في الحديث بعبد، أو أمة.

قال العلماء: و"أو" هنا للتقسيم، لا للشك، والمراد بالغرة عبدٌ، أو أمةٌ، وهو اسم لكل واحد منهما، قال الجوهريّ: كأنه عبَّر بالغرة عن الجسم كله، كما قالوا: أعتق رقبة، وأصل الغرة: بياض في الوجه، ولهذا قال أبو عَمْرو - يعني: ابن العلاء -: المراد بالغرة: الأبيض منهما خاصة، قال: ولا يجزي الأسود، قال: ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد بالغرة معنى زائدًا، على شخص العبد والأمة، لَمَا ذَكَرها، ولاقتصر على قوله:"عبد، أو أمة". هذا قول أبي عمرو، وهو خلاف ما اتفق عليه الفقهاء: أنه تجزي فيها السوداء، ولا تتعيَّن البيضاء، وإنما المعتبَر عندهم أن تكون قيمتها عشر دية الأم، أو نصف عشر دية الأب، قال أهل اللغة: الغرة عند العرب أنفس الشيء، وأُطلقت هنا على الإنسان؛ لأن الله تعالى خلقه في أحسن تقويم.

وأما ما جاء في بعض الروايات، في غير "الصحيح":"بغرة عبد، أو أمة، أو فرس، أو بغل"، فرواية باطلة، وقد أخذ بها بعض السلف، وحُكِيَ عن طاوس، وعطاء، ومجاهد: أنها عبد، أو أمة، أو فرس، وقال داود: كل ما وقع عليه اسم الغرة يُجزي. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح": قال الإسماعيليّ: قرأه العامة بالإضافة، وغيرهم بالتنوين، وحَكَى القاضي عياض الخلاف، وقال: التنوين أوجه؛ لأنه بيان للغرة ما هي، وتوجيه الآخر أن الشيء قد يضاف إلى نفسه، لكنه نادر، وقال الباجي: يَحْتَمِل أن تكون "أو" شكًّا من الراوي في تلك الواقعة المخصوصة، ويَحْتَمِل أن تكون للتنويع، وهو الأظهر، وقيل: المرفوع من الحديث قوله: "بغرة"، وأما قوله:"عبد، أو أمة" فشك من الراوي في المراد بها، قال: وقال مالك: الحمرانُ أولى من السودان في هذا، وعن أبي عمرو بن العلاء قال:

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 175 - 176.

ص: 316

الغرة عبد أبيض، أو أمة بيضاء، قال: فلا يجزي في دية الجنين سوداء، إذ لو لم يكن في الغرة معنى زائد، لَمَا ذكرها، ولقال: عبد، أو أمة، ويقال: إنه انفرد بذلك، وسائر الفقهاء على الإجزاء، فيما لو أخرج سوداء، وأجابوا بأن المعنى الزائد كونه نفيسًا، فلذلك فسّره بعبد أو أمة؛ لأن الآدمي أشرف الحيوان، وعلى هذا فالذي وقع في رواية محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، من زيادة ذكر الفرس في هذا الحديث وَهَم، ولفظه:"غرة: عبد، أو أمة، أو فرس، أو بغل"، ويمكن إن كان محفوظًا أن الفرس هي الأصل في الغرة، كما تقدم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن ما ذهب إليه الجمهور من إجزاء العبد الأسود هو الحقّ؛ لأن المراد بالغرّة هو الشيء النفيس، والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي قُضِيَ) يَحْتَمل أن يكون بالبناء للفاعل، أو للمفعول، (عَلَيْهَا بِالْغُرَّةِ تُوُفِّيَتْ) قال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: هذا الكلام قد يوهم خلاف مراده، فالصواب أن المرأة التي ماتت هي الْمَجْنِيّ عليها، أمُّ الجنين، لا الجانية، وقد صرّح به في الحديث بعده بقوله:"فقتلتها، وما في بطنها"، فيكون المراد بقوله:"التي قضى عليها بالغرة"؛ أي: التي قَضَى لها بالغرة، فعبَّر بـ "عليها" عن "لها". انتهى

(2)

.

(فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا، وَزَوْجِهَا، وَأَنَّ الْعَقْلَ عَلَى عَصَبَتِهَا) المراد: عصبة القاتلة، وكأن تخصيص الميراث لبنيها وزوجها لكونهم هم الذين وُجدوا من الورثة في هذه الواقعة، وإلا فالظاهر أن ميراثها لورثتها أيًّا كانوا، ويدلّ على ذلك ما في الرواية التالية بلفظ:"وورّثها ولدها، ومن معهم". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(1)

"الفتح" 16/ 109.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 177.

ص: 317

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 4381 و 4382 و 4383 و 4384](1681)، و (البخاريّ) في "الطبّ"(5758 و 5760) و"الفرائض"(6740) و"الديات"(6904 و 6909 و 6910)، و (أبو داود) في "الديات"(4576 و 4577 و 4579)، و (الترمذيّ) في "الديات"(1410 و 2111)، و (النسائيّ) في "القسامة"(4819 و 4820 و 4821 و 4822) و"الكبرى"(7021 و 7022 و 7023 و 7024)، و (ابن ماجه) في "الديات"(2639)، و (مالك) في "الموطأ"(1608)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 102 - 103)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 391)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 438 و 498 و 535 و 539)، و (الدارميّ) في "سننه"(2276)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6017 و 6018)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 205)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 109)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(8/ 102)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(3/ 114)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 112 - 113) و"المعرفة"(6/ 240) و"الصغرى"(7/ 129)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(2543 - 2544)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان دية جنين المرأة إذا أسقطته ميتًا.

2 -

(ومنها): بيان أن دية الجنين يُسمّى بالغرّة، ثم فُسّر في الحديث بأنه عبد أو أمة.

3 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: اتفق العلماء على أن دية الجنين هي الغرّة، سواء كان الجنين ذكرًا، أو أُنثى، قالوا: وإنما كان كذلك؛ لأنه قد يخفى، فيكثر فيه النزاع، فضبطه الشرع بضابط، يقطع النزاع، وسواء كان خَلْقه كامل الأعضاء، أم ناقصها، أو كان مضغة، تَصوَّر فيها خَلْق آدمي، ففي كل ذلك الغرة بالإجماع، ثم الغرة تكون لورثته على مواريثهم الشرعية، وهذا شخص يُورَث ولا يَرِث، ولا يُعرف له نظير، إلا مَن بعضه حُرّ، وبعضه رقيق، فإنه رقيق لا يرث عندنا، وهل يورَث؟ فيه قولان: أصحهما يورَث.

وهذا مذهبنا، ومذهب الجماهير، وحَكَى القاضي عياض عن بعض

ص: 318

العلماء: أن الجنين كعضو من أعضاء الأم، فتكون ديته لها خاصة.

(واعلم): أن المراد بهذا كله، إذا انفصل الجنين ميتًا، أما إذا انفصل حيًا، ثم مات، فيجب فيه كمال دية الكبير، فإن كان ذكرًا وجب مائة بعير، وإن كان أنثى فخمسون، وهذا مجمع عليه، وسواء في هذا كله العمد والخطأ، ومتى وجبت الغرة فهي على العاقلة، لا على الجاني، هذا مذهب الشافعيّ، وأبي حنيفة، وسائر الكوفيين رضي الله عنهم، وقال مالك، والبصريون: تجب على الجاني.

وقال الشافعيّ، وآخرون: يلزم الجاني الكفارة، وقال بعضهم: لا كفارة عليه، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة رضي الله عنهما، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

4 -

(ومنها): ما استنبطه الجمهور من قوله: "غرّة" أن أقلّ ما يجزي من العبد، أو الأمة ما سَلِمَ من العيوب، التي يثبت بها الردّ في البيع؛ لأن المَعيب ليس من الخيار.

5 -

(ومنها): أنه استَنْبَط الشافعيّ رحمه الله منه أن يكون منتفَعًا به، فَشَرَط أن لا ينقص عن سبع سنين؛ لأن من لم يبلغها لا يستقل غالبًا بنفسه، فيحتاج إلى التعهد بالتربية، فلا يُجْبَر المستحقّ على أخذه.

6 -

(ومنها): أن بعضهم أخذ من لفظ الغلام أن لا يزيد على خمس عشرة، ولا تزيد الجارية على عشرين، ومنهم من جعل الحدّ ما بين السبع والعشرين، والراجح كما قال ابن دقيق العيد أنه يجزئ، ولو بلغ الستين وأكثر منها، ما لم يصل إلى عدم الاستقلال بالهرم.

7 -

(ومنها): أنه استُدِلَّ به على عدم وجوب القصاص في القتل بالمثقّل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يأمر فيه بالقَوَد، وإنما أمر بالدية.

وأجاب من قال به بأن عمود الفسطاط، يختلف بالكِبَر والصِّغَر، بحيث يقتل بعضه غالبًا، ولا يقتل بعضه غالبًا، وطَرْدُ المماثلة في القصاص، إنما يُشْرَع فيما إذا وقعت الجناية بما يَقتل غالبًا.

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 176.

ص: 319

وفي هذا الجواب نظر، فإن الذي يظهر أنه إنما لم يوجب فيه القود؛ لأنها لم يقصد مثلها، وشَرْط القوَد العمد، وهذا إنما هو شبه العمد، فلا حجة فيه للقتل بالمثقّل، ولا عكسه، قاله في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في دية الجنين:

قال العلامة ابن قُدامة رحمه الله ما حاصله: قول أكثر أهل العلم: إن في جنين الحرة المسلمة غُرّةً، وممن رُوي ذلك عنه: عمر بن الخطاب، وعطاء، والشعبيّ، والنخعيّ، والزهريّ، ومالك، والثوريّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وقد ثبت أنّ عمر رضي الله عنه، استشار الناس في إملاص المرأة، فقال المغيرة بن شعبة:"شهدت النبيّ صلى الله عليه وسلم، قضى فيه بغرّة عبد، أو أمة، قال: لتأتينّ بمن يشهد معك، فشهد له محمد بن مسلمة". متّفقٌ عليه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى. . . وفيه:"فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن دية جنينها عبد أو أمة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورَّثها ولدها، ومن معهم"، متفق عليه. والغرّة: عبد، أو أمة، سُمّيا بذلك لأنهما من أنفس الأموال، والأصل في الغرة الخيار.

[فإن قيل]: فقد رُوي في هذا الخبر: "أو فرس، أو بغل"؟.

[قلنا]: هذا لا يثبت، رواه عيسى بن يونس، ووَهِمَ فيه، قاله أهل النقل، والحديث الصحيح المتفق عليه إنما فيه عبد أو أمة.

قال: وإنما تجب الغرّة، إذا سقط من الضربة، ويُعلم ذلك بأن يسقط عقيب الضرب، أو ببقائها متألمة إلى أن يسقط، ولو قَتَل حاملًا لم يسقط جنينها، أو ضَرَب مَن في جوفها حركة، أو انتفاخ، فسَكَّنَ الحركةَ، وأذهبها لم يضمن الجنين، وبهذا قال مالك، وقتادة، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر.

(1)

في "الفتح" 16/ 109 - 110.

ص: 320

وحُكي عن الزهريّ أن عليه الغرةَ؛ لأن الظاهر أنه قتل الجنين، فلزمته الغرة، كما لو أسقطت.

وحجة الأولين أنه لا يثبت حكم الولد، إلا بخروجه، ولذلك لا تصح له وصية، ولا ميراث، ولأن الحركة يجوز أن تكون لريح في البطن سكنت، ولا يجب الضمان بالشك، فأما إذا ألقته ميتًا، فقد تحقق، والظاهر تَلَفُه من الضربة، فيجب ضمانه، سواء ألقته في حياتها، أو بعد موتها، وبهذا قال الشافعيّ، وأحمد؛ لأنه جنين تَلِف بجنايته، وعُلم ذلك بخروجه، فوجب ضمانه، كما لو سقط في حياتها، ولأنه لو سقط حيًّا ضَمِنه، فكذلك إذا سقط ميتًا، كما لو أسقطته في حياتها.

وقال مالك، وأبو حنيفة: إن ألقته بعد موتها لم يضمنه؛ لأنه يجري مجرى أعضائها، وبموتها سقط حكم أعضائها.

وتُعُقّب بأن هذا ليس بصحيح؛ لأنه لو كان كذلك، لكان إذا سقط ميتًا ثم ماتت، لم يضمنه كأعضائها، ولأنه آدمي موروث فلا يدخل في ضمان أمه، كما لو خرج حيًا.

فأما إن ظهر بعضه من بطن أمه، ولم يخرج باقيه ففيه الغرّة، وبه قال الشافعيّ، وأحمد؛ لأنه قاتِل لجنينها، فلزمته الغرة، كما لو ظهر جميعه، ويفارِق ما لو لم يظهر منه شيء؛ لأنه لم يتيقن قتله، ولا وجوده.

وقال مالك، وابن المنذر: لا تجب الغرة حتى تلقيه؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما أوجب الغرة في الجنين الذي ألقته المرأة، وهذه لم تُلق شيئًا، فأشبه ما لو لم يظهر منه شيء. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله بتصرّف، واختصار

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في المراد بالغرّة:

قال ابن قُدامة رحمه الله ما ملخّصه: المراد بالغرّة في قول أكثر أهل العلم: هو عبد، أو أمة. وقال عروة، وطاوس، ومجاهد: عبد، أو أمة، أو فرس؛ لأن الغرة اسم لذلك، وقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: "قضى

(1)

"المغني" بتصرّف، واختصار 12/ 60 - 63.

ص: 321

رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة: عبد، أو أمة، أو فرس، أو بغل"، وجعل ابن سيرين مكان الفرس مائة شاة، ونحوه، قال الشعبيّ: لأنه رُوي في حديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه جعل في ولدها مائة شاة، رواه أبو داود.

ورُوي عن عبد الملك بن مروان، أنه قضى في الجنين، إذا أُمْلِص بعشرين دينارًا، فإذا كان مضغة فأربعين، فإذا كان عظمًا فستين، فإذا كان العظم قد كُسي لحمًا فثمانين، فإن تمَّ خَلْقه، وكُسي شعره فمائة دينار، وقال قتادة: إذا كان عَلَقَة فثُلُث غرّة، وإذا كان مضغة فثلثي غرة.

وحجة الأولين قضاءُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، في إملاص المرأة بعبد، أو أمة، وسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضية على ما خالفها، وذِكْر الفرس والبغل في الحديث وَهَمٌ، انفرد به عيسى بن يونس عن سائر الرواة، فالظاهر أنه وَهِمَ فيه، وهو متروك في البغل بغير خلاف، وكذلك في الفرس.

قال ابن قُدامة رحمه الله: وهذا الحديث الذي ذكرناه أصح ما رُوي فيه، وهو متفق عليه، وقد قال به أكثر أهل العلم، فلا يُلتفت إلى ما خالفه، وقول عبد الملك بن مروان تَحَكُّم بتقدير لم يَرِد به الشرع، وكذلك قتادة، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحقّ بالاتباع من قولهما. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله باختصار، وتصرّف

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي ذكره ابن قُدامة رحمه الله، من ترجيح قول الجمهور في المراد بالغرّة، وأن تقدير الشارع هو الأحقّ بالاتباع، هو الصواب؛ لوضوح أدلّته، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): إذا ثبت ما تقدّم فإنه تلزمه الغرّة، فإن أراد دفع بدلها، ورضي المدفوع إليه جاز؛ لأنه حقّ آدمي، فجاز ما تراضيا عليه، وأيهما امتنع من قبول البدل، فله ذلك؛ لأن الحقّ فيها، فلا يُقبَل بدلها إلا برضاهما، وتجب الغرة سالمة من العيوب، وإن قلَّ العيب؛ لأنه حيوان وجب بالشرع فلم يُقبل فيه المعيب، كالشاة في الزكاة؛ لأن الغرة الخيار؛ والمعيب ليس من

(1)

"المغني" 12/ 64 - 65.

ص: 322

الخيار، ولا يقبل فيها هَرِمة، ولا ضعيفة، ولا خُنثى، ولا خصي، وإن كثرت قيمته؛ لأن ذلك عيب، ولا يتقدر سنُّها عند أحمد، وأبي حنيفة، وقال بعضهم: لا يقبل فيها من له دون سبع سنين، وهو مرويّ عن أصحاب الشافعيّ، وبعض الحنابلة؛ لأنه يحتاج إلى من يكفله له، ويحضنه، وليس من الخيار، وذكر بعض أصحاب الشافعي، أنه لا يقبل فيها غلام بلغ خمسة عشر سنة؛ لأنه لا يدخل على النساء، ولا ابنة عشرين؛ لأنها تتغير، قال ابن قُدامة: وهذا تَحَكُّم لم يَرِد الشرع به، فيجب أن لا يُقبَل، وما ذكروه من الحاجة إلى الكفالة باطل بمن له فوق السبع، ولأن بلوغه قيمة الكبير مع صغره، يدل على أنه خيار، ولم يشهد لِما ذكروه نَصٌّ، ولا له نظير يقاس عليه، والشاب البالغ أكمل من الصبي عقلًا وبِنْيَةً، وأقدر على التصرف، وأنفع في الخدمة، وقضاء الحاجة، وكونُه لا يدخل على النساء، إن أريد به النساء الأجنبيات، فلا حاجة إلى دخوله عليهن، وإن أريد به سيدته فليس بصحيح؛ فإن الله تعالى قال:{لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} إلى قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} الآية [النور: 58]، ثم لو لم يدخل على النساء لحصل من نفعه أضعاف ما يحصل من دخوله، وفوات شيء إلى ما هو أنفع منه لا يعدّ فواتًا، كمن اشترى بدرهم ما يساوي عشرة، لا يعد فواتًا، ولا خسرانًا.

ولا يُعتبَر لون الغرة؛ ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قضى بعبد، أو أمة وأطلق، مع غلبة السواد على عبيدهم وإمائهم، ولأنه حيوان يجب ديةً فلم يُعتبر لونه، كالإبل في الدية.

وذُكر عن أبي عمرو بن العلاء: أن الغرة لا تكون إلا بيضاء، ولا يقبل عبد أسود، ولا جارية سوداء. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله بتصرّف، واختصار

(1)

، وهو بحث نفيس جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): قال ابن قُدامة رحمه الله ما حاصله: قيمة الغرة نصف

(1)

"المغني" / 64 - 66.

ص: 323

عُشر الدية، وهي خمس من الإبل، وروي ذلك عن عمر، وزيد رضي الله عنهما، وبه قال النخعيّ، والشعبيّ، وربيعة، وقتادة، ومالك، والشافعيّ، وإسحاق، وأصحاب الرأي، ولأن ذلك أقل ما قدّره الشرع في الجنايات، وهو أَرْشُ المُوضِحَة، ودية السن فرددناه إليه.

[فإن قيل]: فقد وجب في الأنملة ثلاثة أبعرة وثلث، وذلك دون ما ذكرتموه.

[قلنا]: الذي نص عليه صاحب الشريعة غرةً، قيمتها أرش الموضحة، وهو خمس من الإبل. انتهى

(1)

، وهو بحث مفيد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة): في اختلاف أهل العلم في حكم الغرّة، هل يورَّث، أم لا؟:

ذهبت طائفة إلى أن الغرّة موروثة عن الجنين، كأنه سقط حيًّا؛ لأنها دية له، وبدل عنه، فيرثها ورثته كما لو قُتل بعد الولادة، وبهذا قال مالك، والشافعيّ، وأصحاب الرأي.

وذهب الليث إلى أنه لا يورَّث، بل يكون بدلُهُ لأمه؛ لأنه كعضو من أعضائها، فأشبه يدها.

وحجة الأولين أنها دية آدميّ حرّ، فوجب أن تكون موروثة عنه، كما لو ولدته حيًّا، ثم مات، وقوله: إنه عضو من أعضائها لا يصح؛ لأنه لو كان عضوًا لدخل بدلُهُ في دية أمه كَيَدِها، ولَمَا مُنِع القصاص من أمه، وإقامة الحد عليها من أجله، ولَمَا وجبت الكفارة بقتله، ولَمَا صَحّ عتقه دونها، ولا عتقها دونه، ولا تَصَوُّرُ حياتِهِ بعد موتها، ولأن كل نفس تُضْمَن بالدية، تورث كَدِية الحيّ. انتهى بتصرّف، واختصار

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة التاسعة): فيما قاله أهل العلم فيما إذا كان الجنين أكثر من واحد:

(1)

"المغني" 12/ 66 باختصار.

(2)

"المغني" 12/ 67.

ص: 324

قال ابن قُدامة رحمه الله: إذا ضَرَب بطن امرأة، فألقت أجنة، ففي كل واحدة غرّة، وبهذا قال الزهريّ، ومالك، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر، قال: ولا أحفظ عن غيرهم خلافهم، وذلك لأنه ضمان آدميّ، فتعدد بتعدده كالديات، وإن ألقتهم أحياء، في وقت يعيشون في مثله، ثم ماتوا ففي كل واحدة دية كاملة، وإن كان بعضهم حيًّا فمات، وبعضهم ميتًا ففي الحي دية، وفي الميت غرة. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله، وهو بحث نفيس، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة العاشرة): في اختلاف أهل العلم، هل تتحمل العاقلة دية الجنين، أم لا؟:

قال ابن قُدامة رحمه الله أيضًا: وتَحْمِل العاقلة دية الجنين، إذا مات مع أمه، نَصَّ عليه أحمد، إذا كانت الجناية عليها خطأ، أو شِبْه عمد؛ لِمَا رَوَى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قضى في الجنين بغرة عبد، أو أمة، على عصبة القاتلة"، وإن كان قتل الأم عمدًا، أو مات الجنين وحده لم تحمله العاقلة.

وقال الشافعيّ: تحمله العاقلة على كل حال، بناء على قوله: إن العاقلة تحمل القليل والكثير، والجناية على الجنين ليست بعمد؛ لأنه لا يتحقق وجوده، ليكون مقصودًا بالضرب.

قال: ولنا أن العاقلة لا تحمل ما دون الثلث، على ما ذكرناه، وهذا دون الثلث، وإذا مات وحده، أو من جناية عمد فدية أمه على قاتلها، فكذلك ديته؛ لأن الجناية لا يَحمل بعض ديتها الجاني، وبعضها غيره، فيكون الجميع على القاتل، كما لو قطع عمدًا، فَسَرَت الجناية إلى النفس. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه الشافعيّ أرجح؛ لظهور حجته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[4383]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ (ح) وَحَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: اقْتَتَلَتِ

ص: 325

امْرَأَتَانِ، مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِحَجَرٍ، فَقَتَلَتْهَا، وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ: عَبْدٌ، أَوْ وَلِيدَةٌ، وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا، وَوَرَّثَهَا وَلَدَهَا، وَمَنْ مَعَهُمْ، فَقَالَ حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ الْهُذَلِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ أَغْرَمُ مَنْ لَا شَرِبَ، وَلَا أَكَلَ، وَلَا نَطَقَ، وَلَا اسْتَهَلَّ، فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ"، مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ الَّذِي سَجَعَ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن السرح المصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ) المصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله المصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا في الإسنادين الماضيين.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (قَالَ: اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ، مِنْ هُذَيْلٍ) بضمّ الهاء: أبو قبيلة، وهو هُذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر، (فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِحَجَرٍ) وفي حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه الآتي:"قتلت ضرّتها بعمود فُسطاط"، (فَقَتَلَتْهَا، وَمَا فِي بَطْنِهَا)؛ أي: جنينها، وفي رواية للبخاريّ:"فأصاب بطنها، وهي حامل"، في رواية:"فخذفت، فأصاب قبلها"، ووقع في رواية حمل بن مالك:"فضربت إحداهما الأخرى بمسطح"، وفي رواية عُبيد بن نُضيلة، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه الآتي:"أن امرأة قتلت ضرتها بعمود فُسطاط"، وكذا في حديث أبي المليح بن أسامة، عن أبيه:"فضربت الْهُذلية بطن العامرية بعمود فسطاط، أو خباء"، وفي حديث عُوَيم:"ضربتها بمسطح بيتها، وهي حامل". أفاده في "الفتح"

(1)

.

(1)

"الفتح" 16/ 106 - 107.

ص: 326

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "ضربتها بعمود فُسطاط"، هذا محمول على حجر صغير، وعمود صغير، لا يُقصَد به القتل غالبًا، فيكون شِبه عمد تجب فيه الدية على العاقلة، ولا يجب فيه قصاص، ولا دية على الجاني، وهذا مذهب الشافعيّ، والجماهير. انتهى.

(فَاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ: عَبْدٌ، أَوْ وَلِيدَةٌ) بفتح الواو، وكسر اللام: هي الأمة، وجَمْعها ولائد، (وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ)؛ أي: المقتولة (عَلَى عَاقِلَتِهَا)؛ أي: عاقلة القاتلة.

وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وقضى بدية المرأة على عاقلتها" فيه تلفيفٌ في الضمائر، أزالته الرواية الأخرى التي قال فيها:"فجعل دية المقتولة على عصبة القاتلة".

وقد احتجّ بظاهر الحديث من رأى أنه لا يُستقاد ممن قَتَل بمثقّل، وإنما عليه الدية، وهم الحنفيّة، ولا حجة لهم في ذلك؛ لِمَا تقدّم من أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أقاد ممن قتل بحجر، كما تقدّم في حديث اليهوديّ، ولقوله تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، والمماثلة بالمثقّل ممكنة، ولإمكان كون هذا القتل خطأ، أو شبه العمد، فاندفع القصاص بذلك، ولو سُلّم أنه كان عمدًا لكان ذلك برضا العصبة، وأولياء الدم، لا بالحكم، وكلّ ذلك مُحْتَمِلٌ، فلا حجة لهم فيه.

وفيه ما يدلّ على أن العاقلة تحمل الدية، وقد أجمع المسلمون على أنها تحمل دية الخطإ، وما زاد على الثلث، واختلفوا في الثلث، فقال الزهريّ: الثلث، فدونه هو في مال الجاني، ولا تحمله العاقلة. وقال سعيد بن المسيب: الثلث فما زاد على العاقلة، وما دون الثلث في مال الجاني، وبه قال مالك، وعطاء، وعبد العزيز بن أبي سلمة، وأما ما دون الثلث فلا تحمله العاقلة عند من ذُكر، ولا عند أحمد. وقالت طائفة: عقل الخطإ على عاقلة الجاني، قلّت الجناية، أو كثرت، وهو قول الشافعيّ.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الإمام الشافعيّ رحمه الله، مِنْ تحمّل العاقلة عقل الخطإ مطلقًا هو الأرجح عندي؛ لإطلاق النصوص الواردة في ذلك، والله تعالى أعلم.

ص: 327

قال القرطبيّ رحمه الله تعالى:

[فإن قيل]: كيف ألزم العاقلة الدية، والقتل عمدٌ، والعاقلة لا تعقل عمدًا، ولا صلحًا، ولا اعترافًا؟.

[فالجواب]: أن هذا الحديث خرّجه النسائيّ من حديث حمل بن مالك رضي الله عنه، وقال فيه:"قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنينها بغرّة، وأن تُقتل بها"، وهو طريقٌ صحيح، وهذا نصّ في أنه قضى بالقصاص من القاتلة، بخلاف الأحاديث المتقدّمة، فإن فيها: أنه قضى على العاقلة بالدية.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في تصحيحه الحديث على الإطلاق، نظر، فإن هذه الزيادة - وهي قوله:"وأن تُقتل المرأة" - غير صحيحة، كما بيّنته في "شرح النسائيّ"، فراجعه تستفد.

قال: ووجه التلفيق، وبه يحصل الجواب على التحقيق: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بقتل القاتلة أوّلًا، ثم إن العصبة، والأولياء اصطلحوا، على أن التزم العصبة الدية، ويعفو الأولياء، فقضى النبيّ صلى الله عليه وسلم بالدية على العصبة، لَمّا التزموها، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله القرطبيّ رحمه الله من كون قتل هذه المرأة عمدًا، وأن القصاص كان واجبًا، إلا أنهم اصطلحوا على الدية، وهو مقتضى ما مشى عليه النسائيّ في "باب قتل المرأة بالمرأة"(11/ 4741)، حيث استدلّ بالحديث على مشروعيّة قتل المرأة إذا قتلت امرأة عمدًا، لكنه خالف ذلك في الباب التالي حيث استدلّ بالحديث على أن هذا من شبه العمد، وليس عمدًا، وأن الواجب فيه الدية على العاقلة، وهذا هو الحقّ؛ لأن زيادة:"وأن تُقتل المرأة" غير صحيحة، وأحاديث أبي هريرة، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما، على خلافها، كما حقّقته في "شرح النسائيّ"

(2)

، والله تعالى أعلم.

وقوله: (وَوَرَّثَهَا وَلَدَهَا، وَمَنْ مَعَهُمْ) وفي رواية: "وورّثها عصبتها، ومن معهم": قال القرطبيّ: أعاد الضمير الأول على الدية، والثاني على المقتولة،

(1)

"المفهم" 5/ 65 - 67.

(2)

راجع: "ذخيرة العقبى" 36/ 231 - 241.

ص: 328

وعَنَى بالعصبة: بنيها، وبمن معهم الزوج، ولم يُختلف في أن الزوج يرث هنا من دية زوجته فرضه، وإن كانوا قد اختلفوا فيه، هل يرث من دية الجنين؟.

والدية موروثة على الفرائض، سواء كانت عن خطإ، أو عن عمد تعذّر فيه القوَد، والذي يبيّن الحقّ في هذا الباب حديثان خرّجهما الترمذيّ:

[أحدهما](2110): عن سعيد بن المسيّب، قال: قال عمر رضي الله عنه: الدية على العاقلة، ولا ترث المرأة من زوجها شيئًا، فأخبره الضحّاك بن سفيان الكلابيّ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه: أن ورِّث امرأة أَشيم الضِّبابيّ من دية زوجها، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

[وثانيهما](2111): عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في جنين امرأة من بني لحيان، سقط ميتًا، بغرّة: عبد، أو أمة، ثم إن المرأة التي قضى عليها بغرّة توفّيت، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن عَقْلها على عصبتها".

ثم حيث وجبت الدية على العاقلة، فلا تؤخذ منهم حالّةً، بل منجّمةً في ثلاث سنين، وهو قول عامّة أهل العلم من السلف والخلف، وتُوزَّعُ على الأحرار البالغين الأغنياء الذكور، فلا تؤخذ من عبد، ولا من صبيّ، ولا من امرأة، ولا من فقير بالإجماع، على ما حكاه ابن المنذر.

واختلفوا في قدر ما يُوزّع على من يُطالب بها، فقال الشافعيّ: من كثر ماله أُخذ منه نصف دينار، ومن كان دونه ربع دينار، لا يُنقص منه، ولا يُزاد عليه. وحكَى أبو ثور عن مالك أنه قال: على كل رجل ربع دينار، وبه قال أبو ثور. وقال أحمد: يُحَمَّلون بقدر ما يُطيقون. وقال أصحاب الرأي: ثلاثة دراهم، أو أربعة.

قال القرطبيّ: والقول ما قاله أحمد، فإن التحديد يحتاج إلى شرع جديد. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله القرطبيّ رحمه الله من ترجيح

(1)

"المفهم" 5/ 67 - 68.

ص: 329

مذهب الإمام أحمد رحمه الله في تحميل العاقلة بقدر الطاقة، هو الأرجح عندي؛ لإطلاق النصوص، والله تعالى أعلم.

وقوله: "وورّثها ولدها": بتشديد الراء: قال السنديّ: والظاهر أن الضمير للقاتلة، بناء على أنها ماتت بعد ذلك أيضًا. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله السنديّ غير بعيد من ظاهر السياق، لكن تقدّم في كلام النوويّ ما يدلّ على أن الصواب أن الضمير للمرأة المجنيّ عليها، لا للجانية، فتأمّل، والله تعالى أعلم.

(فَقَالَ حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ الْهُذَلِيُّ)"حَمَل" - بفتح الحاء المهملة، والميم - وهو: حَمَل بن مالك بن النابغة، نُسب لجدّه، وهو هذليّ من قبيلة القاتلة، ولحيانُ فَخْذٌ من هُذيل، ولذلك صدق أن يقال على القاتلة أنها هذليّة، لحيانيّة، ولحيان يقال: بفتح اللام، وكسرها. قاله القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (وَلَا اسْتَهَلَّ)؛ أي: ولا صاح عند الولادة؛ ليُعرَف به أنه مات بعد أن كان حيًّا

وقوله: (فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ): قال النوويّ رحمه الله: رُوي في "الصحيحين"، وغيرهما بوجهين:

[أحدهما]: يُطلّ - بضم الياء المثناة، وتشديد اللام -: ومعناه: يُهدَر، ويُلغَى، ولا يُضمَن.

[والثاني]: "بَطَلَ" - بفتح الباء الموحدة، وتخفيف اللام - على أنه فعلٌ ماضٍ، من البطلان، وهو بمعنى الْمُلغَى أيضًا، وأكثر نُسخ بلادنا بالمثناة، ونقل القاضي أن جمهور الرواة في "صحيح مسلم" ضبطوه بالموحّدة، قال أهل اللغة: يقال: طُلَّ دمُهُ - بضم الطاء، وأُطِلّ؛ أي: أُهدر، وأطلّه الحاكم، وطَلَّه: أهدره، وجوّز بعضهم: طَلَّ دَمُهُ - بفتح الطاء - في اللازم، وأباها الأكثرون.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ، مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ الَّذِي سَجَعَ)، وفي الرواية الأخرى:"سَجْعٌ كسجع الأعراب":

(1)

"المفهم" 5/ 65.

ص: 330

قال النوويّ: قال العلماء: إنما ذم سجعه لوجهين:

[أحدهما]: أنه عارَضَ به حكمَ الشرع، ورام إبطاله.

[والثاني]: أنه تكلفه في مخاطبته، وهذان الوجهان من السجع مذمومان، وأما السجع الذي كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقوله في بعض الأوقات، وهو مشهور في الحديث، فليس من هذا؛ لأنه لا يعارَض به حكم الشرع، ولا يتكلفه، فلا نهي فيه، بل هو حسن، ويؤيد ما ذكرنا من التأويل، قوله صلى الله عليه وسلم:"كسجع الأعراب"، فأشار إلى أن بعض السجع هو المذموم، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح" - عند قوله: "فقال حَمَل بن النابغة. . . إلخ" -: وفي رواية عبد الرحمن بن خالد: "فقال وليّ المرأة التي غُرِّمت: كيف أَغْرَمُ يا رسول الله، من لا شَرِب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل؟ فمثل ذلك يُطَلّ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: إنما هذا من إخوان الكهان"، وفي مرسل سعيد بن المسيب عند مالك:"قضى في الجنين يُقتَل في بطن أمه، بغرة: عبد، أو وليدة"، وفي رواية الليث، من طريق سعيد، الموصولة نحوه عند الترمذي، ولكن قال:"إن هذا ليقول بقول شاعر، بل فيه غرة"، وفيه:"ثم إن المرأة التي قضي عليها بالغرة توفيت، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العقل على عصبتها"، وفي رواية عكرمة، عن ابن عباس:"فقال عمها: إنها قد أسقطت غلامًا، قد نبت شعره، فقال أبو القاتلة: إنه كاذب، إنه والله ما استهلّ، ولا شرب ولا أكل، فمثله يُطَلّ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: أسجع كسجع الجاهلية، وكهانتها؟ "، وفي رواية عُبيد بن نُضَيلة، عن المغيرة رضي الله عنه:"فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عصبة القاتلة، وغرّةً لِمَا فيه بطنها، فقال رجل من عصبة القاتلة: أنغرم من لا أكل"، وفي آخره:"أسجعٌ كسجع الأعراب؟ وجعل عليهم الدية"، وفي حديث عُويم، عند الطبراني:"فقال أخوها، العلاء بن مسروح: يا رسول الله، أنغرم من لا شرب، ولا أكل، ولا نطق ولا استهلّ؟ فمثل هذا يطلّ، فقال: أسجع كسجع الجاهلية؟ "، ونحوه عند أبي يعلى، من حديث جابر، لكن قال:"فقالت عاقلة القاتلة"، وعند البيهقي، من حديث أسامة بن

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 178.

ص: 331

عمير: "فقال أبوها: إنما يعقلها بنوها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الدية على العصبة، وفي الجنين غرة، فقال: ما وُضع فحل، ولا صاح فاستهلّ، فأبطله فمثله يطل".

قال الحافظ: وبهذا يُجمَع الاختلاف، فيكون كلٌّ من أبيها وأخيها وزوجها قالوا ذلك؛ لأنهم كلهم من عصبتها، بخلاف المقتولة، فإن في حديث أسامة بن عمير أن المقتولة عامرية، والقاتلة هذلية، ووقع في رواية أسامة، فقال:"دعني من أراجيز الأعراب"، وفي لفظ:"أسجاعة بك؟ "، وفي آخر:"أسجع كسجع الجاهلية؟، قيل: يا رسول الله، إنه شاعر"، وفي لفظ:"لسنا من أساجيع الجاهلية في شيء"، وفيه:"فقال: إن لها ولدًا هم سادة الحي، وهم أحق أن يعقلوا عن أمهم، قال: بل أنت أحق أن تعقل عن أختك من ولدها، فقال: ما لي شيء، قال: يا حمل - وهو يومئذ على صدقات هذيل، وهو زوج المرأة، وأبو الجنين - اقبض من صدقات هذيل"، أخرجه البيهقي، وفي رواية ابن أبي عاصم:"ما له عبد، أو أمة، قال: عَشر من الإبل، قالوا: ما له من شيء، إلا أن تعينه من صدقة بني لحيان، فأعانه بها، فسعى حمل عليها حتى استوفاها"، وفي حديثه عند الحارث بن أبي أسامة:"فقضى أن الدية على عاقلة القاتلة، وفي الجنين غرة: عبد، أو أمة، أو عَشر من الإبل، أو مائة شاة".

ووقع في حديث أبي هريرة من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عنه:"قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرّة: عبد، أو أمة، أو فرس، أو بغل"، وكذا وقع عند عبد الرزاق في رواية ابن طاوس، عن أبيه، عن عمر مرسلًا، فقال حمل بن النابغة:"قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية في المرأة، وفي الجنين غرة عبد، أو أمة، أو فرس".

وأشار البيهقيّ إلى أن ذِكر الفرس في المرفوع وَهَمٌ، وأن ذلك أُدرج من بعض رواته على سبيل التفسير للغرّة، وذكر أنه في رواية حماد بن زيد عن عمرو بن دينار، عن طاوس، بلفظ:"فقضى أن في الجنين غرة"، قال طاوس: الفرس غرة.

قال الحافظ: وكذا أخرج الإسماعيليّ من طريق حماد بن زيد، عن

ص: 332

هشام بن عروة، عن أبيه، قال: الفرس غرة، وكأنهما رأيا أن الفرس أحقّ بإطلاق لفظ الغرة من الآدميّ.

ونقل ابن المنذر، والخطابيّ عن طاوس، ومجاهد، وعروة بن الزبير: الغرة عبد، أو أمة، أو فرس، وتوسّع داود، ومن تبعه من أهل الظاهر، فقالوا: يجزئ كل ما وقع عليه اسم غرة، والغرة في الأصل البياض، يكون في جبهة الفرس، وقد استعمل للآدميّ في الحديث المتقدم في الوضوء:"إن أمتي يُدْعَون يوم القيامة غُرًّا. . ."، وتُطلق الغرة على الشيء النفيس آدميًّا كان، أو غيره، ذكرًا كان، أو أنثى، وقيل: أُطلق على الآدمي غرةٌ؛ لأنه أشرف الحيوان، فإن محل الغرة الوجه، والوجه أشرف الأعضاء. انتهى

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4384]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِقِصَّتِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ: وَوَرَّثَهَا وَلَدَهَا، وَمَنْ مَعَهُمْ، وَقَالَ: فَقَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ نَعْقِلُ؟

(2)

، وَلَمْ يُسَمِّ حَمَلَ بْنَ مَالِكٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسّيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ) فاعله ضمير معمر، وكذا فاعل "لم يَذكُر".

(1)

"الفتح" 16/ 107 - 109، كتاب "الديات" رقم (6904).

(2)

وفي نسخة: "كيف يُعْقَل؟ ".

ص: 333

وقوله: (كَيْفَ نَعْقِلُ) وفي بعض النسخ: "كيف يُعقَل"، بالياء، وعليه فالفعل مبنيّ للمفعول، فتنبّه.

[تنبيه]: رواية معمر، عن الزهريّ هذه ساقها البيهقيّ في "الكبرى"، فقال:

(15909)

- أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يحيى بن عبد الجبار السكري ببغداد، أنبأ إسماعيل بن محمد الصفار، ثنا أحمد بن منصور، ثنا عبد الرزاق، أنبأ معمر، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: اقتتلت امرأتان من هُذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فأصابت بطنها، فقتلتها، وألقت جنينًا، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بديتها على عاقلة الأخرى، وفي الجنين غُرّة، عبد، أو أمة، قال: فقال قائل: كيف نعقل من لا يأكل، ولا يشرب، ولا نطق، ولا استهلّ؟ فمثل ذلك يُطَلّ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم كما زعم أبو هريرة -:"هذا من إخوان الكهان". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4385]

(1682) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ نُضَيْلَةَ الْخُزَاعِيِّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: ضَرَبَتِ امْرَأَةٌ ضَرَّتَهَا بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ، وَهِيَ حُبْلَى، فَقَتَلَتْهَا، قَالَ: وَإِحْدَاهُمَا لِحْيَانِيَّةٌ، قَالَ: فَجَعَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم دِيَةَ الْمَقْتُولَةِ عَلَى عَصَبَةِ الْقَاتِلَةِ، وَغُرَّةً لِمَا فِي بَطْنِهَا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ عَصَبَةِ الْقَاتِلَةِ: أَنَغْرَمُ دِيَةَ مَنْ لَا أَكَلَ، وَلَا شَرِبَ، وَلَا اسْتَهَلَّ؟ فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ

(2)

، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الأَعْرَابِ؟ "، قَالَ: وَجَعَلَ عَلَيْهِمُ الدِّيَةَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ) ابن راهويه، تقدّم قبل بابين.

2 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبّيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

(1)

"سنن البيهقيّ الكبرى" 8/ 70.

(2)

وفي نسخة: "فمثل ذلك بطل" بالباء الموحّدة.

ص: 334

3 -

(مَنْصُورُ) بن المعتمر بن عبد الله السَّلميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، لا يدلّس [6](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 296.

4 -

(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد النخعيّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.

5 -

(عُبَيْدُ بْنُ نُضَيْلَةَ الْخُزَاعِيُّ) أبو معاوية الكوفيّ المقرئ، ثقةٌ، ووَهِمَ من ذَكَر أن له صحبةً [2].

رَوَى عن ابن مسعود، والمغيرة بن شعبة، وسليمان بن صُرَد، وقرأ القرآن على علقمة، وروى عنه، وعن مسروق، وعَبِيدة السلمانيّ.

وروى عنه إبراهيم النخعيّ، وأشعث بن سُليم، والحسن الْعُرَنيّ، وحمران بن أعين، وقرأ عليه.

قال العجليّ: كوفيّ تابعيّ ثقة، كان مقرئ أهل الكوفة في زمانه، وقال النسائيّ: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات في ولاية بِشْر بن مروان على العراق سنة أربع وسبعين، وذكره أبو أحمد العسكريّ في "الصحابة"، ثم قال: وليس يصح سماعه، وأكبر ظني أنه مرسل، وقال أبو نعيم الحافظ في "المعرفة": مختلَف في صحبته، وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل الكوفة، وقال: روى عن عليّ في الفريضة، وقيل: إنه قرأ على عبد الله، ثم قرأ على علقمة، وذكره ابن حزم في كتاب طبقات القراء في الطبقة الأولى من أهل الكوفة، مع أبي عمرو الشيبانيّ، وأبي عبد الرحمن السُّلَميّ، وتميم بن حَذْلَم، وأبي ميسرة عمرو بن شُرَحبيل، والحارث بن قيس، وهُزيل بن شُرَحبيل، وقال: كل هؤلاء أخذ القراءة عن ابن مسعود، وأدركوا كلهم النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا أنهم لم يَلْقَوه، وقال عاصم بن بَهْدلة: كان والله قارئًا للقرآن، وقال ابن حبان في "الثقات": عُبيد بن نُضيلة، وقال خليفة: مات في ولاية بشر بن مروان سنة (3) أو (74)، وقال ابن سعد: كان قليل الحديث.

أخرج له المصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب

(1)

إلا هذا الحديث، وأعاده بعده.

[تنبيه]: "نُضيلة" والد عُبيد بالتصغير، كما وقع في جميع نسخ "صحيح

(1)

وفي "تهذيب التهذيب": له في الكتب - أي: عند مسلم، والأربعة - حديثان.

ص: 335

مسلم"، ولم يذكر الشرّاح خلافًا في ذلك، وهو الذي في "تبصير المنتبه" للحافظ، وكذا هو في "التهذيبين"، ووقع في "التقريب" ضَبْطه بفتح النون، وسكون الضاد المعجمة، وهو مخالف لما وقع في كتب الحديث، والرجال، لكن ذكر ابن حبّان في "الثقات" أنه يقال فيه بالتصغير، والتكبير، ونصّه: "عُبيد بن نضلة الخزاعيّ الأزديّ، من أهل الكوفة، كنيته أبو معاوية، وقد قيل: عُبيد بن نُضَيلة". انتهى

(1)

، فعلى هذا ففيه اختلاف، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.

6 -

(الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ) بن مسعود بن مُعَتِّب الثقفيّ الصحابيّ الشهير، أسلم قبل الحديبية، وولي إمرة البصرة، ثم الكوفة، مات سنة خمسين على الصحيح (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه مسلسل بالكوفيين، سوى شيخه، فمروزيّ، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض، على قول من يقول: إن منصورًا تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ عُبَيْدِ بْنِ نُضَيْلَةَ) بالتصغير فيهما، كما هو الغالب في الكتب، وذكر ابن حبّان أنه يقال فيه نَضْلة أيضًا، بالتكبير (الْخُزَاعِيِّ) نسبة إلى خزاعة قبيلة مشهورة، (عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: ضَرَبَتِ امْرَأَةٌ ضَرَّتَهَا) - بفتح الضاد المعجمة، وتشديد الراء -: قال أهل اللغة: كل واحدة من زوجَتَي الرجل ضَرَّةٌ للأخرى، سمِّيت بذلك لحصول الْمُضَارَّة بينهما في العادة، وتَضَرُّر كل واحدة بالأخرى. قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: ضرّة المرأة: امرأة زوجها، والجمع ضَرّات على القياس، وسُمع ضَرَائر، وكأنها جمع ضَرِيرة، مثلُ كَرِيمة وكرائم، ولا يكاد يوجد لها نَظير، ورجلٌ مُضِرّ: ذو ضَرَائر، وامرأة مُضِرّ أيضًا: لها ضرائر، وهو اسم فاعل من أضرّ: إذا تزوّج على ضَرّ. انتهى

(3)

.

(1)

راجع: "الثقات" لابن حبّان 5/ 138.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 178.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 360.

ص: 336

(بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ)"العَمُود" - بفتح العين -: الخشبة القائمة في وسط الخِباء، والجمع أَعمِدةٌ، وعُمُدٌ - بضمتين - والعَمَد - بفتحتين - اسم للجمع. أفاده في "اللسان"

(1)

. و"الفُسطاط "- بضمّ الفاء، وكسرها -: بيتٌ من الشَّعْر، والجمع فَسَاطيط، قاله في "المصباح"

(2)

.

وفي رواية أخرى: "بحَجَر"، ولا تعارض بينهما؛ إذ يَحتمل أن تكون جَمَعت ذلك عليها، فأخبر أحد الراويين بإحدى الآلتين، والثاني بالأخرى، قاله القرطبيّ رحمه الله

(3)

.

(وَهِيَ حُبْلَى، فَقَتَلَتْهَا) وفي رواية: "فقتلتها، وما في بطنها". قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهر العطف بالفاء أن القتل وقع عقب الضرب، وليس كذلك؛ لِمَا في رواية سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في جنين امرأة، من بني لحيان، سقط ميتًا، بغرّة: عبد، أو وليدة، ثم إن المرأة تُوفّيت"، متّفقٌ عليه، قال: وهذا نصّ في تأخّر موتها عن وقت الضرب. انتهى

(4)

.

(قَالَ) المغيرة رضي الله عنه: (وَإِحْدَاهُمَا لِحْيَانِيَّةٌ) بكسر اللام على المشهور، وحُكي فتحها: نسبة إلى لِحيان بطن من هُذيل، وهو: لحيان بن هُذيل بن مُدركة بن مُضَر

(5)

.

(قَالَ) المغيرة رضي الله عنه: (فَجَعَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم دِيَةَ الْمَقْتُولَةِ عَلَى عَصَبَةِ الْقَاتِلَةِ) قال النوويّ رحمه الله: هذا دليلٌ لِمَا قاله الفقهاء: إن دية الخطأ على العاقلة إنما تختصّ بعصبات القاتل، سوى أبنائه، وآبائه. انتهى

(6)

. (وَغُرَّةً لِمَا فِي بَطْنِهَا) قال القرطبيّ رحمه الله: وهذا نصّ في أن الغرّة تقوم بها العاقلة، وبه قال الكوفيّون، والشافعيّ، وهو أحد قَوْلي مالك. وقيل: على الجاني، وهو المشهور من قول مالك، وقاله أهل البصرة. واختلفوا، هل تلزمه الكفّارة مع

(1)

"لسان العرب" 3/ 303.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 472 - 473.

(3)

"المفهم" 5/ 59 - 60

(4)

"المفهم" 5/ 60.

(5)

راجع: "اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 129، و"شرح النوويّ" 11/ 178.

(6)

"شرح النوويّ" 11/ 178 - 179.

ص: 337

الغرّة، أم لا؟، قولان: الأول لمالك. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ عَصَبَةِ الْقَاتِلَةِ) هو حَمَل بن مالك بن النابغة الْهُذليّ، كما تقدّم. (أَنَغْرَمُ) بفتح الراء، يقال: غَرِمت الديةَ، والدَّينَ، وغير ذلك أَغْرَمُ، من باب تَعِبَ: أدّيته، غُرْمًا، ومَغْرَمًا، وغَرَامةً، ويتعدّى بالتضعيف، فيقال: غرّمته، وأغرمته بالألف: جعلته غارمًا

(2)

. (دِيَةَ مَنْ لَا أَكَلَ) يقال: وَدَى القاتلُ القتيلَ يَدِيهِ دِيَةً: إذا أعطى وَليَّه المالَ الذي هو بدل النفس، وفاؤها محذوفة، والهاء عِوَض، والأصل: وِدْيَةٌ، مثل وِعْدَةٌ، وفي الأمر تقول: دِ القتيلَ بدال مكسورة لا غير، فإن وقفت قلت: دِهْ، ثم سُمِّي ذلك المال دِيَةً تسمية بالمصدر، والجمع: دِيَاتٌ، مثل هِبَة وهِبات، وعِدة وعِدات، واتَّدَى الوليّ، على افتَعَلَ: إذا أخذ الدية، ولم يثأر بقتيله، قاله الفيّوميّ

(3)

.

(وَلَا شَرِبَ) بكسر الراء (وَلَا اسْتَهَلَّ)؛ أي: صاح، والاستهلال هو: الصياح عند الولادة، (فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ) مبتدأ وخبر؛ أي: مِثل هذا الجنين الذي سقط ميتًا يُهدر دمه، ولا يستحقّ الضمان، ووقع في بعض النُّسخ:"بَطَل" بالباء الموحّدة، وهو بمعناه.

(فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الأَعْرَابِ؟) الهمزة للاستفهام الإنكاريّ، و"سجعٌ" بالرفع خبر لمقدّر؛ أي: أهذا سجعٌ مثلُ سجع الأعراب؟، والسجع - بفتح، فسكون: الكلام المقَفَّى، أو موالاة الكلام على رويّ، جَمْعه أَسجاعٌ؛ كالأُسجوعة بالضمّ، جمعه أَساجيع، وكمنع: نَطَق بكلام له فواصل، فهو سجّاعةٌ، وسجعت الحمامة: ردّدت صوتها، فهي ساجعةٌ، وسجوعٌ، قاله في "القاموس"

(4)

.

(قَالَ) المغيرة رضي الله عنه (وَجَعَلَ) صلى الله عليه وسلم (عَلَيْهِمُ الدِّيَةَ)؛ أي: جعل على عاقلة القاتلة أداء دية المقتولة.

والحديث متّفقٌ عليه، وستأتي مسائله في شرح الحديث الآتي بعد ثلاثة أحاديث - إن شاء الله تعالى - وهو تعالى وليّ التوفيق.

(1)

"المفهم" 5/ 63.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 446.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 654.

(4)

"القاموس المحيط" ص 595.

ص: 338

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4386]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا مُفَضَّلٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ نُضَيْلَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، أَنَّ امْرَأَةً قَتَلَتْ ضَرَّتَهَا بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ، فَأُتِيَ فِيهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَضَى عَلَى عَاقِلَتِهَا بِالدِّيَةِ، وَكَانَتْ حَامِلًا، فَقَضَى فِي الْجَنِينِ بِغُرَّةٍ، فَقَالَ بَعْضُ عَصَبَتِهَا: أَنَدِي مَنْ لَا طَعِمَ، وَلَا شَرِبَ، وَلَا صَاحَ، فَاسْتَهَلَّ؟ وَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ، قَالَ: فَقَالَ: "سَجْعٌ كَسَجْعِ الأَعْرَابِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم قريبًا.

2 -

(يَحْيَى بْنُ آدَمَ) بن سليمان الأمويّ مولاهم، أبو زكريّاء الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ، من كبار [9](ت 203)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

3 -

(مُفَضَّلُ) بن الْمُهَلْهَل السعديّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ نَبِيلٌ عابد [7](ت 167)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (فَأُتِيَ فِيهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم) ببناء الفعل للمفعول.

وقوله: (فَقَالَ بَعْضُ عَصَبَتِهَا) تقدّم أنه حَمَل بن مالك رضي الله عنه.

وقوله: (أَنَدِي) الهمزة للاستفهام، و"نَدِي" بفتح، فكسر: مضارع وَدَى القاتلُ القتيلَ، وتقدّم تصريفه في الحديث الماضي.

وقوله: (مَنْ لَا طَعِمَ، وَلَا شَرِبَ) كلاهما من باب تَعِبَ.

وقوله: (وَلَا صَاحَ)؛ أي: رفع صوته عند الولادة.

وقوله: (فَاستَهَلَّ)؛ أي: فيقال: إنه استهلّ، ولا بدّ من تقدير مثل هذا، والاستهلال: هو الصياح عند الولادة، فلا يصحّ أن يُعطف على "صاح" بالفاء، أفاده السنديّ رحمه الله في "حاشيته على النسائيّ".

والحديث متّفقٌ عليه، ويأتي تخريجه بعد حديث - إن شاء الله تعالى -.

ص: 339

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4387]

(. . .) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، مِثْلَ مَعْنَى حَدِيثِ جَرِيرٍ، وَمُفَضَّلٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) المعروف ببندار، تقدّم قريبًا.

3 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم أيضًا قريبًا. و"منصور" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ، عن منصور هذه ساقها النسائي رحمه الله في "المجتبى"، فقال:

(4823)

- أخبرنا محمد بن بشار، قال: حدّثنا عبد الرحمن، قال: حدّثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن عُبيد بن نُضَيلة، عن المغيرة بن شعبة: أن ضَرّتين ضربت إحداهما الأخرى بعمود فُسطاط، فقتلتها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية على عصبة القاتلة، وقضى لِمَا في بطنها بغُرّة، فقال الأعرابيّ: تُغَرِّمني مَن لا أكل، ولا شرب، ولا صاح، فاستهلّ؟ فمثل ذلك يُطَلّ، فقال:"سجعٌ كسجع الجاهلية"، وقَضَى لِمَا في بطنها بغُرّة. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4388]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، بِإِسْنَادِهِمُ الْحَدِيثَ بِقِصَّتِهِ، غَيْرَ أَنَّ فِيهِ: فَأَسْقَطَتْ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ، وَجَعَلَهُ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْمَرْأَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ دِيَةَ الْمَرْأَةِ).

(1)

"سنن النسائي - المجتبى" 8/ 50.

ص: 340

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل بابين.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغُنْدَر، تقدّم أيضًا قبل بابين.

4 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الشهير، تقدّم أيضًا قبل بابين. والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ. . . إلخ) ببناء الفعل للفاعل، وفاعله ضمير شعبة.

[تنبيه]: رواية شعبة، عن منصور هذه ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(6016)

- أخبرنا عمر بن محمد الْهَمْدانيّ، قال: حدّثنا محمد بن بشار، قال: حدّثنا محمد بن جعفر، قال: حدّثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، عن عُبَيد بن نَضْلة، عن المغيرة بن شعبة، قال: كانت عند رجل من هُذيل امرأتان، فغارت إحداهما على الأخرى، فرمتها بفِهْر، أو عمود فُسطاط، فأسقطت، فرُفع ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَضَى فيه بغُرّة، فقال وليّها: أندي مَن لا صاح، ولا استهلّ، ولا شَرِب ولا أكل؟! فقال صلى الله عليه وسلم:"أسجع كسجع الجاهلية؟ "، وجعلها على أولياء المرأة. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4389]

(1683) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ - وَاللَّفْظُ لأَبِي بَكْرٍ - قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، قَالَ: اسْتَشَارَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النَّاسَ فِي مِلَاصِ الْمَرْأَةِ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: شَهِدْتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ: عَبْدٍ، أَوْ أَمَةٍ، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: ائْتِنِي بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ، قَالَ: فَشَهِدَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ).

(1)

"صحيح ابن حبان" 13/ 371.

ص: 341

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قريبًا.

2 -

(وَكِيعُ) بن الْجَرّاح، تقدّم قبل بابين.

3 -

(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) بن الزبير الأسديّ، أبو المنذر، أو أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ، ربّما دلس [5](ت 5 أو 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.

4 -

(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن الْعَوَام الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهور [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.

5 -

(الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ) بن نوفل بن أُهيب بن عبد مناف بن زُهرة الزهري، أبو عبد الرحمن، الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (64)(ع) تقدم في "الحيض" 18/ 779.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، وتابعيّ، عن تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَنِ الْمِسْوَرِ) - بكسر الميم، وسكون السين المهملة، وفتح الواو - (ابْنِ مَخْرَمَةَ) - بفتح الميم، وسكون الخاء المعجمة، وفتح الراء - أنه (قَالَ: اسْتَشَارَ) يقال: شاورته في كذا، واستشرته: راجعته لأرى رأيه فيه، فأشار عليّ بكذا: أراني ما عنده فيه من المصلحة، فكانت إشارةً حسنةً، والاسم: المشْوَرة، وفيها لُغتان: سكون الشين، وفتح الواو، والثانية: ضمّ الشين، وسكون الواو، وزانُ معونة، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

. (عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) الخليفة الراشد المتوفّى مقتولًا في ذي الحجة سنة (23)، وولي الخلافة عشرين سنةً. (النَّاسَ فِي مِلَاصِ الْمَرْأَةِ) قال النوويّ رحمه الله في جميع نسخ مسلم:"مِلاص" - بكسر الميم، وتخفيف اللام، وبصاد مهملة - وهو جنين المرأة، والمعروف في اللغة:

(1)

"المصباح المنير" 1/ 327.

ص: 342

إملاص المرأة بهمزة مكسورة، قال أهل اللغة: يقال: أملصَتْ به، وأزلقت به، وأمهلت به، وأخطأت به، كله بمعنى، وهو إذا وضعَتْه قبل أوانه، وكل ما زَلِق من اليد، فقد مَلِصَ، بفتح الميم، وكسر اللام، مَلَصًا، بفتحها، وأملص أيضًا، لغتان، وأملصته أنا، وقد ذكر الحميديّ هذا الحديث في "الجمع بين الصحيحين"، فقال: إملاص بالهمزة، كما هو المعروف في اللغة، قال القاضي: قد جاء: مَلِص الشيءُ: إذا أفلت، فإن أريدَ به الجنين صحّ مِلاصٌ، مثل لَزِمَ لِزامًا، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "في ملاص المرأة" كذا صحيح الرواية: "ملاص" بغير ألف، وقد وقع في بعض نسخ الأئمة:"إملاص"، وكذا قيَّده الحميديّ، وكلاهما صحيح في اللغة، فإنَّه قد جاء: أملص، ومَلِصَ

(2)

: إذا أفلت، قال الهرويّ: وسُئل عمر عن إملاص المرأة الجنين قال: يعني: أن تُزلقه قبل وقت الولادة، وكل ما زَلِق من اليد فقد مَلِصَ يَمْلَص، ومنه حديث الدَّجال: وأملصت به أمُّه. قال أبو العبَّاس: يقال: أملصت به، وأزلقت به. وأسهلت به، وخطأت به.

قلت: وإملاص فيما حكاه الهرويّ عن عمر هو المصدر؛ لأنَّه ذكر بعده الجنين، وهو مفعوله، وفيما ذكره مسلم:"مِلاص"، ويعني به: الجنين نفسه، فلا يتعدَّى هنا لأنه نُقل من المصدر المؤكد، فسمِّي به. فإن أصله: مَلِصَ يَمْلَص مِلاصًا؛ كـ "لَزِمَ يَلْزَم لِزَامًا". انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": وفي رواية البخاريّ في "الاعتصام" من طريق أبي معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن المغيرة:"سأل عمر بن الخطاب في إملاص المرأة، وهي التي تُضرَب بطنها، فتُلقي جنينها، فقال: أيكم سمع من النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه شيئًا؟ ". وهذا التفسير أخصّ من قول أهل اللغة: إن الإملاص أن تُزْلِقه المرأة قبل الولادة؛ أي: قبل حين الولادة، هكذا نقله أبو داود في "السنن" عن أبي عُبيد، وهو كذلك في "الغريب" له، وقال الخليل: أملصت المرأة،

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 180.

(2)

من باب فَرِحَ.

(3)

"المفهم" 5/ 68 - 69.

ص: 343

والناقة: إذا رَمَت ولدها، وقال ابن القطاع: أملصت الحامل: ألقت ولدها.

ووقع في بعض الروايات: "ملاص" بغير ألف؛ كأنه اسم فعل الولد، فحُذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، أو اسم لتلك الولادة؛ كالخِدَاج.

ووقع عند الإسماعيليّ من رواية ابن جريج، عن هشام المشار إليها: قال هشام: الملاص للجنين، وهذا يتخرج أيضًا على الحذف، وقال صاحب "البارع": الإملاص: الإسقاط، وإذا قَبَضتَ على شيء فسَقَط من يدك، تقول: أملص من يدي إملاصًا، ومَلَصَ مَلْصًا.

ووقع في رواية البخاريّ عن عبيد الله بن موسى: "أن عمر نَشَد الناسَ، مَن سَمِع النبيّ صلى الله عليه وسلم قَضَى في السقط"

(1)

.

قال القرطبيّ رحمه الله: وفيه من الفقه: الاستشارة في الوقائع الشرعية، وقبول أخبار الآحاد، والاستظهار بالعدد في أخبار العدول، وليس ذلك عن شك في العدالة، وإنَّما هو استزادة يقين، وطمأنينة نفس. ولا حجَّة فيه لمن يشترط العدد في قبول أخبار الآحاد؛ لأنَّ عمر رضي الله عنه قد قَبِل خبر الضَّحَّاك وغيره من غير استظهار، والله تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

(فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ) رضي الله عنه، وفي رواية ابن عيينة:"فقام المغيرة بن شعبة، فقال: بلى أنا يا أمير المؤمنين"، وفيه تجريد، وكان السياق يقتضي أن يقول: فقلت، وقد وقع في رواية أبي معاوية المذكورة: فقلت: أنا (شَهِدْتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ: عَبْدٍ، أَوْ أَمَةٍ)، وفي رواية للبخاريّ:"قضى النبيّ صلى الله عليه وسلم بالغرّة عبد، أو أمة". قال في "الفتح": كذا في رواية عفّان، عن وهيب باللام، وهو يؤيد رواية التنوين، وسائر الروايات بِغُرّة، ومنها رواية أبي معاوية بلفظ:"سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول فيها: غرة عبد، أو أمة". (قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله عنه (ائْتِنِي بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ)؛ أي: حتى أتثبّت في الخبر، وليس هذا دليلًا لمن منع قبول رواية راو واحد حتى يشهد معه غيره، كما سيأتي بيانه في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى - (قَالَ: فَشَهِدَ) بكسر الهاء، من باب تَعِبَ

(1)

"الفتح" 16/ 110 - 111، كتاب "الديات" رقم (6904).

(2)

"المفهم" 5/ 69.

ص: 344

(لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ) بن سلمة بن حَرِيش بن خالد بن عَديّ بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج الأنصاريّ الحارثيّ، أبو عبد الله، ويقال: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو سعيد المدنيّ.

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه محمود، والمسور بن مخرمة، وسهل بن أبي حَثْمة، وأبو بردة بن أبي موسى، وقَبيصة بن ذُؤيب، وعروة بن الزبير، وغيرهم.

وقال ابن عبد البر: كان من أفضل الصحابة، وهو أحد الثلاثة الذين قَتَلوا كعب بن الأشرف، واستخلفه النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته على المدينة، ولم يَشْهَد الْجَمَل، ولا صِفِّين، وقال ابن سعد: آخى النبيّ صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي عُبيدة بن الجرّاح، قال ابن الْبَرْقيّ: تُوُفّي سنة اثنتين وأربعين، جاء عنه ستة أحاديث.

وقال المدائنيّ، وجماعة: مات سنة ثلاث، وهو ابن سبع وسبعين سنة، وقيل: مات سنة ست، وقيل: سنة سبع وأربعين، ورَوَى يعقوب بن سفيان في "تاريخه" أن شاميًّا من أهل الأُرْدُنّ دَخَلَ عليه داره فقتله، وقال ابن شاهين عن ابن أبي داود: قتله أهل الشام، ولم يعيِّن السنة؛ لكونه اعتزل عن معاوية في حروبه

(1)

.

أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الموضع، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه بهذا السياق متّفقٌ عليه.

[تنبيه]: هذا الحديث مما استدركه الدارقطنيّ على مسلم، فقال: وأخرج مسلم حديث وكيع، عن هشام، عن أبيه، عن المسور، أن عمر استشار في إملاص المرأة، وهذا وَهَمٌ - أي: من وكيع - وخالفه أصحاب هشام: وُهيب، وزائدة، وأبو معاوية، وعبيد الله بن موسى، وأبو أسامة، فلم يذكروا المسور،

(1)

"تهذيب التهذيب" 9/ 401.

ص: 345

وهو الصواب، وفي حديث زائدة، عن هشام، عن أبيه، سمع المغيرة، وكذلك قال أبو الزناد، عن عروة، عن المغيرة، ولم يذكر مسلم غير حديث وكيع، وهو وَهَمٌ، وأخرج البخاريّ حديث من خالفه، وهو الصواب. انتهى كلام الدارقطنيّ رحمه الله

(1)

.

حاصل ما أشار إليه الدارقطنيّ رحمه الله في استدراكه أن وكيعًا خالف جمهور الرواة عن هشام بن عروة بذكر المسور بن مخرمة في السند، فوَهِم في ذلك؛ لمخالفته الجماعة، من غير متابع له، وهؤلاء الجماعة هم:

زائدة بن قُدامة، ووُهيب بن خالد، وابن جريج، وأبو معاوية، وعبيد الله بن موسى خمستهم عند البخاريّ، ثم قال البخاريّ: تابعه ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة.

وابن عيينة، وحماد بن زيد، وعبد الله بن المبارك، وعبيدة، كلهم عند الإسماعيليّ، وقد أجاد البحث في هذا الموضوع الشيخ ربيع المدخليّ - جزاه الله خيرًا - فيما كتبه على "التتبّع" للدارقطنيّ

(2)

، فاستفد منه.

والخلاصة أن حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه صحيح من طريق عُبيد بن نُضيلة التي أخرجها مسلم قبل هذا، وأما استدراك الدارقطنيّ على مسلم في رواية وكيع، فهو وجيه، والغريب أن مسلمًا لم يُخرج رواية هشام من غير طريق وكيع هذه مع كثرة من رواه عنه على الصواب، كما أخرجه البخاريّ من طريقهم، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 4385 و 4386 و 4387 و 4388 و 4389](1682) و (1683)، و (البخاريّ) في "الديات"(6905 و 6906 و 6907) و"الاعتصام"(7317)، و (أبو داود) في "الديات"(4568 و 4570)، و (النسائيّ) في "القسامة"(8/ 49 و 51) و"الكبرى"(4/ 238)، و (الترمذيّ) في "الديات"(1411)، و (ابن ماجه) في "الديات"(2633 و 2640)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"

(1)

راجع: "التتبّع" بنسخة تحقيق الشيخ ربيع ص 304.

(2)

راجع ما كتبه الشيخ ربيع ص 304 - 309.

ص: 346

(696)

، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(18351)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 244 و 245 و 246 و 249)، و (الدارميّ) في "سننه"(640) و"الديات"(2274)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6016)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(778)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 111)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(20/ 409)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 205 - 206)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(3/ 197 - 198)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 114) و"الصغرى"(7/ 126) و"المعرفة"(6/ 166)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وجوب دية جنين المرأة، إذا سقط ميتًا.

قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: الحديث أصل في إثبات دية الجنين، وأن الواجب فيه غرة، إما عبد، وإما أمة، وذلك إذا ألقته ميتًا بسبب الجناية، وتَصَرَّف الفقهاءُ بالتقييد في سن الغرة، وليس ذلك من مقتضى الحديث، كما تقدم.

2 -

(ومنها): أن في استشارة عمر رضي الله عنه في ذلك أصل في سؤال الإمام عن الحُكم، إذا كان لا يعلمه، أو كان عنده شك، أو أراد الاستثبات.

3 -

(ومنها): أن فيه أن الوقائع الخاصة قد تَخفَى على الأكابر، ويعلمها مَن دونهم، وفي ذلك رَدٌّ على المقلد، إذا استُدِلَّ عليه بخبر يخالفه، فيُجِيب لو كان صحيحًا لعلمه فلان مثلًا، فإن ذلك إذا جاز خفاؤه عن مثل عمر رضي الله عنه، فخفاؤه عن مَن بعده أجوز.

4 -

(ومنها): أنه قد تعلق بقول عمر رضي الله عنه: لتأتينّ بمن يشهد معك، مَن يَرَى اعتبار العدد في الرواية، ويَشتَرِط أنه لا يُقبل أقل من اثنين، كما في غالب الشهادات، وهو ضعيف، كما قال ابن دقيق العيد رحمه الله، فإنه قد ثبت قبول الفرد في عدّة مواطن، وطلبُ العدد في صورة جزئية، لا يدل على اعتباره في كل واقعة؛ لجواز المانع الخاص بتلك الصورة، أو وجود سبب يقتضي التثبت، وزيادةَ الاستظهار، ولا سيما إذا قامت قرينة، وقريب من هذا قصة عمر رضي الله عنه مع أبي موسى رضي الله عنه في الاستئذان، وقد صرّح عمر رضي الله عنه في قصة أبي موسى رضي الله عنه بأنه أراد الاستثبات.

ص: 347

5 -

(ومنها): أن قوله: "في إملاص المرأة" أصرح في وجوب الانفصال ميتًا، من قوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"قضى في الجنين"، وقد شرط الفقهاء في وجوب الغرة انفصال الجنين ميتًا بسبب الجناية، فلو انفصل حيًا، ثم مات وجب فيه القوَدُ، أو الدية كاملة، ولو ماتت الأم، ولم ينفصل الجنين، لم يجب شيء عند الشافعية؛ لعدم تيقن وجود الجنين، وعلى هذا هل المعتبر نفس الانفصال، أو تحقق حصول الجنين؟ فيه وجهان: أصحهما الثاني، ويظهر أثره فيما لو قُدَّت نصفين، أو شق بطنها، فشوهد الجنين، أو فيما إذا خرج رأس الجنين مثلًا بعد ما ضرب، وماتت الأم، ولم ينفصل.

قال ابن دقيق العيد: ويحتاج من قال ذلك إلى تأويل الرواية، وحَمْلها على أنه انفصل، وان لم يكن في اللفظ ما يدل عليه.

قال الحافظ: وقع في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أبي داود: "فأسقطت غلامًا، قد نبت شعره ميتًا"، فهذا صريح في الانفصال، ووقع مجموع ذلك في حديث الزهري، ففي رواية عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الماضية في "الطب":"فأصاب بطنها، وهي حامل، فقُتل ولدها في بطنها"، وفي رواية مالك في هذا الباب:"فطرحت جنينها".

6 -

(ومنها): أنه استُدلَّ به على أن الحكم المذكور خاص بولد الحرة؛ لأن القصة وردت في ذلك، وقوله:"في إملاص المرأة"، وإن كان فيه عموم، لكن الراوي ذكر أنه شهد واقعة مخصوصة، وقد تصرف الفقهاء في ذلك، فقال الشافعية: الواجب في جنين الأمة عُشر قيمة أمه، كما أن الواجب في جنين الحرة عُشر ديتها.

7 -

(ومنها): أنه استُدلّ به أيضًا على أن الحكم المذكور خاص بمن يُحكَم بإسلامه، ولم يُتعرض لجنين محكوم بتهوّده، أو تنصره، ومن الفقهاء من قاسه على الجنين المحكوم بإسلامه تبعًا، وليس هذا من الحديث.

8 -

(ومنها): أن فيه أن القتل المذكور لا يَجري مجرى العمد.

9 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على ذمّ السجع في الكلام، ومحل الكراهة: إذا كان ظاهر التكلف، وكذا لو كان منسجمًا، لكنه في إبطال حق، أو تحقيق باطل، فأما لو كان منسجمًا، وهو في حق، أو مباح، فلا كراهة، بل ربما كان في بعضه ما يُستحب، مثل أن يكون فيه إذعان مخالف للطاعة، كما وقع لمثل

ص: 348

القاضي الفاضل في بعض رسائله، أو إقلاعٌ عن معصية، كما وقع لمثل أبي الفرج ابن الجوزيّ، في بعض مواعظه، وعلى هذا يُحمل ما جاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكذا من غيره من السلف الصالح.

قال الحافظ: والذي يظهر لي، أن الذي جاء من ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، لم يكن عن قصد إلى التسجيع، وإنما جاء اتفاقًا؛ لِعِظَم بلاغته، وأما مَنْ بعده فقد يكون كذلك، وقد يكون عن قصد، وهو الغالب، ومراتبهم في ذلك متفاوتة جدًّا. انتهى

(1)

.

10 -

(ومنها): ما قاله ابن بطال رحمه الله: لا يجوز للقاضي الحكم إلا بعد طلب حكم الحادثة من الكتاب، أو السُّنَّة، فإن عَدِمه رجع إلى الإجماع، فإن لم يجده، نظر هل يصح الحمل على بعض الأحكام المقررة، لعلة تجمع بينهما؟ فإن وجد ذلك لزمه القياس عليها، إلا إن عارضتها علة أخرى، فيلزمه الترجيح، فإن لم يجد علة، استدلّ بشواهد الأصول، وغلبة الاشتباه، فإن لم يتوجه له شيء من ذلك، رجع إلى حكم العقل، قال: هذا قول ابن الطيب - يعني: أبا بكر الباقلانيّ - ثم أشار إلى إنكار كلامه الأخير بقوله تعالى: {فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} الآية [الأنعام: 38]، وقد عَلِم الجميع بأن النصوص، لم تُحِط بجميع الحوادث، فعرفنا أن الله قد أبان حكمها، بغير طريق النص، وهو القياس، ويؤيد ذلك قوله تعالى:{لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} الآية [النساء: 83]؛ لأن الاستنباط هو الاستخراج، وهو بالقياس؛ لأن النص ظاهر، ثم ذَكَر في الردّ على منكري القياس، وألزمهم التناقض؛ لأن من أصلهم إذا لم يوجد النص الرجوع إلى الإجماع، قال: فيلزمهم أن يأتوا بالإجماع على ترك القول بالقياس، ولا سبيل لهم إلى ذلك، فوضح أن القياس إنما يُنكر، إذا استُعمل مع وجود النص، أو الإجماع، لا عند فقد النص والإجماع، وبالله التوفيق. ذَكَره في "الفتح" في "كتاب الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة"

(2)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"الفتح" 16/ 113، كتاب "الديات" رقم (6905).

(2)

"الفتح" 17/ 210، كتاب "الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة" رقم (7317).

ص: 349

‌28 - (كِتَابُ الْحُدُودِ)

أي: هذا كتاب في ذكر الأحاديث الدالّة على أحكام الحدود. وهي: جمع حدّ، وهو المنع لغةً، ولهذا يقال للبواب: حدادٌ؛ لمنعه الناس عن الدخول، وفي الشرع: الحدّ: عقوبةٌ مقدرةٌ لله تعالى، وإنما جَمَعه لاشتماله على أنواع، وهي حدّ الزنا، وحدّ القذف، وحد الشُّرب، والمذكور فيه حدّ الزنا، والخمر، والسرقة، أفاده في "العمدة"

(1)

. وقال القرطبيّ رحمه الله: الحدود: جمع حدّ، وأصل الحدّ: المنع حيث وقع وإن اختلفت أبنيته، وصيغه، وسُمِّيت العقوبات المترتبة على الجنايات حدودًا؛ لأنَّها تمنع من عَوْد الجاني، ومن فعل الْمُعْتَبِر بها. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": الحدود: جمع حَدّ، والمذكور فيه هنا - يعني: في "صحيح البخاريّ"، وكذا هو في "صحيح مسلم" - حدّ الزنا، والخمر، والسرقة، وقد حَصَر بعض العلماء ما قيل بوجوب الحدّ به في سبعة عشر شيئًا.

فمن المتفق عليه: الرِّدّةُ، والْحِرابة ما لم يَتُب قبل القدرة، والزنا، والقذف به، وشُرب الخمر، سواء أسكر أم لا، والسرقة.

ومن المختلَف فيه: جحد العارية، وشرب ما يُسكر كثيره من غير الخمر، والقذف بغير الزنا، والتعريض بالقذف، واللواط، ولو بمن يحل له نكاحها، وإتيان البهيمة، والسحاق، وتمكين المرأة القِرْد وغيره من الدواب من وطئها، والسحر، وترك الصلاة تكاسلًا، والفطر في رمضان.

وهذا كله خارج عما تُشرع فيه المقاتَلة، كما لو ترك قوم الزكاة، ونصبوا لذلك الحرب.

(1)

"عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 34/ 173.

(2)

"المفهم" 5/ 70.

ص: 350

وأصل الحدّ: ما يحجز بين شيئين، فيمنع اختلاطهما، وحدّ الدار ما يُمَيِّزها، وحدّ الشيء: وصْفُه المحيط به المميِّز له عن غيره.

وسُمِّيت عقوبة الزاني ونحوه حدًّا؛ لكونها تمنعه المعاودة، أو لكونها مُقَدَّرة من الشارع، وللإشارة إلى المنع سُمِّي البواب: حَدّادًا.

قال الراغب: وتطلق الحدود، ويراد بها نفس المعاصي؛ كقوله تعالى:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} الآية [البقرة 187]، وعلى فعلٍ فيه شيءٌ مقدَّر، ومنه:{وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} الآية [الطلاق: 1]، وكأنها لمّا فَصَلَت بين الحلال والحرام، سُمِّيت حدودًا، فمنها ما زُجر عن فعله، ومنها ما زُجر من الزيادة عليه، والنقصان منه، وأما قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية [المجادلة: 5]، فهو من الممانعة، ويَحْتَمِل أن يراد استعمال الحديد، إشارة إلى المقاتَلة. انتهى

(1)

.

(1) - (بَابُ حَدِّ السَّرِقَةِ، وَنِصَابِهَا)

" السَّرِقةُ"، ومثلها السَّرِقُ - بفتح السين، وكسر الراء فيهما -: اسم من سَرَقَ المالَ، يقال: سرَقه مالًا يسرِقه، من باب ضَرَب، وسَرَق منه مالًا، يتعدّى إلى الأول بنفسه، وبالحرف على الزيادة، والمصدرُ سَرَقٌ - بفتحتين -، والاسم: السَّرِقُ - بكسر الراء - والسَّرِقة مثله، وتُخفّف، مثل كَلِمة - يعني: أنه يكون تسكين الراء، مع فتح السين، وكسرها - ويُسمّى المسروق سَرِقَةً أيضًا، تسميةً بالمصدر. انتهى

(2)

.

وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: السرِقةُ، والسّرِق - بكسر الراء فيهما -: هو اسم الشيء المسروق، والمصدرُ، مِنْ سَرَقَ يَسْرِقُ سَرَقًا - بفتح الراء - كذا قاله الجوهريّ. وأصل هذا اللفظ إنما هو أخذُ الشيء في خفية، ومنه استرق السمع، وسَارَقَهُ النظرَ، قال ابن عَرَفة: السارق عند العرب هو من جاء مستترًا

(1)

"الفتح" 15/ 508، كتاب "الحدود" رقم (6772).

(2)

"المصباح المنير" 1/ 274.

ص: 351

إلى حرز، فأخذ منه ما ليس له، فإن أخذ من ظاهر، فهو مختلسٌ، ومُستلبٌ، ومُنتهبٌ، ومُحترسٌ، فإن منع مما في يده، فهو غاصبٌ له.

قال القرطبيّ: وهذا الذي قاله ابنُ عرفة هو السارق في عُرف الشرع.

ويستدعي النظر في هذا الباب النظرَ في السارق، والمسروق منه، والشيء المسروق، وحكم السارق، ولا خلاف في أن السارق إذا كَمَلت شروطه، يُقطع، دون الغاصب، والمختلسِ، والخائن، وفيمن يستعير المتاع، فيجحده خلافٌ شاذٌّ، حُكي عن أحمد، وإسحاق، فقالا: يُقطع، والسلف، والخلف على خلافهما، وسيأتي القول فيه في حديث المخزوميّة.

قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي أن الأرجح ما ذهب إليه أحمد، وإسحاق، من قطع جاحد العريّة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

قال: وإنما خصّ الشرع القطع بالسارق؛ لأن أخذ الشيء مُجاهرةً يُمكن أن يُسترجع منه غالبًا، والخائن مكّنه ربّ الشيء منه، وكان ممكّنًا من الاستيثاق بالبيّنة، وكذلك المُعِير، ولا يُمكن شيء من ذلك في السرقة، فبالغ الشرع في الزجر عنها.

وقد أجمع المسلمون على أن اليمنى تُقطع إذا وُجدت؛ لأنها الأصل في محاولة كلّ الأعمال. انتهى كلام القرطبيّ

(1)

.

وقال في "الفتح" عند قول البخاريّ: "باب قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} الآية [المائدة: 38] ما نصّه: كذا أطلق في الآية اليد، وأجمعوا على أن المراد اليمنى إن كانت موجودة، واختلفوا فيما لو قُطعت الشمال عمدًا أو خطأ، هل يجزئ؟ وقدّم السارق على السارقة، وقدِّمت الزانية على الزاني؛ لوجود السرقة غالبًا في الذكورية، ولأن داعية الزنا في الإناث أكثر؛ ولأن الأنثى سبب في وقوع الزنا؛ إذ لا يتأتى غالبًا إلا بطواعيتها.

وقوله بصيغة الجمع، ثم التثنية إشارة إلى أن المراد جنس السارق، فلوحظ فيه المعنى، فجَمَع، والتثنية بالنظر إلى الجنسين المتلفظ بهما.

والسرقة - بفتح السين، وكسر الراء، ويجوز إسكانها، ويجوز كسر أوله، وسكون ثانيه -: الأخذ خفية، وعُرّفت في الشرع بأخذ شيء خفية، ليس للآخذ

(1)

"المفهم" 5/ 70 - 71.

ص: 352

أخذه، ومَن اشترط الحرز وهم الجمهور، زاد فيه:"من حرز مثله"، قال ابن بطال: الحرز مستفاد من معنى السرقة؛ يعني: في اللغة.

ويقال لسارق الإبل: الخارب - بخاء معجمة - وللسارق بالمكيال: مُطَفِّف، وللسارق في الميزان: مُخْسِر، في أشياء أخرى ذكرها ابن خالويه في "كتاب ليس".

قال المازري، ومن تبعه: صان الله الأموال بإيجاب قطع سارقها، وخصّ السرقة لقلة ما عداها بالنسبة إليها، من الانتهاب، والغصب، ولسهولة إقامة البينة على ما عدا السرقة بخلافها، وشدد العقوبة فيها؛ ليكون أبلغ في الزجر، ولم يجعل دية الجناية على العضو المقطوع منها، بقدر ما يُقطع فيه؛ حمايةً لليد، ثم لمّا خانت هانت، وفي ذلك إشارة إلى الشبهة التي نُسبت إلى أبي العلاء المَعَرِّيِّ في قوله [من البسيط]:

يَدٌ بِخَمْسِ مِئِينَ عَسْجَدٍ وُدِيَتْ

مَا بَالُهَا قُطِعَتْ فِي رُبْعِ دِينَارِ

فأجابه القاضي عبد الوهاب المالكي بقوله [من البسيط أيضًا]:

صِيَانَةُ الْعُضْوِ أَغْلَاهَا وَأَرْخَصَهَا

صِيَانَةُ الْمَالِ فَافْهَمْ حِكْمَةَ الْبَارِي

(1)

وشَرْحُ ذلك أن الدية لو كانت ربع دينار، لكثرت الجنايات على الأيدي، ولو كان نصاب القطع خمسمائة دينار، لكثرت الجنايات على الأموال، فظهرت الحكمة في الجانبين، وكان في ذلك صيانة من الطرفين.

وقد عَسُر فهم المعنى المقدم ذكره في الفرق بين السرقة، وبين النهب ونحوه، على بعض منكري القياس، فقال: القطع في السرقة دون الغصب وغيره، غير معقول المعنى، فإن الغصب أكثر هتكًا للحرمة من السرقة، فدل على عدم اعتبار القياس؛ لأنه إذا لم يُعمل به في الأعلى، فلا يعمل به في المساوي.

وجوابه أن الأدلة على العمل بالقياس أشهر من أن يُتَكلَّف لإيرادها. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قال القاضي عياضٌ رحمه الله: صان الله تعالى الأموال بإيجاب القطع على السارق، ولم يجعل ذلك في غير السرقة؛ كالاختلاس،

(1)

وأنشده بعضهم:

عِزُّ الأَمَانَةِ أغْلَاهَا وَأَرْخَصَهَا

ذُلُّ الْخِيَانَةِ فَافْهَمْ حِكْمَةَ الْبَارِي

(2)

"الفتح" 15/ 571 - 572، كتاب "الحدود" رقم (6789).

ص: 353

والانتهاب، والغصب؛ لأن ذلك قليلٌ بالنسبة إلى السرقة، ولأنه يمكن استرجاع هذا النوع بالاستدعاء إلى ولاة الأمور، وتسهُل إقامة البيّنة عليه، بخلاف السرقة، فإنه تندر إقامة البيّنة عليها، فَعَظُم أمرها، واشتدّت عقوبتها؛ ليكون أبلغ في الزجر عنها، وقد أجمع المسلمون على قطع السارق في الجملة، وإن اختلفوا في فروع منه. انتهى

(1)

.

وقال ابن قُدامة رحمه الله: الأصل في القطع في السرقة: الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع، أما الكتاب: فقول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، وأما السُّنَّة: فرَوت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"تُقطع اليد في ربع دينار فصاعدًا"، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنما هلك من كان قبلكم بأنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه"، متفق عليهما، في أخبارٍ سوى هذين، نذكرها إن شاء الله في مواضعها، وأجمع المسلمون على وجوب قطع السارق في الجملة. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: (اعلم): أنه لا يجب القطع - كما قال ابن قُدامة رحمه الله إلا بشروط سبعة:

[أحدها]: السرقة، ومعنى السرقة أخذُ المال، على وجه الخِفْيَة والاستتار، ومنه استراق السمع، ومسارقة النظر، إذا كان يستخفي بذلك، فإن اختطف، أو اختلس، لم يكن سارقًا، ولا قطع عليه، عند أحد عَلِمناه، غير إياس بن معاوية، قال: أقطع المختلس؛ لأنه يستخفي بأخذه، فيكون سارقًا، وأهل الفقه والفتوى من علماء الأمصار على خلافه، وقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"ليس على الخائن، ولا المختلس قطع"، وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس على المنتهب قطع"

(3)

، رواهما أبو داود، ولأن الواجب قطع السارق، وهذا غير سارق، ولأن الاختلاس نوع من الخطف والنهب، وإنما يستخفي في ابتداء اختلاسه، بخلاف السارق.

[الثاني]: أن يكون المسروق نصابًا.

[الثالث]: أن يكون المسروق مالًا، فإن سرق ما ليس مالًا كالحُرّ، فلا

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 180 - 181.

(2)

"المغني" 12/ 415.

(3)

حديث صحيح، رواه أحمد، وأصحاب السنن.

ص: 354

قطع فيه، وفيه اختلاف بين العلماء، سيأتي بيانه، إن شاء الله تعالى.

[الرابع]: أن يسرِق من حِرز، ويُخرجه منه.

[الخامس]، و [السادس]، و [السابع]: كون السارق مكلّفًا، وتثبت السرقة، ويُطالب المالك بالمسروق، وتنتفي الشبهات، وهذه الشروط فيها اختلاف بين أهل العلم سيأتي تحقيقه في المواضع المناسبة لها، إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4390]

(1684) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ - وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى - قَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْطَعُ السَّارِقَ فِي رُبْعِ دِينَارٍ، فَصَاعِدًا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(عَمْرَةُ) بنت عبد الرحمن الأنصاريّة المدنيّة، ثقةٌ [3] ماتت قبل المائة، أو بعدها (ع) تقدمت في "المقدمة" جـ 2 ص 417.

4 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315. والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه مسلسل بالمدنيين من الزهريّ، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّة، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث.

شرح الحديث:

(عَنْ عَمْرَةَ) بنت عبد الرحمن الأنصاريّة، قال الدارقطنيّ في "العلل": اقتصر إبراهيم بن سعد، وسائر من رواه عن ابن شهاب على عمرة، ورواه يونس عنه، فزاد مع عمرة: عروة، وحَكَى ابن عبد البرّ أن بعض الضعفاء، وهو إسحاق الْحُنَينيّ - بمهملة، ونونين مصغرًا - رواه عن مالك، عن الزهريّ، عن عروة، عن عمرة، عن عائشة، وكذا رُوي عن الأوزاعيّ، عن الزهريّ،

ص: 355

قال ابن عبد البرّ: وهذان الإسنادان ليسا صحيحين، وقول إبراهيم، ومن تابعه هو المعتمَد، وكذا أخرجه الإسماعيليّ، من رواية زكريا بن يحيى، وحمويه عن إبراهيم بن سعد، ورواية يونس بجمعهما صحيحة.

وقد صرَّح ابن أخي ابن شهاب، عن عمه، بسماعه له من عمرة، وبسماع عمرة له من عائشة، أخرجه أبو عوانة، وكذا الآتي عند مسلم من طريق سليمان بن يسار، عن عمرة، أنها سمعت عائشة تُحدّث أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْطَعُ السَّارِقَ فِي رُبْعِ دِينَارٍ، فَصَاعِدًا)، وفي رواية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُقْطَع يدُ السارق إلا في ربع دينار، فصاعدًا"، وفي رواية:"لا تُقطَع اليد إلا في ربع دينار فما فوقه"، وفي رواية:"لم تُقطع يد السارق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقل من ثَمَن الْمِجَنّ"، وفي رواية ابن عمر رضي الله عنهما قال:"قطع النبيّ صلى الله عليه وسلم سارقًا في مِجَنّ، قيمته ثلاثة دراهم"، وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَعَنَ اللهُ السارقَ يَسرق البيضة، فتُقطع يده، ويَسرق الحبل، فتقطع يده"، وكلّها عند مسلم في هذا الباب.

وأجمع العلماء على قطع يد السارق، ولكن اختلفوا في اشتراط النصاب وقَدْره، وسيأتي تفصيل ذلك قريبًا - إن شاء الله تعالى -.

[تنبيه]: قوله: "فصاعدًا": قال صاحب "المحكم": يختص هذا بالفاء، ويجوز "ثم" بدلها، ولا تجوز الواو، وقال ابن جني: هو منصوب على الحال المؤكدة؛ أي: ولو زاد، ومن المعلوم أنه إذا زاد لم يكن إلا صاعدًا، وسيأتي في رواية سليمان بن يسار، عن عمرة بلفظ:"فما فوقه"، بدل "فصاعدًا" وهو بمعناه، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقول عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقْطع في ربع دينار فصاعدًا"، وفي الطريق الآخر:"لا تُقطع يد السَّارق إلا في ربع دينار فصاعدًا": هذا تقرير لقاعدةِ ما تُقْطَع فيه يد السَّارق من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبلفظه، لكنَّه ظاهر فيما إذا كان المسروق ذهبًا، فلو كان غير ذهب، وكان فضة، فهل يُعتبر قيمتها بالذهب؛ فإن سوّيت ربع دينار فصاعدًا قطع فيها، أو إنما تعتبر بنفسها؛ فإذا بلغت ثلاثة دراهم وزنًا قطع فيها، فيكون كل واحد من الذهب والفضة أصلًا معتبرًا بنفسه؟ قولان:

الأول: للشافعيّ، والأوزاعيّ، والليث بن سعد، وأبي ثور، وهو مرويّ

ص: 356

عن عمر، وعليّ، وعثمان، وبه قالت عائشة، وعمر بن عبد العزيز.

والثاني: لمالك وأصحابه.

وقال أحمد وإسحاق: إن سرق ذهبًا فربع دينار، وإن سرق غير الذهب والفضة فكانت قيمته ربع دينار، أو ثلاثة دراهم من الورق، وهذا نحو مما صار إليه مالك في أحد القولين. وفي المشهور: أنه إنما تقوَّم العروض بالدراهم، كما قال في حديث ابن عمر. وقال بعض أصحابنا: يقوَّم بالغالب في موضع السَّرِقة من الذهب والفضة كما تقوَّم المتلفات. وهو القياس. وهذان القولان ناشئان من حديثي عائشة، وابن عمر المذكورين في هذا الباب.

وقد نُقِلت أقوال عن كثير من السلف والعلماء في تحديد نصاب السَّرِقة لم يثبت فيها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديث معتمَد، ولا لها في الأصول ظاهر مستند؛ فمنها ما روي عن عمر، وقال به سليمان بن يسار، وابن شبرمة. وهو: أنَّ الْخَمْسَ لا تُقطع إلا في خَمْسٍ.

ومنها: أنَّها لا تقطع إلا في عشرة دراهم. وبه قال عطاء، والنُّعمان، وصاحباه.

ومنها: أنها تقطع في أربعة دراهم فصاعدًا. وهو مروي عن أبي هريرة، وأبي سعيد.

ومنها: أنها تقطع في درهم فما فوقه، وهو مروي عن عثمان.

ومنها: أنها تقطع في كل ما له قيمة، وروي عن الحسن في أحد أقواله، وهو قول الخوارج، وأهل الظاهر. واختاره ابن بنت الشافعي.

ومنها: أنها لا تقطع في أقل من درهمين، وروي عن الحسن.

ومنها: أنها لا تقطع في أقل من أربعين درهمًا، أو أربعة دنانير. وروي عن النخعيّ.

قال القرطبيّ رحمه الله: وهذه كلها أقوال متكافئة، خليّة عن الأدلة الواضحة الشافية، ولا يصحُّ ما رواه الحجَّاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه مرفوعًا:"لا تقطع يد السَّارق في أقل من عشرة دراهم"؛ لضَعف إسناده، ولِمَا يعارضه من قوله في "الصحيح":"لا تقطع يد السَّارق إلا في ربع دينار فصاعدًا"، ولا حجَّة لمن احتجَّ بقوله صلى الله عليه وسلم:"لعن الله السَّارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده"؛ لأنَّه وإن احْتَمَل أن يراد بالبيضة بيضة الحديد، وبالحبل حبل السُّفن، كما قد قيل فيه، فالأظهر من مساقه: أنَّه يراد

ص: 357

به التقليل، لكن أقل ذلك القليل مقيَّد بقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تقطع يد السَّارق إلا في ربع دينار"، وهذا نصٌّ، وبقول عائشة رضي الله عنها:"لم تكن يد السَّارق تقطع في الشيء التَّافه"، أخرجه البخاري وغيره، وهذا منها خبر عن عادة الشرع الجارية عندهم، ومعلوم: أن الواحدة من بيض الدَّجاج، والحبل الذي يُشدّ به المتاع والرَّحل تافهٌ، وإنَّما سلك النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث مسلك العرب فيما إذا أغْيَت في تكثير شيء، أو تحقيره، فإنَّها تذكر في ذلك ما لا يصحّ وجوده، أو ما يندر وجوده إبلاغًا في ذلك، فتقول: لأصْعَدنَّ بفلان إلى السماء، ولأهبطنَّ به إلى تخوم الثَّرى، وفلانٌ مناطُ الثُّريَّا، وهو مِنِّي مقعد القابلة، و:"من بنى لله مسجدًا، ولو كمفحص قطاة بُني له بيتٌ في الجنة"

(1)

، ولا يُتصوَّر مسجد مثل ذلك، و"تصدَّقن ولو بظلفٍ مُحرَّقٍ"

(2)

، وهو مِمَّا لا يُتصدقُ به. ومثل هذا كثير في كلامهم، وعادةٌ لا تُستنكر في خطابهم.

وقيل في الحديث: أنَّه إذا سرق البيضة أو الحبل ربما حمله ذلك على أن يسرق ما يُقطع فيه؛ لأنه ربما يجترئ على سرقة غيرهما، فيعتاد ذلك فتقطع يده. انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

[تنبيه]: قد أجاد في "الفتح" في الكلام على طرق حديث عائشة رضي الله عنها هذا، حيث أشار البخاريّ رحمه الله إلى بعض تلك الطرق، فأخرج رواية الزهريّ عن عمرة، من طريق إبراهيم بن سعد، عنه، بلفظ:"تقطع اليد في ربع دينار، فصاعدًا"، ثم قال:

"وتابعه عبد الرحمن بن خالد، وابن أخي الزهريّ، ومعمر، عن الزهريّ"، فقال في "الفتح": قوله: "وتابعه. . . إلخ"؛ أي: في الاقتصار على عمرة، أما متابعة عبد الرحمن بن خالد، وهو ابن مسافر، فوصلها الذهليّ في

(1)

حديث صحيح، أخرجه ابن حبّان، وغيره بسند صحيح.

(2)

حديث حسن أخرجه النسائيّ وغيره بلفظ: "رُدُّوا السائل، ولو بظلف محرق".

(3)

"المفهم" 5/ 73 - 74.

ص: 358

"الزهريات" عن عبد الله بن صالح، عن الليث عنه، نحو رواية إبراهيم بن سعد.

قال الحافظ: وقرأت بخط مغلطاي، وقلَّده شيخنا ابن الملقِّن: أن الذهليّ أخرجه في "علل حديث الزهريّ" عن محمد بن بكر، ورَوْح بن عُبادة جميعًا، عن عبد الرحمن، وهذا الذي قاله لا وجود له، بل ليس لرَوْح، ولا لمحمد بن بكر، عن عبد الرحمن هذا رواية أصلًا. وأما متابعة ابن أخي الزهريّ، وهو محمد بن عبد الله بن مسلم، فوصلها أبو عوانة في "صحيحه" من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن ابن أخي بن شهاب، عن عمه.

قال الحافظ أيضًا: وقرأت بخط مغلطاي، وقلده شيخنا أيضًا: أن الذهلي أخرجه عن رَوْح بن عُبادة عنه. قال: ولا وجود له أيضًا، وإنما أخرجه عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد.

وأما متابعة معمر، فوصلها أحمد، عن عبد الرزاق عنه، وأخرجه مسلم من رواية عبد الرزاق، لكن لم يسق لفظه، وساقه النسائيّ، ولفظه:"تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدًا"، ووصلها أيضًا هو وأبو عوانة من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن معمر، وقال أبو عوانة في آخره: قال سعيد: نَبَّلْنَا معمرًا، رويناه عنه وهو شابّ - وهو بنون، وموحدة ثقيلة - أي؛ صَيَّرناه نبيلًا. قال الحافظ: وسعيد أكبر من معمر، وقد شاركه في كثير من شيوخه.

ورواه بن المبارك، عن معمر، لكن لم يرفعه، أخرجه النسائيّ، وقد رواه عن الزهريّ أيضًا سليمان ابن كثير، أخرجه مسلم من رواية يزيد بن هارون عنه، مقرونًا برواية إبراهيم بن سعد.

ثم أخرج البخاريّ الحديث أيضًا من طريق حسين المعلّم، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن الأنصاريّ، عن عمرة بنت عبد الرحمن، بلفظ:"تقطع اليد في ربع دينار".

فقال في "الفتح": قوله: "عن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري": في رواية الإسماعيليّ من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث: سمعت أبي، يقول: حدثنا الحسين المعلم، عن يحيى، حدثني محمد بن عبد الرحمن الأنصاريّ، قال الإسماعيليّ: رواه حرب بن شداد، عن يحيى بن أبي كثير كذلك، وقال

ص: 359

همام بن يحيى، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن بن زُرارة.

قال: نُسب عبد الرحمن إلى جده، وهو عبد الرحمن بن سعد بن زُرارة، قال الإسماعيليّ: ورواه إبراهيم القَنّاد، عن يحيى، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، كذا حدثناه ابن صاعد، عن لُوَين عن القناد، والذي قبله أصح، وبه جزم البيهقيّ، وأن من قال فيه: ابن ثوبان فقد غلط. انتهى ما في "الفتح"

(1)

، وهو بحث نفيس، وتحقيق أنيس، والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 4390 و 4391 و 4392 و 4393 و 4394 و 4395 و 4396 و 4397](1684 و 1685)، و (البخاريّ) في "الحدود"(6789 و 6790 و 6791 و 6792 و 6793 و 6794)، و (أبو داود) في "الحدود"(4382 و 4384 و 4585)، و (الترمذيّ) في "الحدود"(1445)، و (النسائيّ) في "كتاب قطع السارق"(8/ 77 - 78) و"الكبرى"(4/ 338 و 339 و 340 و 342)، و (ابن ماجه) في "الحدود"(2585)، و (مالك) في "الموطأ"(1575 و 1576)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 83)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(18961)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1582)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(9/ 468 - 469)، و (الحميديّ) في "مسنده"(279)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 36 و 163)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 424)، و (الدارميّ) في "سُننه"(2/ 172)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4455 و 4459 و 4460)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(824)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4411)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 113)، و (الدارقطنيّ) في "سُننه"(3/ 189)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 163 و 166 و 167)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 254 و 256) و"المعرفة"(6/ 381)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2595) والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وجوب القطع في السرقة.

2 -

(ومنها): بيان القَدْر الذي إذا سرقه السارق قُطعت يده، وهو ثَمَن المجنّ.

(1)

"الفتح" 15/ 575 - 576.

ص: 360

3 -

(ومنها): أنه استَدلّ به من قال بوجوب قطع يد السارق، ولو لم يَسْرِق من حرز، وهو قول الظاهرية، وأبي عبد الله البصري، من المعتزلة، وخالفهم الجمهور، فقالوا: العامّ إذا خُصّ منه شيء بدليل، بقي ما عداه على عمومه، وحجيته، سواء كان لفظه ينبئ عما ثبت في ذلك الحكم بعد التخصيص، أم لا؛ لأن آية السرقة عامة، في كل مَن سَرق، فخَصّ الجمهور منها مَن سَرق من غير حرز، فقالوا: لا يُقطع، وليس في الآية ما ينبئ عن اشتراط الحرز، وطَرَد البصري أصله في الاشتراط المذكور، فلم يشترط الحرز، ليستمر الاحتجاج بالآية. نعم زعم ابن بطال أن شرط الحرز مأخوذ من معنى السرقة، فإن صح ما قال، سقطت حجة البصريّ أصلًا.

4 -

(ومنها): أنه استُدِل به على أن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب؛ لأن آية السرقة نزلت في سارق رداء صفوان، أو سارق المجنّ، وعَمِل بها الصحابة رضي الله عنهم في غيرهما من السارقين.

5 -

(ومنها): أنه استُدل بإطلاق حديث عائشة رضي الله عنها: "قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ربع دينار"، على أن القطع يجب بما صَدَق عليه ذلك، من الذهب، سواء كان مضروبًا، أو غير مضروب، جَيِّدًا كان، أو رديئًا، وقد اختَلَف فيه الترجيح عند الشافعية، ونصّ الشافعي في "الزكاة" على ذلك، وأطلق في "السرقة"، فجزم الشيخ أبو حامد، وأتباعه بالتعميم هنا، وقال الإصطخري: لا يقع إلا في المضروب، ورجحه الرافعي، وقيَّد الشيخ أبو حامد النقل عن الإصطخري بالقدر الذي ينقص بالطبع.

6 -

(ومنها): أنه استُدِل بالقطع في الْمِجَنّ، على مشروعية القطع في كل ما يُتَمَوَّل قياسًا، واستثنى الحنفية ما يُسرِع إليه الفساد، وما أصله الإباحة؛ كالحجارة، واللَّبِن، والخشب، والملح، والتراب، والكلإ، والطير، وفيه رواية عن الحنابلة، والراجح عندهم في مثل السرجين القطع، تفريعًا على جواز بيعه، وفي هذا تفاريع أخرى، محل بسطها كتب الفقه، وبالله التوفيق

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي القول بالتعميم هو الأظهر؛ لإطلاق النصوص، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"الفتح" 15/ 587، كتاب "الحدود"(6800).

ص: 361

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في اعتبار النصاب لوجوب قطع السارق:

قال ابن قُدامة رحمه الله: الشرط الثاني: أن يكون المسروق نصابًا، ولا قطع في القليل، في قول الفقهاء كلهم، إلا الحسن، وداود، وابن بنت الشافعي، والخوارج، قالوا: يُقطع في القليل والكثير؛ لعموم الآية؛ ولِمَا روى أبو هريرة رضي الله عنه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لعن الله السارق يَسرِق الحبل، فتقطع يده، ويسرق البيضة، فتقطع يده"، متفق عليه، ولأنه سارق من حرز، فتقطع يده كسارق الكثير.

قال: ولنا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا قطع إلا في ربع دينار، فصاعدًا"، متفق عليه، وإجماعُ الصحابة على ما سنذكره، وهذا يخص عموم الآية، والحبل يَحْتَمِل أن يساوي ذلك، وكذلك البيضة يَحْتَمِل أن يراد بها بيضة السلاح، وهي تساوي ذلك.

واختلفت الرواية عن أحمد في قدر النصاب، الذي يجب القطع بسرقته، فرَوَى عنه أبو إسحاق الْجُوزَجانيّ، أنه ربع دينار من الذهب، أو ثلاثة دراهم من الوَرِق، أو ما قيمته ثلاثة دراهم، من غيرهما، وهذا قول مالك، وإسحاق.

ورَوَى عنه الأثرم: أنه إن سرق من غير الذهب والفضة ما قيمته ربع دينار، أو ثلاثة دراهم قُطع، فعلى هذا يُقَوَّم غير الأثمان بأدنى الأمرين، من ربع دينار، أو ثلاثة دراهم. وعنه أن الأصل الورق، ويُقَوَّم الذهب به، فإن نَقَص ربع دينار عن ثلاثة دراهم، لم يقطع سارقه، وهذا يُحكى عن الليث، وأبي ثور، وقالت عائشة:"لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدًا"، ورُوي هذا عن عمر، وعثمان، وعليّ رضي الله عنهم، وبه قال الفقهاء السبعة، وعمر بن عبد العزيز، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وابن المنذر؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدًا".

وقال عثمان البتيّ: تقطع اليد في درهم، فما فوقه، وعن أبي هريرة، وأبي سعيد: أن اليد تقطع من أربعة دراهم فصاعدًا، وعن عمر:"أن الخَمْس لا تُقطع إلا في الخَمْس"، وبه قال سليمان بن يسار، وابن أبي ليلى، وابن شُبْرُمة، ورُوي ذلك عن الحسن. وقال أنس: قطع أبو بكر في مجن، قيمته خمسة دراهم، رواه الْجُوزَجانيّ بإسناده. وقال عطاء، وأبو حنيفة، وأصحابه: لا تقطع اليد، إلا في دينار، أو عشرة دراهم؛ لِمَا روى الحجاج بن أرطاة، عن عمرو بن

ص: 362

شعيب، عن أبيه، عن جدّه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"لا قطع إلا في عشرة دراهم"، ورَوَى ابنُ عباس، قال: قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يد رجل في مجن، قيمته دينار، أو عشرة دراهم. وعن النخعيّ: لا تقطع اليد إلا في أربعين درهمًا.

قال: ولنا ما رَوَى ابنُ عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قطع في مجن، ثمنه ثلاثة دراهم، متفق عليه، قال ابن عبد البر: هذا أصحّ حديث، يُروَى في هذا الباب، لا يختلف أهل العلم في ذلك.

وحديثُ أبي حنيفة الأول، يرويه الحجاج بن أرطاة، وهو ضعيف، والذي يرويه عن الحجاج ضعيف أيضًا، والحديث الثاني، لا دلالة فيه على أنه لا يُقطع بما دونه، فإن من أوجب القطع بثلاثة دراهم، أوجبه بعشرة. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح": وقد تمسك مالك رحمه الله بحديث ابن عمر رضي الله عنهما في اعتبار النصاب بالفضة، وأجاب الشافعية، وسائر من خالفه، بأنه ليس في طرقه أنه لا يقطع في أقل من ذلك، وأورد الطحاويّ حديث سعد، الذي أخرجه مالك أيضًا، وسنده ضعيف، ولفظه:"لا يُقطع السارق، إلا في المجنّ"، قال: فعلمنا أنه لا يُقطع في أقل من ثمن المجنّ، لكن اخْتُلف في ثمن المجنّ، ثم ساق حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان قيمة المجن الذي قَطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم، قال: فالاحتياط أن لا يُقطع إلا فيما اجتمعت فيه هذه الآثار، وهو عشرة، ولا يقطع فيما دونها؛ لوجود الاختلاف فيه.

وتُعُقّب بأنه لو سُلِّم في الدراهم، لم يُسَلَّم في النصّ الصريح في ربع دينار، كما تقدم إيضاحه، ودفعُ ما أعلّه به، والجمع بين ما اختلفت الروايات في ثمن المجنّ ممكن، بالحمل على اختلاف الثمن والقيمة، أو على تعدد المجانّ التي قطع فيها، وهو أولى.

وقال ابن دقيق العيد: الاستدلال بقوله: "قطع في مجنّ" على اعتبار النصاب ضعيف؛ لأنه حكاية فعل، ولا يلزم من القطع في هذا المقدار، عدم القطع فيما دونه، بخلاف قوله:"يُقطع في ربع دينار فصاعدًا"، فإنه بمنطوقه يدلّ على أنه يُقطع فيما إذا بلغ، وكذا فيما زاد عليه، وبمفهومه على أنه لا

(1)

"المغني" 12/ 418 - 420.

ص: 363

قطع فيما دون ذلك، قال: واعتمادُ الشافعيّ على حديث عائشة رضي الله عنها وهو قول - أقوى في الاستدلال، من الفعل المجرد، وهو قويّ في الدلالة على الحنفية؛ لأنه صريح في القطع في دون القدر الذي يقولون بجواز القطع فيه، ويدل على القطع فيما يقولون به بطريق الفحوى، وأما دلالته على عدم القطع في دون ربع دينار، فليس هو من حيث منطوقه، بل من حيث مفهومه، فلا يكون حجة على من لا يقول بالمفهوم.

قال الحافظ: وقرر الباجيّ طريق الأخذ بالمفهوم هنا، فقال: دلّ التقويم على أن القطع يتعلق بقدر معلوم، وإلا فلا يكون لذكره فائدة، وحينئذ فالمعتمد ما ورد به النصّ صريحًا مرفوعًا، في اعتبار ربع دينار.

وقد خالف من المالكية في ذلك من القدماء ابنُ عبد الحكم، وممن بعدهم ابن العربي، فقال: ذهب سفيان الثوريّ مع جلالته في الحديث، إلى أن القطع لا يكون إلا في عشرة دراهم، وحجته أن اليد محترمة بالإجماع، فلا تستباح إلا بما أُجمع عليه، والعشرة متفق على القطع فيها عند الجميع، فيُتَمَسَّك به ما لم يقع الاتفاق على ما دون ذلك.

وتُعُقّب بأن الآية دلت على القطع، في كل قليل وكثير، وإذا اختلفت الروايات في النصاب، أُخِذ بأصح ما ورد في الأقل، ولم يصح أقل من ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، فكان اعتبار ربع دينار أقوى من وجهين:

[أحدهما]: أنه صريح في الحصر، حيث ورد بلفظ:"لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدًا"، وسائر الأخبار الصحيحة الواردة حكاية فعل، لا عموم فيها.

[والثاني]: أن المعوَّل عليه في القيمة الذهب؛ لأنه الأصل في جواهر الأرض كلها، ويؤيده ما نَقَل الخطابي استدلالًا على أن أصل النقد في ذلك الزمان الدنانير، بأن الصكاك القديمة، كان يُكتب فيها عشرة دراهم، وزن سبعة مثاقيل، فعُرفت الدراهم بالدنانير، وحُصرت بها، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد اتَّضح بما سبق أن الحقّ اعتبار النصاب لوجوب القطع في السرقة؛ لصحّة الأحاديث الواردة في ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"الفتح" 15/ 583 - 584.

ص: 364

(المسألة الخامسة): في ذكر المذاهب في القدر الذي يُقطع فيه السارق:

[الأول]: يقطع في كل قليل وكثير، تافهًا كان أو غير تافه، نُقل ذلك عن أهل الظاهر، والخوارج، ونُقل عن الحسن البصريّ، وبه قال أبو عبد الرحمن ابن بنت الشافعيّ.

[الثاني]: وهو مقابل هذا القول في الشذوذ: ما نقله عياض، ومن تبعه، عن إبراهيم النخعيّ: أن القطع لا يجب إلا في أربعين درهمًا، أو أربعة دنانير.

[الثالث]: مثل الأول، إلا إن كان المسروق شيئًا تافهًا؛ لحديث عروة:"لم يكن القطع في شيء من التافه"، ولأن عثمان قطع في فَخارة خسيسة، وقال لمن يسرق السياط:"لَئِن عُدتم لأقطعن فيه"، وقطع ابن الزبير في نعلين، أخرجهما ابن أبي شيبة. وعن عمر بن عبد العزيز: أنه قطع في مُدّ، أو مدّين.

[الرابع]: تُقطع في درهم فصاعدًا، وهو قول عثمان الْبَتِّيّ - بفتح الموحدة، وتشديد المثناة - من فقهاء البصرة، وربيعة من فقهاء المدينة، ونسبة القرطبي إلى عثمان، فأطلق ظنًا منه أنه الخليفة، وليس كذلك.

[الخامس]: في درهمين، وهو قول الحسن البصريّ، جزم به ابن المنذر عنه.

[السادس]: فيما زاد على درهمين، ولو لم يبلغ الثلاثة، أخرجه ابن أبي شيبة بسند قويّ، عن أنس: أن أبا بكر رضي الله عنهما قطع في شيء ما يساوي درهمين، وفي لفظ: لا يساوي ثلاثة دراهم.

[السابع]: في ثلاثة دراهم، ويُقَوَّم ما عداها بها، ولو كان ذهبًا، وهي رواية عن أحمد، وحكاه الخطابيّ عن مالك.

[الثامن]: مثله، لكن إن كان المسروق ذهبًا، فنصابه ربع دينار، وإن كان غيرهما، فإن بلغت قيمته ثلاثة دراهم قطع به، وإن لم تبلغ لم يقطع، ولو كان نصف دينار، وهذا قول مالك، عند أتباعه، وهي رواية عن أحمد، واحتُجَّ له بما أخرجه أحمد، من طريق محمد بن راشد، عن يحيى بن يحيى الغسّاني، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها، مرفوعًا:"اقطعوا في ربع دينار، ولا تقطعوا في أدنى من ذلك، قالت: وكان ربع دينار، قيمته يومئذ ثلاثة دراهم"، والمرفوع من هذه الرواية نصّ، في أن المعتمَد والمعتبَر في ذلك الذهب، والموقوف منه يقتضي أن الذهب يُقَوَّم بالفضة، وهذا يمكن تأويله، فلا يرتفع به النصّ الصريح.

ص: 365

[التاسع]: مثله إلا إن كان المسروق غيرهما قطع به، إذا بلغت قيمته أحدهما، وهو المشهور عن أحمد، ورواية عن إسحاق.

[العاشر]: مثله، لكن لا يُكْتَفَى بأحدهما، إلا إذا كانا غالبين، فإن كان أحدهما غالبًا، فهو المعوَّل عليه، وهو قول جماعة من المالكية، وهو [الحادي عشر].

[الثاني عشر]: ربع دينار، أو ما يبلغ قيمته، من فضة، أو عَرَض، وهو مذهب الشافعيّ، وقد تقدم تقريره، وهو قول عائشة، وعمرة، وأبي بكر ابن حزم، وعمر بن عبد العزيز، والأوزاعيّ، والليث، ورواية عن إسحاق، وعن داود، ونقله الخطابيّ وغيره عن عمر، وعثمان، وعليّ، وقد أخرج ابن المنذر عن عمر بسند منقطع، أنه قال:"إذا أَخَذ السارق ربع دينار قُطع"، ومن طريق عمرة: أُتي عثمان بسارق سرق أُتْرُجّة، قُوِّمت بثلاثة دراهم، من حساب الدينار باثني عشر، فقُطع. ومن طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، أن عليًّا رضي الله عنه:"قطع في ربع دينار، كانت قيمته درهمين ونصفًا".

[الثالث عشر]: أربعة دراهم، نقله عياض عن بعض الصحابة، ونقله ابن المنذر عن أبي هريرة، وأبي سعيد.

[الرابع عشر]: ثلث دينار، حكاه ابن المنذر، عن أبي جعفر الباقر.

[الخامس عشر]: خمسة دراهم، وهو قول ابن شُبْرُمة، وابن أبي ليلى، من فقهاء الكوفة، ونُقل عن الحسن البصريّ، وعن سليمان بن يسار، أخرجه النسائيّ، وجاء عن عمر بن الخطاب:"لا تقطع الْخَمْس إلا في خَمْس"، أخرجه ابن المنذر، من طريق منصور، عن مجاهد، عن سعيد بن المسيِّب عنه. وأخرج ابن أبي شيبة، عن أبي هريرة، وأبي سعيد مثله، ونقل أبو زيد الدبوسيّ، عن مالك، وشذَّ بذلك.

[السادس عشر]: عشرة دراهم، أو ما بلغ قيمتها، من ذهب، أو عَرَض، وهو قول أبي حنيفة، والثوريّ، وأصحابهما.

[السابع عشر]: دينارٌ، أو ما بلغ قيمته، من فضّة، أو عرض، حكاه ابن حزم، عن طائفة، وجزم ابن المنذر بأنه قول النخعيّ.

[الثامن عشر]: دينار، أو عشرة دراهم، أو ما يساوي أحدهما، حكاه ابن حزم أيضًا، وأخرجه ابن المنذر عن علي، بسند ضعيف، وعن ابن مسعود بسند منقطع، قال: وبه قال عطاء.

ص: 366

[التاسع عشر]: ربع دينار فصاعدًا، من الذهب، على ما دلّ عليه حديث عائشة رضي الله عنها، ويُقطع في القليل والكثير، من الفضة، والعُروض، وهو قول ابن حزم، ونقل ابن عبد البر نحوه عن داود، واحتَجَّ بأن التحديد في الذهب ثبت صريحًا، في حديث عائشة، ولم يثبت التحديد صريحًا في غيره، فبقي عموم الآية على حاله، فيقطع فيما قل أو كثر، إلا إذا كان الشيء تافهًا، وهو موافق للشافعي، إلا في قياس أحد النقدين على الآخر، وقد أيده الشافعيّ بأن الصرف يومئذ، كان موافقًا لذلك، واستَدَلَّ بأن الدية على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الفضة اثنا عشر ألف درهم، وتقدم في قصة الأترجة قريبًا ما يؤيده، ويخرج من تفصيل جماعة من المالكية، أن التقويم يكون بغالب نقد البلد، إن ذهبًا فبالذهب، وإن فضة فبالفضة، تمام العشرين مذهبًا.

وقد ثبت في حديث ابن عمر، أنه صلى الله عليه وسلم، قطع في مِجَنّ قيمته ثلاثة دراهم، وثبت:"لا قطع في أقل من ثمن المجنّ"، وأقل ما ورد في ثمن المجنّ ثلاثة دراهم، وهي موافقة للنص الصريح في القطع، في ربع دينار، وإنما ترك القول بأن الثلاثة دراهم نصاب، يُقطع فيه مطلقًا؛ لأن قيمة الفضة بالذهب تختلف، فبقي الاعتبار بالذهب، كما تقدم، والله أعلم، ذكر ذلك كلّه في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأرجح هو ما ذهب إليه أحمد، وإسحاق، من أنه إذا كان المسروق ذهبًا، فالنصاب ربع دينار، وإن كان فضّةً، فالنصاب ثلاثة دراهم، وإن كان غيرهما، يُقطع إذا بلغت قيمته أحدهما، فإن هذا القول هو الموافق للحديث المتّفق عليه:"تُقطع اليد في ربع دينار"، وحديث:"قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجنّ قيمته ثلاثة دراهم"، فالحديث الثاني يدلّ على أن غير الذهب والفضّة يقوّم بهما، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[4391]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرْنَا مَعْمَرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنا سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرَيِّ، بِمِثْلِهِ فِي هَذَا الإِسْنَادِ).

(1)

راجع: "الفتح" 15/ 584 - 586، كتاب "الحدود" رقم (6789).

ص: 367

رجال هذا الإسناد: تسعةٌ:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) الحنظليّ ابن راهويه المذكور في السند السابق.

2 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(مَعْمَرُ) بن راشد اليمنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) اسمه عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، تقدّم قبل حديث.

6 -

(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) أبو خالد الواسطيّ، ثقةٌ متقنٌ عابدٌ [9](ت 206 هـ) وقارب التسعين (ع) تقدّم في "المقدمة" 6/ 45.

7 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ) الْعَبْديّ البصريّ، أبو داود، ويقال: أبو محمد، لا بأس به في غير الزهريّ [7].

روى عن حُصين بن عبد الرحمن، وحميد الطويل، وعمرو بن دينار، والزهريّ، ويحيى بن سعيد، وداود بن أبي هند، وغيرهم.

وروى عنه حَبّان بن هلال، وعبد الرحمن بن مهديّ، ويزيد بن هارون، وأخوه محمد بن كثير، وأبو الوليد الطيالسيّ، وسعيد بن سليمان، وغيرهم.

قال ابن معين: ضعيف. وقال الآجريّ عن أبي داود: وسليمان بن كثير أخو محمد بن كثير أصله من واسط، يقال له: أبو داود الواسطيّ، كان يصحب سفيان بن حسين. وقال النسائيّ: ليس به بأس، إلا في الزهريّ، فإنه يخطئ عليه. وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه. وقال العجليّ: جائز الحديث، لا بأس به. وقال العُقيليّ: واسطيّ سكن البصرة، مضطرب الحديث عن ابن شهاب، وهو في غيره أثبت. وقال الذُّهْليّ نحو ذلك قبله. وقال ابن حبان: كان يخطئ كثيرًا، فأما روايته عن الزهريّ فقد اختلطت عليه صحيفته، فلا يُحتج بشيء ينفرد به عن الثقات.

مات سنة ثلاث وثلاثين ومائة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1684)، وحديث رقم (2269).

8 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجةٌ تُكُلّم فيه بلا قادح [8](ت 185 هـ)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

ص: 368

9 -

(الزُّهْريّ) محمد بن مسلم الإمام الشهير، ذُكر في السند الماضي.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ) أي: كلّ هؤلاء الثلاثة: معمر، وسليمان بن كثير، وإبراهيم بن سعد رووا هذا الحديث عن الزهريّ.

وقوله: (بِمِثْلِهِ) أي: بمثل الحديث السابق.

وقوله: (فِي هَذَا الْإِسْنَادِ)"في" بمعنى الباء؛ أي: بهذا الإسناد السابق، وهو:"عن الزهريّ، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها".

[تنبيه]: رواية معمر عن الزهريّ ساقها النسائيّ في "سننه"، فقال:

(7406)

- أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنبأنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، عن عمرة، عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"تُقطع يد السارق في ربع دينار، فصاعدًا"

(1)

.

وأما رواية إبراهيم بن سعد عن الزهريّ، فقد ساقها البخاريّ في "صحيحه"، فقال:

(6407)

- حدّثنا عبد الله بن مسلمة، حدّثنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن عمرة، عن عائشة، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"تُقطع اليد في ربع دينار، فصاعدًا"

(2)

.

وأما رواية سليمان بن كثير عن الزهريّ، فساقها البيهقيّ في "الكبرى"، مقرونًا لإبراهيم بن سعد، فقال:

(16934)

- وأخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق المزكي، أنبأ أبو بكر أحمد بن سلمان الفقيه، قال: قُرئ على أبي عليّ الحسن بن مكرم البصريّ ببغداد، ثنا يزيد بن هارون، أنبأ سليمان بن كثير، وإبراهيم بن سعد، قالا: ثنا الزهريّ، عن عمرة، عن عائشة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم يقال:"القطع في ربع دينار، فصاعدًا"

(3)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4392]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، وَحَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ - وَاللَّفْظُ لِلْوَلِيدِ، وَحَرْمَلَةَ - قَالُوا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي

(1)

"السنن الكبرى" للنسائيّ 4/ 337.

(2)

"صحيح البخاري" 6/ 2492.

(3)

"سنن البيهقيّ الكبرى" 8/ 254.

ص: 369

يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، وَعَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ، إِلَّا في رُبْعِ دِينَارٍ، فَصَاعِدًا").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعِ) بن قيس السَّكُونيّ، أبو همّام ابن أبي بدر الكوفيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](243) على الصحيح (م د ت ق) تقدم في "الإيمان" 77/ 402.

والباقون ذُكروا في الباب والباب الماضي.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4393]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَهَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى - وَاللَّفْظُ لِهَارُونَ، وَأَحْمَدَ - قَالَ أَبُو الطَّاهِرِ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَمْرَةَ، أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ تُحَدِّثُ، أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ، فَمَا فَوْقَهُ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ) السعديّ مولاهم، أبو جعفر، نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253)، وله (83) سنةً (م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.

2 -

(أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى) بن حسّان المعروف بابن التستريّ المصريّ، صدوقٌ تُكلم في بعض سماعاته، قال الخطيب: بلا حجة [10](ت 243)(خ م س ق) تقدم في "الإيمان" 8/ 134.

3 -

(مَخْرَمَةُ) بن بُكير بن عبد الله بن الأشجّ، أبو الْمِسْوَر المدنيّ، وروايته عن أبيه وجادة من كتابه، قاله أحمد، وابن معين، وغيرهما، وقال ابن المدينيّ: سمع من أبيه قليلًا. انتهى، صدوقٌ [7](ت 159)(بخ م د س) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.

4 -

(أَبُوهُ) بُكير بن عبد الله بن الأشجّ المخزوميّ مولاهم، أبو عبد الله، أو أبو يوسف المدنيّ، نزيل مصر، ثقةٌ [5] (ت 120) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.

ص: 370

5 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ) الهلاليّ، مولى ميمونة، أو أم سلمة، ثقةٌ فاضلٌ فقيهٌ، من كبار [3] مات بعد المائة، أو قبلها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 489.

والباقون ذُكروا قبله.

[فإن قلت]: كيف أخرج مسلم لمخرمة، عن أبيه، مع أنه متكلَّم فيه؟.

[قلت]: إنما أخرج له متابعة، لا أصالةً، فلا يضرّ، وقد تقدّم مثل هذا كثيرًا، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4394]

(. . .) - (حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْهَادِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أنَّهَا سَمِعَتِ النبيّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ، إِلَّا في رُبْعِ دِينَارٍ، فَصَاعِدًا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ الْعَبْدِيُّ) أبو عبد الرحمن النيسابوريّ، ثقةٌ فقيهٌ زاهدٌ [10](ت 7 أو 238)(خ م س) تقدم في "المقدمة" 6/ 37.

2 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدِ) بن عُبيد الدراورديّ، الْجُهنيّ مولاهم، أبو محمد المدنيّ، صدوقٌ، كان يُحدّث من كُتُب غيره، فيُخطئ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

3 -

(يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْهَادِ) هو: يزيد بن عبد الله بن أُسامة بن الهاد الليثيّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ مكثرٌ [5](ت 139)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.

4 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ) بن عمرو بن حزم الأنصاريّ النجّاريّ المدنيّ القاضي، اسمه وكنيته واحد، وقيل: يُكنى أبا محمد، ثقةٌ عابدٌ [5](ت 120) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 80/ 422.

والباقيان ذُكرا قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.

ص: 371

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4395]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي عَامِرٍ الْعَقَدِيِّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ - مِنْ وَلَدِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ - عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْهَادِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الكَوْسَج، تقدّم قريبًا.

3 -

(أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ) عبد الملك بن عمرو القيسيّ البصريّ، تقدّم قبل بابين.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرِ) بن عبد الرحمن بن الْمِسْوَر بن مَخْرمة، أبو محمد المدنيّ الْمَخْرَميّ، ثقةٌ

(1)

[8](ت 170) وله بضع وسبعون سنةً (خت م 4) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 22/ 1318.

والباقيان ذُكرا في الباب.

[تنبيه]: رواية عبد الله بن جعفر، عن يزيد بن الهاد هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(6216)

- حدّثنا إبراهيم بن مرزوق، قثنا أبو عامر العَقَديّ، قثنا عبد الله بن جعفر، وهو الْمَخْرَميّ، من ولد الْمِسْوَر بن مَخْرَمَة، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:"لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار، فصاعدًا". انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4396]

(1685) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرُّؤَاسِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمْ تُقْطَعْ يَدُ سَارِقٍ فِي عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فِي أَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الْمِجَنِّ، حَجَفَةٍ، أَوْ تُرْسٍ، وَكِلَاهُمَا ذُو ثَمَنٍ).

(1)

هذا أولى من قول "التقريب": لا بأس به، فقد وثّقه الأئمة، كما في "التهذيب"، فتنبّه.

(2)

"مسند أبي عوانة" 4/ 113.

ص: 372

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرُّؤَاسِيُّ) أبو عوف الكوفيّ، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الصلاة" 20/ 934.

3 -

(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

والباقيان ذُكرا في الباب.

وقولها: (فِي أَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الْمِجَنِّ) بكسر الميم، وفتح الجيم: هو اسم لكل ما يُجنّ؛ أي: يُستتر به.

وقوله: (حَجَفَةٍ، أَوْ تُرْسٍ) مجروران على البدليّة من "المِجَنّ".

وقولها: (وَكِلَاهُمَا ذُو ثَمَنٍ) إشارة إلى أن القطع لا يكون فيما قلّ، بل يختصّ بما له ثمنٌ، وهو ربع دينار، كما صُرّح به في الروايات، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح" عند قوله: "لم يُقْطَع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ثمن مِجَنّ: حَجَفة، أو تُرْس" ما نصّه: الْمِجَنّ - بكسر الميم، وفتح الجيم -: مِفْعَل، من الاجتنان، وهو الاستتار مما يحاذره المستتِر، وكُسرت ميمه؛ لأنه آلة في ذلك.

و"الْحَجَفة" - بفتح المهملة، والجيم، ثم فاء -: هي الدَّرَقَة، وقد تكون من خشب، أو عظم، وتُغَلَّف بالجلد، أو غيره، و"التُّرْسُ" مثله، لكن يُطَارَق فيه بين جلدين، وقيل: هما بمعنى واحد.

وعلى الأول "أو" في الخبر للشكّ، وهو المعتمد، ويؤيده رواية عبد الله بن المبارك، عن هشام التي تلي رواية حميد بن عبد الرحمن - عند البخاريّ - بلفظ:"في أدنى ثمن حَجَفة، أو تُرْس، كل واحد منهما ذو ثمن"، والتنوين في قوله:"ثَمَن" للتكثير، والمراد أنه ثمن يُرْغَب فيه، فأخرج الشيء التافه، كما فَهِمه عروة، راوي الخبر، وليس المراد تُرْسًا بعينه، ولا حجفة بعينها، وإنما المراد الجنس، وأن القطع كان يقع في كل شيء يبلغ قدر ثمن المجنّ، سواء

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 184 - 185.

ص: 373

كان ثمن المجنّ كثيرًا، أو قليلًا، والاعتماد إنما هو على الأقل، فيكون نصابًا، ولا يقطع فيما دونه.

ورواية أبي أسامة، عن هشام

(1)

جامعة بين الروايتين المذكورتين أوّلًا، وقوله فيها:"كان كلُّ واحد منهما ذا ثمن"، كذا ثبت في الأصول، وأفاد الكرمانيّ أنه وقع في بعض النسخ:"وكان كل واحد منهما ذو ثمن" بالرفع، وخرّجه على تقدير ضمير الشأن في "كان".

[تنبيه]: قال في "الفتح": لم تَخْتَلف الرواة عن هشام بن عروة، عن أبيه في هذا المتن، وأما الزهريّ فاختُلف عليه في سنده، ولم يُختلف عليه في المتن أيضًا، كما تقدم، وهو حافظ، فيَحْتَمِل أن يكون عروة حدّثه به على الوجهين، كما تقدم، ويَحْتَمِل أن يكون لفظ عروة هو الذي حفظه هشام عنه، وحَمَل يونس حديث عروة على حديث عمرة، فساقه على لفظ عمرة، وهذا يقع لهم كثيرًا، ويشهد للأول أن النسائيّ أخرجه من طريق حفص بن حسان، عن يونس، عن الزهريّ، عن عروة وحده، عن عائشة، بلفظ رواية ابن عيينة، ورواه أيضًا من رواية القاسم بن مبرور، عن يونس، بهذا السند، لكن لفظ المتن:"أو نصف دينار فصاعدًا"، وهي رواية شاذة. انتهى ما في "الفتح"

(2)

، وهو بحث مفيد جدًّا، والله تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4397]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ (ح) وَحَدَّثنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرُّؤَاسِيِّ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحِيمِ، وَأَبِي أُسَامَةَ: وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ذُو ثَمَنٍ).

(1)

أراد رواية البخاريّ، فإن مسلمًا وإن أخرج رواية أبي أسامة، عن هشام، إلا أنه لم يسق لفظها، بل أحالها على رواية حميد بن عبد الرحمن الرؤاسيّ، فتنبّه.

(2)

"الفتح" 15/ 580 - 581، كتاب "الحدود" رقم (6792).

ص: 374

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الكلابيّ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ) الكنانيّ، أو الطائيّ، أبو عليّ الأشلّ المروزيّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ، له تصانيف، من صغار [8](ت 187)(ع) تقدم في "الحيض" 26/ 817.

4 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم في الباب الماضي.

5 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب، و"حميد بن عبد الرحمن" هو الرؤاسيّ المذكور قبله.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامٍ) ضمير الجماعة يعود إلى عبدة بن سليمان، وحُميد بن عبد الرحمن، وعبد الرحيم بن سليمان، وأبي أسامة، أربعتهم رووا هذا الحديث عن هشام بن عروة بسنده الماضي.

[تنبيه]: أما رواية حُميد بن عبد الرحمن، عن هشام، فهي الرواية التي قبل هذه، وأما رواية عبدة بن سليمان، عن هشام، فقد ساقها إسحاق بن راهويه رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(738)

- أخبرنا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، أن رجلًا سرق قَدَحًا، فأُتي به عمرُ بن عبد العزيز، قال هشام: فقال أبي: إنه لا يُقطع اليد في الشيء التافه، وقال أبي: أخبرتني عائشة: "أنه لم تكن اليد تقطع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أدنى ثمن، من مِجَنّ، أو حَجَفَة، أو تُرْس". انتهى

(1)

.

وأما رواية عبد الرحيم بن سليمان، فقد ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(6221)

- حدّثنا عبدان الجواليقيّ، قثنا مُشكدانة، قثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة:"أن يد السارق لم تكن تقطع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه". انتهى

(2)

.

(1)

"مسند إسحاق بن راهويه" 2/ 231.

(2)

"مسند أبي عوانة" 4/ 114.

ص: 375

وأما رواية أبي أسامة، عن هشام، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(6410)

- حدّثني يُوسُفُ بن مُوسَى، حدّثنا أبو أُسَامَةَ، قال: هِشَامُ بن عُرْوَةَ، أخبرنا عن أبيه، عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت:"لم تُقْطَعْ يَدُ سَارِقٍ على عَهْدِ النبيّ صلى الله عليه وسلم في أدنى من ثَمَنِ الْمِجَنِّ: تُرْسٍ، أو حَجَفَةٍ، وكان كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَا ثَمَنٍ". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4398]

(1686) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَطَعَ سَارِقًا في مِجَنٍّ، قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(نَافِعٌ) أبو عبد الله المدنيّ، مولى ابن عمر، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهور [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

2 -

(ابْنُ عُمَرَ) عبد الله الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (3 أو 74)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

والباقيان تقدّما قبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (290) من رباعيّات الكتاب، وهو مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة، وهو أصح الأسانيد على الإطلاق، وهو المسمّى بسلسلة الذهب، قال يحيى بن بُكير لأبي زرعة الرازيّ: يا أبا زرعة ليس ذا زعزعة عن زوبعة، إنما تَرْفع السِّتر، فتنظر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه: حدّثنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما

(2)

.

شرح الحديث:

(عَنْ نَافِعٍ) مولى ابن عمر، قال ابن حزم رحمه الله: لم يروه عن ابن عمر إلا نافع، وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: هو أصحّ حديث رُوي في ذلك، ذكره في

(1)

"صحيح البخاريّ" 6/ 2492.

(2)

راجع: "تدريب الراوي" 1/ 789.

ص: 376

"الفتح"

(1)

. (عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَطَعَ سَارِقًا) معناه: أَمَر بقطعه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يباشر القطع بنفسه، وسيأتي أن بلالًا رضي الله عنه هو الذي باشر قطع يد المخزوميّ بأمره صلى الله عليه وسلم، فيَحْتَمِل أن يكون هو الذي كان موكّلًا بذلك، ويَحْتَمِل أن يكون غيره

(2)

. (فِي مِجَنٍّ) تقدّم بكسر الميم، وفتح الجيم: التُّرْسُ، مِفْعَلٌ، من معنى الاجتنان، وهو الاستتار، والاختفاء، وما يقارب ذلك، ومنه الجنّ، وكُسرت ميمه؛ لأنه آلة في الاجتنان؛ كأن صاحبه يستتر به عما يُحاذره، قال الشاعر [من الطويل]:

فَكَانَ مِجَنِّي دُونَ مَا كُنْتُ أَتَّقِي

ثَلَاثُ شُخُوصٍ كَاعِبَانِ وَمُعْصِرُ

(3)

(قِيمَتُهُ) قِيمةُ الشيء: ما تنتهي إليه الرغبة فيه، وأصله قِوْمَةٌ، فأُبدلت الواو ياءً؛ لوقوعها بعد كسرة، والثمنُ: ما يُقابَلُ به المبيع عند البيع، والذي يظهر أن المراد هنا القيمة، وأن من رواه بلفظ الثمن إما تجوّزًا، وإما أن القيمة والثمن كانا حينئذ مستويين، قال ابن دقيق العيد رحمه الله: القيمة والثمن قد يختلفان، والمعتبَر إنما هو القيمة، ولعل التعبير بالثمن؛ لكونه صادف القيمة في ذلك الوقت في ظن الراوي، أو باعتبار الغلبة، وإلا فلو اختَلَفت القيمة والثمن الذي اشتراه به مالكه لن تُعتبر إلا القيمة. انتهى

(4)

.

(ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ) وفي رواية: "ثمنه ثلاثة"، وقد اختلف الرواة في هذه اللفظة، فرواه بعضهم بلفظ القيمة، وبعضهم بلفظ الثمن، كما أشار إلى ذلك مسلم بعدُ.

قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" بعد أن أخرجه من طريق موسى بن عقبة، عن نافع بلفظ:"ثمنه" ما نصّه: وتابعه محمد بن إسحاق، وقال الليث: حدثني نافع: "قيمته". انتهى.

قال في "الفتح": قوله: "تابعه محمد بن إسحاق"؛ يعني: عن نافع؛ أي:

(1)

"الفتح" 15/ 582.

(2)

"الفتح" 15/ 582 - 583.

(3)

"الكاعب" هي التي بدت نُهُود ثدييها، والْمُعْصِر: المرأة التي بلغت شبابها، وأدركت، أو دخلت في الحيض، أو راهقت العشرين، أو وَلَدت، أو حُبست في البيت ساعة طَمِثَت، قاله في "العدّة" 4/ 366.

(4)

"إحكام الأحكام" 4/ 366 بنسخة الحاشية "العدّة".

ص: 377

في قوله: "ثمنه"، وروايته موصولة عند الإسماعيليّ، من طريق عبد الله بن المبارك، عن مالك، ومحمد بن إسحاق، وعبيد الله بن عمر، ثلاثتهم عن نافع:"عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قطع في مِجَنّ ثمنه ثلاثة دراهم"، وقد أخرجه البخاريّ رحمه الله من رواية جُوَيرية، وهو ابن أسماء مثل هذا السياق سواء، ومن رواية عبيد الله، وهو ابن عمر؛ أي: العمريّ مثله، ومن رواية موسى بن عقبة، عن نافع، بلفظ:"قطع النبيّ صلى الله عليه وسلم يد سارق. . ." مثله. وقوله: وقال الليث: حدثني نافع: "قيمته"؛ يعني: أن الليث رواه عن نافع كالجماعة، لكن قال:"قيمته"، بدل قولهم:"ثمنه".

ورواية الليث وصلها مسلم، عن قتيبة، ومحمد بن رمح، عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قطع سارقًا، في مِجَنّ، قيمته ثلاثة دراهم"، وأخرجه مسلم أيضًا، من رواية سفيان الثوريّ، عن أيوب السختيانيّ، وأيوب بن موسى، وإسماعيل بن أمية، ومن رواية ابن وهب، عن حنظلة بن أبي سفيان، ومالك، وأسامة بن زيد، كلهم عن نافع، قال بعضهم:"ثمنه"، وقال بعضهم:"قيمته"، هذا لفظ مسلم، ولم يُمَيِّز.

وقد أخرجه أبو داود، من رواية ابن جريج، أخبرني إسماعيل بن أمية، عن نافع، ولفظه "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قطع يد رجل سَرَق تُرْسًا، من صُفَّة النساء، ثمنه ثلاثة دراهم".

وأخرجه النسائي من رواية ابن وهب، عن حنظلة وحده، بلفظ:"ثمنه"، ومن طريق مَخلَد بن يزيد، عن حنظلة، بلفظ:"قيمته"، فوافق الليث، في قوله:"قيمته"، لكن خالف الجميع، فقال:"خمسة دراهم"، وقولُ الجماعة:"ثلاثة دراهم"، هو المحفوظ.

وقد أخرجه الطحاويّ، من طريق عبيد الله بن عمر، بلفظ:"قطع في مِجَنّ، قيمته"، ومن رواية أيوب، ومن رواية مالك، قال مثله، ومن رواية ابن إسحاق بلفظ:"أُتي برجل سرق حَجَفَة قيمتها ثلاثة دراهم، فقطعه". انتهى

(1)

.

وقال ابن دقيق العيد أيضًا: اختَلَف الفقهاء في النصاب في السرقة أصلًا وقَدْرًا، أما الأصل: فجمهورهم على اعتبار النصاب، وشذّ الظاهرية فلم

(1)

"الفتح" 15/ 582، كتاب "الحدود" رقم (6795).

ص: 378

يعتبروه، ولم يفرقوا بين القليل والكثير، وقالوا بالقطع فيهما، ونُقِل في ذلك وجه في مذهب الشافعيّ.

والاستدلال بهذا الحديث على اعتبار النصاب ضعيف؛ فإنه حكاية فعل، ولا يلزم من القطع في هذا المقدار فعلًا عدم القطع فيما دونه نطقًا.

وأما المقدار: فإن الشافعيّ يرى أن النصاب ربع دينار؛ لحديث عائشة رضي الله عنها المتقدّم، ويُقَوَّم ما عدا الذهب بالذهب، وأبو حنيفة يقول: إن النصاب عشرة دراهم، ويقوَّم ما عدا الفضة بالفضة، ومالك يرى: أن النصاب ربع دينار من الذهب، أو ثلاثة دراهم، وكلاهما أصل، ويقوَّم ما عداهما بالدرهم.

وكلا الحديثين يدل على خلاف مذهب أبي حنيفة، وأما هذا الحديث: فإن الشافعيّ بَيَّن أنه لا يخالف حديث عائشة رضي الله عنها، وأن الدينار كان اثني عشر درهمًا وربعه ثلاثة دراهم، أعني صرفه ولهذا قُوِّمت الدية باثني عشر ألفًا من الوَرِق، وألف دينار من الذهب، وهذا الحديث يُستَدَلّ به لمذهب مالك في أن الفضة أصل في التقويم، فإن المسروق لمّا كان غير الذهب والفضة، وقوّم بالفضة دون الذهب دَلَّ على أنها أصل في التقويم، وإلا كان الرجوع إلى الذهب - الذي هو الأصل - أولى وأوجب، عند من يرى التقويم به.

والحنفية في مثل هذا الحديث، وفيمن روى في حديث عائشة رضي الله عنها:"القطع في ربع دينار فصاعدًا" يقولون - أو من قال منهم - في التأويل ما معناه: إن التقويم أمر ظنيّ تخمينيّ، فيجوز أن تكون قيمته عند عائشة ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، ويكون عند غيرها أكثر.

وقد ضعّف غيرهم هذا التأويل، وشنّعه عليهم بما معناه: إن عائشة لم تكن لِتُخْبِر بما يدل على مقدار ما يُقطَع فيه، إلا عن تحقيق؛ لِعِظَم أمر القطع. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الردّ على الحنفيّة من أبلغ الردود عليهم، يقطع دابر رأيهم الضعيف، ويا للعجب لو رأيت ما كتبه صاحب "تكملة فتح الملهم"

(2)

تبعًا لمن سبقه في هذا المحلّ، وحشد من الآثار الضعيفة في مقابلة ما في

(1)

"إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" 4/ 363 - 366.

(2)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 2/ 388 - 393.

ص: 379

"الصحيحين" من حديث عائشة وغيرها، دفاعًا عنهم، وترجيحًا لرأيهم، لرأيت عجبًا، ولولّيت هربًا، قاتل الله التعصّب، والله المستعان على تقليد يُعمِي، ويُصِمّ، اللهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 4398 و 4399](1686)، و (البخاريّ) في "الحدود"(6795 و 6796 و 6797 و 6798)، و (أبو داود) في "الحدود"(4385 و 4286)، و (الترمذيّ) في "الحدود"(1446)، و (النسائيّ) في "قطع السارق"(8/ 4908 و 4909 و 4910 و 4911 و 4912) و"الكبرى"(7393 و 7394 و 7395 و 7396 و 7397)، و (ابن ماجه) في "الحدود"(2584)، و (مالك) في "الموطّأ"(1572 و 2199)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 334)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(10/ 236)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 474)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1847)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 6 و 54 و 64 و 80 و 82 و 145)، و (الدارميّ) في "سُننه"(2/ 227)، و (الطبريّ) في "التفسير"(6/ 229)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 210)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 201)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(10/ 312 و 314)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 115 - 116)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(6/ 175)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 162)، و (الدارقطنيّ) في "سُننه"(3/ 190)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 256)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2596)، وفوائد الحديث تقدّمت في شرح حديث عائشة رضي الله عنها، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4399]

(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ رُمْحٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى، وَهُوَ الْقَطَّانُ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، كُلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ؛ يَعْنِي:

ص: 380

ابْنَ عُلَيَّةَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ، وَأَبُو كَامِلٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، وَأَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ (ح) وَحَدَّثَني عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَعُبَيْدِ اللهِ، وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ الْجُمَحِيِّ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَأُسَامَةَ بْنِ زيدٍ اللَّيْثِيِّ، كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، غَيْرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ قالَ: قِيمَتُهُ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ)

(1)

.

رجال هذا الإسناد: ثلاثة وثلاثون:

1 -

(ابْنُ رُمْحٍ) هو: محمد بن رُمْح بن المهاجر التُّجيبيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ، قاضي الْمَوْصل، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

3 -

(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب العدويّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه [5] مات سنة بضع و (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

4 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) الحَرشيّ، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

5 -

(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) تقدّم قريبًا.

6 -

(أَبُو الرَّبِيعِ) سليمان بن داود الْعَتَكيّ الزهرانيّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

7 -

(أَبُو كَامِلٍ) فُضيل بن حسين الْجَحْدريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

8 -

(حَمَّادُ) بن زيد، تقدّم أيضًا قريبًا.

9 -

(أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى) بن عمرو بن سعيد بن العاص، أبو موسى

(1)

وفي نسخة: وبعضهم قال: "ثمن ثلاثة دراهم".

ص: 381

الأمويّ المكيّ، ثقةٌ [6](ت 132)(ع) تقدم في "الحيض" 11/ 750.

10 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ) الأمويّ، تقدّم قريبًا.

11 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِميُّ) تقدّم أيضًا قريبًا.

12 -

(أَبُو نُعَيْمٍ) الفضل بن دُكين، واسم أبيه: عمرو بن حمّاد بن زُهير التيميّ مولاهم الأحول الملائيّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 8 أو 219)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 91، من أكابر شيوخ البخاريّ.

13 -

(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عيّاش الأسديّ مولاهم، المدنيّ، ثقةٌ فقيه، إمام في المغازي [5](ت 141)(ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.

14 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم قريبًا.

15 -

(حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ الْجُمَحِيُّ) المكيّ، ثقةٌ حجة [6](ت 151)(ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 123.

16 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب، أبو عبد الرحمن الْعَدويّ العمريّ المدنيّ، ضعيف [7].

[تنبيه]: كون عبد الله بن عمر هنا هو المكبّر، لا المصغّر هو الذي في النسخة الهنديّة، و"تحفة الأشراف"، ووقع في معظم النسخ: عبيد الله بن عمر المصغّر، والظاهر أن الصواب هو الأول، وستأتي ترجمة المكبَّر

(1)

في "كتاب الأدب"

(2)

مطوّلة رقم [1/ 5545](2132) - إن شاء الله تعالى -.

17 -

(أُسَامَةُ بْنُ زيدٍ اللَّيْثِيُّ) المدنيّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذكروا في الباب، والأبواب الأربعة الماضية.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ) ضمير الجماعة يعود إلى يحيى القطّان، وعبد الله بن نُمير، وعليّ بن مُسْهِر، فهؤلاء الثلاثة كلهم رووا هذا الحديث عن عبيد الله بن عمر العمريّ.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ) ضمير الجماعة يرجع إلى الليث بن سعد، وعبيد الله بن عمر الْعُمريّ، وأيوب السختيانيّ، وأيوب بن موسى،

(1)

وأما المصغَّر فقد تقدمت ترجمته في "الإيمان" 28/ 222.

(2)

إنما أخرته إلى هناك خطأ، فليُتنبّه.

ص: 382

وإسماعيل بن أمية، وموسى بن عُقبة، وحنظلة بن أبي سفيان الْجُمَحيّ، ومالك بن أنس، وأسامة بن زيد، فهؤلاء التسعة كلهم رووا هذا الحديث عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، فتنبّه.

[تنبيه]: ظاهر قول المصنّف - بعد التحويل السادس -: وحدثني محمد بن رافع إلى أن قال: أخبرنا سفيان، عن أيوب. . . إلخ، أن كلًّا من ابن عليّة، وحمّاد بن زيد يرويان مع سفيان الثوريّ عن كلّ من أيوب السختيانيّ، وأيوب بن موسى، وإسماعيل بن أمية، هذا هو الذي يقتضيه هذا السياق، لكن الذي مشى عليه الحافظ المزيّ رحمه الله أن ابن عليّة، وحماد بن زيد يرويان عن أيوب السختياني فقطّ، وأن سفيان الثوريّ يروي عن الثلاثة المذكورين كلهم، فإنه أفرد رواية الثوريّ عن هؤلاء الثلاثة في "تحفة الأشراف" في (6/ 57) رقم (7496)، ثم ذكر رواية حماد بن زيد، وابن عليّة كليهما عن أيوب السختيانيّ فقط بعد ذلك في (6/ 73) رقم (7545)، ولم يتعقبه الحافظ في "نكته"، وهذا الذي فعله المزّيّ هو الذي يشهد له ما في التنبيه التالي عند بيان الإحالات، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: قِيمَتُهُ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ) لم يبيّن المصنّف رحمه الله القائلين بلفظ "قيمته"، والقائلين بلفظ:"ثمنه"، فالذين قالوا:"قيمته" كما في التفصيل الآتي في التنبيه بعده هم: الليث بن سعد، وعبيد الله بن عمر في رواية عنه، وأيوب السختيانيّ في رواية عنه، وإسماعيل بن أميّة في رواية عنه، وموسى بن عقبة، وحنظلة بن أبي سفيان ومالك بن أنس، وأسامة بن زيد الليثيّ.

وأما الذين ذكروا بلفظ "ثمنه"، فهم: عبيد الله في رواية يحيى القطان عنه، وأيوب السختيانيّ في رواية ابن عليّة عنه، والثوريّ عن شيوخه الثلاثة، وإسماعيل بن أميّة في رواية عنه، والله تعالى أعلم.

وقال في "الفتح": وأخرجه النسائيّ من رواية ابن وهب، عن حنظلة وحده، بلفظ:"ثمنه"، ومن طريق مَخْلد بن يزيد، عن حنظلة، بلفظ:"قيمته"، فوافق الليث في قوله:"قيمته"، لكن خالف الجميع، فقال:"خمسة دراهم"، وقول الجماعة:"ثلاثة دراهم" هو المحفوظ، وقد أخرجه الطحاويّ من طريق عبيد الله بن عمر، بلفظ:"قَطَع في مِجَنّ قيمته"، ومن رواية أيوب، ومن رواية

ص: 383

مالك، قال: مثله، ومن رواية ابن إسحاق، بلفظ:"أُتِي برجل سَرَق حَجَفَةً، قيمتها ثلاثة دراهم، فقطعه". انتهى

(1)

.

[تنبيه]: أما رواية الليث بن سعد، عن نافع، فقد ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:

(1446)

- حدّثنا قتيبة، حدّثنا الليث، عن نافع، عن ابن عمر، قال:"قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مِجَنّ، قيمته ثلاثة دراهم". انتهى

(2)

.

وأما رواية يحيى القطّان، عن عبيد الله، عن نافع، فقد ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(5157)

- حدّثنا عبد الله

(3)

، حدّثني أبي، ثنا يحيى

(4)

، عن عبيد الله، أخبرني نافع، عن ابن عمر:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ في مِجَنّ، ثمنه ثلاثة دراهم". انتهى

(5)

.

وأما رواية عبد الله بن نمير، عن عبيد الله، عن نافع، فقد ساقها أيضًا الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(6293)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا ابن نُمَير، ثنا عبيد الله، أخبرني نافع، عن ابن عمر، أخبره:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَطَعَ في مِجَنّ، قيمته ثلاثة دراهم". انتهى

(6)

.

وأما رواية عليّ بن مُسْهِر، عن عبيد الله، عن نافع، فقد ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:

(2584)

- حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا عليّ بن مُسْهِر، عن عبيد الله،

(1)

"الفتح" 15/ 582، كتاب "الحدود" رقم (6795).

(2)

"جامع الترمذيّ" 4/ 50.

(3)

"عبد الله" هو: ولد الإمام أحمد راوي "المسند" عنه، فتنبّه.

(4)

هو: ابن سعيد القطّان.

(5)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 54.

(6)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 143.

ص: 384

عن نافع، عن ابن عمر، قال:"قَطَعَ النبيّ صلى الله عليه وسلم في مِجَنّ، قيمته ثلاثة دراهم". انتهى

(1)

.

وأما رواية إسماعيل ابن عليّة، عن أيوب، عن نافع، فقد ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(4503)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا إسماعيل، أنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ في مِجَنّ، ثمنه ثلاثة دراهم". انتهى

(2)

.

وأما رواية حماد بن زيد، عن أيوب السختيانيّ، عن نافع، فلم أر من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وأما رواية عبد الرزّاق، عن الثوريّ، عن أيوب السختيانيّ، وأيوب بن موسى، وإسماعيل بن أمية، ثلاثتهم عن نافع، فقد ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" أيضًا، فقال:

(5517)

- حدّثنا عبد الله، ثنا أبي، ثنا عبد الرزاق، ثنا سفيان، عن أيوب السَّخْتِيانيّ، وأيوب بن موسى، وإسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَطَعَ في مِجَنّ، ثمنه ثلاثة دراهم". انتهى

(3)

.

وأما رواية أبي نعيم، عن سفيان الثوريّ، عن كلّ من: أيوب السَّخْتِيانيّ، وإسماعيل بن أميّة، وعبيد الله العمريّ، وموسى بن عقبة، أربعتهم عن نافع، فقد ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"

(4)

، فقال:

(4461)

- أخبرنا أحمد بن محمد بن الفضل السَّختياني بدمشق، قال: حدّثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارميّ، قال: حدّثنا أبو نعيم، قال: حدّثنا سفيان، عن أيوب، وإسماعيل بن أمية، وعبيد الله بن عمر، وموسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: "قَطَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مِجَنّ، قيمته ثلاثة

(1)

"سنن ابن ماجه" 2/ 862.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 6.

(3)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 80.

(4)

وأخرجها أيضًا النسائي في "المجتبى" 8/ 77، وإنما اخترت رواية ابن حبّان؛ لكونها بسند المصنّف، فتنبّه.

ص: 385

دراهم". انتهى

(1)

.

وأما رواية ابن جريج، عن إسماعيل بن أمية، عن نافع، فقد ساقها أبو داود رحمه الله في "سننه"، فقال:

(4386)

- حدّثنا أحمد بن حنبل، ثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، أخبرني إسماعيل بن أمية، أن نافعًا مولى عبد الله بن عمر حدّثه، أن عبد الله بن عمر حدّثهم:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ يد رجل سَرَقَ تُرْسًا من صُفَّة النساء، ثمنه ثلاثة دراهم". انتهى

(2)

.

وأما رواية حنظلة بن أبي سفيان، وعبيد الله بن عمر، ومالك بن أنس، وأسامة بن زيد الليثيّ، أربعتهم عن نافع، فقد ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، لكنه أبهم عبيد الله، فقال:

(6229)

- حدّثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنبا ابن وهب، قال: أخبرني حنظلة بن أبي سفيان، ومالك بن أنس، وأسامة بن زيد، وغيرهم، عن نافع، عن ابن عمر، أنه قال:"قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مِجَنّ، قيمته ثلاثة دراهم". انتهى

(3)

.

قال أبو عبد الرحمن: هذا الصواب

(4)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4400]

(1687) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ، يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ، فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ، فَتُقْطَعُ يَدُهُ").

(1)

"صحيح ابن حبان" 10/ 312.

(2)

"سنن أبي داود" 4/ 136.

(3)

"مسند أبي عوانة" - 2 - 4/ 116.

(4)

وإنما قال: هذا الصواب؛ لأنه ساقه في "الكبرى" قبل هذا بلفظ: "قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجنّ قيمته خمسة دراهم"، فبيّن أن الصواب رواية:"ثلاثة دراهم"، لا خمسة، فتنبّه.

ص: 386

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم قريبًا.

2 -

(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

والباقون ذُكروا في الباب والباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخه أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ مَن رَوَى الحديث في دهره، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه) وفي رواية البخاريّ من طريق حفص بن غِياث، عن الأعمش، قال: سمعت أبا صالح، فصرّح الأعمش بالسماع، قال في "الفتح": في رواية محمد بن الحسين، عن أبي الحنين، عن عمر بن حفص، شيخ البخاري فيه:"سمعت أبا هريرة"، وكذا في رواية عبد الواحد بن زياد، عن الأعمش، عن أبي صالح: سمعت أبا هريرة، وقال ابن حزم: وقد سَلِم من تدليس الأعمش، قال الحافظ: ولم ينفرد به الأعمش، أخرجه أبو عوانة في "صحيحه"، من رواية أبي بكر بن عياش، عن أبي حَصِين، عن أبي صالح. انتهى

(1)

.

(قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ)؛ أي: طرده، الله تعالى، وأبعده من رحمته. قال الداوديّ رحمه الله: هذا يَحْتَمِل أن يكون خبرًا؛ ليرتدع من سمعه عن السرقة، ويَحْتَمِل أن يكون دعاء. قال الحافظ: ويَحتمل أن لا يراد به حقيقة اللعن، بل للتنفير فقط.

وقال الطيبيّ: لعل هنا المراد باللعن الإهانة، والخذلان؛ كأنه قيل لَمّا

(1)

"الفتح" 15/ 546، كتاب "الحدود" رقم (6783).

ص: 387

استعمل أعز شيء، في أحقر شيء: خذله الله حتى قطع.

وقال القاضي عياض: جَوَّز بعضهم لعن المعيَّن، ما لم يُحَدَّ؛ لأن الحدّ كفارة، قال: وليس هذا بسديد؛ لثبوت النهي عن اللعن في الجملة، فحَمْله على المعيَّن أولى، وقد قيل: إن لعن النبيّ صلى الله عليه وسلم لأهل المعاصي، كان تحذيرًا لهم عنها قبل وقوعها، فإذا فعلوها استغفر لهم، ودعا لهم بالتوبة، وأما من أغلظ له، ولعنه تأديبًا على فعلٍ فَعَله، فقد دخل في عموم شرطه، حيث قال:"سألت ربي أن يجعل لعني له كفارة ورحمة".

قال الحافظ: هو مقيَّد بما إذا صدر في حق من ليس له بأهل، كما قيّد له بذلك في "صحيح مسلم".

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الحافظ هو الحقّ؛ لِمَا في "صحيح مسلم" من طريق إسحاق بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كانت عند أم سليم يتيمة - وهي أم أنس - فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم اليتيمة، فقال:"آنت هيه؟ لقد كبرتِ، لا كَبِر سنّك"، فرجعت اليتيمة إلى أم سليم تبكي، فقالت أم سليم: ما لكِ يا بنية؟ قالت الجارية: دعا عليّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، أن لا يكبر سني، فالآن لا يكبر سني أبدًا، أو قالت: قرني، فخرجت أم سليم، مستعجلة، تَلُوثُ خمارها حتى لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما لك يا أم سليم؟ "، فقالت: يا نبي الله، أدعوت على يتيمتي؟ قال:"وما ذاكِ يا أم سليم؟ "، قالت: زعمت أنك دعوت أن لا يكبر سنها، ولا يكبر قرنها، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال:"يا أم سليم، أما تعلمين أن شرطي على ربي، أني اشترطت على ربي، فقلت: إنما أنا بشر أَرْضَى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيّما أحد دعوت عليه، من أمتي بدعوة، ليس لها بأهل، أن يجعلها له طَهُورًا، وزكاة، وقربة يُقَرِّبه بها منه يوم القيامة".

فقد تبيّن بهذا أن لعنه صلى الله عليه وسلم إنما يكون كفارة ورحمة، إذا كان الملعون لا يستحقّه، وإلا فلا. والله تعالى أعلم.

(يَسْرِقُ) بكسر الراء، من باب ضرب، (الْبَيْضَةَ) بفتح الموحّدة، وسكون التحتانيّة؛ أي: بيضة الدجاجة، (فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ) بفتح، فسكون

ص: 388

(فَتُقْطَعُ يَدُهُ") هذا مَثَلٌ لتقليل مسروقه بالنظر إلى يده المقطوعة، فكأنه كالبيضة، والحبل، مما لا قيمة له، وقيل: المراد أنه يسرق البيضة، والحبل أوّلًا، ثم يجترئ إلى أن تُقطع يده. وقيل: المراد بالبيضة بيضة الحديد، وبالحبل حبل السفينة، وكلّ واحد منهما له قيمة، ولا يخفى أنه لا يناسب سياق الحديث، فإنه مسوقٌ لتحقير مسروقه، وتعظيم عقوبته.

قال البخاريّ في "صحيحه" - بعد أن أخرج الحديث -: قال الأعمش: كانوا يَرون أنه بيض الحديد، والحبلُ كانوا يرون أنه منها ما يُساوي دراهم. انتهى.

قال في "الفتح": قوله: "كانوا يَرون" بفتح أوله، من الرأي، وبضمه من الظن.

قال الخطابي: تأويل الأعمش هذا، غير مطابق لمذهب الحديث، ومَخْرَج الكلام فيه، وذلك أنه ليس بالشائع في الكلام، أن يقال في مثل ما ورد فيه الحديث، من اللوم، والتثريب: أخزى الله فلانًا، عَرَّض نفسه للتلف في مال له قدر ومزيّة، وفي عَرَض له قيمة، إنما يُضرب المثل في مثله بالشيء الذي لا وزن له، ولا قيمة، هذا حُكم العرف الجاري في مثله، وإنما وَجْه الحديث، وتأويله ذم السرقة، وتهجين أمرها، وتحذير سُوء مَغَبَّتها فيما قَلَّ، وكَثُر من المال؛ كأنه يقول: إن سرقة الشيء اليسير، الذي لا قيمة له؛ كالبيضة الْمَذِرَة، والحبل الخَلَق، الذي لا قيمة له، إذا تعاطاه، فاستمرت به العادة، لم ييأس أن يؤديه ذلك إلى سرقة ما فوقها، حتى يبلغ قدر ما تُقطع فيه اليد، فتقطع يده؛ كأنه يقول: فليحذر هذا الفعل، وليتوَقّه، قبل أن تملكه العادة، ويَمْرَن عليها؛ لِيَسْلَم من سوء مغبته، ووَخِيم عاقبته.

وسبق الخطابي إلى ذلك أبو محمد بن قتيبة، فيما حكاه ابن بطال، فقال: احتج الخوارج بهذا الحديث، على أن القطع يجب في قليل الأشياء وكثيرها، ولا حجة لهم فيه، وذلك أن الآية لَمّا نزلت قال صلى الله عليه وسلم ذلك على ظاهر ما نزل، ثم أعلمه الله أن القطع لا يكون إلا في ربع دينار، فكان بيانًا لِمَا أُجمل، فوجب المصير إليه، قال: وأما قول الأعمش: إن البيضة في هذا الحديث بيضة الحديد، التي تُجعل في الرأس في الحرب، وأن الحبل من حبال

ص: 389

السفن، فهذا تأويل بعيد، لا يجوز عند من يَعرف صحيح كلام العرب؛ لأن كل واحد من هذين يبلغ دنانير كثيرة، وهذا ليس موضع تكثير لِمَا سرقه السارق، ولأن من عادة العرب والعجم، أن يقولوا: قَبَّح الله فلانًا، عَرَّض نفسه للضرب في عقد جوهر، وتعرَّض للعقوبة بالغَلول في جراب مِسْك، وإنما العادة في مثل هذا، أن يقال: لعنه الله، تعرّض لقطع اليد في حبل رَثٍّ، أو في كُبَّة شعر، أو رداء خَلَقٍ، وكل ما كان نحو ذلك كان أبلغ. انتهى.

قال الحافظ: ورأيته في غريب الحديث لابن قتيبة، وفيه: حضرتُ يحيى بن أكثم بمكة، قال: فرأيته يذهب إلى هذا التأويل، ويَعجَب به، ويبدئ ويعيد، قال: وهذا لا يجوز، فذكره.

وقد تعقبه أبو بكر ابن الأنباري، فقال: ليس الذي طَعَن به ابن قتيبة على تأويل الخبر بشيء؛ لأن البيضة من السلاح، ليست عَلَمًا في كثرة الثمن، ونهايةً في غلو القيمة، فتجري مجرى العقد من الجوهر، والجراب من المسك، اللذين ربما يساويان الألوف من الدنانير، بل البيضة من الحديد، ربما اشتُريت بأقل مما يجب فيه القطع، وإنما مراد الحديث: أن السارق يُعَرِّض قطع يده بما لا غنى له به؛ لأن البيضة من السلاح، لا يستغني بها أحد، وحاصله أن المراد بالخبر، أن السارق يسرق الجليل، فتُقطع يده، ويسرق الحقير، فتُقطع يده، فكأنه تعجيز له، وتضعيفٌ لاختياره؛ لكونه باع يده بقليل الثمن، وكثيره.

وقال المازري: تأوّل بعض الناس البيضة في الحديث، ببيضة الحديد؛ لأنه يساوي نصاب القطع. وحَمَله بعضهم على المبالغة في التنبيه على عِظَم ما خَسِرَ، وحَقْر ما حَصّل، وأراد من جنس البيضة والحبل ما يبلغ النصاب.

قال القرطبيّ: ونظير حَمْله على المبالغة، ما حُمل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:"من بنى لله مسجدًا، ولو كمَفْحَص قطاة"، فإن أحدَ ما قيل فيه: إنه أراد المبالغة في ذلك، وإلا فمن المعلوم أن مَفحَص القطاة، وهو قدر ما تَحضُن فيه بيضها، لا يُتصوَّر أن يكون مسجدًا، قال: ومنه: "تصدقن ولو بظلف مُحرَق"، وهو مما لا يُتصدق به، ومثله كثير في كلامهم. وقال عياض: لا ينبغي أن يُلتفت لِمَا وَرَد أن البيضة بيضة الحديد، والحبل حبل السفن؛ لأن مثل ذلك له قيمة وقَدْر،

ص: 390

فإن سياق الكلام يقتضي ذَمّ من أخذ القليل، لا الكثير، والخبر إنما ورد لتعظيم ما جَنَى على نفسه، بما تقلّ به قيمته، لا بأكثر، والصواب تأويله على ما تقدم من تقليل أمره، وتهجين فعله، وأنه إن لم يُقطع في هذا القدر، جَرَّته عادته إلى ما هو أكثر منه.

وأجاب بعض من انتصر لتأويل الأعمش، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قاله عند نزول الآية مجملة، قبل بيان نصاب القطع. انتهى.

وقد أخرج ابن أبي شيبة، عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عليّ رضي الله عنه أنه قَطَع يد سارق في بيضة حديد، ثمنها ربع دينار، ورجاله ثقات، مع انقطاعه، ولعل هذا مستند التأويل الذي أشار إليه الأعمش.

وقال بعضهم: البيضة في اللغة تستعمل في المبالغة في المدح، وفي المبالغة في الذم، فمن الأَولى قولهم: فلان بيضة البلد، إذا كان فردًا في العَظَمة، وكذا في الاحتقار، ومنه قول أخت عمرو بن عبد وَدّ، لَمّا قَتَل عليّ أخاها، يوم الخندق، في مرثيتها له [من البسيط]:

لَكِنَّ قَاتِلَهُ مَنْ لَا يُعَابُ بِهِ

مَنْ كَانَ يُدْعَى قَدِيمًا بَيْضَةَ الْبَلَدِ

ومن الثاني قول الآخر، يَهْجُو قومًا [من البسيط أيضًا]:

تَأْبَى قُضَاعَةُ أَنْ تُبْدِي لَكُمْ نَسَبَا

وَابْنَا نِزَارٍ فَأَنْتُمْ بَيْضَةُ الْبَلَدِ

ويقال في المدح أيضًا: بيضة القوم؛ أي: وسطهم، وبيضة السنام؛ أي: شَحْمته، فلما كانت البيضة تُستعمل في كل من الأمرين، حَسُنَ التمثيل بها؛ كأنه قال: يسرق الجليل، والحقير، فيقطع، فرُبَّ أنه عُذِر بالجليل، فلا عُذْر له بالحقير، وأما الحبل فأكثر ما يُستعمل في التحقير؛ كقولهم: ما ترك فلان عِقالًا، ولا ذهب من فلان عِقالٌ، فكأن المراد أنه إذا اعتاد السرقة، لم يتمالك مع غلبة العادة التمييز بين الجليل والحقير، وأيضًا فالعار الذي يلزمه بالقطع، لا يساوي ما حصل له، ولو كان جليلًا. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"الفتح" 15/ 547 - 549 رقم (6783).

ص: 391

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 4400 و 4401](1687)، و (البخاريّ) في "الحدود"(6782 و 6799)، و (النسائيّ) في "قطع السارق"(8/ 65) و"الكبرى"(4/ 327)، و (ابن ماجه) في "الحدود"(2583)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 475)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 253)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5748)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 116)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 253) و"الصغرى"(7/ 274)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2597 و 2598)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تعظيم شأن السرقة، ووَجْهُه أنه لو لم يكن شأنها عظيمًا، لَمَا استحقّ السارق اللعن.

2 -

(ومنها): جواز لعن غير المعيَّن، من العُصاة؛ لأنه لعن للجنس، لا لمعيّن، ولعن الجنس جائزٌ، كما قال الله تعالى:{أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]، وأما المعيّن، فلا يجوز لعنه. قال القاضي عياض: وأجاز بعضهم لعن المعيّن، ما لم يُحَدَّ، فإذا حُدّ لم يجز لعنه، فإن الحدود كفّارات لأهلها، قال القاضي: وهذا التأويل باطلٌ؛ للأحاديث الصحيحة في النهي عن اللعن، فيجب حمل النهي على المعيّن؛ ليُجمع بين الأحاديث. انتهى

(1)

.

وقال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب لعن السارق إذا لم يُسمّ"، قال في "الفتح": قوله: "لعن السارق إذا لم يُسَمَّ"؛ أي: إذا لم يعيَّن، إشارة إلى الجمع بين النهي عن لعن الشارب المعيَّن، كما مضى تقريره، وبين حديث الباب، قال ابن بطال

(2)

: معناه: لا ينبغي تعيين أهل المعاصي، ومواجهتهم باللعن، وإنما ينبغي أن يُلعَن في الجملة من فعل ذلك؛ ليكون ردعًا

(1)

"إكمال المعلم" 5/ 500.

(2)

"شرح البخاريّ" لابن بطال 8/ 401.

ص: 392

لهم، وزجرًا عن انتهاك شيء منها، ولا يكون لمعين؛ لئلا يَقنَط، قال: فإن كان هذا مراد البخاريّ، فهو غير صحيح؛ لأنه إنما نَهَى عن لعن الشارب، وقال:"لا تُعينوا عليه الشيطان"، بعد إقامة الحد عليه.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث لعن الشارب هو ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلًا على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، كان اسمه عبد الله، وكان يُلَقّب حِمَارًا، وكان يُضحِكُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم، قد جَلَده في الشراب، فأُتي به يومًا، فأَمر به، فَجُلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يُؤتَى به؟، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا تلعنوه، فوالله ما علمتُ، إنه يحب الله ورسوله"

(1)

.

وأخرج من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: أُتي النبيّ صلى الله عليه وسلم بسكران، فأَمر بضربه، فمنا من يضربه بيده، ومنا من يضربه بنعله، ومنا من يضربه بثوبه، فلما انصرف قال رجل: ما له أخزاه الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم".

قال في "الفتح": قوله: "باب ما يُكره من لعن شارب الخمر، وأنه ليس بخارج من الملة"، يشير إلى طريق الجمع بين ما تضمّنه حديث الباب من النهي عن لعنه، وما تضمّنه حديث الباب الأول:"لا يشرب الخمر، وهو مؤمن"، وأن المراد به نفي كمال الإيمان، لا أنه يخرج عن الإيمان جملة، وعَبّر بالكراهة هنا إشارة، إلى أن النهي للتنزيه، في حقّ من يستحقّ اللعن، إذا قصد به اللاعن محض السبّ، لا إذا قصد معناه الأصلي، وهو الابعاد عن رحمة الله، فأما إذا قَصَده، فيحرم، ولا سيما في حق من لا يستحق اللعن؛ كهذا الذي يحب الله ورسوله، ولا سيما مع إقامة الحد عليه، بل يندب الدعاء له بالتوبة والمغفرة، وبسبب هذا التفصيل عدل عن قوله، في الترجمة: كراهية لعن شارب الخمر إلى قوله: "ما يكره من لعن شارب الخمر"، فأشار بذلك إلى التفصيل، وعلى هذا التقرير، فلا حجة فيه لمنع لعن الفاسق المعيّن مطلقًا، وقيل: إن المنع خاص بما يقع في حضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لئلا يتوهم الشارب عند

(1)

تفرّد به البخاريّ.

ص: 393

عدم الإنكار أنه مستحق لذلك، فربما أوقع الشيطان في قلبه ما يتمكن به من فَتْنه، وإلى ذلك الإشارة بقوله، في حديث أبي هريرة:"لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم"، وقيل: المنع مطلقًا في حق من أقيم عليه الحد؛ لأن الحد قد كفّر عنه الذنب المذكور، وقيل: المنع مطلقًا في حق ذي الزَّلَّة، والجواز مطلقًا في حق المجاهرين، وصوّب ابن المنيّر أن المنع مطلقًا في حق المعيّن، والجواز في حق غير المعيّن؛ لأنه في حق غير المعيّن زجرٌ عن تعاطي ذلك الفعل، وفي حق المعيّن أَذّى له وسبّ، وقد ثبت النهي عن أذى المسلم، واحتج من أجاز لعن المعين، بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، إنما لعن من يستحق اللعن، فيستوي المعين وغيره.

وتُعقب بأنه إنما يستحق اللعن بوصف الإبهام، ولو كان لَعْنه قبل الحد جائزًا، لاستمر بعد الحد، كما لا يسقط التغريب بالجلد، وأيضًا فنصيب غير المعيّن من ذلك يسير جدًّا. والله أعلم.

وقال النووي في "الأذكار": وأما الدعاء على إنسان بعينه، ممن اتصف بشيء من المعاصي، فظاهر الحديث أنه لا يحرم، وأشار الغزالي إلى تحريمه، وقال في "باب الدعاء على الظلمة"، بعد أن أورد أحاديث صحيحة في الجواز، قال الغزالي: وفي معنى اللعن الدعاء على الإنسان بالسوء، حتى على الظالم، مثل:"لا أصح الله جسمه"، وكلّ ذلك مذموم. انتهى.

قال الحافظ: والأَولى حمل كلام الغزالي على الأول، وأما الأحاديث، فتدل على الجواز كما ذكره النوويّ، في قوله صلى الله عليه وسلم للذي قال:"كل بيمينك"، فقال: لا أستطيع، فقال:"لا استطعت"، فيه: دليل على جواز الدعاء على من خالف الحكم الشرعيّ، ومال هنا إلى الجواز قبل إقامة الحد، والمنع بعد إقامته، وصنيع البخاريّ يقتضي لعن المتَّصف بذلك، من غير أن يعيّن باسمه، فيجمع بين المصلحتين؛ لأن لعن المعيّن، والدعاء عليه، قد يحمله على التمادي، أو يُقَنِّطه من قبول التوبة، بخلاف ما إذا صُرف ذلك إلى المتصف، فإن فيه زجرًا وردعًا عن ارتكاب ذلك، وباعثًا لفاعله على الإقلاع عنه، ويقوّيه النهي عن التثريب على الأمة، إذا جُلِدت على الزنا.

ص: 394

واحتج الإمام البلقيني على جواز لعن المعيّن بالحديث الوارد في المرأة، إذا دعاها زوجها إلى فراشه، فأبَتْ لعنتها الملائكة حتى تصبح، وهو في "الصحيح"، وقد توقف فيه بعضهم بأن اللاعن لها الملائكة، فيتوقف الاستدلال به على جواز التأسي بهم، وعلى التسليم فليس في الخبر تسميتها، قال الحافظ: ما قاله البلقينيّ أقوى، فإن المَلَك معصوم، والتأسي بالمعصوم مشروع، والبحث في جواز لعن المعيّن، وهو الموجود. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن قول من أجاز لعن غير المعيّن، ومَنَعَ لعن المعيّن هو الأقرب، وبه تجتمع الأدلّة، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4401]

(. . .) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، كُلُّهُمْ عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ يَقُولُ: "إِنْ سَرَقَ حَبْلًا، وَإِنْ سَرَقَ بَيْضَةً").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ) المروزيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبيعيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقيان ذُكرا في الباب.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ يَقُولُ) الضمير لعيسى بن يونس.

[تنبيه]: رواية عيسى بن يونس، عن الأعمش هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"الفتح" 15/ 537 - 538، كتاب "الحدود" رقم (6780).

ص: 395

(2) - (بَابُ قَطْعِ السَّارِقِ الشَّرِيفِ وَغَيْرِهِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4402]

(1688) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنَ عَائِشَةَ، أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم؟، فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ، إِلَّا أُسَامَةُ حِبُّ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم؟، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟ "، ثُمَّ قَامَ، فَاخْتَطَبَ، فَقَالَ:"أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا". وَفِي حَدِيثِ ابْنِ رُمْحٍ: "إِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلهم تقدّموا في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، ورواية الراوي عن خالته، وعروة من الفقهاء السبعة، وعائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنَ عَائِشَةَ) رضي الله عنها، قال في "الفتح": كذا قال الحفاظ من أصحاب ابن شهاب، عن عروة، وشَذّ عُمر بن قيس الماصر - بكسر المهملة - فقال:"ابن شهاب، عن عروة، عن أم سلمة"، فذكر حديث الباب سواءً، أخرجه أبو الشيخ في "كتاب السرقة"، والطبرانيّ، وقال: تفرّد به عُمر بن قيس - يعني: من حديث أم سلمة - قال الدارقطنيّ في "العلل": الصواب رواية الجماعة. انتهى

(1)

.

(1)

"الفتح" 15/ 556، كتاب "الحدود" رقم (6788).

ص: 396

(أَنَّ قُرَيْشًا)؛ أي: القبيلة المشهورة، قيل ة قُريش: هو النضر بن كنانة، ومن لم يلده فليس بقرشيّ، وقيل: قُريش هو: فِهْر بن مالك، ومن لم يلده فليس من قريش، نقله السُّهيليّ وغيره، والقول الثاني هو الأصحّ، وإن كان الأول قول الأكثرين، كما أشار إليه الحافظ العراقيّ رحمه الله في "ألفية السيرة":

أَمَّا قُرَيْشٌ فَالأَصَحُّ فِهْرُ

جَمَّاعُهَا وَالأَكْثَرُونَ النَّضْرُ

وأصلُ القَرْش: الجمعُ، وتقرّشوا: إذا تجمّعوا، وبذلك سُمّيت قريشٌ، وقيل: قُريش دابّة تسكن البحر، وبه سُمّي الرجل، قال الشاعر [الخفيف]:

وَقُرَيشٌ هِيَ الَّتِي تَسْكُنُ الْبَحْـ

رَ بِهَا سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا

ويُنسب إلى قُريش بحذف الياء، فيقال: قُرَشيّ، وربّما نُسب إليه في الشعر من غير تغيير، فيقال: قُرَيشيّ

(1)

.

والمراد بهم هنا من أدرك القصة التي تُذكر بمكة

(2)

.

(أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ)؛ أي: أمرها المتعلق بالسرقة، وفي رواية للبخاريّ:"أهمّتهم المرأة"؛ أي، جَلَبَتْ إليهم هَمًّا، أو صَيَّرتهم ذوي هَمّ بسبب ما وقع منها، من السرقة، يقال: أهمّني الأمر؛ أي: أقلقني، وقد وقع في رواية مسعود بن الأسود:"لَمّا سرقت تلك المرأة أعظمنا ذلك، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ومسعود المذكور من بطن آخر من قريش، وهو من بني عديّ بن كعب، رَهْطِ عمر، وسبب إعظامهم ذلك خشية أن تُقْطَع يدُها؛ لِعِلْمهم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يرخّص في الحدود، وكان قطع السارق معلومًا عندهم قبل الإسلام، ونزل القرآن بقطع السارق، فاستمرّ الحال فيه.

وقد عقد ابن الكلبيّ بابًا لمن قَطَع في الجاهلية بسبب السرقة، فذكر قصّة الذين سرقوا غزال الكعبة، فقُطعوا في عهد عبد المطلب جدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذَكَر من قَطَع في السرقة: عوف بن عبد بن عمرو بن مخزوم، ومقيس بن قيس بن عديّ بن سعد بن سهم، وغيرهما، وأن عوفًا السابق لذلك

(3)

.

(الْمَخْزُومِيَّةِ) نسبة إلى مخزوم بن يَقَظَة - بفتح التحتانية، والقاف، بعدها

(1)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 497.

(2)

"الفتح" 15/ 556.

(3)

"الفتح" 15/ 556.

ص: 397

ظاء معجمة مشالة - ابن مرّة بن كعب بن لؤيّ بن غالب، ومخزوم أخو كلاب بن مرّة الذي نُسب إليه بنو عبد مناف.

ووقع في رواية إسماعيل بن أمية، عن محمد بن مسلم، وهو الذي عند النسائيّ:"سَرَقت امرأة من قريش من بني مخزوم"، واسم المرأة على الصحيح فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وهي بنت أخي أبي سلمة بن عبد الأسد الصحابيّ الجليل، الذي كان زوج أم سلمة قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم، قُتِل أبوها كافرًا يوم بدر، قتله حمزة بن عبد المطلب، ووَهِمَ من زعم أن له صحبةً.

وقيل: هي أم عمرو بنت سفيان بن عبد الأسد، وهي بنت عمّ المذكورة، أخرجه عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرني بشر بن تيم، أنها أم عمرو بن سفيان بن عبد الأسد، قال الحافظ رحمه الله: وهذا مُعْضَلٌ، ووقع مع ذلك في سياقه أنه قاله عن ظنٍّ وحِسبان، وهو غلط ممن قاله؛ لأن قصّتها مغايرة للقصة المذكورة في هذا الحديث، كما سأوضحه.

قال ابن عبد البر في "الاستيعاب": "فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد هي التي قَطَع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدها؛ لأنها سَرَقت حُلِيًّا، فكَلَّمت قريش أسامة، فشَفَعَ فيها، وهو غلام. . ." الحديث.

وقد ساق ذلك ابن سعد في ترجمتها في "الطبقات" من طريق الأجلح بن عبد الله الكِنْديّ، عن حبيب بن أبي ثابت، رفعه:"أن فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد سَرَقَت حُليًّا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستشفعوا. . ." الحديث.

وأورد عبد الغني بن سعيد المصريّ في "المبهمات" من طريق يحيى بن سلمة بن كُهيل، عن عَمّار الدُّهْنِيّ، عن شقيق قال:"سَرَقَت فاطمة بنت أبي أسد بنت أخي أبي سلمة، فأشفقت قريش أن يقطعها النبيّ صلى الله عليه وسلم. . ." الحديث، والطريق الأُولى أقوى.

ويمكن أن يقال: لا منافاة بين قوله: "بنت الأسود"، و"بنت أبي الأسود"؛ لاحتمال أن تكون كنية الأسود: أبا الأسود.

وأما قصة أم عمرو: فذكرها ابن سعد أيضًا، وابن الكلبيّ في "المثالب"، وتبعه الهيثم بن عديّ، فذَكَروا أنها خرجت ليلًا، فوقعت برَكْبٍ نزول، فأخذت

ص: 398

عَيبة لهم، فأخذها القوم، فأوثقوها، فلما أصبحوا أتوا بها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فعاذت بِحِقْوي أم سلمة، فأمر بها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقُطِعت، وأنشدوا في ذلك شعرًا، قاله خُنيس بن يعلى بن أمية.

وفي رواية ابن سعد أن ذلك كان في حجة الوداع، وقصة فاطمة بنت الأسود كانت عام الفتح، فظهر تغاير القصتين، وأن بينهما أكثر من سنتين.

قال الحافظ رحمه الله: ويظهر من ذلك خطأ من اقتصر على أنها أم عمرو؛ كابن الجوزيّ، ومن رَدَّدَها بين فاطمة، وأم عمرو؛ كابن طاهر، وابن بشكوال، ومن تبعهما - فللَّه الحمد -.

وقد تقلّد ابن حزم ما قاله بشر بن تيم، لكنه جعل قصة أم عمرو بنت سفيان في جحد العارية، وقصة فاطمة في السرقة، وهو غلط أيضًا؛ لوقوع التصريح في قصة أم عمرو بأنها سرقت. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(الَّتِي سَرَقَتْ) زاد يونس في روايته: "في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح"، ووقع بيان المسروق في حديث مسعود بن أبي الأسود المعروف بابن العجماء، فأخرج ابن ماجه، وصححه الحاكم، من طريق محمد بن إسحاق، عن محمد بن طلحة بن رُكانة، عن أمه عائشة بنت مسعود بن الأسود، عن أبيها، قال:"لَمَّا سَرَقت المرأة تلك القطيفة من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظمنا ذلك، فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نكلمه. . ."، وسنده حسن، وقد صَرَّح فيه ابن إسحاق بالتحديث، في رواية الحاكم، قاله في "الفتح"

(2)

، وسيأتي البحث في هذا في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى -.

(فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم؟)؛ أي: يشفع عنده فيها أن لا تُقْطَع، إما عفوًا، وإما بفداء، وقد وقع ما يدل على الثاني في حديث مسعود بن الأسود، ولفظه، بعد قوله:"أعظمنا ذلك": "فجئنا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقلنا: نحن نفديها بأربعين أوقية، فقال: تُطَهَّر خير لها"، وكأنهم ظنوا أن الحدّ يَسْقُط

(1)

"الفتح" 15/ 557 - 558، كتاب "الحدود" رقم (6788).

(2)

"الفتح" 15/ 558.

ص: 399

بالفدية، كما ظَنَّ ذلك من أفتى والدَ الْعَسِيف الذي زنى بأنه يَفتدي منه بمائة شاة، ووليدة.

ولحديث مسعود هذا شاهدٌ، عند أحمد، من حديث عبد الله بن عمرو:"أن امرأة سَرَقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال قومها: نحن نفديها"، قاله في "الفتح"

(1)

.

(فَقَالُوا: وَمَنْ) للاستفهام الإنكاريّ؛ أي: لا أحد (يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ) - بسكون الجيم، وكسر الراء - يَفْتَعِل، من الْجُرْأة - بضم الجيم، وسكون الراء، وفتح الهمزة، ويجوز فتح الجيم والراء، مع المدّ - والجرأة: هي الإقدام بإدلال، والمعنى: ما يجترئ عليه إلا أسامة رضي الله عنه.

وقال الطيبيّ رحمه الله: الواو عاطفة على محذوف، تقديره: لا يجترئ عليه أحدٌ؛ لمهابته، لكن أسامة له عليه إدلال، فهو يَجْسُر على ذلك.

ووقع في رواية للبخاريّ بلفظ: "فقالوا: من يكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، ومن يجترئ عليه إلا أسامة. . ."، والرواية الأولى أوضح؛ لأن الذي استَفْهم بقوله:"من يُكَلّم؟ " غير الذي أجاب بقوله: "ومن يجترئ عليه؟ ".

(إِلَّا أُسَامَةُ) بن زيد رضي الله عنهما (حِبُّ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم؟)، وابن حبّه رضي الله عنهما بكسر الحاء المهملة، وتشديد الباء الموحّدة -: بمعنى محبوب، مثل قِسْم بمعنى مقسوم، وفي ذلك تلميح بما أخرجه البخاريّ في "المناقب" من "صحيحه" عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يأخذه، والحسن، ويقول:"اللهم إني أحبهما، فأحبهما"، وأخرج في "الأدب" أيضًا عن أسامة رضي الله عنه:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذني، فيُقعدني على فخذه، ويُقعد الحسن على فخذه الأخرى، ثم يضمّهما، ثم يقول: اللهمّ ارحمهما، فإني أرحمهما".

وكان السبب في اختصاص أسامة رضي الله عنه بذلك: ما أخرجه ابن سعد من طريق جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين، عن أبيه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأسامة: لا تشفع في حدّ، وكان إذا شَفَعَ شَفَّعه" - بتشديد الفاء - أي: قَبِل شفاعته، وكذا وقع في مرسل حبيب بن أبي ثابت:"وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُشَفِّعُهُ".

(1)

"الفتح" 15/ 564، كتاب "الحدود" رقم (6788).

ص: 400

قال الجامع عفا الله عنه: لا تنافي بين السببين؛ لأن أحدهما نتيجة الآخر، فسبب قبول شفاعته رضي الله عنه هو كونه حِبّه صلى الله عليه وسلم، فتأمل، والله تعالى أعلم.

ووقع في حديث مسعود بن الأسود عند ابن ماجه بعد قوله: "تُطَهَّر خير لها، فلمّا سمعنا لِينَ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أتينا أسامة"، ووقع في رواية يونس عند البخاريّ في "غزوة الفتح":"فَفَزِعَ قومُها إلى أسامة"؛ أي: لَجَؤُوا، وفي رواية أيوب بن موسى عنده أيضًا في "الشهادات":"فلم يجترئ أحد أن يكلمه إلا أسامة".

(فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ)؛ أي: كلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن المرأة أسامة رضي الله عنه، قال في "الفتح": وفي الكلام شيء مطويّ، تقديره: فجاؤوا إلى أسامة، فكلّموه في ذلك، فجاء أسامة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكلّمه، ووقع في رواية يونس:"فَأَتَى بها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فكلّمه فيها"، فأفادت هذه الرواية أن الشافع يشفع بحضرة المشفوع له؛ ليكون أعذر له عنده إذا لم تُقْبَل شفاعته، وعند النسائيّ من رواية إسماعيل بن أمية:"فكلَّمه، فَزَبَره" - بفتح الزاي، والموحَّدة - أي: أغلظ له في النهي، حتى نسبه إلى الجهل؛ لأن الزبر - بفتح، ثم سكون - هو العقل، وفي رواية يونس:"فكلمه، فتَلَوَّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم"، زاد شعيب عند النسائيّ:"وهو يكلمه"، وفي مرسل حبيب بن أبي ثابت:"فلما أقبل أسامة، ورآه النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: لا تكلمني يا أسامة"

(1)

.

(فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟ ") بهمزة الاستفهام الإنكاريّ؛ لأنه كان سبق له منع الشفاعة في الحدّ قبل ذلك، زاد يونس، وشعيب:"فقال أسامة: استغفر لي يا رسول الله"، ووقع في حديث جابر الآتي آخر الباب عند مسلم، وهو عند النسائيّ أيضًا:"أن امرأة من بني مخزوم، سَرَقَت، فأُتي بها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فعاذت بأم سلمة" بذال معجمة؛ أي: استجارت، أخرجاه من طريق مَعْقِل بن عُبيد الله

(2)

، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، وذكره

(1)

"الفتح" 15/ 565.

(2)

وقع في نسخة "الفتح" هنا غلط، ولفظه:"من طريق معقل بن يسار، عن عبيد الله، عن أبي الزبير"، والصواب:"معقل بن عبيد الله، عن أبي الزبير"، فتنبّه.

ص: 401

أبو داود تعليقًا، والحاكم موصولًا، من طريق موسى بن عقبة، عن أبي الزبير، عن جابر:"فعاذت بزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم"

(1)

.

قال المنذريّ رحمه الله: يجوز أن تكون عاذت بكلّ منهما، وتعقبه الحافظ العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذيّ" بأن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ماتت قبل هذه القصّة؛ لأن هذه القصّة - كما تقدم - كانت في غزوة الفتح، وهي في رمضان سنة ثمان، وكان موت زينب رضي الله عنها قبل ذلك في جمادى الأولى من السنة، فلعل المراد أنها عاذت بزينب ربيبة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي بنت أم سلمة، فتصحّفت على بعض الرواة.

قال الحافظ رحمه الله: أو نُسِبت زينب بنت أم سلمة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم مجازًا؛ لكونها ربيبته، فلا يكون فيه تصحيف.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله الحافظ هو الأحوط، والأحسن من تغليط الرواة، فتأمل، والله تعالى أعلم.

ثم قال العراقيّ: وقد أخرج أحمد هذا الحديث من طريق ابن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، وقال فيه:"فعاذت بربيب النبيّ صلى الله عليه وسلم براء، وموحَّدة مكسورة - وحَذْف لفظ: "بنت"، وقال في آخره: قال ابن أبي الزناد: وكان ربيب النبيّ صلى الله عليه وسلم سلمة بن أبي سلمة، وعُمَر بن أبي سلمة، فعاذت بأحدهما.

قال الحافظ: وقد ظَفِرت بما يدلّ على أنه عمر بن أبي سلمة، فأخرج عبد الرزاق، من مرسل الحسن بن محمد بن عليّ، قال:"سَرَقت امرأة. . ." فذكر الحديث، وفيه:"فجاء عُمر بن أبي سلمة، فقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: أي أَبَهْ إنها عمتي، فقال: لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها"، قال عمرو بن دينار الراوي عن الحسن: فلم أشك أنها بنت الأسود بن عبد الأسد.

قال الحافظ: ولا منافاة بين الروايتين عن جابر، فإنه يُحْمَل على أنها استجارت بأم سلمة، وبأولادها، واختصها بذلك؛ لأنها قريبتها، وزوجها

(1)

في هذا الكلام نظر لا يخفى، فإن الذي في "المستدرك"، كما سيأتي بلفظ:"فعاذت بربيب النبيّ صلى الله عليه وسلم"، لا بلفظ:"بنت النبيّ صلى الله عليه وسلم"، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.

ص: 402

عمها، وإنما قال عمر بن أبي سلمة: عمتي من جهة السنّ، وإلا فهي بنت عمه، أخي أبيه، وهو كما قالت خديجة رضي الله عنها لورقة في قصّة المبعث:"أَيْ عَمِّ اسْمَع من ابن أخيك"، وهو ابن عمها، أخي أبيها أيضًا.

ووقع عند أبي الشيخ من طريق أشعث، عن أبي الزبير، عن جابر:"أن امرأة من بني مخزوم سَرَقت، فعاذت بأسامة"، وكأنها جاءت مع قومها، فكلموا أسامة بعد أن استجارت بأم سلمة.

ووقع في مرسل حبيب بن أبي ثابت: "فاستشفعوا على النبيّ صلى الله عليه وسلم بغير واحد، فكَلَّموا أسامة"

(1)

.

(ثُمَّ قَامَ، فَاخْتَطَبَ) افتعال من الخطبة؛ للمبالغة؛ أي: خطب خطبة بليغةً، وفي رواية يونس:"فلمّا كان العشيّ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبًا"(فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ) بحذف حرف النداء، وهو جائز في سعة الكلام، كما قال الحريريّ رحمه الله في "ملحة الإعراب":

وَحَذْفُ "يَا" يَجُوزُ فِي النِّدَاءِ

كَقَوْلِهِمْ "رَبِّ اسْتَجِبْ دُعَائِي"

وقال ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة":

وَغَيْرُ مَنْدُوبٍ وَمُضْمَرٍ وَمَا

جَا مُسْتَغَاثًا قَدْ يُعَرَّى فَاعْلَمَا

وَذَاكَ فِي اسْمِ الْجِنْسِ وَالْمُشَارِ لَهْ

قَلَّ وَمَنْ يَمْنَعْهُ فَانْصُرْ عَاذِلَهْ

وفي رواية البخاريّ: "فقال: يا أيها الناس" بإثبات حرف النداء، وفي رواية يونس التالية:"فقام خطيبًا، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعدُ".

(إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ)، وفي رواية أبن رُمح:"إنما هلك الذين من قبلكم"، وفي رواية يونس التالية:"فإنما أهلك الذين من قبلكم"، وفي رواية للبخاريّ:"إنما أضلّ من كان قبلكم"، قال في "الفتح": في رواية أبي الوليد: "هَلَكَ"، وفي رواية سفيان عند النسائيّ:"إنما هلك بنو إسرائيل".

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: الظاهر أن هذا الحصر ليس عامًّا، فإن بني إسرائيل كان فيهم أمور كثيرة تقتضي الإهلاك، فَيُحْمَل ذلك على حصر

(1)

"الفتح" 15/ 565 - 566، كتاب "الحدود" رقم (6788).

ص: 403

المخصوص، وهو الإهلاك بسبب المحاباة في الحدود، فلا ينحصر ذلك في حدّ السرقة.

قال الحافظ رحمه الله: يؤيد هذا الاحتمال ما أخرجه أبو الشيخ في "كتاب السرقة" من طريق زاذان، عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا:"إنهم عَطَّلوا الحدود عن الأغنياء، وأقاموها على الضعفاء"، والأمور التي أشار إليها ابن دقيق العيد منها: ما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في قصة اليهوديين اللذين زنيا، ومنها: ما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في أخذ الدية من الشريف إذا قَتَل عمدًا، والقصاص من الضعيف، وغير ذلك

(1)

.

(أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ)، وفي رواية سفيان عند النسائيّ:"حين كانوا إذا أصاب فيهم الشريف الحدّ تركوه، ولم يقيموه عليه"، وفي رواية إسماعيل بن أمية:"وإذا سرق فيهم الوضيع قطعوه".

(وَايْمُ اللهِ)، ووقع في رواية يونس التالية:"والذي نفسي بيده"، وفي رواية له عند البخاريّ:"والذي نفس محمد بيده".

[فائدة]: قوله: "وايم الله" - بكسر الهمزة، وبفتحها، والميم مضمومة - وحَكَى الأخفش كسرها مع كسر الهمزة، وهو اسم عند الجمهور، وحرف عند الزجاج، وهمزته همزة وصل عند الأكثر، وهمزة قطع عند الكوفيين، ومن وافقهم؛ لأنه عندهم جَمْع يمين، وعند سيبويه ومن وافقه أنه اسم مفرد، واحتجوا بجواز كسر همزته، وفتح ميمه، قال ابن مالك: فلو كان جمعًا لم تحذف همزته، واحتج بقول عروة بن الزبير لَمَّا أُصيب بولده ورجله:"لَيْمُنُكَ لئن ابتليتَ لقد عافيت"، قال: فلو كان جمعًا لم يتصرف فيه بحذف بعضه، قال: وفيه اثنتا عشرة لغة جمعتها في بيتين، وهما [من البسيط]:

هَمْزَ ايْمُ وَايْمُنُ فَافْتَحْ وَاكْسِرَ اوْ أَمُ قُلْ

أَوْ قُلْ مْ أَوْ مُنُ بِالتَّثْلِيثِ قَدْ شُكِلَا

وَأَيْمُنُ اخْتِمْ بِهِ و"اللهِ" كُلًّا أَضِفْ

إَلَيْهِ فِي قَسَمٍ تَسْتَوْفِ مَا نُقِلَا

قال ابن أبي الفتح تلميذ ابن مالك: فإنه أَمُ بفتح الهمزة، وهَيْمُ بالهاء بدل

(1)

"الفتح" 15/ 566.

ص: 404

الهمزة، وقد حكاها القاسم بن أحمد المعلم الأندلسيّ في "شرح المفصل".

قال الحافظ: وقد قدمت في أوائل هذا الشرح - يعني: فتح الباري - في آخر "التيمم" لغات في هذا، فبلغت عشرين، وإذا حُصِر ما ذُكِر هنا زادت على ذلك.

وقال غيره: أصله: يمين الله، ويُجمع أيمنًا، فيقال: وأيمن الله، حكاه أبو عبيدة، وأنشد لزهير بن أبي سُلْمَى [من الوافر]:

فَتُجْمَعُ أَيْمُنٌ مِنَّا وَمِنْكُمْ

بِمَقْسَمَةٍ تَمُورُ بِهَا الدِّمَاءُ

وقالوا عند القسم: وايمن الله، ثم كَثُر، فحذفوا النون، كما حذفوها مِن لم يكن، فقالوا: لم يك، ثم حذفوا الياء، فقالوا: أم الله، ثم حذفوا الألف، فاقتصروا على الميم مفتوحةً، ومضمومةً، ومكسورةً، وقالوا أيضًا: مِنُ الله بكسر الميم وضمها، وأجازوا في أيمن فتح الميم وضمها، وكذا في ايم، ومنهم من وصل الأَلِف، وجعل الهمزة زائدة، أو مسهّلة، وعلى هذا تبلغ لغاتها عشرين.

وقال الجوهريّ: قالوا: ايم الله، وربما حذفوا الياء، فقالوا: أم الله، وربما أبقوا الميم وحدها مضمومةً، فقالوا: مُ الله، وربما كسروها؛ لأنها صارت حرفًا واحدًا، فشبّهوها بالباء، قالوا: وألِفها ألِف وصْل عند أكثر النحويين، ولم يجيء ألف وصل مفتوحة غيرها.

وقد تدخل اللام للتأكيد، فيقال: لَيْمُن الله، قال الشاعر [من الطويل]:

فَقَالَ فَرِيقُ الْقَوْمِ لَمَّا نَشَدتُهُمْ

نَعَمْ وَفَرِيقٌ لَيْمُنُ اللهِ مَا نَدْرِي

وذهب ابن كيسان، وابن درستويه إلى أن ألِفها ألِف قطع، وإنما خُفِّفت همزتها، وطُرحت في الوصل؛ لكثرة الاستعمال.

وحَكَى ابن التين عن الداوديّ قال: ايم الله معناه: اسم الله، أُبدل السين ياءً، وهو غلطٌ فاحشٌ؛ لأن السين لا تبدل ياء.

وذهب المبرد إلى أنها عوض من واو القسم، وأن معنى قوله: وايم الله: والله لأفعلنّ.

ونُقِل عن ابن عباس أن يمين الله من أسماء الله، ومنه قول امرئ القيس [من الطويل]:

ص: 405

فَقُلْتُ يَمِينُ اللهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا

وَلَوْ قَطَّعُوا رَأْسِي لَدَيْكِ وَأَوْصَالِي

ومن ثَمّ قال المالكية، والحنفية: إنه يمين، وعند الشافعية: إن نوى اليمين انعقدت، وإن نوى غير اليمين لم ينعقد يمينًا، وإن أَطلق فوجهان: أصحهما لا ينعقد إلا إن نوى، وعن أحمد روايتان: أصحهما الانعقاد.

وحَكَى الغزالي في معناه وجهين: أحدهما أنه كقوله: تالله، والثاني: كقوله: أحلف بالله، وهو الراجح، ومنهم من سَوَّى بينه وبين لَعَمْر الله، وفَرَّق الماورديّ بأن لَعَمْر الله شاع في استعمالهم عُرفًا، بخلاف ايم الله.

واحتجّ بعض من قال منهم بالانعقاد مطلقًا بأن معناه: يمين الله، ويمين الله من صفاته، وصفاته قديمة.

وجزم النوويّ في "التهذيب" أن قول: وايم الله؛ كقوله: وحقِّ الله، وقال: إنه تنعقد به اليمين عند الإطلاق، وقد استغربوه، ذكر هذا البحث كلّه في "الفتح"

(1)

، وهو بحث مفيدٌ جدًّا.

(لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ) هذا من الأمثلة التي صحّ فيها أن "لو" حرف امتناع لامتناع، وقد لخّص السيوطيّ البحث فيه في "الكوكب الساطع" حيث قال:

و"لَو" لِشَرْطِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ

نَزْرٌ فَلِلرَّبْطِ فَقَطْ أَبُو عَلِي

وَللَّذِي كَانَ حَقِيقًا سَيَقَعْ

أَيْ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ عَمْرُو اتَّبَعْ

وَالْمُعْرِبُونَ وَالَّذِي فِي الْفَنِّ شَاعْ

بِأَنَّهَا حَرْفُ امْتِنَاعٍ لامْتِنَاعْ

وَالْمُرْتَضى امْتِنَاعُ مَا يَلِيهِ

مَعْ كَوْنِهِ يَسْتَلْزِمُ التَّالِيهِ

ثُمَّ إِذَا نَاسَبَ تَالٍ يَنْتَفِي

إِنْ أَوَّلًا خِلَافُهُ لَمْ يَخْلُفِ

كَقَوْلِهِ "لَوْ كَانَ" لِلآخِرِ لَا

ذُو خَلَفٍ وَيَثْبُتُ الَّذِي تَلَا

إِنْ لَمْ يُنَافِ وَبِأَوْلَى نَصِّهِ

نَاسَبَهُ "لَوْ لَمْ يَخَفْ لَمْ يَعْصِهِ"

أَوِ الْمُسَاوِي نَحْوُ "لَوْ لَمْ تَكُنِ

رَبِيبَتِي" الْحَدِيثَ أَوْ بِالأَدْوَنِ

وإن أردت إيضاح معاني الأبيات، فعليك بشرحي:"الجليس الصالح النافع بشرح الكوكب الساطع"(ص 130 - 133)، وبالله تعالى التوفيق.

(1)

"الفتح" 15/ 259 - 260، كتاب "الأيمان والنذور" رقم (6627).

ص: 406

وسيكون لنا عودة إلى تمام هذا البحث في "كتاب القدر" عند شرح حديث: "فإن "لو" تفتح عمل الشيطان" - إن شاء الله تعالى -.

وقد ذكر ابن ماجه عن محمد بن رُمح شيخِهِ في هذا الحديث: سمعت الليث يقول عقب هذا الحديث: قد أعاذها الله من أن تَسْرِق، وكلُّ مسلم ينبغي له أن يقول هذا.

ووقع للشافعيّ أنه لَمّا ذَكَر هذا الحديث قال: فذكر عضوًا شريفًا من امرأة شريفة، واستحسنوا ذلك منه لِمَا فيه من الأدب البالغ.

وإنما خَصّ صلى الله عليه وسلم فاطمة ابنته بالذِّكر؛ لأنها أعز أهله عنده، ولأنه لم يبق من بناته حينئذ غيرها، فأراد المبالغة في إثبات إقامة الحدّ على كل مكلَّف، وتَرْك المحاباة في ذلك، ولأن اسم السارقة وافق اسمها رضي الله عنها، فناسب أن يُضرَب المثل بها، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال الحافظ وليّ الدين العراقيّ رحمه الله: قوله: "لو كانت فاطمة. . . إلخ": فيه مبالغةٌ في النهي عن المحاباة في حدود الله تعالى، وإن فُرِضت في أبعد الناس من الوقوع فيها، وقد قال الليث بن سعد رحمه الله بعد روايته لهذا الحديث: وقد أعاذها الله من ذلك؛ أي: حَفِظها من الوقوع في ذلك، وحماها منه؛ إذ هي بِضْعةٌ من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا كقوله تعالى:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44)} الآية [الحاقة: 44]، وهو معصوم من ذلك، وقد سمعنا أشياخنا رحمهم الله عند قراءة هذا الحديث يقولون: أعاذها الله من ذلك، وبلغنا عن الإمام الشافعيّ رحمه الله أنه لم يَنْطِق هذا اللفظ إعظامًا لفاطمة رضي الله عنها، وإجلالًا لمحلها، وإنما قال: فذكر عضوًا شريفًا من امرأة شريفة، وما أحسن هذا، وأنزهه، والظاهر أن ذكر فاطمة رضي الله عنها دون غيرها؛ لأنها أفضل نساء زمانها، فهي عائشة

(2)

في النساء لا شيء بعدها، فلا يحصل تأكيد المبالغة إلا بذكرها، وانضم إلى هذا أنها عضو من النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فلم يحمله ذلك على

(1)

"الفتح" 15/ 567، كتاب "الحدود" رقم (6788).

(2)

هكذا نسخة "الطرح"، وفيها ركاكة، ولعل الصواب:"فهي وعائشة في النساء لا شيء بعدهما"؛ أي: في الفضل، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.

ص: 407

محاباتها في الحقّ، وفيها شيء آخر، وهو أنها مشارِكة هذه المرأة في الاسم، فينتقل اللفظ والذهن من إحداهما إلى الأخرى، وإن تباين ما بين المحلين. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله

(1)

وهو بحث نفيس، والله تعالى أعلم.

(لَقَطَعْتُ يَدَهَا")، وفي رواية البخاريّ:"لقطع محمد يدها"، وفيه تجريد، وقد سبق في حديث ابن عمر رضي الله عنهما:"قم يا بلال، فخذ بيدها، فاقطعها"، وفي رواية:"فأمَر بها، فقُطعت".

وفي رواية ابن المبارك عن يونس، عند البخاريّ:"ثم أمر بتلك المرأة التي سَرَقت، فقُطعت يدها"، وفي حديث جابر رضي الله عنه عند الحاكم:"فقطعها"، وذكر أبو داود تعليقًا عن محمد بن عبد الرحمن بن غَنَج، عن نافع، عن صفية بنت أبي عبيد، نحو حديث المخزومية، وزاد فيه:"قال: نشهد عليها".

وزاد يونس في روايته التالية: قالت عائشة: "فحسنت توبتها بعدُ، وتزوجت، وكانت تأتيني بعد ذلك، فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وأخرجه الإسماعيليّ، من طريق نعيم بن حماد، عن ابن المبارك، وفيه:"قال عروة: قالت عائشة"، ووقع في رواية شعيب، عند الإسماعيليّ في "الشهادات"، وفي رواية ابن أخي الزهريّ، عند أبي عوانة، كلاهما عن الزهريّ، قال: وأخبرني القاسم بن محمد، أن عائشة، قالت:"فنكحت تلك المرأة رجلًا من بني سُليم، وتابت، وكانت حسنة التلبس، وكانت تأتيني، فأرفع حاجتها. . ." الحديث.

قال الحافظ: وكأن هذه الزيادة، كانت عند الزهريّ، عن عروة، وعن القاسم جميعًا عن عائشة، وعندهما زيادة على الآخَر، وفي آخِر حديث مسعود بن الحكم، عند الحاكم:"قال ابن إسحاق: وحدّثني عبد الله بن أبي بكر، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، كان بعد ذلك يرحمها، ويَصِلُها"، وفي حديث عبد الله بن عمرو، عند أحمد:"أنها قالت: هل لي من توبة يا رسول الله، فقال: أنت اليوم من خطيئتك؛ كيوم ولدتك أمك". انتهى

(2)

.

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 8/ 215.

(2)

"الفتح" 15/ 567 - 568، كتاب "الحدود" رقم (6788).

ص: 408

وقوله: (وَفِي حَدِيثِ ابْنِ رُمْحٍ: "إِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ") أشار به إلى اختلاف شيخيه: قتيبة، ومحمد بن رُمح، فقال الأول:"إنما أهلك الذين قبلكم"، رباعيًّا، وقال الثاني:"إنما هلك الذين من قبلكم"، ثلاثيًّا، وبزيادة لفظة "من"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 4402 و 4403 و 4404](1688)، و (البخاريّ) في "الشهادات"(2648) و"أحاديث الأنبياء"(3475) و"المناقب"(3733) و"المغازي"(4304) و"الحدود"(6787 و 6788 و 6800)، و (أبو داود) في "الحدود"(4373)، و (الترمذيّ) في "الحدود"(1430)، و (النسائيّ) في "قطع السارق"(8/ 72 و 73 و 74 و 75) و"الكبرى"(4/ 332 و 333 و 334)، و (ابن ماجه) في "الحدود"(2547)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(10/ 202)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(9/ 465 - 466)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 70 و 6/ 162)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 173)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4402)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 17 و 18 و 19)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(328)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(805)، و (الحاكم) في "مستدركه"(2/ 27)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 253 - 254) و"الصغرى"(7/ 322) و"المعرفة"(6/ 305 و 474)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2603). والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان مشروعيّة قطع السارق مطلقًا، شريفًا كان أو وضيعًا.

2 -

(منها): منع الشفاعة في الحدود، وقد تقدم أن ذلك مقيّدٌ بما إذا انتهى ذلك إلى أولي الأمر، واختلف العلماء في ذلك، فقال أبو عمر بن عبد البر: لا أعلم خلافًا أن الشفاعة في ذوي الذنوب، حسنة جميلة، ما لم تبلغ السلطان، وأن على السلطان أن يقيمها، إذا بلغته. وذكر الخطابي،

ص: 409

وغيره، عن مالك: أنه فرَّق بين من عُرِف بأذى الناس، ومن لم يُعرَف، فقال: لا يُشفع للأول مطلقًا، سواء بلغ الإمام أم لا، وأما من لم يُعرف بذلك، فلا بأس أن يُشفع له ما لم يبلغ الإمام.

3 -

(ومنها): أنه تمسك بحديث الباب من أوجب إقامة الحد على القاذف، إذا بلغ الإمام، ولو عفا المقذوف، وهو قول الحنفية، والثوريّ، والأوزاعيّ، وقال مالك، والشافعيّ، وأبو يوسف: يجوز العفو مطلقًا، ويدرأ بذلك الحدّ؛ لأن الإمام لو وجده بعد عفو المقذوف، لجاز أن يقيم البينة بصدق القاذف، فكانت تلك شبهة قوية.

4 -

(ومنها): أن فيه دخول النساء مع الرجال في حدّ السرقة.

5 -

(ومنها): أن فيه قبول توبة السارق.

6 -

(ومنها): أن فيه منقبةً لأسامة بن زيد رضي الله عنهما.

7 -

(ومنها): أن فيه ما يدل على أن فاطمة رضي الله عنها، عند أبيها صلى الله عليه وسلم، في أعظم المنازل؛ فإن في القصة إشارةً إلى أنها الغاية في ذلك عنده. ذكره ابنُ هبيرة.

8 -

(ومنها): ما قيل: إنه يؤخذ منه أن فاطمة أفضل من عائشة رضي الله عنهما؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جعلها غاية في أعزّ الناس عليه، فدلالته ظاهرة، خلافًا لِمَا قاله الحافظ في "الفتح"، حيث بناه على ما سبق له من مناسبة اسم فاطمة لاسم السارقة.

9 -

(ومنها): أن فيه تركَ المحاباة في إقامة الحدّ، على من وجب عليه، ولو كان ولدًا، أو قريبًا، أو كبير القَدْر، والتشديد في ذلك، والإنكار على من رَخَّص فيه، أو تَعَرَّض للشفاعة فيمن وجب عليه.

10 -

(ومنها): أن فيه جوازَ ضرب المثل بالكبير القدر، للمبالغة في الزجر عن الفعل، ومراتب ذلك مختلفة، ولا يخفى ندب الاحتراز من ذلك، حيث لا يترجح التصريح بحسب المقام، كما تقدم نقله عن الليث، والشافعيّ - رحمهما الله تعالى -.

11 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه جواز الإخبار عن أمر مُقَدّر، يفيد القطع بأمر مُحَقَّق.

ص: 410

12 -

(ومنها): جواز الحلف من غير استحلاف، وهو مستحبّ إذا كان فيه تفخيم لأمر مطلوب، كما في هذا الحديث، ونظائره.

13 -

(ومنها): أن من حلف على أمر، لا يتحقق أنه يفعله، أو لا يفعله، لا يحنث؛ كمن قال لمن خاصم أخاه: والله لو كنتُ حاضرًا، لهشمت أنفك، خلافًا لمن قال: يحنث مطلقًا.

14 -

(ومنها): أن فيه جوازَ التوجُّع لمن أقيم عليه الحدّ، بعد إقامته عليه، وقد حَكَى ابن الكلبي في قصة أم عمرو بنت سفيان: أن امرأة أُسيد بن حُضير أَوَتها بعد أن قُطعت، وصَنَعت لها طعامًا، وأن أُسيدًا، ذكر ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ كالمنكر على امرأته، فقال:"رَحِمَتْها، رحمها الله".

15 -

(ومنها): أن فيه الاعتبارَ بأحوال من مضى، من الأمم، ولا سيما من خالف أمر الشرع.

16 -

(ومنها): أنه تمسّك به بعض من قال: إن شرع من قبلنا شرع لنا؛ لأن فيه إشارةً إلى التحذير من فعلِ الشيء الذي جَرَّ الهلاك إلى الذين من قبلنا؛ لئلا نهلك كما هلكوا، وفيه نظر، وإنما يتم أن لو لم يَرِد قطع السارق في شرعنا، وأما اللفظ العام فلا دلالة فيه على المدعى أصلًا، ذكر هذا كلّه في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: مسألة "شرعُ من قبلنا شرع لنا" قد تقدّم البحث عنها غير مرّة، وأن هذا هو الأرجح، وهو الذي جرى عليه البخاريّ، ومسلم، بل والمحدّثون عمومًا في مؤلفاتهم، حيث يبوّبون أبوابًا، ولا يوردون في ذلك الباب إلا حديثًا يتعلّق بذكر بني إسرائيل؛ كقول البخاريّ في "كتاب الأدب" من "صحيحه":"باب رحمة الناس، والبهائم"، ثم أورد فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينما رجل يمشي بطريق، اشتد عليه العطش، فوجد بئرًا، فنزل فيها، فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلبَ من العطش مثلُ الذي كان بلغ بي، فنزل البئر، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، فسقى الكلب، فشكر الله له،

(1)

"الفتح" 15/ 568 - 569، كتاب "الحدود"(6788).

ص: 411

فغفر له"، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ فقال: "نعم، في كل ذات كبد رطبة أجر". انتهى، ولو سلكت في تعداد ما في "صحيح البخاريّ، ومسلم" من ذلك لخرجت من المقصود، وقد ذكرت ذلك في هذا الشرح غير مرّة، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في سبب قطع هذه المرأة، هل هو جحد العارية، أم سرقتها؟، ومنشؤ الخلاف اختلاف الروايات في ذلك:

قال الحافظ رحمه الله في "الفتح" عند قوله: (أهمتهم المرأة المخزوميّة التي سَرَقَتْ) ما حاصله: زاد يونس في روايته: "في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، في غزوة الفتح"، ووقع بيان المسروق في حديث مسعود بن أبي الأسود المعروف بابن العجماء، فأخرج ابن ماجه، وصححه الحاكم، من طريق محمد بن إسحاق، عن محمد بن طلحة بن رُكانة، عن أمه عائشة بنت مسعود بن الأسود، عن أبيها، قال:"لَمّا سَرَقت المرأة تلك القطيفة، من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعظمنا ذلك، فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، نكلمه"، وسنده حسن، وقد صرَّح فيه ابن إسحاق بالتحديث، في رواية الحاكم، وكذا علّقه أبو داود، فقال: رَوَى مسعود بن الأسود، وقال الترمذيّ بعد حديث عائشة المذكور هنا:"وفي الباب عن مسعود بن العجماء"، وقد أخرجه أبو الشيخ في "كتاب السرقة"، من طريق يزيد بن أبي حبيب، عن محمد بن طلحة، فقال:"عن خالته بنت مسعود بن العجماء، عن أبيها"، فَيَحْتَمِل أن يكون محمد بن طلحة، سمعه من أمه، ومن خالته، ووقع في مرسل حبيب بن أبي ثابت:"أنها سرقت حُلِيًّا".

قال الحافظ: ويُمكن الجمع بأن الحُليّ، كان في القطيفة، فالذي ذَكر القطيفة، أراد بما فيها، والذي ذكر الحليّ، ذكر المظروف، دون الظرف، ثم رَجَح عندي أن ذِكر الحليّ في قصة هذه المرأة وَهَمٌ، كما سأبيّنه، ووقع في مرسل الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب، فيما أخرجه عبد الرزاق، عن ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار، أن الحسن أخبره، قال:"سرقت امرأة"، قال عمرو: وحسبت أنه قال: "من ثياب الكعبة. . ." الحديث، وسنده إلى

ص: 412

الحسن صحيح، فإن أمكن الجمع، وإلا فالأول أقوى.

وقد وقع في رواية معمر عن الزهريّ، في هذا الحديث: أن المرأة المذكورة، كانت تستعير المتاع، وتجحده، أخرجه مسلم، وأبو داود، وأخرجه النسائيّ، من رواية شعيب بن أبي حيزة، عن الزهريّ، بلفظ:"استعارت امرأة، على ألسنة ناس يُعْرَفون، وهي لا تُعْرَف حليًا، فباعته، وأخذت ثمنه. . ." الحديث، وقد بيّنه أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فيما أخرجه عبد الرزاق، بسند صحيح إليه: أن امرأة جاءت امرأةً، فقالت: إن فلانة تستعيرك حليًا، فأعارتها إياه، فمكثت لا تراه، فجاءت إلى التي استعارت لها، فسألتها؟ فقالت: ما استعرتك شيئًا، فرجعت إلى الأخرى، فأنكرت، فجاءت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فدعاها، فسألها، فقالت: والذي بعثك بالحقّ، ما استعرت منها شيئًا، فقال: اذهبوا إلى بيتها تجدوه تحت فراشها، فأتوه، فأخذوه، وأَمر بها. . ." الحديث.

فَيَحْتَمِل أن تكون سَرَقت القطيفة، وجحدت الحليّ، وأُطلق عليها في جحد الحلي في رواية حبيب بن أبي ثابت:"سرقت" مجازًا.

قال العراقيّ في "شرح الترمذيّ": اختُلِف على الزهريّ، فقال الليث، ويونس، وإسماعيل بن أمية، وإسحاق بن راشد:"سرقت"، وقال معمر، وشعيب:"إنها استعارت، وجحدت"، قال: ورواه سفيان بن عيينة، عن أيوب بن موسى، عن الزهريّ، فاختُلِف عليه سندًا ومتنًا، فرواه البخاريّ، عن عليّ ابن المدينيّ، عن ابن عيينة، قال: ذهبتُ أسأل الزهريّ، عن حديث المخزومية، فصاح عليَّ، فقلت لسفيان: فلم يحفظه عن أحد، قال: وجدت في كتاب كَتَبه أيوب بن موسى، عن الزهريّ، وقال فيه: إنها سرقت، وهكذا قال محمد بن منصور، عن ابن عيينة:"إنها سرقت"، أخرجه النسائيّ عنه، وعن رِزْق الله بن موسى، عن سفيان كذلك، لكن قال:"أُتي النبيّ صلى الله عليه وسلم بسارق، فقطعه. . ."، فذكره مختصرًا، ومثله لأبي يعلى، عن محمد بن عباد، عن سفيان.

وأخرجه أحمد، عن سفيان كذلك، لكن في آخره: قال سفيان: لا أدري ما هو؟ وأخرجه النسائي أيضًا عن إسحاق بن راهويه، عن سفيان، عن الزهريّ

ص: 413

بلفظ: "كانت مخزومية تستعير المتاع، وتجحده. . ." الحديث، وقال في آخره: قيل لسفيان: من ذكره؟ قال: أيوب بن موسى، فذكره بسنده المذكور، وأخرجه من طريق ابن أبي زائدة، عن ابن عيينة، عن الزهريّ بغير واسطة، وقال فيه:"سرقت". قال العراقيّ: وابن عيينة لم يسمعه من الزهريّ، ولا ممن سمعه من الزهريّ، إنما وجده في كتاب أيوب بن موسى، ولم يصرح بسماعه من أيوب بن موسى، ولهذا قال في رواية أحمد: لا أدري كيف هو؟ كما تقدم.

وجزم جماعة بأن معمرًا تفرد عن الزهريّ بقوله: "استعارت، وجحدت"، وليس كذلك، بل تابعه شعيب، كما ذكره العراقيّ عند النسائيّ، ويونس كما أخرجه أبو داود، من رواية أبي صالح، كاتب الليث، عن الليث، عنه، وعَلّقه البخاريّ لليث، عن يونس، لكن لم يَسُقْ لفظه، وكذا ذكر البيهقيّ أن شبيب بن سعيد، رواه عن يونس، وكذلك رواه ابن أخي الزهريّ، عن الزهريّ، أخرجه ابن أيمن في "مصنفه" عن إسماعيل القاضي بسنده إليه، وأخرج أصله أبو عوانة في "صحيحه".

قال الحافظ: والذي اتضح لي أن الحديثين محفوظان، عن الزهري، وأنه كان يحدِّث تارة بهذا، وتارة بهذا، فحدّث يونس عنه بالحديثين، واقتصرت كل طائفة من أصحاب الزهريّ، غير يونس على أحد الحديثين، فقد أخرج أبو داود، والنسائيّ، وأبو عوانة، في "صحيحه" من طريق أيوب، عن نافع، عن ابن عمر:"أن امرأة مخزومية، كانت تستعير المتاع، وتجحده، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقطع يدها"، وأخرجه النسائيّ، وأبو عوانة أيضًا، من وجه آخر، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، بلفظ:"استعارت حليًا". انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد اتّضح بما ذُكر أن رواية "سرقت"، ورواية "جحدت" ثابتتان؛ لكن سبب القطع هو السرقة، وأما الجحد، فهو لبيان أنها كانت متّصفة به، ومعروفة لدى الناس بذلك، ثم اتّفق أن سرقت يوم الفتح قطيفة، فقُطعت بذلك، وسيأتي مزيد تحقيق في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى - والله تعالى وليّ التوفيق.

(1)

"الفتح" 15/ 558 - 560 رقم (6788).

ص: 414

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في القطع بجحد العارية:

قد اختلف نظر العلماء في ذلك، فأخذ بالقطع به أحمد، في أشهر الروايتين عنه، وإسحاق، وانتصر له ابن حزم من الظاهرية. وذهب الجمهور، إلى أنه لا يُقطع في جحد العارية، وهي رواية عن أحمد أيضًا.

وأجابوا عن الحديث بأن رواية مَن رَوَى: "سرقت" أرجح، وبالجمع بين الروايتين بضرب من التأويل:

فأما الترجيح، فنقل النوويّ أن رواية معمر شاذة، مخالفة لجماهير الرواة، قال: والشاذة لا يُعْمَل بها، وقال ابن المنذر في "الحاشية"، وتبعه المحب الطبري: قيل إن معمرًا انفرد بها. وقال القرطبي: روايةُ "أنها سرقت" أكثر، وأشهر من رواية الجحد، فقد انفرد بها معمر وحده، من بين الأئمة الحفاظ، وتابعه على ذلك مَن لا يُقتدى بحفظه؛ كابن أخي الزهري، ونَمَطه، هذا قول المحدِّثين.

قال الحافظ: سبقه لبعضه القاضي عياض، وهو يُشعر بأنه لم يقف على رواية شعيب، ويونس بموافقة معمر؛ إذ لو وقف عليها لم يجزم بتفرد معمر، وأن من وافقه كابن أخي الزهري ونمطه، ولا زاد القرطبي نسبة ذلك للمحدثين؛ إذ لا يُعرف عن أحد من المحدِّثين أنه قَرَن شعيب بن أبي حمزة، ويونس بن يزيد، وأيوب بن موسى، بابن أخي الزهريّ، بل هم متفقون على أن شعيبًا، ويونس أرفع درجة في حديث الزهري، من ابن أخيه، ومع ذلك فليس في هذا الاختلاف، عن الزهري ترجيح بالنسبة إلى اختلاف الرواة عنه، إلا لكون رواية "سَرَقت" متفقًا عليها، ورواية "جَحَدت" انفرد بها مسلم، وهذا لا يدفع تقديم الجمع، إذا أمكن بين الروايتين، وقد جاء عن بعض المحدثين عكس كلام القرطبي، فقال: لم يُختَلف على معمر، ولا على شعيب، وهما في غاية الجلالة في الزهريّ، وقد وافقهما ابن أخي الزهري، وأما الليث، ويونس، وإن كانا في الزهري كذلك، فقد اختُلف عليهما فيه، وأما إسماعيل بن أمية، وإسحاق بن راشد، فدون معمر، وشعيب، في الحفظ.

قال الحافظ: وكذا اختُلف على أيوب بن موسى، كما تقدم، وعلى هذا فيتعادل الطريقان، ويتعيَّن الجمع، فهو أولى، من اطّراح أحد الطريقين.

ص: 415

فقال بعضهم، كما تقدم عن ابن حزم، وغيره: هما قصتان مختلفتان، لامرأتين مختلفتين. وتُعُقّب بأن في كل من الطريقين أنهم استشفعوا بأسامة، وأنه شَفَع، وأنه قيل له:"لا تشفع في حدّ من حدود الله"، فيبعُد أنّ أسامة يسمع النهي المؤكد عن ذلك، ثم يعود إلى ذلك مرة أخرى، ولا سيما إن اتحد زمن القصتين، وأجاب ابن حزم بأنه يجوز أن يَنسَى، ويجوز أن يكون الزجر عن الشفاعة في حد السرقة تقدم، فظن أن الشفاعة في جحد العارية جائز، وأن لا حد فيه، فشفع، فأُجيب بأن فيه الحد أيضًا.

ولا يخفى ضعف الاحتمالين.

وحَكَى ابن المنذر، عن بعض العلماء، أن القصة لامرأة واحدة، استعارت، وجحدت، وسرقت، فقُطعت للسرقة، لا للعارية، قال: وبذلك نقول.

وقال الخطابي في "معالم السنن" - بعد أن حكى الخلاف، وأشار إلى ما حكاه ابن المنذر -: وإنما ذُكرت العارية، والجحد في هذه القصة، تعريفًا لها بخاص صفتها، إذ كانت تُكثر ذلك، كما عُرفت بأنها مخزومية، وكأنها لمّا كَثُر منها ذلك، ترقَّت إلى السرقة، وتجرّأت عليها، وتَلَقَّف هذا الجواب من الخطابي جماعة، منهم البيهقي، فقال: تُحمل رواية مَن ذَكَر جحد الجارية على تعريفها بذلك، والقطع على السرقة، وقال المنذريّ نحوه، ونقله المازريّ، ثم النوويّ عن العلماء.

وقال القرطبيّ: يترجح أن يدها قُطعت على السرقة، لا لأجل جحد العارية من أوجه:

[أحدها]: قوله في آخر الحديث الذي ذُكرت فيه العارية: "لو أن فاطمة سَرَقت"، فإن فيه دلالة قاطعة على أن المرأة قُطعت في السرقة، إذ لو كان قَطْعها لأجل الجحد، لكان ذِكر السرقة لاغيًا، ولقال: لو أن فاطمة جَحَدت العارية. وهذا قد أشار إليه الخطابي أيضًا.

[ثانيها]: لو كانت قُطعت في جحد العارية، لوجب قطع كل من جحد شيئًا، إذا ثبت عليه، ولو لم يكن بطريق العارية.

[ثالثها]: أنه عارض ذلك حديث: "ليس على خائن، ولا مُختلس، ولا

ص: 416

مُنتهِب قَطْع"، وهو حديث قويّ، أخرجه الأربعة، وصححه أبو عوانة، والترمذيّ، من طريق ابن جُريج، عن أبي الزبير، عن جابر، رفعه، وصرَّح ابن جريج في رواية النسائي، بقوله: "أخبرني أبو الزبير"، ووَهَّم بعضهم هذه الرواية، فقد صرَّح أبو داود، بأن ابن جريج لم يسمعه من أبي الزبير، قال: وبلغني عن أحمد، إنما سمعه ابن جريج من ياسين الزيات، ونقل ابن عدي في "الكامل" عن أهل المدينة أنهم قالوا: لم يسمع ابن جريج من أبي الزبير، وقال النسائي: رواه الحفاظ من أصحاب ابن جريج عنه، عن أبي الزبير، فلم يقل أحد منهم: أخبرني، ولا أحسبه سمعه.

قال الحافظ: لكن وُجد له متابع عن أبي الزبير، أخرجه النسائي أيضًا، من طريق المغيرة بن مسلم، عن أبي الزبير، لكن أبو الزبير مدلس أيضًا، وقد عنعنه عن جابر، لكن أخرجه ابن حبان من وجه آخر، عن جابر بمتابعة أبي الزبير، فَقَوِيَ الحديث.

وقال الحافظ وليّ الدين رحمه الله بعد أن ذكر كلام النسائيّ المتقدّم - ما نصّه: فإن ترجّح أن ابن جريج لم يسمعه من أبي الزبير، فقد تابعه عليه مغيرة بن مسلم، فرواه عن أبي الزبير كذلك، ورواه النسائيّ من طريقه، وقولُ ابن حزم: مغيرة بن مسلم ليس بالقويّ، مردود، فقد وثّقه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأبو حاتم، وابن حبّان، والدارقطنيّ، وقد تابع أبا الزبير عليه عمرو بن دينار، رواه ابن حبّان في "صحيحه" من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، وعمرو بن دينار، عن جابر رضي الله عنه، فذكره، وهذا يردّ على قول ابن حزم في "الإيصال": إنه لم يروه أحد من الناس إلا أبو الزبير، عن جابر، فظهر بما قرّرناه قوّة هذا الحديث، وصلاحيته للاحتجاج به، ثم إننا نقيس المختلَف فيه من ذلك على المتّفَق عليه، فإن أحمد يجزم بعدم القطع على الخائن في العارية بغير الجحد، وعلى الخائن في الوديعة، وعلى المنتهب، والمختلس، والغاصب، فلم يقل أحد بالقطع في الجحد مطلقًا. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله

(1)

.

(1)

"طرح التثريب" 6/ 208.

ص: 417

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث: "ليس على خائن، ولا منتهب، ولا مختلس قطع" صحيح، كما حقّقته في "شرح النسائيّ"

(1)

.

قال في "الفتح": وقد أجمعوا على العمل به - أي: بحديث جابر المذكور - إلا من شذّ، فنقل ابن المنذر، عن إياس بن معاوية، أنه قال: المختلس يُقطع؛ كأنه ألحقه بالسارق؛ لاشتراكهما في الأخذ خُفْية، ولكنه خلاف ما صَرَّح به في الخبر، وإلا ما ذُكر من قطع جاحد العارية، وأجمعوا على أنه لا قطع على الخائن في غير ذلك، ولا على المنتهب، إلا إن كان قاطع طريق. والله أعلم.

وعارضه غيره ممن خالف، فقال ابن القيم الحنبلي: لا تنافي بين جحد العارية، وبين السرقة، فإن الجحد داخل في اسم السرقة، فيُجمع بين الروايتين بأن الذين قالوا:"سرقت" أطلقوا على الجحد سرقة. قال الحافظ: ولا يخفى بُعدُهُ.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: بُعد تسوية ابن القيّم بين الجحد والسرقة في المعنى مما لا يخفى، ومن أقوى ما يبطله: حديث النسائيّ، حيث إنه صلى الله عليه وسلم استتاب تلك المرأة التي كانت تجحد العارية مرارًا، فإن فيه بيان أنهما ليسا بمعنى واحد؛ لأنه لا خلاف أن السرقة إذا ثبتت عند الإمام لا يجوز له استتابة السارق، وقد استتاب صلى الله عليه وسلم هذه المرأة، فلو كان الجحد سرقةً، لَمَا استتابها، بل أمر بقطعها، فعلمنا أن الجحد ليس بمعنى السرقة، وأن قطع هذه المرأة إنما هو لكونها سرقت، بعد أن اعتادت جحد العارية، فافهم. والله تعالى أعلم.

قال: والذي أجاب به الخطابي مردود؛ لأن الحكم المرتَّب على الوصف، معمول به، ويقوّيه أن لفظ الحديث، وترتيبه في إحدى الروايتين القطعَ على السرقة، وفي الأخرى على الجحد، على حدّ سواء، وترتيب الحكم على الوصف، يُشعِر بالعِلِّية، فكل من الروايتين دال، على أن علة القطع كلٌّ من السرقة وجحد العارية على انفراده، ويؤيد ذلك أن سياق حديث ابن عمر ليس فيه ذكر للسرقة، ولا للشفاعة من أسامة، وفيه التصريح بأنها قُطعت في ذلك.

(1)

راجع: "ذخيرة العقبى" 37/ 98 - 101.

ص: 418

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في هذا الكلام نظرٌ؛ إذ يحتمل أن الرواية أيضًا فيها اختصار، كما في بعض روايات عائشة رضي الله تعالى عنها، فتأمل.

قال الحافظ: وأبسط ما وجدت من طرقه، ما أخرجه النسائي، في رواية له: أن امرأة كانت تستعير الحلي، في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستعارت من ذلك حليًّا، فجمعته، ثم أمسكته، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"لِتَتُب هذه المرأة إلى الله تعالى، وتؤدِّ ما عندها"، مرارًا، فلم تفعل، فأَمَر بها، فقُطعت.

وأخرج النسائي بسند صحيح، من مرسل سعيد بن المسيب: أن امرأة من بني مخزوم، استعارت حليًّا على لسان أناس، فجحدت، فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم، فقُطعت، وأخرجه عبد الرزاق بسند صحيح أيضًا، إلى سعيد، قال: أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة من بيت عظيم، من بيوت قريش، قد أتت أناسًا، فقالت: إن آل فلان، يستعيرونكم كذا، فأعاروها، ثم أتوا أولئك، فأنكروا، ثم أنكرت هي، فقَطعها النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال ابن دقيق العيد: صنيع صاحب "العمدة" حيث أورد الحديث بلفظ الليث، ثم قال: وفي لفظ، فذكر لفظ معمر، يقتضي أنها قصة واحدة، واختُلف فيها، هل كانت سارقة، أو جاحدة؟ يعني: لأنه أَوْرد حديث عائشة باللفظ الذي أخرجاه، من طريق الليث، ثم قال: وفي لفظ: كانت امرأة تستعير المتاع، وتجحده، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، وهذه رواية معمر في مسلم فقط، قال: وعلى هذا فالحجة في هذا الخبر، في قطع المستعير ضعيفة؛ لأنه اختلاف في واقعة واحدة، فلا يُبَتُّ الحكم فيه بترجيح من روى أنها جاحدة، على الرواية الأخرى؛ يعني: وكذا عكسه، فيصح أنها قُطعت بسبب الأمرين، والقطع في السرقة متفق عليه، فيترجح على القطع في الجحد المختلَف فيه.

قال الحافظ: وهذه أقوى الطرق في نظري، وقد تقدم الرد على من زعم أن القصة وقعت لامرأتين، فقُطعتا في أوائل الكلام على هذا الحديث، والإلزام الذي ذكره القرطبي، في أنه لو ثبت القطع في جحد العارية، للزم القطع في جحد غير العارية قويّ أيضًا، فإن من يقول بالقطع في جحد العارية، لا يقول به في جحد غير العارية، فيقاس المختلَف فيه على المتفق عليه، إذ لم يقل أحد بالقطع في الجحد على الإطلاق.

ص: 419

وأجاب ابن القيم بأن الفرق بين جحد العارية، وجحد غيرها، أن السارق لا يمكن الاحتراز منه، وكذلك جاحد العارية، خلاف المختلس من غير حرز، والمنتهب، قال: ولا شك أن الحاجة ماسة بين الناس إلى العارية، فلو علم المُعِير أن المستعير إذا جحد لا شيء عليه، لَجَرّ ذلك إلى سد باب العارية، وهو خلاف ما تدل عليه حكمة الشريعة، بخلات ما إذا عَلم أنه يُقطع، فإن ذلك يكون أدعى إلى استمرار العارية، وهي مناسبة لا تقوم بمجردها حجة، إذا ثبت حديث جابر رضي الله عنه في أن لا قطع على خائن.

وقد فَرَّ مِن هذا بعض من قال بذلك، فخص القطع بمن استعار على لسان غيره، مخادعًا للمستعار منه، ثم تصرف في العارية، وأنكرها لمّا طولب بها، فإن هذا لا يُقطع بمجرد الخيانة، بل لمشاركته السارق في أخذ المال خفية.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وفي هذا نظرٌ لا يخفى؛ لأن الذين قالوا بالقطع في جحد العارية، لم يقيّدوه بهذا القيد، فتبصّر.

والحاصل أن ما ذهب إليه الجمهور من أنه لا قطع على جاحد العارية هو الحقّ؛ لقوّة أدلّته، ومن أقواها حديث جابر رضي الله عنه مرفوعًا:"ليس على خائن، ولا منتهب، ولا مختلس قطع"، وهو حديث صحيح، واستتابة النبيّ صلى الله عليه وسلم للمرأة في جحدها العارية؛ إذ لو كان الجحد سرقة، لَمَا استتابها؛ لأن الإمام لا يستتيب السارق بلا خلاف، ومن أقواها أيضًا ما سبق قريبًا من كلام ابن دقيق العيد الذي قال فيه الحافظ: وهذه أقوى الطرق في نظري.

وقد أجاد ابن قُدامة رحمه الله في تصحيحه رواية أحمد أنه لا قطع على جاحد العَرِيّة، كما هو مذهب الجمهور، ودونك خلاصة عبارته:

واختلفت الرواية عن أحمد، في جاحد العارية، فعنه: عليه القطع، وهو قول إسحاق، ثم ذكر دليله، وهو حديث عائشة رضي الله عنها:"أن امرأة كانت تستعير المتاع، وتجحده. . ." الحديث، ثم قال: وعنه: لا قطع عليه، وهو قول الخرقي، وأبي إسحاق بن شاقلا، وأبي الخطاب، وسائر الفقهاء، وهو الصحيح - إن شاء الله تعالى - لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا قطع على الخائن"، ولأن الواجب قطع السارق، والجاحد غير سارق، وإنما هو خائن، فأشبه

ص: 420

جاحد الوديعة، والمرأة التي كانت تستعير المتاع، إنما قُطعت لسرقتها، لا بجحدها، ألا ترى قوله:"إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه"، وقولَهُ: و"الذي نفسي بيده، لو كانت فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، لقطعت يدها"، وفي بعض ألفاظ رواية هذه القصة، عن عائشة:"أن قريشًا أهمَّهم شأن المخزومية، التي سرقت"، وذكرت القصة، رواه البخاريّ، وفي حديث:"أنها سرقت قَطِيفة"، فروى الأثرم بإسناده، عن مسعود بن الأسود، قال:"لَمّا سَرَقت المرأة تلك القطيفة، من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعظمنا ذلك، وكانت امرأة من قريش، فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: نحن نَفْديها بأربعين أوقية، قال: تُطَهَّر خير لها، فلما سمعنا لِين قولِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتينا أسامة، فقلنا: كَلِّم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. . ." وذكر الحديث، نحو سياق عائشة، وهذا ظاهر في أن القصة واحدة، وأنها سرقت، فقُطعت بسرقتها، وإنما عَرَّفَتها عائشة بجحدها للعارية؛ لكونها مشهورة بذلك، ولا يلزم أن يكون ذلك سببًا، كما لو عَرَّفتها بصفة من صفاتها، وفيما ذكرنا جمعٌ بين الأحاديث، وموافقة لظاهر الأحاديث، والقياس، وفقهاء الأمصار، فيكون أولى، فأما جاحد الوديعة، وغيرها من الأمانات، فلا نعلم أحدًا يقول بوجوب القطع عليه. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله: قول سفيان المتقدم: ذهبت أسأل الزهريّ، عن حديث المخزومية التي سرقت، فصاح عليَّ مما يَكثر السؤال عنه، وعن سببه، وقد أوضح ذلك بعض الرواة، عن سفيان، فرأينا في كتاب "المحدِّث الفاصل" لأبي محمد الرامهرمزيّ، من طريق سليمان بن عبد العزيز، أخبرني محمد بن إدريس، قال: قلت لسفيان بن عيينة: كم سمعت من الزهريّ؟ قال: أما مع الناس، فما أحصي، وأما وحدي فحديث واحد، دخلت يومًا من باب بني شيبة، فإذا أنا به جالس إلى عمود، فقلت: يا أبا بكر، حدثني حديث المخزومية، التي قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدها، قال: فضرب وجهي بالحصى، ثم

(1)

"المغني" 12/ 416 - 418.

ص: 421

قال: قم، فما يزال عبد يَقدَم علينا بما نَكْره، قال: فقمت منكِرًا، فمرَّ رجل، فدعاه، فلم يسمع، فرماه بالحصى، فلم يبلغه، فاضطر إليّ، فقال: ادعه لي، فدعوته له، فأتاه، فقضى حاجته، فنظر إلي، فقال: تعال، فجئت، فقال: أخبرني سعيد بن المسيِّب، وأبو سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"العجماء جبار. . ." الحديث، ثم قال لي: هذا خير لك من الذي أردت.

قال الحافظ: وهذا الحديث الأخير أخرجه مسلم، والأربعة، من طريق سفيان، بدون قصة. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4403]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى - وَاللَّفْظُ لِحَرْمَلَةَ - قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النبيّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الَّتِي سَرَقَتْ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم؟، فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ، إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم؟، فَأُتِيَ بِهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَكَلَّمَهُ فِيهَا أُسَامَةُ بْنُ زيدٍ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟ "، فَقَالَ لَهُ أُسَامَةُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللهِ، فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ قَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَاخْتَطَبَ، فَأَثْنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَإِنِّي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا"، ثُمَّ أَمَرَ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقُطِعَتْ يَدُهَا، قَالَ يُونُسُ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا بَعْدُ، وَتَزَوَّجَتْ، وَكَانَتْ تَأْتِينِي بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم).

(1)

"الفتح" 15/ 563 - 564، كتاب "الحدود" رقم (6788).

ص: 422

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلّهم ذُكروا في السند الماضي، والباب الماضي.

وقوله: (شَأْنُ الْمَرْأَةِ الَّتِي سَرَقَتْ) هي على الصحيح فاطمة بنت أبي الأسود بن عبد الأسد المخزوميّة.

وقوله: (فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: تغيّر من شدّة غضبه.

وقوله: (أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟) إنكار على أسامة، يُفهم منه تحريم الشفاعة في الحدود إذا بلغت الإمام، وهذ لا خلاف فيه، وأما قبل البلوغ إليه، فأجازها أكثر العلماء؛ لِمَا جاء في الستر على المسلم مطلقًا، لكن قيّده مالك بمن لم يُعرف منه أذى الناس، وإلا فلا شفاعة

(1)

.

وقوله: (لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ. . . إلخ) إخبار عن مقدَّر يفيد القطع بأمر محقّق، وهو وجوب إقامة الحدّ على البعيد والقريب، والبغيض والحبيب، لا تنفع شفاعة، ولا تَحُول قرابة.

وقوله: (فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا بَعْدُ. . . إلخ) هذا يدلّ على صحة توبة السارق، وأنها ماحية لإثم السرقة، وللمعرّة اللاحقة، فيَحْرُم تعييره بذلك، وهكذا حُكْم أهل الكبائر إذا تابوا، وحَسُنَت توبتهم.

وقولها: (وَتَزَوَّجَتْ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرف زوجها

(2)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:

[4404]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَتِ امْرَأَةٌ مَخْزُومِيَّةٌ، تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ، وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُقْطَعَ يَدُهَا، فَأَتَى أَهْلُهَا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَكَلَّمُوهُ، فَكَلَّمَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فِيهَا، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ اللَّيْثِ، وَيُونُسَ).

(1)

راجع: "المفهم" 5/ 78 - 79.

(2)

"تنبيه المعلم" ص 290.

ص: 423

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، والباب الماضي.

[تنبيه]: رواية معمر، عن الزهريّ هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(6238)

- حدّثنا محمد بن يحيى، قثنا عبد الرزاق (ح) وحثنا الدَّبَريّ، قثنا عبد الرزاق، قال: أنبا معمر، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة، قالت: كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع، وتجحده، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، فأَتَى أهلُها أسامةَ فكلّموه، فكلَّمَ أسامةُ بن زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا أسامة ألا أراك تُكَلِّم في حدّ من حدود الله"، ثم قام النبيّ صلى الله عليه وسلم خطيبًا، فقال:"إنما هَلَك من كان قبلكم بأنه إذا سَرَق فيهم الشريف تركوه، وإذا سَرَق فيهم الضعيف قطعوه، والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها"، فقطعوا يد المخزومية. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4405]

(1689) - (وَحَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبيبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ سَرَقَتْ، فَأُتِيَ بِهَا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَعَاذَتْ بِأُمِّ سَلَمَةَ، زَوْجِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "وَاللهِ لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةُ لَقَطَعْتُ يَدَهَا"، فَقُطِعَتْ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ) المِسْمَعيّ النيسابوريّ، نزيل مكة، ثقةٌ، من كبار [11] مات سنة بضع و (24)(م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 60.

2 -

(الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ) هو: الحسن بن محمد بن أعين، نُسِب لجدّه، أبو عليّ الْحرّانيّ، صدوقٌ [9](ت 210)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

3 -

(مَعْقِلُ) بن عبيد الله الْجَزَريّ، أبو عبد الله الْعَبْسيّ مولاهم، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 166)(م د س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 118.

ص: 424

4 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ يُدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

5 -

(جَابِرُ) بن عبد الله بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بالمدينة بعد السبعين، وهو ابن (94) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

وقوله: (أَنَّ امْرَأةً مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ) تقدّم أنها فاطمة بنت أبي الأسود بن عبد الأسد المخزوميّة.

وقوله: (سَرَقَتْ) هذا هو الذي تمسّك به الجمهور، وهو الصحيح على أن قطع هذه المرأة كان لسرقتها، لا لجحدها العارية، ويؤيّد هذا ما في الحديث الآخر، من قوله صلى الله عليه وسلم:"لِتَتُب هذه المرأة، وتؤدّي ما عندها" مرَارًا؛ لأنه لو كان القطع للجحد لَمَا أمرها بالتوبة، وردّ ما أخذته، بل قطعها فورًا؛ لأن السارق لا يؤمر بالتوبة بعد ثبوت السرقة عليه، بل يُقطع، وقد سبق تمام هذا البحث قريبًا، فلا تنس نصيبك، والله تعالى وليّ التوفيق.

وقوله: (فَعَاذَتْ بِأُمِّ سَلَمَةَ. . . إلخ)؛ أي: التجأت إليها؛ لِتَشْفع لها حتى لا تُقطع يدها.

وقال في "الفتح": قوله: "فعاذت بأم سلمة" بذال معجمة؛ أي: استجارت، وقد أخرجه الحاكم من طريق موسى بن عقبة، عن أبي الزبير، عن جابر بلفظ:"فعاذت بزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم"، قال المنذريّ: يجوز أن تكون عاذت بكل منهما، وتعقبه العراقيّ بأن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ماتت قبل هذه القصة، ولعلها عاذت بزينب ربيبة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فتصحفت على بعض الرواة، أو نُسبت زينب بنت أم سلمة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم مجازًا؛ لكونها ربيبته، وجاء أيضًا: فعاذت بربيب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتقدّم أنه عمر بن أبي سلمة، قال الحافظ: ولا منافاة بين الروايتين عن جابر رضي الله عنه، فإنه يُحْمَل على أنها استجارت بأم سلمة، وبأولادها، واختصها بذلك؛ لأنها قريبتها، وزوْجَها عمُّها، ووقع عند أبي الشيخ من طريق أشعث، عن أبي الزبير، عن جابر أن امرأة من بني مخزوم سرقت، فعاذت بأسامة، وكأنها جاءت مع قومها، فكلموا أسامة بعد أن استجارت بأم سلمة.

قال الجامع عفا الله عنه: قولهم فيما عزوه إلى الحاكم: "فعاذت بزينب

ص: 425

بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم" هكذا قالوا، ولم أجده في "المستدرك"، بل الذي فيه - كما سيأتي -: "فعاذت بربيب النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وقد بيّن الحاكم أن الربيب هو سلمة بن أبي سلمة، فتنبّه، وراجع تمامه فيما سبق قريبًا، وبالله تعالى التوفيق.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

[فإن قلت]: كيف أخرج مسلم رواية معقل بن عُبيد الله، وهو متكلّم فيه؟.

[قلت]: لم ينفرد به معقل، بل تابعه غيره، فقد تابعه موسى بن عقبة، عن أبي الزبير، فقد أخرجه الحاكم في "مستدركه"، قال:

(8145)

- حدثني علي بن حمشاد العدل، ثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، ثنا سليمان بن داود الهاشميّ، ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: أُتي النبيّ صلى الله عليه وسلم بامرأة قد سرقت، فعاذت بربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لو كانت فاطمة لقطعت يدها"، فقطعها

(1)

.

ثم ذكر الحاكم أن الربيب المذكور هو سلمة بن أبي سلمة، لكن تقدّم أن الحافظ رجّح أنه عمر بن أبي سلمة، فتفطّن.

وتابعه أيضًا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، فقد أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، فقال:

(15188)

- ثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعة، حدّثنا أبو الزبير، أخبرني جابر: أن امرأة من بني مخزوم سرقت، فعاذت بأسامة بن زيد حِبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأُتي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"لو كانت فاطمة لقطعت يدها"، فقطعها. انتهى.

وابن لهيعة، وإن تُكُلّم فيه، لكنه لا بأس به في المتابعات، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(1)

"المستدرك على الصحيحين" للحاكم مع تعليقات الذهبي في التلخيص 4/ 379.

ص: 426

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 4405](1689)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(8/ 71) و"الكبرى"(4331)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 386)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 120)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 281)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(3) - (بَابُ حَدِّ الزِّنَا)

" الزنا": لغةً: الرُّقيّ على الشيء، وشرعًا: إيلاج الحشفة بفرج مُحَرَّم لعينه، خالٍ عن شُبهة، مُشتهى، وقيل: هو وطءٌ من قِبَلِ خالٍ عن ملكٍ، ونكاح، وشِبهه، قاله المناويّ

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: زَنَى يَزْنِي زِنًا مقصورٌ، فهو زَانٍ، والجمع: زُنَاةٌ، مثلُ قاض وقُضاة، وزَانَاهَا مُزَانَاةً، وزِنَاءً، مثلُ قاتل مقاتلةً، وقتالًا، ومنهم من يَجعل المقصور والممدود لغتين في الثلاثيّ، ويقول: المقصور لغة الحجاز، والممدود لغة نجد، وهو وَلَدُ زِنْيَةٍ بالكسر، والفتحُ لغةٌ، وهو خلاف قولهم: هو وَلَدُ رِشْدَةٍ، قال ابن السِّكِّيت: زِنْيَةٌ، وغِيَّةٌ بالكسر والفتح، والزِّنَا بالقصر يُثَنَّى بقلب الألف ياءً، فيقال: زِنَيَانِ، والنسبة إليه على لفظه، لكن بقلب الياء واوًا، فيقال: زِنَوِيٌّ؛ استثقالًا لتوالي ثلاث ياءات، فقول الفقهاء: قذفه بِزِنَيَيْنِ، هو مثنى الزِّنَا المقصور، والزَّنْيَةُ بالفتح: المَرّةُ، وزَنَّاهُ تَزْنِيَةً: نَسَبَهُ إلى الزِّنَا. انتهى

(2)

.

وقال ابن قُدامة رحمه الله في "المغني": الزنا حرام، وهو من الكبائر العظام، بدليل قول الله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)} [الإسراء: 32].

(1)

"التوقيف بمهمّات التعريف" ص 389 - 390.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 257.

ص: 427

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)} [الفرقان: 68، 69].

ورَوَى عبد الله بن مسعود، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله نِدًّا، وهو خلقك"، قال: قلت: ثم أيّ؟ قال: "أن تَقْتُل ولدك مخافة أن يَطْعَم معك"، قال: ثم أيّ؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك"، متّفقٌ عليه.

وكان حدّ الزاني في صدر الإسلام الحبس للثيب، والأذى بالكلام من التقريع والتوبيخ للبِكر؛ لقوله سبحانه وتعالى:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)} [النساء: 15، 16].

قال بعض أصحاب أهل العلم: المراد بقوله: {مِنْ نِسَائِكُمْ} الثيِّب؛ لأن قوله: من نسائكم إضافة زوجية؛ كقوله: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} الآية [البقرة: 226]، ولا فائدة في إضافته ها هنا نعلمها إلا اعتبار الثيوبة، ولأنه قد ذكر عقوبتين إحداهما أغلظ من الأخرى، فكانت الأغلظ للثيب، والأخرى للأبكار؛ كالرجم والجلد، ثم نُسخ هذا بما رَوَى عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جَلْد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم"، رواه مسلم، وأبو داود.

[فإن قيل]: فكيف يُنسخ القرآن بالسُّنَّة؟.

[قلنا]: قد ذهب بعض أصحابنا إلى جوازه؛ لأن الكلّ من عند الله، وإن اختلفت طرقه، ومن منع ذلك قال: ليس هذا نسخًا، إنما هو تفسير للقرآن وتبيين؛ لأن النسخ رفعُ حكيم ظاهره الإطلاق، فأما إن كان مشروطًا بشروط، وزال الشرط لا يكون نسخًا، وها هنا شَرَط الله تعالى حَبْسهن إلى أن يجعل لهن سبيلًا، فبيَّنت السُّنَّة السبيل، فكان بيانًا لا نسخًا.

ويمكن أن يقال: إن نَسخه حصل بالقرآن، فإن الجلد في كتاب الله،

ص: 428

والرجم كان فيه، فنُسخ رَسْمه، وبقي حكمه. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله

(1)

، وسيأتي البحث فيه قريبًا - إن شاء الله تعالى -.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4406]

(1690) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ حِطَّانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا: الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) تقدّم قبل باب.

2 -

(هُشَيْمُ) بن بَشِير، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(مَنْصُورُ) بن زاذان

(2)

الثقفيّ، أبو المغيرة الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [6](ت 129) على الصحيح (ع) تقدم في "الصلاة" 35/ 1019.

4 -

(الْحَسَنُ) بن أبي الحسن يسار الأنصاريّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ فاضلٌ مشهورٌ، لكنه يرسل كثيرًا، ويدلّس، رأس الطبقة [3](ت 110) وقد قارب التسعين (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 306.

5 -

(حِطَّانُ

(3)

بْنُ عَبْدِ اللهِ الرَّقَاشِيُّ) البصريّ، ثقةٌ [2] مات بعد السبعين (م 4) تقدم في "الصلاة" 16/ 909.

6 -

(عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ) بن قيس الأنصاريّ الْخَزرجيّ، أبو الوليد الصحابيّ المدنيّ، أحد النقباء، البدريّ، مات بالرملة سنة (34) وله (72) سنةً، وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.

(1)

"المغني" 9/ 38.

(2)

وقع في برنامج الحديث هنا غلط في هذه الترجمة؛ لأنهم ذكروا منصور بن المعتمر، والصواب منصور بن زاذان، صرّح به أبو عوانة في "مسنده"، وابن حبّان في "صحيحه"، والمزيّ في "تحفته"، فتنبّه، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(3)

بكسر الحاء، وتشديد الطاء المهملتين.

ص: 429

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أن فيه روايةَ تابعيّ، عن تابعيّ، الحسن، عن حِطّان، وأنَّ صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، عَقَبيّ، بدريّ، ويقال: كان طوله عشرة أشبار، كما في "التقريب"، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ حِطَّانَ) بكسر الحاء، وتشديد الطاء المهملتين (ابْنِ عَبْدِ اللهِ الرَّقَاشِيِّ) بفتح الراء، وتخفيف القاف، بعدها شين معجمة: نسبة إلى امرأة، اسمها رَقَاش بنت قيس، كثُر أولادها، فنُسبوا إليها، قاله في "اللباب"

(1)

. (عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي)؛ أي: اسمعوا منّي حكم الزنا، واعملوا به، وقال القرطبيّ رحمه الله: أي: افهموا عنّي تفسير السبيل المذكور في قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15]، واعملوا به، وذلك أن مقتضى هذه الآية: أن من زنى حُبِس في بيته إلى أن يموت، كذا قاله ابن عبّاس رضي الله عنهما في النساء، وحُكي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن ذلك حكم الزانيين؛ يعني: الرجل والمرأة، فكان ذلك الحبس هو حدّ الزناة؛ لأنه كان يحصل به إيلام الجاني وعقوبته، بأن يُمنع من التصرّف والنكاح وغيره طول حياته، وذلك عقوبة وزجر، كما يحصل من الجلد والتغريب، فحقيق أن يُسمّى ذلك الحبس حدًّا، غير أن ذلك الحكم كان محدودًا إلى غاية، وهي أن يبيّن الله لهنّ سبيلًا آخر غير الحبس، فلمّا بلغ وقت بيانه المعلوم عند الله أوضحه الله تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم، فبلَّغه لأصحابه، فقال لهم:"خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا: البكر بالبكر جلد مائة، وتغريب عام، والثيِّب بالثيِّب جلد مائة والرَّجم"، فارتفع حكم الحبس في البيوت؛ لانتهاء غايته، وهذا نحو قوله تعالى:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، فإذا جاء الليل ارتفع حكم الصيام؛ لانتهاء غايته، لا لنسخه، وبهذا يُعلم بطلان قول من قال: إن الحبس في البيوت في حقّ البكر

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 33.

ص: 430

منسوخ بالجلد المذكور في النُّور، وفي حق الثيِّب بالرَّجم المجمَع عليه، وهذا ليس بصحيح؛ لِمَا ذكرناه أوّلًا، ولأن الجمع بين الحبس، والجلد، والرَّجم ممكن، فلا تعارض، وهو شَرْط النسخ مع عِلْم المتأخِّر من المتقدِّم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: التكرير في قوله: "خُذوا عنّي" يدلّ على ظهور أمر قد خَفِي شأنه، وأُبْهِمَ بيانه، فإن قوله:"قد جعل الله لهن سبيلًا" مبهَم في التنزيل، ولم يُعلم ما تلك السبيل؛ أي: الحدّ الثابت في حقّ المحصَن وغيره، فقوله:"البكر بالبكر" إلى آخره بيان للمبهم، وتفصيل للمجمَل، على طريقة الاستئناف؛ مصداقًا لقوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، والتقسيم حاصرٌ من حيث المفهوم؛ لأن اللاتي يأتين الفاحشة لا تخلو إما أن تكون بكرًا، أو ثيّبًا، والأُولى إما زنت بالبكر، أو بالثيّب، والثانية أيضًا كذلك، فبيَّن في الحديث ما حدّ البكر بالبكر، والثيّب بالثيّب، وتَرَك ذِكر الثيّب مع البكر؛ لظهوره، ولحديث العسيف الآتي. انتهى

(2)

.

(قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا) قال التوربشتيّ رحمه الله: كان هذا القول حين شُرع الحدّ في الزاني والزانية، والسبيل هنا الحدّ؛ لأنه لم يكن مشروعًا ذلك الوقت، وكان الحكمُ فيه ما ذُكر في كتاب الله عز وجل:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)} [النساء: 15].

(الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ)؛ أي: زنا البكر بالبكر، وهو مبتدأ، خبره قوله:(جَلْدُ مِائَةٍ)؛ أي: حدّ زنا البكر جلد مائة؛ أي: ضربه مائة مرّة، يقال: جلدت الجاني جَلْدًا، من باب ضرب: ضربته بالْمِجْلَد - بكسر الميم - وهو السَّوْط، الواحدة جَلْدَةٌ، مثلُ ضَرْب، وضَرْبة

(3)

.

(1)

"المفهم" 5/ 80 - 81.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2513.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 104.

ص: 431

وقال الفيّوميّ: والبكر: خلاف الثيّب رجلًا كان، أو امرأةً، وهو الذي لم يتزوّج، وعليه قوله صلى الله عليه وسلم:"البكر بالبكر جلد مائة، وتغريب عام"، والمعنى: زنا البكر بالبكر فيه جلد مائة، أو حدُّه جلد مائة، والجمع أبكار، مثلُ حِمْل وأحمال.

قال: وقيل للإنسان إذا تزوّج: ثيّبٌ، وهو فَيْعِلٌ اسم فاعل، من ثاب: إذا رجع، وإطلاقه على المرأة أكثر؛ لأنها ترجع إلى أهلها بوجه غير الأول، ويستوي فيه الذكر والأنثى، كما يقال: أَيِّمٌ، وبِكْرٌ للذكر والأنثى، وجمْع المذكّر: ثَيِّبون بالواو والنون، وجمْع المؤنّث: ثيّبات، والمولَّدون يقولون: ثُيَّبٌ، وهو غير مسموع، وأيضًا ففَيعِلٌ لا يُجمع على فُعَّل. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "البكر بالبكر، والثيب بالثيب": فليس هو على سبيل الاشتراط، بل حدّ البكر الجلد، والتغريب، سواء زنى ببكر، أو ثيّب، وحدّ الثيّب الرجم، سواء زنى بثيّب، أو ببكر، فهو شبيه بالتقييد الذي يخرج على الغالب.

قال: واعلم أن المراد بالبكر من الرجال والنساء من لم يجامِع في نكاح صحيح، وهو حرّ، بالغٌ، عاقلٌ، سواء كان جامَعَ بوطءِ شبهة، أو نكاح فاسد، أو غيرهما، أم لا، والمراد بالثيب مَن جامع في دهره مرّة، من نكاح صحيح، وهو بالغٌ، عاقلٌ، حرّ، والرجل والمرأة في هذا سواء، وسواء في كلّ هذا المسلم، والكافر، والرشيد، والمحجور عليه لِسَفَه، والله أعلم. انتهى

(2)

.

(وَنَفْيُ سَنَةٍ)؛ أي: طَرْده، وإبعاده عن البلد سنةً حتى يستوحش، ويذوق مرارة فراق أهله، وأصحابه؛ عقوبةً لجنايته، (وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ) إعرابه كسابقه؛ أي: زنا الثيّب بالثيّب (جَلْدُ مِائَةٍ).

(وَالرَّجْمُ")؛ أي: رميه بالحجارة، يقال: رجمته، من باب نصر: ضربته بالرَّجَمِ، بفتحتين، وهي الحجارة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 59. مادة: (بكر)، و 1/ 87 مادة: (ثاب).

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 190.

ص: 432

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 4406 و 4407 و 4408 و 4409](1690)، و (أبو داود) في "الحدود"(4415 - 4416)، و (الترمذيّ) في "الحدود"(1434)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 270 و 6/ 320)، و (ابن ماجه) في "الحدود"(2/ 852)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 164)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 79)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 180)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 313 و 317 و 318 و 320)، و (الدارميّ) في "سُننه"(2/ 181)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4425 و 4426 و 4427)، و (سعيد بن منصور) في "سُننه"(3/ 1191)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(810)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 120 - 121)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 287)، و (البزّار) في "مسنده"(7/ 134)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 134)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 222)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ثبوت حدّ الزنا.

2 -

(ومنها): بيان أن حدّ الزنا قبل هذا الحديث كان الحبس في البيوت، كما بيَّنته آية النساء، ثم أتى البيان، فبيّن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن هذا هو ذلك السبيل، واختلف العلماء في هذه الآية، فقيل: هي محكمة، وهذا الحديث مفسِّر لها، وقيل: منسوخة بالآية التي في أول سورة النور، وقيل: إن آية النور في البِكْرَين، وهذه الآية في الثَّيِّبَيْن

(1)

.

3 -

(ومنها): بيان أن حدّ زنا البكر بالبكر جلد مائة، وتغريب عام.

4 -

(ومنها): بيان أن حدّ الزاني الثيّب هو الرجم بالحجارة إلى أن يموت، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 189.

ص: 433

(المسألة الرابعة): في أقوال أهل العلم في حدّ الزنا:

قال النوويّ رحمه الله: أجمع العلماء على وجوب جلد الزاني البكر مائة، ورجم المحصَن، وهو الثيب، ولم يُخالف في هذا أحد من أهل القبلة، إلا ما حَكَى القاضي عياض وغيره عن الخوارج، وبعض المعتزلة؛ كالنظام، وأصحابه، فإنهم لم يقولوا بالرجم، واختلفوا في جلد الثيب مع الرجم، فقالت طائفة: يجب الجمع بينهما، فيُجلد، ثم يرجم، وبه قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، والحسن البصريّ، وإسحاق بن راهويه، وداود، وأهل الظاهر، وبعض أصحاب الشافعيّ، وقال جماهير العلماء: الواجب الرجم وحده، وحكى القاضي عن طائفة من أهل الحديث أنه يجب الجمع بينهما، إذا كان الزاني شيخًا ثيبًا، فإن كان شابًّا ثيبًا اقتُصِر على الرجم، قال: وهذا مذهب باطل، لا أصل له.

وحجة الجمهور أن النبيّ صلى الله عليه وسلم اقتَصَر على رجم الثيب في أحاديث كثيرة، منها قصة ماعز، وقصة المرأة الغامدية، وفي قوله صلى الله عليه وسلم:"واغدُ يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها".

قالوا: وحديث الجمع بين الجلد والرجم منسوخ، فإنه كان في أول الأمر.

قال: وأما قوله صلى الله عليه وسلم في البكر: ونفيُ سنة، ففيه حجة للشافعيّ، والجماهير أنه يجب نفيه سنةً، رجلًا كان، أو امرأةً، وقال الحسن: لا يجب النفي، وقال مالك، والأوزاعيّ: لا نفي على النساء، ورُوي مثله عن عليّ رضي الله عنه، وقالوا: لأنها عورة، وفي نفيها تضييع لها، وتعريض لها للفتنة، ولهذا نُهيت عن المسافَرة إلا مع مَحْرَم.

وحجة الشافعيّ قوله صلى الله عليه وسلم: "البكر بالبكر جلد مائة، ونفيُ سنة".

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما ذهب إليه الشافعيّ من ثبوت التغريب هو الأرجح؛ لقوة حجته، فتأمل، والله تعالى أعلم.

قال: وأما العبد والأمة ففيهما ثلاثة أقوال للشافعيّ:

أحدها: يُغَرَّب كل واحد منهما سنة؛ لظاهر الحديث، وبهذا قال سفيان الثوريّ، وأبو ثور، وداود، وابن جرير.

ص: 434

والثاني: يُغَرَّب نصف سنة؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، وهذا أصح الأقوال عند أصحابنا، وهذه الآية مخصِّصة لعموم الحديث، والصحيح عند الأصوليين جواز تخصيص السُّنَّة بالكتاب؛ لأنه إذا جاز تخصيص الكتاب بالكتاب، فتخصيص السُّنَّة به أولى.

والثالث: لا يُغَرَّب المملوك أصلًا، وبه قال الحسن البصريّ، وحماد، ومالك، وأحمد، وإسحاق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الأَمة إذا زنت:"فليجلدها"، ولم يذكر النفي، ولأن نفيه يَضُرّ سيده، مع أنه لا جناية من سيده.

وأجاب أصحاب الشافعيّ عن حديث الأَمة إذا زنت أنه ليس فيه تعرُّض للنفي، والآية ظاهرة في وجوب النفي، فوجب العمل بها، وحَمْل الحديث على موافقتها. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي القول الثالث، وهو عدم تغريب المملوك هو الأرجح؛ لوضوح حجته، فتأمل، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: أجمعت الأمّة على أن البكر، وتعني به الذي لم يُحْصَن إذا زنى جُلِدَ الحدَّ، وجمهور العلماء من الخلفاء، والصحابة، والتابعين، ومن بعدهم، على وجوب التغريب مع الحدّ إلا أبا حنيفة، وصاحبه محمد بن الحسن، فإنَّهما قالا: لا تغريب عليه، فإن النصّ الذي في الكتاب إنَّما هو على جلد الزاني، والتغريب زيادةٌ عليه، والزيادة على النصّ نسخٌ فَيَلْزم عليه نسخ القرآن القاطع بخبر الواحد، فإن التغريب إنما ثبت بخبر الواحد.

والجواب: أنّا لا نسلِّم: أن الزيادة على النص نسخٌ، بل زيادة حكم آخر مع الأصل، فلا تعارض، فلا نَسْخ، وقد بيَّنا ذلك في الأصول، سلَّمنا ذلك، لكن هذه الآية ليست بنصٍّ، بل عموم ظاهرٌ، فيخصَّص منها بعض الزناة بالتغريب، كما يخصَّص بعضهم بالرَّجم، ثمَّ يلزمهم ردُّ الحكم بالرجم فإنه زيادة على نصّ القرآن، وهو ثابت بأخبار الآحاد. ولو سلَّمنا: أن الرَّجم ثبت بالتواتر، فشَرْطه الذي هو الإحصان ثَبَت بأخبار الآحاد، ثم هُمْ قد نقضوا هذه

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 189.

ص: 435

القاعدة التي تعدَّوها في مواضع كثيرةٍ بيَّناها في الأصول.

ومن أوضح ذلك: أنهم أجازوا الوضوء بالنبيذ معتمدين في ذلك على خبر ضعيف لم يصحّ عند أهل العلم بالحديث، وهو زيادة على ما نصّ عليه القرآن من استعمال الماء.

ثم القائلون بالتغريب اختلفوا فيه، فقال مالك: ينفى من مصر إلى الحجاز وشَغْب وأسوان ونحوها، ومن المدينة إلى خيبر وفدك، وكذلك فَعَل عمر بن عبد العزيز. وقد نفى عليٌّ رضي الله عنه من الكوفة إلى البصرة. قال مالك: ويحبس في البلد الذي نُفي إليه. وقيل: يُنفى إلى عمل غير عمل بلده. وقيل: إلى غير بلده. وقال الشافعي: أقلُّ ذلك يوم وليلة.

قلت: والحاصل: أنَّه ليس في ذلك حدٌّ محدود، وإنَّما هو بحسب ما يراه الإمام، فيختلف بحسب اختلاف أحوال الأشخاص على حسب ما يراه أردع.

ثمَّ القائلون بالتغريب لم يختلفوا في تغريب الذكر الحرّ. واختلفوا في تغريب المرأة والعبد. فمن رأى التغريب فيهما؛ أخذ بعموم حديث التغريب، وحاصل ذلك: أن في إخراجها من بيتها إلى بلد آخر تعريضها لكشف عورتها، وتضييعٌ لحالها، وربما يكون ذلك سببًا لوقوعها فيما أُخرجت من سببه، وهو الفاحشة. ومآل هذا البحث تخصيص عموم التغريب بالمصلحة المشهود لها بالاعتبار، وهو مختلَف فيه، كما ذكرناه في الأصول. قال: وقوله: "والثيِّب بالثيِّب جلد مائة والرَّجم": الثيب هنا: هو المحصَن، وهو البالغ، العاقل، الحرّ، المسلم، الواطئ وطئًا مباحًا في عقد صحيح، هذه شروط الإحصان عند مالك، وقد اختُلف في بعضها. ولبيان ذلك موضع آخر. فإذا زنى المحصَن وجب الرَّجم باجماع المسلمين، ولا التفات لإنكار الخوارجِ والنّظَّامِ الرَّجْمَ، إمَّا لأنهم ليسوا بمسلمين عند من يكفِّرهم، وإما لأنَّهم لا يُعتدُّ بخلافهم؛ لظهور بدعتهم وفِسقهم على ما قرَّرنا في الأصول.

وهل يُجمع عليه الجلد والرَّجم؟ كما هو ظاهر هذا الحديث؛ وبه قال الحسن البصريّ، وإسحاق، وداود، وأهل الظاهر. وروي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: أنَّه جمع ذلك على شراحة، وقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها

ص: 436

بسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يقتصر على الرَّجم وحده؟ وهو مذهب الجمهور، متمسكين بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم رجم ماعزًا والغامدية ولم يجلدهما، وقال:"اغْدُ يا أُنَيْس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها"، ولم يذكر الجَلْد، فلو كان مشروعًا لَمَا سكت عنه، وكأنَّهم رأوا: أن هذا أرجح من حديث الجمع بين الجلد والرَّجم، إما لأنَّه منسوخ إن عُرِف التاريخ، وإمَّا لأن العمل المتكرر من النبيّ صلى الله عليه وسلم في أوقات متعددة أثبت في النفوس، وأوضح، فيكون أرجح، وقد شذَّت طائفة فقالت: يُجْمَع الجلد والرجم على الشيخ، ويُجلد الشابُّ تمسُّكًا بظاهر لفظ "الشيخ"، وهو خطأ، فإنَّه قد سَمَّاه في الحديث الآخَر:"الثيب". انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد أسلفت الأرجح عندي في هذه المسائل عند كلام النوويّ، فلا تنس، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4407]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا مَنْصُورٌ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير البغداديّ، تقدّم قبل باب.

و"هُشيم"، و"منصور بن زاذان" ذُكرا قبله.

وقوله: (وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا مَنْصُورٌ) قال النوويّ رحمه الله: في هذا الكلام فائدتان:

إحداهما: بيان أن الحديث رُوِي من طريق آخر، فيزداد قُوّةً.

والثانية: أن هُشيمًا مُدلِّس، وقد قال في الرواية الأولى:"عن منصور"، وبَيَّن في الثانية أنه سمعه من منصور، وقد سبق التنبيه على مثل هذا مرات. انتهى

(2)

.

(1)

"المفهم" 5/ 81 - 84.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 190.

ص: 437

[تنبيه]: رواية عمرو الناقد، عن هُشيم هذه ساقها سعيد بن منصور رحمه الله في "سُننه"، فقال:

(594)

- حدّثنا سعيد، قال: نا هُشيم، قال: نا منصور، عن الحسن، قال: نا حِطّان بن عبد الله الرَّقَاشِيّ، عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خُذوا عني، فقد جعل الله لهنّ سبيلًا، البكر بالبكر جلد مائة، وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة، ثم الرجم". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4408]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ جَمِيعًا، عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ حِطَّانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: كَانَ نَبِيُّ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كُرِبَ لِذَلِكَ، وَتَرَبَّدَ لَهُ وَجْهُهُ - قَالَ - فَأُنْزِلَ عَلَيْهِ ذَاتَ يَوْمٍ

(2)

، فَلُقِيَ كَذَلِكَ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ: "خُذُوا عَنِّي، فَقَدْ جَعَلَ اللهُ

(3)

لَهُنَّ سَبِيلًا: الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ، وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ، الثَّيِّبُ جَلْدُ مِائَةٍ، ثُمَّ رَجْمٌ

(4)

بِالْحِجَارَةِ، وَالْبِكْرُ جَلْدُ مِائَةٍ، ثُمَّ نَفْيُ سَنَةٍ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل باب.

2 -

(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد المعروف ببندار، تقدّم قبل بابين.

3 -

(عَبْدُ الأَعْلَى) بن عبد الأعلى الساميّ البصريّ، أبو محمد، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.

4 -

(سَعِيدُ) بن أبي عروبة مِهران اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف، لكنه كثير التدليس، واختَلَط [6](ت 6 أو 157)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

(1)

"سنن سعيد بن منصور" 3/ 1191.

(2)

وفي نسخة: "فأنزل الله ذات يوم".

(3)

وفي نسخة: "قد جعل الله".

(4)

وفي نسخة: "ثم رجمًا".

ص: 438

5 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ يُدلّس، رأس الطبقة [4](117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (كَانَ نَبِيُّ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كُرِبَ لِذَلِكَ) ببناء الفعلين للمفعول؛ أي: إذا أنزل الله تعالى عليه الوحي أصابه لذاك همّ؛ لشدّته، يقال: كَرَبه الأمر كَرْبًا، من باب نصر: شقّ عليه، فهو مكروب؛ أي: مهموم، والْكُربة: اسم منه، مثلُ غُرْفة وغُرَف

(1)

.

وقوله: (وَتَرَبَّدَ لَهُ وَجْهُهُ)؛ أي: عَلَته غَبَرة، والرُّبْدَةُ: تغيّر البياض إلى السواد

(2)

، وإنما حصل له صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لعِظم موقع الوحي، قال الله تعالى:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)} [المزمل: 5]

(3)

.

وقوله: (فَأُنْزِلَ عَلَيْهِ ذَاتَ يَوْمٍ) بالبناء للمفعول، وفي بعض النسخ:"فأنزل الله عليه ذات يوم".

وقوله: (فَلُقِيَ كَذَلِكَ) بالبناء للمفعول؛ أي: لقي الناسُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو في تلك الحالة، من كَرْبه، وتربّد وجهه؛ لنزول الوحي.

وقوله: (فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ) بضم أوله، وتشديد الراء، مبنيًّا للمفعول؛ أي: كُشف ذلك الكرب، وأزيل عنه صلى الله عليه وسلم بانتهاء الوحي.

وقوله: (ثُمَّ رَجْمٌ) بالرفع عطفًا على "جلد"، وفي بعض النسخ:"ثم رجمًا" بالنصب، فيكون مفعولًا مطلقًا لفعل محذوف؛ أي: ثم يُرجم رجمًا.

وقوله: (بِالْحِجَارَةِ) قال النوويّ رحمه الله: التقييد بالحجارة للاستحباب، ولو رُجم بغيرها جاز، وهو شبيه بالتقييد بها في الاستنجاء. انتهى

(4)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 529.

(2)

وفي "المصباح": الرُّبْدَة وزانُ غُرْفة: لونٌ يختلط سواده بكُدرة، وشاةٌ رَبْدَاءُ، وهي السوداء الْمُنَقَّطَة بحمرة وبياض. انتهى.

(3)

"شرح النوويّ" 11/ 190.

(4)

"شرح النوويّ" 11/ 190.

ص: 439

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4409]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِهِمَا:"الْبِكْرُ يُجْلَدُ، وَيُنْفَى، وَالثَّيِّبُ يُجْلَدُ وَيُرْجَمُ"، لَا يَذْكُرَانِ سَنَةً، وَلَا مِائَةً).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغندر، تقدّم قبل بابين.

2 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم أيضًا قبل بابين.

3 -

(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدستوائيّ البصريّ، صدوقٌ، ربّما وَهِمَ [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

4 -

(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية شعبة، عن قتادة ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(22782)

- ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن حِطّان بن عبد الله الرَّقَاشيّ، عن عُبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خُذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا: الثيب بالثيب، والبكر بالبكر، الثيب يُجْلَد، ويُرْجَم، والبكر يُجْلَد، ويُنْفَى". انتهى

(1)

.

وأما رواية هشام الدَّستوائيّ، عن قتادة، فساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(6253)

- حدّثنا يزيد بن سنان في "المسند"، قثنا معاذ بن هشام، قال: حدّثني أبي، عن قتادة، عن الحسن، عن حِطَّان بن عبد الله الرَّقَاشِيّ، عن عُبادة بن الصامت: أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أُنزِل عليه ذاتَ يومٍ، فنَكَّس أصحابه

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 5/ 320.

ص: 440

رؤوسهم، فلما سُرِّي عنه رفعوا رؤوسهم، فقال:"خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا: الثيب بالثيب، والبكر بالبكر، أما الثيب فيُجْلَد، ثم يُرْجَمُ، وأما البكر فيُجْلَدُ، ثم يُنْفَى". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(4) - (بَابُ رَجْمِ الثَّيِّبِ فِي الزِّنَا)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4410]

(1691) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَكَانَ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْه

(2)

آيَةُ الرَّجْمِ، قَرَأْنَاهَا، وَوَعَيْنَاهَا، وَعَقَلْنَاهَا، فَرَجَمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ، أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: مَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللهُ، وَإِنَّ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ حَقٌّ، عَلَى مَنْ زَنَى، إِذَا أَحْصَنَ، مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الْحَبَلُ، أَو الِاعْتِرَافُ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ) بن مسعود الْهُذليّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 94)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ) الحبر البحر رضي الله عنهما، المتوفّى سنة (68)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 121.

(2)

وفي نسخة: "فكان مما أنزل الله عليه".

ص: 441

3 -

(عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) بن نُفيل العدويّ، أبو حفص الخليفة الراشد، استُشهد رضي الله عنه في ذي الحجة سنة (32)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

والباقون تقدّموا قبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، وتابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أحد الخلفاء الراشدين المهديين، وفيه حَبر الأمة، وبحرها، وفيه عبيد الله أحد الفقهاء السبعة.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ أنه (قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه، رواية المصنّف رحمه الله مختصرة، وفي الحديث قصّة طويلة، ساقها البخاريّ رحمه الله في "كتاب الحدود" مطوّلةً، فقال:

(6830)

- حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدّثني إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس، قال: "كنت أقرئ رجالًا من المهاجرين، منهم عبد الرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى، وهو عند عمر بن الخطاب، في آخر حَجة حَجَّها، إذ رجع إليّ عبد الرحمن، فقال: لو رأيت رجلًا أتى أمير المؤمنين اليوم، فقال: يا أمير المؤمنين، هل لك في فلان

(1)

؟ يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلانًا

(2)

، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فَلْتَةً

(3)

، فتَمَّتْ، فغَضِب عمر، ثم قال: إني إن شاء الله لقائم العشيةَ في الناس، فمحَذِّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يَغْصِبوهم أمورهم، قال عبد الرحمن: فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الموسِمَ يجمع رَعَاعَ الناس

(4)

، وغَوْغَاءهم

(5)

، فإنهم هم الذين يغلبون على

(1)

لم يُعرف.

(2)

هو طلحة بن عبيد الله.

(3)

أي: فجأةً.

(4)

الرَّعاع: بفتح الراء: الجهلة الرذلاء، وقيل: الشباب منهم.

(5)

"الغوغاء": السفلة المتسرعون إلى الشر، وهو في الأصل: صغار الجراد حين يبدأ بالطيران.

ص: 442

قربك، حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم، فتقول مقالةً، يُطِيرها عنك كلُّ مُطِير

(1)

، وأن لا يَعُوها، وأن لا يَضَعُوها على مواضعها، فأَمْهِلْ حتى تَقْدَم المدينة، فإنها دار الهجرة، والسُّنَّة، فَتَخْلُصَ بأهل الفقه، وأشراف الناس، فتقول ما قلت، متمكنًا، فيعي أهل العلم مقالتك، ويَضَعُونها على مواضعها، فقال عمر: والله - إن شاء الله - لأقومنّ بذلك أوّل مقام أقومه بالمدينة، قال ابن عباس: فقَدِمنا المدينة في عقب ذي الحجة، فلما كان يوم الجمعة، عَجَّلت الرواح حين زاغت الشمس، حتى أجدَ سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيل جالسًا إلى ركن المنبر، فجلست حوله، تَمَسّ ركبتي ركبته، فلم أنْشَب أن خرج عمر بن الخطاب، فلمّا رأيته مقبلًا قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: ليقولنّ العشيةَ مقالةً لم يقلها منذ استُخْلِف، فأنكر عليّ، وقال: ما عسيت أن يقول ما لم يقل قبله، فجلس عمر على المنبر، فلما سكت المؤذنون قام، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد فإني قائل لكم مقالةً قد قُدِّرَ لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين يدي أجلي، فمن عَقَلها، ووعاها، فليُحَدِّث بها، حيث انتهت به راحلته، ومن خَشِي أن لا يعقلها، فلا أُحِلّ لأحد أن يكذب عليّ، إن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله آية الرجم، فقرأناها، وعَقَلْناها، ووعيناها، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله، فيَضِلُّوا بترك فريضة أنزلها الله، والرجم في كتاب الله حقّ على من زنى، إذا أُحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحَبَل، أو الاعتراف، ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله: أنْ لا ترغبوا عن آبائكم، فإنه كُفْر بكم أن ترغبوا عن آبائكم، أو إنَّ كفرًا بكم أنْ ترغبوا عن آبائكم، ألا ثُمَّ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تُطروني كما أُطرِيَ عيسى ابن مريم، وقولوا: عبد الله ورسوله"، ثم إنه بلغني أن قائلًا منكم يقول: والله لو قد مات عمر بايعت فلانًا، فلا يغترنّ امرؤ أن يقول: إنما كانت بيعة أبي بكر فَلْتَةً، وتَمَّتْ، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن الله وَقَى شرها، وليس فيكم من تُقْطَع الأعناق إليه مثل أبي بكر، من بايع

(1)

أي: يحملونها على غير وجهها.

ص: 443

رجلًا من غير مشورة من المسلمين، فلا يبايَع هو، ولا الذي بايعه تَغِرّةً أن يُقْتَلا

(1)

، وإنه قد كان من خبرِنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن الأنصار خالفونا، واجتمعوا بأسْرهم في سقيفة بني ساعدة، وخالف عنا عليّ، والزبير، ومن معهما، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت لأبي بكر: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نريدهم، فلمّا دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان، فذكرا ما تمالأ عليه القوم، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم، اقضوا أمركم، فقلت: والله لنأتينهم، فانطلقنا، حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا رجل مُزَمَّلٌ بين ظهرانيهم، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا سعد بن عُبادة، فقلت: ما له؟ قالوا: يُوعَك، فلما جلسنا قليلًا تشهّد خطيبهم، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد فنحن أنصار الله، وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط، وقد دَفَّت دافّة من قومكم، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، وأن يَحضُنونا من الأمر، فلما سكتَ أردتُ أن أتكلم، وكنت قد زَوَّرت مقالةً أعجبتني، أردت أن أقدِّمها بين يدي أبي بكر، وكنت أداري منه بعض الحدّ، فلما أردت أن أتكلم، قال أبو بكر: على رِسْلك، فكرهت أن أُغضبه، فتكلم أبو بكر، فكان هو أحلم مني، وأوقر، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري، إلا قال في بديهته مثلها، أو أفضل منها، حتى سكت، فقال: ما ذكرتم فيكم من خير، فأنتم له أهل، ولن يُعْرَف هذا الأمر إلا لهذا الحيّ من قريش، هم أوسط العرب نسبًا ودارًا، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم، فأخذ بيدي، وبيد أبي عُبيدة بن الجرّاح، وهو جالس بيننا، فلم أكره مما قال غيرها، كان والله أن أُقَدَّم، فتُضرب عنقي، لا يقرّبني ذلك من إثم أحب إلي من أن أتأمَّر على قوم فيهم أبو بكر، اللهم إلا أن تُسَوِّل لي نفسي عند الموت شيئًا لا أجده الآن، فقال قائل من الأنصار: أنا جُذَيلها

(1)

أي: حذرًا من القتل.

ص: 444

الْمُحَكَّك، وعُذَيقها الْمُرَجَّب

(1)

، منا أمير، ومنكم أمير، يا معشر قريش، فكَثُر اللغط، وارتفعت الأصوات، حتى فَرِقت من الاختلاف، فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده، فبايعته، وبايعه المهاجرون، ثم بايعته الأنصار، ونزونا

(2)

على سعد بن عبادة، فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة، فقلت: قتل الله سعد بن عبادة

(3)

، قال عمر: وإنا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم، ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلًا منهم بعدنا، فإما بايعناهم على ما لا نرضى، وإما نخالفهم، فيكون فساد، فمن بايع رجلًا على غير مشورة من المسلمين، فلا يبايَع هو، ولا الذي بايعه تَغِرّةً أن يُقْتَلا. انتهى.

(وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ) قال الطيبيّ رحمه الله: قَدَّم عمر رضي الله عنه هذا الكلام قبل ما أراد أن يقوله؛ توطئةً له؛ ليتيقظ السامع لِمَا يقول، (وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَكَانَ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْه)، وفي بعض النُّسخ:"فكان مما أنزل الله عليه"، (آيَةُ الرَّجْمِ) قال الطيبيّ:"آيةُ الرجم" بالرفع اسم "كان"، وخبرها "من" التبعيضية في قوله:"مما أنزل الله"، ففيه تقديم الخبر على الاسم، وهو كثير. (قَرَأْنَاهَا، وَوَعَيْنَاهَا، وَعَقَلْنَاهَا، فَرَجَمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى)، وفي رواية معمر:"وإني أخاف"، (إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ، أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: مَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللهُ)؛ أي: في الآية المذكورة التي نُسِخت تلاوتها، وبقي

(1)

(جُذيلها المحكك) أصله عود ينصب في العطن لتحتكّ به الإبل الجربى؛ أي: أنا ممن يُستشفى برأيه، كما تستشفي الإبل الجربى بالاحتكاك به.

(عُذيقها المرجب) هو: القنو العظيم من النخيل. والقنو: الغصن، والمراد أنه داهية عالم في الأمور.

(2)

(نزونا) وثبنا عليه. (قتلتم سعد بن عبادة) خذلتموه وأعرضتم عنه، واحتسبتموه في عداد القتلى.

(3)

(قتل الله سعد بن عبادة) القائل هو عمر رضي الله عنه، والمعنى: إن الله تعالى هو الذي قدّر خذلانه وعدم صيرورته خليفة، أو هو دعاء عليه؛ لأن موقفه كان ربما أحدث فرقة في المسلمين.

ص: 445

حكمها، وقد وقع ما خشيه عمر رضي الله عنه أيضًا، فأنكر الرجم طائفة من الخوارج، أو معظمهم، وبعض المعتزلة، ويَحْتَمِل أن يكون استند في ذلك إلى توقيف.

وقد أخرج عبد الرزاق، والطبريّ من وجه آخر، عن ابن عباس: أن عمر قال: سيجيء قوم يكذِّبون بالرجم. . . الحديث.

ووقع في رواية سعد بن إبراهيم، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة في حديث عمر، عند النسائيّ: وأن ناسًا يقولون: ما بال الرجم؟ وإنما في كتاب الله الجلد، ألا قد رَجَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيه إشارة إلى أن عمر استحضر أن ناسًا قالوا ذلك، فردّ عليهم.

وفي "الموطأ" عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيِّب، عن عمر:"إياكم أن تَهلِكوا عن آية الرجم، أن يقول قائل: لا أجد حدّين في كتاب الله، فقد رُجِم"

(1)

.

(وَإِنَّ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ)؛ أي: في قوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15]، فَبَيَّن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن المراد به رجم الثيب، وجلد البكر، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فإن الرَّجم في كتاب الله"؛ أي: في حكم الله الذي كان نزل في الكتاب، وكان فيه ثابتًا قبل نسخه، كما قدَّمناه، وقد نصَّ على هذا المعنى فيما ذكره عنه مالك في "الموطأ"؛ فقال: لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله لكتبته بيدي: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة"، وهذا من قوله يدلّ على أن الكتاب قد أُحكمت آياته، وانحصرت حروفه، وكلماته، فلا يقبل الزيادة ولا النقصان. انتهى

(3)

.

وقوله: (حَقٌّ)؛ أي: ثابتٌ يُعمَل به إلى يوم القيامة.

(عَلَى مَنْ زَنَى) متعلّق بـ "حقّ"، (إِذَا أَحْصَنَ) بالبناء للفاعل؛ أي: كان بالغًا عاقلًا، قد تزوج حرّةً تزويجًا صحيحًا، وجامَعها، وقال الفيّوميّ رحمه الله: وأَحْصَنَ الرجل بالألف: تزوَّج، والفقهاء يزيدون على هذا: وَطِئ في نكاح

(1)

"الفتح" 15/ 651.

(2)

"الفتح" 15/ 651.

(3)

"المفهم" 5/ 86.

ص: 446

صحيح، قال الشافعيّ: إذا أصاب الحرّ البالغ امرأته، أو أصيبت الحرّة البالغة بنكاح، فهو إِحْصَانٌ في الإسلام، والشرك، والمراد في نكاح صحيح، واسم الفاعل من أَحْصَنَ إذا تزوج: مُحْصِنٌ بالكسر على القياس، قاله ابن القطاع، ومُحْصَنٌ بالفتح على غير قياس، والمرأة مُحْصَنَةٌ بالفتح أيضًا، على غير قياس، ومنه قوله تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24]؛ أي: ويحرم عليكم المتزوجات، وأما أَحْصَنَتِ المرأة فرجها: إذا عَفَّتْ، فهي مُحْصِنَةٌ بالفتح والكسر أيضًا، وقرئ بذلك في السبعة، ومنه قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] المراد: الحرائر العفيفات، وقوله:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] المراد: الحرائر أيضًا. انتهى

(1)

.

وقوله: (مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ) بيان لـ "من زَنَى"، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا مجمَع عليه؛ إذ لم يُسْمَع بمن فرَّق فيه بين الرجال والنساء، وقد رجم. رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزًا والغامدية رضي الله عنهما على ما يأتي. انتهى

(2)

.

(إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ)؛ أي: بشرطها، قاله في "الفتح"، وقال القرطبيّ رحمه الله: يعني بالبينة: الأربعةَ الشهداء العدول، المؤدِّين للشهادة في فَوْرٍ واحد، الذين يَصفُون رؤية فرجه في فرجها؛ كالْمِرُّود في المكحلة، المقيمين على شهادتهم إلى أن يقام الحدّ، على ما يُعرَف في كتب الفقه. انتهى

(3)

.

(أَوْ كَانَ الْحَبَلُ) - بفتح المهملة، والموحدة - في رواية معمر:"الْحَمْلُ"؛ أي: وُجدت المرأة الخليّة من زوج، أو سيّد حبلى، ولم تَذكر شبهة، ولا إكراهًا.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "الْحَبَلُ"؛ يعني به: أن يَظهر بامرأة لا زوج لها، ولا سيِّد، وكانت غير طارِئةٍ

(4)

: حَبَلٌ، ولم يظهر ما يدلُّ على الإكراه مثل

(1)

"المصباح المنير" 1/ 139.

(2)

"المفهم" 5/ 86.

(3)

"المفهم" 5/ 86.

(4)

أي: غريبة، يقال للغرباء: الطُّرّاءُ، وهم الذين يأتون من مكان بعيد، قاله في "اللسان".

ص: 447

أن تتعلق به، وتفضح نفسها، وهي تُدْمَى، فأما لو لم يكن إلا قولها: إنها أُكرهت، ولم يظهر ما يدلّ على الإكراه، فإنَّها لا يَدْفَع الحدّ عنها مجرَّدُ قولِها، ولا يكون قولها شبهة عندنا - يعني: المالكيّة - وهو شبهة عند أبي حنيفة يدْرأ بها الحدّ، وبه قال ابن المنذر، والكوفيون، والشافعيّ، قالوا: إذا وُجدت المرأة حاملًا فلا حدّ عليها إلا أن تُقِرَّ بالزنى، أو تقوم عليها بيِّنة، ولم يفرِّقوا بين الطارئة وغيرها، ويرُدّ عليهم قول عمر رضي الله عنه:"أو الْحَبَل" بحضرة الصحابة رضي الله عنهم، ولا منكِر، وأيضًا: فمثل هذا لا يقوله عمر رضي الله عنه عن اجتهاد، إنَّما يقوله عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، لم يصرَّح بالرفع، ولا يضرُّنا ذلك، ولو سلَّمنا: أنَّه قاله عن اجتهاد فاجتهاده راجحٌ على اجتهاد غيره؛ لشهادة النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى جعل الحق على لسانه وقلبه، وسيأتي الكلام في الاعتراف، إن شاء الله تعالى. انتهى كلام القرطبيّ

(1)

، وفي بعض ما قاله نظر لا يخفى، والله تعالى أعلم.

(أَو الِاعْتِرَافُ)؛ أي: الإقرار بالزنا، والاستمرار عليه، وفي رواية سفيان:"أو كان حَمْلًا، أو اعترافًا"، بالنصب على نزع الخافض؛ أي: كان الزنا عن حمل، أو عن اعتراف، قاله في "الفتح"

(2)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عمر رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 4410 و 4411](1691)، و (البخاريّ) في "الحدود"(6829 و 6830)، و (أبو داود) في "الحدود"(4418)، و (الترمذيّ) في "الحدود"(1432)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 263 - 274)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 823)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(13329)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 75 - 76 و 14/ 563 - 564)، و (أحمد) في "مسنده"

(1)

"المفهم" 5/ 86 - 87.

(2)

"الفتح" 15/ 651، كتاب "الحدود" رقم (6830).

ص: 448

(1/ 55)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 234)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(413 و 414)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 210 و 212 و 236)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وجوب الرجم على الزاني المحصن.

2 -

(ومنها): بيان أن بعض القرآن يُنسخ لفظه، ويبقى حكمه، ومن ذلك آية الرجم:"الشيخ والشيخة إذا زنيا، فارجموهما البتة"، فهذا مما نُسِخ لفظه، وبقي حكمه، قال النوويّ رحمه الله: وقد وقع نسخ الحكم دون اللفظ، وقد وقع نَسخهما جميعًا، فما نُسخ لفظه ليس له حكم القرآن في تحريمه على الجُنُب، ونحو ذلك، وفي ترك الصحابة رضي الله عنهم كتابة هذه الآية دلالة ظاهرة أن المنسوخ لا يُكتب في المصحف، وفي إعلان عمر بالرجم، وهو على المنبر، وسكوت الصحابة وغيرهم من الحاضرين عن مخالفته بالإنكار دليل على ثبوت الرجم، وقد يُستَدَلّ به على أنه لا يُجلد مع الرجم، وقد تُمنَع دلالته؛ لأنه لم يتعرض للجلد، وقد ثبت في القرآن والسُّنَّة. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا نصٌّ من عمر رضي الله عنه على أنَّ هذا كان قرآنًا يُتلى، وفي آخره ما يدلُّ على أنَّه نُسخَ كَونُها من القرآن، وبقي حُكْمُها معمولًا به، وهو الرَّجم. وقال ذلك عمر بمحضرِ الصحابة رضي الله عنهم، وفي مَعْدن الوحي، وشاعت هذه الخطبة في المسلمين، وتناقلها الرُّكبان، ولم يُسْمَع في الصحابة ولا فيمن بعدهم من أنكر شيئًا مِمَّا قاله عمر، ولا راجعه في حياته ولا بعد موته، فكان ذلك إجماعًا منهم على صحة هذا النوع من النسخ، وهو نسخ التلاوة مع بقاء الحكم، ولا يُلتَفَت لخلاف من تأخر زمانه، وقَلَّ علمه في ذلك، وقد بيَّنا في الأصول: أن النسخ على ثلاثة أضرب: نسخ التلاوة، ونسخ الحكم مع بقاء التلاوة، ونسخ التلاوة مع بقاء الحكم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

.

3 -

(ومنها): أن فيه منقبة لعمر رضي الله عنه، فإن هذا الذي توقعه قد وقع بعده للخوارج، والنّظَّام؛ فإنَّهم أنْكَرُوا الرَّجم، فهم ضالّون بشهادة عمر رضي الله عنه، وهذا

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 191.

(2)

"المفهم" 5/ 85.

ص: 449

من الحقّ الذي جعل الله تعالى على لسان عمر وقلبه رضي الله عنه، ومما يدلُّ على أنَّه كان محدِّثًا بكثير مما غاب عنه، كما شهد له بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. قاله القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: هذا الذي خشيه عمر رضي الله عنه قد وقع من الخوارج، ومن وافقهم، كما سبق بيانه، وهذا من كرامات عمر رضي الله عنه، ويَحْتَمِل أنه عَلِمَ ذلك من جهة النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى

(2)

.

4 -

(ومنها): أن فيه أن المرأة إذا وُجِدت حاملًا، ولا زوج لها، ولا سيّد وجب عليها الحدّ، إلا أن تقيم بيّنة على الحمل، أو الاستكراه.

وقال ابن العربيّ: إقامة الحمل عليه إذا ظهر وَلَدٌ لم يسبقه سبب جائز يُعْلَم قطعًا أنه من حرام، ويسمى قياسَ الدلالة؛ كالدخان على النار، ويَعْكُر عليه احتمال أن يكون الوطء من شبهة.

وقال ابن القاسم: إن ادّعت الاستكراه، وكانت غريبة، فلا حدّ عليها، وقال الشافعيّ، والكوفيون: لا حدّ عليها إلا ببينة، أو إقرار.

وحجة مالك قول عمر في خطبته، ولم ينكرها أحد، وكذا لو قامت القرينة على الإكراه، أو الخطأ.

قال المازريّ: في تصديق المرأة الخليّة إذا ظهر بها حمل، فادعت الإكراه خلافٌ، هل يكون ذلك شبهةً، أم يجب عليها الحدّ؛ لحديث عمر؟ قال ابن عبد البرّ: قد جاء عن عمر في عدّة قضايا أنه درأ الحد بدعوى الإكراه ونحوه، ثم ساق من طريق شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النَّزّال بن سَبْرة قال:"إنا لَمَعْ عمر بمنى، فإذا بامرأة حبلى ضخمة تبكي، فسألها، فقالت: إني ثقيلة الرأس، فقمت بالليل أصلي، ثم نِمت، فما استيقظت إلا ورجل قد ركبني، ومضى، فما أدري من هو؟ قال: فدرأ عنها الحدّ".

وجَمَع بعضهم بأن من عُرِف منها مخايل الصدق في دعوى الإكراه قُبِل منها، وأما المعروفة في البلد التي لا تُعْرَف بالدِّين، ولا الصدق، ولا قرينة

(1)

"المفهم" 5/ 85 - 86.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 191 - 192.

ص: 450

معها على الإكراه، فلا، ولا سيما إن كانت متهمة، وعلى الثاني يدلّ قوله:"أو كان الْحَبَل".

واستَنْبَط منه الباجيّ أن مَن وَطِئ في غير الفرج، فدخل ماؤه فيه، فادَّعت المرأة أن الولد منه لا يُقبل، ولا يُلْحَق به إذا لم يَعترف به؛ لأنه لو لَحِق به لَمَا وجب الرجم على حبلى؛ لجواز مثل ذلك، وعَكَسَه غيره، فقال: هذا يقتضي أن لا يجب على الحبلى بمجرد الحَبَل حدّ؛ لاحتمال مثل هذه الشبهة، وهو قول الجمهور.

وأجاب الطحاويّ أن المستفاد من قول عمر رضي الله عنه: الرجم حقّ على من زنى، أن الْحَبَل إذا كان من زنا وجب فيه الرجم، وهو كذلك، ولكن لا بُدّ من ثبوت كونه من زنى، ولا تُرجم بمجرد الحبل مع قيام الاحتمال فيه؛ لأن عمر رضي الله عنه لَمّا أُتي بالمرأة الحبلى، وقالوا: إنها زنت، وهي تبكي، فسألها ما يبكيك؟ فأخبرت أن رجلًا ركبها، وهي نائمةٌ، فدرأ عنها الحدّ بذلك.

قال الحافظ: ولا يخفى تكلّفه، فإن عمر رضي الله عنه قابل الْحَبَل بالاعتراف، وقسيم الشيء لا يكون قِسْمه، وإنما اعتمد من لا يرى الحدّ بمجرد الحبل على قيام الاحتمال بأنه ليس عن زنى محقّق، وأن الحد يُدفَع بالشبهة، والله أعلم. انتهى

(1)

.

5 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: أَجْمَعَ العلماء على أن الرجم لا يكون إلا على من زنى، وهو محصَن، وسبق بيان صفة المحصن.

وأجمعوا على أنه إذا قامت البينة بزناه، وهو محصن يُرجم.

وأجمعوا على أن البينة أربعة شهداء، ذكورٌ عدولٌ، هذا إذا شهدوا على نفس الزنى، ولا يُقبل دون الأربعة، وإن اختلفوا في صفاتهم.

وأجمعوا على وجوب الرجم على من اعترف بالزنى، وهو محصن، يصح إقراره بالحدّ، واختلفوا في اشتراط تكرار إقراره أربع مرات، وسنذكره قريبًا - إن شاء الله تعالى -.

وأما الحَبَل وحده: فمذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجوب الحدّ به، إذا

(1)

"الفتح" 15/ 661 - 662.

ص: 451

لم يكن لها زوج، ولا سيد، وتابعه مالك، وأصحابه، فقالوا: إذا حبلت، ولم يُعْلَم لها زوج، ولا سيد، ولا عرفنا إكراهها لزمها الحدّ، إلا أن تكون غريبة طارئة، وتَدَّعي أنه من زوج، أو سيد، قالوا: ولا تُقبل دعواها الإكراه إذا لم تَقُم بذلك مستغيثةً عند الإكراه، قبل ظهور الحمل.

وقال الشافعيّ، وأبو حنيفة، وجماهير العلماء: لا حدّ عليها بمجرد الحبل، سواء كان لها زوج، أو سيّد، أم لا، وسواء الغريبة وغيرها، وسواء ادّعَت الإكراه أم سكتت، فلا حدّ عليها مطلقًا إلا ببينة، أو اعتراف؛ لأن الحدود تسقط بالشبهات. انتهى

(1)

.

وقال الشوكانيّ رحمه الله عند ذكر الخلاف: وذهب الجمهور إلى أن مجرد الحبل لا يثبت به الحدّ، بل لا بُدّ من الاعتراف، أو البينة، واستدلّوا بالأحاديث الواردة في درء الحدود بالشبهات.

والحاصل: أن هذا من قول عمر رضي الله عنه، ومثل ذلك لا يثبت به مثل هذا الأمر العظيم الذي يفضي إلى هلاك النفوس، وكونه قاله في مجمع من الصحابة، ولم يُنْكَر عليه لا يستلزم أن يكون إجماعًا، كما بيّنا ذلك في غير موضع من هذا الشرح؛ لأن الإنكار في مسائل الاجتهاد غير لازم للمخالف، ولا سيما والقائل بذلك عمر، وهو بمنزلة من المهابة في صدور الصحابة وغيرهم، اللهم إلا أن يُدّعَى أن قوله:"إذا قامت البينة، أو كان الْحَبَل، أو الاعتراف" من تمام ما يرويه عن كتاب الله تعالى، ولكنه خلاف الظاهر؛ لأن الذي كان في كتاب الله هو ما أسلفنا في أول كتاب الحدود. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما ذهب إليه الجمهور من عدم الحدّ بالحبل إلا بالبيّنة، أو الاعتراف هو الأرجح؛ لقوّة حجتهم، كما مرّ تفصيله، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4411]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ أَيِ عُمَرَ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ).

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 192.

(2)

"نيل الأوطار" 7/ 273.

ص: 452

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهم تقدّموا قبل بابين، و"ابن أبي عمر" هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، ثم المكيّ، و"سفيان" هو: ابن عيينة.

[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة، عن الزهريّ هذه ساقها النسائيّ في "السنن الكبرى"، فقال:

(7156)

- أخبرنا محمد بن منصور المكيّ، قال: ثنا سفيان، عن الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، قال: سمعت عمر يقول: قد خشيت أن يطول بالناس زمان، حتى يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فَيَضِلُّوا بترك فريضة أنزلها الله، ألا وإن الرجم حقّ على من زنا، إذا أَحْصَنَ، وكانت البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف، وقد قرأناها:"الشيخ والشيخة إذا زنيا، فارجموهما البتة"، وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجمنا بعده. قال أبو عبد الرحمن: لا أعلم أن أحدًا ذكر في هذا الحديث: "الشيخ والشيخة فارجموهما البتة"، غير سفيان، وينبغي أنه وَهَمٌ، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: أعلّ النسائيّ رحمه الله زيادة: "الشيخ والشيخة. . . إلخ" في هذه الرواية؛ لتفرّد ابن عيينة بها، ولم لا تُجعل من زيادة الثقة؟ فليُتأمل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(5) - (بَابُ مَنِ اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا)

[4412]

(1691) - (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَنَادَاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي زَنَيْتُ،

(1)

"السنن الكبرى" للنسائيّ 4/ 273.

ص: 453

فَأَعْرَضَ عَنْهُ، حَتَّى ثَنَى ذَلِكَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، دَعَاهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"أَبِكَ جُنُونٌ؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ:"فَهَلْ أَحْصَنْتَ؟ "، قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"اذْهَبُوا بِهِ، فَارْجُمُوهُ". قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: فَكُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ، فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ هَرَبَ، فَأَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ، فَرَجَمْنَاهُ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ) الفهميّ مولاهم، أبو عبد الله المصريّ، ثقةٌ [11](ت 248)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.

2 -

(أَبُوهُ) شعيب بن الليث بن سعد الفهميّ مولاهم، أبو عبد الملك المصريّ، ثقةٌ نبيلٌ فقيهٌ، من كبار [10](199)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.

3 -

(جَدُّهُ) الليث بن سعد بن عبد الرحمن، تقدّم قبل بابين.

4 -

(عُقَيْلُ) بن خالد الأيليّ الأمويّ مولاهم، أبو خالد، سكن المدينة، ثم الشام، ثم مصر، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 133.

5 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، تقدّم قبل بابين.

6 -

(أَبُو سَلَمَةً بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) تقدّم قريبًا.

7 -

(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) تقدّم أيضًا قريبًا.

8 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم أيضًا قريبًا.

9 -

(مَنْ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) هو أبو سلمة المذكور، كما سيأتي بيانه.

10 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حرام رضي الله عنهما، تقدّم قبل بابين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أن نصفه الأول مسلسل بالمصريين، والثاني بالمدنيين، وفيه أبو سلمة، وابن المسيِّب من الفقهاء السبعة، وفيه صحابيّان من المكثرين السبعة، روى الأول (5374) والثاني (1540)، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيين، والله تعالى أعلم.

ص: 454

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ) هذه رواية شعيب بن الليث عن أبيه، ووافقه يحيى بن بكير عن الليث عند البخاريّ، (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّهُ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)، وفي رواية عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عند البخاريّ:"من الناس"، وفي رواية يونس ومعمر:"إن رجلًا من أسلم"، وفي حديث جابر بن سمرة الآتي:"رأيت ماعز بن مالك الأسلميّ حين جيء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. . ." الحديث، وفيه:"رجلٌ قصيرٌ، أعضل، ليس عليه رداء"، وفي لفظ:"ذو عَضَلات". (رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم) بالنصب على أنه مفعول "أَتَى"، وقوله:(وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ) جملة حاليّة؛ أي: والحال أنه صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد النبويّ، (فَنَادَاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ) يقال: أعرضتُ عنه: أضربتُ، وولّيتُ عنه، وحقيقته جعل الهمزة للصيرورة؛ أي: أخذت عُرْضًا؛ أي: جانبًا غير الجانب الذي هو فيه، قاله الفيّومي

(1)

.

والمعنى: حوّل النبيّ صلى الله عليه وسلم وجهه إلى جهة أخرى؛ كراهية لما قاله، وسترًا عليه.

(فَتَنَحَّى)؛ أي: انتقل من الناحية التي كان فيها إلى الناحية التي يَستقبل بها وجه النبيّ صلى الله عليه وسلم، (تِلْقَاءَ وَجْهِهِ) منصوب على الظرفية، وأصله مصدرٌ أقيم مُقام الظرف؛ أي: مكان تلقاء، فحُذِف مكان، قيل: وليس من المصادر تِفعال بكسر أوله إلا هذا، و"تِبيان"، وسائرها بفتح أوله، وأما الأسماء بهذا الوزن فكثيرة، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: يجيء المصدر من فعل ثلاثيّ على تَفْعال بفتح التاء، نحو التَّضْرَاب، والتَّقْتَال، قالوا: ولم يجئ بالكسر إلا تِبْيَانٌ، وتِلْقَاءُ، تِنْضَالٌ، من المناضلة، وقيل: هو اسم، والمصدر تَنْضَالٌ - أي: بالفتح - على الباب. انتهى

(3)

.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 403.

(2)

"الفتح" 15/ 610، كتاب "الحدود" رقم (6815).

(3)

"المصباح المنير" 2/ 699 - 700.

ص: 455

(فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، حَتَّى ثَنَى) بثاء مثلّثة، بعدها نون خفيفة؛ أي: كرّر، وفي رواية:"حتى ردّد"(ذَلِكَ)؛ أي: قوله: "إني زنيتُ"، (عَلَيْهِ)؛ أي: على النبيّ صلى الله عليه وسلم (أَرْبَعَ مَرَّاتٍ)، وفي حديث بريدة الآتي:"قال: ويحك ارجع، فاستغفر الله، وتُب إليه، فرجع غير بعيد، ثم جاء، فقال: يا رسول الله طَهِّرني"، وفي لفظ:"فلما كان من الغد أتاه"، ووقع في مرسل سعيد بن المسيِّب، عند مالك، والنسائيّ من رواية يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن سعيد:"إن رجلًا من أسلم قال لأبي بكر الصديق: إن الآخر زنى، قال: فتب إلى الله، واستتر بستر الله، ثم أتى عمر كذلك، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعرض عنه، ثلاث مرات، حتى إذا أكثر عليه بعث إلى أهله".

وهذا كلّه فيه التعريض للمُقِرّ بالزنا بأن يرجع، ويُقْبَل رجوعه بلا خلاف، قاله النوويّ.

(فَلَمَّا شَهِدَ) بكسر الهاء، من باب علم (عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ)، وفي رواية:"أربع مرّات"، وفي حديث بريدة الآتي:"حتى إذا كانت الرابعة، قال: فيم أطهرك؟ "، وفي حديث جابر بن سمرة، من طريق أبي عوانة، عن سماك الآتي:"فشهد على نفسه أربع شهادات"، وفي رواية شعبة، عن سماك:"قال: فردّه مرتين"، وفي أخرى:"مرتين، أو ثلاثًا، قال شعبة: قال سماك: فذكرته لسعيد بن جبير، فقال: إنه ردّه أربع مرات"، ووقع في حديث أبي سعيد الآتي أيضًا:"فاعترف بالزنا ثلاث مرات".

قال في "الفتح": والجمع بينهما: أما رواية مرتين فتُحْمل على أنه اعترف مرتين في يوم، ومرتين في يوم آخر؛ لِمَا يشعر به قول بريدة:"فلمّا كان من الغد"، فاقتصر الراوي على أحدهما، أو مراده: اعترف مرتين في يومين، فيكون مِنْ ضَرْب اثنين في اثنين.

وقد وقع عند أبي داود، من طريق إسرائيل، عن سماك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"جاء ماعز بن مالك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فاعترف بالزنا مرتين، فطرده، ثم جاء فاعترف بالزنا مرتين".

وأما رواية الثلاث فكأن المراد الاقتصار على المرات التي ردّه فيها،

ص: 456

وأما الرابعة فإنه لم يرُدّه، بل استثبت فيه، وسأل عن عقله، لكن وقع في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي داود، من طريق عبد الرحمن بن الصامت، ما يدل على أن الاستثبات فيه إنما وقع بعد الرابعة، ولفظه:"جاء الأسلميّ، فشَهِد على نفسه أنه أصاب امرأة حرامًا أربع مرات، كل ذلك يُعْرِض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل في الخامسة، فقال: تدري ما الزاني؟ " إلى آخره، والمراد بالخامسة: الصفة التي وقعت منه عند السؤال، والاستثبات؛ لأن صفة الإعراض وقعت أربع مرات، وصفة الإقبال عليه للسؤال وقع بعدها. انتهى

(1)

.

(دَعَاهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "أَبِكَ جُنُونٌ؟ ") قال النوويّ رحمه الله: إنما قاله ليتحقق حاله، فإن الغالب أن الإنسان لا يُصِرّ على الإقرار بما يقتضي قتله من غير سؤال، مع أن له طريقًا إلى سقوط الإثم بالتوبة، وفي الرواية الأخرى: أنه سأل قومه عنه، فقالوا: ما نعلم به بأسًا، وهذا مبالغة في تحقق حاله، وفي صيانة دم المسلم، وفيه إشارة إلى أن إقرار المجنون باطلٌ، وأن الحدود لا تجب عليه، وهذا كله مجمَع عليه. انتهى

(2)

.

(قَالَ: لَا)، وفي البخاريّ:"وهل بك جنون؟ "، وفي حديث بريدة:"فسأل أبه جنون؟ فأُخبر بأنه ليس بمجنون"، وفي لفظ:"فأَرسل إلى قومه، فقالوا: ما نعلمه إلا وَفِيَّ العقل، من صالحينا"، وفي حديث أبي سعيد:"ثم سأل قومه، فقالوا: ما نعلم به بأسًا، إلا أنه أصاب شيئًا يَرى أنه لا يَخرج منه إلا أن يقام فيه الحد لله"، وفي مرسل أبي سعيد:"بعث إلى أهله، فقال: أشتكى؟ به جِنة؟ فقالوا: يا رسول الله إنه لصحيح".

ويُجْمَع بينهما بأنه سأله، ثم سأل عنه احتياطًا، فإن فائدة سؤاله أنه لو ادَّعَى الجنون، لكان في ذلك دفعٌ لإقامة الحد عليه، حتى يظهر خلاف دعواه، فلما أجاب بأنه لا جنون به، سأل عنه؛ لاحتمال أن يكون كذلك، ولا يُعْتَدّ بقوله.

وعند أبي داود، من طريق نعيم بن هَزّال: "قال: كان ماعز بن مالك يتيمًا في

(1)

"الفتح" 15/ 610 - 611، كتاب "الحدود" رقم (6815).

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 193.

ص: 457

حِجر أبي، فأصاب جارية من الحيّ، فقال له أبي: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بما صنعت، لعله يستغفر لك، وإنّما يريد بذلك رجاء أن يكون له مخرجًا"، فذكر الحديث.

قال القاضي عياض

(1)

: فائدة سؤاله أبك جنون؟ سترٌ لحاله، واستبعادٌ أن يُلِحّ عاقلٌ بالاعتراف بما يقتضي إهلاكه، ولعله يرجع عن قوله، أو لأنه سمعه وحده، أو ليتم إقراره أربعًا عند من يشترطه، وأما سؤاله قومه عنه بعد ذلك فمبالغة في الاستثبات.

وتعقّب بعض الشراح قوله: "أو لأنه سمعه وحده" بأنه كلام ساقطٌ؛ لأنه وقع في نفس الخبر أن ذلك كان بمحضر الصحابة في المسجد.

قال الحافظ: ويُرَدّ بوجه آخر، وهو أن انفراده صلى الله عليه وسلم بسماع إقرار المقرّ كافٍ في الحكم عليه بعلمه اتفاقًا؛ إذ لا ينطق عن الهوى، بخلاف غيره، ففيه احتمال. انتهى

(2)

.

(قَالَ: "فَهَلْ أَحْصَنْتَ؟ ")؛ أي: أتزوّجت؟ هذا معناه هنا جزمًا؛ لافتراق الحكم في حدّ من تزوّج، ومن لم يتزوّج.

وقال النوويّ رحمه الله: فيه أن الإمام يسأل عن شروط الرجم، من الإحصان وغيره، سواء ثبت بالإقرار، أم بالبيّنة، وفيه مؤاخذة الإنسان بإقراره. انتهى

(3)

.

(قَالَ: نَعَمْ) زاد في حديث بريدة قبل هذا: "أشربت خمرًا؟ قال: لا"، وفيه:"فقام رجل، فاستنكهه، فلم يجد منه ريحًا"، وزاد في حديث ابن عباس عند البخاريّ:"لعلك قَبَّلت؟ أو غمزت؟ - بمعجمة، وزاي - أو نظرت؟ "؛ أي: فأطلقتَ على كل ذلك زنا، ولكنه لا حدّ في ذلك - قال: لا"، وفي حديث نعيم: "فقال: هل ضاجعتها؟ قال: نعم، قال: فهل باشرتها؟ قال: نعم، قال: هل جامعتها؟ قال: نعم"، وفي حديث ابن عباس المذكور: "فقال: أنكتها؟ لا يكني - بفتح التحتانية، وسكون الكاف - من الكناية؛ أي: أنه ذكر هذا اللفظ صريحًا، ولم يُكَنِّ عنه بلفظ آخر؛ كالجماع.

(1)

راجع: "إكمال المعلم" 5/ 510.

(2)

"الفتح" 15/ 611 - 612 رقم (6815).

(3)

"شرح النوويّ" 11/ 193.

ص: 458

ويَحْتَمِل أن يُجْمَع بأنه ذَكر بعد ذِكر الجماع بأن الجماع قد يُحْمَل على مجرد الاجتماع، وفي حديث أبي هريرة المذكور:"أَنِكتها؟ قال: نعم، قال: حتى دخل ذلك منك في ذلك منها؟ قال: نعم، قال: كما يغيب الْمِرْوَد في الْمُكْحُلة، والرِّشاء في البئر؟ قال: نعم، قال: تدري ما الزنا؟ قال: نعم أتيت منها حرامًا ما يأتي الرجل من امرأته حلالًا، قال: فما تريد بهذا القول؟ قال: تطهّرني، فأَمَر به، فَرُجِم"، وقَبْله عند النسائيّ هنا:"هل أدخلته، وأخرجته؟ قال: نعم"

(1)

.

(فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "اذْهَبُوا بِهِ، فَارْجُمُوهُ")؛ أي: ارموه بالحجارة حتى يموت، قال النوويّ رحمه الله: فيه جوار استنابة الإمام من يقيم الحدّ، قال العلماء: لا يستوفي الحد إلا الإمام، أو مَن فَوَّض ذلك إليه، وفيه دليل على أنه يكفي الرجم، ولا يُجلد معه، وقد سبق بيان الخلاف في هذا. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم أن الراجح الجمع بين الجلد والرجم؛ لقوّة دليله، فتنبّه.

وقوله: (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) هو موصول بالسند الماضي، كما قال الحافظ في "الفتح"

(2)

، وليس معلّقًا، كما قال بعضهم

(3)

، فتنبّه. (فَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما، قد أصَرَّ يونس، ومعمر في روايتهما بأنه أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، فكأن الحديث كان عند أبي سلمة عن أبي هريرة، كما عند سعيد بن المسيِّب، وعنده زيادة عليه عن جابر رضي الله عنه. (يَقُولُ: فَكُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ، فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّى)؛ أي: بالمكان الذي تصلّى فيه صلاة الجنائز، وفي رواية معمر:"فأمر به، فرُجِم بالمصلى"، قال النوويّ: قال البخاريّ وغيره من العلماء: فيه دليل على أن مصلى الجنائز والأعياد، إذا لم يكن قد وُقِفَ مسجدًا لا يثبت له حكم المسجد؛ إذ لو كان له حكم المسجد تجنب الرجم فيه، وتلطخه بالدماء والميتة، قالوا: والمراد بالمصلَّى هنا مصلى الجنائز،

(1)

"الفتح" 15/ 612، كتاب "الحدود" رقم (6815).

(2)

راجع: "الفتح" 15/ 612، كتاب "الحدود" رقم (6815).

(3)

سيأتي كلام الرشيد العطار في ذلك، وسأتعقّبه هناك - إن شاء الله تعالى - فتنبّه.

ص: 459

ولهذا قال في الرواية الأخرى: "في بَقِيع الغَرْقد"، وهو موضع الجنائز بالمدينة، وذكر الدارميّ من أصحابنا أن المصلى الذي للعيد ولغيره إذا لم يكن مسجدًا، هل يثبت له حكم المسجد؟ فيه وجهان: أصحهما: ليس له حكم المسجد، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وفي حديث أبي سعيد: "فما أوثقناه، ولا حَفَرنا له، قال: فرميناه بالعظام، والمدَر، والخزَف - بفتح المعجمة، والزاي، وبالفاء - وهي الآنية التي تُتَّخَذ من الطين المشويّ، وكأن المراد: ما تَكَسَّر منها.

(فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ) - بذال معجمة، وفتح اللام، بعدها قاف - أي: أقلقته، بوزنه ومعناه، قال أهل اللغة: الذَّلَق - بالتحريك -: الْقَلَق، وممن ذَكَره الجوهريّ، وقال في "النهاية": أذلقته: بلغت منه الجهد، حتى قَلِقَ، يقال: أذلقه الشيءُ: أجهده، وقال النوويّ: معنى أذلقته الحجارة: أصابته بحدّها، ومنه انذَلَقَ: صار له حَدٌّ يَقطَع

(2)

.

(هَرَبَ)، وفي رواية ابن مسافر عند البخاريّ:"جَمَزَ" - بجيم، وميم مفتوحتين، ثم زاي - أي: وَثَبَ مُسرعًا، وليس بالشديد العَدْوِ، بل كالقَفْز، ووقع في حديث أبي سعيد:"فاشتدّ، وأسند لنا خلفه"، (فَأَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ) - بفتح الحاء، وتشديد الراء - الأرض ذات الحجارة السُّود، (فَرَجَمْنَاهُ) زاد معمر في روايته:"حتى مات"، وفي حديث أبي سعيد:"حتى أتى عُرْض - بضم أوله - أي: جانب الحرّة، فرميناه بجلاميد الحرّة، حتى سكت"، وعند الترمذيّ من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، في قصة ماعز:"فلمّا وَجَدَ مَسَّ الحجارة، فَرَّ يشتدّ حتى مر برجل معه لَحيُ جَمَلٍ، فضربه، وضربه الناس حتى مات".

وعند أبي داود، والنسائيّ من رواية يزيد بن نعيم بن هَزّال، عن أبيه، في هذه القصة:"فَوَجد مسّ الحجارة، فخرج يشتدّ، فلقيه عبد الله بن أنيس، وقد عجز أصحابه، فَنَزَع له بوظيف بعير، فرماه، فقتله".

وهذا ظاهره يخالف ظاهر رواية أبي هريرة، أنهم ضربوه معه، لكن

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 194.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 194.

ص: 460

يُجْمَع بأن قوله في هذا: "فقتله"؛ أي: كان سببًا في قتله.

وقد وقع في رواية للطبرانيّ في هذه القصة: "فضرب ساقه، فصرعه، ورجموه، حتى قتلوه"، والوظيف بمعجمة، وزانُ عظيم: خُفّ البعير، وقيل: مُستدقّ الذراع والساق، من الإبل، وغيرها.

وفي حديث أبي هريرة، عند النسائيّ:"فانتهى إلى أصل شجرة، فتوسد يمينه، حتى قُتِل"، وللنسائيّ من طريق أبي مالك، عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فذهبوا به إلى حائط، يبلغ صدره، فذهب يَثِب، فرماه رجل، فأصاب أصل أذنه، فصُرِع، فقتله"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة وجابر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 4412 و 4413 و 4414 و 4415](1691)، و (البخاريّ) في "النكاح"(5270 و 5272) و"الحدود"(6814 و 6816 و 6820 و 6826 و 7168)، و (أبو داود) في "الحدود"(4430)، و (الترمذيّ) في "الحدود"(1429)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(4/ 62 - 63) و"الكبرى"(1/ 635 و 4/ 276 و 280)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(13336 و 13337)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 323)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 176)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 206)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7/ 362)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(3/ 127)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 124 و 125 و 126)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(6/ 24)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 218 و 225)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان مشروعيّة الاعتراف بالزنا، وأنه يقام عليه الحدّ بذلك.

(1)

"الفتح" 15/ 613، كتاب "الحدود" رقم (6815).

ص: 461

2 -

(ومنها): أن فيه منقبةً عظيمةً لماعز بن مالك رضي الله عنه؛ لأنه استمرّ على طلب إقامة الحدّ عليه، مع توبته؛ لِيَتِمّ تطهيره، ولم يرجع عن إقراره، مع أن الطبع البشريّ يقتضي أنه لا يستمرّ على الإقرار بما يقتضي إزهاق نفسه، فجاهد نفسه على ذلك، وقَوِي عليها، وأقر من غير اضطرار إلى إقامة ذلك عليه بالشهادة، مع وضوح الطريق إلى سلامته من القتل بالتوبة، ولا يقال: لعله لم يعلم أن الحدّ بعد أن يُرْفَع للإمام يرتفع بالرجوع؛ لأنا نقول: كان له طريق أن يُبرِز أمره في صورة الاستفتاء، فيعلم ما يخفى عليه من أحكام المسألة، ويبنى على ما يجاب به، ويعدل عن الإقرار إلى ذلك.

3 -

(ومنها): أنه يستحب لمن وقع في مثل قضية ماعز رضي الله عنه أن يتوب إلى الله تعالى، ويستر نفسه، ولا يذكر ذلك لأحد، كما أشار به أبو بكر وعمر على ماعز رضي الله عنهم، وأن من اطَّلَع على ذلك يَستر عليه بما ذكرنا، ولا يَفْضَحه، ولا يرفعه إلى الإمام، كما جرت لماعز مع أبي بكر، وعمر رضي الله عنهم، فقد أخرج قصّته معهما مالك في "الموطّأ" عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيِّب مرسلةً، ووصله أبو داود وغيره من رواية يزيد بن نُعيم بن هَزّال، عن أبيه، وفي القصّة أنه صلى الله عليه وسلم قال لهزّال:"لو سترته بثوبك لكان خيرًا لك"، وفي "الموطّأ" عن يحيى بن سعيد: ذكرت هذا الحديث في مجلس، فيه يزيد بن نُعيم، فقال: هزّالٌ جدّي، وهذا الحديث حقّ.

قال الباجيّ رحمه الله: المعنى: كان خيرًا لك مما أمرته به من إظهار أمره، وكان سَتْره بأن يأمره بالتوبة، والكتمان، كما أمره به أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وذِكرُ الثوب مبالغةٌ؛ أي: لو لم تجد السبيل إلى ستره إلا بردائك، ممن لا يَعلم أمره كان أفضل مما أشرت به عليه من الإظهار.

وباستحباب السر جزم الشافعيّ رحمه الله، فقال: أُحِبّ لمن أصاب ذنبًا، فستره الله عليه، أن يستره على نفسه، ويتوب، واحتَجَّ بقصة ماعز مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهم.

وقال ابن العربيّ رحمه الله: هذا كله في غير المجاهِر، فأما إذا كان متظاهرًا بالفاحشة، مجاهرًا، فإني أحبّ مكاشفته، والتبريح به؛ لينزجر هو وغيره.

ص: 462

[تنبيه]: قد استُشكِلَ استحباب الستر، مع ما وقع من الثناء على ماعز والغامدية رضي الله عنهما.

وأجاب الحافظ العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذي" بأن الغامدية كان ظهر بها الحبل، مع كونها غير ذات زوج، فتعذر الاستتار؛ للاطلاع على ما يُشعر بالفاحشة، ومن ثَمّ قيَّد بعضهم ترجيح الاستتار، حيث لا يكون هناك ما يُشعر بضدّه، وإن وُجِد فالرفع إلى الإمام؛ ليقيم عليه الحدّ أفضل. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: والذي يظهر أن الستر مستحبّ، والرفع لقصد المبالغة في التطهير أحبّ، والعلم عند الله تعالى.

4 -

(ومنها): أن فيه التثبتَ في إزهاق نفس المسلم، والمبالغة في صيانته؛ لِمَا وقع في هذه القصة من ترديده، والإيماء إليه بالرجوع، والإشارة إلى قبول دعواه، إن ادَّعَى إكراهًا، وأخطأ في معنى الزنا، أو مباشرة دون الفرج مثلًا، أو غير ذلك.

5 -

(ومنها): أن فيه مشروعيةَ الإقرار بفعل الفاحشة عند الإمام، وفي المسجد، والتصريح فيه، بما يُستحيَى من التلفظ به، من أنواع الرفَث في القول، من أجل الحاجة الملجئة لذلك.

6 -

(ومنها): مشروعيّة نداء الكبير بالصوت العالي؛ للحاجة.

7 -

(ومنها): إعراض الإمام عمّن أقر بأمر مُحْتَمِل لإقامة الحدّ؛ لاحتمال أن يفسره بما لا يوجب حدًّا، أو يرجع، واستفساره عن شروط ذلك؛ ليرتب عليه مقتضاه.

8 -

(ومنها): أن إقرار المجنون لاغٍ.

9 -

(ومنها): استحباب التعريض للمقرّ بأن يرجع، وأنه إذا رجع قُبِل.

قال ابن العربيّ: وجاء عن مالك رواية أنه لا أثر لرجوعه، وحديث النبيّ صلى الله عليه وسلم أحقّ أن يتّبع.

10 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على اشتراط تكرير الإقرار بالزنا أربعًا؛ لظاهر قوله: "فلما شَهِد على نفسه أربع شهادات"، فإن فيه إشعارًا بأن العدد هو العلة في تأخير إقامة الحدّ عليه، وإلا لأَمَر برجمه في أول مرة، ولأن في حديث ابن عباس قال لماعز: "قد شَهِدتَ على نفسك أربع شهادات، اذهبوا

ص: 463

به، فارجموه"، ويؤيده القياس على عدد شهود الزنا دون غيره من الحدود، وهو قول الكوفيين، والراجح عند الحنابلة، وزاد ابن أبي ليلى، فاشترط أن تتعدد مجالس الإقرار، وهي رواية عن الحنفية، وتمسكوا بصورة الواقعة، لكن الروايات فيها اختلفت.

قال الحافظ: والذي يظهر أن المجالس تعددت، لكن لا بعدد الإقرار، فأكثر ما نُقِل في ذلك أنه أقر مرتين، ثم عاد من الغد، فأقر مرتين، كما تقدم بيانه.

وتأول الجمهور بأن ذلك وقع في قصة ماعز، وهي واقعة حال، فجاز أن يكون لزيادة الاستثبات، ويؤيد هذا الجواب ما تقدم في سياق حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وما يأتي في قصة الغامدية حيث قالت لَمّا جاءت:"طهرني، فقال: ويحك ارجعي، فاستغفري، قالت: أراك تريد أن تردّدني كما رددت ماعزًا، إنها حبلى من الزنا"، فلم يؤخر إقامة الحدّ عليها إلا لكونها حبلى، فلما وَضعت أمَر برجمها، ولم يستفسرها مرة أخرى، ولا اعتبر تكرير إقرارها، ولا تعدد المجالس، وكذا وقع في قصّة العَسِيف الآتي أيضًا، حيث قال:"واغْدُ يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها - وفيه -: فغدا عليها، فاعترفت، فرجمها"، ولم يذكر تعدد الاعتراف، ولا المجالس، وسيأتي قريبًا مع شرحه مستوفًى.

وأجابوا عن القياس المذكور بأن القتل لا يُقبل فيه إلا شاهدان، بخلاف سائر الأموال، فيُقبل فيها شاهد وامرأتان، فكان قياس ذلك أن يُشترط الإقرار بالقتل مرتين، وقد اتفقوا أنه يكفي فيه مرة.

[فإن قلت]: والاستدلال بمجرد عدم الذِّكر في قصة العسيف وغيره فيه نظر، فإن عدم الذكر لا يدل على عدم الوقوع، فإذا ثبت كون العدد شرطًا فالسكوت عن ذِكره يَحْتَمِل أن يكون لِعِلم المأمور به، وأما قول الغامدية: تريد أن ترددني كما رددت ماعزًا، فيمكن التمسك به، لكن أجاب الطيبيّ بأن قولها:"إنها حبلى من الزنا"، فيه إشارة إلى أن حالها مغايرة لحال ماعز؛ لأنهما وإن اشتركا في الزنا، لكن العلة غير جامعة؛ لأن ماعزًا كان متمكنًا من

ص: 464

الرجوع عن إقراره، بخلافها، فكأنها قالت: أنا غير متمكنة من الإنكار بعد الإقرار؛ لظهور الحمل بها بخلافه.

وتُعُقِّب بأنه كان يمكنها أن تَدَّعي إكراهًا، أو خطأً، أو شبهةً.

والحاصل أن ما ذهب إليه الجمهور من عدم اشتراط أربع مرّات في الإقرار لا يخفى قوّته، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

11 -

(ومنها): أن الإمام لا يُشترط أن يبدأ بالرجم فيمن أقرّ، وإن كان ذلك مستحبًّا؛ لأن الإمام إذا بدأ مع كونه مأمورًا بالتثبت، والاحتياط فيه كان ذلك أدعى إلى الزجر عن التساهل في الحكم، وإلى الحضّ على التثبت في الحكم، ولهذا يبدأ الشهود إذا ثبت الرجم بالبينة.

12 -

(ومنها): جواز تفويض الإمام إقامة الحد لغيره.

13 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على أنه لا يُشترط الحفر للمرجوم؛ لأنه لم يُذْكَر في حديث الباب، بل وقع التصريح في حديث أبي سعيد الآتي:"قال: فما حفرنا له، ولا أوثقناه"، ولكن وقع في حديث بريدة الآتي:"فحُفِر له حفيرة".

ويمكن الجمع بأن المنفي حَفِيرة لا يمكنه الوثوب منها، والمثبت عكسه، أو أنهم في أول الأمر لم يحفروا له، ثم لما فَرّ، فأدركوه حفروا له حفيرة، فانتصب لهم فيها حتى فرغوا منه، وعند الشافعية: لا يُحفر للرجل، وفي وجهٍ: يتخير الإمام، وهو أرجح؛ لثبوته في قصة ماعز، فالمثبِت مقدم على النافي، وقد جُمِع بينهما بما دلّ على وجود حَفْر في الجملة، وفي المرأة أَوْجُه: ثالثها الأصحّ: إن ثبت زناها بالبينة استُحِب، لا بالإقرار، وعن الأئمة الثلاثة في المشهور عنهم: لا يُحفر، وقال أبو يوسف، وأبو ثور: يُحفر للرجل وللمرأة.

14 -

(ومنها): جواز تلقين المقرّ بما يوجب الحدّ ما يدفع به عنه الحدّ، وأن الحد لا يجب إلا بالإقرار الصريح، ومن ثم شُرِط على من شهد بالزنا أن يقول: رأيته وَلَج ذَكَره في فرجها، أو ما أشبه ذلك، ولا يكفي أن يقول: أشهد أنه زَنَا، وثبت عن جماعة من الصحابة تلقين المقرّ بالحدّ، كما أخرجه مالك عن عمرو بن أبي شيبة، عن أبي الدرداء، وعن عليّ في قصة شراحة، ومنهم من خَصّ التلقين بمن يُظَنّ به أنه يَجهل حكم الزنا، وهو قول أبي ثور، وعند

ص: 465

المالكية: يستثنى تلقين المشتهِر بانتهاك الحرمات، ويجوز تلقين من عداه، وليس ذلك بشرط.

15 -

(ومنها): تركُ سَجْن من اعتراف بالزنا في مدة الاستثبات، وفي الحامل حتى تضع، وقيل: إن المدينة لم يكن بها حينئذ سجن، وإنما كان يُسَلّم كل جانٍ لوليّه، وقال ابن العربيّ: إنما لم يأمر بسجنه، ولا التوكيل به؛ لأن رجوعه مقبول، فلا فائدة في ذلك مع جواز الإعراض عنه إذا رجع.

16 -

(ومنها): أنه يؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم: "هل أَحْصنتَ؟ " وجوب الاستفسار عن الحال التي تختلف الأحكام باختلافها.

17 -

(ومنها): أن إقرار السكران لا أثر له، يؤخذ من قوله:"استنكهوه"، والذين اعتبروه، وقالوا: إن عقله زال بمعصيته، ولا دلالة في قصة ماعز؛ لاحتمال تقدّمها على تحريم الخمر، أو أن سُكْره وقع عن غير معصية.

18 -

(ومنها): أن المقر بالزنا إذا هَرَبَ يُترَك، فإن صرَّح بالرجوع فذاك، وإلا اتُّبِع، ورُجِم، وهو قول الشافعيّ، وأحمد، ودلالته من قصة ماعز ظاهرة، وقد وقع في حديث نعيم بن هَزّال:"هلا تركتموه، لعله يتوب، فيتوب الله عليه"، أخرجه أبو داود، وصححه الحاكم، وللترمذيّ نحوه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم أيضًا، وعند أبي داود من حديث بُريدة رضي الله عنه قال:"كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتحدث أن ماعزًا، والغامدية لو رجعا لم يطلبهما"، وعند المالكية في المشهور، لا يُتْرَك إذا هَرَبَ، وقيل: يشترط أن يؤخذ على الفور، فإن لم يؤخذ تُرِك، وعن ابن عيينة: إن أُخذ في الحال كمل عليه الحدّ، وإن أُخذ بعد أيام تُرِك، وعن أشهب: إن ذَكَر عذرًا يُقبل تُرك، وإلا فلا، ونقله القعنبي عن مالك، وحكى الكجي عنه قولين فيمن رجع إلى شبهة، ومنهم من قيّده بما بعدَ إقراره عند الحاكم، واحتجوا بأن الذين رجموه حتى مات بعد أن هَرَب لم يُلْزَموا بديته، فلو شُرع تَرْكه لوجبت عليهم الدية.

والجواب أنه لم يُصَرّح بالرجوع، ولم يقل أحد: إن حد الرجم يسقط بمجرد الهرب، وقد عَبَّر في حديث بُريدة بقوله:"لعله يتوب".

19 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على الاكتفاء بالرجم في حدّ من أُحصن من غير جَلْد، وقد تقدم البحث فيه.

ص: 466

20 -

(ومنها): أن المصلَّى إذا لم يكن وقفًا لا يثبت له حكم المسجد.

21 -

(ومنها): أن المرجوم في الحدّ لا تُشرع الصلاة عليه إذا مات بالحدّ، وقد استوفيت البحث فيه في "شرح النسائيّ"، فراجعه تستفد

(1)

، وبالله تعالى التوفيق.

22 -

(ومنها): أن من وُجد منه ريح الخمر وجب عليه الحد من جهة استنكاه ماعز بعد أن قال له: "أشربت خمرًا؟ "، قال القرطبيّ: وهو قول مالك، والشافعيّ، كذا قال.

23 -

(ومنها) ما قال المازريّ: استَدَلّ به بعضهم على أن طلاق السكران لا يقع.

وتعقبه عياض بأنه لا يلزم من درء الحدّ به أنه لا يقع طلاقه؛ لوجود تهمته على ما يظهره من عدم العقل، قال: ولم يُختلَف في غير الطافح

(2)

أن طلاقه لازم، قال: ومذهبنا التزامه بجميع أحكام الصحيح؛ لأنه أدخل ذلك على نفسه، وهو حقيقة مذهب الشافعيّ، واستثنى من أُكره، ومن شرب ما ظَنّ أنه غير مُسْكِر، ووافقه بعض متأخري المالكية، وقال النوويّ: الصحيح عندنا صحة إقرار السكران، ونفوذ أقواله فيما له وعليه، قال: والسؤال عن شربه الخمر محمول عندنا على أنه لو كان سكرانًا لم يُقَم عليه الحد، كذا أَطْلَق، فأُلزم التناقض، وليس كذلك، فإن مراده: لم يُقَم عليه الحد؛ لوجود الشبهة كما تقدم من كلام عياض.

ومن المذاهب الظريفة فيه قول الليث: يُعْمَل بأفعاله، ولا يُعْمَل بأقواله؛ لأنه يلتذ بفعله، ويَشفِي غيظه، ولا يفقه أكثر ما يقول، وقد قال تعالى:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، ذكر هذا كلّه في "الفتح"

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

راجع: "ذخيرة العقبى في شرح المجتبى" 19/ 236 - 237.

(2)

يقال: سكران طافح؛ أي: ملأه الشراب.

(3)

"الفتح" 15/ 613 - 618، كتاب "الحدود" رقم (6814).

ص: 467

[4413]

(. . .) - (قَالَ مُسْلِمٌ

(1)

: وَرَوَاهُ اللَّيْثُ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ) ويقال: اسم جدّه ثابت بن مسافر، ويقال غير ذلك، أبو خالد، ويقال: أبو الوليد الْفَهميّ، أمير مصر، صدوقٌ [7].

رَوَى عن الزهريّ، وروى عنه الليث بن سعد، ويحيى بن أيوب المصريّ.

قال ابن معين: كان على مصر، وكان عنده عن الزهريّ كتاب فيه مائتا حديث، أو ثلاث مائة، كان الليث يحدّث بها عنه، وكان جدّه شَهِد فتح بيت المقدس مع عمر، وقال أبو حاتم: صالح، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وقال العجليّ: مصريّ ثقة، وقال الذهليّ: ثبت، وقال الدارقطنيّ: ثقةٌ، وقال الساجيّ: هو عندهم من أهل الصدق، وله مناكير، وقرنه النسائيّ في طبقات أصحاب الزهريّ بابن أبي ذئب وغيره، وذكره ابن حبان في "الثقات".

وقال ابن يونس: كانت ولايته على مصر سنة (118)، وعُزل سنة (19) وكان ثبتًا في الحديث، يقال: توفي سنة سبع وعشرين ومائة، وجزم القرّاب، وابن حبان بوفاته سنة سبع.

استَشهد به مسلم في حديث واحد: "أرأيتم ليلتكم هذه".

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود في "المراسيل"، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1691) تعليقًا، واستشهد به في حديث (2537):"أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد. . ." الحديث.

والباقيان ذُكرا في السند الماضي.

[تنبيه]: هكذا أورد المصنّف رحمه الله هذا الإسناد معلّقًا، وأحاله على ما قبله، وقد وصله البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، وساقه تمامًا، فقال:

(1)

قوله: "قال مسلم" زاده في النسخة الهنديّة، ومسلم هو صاحب الكتاب، فتنبّه.

ص: 468

(6439)

- حدّثنا سعيد بن عُفير، قال: حدّثني الليث، حدّثني عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، عن ابن المسيِّب، وأبي سلمة، أن أبا هريرة قال: أَتَى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من الناس، وهو في المسجد، فناداه: يا رسول الله، إني زنيت - يريد نفسه - فأعرض عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فتنحى لشقّ وجهه الذي أعرض قِبَلَهُ، فقال: يا رسول الله، إني زنيت، فأعرض عنه، فجاء لشقّ وجه النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي أعرض عنه، فلما شَهِد على نفسه أربع شهادات، دعاه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"أبك جنون؟ " قال: لا يا رسول الله، فقال:"أَحْصَنْتَ؟ " قال: نعم يا رسول الله، قال:"اذهبوا به، فارجموه"، قال ابن شهاب: أخبرني من سمع جابرًا قال: فكنت فيمن رجمه، فرجمناه بالمصلَّى، فلما أذلقته الحجارة جَمَزَ، حتى أدركناه بالحرّة، فرجمناه". انتهى.

وقوله: "جَمَز" بالجيم، من باب ضرب: عدا، وأسرع، والله تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: قال الحافظ الرشيد العطّار رحمه الله في كتابه "غرر الفوائد المجموعة": أخرج مسلم في "كتاب الحدود"، حديث الليث بن سعد مقطوعًا، عن عبد الرحمن بن خالد، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيِّب، وأبي سلمة كليهما عن أبي هريرة، أنه قال: أَتَى رجل من المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في المسجد، فناداه، فقال: يا رسول الله، إني زنيت فأعرض عنه. . . الحديث.

قال ابن شهاب: أخبرني من سمع جابرًا قال: فكنت فيمن رجمه فرجمناه بالمصلى، فلما أذلقته الحجارة جَمَزَ حتى أدركناه بالحرّة فرجمناه.

هكذا أورده البخاريّ في باب سؤال الإمام المُقِرَّ: هل أَحْصَنتَ؟ فثبت اتصاله من هذا الوجه الآخر - والحمد لله -.

والرجل المرجوم المبهم اسمه في هذا الحديث هو ماعز بن مالك الأسلميّ، وقد جاء مسمى هكذا في "الصحيح" من حديث أبي سعيد الخدريّ، وبُريدة بن الْحُصيب، وغيرهما، وذكر بعض العلماء أنه لا خلاف بين أصحاب الحديث في ذلك.

وقيل: إن ماعزًا لقب له، واسمه عريب بن مالك، حكى ذلك الحافظ

ص: 469

أبو القاسم خلف بن عبد الملك القرطبي، وعزاه إلى الحافظين أبي عليّ بن السكن، وأبي الوليد ابن الفرضيّ، والله أعلم.

وفي "سنن أبي داود": أن ماعزًا كان يتيمًا في حِجر هزال الأسلمي، وأنه الذي عنى النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله لهزال:"يا هزال لو سترته بردائك كان خيرًا لك".

وقول الزهري: فأخبرني من سمع جابر بن عبد الله يقول: فكنت فيمن رجمه، يدخل في باب المقطوع على مذهب من يرى ذلك كما تقدم بيانه، ويَحْتَمِل

(1)

أن يكون المخبِر للزهري هو أبو سلمة بن عبد الرحمن؛ لأن مسلمًا أخرج بعد حديث عُقيل عن الزهري الذي ذكرناه أوّلًا حديث يونس ومعمر وغيرهما عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن جابر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال: نحو حديث عُقيل عن الزهريّ، عن سعيد، وأبي سلمة عن أبي هريرة، والله عز وجل أعلم.

وقوله: "أذلقته الحجارة"؛ يعني: بلغت به الجهد، ومعناه: أوجعته وأوهنته، وقيل: أصابته بحدّها فعَقَرته، ومعنى الجميع متقارب، وقوله:"جَمَزَ": معناه: أسرع يُهروِل، والْجَمَزى: ضرب من السير؛ كأنه قَفَز، ويقال: جَمَز وأجمز، والله الموفق. انتهى كلام الرشيد العطّار رحمه الله

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4414]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا

(3)

أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ أَيْضًا، وَفِي حَدِيثِهِمَا جَمِيعًا: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ، كَمَا ذَكَرَ عُقَيْلٌ).

(1)

هذا الاحتمال هو الصواب، وأما الأول، فغير صحيح، وقد أوضحت ذلك فيما سبق قريبًا من هذا الشرح، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(2)

"غرر الفوائد المجموعة" 1/ 19 - 21.

(3)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 470

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) تقدم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(أَبُو الْيَمَانِ) الحكم بن نافع الْبَهْرانيّ الحمصيّ، ثقةٌ ثبتٌ، يقال: إن أكثر حديثه عن شعيب بن أبي حمزة مناولة [10](ت 222)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 196.

3 -

(شُعَيْبُ) بن أبي حمزة دينار الأمويّ مولاهم، أبو بشر الحمصيّ، ثقةٌ عابدٌ، من أثبت الناس في الزهريّ [7](ت 162) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 196.

و"الزهريّ" ذُكر قبله.

وقوله: (وَفِي حَدِيثِهِمَا جَمِيعًا) الضمير لعبد الرحمن بن خالد بن مسافر، وشعيب بن أبي حمزة.

[تنبيه]: رواية شعيب بن أبي حمزة، عن الزهريّ هذه، ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(6262)

- حدّثنا محمد بن يحيى، قثنا أبو اليمان، قثنا شعيب، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، وسعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة، قال: أَتَى رجل من أسْلَمَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وهو في المسجد، فناداه، فقال: يا رسول الله، إن الآخر زنا - يعني: نفسه - فأعرض عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فتنحى لشق وجهه الذي أعرض قِبَلَهُ، فقال: يا رسول الله، إن الآخر قد زنا، فاعرض عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فتنحى لِشقّ وجهه الذي أعرض من قِبَلِهِ، فقال: يا رسول الله، إن الآخر زنا، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنحى إلى الرابعة، فلمّا شَهِد على نفسه أربع مرات، دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"هل بك جنون؟ " فقال: لا، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اذهبوا به، فارجموه"، وكان قد أَحْصَنَ.

قال الزهريّ: فأخبرني من سمع جابر بن عبد الله الأنصاريّ قال: كنت فيمن رجمه، فرجمناه بالمدينة بالمصلَّى، فلما أذلقته الحجارة جَمَزَ، حتى أدركناه بالحرّة، فرجمناه حتى مات. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 124.

ص: 471

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4415]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ رِوَايَةِ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ).

رجال هذا الإسناد: أحد عشر:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هو: ابن راهويه، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم أيضًا قبل بابين.

3 -

(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم أيضًا قبل بابين.

4 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

والباقون ذُكروا في الباب والباب الماضي.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ)؛ يعني: كلّ هؤلاء الثلاثة، وهم: يونس بن يزيد الأيليّ، ومعمر بن راشد، وابن جريج.

[تنبيه]: رواية يونس، عن الزهريّ، ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(6264)

- حدّثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنبا ابن وهب، قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر بن عبد الله، أن رجلًا من أسلم، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في المسجد، فناداه، فحدثه أنه زنا، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنحى لشقه الذي أعرض قِبَلَه، فأخبره بأنه زنا، وشَهِد على نفسه أربع مرات، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"هل بك جنون؟ " قال: لا، قال:"فهل أَحْصَنت؟ " قال: نعم، فأَمَر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُرْجَم بالمصلَّى، فلما أذلقته الحجارة جَمَزَ، حتى أُدْرِكَ بالحرّة، فقُتِل بها رَجْمًا. انتهى

(1)

.

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 125.

ص: 472

وأما رواية معمر، عن الزهريّ، فساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(6434)

- حدّثني محمود، حدّثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن جابر، أن رجلًا من أسلم، جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم، فاعتَرَف بالزنا، فأَعْرض عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى شَهِد على نفسه أربع مرات، قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أبك جنون؟ " قال: لا، قال:"أَحْصَنتَ؟ " قال: نعم، فأَمَر به، فرُجِم بالمصلَّى، فلما أذلقته الحجارة فَرّ، فأُدْرِك، فرُجِم حتى مات، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم خيرًا، وصلَّى عليه، لم يقل يونس، وابن جريج، عن الزهريّ: فصلى عليه، سئل أبو عبد الله، هل قوله: فصلى عليه يصح أم لا؟ قال: رواه معمر، قيل له: رواه غير معمر؟ قال: لا. انتهى.

وقوله: "فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم خيرًا"؛ أي: ذَكَره بجميل، ووقع في حديث أبي سعيد الآتي:"فما استغفر له، ولا سبَّه"، وفي حديث بريدة الآتي أيضًا:"فكان الناس فيه فرقتين: قائل يقول: لقد هلك، لقد أحاطت به خطيئته، وقائل يقول: ما توبة أفضل من توبة ماعز، فَلَبِثوا ثلاثًا، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: استغفروا لماعز بن مالك"، وفي حديث بريدة أيضًا:"لقد تاب توبةً، لو قُسمت على أُمَّة لَوَسِعتهم"، وفي حديث أبي هريرة عند النسائيّ:"لقد رأيته بين أنهار الجنة ينغمس"، وفي حديث جابر عند أبي عوانة:"فقد رأيته يتخضخض في أنهار الجنة"، وفي حديث اللجلاج عند أبي داود، والنسائيّ:"ولا تقل له: خبيث، لَهُو عند الله أطيب من ريح المسك"، وفي حديث أبي الفيل عند الترمذيّ:"لا تشتمه"، وفي حديث أبي ذرّ عند أحمد:"قد غُفِر له، وأُدخل الجنة"، ذكره في "الفتح"

(1)

.

وقوله: "وصلى عليه": قال في "الفتح": هكذا وقع هنا عن محمود بن غيلان، عن عبد الرزاق، وخالفه محمد بن يحيى الذُّهليّ، وجماعة، عن عبد الرزاق، فقالوا في آخره:"ولم يصلِّ عليه".

(1)

"الفتح" 15/ 622 - 623، كتاب "الحدود" رقم (6820).

ص: 473

قال المنذريّ في "حاشية السنن": رواه ثمانية أنفس عن عبد الرزاق، فلم يذكروا قوله:"وصلى عليه".

قال الحافظ: قد أخرجه أحمد في "مسنده" عن عبد الرزاق، ومسلم عن إسحاق بن راهويه، وأبو داود، عن محمد بن المتوكل العسقلانيّ، وابن حبان من طريقه، زاد أبو داود: والحسن بن عليّ الخلال، والترمذيّ عن الحسن بن عليّ المذكور، والنسائيّ، وابن الجارود، عن محمد بن يحيى الذُّهليّ، زاد النسائيّ: ومحمد بن رافع، ونوح بن حبيب، والإسماعيليّ، والدارقطنيّ من طريق أحمد بن منصور الرماديّ، زاد الإسماعيليّ: ومحمد بن عبد الملك بن زنجويه، وأخرجه أبو عوانة عن الدَّبَريّ، ومحمد بن سهل الصغاني، فهؤلاء أكثر من عشرة أنفس، خالفوا محمودًا، منهم من سكت عن الزيادة، ومنهم من صرّح بنفيها. انتهى.

وقوله: "سئل أبو عبد الله، هل قوله: فصلى عليه، يصح أم لا؟ قال: رواه معمر، قيل له: هل رواه غير معمر؟ قال: لا".

قال الحافظ رحمه الله: وقع هذا الكلام في رواية المستملي وحده، عن الفربريّ، وأبو عبد الله هو البخاريّ، وقد اعتُرِض عليه في جزمه بأن معمرًا روى هذه الزيادة، مع أن المنفرد بها إنما هو محمود بن غيلان، عن عبد الرزاق، وقد خالفه العدد الكثير من الحفاظ، فصرّحوا بأنه لم يصلّ عليه، لكن ظهر لي أن البخاريّ قَوِيت عنده رواية محمود بالشواهد، فقد أخرج عبد الرزاق أيضًا، وهو في "السنن" لأبي قُرّة من وجه آخر، عن أبي أمامة بن سهل بن حُنيف في قصة ماعز، قال:"فقيل: يا رسول الله أتصلي عليه؟ قال: لا، قال: فلما كان من الغد قال: صلوا على صاحبكم، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس".

فهذا الخبر يجمع الاختلاف، فتُحْمَل رواية النفي على أنه لم يصلِّ عليه حين رُجِم، ورواية الإثبات على أنه صلى الله عليه وسلم صلى عليه في اليوم الثاني، وكذا طريق الجمع لِمَا أخرجه أبو داود، عن بُريدة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالصلاة على ماعز، ولم ينه عن الصلاة عليه، ويتأيد بما أخرجه مسلم من حديث عمران بن حصين في قصة الجهنية التي زَنَت، ورُجِمت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى عليها، فقال له

ص: 474

عمر: أتصلي عليها، وقد زنت؟ فقال:"لقد تابت توبةً، لو قُسمت بين سبعين لوسعتهم".

وحكى المنذريّ قول مَن حمل الصلاة في الخبر على الدعاء، ثم قال: في قصة الجهنية دلالة على توهين هذا الاحتمال، قال: وكذا أجاب النوويّ، فقال: إنه فاسد؛ لأن التأويل لا يصار إليه إلا عند الاضطرار إليه، ولا اضطرار هنا.

وقال ابن العربيّ: لم يثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى على ماعز، قال: وأجاب من منع عن صلاته على الغامدية؛ لكونها عَرَفت حكم الحدّ، وماعز إنما جاء مستفهمًا، قال: وهو جوابٌ واهٍ، وقيل: لأنه قتله غضبًا لله، وصلاته رحمة، فتنافيا، قال: وهذا فاسد؛ لأن الغضب انتهى، قال: ومحل الرحمة باق.

والجواب المرضي أن الإمام حيث ترك الصلاة على المحدود كان ردعًا لغيره، قال الحافظ: وتمامه أن يقال: وحيث صلى عليه يكون هناك قرينة لا يحتاج معها إلى الردع، فيختلف حينئذ باختلاف الأشخاص.

وقد اختَلَف أهل العلم في هذه المسألة، فقال مالك: يأمر الإمام بالرجم، ولا يتولاه بنفسه، ولا يُرفع عنه حتى يموت، ويخلي بينه وبين أهله يغسلونه، ويصلّون عليه، ولا يصلي عليه الإمام ردعًا لأهل المعاصي، إذا عَلِموا أنه ممن لا يصلى عليه، ولئلا يجترئ الناس على مِثل فعله، وعن بعض المالكية: يجوز للإمام أن يصلي عليه، وبه قال الجمهور، والمعروف عن مالك أنه يكره للإمام، وأهل الفضل الصلاة على المرجوم، وهو قول أحمد، وعن الشافعيّ: لا يُكره، وهو قول الجمهور، وعن الزهريّ: لا يصلى على المرجوم، ولا على قاتل نفسه، وعن قتادة: لا يصلى على المولود من الزنا، وأَطلق عياض، فقال: لم يختلف العلماء في الصلاة على أهل الفسق، والمعاصي، والمقتولين في الحدود، وإن كَرِه بعضهم ذلك لأهل الفضل، إلا ما ذهب إليه أبو حنيفة في المحارِبين، وما ذهب إليه الحسن في الميتة من نفاس الزنا، وما ذهب إليه الزهريّ، وقتادة. قال: وحديث الباب في قصة الغامدية حجة للجمهور، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(1)

"الفتح" 15/ 623 - 624، كتاب "الحدود" رقم (6820).

ص: 475

قال الجامع عفا الله عنه: قد حققت هذه المسألة في "شرح النسائيّ"، ورجَّحت مذهب الجمهور، فراجعه تستفد

(1)

، وبالله تعالى التوفيق.

وأما رواية ابن جُريج، عن الزهريّ، فساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(6266)

- حدّثنا أبو داود الحرانيّ، قثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: أخبرني ابن شهاب (ح) حدّثنا إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرني ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد الله، أن رجلًا من أسلم، يقال له: ماعز، أَتَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدّثه أنه زنا، وشَهِد أربع مرّات، أو شهادات، فأَمَر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرُجِم، وكان قد أَحْصَن، قال عبد الرزاق: زعموا أنه ماعز بن مالك. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4416]

(1692) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ حِينَ جِيءَ بِهِ إِلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ قَصِيرٌ

(3)

، أَعْضَلُ، لَيْسَ عَلَيْهِ رِدَاءٌ، فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ أَنَّهُ زَنَى، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"فَلَعَلَّكَ"، قَالَ: لَا وَاللهِ، إِنَّهُ قَدْ زَنَى الأَخِرُ، قَالَ: فَرَجَمَهُ، ثُمَّ خَطَبَ، فَقَالَ: "ألَا كُلَّمَا نَفَرْنَا غَازِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ خَلَفَ أَحَدُهُمْ، لَهُ نَبِيبٌ كَنَبِيبِ التَّيْسِ، يَمْنَحُ أَحَدُهُمُ الْكُثْبَةَ

(4)

، أَمَا وَاللهِ إِنْ يُمْكِنِّي

(5)

مِنْ أَحَدِهِمْ لأُنَكِّلَنَّهُ عَنْهُ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ) البصريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(أَبُو عَوَانَةَ) الوضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ البزّاز، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

(1)

راجع: "ذخيرة العقبى في شرح المجتبى" 19/ 236 - 237.

(2)

"مسند أبي عوانة" 4/ 126.

(3)

وفي نسخة: "وهو رجل قصير".

(4)

وفي نسخة: "يمنح إحداهنّ الكثبة".

(5)

وفي نسخة: "إن يُمَكِّنِّي".

ص: 476

3 -

(سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قريبًا.

4 -

(جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ) بن جُنادة السُّوائيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، نزل الكوفة، ومات بها بعد سنة سبعين (ع) تقدم في "الحيض" 24/ 808.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (291) من رباعيّات الكتاب.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: رَأَيْتُ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ) رضي الله عنه (حِينَ جِيءَ بِهِ إِلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: ليعترف بالزنا، (رَجُلٌ قَصِيرٌ)، وفي بعض النسخ:"وهو رجل قصير"، فقوله:"رجل" على النسخة الأولى خبر لمحذوف؛ أي: وهو رجل، والجملة حاليّة من "ماعز"، (أَعْضَلُ) بالضاد المعجمة؛ أي: مشتدّ الخَلْق، وفي الرواية التالية:"أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قصير، أشعث، ذي عَضَلات" - بفتح المهملة، ثم المعجمة -: ما اجتمع من اللحم في أعلى باطن الساق، وسيأتي شرحه هناك. (لَيْسَ عَلَيْهِ رِدَاءٌ)، وفي الرواية التالية:"عليه إزار". (فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ أَنَّهُ زَنَى)، وفي الرواية التالية:"فردّه مرّتين"، وفي أخرى:"فردّه مرّتين، أو ثلاثًا"، وقد تقدّم وجه الجمع قريبًا، فلا تغفل. (فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"فَلَعَلَّكَ") خبره محذوف؛ أي: لعلّك قبّلت، أو غمزت، أو نحو ذلك، كما صُرّح به في الروايات الأخرى، قال النوويّ رحمه الله: معنى هذا الكلام: الإشارة إلى تلقينه الرجوع عن الإقرار بالزنى، واعتذاره بشبهة يتعلق بها، كما جاء في الرواية الأخرى:"لعلك قَبَّلت، أو غَمَزت"، فاقتصر في هذه الرواية على "لعلك"؛ اختصارًا، وتنبيهًا، واكتفاءً بدلالة الكلام والحال على المحذوف؛ أي: لعلك قَبَّلت، أو نحو ذلك، ففيه استحباب تلقين المُقِرّ بحدّ الزنى، والسرقة، وغيرهما من حدود الله تعالى، وأنه يُقبل رجوعه عن ذلك؛ لأن الحدود مبنية على المساهلة والدرء، بخلاف حقوق الآدميين، وحقوق الله تعالى المالية؛ كالزكاة، والكفارة، وغيرهما، لا يجوز التلقين فيها، ولو رَجَع لم يُقبل رجوعه، وقد جاء تلقين الرجوع عن الإقرار بالحدود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم،

ص: 477

وعن الخلفاء الراشدين، ومن بعدهم، واتفق العلماء عليه. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: فيه من الفقه جواز تلقين الإمام للمقرِّ ما يدرأ عنه الحدّ، وقد رُوي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأئمة العلماء، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال لسارقٍ:"ما أخالُك سَرَقْتَ"

(2)

، وروي عن أبي بكر، وعمر، وأبي الدرداء قالوا لسارقٍ:"أسرقتَ؟ قُل: لا"، وعن عمر: ما أَرَى يد سارقٍ، وعن ابن مسعود: لعلك وجدته، وعن عليٍّ رضي الله عنه وقال لِحُبْلَى: لعلَّكِ استُكْرِهْتِ، لعلَّك وُطِئْتِ نائمةً، وقال للحُبْلى الباكِيَة: إن المرأة قد تُسْتَكْرَه، وقد أجاز ذلك أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وغيرهم. انتهى

(3)

.

(قَالَ) ماعز رضي الله عنه (لَا)؛ أي: لم أكتف بالتقبيل، أو نحوه (وَاللهِ، إِنَّهُ قَدْ زَنَى)؛ أي: بإدخال الذَّكر في الفرج الحرام، وقوله:(الأَخِرُ) بهمزة مقصورة، وخاء مكسورة، ومعناه الأرذل، والأبعد، والأدنى، وقيل: اللئيم، وقيل: الشقيّ، وكله متقارب، ومراده نفسه، فحقّرها، وعابها، لا سيما وقد فعل هذه الفاحشة، وقيل: إنها كناية يَكْنِي بها عن نفسه، وعن غيره إذا أَخبر عنه بما يُستقبح

(4)

.

(قَالَ) جابر بن سَمُرة رضي الله عنه (فَرَجَمَهُ)؛ أي: أمر صلى الله عليه وسلم برجمه (ثُمَّ خَطَبَ، فَقَالَ: "أَلا) أداة استفتاح، وتنبيه، يُلقى بها للمخاطب؛ تنبيهًا له، وإزالة لغفلته، (كُلَّمَا نَفَرْنَا)؛ أي: ذهبنا، قال الفيّوميّ رحمه الله: نَفَرَ نَفْرًا، من باب ضرب، في اللغة العالية، وبها قرأ السبعة، ونَفَرَ نُفُورًا، من باب قعد لغةٌ، وقُرِئ بمصدرها في قوله تعالى:{إِلَّا نُفُورًا} [الإسراء: 41]، والنَّفِيرُ: مثل النُّفُورِ، والاسم: النَّفَرُ - بفتحتين - ونَفَرَ القومُ: أعرضوا، وصَدُّوا، ونَفَرُوا نَفَرًا: تفرقوا، ونَفَرُوا إلى الشيء: أسرعوا إليه، ويقال للقوم النّافرين لحرب، أو غيرها: نَفِيرٌ؛ تسميةً بالمصدر، ونَفَرَ الوحش نُفُورًا، والاسم: النِّفَارُ

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 195.

(2)

حديث ضعيف، رواه أحمد، وأبو داود.

(3)

"المفهم" 5/ 95 - 96.

(4)

"شرح النوويّ" 11/ 195.

ص: 478

بالكسر، ويتعدى بالتضعيف ع ونَفَرَ الجرح نُفُورًا: وَرِمَ، ونَفَرَ الحاجّ من مِنًى: دفعوا. انتهى

(1)

، وقوله:(غَازِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ) منصوب على الحال، (خَلَفَ أَحَدُهُمْ) يقال: خَلَفَ فلانًا على أهله وماله، من باب قَعَد: صار خليفته، وخَلَفته: جئتُ بعده، والْخِلْفَةُ بالكسر اسم منه؛ كالقِعْدة لهيئة القُعُود

(2)

. (لَهُ نَبِيبٌ كَنَبِيبِ التَّيْسِ)؛ أي: له صوت كصوت التيس عند السفاد، يقال: نَبَّ يَنِبّ، من باب ضرب نَبًّا، ونبيبًا، ونُبابًا بالضمّ، ونَبْنب: صاح عند الْهِيَاج.

والتيس: الفحل من الغنم، والمراد أن بعض الناس يظهرون شهوتهم على النساء الْمُغِيبات بعد ما خرج رجالهنّ إلى الغزو، ولعل بعض المنافقين كانوا يفعلون ذلك.

قال صاحب "التكملة": وبهذه الخطبة اغترّ بعض المعاصرين، وقالوا: إن ماعزًا رضي الله عنه كان يفعل ذلك، ولذلك ذكره النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد رجمه، والحقّ أنه ليس في هذه الخطبة ما يدلّ على ذلك، وإنما ذكره النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد رجمه؛ ليعتبر هؤلاء المفسدون بعقوبة ماعز، وينتبهوا بأنه يمكن معاقبتهم أيضًا بمثل هذه العقوبة، وأما ماعز رضي الله عنه فسيأتي للمصنّف أن أهله شهدوا له بقولهم:"ما نعلمه إلا وفيّ العقل، من صالحينا"، ولقد شَهِد له النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"إنه الآن لفي أنهار الجنّة ينغمس"، كما أخرجه أبو داود، فكيف يصحّ فيه أنه كان معتادًا بمثل هذه الفاحشة؟ والعياذ بالله، وأما صدور الإثم فكان اتفاقيًّا، ولم يكن متعوّدًا لذلك، كما يدلّ عليه اعترافه، وندمه رضي الله عنه. انتهى

(3)

.

(يَمْنَحُ) بفتح الياء والنون؛ أي: يعطي (أَحَدُهُمُ) بالرفع على الفاعليّة، ومفعوله الأول محذوف؛ أي: النساءَ، وفي بعض النسخ:"يمنح إحداهنّ"، فيكون "إحداهنّ" هو المفعول الأول، وفاعله ضمير "أحدهم"، (الْكُثْبَةَ) - بضم الكاف وإسكان المثلثة -: القليل من اللبن وغيره، وقيل: هي مثلُ الْجُرعة تبقى في الإناء، وقيل: قدرُ حَلْبة، وقيل: ملء القَدَح من اللبن

(4)

.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 617.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 178.

(3)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 2/ 443.

(4)

"لسان العرب" 1/ 702.

ص: 479

والمراد: أن ذلك الرجل يُظهر شهوته عند النساء المغيبات، يخدعهنّ بإعطاء كُثبة؛ ليفوز بما يريد منهنّ.

(أَمَا) أداة استفتاح، وتنبيه، مثل "ألا" السابقة، (وَاللهِ إِنْ يُمْكِنِّي) بضم أوله، وكسر الكاف، من الإمكان، وفي بعض النسخ:"إن يُمَكّنِّي" بفتح الميم، وتشديد الكاف، (مِنْ أَحَدِهِمْ، لأُنَكِّلَنَّهُ عَنْهُ")؛ أي: لأجعلّنه نَكَالًا، يقال: نَكَلَ به يَنْكُلُ، من باب قَتَل نُكْلةً قَبيحةً: أصابه بنازلة، ونَكّل به بالتشديد للمبالغة أيضًا، والاسم: النكال بالفتح

(1)

.

والمعنى: إن أعطاني الله تعالى القدرة على أحدهم لأعاقبنّه حتى يصير نكالًا لمن بين يديه، ومن خلفه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن سَمُرة رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 4416 و 4417 و 4418](1692)، و (أبو داود) في "الحدود"(4422 و 4423)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(7182)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(13343)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 73)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 104)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 102 - 103)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 231)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4436)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 127 - 129)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 142 - 143)، و (الطبرانيّ)(2/ 222 و 235 و 249)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 444)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 226 - 227)، وفوائد الحديث تقدّمت في شرح الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

(1)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 625.

ص: 480

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4417]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى - قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ يَقُولُ

(1)

: أُتِيَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ قَصِيرٍ، أَشْعَثَ، ذِي عَضَلَاتٍ، عَلَيْهِ إِزَارٌ، وَقَدْ زَنَى، فَرَدَّهُ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ، فَرُجِمَ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"كُلَّمَا نَفَرْنَا غَازِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، تَخَلَّفَ أَحَدُكُمْ، يَنِبُّ نَبِيبَ التَّيْسِ، يَمْنَحُ إِحْدَاهُنَّ الْكُثْبَةَ، إِنَّ اللهَ لَا يُمْكِنِّي مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ إِلَّا جَعَلْتُهُ نَكَالًا"، أَوْ نَكَّلْتُهُ، قَالَ: فَحَدَّثْتُهُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ رَدَّهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل باب.

وقوله: (أَشْعَثَ) يقال: شَعِثَ الشعرُ، فهو شَعِثٌ، من باب تَعِبَ: تغيّر، وتلبّد؛ لقلّة تعهّده بالدهن، ورجل أشعث، وامرأة شعثاء

(2)

.

وقوله: (ذِي عَضَلَاتٍ) - بفتح المهملة، ثم المعجمة - قال أبو عبيدة: العَضَلة: ما اجتمع من اللحم في أعلى باطن الساق، وقال الأصمعيّ: كل عصبة مع لحم فهي عَضَلة، وقال ابن القطاع: العَضَلة: لحم الساق والذراع، وكل لحمة مستديرة في البدن، والأعضل: الشديد الخَلق، ومنه أَعضل الأمر: إذا اشتد، لكن دلت الرواية الأخرى على أن المراد به هنا كثير العَضَلات، قاله في "الفتح".

وقوله: (تَخَلَّفَ أَحَدُكُمْ، يَنِبُّ) بفتح الياء، وكسر النون، وتشديد الباء الموحّدة؛ أي: يصيح.

وقوله: (لَا يُمْكِنِّي) أصله يُمكنني بنونين، فأدغمت نون الفعل في نون الوقاية.

وقوله: (إِلَّا جَعَلْتُهُ نَكَالًا"، أَوْ نَكَّلْتُهُ)"أو" للشكّ من الراوي؛ أي: جعلته عِظَةً وعِبْرةً لمن بعده بما أصابته منه من العقوبة؛ ليمتنعوا من تلك الفاحشة.

(1)

وفي نسخة: "قال".

(2)

"المصباح المنير" 1/ 314.

ص: 481

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى البحث فيه، ولله الحمد.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4418]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، عَنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ جَعْفَرٍ، وَوَافَقَهُ شَبَابَةُ عَلَى قَوْلِهِ: فَرَدَّهُ مَرَّتَيْنِ، وَفِي حَدِيثِ أَىِ عَامِرٍ: فَرَدَّهُ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(شَبَابَةُ) بن سَوّار المدائنيّ، خراسانيّ الأصل، يقال: اسمه مروان الفزاريّ مولاهم، ثقةٌ حافظٌ، رُمي بالإرجاء [9](ت 4 أو 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.

2 -

(أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ) عبد الملك بن عمرو، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

والباقون ذُكروا في الباب، والذي قبله.

[تنبيه]: رواية شبابة بن سَوّار، عن شعبة ساقها أبو بكر بن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:

(28771)

- حدّثنا أبو بكر، قال: حدثنا شَبَابة بن سَوّار، قال: حدّثنا شعبة، عن سماك، عن جابر بن سَمُرة، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أُتِي بماعز بن مالك، أُتِي برجل أشعر ذي عَضَلات، في إزاره، فردّه مرتين، ثم أمر برجمه. انتهى.

وأما رواية أبي عامر العَقَديّ، عن شعبة، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4419]

(1693) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ - وَاللَّفْظُ لِقُتَيْبَةَ - قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ: "أَحَقٌ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ؟ "، قَالَ: وَمَا بَلَغَكَ عَنِّي؟ قَالَ: "بَلَغَنِي أَنَّكَ وَقَعْتَ بِجَارِيَةِ آلِ فُلَانٍ"، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ، فَرُجِمَ).

ص: 482

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرِ) بن هشام الأسديّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 95)(ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 329.

3 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما، تقدّم في الباب الماضي.

والباقون ذُكروا قبل حديثين.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (أَنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه ("أَحَقٌّ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ؟ ") هذا صريح في كون النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الذي سأل ماعزًا عن زناه، وهو معارِض لِمَا سبق من الروايات الكثيرة أنه هو الذي أتى إليه، فأخبره بذلك، قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع في هذه الرواية، والمشهور في باقي الروايات أنه أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"طَهِّرني"، قال العلماء: لا تناقض بين الروايات، فيكون قد جيء به إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم من غير استدعاء من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في غير مسلم أن قومه أرسلوه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم للذي أرسله:"لو سترته بثوبك يا هَزّال، لكان خيرًا لك"، وكان ماعز عند هَزّال، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لماعز بعد أن ذكر له الذين حضروا معه ما جرى له:"أحقّ ما بلغني عنك؟. . ." إلى آخره. انتهى

(1)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: فإن قلت: كيف التوفيق بين هذا الحديث، وبين حديث بُريدة؟ فإن هذا يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم كان عارفًا بزنا ماعز، فاستنطقه؛ ليُقرّ به؛ ليقيم عليه الحدّ، وحديث بُريدة، وأبي هريرة، ويزيد بن نُعيم يدلّ على أنه- صلى الله عليه وسلم لم يكن عارفًا به، فجاء ماعز، فأقرّ، فاعرض عنه مرارًا، ثم جرت بعد ذلك أحوال جمّةٌ، ثم رُجِم؟.

قلت: للبلغاء مقامات، وأساليب، فمن مقام يقتضي الإيجاز، فيقتصرون على كلمات معدودة، ومن مقام يقتضي الإطناب، فيُطنبون فيه كلَّ الإطناب، قال:

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 196 - 197.

ص: 483

يَرْمُونَ بِالْخُطَبِ الطِّوَالِ وَتَارَةً

وَحْيَ الْمُلَاحِظِ خِيفَةَ الرُّقَبَاءِ

فابن عبّاس سلك طريق الاختصار، فأخذ من أول القصّة وآخرها؛ إذ كان قصده بيان رجم الزاني المحصَن بعد إقراره، وبُريدة، وأبو هريرة، ويزيد سلكوا سبيل الإطناب في بيان مسائل مهمّة للأمة، وذلك لا يَبعد أنه صلى الله عليه وسلم بلغه حديث ماعز، فأحضره بين يديه، فاستنطقه؛ ليُنكر ما نُسب إليه؛ لدرء الحدّ، فلما أقرّ أعرض عنه، فجاءه من قِبَل اليمين بعد ما كان ماثلًا بين يديه، فأعرض عنه، فجاءه من قِبَل الشمال، يدلّ عليه حديث أبي هريرة:"ثم جاءه من شقّه الآخر"، وكلُّ ذلك ليرجع عما أقرّ، فلمّا لم يجد فيه ذلك، قال:"أبِكَ جنون؟ " إلى آخره.

ونظير سلوك ابن عبّاس في أخذ أول القصّة وآخرها قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل: 15، 16]، فالفاء في "فأخذناه"؛ كالفاء في "أمَرَ به، فرُجِم"، فالفاء تستدعي حالات، وتارات، وشؤونًا لا تكاد تنضبط إلى أن يتّصل إلى أول القصّة من قوله:{أَرْسَلْنَا} {فَعَصَى} ، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

(قَالَ) ماعز رضي الله عنه (وَمَا بَلَغَكَ عَنِّي؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("بَلَغَنِي أَنَّكَ وَقَعْتَ بِجَارِيَةِ آلِ فُلَانٍ")؛ أي: زنيت بها، واسمها فاطمة، فقد أخرج الحديث النسائيّ في "الكبرى" من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن يزيد بن نعيم بن هزال، وكان هزال استرجم ماعزًا، قال: كانت لأهلي جارية ترعاهم غنمًا لهم، يقال لها: فاطمة، قد أملكت، وأن ماعزًا وقع عليها، وأن هزالًا أخذه، فقال له: انطلق إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فنخبره بالذي صنعت، عسى أن ينزل فيك قرآن، فأمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم، فرُجم، فلمّا عظمت مَسّ الحجارة انطلق، فاستقبله رجل بكذا وكذا، وبساق بعير، فضربه، فصرعه، فقال:"يا هزال لو سترته بثوبك، كان خيرًا لك". انتهى

(2)

.

وقال صاحب "التنبيه": اسمها فاطمة فتاة هزّال، وقيل: منيرة، وقيل:

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2522.

(2)

"السنن الكبرى" للنسائيّ 4/ 307.

ص: 484

مُهيرة. انتهى

(1)

.

(قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ) ببناء الفعل للفاعل؛ أي: أَمَر- صلى الله عليه وسلم برجمه (فَرُجِمَ) بالبناء للمفعول؛ أي: قُتل رجمًا بالحجارة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله.

وإنما قلت: بهذا السياق؛ لأن البخاريّ أخرجه بسياق آخر، فقال:

(6824)

- حدّثني عبد الله بن محمد الجعفيّ، حدّثنا وهب بن جرير، حدّثنا أبي، قال: سمعت يعلى بن حكيم، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أَتَى ماعز بن مالك النبيّ صلى الله عليه وسلم يقال له: "لعلك قَبّلت، أو غَمَزت، أو نظرت"، قال: لا يا رسول الله، قال:"أنكتها؟ "

(2)

لا يَكني

(3)

، قال: فعند ذلك أمر برجمه. انتهى.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 4419](1693)، و (أبو داود) في "الحدود"(4425)، و (الترمذيّ) في "الحدود"(1427)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 279)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 245 و 314 و 318)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 29)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 142)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(12/ 7)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 342)، وفوائد الحديث تقدّمت، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4420]

(1694) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي عَبْدُ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ، يُقَالُ لَهُ:

(1)

"تنبيه المعلم" ص 292.

(2)

قوله: "أنِكتها؟ " مقول "قال".

(3)

جملة حاليّة؛ أي: قال ذلك مُصَرَّحًا به غير مكنيّ عنه. اهـ. "الكاشف" 8/ 2516.

ص: 485

مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ، أَتَى رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنِّي أَصَبْتُ فَاحِشَةً، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَرَدَّهُ النبيّ صلى الله عليه وسلم مِرَارًا، قَالَ: ثُمَّ سَأَل قَوْمَهُ، فَقَالُوا: مَا نَعْلَمُ بِهِ بَأْسًا، إِلَّا أَنَّهُ أَصَابَ شَيْئًا، يَرَى أَنَّهُ لَا يُخْرِجُهُ مِنْهُ، إِلَّا أَنْ يُقَامَ فِيهِ الْحَدُّ. قَالَ: فَرَجَعَ إِلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَنَا أَنْ نَرْجُمَهُ. قَالَ: فَانْطَلَقْنَا بِهِ إِلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، قَالَ: فَمَا أَوْثَقْنَاهُ، وَلَا حَفَرْنَا لَهُ، قَالَ: فَرَمَيْنَاهُ بِالْعَظْمِ

(1)

، وَالْمَدَرِ، وَالْخَزَفِ، قَالَ: فَاشْتَدَّ، فَاشْتَدَدْنَا خَلْفَهُ، حَتَّى أَتَى عُرْضَ الْحَرَّةِ، فَانْتَصَبَ لَنَا، فَرَمَيْنَاهُ بِجَلَامِيدِ الْحَرَّةِ؛ يَعْنِي: الْحِجَارَةَ، حَتَّى سَكَتَ، قَالَ: ثُمَّ قَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا مِنَ الْعَشِيِّ، فَقَالَ:"أَوَ كُلَّمَا انْطَلَقْنَا غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللهِ، تَخَلَّفَ رَجُلٌ فِي عِيَالِنَا، لَهُ نَبِيبٌ كَنَبِيبِ التَّيْسِ؟ عَلَيَّ أَنْ لَا أُوتَى بِرَجُلٍ فَعَلَ ذَلِكَ، إِلَّا نَكَّلْتُ بِهِ"، قَالَ: فَمَا اسْتَغْفَرَ لَهُ، وَلَا سَبَّهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) ذُكر قبل حديثين.

2 -

(عَبْدُ الأَعْلَى) بن عبد الأعلى الساميّ، تقدّم قبل باب.

3 -

(دَاوُدُ) بن أبي هند دينار القشيري مولاهم، أبو بكر، أو أبو محمد البصريّ، ثقة متقنٌ [5](ت 140) أو قبلها (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.

4 -

(أَبُو نَضْرَةَ) المنذر بن مالك بن قُطَعة الْعَوَفيّ البصريّ، ثقةٌ [3](ت 8 أو 109)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

5 -

(أَبُو سَعِيدٍ) سعد بن مالك بن سنان الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما المتوفّى سنة (3 أو 4 أو 65)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه مسلسل بالبصريين، سوى الصحابيّ، فمدنيّ، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا.

(1)

وفي نسخة: "فرميناه بالعظام".

ص: 486

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي نَضْرَةَ) بفتح النون، وسكون الضاد المعجمة، المنذر بن مالك، (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) الخدريّ سعد بن مالك رضي الله عنهما (أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ) القبيلة المعروفة، (يُقَالُ لَهُ: مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَتَى رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنِّي أَصَبْتُ فَاحِشَةً) اسم فاعل من فَحُش الشيءُ يفحُش فُحشًا، مثلُ قَبُحَ قُبْحًا وزنًا ومعنًى، وفي لغة من باب قتل، وكلُّ شيء جاوز الحدّ فهو فاحش، والمراد به هنا الزنا. (فَأَقِمْهُ عَلَيَّ)؛ أي: أقم الحدّ عليّ، فهو بمعنى قوله في رواية بُريدة الآتية:"فطهّرني"، (فَرَدَّهُ النبيّ صلى الله عليه وسلم مِرَارًا) تقدّم أنه أربع مرّات، (قَالَ: ثُمَّ سَأَلَ قَوْمَهُ)، وفي رواية بُريدة:"فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبه جنون؟، فأُخبر أنه ليس بمجنون"، (فَقَالُوا: مَا نَعْلَمُ بِهِ بَأْسًا) المراد: الجنون، (إِلَّا أنَّهُ أَصَابَ شَيْئًا) هو الزنا (يَرَى أنَّهُ لَا يُخْرِجُهُ مِنْهُ)؛ أي: مما يترتب عليه من العذاب (إِلَّا أَنْ يُقَامَ فِيهِ الْحَدُّ. قَالَ: فَرَجَعَ اِلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَنَا)؛ أي: بعد الرابعة (أَنْ نَرْجُمَهُ) من باب قتل. (قَالَ) أبو سعيد (فَانْطَلَقْنَا بِهِ إِلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ) هو الموضع المعروف بالمدينة، وهو مقبرة أهلها، وقال القرطبيّ رحمه الله: الغرقد: شجر من شجر البادية كانت في ذلك الموضع، فنُسب إليها، فذهبت تلك الشجرة، واتُّخِذ ذلك الموضع مقبرة، وهو الذي عُبّر عنه في الرواية الأخرى بـ "المصلَّى"؛ أي: مصلَّى الجنائز. انتهى

(1)

.

(قَالَ: فَمَا أَوْثَقْنَاهُ)؛ أي: ما ربطناه بحبل، أو غيره (وَلَا حَفَرْنَا لَهُ)، وفي الرواية الأخرى في "صحيح مسلم":"فلما كان الرابعة حَفَرَ له حُفْرةً، ثم أَمَرَ به، فَرُجِم"، وذكر بعده في حديث الغامدية:"ثم أَمَر بها، فحُفِر لها إلى صدرها، وأمر الناس، فرجموها".

قال النوويّ رحمه الله: أما قوله: "فما أوثقناه" فهكذا الحكم عند الفقهاء، وأما الحفر للمرجوم والمرجومة ففيه مذاهب للعلماء، قال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد - رحمهم الله تعالى - في المشهور عنهم: لا يُحفر لواحد منهما، وقال قتادة، وأبو ثور، وأبو يوسف، وأبو حنيفة في رواية: يُحفر لهما، وقال بعض

(1)

"المفهم" 5/ 101.

ص: 487

المالكية: يُحفر لمن يُرجم بالبينة، لا من يرجم بالإقرار، وأما أصحابنا فقالوا: لا يحفر للرجل، سواء ثبت زناه بالبينة، أم بالإقرار، وأما المرأة ففيها ثلاثة أوجه لأصحابنا، أحدها: يُستحب الحفر لها إلى صدرها؛ ليكون أستر لها، والثاني: لا يستحب، ولا يُكره، بل هو إلى خِيَرة الإمام، والثالث: وهو الأصح: إن ثبت زناها بالبينة استُحِبّ، وإن ثبت بالإقرار فلا؛ ليمكنها الهرب إن رجعت، فمن قال بالحفر لهما احتَجَّ بأنه حُفِر للغامدية، وكذا لماعز في رواية، ويجيب هؤلاء عن الرواية الأخرى في ماعز أنه لم يُحفر له: أن المراد حَفِيرة عظيمة، أو غير ذلك من تخصيص الحفيرة، وأما من قال: لا يُحفر فاحتَجّ برواية من روى: "فما أوثقناه، ولا حفرنا له"، وهذا المذهب ضعيف؛ لأنه منابذ لحديث الغامدية، ولرواية الحفر لماعز، وأما من قال بالتخيير فظاهرٌ، وأما من فرَّق بين الرجل والمرأة، فيَحْمِل رواية الحفر لماعز على أنه لبيان الجواز، وهذا تأويل ضعيف، ومما احتَجَّ به من ترك الحفر حديث اليهوديين المذكور بعد هذا، وقوله:"جَعَلَ يجنأ عليها"، ولو حُفِر لهما لم يجنأ عليها، واحتجوا أيضًا بقوله في حديث ماعز:"فلما أذلقته الحجارة هَرَبَ"، وهذا ظاهر في أنه لم تكن حفرة، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

(قَالَ: فَرَمَيْنَاهُ بِالْعَظْمِ)، وفي بعض النسخ:"بالعظام"(وَالْمَدَرِ) - بفتحتين - جمع مَدَرَة، مثلُ قَصَب وقصبَة، وهو التراب المتلبّد، قال الأزهريّ: الْمَدَرُ: قِطَعُ الطين، وبعضهم يقول: الطين الْعِلْكُ الذي لا يُخالطه رملٌ. انتهى

(2)

.

(وَالْخَزَفِ) - بفتحتين -: الطين المعمول آنيةً قبل أن يُطبَخ، وهو الصلصال، فإذا شُوِيَ فهو الفَخَّار

(3)

.

قال النوويّ رحمه الله: قال أهل اللغة: الخزف: قِطَعُ الْفَخّار المتكسّر، قال: هذا دليلٌ لِمَا اتَّفَقَ عليه العلماء أن الرجم يحصُل بالحجر، أو المدر، أو العظام، أو الخزَف، أو الخشب، وغير ذلك، مما يحصل به القتل، ولا تتعيّن

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 197 - 198.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 566.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 168.

ص: 488

الأحجار، وقد قدّمنا أن قوله صلى الله عليه وسلم "ثم رَجْمٌ بالحجارة" ليس للاشتراط. انتهى

(1)

.

(قَالَ: فَاشْتَدَّ)؛ أي: أسرع (فَاشْتَدَدْنَا)؛ أي: أسرعنا (خَلْفَهُ، حَتَّى أَتَى عُرْضَ الْحَرَّةِ) بضمّ العين، وسكون الراء؛ أي: جانبها، والحرّة: أرض ذات حجارة سُود، (فَانْتَصَبَ لَنَا)؛ أفي: قام لأجلنا (فَرَمَيْنَاهُ بِجَلَامِيدِ الْحَرَّةِ)؛ أي: حجارتها الكبار، وهو: جمع جَلْمَد بفتح الجيم والميم، وجُلمود بضمّ الجيم، وهو الحجر الكبير، قال امرؤ القيس [من الطويل]:

مِكَرٌّ مِفَرٌّ مُقْبِلٌ مُدْبِرٌ مَعًا

كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلْ

وقوله: (يَعْنِي: الْحِجَارَةَ) تفسير من بعض الرواة (حَتَّى سَكَتَ) بالتاء في آخره، هذا هو المشهور في الروايات، قال القاضي: ورواه بعضهم: "حتى سَكَنَ" بالنون، والأول هو الصواب، ومعناهما: مات. (قَالَ) أبو سعيد (ثُمَّ قَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا مِنَ الْعَشِيِّ)؛ أي: في وقت العشيّ، فـ "من" بمعنى "في"، أو هي بمعنى "بعض"، والعشيّ: قيل: ما بين الزوال إلى الغروب، ومنه يقال للظهر والعصر: صلاتا العشيّ، وقيل: هو آخر النهار، وقيل: العشيّ، والعشاء من صلاة المغرب إلى العتمة

(2)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَوَ كُلَّمَا) الهمزة للاستفهام الإنكاريّ، تقدّمت على العاطف؛ لوجوب الصدارة لها، (انْطَلَقْنَا غُزَاةً) بالضمّ: جمع غاز، وهو منصوب على الحال، (فِي سَبِيلِ اللهِ، تَخَلَّفَ)؛ أي: تأخّر عن الخروج معنا (رَجُلٌ فِي عِيَالِنَا، لَهُ نَبِيبٌ كنَبِيبِ التَّيْسِ)؛ أي: صوت كصوت الفحل عند السفاد، (عَلَيَّ)؛ أي: حتمٌ، أو واجب عليّ (أَنْ لَا أُوتَى) بالبناء للمفعول (بِرَجُلٍ فَعَلَ ذَلِكَ، إِلَّا نَكَّلْتُ بِهِ")؛ أي: جعلته عبرة وَعِظة لغيره. (قَالَ) أبو سعيد (فَمَا اسْتَغْفَرَ لَهُ، وَلَا سَبَّهُ) قال النوويّ رحمه الله: أما عدم سبّه، فلأن الحدّ كفّارة له، مَطْهَرَة له من معصيته، وأما عدم الاستغفار، فلئلا يغترّ غيره، فيقع في الزنا؛ اتّكالًا على استغفاره صلى الله عليه وسلم. انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 198.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 412.

(3)

"شرح النوويّ" 11/ 198 - 199.

ص: 489

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 4420 و 4421 و 4422](1694)، و (أبو داود) في "الحدود"(4431)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 288)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 61 - 62)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 178)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4438)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 362 - 363)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 130 - 131)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 220 - 221)، وفوائد الحديث تقدّمت، والله تعالى وليّ التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4421]

(. . .) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَ مَعْنَاهُ، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: فَقَامَ النبيّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْعَشِيِّ، فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "أمَّا بَعْدُ، فَمَا بَالُ أقوَامٍ إِذَا غَزَوْنَا، يَتَخَلَّفُ أَحَدُهُمْ عَنَّا، لَهُ نَبِيبٌ كَنَبِيبِ التَّيْسِ"، وَلَمْ يَقُلْ: "فِي عِيَالِنَا").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْينُ حَاتِمِ) بن ميمون، تقدّم قريبًا.

2 -

(بَهْزُ) بن أسد الْعَمّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9] مات بعد المائتين، أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.

3 -

(يَزِيدُ بْينُ زُرَيْعٍ) العيشيّ، أبو معاوية البصريّ، تقدّم قريبًا.

و"داود بن أبي هند" ذُكر قبله.

وقوله: (وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ) فاعل "قال" ضمير يزيد بن زُريع.

وقوله: (وَلَمْ يَقُلْ: فِي عِيَالِنَا)؛ يعني: أن يزيد بن زريع لم يذكر في روايته لفظَ: "في عيالنا"، هذا هو مراد المصنّف، لكن الذي وجدته في "صحيح ابن حبّان"، وكذا في "مسند أبي عوانة"، و "مستدرك الحاكم" أنها

ص: 490

مذكورة في روايته، والظاهر أن المصنّف وقعت له رواية لم تُذكر فيها، ولم أجدها، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية يزيد بن زُريع، عن داود بن أبي هند هذه ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(4438)

- أخبرنا محمد بن إسحاق بن خُزيمة، قال: حدّثنا أحمد بن عبدة الضبيّ، قال: حدّثنا يزيد بن زُريع، قال: حدّثنا داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدريّ، أن ماعز بن مالك أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أصبت فاحشةً، فردّه النبيّ صلى الله عليه وسلم مرارًا، قال: فسأل قومه: أبه بأس؟ فقيل: ما به بأس، غير أنه أتى أمرًا يرى أنه لا يُخرجه منه إلا أن يُقام الحدّ عليه، قال: فأمَرَنا، فانطلقنا به إلى بقيع الغَرْقَد، قال: فلم نَحْفِر له، ولم نوثقه، فرميناه بخزف، وعظام، وجَندل، قال: فاشتكى، فسعى، فاشتددنا خلفه، فأتى الحرّة، فانتصب لنا، فرميناه بجلاميدها، حتى سكن، فقام النبيّ صلى الله عليه وسلم من العشيّ خطيبًا، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:"أما بعد، ما بال أقوام، إذا غزونا تخلف أحدهم في عيالنا، له نبيب كنبيب التيس، أما إنّ عليّ أن لا أُوتَى بأحد فَعَلَ ذلك إلا نَكّلت به"، قال: ولم يسبّه، ولم يستغفر له. انتهى

(1)

.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4422]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيةُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، كِلَاهُمَا عَنْ دَاوُدَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ سُفْيَانَ: فَاعْتَرَفَ بِالزِّنَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ) بن إبراهيم البغداديّ، أبو الحارث مروزيّ الأصل، ثقةٌ عابدٌ [10](235)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.

(1)

"صحيح ابن حبان" 10/ 286.

ص: 491

2 -

(يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ) الهَمْدانيّ، أبو سعيد الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 3 أو 184) وله (93) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 121.

3 -

(مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ) القصّار، الأسديّ مولاهم، أبو الحسن الكوفيّ، ويقال له: معاوية بن أبي العبّاس، صدوقٌ له أوهامٌ، من صغار [9](ت 204)(بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 91/ 491.

4 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

والباقيان ذُكرا في الباب.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ دَاوُدَ)؛ يعني: أن يحيى بن أبي زكريا، وسفيان الثوريّ رويا هذا الحديث عن داود بن أبي هند.

وقوله: (فَاعْتَرَفَ بالزِّنَى ثَلَاثَ مَرِّاتٍ) هكذا قال المصنّف رحمه الله: "ثلاث مرّات"، وكذا هو عند أبي عوانة في "مسنده"، ولكن وقع عند النسائيّ - كما يأتي في التنبيه التالي -:"فاعترف بالزنا أربع مرّات"، فليُتأمل، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية يحيى بن زكريّا بن أبي زائدة، عن داود بن أبي هند، ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(6281)

- حدّثنا أبو داود السجزيّ، قثنا أبو كامل، قثنا يزيد بن زريع، قال: وثنا أحمد بن منيع، عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن داود، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدّريّ، قال: لمّا أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم برجم ماعز بن مالك، خرجنا به إلى البقيع، فوالله ما أوثقناه، ولا حفرنا له، ولكنه قام لنا - هذا لفظ يحيى بن زكريا، زاد أبو كاملٍ -: فرميناه بالعظام، والمدَر، والخزف، فاشتدّ، واشتددنا خلفه، حتى أتى عُرْض الحرّة، فانتصب لنا، فرميناه بجلاميد الحرّة، حتى سكت، قال: فما سبّه، ولا استغفر له. انتهى

(1)

.

وأما رواية سفيان الثوريّ، عن داود، فقد ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(7199)

- أخبرنا عبد الرحمن بن خالد الرَّقّيّ، قال: ثنا معاوية بن هشام،

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 131.

ص: 492

عن سفيان، عن داود بن أبي هند، عن أبي نَضْرة، عن أبي سعيد، قال: جاء ماعز بن مالك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فاعترف بالزنا أربع مرّات، فسأل عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم أَمَر به، فرُجِم، فرجمناه بالخزف، والجندل، والعظام، وما حفرنا له، وما أوثقناه، فاشتدّ، واشتددنا خلفه إلى الحرّة، فاتّبعناه، فقام لنا، فرميناه حتى سكت، فما استغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سبّه. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4423]

(1695) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن يَعْلَى - وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ الْمُحَارِبِيُّ - عَنْ غَيْلَانَ - وَهُوَ ابْنُ جَامِعٍ الْمُحَارِبِيُّ - عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله طَهِّرْنِي، فَقَالَ:"وَيْحَكَ ارْجِعْ، فَاسْتَغْفِرِ اللهَ، وَتُبْ اِلَيْهِ"، قَالَ: فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ طَهِّرْنِي، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"وَيْحَكَ، ارْجِعْ، فَاسْتَغْفِرِ اللهَ، وَتُبْ إِلَيْهِ"، قَالَ: فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ طَهِّرْنِي، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كَانَتِ الرَّابِعَةُ، قَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"فِيمَ أُطَهِّرُكَ؟ " فَقَالَ

(2)

: مِنَ الزِّنَى، فَسَأَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أَبِهِ جُنُونٌ؟ "، فَأُخْبِرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ، فَقَالَ:"أَشَرِبَ خَمْرًا؟ "، فَقَامَ رَجُلٌ، فَاسْتَنْكَهَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ خَمْرٍ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَزَنَيْتَ؟ "، فَقَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ، فَرُجِمَ، فَكَانَ النَّاسُ فِيهِ فِرْقَتَيْنِ: قَائِلٌ يَقُولُ: لَقَدْ هَلَكَ، لَقَدْ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: مَا تَوْبَةٌ أَفْضَلَ مِنْ تَوْبَةِ مَاعِزٍ، أَنَّهُ جَاءَ إِلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: اقْتُلْنِي بِالْحِجَارَة، قَالَ: فَلَبِثُوا بِذَلِكَ يَوْمَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةً، ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، وَهُمْ جُلُوسٌ، فَسَلَّمَ، ثُمَّ جَلَسَ، فَقَالَ:"اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ"، قَالَ: فَقَالُوا: غَفَرَ اللهُ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ"، قَالَ: ثُمَّ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ غَامِدٍ، مِنَ الأَزْدِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ طَهِّرْنِي، فَقَالَ:

(1)

"السنن الكبرى" للنسائيّ 4/ 288.

(2)

وفي نسخة: "قال".

ص: 493

"وَيْحَكِ، ارْجِعِي، فَاسْتَغْفِرِي اللهَ، وَتُوبِي إِلَيْهِ"، فَقَالَتْ: أَرَاكَ تُرِيدُ أَنْ تُرَدِّدَنِي كَمَا رَدَّدْتَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ، قَالَ:"وَمَا ذَاكِ؟ "، قَالَتْ: إِنَّهَا حُبْلَى مِنَ الزِّنَا، فَقَالَ:"آنْتِ؟ "، قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهَا:"حَتَّى تَضَعِي مَا فِي بَطْنِكِ"، قَالَ: فَكَفَلَهَا رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، حَتَّى وَضَعَتْ، قَالَ: فَأَتَى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: قَدْ وَضَعَتِ الْغَامِدِيَّةُ، فَقَالَ:"إِذًا لَا نَرْجُمَهَا، وَنَدَعُ وَلَدَهَا صَغِيرًا، لَيْسَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ"، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: إِلَيَّ رَضَاعُهُ يَا نَبِيَّ اللهِ، قَالَ: فَرَجَمَهَا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(يَحْيَى بْنُ يَعْلَى بْنُ الْحَارِثِ الْمُحَارِبِيُّ) هو: يحيى بن يعلى بن الحارث بن حرب بن جرير بن عبد الحارث المحاربيّ، أبو زكريا الكوفيّ، ثقةٌ، من صغار [9].

رَوَى عن أبيه، وزائدة بن قُدامة، وعنه البخاريّ، وروى الباقون سوى الترمذيّ له بواسطة أبي كريب، وعثمان بن أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله بن نمير، ومحمد بن يحيى بن كثير الحراني، ومحمد بن مسلم بن وَارَة، وإبراهيم بن يعقوب الْجُوزَجانيّ، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهم.

قال أبو حاتم: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال مُطَيَّن: مات سنة ست عشر ومائتين.

روى عنه البخاريّ، وأخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

3 -

(غَيْلَانُ بْنُ جَامِعِ بن أشعث الْمُحَارِبِيُّ) أبو عبد الله الكوفيّ، قاضيها، ثقةٌ [6].

روى عن أبي وائل شقيق بن سلمة، وأبي إسحاق السبيعيّ، وإسماعيل بن أبي خالد، وعلقمة بن مرثد، وإياس بن سلمة بن الأكوع، وغيرهم.

وروى عنه يعلى بن الحارث المحاربيّ، وعمرو بن أبي قيس، وشعبة، والثوريّ، وشريك، وعلي بن عاصم الواسطيّ، وآخرون.

ص: 494

قال ابن معين، وابن المدينيّ، ويعقوب بن شيبة، وأبو داود: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: شيخٌ، وقال محمد بن حميد الرازي، عن جرير: رأيت غيلان بن جامع على قضاء الكوفة، وكان أَحْمَدَ من محمد بن أبي ليلى، وقال الآجريّ، عن أبي داود: جاء غيلانُ أبا حَصِين، فسأل رجل أبا حصين عن مسألة، فقال: اسكت أما ترى القاضي؟ فقال: إنه أمرني، وجعل أبو داود يثني عليه، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات في ولاية يزيد بن هُبيرة على العراق، وقال ابن سعد: قتلته الْمُسَوِّدة أوَّلَ ما جاءوا بين واسط والكوفة، وكان ثقةً - إن شاء الله تعالى - قال الحافظ: كان ذلك سنة اثنتين وثلاثين ومائة.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

4 -

(عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ) الحَضرميّ، أبو الحارث الكوفيّ، ثقةٌ [6](ع) تقدم في "الطهارة" 25/ 648.

5 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ بُرَيْدَةَ) بن الحصيب الأسلميّ المروزيّ، قاضيها، ثقةٌ [3](ت 105) وله (90) سنةً (ع) تقدم في "الطهارة" 25/ 648.

6 -

(أَبُوهُ) بُريدة بن الْحصيب، أبو عبد الله، وقيل غير ذلك، الأسلميّ، الصحابيّ الشهير، أسلم قبل بدر، ومات رضي الله عنه سنة (63)(ع) تقدم في "الإيمان" 100/ 533.

[تنبيه] قوله في هذا السند: (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَعْلَى، عن غيلان) قال النوويّ رحمه الله: هكذا في النسخ: "عن يحيى بن يعلى، عن غيلان"، قال القاضي عياض: والصواب ما وقع في نسخة الدمشقيّ: "عن يحيى بن يعلى، عن أبيه، عن غيلان"، فزاد في الإسناد "عن أبيه"، وكذا أخرجه أبو داود، في "كتاب السنن"، والنسائيّ من حديث يحيى بن يعلى، عن أبيه، عن غيلان، وهو الصواب، وقد نبه عبد الغنيّ على الساقط من هذا الإسناد في نسخة أبي العلاء بن ماهان، ووقع في "كتاب الزكاة" من "السنن" لأبي داود: حدّثنا عثمان بن أبي شيبة، حدّثنا يحيى بن يعلى، حدّثنا أبي، حدّثنا غيلان، عن جعفر، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: لمّا نزلت: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34]. فهذا السند يشهد بصحة ما تقدم، قال البخاريّ في "تاريخه": يحيى بن يعلى، سمع أباه، وزائدة بن قدامة، هذا آخر

ص: 495

كلام القاضي رحمه الله، وهو صحيح كما قال، ولم يذكر أحد سماعًا ليحيى بن يعلى هذا من غيلان، بل قالوا: سمع أباه، وزائدة. انتهى كلام النوويّ

(1)

.

وقال الحافظ أبو عليّ الجيّاني رحمه الله في "التقييد"(3/ 872): هكذا إسناد هذا الحديث لجميع الرواة عندنا، وخرّجه أبو مسعود الدمشقيّ عن مسلم، عن أبي كريب، عن يحيى بن يعلى، عن أبيه، عن غيلان، فزاد في الإسناد رجلًا، وهو يعلى بن الحارث، وكذلك خرّجه أبو داود في "كتاب السنن"(4433) وأبو عبد الرحمن النسائيّ في كتابه "الكبرى"(7148) أيضًا من حديث يحيى بن يعلى بن الحارث، عن أبيه، عن غيلان بن جامع، وهو الصواب، وقد نبّه أبو محمد عبد الغنيّ على الساقط من هذا الإسناد في نسخة أبي العلاء بن ماهان - فالحمد لله -.

وفي "كتاب الزكاة" من "السنن" لأبي داود (1664): حدّثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: نا يحيى بن يعلى المحاربيّ، قال: نا أبي، قال: نا غَيلان، عن جعفر بن إياس، عن مجاهد، عن ابن عبّاس، قال: لَمّا نزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الآية [التوبة: 34] كبُر ذلك على المسلمين. . . الحديث، وهذا السند يشهد بصحّة ما تقدّم.

وقال البخاريّ في "التاريخ الكبير"(8/ 311): يحيى بن يعلى سمع أباه، وزائدة بن قُدامة.

وقال الحافظ الرشيد العطّار في "غرر الفوائد"(16): هكذا إسناد هذا الحديث في جميع النسخ التي رأيتها من "صحيح مسلم"، ثم ذكر كلام الجيّاني في "التقييد"، وقال: وإذا ثبت انقطاعه من هذا الوجه، فإنه متّصلٌ في "كتاب مسلم" من وجه آخر، ومع ذلك فقد اتّصل حديث يحيى بن يعلى، عن أبيه في كتاب النسائيّ، وأبي داود أيضًا في "سُننه"، فثبت اتّصاله من هذا الوجه الآخر - ولله الحمد - انتهى، وهو بحث مفيد، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 200.

ص: 496

شرح الحديث:

(عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ) بُريدة بن الْحُصيب رضي الله عنه أنه (قَالَ: جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ) الأسلميّ رضي الله عنه (إِلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ طَهِّرْنِي) قال النوويّ رحمه الله: قوله: "طهرني" إلى آخره، ومثله في حديث الغامدية:"قالت: طَهِّرني، قال: ويحك ارجعي، فاستغفري الله، وتوبي إليه": هذا دليل على أن الحدّ يكفّر ذنب المعصية التي حُدَّ لها، وقد جاء ذلك صريحًا في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"فمَن فَعل شيئًا من ذلك، فعوقب به في الدنيا، فهو كفارته"، ولا نَعلم في هذا خلافًا، وفي هذا الحديث دليل على سقوط إثم المعاصي الكبائر بالتوبة، وهو بإجماع المسلمين، إلا ما قدمناه عن ابن عباس رضي الله عنهما في توبة القاتل خاصّة، والله أعلم.

[فإن قيل]: فما بال ماعز، والغامدية لم يقنعا بالتوبة، وهي محصِّلة لغرضهما، وهو سقوط الإثم، بل أصرّا على الإقرار، واختارا الرجم؟.

[فالجواب]: أن تحصيل البراءة بالحدود، وسقوط الإثم متيقَّن على كل حال، لا سيما وإقامة الحدّ بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأما التوبة فيُخاف أن لا تكون نَصُوحًا، وأن يُخِلّ بشيء من شروطها، فتبقى المعصية، وإثمها دائمًا عليه، فأرادا حصول البراءة بطريق متيقَّن، دون ما يتطرق إليه احتمال، والله أعلم

(1)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("ويحَكَ) قال الطيبيّ رحمه الله: "ويح" كلمة ترحّم، وتوجّع، تقال لمن وقع في هَلَكة لا يستحقّها، وقد تقال بمعنى المدح والتعجّب، وهي منصوبة على المصدر، وقد تُرفع، وتضاف، ولا تُضاف، يقال: وَيْحَ زيدٍ، ووَيْحًا له، وويَحٌ له. انتهى

(2)

، وقال النوويّ رحمه الله: ورَوَينا عن الحسن البصريّ قال: "ويح كلمة رحمة". انتهى

(3)

.

(ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللهَ، وَتُبْ إِلَيْهِ"، قَالَ: فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ)؛ أي: غير زمان بعيد؛ كقوله تعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل: 22]؛ أي: غير زمان بعيد؛

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 199.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2517.

(3)

"شرح النوويّ" 11/ 199.

ص: 497

كقولك: عن قريب

(1)

، قاله الطيبيّ، وقال القاري: والأظهر غير مكان بعيد، أو رجوعًا غير بعيد، بمعنى غيبة غير بعيدة. انتهى

(2)

. (ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ طَهِّرْنِي، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "وَيْحَكَ، ارْجِعْ، فَاسْتَغْفِرِ اللهَ، وَتُبْ إِلَيْهِ"، قَالَ: فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله طَهِّرْنِي، فَقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كَانَتِ الرَّابِعَةُ)؛ أي: حتى إذا وقعت المرة الرابعة، فـ "كان" هنا تامّة، (قَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"فِيمَ أُطَهِّرُكَ؟ ") قال النوويّ رحمه الله: هكذا في جميع النسخ "فيم" بالفاء، والياء، وهو صحيح، وتكون "في" هنا للسببيّة؛ أي: بسبب ماذا أُطهّرك؟. انتهى

(3)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "فيم أُطهّرك؟ " وفي نُسخ "المصابيح": "مما أطهّرك؟ "، والرواية الأولى في "صحيح مسلم"، و"كتاب الحميديّ"، ثم ذكر كلام النوويّ المذكور، ثم قال: أقول: "ما" يُسأل بها عن عموم الأحوال، و"من" الابتدائيّة في الجواب مضمَّنة معنى السبب؛ لأنها لإنشاء الابتداء، فخُصّت "ما" به؛ لتطابقها؛ كأنه قيل: في أيّ سبب أُطهّرك؟، فأجاب بسبب الزنا، ونظيره في المعنى قوله تعالى:{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} الآية [المؤمنون: 86، 87]؛ لأن في قوله: {مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ} معنى المالكيّة؛ كأنه قيل: لمن السماوات والأرض؟. انتهى

(4)

.

(فَقَالَ) وفي بعض النسخ: "قال" بحذف الفاء، (مِنَ الزِّنَى، فَسَأَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: قومه ("أَبِهِ جُنُونٌ؟ "، فَأُخْبِرَ) بالبناء للمفعول (أَنَّهُ لَيْسَ بمَجْنُونٍ، فَقَالَ: "أَشَرِبَ خَمْرًا؟ ")، (فَقَامَ رَجُلٌ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفه. انتهى

(5)

. (فَاسْتَنْكَهَهُ)؛ أي: شمّ رائحة فمه، قال الجوهريّ رحمه الله: استنكهتُ الرجلَ، فَنَكَهَ في وجهي يَنْكِهُ - بالكسر، ويَنْكَهُ - بالفتح - نَكْهًا: إذا أمرتَه بأن يَنكِهَ؛ لتَعلَم أشارب هو أم غير شارب؟ والنَّكْهة ريح الفم. انتهى

(6)

.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2516 - 2517.

(2)

"مرقاة المفاتيح" 7/ 141.

(3)

"شرح النوويّ" 11/ 200.

(4)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2517.

(5)

"تنبيه المعلم" ص 293.

(6)

"الصحاح" ص 1069.

ص: 498

وقال الفيّوميّ رحمه الله: نَكَهَ الرجلُ على زيد، ونَكَهَ له نَكْهًا، من بابي نَفَعَ، وضَرَبَ: إذا تنفّس على أنفه، ونَكَهَهُ نَكْهًا، يتعدّى بنفسه أيضًا: إذا فَعَلَ ذلك؛ ليَشُمَّ ريح فمه؛ ليَعْلَمَ هل شَرِب أم لا؟، واستنكهه كذلك، والنَّكْهَةُ، مثلُ تَمرة: اسم منه. انتهى

(1)

.

(فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ خَمْرٍ) قال النوويّ رحمه الله: مذهبنا الصحيح المشهور صحة إقرار السكران، ونفوذ أقواله فيما له وعليه، والسؤال عن شربه الخمر محمول عندنا أنه لو كان سكران لم يُقَم عليه الحدّ، قال: واحتجّ أصحاب مالك، وجمهور الحجازيين أنه يُحَدّ من وُجِد منه ريح الخمر، وإن لم تَقُم عليه بيّنة بشربها، ولا أقرّ به، ومذهب الشافعيّ، وأبي حنيفة، وغيرهما: لا يُحَدّ بمجرد ريحها، بل لا بدّ من بيّنة على شُربه، أو إقراره، وليس في هذا الحديث دلالة لأصحاب مالك. انتهى

(2)

.

(قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَزَنَيْتَ؟ "، فَقَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ)؛ أي: بعد إقراره أربع مرّات، كما سبق في الروايات، (فَرُجِمَ) بالبناء للمفعول، (فَكَانَ النَّاسُ فِيهِ فِرْقَتَيْنِ: قَائِلٌ يَقُولُ: لَقَدْ هَلَكَ، لَقَدْ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: مَا تَوْبَةٌ أَفْضَلَ) "ما" حجازيّة تعمل عمل "ليس"، و"توبة" اسمها مرفوع، و"أفضل" خبرها منصوب، قال في "الخلاصة":

إِعْمَالَ "لَيْسَ" أُعْمِلَتْ "مَا" دُونَ "إِنْ"

مَعَ بَقَا النَّفْي وَتَرْتِيبٍ زُكِنْ

ويَحْتَمِلُ أن تكون تميميّة، فيرتفع ما بعدها على أنه مبتدأ وخبر، كما قال قائلهم:

وَمُهَفْهَفِ الأَعْطَافِ قُلْتُ لَهُ انْتَسِبْ

فَأَجَابَ مَا قَتْلُ الْمُحِبِّ حَرَامُ

وقوله: (مِنْ تَوْبَةِ مَاعِزٍ) صلة "أفضل"(أَنَّهُ) يَحْتَمل كسر الهمزة، على أن الجملة تعليليّة، ويَحْتَمل فتحه على تقدير حرف التعليل؛ أي: لأنه (جَاءَ إِلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: اقْتُلْنِي بِالْحِجَارَةِ، قَالَ: فَلَبِثُوا بِذَلِكَ يَوْمَيْنِ، أَوْ ثَلَاَثَةً)؛ أي: بعد رجمه (ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، وَهُمْ جُلُوسٌ) جملة حاليّة، (فَسَلَّمَ، ثُمَّ جَلَسَ، فَقَالَ: "اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ")؛ أي: اطلبوا له

(1)

"المصباح المنير" 2/ 625.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 200 - 201.

ص: 499

مزيدة المغفرة، وترقّي الدرجات. (قَالَ: فَقَالُوا: غَفَرَ اللهُ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً)؛ أي: من ذنبه هذا (لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ أُمَّةٍ)؛ أي: جماعة كثيرة، فالتنوين للتكثير، والله تعالى أعلم، (لَوَسِعَتْهُمْ") بكسر السين؛ أي: لَكَفَتْهُم، وكفّرت خطايا جميعهم.

قال الفيّوميّ رحمه الله: وَسِعَ المكانُ القومَ، وَوَسِعَ المكانُ؛ أي: اتَّسَعَ، يتعدى، ولا يتعدى، قال النابغة [من الكامل]:

تَسَعُ البِلادُ إِذًا أَتَيْتُكَ زَائِرًا

وَإِذَا هَجَرْتُكَ ضَاقَ عَنِّيَ مَقْعَدِي

ووَسُعَ المكانُ بالضم: بمعنى اتَّسَعَ أيضًا، فهو وَاسِعٌ، من الأُولى، ووَسِيعٌ من الثانية.

قال: قيل: الأصل في المضارع الكسر، ولهذا حُذفت الواو؛ لوقوعها بين ياء مفتوحة، وكسرة، ثم فُتِحت بعد الحذف؛ لمكان حرف الحلق، ومثله يَهَبُ، ويَقَعُ، ويَدَعُ، ويَلَغُ، ويَطَأُ، ويَضَعُ، ويَلَعُ، ويَزَعُ الجيشَ؛ أي: يَحبِسه، والحذف في يَسَعُ، ويَطَأُ، ممّا ماضيه مكسور شاذّ؛ لأنهم قالوا فَعِلَ بالكسر مضارعه يَفْعَل بالفتح، واستثنوا أفعالًا ليست هذه منها. انتهى كلام الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "لوسعتهم"؛ أي: لكفتهم سعةً؛ يعني: توبة تستوجب مغفرةً ورحمةً تستوعبان جماعةً كثيرةً من الخلق، يدلّ عليه قوله في الغامديّة:"لقد تابت توبةً لو تابعها صاحب مكس لغُفر له"، قال:

[فإن قلت]: فإذن ما فائدة قوله صلى الله عليه وسلم: "استغفروا لماعز"؟.

[قلت]: فائدة قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} إلى قوله: {وَاسْتَغْفِرْهُ} الآية [النصر: 1 - 3]، وقوله تعالى:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} الآية [الفتح: 1 - 2]، فإن الثاني طلب مزيد الغفران، وما يستدعيه من الترقّي في المقامات، والثبات عليها، ومنه قوله تعالى:{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} الآية [هود: 3]. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله

(2)

.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 659.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2517.

ص: 500

(قَالَ) بُريدة رضي الله عنه (ثُمَّ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ) قال صاحب "التنبيه": اسمها سُبيعة، وقيل: أميمة، ذكرهما الخطيب البغداديّ

(1)

. (مِنْ غَامِدٍ) بفتح الغين المعجمة، وكسر الميم: بطن من الأزد، وهو غامد، واسمه عمرو بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد بن الغوث، وإنما قيل له غامد؛ لأنه كان بين قومه شرّ، فاصلح بينهم، وتغمّد ما كان من ذلك، قاله في "اللباب"

(2)

.

وقال النوويّ: غامد بطن من جهينة. انتهى، وهذا يقتضي أن الغامديّة هي الجهنيّة الآتية في حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما الآتي، وقد مشى على هذا بعضهم، وسيأتي تمام البحث فيه - إن شاء الله تعالى -.

وقوله: (مِنَ الأَزْدِ) حال من "غامد"، وأزد أبو قبيلة، وهو أزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد كهلان بن سبأ، ويقال: أزدِ شنوأة - بفتح الهمزة، وسكون الزاي، وكسر الدال المهملة - أفاده في "اللباب"

(3)

.

(فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ طَهِّرْنِي، فَقَالَ: "وَيْحَكِ، ارْجِعِي، فَاستَغْفِرِي اللهَ، وَتُوبِي إِلَيْهِ"، فَقَالَتْ: أَرَاكَ تُرِيدُ أَنْ تُرَدِّدَنِي)؛ أي: ترجّعني (كَمَا رَدَّدْتَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ، قَالَ: "وَمَا ذَاكِ؟ "، قَالَتْ: إِنَّهَا حُبْلَى) الظاهر أن هذا من الالتفات؛ لأن الظاهر أن تقول: إني حبلى من الزنا.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "إنها حبلى" جملة مستأنَفة بيانٌ لموجب قياس حالها على حال ماعز، والعلّة غير جامعة، فكأنها قالت: إني غير متمكّنة من الإنكار بعد الإقرار؛ لظهور الْحَبَل، بخلافه، فقوله:"إنها حبلى" على الغيبة حكاية قولها: إني حبلى، يدلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم:"أنت؟ "؛ لأنه تقرير لِمَا تكلّمت به. انتهى

(4)

.

وقوله: (مِنَ الزِّنَا) قال ابن الهمام: الزنا مقصور في اللغة الفصحى، لغة

(1)

"تنبيه المعلم" ص 292.

(2)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 373.

(3)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 46.

(4)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2517 - 2518.

ص: 501

أهل الحجاز التي جاء بها القرآن، قال الله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32]، ويُمدّ في لغة أهل نجد، قال الفرزدق [من الطويل]:

أَبَا طَاهِرٍ مَنْ يَزْنِ يُعْرَفْ زِنَاؤُهُ

وَمَنْ يَشَرَبِ الْخُطُومَ يُصْبِحْ مُسَكَّرَا

بفتح الكاف، وتشديدها من السُّكر، والْخُطوم من أسماء الخمر

(1)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("آنْتِ؟ ") بتقدير همزة الاستفهام، وهو مبتدأ محذوف الخبر؛ أي: أأنت زانية؟ (قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهَا: "حَتَّى تَضَعِي مَا فِي بَطْنِكِ")؛ أي: اصبري إلى أن تلدي، قال الطيبيّ رحمه الله: غاية لجواب قولها: طهّرني؛ أي: لن أطهّرك حتى تضعي ما في بطنك

(2)

.

قال النوويّ رحمه الله: فيه أنه لا تُرْجَم الحبلى حتى تضع، سواء كان حملها من زنا، أو غيره، وهذا مجمَع عليه؛ لئلا يُقْتَل جنينها، وكذا لو كان حدّها الجَلد، وهي حامل لم تُجلَد بالإجماع حتى تضع.

وفيه أن المرأة تُرْجَم إذا زنت، وهي محصَنة، كما يُرجَم الرجل، وهذا الحديث محمول على أنها كانت محصنة؛ لأن الأحاديث الصحيحة، والإجماع متطابقان على أنه لا يُرجَم غير المحصن.

وفيه أن من وجب عليها قِصاص، وهي حامل، لا يُقتصّ منها حتى تضع، وهذا مجمع عليه، ثم لا تُرجم الحامل الزانية، ولا يقتصّ منها بعد وَضْعها حتى تَسْقِي ولدها اللَّبَنَ، ويستغني عنها بلبن غيرها.

وفيه أن الحمل يُعْرَف، ويُحكَم به، وهذا هو الصحيح في مذهبنا. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(3)

.

(قَالَ: فَكَفَلَهَا) بفتح الفاء الخفيفة، من باب نصر؛ أي: قام بمؤنتها، ومصالحها، قال الفيّوميّ رحمه الله: كَفَلْتُ بالمال، وبالنفس كَفلًا، من باب قَتَلَ، وكُفُولًا أيضًا، والاسم: الكَفَالَةُ، وحَكَى أبو زيد سماعًا من العرب، من بابي تَعِبَ، وقَرُبَ، وحَكَى ابن القطّاع: كَفَلتُهُ، وكَفَلتُ به، وعنه: إذا تَحَمَّلتَ به، ويتعدَّى إلى مفعول ثان بالتضعيف، والهمزة، فَتَحْذِفُ الحرفَ فيهما، وقد يثبت

(1)

"مرقاة المفاتيح" 7/ 142.

(2)

"الكاشف" 8/ 2518.

(3)

"شرح النوويّ" 11/ 201.

ص: 502

مع المثقَّل، قال ابن الأنباريّ: تَكَفَّلتُ بالمال: التزمت به، وألزمته نفسي، وقال أبو زيد: تحمّلت به، وقال في "المَجْمَع": كَفَلتُ به كَفَالَةً، وكَفَلتُ عنه بالمال لغريمه، ففرَّق بينهما، وكَفَلتُ الرجلَ، والصغيرَ، من باب قَتَلَ كَفَالَةً أيضًا: عُلْتُهُ، وقُمْتُ به، ويتعدى بالتضعيف إلى مفعول ثان، فيقال: كَفَّلتُ زيدًا الصغير، والفاعلُ من كَفَاَلةِ المال: كَفِيلٌ به للرجل، والمرأة، وقال ابن الأعرابيّ: وكَافِلٌ أيضًا، مثل ضَمِين، وضامنٍ، وفرَّق الليث بينهما، فقال: الكَفِيلُ: الضامن، والكَافِلُ: هو الذي يَعُول إنسانًا، ويُنفِق عليه. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت"؛ أي: قام بمؤنتها، ومصالحها، وليس هو من الكفالة التي هي بمعنى الضمان؛ لأن هذا لا يجوز في الحدود التي لله تعالى. انتهى

(2)

.

(رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفه. انتهى

(3)

. (حَتَّى وَضَعَتْ)؛ أي: ولدت حملها (قَالَ: فَأَتَى) ذلك الرجل (النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: قَدْ وَضَعَتِ)؛ أي: وَلَدت (الْغَامِدِيَّةُ، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِذًا) هي جزاء وجواب، وهي من نواصب المضارع إذا توافرت شروطها، وهي المذكورة في قول بعضهم:

أَعْمِلْ "إِذَنْ" إِذَا أَتَتْكَ أَوَّلَا

وَسُقْتَ فِعْلًا بَعْدَهَا مُسْتَقْبَلَا

وَاحْذَرْ إِذَا أَعْمَلْتَهَا أَنْ تَفْصِلَا

إِلَّا بِحَلْفٍ أَوْ نِدَاءٍ أَوْ بِـ "لا"

وَافْصِلْ بِظَرْفٍ أَوْ بِمَجْرُورٍ عَلَى

رَأْيِ ابْنِ عُصْفُورٍ رَئِيسِ النُّبَلَا

وَإِنْ تَجِئْ بِحَرْفِ عَطْفٍ أَوَّلَا

فَأحْسَنُ الْوَجْهَيْنِ أَنْ لَا تَعْمَلَا

(لَا نَرْجُمُهَا) من باب قتل، وهو منصوب بإذن"؛ لكونه مستقبَلًا، ويَحْتَمِل الرفع بتقديره حالًا، وكذا قوله: (وَنَدَعُ وَلَدَهَا صَغِيرًا) وقوله: (لَيْسَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ")، بضمّ حرف المضارعة، من الإرضاع، جملة مستأنفة بيّن بها المراد من قوله:"وندع ولدها صغيرًا"، والمعنى أن المانع من إقامة الحدّ عليها الآن كون ولدها صغيرًا ليس له من يُرضعه. (فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ) لم يُعرف اسمه، ويَحْتَمِل أن يكون هو الرجل الأول الذي قام بكفالة المرأة، والله تعالى

(1)

"المصباح المنير" 2/ 536.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 201.

(3)

"تنبيه المعلم" ص 293.

ص: 503

أعلم (فَقَالَ: إِلَيَّ رَضَاعُهُ) بفتح الراء، وكسرها؛ أي: أمرُ رضاعه موكول إليّ، أن أتكفّل به (يَا نَبِيَّ اللهِ، قَالَ: فَرَجَمَهَا)؛ أي: أمر صلى الله عليه وسلم برجمها، فرُجمت، قال النوويّ رحمه الله: وفي الرواية الأخرى: "فلما ولدت أتته بالصبيّ في خِرقة، قالت: هذا قد ولدته، قال: فاذهبي، فارضعيه، حتى تَفْطِميه، فلما فَطَمته أتته بالصبيّ، في يده كِسْرَةُ خبزٍ، فقالت: يا نبيّ الله هذا قد فَطَمته، وقد أكل الطعام، فدَفَع الصبيَّ إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها، فرجموها".

فهاتان الروايتان ظاهرهما الاختلاف، فإن الثانية صريحة في أن رَجْمها كان بعد فطامه، وأكْلِه الخبز، والأولى ظاهرها أنه رَجَمها عقب الولادة، ويجب تأويل الأُولى، وحَمْلها على وَفْق الثانية؛ لأنها قضيّة واحدة، والروايتان صحيحتان، والثانية منهما صريحة، لا يمكن تأويلها، والأولى ليست صريحة، فيتعين تأويل الأولى، ويكون قوله في الرواية الأولى:"فقام رجل من الأنصار، فقال: إليّ رضاعه"، إنما قاله بعد الفطام، وأراد بالرضاعة: كفالته، وتربيته، وسمّاه رضاعًا مجازًا.

قال: واعلم أن مذهب الشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، والمشهور من مذهب مالك أنها لا تُرجَم حتى تجد من ترضعه، فإن لم تجد أرضعته حتى تَفطمه، ثم رُجِمت.

وقال أبو حنيفة، ومالك في رواية عنه: إذا وضعت رُجِمت، ولا يُنتظر حصول مرضعة، وأما هذا الأنصاريّ الذي كفلها فقصد مصلحة، وهو الرفق بها، ومساعدتها على تعجيل طهارتها بالحدّ؛ لِمَا رأى بها من الحرص التامّ على تعجيل ذلك. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن ما ذهب إليه الأولون من عدم رجمها إلا إن وُجدت مرضعة، هو الأرجح؛ لموافقته لحديث الباب، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 202 - 203.

ص: 504

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث بُريدة بن الحصيب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 4423 و 4424](1695)، و (أبو داود) في "الحدود"(4433)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 283)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 135)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(3/ 91)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 83 و 8/ 214 و 226 و 229)، وفوائد الحديث تقدّمت قريبًا، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4424]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ - وَتَقَارَبَا فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ - حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا بَشِيرُ بْنُ الْمُهَاجِرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ الأَسْلَمِيَّ أَتَى رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي قَدْ ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَزَنَيْتُ، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي، فَرَدَّهُ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ، فَرَدَّهُ الثَّانِيَةَ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلَى قَوْمِهِ، فَقَالَ:"أتعْلَمُونَ بِعَقْلِهِ بَأْسًا، تُنْكِرُونَ مِنْهُ شَيْئًا؟ "، فَقَالُوا: مَا نَعْلَمُهُ إِلَّا وَفِيَّ الْعَقْلِ، مِنْ صَالِحِينَا فِيمَا نُرَى. فَأَتَاهُ الثَّالِثَةَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِم أَيْضًا، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَا بِعَقْلِهِ، فَلَمَّا كَانَ الرَّابِعَةَ، حَفرَ لَهُ حُفْرَةً، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ، فَرُجِمَ، قَالَ: فَجَاءَتِ الْغَامِدِيَّةُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ، فَطَهِّرْنِي، وَإِنَّهُ رَدَّهَا، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَتْ: يَا رَسُولَ الله لِمَ تَرُدُّنِي؟ لَعَلَّكَ أَنْ تَرُدَّنِي كمَا رَدَدْتَ مَاعِزًا، فَوَاللهِ إِنِّي لَحُبْلَى، قَالَ:"إِمَّا لَا فَاذْهَبِي، حَتَّى تَلِدِي"، فَلَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي خِرْقَةٍ، قَالَتْ: هَذَا قَدْ وَلَدْتُهُ، قَالَ:"اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ، حَتَّى تَفْطِمِيهِ"، فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ، فَقَالَتْ: هَذَا يَا نَبِيَّ اللهِ، قَدْ فَطَمْتُهُ، وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ، فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا، فَحُفِرَ لَهَا إِلَى

ص: 505

صَدْرِهَا، وَأَمَرَ النَّاسَ، فَرَجَمُوهَا، فَيُقْبِلُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجَرٍ، فَرَمَى رَأْسَهَا، فَتَنَضَّحَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِ خَالِدٍ، فَسَبَّهَا، فَسَمِعٍ نَبِيُّ الله صلى الله عليه وسلم -سَبَّهُ إِيَّاهَا، فَقَالَ:"مَهْلًا يَا خَالِدُ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ"، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا، فَصَلَّى عَلَيْهَا، وَدُفِنَتْ).

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(أَبُوهُ) عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(بَشِيرُ بْنُ الْمُهَاجِرِ) الغَنَويّ الكوفيّ، صدوقٌ ليّن الحديث، ورُمي بالإرجاء [5].

رأى أنس بن مالك، وروى عن عبد الله بن بُريدة، والحسن البصريّ، وعكرمة، وغيرهم.

وروى عنه ابن المبارك، ووكيع، وابن نمير، والثوريّ، وغيرهم.

قال الأثرم عن أحمد: منكَر الحديث، قد اعتَبَرت أحاديثه، فإذا هو يجيء بالعجب، وقال ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه، ولا يُحتجّ به، وقال البخاريّ: يخالَف في بعض حديثه، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وقال ابن عديّ: روى ما لا يتابَع عليه، وهو ممن يُكتب حديثه، وإن كان فيه بعض الضعف، وقال ابن حبان في "الثقات": دَلَّس عن أنس، ولم يره، وكان يخطئ كثيرًا، وقال العجليّ: كوفيّ ثقةٌ، وقال العقيليّ: مرجئ مُتَّهَم، مُتَكَلَّم فيه، وقال الساجيّ: منكَر الحديث.

أخرج له المصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (وَزَنَيْتُ) مِن عَطْف السبب على المسبَّب، فإنّ زناه هو سبب ظلمه نفسه.

وقوله: (فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَاهُ) ظاهره أنه كان بين اعتراف ماعز رضي الله عنه فصل يوم، وهذا معارض لسائر الروايات الأخرى التي تدلّ على أنه اعترف

ص: 506

أربع مرّات في نفس ذلك المجلس، وجمع الحافظ بين الروايات، وتقدّم نقل كلامه بتمامه، ولكن الإمام ابن القيّم: يرى أن هذا وَهَمٌ، ودونك نصّه في "تهذيب السنن"، قال رحمه الله: وهذا الحديث فيه أمران، سائر طرق حديث مالك تدلّ على خلافهما:

أحدهما: أن الإقرار منه، وترديد النبيّ صلى الله عليه وسلم كان في مجالس متعدّدة، وسائر الأحاديث تدلّ على أن ذلك كان في مجلس واحد.

والثاني: ذِكر الحَفْر فيه، والصحيح في حديثه أنه لم يُحفر له، والحفر وَهَمٌ، ويدلّ عليه أنه هرب، وتبِعُوه، وهذا - والله أعلم - من سوء حفظ بشير بن مهاجر، وقد تقدّم قول الإمام أحمد: إن ترديده كان في مجلس واحد، إلا ذلك الشيخ ابن مهاجر. انتهى

(1)

.

وقد تقدّم في ترجمته أن الأئمة طعنوا في بشير هذا، منهم الإمام أحمد، فقد قال فيه: منكر الحديث، وقد اعتُبرت أحاديثه، فإذا هو يجيء بالعجب، والبخاريّ، وابن عديّ، وابن حبّان، والعقيليّ، والساجيّ، فلا يُستبعد أن يكون هذا الخلاف من أوهامه، فتفطّن.

ثم رأيت كلامًا للحافظ المنذريّ رحمه الله في "مختصره" حيث قال في شأن بشير بن مهاجر هذا ما نصّه: ليس له في "صحيح مسلم" سوى هذا الحديث، وقد وثّقه يحيى بن معين، وقال الإمام أحمد: منكر الحديث، يجيء بالعجائب، مرجئ، متّهَمٌ، وقال أبو حاتم الرازي: يُكتب حديثه، ولا يُحتج به، قال: ولا عيب على مسلم في إخراج هذا الحديث، فإنه أتى به في الطبقة الثانية؛ ليبيّن اطّلاعه على طرق الحديث. انتهى كلام المنذريّ رحمه الله

(2)

.

وقوله: (لَعَلَّكَ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزًا) هذا صريح في أن قصّتها بعد قصّة ماعز رضي الله عنهما.

وقوله: (إِمَّا لَا فَاذْهَبِي، حَتَّى تَلِدِي) قال القاضي عياض رحمه الله: معناه: إن

(1)

"تهذيب السنن" لابن القيّم 6/ 251.

(2)

راجع: "نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية" 3/ 321.

ص: 507

لم تفعلي كذا فافعلي كذا؛ أي: إذا أبيت أن تستري على نفسك، وترجعي عن قولك، فاذهبي حتى تلدي، فترجعي.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إمَّا لا، فاذهبي حتى تلدي": "إمَّا" بكسر الهمزة التي هي همزة "إن" الشَّرطية، زيدت عليها "ما" المؤكدة؛ بدليل دخول الفاء في جوابها، و"لا" التي بعدها للنفي، فكأنه قال: إن رأيت أن تستري على نفسك، وترجعي عن إقرارك، فافعلي، وإن لم تفعلي، فاذهبي حتى تلدي.

ثمَّ اختلف العلماء فيها إذا وضعت، فقال مالك: إذا وضعت رُجمت، ولم يُنتظَر بها أن تكفل ولدها، وقاله أبو حنيفة، والشافعيّ في أحد قوليه، وهذا قول من لم تبلغه هذه الرواية التي فيها تاخير الغامدية إلى أن فَطَمَت وَلَدها، وقد روي عن مالك: أنها لا تُرجم حتى تجد من يكفل ولدها بعد الرَّضاع، وهو مشهور قول مالك، والشافعيّ، وقول أحمد، وإسحاق.

وقد اختلفت الروايات في رجمها متى كان؟ هل كان قبل فطام الولد، أو بعد فطامه؟ والأَولى: رواية من روى: أنها لم تُرجم حتى فطمت ولدها، ووجدت من يكفله؛ لأنَّها مُثْبِتةٌ حكمًا زائدًا على الرواية الأخرى التي ليس فيها ذلك، ولمراعاة حق الولد. وإذا رُوعي حقه وهو جنين، فلا ترجم لأجله بالإجماع، فمراعاته إذا خرج للوجود أَولى.

ويستفاد من هذه الرِّواية: أن الحدود لا يُبطلها طول الأزمان، وهو مذهب الجمهور. وقد شذَّ بعضهم فقال: إذا طال الزمان على الحدّ بَطَل. قاله أبو حنيفة في الشهادة بالزِّنى والسَّرِقة القَدِيمين، وهو قول لا أصل له. انتهى

(1)

.

وقوله: (حَتَّى تَفْطِمِيهِ) قال أهل اللغة: الفِطام قطع الإرضاع؛ لاستغناء الولد عنه، يقال: فَطَمَت المرضِعُ الرضيعَ فَطْمًا، من باب ضَرَبَ: فصلته عن الرّضَاع، فهي فاطمة، والصغير فَطِيمٌ، والجمع: فُطُمٌ، مثلُ بَريد وبُرُدٍ، وأفطم الصبيّ: دخل في وقت الفِطام، مثلُ أحصَدَ الزرعُ: إذا حان حَصَادُهُ

(2)

.

(1)

"المفهم" 5/ 97.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 477.

ص: 508

وقوله: (فِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ) تقدّم في الرواية الماضية خلافه، وقد تقدّم وجه الجمع والترجيح هناك.

وقوله: (فَحُفِرَ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا) فيه دليل على أن المرأة يُحفر لها.

وقوله: (وَأَمَرَ النَّاسَ، فَرَجَمُوهَا) قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهره: أنَّه صلى الله عليه وسلم لم يرجمها معهم، لا في أول الأمر، ولا في آخره. فلا يلزم الإمامَ أن يبدأ بالرجم، وهو مذهب الجمهور. وقد ذهب أبو حنيفة: إلى أنَّه إن ثبت الزنى بالإقرار حضر الإمام، وبدأ قبل الناس بالرَّجم، وإن كان بالشهادة حضر الشهود، وبدؤوا بالرَّجم قبل الناس.

قال القرطبيّ: وأحاديث هذا الباب كلُّها تردُّ ما قال أبو حنيفة، غير أنَّه وقع في كتاب أبي داود من حديث الغامدية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حصاة مثل الحِمَّصَة فرماها بها، وهي رواية شاذةٌ، مخالفة للمشهور من حديث الغامدية. انتهى

(1)

.

وقوله: (فَيُقْبِلُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ. . . إلخ) عبّر بصيغة المضارع عن الماضي؛ للدلالة على استحضار المتكلّم الواقعة؛ كانها تقع الآن، ومثل ذلك كثير في كلام العرب.

وفيه دليل على أن قصّة الغامديّة وقعت بعد شهر صفر من سنة ثمان من الهجرة، وذلك لأن خالد بن الوليد رضي الله عنه، إنما جاء المدينة مسلمًا في أول يوم من صفر سنة ثمان، كما في "طبقات ابن سعد"(4/ 252). فثبت بهذا الحديث أن قصّة الغامديّة وقعت بعد نزول "سورة النور"، فإنها نزلت في السنة الخامسة من الهجرة، قاله بعض المحقّقين

(2)

.

وقوله: (فَتَنَضَّحَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِ خَالِدٍ) قال النوويّ رحمه الله: رُوي بالحاء المهملة، وبالمعجمة، والأكثرون على المهملة، ومعناه: ترشش، وانصبّ. انتهى

(3)

.

(1)

"المفهم" 5/ 98 - 99.

(2)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 2/ 452.

(3)

"شرح النوويّ" 11/ 203.

ص: 509

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فتنضخ الدم"؛ أي: تطاير مفرّقًا، وهو بالخاء المعجمة، والعينُ النضّاخة: هي الفوّارة بالماء الغزير الذي يسيل ويتفرّق، وقد رُوي بالحاء المهملة، وهو الرشّ الخفيف، وهو أخفّ من النضخ - بالخاء المعجمة - انتهى

(1)

.

وقوله: (مَهْلًا) مفعول مطلق لعامل محذوف؛ أي: تمهّل؛ أي: كفّ عن سبّها، وفيه دليل على أن من أقيم عليه الحدّ لا يُسبّ، ولا يؤذى بالكلام السيئ.

وقوله: (لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ) - بفتح الميم، وسكون الكاف - في الأصل مصدر مَكَس، قال الفيّوميّ رحمه الله: مَكَسَ في البيع مَكْسًا، من باب ضَرَبَ: نقَصَ الثمن، وماكس مماكسةً، ومِكاسًا مثله، والْمَكْسُ: الْجِبَاية، وهو مصدرٌ، من باب ضَرَب أيضًا، وفاعله مَكّاسٌ، ثم سُمّي المأخوذ مَكْسًا؛ تسميةً بالمصدر، وجُمع على مُكُوس، مثلُ فَلْس وفُلُوسٍ، وقد غَلَب استعمال الْمَكْس فيما يأخذه أعوان السلطان ظلمًا عند البيع والشراء، قال الشاعر [من الطويل]:

وَفِي كُلِّ أَسْوَاقِ الْعِرَاقِ إِتَاوَةٌ

وَفِي كُلِّ مَا بَاعَ امْرُؤٌ مَكْسُ دِرْهَمِ

انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: صاحب المَكس: هو الذي يأخذ من الناس ما لا يلزمهم شرعًا من الوظائف المالية بالقهر والجبر، ولا شك في أنه من أعظم الذنوب، وأكبرها، وأفحشها، فإنَّه غصب، وظلمٌ، وعَسْفٌ على الناس، وإشاعةٌ للمنكَر، وعملٌ به، ودوامٌ عليه. ومع ذلك كلِّه: فإن تاب من ذلك، وردَّ المظالم إلى أربابها صحَّت توبته، وقُبلت، لكنَّه بعيد أن يتخلّص من ذلك؛ لكثرة الحقوق وانتشارها في النَّاس، وعدم تعيين المظلومين، وهؤلاء كضمان ما لا يجوز ضمان أصله من الزكوات، والمواريث، والملاهي، والمرتَّبين في الطرق، إلى غير ذلك مِمَّا قد كَثُر في الوجود، وعُمِل عليه في سائر البلاد. انتهى

(3)

.

(1)

"المفهم" 5/ 99.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 577.

(3)

"المفهم" 5/ 99 - 100.

ص: 510

وقال النوويّ رحمه الله: في الحديث أن الْمَكس من أقبح المعاصي، والذنوب الموبقات، وذلك لكثرة مطالبات الناس له، وظلاماتهم عنده، وتكرر ذلك منه، وانتهاكه للناس، وأخذ أموالهم بغير حقّها، وصَرْفها في غير وجهها، وفيه أن توبة الزاني لا تُسقِط عنه حدّ الزنى، وكذا حُكم حدّ السرقة، والشرب. هذا أصح القولين في مذهبنا، ومذهب مالك، والثاني أنها تُسقط ذلك، وأما توبة المحارب قبل القدرة عليه فتُسقط حدّ المحاربة بلا خلاف عندنا، وعند ابن عباس وغيره: لا تُسقط. انتهى

(1)

.

وقوله: (ثُمَّ أَمَرَ بِهَا، فَصَلَّى عَلَيْهَا، وَدُفِنَتْ)، وفي الرواية الثانية:"ثم أمر بها، فرُجمت، ثم صلى عليها، فقال له عمر: تصلي عليها يا نبي الله، وقد زنت؟ ".

قال النوويّ رحمه الله: أما الرواية الثانية فصريحة في أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى عليها، وأما الرواية الأولى، فقال القاضي عياض: هي بفتح الصاد واللام عند جماهير رواة "صحيح مسلم"، قال: وعند الطبريّ بضم الصاد، قال: وكذا هو في رواية ابن أبي شيبة، وأبي داود، قال: وفي رواية لأبي داود: "ثم أمرهم أن يُصَلُّوا عليها"، قال القاضي: ولم يَذكر مسلم صلاته صلى الله عليه وسلم على ماعز، وقد ذَكَرها البخاريّ، وقد اختَلَف العلماء في الصلاة على المرجوم، فكرهها مالك، وأحمد للإمام، ولأهل الفضل، دون باقي الناس، فيصلي عليه غير الإمام، وأهل الفضل، قال الشافعيّ، وآخرون: يصلي عليه الإمام، وأهل الفضل، وغيرهم، والخلاف بين الشافعيّ، ومالك، إنما هو في الإمام، وأهل الفضل، وأما غيرهم فاتفقا على أنه يصلي، وبه قال جماهير العلماء، قالوا: فَيُصَلَّى على الفُسّاق، والمقتولين في الحدود، والمحارَبة، وغيرهم، وقال الزهريّ: لا يصلِّي أحدٌ على المرجوم، وقاتِل نفسه، وقال قتادة: لا يصلى على ولد الزنى، واحتجّ الجمهور بهذا الحديث، وفيه دلالة للشافعيّ أن الإمام، وأهل الفضل يصلّون على المرجوم، كما يصلّي عليه غيرهم، وأجاب أصحاب مالك عنه بجوابين: أحدهما أنهم ضَعَّفُوا رواية الصلاة؛ لكون أكثر الرواة لم يذكروها،

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 203 - 204.

ص: 511

والثاني: تأوَّلوها على أنه صلى الله عليه وسلم أَمَر بالصلاة، أو دعا، فَسُمّي صلاةً على مقتضاها في اللغة، وهذان الجوابان فاسدان، أما الأول فإن هذه الزيادة ثابتة في "الصحيح"، وزيادة الثقة مقبولة، وأما الثاني فهذا التأويل مردود؛ لأن التأويل إنما يصار إليه إذا اضطَرّت الأدلة الشرعية إلى ارتكابه، وليس هنا شيء من ذلك، فَوَجَب حَمْله على ظاهره. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث مفيدٌ جدًّا، وقد استوفيت البحث في هذا في "شرح النسائيّ"، فارجع إليه

(2)

، وبالله تعالى التوفيق.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم شرحه مستوفًى في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4425]

(1696) - (حَدَّثَنِي أَبُو غَسَّانَ مَالِكُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْمِسْمَعِيُّ، حَدَّثَنَا مُعَاذٌ - يَعْنِي: ابْنَ هِشَامٍ - حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي أَبُو قِلَابَةَ، أَنَّ أَبَا الْمُهَلَّبِ حَدَّثَهُ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ، أَتَتْ نَبِيَّ الله صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ حُبْلَى مِنَ الزِّنَى، فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَدَعَا نَبِيَّ الله صلى الله عليه وسلم وَلِيَّهَا، فَقَالَ:"أَحْسِنْ إِلَيْهَا، فَإِذَا وَضَعَتْ فَائْتِنِي بِهَا"، فَفَعَلَ، فَأَمَرَ بِهَا نَبِيَّ الله صلى الله عليه وسلم، فَشُكَّتْ

(3)

عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا، فَرُجِمَتْ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: تُصَلِّي عَلَيْهَا يَا نَبِيَّ اللهِ، وَقَدْ زَنَتْ؟ فَقَالَ:"لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً، لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وَجَدْتَ تَوْبَةً أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلَّهِ تَعَالَى؟ ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو غَسَّانَ مَالِكُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْمِسْمَعِيُّ) البصريّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م د) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 204.

(2)

راجع: "ذخيرة العقبى في شرح المجتبى" 19/ 236 - 237.

(3)

وفي نسخة: "فشُدَّت".

ص: 512

2 -

(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدستوائيّ البصريّ، تقدّم قبل باب.

3 -

(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله الدستوائيّ، تقدّم أيضًا قبل باب.

4 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) الطائيّ البصريّ، ثم اليماميّ، ثقةٌ ثبتٌ، يدلّس ويرسل [5](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.

5 -

(أَبُو قِلَابَةَ) عبد الله بن زيد بن عمرو الجرميّ، ثقة فاضلٌ كثير الإرسال، وفيه نصْبٌ يسير [3](ت 104)(ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

6 -

(أَبُو الْمُهَلَّبِ) عمرو، أو عبد الرحمن بن معاوية، وقيل غيره، ثقةٌ [2](بخ م 4) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 19/ 1296.

7 -

(عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنِ) بن عُبيد بن خَلَف الْخُزاعيّ، أبو نُجيد الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (52) بالبصرة (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 479.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه مسلسل بالبصريين من أوله إلى آخره، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: يحيى عن أبي قلابة، عن أبي المهلّب، وفيه رواية الراوي عن أبيه: معاذ عن أبيه، ورواية الراوي عن عمه، فإن أبا المهلّب عمّ لأبي قلابة.

شرح الحديث:

(عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ) رضي الله عنهما (أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ)، وتقدّم في حديث بُريدة:"جاءت امرأة من غامد، من الأزد"، قال القرطبيّ رحمه الله: كذا في هذه الرواية، وفي الرواية الأخرى:"من جُهينة"، ولا تباعُد بين الروايتين، فإن غامدًا قبيلة من جُهينة، قاله عياض، وأظنّ جُهينة من الأزد، وبهذا تتّفق الروايات. انتهى.

ثم رأيت الإمام أبا داود رحمه الله ذكر في "سُننه" أنها هي الغامديّة المتقدّمة، فقد ترجم في "السنن" برقم (4440) بقوله:"باب المرأة التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمها من جهينة"، ثم أتى فيه بحديث عمران بن حصين في الجهنيّة، ثم بحديث بريدة في الغامديّة، ثم قال:"قال أبو داود: قال الغسّانيّ: جُهينة، وغامد، وبارقُ واحد". انتهى.

ص: 513

وقد تقدّم الخلاف في اسم الغامديّة، فقيل: سُبيعة، وقيل: أميّة، وقيل غير ذلك.

(أَتَتْ نَبِيَّ الله صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ حُبْلَى مِنَ الزِّنَى) هذا اعتراف منها من غير تكرار، يُطلب منها، ففيه دليلٌ على عدم اشتراطه على ما مرَّ، وكونه صلى الله عليه وسلم لم يستفصلها كما استفصل ماعزًا؛ لأنَّها لم يظهر عليها ما يُوجب ارتيابًا في قولها، ولا شكًّا في حالها، بخلاف حال ماعز، فإنَّه ظهر عليه ما يُشبه الجنون، فلذلك استفصله النبيّ صلى الله عليه وسلم لِيَستَثْبِت في أمره، كما تقدَّم

(1)

.

(فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ أَصَبْتُ حَدًّا)؛ أي: ما يوجبه، وهو الزنا، (فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَدَعَا نَبِيَّ الله صلى الله عليه وسلم وَلِيَّهَا) لا يُعرف اسمه، (فَقَالَ: "أَحْسِنْ إِلَيْهَا) قال النوويّ رحمه الله: هذا الإحسان له سببان:

أحدهما: الخوف عليها من أقاربها أن تحملهم الْغَيرة، ولُحوق العار بهم أن يؤذوها، فأوصى بالإحسان إليها؛ تحذيرًا لهم من ذلك.

والثاني: أمرَ به رحمةً لها؛ إذ قد ثابت، وحَرَص على الإحسان إليها؛ لِمَا في نفوس الناس من النّفرة من مثلها، وإسماعها الكلام المؤذي، ونحو ذلك، فنهى عن هذا كله. انتهى

(2)

.

(فَإِذَا وَضَعَتْ)؛ أي: ولدت حملها (فَائْتِنِي بِهَا"، فَفَعَلَ) ذلك الوليّ ما أمره به النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَأَمَرَ بِهَا نَبِيُّ الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: أمر صلى الله عليه وسلم بشكّ ثيابها عليها حتى لا تتكشّف، (فَشُكَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا في معظم النسخ: "فشُكّت"، وفي بعضها:"فشُدّت" بالدال بدل الكاف، وهو معنى الأول، وفي هذا استحباب جَمْع أثوابها عليها، وشدّها بحيث لا تنكشف عورتها في تقلّبها، وتكرار اضطرابها، واتَّفَق العلماء على أنه لا تُرجَم إلا قاعدةً، وأما الرجل فجمهورهم على أنه يُرجم قائمًا، وقال مالك: قاعدًا، وقال غيره: يخيَّر الإمام بينهما. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: معنى "شُكّت"؛ أي: جُمع بعضها إلى بعض بشوك

(1)

"المفهم" 5/ 96.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 205.

(3)

"شرح النوويّ" 11/ 205.

ص: 514

أو خُيُوط، ومنه: الْمِشَكُّ، وهي الإبرة الكبيرة، وشَكَكْتُ الصيدَ بالرَّمح؛ أي: نفذته به. انتهى.

ثم يَحْتَمل أن يكون الفعل مبنيًّا للفاعل، والفاعل ضمير المرأة، و"ثيابها" منصوب على المفعوليّة، ويَحْتَمل أن يكون مبنيًّا للمفعول، و"ثيابها" مرفوع على أنه نائب الفاعل، والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ أَمَرَ بِهَا)؛ أي: أمر صلى الله عليه وسلم الناس برجمها (فَرُجِمَتْ) بالبناء للمفعول، وفي رواية النسائيّ:"فرجمها"، وفيه إسناد الفعل إلى السبب الآمر، وقال النوويّ رحمه الله: قوله في بعض الروايات: "فأمر بها فرُجمت"، وفي بعضها:"وأمر الناس فرجموها"، وفي حديث ماعز:"أمَرَنا أن نرجمه"، ونحو ذلك فيها كلها دلالة لمذهب الشافعيّ، ومالك، وموافقيهما أنه لا يلزم الإمام حضور الرجم، وكذا لو ثبت بشهود لم يلزمه الحضور، وقال أبو حنيفة، وأحمد: يحضر الإمام مطلقًا، وكذا الشهود إن ثبت ببينة، ويبدأ الإمام بالرجم إن ثبت بالإقرار، وإن ثبت بالشهود بدأ الشهود، وحجة الشافعيّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يحضر أحدًا ممن رُجِم، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا)؛ أي: صلّى النبيّ صلى الله عليه وسلم على تلك المرأة، وفيه مشروعيّة الصلاة على المرجوم، (فَقَالَ لَهُ عُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله عنه (تُصَلِّي عَلَيْهَا) بتقدير همزة الاستفهام، ولفظ النسائيّ:"أتصلي عليها" بذكر الهمزة، والاستفهام للإنكار (يَا نَبِيَّ اللهِ، وَقَدْ زَنَتْ؟) جملة حاليّة؛ أي: كيف تصلي عليها، والحال أنها زانية؟، وهذا ظنّ من عمر رضي الله عنه أن فعل الفاحشة يوجب منع الصلاة على الميت، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً)؛ أي: عظيمةً، فالتنوين للتعظيم والتكثير (لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ)؛ أي: لَكَفَتْهم؛ لِكَثْرتها (وَهَلْ وَجَدْتَ) بتاء الخطاب، والخطاب لعمر رضي الله عنه (تَوْبَةً أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلَّهِ تَعَالَى؟) من الجُود؛ كأنها تصدّقت بنفسها لله تعالى، حيث أقرّت عليها بما أدّى إلى موتها؛ يعني: أنها بذلت نفسها في مرضاة الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 205 - 206.

ص: 515

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عِمران بن حُصين رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 4425 و 4426](1696)، و (أبو داود) في "الحدود"(4440)، و (الترمذيّ) في "الحدود"(1435)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(4/ 63) و"الكبرى"(1/ 636 و 4/ 484 و 486)، و (ابن ماجه) في "الحدود"(2/ 854)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(7/ 325)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 114)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 429 و 435 و 437 و 440)، و (الدارميّ) في "سُننه"(2/ 235)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 133)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 207)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(18/ 198)، و (الدارقطنيّ) في "سُننه"(3/ 127)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 18 و 217 و 221)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4426]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا أَبَانٌ الْعَطَّارُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ) الصفّار، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبَانٌ الْعَطَّارُ) بن يزيد، أبو يزيد البصريّ، ثقةٌ، له أفراد [7] مات في حدود الستين ومائة (خ م د ت) تقدم في "الطهارة" 1/ 540.

والباقيان ذُكرا في الباب.

[تنبيه]: رواية أبان العطّار، عن يحيى بن أبي كثير هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(19968)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا عفان، ثنا أبان - يعني: العطار - ثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أبي المهَلَّب، عن عمران بن حُصين: أن امرأة من جهينة أتت نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، فقالت له: إني أصبت حدًّا،

ص: 516

فأقمه عليّ، وهي حامل، فأمر بها أن يُحْسَن إليها، حتى تضع، فلما وضعت جيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأَمَر بها، فَشُكّت عليها ثيابها، ثم رجمها، ثم صلى عليها، فقال عمر: يا نبي الله تصلي عليها، وقد زنت؟ فقال:"لقد تابت توبةً، لو قُسمت بين سبعين من أهل المدينة لوَسِعتهم، وهل وَجَدتَ أفضلَ من أن جادت بنفسها لله تبارك وتعالى". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4427]

(1697/ 1698) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيٍّ، أَنَّهُمَا قَالَا: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْشُدُكَ اللهَ إِلَّا قَضَيْتَ لِي بِكِتَابِ اللهِ، فَقَالَ الْخَصْمُ الآخَرُ - وَهُوَ أفقَهُ مِنْهُ -: نَعَمْ، فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللهِ، وَائْذَنْ لِي، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"قُلْ"، قَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بامْرَأَتِهِ، وَإِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ، وَوَلِيدَةٍ، فَسَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ، فَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ: الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ

(2)

إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا"، قَالَ: فَغَدَا عَلَيْهَا، فَاعْتَرَفَتْ، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَرُجِمَتْ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ) بن مهاجر التجيبيّ المصريّ، تقدّم قبل بابين.

2 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ) تقدّم في الباب الماضي.

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 4/ 440.

(2)

وفي نسخة: "اغد يا أنيس".

ص: 517

3 -

(زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ) المدنيّ الصحابيّ المشهور، مات رضي الله عنه سنة (76 أو 70) وله (85) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 34/ 238.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه مسلسلٌ بالمدنيين من ابن شهاب، والباقون مصريّون، سوى قتيبة، فبغلانيّ، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعي هو أحد الفقهاء السبعة، وهو يروي عن صحابيين.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيٍّ)، وفي رواية للبخاريّ:"أنه سمع أبا هريرة، وزيد بن خالد"، قال في "الفتح": وفي رواية الحميديّ، عن زيد بن خالد الجهنيّ، وأبي هريرة، وشِبْل، وكذا قال أحمد، وقتيبة عند النسائيّ، وهشام بن عمار، وأبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن الصباح عند ابن ماجه، وعمرو بن عليّ، وعبد الجبار بن العلاء، والوليد بن شجاع، وأبو خيثمة، ويعقوب الدَّوْرقيّ، وإبراهيم بن سعيد الجوهريّ، عند الإسماعيليّ، وآخرون، عن سفيان، وأخرجه الترمذيّ عن نصر بن عليّ، وغير واحد، عن سفيان، ولفظه:"سمعت من أبي هريرة، وزيد بن خالد، وشِبْل؛ لأنهم كانوا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم"، قال الترمذيّ: هذا وَهَمٌ من سفيان، وإنما رُوي عن الزهريّ بهذا السند حديث:"إذا زَنَت الأمة. . ." فذكر فيه شِبلًا، ورُوي حديث الباب بهذا السند ليس فيه شِبْل، فَوَهِمَ سفيان في تسويته بين الحديثين.

قال الحافظ: وسقط ذِكر شبل من رواية "الصحيحين" من طريقه لهذا الحديث، وكذا أخرجاه من طرق عن الزهريّ، منها عن مالك، والليث، وصالح بن كيسان، وللبخاريّ، من رواية ابن أبي ذئب، وشعيب بن أبي حمزة، ولمسلم من رواية يونس بن يزيد، ومعمر، كلهم عن الزهريّ، ليس فيه شِبْلٌ، قال الترمذيّ: وشبل لا صحبة له، والصحيح ما رَوَى الزُّبيديّ، ويونس، وابن أخي الزهريّ، فقالوا: عن الزهريّ، عن عبيد الله، عن شِبْل بن خالد، عن عبد الله بن مالك الأوسيّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الأمة إذا زنت.

ص: 518

قال الحافظ: ورواية الزُّبيديّ عند النسائيّ، وكذا أخرجه من رواية يونس، عن الزهريّ، وليس هو في الكتب الستة من هذا الوجه، إلا عند النسائيّ، وليس فيه:"كنت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم". انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قال النسائيّ رحمه الله في "السنن الكبرى"(3/ 477 - 478) بعد أن ساق الحديث من رواية سفيان بن عيينة ما نصّه: قال أبو عبد الرحمن: لا نعلم أحدًا تابع سفيان على قوله: "وشِبْلٍ"، رواه مالك، عن الزهريّ، عن عُبيد الله، عن أبي هريرة، وزيد بن خالد، ورواه بُكير بن الأشجّ، عن عمرو بن شُعيب، عن الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة فقط، وحديث مالك، وعمرو بن شعيب أولى بالصواب من قول ابن عُيينة:"وشِبْلٍ". انتهى كلام النسائيّ رحمه الله.

(أَنَّهُمَا قَالَا: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية للبخاريّ:"قالا: كنّا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقام رجل، فقال: أَنْشُدك الله. . ."، وفي رواية شعيب:"بينما نحن عند النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية ابن أبي ذئب:"وهو جالس في المسجد". (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْشُدُكَ اللهَ) - بفتح أوله، ونون ساكنة، وضمّ الشين المعجمة - أي: أسألك بالله، وضَمَّنَ "أنشدُك" معنى أُذَكِّرُكَ، فحذف الباء؛ أي: أذكّرك رافعًا نَشِيدتي؛ أي: صوتي، هذا أصله، ثم استُعْمِل في كل مطلوب مؤكَّد، ولو لم يكن هناك رفع صوت، وبهذا التقرير يندفع إيراد من استَشْكَل رفع الرجل صوته عند النبيّ صلى الله عليه وسلم مع النهي عنه، ثم أجاب عنه بأنه لم يبلغه النهي؛ لكونه أعرابيًا، أو النهي لمن يرفعه حيث يتكلم النبيّ صلى الله عليه وسلم على ظاهر الآية، وذكر أبو عليّ الفارسيّ أن بعضهم رواه بضم الهمزة، وكسر المعجمة، وغلّطه، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: معنى "أنشدك": أسألك رافعًا نَشِيدي؛ أي: صوتي، وهو - بفتح الهمزة، وضم الشين - وقوله:"بكتاب الله"؛ أي: بما تضمّنه كتاب الله، وفيه أنه يُستحب للقاضي أن يصبر على من يقول من جفاة

(1)

"الفتح" 15/ 635، كتاب "الحدود" رقم (6827).

(2)

"الفتح" 15/ 635 رقم (6827).

ص: 519

الْخُصُوم: احكم بالحقّ بيننا ونحو ذلك. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: وقع في نسخة القرطبيّ في "مختصره": "فقال: يا رسول الله أنشدك إلا قضيت لي بكتاب الله"، بحذف لفظ الجلالة، فقال القرطبيّ: هكذا وقع في صحيح الرواية: "أنشدك" من غير ذكر اسم الله، وهو المراد، لكنَّه حُذِف لفظًا للعلم به، وقد وقع في بعض النُّسخ:"أنشدك الله! "، ومعناه: أُقسم عليك بالله، وكتاب الله هنا: يُراد به: حكم الله إن كانت هذه القضية وقعت بعد نسخ تلاوة آية الرَّجم كما تقدم، وإن كانت قبل ذلك: فكتاب الله محمول على حقيقته. انتهى

(2)

.

(إِلَّا قَضَيْتَ لِي بِكِتَابِ اللهِ) قيل: فيه استعمال الفعل بعد الاستثناء بتأويل المصدر، وإن لم يكن فيه حرف مصدريّ؛ لضرورة افتقار المعنى إليه، وهو من المواضع التي يقع فيها الفعل موقع الاسم، ويراد به النفي المحصورُ فيه المفعولُ، والمعنى هنا: لا أسألك إلا القضاء بكتاب الله.

ويَحْتَمِل أن تكون "إلا" جواب القسم؛ لما فيها من معنى الحصر، وتقديره: أسألك بالله لا تفعل شيئًا إلا القضاء، فالتأكيد إنما وقع لعدم التشاغل بغيره، لا لأن لقوله:"بكتاب الله" مفهومًا، وبهذا يندفع إيراد من استَشْكَل، فقال: لم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم يحكم إلا بكتاب الله، فما فائدة السؤال، والتأكيد في ذلك؛ ثم أجاب بأن ذلك من جَفاء الأعراب، والمراد بكتاب الله: ما حَكَمَ به، وكَتَب على عباده، وقيل: المراد: القرآن، وهو المتبادَر.

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: الأول أَولى؛ لأن الرجم والتغريب ليسا مذكورين في القرآن، إلا بواسطة أمْر الله باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، قيل: وفيما قال نظرٌ؛ لاحتمال أن يكون المراد ما تضمّنه قوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15]، فَبَيَّن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن السبيل جلد البِكر، ونَفْيه، ورَجْم الثيّب.

قال الحافظ رحمه الله: وهذا أيضًا بواسطة التبيين.

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 206.

(2)

"المفهم" 5/ 104.

ص: 520

ويَحْتَمِل أن يراد بكتاب الله: الآية التي نُسِخت تلاوتها، وهي:"الشيخ والشيخة إذا زنيا، فارجموهما"، وبهذا أجاب البيضاويّ، ويبقى عليه التغريب.

وقيل: المراد بكتاب الله: ما فيه من النهي عن أكل المال بالباطل؛ لأن خصمه كان أخذ منه الغنم، والوليدة بغير حقّ، فلذلك قال:"الغنم، والوليدة رَدّ عليك".

قال الحافظ رحمه الله: والذي يترجح أن المراد بكتاب الله: ما يتعلق بجميع أفراد القصّة، مما وقع به الجواب الآتي ذِكره، والعلم عند الله تعالى. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(فَقَالَ الْخَصْمُ الآخَرُ - وَهُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ) وفي رواية للبخاريّ: "فقام خصمه، وكان أفقه منه"، في رواية مالك:"فقال الآخر، وهو أفقههما".

قال القرطبيّ رحمه الله: إنما فَضَّل الراوي الثاني على الأول بالفقه؛ لأنَّ الثاني ترفّق، ولم يستعجل، ثمَّ تلطَّف بالاستئذان في القول، بخلاف الأوَّل، فإنَّه استعجل، وأقسم على النبيّ صلى الله عليه وسلم في شيء كان يفعله بغير يمين، ولم يستأذن، وهذا كله من جفاء الأعراب، فكان للثاني عليه مزيَّة في الفهم والفقه، ويَحْتَمِل أن يكون ذلك؛ لأنَّ الثاني وَصَفَ القضية بكمالها، وأجاد سياقتها. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: يجوز أن يكون أراد أنه بالإضافة أكثر فقهًا منه، ويَحْتَمِل أن المراد: أفقه منه في هذه القضية؛ لِوَصْفه إياها على وجهها، ويَحْتَمِل أنه لأدبه، واستئذانه في الكلام، وحَذَره من الوقوع في النهي في قوله تعالى:{لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] بخلاف خطاب الأول في قوله: أنشدك الله إلى آخره، فإنه من جفاء الأعراب. انتهى

(3)

.

وقال الحافظ العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذيّ": يَحْتَمِل أن يكون الراوي كان عارفًا بهما قبل أن يتحاكما، فوصَفَ الثاني بأنه أفقه من الأول، إما مطلقًا، وإما في هذه القصة الخاصة، أو استدَلَّ بحسن أدبه، في استئذانه،

(1)

"الفتح" 15/ 635 - 636، كتاب "الحدود" رقم (6827).

(2)

"المفهم" 5/ 104.

(3)

"شرح النوويّ" 11/ 206.

ص: 521

وتَرْك رفع صوته، إن كان الأول رفعه، وتأكيده السؤال على فقهه، وقد ورد:"أن حسن السؤال نصف العلم"، وأورده ابن السنيّ في "كتاب رياضة المتعلمين" حديثًا مرفوعًا بسند ضعيف. انتهى.

(نَعَمْ، فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللهِ) وفي رواية مالك: "فقال: أجل"، وفي رواية ابن أبي ذئب، وشعيب:"فقال: صدق، اقض له يا رسول الله بكتاب الله"، (وَائْذَنْ لِي) زاد ابن أبي شيبة، عن سفيان:"حتى أقول"، وفي رواية مالك:"أن أتكلم"، (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"قُلْ")؛ أي: تكلّم بما تشاء، وفي رواية مالك:"قال: تكلّم". (قَالَ) ظاهر السياق أن القائل هو الثاني، وجزم الكرمانيّ بأن القائل هو الأول، واستَنَد في ذلك بما وقع عند البخاريّ في "كتاب الصلح" عن آدم، عن ابن أبي ذئب:"فقال الأعرابيّ: إن ابني" بعد قوله في أول الحديث: "جاء أعرابيّ"، وفيه:"فقال خصمه"، قال الحافظ: وهذه الزيادة شاذّة، والمحفوظ ما في سائر الطرق، وكذا وقع في "الشروط" عن عاصم بن عليّ، عن ابن أبي ذئب، موافقًا للجماعة، ولفظه:"فقال: صدق، اقض له يا رسول الله بكتاب الله، إن ابني. . . إلخ"، فالاختلاف فيه على ابن أبي ذئب، وقد وافق آدمَ أبو بكر الحنفيّ، عند أبي نعيم في "المستخرج"، ووافق عاصمًا يزيد بن هارون، عند الإسماعيليّ.

(إِنَّ ابْنِي) زاد في رواية البخاري: "هذا"، فقال في "الفتح": فيه أن الابن كان حاضرًا، فأشار إليه، وخلا معظم الروايات عن هذه الإشارة. انتهى. (كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا) هذه الإشارة الثانية لخصم المتكلِّم، وهو زوج المرأة، زاد شعيب في روايته:"والعسيف الأجير"، وهذا التفسير مُدْرَج في الخبر، وكأنه من قول الزهريّ؛ لِمَا عُرِف من عادته أنه كان يُدخل كثيرًا من التفسير في أثناء الحديث، وقد فصله مالك، فوقع في سياقه:"كان عسيفًا على هذا". قال مالك: والعسيف: الأجير، وحَذَفها سائر الرواة، و"الْعَسِيف" بمهملتين كالأجير وزنًا، ومعنى، والجمع عُسَفاء كأجراء، ويُطلق أيضًا على الخادم، وعلى العبد، وعلى السائل، وقيل: يُطلق على من يُستهان به، وفسَّره عبد الملك بن حبيب بالغلام الذي لم يَحتلم، وإن ثبت ذلك فإطلاقه على صاحب هذه القصة باعتبار حاله في ابتداء الاستئجار.

ص: 522

ووقع في رواية للنسائيّ تعيين كونه أجيرًا، ولفظه، من طريق عمرو بن شعيب، عن ابن شهاب:"كان ابني أجيرًا لامرأته"، وسُمِّي الأجير عسيفًا؛ لأن المستأجِر يَعْسِفه في العمل، والْعَسْفُ: الْجَوْرُ، أو هو بمعنى الفاعل؛ لكونه يَعْسف الأرض بالتردّد فيها، يقال: عَسَفَ الليلَ عَسْفًا من باب ضرب: إذا أكثر السير فيه، ويطلق العسف أيضًا على الكفاية، والأجير يكفي المستأجر الأمر الذي أقامه فيه.

وقوله: (عَلَى هَذَا) ضَمّن "على" معنى "عند" بدليل رواية عمرو بن شعيب المذكورة، وفي رواية محمد بن يوسف:"كان عسيفًا في أهل هذا"، وكأن الرجل استخدمه فيما تحتاج إليه امرأته من الأمور، فكان ذلك سببًا لِمَا وقع له معها.

(فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ) قال القرطبيّ رحمه الله: لم يكن هذا من الأب قذفًا لابنه، ولا للمرأة؛ لاعترافهما بالزنى على أنفسهما. انتهى

(1)

.

(وَإِنِّي أُخْبِرْتُ) بالبناء للمفعول، وفي رواية:"فاخبروني"(أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ) وفي رواية للبخاريّ: "فزنى بامرأته، فافتديت" لم يذكر "أُخبرتُ"، قال في "الفتح": وقد ذكر عليّ ابن المدينيّ رواية في آخره هنا: أن سفيان كان يشكّ في هذه الزيادة، فربما تركها، وغالب الرواة عنه، كأحمد، ومحمد بن يوسف، وابن أبي شيبة لم يذكروها، وثبتت عند مالك، والليث، وابن أبي ذئب، وشعيب، وعمرو بن شعيب، ووقع في رواية آدم:"فقالوا لي: على ابنك الرجم"، وفي رواية أبي بكر الحنفيّ:"فقال لي" بالإفراد، وكذا عند أبي عوانة، من رواية ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، فإن ثبتت فالضمير في قوله:"فافتديت منه" لخصمه، وكأنهم ظنوا أن ذلك حقّ له يستحقّ أن يعفو عنه على مال يأخذه، وهذا ظنّ باطل.

ووقع في رواية عمرو بن شعيب: "فسألت من لا يعلم، فأخبروني أن على ابني الرجم، فافتديت منه".

(بِمِائَةِ شَاةٍ، وَوَلِيدَةٍ) هي الأمة، وجَمْعها: ولائد، وفي رواية البخاريّ:

(1)

"المفهم" 5/ 105.

ص: 523

"وخادم"، والمراد بالخادم: الجارية المعدّة للخدمة، بدليل قوله هنا:"ووليدة"، وفي رواية مالك:"وجارية لي".

(فَسَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ) وفي رواية للبخاريّ: "ثم سألت رجالًا من أهل العلم"، قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على أسمائهم، ولا على عددهم، ولا على اسم الخصمين، ولا الابن، ولا المرأة، وفي رواية مالك، وصالح بن كيسان، وشعيب:"ثم إني سألت أهل العلم، فأخبروني"، ومثله لابن أبي ذئب، لكن قال:"فزعموا"، وفي رواية معمر:"ثم أخبرني أهل العلم"، وفي رواية عمرو بن شعيب:"ثم سألت من يعلم".

(فَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا عَلَى ابْنِي) وفي رواية: "أن على ابني"(جَلْدُ مِائَةٍ) قال في "الفتح": بالإضافة للأكثر، وقرأه بعضهم بتنوين "جَلْدٌ" مرفوعًا، وتنوين "مائة" منصوبًا على التمييز، ولم يَثْبت رواية. انتهى

(1)

.

(وَتَغْرِيبُ عَامٍ)؛ أي: إبعاده من محلّه إلى محل آخر مدّة سنة، (وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ) وفي رواية مالك، والأكثر:"وإنما الرجم على امرأته"، وفي رواية عمرو بن شعيب:"فاخبروني أن ليس على ابني الرجم"، (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) وفي رواية مالك: "أما والذي نفسي بيده" (لأَقْضِيَنَّ) بنون التوكيد المشدّدة، (بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ) في رواية عمرو بن شعيب: "بالحقّ"، وهي تُرَجِّح أول الاحتمالات الماضي ذِكْرها.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "لأقضين بينكما بكتاب الله" يَحْتَمِل أن المراد: بحكم الله، وقيل: هو إشارة إلى قوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} ، وفسَّر النبي صلى الله عليه وسلم السبيل بالرجم في حق المحصَن، كما سبق في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وقيل: هو إشارة إلى آية: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما"، وقد سبق أنه مما نُسخت تلاوته، وبقي حُكمه، فعلى هذا يكون الجَلْد قد أخذه من قوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2]، وقيل: المراد نقض صُلحهما الباطل على الغنم والوليدة. انتهى

(2)

.

(الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ) وفي رواية للبخاريّ عن سفيان: "المائة شاة،

(1)

"الفتح" 15/ 638 رقم (6827).

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 206.

ص: 524

والخادم ردّ"، وكذا في رواية مالك، ولفظه: "أما غنمك، وجاريتك فردّ عليك"؛ أي: مردود، من إطلاق لفظ المصدر على اسم المفعول، كقولهم: ثوب نَسْجٌ؛ أي: منسوج، ووقع في رواية صالح بن كيسان:"أما الوليدة، والغنم، فَرُدّها"، وفي رواية عمرو بن شعيب:"أما ما أعطيته، فَرَدٌّ عليك"، (وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ) ووقع في رواية عمرو بن شعيب: "وأما ابنك فنجلده مائةً، ونُغَرِّبه سنةً"، وفي رواية مالك، وصالح بن كيسان:"وجَلَد ابنه مائةً، وغرّبه عامًا"، وهذا ظاهر في أن الذي صدر حينئذ كان حكمًا، لا فتوى، بخلاف رواية:"وعلى ابنك جلدُ مائة، وتغريب عام".

قال النوويّ رحمه الله: هو محمول على أنه صلى الله عليه وسلم عَلِمَ أن الابن كان بكرًا، وأنه اعترف بالزنا، ويَحْتَمِل أن يكون أضمر اعترافه، والتقدير: وعلى ابنك إن اعترف، والأول أَلْيق، فإنه كان في مقام الحكم، فلو كان في مقام الإفتاء لم يكن فيه إشكال؛ لأن التقدير: إن كان زنى، وهو بكر، وقرينة اعترافه حضوره مع أبيه، وسكوته عما نسبه إليه، وأما العلم بكونه بكرًا، فوقع صريحًا من كلام أبيه، في رواية عمرو بن شعيب، ولفظه:"كان ابني أجيرًا لامرأة هذا، وابني لم يُحْصِنْ".

(وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ) بنون، ومهملة، مصغّرًا، قال القرطبيّ رحمه الله: معناه: امض، وسِرْ، وليس معناه: سِرْ إليها بُكرةً، كما هو موضوع الغداة، وكذلك قوله:"فغدا عليها"؛ أي: مشى إليها، وسار نحوها.

وفيه ما يدلُّ على أن زنى المرأة تحت زوجها لا يَفْسَخ نكاحها، ولا يوجب تفرقةً بينها وبين زوجها؛ إذ لو كان ذلك لفرَّق بينهما قبل الرَّجم ولَفَسَخَ النِّكاحَ، ولم يُنْقَل شيءٌ من ذلك، ولو كان لَنُقِل كما نُقِلَت القضيَّة، وكثيرٌ من تفاصيلها، وفيه دليلٌّ على صحة الإجَارَة. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: أنيس هذا صحابيّ مشهور، وهو أنيس بن الضحاك الأسلميّ، معدود في الشاميين، وقال ابن عبد البرّ: هو أنيس بن

(1)

"المفهم" 5/ 107 - 108.

ص: 525

مرثد، والأول هو الصحيح المشهور، وأنه أسلميّ، والمرأة أيضًا أسلمية. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قال ابن السكن في "كتاب الصحابة": لا أدري من هو؟ - يعني: أنيسًا هذا - ولا وجدت له روايةً، ولا ذكرًا، إلا في هذا الحديث.

وقال ابن عبد البرّ: هو ابن الضحاك الأسلميّ، وقيل: ابن مرثد، وقيل: ابن أبي مرثد، وزيّفوا الأخير بأن أنيس بن أبي مرثد صحابيّ مشهور، وهو غَنَوِيّ - بِالغَيْن المعجمة، والنون - لا أسلميّ، وهو بفتحتين، لا بالتصغير، وغَلِط من زعم أيضًا أنه أنس بن مالك، وصُغِّر كما صُغِّر في رواية أخرى عند مسلم؛ لأنه أنصاريّ، لا أسلميّ.

ووقع في رواية شعيب، وابن أبي ذئب:"وأما أنت يا أنيس - لرجل من أسلم - فاغدُ"، وفي رواية مالك، ويونس، وصالح بن كيسان:"وأمر أُنيسًا الأسلميّ أن يأتي امرأة الآخر"، وفي رواية معمر:"ثم قال لرجل من أسلم، يقال له: أنيس: قم يا أنيس، فَسَل امرأة هذا"، وهذا يدل على أن المراد بالغدوّ: الذهاب، والتوجه، كما يُطلق الرواح على ذلك، وليس المراد حقيقة الغدوّ، وهو التأخير إلى أول النهار، كما لا يراد بالرواح التوجه نصف النهار، وقد حَكَى عياض أن بعضهم استدلّ به على جواز تأخير إقامة الحد عند ضيق الوقت، واستضعفه بأنه ليس في الخبر أن ذلك كان في آخر النهار. انتهى

(2)

.

(إِلَى امْرَأَةِ هَذَا) زاد محمد بن يوسف: "فاسألها"(فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا") وفي رواية يونس: "وأمَرَ أنيسًا الأسلميّ أن يرجُم امرأة الآخر إذا اعتَرفت"، (قَالَ: فَغَدَا عَلَيْهَا، فَاعْتَرَفَتْ، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَرُجِمَتْ) هكذا في رواية الليث، وفي رواية سفيان عند البخاريّ:"فغدا عليها، فاعترفت، فرجمها"، قال في "الفتح": كذا للأكثر، ووقع في رواية الليث:"فاعترفت، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرُجِمت"، واختصره ابن أبي ذئب، فقال:"فغدا عليها، فَرَجَمها"، ونحوه في رواية صالح بن كيسان، وفي رواية عمرو بن شعيب:

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 207.

(2)

"الفتح" 15/ 639.

ص: 526

"وأما امرأة هذا فتُرْجَم"، ورواية الليث أتمّها؛ لأنها تُشعر بأن أنيسًا أعاد جوابها على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأمر حينئذ برجمها.

ويَحْتَمِل أن يكون المراد: أمرُه الأول المعلَّق على اعترافها، فيتحد مع رواية الأكثر، وهو أولى. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: [واعلم]: أن بَعْث أنيس رضي الله عنه محمول عند العلماء من أصحابنا، وغيرهم على إعلام المرأة بأن هذا الرجل قذفها بابنه، فيُعَرِّفها بأن لها عنده حدَّ القذف، فتطالب به، أو تعفو عنه، إلا أن تعترف بالزنى، فلا يجب عليه حدّ القذف، بل يجب عليها حدّ الزنى، وهو الرجم؛ لأنها كانت محصَنة، فذهب إليها أنيس، فاعترفت بالزنى، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم برجمها، فرُجمت، ولا بد من هذا التأويل؛ لأن ظاهره أنه بُعث لإقامة حدّ الزنى، وهذا غير مراد؛ لأن حد الزنى لا يحتاج له بالتجسس، والتفتيش عنه، بل لو أقرّ به الزاني استُحِبّ أن يُلَقَّن الرجوع، كما سبق، فحينئذ يتعيّن التأويل الذي ذكرناه.

وقد اختَلَف أصحابنا في هذا البعث، هل يجب على القاضي إذا قُذِف إنسان معيَّن في مجلسه أن يَبعث إليه؛ ليُعَرِّفه بحقه من حدّ القذف أم لا يجب؟ والأصح وجوبه. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: في تصحيحه الوجوب نظر؛ لأنه لا دليل عليه، فتأمّل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة، وزيد بن خالد الْجُهَنيّ رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 4427 و 4428](1697/ 1698)، و (البخاريّ) في "الوكالة"(2314) و"الصلح"(2696) و"الشروط"(2725)

(1)

"الفتح" 15/ 639، كتاب "الحدود" رقم (6827).

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 207 - 208.

ص: 527

و"الأيمان والنذور"(6633) و"الحدود"(6828 و 6836 و 6843 و 6860) و"الأحكام"(7193) و"أخبار الآحاد"(7260)، و (أبو داود) في "الحدود"(4445)، و (الترمذيّ) في "الحدود"(1433)، و (النسائيّ) في "آداب القضاة"(8/ 240 - 241) و"الكبرى"(3/ 477 و 478 و 4/ 285 و 6/ 414)، و (ابن ماجه) في "الحدود"(2549)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 882)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 78 - 79)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(13309 و 13310)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 128 و 129 و 328)، و (الحميديّ) في "مسنده"(811)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 134 و 540 و 6/ 8 و 7/ 285)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 115 - 116)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 177)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 134 - 135)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(5/ 233 و 234 و 235 و 236 و 237 و 238)، و (البزّار) في "مسنده"(9/ 226)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 137 و 139 و 190)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(811)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4437)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 219 و 222)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(2579)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن من اعترف بالزنا يقام عليه الحدّ.

2 -

(ومنها): بيان صون النساء عن مجلس الحُكم، حيث إنه صلى الله عليه وسلم أمر أنيسًا رضي الله عنه أن يغدو إلى المرأة، ويسألها، فإن اعترفت رجمها، ولم يُلزمها حضور مجلس الحكم.

3 -

(ومنها): أن الْمُخَدَّرَة التي لا تعتاد البروز، لا تكلَّف الحضور لمجلس الحُكم، بل يجوز أن يُرْسَل إليها من يَحْكم لها وعليها.

4 -

(ومنها): الرجوع إلى كتاب الله نصًّا، أو استنباطًا.

5 -

(ومنها): جواز القَسَم على الأمر؛ لتأكيده، والحلف بغير استحلاف.

6 -

(ومنها): حُسن خُلق النبيّ صلى الله عليه وسلم، وحِلمه على من يخاطبه بما الأَوْلَى خلافه، وأن من تأسى به من الحكام في ذلك يُحْمَد، كمن لا ينزعج لقول الخصم مثلًا: احكم بيننا بالحقّ، وقال البيضاوي: إنما تواردا على سؤال

ص: 528

الحكم بكتاب الله، مع أنهما يعلمان أنه صلى الله عليه وسلم لا يحكم إلا بحكم الله؛ ليحكم بينهما بالحق الصرف، لا بالمصالحة، ولا الأخذ بالأرفق؛ لأن للحاكم أن يفعل ذلك برضا الخصمين.

7 -

(ومنها): أن حسن الأدب في مخاطبة الكبير، يقتضي التقديم في الخصومة، ولو كان المذكور مسبوقًا.

8 -

(ومنها): أن للإمام أن يأذن لمن شاء من الخصمين في الدعوى، إذا جاءا معًا، وأمكن أنّ كلًّا منهما يَدّعِي.

9 -

(ومنها): استحباب استئذان المدعي، والمستفتي الحاكم، والعالم في الكلام، ويتأكد ذلك إذا ظن أن له عذرًا.

10 -

(ومنها): أن من أقر بالحدّ، وجب على الإمام إقامته عليه، ولو لم يعترف مشاركه في ذلك.

11 -

(ومنها): أن من قَذف غيره لا يقام عليه الحدّ، إلا إن طلبه المقذوف، خلافًا لابن أبي ليلى، فإنه قال: يجب ولو لم يطلب المقذوف.

وتعقّبه الحافظ: بأن محل الخلاف، إذا كان المقذوف حاضرًا، وأما إذا كان غائبًا كهذا، فالظاهر أن التأخير لاستكشاف الحال، فإن ثبت في حق المقذوف، فلا حدّ على القاذف، كما في هذه القصة.

وقد قال النوويّ تبعًا لغيره: إن سبب بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم أنيسًا للمرأة؛ ليُعْلِمها بالقذف المذكور؛ لتطالب بحدّ قاذفها، إن أنكرت، قال: هكذا أوَّله العلماء من أصحابنا وغيرهم، ولا بد منه؛ لأن ظاهره أنه بعث يطلب إقامة حد الزنا، وهو غير مراد؛ لأن حد الزنا لا يُحتاط له بالتجسس، والتنقيب عنه، بل يُستحب تلقين المقِرّ به ليرجع، كما تقدم في قصة ماعز، وكأن لقوله:"فإن اعترفت"، مقابلًا: أي وإن أنكرت، فأعلمها أن لها طلب حد القذف، فحُذف لوجود الاحتمال، فلو أَنكرت، وطَلبت لأُجيبت.

وقد أخرج أبو داود، والنسائيّ من طريق سعيد بن المسيِّب، عن ابن عباس:"أن رجلًا أقر بأنه زنى بامرأة، فجَلَده النبيّ صلى الله عليه وسلم مائة، ثم سأل المرأة، فقالت: كَذَب، فجَلَده حدّ الفرية ثمانين"، وقد سكت عليه أبو داود، وصححه الحاكم، واستنكره النسائيّ.

ص: 529

12 -

(ومنها): أن السائل يذكر كل ما وقع في القصة؛ لاحتمال أن يَفهَم المفتي، أو الحاكم من ذلك، ما يَستدل به على خصوص الحكم في المسألة؛ لقول السائل:"إن ابني كان عسيفًا على هذا"، وهو إنما جاء يسأل عن حكم الزنا، والسر في ذلك أنه أراد أن يقيم لابنه معذرةً مّا، وأنه لم يكن مشهورًا بالعَهْر، ولم يَهجُم على المرأة مثلًا، ولا استكرهها، وإنما وقع له ذلك لطول الملازمة المقتضية لمزيد التأنيس، والإدلال، فيستفاد منه الحثّ على إبعاد الأجنبي من الأجنبية، مهما أمكن؛ لأن العشرة قد تفضي إلى الفساد، ويتسوّر بها الشيطان إلى الإفساد.

13 -

(ومنها): جواز استفتاء المفضول مع وجود الفاضل، والرَّدّ على من منع التابعيّ أن يفتي مع وجود الصحابيّ مثلًا.

14 -

(ومنها): جواز الاكتفاء في الحُكم بالأمر الناشئ عن الظن، مع القدرة على اليقين، لكن إذا اختلفوا على المستفتي يرجع إلى ما يفيد القطع، وإن كان في ذلك العصر الشريف من يفتي بالظن الذي لم ينشأ عن أصل، ويَحْتَمِل أن يكون وقع ذلك من المنافقين، أو مَن قَرُب عهده بالجاهلية، فأقْدَم على ذلك.

15 -

(ومنها): أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يُفتون في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي بلده، وقد عقد محمد بن سعد في "الطبقات" بابًا لذلك، وأخرج بأسانيد فيها الواقديّ، أن منهم: أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليًّا، وعبد الرحمن بن عوف، وأُبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم.

[تنبيه]: من كان مشهورًا بالفتوى من الصحابة رضي الله عنهم سبعة: عمر بن الخطّاب، وابنه عبد الله بن عمر، وعليّ، وابن عباس، وعائشة، وابن مسعود، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، قال ابن حزم رحمه الله: يمكن أن يُجمع من فتيا كلّ منهم مجلّد ضخم، وإليهم أشار الحافظ السيوطيّ رحمه الله في "ألفية الحديث"، حيث قال:

وَالْبَحْرُ أَوْفَاهُمْ فَتَاوَى وَعُمَرْ

وَنَجْلُهُ وَزَوْجَةُ الْهَادِي الأَبَرّْ

ثُمَّ ابْنُ مَسْعُودٍ وَزيدٌ وَعَلِي

وَبَعْدَهُمْ عِشْرُونَ لَا تُقَلِّلِ

وبعد هؤلاء من كان قليل الفتوى منهم، وهم عشرون: أبو بكر،

ص: 530

وعثمان، وأبو موسى الأشعريّ، ومعاذ بن جبل، وسعد بن أبي وقّاص، وأبو هريرة، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمرو، وسلمان الفارسيّ، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدريّ، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وعمران بن حُصين، وأبو بكرة، وعبادة بن الصامت، ومعاوية، وابن الزبير، وأم سلمة رضي الله عنهم، قال ابن حزم رحمه الله: يمكن أن يُجمع من فتوى كلّ منهم جزء صغير

وقد نظمت هؤلاء العشرين، فقلت:

صِدِّيقُهُمْ عُثْمَانُ سَعْدٌ أَنَسٌ

سَلْمَانُ جَابِرٌ مُعَاذُ الأَكْيَسُ

وَالأَشْعَرِيُّ وَالزُّبَيْرُ طَلْحَةُ

أَبُو هُرَيْرَةَ يَلِي عُبَادَةُ

وَنَجْلُ عَمْرٍ وَابْنُ عَوْفٍ وَكَذَا

نَجْلُ حُصَيْنٍ وَنُفَيعٌ حَبَّذَا

سَعْدٌ مُعَاوِيَةُ أُمُّ سَلَمَهْ

وَابْنُ الزُّبَيْرِ هُمْ حَلِيفُو الْمَكْرَمَهْ

فَهَؤُلَاءِ مَرْجِعُ الأَنَامِ

فِي عَصْرِهِمْ لِمُعْضِلِ الأَحْكَامِ

16 -

(ومنها): أن الحكم المبني على الظن، يُنقض بما يُفيد القطع.

17 -

(ومنها): أن الحد لا يَقبل الفداء، وهو مجمَع عليه في الزنا، والسرقة، والحرابة، وشُرب المُسْكِر، واختُلف في القذف، والصحيح أنه كغيره، وإنما يجري الفداء في البَدَن، كالقِصاص في النفس والأطراف.

18 -

(ومنها): أن الصلح المبني على غير الشرع، يُردّ، ويعاد المال المأخوذ فيه.

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: وبذلك يتبيّن ضَعف عُذْر من اعتذر من الفقهاء عن بعض العقود الفاسدة، بأن المتعاوضَين تراضيا، وأَذِن كل منهما للآخَر في التصرف، والحق أن الأذن في التصرف مقيَّد بالعقود الصحيحة. انتهى.

19 -

(ومنها): جواز الإستنابة في إقامة الحدّ.

20 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على وجوب الإعذار، والاكتفاء فيه بواحد، وأجاب عياض، باحتمال أن يكون ذلك ثبت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم بشهادة هذين الرجلين، كذا قال، والذي تُقبل شهادته من الثلاثة والد العسيف فقط، وأما العسيف، والزوج فلا، وغَفَل بعض من تَبع القاضي، فقال: لا بد من هذا الحمل، وإلا لزم الاكتفاء بشهادة واحد في الإقرار بالزنا، ولا قائل به، ويمكن

ص: 531

الانفصال عن هذا، بأن أُنيسًا بُعث حاكمًا، فاستوفى شروط الحكم، ثم استأذن في رجمها، فأَذِن له في رجمها، وكيف يُتصور من الصورة المذكورة إقامة الشهادة عليها، من غير تقدم دعوى عليها، ولا على وكيلها، مع حضورها في البلد، غير متوارية؟ إلا أن يقال: إنها شهادة حِسْبة، ويجاب بأنه لم يقع هناك صيغة الشهادة المشروطة في ذلك.

21 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على جواز الحكم بإقرار الجاني، من غير ضبط بشهادة عليه، ولكنها واقعة عَيْن، فَيَحْتَمِل أن يكون أنيس أُشهد قبل رجمها، قال عياض: احتج قوم بجواز حكم الحاكم في الحدود وغيرها، بما أقر به الخصم عنده، وهو أحد قولي الشافعي، وبه قال أبو ثور، وأبى ذلك الجمهور، والخلاف في غير الحدود أقوى، قال: وقصة أنيس يطرقها احتمال معنى الإعذار كما مضى، وأن قوله:"فارجُمْها"؛ أي: بعد إعلامي، أو أنه فَوَّض الأمر إليه، فإذا اعترفت بحضرة من يثبت ذلك بقولهم تُحْكَم، وقد دل قوله:"فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرُجمت"، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، هو الذي حَكَم فيها بعدَ أن أعلمه أنيس باعترافها، كذا قال، والذي يظهر أن أنيسًا لَمّا اعترفت أعلم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبالغ في الاستثبات، مع كونه كان عَلّق له رجمها على اعترافها.

22 -

(ومنها): أنه استدل به على أن حضور الإمام الرجم ليس شرطًا.

وتُعُقّب باحتمال أن أنيسًا كان حاكمًا، وقد حضر، بل باشر الرجم؛ لظاهر قوله:"فرجمها".

23 -

(ومنها): أن فيه تركَ الجمع بين الجلد والتغريب.

24 -

(ومنها): أن فيه الاكتفاءَ بالاعتراف بالمرة الواحدة؛ لأنه لم يُنقل أن المرأة تكرر اعترافها، والاكتفاء بالرجم من غير جَلْد؛ لأنه لم يُنقل في قصتها أيضًا، وفيه نظر؛ لأن الفعل لا عموم له، فالترك أولى.

25 -

(ومنها): أن فيه جوازَ استئجار الحرّ، وجواز إجازة الأب ولده الصغير لمن يستخدمه، إذا احتاج لذلك.

26 -

(ومنها): أنه استُدلّ به على صحة دعوى الأب لمحجوره، ولو كان بالغًا؛ لكون الولد كان حاضرًا، ولم يتكلم إلا أبوه.

ص: 532

وتُعُقّب باحتمال أن يكون وكيله، أو لأن التداعي لم يقع إلا بسبب المال الذي وقع به الفداء، فكأن والد العسيف ادّعى على زوج المرأة بما أخذه منه، إما لنفسه، وإما لامرأته بسبب ذلك حين أعلمه أهل العلم، بأن ذلك الصلح فاسد؛ ليستعيده منه، سواء كان من ماله، أو من مال ولده، فأَمَره النبيّ صلى الله عليه وسلم بردّ ذلك إليه، وأما ما وقع في القصة من الحدّ، فباعتراف العسيف، ثم المرأة.

27 -

(ومنها): أن حال الزانيين إذا اختلفا، أقيم على كل واحد حدّه؛ لأن العسيف جُلِدَ، والمرأة رُجمت، فكذا لو كان أحدهما حرًّا، والآخر رقيقًا، وكذا لو زنى بالغ بصبية، أو عاقل بمجنونة حُدّ البالغ والعاقل دونهما، وكذا عكسه.

28 -

(ومنها): أن من قَذَف ولده لا يُحد له؛ لأن الرجل قال: إن ابني زنى، ولم يثبت عليه حدّ القذف

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4428]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ (ح) وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبي، عَنْ صَالِحٍ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: اثنا عشر:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، تقدّم قبل باب.

2 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

3 -

(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

(1)

راجع: "الفتح" 15/ 639 - 642، كتاب "الحدود" رقم (6827).

ص: 533

4 -

(صَالِحُ) بن كيسان الغفاريّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو الحارث المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [4] مات بعد (130) أو (140) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

5 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسّيّ، تقدّم قبل بابين.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ. . . إلخ)؛ أي: أن كلًّا من يونس بن يزيد، وصالح بن كيسان، ومعمر رووا هذا الحديث عن الزهريّ بسنده الماضي.

[تنبيه]: رواية يونس، عن الزهريّ، لم أجد من ساقها مفردة، إلا أن النسائيّ ساقها في "الكبرى" مقرونة برواية مالك، فقال:

(5971)

- أخبرنا يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن وهب، قال: سمعت مالك بن أنس، وأخبرني يونس بن يزيد

(1)

، عن ابن شهاب، أخبره، والحارث بن مسكين

(2)

قراءة عليه، وأنا أسمع، عن ابن وهب، قال: أخبرني يونس، وغيره عن ابن شهاب، أخبره عن عبيد الله بن عبد الله، عن زيد بن خالد، وأبي هريرة: أن رجلين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يختصمان إليه، فقال أحدهما: اقض بيننا بكتاب الله، وقال الآخر، وكان أفقههما: أجل فاقض بيننا بكتاب الله، وأْذَنْ لي في أن أتكلم، قال: إن ابني كان عسيفًا على هذا، وإنه زنا بامرأته، فأخبرني أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة، وجارية، ثم إني سألت أهل العلم، فأخبروني، أنما على ابني جلد مائة، وتغريب عام، وإنما الرجم على امرأته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده، لأقضينّ بينكما بكتاب الله: أما غنمك، وجاريتك فردٌّ إليك"، وجَلَدَ ابنه مائة، وغرَّبه عامًا، وأمر أنيسًا أن يَرجُم امرأة الآخر إن اعترفت، فاعترفت، فرجمها. انتهى

(3)

.

(1)

قوله: "أخبرني يونس بن يزيد" من كلام ابن وهب، فهو معطوف على جملة "سمعت مالكًا"، فتنبّه.

(2)

قوله: "والحارث بن مسكين. . . إلخ" من كلام النسائيّ، فهو معطوف على "يونس بن عبد الأعلى"، فاعل لـ "أخبرنا"، فتنبّه.

(3)

"السنن الكبرى" للنسائيّ 3/ 478.

ص: 534

وأما رواية صالح بن كيسان، عن الزهريّ، فقد ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(6303)

- حدّثنا عباس الدُّوريّ، قثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، قثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، أن عبيد الله بن عبد الله أخبره، أن أبا هريرة وزيد بن خالد الجهنيّ أخبراه، أن رجلين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يختصمان إليه، فقال أحدهما: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله، قال الآخر، وهو أفقههما: أجل، فاقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي أن أتكلم، قال: تكلم، قال: يا رسول الله إن ابني كان عسيفًا على هذا، وأنه زنا بامرأته، فأُخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة، وجارية، ثم إني سألت أهل العلم، فأخبروني أن على ابني مائة جلدة، وتغريب عام، وأن الرجم على امرأة هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أقضي بينكما بكتاب الله، أما غنمك، وجاريتك، فَرَدٌّ إليك"، قال: وجَلَد ابنه مائةً، وغرّبه عامًا، وأمر أنيسًا الأسلميّ برجم امرأة الآخر، فرجمها. انتهى

(1)

.

وأما رواية معمر، عن الزهريّ، فقد ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"؛ أيضًا، فقال:

(6297)

- حدثنا محمد بن يحيى، قثنا عبد الرزاق (ح) وحدثنا الدَّبَريّ، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي هريرة، وعن زيد بن خالد الجهنيّ، أن رجلًا جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن ابني كان عسيفًا على هذا، فزنا بامرأته، فأخبروني أن على ابني الرجم، فافتديت منه بوليدة، ومائة شاة، ثم أخبرني أهل العلم أن على ابني جلدَ مائة، وتغريبَ عام، وأن على امرأة هذا الرجم، حسبته قال: فاقض بيننا بكتاب الله، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله: أما الغنم، والوليدة، فَرَدّ عليك، وأما ابنك فإن عليه جلدَ مائة، وتغريبَ عام"، ثم قال لرجل من أسلم، يقال له: أنيس: "قم يا أنيس، فسل امرأة هذا، فإن اعترفت، فارجمها". انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 139.

(2)

"مسند أبي عوانة" 4/ 137 - 138.

ص: 535

(6) - (بَابُ رَجْمِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، مِنَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ فِي الزِّنَا، إذَا تَرَافَعُوا إِلَيْنَا)

[4429]

(1699) - (حَدَّثَنِي الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى أَبُو صَالِحٍ، حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِيَهُودِيٍّ وَيَهُودِيَّةٍ قَدْ زَنَيَا، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى جَاءَ يَهُودَ، فَقَالَ: "مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ عَلَى مَنْ زَنَى؟ "، قَالُوا: نُسَوِّدُ وُجُوهَهُمَا، وَنُحَمِّلُهُمَا، وَنُخَالِفُ بَيْنَ وُجُوهِهِمَا، وَيُطَافُ بِهِمَا، قَالَ: "فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ"، فَجَاءُوا بِهَا، فَقَرَءُوهَا، حَتى إِذَا مَرُّوا بِآيَةِ الرَّجْمِ وَضَعَ الْفَتَى الَّذِي يَقْرَأُ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، وَقَرَأَ مَا بَيْنَ يَدَيْهَا، وَمَا وَرَاءَهَا، فَقَال لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ، وَهْوَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مُرْهُ فَلْيَرْفَعْ يَدَهُ، فَرَفَعَهَا، فَإِذَا تَحْتَهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَرُجِمَا، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: كُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُمَا، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَقِيهَا مِنَ الْحِجَارَةِ بِنَفْسِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى أَبُو صَالِحٍ) البغداديّ الْقَنْطَريّ، ثقةٌ

(1)

[10](ت 232)(خت م مد س ق) تقدم في "الإيمان" 46/ 294.

2 -

(شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ) بن عبد الرحمن الأمويّ مولاهم البصريّ، ثم الدمشقيّ، ثقةٌ رُمي بالإرجاء، من كبار [9](ت 189)(خ م د س ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 34/ 1418.

3 -

(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر الْعُمريّ المدنيّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(نَافِعٌ) مولى ابن عمر المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطاب رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قريبًا.

(1)

هذا أَولى من قول "التقريب": صدوق؛ كما يظهر من ترجمته في "التهذيب"، فتنبّه.

ص: 536

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، المشهور بالتشدّد في اتباع الأثر، ومن المكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ نَافِعٍ) مولى ابن عمر (أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما (أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ) بالبناء للمفعول، (بِيَهُودِيٍّ وَيَهُودِيَّةٍ قَدْ زَنَيَا) وفي رواية عبد الله بن دينار، عن ابن عمر:"أحدثا"، وفي حديث عبد الله بن الحارث، عند البزار:"أن اليهود أتوا بيهوديين زنيا، وقد أَحْصَنَا".

[تنبيه]: ذكر السهيليّ عن ابن العربيّ أن اسم المرأة بُسْرَة - بضم الموحدة، وسكون المهملة - ولم يُسمّ الرجل، وذكر أبو داود السبب في ذلك، من طريق الزهريّ: سمعت رجلًا من مزينة، ممن تَبِع العلم، وكان عند سعيد بن المسيِّب، يحدث عن أبي هريرة، قال: زنى رجل من اليهود بامرأة، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبيّ، فإنه بُعِث بالتخفيف، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قَبِلناها، واحتججنا بها عند الله، وقلنا: فتيا نبيّ من أنبيائك، قال: فأَتَوُا النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة زنيا منهم؟.

ونَقَل ابن العربيّ، عن الطبريّ، والثعلبيّ عن المفسرين قالوا:"انطَلَق قومٌ من قريظة، والنضير، منهم كعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، وسعيد بن عمرو، ومالك بن الصيف، وكنانة بن أبي الْحُقَيق، وشاس بن قيس، ويوسف بن عازوراء، فسألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان رجل وامرأة من أشراف أهل خيبر زنيا، واسم المرأة بُسْرَة، وكانت خيبر حينئذ حربًا، فقال لهم: اسألوه، فنزل جبريل على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا"، فذكر القصّة مطولةً.

ولفظ الطبريّ من طريق الزهري المذكورة: "إن أحبار اليهود اجتمعوا في بيت الْمِدراس، وقد زنى رجل منهم بعد إحصانه بامرأة منهم، قد أَحصنت"، فذكر القصة، وفيها:"فقال: أخرجوا إليّ عبد الله بن صوريا الأعور"، قال ابن

ص: 537

إسحاق: "ويقال: إنهم أخرجوا معه أبا ياسر بن أحطب، ووهب بن يهودا، فخلا النبيّ صلى الله عليه وسلم بابن صوريا"، فذكر الحديث.

وسيأتي عند مسلم من حديث البراء رضي الله عنه: "مُرّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم بيهوديّ مُحَمَّمًا مَجْلُودًا، فدعاهم، فقال: هكذا تجدون حدّ الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم"، وهذا يخالف الأول من حيث إن فيه أنهم ابتدءوا السؤال قبل إقامة الحدّ، وفي هذا أنهم أقاموا الحدّ قبل السؤال.

قال الحافظ رحمه الله: ويمكن الجمع بالتعدد، بأن يكون الذين سألوا عنهما غير الذي جلدوه، ويَحْتَمِل أن يكون بادروا، فجَلدوه، ثم بدا لهم فسألوا، فاتفق المرور بالمجلود في حال سؤالهم عن ذلك، فأمرهم بإحضارهما، فوقع ما وقع، والعلم عند الله.

ويؤيد الجمع ما وقع عند الطبرانيّ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رهطًا من اليهود أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومعهم امرأة، فقالوا: يا محمد ما أُنزل عليك في الزنا؟، فيتجه أنهم جلدوا الرجل، ثم بدا لهم أن يسألوا عن الحكم، فأحضروا المرأة، وذكروا القصة والسؤال. انتهى

(1)

.

وحاصل هذا الجمع أنهم جلدوا وحمّموا الرجل فقط قبل أن يسألوه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولم يجلدوا المرأة، ثم بدا لهم أن يسألوه، فجاءوا بالمرأة غير مجلودة، فوقع ما وقع، والله تعالى أعلم. (فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى جَاءَ يَهُودَ، فَقَالَ: "مَا) استفهاميّة، (تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ عَلَى مَنْ زَنَى؟ ") وفي رواية للبخاريّ:"ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ "، قال الباجيّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون عَلِمَ بالوحي أن حكم الرجم فيها ثابت على ما شُرع لم يلحقه تبديل، ويَحْتَمِل أن يكون عَلِم ذلك بإخبار عبد الله بن سلام وغيره، ممن أسلم منهم على وجه حَصَل له به العلم بصحة نقلهم، ويَحْتَمِل أن يكون إنما سألهم عن ذلك لِيَعلم ما عندهم فيه، ثم يتعلم صحة ذلك من قِبَل الله تعالى. انتهى

(2)

.

(قَالُوا: نُسَوِّدُ وُجُوهَهُمَا، وَنُحَمِّلُهُمَا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في أكثر

(1)

"الفتح" 15/ 682 - 683، كتاب "الحدود" رقم (6841).

(2)

راجع: "الفتح" 15/ 683.

ص: 538

النسخ: "نُحَمِّلهما" بالحاء، واللام، وفي بعضها:"نُجَمِّلهما" بالجيم، وفي بعضها:"نُحَمِّمهما" بميمين، وكلّه متقارب، فمعنى الأول: نَحْملهما على الدابّة، ومعنى الثاني: نجعلهما جميعًا على الجمل، ومعنى الثالث: نسوّد وجههما بالْحُمَم - بضمّ الحاء، وفتح الميم - وهو الفحم، وهذا الثالث ضعيف؛ لأنه قال قبله:"نُسَوِّد وجوههما". انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وروى العذريّ، والسمرقنديّ:"نُسوِّد وجوههما، ونُحَمِّمهما"، ورواه السجزيّ:"نجملهما" - بنون مضمومة، وجيم - يعني نحملهما على جمل، ويُطاف بهما، ورواها الطبريّ:"نحملهما" بنون مفتوحة، وحاء مهملة، من الحمل، وكلتا الروايتين أحسن من رواية العذريّ؛ لأن فيها تكرارًا، فإن قوله: نسوّدهما بمعنى نُحمِّمهما.

قال: وهذا الفعل إنما كان مما اخترعته اليهود، وابتدعوه، وجعلوه عِوَضًا عن حكم الرجم، ولذلك لم يَقُل به أحد من أهل الإسلام في الزنى، وإنما عمِل بعض أهل العلم في شاهد الزور، فرأى أن يُحمّم وجهه، ويُجلد، ويُحلق رأسه، ويُطاف به، وروي ذلك عن عمر بن الخطّاب، وقد روي ذلك عن بعض قضاة البصرة، ولم يره مالك. انتهى

(2)

.

(وَنُخَالِفُ بَيْنَ وُجُوهِهِمَا) بأن يُجعل قفا أحدهما مقابل قفا الآخر، (وَيُطَافُ بِهِمَا)؛ أي: بين الناس حتى يُفضحا بينهم، وفي رواية البخاريّ:"فقالوا: نفضحهم، ويُجلدون"، قال في "الفتح": وقع بيان الفضيحة في رواية أيوب، عن نافع الآتية في "التوحيد" بلفظ:"قالوا: نُسَخِّم وجوههما، ونُخزيهما"، وفي رواية عبد الله بن عمر:"قالوا: نُسَوِّد وجوههما، ونُحَمِّمهما، ونخالف بين وجوههما، ويطاف بهما"، وفي رواية عبد الله بن دينار:"إن أحبارنا أحدثوا تحميم الوجه، والتجبية"، وفي حديث أبي هريرة:"يُحَمَّم، ويُجَبَّهُ، ويُجلد، والتجبية أن يُحمل الزانيان على حمار، وتقابَل أقفيتهما، ويطاف بهما"، وقد قال إبراهيم الحربيّ بأن تفسير التجبية من قول الزهريّ، فكانه أُدرج في الخبر؛ لأن أصل الحديث من روايته.

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 208.

(2)

"المفهم" 5/ 115.

ص: 539

وقال المنذريّ: يُشبه أن يكون أصله الهمزة، وأنه التجبئة، وهي الردع والزجر، يقال: جَبّأته تجبيئًا؛ أي: ردعته، والتجبية: أن يُنَكِّس رأسه، فيَحْتَمِل أن يكون مَن فُعل به ذلك يُنَكِّس رأسه استحياء، فسُمّي ذلك الفعل تجبية، ويَحْتَمِل أن يكون من الجَبْه، وهو الاستقبال بالمكروه، وأصله من إصابة الجبهة، تقول: جَبَهْته: إذا أصبت جَبْهته، كرَأَسْتُه: إذا أصبت رأسه.

وقال الباجيّ: ظاهر الأمر أنهم قصدوا في جوابهم تحريف حكم التوراة، والكذب على النبيّ صلى الله عليه وسلم، إما رجاء أن يحكم بينهم بغير ما أنزل الله، وإما لأنهم قصدوا بتحكيمه التخفيف عن الزانيين، واعتقدوا أن ذلك يُخرجهم عما وجب عليهم، أو قصدوا اختبار أمره؛ لأنه من المقرَّر أن من كان نبيًّا لا يُقَرّ على باطل، فظهر بتوفيق الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم كَذِبهم، وصِدْقه، ولله الحمد. انتهى

(1)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ")؛ أي: فيما زعمتم من في شأن الزانيين، وفي رواية البخاريّ:"قال عبد الله بن سلام: كذبتم، إن فيها الرجمَ"، (فَجَاءُوا بِهَا)؛ أي: بالتوراة (فَقَرَءُوهَا) وفي رواية زيد بن أسلم: "فأُتِي بها، فَنَزَع الوسادة من تحته، فوضع التوراة عليها، ثم قال: آمنت بك، وبمن أنزلك"، وفي حديث البراء الآتي:"فدعا رجلًا من علمائهم، فقال: أَنشدك بالله، وبمن أنزله"، وفي حديث جابر عند أبي داود:"فقال: ائتوني بأعلم رجلين منكم، فأُتي بابن صوريا"، زاد الطبريّ في حديث ابن عباس:"ائتوني برجلين من علماء بني إسرائيل، فأتوه برجلين، أحدهما شابّ، والآخر شيخ قد سقط حاجباه على عينيه من الكِبَر"، ولابن أبي حاتم من طريق مجاهد:"أن اليهود استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزانيين، فأفتاهم بالرجم، فأنكروه، فأمرهم أن يأتوا بأحبارهم، فناشدهم، فكتموه إلا رجلًا من أصاغرهم أعور، فقال: "كذبوك يا رسول الله في التوراة". (حَتَّى إِذَا مَرُّوا بِآيَةِ الرَّجْمِ وَضَعَ الْفَتَى الَّذِي يَقْرَأُ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ) واسم هذا الفتى عبد الله بن صوريا، ووقع عند النقاش في "تفسيره" أنه أسلم، لكن ذكر مكيّ في "تفسيره" أنه ارتدّ بعد أن أسلم، وذكر الطبري بسنده أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا ناشده قال: يا

(1)

"الفتح" 15/ 683 - 684 رقم (6841).

ص: 540

رسول الله إنهم لَيَعْلمون أنك نبيّ مرسلٌ، ولكنهم يحسدونك، وقال في آخر الحديث: ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا، ونزلت فيه:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} الآية [المائدة: 41].

(وَقَرَأَ مَا بَيْنَ يَدَيْهَا، وَمَا وَرَاءَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ، وَهْوَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مُرْهُ)؛ أي: مُر هذا القارئ (فَلْيَرْفَعْ يَدَهُ، فَرَفَعَهَا، فَإِذا تَحْتَهَا آيَةُ الرَّجْمِ) ووقع في حديث البراء: "فَحَدُّه الرجمُ، ولكنه كَثُر في أشرافنا، فكنا إذا أخذْنا الشريف تركناه، وإذا أخذْنا الوضيع أقمنا عليه الحدّ، فقلنا: تعالَوْا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجَلْد مكان الرجم".

ووقع بيان ما في التوراة من آية الرجم في رواية أبي هريرة رضي الله عنه: "المحصَن، والمحصَنة إذا زنيا، فقامت عليهما البينة رُجِما، وإن كانت المرأة حبلى تُرُبِّص بها حتى تضع ما في بطنها".

وفي حديث جابر عند أبي داود: "قالا: نجد في التوراة: إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذَكَره في فرجها مثل الميل في المكحلة، رُجِما"، زاد البزار من هذا الوجه:"فإن وجدوا الرجل مع المرأة في بيت، أو في ثوبها، أو على بطنها، فهي رِيْبة، وفيها عقوبة، قال: فما منعكما أن ترجموهما؟ قالا: ذهب سلطاننا، فكرهنا القتل".

وفي حديث أبي هريرة: "فما أوَّل ما ارتخصتم أمر الله؟ قال: زنى ذوا قرابة من الملك، فأخّر عنه الرجم، ثم زنى رجل شريف، فأرادوا رجمه، فحال قومه دونه، وقالوا: ابدأ بصاحبك، فاصطلحوا على هذه العقوبة".

وفي حديث ابن عباس عند الطبرانيّ: "إنا كنا شببة، وكان في نسائنا حُسن وَجْه، فكثُرَ فينا، فلم يَقم له، فَصِرنا نجلد"، والله أعلم

(1)

.

(فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَرُجِمَا) بالبناء للمفعول، زاد في حديث أبي هريرة:"فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: فإني أحكم بما في التوراة"، وفي حديث البراء:"اللهم إني أول من أُحيي أمرك؛ إذ أماتوه"، ووقع في حديث جابر من الزيادة

(1)

"الفتح" 15/ 685.

ص: 541

أيضًا: "فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود، فجاء أربعة، فشهدوا أنهم رأوا ذَكَره في فرجها مثل الميل في المكحلة، فأَمر بهما، فرُجِما".

(قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: كُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُمَا، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَقِيهَا) بفتح أوله، من الوقاية؛ أي: يحفظها، وعند ابن ماجه:"يسترها"، (مِنَ الْحِجَارَةِ بِنَفْسِهِ) وفي رواية البخاريّ:"فرأيت الرجل يَحْني على المرأة، يقيها الحجارة"، قال في "الفتح": قوله: "يَحْنِي" كذا في رواية أبي ذرّ، عن السرخسيّ بالحاء المهملة، بعدها نون مكسورة، ثم تحتانية ساكنة، وعن المستملي، والكشميهنيّ بجيم، ونون مفتوحة، ثم همزة، وهو الذي قال ابن دقيق العيد إنه الراجح في الرواية، وفي رواية أيوب:"يجانئ" بضم أوله، وجيم مهموز، وقال ابن عبد البرّ: وقع في رواية يحيى بن يحيى كالسرخسيّ، والصواب:"يَحْني"؛ أي: يميل، وجملة ما حصل لنا من الاختلاف في ضبط هذه اللفظة عشرة أوجه: الأولان، والثالث، بضم أوله، والجيم، وكسر النون، وبالهمزة، والرابع كالأول، إلا أنه بالموحدة، بدل النون، والخامس كالثاني، إلا أنه بواو بدل التحتانية، والسادس كالأول، إلا أنه بالجيم، والسابع بضم أوله، وفتح المهملة، وتشديد النون، والثامن "يجاني" بالنون، والتاسع مثله، لكن بالحاء، والعاشر مثله، لكنه بالفاء بدل النون، وبالجيم أيضًا.

قال الحافظ: ورأيت في "الزهريات" للذهلي بخط الضياء في هذا الحديث من طريق معمر، عن الزهريّ:"يجافي" بجيم وفاء، بغير همز، وعلى الفاء صح صح. انتهى.

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند الطبرانيّ: "فلما وجد مَسَّ الحجارة قام على صاحبته يحني عليها، يقيها الحجارة حتى قُتلا جميعًا، فكان ذلك مما صنع الله لرسوله في تحقيق الزنا منهما"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

ص: 542

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 4429 و 4430 و 4431](1699)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1329) و"المناقب"(3635) و"التفسير"(4556) و"الحدود"(6819 و 6841) و"الاعتصام"(7332) و"التوحيد"(7543)، و (أبو داود) في "الحدود"(4446)، و (الترمذيّ) في "الحدود"(1436)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 321)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 819)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(13331 و 13332)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 81)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 63 و 76)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 178 - 179)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4434 و 4435)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 141)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 214)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(2583)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وجوب الحد على الكافر الذميّ إذا زنى، وهو قول الجمهور، وفيه خلاف عند الشافعية، وقد ذَهِلَ ابنُ عبد البرّ، فنَقَل الاتفاق على أن شَرْطَ الإحصان الموجب للرجم الإسلام، ورُدّ عليه بأن الشافعية، وأحمد لا يشترطان ذلك، ويؤيد مذهبهما وقوع التصريح بأن اليهوديين اللذين رُجما، كانا قد أَحْصنا، كما تقدم نَقْله، وقال المالكية، ومعظم الحنفية، وربيعة شيخ مالك: شرطُ الإحصان الإسلام، وأجابوا عن حديث الباب بأنه صلى الله عليه وسلم إنما رجمهما بحكم التوراة، وليس هو من حكم الإسلام في شيء، وإنما هو من باب تنفيذ الحكم عليهم بما في كتابهم، فإن في التوراة الرجم على المحصَن، وغير المحصَن، قالوا: وكان ذلك أول دخول النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان مأمورًا باتباع حكم التوراة، والعمل بها حتى يُنسَخ ذلك في شرعه، فرَجَم اليهوديين على ذلك الحكم، ثم نُسِخ ذلك بقوله تعالى:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} ، إلى قوله:{أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15]، ثم نُسخ ذلك بالتفرقة بين من أَحصن، ومن لم يُحصن، كما تقدم. انتهى.

وفي دعوى الرجم على من لم يُحصن نَظَر؛ لِمَا تقدَّم من رواية الطبريّ وغيره، وقال مالك: إنما رجم اليهوديين؛ لأن اليهود يومئذ لم يكن لهم ذمة، فتحاكموا إليه.

ص: 543

وتعقَّبه الطحاويّ بأنه لو لم يكن واجبًا ما فَعَله، قال: وإذا أقام الحد على من لا ذمة له، فَلَأَن يقيمه على من له ذمة أولى.

وقال المازريّ: يُعتَرض على جواب مالك بكونه رَجَم المرأة، وهو يقول: لا تُقتل المرأة، إلا إن أجاب أن ذلك كان قبل النهي عن قتل النساء، وأيد القرطبيّ أنهما كانا حربيين، بما أخرجه الطبريّ، كما تقدم، ولا حجة فيه؛ لأنه منقطع.

قال القرطبيّ: ويعكُر عليه أن مجيئهم سائلين يوجب لهم عهدًا، كما لو دخلوا لغرض كتجارة، أو رسالة، أو نحو ذلك، فإنهم في أمان، إلى أن يُرَدُّوا إلى مَأمنهم.

قال الحافظ: ولم ينفصل عن هذا إلا أن يقول: إن السائل عن ذلك ليس هو صاحب الواقعة.

وقال النوويّ: دعوى أنهما كانا حربيين باطلة، بل كانا من أهل العهد، كذا قال، وسلَّم بعض المالكية أنهما كانا من أهل العهد، واحتَج بأن الحاكم مخيَّر إذا تحاكم إليه أهل الذمة، بيْن أن يَحكم فيهم بحكم الله، وبيْن أن يُعرض عنهم على ظاهر الآية، فاختار صلى الله عليه وسلم هذه الواقعة أن يَحكم بينهم.

وتُعُقِّب بأن ذلك لا يستقيم على مذهب مالك؛ لأن شرْط الإحصان عنده الإسلام، وهما كانا كافرين، وانفصل ابن العربيّ عن ذلك بأنهما كانا محكِّمَيْن له في الظاهر، ومُخْتَبِرَيْن ما عنده في الباطن، هل هو نبيّ حقّ، أو مسامِح في الحقّ؟ وهذا لا يرفع الإشكال، ولا يَخْلُص عن الإيراد، ثم قال ابن العربيّ: في الحديث أن الإسلام ليس شرطًا في الإحصان، والجواب بأنه إنما رجمهما لإقامة الحجة على اليهود فيما حَكّموه فيه من حُكم التوراة فيه نَظَر؛ لأنه كيف يقيم الحجة عليهم بما لا يراه في شرعه، مع قوله:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49]؟ قال: وأجيب بأن سياق القصة يقتضي ما قلناه، ومن ثَمَّ استدعى شهودهم ليقيم الحجة عليهم منهم، إلى أن قال: والحق أحقّ أن يُتبع، ولو جاءوني لحكمت عليهم بالرجم، ولم أعتبر الإسلام في الإحصان.

قال الجامع عفا الله عنه: لقد أجاد ابن العربيّ رحمه الله حيث اتبع الدليل مع طول مدافعته عن مذهبه، لكنه ما منعه ذلك عن الاستسلام للدليل، فقال:

ص: 544

والحقّ أحقّ أن يتبع. . . إلخ، وتَرَك اعتبار الإسلام في الإحصان، لهذا الحديث، وهذا هو واجب كل مسلم أن يخضع للدليل، ولو خالف مذهبه؛ لأن الدليل هو المرجع، والفيصل عند التنازع، كما قال الله عز وجل:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية [النساء: 59]، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وقال ابن عبد البر: حدّ الزاني حقّ من حقوق الله، وعلى الحاكم إقامته، وقد كان لليهود حاكم، وهو الذي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما، وقول بعضهم: إن الزانيين حَكَّماه دعوى مردودة.

واعتُرِض بأن التحكيم لا يكون إلا لغير الحاكم، وأما النبيّ صلى الله عليه وسلم فحُكمه بطريق الولاية، لا بطريق التحكيم.

وأجاب الحنفية عن رجم اليهوديين، بأنه وقع بحكم التوراة.

وردّه الخطابيّ؛ لأن الله قال: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، وإنما جاءه القوم سائلين عن الحكم عنده، كما دلّت عليه الرواية المذكورة، فأشار عليهم بما كتموه من حكم التوراة، ولا جائز أن يكون حكم الإسلام عنده مخالفًا لذلك؛ لأنه لا يجوز الحكم بالمنسوخ، فدل على أنه إنما حكم بالناسخ.

وأما قوله في حديث أبي هريرة: "فإني أحكم بما في التوراة" ففي سنده رجل مبهَم، ومع ذلك فلو ثَبَت لكان معناه: لإقامة الحجة عليهم، وهو موافق لشريعته.

ويؤيده - كما قال الحافظ - أن الرجم جاء ناسخًا للجَلد، كما تقدم تقريره، ولم يقل أحد: إن الرجم شُرِع، ثم نُسِخ بالجلد، ثم نسخ الجلد بالرجم، وإذا كان حكم الرجم باقيًا منذ شُرِع، فما حَكَم عليهما بالرجم بمجرد حكم التوراة، بل بشرعه الذي استمرّ حكم التوراة عليه، ولم يقدّر أنهم بدّلوه فيما بدلوا.

وأما ما تقدم من أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رجمهما أول ما قدم المدينة؛ لقوله في بعض طرق القصة: "لَمّا قَدِم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه اليهود".

فالجواب: أنه لا يلزم من ذلك الفور، ففي بعض طرقه الصحيحة - كما

ص: 545

تقدم - أنهم تحاكموا إليه، وهو في المسجد بين أصحابه، والمسجد لم يَكْمُل بناؤه إلا بعد مدة من دخوله صلى الله عليه وسلم المدينة، فبَطَل الفور.

وأيضًا ففي حديث عبد الله بن الحارث بن جَزْء أنه حَضَر ذلك، وعبد الله إنما قَدِم مع أبيه مسلمًا بعد فتح مكة.

وقد تقدم حديث ابن عباس، وفيه ما يشعر بأنه شاهد ذلك. انتهى ما في "الفتح"، وهو تحقيق نفيسٌ، وبحث أنيس، والله تعالى أعلم.

2 -

(ومنها): أن المرأة إذا أقيم عليها الحدّ تكون قاعدة، هكذا استَدَلّ به الطحاويّ، وقد تقدم أنهم اختلفوا في الحفر للمرجومة، فمن يَرى أنه يُحفر لها تكون في الغالب قاعدة في الحفرة، واختلافهم في إقامة الحدّ عليها قاعدة، أو قائمة إنما هو في الجَلد، ففي الاستدلال بصورة الجلد على صورة الرجم نظرٌ لا يخفى.

3 -

(ومنها): قبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض، وزعم ابن العربيّ أن معنى قوله في حديث جابر:"فدعا بالشهود"؛ أي: شهود الإسلام على اعترافهما، وقوله:"فرجمهما بشهادة الشهود"؛ أي: البيّنة على اعترافهما.

ورُدّ هذا التأويل بقوله في نفس الحديث: إنهم رأوا ذَكَرَه في فرجها كالميل في المكحلة، وهو صريح في أن الشهادة بالمشاهدة، لا بالاعتراف.

وقال القرطبيّ: الجمهور على أن الكافر لا تُقبل شهادته على مسلم، ولا على كافر، لا في حدّ، ولا في غيره، ولا فرق بين السفر والحضر في ذلك، وقَبِل شهادتهم جماعة من التابعين، وبعض الفقهاء، إذا لم يوجد مسلم، واستثنى أحمد حالة السفر، إذا لم يوجد مسلم.

وأجاب القرطبيّ عن الجمهور عن واقعة اليهود بأنه صلى الله عليه وسلم نَفَّذَ عليهم ما عَلم أنه حكم التوراة، وألزمهم العمل به؛ إظهارًا لتحريفهم كتابهم، وتغييرهم حُكمه، أو كان ذلك خاصًّا بهذه الواقعة، كذا قال، والثاني مردود.

وقال النوويّ: الظاهر أنه رجمهما بالاعتراف، فإن ثبت حديث جابر، فلعل الشهود كانوا مسلمين، وإلا فلا عبرة بشهادتهم، ويتعيَّن أنهما أقرّا بالزنا.

قال الحافظ: لم يثبت أنهم كانوا مسلمين، ويَحْتَمِل أن يكون الشهود أخبروا بذلك لسؤال بقية اليهود لهم، فسمع النبيّ صلى الله عليه وسلم كلامهم، ولم يحكم فيهم

ص: 546

إلا مستنِدًا لما أطلعه الله تعالى، فحَكَم في ذلك بالوحي، وألزمهم الحجة بينهم، كما قال تعالى:{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف: 26]، وأن شهودهم شهدوا عليهم عند أحبارهم بما ذُكر، فلما رَفَعُوا الأمر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم استعلم القصة على وجهها، فذكر كلّ من حضره من الرواة ما حفظه في ذلك، ولم يكن مستنَد حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا ما أطلعه الله عليه. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هذه التكلفات من الحافظ في تأويل هذه المسألة مما يُستغرب من مثله، فإنه مما لا يليق بجلالته، أفلا يقول كما قال بعضهم: إن شهادة أهل الذمّة بعضهم على بعض جائزة؛ لهذا الحديث؟ وما المانع من ذلك مع ثبوت النصّ فيه؟، فليُتأمل بالإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

4 -

(ومنها): أنه استَدَلّ به بعض المالكية على أن المجلود يُجلد قائمًا، إن كان رجلًا، والمرأة قاعدة؛ لقول ابن عمر رضي الله عنهما:"رأيت الرجل يَقيها الحجارة"، فدلّ على أنه كان قائمًا، وهي قاعدة.

وتُعُقّب بأنه واقعة عين، فلا دلالة فيه على أن قيام الرجل كان بطريق الحكم عليه بذلك.

5 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على رجم المحصَن، وقد تقدم البحث فيه مستوفًى.

6 -

(ومنها): أنه استُدلّ به على الاقتصار على الرجم، ولا يُضم إليه الجلد، وقد تقدم الخلاف فيه، وأن الأرجح القول بالجمع بينهما؛ لِمَا تقدّم عند مسلم:"والثيّب بالثيّب جلد مائة، والرجم"، فتبصّر.

7 -

(ومنها): أن أنكحة الكفار صحيحة؛ لأن ثبوت الإحصان فرع ثبوت صحة النكاح.

8 -

(ومنها): أن الكفار مخاطَبون بفروع الشريعة، وهو الصحيح، وقيل: لا يخاطَبون بها، وقيل: إنهم مخاطَبون بالنهي، دون الأمر.

9 -

(ومنها): أن اليهود كانوا يَنسُبون إلى التوراة ما ليس فيها، ولو لم يكن مما أقدموا على تبديله، وإلا لكان في الجواب حيدة عن السؤال؛ لأنه سأل عما يجدون في التوراة، فعَدَلوا عن ذلك؛ لِمَا يفعلونه، وأوهموا أن

ص: 547

فِعلهم موافق لِمَا في التوراة، فأكذبَهم عبد الله بن سلام رضي الله عنه.

10 -

(ومنها): أنه قد استَدَلّ به بعضهم على أنهم لم يُسقطوا شيئًا من ألفاظها، قال الحافظ: والاستدلال به لذلك غير واضح؛ لاحتمال خصوص ذلك بهذه الواقعة، فلا يدل على التعميم، وكذا من استَدَلّ به على أن التوراة التي أُحضرت حينئذ كانت كلها صحيحة سالمة من التبديل؛ لأنه يطرقه هذا الاحتمال بعينه، ولا يردّه قوله صلى الله عليه وسلم:"آمنت بكِ، وبمن أنزلكِ"؛ لأن المراد: أصل التوراة.

11 -

(ومنها): اكتفاء الحاكم بترجمان واحد، موثوق به؛ لاكتفاء النبيّ صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن سلام رضي الله عنه.

12 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن شَرْع من قبلنا شَرْع لنا إذا ثَبَت ذلك، إما بدليل قرآن، أو حديث صحيح، ما لم يثبت نسخه بشريعة نبيّنا، أو نبيّهم، أو شريعتهم، وعلى هذا فيُحْمَل ما وقع في هذه القصة على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ أن هذا الحكم لم يُنسخ من التوراة أصلًا

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4430]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا اِسْمَاعِيلُ - يَعْنِي: ابْنَ عُلَيَّةَ - عَنْ أَيُّوبَ (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ مَالِكُ بْن أَنَسٍ، أَنَّ نَافِعًا أَخْبَرَهُمْ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجَمَ فِي الزِّنَى يَهُودِيَّيْنِ، رَجُلًا وَامْرَأَةً زَنَيَا، فَأَتَتِ الْيَهُودُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِهِمَا، وَسَاقُوا الْحَدِيثَ بِنَحْوِهِ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) تقدّم قريبًا.

3 -

(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة السَّختيانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

(1)

راجع: "الفتح" 15/ 686 - 690، كتاب "الحدود" رقم (6841).

ص: 548

4 -

(مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) إمام دار الهجرة، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي.

[تنبيه]: رواية أيوب السختيانيّ، عن نافع، ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(4498)

- حدّثنا عبد الله

(1)

، حدّثني أبي، ثنا إسماعيل، ثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أن اليهود أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم برجل، وامرأة منهم قد زنيا، فقال:"ما تجدون في كتابكم؟ "، فقالوا: نُسَخِّم وجوههما، ويُخْزَيَان، فقال:"كذبتم، إن فيها الرجمَ، فأْتُوا بالتوراة، فاتلوها إن كنتم صادقين"، فجاؤوا بالتوراة، وجاءوا بقارئ لهم أعور، يقال له: ابن صُوريا، فقرأ، حتى إذا انتهى إلى موضع منها وضع يده عليه، فقيل له: ارفع يدك، فرفع يده، فإذا هي تلوح، فقال، أو قالوا: يا محمد، إن فيها الرجمَ، ولكنا كنا نتكاتمه بيننا، فأَمَر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَرُجما، قال: فلقد رأيته يجانئ عليها، يقيها الحجارة بنفسه. انتهى

(2)

.

وأما رواية مالك بن أنس، عن نافع، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(3436)

- حدّثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك بن أنس، عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له أن رجلًا منهم، وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما تجدون في التوراة، في شأن الرجم؟ " فقالوا: نَفْضَحُهم، ويُجلدون، فقال عبد الله بن سلام: كذبتم، إن فيها الرجمَ، فَأَتَوا بالتوراة، فنشروها، فوَضَع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها، وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد، فيها آية الرجم، فأَمَر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرُجِما، قال عبد الله: فرأيت الرجل يجنأ على المرأة، يقيها الحجارة. انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم.

(1)

هو ابن الإمام أحمد، راوي "المسند" عنه.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 5.

(3)

"صحيح البخاريّ" 3/ 1330.

ص: 549

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4431]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ مِنْهُمْ، وَامْرَأَةٍ قَدْ زَنَيَا، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللهِ عَنْ نَافِعٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ) هو: أحمد بن عبد الله بن يونس التميميّ الْيَرْبوعيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [10](ت 227) وله (94) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

2 -

(زُهَيْرُ) بن معاوية بن حُديج الجعفيّ، أبو خيثمة الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 2 أو 3 أو 174)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.

3 -

(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عيّاش المدنيّ، تقدّم قريبًا.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ. . . إلخ) فاعل "ساق" ضمير موسى بن عُقبة.

[تنبيه]: رواية موسى بن عقبة، عن نافع، ساقها الدارميّ رحمه الله في "السنن"، فقال:

(2321)

- أخبرنا أحمد بن عبد الله، ثنا زهير، ثنا موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر: أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا، فقال: كيف تفعلون بمن زنى منكم؟ قالوا: لا نجد فيها شيئًا، فقال لهم عبد الله بن سلام: كذبتم، في التوراة الرجمُ، فأْتوا بالتوراة، فاتلوها، إن كنتم صادقين، فجاؤوا بالتوراة، فوضع مِدراسُها الذي يَدْرُسها منهم كفّه على آية الرجم، فقال: ما هذه؟ فلما رأوا ذلك، قال: هي آية الرجم، فأَمَر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرُجِما قريبًا من حيث توضع الجنائز، عند المسجد، قال عبد الله: فرأيت صاحبها يَحني عليها، يقيها الحجارة. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"سنن الدارميّ" 2/ 233.

ص: 550

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4432]

(1700) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي مُعَاوِيةَ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: مُرَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِيَهُودِيٍّ مُحَمَّمًا، مَجْلُودًا، فَدَعَاهُمْ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"هَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ؟ "، قَالُوا: نَعَمْ، فَدَعَا رَجُلًا مِنْ عُلَمَائِهِمْ، فَقَالَ:"أَنْشُدُكَ بِاللهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، أَهَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ؟ "، قَالَ: لَا، وَلَوْلَا أَنَّكَ نَشَدْتَنِي بِهَذَا لَمْ أُخْبِرْكَ، نَجِدُهُ الرَّجْمَ، وَلَكِنَّهُ كَثُرَ فِي أَشْرَافِنَا، فَكُنَّا إِذَا أَخَذْنَا الشَّرِيفَ تَرَكْنَاهُ، وَإِذَا أَخَذْنَا الضَّعِيفَ أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَدَّ، قُلْنَا

(1)

: تَعَالَوْا، فَلْنَجْتَمِعْ عَلَى شَيْءٍ نُقِيمُهُ عَلَى الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ، فَجَعَلْنَا التَّحْمِيمَ، وَالْجَلْدَ، مَكَانَ الرَّجْمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ

(2)

صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَكَ إِذْ أَمَاتُوهُ"، فَأَمَرَ بِهِ، فَرُجِمَ، فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} [المائدة: 41] يَقُولُ: ائْتُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، فَإِنْ أَمَرَكُمْ بِالتَّحْمِيمِ، وَالْجَلْدِ فَخُذُوهُ، وَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِالرَّجْمِ، فَاحْذَرُوا، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] فِي الْكُفَّارِ كُلُّهَا).

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم قبل بابين.

2 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم قريبًا.

4 -

(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهران، تقدّم أيضًا قريبًا.

(1)

وفي نسخة: "فقلنا".

(2)

وفي نسخة: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم".

ص: 551

5 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مُرَّةَ) الْهَمْدانيّ الْخَارفيّ الكوفيّ، ثقةٌ [3] (ت 100) وقيل: قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 217.

6 -

(الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبِ) بن الحارث بن عديّ الأنصاريّ الأوسيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، نزل الكوفة، استُصغِر يوم بدر، مات رضي الله عنه سنة (72)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 244.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه يحيى، فنيسابوريّ، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: مُرَّ) بالبناء للمفعول، (عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِيَهُودِيٍّ مُحَمَّمًا) منصوب على الحال، والمحَمَّم: اسم مفعول من التحميم، وهو التسويد بالْحُمَم، بضمّ الحاء المهملة، وفتح الميم، واحدته: حُمَمةٌ، وزانُ رُطَبة، وهو ما أُحرق من خشب، ونحوه، يقال: حَمَّ الْجَمْرُ يَحَمُّ حَمَمًا، من باب تَعِبَ: إذا اسودّ بعد خُمُوده، وتُطلق الْحَمَمَة على الجمر مجازًا باسم ما يؤول إليه، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

وقال المجد رحمه الله: والْحُمَم، كصُرَدٍ: الْفَحْمُ، واحدته بِهاء، وحَمَّمَ: سَخَّمَ الوجهَ به. انتهى

(2)

.

وقوله: (مَجْلُودًا) منصوب على الحال أيضًا، فتكون من الأحوال المترادفة، أو المتداخلة، و"الْمَجْلُودُ": اسم مفعول من جَلَدْتُ الجاني جَلْدًا، من باب ضَرَبَ: إذا ضربته بالْمِجْلَدِ، بكسر الميم، وهو السوط

(3)

.

(فَدَعَاهُمْ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "هَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ؟) ظاهر هذا الحديث يعارض ما سبق في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، حيث إن فيه أنهم ابتدءوا بالسؤال قبل إقامة الحدّ عليه، وفي هذا أنهم أقاموا الحدّ قبل السؤال، وقد

(1)

"المصباح المنير" 1/ 152.

(2)

"القاموس المحيط"324.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 104.

ص: 552

تقدّم أن الحافظ ذكر هذا التعارض، وأجاب بإمكان التعدّد، أو بأنهم بادروا فجلدوا، ثم سألوا، فاتفق المرور بالمجلود في حال سؤالهم عن ذلك، فأمر بإحضارهما، فوقع ما وقع، والله تعالى أعلم.

(قَالُوا: نَعَمْ، فَدَعَا رَجُلًا مِنْ عُلَمَائِهِمْ) الظاهر أنه عبد الله بن صُوريا المتقدّم ذكره. (فَقَالَ: "أَنْشُدُكَ بِاللهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، أَهَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ؟ ")؛ أي: التوراة، (قَالَ: لَا)؛ أي: لا نجد التحميم، والجلد في كتابنا، (وَلَوْلَا أَنَّكَ نَشَدْتَنِي بِهَذَا)؛ أي: بقولك المغلّظ، حيث قُلت:"أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى"، (لَمْ أُخْبِرْكَ، نَجِدُهُ)؛ أي: حدّ الزاني (الرَّجْمَ) منصوب على أنه مفعول ثان لـ "نجد"، (وَلَكِنَّهُ)؛ أي: الزنى (كَثُرَ) بضمّ الثاء المثلّثة، (فِي أَشْرَافِنَا)؛ أي: في الملوك، وأعوانهم، (فَكُنَّا إِذَا أَخَذْنَا الشَّرِيفَ تَرَكْنَاهُ) لشرفه (وَإِذَا أَخَذْنَا الضَّعِيفَ أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَدَّ) لعدم من يحميه، (قُلْنَا) وفي بعض النسخ:"فقلنا"؛ أي: قال بعضنا لبعض: (تَعَالَوْا) بفتح اللام، وإنما فُتح، وإن كان آخر الفعل يُضمّ للواو؛ لأن اللام ليست آخر الفعل حقيقةً، إذ أصله: تعالَيُوا، بوزن تقاتَلُوا، فقُلبت الياء ألفًا؛ لتحرّكها، وانفتاح ما قبلها، ثمّ حُذفت الألف؛ للالتقاء الساكنين؛ أي: الألف المنقلبة، وواو الجماعة، فبقي ما قبل الواو مفتوحًا على أصله، وما قبلها محذوف، فافهم.

(فَلْنَجْتَمِعْ عَلَى شَيْءٍ نُقِيمُهُ عَلَى الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ، فَجَعَلْنَا التَّحْمِيمَ)؛ أي: تسويد الوجه بالْحُمَم، وهو الفحم، وفسّره بعضهم بصبّ الماء الحارّ على الوجه، (وَالْجَلْدَ، مَكَانَ الرَّجْمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَكَ)؛ أي: في شأن الرجم (إِذْ أَمَاتُوهُ")؛ أي: أماته اليهود، حيث تركوا العمل به، (فَأَمَرَ) بالبناء للفاعل، أمر صلى الله عليه وسلم (بِهِ)؛ أي: برجم ذلك اليهوديّ الزاني، (فَرُجِمَ) بالبناء للمفعول.

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في "تفسيره" بعد إيراده الأحاديث المتقدّمة ما نصّه: فهذه أحاديث دالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حَكَم بموافقة حُكْم التوراة، وليس هذا من باب الإلزام لهم بما يعتقدون صحته؛ لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمديّ لا محالةَ، ولكن هذا بوحي خاص من الله عز وجل إليه بذلك،

ص: 553

وسؤالُهُ إياهم عن ذلك ليقررهم على ما بأيديهم، مما تراضوا على كتمانه وجحده، وعدم العمل به تلك الدهورَ الطويلة، فلما اعترفوا به مع عَملهم على خلافه، بأن زيغهم وعنادهم وتكذيبهم لِمَا يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم، وعدولهم إلى تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كان عن هوى منهم، وشهوة لموافقة آرائهم، لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به، لهذا قالوا:{إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا} [المائدة: 41]؛ أي: الجلد والتحميم {فَخُذُوهُ} ؛ أي: اقبلوه، {وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [المائدة: 41]؛ أي: من قبوله واتباعه. انتهى

(1)

.

(فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} إِلَى قَوْلِهِ {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} يَقُولُ: ائْتُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، فَإِنْ أَمَرَكُمْ بِالتَّحْمِيمِ، وَالْجَلْدِ فَخُذُوهُ)؛ أي: اقبلوا حكمه، واعملوا به، (وَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِالرَّجْمِ، فَاحْذَرُوا)؛ أي: لا تقبلوا حكمه، (فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} )، وقوله:(فِي الْكُفَّارِ كُلُّهَا) يعني: أن هؤلاء الآيات كلها إنما نزلت في شأن الكفّار، لا في المسلمين.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ؛ يحتجُّ بظاهره من يُكفِّرُ بالذنوب، وهم الخوارج، ولا حجَّة لهم فيه؛ لأنَّ هذه الآيات نزلت في اليهود المحرِّفين كلام الله تعالى، كما جاء في هذا الحديث، وهم كفار، فيشاركهم في حكمها من يشاركهم في سبب نزولها، وبيان هذا: أن المسلم إذا علم حكم الله تعالى في قضيَّة قطعًا، ثم لم يحكم به؛ فإن كان عن جَحْدٍ كان كافرًا، لا يُخْتَلَف في هذا، وإن كان لا عن جَحْدٍ كان عاصيًا مرتكب كبيرة؛ لأنَّه مُصَدّق بأصل ذلك الحكم، وعالم بوجوب تنفيذه عليه، لكنه عصى بترك العمل به، وهكذا في كل ما يُعلم من ضرورة الشرع حُكمه، كالصلاة، وغيرها من القواعد المعلومة، وهذا مذهب أهل السُّنَّة، وقد تقدم ذلك في "كتاب الإيمان" حيث بيَّنَّا: أن الكفر هو الجحد والتكذيب بأمرٍ معلوم ضروريّ من الشرع، فما لا يكن كذلك فليس بكفر،

(1)

"تفسير ابن كثير" 3/ 116.

ص: 554

ومقصود هذا البحث: أن هذه الآيات المراد بها: أهل الكفر، والعناد، وأنها كانت ألفاظها عامة، فقد خرج منها المسلمون؛ لأنَّ ترك العمل بالحكم مع الإيمان بأصله هو دون الشرك، وقد قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، وترك الحكم بذلك ليس بشرك بالاتفاق، فيجوز أن يُغفر، والكفر لا يُغفر، فلا يكون ترك العمل بالحكم كفرًا. ويعتضد هذا بالقاعدة المعلومة من الشرع المتقدمة، والظلم والفسق في هاتين الآيتين المراد بهما: الكفر؛ لأنَّ الكافر وَضَعَ الشيء في غير موضعه، وخرج عن الحق، فصدق على الكافر: أنَّه ظالم وفاسق، بل هو أحق بذينك الاسمين ممن ليس بكافر؛ لأنَّ ظُلمه أعظم الظلم، وفسقه أعظم الفسق. وقد تقدَّم في الإيمان بيان كُفر دون كُفر، وظُلم دون ظُلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث مفيد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 4432 و 4433](1700)، و (أبو داود) في "الحدود"(4447 و 4448)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 294 و 6/ 334)، و (ابن ماجه) في "الحدود"(2337 و 2558)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 286 و 290 و 300)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 144 و 145)، و (ابن أبي عاصم) في "الأوائل"(1/ 99)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 142)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 214 و 246)، وفوائد الحديث تقدّمت، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4433]

(. . .) - (حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَهُ إِلَى قَوْلِهِ: "فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَ"، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ مِنْ نُزُولِ الآيَةِ).

(1)

"المفهم" 16/ 36.

ص: 555

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ) عبد الله بن سعيد بن حُصين الْكِنديّ، الكوفيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 17، وهو أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة.

3 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

و"الأعمش" ذُكر قبله.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ مِنْ نُزُولِ الآيَةِ) فاعل "يذكر" ضمير وكيع.

[تنبيه]: رواية وكيع، عن الأعمش هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(16707)

- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو الوليد، ثنا إبراهيم بن أبي طالب، أنبأ أبو سعيد الأشج، قال: وأخبرني أبو أحمد الحافظ، واللفظ له، ثنا محمد بن محمد بن سليمان، ثنا محمد بن عبد الله بن نُمير، قالا: ثنا وكيع، وثنا الأعمش، عن عبد الله بن مرّة، عن البراء بن عازب، قال: مَرُّوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهوديّ، قد جُلِد وحُمِّم وجهُهُ، فسأل اليهود:"مَن عالمكم؟ " فقالوا: فلان، فأرسل إليه، فجاء، فقال:"ما تجدون حدّ الزنا في كتابكم؟ " فقالوا: نجده الرجم، ولكن فشا الزنا في أشرافنا، فكان الشريف إذا زنى لم يُرْجَم، وإذا زنى السفيه رُجم، فاصطلحنا على الجَلد والتحميم، فأَمَر النبيّ صلى الله عليه وسلم به، فرُجِم، ثم قال:"اللهم أني أُشهدك أني أول من أحيا سُنَّة أماتوها". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4434]

(1701) - (وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: رَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ، وَرَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ، وَامْرَأَتَهُ).

(1)

"سنن البيهقيّ الكبرى" 8/ 214.

ص: 556

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) الحمّال، أبو موسى البغداديّ البزّاز، ثقةٌ [10](ت 243) وقد ناهز الثمانين (م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.

2 -

(حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ) الأعور المصيصيّ، أبو محمد ترمذيّ الأصل، نزيل بغداد، ثم الْمِصِّيصة، ثقةٌ، اختلط في آخره [9](ت 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 94.

3 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

5 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حرام رضي الله عنهما، تقدّم في الباب الماضي.

وقوله: (رَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ) هو ماعز بن مالك الأسلميّ رضي الله عنه.

وقوله: (وَرَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ، وَامْرَأَتَهُ) أراد: صاحبته التي زنى بها، ولم يُرِد: زوجته، وفي رواية:"وامرأة"، وهي واضحة، وتقدّم اسم المرأة بُسْرة، ولم يُسمَّ الرجل.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 4434 و 4435](1701)، و (أبو داود) في "الحدود"(4455)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 321 و 386)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4435]

(. . .) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "وَامْرَأَةً").

ص: 557

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ) بن العلاء الْقَيسيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، له تصانيف [9](ت 5 أو 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 476.

و"ابن جُريج" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية ابن جُريج هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" فقال:

(14487)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا عبد الرزاق، أنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول:"رَجَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا من أسلم، ورجلًا من اليهود، وامرأةً". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4436]

(1702) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى: هَلْ رَجَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُلْتُ بَعْدَمَا أُنْزِلَتْ سُورَةُ النُّورِ، أَمْ قَبْلَهَا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي).

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فُضيل بن حسين، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَبْدُ الْوَاحِدِ) بن زياد الْعَبديّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [8](ت 176) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

3 -

(سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ) ابن أبي سليمان فيروز، أبو إسحاق الكوفيّ، ثقةٌ [5] مات في حدود (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 38/ 259.

4 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) تقدّم قريبًا.

5 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى) علقمة بن خالد بن الحارث الأسلميّ،

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 321.

ص: 558

الصحابيّ الشهير، شَهِد الحديبية، وعُمّر بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم دهرًا، ومات سنة (87)، وهو آخر من مات من الصحابة بالكوفة تقدم في "الصلاة" 41/ 1072.

و"ابن أبي شيبة" ذُكر قبل ثلاثة أحاديث.

[تنبيه]: من لطائف هذين الإسنادين:

أنهما من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهما (292) و (293) من رباعيّات الكتاب، وصحابيّه من المعمّرين، وهو آخر من مات من الصحابة بالكوفة، كما أسلفناه آنفًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ) سليمان بن أبي سليمان، واسم أبيه فيروز، أنه (قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى) رضي الله عنه (هَلْ رَجَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ)؛ أي: رجم، (قَالَ: قُلْتُ بَعْدَمَا أُنْزِلَتْ سُورَةُ النُّورِ، أَمْ قَبْلَهَا؟) قال في "الفتح": فائدة هذا السؤال أن الرجم إن كان وقع قبلها، فيمكن أن يُدَّعَى نسخه بالتنصيص فيها على أن حدّ الزاني الجَلْد، وإن كان وقع بعدها، فيمكن أن يستدلّ به على نسخ الجَلْد في حقّ المحصَن، لكن يَرِدُ عليه أنه من نَسْخ الكتاب بالسُّنَّة، وفيه خلاف، وأجيب بأن الممنوع نَسْخ الكتاب بالسُّنَّة إذا جاءت من طريق الآحاد، وأما السُّنَّة المشهورة فلا، وأيضًا فلا نَسْخ، وإنما هو مخصَّص بغير المحصَن. انتهى

(1)

.

(قَالَ: لَا أَدْرِي) قال في "الفتح": قد قام الدليل على أن الرجم وقع بعد "سورة النور"؛ لأن نزولها كان في قصّة الإفك، واختُلِف هل كان سنة أربع، أو خمس، أو ستّ؟ على ما تقدّم بيانه، والرجم كان بعد ذلك، فقد حضره أبو هريرة رضي الله عنه، وإنما أسلم سنة سبع، وابن عبّاس رضي الله عنهما، وإنما جاء مع أمه إلى المدينة بعد سنة تسع

(2)

.

وفيه أن الصحابيّ الشهير قد تخفى عليه بعض الأمور الواضحة، وأن

(1)

"الفتح" 15/ 606 - 607، كتاب "الحدود" رقم (6813).

(2)

"الفتح" 15/ 607، كتاب "الحدود" رقم (6813).

ص: 559

الجواب من الفاضل بـ "لا أدري" لا عيب فيه، بل يدلّ على تحرّيه، وتثبّته، فيُمدح به

(1)

.

[تنبيه]: أشار البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" إلى أنه وقع لبعضهم مخالفة الجماعة في السورة، هل هي النور، أم المائدة؟ فقال: وقال بعضهم: "المائدة"، والأول أصحّ. انتهى.

والمراد بالبعض هو: عَبيدة بن حُميد، فقد أخرجه الإسماعيليّ من طريقه، ولفظه:"فقلت: بعد سورة المائدة، أو قبلها؟ "، قال الحافظ رحمه الله: ولعلّ من ذَكَره توهّم مِنْ ذِكر اليهوديّ واليهوديّة أن المراد "سورة المائدة"؛ لأن فيها الآية التي نزلت بسبب سؤال اليهود عن حكم اللذين زنيا. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 4436](1702)، و (البخاريّ) في "الحدود"(6813 و 6840)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 386 و 4/ 423)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(7) - (بَابُ إِقَامَةِ السَّيِّدِ الْحَدَّ عَلَى أَمَتِهِ)

وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4437]

(1703) - (وَحَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ الْمِصْرِيُّ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ، فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا، فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ، وَلَا

(1)

"الفتح" 15/ 681، كتاب "الحدود" رقم (6840).

(2)

"الفتح" 15/ 182، كتاب "الحدود" رقم (6840).

ص: 560

يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ، وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ، فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا، فَلْيَبِعْهَا، وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ الْمِصْرِيُّ) التُّجيبيّ، أبو موسى، لقبه زُغْبة، وهو لقب أبيه أيضًا، ثقةٌ [10](ت 248) وقد جاوز التسعين، وهو آخر من حدّث عن الليث من الثقات (م د س ق) تقدم في "الإيمان" 87/ 462.

2 -

(اللَّيْثُ) بن سعد الإمام المصريّ الشهير، تقدّم قبل باب.

3 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ) المقبريّ، أبو سَعْد المدنيّ، ثقة [3] مات في حدود (120) أو قبلها، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.

4 -

(أَبُوهُ) أبو سعيد كيسان المقبريّ المدنيّ، مولى أم شريك، ثقة ثبتٌ [2](ت 100)(ع) تقدم في "الإيمان" 74/ 392.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه مسلسل بالمدنيين، سوى الأوَّلَيْن، فمصريّان، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ هو أبوه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.

شرح الحديث:

(عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ) المقبريّ (عَنْ أَبِيهِ) اسمه كيسان، وقد اختُلف في زيادة "عن أبيه"، وسيأتي تحقيقه قريبًا - إن شاء الله تعالى. (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّهُ) يعني: أبا سعيد المقبريّ، (سَمِعَهُ)؛ أي: سع أبا هريرة رضي الله عنه (يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ) الأمة: هي المملوكة، وتُجمع على إِمَاءٍ، وأَمَوَاتٍ، وآمٍ، وَأَمْوَانٍ، مثلّثة، وأصلها: أَمَوَهٌ، وأَمْوَةٌ، قاله المجد رحمه الله

(1)

. قال الشاعر [من البسيط]:

أَمَّا الإِمَاءُ فَلَا يَدْعُونَنِي وَلَدَا

إِذَا تَرَامَى بَنُو الأُمْوَانِ بِالْعَارِ

(2)

(فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا)؛ أي: ظهر، وشَرَط بعضهم أن يظهر بالبيّنة؛ مراعاة للفظ

(1)

"القاموس المحيط" ص 63.

(2)

"المفهم" 5/ 119.

ص: 561

"تبيّن"، وقيل: يُكتفى في ذلك بعلم السيّد، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: معنى تبيّن زناها: تحقّقه، إما بالبيّنة، وإما برؤية، أو عِلْم عند من يجوّز القضاء بالعلم في الحدود. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: تبيُّن زنى الأمة يكون بالإقرار، وبالحبَل، وبصحّة الشهادة عند الإمام، وهل يكتفي السيّد بعلة الزنى، أو لا؟ فيه روايتان عند المالكيّة. انتهى

(3)

.

(فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ)؛ أي: الواجب عليها المعروف من صريح قول الله عز وجل: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، ووقع في رواية النسائيّ من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"فليجلدها بكتاب الله"، (وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا) التثريب: التوبيخ، واللوم؛ أي: لا يَجمع عليها العقوبة بالجلد، وبالتعيير، وقيل: المراد: لا يَقتنع بالتوبيخ، دون الجلد، وفي رواية سعيد، عن أبي هريرة، عبد الرزاق:"ولا يُعَيِّرها، ولا يُفَنِّدها".

قال ابن بطال رحمه الله: يؤخذ منه أن كل من أقيم عليه الحدّ لا يُعَزَّر بالتعنيف واللوم، وإنما يليق ذلك بمن صدر منه قبل أن يُرفع إلى الإمام؛ للتحذير، والتخويف، فإذا رُفع، وأقيم عليه الحدّ كفاه، وسيأتي نهيه صلى الله عليه وسلم عن سبّ الذي أقيم عليه حدّ الخمر، وقال:"لا تكونوا أعوانًا للشيطان على أخيكم".

(ثُمَّ إِنْ زَنَتْ) مرّة ثانيةً (فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ)؛ أي: الواجب عليها، وهو نصف ما على الحرّة.

قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فليجلدها" أمرٌ للسيِّد بجلد أمته الزانية وعبده، وبه قال الجمهور من الصحابة، والتابعين، والفقهاء، خلا أهل الرأي أبا حنيفة وأصحابه، فإنَّهم قالوا: لا يقيم الحدّ إلا السلطان، وهذه الأحاديث - النصوص الصحيحة - حجَّة عليهم، وفي معنى حدّ الزنى عند الجمهور سائر الحدود، غير أنهم اختلفوا في حد السَّرِقة، وقِصاص الأعضاء، فمنع مالك

(1)

"الفتح" 15/ 679، كتاب "الحدود" رقم (6839).

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 211.

(3)

"المفهم" 5/ 119.

ص: 562

وغيره إقامة السيِّد ذلك مخافة أن يمثِّل بعبده، ويَدَّعِي أنَّه سرق، وأقام الحدّ عليه، فيسقط العتق الواجب بالْمُثْلَة.

قال القرطبيّ: وعلى هذا لو قامت بيِّنة توجب حدّ السَّرِقة أقامه، وقاله بعض أصحابنا: إذا قامت على السَّرِقة بيِّنة، وقال الشافعي: يقطع السيِّد عبده إذا سرق.

قال: وعلى هذا فله أن يَقْتل عبده إذا قتل؛ لكن إذا قامت البيِّنة.

وكل من قال بإقامة السيِّد الحدّ على أمته لم يفرِّق بين أن تكون الأمة ذات زوج، أو غير ذات زوج؛ خلا مالكًا فإنَّه قال: إن كانت غير ذات زوج، أو كانت متزوجة بعبد السيِّد أقام عليها الحدّ، فلو كانت متزوجة بأجنبي لم يقم سيِّدها عليها الحدّ لحق الزوج؛ إذ قد يُعِيبُها عليه، وإنَّما يقيمه الإمام.

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله الجمهور من إقامة الحدّ على الأمة مطلقًا، ولو كانت مزوَّجة، هو الأرجح عندي؛ لظاهر إطلاق النصّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

والجَلْد المأمور به هنا: هو نصف حدِّ الحرِّ، الذي قال الله تعالى فيه:{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]. انتهى

(1)

.

(وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا)؛ أي: لا يُوبِّخ، ولا يُعيِّر، ولا يُكْثِر من اللَّوم، فإنَّ الإكثار من ذلك يزيل الحياء والْحِشْمة، ويُجَرِّئ على ذلك الفعل، وأيضًا فإن العبد غالب حاله: أنه لا ينفعه اللوم والتوبيخ، ولا يؤثّر، فلا يظهر له أثر، وانما يظهر أثره في حق الحر، ألا ترى قول الشاعر:

وَاللَّومُ لِلْحُرِّ مُقيمٌ رادِعٌ

وَالْعَبْدُ لَا يَرْدَعُهُ إِلَّا الْعَصَا

وأيضًا: فإن التوبيخ واللَّوم عقوبة زائدة على الحد الذي نصّ الله تعالى عليه، فلا ينبغي أن يلتزم ذلك، ولا يَدخُلُ في ذلك الوعظُ والتخويفُ بعقاب الله تعالى، والتهديدُ إذا احتيج لذلك؛ إذ ليس بتثريب؛ ولأن الصحابة رضي الله عنهم قد قالوا لشارب الخمر: أما اتَّقيت الله؟ أما استحيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قاله القرطبيّ رحمه الله

(2)

.

(1)

"المفهم" 5/ 119 - 120.

(2)

"المفهم" 5/ 120.

ص: 563

(ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ، فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا، فَلْيَبِعْهَا، وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ")؛ أي: ولو كان البيع بثمن قليل، كالحبل من الشعر، قال ابن بطّال رحمه الله: فائدة الأمر ببيع الأمة الزانية المبالغة في تقبيح فعلها، والإعلام بأن الأمة الزانية لا جزاء لها إلا البيع، وأنها لا تبقى عند سيّدها؛ زجرًا لها عن معاودة الزنا، ولعلّ ذلك يكون سببًا لإعفافها، إما أن يزوّجها، المشتري، أو يُعفّها بنفسه، أو يصونها بهيبته. انتهى

(1)

.

قال النوويّ رحمه الله: هذا البيع المأمور به مستحبّ، ليس بواجب عندنا، وعند الجمهور، وقال داود، وأهل الظاهر: هو واجب، وفيه جواز بيع الشيء النفيس بثمن حقير، وهذا مجمع عليه، إذا كان البائع عالِمًا به، فإن كان جاهلًا، فكذلك عندنا، وعند الجمهور، ولأصحاب مالك فيه خلاف، والله أعلم، وهذا البيع المأمور به يلزم صاحبه أن يُبَيِّن حالها للمشتري؛ لأنه عيب، والإخبار بالعيب واجب.

[فإن قيل]: كيف يَكره شيئًا، ويرتضيه لأخيه المسلم؟.

[فالجواب]: لعلها تستعفّ عند المشتري بأن يُعِفّها بنفسه، أو يصونها بهيبته، أو بالإحسان إليها، والتوسعة عليها، أو يزوجها، أو غير ذلك، والله أعلم. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ولو بحبل من شعر" وَصَف الحبل بكونه من شعر؛ لأنَّه أكثر حبالهم، وهذا خرج مخرج التقليل، والتزهيد في الجارية الزانية، فكأنَّه قال: لا تمسكها، بعها بما تيسَّر، ففيه دليل على إبعاد أهل المعاصي، واحتقارهم.

[فرع]: إذا باعها عرَّف بزناها، لأنَّه عيبٌ، فلا يحلُّ أن يكتم.

فإن قيل: إذا كان مقصود هذا الحديث إبعاد الزانية، ووجب على بائعها التعريف بزناها، فلا ينبغي لأحد أن يشتريها، لأنها مِمَّا قد أُمِرَ بإبعادها.

فالجواب: أنَّها مالٌ ولا يُضاع للنهي عن إضاعة المال، ولا تُسيَّب، ولا

(1)

"شرح البخاريّ" لابن بطال 6/ 282 - 283.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 212.

ص: 564

تُحبس دائمًا؛ إذ كل ذلك إضاعة مال، ولو سُيِّبت لكان ذلك إغراءً لها بالزنى وتمكينًا منه، فلم يبق إلا بيعها، ولعل السيِّد الثاني يُعِفُّها بالوطء، أو يبالغ في التحرز بها، فيمنعها من ذلك. وعلى الجملة فعند تَبَدُّل الأملاك تختلف عليها الأحوال، وجمهور العلماء حملوا الأمر ببيع الجارية الزانية على النَّدب، والإرشاد للأصلح، ما خلا داود وأهل الظاهر، فإنهم حملوه على الوجوب تمسُّكًا بظاهر الأمر، والجمهور صرفوه عن ظاهره تمسُّكًا بالأصل الشرعيّ، وهو: أنَّه لا يُجْبَر أحدٌ على إخراج مُلكه لِمُلك آخر بغير الشفعة. فلو وجب ذلك عليه لَجُبِر عليه، ولم يُجْبَر عليه فلا يجب.

وقد استنبط بعض العلماء من هذا الحديث جواز البيع بالغَبْن، قال: لأنه بيع خطير بثمن يسير، وهذا ليس بصحيح؛ لأنَّ الغبن المختلَف فيه إنَّما هو مع الجهالة من المغبون، وأمَّا مع علم البائع بقدر ما باع وبقدر ما قبض فلا يُخْتلَف فيه؛ لأنَّه عن علم منه ورضًا، فهو إسقاط لبعض الثَّمن، وإرفاق بالمشتري، لا سيَّما وقد بيَّنَّا: أن الحديث خرج على جهة التزهيد، وترك الغبطة. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 4437 و 4438 و 4439 و 4440 و 4441](1703) و (1704)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2152 و 2153 و 2154 و 2332 و 2233 و 2234) و"الحدود"(839)، و (أبو داود) في "الحدود"(4471)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 300 و 301)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 387)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(7/ 393)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 281)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 422 و 431)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 146 و 147 و 148)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 489)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"

(1)

"المفهم" 5/ 121 - 122.

ص: 565

(3/ 162)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 242 و 244)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وجوب حدّ الزنى على الإماء والعبيد.

2 -

(ومنها): بيان أن السيد يقيم الحدّ على عبده وأمته، قال النوويّ: وهذا مذهبنا، ومذهب مالك، وأحمد، وجماهير العلماء، من الصحابة، والتابعين، فمن بعدهم، وقال أبو حنيفة رحمه الله في طائفة: ليس له ذلك، وهذا الحديث صريح في الدلالة للجمهور.

3 -

(ومنها): بيان أن العبد والأمة لا يُرْجَمان، سواء كانا مزوّجين أم لا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"فليجلدها الحدّ"، ولم يفرّق بين مزوّجة وغيرها.

4 -

(ومنها): بيان أنه لا يُوَبِّخ الزاني، بل يقام عليه الحدّ فقط.

5 -

(ومنها): أن الزنا عيب يُرَدّ به الرقيق؛ للأمر بالحطّ من قيمة المرقوق، إذا وُجد منه الزنا، كذا جزم به النوويّ تبعًا لغيره، وتوقف فيه ابن دقيق العيد؛ لجواز أن يكون المقصود الأمر بالبيع، ولو انحطت القيمة، فيكون ذلك متعلقًا بأمر وجوديّ، لا إخبارًا عن حكم شرعيّ؛ إذ ليس في الخبر تصريح بالأمر من حط القيمة.

6 -

(ومنها): أن الزاني إذا حُدّ، ثم زنى ثانيًا يلزمه حدّ آخر، فإن زنى ثالثة لزمه حدّ آخر، فإن حُد ثم زنى لزمه حدّ آخر، وهكذا، فأما إذا زنى مرّات، ولم يُحدّ لواحدة منهنّ، فيكفيه حدّ واحد للجميع، قاله النوويّ

(1)

.

قال الحافظ: قوله: "فأما إذا زنى مرّات" ابتداء كلام، قاله لتكميل الفائدة، وإلا فليس في الحديث ما يدلّ عليه إثباتًا، ولا نفيًا، بخلاف الشق الأول، فإنه ظاهر. انتهى

(2)

.

7 -

(ومنها): الزجر عن مخالطة الفساق، ومعاشرتهم، إذا تكرر زجرهم، ولم يرتدعوا، ويقع الزجر بإقامة الحدّ فيما شُرع فيه الحدّ، وبالتعزير فيما لا حدّ فيه.

8 -

(ومنها): جواز عطف الأمر المقتضي للندب على الأمر المقتضي

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 211.

(2)

"الفتح" 15/ 678.

ص: 566

للوجوب؛ لأن الأمر بالجَلد واجب، والأمر بالبيع مندوب عند الجمهور، خلافًا لأبي ثور، وأهل الظاهر، وادَّعَى بعض الشافعية أن سبب صرف الأمر عن الوجوب، أنه منسوخ، وممن حكاه ابن الرفعة في "المطلب"، ويحتاج إلى ثبوت.

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله أبو ثور، وأهل الظاهر من وجوب البيع هو الظاهر؛ لأنه جاء بصيغة الأمر، وهو للوجوب إلا لصارف، ولا يوجد هنا صارف، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

وقال ابن بطال: حَمَلَ الفقهاء الأمر بالبيع على الحضّ على مباعدة من تكرر منه الزنا؛ لئلا يظن بالسيد الرضا بذلك، ولِمَا في ذلك من الوسيلة إلى تكثير أولاد الزنا، قال: وحَمَله بعضهم على الوجوب، ولا سلف له من الأمة، فلا يُشتغل به، وقد ثبت النهي عن إضاعة المال، فكيف يجب بيع الأمة ذات القيمة بحبل من شعر، لا قيمة له؟ فدلّ على أن المراد: الزجر عن معاشرة من تكرر منه ذلك.

قال الجامع عفا الله عنه: عجيب قول ابن بطال: "فلا يُشتغل به"، كيف لا يُشتغل به، وقد أيّده النصّ الصريح؟ وأما ما ظنّه أنه من إضاعة المال، فليس كذلك، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

وقال في "الفتح" - بعد ذكر كلام ابن بطال المذكور -: وتُعُقِّب بأنه لا دلالة فيه على بيع الثمين بالحقير، وإن كان بعضهم قد استدلّ به على جواز بيع المطلق التصرف ما له بدون قيمته، ولو كان بما يتغابن بمثله، إلا أن قوله:"ولو بحبل من شعر" لا يراد به ظاهره، وإنما ذُكر للمبالغة، كما وقع في حديث:"من بنى لله مسجدًا، ولو كمَفْحص قَطَاة" على أحد الأجوبة؛ لأن قَدر المفحص لا يسع أن يكون مسجدًا حقيقة، فلو وقع ذلك في عين مملوكة للمحجور، فلا يبيعها وليّه إلا بالقيمة، ويَحْتَمِل أن يَطَّرِد؛ لأن عيب الزنا تنقص به القيمة عند كل أحد، فيكون بيعها بالنقصان بيعًا بثمن المِثْل، نبّه عليه القاضي عياض، ومن تبعه.

وقال ابن العربيّ: المراد من الحديث: الإسراع بالبيع، وإمضاؤه، ولا يتربص به طلبَ الراغب في الزيادة، وليس المراد بيعه بقيمة الحَبْل حقيقةً. وفيه

ص: 567

أنه يجب على البائع أن يُعلِم المشتري بعيب السلعة؛ لأن قيمتها إنما تنقص مع العلم بالعيب، حكاه ابن دقيق العيد. وتعقبه بأن العيب لو لم يُعلَم تنقص القيمة، فلا يتوقف على الإعلام.

واستُشْكِل الأمر ببيع الرقيق إذا زنى، مع أن كل مؤمن مأمور أن يرى لأخيه ما يرى لنفسه، ومن لازم البيع أن يوافق أخاه المؤمن على أن يقتني ما لا يرضى اقتناءه لنفسه.

وأجيب بأن السبب الذي باعه لأجله ليس محقق الوقوع عند المشتري؛ لجواز أن يرتدع الرقيق، إذا عَلِم أنه متى عاد أُخرج، فإن الإخراج من الوطن المألوف شاقّ، ولجواز أن يقع الإعفاف عند المشتري بنفسه، أو بغيره، قال ابن العربيّ: يُرْجَى عند تبديل المحل تبديل الحال، ومن المعلوم أن للمجاورة تأثيرًا في الطاعة، وفي المعصية.

9 -

(ومنها): أن فيه إشارة إلى أن العقوبة في التعزيرات إذا لم يُفِد مقصودها من الزجر لا يفعل؛ لأن إقامة الحدّ واجبة، فلما تكرر ذلك، ولم يفد عُدِل إلى ترك شَرْط إقامته على السيد، وهو الملك، ولذلك قال:"بيعوها"، ولم يقل: اجلدوها كلما زنت. ذكره ابن دقيق العيد، وقال: قد تعرض إمام الحرمين لشيء من ذلك، فقال: إذا عَلِمَ المعزِّر في أن التأديب لا يَحْصُل إلا بالضرب المبرِّح فليتركه؛ لأن المبرح يُهلك، وليس له الإهلاك، وغير المبَرِّح لا يفيد، قال الرافعيّ: وهو مبني على أن الإمام لا يجب عليه تعزير من يستحق التعزير، فإن قلنا: يجب؛ الْتَحَق بالحدّ فليعزّره بغير المبرّح، وإن لم ينزجر.

10 -

(ومنها): أن السيد يقيم الحدّ على عبده، وإن لم يستأذن السلطان

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4438]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ

(1)

راجع: "الفتح" 15/ 676 - 678، كتاب "الحدود" رقم (6837).

ص: 568

الْبُرْسَانِيُّ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، كِلَاهُمَا عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ (ح) وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زيدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا أَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي جَلْدِ الأَمَةِ إِذَا زَنَتْ ثَلَاثًا:"ثُمَّ لْيَبِعْهَا فِي الرَّابِعَةِ").

رجال هذا الإسناد: تسعة عشر:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ الْبُرْسَانِيُّ) أبو عثمان البصريّ، صدوقٌ [9](ت 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 65/ 369.

2 -

(هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ) الأزديّ الْقُرْدوسيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ من أثبت الناس في ابن سيرين [6](ت 7 أو 148)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

3 -

(أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى) الأمويّ، أبو موسى المكيّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ) تقدّم أيضًا قريبًا.

6 -

(أُسَامَةُ بْنُ زيدٍ) الليثيّ المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

7 -

(هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ) بن مُصعب التميميّ، أبو السّريّ الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 243) وله (91) سنةً (عخ م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

8 -

(عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الكلابيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

9 -

(مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ) بن يسار المطّلبيّ مولاهم، أبو بكر المدنيّ، نزيل العراق، إمام المغازي، ثقةٌ يدلّس، ورُمي بالتشيّع والقدر، من صغار [5](ت 150) أو بعدها (خت م 4) تقدم في "الصلاة" 42/ 1085.

والباقون ذُكروا في الباب، والأبواب الثلاثة قبله.

وقوله: (كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ) اسم الإشارة يعود إلى الأربعة، وهم: أيوب بن موسى، وعبيد الله بن عمر الْعُمَريّ، وأسامة بن زيد الليثيّ، ومحمد بن إسحاق المطّلبيّ، فكلّ هؤلاء الأربعة رووا هذا الحديث عن سعيد

ص: 569

المقبريّ، عن أبي هريرة، إلا أن ابن إسحاق قال: عن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، فأدخل أباه في الإسناد.

[تنبيه]: رواية ابن عيينة، عن أيوب بن موسى، عن سعيد المقبريّ، ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(7247)

- أخبرنا قتيبة بن سعيد، ومحمد بن عبد الله بن يزيد - واللفظ لمحمد - قال: ثنا سفيان، عن أيوب بن موسى، عن سعيد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وإن زنت أمة أحدكم، فتبيّن زناها، فليجلدها الحدّ، ولا يُثَرِّب ثلاثًا"، زاد قتيبة:"وإن زنت فليبعها، ولو بضفير". انتهى

(1)

.

ورواية هشام بن حسّان، عن أيوب بن موسى، عن سعيد المقبريّ، ساقها النسائيّ أيضًا في "الكبرى"، فقال:

(7248)

- أخبرنا عمرو بن عليّ، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا هشام - هو ابن حسان - عن أيوب بن موسى، عن سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا زنت أمة أحدكم، فليجلدها، فإن زنت فليجلدها، ولا يثرِّب عليها، فإن زنت فليبعها، ولو بضفيرة". انتهى

(2)

.

وأما رواية عبيد الله بن عمر العمريّ، عن سعيد، فساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(6323)

- حدّثنا عمار بن رجاء، ومحمد بن يحيى، والميمونيّ، قالوا: ثنا محمد بن عبيد (ح) حدّثنا الدَّبَريّ، عن عبد الرزاق (ح) وحدّثنا أبو داود السجزيّ، قثنا مسدد، قثنا يحيى، كلهم عن عبيد الله العُمَريّ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها، ولا يعيّرها، فإن عادت فليجلدها، ولا يعيّرها، فإن عادت فليجلدها، ولا يعيّرها، فإن عادت في الرابعة فليبيعها، ولو بحبل من شعر، أو ضفير من شعر". انتهى

(3)

.

وأما رواية أسامة بن زيد، عن سعيد، فلم أجد من ساقها بمفردها، إلا

(1)

"السنن الكبرى" للنسائيّ 4/ 300.

(2)

"السنن الكبرى" للنسائيّ 4/ 300.

(3)

"مسند أبي عوانة" 4/ 147.

ص: 570

أن الدارقطنيّ: ساقها مقرونة برواية عبيد الله، والليث، وابن سمعان، فقال في "سننه":

(237)

- نا أبو بكر النيسابوريّ، نا يونس بن عبد الأعلى، أنا بن وهب، أخبرني عبيد الله بن عمر، وأسامة بن زيد، والليث بن سعد، وابن سمعان، عن سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إذا زنت أمة أحدكم، فتبيّن زناها فليجلدها الحدّ، ولا يُثَرِّب عليها - حتى قال ذلك ثلاث مرات، ثم قال في الثالثة، أو الرابعة -: ثم ليبعها، ولو بضفير من شعر"، والضفير هو الحبل. انتهى

(1)

.

وأما رواية محمد بن إسحاق، عن سعيد، فساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(6324)

- حدّثنا محمد بن يحيى، قثنا أبو داود السجزيّ، قال: أنبا النفيليّ، قثنا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن سعيد بن أبي سعيد المقبريّ، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا زنت أمة أحدكم فليضربها كتاب الله، ولا يُثَرِّب عليها - قالها ثلاثًا - فإن عادت الرابعة فليضربها كتاب الله عز وجل، ثم يبيعها، ولو بحبل من شعر". انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4439]

(. . .) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى - وَاللَّفْظُ لَهُ - قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ الأَمَةِ إِذَا زَنَتْ، وَلَمْ تُحْصِنْ، قَالَ:"إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ بِيعُوهَا، وَلَوْ بِضَفِيرٍ". قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: لَا أَدْرِي أَبَعْدَ الثَّالِثَةِ، أَوِ الرَّابِعَةِ؟ وَقَالَ الْقَعْنَبِيُّ فِي رِوَايَتِهِ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَالضَّفِيرُ: الْحَبْلُ).

(1)

"سنن الدارقطنيّ" 3/ 162.

(2)

"مسند أبي عوانة" 4/ 148.

ص: 571

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ) البصريّ، مدنيّ الأصل، ثقةٌ عابدٌ، من صغار [9](ت 221) بمكة (خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 17/ 617.

2 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم، تقدّم قبل باب.

3 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عتبة بن مسعود، تقدّم أيضًا قبل باب.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه مسلسل بالمدنيين، غير يحيى، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وهو أحد الفقهاء السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، زاد في الرواية التالية:"وزيد بن خالد الْجُهنيّ"(أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ) بالبناء للمفعول، (عَنِ الأَمَةِ) وفي رواية حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة:"أَتَى رجل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إن جاريتي زنت، فتبيّن زناها، قال: اجلدها"، قال الحافظ رحمه الله: ولم أقف على اسم هذا الرجل. (إِذَا زَنَتْ، وَلَمْ تُحْصِنْ) بضمّ أوله، وكسر الصاد، مضارع أَحصن مبنيًّا للفاعل، وتقدّم القول في المراد بهذا الإحصان، قال ابن بطّال: زعم من قال: لا جَلْد عليها قبل التزويج بأنه لم يقل في هذا الحديث: "ولم تُحْصِن" غير مالك، وليس كما زعموا، فقد رواه يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن ابن شهاب، كما قال مالك، وكذا رواه طائفة عن ابن عيينة، عنه، قال الحافظ: رواية يحيى بن سعيد أخرجها النسائيّ، ورواية ابن عيينة تقدمت عند البخاريّ في "البيوع"، ليس فيها:"ولم تحصن"، وزادها النسائيّ في روايته عن الحارث بن مسكين، عن ابن عيينة، بلفظ:"سئل عن الأمة تزني قبل أن تُحْصِن"، وكذا عند ابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن الصباح، كلاهما عن ابن عيينة، وقد رواه عن ابن شهاب أيضًا صالح بن كيسان، كما قال مالك، وروايته عند البخاريّ في "كتاب البيوع"، في "باب بيع المدبَّر"، وكذا أخرجهما مسلم، والنسائيّ، ووقع في رواية سعيد المقبريّ، عن أبيه، عن

ص: 572

أبي هريرة هناك بدونها، وسيأتي قريبًا أيضًا، وعلى تقدير أن مالكًا تفرد بها، فهو من الحفاظ، وزيادته مقبولة، وقد سبق الجواب عن مفهومها

(1)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا) قيل: أعاد الزنا في الجواب غير مُقَيَّد بالإحصان للتنبيه على أنه لا أثر له، وأن موجب الحدّ في الأمة مُطْلَق الزنا.

ومعنى "اجلدوها"؛ أي: الحد اللائق بها المبيَّن في الآية، وهو نصف ما على الحرة، وقد وقع في رواية أخرى عن أبي هريرة:"فليجلدها الحدّ".

والخطاب في "اجلدوها" لمن يَمْلك الأمة، فاستُدِلّ به على أن السيد يقيم الحدّ على من يملكه، من جارية، أو عبد، أما الجارية فبالنصّ، وأما العبد فبالإلحاق.

[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: قال الطحاويّ: لم يذكر أحد من الرواة قوله: "ولم تحصن" غير مالك، وأشار بذلك إلى تضعيفها، وأنكر الحفاظ هذا على الطحاويّ، قالوا: بل روى هذه اللفظة أيضًا بن عيينة، ويحيى بن سعيد، عن ابن شهاب، كما قال مالك، فحصل أن هذه اللفظة صحيحة، وليس فيها حكم مخالف؛ لأن الأمة تُجلد نصف جلد الحرة، سواء كانت الأمة محصنة بالتزويج، أم لا، وفي هذا الحديث بيان من لم يُحْصِن، وقوله تعالى:{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] فيه بيان من أُحصنت، فحصل من الآية الكريمة والحديث بيان أن الأمة المحصنة بالتزويج، وغير المحصنة تُجلد، وهو معنى ما قاله عليّ رضي الله عنه، وخطب الناس به.

[فإن قيل]: فما الحكمة في التقييد في قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} مع أن عليها نصف جلد الحرة، سواء كانت الأمة محصنة أم لا؟.

[فالجواب]: أن الآية نبهت على أن الأمة، وإن كانت مزوَّجة لا يجب عليها إلا نصف جلد الحرة؛ لأنه الذي ينتصف، وأما الرجم فلا ينتصف، فليس مرادًا في الآية بلا شكّ، فليس للأمة المزوجة الموطوءة في النكاح حُكم الحرة الموطوءة في النكاح، فبيّنت الآية هذا؛ لئلا يتوهم أن الأمة المزوجة

(1)

"الفتح" 15/ 674، كتاب "الحدود" رقم (6837).

ص: 573

تُرجم، وقد أجمعوا على أنها لا ترجم، وأما غير المزوجة فقد علمنا أن عليها نصف جلد المزوجة، بالأحاديث الصحيحة، منها حديث مالك هذا، وباقي الروايات المطلقة:"إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها"، وهذا يتناول المزوجة وغيرها. وهذا الذي ذكرناه من وجوب نصف الجلد على الأمة، سواء كانت مزوجة أم لا، هو مذهب الشافعيّ، ومالك، وأبي حنيفة، وأحمد، وجماهير علماء الأمة، وقال جماعة من السلف: لا حدّ على من لم تكن مزوجة من الإماء والعبيد، وممن قاله: ابن عباس، وطاوس، وعطاء، وابن جريج، وأبو عبيدة. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "سُئِل عن الأَمَة إذا زنت ولم تحصن": هذه الزيادة التي هي قوله: "ولم تحصن" هي رواية مالك، عن ابن شهاب، قال الطحاويّ: لم يقله غير مالك، قال غيره: ليس ذلك بصحيح، بل قد رواه سفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد، عن ابن شهاب، كما قاله مالك.

واختُلِف في تأويل قوله: "ولم تحصن"، فقيل: لم تَعْتِق، وتكون فائدته: أنها لو زنت وهي مملوكة فلم يحدَّها سيِّدها حتى عَتَقت لم يكن له سبيل لِجَلدها، والإمام هو الذي يقيم ذلك عليها إذا ثبت عنده. وقيل: ما لم تتزوَّج، وفائدة ذلك: أنَّها إذا تزوَّجت لم يكن للسِّيد أن يجلدها لحقّ الزوج؛ إذ قد يضره ذلك، وهذا مذهب مالك إذا لم يكن الزوج مُلكًا للسيِّد، فلو كان جاز للسيِّد ذلك؛ لأنَّ حقَّهُما حقُّه. وقيل: لم تُسلم، وفائدته: أن الكافرة لا تُحدُّ، وإنما تُعزَّر وتُعاقب، وعلى هذا فيكون الجَلد المأمور به في هذا الحديث على جهة التعزير، لا الحدّ. وهذا كله إنَّما هو تَنَزُّل على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم علَّق الجلد المأمور به في الجواب على نفي الإحصان المأخوذ قيدًا في السؤال، وعلى القول بدليل الخطاب، وحينئذ يكون هذا الحديث على نقيض قوله تعالى:{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، فإنّ شَرْط الجلد في الإحصان، وشرط الحدّ في الآية ثبوت الإحصان، فلا بدَّ أن يكون أحد الإحصانين غير الآخر. ولو قدَّرناه واحدًا

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 213 - 214.

ص: 574

فيهما للزم أن يكون الجلد المترتب على نفي الإحصان في الحديث غير الحد المترتب على الإحصان المثبت في الآية.

وقد اختُلِف في إحصان الآية، كما اختُلف في الإحصان المنفي في الحديث. فقال قوم: هو الإسلام. قاله ابن مسعود، والشعبيّ، والزهريّ، وغيرهم. وعلى هذا: فلا تُحدُّ كافرةٌ. وقال آخرون: إنَّه التزويج. قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير. وعلى هذا فتُحدُّ المتزوجة وإن كانت كافرة، كما قاله الشافعيّ. وقال آخرون: إنَّه الحرية. وروي ذلك عن عمر، وابن عباس، وعليّ. وعلى هذا: فلا تُحدُّ أمةٌ؛ بوجه وإن كانت مسلمة، لكنها يجلدها سيِّدها تعزيرًا. وكل هذا الخلاف أوجبه اشتراك الإحصان، فإنَّه قد جاء في كتاب الله تعالى بمعنى: الإسلام، والحرية، والتزويج، والعفاف. والعفاف غير مراد في هذا الحديث، ولا في هذه الآية بالاتفاق، فبقي لفظ الإحصان مُحْتَمِلًا لأن يراد به واحد من تلك المعاني الثلاثة، فترتب عليه الخلاف المذكور.

والذى يرفع الإشكال عن الحديث - إن شاء الله تعالى - أن نفي الإحصان إنما هو من قول السَّائل، ولم يصرِّح النبيّ صلى الله عليه وسلم بأخذه قيدًا في الجلد. فَيَحْتَمِل أن يكون النبيّ أعرض عنه، وأجابه بالجلد مطلقًا. ويشهد لهذا التأويل: الأحاديث الواردة في جلد الأمة إذا زنت، ليس فيها ذِكر لذلك القيد من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لقوله:"إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحدّ"، ولو سلّمنا: أن ذلك القيد من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم وتنزّلنا على القول بدليل الخطاب، فأولى الأقوال به أن يُحْمَل على التزويج.

ويستفاد منه صحة مذهب مالك على ما قدَّمناه للاشتراك، وتنزيلًا للحديث على فائدة مستجدَّة. والذي يحسم مادة الإشكال عن الحديث والآية حديث عليّ رضي الله عنه بعد هذا، وهو قوله في حال خطبته: يا أيها النَّاس أقيموا على أرقائكم الحدّ، من أحصن منهم ومن لم يُحْصِن. وهذا الحديث وإن كان موقوفًا على عليّ رضي الله عنه في كتاب مسلم، فقد رواه النسائي، وقال فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم؛ من أحصن منهم، ومن لم يحصن"

(1)

، وهذا ينصّ على أمر السَّادة بإقامة الحد الذي ذكر الله

(1)

هذا فيه نظر، فإن رواية النسائيّ لم تتعرّض لذكر الإحصان أصلًا، فلتراجع برقم =

ص: 575

تعالى، وليس بتعزير، فإنَّه قد سمَّاه حدًّا، وصرَّح بإلغاء اعتبار الإحصان مطلقًا؛ إذ سوَّى بين وجوده وعدمه، فتُحدُّ الأَمَة الزانية على أيّ حال كانت، ويُعتذر عن تخصيص الإحصان في الآية بالذِّكر بأنه أغلب حال الإماء، أو الأهم في مقاصد الناس، لا سيما إذا حُمل الإحصان على الإسلام، وهو أولى الأقوال على ما قد أوضحه القاضي أبو بكر بن العربيّ، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

[تنبيه آخر]: قال في "الفتح": قد اختَلَف السلف فيمن يقيم الحدود على الأرقاء، فقالت طائفة: لا يقيمها إلا الإمام، أو من يأذن له، وهو قول الحنفية، وعن الأوزاعيّ، والثوريّ: لا يقيم السيد إلا حدّ الزنا.

واحتَجّ الطحاويّ بما أورده من طريق مسلم بن يسار قال: كان أبو عبد الله رجل من الصحابة يقول: "الزكاة، والحدود، والفيء، والجمعة إلى السلطان".

قال الطحاويّ: لا نعلم له مخالفًا من الصحابة.

وتعقبه ابن حزم، فقال: بل خالفه اثنا عشر نفسًا من الصحابة.

وقال آخرون: يقيمها السيد، ولو لم يأذن له الإمام، وهو قول الشافعيّ.

وأخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن عمر في الأمة إذا زنت، ولا زوج لها: يَحُدّها سيدها، فإن كانت ذات زوج فأمْرها إلى الإمام، وبه قال مالك، إلا إن كان زوجها عبدًا لسيدها، فأمْرها إلى السيد، واستثنى مالك القطع في السرقة، وهو وجه للشافعية، وفي آخر: يُستثنى حدّ الشرب.

واحتَجّ للمالكية بأن في القطع مُثلةً، فلا يُومَن السيد أن يريد أن يمثّل

= (7201)، وإنما ذُكر الإحصان فيما أخرجه البيهقيّ في "الكبرى"، حيث قال (8/ 242):

(16867)

- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن حازم بن أبي غرزة، ثنا علي بن قادم، أنبأ عبد السلام، عن السديّ، عن عبد خير، عن عليّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا زنت إماؤكم، فأقيموا عليهنّ الحدود، أحصنّ، أو لم يحصنّ". انتهى.

(1)

"المفهم" 5/ 122 - 124.

ص: 576

بعبده، فيُخشى أن يتصل الأمر بمن يعتقد أنه يعتق بذلك، فيدَّعِي عليه السرقة؛ لئلا يعتق، فيمنع من مباشرته القطع سدًّا للذريعة.

وأخذ بعض المالكية من هذا التعليل اختصاص ذلك بما إذا كان مستند السرقة علم السيد، أو الإقرار، بخلاف ماء لو ثبتت بالبينة، فإنه يجوز للسيد؛ لفقد العلة المذكورة.

وحجة الجمهور حديث عليّ رضي الله عنه المشار إليه قبلُ، وهو عند مسلم، والثلاثة.

قال الجامع عفا الله عنه: ما ذهب إلية الجمهور من أن السيّد يقيم الحدود على أرقّائه هو الأرجح؛ لقوّة حجته، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

وعند الشافعية خلاف في أشتراط أهلية السيد لذلك.

وتمسَّك من لم يشترط بأن سبيله سبيل الاستصلاح، فلا يفتقر للأهلية.

وقال ابن حزم: يقيمه السيد إلا إن كان كافرًا، واحتجّ بأنهم لا يُقرّون إلا بالصغار، وفي تسليطه على إقامة الحدّ منافاة لذلك.

وقال ابن العربي في قول مالك: إن كانت الأمة ذات زوج لم يحدّها إلا الإمام، من أجل أن للزوج تعلقًا بالفرج في حفظه عن النسب الباطل، والماء الفاسد، لكن حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم أولى أن يُتَّبَع، يعني: حديث عليّ المذكور الدال على التعميم في ذات الزوج وغيرها، وقد وقع في بعض طرقه:"من أَحْصَن منهم، ومن لم يُحْصِن". انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله ابن العربي: ردًّا على إمامه مالك: حيث خالف الدليل هو عين الإنصاف الذي هو واجب كلّ مسلم، ويا ليت كلّ من يقلّد الأئمة سلك هذا المسلك إذا خالف إمامه النصّ، فان هذا هو امتثال أمر الله عز وجل حيث يقول:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية [النساء: 59]، اللهم اهدنا فيمن هديت، آمين.

(ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ بِيعُوهَا، وَلَوْ بِضَفِيرٍ") - بفتح الضاد المعجمة، غير المشالة، ثم فاء - أي: المضفور، فهو فَعِيل بمعنى مفعول؛ أي: حبل مضفور. ووقع في رواية المقبريّ: "ولو بحبل من شعر"، وأصل الضَّفْر: نَسْج الشعر، وإدخال بعضه في بعض، ومنه ضفائر شعر الرأس

ص: 577

للمرأة، وللرجل، قيل: لا يكون مضفورًا إلا إن كان من ثلاث، وقيل: شَرْطه أن يكون عريضًا، وفيه نظر، قاله في "الفتح"

(1)

.

(قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) هو موصول بالسند المذكور، (لَا أَدْرِي أَبَعْدَ الثَّالِثَة، أَوِ الرَّابِعَةِ؟) قال في "الفتح": لم يُختلف في رواية مالك في هذا، وكذا في رواية صالح بن كيسان، وابن عيينة، وكذا في رواية يونس، والزُّبيديّ، عن الزهريّ، عند النسائيّ، وكذا في رواية معمر، عند مسلم، وأدرجه في رواية يحيى بن سعيد، عند النسائيّ، ولفظه:"ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها، ولو بضفير بعد الثالثة، أو الرابعة"، ولم يقل: قال ابن شهاب، وعن قتيبة، عن مالك كذلك، وأدرج أيضًا في رواية محمد بن أبي فَرْوة، عن الزهريّ، في حديث عائشة رضي الله عنها عند النسائيّ، والصواب التفصيل.

وأما الشك في الثالثة، أو في الرابعة، فوقع في حديث أبي صالح، عن أبي هريرة، عند الترمذيّ:"فليجلدها ثلاثًا، فإن عادت فليبعها"، ونحوه في مرسل عكرمة، عند أبي قُرّة، بلفظ:"وإذا زنت الرابعة، فبيعوها"، ووقع في رواية المقبريّ المتقدّمة:"ثم إن زنت الثالثة، فتبيّن زناها، فليبعها ولو بحبل من شعر".

ومحصل الاختلاف: هل يَجلدها في الرابعة قبل البيع، أو يبيعها بلا جلد؟ والراجح الأول، ويكون سكوت من سكت عنه للعلم بأن الجَلْد لا يُترك، ولا يقوم البيع مقامه.

ويمكن الجمع بأن البيع يقع بعد المرة الثالثة في الجَلْد؛ لأنه المحقَّق، فيُلغي الشك، والاعتماد على الثلاث في كثير من الأمور المشروعة.

(وَقَالَ الْقَعْنَبِيُّ فِي رِوَايَتِهِ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَالضَّفِيرُ: الْحَبْلُ) رواية القعنبيّ هذه بيّنت أن قوله: "والضفير الحبل" مدرج من قول الزهريّ في روايات الآخرين.

قال في "الفتح": وزاد يونس، وابن أخي الزهريّ، والزُّبيديّ، ويحيى بن سعيد، كلهم عن ابن شهاب عند النسائيّ:"والضفير الحبل"، وهكذا أخرجه

(1)

"الفتح" 15/ 676.

ص: 578

عن قتيبة، عن مالك، وزادها عمار بن أبي فَرْوة، عن محمد بن مسلم، وهو ابن شهاب الزهريّ، عند النسائيّ، وابن ماجه، لكن خالف في الإسناد، فقال: إن محمد بن مسلم حدّثه، أن عروة، وعمرة، حدثاه أن عائشة حدّثته، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا زنت الأمة فاجلدوها"، وقال في آخره:"ولو بضفير"، والضفير: الحبل، وقوله:"والضفير الحبل" مدرَج في هذا الحديث من قول الزهريّ، على ما بُيِّن في رواية القعنبي، عن مالك عند مسلم، وأبي داود، فقال في آخره: قال ابن شهاب: "والضفير الحبل"، وكذلك ذكره الدارقطنيّ في "الموطآت" منسوبًا لجميع من روى "الموطأ" إلا ابن مهديّ، فإن ظاهر سياقه أنه أدرجه أيضًا، ومنهم من لم يذكر قوله:"والضفير الحبل" كما في رواية البخاريّ عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، فإنه لم يذكر في آخره:"والضفير الحبل"، لا مدرجًا، ولا مفصّلًا.

والحاصل أن كونه مدرجًا في رواياتهم هو الصواب.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى في الحديثين الماضيين، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4440]

(1704) - (وَحَدَّثنَا أَبُو الطَّاهِر، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنيّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ الأَمَة، بِمِثْلِ حَدِيثِهِمَا، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ ابْنِ شِهَابٍ: وَالضَّفِيرُ: الْحَبْلُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل باب.

[تنبيه]: رواية ابن وهب، عن مالك هذه، ساقها الطحاويّ رحمه الله في "شرح معاني الآثار"، فقال:

حدّثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي هريرة، وزيد بن خالد الجهنيّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت، ولم تُحصِن، فقال: "إذا زنت

ص: 579

فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها، ولو بضفير"، "قال مالك: قال ابن شهاب: لا أدري، أبعد الثالثة، أو الرابعة؟. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4441]

(

) - (حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ صَالِحٍ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهرِيّ، عَنْ عُبَيْدِ الله، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَالشَّكُّ فِي حَدِيثِهِمَا جَمِيعًا فِي بَيْعِهَا فِي الثالِثَة، أَوِ الرَّابِعَةِ).

رجال هذا الإسناد: أحد عشر:

وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل باب، و"صالح" هو: ابن كيسان.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ) ضمير التثنية لصالح بن كيسان، ومعمر بن راشد.

[تنبيه]: رواية صالح بن كيسان، عن الزهريّ هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(7258)

- أخبرنا أبو داود الْحَرّانيّ، قال: ثنا يعقوب، قال: ثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، أن عبيد الله بن عبد الله أخبره، أن أبا هريرة، وزيد بن خالد أخببراه، أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يسأل عن الأمة تزني، ولم تُحْصِن.، قال:"اجلدوها إن زنت، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها، ولو بضفير"، بعد الثالثة، أو الرابعة. انتهى

(2)

.

وأما رواية معمر بن راشد، عن الزهريّ، فساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(6325)

- حدّثنا محمد بن إسحاق بن الصباح الصنعانيّ، قثنا عبد الرزاق، ء قال: أنبا معمر (ح) وحدّثنا محمد بن يحيى، قثنا عبد الرزاق،

(1)

"شرح معاني الآثار" 3/ 135.

(2)

"السنن الكبرى" للنسائيّ 4/ 302.

ص: 580

قال: أنبا معمر، عن الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله، عن زيد بن خالد الجهنيّ، وأبي هريرة، أنهما قالا: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأمة التي لم تُحصن، قال:"إذا زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، إما قال في الثالثة، أو في الرابعة - شَكَّ - فبيعوها، ولو بضفير". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(8) - (بَابُ تَأْخِيرِ الْحَدِّ عَنِ النُّفَسَاءِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4442]

(1705) - (حَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثنا سُلَيْمَانُ أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، عَنِ السُّدِّيّ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عبد الرَّحْمَن، قَالَ: خَطَبَ عَلِيٌّ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَقِيمُوا عَلَى أَرِقَّائِكُمُ الْحَدَّ، مَنْ أَحْصَنَ مِنْهُمْ، وَمَنْ لَمْ يُحْصِنْ، فَإِنَّ أَمَةً لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَنَتْ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِدَهَا، فَإِذَا هِيَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِنِفَاسٍ، فَخَشِيتُ إِنْ أَنَا جَلَدْتُهَا أَنْ أَقْتُلَهَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "أَحْسَنْتَ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ) هو: محمد بن أبي بكر بن عليّ بن عطاء بن مُقَدَّم الثقفيّ مولاهم، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.

2 -

(سُلَيْمَانُ أَبُو دَاوُدَ) ابن داود بن الجارود الطيالسيّ البصريّ، ثقةٌ حافظ [9](ت 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 73.

3 -

(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثقفيّ، أبو الصَّلْت الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنّيّ [7](ت 160) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 53.

4 -

(السُّدِّيُّ) إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة، أبو محمد

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 148.

ص: 581

الكوفيّ، صدوقٌ يَهِم، ورُمي بالتشيّع [4](ت 127)(م 4) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 8/ 1640.

[تنبيه]: إن قلت: كيف أخرج مسلم هذا الحديث، من رواية السدّيّ، وقد تفرّد به، وهو متكلَّم فيه؟.

[قلت]: هو وإن تكلّم فيه بعضهم، فقد وثّقه آخرون، كعبد الرحمن بن مهديّ، وأحمد بن حنبل في رواية أبي طالب عنه، والعجليّ، وقال ابن عديّ: هو عندي مستقيم الحديث، صدوقٌ لا بأس به، وقال النسائيّ: صالح، وقال أيضًا: ليس به بأس، ولهذا قال الحاكم في "المدخل" في باب الرواة الذين عِيب على مسلم إخراج حديثهم: تعديل عبد الرحمن بن مهديّ أقوى عند مسلم ممن جَرَحه بجَرْح غير مفسَّر. انتهى

(1)

.

5 -

(سَعْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ) السلميّ، أبو حمزة الكوفيّ، ثقةٌ [3] مات في ولاية عمر بن هُبيرة على العراق (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.

6 -

(أَبُو عبد الرَّحْمَنِ) عبد الله بن حبيب بن رُبَيِّعة، أبو عبد الرحمن السّلَميّ الكوفيّ المقرئ، مشهور بكنيته، ولأبيه صحبة [2] مات بعد السبعين (ع) تقدم في "الرضاع" 3/ 3581.

7 -

(عَلِيُّ) بن أبي طالب بن عبد المطّلب بن هاشم الهاشميّ، أبو الحسن الخليفة الرابع، استُشهد في رمضان سنة أربعين، وله (63) على الأرجح (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه مسلسل بالكوفيين من زائدة، والباقيان بصريّان، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: السدّيّ، عن سعد، عن أبي عبد الرحمن، وأن صحابيّه ذو مناقب جمّة، فهو ابن عم المصطفى صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته، وأول من آمن من الصبيان، وأحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وأحد الخلفاء الراشدين الأربعة، ومات وهو يومئذ أفضل أهل الأرض من بني آدم بإجماع أهل السُّنّة.

(1)

راجع: "تهذيب التهذيب" 1/ 159.

ص: 582

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي عبد الرَّحْمَنِ) عبد الله بن حبيب السُّلَميّ أنه (قَالَ: خَطَبَ عَلِيٌّ) ابنُ أبي طالب رضي الله عنه (فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ) أراد المسلمين، (أَقِيمُوا عَلَى أَرِقَّائِكُمُ) جمع رقيق، كشديد، وأشدّاء،. قال في "الخلاصة":

وَلكَرِيمٍ وَبَخِيلٍ فُعَلَا

كَذَا لِمَا ضَاهَاهُمَا قَدْ جُعِلَا

وَنَابَ عَنْهُ أَفْعِلَاءُ في الْمُعَلّْ

لَامًا وَمُضْعَفٍ وَغَيْرُ ذَاكَ قَلّ

وقوله: (الْحَدَّ) منصوب على المفعوليّة لـ"أقيموا"، وفيه أن السيّد يقيم الحدّ على رقيقه، وهو مذهب الجمهور، وهو الصحيح؛ لهذا الحديث، وللحديث الماضي: "إذا زنت أمة أحدكم، فتبيّن زناها، فليجدها الحدّ

"، وهو أصرح في المقصود، وخالف في ذلك الحنفيّة، وأوَّلوا الحديث بتأويل متكلّف، ومتعسّف، والحقّ أحقّ أن يُتبع، فلا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(مَنْ أَحْصَنَ مِنْهُمْ، وَمَنْ لَمْ يُحْصِنْ) بالبتاء للفاعل، والإحصان في الأصل: المنع، والمراد به هنا التزوّج، قال في "العمدة": والمرأة تكون محصنة بالإسلام، والعفاف،. والحريّة، والتزوج، يقال: أحصنت المرأة فهي مُحصِنة، وكذا الرجل، والمحصَن بالفتح يكون بمعنى الفاعل، والمفعول، وهو أحد الثلاثة التي جئن نوادر، يقال: أحصن فهو محصَن، وأسهب فهو مسْهَب، وأفلج فهو مُفلَج. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: والحَصَانُ بالفتح: المرأة العفيفة، وجمعها: حُصُنٌ، وقد حَصُنَتْ مثلث الصاد، وهي بَيِّنة الحَصَانَةِ بالفتح؛ أي: العِفّة، وأَحْصَنَ الرجل بالألف: تزوج، والفقهاء يزيدون على هذا: وطئ في نكاح صحيح، قال الشافعيّ: إذا أصاب الحرّ البالغ امرأته، أو أُصيبت الحرة البالغة بنكاح، فهو إِحْصَانٌ في الإسلام، والشرك، والمراد: في نكاح صحيح، واسم الفاعل من أَحْصَنَ إذا تزوج: مُحْصِن، بالكسر على القياس، قاله ابن القطاع، ومُحْصَنٌ بالفتح على غير قياس، والمرأة: مُحْصَنَةٌ بالفتح أيضًا على غير قياس،

(1)

"عمدة القاري" 11/ 279.

ص: 583

ومنه قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24]؛ أي: وتحرم عليكم المتزوجات، وأما أَحْصَنَتِ المرأة فرجها: إذا عَفَّت، فهي مُحْصِنَةٌ بالفتح والكسر أيضًا، وقرئ بذلك في السبعة، ومنه قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] والمراد: الحرائر العفيفات، وقوله:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]، والمراد: الحرائر أيضًا. انتهي

(1)

.

(فَإِنَّ) بالفاء التعليليّة؛ أي: لأن (أَمَةً لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) لا يعُرف اسمها

(2)

.

قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت"، كذا جاء في كتاب مسلم، وفي كتاب أبي داود:"فَجَرت جارية لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وظاهره: أن هذه الجارية كانت لبعض عشيرته. وهذه الزيادة أحسن من رواية مسلم، وأليق بحال من ينتسب لحضرة بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وملكه، استصحابًا لِمَا شهد الله تعالى به من الطهارة لذلك الجناب الكريم، كما قال تعالى:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]، وكيف يليق بمن كان في مثل ذلك البيت الكريم، وبمن صحَّ له ذلك الملك الشريف أن تقع منه فاحشة الزنى، هذا والله من البعد على الغاية القصوى، فإن العبد من طينة سيِّده. ألا ترى أنَّه لمَّا كَثَّر المنافقون على مارية في ابن عمها؛ الذي كان يزورها، فبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب ليقتله، فدخل عليه، فلما رآه كشف عن فرجه، فإذا هو أَجَبُّ، فقرأ عليٌّ رضي الله عنه:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} ، هذا كله مع احتمال أن يراد بآل محمد نَفْسُه، كما قدمنا في قوله صلى الله عليه وسلم:"اللَّهم صلِّ على آل أبي أوفى"، وفي قوله:"لقد أوتيتْ مزمارًا من مزامير آل داود"، وتكون هذه الأمة من الأَمَة الْمُتخذات لنخدمة والتصرف، ولعلَّها قريبة عهد بالجاهلية، لكن الأوَّل ألْيَق وأسلم.،. والله تعالى أعلم. انتهى

(3)

.

(زَنَتْ، فَأَمَرَنِي أَنْ أجْلِدَهَا) بكسر اللام، من باب ضرب، قال

(1)

"المصباح المنير" 1/ 139.

(2)

راجع: "تنبيه المعلم" ص 295.

(3)

"المفهم" 5/ 124 - 125.

ص: 584

القرطبيّ رحمه الله: هذا إنما كان لِمَا ظهر من زناها بالْحَبَل، كما دلّ عليه قوله:"فإذا هي حديثة عهد بنفاس". انتهى

(1)

.

(فَإِذَا) هي الفجائيّة؛ أي: ففاجأني كونها حديث عهد بالنفاس، (هِيَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِنِفَاسٍ) بكسر النون؛ أي: ولادة، يعني: أنها جديد الوقت بالولادة، وكان ذلك الولد من الزنا، كما بُيّن في الرواية الآتية في التنبيه الآتي.

[تنبيه]: النفاس بالكسر هنا بمعنى الولادة، قال الفيّومي رحمه الله: نُفست المرأة بالبناء للمفعول، فهي نُفساء، والجمع: نِفاش بالكسر، ومثله عَشَراء وعِشَار، وبعض العرب يقول: نَفِسَت تَنْفَس، من باب تَعِبَ، فهي نافسٌ، مثل حائض، والولد منفوسٌ، والنفاس بالكسر أيضًا: اسم من ذلك. انتهى

(2)

.

(فَخَشِيتُ) بكسر الشين، من باب تَعِبَ، (إِنْ أَنَا جَلَدْتُهَا أَنْ أَقْتُلَهَا) في تأويل المصدر مفعول "خَشِيتُ"، و"جلدتها" مفسّر لعامل "أنا" المقدّم بعد "إن" الشرطيّة، كقول الحماسيّ [من الطويل]:

وَإِنْ هُوَ لَمْ يَحْمِلْ عَلَى النَّفْسِ ضيْمَهَا

فَلَيْسَ إِلَى حُسْنِ الثَّنَاءِ جَمِيلُ

وجواب الشرط محذوفٌ دلّ عليه الكلام المؤوّل من الفعل ومفعوله؛ أي: خشيت قَتْلها، أفاده الطيبيّ رحمه الله

(3)

.

(فَذَكَرْتُ ذَلِكَ)؛ أي: كونها قريبة عهد بالنفاس (لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَحْسَنْتَ")؛ أي: حيث لم تجلدها في نفاسها، وفيه أن الجلد واجب على الأمة الزانية وأن النفساء، والمريضة، ونحوهما يؤخّر جلدهما إلى البرء، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عليّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"المفهم" 5/ 125.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 617.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2520 - 2521.

ص: 585

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 4442 و 4443](1705)، و (الترمذيّ) في "الحدود"(1441)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 18)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 156)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 410)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1/ 274)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 149 - 150)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 207)، و (البزّار) في "مسنده"(2/ 206)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(3/ 159)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 11 و 229 و 242 و 244)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثه): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وجوب الحدّ على من زنى من الإماء والعبيد.

2 -

(ومنها): مشروعيّة إقامة السيّد الحدّ على مملوكه، ولو لم يستأذن السلطان، وهو الصحيح.

3 -

(ومنها): تأخير إقامة الحدّ عمن كانت قريبة الولادة حتى تطهر من نفاسها.

4 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث فيه أصل من أصول الفقه، وهو ترك العمل بالظاهر؛ لِمَا هو أولى منه، وتسويغ الاجتهاد، ألا ترى أن عليًّا رضي الله عنه قد ترك ظاهر الأمر بالجلد؛ مخافة أمر آخر، هو أولى بالمراعاة، فحسَّنه النبيّ صلى الله عليه وسلم له وصوَّبه؟ ولو كان الأمر على ما ارتكبه أهل الظاهر من الأصول الفاسدة لَجَلدها، وإن هلكت. انتهى

(1)

.

5 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله أيضًا: فيه من الفقه ما يدلُّ على أن من كان حدُّه دون القتل لم يُقَم عليه الحدّ في مرضه حتى يفيق، لا مُفَرَّقًا، ولا مجموعًا، ولا مخفَّفًا، ولا مثقَّلًا، وهو مذهب الجمهور؛ تمسُّكًا بهذا الحديث، وهو أولى مما خرَّجه أبو داود من حديث سهل بن حُنَيف رضي الله عنه:"أن رجلًا من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم اشتَكَى حتى أَضْنَى، فعاد جِلْدَةً على عَظْمٍ، فوقع على جارية لغيره، ثمَّ نَدِم، فاستُفْتِيَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له مائة شِمْراخ، فيضربوه بها ضربة واحدة"؛ لأنَّ إسناده مختلَف فيه،

(1)

"المفهم" 5/ 125.

ص: 586

ولحديث سهل هذا؛ قال الشافعيّ: يُضرب المريضن. ضربة بِعثْكُولِ نخل تصل شماريخه كلها إليه، أو بما يقوم مقامه، وهذا في مريض ليس عليه حدُّ القتل، فلو كان عليه جلدٌ وقتلٌ؛ يُجلد الحدّ ثم يُقتل بعد ذلك.

وحديث عليّ رضي الله عنه هذا: قد خرَّجه النسائيّ، والترمذيّ، وزاد فيه.: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دَعْها حتى ينقطع دمها، ثم أقم عليها الحدّ، وأقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم"، وهذا لفظ أبي داود، وهو نصٌّ على صحة مدهب الجمهور، وهو أصحُّ من حديث سهل وأعلى، فالعمل به أوجب وأولى، والحدُّ الذي أُمر عليّ بإقامته هو نصف حدّ الحرَّة الذي قال الله تعالى فيه:{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، وهو قول الجمهور، ولا رجم على أمة، وإن كانت متزوجة بالإجماع. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4443]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنِ السُّدِّيّ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَلَمْ يَذْكُرْ: "مَنْ أَحْصَنَ مِنْهُمْ، وَمَنْ لَمْ يُحْصِنْ"، وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ: "اتْرُكْهَا حَتَّى تَمَاثَلَ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(يَحْيَى بْنُ آدَمَ) بن سليمان الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(إِسْرَائِيلُ) بن يونس بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ الْهَمْدانيّ، أبو يوسف الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 160) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 2/ 542.

و"السدّي" تقدم في الحديث السابق.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ) بالبناء للفاعل، وفاعله ضمير إسرائيل.

وقوله: (حَتَّى تَمَاثَلَ)؛ أي: حتى تبرأ، يقال: تماثل العَليلُ: إذا قارب البُرْءَ، قاله في "القاموس"

(2)

.

[تنبيه]: رواية إسرائيل، عن السُّدّيّ هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(1)

"المفهم" 5/ 125 - 126.

(2)

"القاموس المحيط" ص 1205.

ص: 587

(16881)

- أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، أنبأ أبو الفضل بن إبراهيم، ثنا أحمد بن سلمة، ثنا إسحاق بن إبراهيم، ثنا يحيى بن آدم، ثنا إسرائيل، عن السُّدّيّ، عن سعد بن عُبيدة، عن أبي عبد الرحمن، قال: خطبنا عليّ رضي الله عنه، فقال: أيها الناس أئما عبد وأمة فَجَرَا، فأقيموا عليهما الحدّ، وإن زنيا فاجلدوهما الحدّ، ثم قال: إن خادمًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وَلَدت من الزنا، فبعثني لأجلدها، فوجدتها حديثة عهد بنفاسها، فخشيت أن أقتلها، فقال:"أحسنت، اتركها حتى تماثل". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

[خاتمة]: قال ابن المنذر رحمه الله: أجمع كلُّ من أحفظ عنه من أهل العلم أن الجلد بالسَّوط؛ والسَّوط الذي يُجْلَد به سوط بين سوطين، ولا تُجَرَّد المرأة، وتُسْتَر، ويُنزع عنها ما يقيها، وهو مذهب مالك وغيره، بل لا خلاف فيه فيما أعلم، وأمَّا الرَّجل فاختُلف في تجريده. فقيل: لا يجرد. وبه قال طاووس، والشعبيّ، وقتادة، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وروي ذلك عن ابن مسعود، وأبي عبيدة بن الجرَّاح. وقالت طائفة أخرى: يجرَّد وتُستر عورته. وبه قال عمر بن عبد العزيز، ومالك. وقال الأوزاعيّ: ذلك إلى الإمام، إن شاء جرَّد، وإن شاء لم يجرد. واتفقوا على أن المجلود وعليه قميصه مجلود.

وتُضرب المرأة قاعدة عند الجمهور. واختُلف في الرِّجال. فالجمهور على أنهم يُجلدون قيامًا. قاله الشافعيّ، وغيره. وقال مالك: قعودًا. واتفقوا: على أن الجلد كيفما وقع أجزأ. ولا يُمدُّ المجلود، ولا يُربط. وتُترك له يداه عند الجمهور. قال ابن مسعود: لا يَحِلّ في هذه الأُمَّة تجريدٌ، ولا مَدٌّ. والضرب الذي يجب هو أن يكون مؤلِمًا؛ لا يَجْرَح، ولا يَبْضَع، ولا يُخرج الضارب يده من تحت إبطه. وبه قال الجمهور، وبه قال عليّ، وابن مسعود. وأُتي عمر رضي الله عنه برجلٍ في حدٍّ، فأُتي بسوط بين سوطين، وقال للضارب: اضرب، ولا يُرى إبطك، وأعط كل عضو حقَّه. واتفقوا: على أنه لا يُضرب في الوجه؛ لنهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولا يُضرب في الفرج عند العلماء.

(1)

"سنن البيهقيّ الكبرى" 8/ 244.

ص: 588

والجمهور على اتِّقاء الرأس. وقال أبو يوسف: يُضرب في الرأس. وقد رُوي: أن عمر ضرب صَبِيغًا في رأسه، وكان تَعْزِيرًا، لا حدًّا.

قال القرطبيّ: وإنَّما مُنِع من الضرب في الفرج مخافة الموت، فيجب أن تُتَّقَى المَقاتِلُ كلُّها، كالدماغ، والقلب، وما أشبه ذلك، وهذا لا يُخْتَلف فيه - إن شاء الله تعالى -، ذكر هذا كلّه القرطبيّ رحمه الله في "المفهم"

(1)

، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(9) - (بَابُ حَدِّ الْخَمْرِ)

[مسألةٌ مهمّةٌ]: في اشتقاق الخمر، وتعريفها:

"الخَمْرُ": تُذَكَّر، وتؤنَّث، فيقال: هو الخَمْرُ، وهي الخَمْرُ، وقال الأصمعيّ: الخَمْرُ أنثى، وأنكر التذكير، ويجوز دخول الهاء، فيقال الخَمْرَةُ، على أنها قطعة من الخَمْر، كما يقال: كُنّا في لَحْمَةٍ، ونَبِيذةٍ، وعَسَلَةٍ؛ أي: في قطعة من كلّ شيء منها، ويُجمع الخَمْرُ على الخُمُور، مثل فَلْس وفُلُوس، ويقال: هي اسم لكلّ مسكر خَامَرَ العقلَ؛ أي: غَطّاه"، واختَمَرَتِ الخمرُ: أَدْرَكَتْ، وغَلَت، قاله الفيّوميّ

(2)

.

وقال في "الفتح": اللغة الفضحى تأنيث الخمر، وأثبت أبو حاتم السجستانيّ، وابن قتيبة، وغيرهما جواز التذكير، ويقال لها: الخمرة، أثبته فيها جماعة من أهل اللغة، منهم الجوهريّ، وقال ابن مالك في "المثلَّث": الخمرة هي الخمر في اللغة، وقيل: سميت الخمر؛ لأنها تغطي العقلَ، وتخامره؛ أي: تخالطه، أو لأنها هي تُخَمَّرُ؛ أي: تُغَطَّى حتى تَغْلِي، أو لأنها تَخْتَمِر؛ أي: تُدْرِك، كما يقال للعجين: اختَمَرَ، أقوال. انتهى

(3)

.

وقال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب ما جاء في أن الخمر ما خامر العقل من الشراب".

(1)

"المفهم" 5/ 126 - 127.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 181 - 182.

(3)

"الفتح" 12/ 589، كتاب "الأشربة" رقم (5575).

ص: 589

قال في "الفتح": كذا قيّده بالشراب، وهو متّفقٌ عليه، ولا يَرِد عليه أن غير الشراب ما يُسكر؛ لأن الكلام إنما هو في أنه هل يُسمَّى خمرًا أم لا؟.

ثم أورد بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: خطب عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه قد نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة أشياء: العنب، والتمر، والحنطة، والشعير، والعسل، والخمرُ ما خامر العقل

الحديث.

وفي رواية: "قال: الخمر تُصنع من خمسة: من الزبيب، والتمر، والحنطة، والشعير، والعسل".

قال في "الفتح": قوله: "من العنب

إلخ" هذا الحديث أورده أصحاب المسانيد، والأبواب، في الأحاديث المرفوعة؛ لأن له عندهم حكمَ الرفع؛ لأنه خبر صحابيّ شَهِد التنزيل، أخبر عن سبب نزولها، وقد خَطَب به عمر على المنبر بحضرة كبار الصحابة، وغيرهم، فلم يُنقل عن أحد منهم إنكاره، وأراد عمر بنزول تحريم الخمر الآية المذكورة في أول كتاب الأشربة، وهي آية المائدة:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلى آخرها [المائدة: 90]، فأراد عمر التنبيه على أن المراد بالخمر في هذه الآية ليس خاصًّا بالمتخَذ من العنب، بل يتناول المتخذ من غيرها، ويوافقه حديث أنس الماضي

(1)

فإنه يدلّ على أن الصحابة فَهِموا من تحريم الخمر تحريم كل مشكر، سواءٌ كان من العنب، أم من غيرها.

وقد جاء هذا الذي قاله عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم صريحًا، فأخرج أصحاب "السنن" الأربعة، وصححه ابن حبان من وجهين، عن الشعبي، أن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الخمر من العصير، والزبيب، والتمر، والحنطة، والشعير، والذُّرَة، وإني أنهاكم عن كل مسكر"، لفظ أبي

(1)

هو ما أخرجه البخاريّ عن أنس رضي الله عنه: "أن الخمر حرّمت، والخمر يومئذ البسر والتمر"، وقال أيضًا:"كنت أسقي أبا عبيدة، وأبا طلحة، وأُبيّ بن كعب من فضيخ زَهْو وتمر، فجاءهم آتٍ، فقال: إن الخمر قد حرّمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس فهَرِقها، فَهَرَقتها".

ص: 590

داود، وكذا ابن حبان، وزاد فيهْ أن النعمان خطب الناس بالكوفة.

ولأبي داود من ؤجه آخر، عن الشعبيّ، عن النعمان، بلفظ:"إن من العنب خمرًا، وإن من التمر خمرًا، وإن من العسل خمرًا، وإن من البُرّ خمرًا، وإن من الشعير خمرًا".

ومن هذا الوجه أخرجها أصحاب "السنن"، والتي قبلها فيها الزبيب دون العسل.

ولأحمد من حديث أنس بسند صحيح عنه قال: "الخمر من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والذرة"، أخرجه أبو يعلى من هذا الوجه، بلفظ:"حُرِّمت الخمر يوم حُرّمت، وهي .. "،. فذكرها، وزاد:"الذُّرَة".

وأخرج الخلعي في "فوائده" من طريق خلاد بن السائب، عن أبيه، رفعه مثل الرواية الثانية، لكن ذكر الزبيب بدل الشعير، وسنده لا بأس به، ويوافق ذلك ما تقدم في "التفسير" من حديث ابن عمر:"نزل تحريم الخمر، وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة، ما فيها شراب العنب".

وقوله: "والخمر ما خامر العقل"؛ أي: غَطّاه، أو خالطه، فلم يتركه على حاله، وهو من مجاز التشبيه، والعقل هو آلة التمييز، فلذلك حَرُم ما غَطّاه، أو غَيَّره؛ لأن بذلك يزول الإدراك الذي طلبه الله من عباده؛ ليقوموا بحقوقه.

قال الكرمانيّ: هذا تعريف بحسب اللغة، وأما بحسب العُرف فهو ما يخامر العقل، من عصير العنب خاصّة.

قال الحافظ: كذا قال، وفيه نظر؛ لأن عمر رضي الله عنه ليس في مقام تعريف اللغة، بل هو في مقام تعريف الحكم الشرعيّ، فكأنه قال: الخمر الذي وقع تحريمه في لسان الشرع هو ما خامر العقل، على أن عند أهل اللغة اختلافًا في ذلك، كما قدمته، ولو سُلِّم أن الخمر في اللغة يختص بالمتخذ من العنب، فالاعتبار بالحقيقة الشرعية، وقد تواردت الأحاديث على أن المسكر من المتخذ من غير العنب يسمى خمرًا، والحقيقة الشرعية مقدمة على اللغوية، وقد ثبت في "صحيح مسلم" عن أبي هريرة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة، والعنبة".

ص: 591

قال البيهقيّ: ليس المراد الحصر فيهما؛ لأنه ثبت أن الخمر تتخذ من غيرهما في حديث عمر وغيره، وإنما فيه الإشارة إلى أن الخمر شرعًا لا تختص بالمتخَذ من العنب.

قال الحافظ: وجَعَل الطحاويّ هذه الأحاديث متعارضة، وهي حديث أبي هريرة في أن الخمر من شيئين، مع حديث عمر، ومن وافقه أن الخمر تُتخذ من غيرهما، وكذا حديث ابن عمر:"لقد حُرِّمت الخمر، وما بالمدينة منها شيء"، وحديث أنس، يعني: المتقدم ذكره، وبيان اختلاف ألفاظه، منها:"إن الخمر حُرِّمت، وشرابهم الفَضِيخ"، وفي لفظ له:"وإنا نعدّها يومئذ خمرًا"، وفي لفظ له:"إن الخمر يوم حُرِّمت البُسْر والتمر"، قال: فلما اختلف الصحابة في ذلك، ووجدنا اتفاق الأمة على أن عصير العنب إذا اشتدّ، وغلى، وقَذَف بالزَّبَد، فهو خمر، وأن مستحله كافر دلّ على أنهم لم يعملوا بحديث أبي هريرة؛ إذ لو عَمِلوا به لكَفّروا مستحل نبيذ التمر، فثبت أنه لم يدخل في الخمر غيرُ المتخَذ من عصير العنب. انتهى.

قال الحافظ: ولا يلزم من كونهم لم يكفِّروا مستحل نبيذ التمر أن يمنعوا تسميته خمرًا، فقد يشترك الشيئان فيْ التسمية، ويفترقان في بعض الأوصاف، مع أنه هو يوافق على أن حُكم المسكِر من نبيذ التمر حُكم قليل العنب في التحريم، فلم تبق المشاححة إلا في التسمية، والجمع بين حديث أبي هريرة وغيره بحَمْل حديث أبي هريرة على الغالب؛ أي: أكثر ما يُتخذ الخمر من العنب والتمر، وحَمْل حديث عمر ومن وافقه على إرادة استيعاب ذِكر ما عُهِد حينئذ أنه يُتخذ منه الخمر، وأما قول ابن عمر فعلى إرادة تثبيت أن الخمر يُطلق على ما لا يتخَذ من العنب؛ لأن نزول تحريم الخمر لم يصادف عند من خوطب بالتحريم حينئذ إلا ما يتخذ من غير العنب، أو على إرادة المبالغة، فأطلق نفي وجودها بالمدينة، وإن كانت موجودة فيها بقلة، فإن تلك القلة بالنسبة لكثرة المتخذ مما عداها كالعدم.

وقد قال الراغب في "مفردات القرآن": سُمّي الخمر خمرًا؛ لكونه خامرًا للعقل؛ أي: ساترًا له، وهو عند بعض الناس اسم لكل مسكر، وعند بعضهم للمتخذ من العنب خاصّة، وعند بعضهم للمتخذ من العنب والتمر، وعند

ص: 592

بعضهم لغير المطبوخ، فرَجَح أن كل شيء يستر العقل يسمى خمرًا حقيقةً، وكذا قال أبو نصر ابن القشيريّ في "تفسيره": سُميت الخمر خمرًا؛ لِسَترها العقل، أو لاختمارها، وكذا قال غير واحد من أهل اللغة، منهم أبو حنيفة الدِّينوريّ، وأبو نصر الجوهريّ، ونُقِل عن ابن الأعرابيّ قال: سمِّيت الخمر؛ لأنها تُرِكت حتى اختمرت، واختمارها تغيُّر رائحتها، وقيل: سميت بذلك؛ لمخامرتها العقل، نعم جزم ابن سِيدَهْ في "المُحْكَم" بأن الخمر حقيقة إنما هي للعنب، وغيرها من المسكرات يسمى خمرًا مجازًا، وقال صاحب "الفائق" في حديث:"إياكم والغُبَيراء، فإنها خمر العالَم" هي نبيذ الحبشة متخذة من الذُّرَة، سُميت الغبيراء؛ لِمَا فيها من الغَبَرة، وقوله:"خمر العالم"؛ أي: هي مثل خمر العالَم، لا فرق بينها وبينها، وليس تأويله هذا بأولى من تأويل من قال: أراد أنها معظم خمر العالم.

وقال صاحب "الهداية" من الحنفية: الخمر عندنا ما اعتُصِر من ماء العنب، إذا اشتَدّ، وهو المعروف عند أهل اللغة، وأهل العلم، قال: وقيل: هو اسم لكل مسكر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر"، وقوله:"الخمر من هاتين الشجرتين"، ولأنه من مخامرة العقل، وذلك موجود في كل مسكر، قال: ولنا إطباق أهل اللغة على تخصيص الخمر بالعنب، ولهذا اشتهر استعمالها فيه، ولأن تحريم الخمر قطعيّ، وتحريم ما عدا المتخذ من العنب ظنيّ، قال: وإنما سمي الخمر خمرًا لتخمّره، لا لمخامرة العقل، قال: ولا ينافي ذلك كون الاسم خاصًّا فيه، كما في النجم، فإنه مشتق من الظهور، ثم هو خاصّ بالثريا. انتهى.

والجواب عن الحجة الأولى: ثبوت النقل عن بعض أهل اللغة بأن غير المتخذ من العنب يُسمَّى خمرًا.

وقال الخطابيّ: زعم قوم أن العرب لا تعرف الخمر إلا من العنب، فيقال لهم: إن الصحابة الذين سَمَّوا غير المتخذ من العنب خمرًا عرب فُصحاء، فلو لم يكن هذا الاسم صحيحًا لَمَا أطلقوه.

وقال ابن عبد البرّ: قال الكوفيون: إن الخمر من العنب؛ لقوله تعالى: {أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36]، قال: فدل على أن الخمر هو ما يُعتصر، لا ما

ص: 593

يُنتبذ، قال: ولا دليل فيه على الحصر، وقال أهل المدينة، وسائر الحجازيين، وأهل الحديث كلهم: كل مسكر خمر، وحُكمه حكم ما اتُّخِذ من العنب، ومن الحجة لهم أن القرآن لمّا نزل بتحريم الخمر، فَهِمَ الصحابة، وهم أهل اللسان أن كل شيء يسمى خمرًا يدخل في النهي، فأراقوا المتخذ من التمر والرُّطَب، ولم يخصُّوا ذلك بالمتخذ من العنب، وعلى تقدير التسليم، فإذا ثبت تسمية كل مسكر خمرًا من الشرع كان حقيقة شرعية، وهي مقدَّمة على الحقيقة اللغوية.

والجواب عن الثانية: ما تقدم من أن اختلاف مشترِكَين في الحكم في الغِلَظ، لا يلزم منه افتراقهما في التسمية، كالزنا مثلًا، فإنه يصدق على من وطئ أجنبية، وعلى من وطئ امرأة جاره، والثاني أغلظ من الأول، وعلى من وطئ مَحْرَمًا له، وهو أغلظ، واسم الزنا مع ذلك شامل الثلاثة، وأيضًا فالأحكام الفرعية لا يُشترط فيها الأدلة القطعية، فلا يلزم من القطع بتحريم المتخذ من العنب، وعدم القطع بتحريم المتخذ من غيره أن لا يكون حرامًا، بل يحكم بتحريمه إذا ثبت بطريق ظنيّ تحريمه، وكذا تسميته خمرًا، والله أعلم.

والجواب عن الثالثة: ثبوت النقل عن أعلم الناس بلسان العرب بما نفاه هو، وكيف يستجيز أن يقول: لا لمخامرة العقل، مع قول عمر بمحضر الصحابة: الخمر ما خامر العقل؟ كأن مستنده ما ادّعاه من اتفاق أهل اللغة، فيُحمل قول عمر على المجاز، لكن اختفف قول أهل اللغة في سبب تسمية الخمر خمرًا، فقال أبو بكر بن الأنباريّ: سمّيت الخمر خمرًا؛ لأنها تخامر العقل؛ أي: تخالطه، قال: ومنه قولهم: خامره الداء؛ أي: خالطه، وقيل: لأنها تخمِّر العقل؛ أي: تستره، ومنه الحديث:"خَمِّروا آنيتكم"، ومنه خمار المرأة؛ لأنه يستر وجهها، وهذا أخص من التفسير الأول؛ لأنه لا يلزم من المخالطة التغطية، وقيل: سميت خمرًا؛ لأنها تُخَمَّر حتى تُدْرِك، كما يقال: خَمَّرت العجينَ، فتخمّر؛ أي: تركته حتى أَدْرَك، ومنه خَمَّرت الرأي؛ أي: تركته حتى ظهر وتحرر، وقيل: سمِّيت خمرًا؛ لأنها تُغَطَّى حتى تَغْلِي، ومنه حديث المختار بن فُلْفُل: قلت لأنس: الخمر من العنب، أو من غيرها؟ قال: ما خَمَّرت من ذلك فهو الخمر، أخرجه ابن أبي شيبة، بسند صحيح، ولا مانع

ص: 594

من صحة هذه الأقوال كلها؛ لثبوتها عن أهل اللغة، وأهل المعرفة باللسان، قال ابن عبد البر: الأوجه كلها موجودة في الخمرة؛ لأنها تُرِكَت حتى أَدْرَكت، وسكنت، فإذا شُربت خالطت العقل، حتى تغلب عليه، وتغطيه.

وقال القرطبيّ: الأحاديث الواردة عن أنس وغيره على صحتها، وكثرتها، تُبطل مذهب الكوفيين القائلين بأن الخمر لا يكون إلا من العنب، وما كان من غيره لا يسمى خمرًا، ولا يتناوله اسم الخمر، وهو قول مخالف للغة العرب، وللسُّنَّة الصحيحة، وللصحابة؛ لأنهم لمّا نزل تحريم الخمر فَهِمُوا من الأمر باجتناب الخمر تحريم كل مسكر، ولم يفرِّقوا بين ما يُتخذ من العنب، وبين ما يتخذ من غيره، بل سَوُّوا بينهما، وحَرَّموا كل ما يُسكر نوعه، ولم يتوقفوا، ولا استفصلوا، ولم يُشكل عليهم شيء من ذلك، بل بادروا إلى إتلاف ما كان من غير عصير العنب، وهم أهل اللسان، وبِلُغتهم نزل القرآن، فلو كان عندهم فيه تردّد لتوقفوا عن الإراقة، حتى يستكشفوا، ويستفصلوا، ويتحققوا التحريم؛ لِمَا كان تقرر عندهم من النهي عن إضاعة المال، فلمّا لم يفعلوا ذلك، وبادروا إلى الإتلاف علمنا أنهم فَهِموا التحريم نصًّا، فصار القائل بالتفريق سالكًا غير سبيلهم، ثم انضاف إلى ذلك خطبة عمر رضي الله عنه بما يوافق ذلك، وهو ممن جعل الله الحق على لسانه، وقلبه، وسَمِعه الصحابةُ وغيرهم، فلم يُنقل عن أحد منهم إنكار ذلك.

وإذا ثبت أن كل ذلك يسمى خمرًا لزم تحريم قليله وكثيره، وقد ثبتت الأحاديث الصحيحة في ذلك، ثم ذَكَرها، قال: وأما الأحاديث عن الصحابة التي تمسك بها المخالف فلا يصح منها شيء، على ما قال عبد الله بن المبارك، وأحمد، وغيرهم، وعلى تقدير ثبوت شيء منها فهو محمول على نقيع الزبيب، أو التمر من قبل أن يدخل حدّ الإسكار؛ جمعًا بين الأحاديث. قال الحافظ: ويؤيده ثبوت مثل ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في "باب نقيع التمر"

(1)

.

(1)

أراد به ما أخرجه البخاريّ عن سهل بن سعد الساعديّ، أن أبا أُسيد الساعديّ دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم لعُرْسه، فكانت امرأته خادمهم يومئذ، وهي العروس، فقال: هل تدرون =

ص: 595

ولا فرق في الحِلّ بينه وبين عصير العنب أوّلَ ما يُعصر، وإنما الخلاف فيما اشتدّ منهما، هل يفترق الحكم فيه، أو لا؟

وقد ذهب بعض الشافعية إلى موافقة الكوفيين في دعواهم أن اسم الخمر خاصّ بما يُتخذ من العنب، مع مخالفتهم له في تفرقتهم في الحكم، وقولهم بتحريم قليل ما أَسكر كثيره من كل شراب، فقال الرافعي: ذهب أكثر الشافعية إلى أن الخمر حقيقة فيما يُتخذ من العنب، مجاز في غيره، وخالفه ابن الرفعة، فنقل عن المزنيّ، وابن أبي هريرة، وأكثر الأصحاب، أن الجميع يسمى خمرًا حقيقة، قال: وممن نقله عن أكثر الأصحاب القاضيان: أبو الطيب، والرويانيّ، وأشار ابن الرفعة إلى أن النقل الذي عزاه الرافعيّ للأكثر لم يجد نَقْله عن الأكثر، إلا في كلام الرافعيّ، ولم يتعقبه النوويّ في "الروضة"، لكن كلامه في "شرح مسلم" يوافقه، وفي "تهذيب الأسماء" يخالفه.

وقد نقل ابن المنذر عن الشافعيّ ما يوافق ما نقلوا عن المزنيّ، فقال: قال: إن الخمر من العنب، ومن غير العنب: عمر، وعليّ، وسعيد، وابن عمر، وأبو موسى، وأبو هريرة، وابن عباس، وعائشة، ومن التابعين: سعيد بن المسيِّب، وعروة، والحسن، وسعيد بن جبير، وآخرون، وهو قول مالك، والأوزاعيّ، والثوريّ، وابن المبارك، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وعامة أهل الحديث.

ويمكن الجمع بأن من أطلق على غير المتخذ من العنب حقيقةً يكون أراد الحقيقة الشرعية، ومن نفى أراد الحقيقة اللغوية.

وقد أجاب بهذا ابن عبد البرّ، وقال: إن الحكم إنما يتعلق بالاسم الشرعيّ دون اللغويّ، والله أعلم.

قال الحافظ: ويلزم أهل الكوفة في قولهم: إن الخمر حقيقةٌ في ماء العنب، مجازٌ في غيره أن يُجَوِّزوا إطلاق اللفظ الواحد على حقيقته ومجازه؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم لَمّا بلغهم تحريم الخمر أراقوا كل ما كان يُطلق عليه لفظ الخمر حقيقة ومجازًا، وإذا لم يُجَوِّزوا ذلك صح أن الكل خمر حقيقةً، ولا

= ما أنقعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أنقعت له تمرات من الليل في تَوْر. انتهى.

ص: 596

انفكاك عن ذلك، وعلى تقدير إرخاء العِنَان، والتسليم أن الخمر حقيقةٌ في ماء العنب خاصّة، فإنما ذلك من حيث الحقيقة اللغوية، فأما من حيث الحقيقة الشرعية فالكل خمر حقيقةً؛ لحديث:"كل مسكر خمر"، فكلُّ ما اشتدّ كان خمرًا، وكلُّ خمر يَحْرُم قليله وكثيره، وهذا يخالف قولهم، وبالله التوفيق. انتهى ما في "الفتح"، وهو بحث مفيد، وتعقّب سديد، فتأمله بالإنصاف، ودع عنك التقليد والاعتساف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4444]

(1706) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَتَيْن، نَحْوَ أَرْبَعِينَ. قَالَ: وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَخَفَّ الْحُدُودِ ثَمَانِينَ، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ).

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدُوسيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِكِ) بن النضر الأنصاريّ الخزرجي الصحابيّ الخادم الشهير، مات رضي الله عنه سنة (2 أو 93) وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

والباقون تقدّموا قبل ثلاثة أبواب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه مسلسل بالبصريين من أوله إلى آخره، وأن شيخيه من التسعة الذين روى الجماعة عنهم بلا واسطة، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة، وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة رضي الله عنهم، وهو من المعمّرين، فقد عاش أكثر من مائة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) وفي رواية خالد بن الحارث الآتية: "سمعت أنسًا"، وهو يدلُّ على أن رواية شبابة، عن شعبة، بزيادة الحسن بين قتادة وأنس التي

ص: 597

أخرجها النسائيّ من المزيد في متصل الأسانيد، قاله في "الفتح"

(1)

.

(أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتيَ بِرَجُلٍ) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسمه صريحًا، لكن سأذكر ما يؤخذ منه أنه النعيمان. (قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ) هي الشراب المعروف، وهي مؤنّثة على اللغة الفصيحة المشهورة، وذكر أبو حاتم السجستانيّ في كتابه "المذكّر والمؤنّث" في موضعين منه أن قومًا فُصحاء يذكّرنها، قال: سمعت ذلك ممن أثق به منهم، وذكرها أيضًا بن قُتيبة في "أدب الكاتب" فيما جاء فيه لغتان التذكير والتأنيث، قاله ابن الملقّن رحمه الله

(2)

.

(فَجَلَدَهُ) قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهره يقتضي أن شرب الخمر بمجرَّده موجبٌ للحدِّ؛ لأن الفاء للتعليل، كقولهم: سها فسجد، وزَنَى فرُجِم. وهو مذهب الجمهور من الصحابة وغيرهم. ولم يفرِّقوا بين شرب خمر العنب وغيره، ولا بين شرب قليله وكثيره؛ إذ الكل خمر، كما قدَّمناه، وللكوفيين تفصيل ينبني على ما تقدَّم ذِكره في باب تحريم الخمر. وهو: أن من شرب شيئًا من خمر العنب النيِّئة وجب عليه الحدّ، قليلًا كان أو كثيرًا، لأن هذا هو المجمَع عليه، فإن شرب غيره من الأشربة فسَكِر: حُدَّ، وهذا أيضًا مجمَع عليه، فإن لم يَسْكَر لم يُحدَّ عندهم. وكذلك قالوا في مطبوخ العنب. وذهب أبو ثور: إلى أن من رأى تحريم القليل من النبيذ جَلَد ومن لم يره لم يَجْلد؛ لأنَّه متأوِّل. وقد مال إلى هذا الفرق بعض شيوخنا المتأخرين. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور بما سبق ذِكره في باب تحريم الخمر، وبدليل قوله:"من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاقتلوه"، فعلَّق الحكم على نفس شُرب ما يقال عليه خمر، ولم يفرّق بين قليل، ولا كثير، وقد بيَّنَّا: أن الكل يقال عليه خمر لغة وشرعًا، بالطرق التي لا مدفع لها.

فأما قتل الشارب في الرابعة: فمنسوخ بما روي من حديث جابر الذي خرَّجه النسائي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتي بنعيمان، فضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع

(1)

"الفتح" 15/ 517، كتاب "الحدود" رقم (6773).

(2)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 9/ 223.

ص: 598

مرات. قال: فرأى المسلمون أن الحدّ قد وقع، وأن القتل قد رُفع.

فيحصُل من هذا الحديث معرفة التاريخ ومعرفة إجماع المسلمين على رفع القتل

(1)

، ومن حُكي عنه خلاف ذلك فإنما هو خلاف متأخر مسبوق بالإجماع المتقدم.

وقد عَضَد حديث جابر ما خرَّجه البخاريّ من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلًا كان اسمه: عبد الله، وكان يلقب حمارًا، وكان يُضْحِك النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأُتي به يومًا، فأمَر به فجُلد. فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يُؤتى به، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا تلعنوه، فوالله ما علمت: إلا أنه يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم"، وظاهره: أن هذا الشارب شرب أكثر من أربع مرَّات، ثم لم يقتله، بل شهد له: أنَّه يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. انتهى

(2)

.

(بِجَرِيدَتَيْنِ) تثنية جريدة، واحدة الجريد، وهو سَعَفُ النخل، فعيلة بمعنى مفعولة، وإنما تُسَمَّى جريدةً إذا جُرّد عنه خُوصها

(3)

.

وقال العلامة ابن الملقّن رحمه الله: اختُلف في معنى قوله: "بجريدتين" على قولين:

أحدهما: أن الجريدتين كانتا مفردتين، جَلَد بكلّ واحدة منهما عددًا حتى كمّله من الجميع أربعين، وهذا تأويل أصحابنا.

والثاني: أن معناه أنه جمعهما، وجَلَده بهما أربعين جلدةً، فيكون المبلغ ثمانين، وهذا تأويل من يقول: جَلْد الخمر ذلك المقدار، والأول أظهر؛ لأن الرواية الأخرى الثانية في "صحيح مسلم" مبيّنة لهذه، وهي:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يضرب في الخمر بالنعال والجريد أربعين". انتهى

(4)

.

(1)

دعوى الإجماع محلّ نظر، فقد ألَّف الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله رسالة جمع فيها طرق الحديث، وسمّاها:"كلمة الفصل في قتل مدمني الخمر"، فراجعها، تستفد.

(2)

"المفهم" 5/ 127 - 129.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 96.

(4)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 9/ 222.

ص: 599

(نَحْوَ أَرْبَعِينَ) قال ابن الملقّن رحمه الله: ظاهره أن ذلك للتقريب، لا للتحديد، لكن لا بدّ من تأويله على عدم التساوي في الضرب، والآلة المضروب بها، فإن الحدود للتحديد، وإن كان القرطبيّ نقل عن طائفة من علماء أصحابهم وغيرهم أن ذلك إنما كان منه صلى الله عليه وسلم على وجه التعزير والأدب، وأنه انتهى في ذلك إلى أربعين، وحسّنه، فلا يوافَق عليه. انتهى كلام ابن الملقّن

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فجلده بجريدتين نحو أربعين"، وفي الرواية الأخرى:"جلد في الخمر بالجريد والنعال أربعين": هذه الروايات تدل على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يَحُدّ في الخمر حدًّا محدودًا، وإنما كان ذلك منه تعزيرًا وأدبًا، لكن انتهى في ذلك إلى به أربعين. ومما يدلّ على ذلك ما رواه أبو داود عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتي برجل قد شرب، فقال:"اضربوه"، قال: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه. ثم قال لأصحابه:"بَكِّتُوه"، فأقبلوا عليه يقولون: أما اتقيت الله؟! أما استحييت من رسول الله؟! وهذا كله يدلّ: على أن ذلك كله أدب، وتعزير. ولذلك قال عليّ رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَسُنَّه؛ أي: لم يحدَّ فيه حدًّا، ولذلك اجتهدت الصحابة فيه، فألحقوه بأخف الحدود، وهو حدُّ القذف. هذا قولُ طائفةٍ من علماء أصحابنا وغيرهم، وهو ظاهرٌ من الأحاديث التي ذكرناها. غير أنه يردّ عليهم أن يقال: هذا معارَضٌ بوجهين:

أحدهما: أن عليّ بن أبي طالب قد قال: جلد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أربعين، وأبو بكرٍ أربعين، وجلد علي بحضرة عثمان، والصحابة رضي الله عنهم أربعين، ودوامهم على مراعاة هذا العدد يدل على أنَّه حدٌّ محدود، ولو كان تعزيرًا لاختَلف بحسب اجتهاد كلّ واحدٍ منهم.

وثانيهما: أن الأُمَّة مُجمعون على أنَّ الحدَّ في الخمر أحد العددين؛ إمَّا أربعون، وإمَّا ثمانون. "قال القاضي عياض: أجمع المسلمون على وجوب الحدِّ في الخمر، وكيف تُجْمِعُ الأمَّةُ غلى خلاف ما جاء به النبيّ صلى الله عليه وسلم؟!.

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 9/ 222 - 224.

ص: 600

فالجواب عن الوجهين: أن الصحابة - رضوان الله عليهم - هم الذين نقلوا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ما يدلُّ على التعزير، وهم الذين نقلوا ما يدل على التحديد، والذين قاسوا واجتهدوا هم الذين عدَّدوا وحدَّدُوا، ولم ينصَّ أحدٌ منهم على نفي أحد الوجهين وثبوت الآخر، وإنما هو نقل أحوالٍ محتملة، فلا بدَّ من التوفيق بين أقوالهم؛ لاستحالة التناقض والكذب عليهم.

ووجهُ التوفيق: أن الصحابةَ رضي الله عنهم فهمت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّ جَلده كان تعزيرًا؛ لأنَّه قد اختلف حاله فيه: فمرةً نجلد فيه بالأيدي، والنِّعال، والثياب من غير عدب، ومرَّةً جلد فيه بالجريد والثعال أربعين، ومرَّةً جلد فيه بجريدتين نحو الأربعين، فهذه نحو الثمانين. فهذا تعزيز بلا شك، لكن لَمَّا كان أكثر جلده أربعين اختاره أبو بكر، وعمر في أول أمره، فلمَّا كثر إقدامُ الناس على شرب الخمر، تفاوضت الصحابة في ذلك ونظروا، فظهر لهم: أن ذلك القَدْر لا يزجرهم، ولا يُبالون به، فظهر لهم أن يُلحقوهْ بأخفّ حدود افي حرار المذكورة في القرآن، فوجدوه القذف، مع أنهم قد ظهر لهم جامع بينهما، فقالوا: إذا سَكِرَ هَذَى، وإذا هَذَى افترى، ومع ما تقدَّم لهم: من أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد قارب فيه الثمانين، فأثبتوها، ومنعوا من الزيادة عليها، ولمّا ظهر هذا المعنى لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال مصرِّحًا به: جلد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أربعين، وأبو بكرٍ أربعين، وعمر ثمانين، وكلٌّ سُنَّة. ثمَّ إنَّه جلد هو أربعين، وأقرَّه على ذلك عثمان، ومَن حضر من الصحابة رضي الله عنهم وظهر له: أن الاقتصار على أربعين أولى من الثمانين؛ مخافةَ أن يموتَ فتلزمه الدِّية، كما قد صرَّح به؛ حيث قال: ما كنت أقيمُ على أحدٍ حدًّا فيموت فيه، فأجد في نفسي، إلا صاحب الخمر؛ لأنه إنْ مات وَدَيْتُهُ، وهذا يدلُّ على أنَّه جلد فيه ثمانين في ولايته، وأنَّه لم يخالف عمر في الثمانين، وإيَّاها عَنَى بقوله:"فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَسُنَّه"، ولا يصحُّ أن يريدَ بذلك الأربعين؛ لأنه هو الذي روى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم جلد فية أربعين، ولو مات في الأربعين لم تجب له ديةٌ بوجهٍ، ولذلك قال الشافعيُّ: "لو مات في الأربعين فالحقُّ قَتَلَهُ، كما تقدَّم. فتفهَّم هذا البحث، فإنَّه حسن.

وحاصله: أن الجلدَ على الخمر تعزيرٌ مُنِع الزيادة على غايته، فرأت

ص: 601

طائفة: أن غايته أربعون، فلا يُزاد عليه. وبه قال الشافعيُّ من الفقهاء، والإجماع: على أنَّه لا يزاد على الثمانين.

فإن قيل: كيف يكون تعزيرًا، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"لا يُجلَدُ أحدٌ فوق عشرة أسواطٍ إلا في حدٍّ من حدود الله"؟ فمقتضى هذا: أن لا يُزاد في التعزير على العشرة، وبه قال من يأتي ذكره بعد هذا - إن شاء الله تعالى - فالجواب: أنَّه سيأتي الكلام على ذلك الحديث. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: أجاب القرطبيّ

(2)

عن هذا الحديث بأنه خرج على أغلب ما يُحتاج إليه في ذلك الزمان.

قال الجامع: هذا الجواب لا يرتاح له الخاطر، وعندي الأَولى أن نقول يُستثنى منه شارب الخمر، فإنه قد ثبت النصّ فيه بأكثر من عشرة أسواط، والله تعالى أعلم.

(قَالَ) أنس (وَفَعَلَهُ)؛ أي: الجَلد المذكور، (أَبُو بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه في خلافته، (فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ)؛ أي: في خلافته، فـ "كان" هنا تامّة؛ أي: جاء عمر، ويَحْتَمِل أن تكون ناقصةً، ويقدّر خبرها؛ أي: خليفةً، وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: قوله: "فلما كان عمر" يجوز أن يكون على حذف مضاف؛ أي: فلما كان زمن ولاية عمر رضي الله عنه. انتهى

(3)

.

(اسْتَشَارَ النَّاسَ)؛ أي: طلب منهم إبداء رأيهم في ذلك، يقال: شاورته في كذا، واستشرته: راجعته لأرى رأيه فيه، فأشار عليّ بكذا؛ أي: أراني ما عنده فيه من المصلحة، فكانت إشارةً حسنةً، والاسم الْمَشُورة،. وفيها لغتان: سكون الشين، وفتح الواو، والثانية: ضمّ الشين، وسكون الواو، وزانُ معونة، ويقال: هي من شار الدابّةَ: إذا عَرَضَها في الْمِشْوَار

(4)

، ويقال: من شُرْتُ العسلَ، شُبِّهَ حُسنُ النصيحة بشرب العسل، قاله الفيّوميّ

(5)

.

(1)

"المفهم" 5/ 129 - 131.

(2)

راجع كلامه في "المفهم" 5/ 138 - 139.

(3)

"إحكام الأحكام" 4/ 377 بنسخة الحاشية "العدّة".

(4)

"المِشوار" بكسر الميم: المكان الذي تُجرى فيه الدابة عند عرضها للبيع.

(5)

"المصباح المنير" 1/ 327.

ص: 602

(فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن عوف الصحابيّ الشهير، أحد العشرة المبشّرين بالجنة، مات رضي الله عنه سنة (32) وتقدّمت ترجمته في "الصلاة" 23/ 957.

[تنبيه]: قال العلامة ابن الملقّن رحمه الله: وقع في "الموطأ" أن الذي أشار على عمر رضي الله عنه بالثمانين هو عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو خلاف ما ثبت في "الصحيح" من كونه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وادّعَى القاضي عياض أنه المشهور، لكنه مرسل، فإنه من رواية ثور بن زيده الدِّيليّ، ولم يدركه، وعلى تقدير اتصاله، فلعلّهما أشارا به، والذي بدأ بالمشورة هو عبد الرحمن، فنُسبت إليه؛ لِسَبْقه بها، ونُسبت في رواية إلى عليّ؛ لرجحانه على عبد الرحمن رضي الله عنه. انتهى

(1)

.

(أَخَفَّ الْحُدُودِ ثَمَانِينَ) معنى كونه أخفّ الحدود: أنه أخفّ الحدود المنصوص عليها في كتاب الله عز وجل، فإن الحدود فيها حدّ السرقة بالقطع، وحدّ الزنا بمائة جلدة، وحدّ القذف بثمانين، فاجعلها ثمانين، كأخفّ الحدود، قاله ابن الملقّن

(2)

.

وقوله أيضًا: (أَخَفَّ الْحُدُودِ ثَمَانِينَ) هكذا بالنصب، قال النوويّ رحمه الله: منصوب بفعل محذوف؛ أي اجلده كأخفّ الحدود، أو اجعله كأخفّ الحدود، كما صُرّح به في الرواية الأخرى. انتهى

(3)

.

وقال ابن دقيق العيد: قوله: "أخفّ الحدود ثمانين" فيه حذفُ عامل النصب، والتقدير: اجْعَله، وتعقّبه الفاكهيّ، فقال: هذا بعيد، أو باطل، وكأنه صدر عن غير تأمل لقواعد العربية، ولا لمراد المتكلم؛ إذ لا يجوز أجود الناس الزيدين، على تقدير اجعلهم؛ لأن مراد عبد الرحمن الإخبار بأخفّ الحدود، لا الأمر بذلك، فالذي يظهر أن راوي النصب وَهِمَ، واحتمال توهيمه أولى من ارتكاب ما لا يجوز لفظًا، ولا معنًى.

ورَدّ عليه تلميذه ابن مرزوق بأن عبد الرحمن مستشار، والمستشار

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 9/ 224.

(2)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 9/ 225.

(3)

"شرح النوويّ" 101/ 215.

ص: 603

مسؤول، والمستشير سائل، ولا يبعد أن يكون المستشار آمرًا، قال: والمثال الذي مَثَّل به غير مطابق.

قال الحافظ: بل هو مطابق لِمَا ادّعاه أن عبد الرحمن قَصَد الإخبار فقط، والحقّ أنه أخبر برأيه مستندًا إلى القياس، وأقرب التقادير: أخفّ الحدود أَجِده ثمانين، أو أجد أخف الحدود ثمانين، فنصَبَهما.

وأغرب ابن العطار صاحب النوويّ في "شرح العمدة"، فنَقَل عن بعض العلماء أنه ذكره بلفظ:"أخفُّ الحدود ثمانون" بالرفع، وأعربه مبتدأ وخبرًا، قال: ولا أعلمه منقولًا رواية، كذا قال، والرواية بذلك ثابتةٌ، والأَولى في توجيهها ما أخرجه مسلم أيضًا من طريق معاذ بن هشام، عن أبيه:"ثم جلد أبو بكر أربعين، فلما كان عمرُ، ودنا الناس من الرِّيف والقرى، قال: ما ترون في جلد الخمر؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أرى أن تجعلها كأخفّ الحدود، قال: فجلد عمر ثمانين"، فيكون المحذوف من هذه الرواية المختصرة:"أرى أن تجعلها"، وأداةَ التشبيه.

وأخرج النسائيّ من طريق يزيد بن هارون، عن شعبة:"فضربه بالنعال نحوًا من أربعين، ثم أُتي به أبو بكر، فصنع به مثل ذلك"، ورواه همام، عن قتادة، بلفظ:"فأمر قريبًا من عشرين رجلًا، فجلده كل رجل جلدتين بالجريد، والنعال"، أخرجه أحمد، والبيهقيّ، وهذا يَجْمَع بين ما اختُلِف فيه على شعبة، وأن جملة الضربات كانت نحو أربعين، لا إنه جَلَده بجريدتين أربعين، فتكون الجملة ثمانين، كما أجاب به بعض الناس.

ورواه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، بلفظ:"جَلَد بالجريد والنعال أربعين"، عَلَّقه أبو داود بسند صحيح، ووصله البيهقيّ، وكذا أخرجه مسلم من طريق وكيع، عن هشام، بلفظ:"كان يَضرب في الخمر مثله".

وقد نَسَب صاحب "العمدة" قصة عبد الرحمن هذه إلى تخريج "الصحيحين"، ولم يخرج البخاريّ منها شيئًا، وبذلك جزم عبد الحق في "الجمع"، ثم المنذريّ، نعَم ذكر معنى صنيع عمر فقط في حديث السائب بن يزيد، ولفظه: "كنا نُؤتَى بالشارب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإمرة أبي بكر، وصدرًا من خلافة عمر، فنقوم إليه بأيدينا، ونعالنا، وأرديتنا، حتى كان آخر

ص: 604

إمرة عمر، فجلد أربعين، حتى إذا عَتَوْا، وفَسَقُوا جلد ثمانين". انتهى

(1)

.

(فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ)؛ أي: أَمَر عمر رضي الله عنه بجلد شارب الخمر ثمانين جلدةً.

قال العلامة ابن الملقّن رحمه الله: إنما استشار عمر رضي الله عنه الناس في ذلك؛ لأن في زمنه فُتح الشام، والعراق، وسكن الناس في مواضع الخِصْب، وسعة العيش، وكثرت الأعناب، والثمار، فأكثروا من شُرب الخمر، فزاد عمر رضي الله عنه حدّها؛ زجرًا لشاربها، وتغليظًا عليهم، وكان ذلك سنّة ماضيةً، قال صلى الله عليه وسلم:"فعليكم بسُنّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضّوا عليها بالنواجذ"

(2)

، وقال أيضًا:"اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر، وعمر"

(3)

؛ أي: بكل واحد منهما، ولهذا عمِل عثمان رضي الله عنه بهذا مرّة، وبالأول أخرى، وقال عليّ رضي الله عنه:"كلٌّ سنّة"؛ أي: لأن الأربعين فعلُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، والصدّيق رضي الله عنه، والثمانين فعل عمر رضي الله عنه بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، وهو المعروف من مذهب عليّ رضي الله عنه، وهذا منه رضي الله عنه دالّ على اعتقاده حقيّة كونهما خليفتين، وأن فِعلهما سنّة، وأمْرهما حقّ، خلاف ما تَكْذِبه الشيعة عليه. انتهى

(4)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا دون قصّة استشارة عمر رضي الله عنه متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [9/ 4444 و 4445 و 4446 و 4447 و 4448](1706)، و (البخاريّ) في "الحدود"(6773 و 6776)، و (أبو داود) في "الحدود"(4479)، و (الترمذيّ) في "الحدود"(1443)، و (النسائيّ) في

(1)

"الفتح" 15/ 518 - 521، كتاب "الحدود" رقم (6773).

(2)

حديث صحيح، أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، والبيهقيّ، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبيّ.

(3)

حديث صحيح، أخرجه أحمد، والترمذيّ، وابن ماجه.

(4)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 9/ 225 - 226.

ص: 605

"الكبرى"(3/ 249)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1970)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 115 - 116 و 247)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 175)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(829)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2894 و 3053)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4448 و 4449 و 4450)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 157)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 319)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(2604)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم شرب الخمر، وهو مجمَع عليه، وهو من الكبائر؛ فإن الحدّ لا يكون إلا على ارتكاب كبيرة.

2 -

(ومنها): بيان وجوب الحدّ على"شارب الخمر، سواء شرب قليلًا، أو كثيرًا، واختلفوا في شارب النبيذ، وهو ما سوى عصير العنب من الأنبذة المسكرة على قولين:

أحدهما: إلحاقه بشارب الخمر، وإن كان يَعتقد إباحة النبيذ، وهو قول الشافعيّ، ومالك، وأحمد، وجماهير العلماء سلفًا وخلفًا.

والثاني: لا يحدّ شاربه، وهو قول أبي حنيفة، والكوفيين، وقال أبو "ثور: لا يُجدّ معتقد تحريم النبيذ، دون غيره

(1)

.

3 -

(ومنها): أن قَدْر حدّ الخمر أربعون، وبه قال الشافعيّ، وأبو ثور، وداود، وأهل الظاهر، وغيرهم، قال الشافعيّ: وللإمام أن يبلغ به ثمانين لقعل عمر والصحابة رضي الله عنهم، بل روى عبد الرزّاق أنه صلى الله عليه وسلم فعله، ولكنه لا يصحّ، كما قال ابن حزم رحمه الله.

وقال مالك، وأبو حنيفة، والأوزاعيّ، والثوريّ، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر: حدّه ثمانون، وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

4 -

(ومنها): حصول الجلد في الخمر بالجريد، وهو إجماع، ومثله النعال، وأطراف الثياب.

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 9/ 227.

ص: 606

5 -

(ومنها): مشاورة الإمام، والقاضي، والمفتي أصحابه، وحاضري مجلسه في الأحكام.

6 -

(ومنها): جواز القياس، والعمل به، والاستحسان عند الحاجة إليه

(1)

، والله تعالى أعلم. بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في أقوال أهل العلم في شرب المسكرات:

قال العلامة ابن قُدامة رحمه الله ما حاصله: كل مسكر حرام قليله وكثيره، وهو خمر، حكمه حكم عصير العنب في تحريمه، ووجوب الحدّ على شاربه، وروي تحريم ذلك عن عمر، وعليّ، وابن مسعود، وابن عمر، وأبي هريرة، وسعد بن أبي وقاص، وأُبيّ بن كعب، وأنس، وعائشة رضي الله عنهم، وبه قال عطاء، وطاوس، ومجاهد، والقاسم، وقتادة، وعمر بن عبد العزيز، ومالك، والشافعيّ، وأبو ثور، وأبو عبيد، وإسحاق.

وقال أبو حنيفة في عصير العنب: إذا طُبخ فذهب ثلثاه، ونقيع التمر والزبيب، إذا طُبخ وإن لم يذهب ثلثاه، ونبيذ الحنطة، والذرة، والشعير، ونحو ذلك نَقيعًا كان أو مطبوخًا كل ذلك حلال، إلا ما بلغ السُّكر، فأما عصير العنب إذا اشتدّ، وقَذَف زَبَده، وطبخ، فذهب أقل من ثلثيه، ونقيع التمر، والزبيب إذا اشتد بغير طبخ، فهذا محرّم قليله وكثيره؛ لِمَا رَوَى ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"حُرِّمت الخمرة لِعَيْنها، والمُسْكِرْ من كل شراب".

قال: ولنا ما رَوَى ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ "كلُّ مسكر خمر، وكل خمر حرام"، وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أسكر كثيره فقليله حرام"، رواهما أبو داود، والأثرم، وغيرهما، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل مسكر حرام - قال - وما أسكر منه الفَرَق فمِلْء الكفّ منه حرام"، رواه أبو داود وغيره، وقال عمر رضي الله عنه:"نزل تحريم الخمر، وهي من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والخمر ما خامر العقل"، مُتّفقٌ عليه، ولأنه مسكر أشبه عصير العنب.

فأما حديثهم فقال أحمد: ليس في الرخصة في المُسْكِر حديث صحيح،

(1)

راجع: "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 9/ 226 - 229.

ص: 607

وحديث ابن عباس رواه مِسعر، عن أبي عون، عبد الله بن شداد، عن ابن عباس، قال:"والسُّكر من كل شراب". وقال ابن المنذر: جاء أهل الكوفة بأحاديث معلولة ذكرناها مع عللها، وذكر الأثرم أحاديثهم التي يحتجون بها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم والصحابة فضعّفها كلها، وبَيَّن عللها، وقد قيل: إن خبر ابن عباس موقوف عليه، مع أنه يَحْتمل أنه أراد بالسُّكْر: المسكر من كل شراب، فإنه يَروي هو وغيره عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"كل مسكر حرام". انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله

(1)

، وهو بحث مفيد، وقد استوفيت البحث في هذا في "شرح النسائيّ"، فراجعه

(2)

تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في شرب قليل المسكر:

قال ابن قُدامة رحمه الله: يجب الحدّ على من شرب قليلًا من المسكر أو كثيرًا، ولا نعلم بينهم خلافًا في ذلك في عصير العنب غير المطبوخ، واختلفوا في سائرها، فذهب إمامنا إلى التسوية بين عصير العنب، وكل مسكر، وهو قول الحسن، وعمر بن عبد العزيز، وقتادة، ولأوزاعيّ، ومالك، والشافعيّ.

وقالت طائفة: لا يُحدّ إلا أن يَسْكَر، منهم: أبو وائل، والنخعيّ، وكثير من أهل الكوفة، وأصحاب الرأي، وقال أبو ثور: من شربه معتقدًا تحريمه حُدّ، ومن شربه متأوّلًا فلا حد عليه؛ لأنه مختلَف فيه، فأشبه النكاح بلا وليّ.

قال: ولنا ما رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من شرب الخمر فاجلدوه"، رواه أبو داود، وغيره، وقد ثبت أن كل مسكر خمر، فيتناول الحديث قليله وكثيره، ولأنه شراب فيه شدةٌ مُطْرِبة، فوجب الحد بقليله كالخمر، والاختلاف فيه لا يمنع وجوب الحدّ فيها، بدليل ما لو اعتقد تحريمها، وبهذا فارق النكاح بلا وليّ ونحوه من المختلَف فيه، وقد حَدّ عمر قُدامة بن مظعون وأصحابه، مع اعتقادهم حِلّ ما شربوه، والفرق بين هذا وبين سائر المختلَف فيه من وجهين:

أحدهما: أن فِعل المختلَف فيه ههنا داعية إلى فعل ما أُجمع على تحريمه، وفعل سائر المختلف فيه يصرف عن جنسه من المجمع على تحريمه.

(1)

"المغني" لابن قُدامة رحمه الله 10/ 323 - 323.

(2)

راجع: "ذخيرة العقبى في شرح المجتبى" 40/ 299 - 329.

ص: 608

الثاني: أن السُّنَّة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد استفاضت بتحريم هذا المختلف فيه، فلم يبق فيه لأحد عذر في اعتقاد إباحته، بخلاف غيره من المجتهَدات، قال أحمد بن القاسم: سمعت أبا عبد الله يقول: في تحريم المسكر عشرون وجهًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعضها: "كل مسكر خمر"، وبعضها:"كل مسكر حرام".

انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما ذهب إليه الأولون من أن الحدّ يجب على من شرب مسكرًا قليلًا كان أو كثيرًا، من جميع أنواع المسكر هو الحقّ؛ لكثرة الأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك، كما مرّ في كلام الإمام أحمد رحمه الله المذكور آنفًا، والله تعالى أعلم.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في مقدار حدّ الشرب:

وقال النوويّ رحمه الله: وأما الخمر فقد أجمع المسلمون على تحريم شربها، وأجمعوا على وجوب الحدّ على شاربها، سواء شرب قليلًا أو كثيرًا، وأجمعوا على أنه لا يُقتَل بشربها، وإن تكرر ذلك منه، هكذا حَكَى الإجماع فيه الترمذيّ، وخلائق، وحَكَى القاضي عياض رحمه الله عن طائفة شاذّة أنهم قالوا: يُقتل بعد جلده أربع مرات؛ للحديث الوارد في ذلك، وهذا القول باطلٌ، مخالفٌ لإجماع الصحابة، فمَن بعدهم على أنه لا يُقتل، وإن تكرر منه أكثر من أربع مرات، وهذا الحديث منسوخ، قال جماعة: دلّ الإجماع على نسخه، وقال بعضهم: نَسَخه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة".

قال الجامع عفا الله عنه: دعوى الإجماع، وكذا النسخ للحديث فيه نظر لا يخفى، فقد ألّف بعض المحقّقين

(2)

في ذلك رسالة، فلتطالعها، وكذا حقّق الكلام فيه ابن حزم في "المحلّى"، فلتراجعه، والله تعالى وليّ التوفيق.

قال: واختَلَف العلماء في قدر حدّ الخمر، فقال الشافعيّ، وأبو ثور، وداود، وأهل الظاهر، وآخرون: حدّه أربعون، قال الشافعيّ رحمه الله: وللإمام أن

(1)

"المغني" لابن قُدامة 10/ 323.

(2)

هو الشيخ أحمد محمد شاكر المصريّ رحمه الله.

ص: 609

يبلغ به ثمانين، وتكون الزيادة على الأربعين تعزيرات على تسببه في إزالة عقله، وفي تعرضه للقذف، والقتل، وأنواع الإيذاء، وترك الصلاة، وغير ذلك.

ونَقَل القاضي عن الجمهور من السلف، والفقهاء، منهم مالك، وأبو حنيفة، والأوزاعيّ، والثوريّ، وأحمد، وإسحاق - رحمهم الله تعالى - أنهم قالوا: حدّه ثمانون.

واحتجوا بأنه الذي استقرّ عليه إجماع الصحابة رضي الله عنهم، وأن فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن للتحديد، ولهذا قال في الرواية الأولى:"نحو أربعين".

وحجة الشافعيّ، وموافقيه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما جلد أربعين - كما صُرِّح به في الرواية الثانية - وأما زيادة عمر فهي تعزيرات، والتعزير إلى رأي الإمام إن شاء فعله، وإن شاء تركه بحسب المصلحة في فِعْله، وتَرْكه فرآه عمر ففعله، ولم يره النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر، ولا عليّ فتركوه، وهكذا يقول الشافعيّ رحمه الله: إن الزيادة إلى رأي الإمام، وأما الأربعون فهي الحد المقدر الذي لا بُدّ منه، ولو كانت الزيادة حدًّا لم يتركها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر رضي الله عنه، ولم يتركها عليّ رضي الله عنه بعد فعل عمر رضي الله عنه، ولهذا قال عليّ رضي الله عنه:"وكلٌّ سُنّة"، معناه الاقتصار على الأربعين، وبلوغ الثمانين، فهذا الذي قاله الشافعيّ رحمه الله هو الظاهر الذي تقتضيه هذه الأحاديث، ولا يُشكل شيء منها. انتهى كلام النوويّ

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما ذهب إليه الشافعيّ، ومن معه من أن الحدّ المقدّر في الخمر أربعون جلدةً، فقط، وأما الثمانون فمن باب التعزير، فإن رأى الإمامُ يفعله، كما فعله عمر رضي الله عنه، وإن شاء تركه، كما تركه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعليّ رضي الله عنهما هو الأرجح؛ لوضوح حجّته، فتأمله بالإمعان، والله تعالى وليّ التوفيق.

[تنبيه]: هذا الذي تقدّم هو حدّ الحرّ، فأما العبد فعلى النصف من الحرّ، كما في الزنى، والقذف، والله أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 217 - 218.

ص: 610

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب "قال:

[4445]

(

) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ، حَدَّثنَا خَالِدٌ - يَعْنِي: ابْنَ الْحَارِثِ - حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، قًالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ) البصريّ، ثقةٌ [10](ت 248)(م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.

2 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) بن عُبيد الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية خالد بن الحارث، عن شعبة هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(5274)

- أخبرنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا خالد، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا قتادة، قال: سمعت أنسًا قال: أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب خمرًا، فضربه بجريدتين نحوًا من أربعين. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4446]

(

) - (حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَلَدَ فِي الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَال، ثُمَّ جَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ، وَدَنَا النَّاسُ مِنَ الرِّيفِ وَالْقُرَى، قَالَ: مَا تَرَوْنَ فِي جَلْدِ الْخَمْرِ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا كَأَخَفِّ الْحُدُود، قَالَ: فَجَلَدَ عُمَرُ ثَمَانِينَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدستوائيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

(1)

"السنن الكبرى" للنسائي 3/ 249.

ص: 611

2 -

(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر الدستوائيّ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

والباقون ذُكروا في الإسنادين الماضيين.

وقوله: (بِالْجَرِيدِ) جمع جريدة، وهي سَعَف النخل، سُمّيت بها؛ لكونها مجرّدة عن الْخُوص، وهو ورق النخل.

وقوله: (وَالنِّعَالِ) بكسر النون، جمع نَعْل، وهي ما يُلبس على الرِّجل.

وقوله: (ثُمَّ جَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ)؛ أي: أربعين جلدة، أو ضربة.

وقوله: (فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ) تقدّم أن "كان" تامة، أو ناقصة، يقدّر خبرها؛ أي: خليفةً.

وقوله: (وَدَنَا النَّاسُ مِنَ الرِّيفِ) بكسر الراء، قال المجد رحمه الله: الرّيف بالكسر: أرضٌ فيها زَرع، وخِصْبٌ، والسعة في المأكل والمشرب، وما قارب الماء من أرض العرب، أو حيث الْخُضَرُ، والمياه والزرع، ورافَ البدويّ يَرِيف: أتاه. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: الريف: المواضع التي فيها المياه، أو هي قريبة منها، ومعناه: لَمّا كان زمن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، وفُتحت الشام والعراق، وسكن الناس في الريف، ومواضع الْخِصب، وسعة العيش، وكثرة الأعناب، والثمار أكثروا من شرب الخمر، فزاد عمر رضي الله عنه في حدّ الخمر؛ تغليظًا عليهم، وزجرًا لهم عنها. انتهى

(2)

.

وقوله: (وَالْقُرَى) بضم، ففتح: جمع قرية على غير قياس، قال الفيّوميّ رحمه الله: القَرْيةُ: كلُّ مكان اتَّصَلت به الأبنية، واتُّخِذ قرَارًا، وتقع على المدن، وغيرها، والجمع: قُرًى، على غير قياس، قال بعضهم: لأن ما كان على فَعْلة من المعتلّ، فبابه أن يُجمَعَ على فِعَالٍ بالكسر، مثل ظَبْية وظِبَاء، ورَكْوة ورِكَاء، والنسبة إليها قَرَويّ، بفتح الراء، على غير قياس. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فلمَّا كان عمر

إلخ" "كان" هنا تامَّةٌ،

(1)

"القاموس المحيط" ص 546.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 218.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 501.

ص: 612

وفي الكلام حذفٌ؛ أي: لَمّا وقع، وَوُجِد زمن خلافة عمر، والرِّيف: أرض الزرع والخصب. والجمع: أرياف. يقال: أَرَافَت الأرض - رباعيًّا - أخصبت، ورافت الماشية: إذا رعت الريف. وأَريفْنا؛ أي: صرنا إلى الريف، قاله في "الصحاح"، ويعني بذلك: أنَّه لمّا فُتحت البلاد بالشَّام وغيرها، وكثرت الكروم ظهر في الناس شُرْبُ الخمر، فشاور عمرُ الصحابةَ رضي الله عنهم في التشديد في العقوبة عليها، فتفاوضوا في ذلك، واتفقوا على إلحاقها بحدِّ القذف؛ لأنَّه أخفّ الحدود، كما قال عبد الرحمن، وقد جاء في "الموطأ": أن عمر لَمَّا استشارهم في ذلك قال علي: نرى أن تجلده ثمانين، فإنه إذا شرب سكر، وإذا سَكِرَ هَذَى، وإذا هَذَى افترى. فصرَّح بكيفية الإلحاق. وحاصلها راجعٌ: إلى أنه أقام السُّكر مقامَ القذف؛ لأنه لا يخلو عنه غالبًا، فأعطاه حكمه، فكان هذا الحديث من أوضح حجج القائلين بالقياس والاجتهاد؛ إذ هذه القضيةُ نصٌّ منهم على ذلك. وهم الملأ الكريم. وقد انتشرت القضيةُ في ذلك الزَّمان، وعُمل عليها في كل مكانٍ، ولم يتعرَّض بالإنكار عليها إنسان، مع تكرار الأعصار، وتباعد الأقطار، فكان ذلك إجماعًا على صحة العمل بالقياس الذي لا ينكره إلا الأغبياء من الناس. وقد أورد بعض من يتعاطى العلم الجدلي على هذا النظر الشديد العَلَوِي أن قال: إنْ حُكم للسُّكر بحكم القذف - لأنه مظنَّته - فليُحْكَم له بحكم الزِّنى والقتل لأنه مظنتهما. وأيضًا: فلأنه يلزم عليه ألا يُحَدَّ على مجرد الشرب، بل على السُّكر خاصةً، لأنَّه هو المظنَّة، لا الشُرب. وقد حدُّوا على شرب الخمر وإن لم يَسْكر. فدلَّ على أن السُّكر ليس معتبرًا في الحدّ، فلا يكون علَّة له، ولا مظنَّة.

والجواب عن الأول: منعُ كون السُّكر مظنة للزنى والقتل؛ لأنَّ المظنَّة اسم لما يُظن فيها تحقق المعنى المناسب غالبًا. ومن المعلوم: أن السُّكر لا يخلو عن الهذيان والقذف غالبًا في عموم الأوقات والأشخاص، وليس كذلك الزنى والقتل؛ فإن ذلك إن وقع فنادرٌ، وغير غالبٍ. والوجود يحققه.

والجواب عن الثاني: أن الحدّ على قليل الخمر لمّا هو من باب سدِّ الذرائع؛ لأنَّ القليل يدعو إلى الكثير، والكثير يُسكر، والسُّكر المظنَّة، كما

ص: 613

قررته الصحابة رضي الله عنهم؛ فهم الأسوة، وفيهم القدوة. انتهى

(1)

.

وقوله: (مَا تَرَوْنَ

إلخ) "ما استفهاميّة؛ أي: أيَّ شيء ترون في مقدار جلد الخمر؟

وقوله: (فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا في "صحيح مسلم" وغيره أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه هو الذي أشار بهذا، وفي "الموطأ" وغيره أنه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وكلاهما صحيح، وأشارا جميعًا، ولعل عبد الرحمن بدأ بهذا القول، فوافقه عليّ وغيره، فنُسب ذلك في رواية إلى عبد الرحمن رضي الله عنه؛ لِسَبْقه به، ونَسَبه في رواية إلى عليّ رضي الله عنه؛ لفضيلته، وكثرة علمه، ورجحانه على عبد الرحمن رضي الله عنه. انتهى

(2)

.

وقوله: (أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا) الضمير للعقوبة التي هي حدّ الخمر.

وقوله: (كَأَخَفِّ الْحُدُودِ) قال النوويّ رحمه الله: يعني المنصوص عليها في القرآن، وهي: حدّ السرقة بقطع اليد، وحدّ الزنى جلد مائة، وحدّ القذف ثمانين، فاجعلها ثمانين كأخف هذه الحدود، وفي هذا جواز القياس، واستحباب مشاورة القاضي، والمفتي، أصحابه، وحاضري مجلسه في الأحكام. انتهى

(3)

.

والحديث بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى تمام البحث فيه قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4447]

(

) - (حَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنا هِشَامٌ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، تقدّم قريبًا.

والباقيان ذُكرا قبله.

(1)

"المفهم" 5/ 132 - 133.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 218 - 219.

(3)

"شرح النوويّ" 11/ 216.

ص: 614

[تنبيه]: رواية يحيى بن سعيد القطّان، عن هشام الدستوائيّ هذه ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(3127)

- حدّثنا عبيد الله، حدّثنا يحيى بن سعيد، عن هشام، عن قتادة، عن أنس، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ضَرَب على الخمر بالنعال والجريد، وجلد أبو بكر بيده، فلما كان عمر، ودنا الناس من القرى والرِّيف، ذكر ذاك لأصحابه، فقال عبد الرحمن بن عوف: اجعلها كأخف الحدود، قال: فجلد ثمانين. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4448]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَضْرِبُ فِي الْخَمْرِ بِالنِّعَالِ وَالْجَرِيدِ أَرْبَعِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِهِمَا، وَلَمْ يَذْكُرِ الرِّيفَ وَالْقُرَى).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.

2 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قبل بابين.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (بِالنِّعَالِ وَالْجَرِيدِ) قال النوويّ رحمه الله: أجمع العلماء على حصول حدّ الخمر بالجلد بالجريد، والنعال، وأطراف الثياب، واختلفوا في جوازه بالسوط، وهما وجهان لأصحابنا، الأصحّ الجواز، وشذّ بعض أصحابنا فشَرَط فيه السوط، وقال: لا يجوز بالثياب والنعال، وهذ غلط فاحشٌ مردود على قائله؛ لمنابذته لهذه الأحاديث الصحيحة، قال أصحابنا: وإذا ضربه بالسوط يكون سوطًا معتدلًا في الحجم بين القضيب والعصا، فإن ضربه بجريدة، فلتكن خفيفة بين اليابسة والرطبة، ويضربه ضربًا بين ضربين، فلا يرفع يده فوق رأسه، ولا يكتفي بالوضع، بل يرفع ذراعه رفعًا معتدلًا. انتهى

(2)

.

(1)

"مسند أبي يعلى" 5/ 434.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 218.

ص: 615

[تنبيه]: رواية وكيع، عن هشام الدستوائيّ، هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(17311)

- وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو عمرو الْحِيريّ، أنبأ الحسن بن سفيان، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا وكيع، عن هشام، عن قتادة، عن أنس، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يَضْرِب في الخمر بالنعال والجريد أربعين، وأبو بكر رضي الله عنه ضَرَبَ أربعين، فلمّا وَلي عمر رضي الله عنه سئل عن ذلك، فشاورهم عمر، فقال ابن عوف رحمه الله: أَرَى أن تضربه ثمانين، فضربه ثمانين. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4449]

(1707) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدثَنَا إِسْمَاعِيلُ - وَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ - عَنِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ الدَّانَاجِ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ - وَاللَّفْظُ لَهُ - أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا عبد العَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَار، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ فَيْرُوزَ مَوْلَى ابْنِ عَامِرٍ الدَّانَاجُ، حَدَّثَنَا حُضَيْنُ بْنُ الْمُنْذِرِ أَبُو سَاسَانَ، قَالَ: شَهِدْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَأُتِيَ بِالْوَلِيد، قَدْ صَلَّى الصُّبْحَ رَكْعَتَيْن، ثُمَّ قَالَ: أَزِيدُكُمْ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلَان، أَحَدُهُمَا حُمْرَانُ، أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّأُ، فَقَالَ عُثْمَانُ: إِنَّهُ لَمْ يَتَقَيَّأْ حَتَّى شَرِبَهَا، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ قُمْ فَاجْلِدْهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: قُمْ يَا حَسَنُ فَاجْلِدْهُ، فَقَالَ الْحَسَنُ: وَلِّ حَارَّهَا مَنْ تَوَلَّى قَارَّهَا - فَكَأَنَّهُ وَجَدَ عَلَيْهِ - فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ جَعْفَرٍ، قُمْ فَاجْلِدْهُ، فَجَلَدَهُ، وَعَلِيٌّ يَعُدُّ، حَتَّى بَلَغَ أَرْبَعِينَ، فَقَالَ: أَمْسِكْ، ثُمَّ قَالَ: جَلَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعِينَ، وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَعُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ. زَادَ عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ في رِوَايَتِهِ: قَالَ اِسْمَاعِيلُ: وَقَدْ سَمِعْتُ حَدِيثَ الدَّانَاجِ مِنْهُ، فَلَمْ أَحْفَظْهُ).

(1)

"سنن البيهقي الكبرى" 8/ 319.

ص: 616

رجال هذا الإسناد: أحد عشر:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجرٍ) السعديّ المروزيّ، ثقة حافظ، من صغار [9](ت 244) وقد قارب المائة، أو جاوزها (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

3 -

(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) تقدّم قبل بابين.

4 -

(ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ) سعيد، تقدّم قريبًا.

5 -

(عَبْدُ اللهِ الدَّانَاجُ)

(1)

هو ابن فَيْرُوز، ثقةٌ [5](خ م د س ق) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 14/ 1674.

[تنبيه]: يوجد في النسخ المطبوعة بضبط القلم ضَبْط قوله: "الداناج" في السند الثاني بالجرّ، وهو غلط، لأنه صفة لعبد الله بن فيروز، لا لابن عامرٍ، فتنبّه.

6 -

(يَحْيَى بْنُ حَمَّادِ) بن أبي زياد الشيبانيّ مولاهم البصريّ، خَتَن أبي عوانة، ثقةٌ عابدٌ، من صغار [9](ت 215)(خ م خد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 41/ 272.

7 -

(عبدُ العَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ) الدبّاغ البصريّ، مولى حفصة بنت سيرين، ثقةٌ [7](ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 14/ 1674.

8 -

(حُضَيْنُ بْنُ الْمُنْذِرِ أَبُو سَاسَانَ) هو: حُضين - بضاد معجمة، مصغّرًا - ابن المنذر بن الحارث بن وَعْلَة الرَّقَاشيّ - بتخفيف القاف، وبالشين المعجمة - أبو ساسان - بسينين مهملتين - وهو لقبٌ، وكنيته أبو محمد البصريّ، كان من أُمراء عليّ رضي الله عنه بصفّين، وهو ثقة [2].

رَوَى عن عثمان، وعليّ، والمهاجر بن قُنفذ، وأبي موسى، ومجاشع بن مسعود.

وروى عنه الحسن البصريّ، وداود بن أبي هند، وعبد الله بن فيروز الداناج، وابنه يحيى بن حُضين، وغيرهم.

قال العجليّ، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن خِرَاش: صدوق، وقال أبو

(1)

الداناج بالدال المهملة، والنون، والجيم، ويقال له أيضًا: الدانا، بحذف الجيم، والداناه بالهاء، ومعناه بالفارسيّة: العالم. انتهى. "شرح النوويّ" 11/ 219.

ص: 617

أحمد العسكريّ: كان صاحب راية عليّ يوم صِفِّين، ثم ولاه إصطخر، وكان من سادات ربيعة، ولا أعرف حُضينًا بالضاد غيره، وغير من يُنسب إليه من ولده، وكذا ذكره في أمراء صِفين: العجليّ، وخليفة، وأبو عبيدة، ويعقوب بن سفيان، وقال خليفة: أدرك سليمان بن عبد الملك، وقال أبو بكر بن منجويه: مات سنة (97)، ذكره البخاريّ في "تاريخه" الصغير، والأوسط في فصل من مات بعد المائة، وقال ابن سعد: كان قليل الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات".

تفرّد به المصنّف، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله

(1)

.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه مسلسل بالبصريين سوى شيوخه، وفيه حُضين أبو ساسان لا يوجد في الرواة من اسمه حُضين بالضاد المعجمة مصغّرًا، وكذا من يلقّب أبا ساسان غيره، وقد تقدّم هذا في "شرح المقدّمة".

شرح الحديث:

(قَالَ) حُضين بن المنذر (شَهِدْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ) رضي الله عنه (وَأُتِيَ بِالْوَلِيدِ) بالبناء للمفعول، والجملة في محلّ نصب على الحال، والوليد هذا هو: ابن عقبة بن أبي مُعَيط، ظهر عليه أنه شرب الخمر، فكثر على عثمان فيه، فلمّا شُهد عنده بأنه شربها أقام عليه الحدّ، كما ذُكر، قاله القرطبيّ

(2)

.

وقال في "الفتح": الوليد هو: ابن عقبة بن أبي مُعَيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس، وكان أخا عثمان رضي الله عنه لأمه، وكان عثمان وَلّاه الكوفة بعد عزل سعد بن أبي وقاص، فإن عثمان كان ولاه الكوفة لَمّا وَلي الخلافة بوصية من عمر رضي الله عنه، ثم عزله بالوليد، وذلك سنة خمس وعشرين، وكان سبب ذلك أن سعدًا كان أميرها، وكان عبد الله بن مسعود على بيت المال، فاقتَرَض سعد

(1)

ذُكر في الباب قبله: إسحاق بن راهويه، وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.

(2)

"المفهم" 5/ 133.

ص: 618

منه مالًا، فجاءه يتقاضاه، فاختصما، فبلغ عثمان، فغضب عليهما، وعزل سعدًا، واستَحْضَر الوليد، وكان عاملًا بالجزيرة على عُسر بها، فولاه الكوفة، وذكر ذلك الطبريّ في "تاريخه". انتهى

(1)

.

(قَدْ صَلَّى الصُّبْحَ رَكعَتَيْنِ) هكذا رواية مسلم، وذكر ابن عبد البرّ في "الاستيعاب" من نفس طريق عبد العزيز بن المختار أنه صلّى أربعًا، ولكنه لم يذكر الرواة قبل عبد العزيز، والصحيح المعروف ما "صحيح مسلم" أنه صلى ركعتين، (ثُمَّ قَالَ: أَزِيدُكُمْ)؛ أي: لكونه سكران، (فَشَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلَان، أَحَدُهُمَا حُمْرَانُ) - بضمّ الحاء المهملة، وسكون الميم - ابن أبان، مولى عثمان بن عفّان رضي الله عنه، اشتراه زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان ثقةً، ومات سنة (75) وقيل غير ذلك، وتقدّمت ترجمته في "الإيمان" 10/ 144.

(أَنَّهُ)، أي: الوليد (شَرِبَ الْخَمْرَ، وَشَهِدَ آخَرُ) قال في "الفتح": الشاهد الآخر الذي لم يُسَمّ في هذه الرواية قيل: هو الصعب بن جَثَّامة الصحابيّ المشهور رضي الله عنه، رواه يعقوب بن سفيان في "تاريخه"، وعند الطبريّ من طريق سيف في "الفتوح" أن الذي شَهِد عليه ولد الصعب، واسمه جَثّامة كاسم جده، وفي رواية أخرى: أن ممن شهد عليه أبا زينب بن عوف الأسديّ، وأبا مورع الأسديّ، وكذلك رَوَى عُمر بن شَبّة في "أخبار المدينة" بإسناد حسن إلى أبي الضُّحَى، وقال: لَمّا بلغ عثمان قصة الوليد استشار عليًّا، فقال: أرى أن تستحضره، فإن شهدوا عليه بمحضر منه حَدَدْته، ففعل، فشَهِد عليه أبو زينب، وأبو مورع، وجندب بن زهير الأزديّ، وسعد بن مالك الأشعريّ، فذكر نحو رواية أبي ساسان، وفيه:"فضربه بمخصرة لها رأسان، فلما بلغ أربعين قال له: أمسك"، وأخرج من طريق الشعبيّ قال: قال الْحُطيئة في ذلك [من الكامل]:

شَهِدَ الْحُطَيْئَةُ يَوْمَ يَلْقَى رَبَّهُ

أَنَّ الْوَلِيدَ أَحَقُّ بِالْعُذْرِ

نَادَى وَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُمُ

أَأَزِيدُكُمْ سَفَهًا وَمَا يَدْرِي

فَأَتَوْا أَبَا وَهْبٍ وَلَوْ أَذِنُوا

لَقَرَنْتَ بَيْنَ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ

كَفُّوا عِنَانَكَ إِذْ جَرَيْتَ وَلَوْ

تَرَكُوا عِنَانَكَ لَمْ تَزَلْ تَجْرِي

(1)

"الفتح" 8/ 395 - 396، كتاب "فضائل الصحابة" رقم (3693).

ص: 619

وذكر المسعوديّ في "المروج" أن عثمان قال للذين شهدوا: وما يدريكم أنه شرب الخمر؟ قالوا: هي التي كنا نشربها في الجاهلية، وذكر الطبريّ

(1)

أن الوليد وَلِيَ الكوفة خمس سنين، قالوا: وكان جوادًا، فولى عثمان بعده سعيد بن العاص، فسار فيهم سِيرة عادلة، فكان بعض الموالي يقول [من مشطور الرجز]:

يَا ويلَنَا قَدْ عُزِلَ الْوَلِيدُ

وَجَاءَنَا مُجَوِّعًا سَعِيدُ

يَنْقُصُ فِي الصَّاعِ وَلَا يَزِيدُ

فَجُوِّعَ الإِمَاءُ وَالْعَبِيدُ

(2)

(أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّأُ فَقَالَ عُثْمَانُ) رضي الله عنه (إِنَّهُ)؛ أي: إن الوليد، ويَحْتَمِل أن يكون الضمير للشأن، (لَمْ يَتَقَيَّأْ حَتَّى شَرِبَهَا) هذا بيان صريح في كون عثمان رضي الله عنه جلد الوليد لثبوت شرب الخمر منه، وهو الذي يدلّ عليه سياق القصّة هنا في مسلم، ومما يُتعجّب منه أن بعض شراح مسلم

(3)

نفى أن تكون رواية مسلم هذه تدلّ على هذا، ثم دافع عن الوليد بما ذَكَره الطبريّ في "تاريخه" بسند ضعيف، من أنه لم يثبت عليه شرب الخمر أصلًا، وإنما هؤلاء الذين شهدوا عليه عند عثمان رضي الله عنه كلهم شهود زور، اثم أجاب عن ضعف الإسناد عند الطبريّ بجواب عجيب لم يُسمع مثله عن أحد ممن يعتني بالحديث، ولا سيّما بشرح "صحيح مسلم"، وهو أن الراوي الضعيف، لا يكذب، ولا يُخطئ دائمًا إلى آخر ما قاله. سبحان الله، هل يضعّف ما دلّ عليه "صحيح مسلم" بمثل هذه الترّهات؟ فإنا لله، وإنا إليه راجعون.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فشهد حمران

إلخ" فيه من الفقه تلفيق الشهادتين إذا أدَّتا إلى معنى واحد، فإن أحدهما شَهِد برؤية الشرب، والآخر بما يستلزم الشرب، ولذلك قال عثمان: إنَّه لم يتقيَّأ حتى شربها، غير أنَّه قد ذكر الْحُمَيْدِيّ محمد بن أبي نصر في حديث عمر حين شهد عنده الجارود: بأن قُدامة شرب الخمر، ثمَّ دعا بأبي هريرة وقال: علام تشهد؟ قال: لم أره حين شرب! وقد رأيته سكران يقيء، فقال عمر: لقد تنظَعتَ يا أبا هريرة في

(1)

راجع: "تاريخ الطبريّ" 3/ 330 - 331.

(2)

"الفتح" 8/ 398 - 399، كتاب "فضائل الصحابة" رقم (3696).

(3)

هو صاحب "تكملة فتح الملهم". راجع ما كتبه في 2/ 500 - 502.

ص: 620

الشهادة! فلمَّا استحضر قُدامة أنكر، فقال أبو هريرة: يا أمير المؤمنين! إن كنت تشك في شهادتي فَسَلْ بنت الوليد امرأة ابن مظعون فأرسل عمر إلى هند ينشدها بالله. فأقامت هند على زوجها الشهادة، فجلده. فظاهر هذا: أن عمر لم يسمع شهادة أبي هريرة لمّا قال له: أنَّه لم يره يشرب، وإنَّما رآه يتقيَّأ.

والجواب: أن عمر رضي الله عنه إنَّما توقّف في شهادة أبي هريرة؛ لأنَّ أبا هريرة سلك في أداء الشهادة مسلك من يُخبر بتفصيل قرائن الأحوال التي أفادته العلم بالمشهود فيه، ومهما شرع الشاهد في تفصيل ذلك وحكايته لم يحصل لسامع الشهادة الجزم بصحتها، لأنَّ قرائن الأحوال لا تنضبط بالحكاية عنها، وإنما حق الشاهد أن يعرض عنها، ويقْدِم على الأداء إقدام الجازم المخبر عن علم حاصل، فكان توقُّف عمر لذلك. ثمَّ إن أبا هريرة لمّا جزم في الشهادة سمعها عُمر وحَكَم بها، لكنه استظهر بقول هند على عادته في الاستظهار في الشهادات والإخبار، ولا يَظُنّ به: أنه ردَّ شهادة أبي هريرة، وقَبِل شهادة امرأة في الحدود، إلا من هو عن المعارف مصدود. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ: يَا عَلِيُّ) يعني: ابن أبي طالب رضي الله عنه (قُمْ فَاجْلِدْهُ) قال النوويّ رحمه الله: معنى هذا الحديث أنه لمّا ثبت الحدّ على الوليد بن عقبة، قال عثمان رضي الله عنه وهو الإمام لعليّ رضي الله عنه على سبيل التكريم له، وتفويض الأمر إليه في استيفاء الحدّ -: قُمْ، فاجلده؛ أي: أَقِمْ عليه الحدّ، بأن تأمر من ترى بذلك، فقَبِل عليّ رضي الله عنه ذلك، فقال للحسن ابنه: قُم، فاجلده، فامتنع الحسن، فقال لابن جعفر، فقَبِل، فجَلَده، وكان عليّ مأذونًا له في التفويض إلى من رأى كما ذكرناه. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليل على أن الحدَّ إنَّما ينبغي أن يقيمه بين أيدي الخلفاء والحكام فضلاءُ الناس، وخيارهم، وكذلك كانت الصحابة رضي الله عنهم تفعل كلَّما وقع لهم شيء من ذلك، وسبب ذلك: أنَّه قيامٌ بقاعدةٍ شرعية، وقُربة تعبديَّة تجب المحافظة على فعلها، وقدْرها، ومحلِّها، وحالها، بحيث لا يُتَعَدَّى من شروطها، ولا أحكامها، ولذلك يجب عند جميع العلماء أن يختار

(1)

"المفهم" 5/ 133 - 134.

(2)

"شرح مسلم" 11/ 219.

ص: 621

لها أهل الفضل، والعدل؛ إذا أمكن ذلك مخافة التعدِّي في الحدود. وقد وقع في زماننا من جلد في الخمر ثمانين، فتعدَّى عليه الضاربُ، فقتله بها، وحُرْمةُ دم المسلم عظيمة، فتجب مراعاتها بكل ممكن. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ عَلِيُّ) رضي الله عنه (قُمْ يَا حَسَنُ) يعني: ولده السبط رضي الله عنه، (فَاجْلِدْهُ) فيه دليل على أن من استنابه الإمام في أمر، فله أن يستنيب من يتنزّل منزلته في ذلك الأمر. (فَقَالَ الْحَسَنُ: وَلِّ حَارَّهَا مَنْ تَوَلَّى قَارَّهَا) قال النوويّ رحمه الله: الحارّ: الشديد المكروه، والقاز: البارد الهنيء الطيِّب، وهذا مَثَل من أمثال العرب، قال الأصمعيّ، وغيره: معناه: وَلِّ شِدّتها، وأوساخها من تولى هنيئها، ولذّاتها، والضمير عائد إلى الخلافة والولاية؛ أي: كما أن عثمان رضي الله عنه وأقاربه يتولّون هنيء الخلافة، ويختصون به، يتولّون نَكَدَها، وقاذوراتها، ومعناه: ليتولَّ هذا الجَلْد عثمان بنفسه، أو بعض خاصة أقاربه الأدنَيْنَ، والله أعلم. انتهى

(2)

.

(فَكَأَنَّهُ وَجَدَ عَلَيْهِ)؛ أي: كأن عليًّا رضي الله عنه غَضِب على ولده الحسن رضي الله عنه لأجل توقّفه فيما أمره به، وتعريضه بالأمراء، (فَقَالَ) عليّ رضي الله عنه، وهذا هو الظاهر، وقال القرطبيّ: يَحْتَمِل أن يكون الآمر لعبد الله عليًّا، فكأنه أعرض عن الحسن لَمَّا توقف، ويَحْتَمِل أن يكون الحسن استناب عبد الله فيما أمره به عليِّ طلبًا لرضا عليّ رضي الله عنه، والله تعالى أعلم

(3)

.

(يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ جَعْفَرٍ) يعني: ابن أبي طالب الهاشميّ، أحد الأجواد، وُلد بأرض الحبشة، وهو صحابيّ ابن صحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة ثمانين، وهو ابن ثمانين، تقدّمت ترجمته في "الحيض" 19/ 780. (قُمْ فَاجْلِدْهُ، فَجَلَدَهُ)؛ أي: جلد عبدُ الله بن جعفر الوليدَ، وقوله: (وَعَلِيٌّ يَعُدُّ) بفتح حرف المضارعة، وضمّ العين المهملة، مضارع عدّ، من العدّ، والجملة في محلّ نصب على الحال؛ أي: والحال أن عليّ رضي الله عنه يعد تلك الضربات، (حَتَّى بَلَغَ أَرْبَعِينَ) جلدةً (فَقَالَ) عليّ رضي الله عنه لعبد الله: (أَمْسِكْ) بقطع الهمزة: أمر من الإمساك رباعيًّا، يقال: أمسك عن الأمر: إذا كفّ عنه، والمعنى هنا: كُفّ عن الضرب، واتركه.

(1)

"المفهم" 5/ 134 - 135.

(2)

"شرح النوويّ" 11/ 219.

(3)

"المفهم" 5/ 135.

ص: 622

قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهر هذا: أنَّه لم يزد على الأربعين، وفي البخاريّ من حديث المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأسود وذكر هذا الحديث طويلًا، وقال في آخره: إن عليًّا جلد الوليد ثمانين، وهذا تعارُض، غير أن حديث حُضَين - يعني: المذكور هنا - أَولى، لأنَّه مُفَصَّلٌ في مقصوده، حسنٌ في مساقه، ساقه راويه مساق الْمُتثبِّت، والأقرب أن بعض الرواة وَهِمَ في حديث المسور، فوضع "ثمانين" مكان "أربعين". انتهى

(1)

.

وقال الحافظ في "الفتح": قوله: "فجلده ثمانين" في رواية معمر: "فجلد الوليد أربعين جلدةً"، وهذه الرواية أصحّ من رواية يونس، والوَهَم فيه من الراوي عنه، شبيب بن سعيد، ويرجّح رواية معمر ما أخرجه مسلم من طريق أبي ساسان - يعني: حُضينًا - ثم ذكر رواية مسلم هذه. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وقع هنا في مسلم ما ظاهره أن عليًّا جلد الوليد بن عقبة أربعين، ووقع في "صحيح البخاري" من رواية عبد الله بن عديّ بن الخيار أن عليًّا جلد ثمانين، وهي قضية واحدة، قال القاضي عياض: المعروف من مذهب عليّ رضي الله عنه الجلد في الخمر ثمانين، ومنه قوله:"في قليل الخمر وكثيرها ثمانون جلدة"، ورُوي عنه أنه جَلَد المعروف بالنجاشيّ ثمانين، قال: والمشهور أن عليًّا رضي الله عنه هو الذي أشار على عمر بإقامة الحدّ ثمانين، كما سبق عن رواية "الموطأ" وغيره، قال: وهذا كله يرجح رواية مَن رَوَى أنه جلد الوليد ثمانين، قال: ويُجمَع بينه وبين ما ذكره مسلم من رواية الأربعين بما رُوي أنه جلده بسوط له رأسان، فضربه برأسه أربعين، فتكون جملتها ثمانين، قال: ويَحْتَمِل أن يكون قوله: "وهذا أحب إليّ" عائدًا إلى الثمانين التي فعلها عمر رضي الله عنه، قال النوويّ: فهذا كلام القاضي، وقد قدّمنا ما يخالف بعض ما قاله، وذكرنا تأويله، والله أعلم. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما مال إليه القاضي من ترجيح القول بأن

(1)

"المفهم" 5/ 135 - 136.

(2)

راجع: "الفتح" 8/ 398، كتاب "فضائل الصحابة" رقم (3696).

(3)

"شرح النوويّ" 11/ 219 - 220.

ص: 623

عليًّا رضي الله عنه جلد الوليد ثمانين، مخالف لِمَا عليه المحقّقون، والصحيح أن رواية البخاريّ أنه جلده ثمانين وَهَمٌ من بعض رواته، وهو شبيب بن سعيد، والصحيح أنه جلده أربعين، كما تقدّم تحقيقه عن الحافظ وغيره، فتنبّه، والله تعالى وليّ التوفيق.

(ثُمَّ قَالَ) عليّ رضي الله عنه مبيّنًا سبب أمره بالإمساك، وعدم الزيادة علي الأربعين:(جَلَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعِينَ، وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَعُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ) قال النوويّ رحمه الله: معناه أن فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر سنةٌ يُعْمَل بها، وكذا فِعل عمر، ولكن فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر أحبّ إليّ. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَهَذَا أَحَبُّ إلَيَّ) إشارة إلى الأربعين التي جلدها، وقال للجلّاد: أمسك، ومعناه: هذا الذي قد جلدته، وهو الأربعون أحبّ إليّ من الثمانين؛ لكونه فِعْل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر رضي الله عنه.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وهذا أحبُّ إليّ" ظاهره أنَّه أشار إلى الأربعين التي أَمر بالإمساك عليها، وقد رُوي: أن المعروف من مذهبه الثمانون، فيكون له في ذلك القولان، لكنه دام هو على الثمانين لَمّا كَثُر الإقدام على شرب الخمر.

وحاصل هذا الاختلاف في الأحاديث، وبين الصحابة راجع إلى أنه لم يتقدَّر في الخمر حدٌّ محدود، وإنما كان الأدب والتعزير، لكن استقرّ الأمر: أن أقصى ما بلغ فيه إلى الثمانين، فلا يُزاد عليها بوجه، وقد نصَّ على هذا المعنى السائب بن يزيد رضي الله عنه فيما خرَّجه البخاريّ قال: كنَّا نُؤتَى بالشارب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإِمرة أبي بكر، وصدرًا من خلافة عمر، فنقوم إليه بأيدينا، ونعالنا، وأرديتنا حتى كان آخر إمرة عمر، فجلد أربعين، حتى إذا عَتَوا وفَسَقُوا جلد ثمانين، وعلى هذا فلا ينبغي أن يُعْدَل عن الثمانين؛ لأنَّه الذي استقرَّ عليه آخر أمر الصحابة أجمعين. انتهى

(2)

.

وقوله: (زَادَ عَلِيُّ بْنُ حُجْرِ فِي رِوَايَتِهِ: قَالَ إِسْمَاعِيلُ) يعني: ابن عُليّة، (وَقَدْ سَمِعْتُ حَدِيثَ الدَّانَاجِ مِنْهُ)؛ أي: من الداناج نفسه، (فَلَمْ أَحْفَظْهُ) يعني:

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 216 - 217.

(2)

"المفهم" 5/ 136 - 137.

ص: 624

أنه لم يُتقنه منه كما ينبغي، ثم أتقنه بروايته عن سعيد بن أبي عروبة.

وحاصل معنى كلام إسماعيل ابن عليّة رحمه الله هذا أنه سمع هذا الحديث من عبد الله الداناج من غير واسطة، لكنه لم يُتقنه منه، ثم سمعه بواسطة ابن أبي عروبة، فرواه عنه؛ لكونه حَفِظه، وأتقنه، وإن كانت روايته عن الداناج عالية، إلا أن النزول في مثل هذا هو العلوّ معنى؛ لأن الشرط الأساسيّ في الرواية هو الحفظ والإتقان، لا مجرّد العلوّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عليّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 4449](1707)، و (أبو داود) في "الحدود"(4480)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5269)، و (ابن ماجه) في "الحدود"(2571)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 25)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 82 و 140 و 144)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 230)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 151)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 152)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1/ 389)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(3/ 206)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 316 و 318)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وجود الحدّ في شرب الخمر.

2 -

(ومنها): بيان أن الحدّ يقيمه الإمام، أو من أمره به.

3 -

(ومنها): ما قال النوويّ رحمه الله: هذا دليل على أن عليًّا رضي الله عنه كان معظمًا لآثار عمر وأن حكمه وقوله سنةٌ، وأمْره حقّ، وكذلك أبو بكر رضي الله عنه؛ خلافَ ما تَكْذِبه الشيعة عليه.

وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا دليل واضح على اعتقاد عليّ رضي الله عنه صحة إمامة الخليفتين: أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، وأن حُكمهما يقال عليه: سُنَّةٌ؛ خلافًا للرافضة والشيعة، وهو أعظم حُجَّة عليهم؛ لأنَّه قول متبوعهم؛ الذي يتعصبون

ص: 625

له، ويعتقدون فيه ما يتبرأ هو منه، وكيف لا تكون أقوال أبي بكر وعمر، وأفعالهما سُنَّة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر"؟!. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): أخرج الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" حديث السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: "كنّا نُؤتَى بالشارب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإمرة أبي بكر، فصدرًا من خلافة عمر، فنقوم إليه بأيدينا، ونعالنا، وأرديتنا، حتى كان آخر إمرة عمر، فجلد أربعين، حتى عَتَوْا، وفَسَقوا جلد ثمانين". انتهى.

وقد أفاض الحافظ رحمه الله في شرح هذا الحديث، وذكر فيه مباحث جيّدة مفيدةً لها تعلّق بحديث عليّ رضي الله عنه هذا الذي أخرجه مسلم هنا، أحببت إيرادها هنا ملخّصةً؛ لشدّة تعلّقها بما نحن فيه، من توضيح حديث عليّ رضي الله عنه المذكور، ولا سيّما وقد طعن الطحاويّ في صحّته، كما سيأتي بيانه مع الردّ عليه.

قال رحمه الله: قوله: "حتى كان آخر إمرة عمر فجلد أربعين" ظاهره أن التحديد بأربعين إنما وقع في آخر خلافة عمر، وليس كذلك؛ لِمَا في قصة خالد بن الوليد، وكتابته إلى عمر، فإنه يدلّ على أن أَمْر عمر بجلد ثمانين كان في وسط إمارته؛ لأن خالدًا مات في وسط خلافة عمر، وإنما المراد بالغاية المذكورة أوّلًا استمرار الأربعين، فليست الفاء معقبة لآخر الإمرة، بل لزمان أبي بكر، وبيان ما وقع في زمن عمر، فالتقدير: فاستمرّ جلد أربعين، والمراد بالغاية الأخرى في قوله:"حتى إذا عَتَوا": تأكيد الغاية الأولى، وبيان ما صَنَع عمر بعد الغاية الأولى، وقد أخرجه النسائيّ من رواية المغيرة بن عبد الرحمن، عن الجعيد بلفظ:"حتى كان وسط إمارة عمر، فجلد فيها أربعين، حتى إذا عتوا"، وهذه لا إشكال فيها.

وقوله: "جلد ثمانين" وقع في مرسل عُبيد بن عُمير أحد كبار التابعين فيما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عنه، نحو حديث السائب، وفيه: أن عمر جعله أربعين سوطًا، فلما رآهم لا يتناهون جعله ستين سوطًا، فلما رآهم لا يتناهون جعله ثمانين سوطًا، وقال: هذا أدنى الحدود، وهذا يدل على أنه وافق

(1)

"المفهم" 5/ 136.

ص: 626

عبد الرحمن بن عوف في أن الثمانين أدنى الحدود، وأراد بذلك الحدود المذكورة في القرآن، وهي: حَدُّ الزنا، وحدّ السرقة بالقطع، وحد القذف، وهو أخفها عقوبة، وأدناها عددًا.

وقد مضى من حديث أنس في رواية شعبة وغيره سبب ذلك، وكلام عبد الرحمن فيه، حيث قال: أخفّ الحدود ثمانون، فأمر به عمر.

وأخرج مالك في "الموطأ" عن ثور بن زيد، أن عمر استشار في الخمر، فقال له عليّ بن أبي طالب: نرى أن تجعله ثمانين، فإنه إذا شَرِبَ سَكِر، وإذا سَكِر هَذَى، فإذا هَذَى افترى، فجلد عمر في الخمر ثمانين.

وهذا معضلٌ، وقد وصله النسائيّ، والطحاويّ من طريق يحيى بن فُليح، عن ثور، عن عكرمة، عن ابن عباس مطوّلًا، ولفظه:"إن الشُّرّاب كانوا يُضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأيدي، والنعال، والعصا، حتى تُوُفّي، فكانوا في خلافة أبي بكر أكثر منهم، فقال أبو بكر: لو فرضنا لهم حدًّا، فتوخى نحو ما كانوا يُضربون في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجلدهم أربعين، حتى تُوُفّي، ثم كان عمر، فجلدهم كذلك، حتى أُتِي برجل، فذكر قصة، وأنه تأوّل قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية [المائدة: 93]، وأن ابن عباس ناظره في ذلك، واحتج ببقية الآية، وهو قوله تعالى: {إِذَا مَا اتَّقَوْا}، والذي يرتكب ما حرّمه الله ليس بمتقٍ، فقال عمر: ما ترون؟ فقال عليّ، فَذَكره، وزاد بعد قوله: "وإذا هَذَى افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة"، فأَمَر به عمر، فجلده ثمانين.

ولهذا الأثر عن عليّ طرق أخرى، منها:

ما أخرجها الطبرانيّ، والطحاويّ، والبيهقيّ من طريق أسامة بن زيد، عن الزهريّ، عن حميد بن عبد الرحمن، أن رجلًا من بني كلب، يقال له: ابن دبرة أخبره، أن أبا بكر كان يجلد في الخمر أربعين، وكان عمر يجلد فيها أربعين، قال: فبعثني خالد بن الوليد إلى عمر، فقلت: إن الناس قد انهمكوا في الخمر، واستخفّوا العقوبة، فقال عمر لمن حوله: ما ترون؟ قال: ووجدت عنده عليًّا، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف في المسجد، فقال عليّ، فذكر مثل رواية ثور الموصولة.

ص: 627

ومنها: ما أخرجه عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة: أن عمر شاور الناس في الخمر، فقال له عليّ: إن السكران إذا سَكِر هَذَى. . . الحديث.

ومنها: ما أخرجه ابن أبي شيبة، من رواية أبي عبد الرحمن السُّلَميّ، عن عليّ قال: شَرِب نفر من أهل الشام الخمر، وتأولوا الآية المذكورة، فاستشار عمر فيهم، فقلت: أرى أن تستتيبهم، فإن تابوا ضربتهم ثمانين ثمانين، وإلا ضربت أعناقهم؛ لأنهم استحلوا ما حرّم الله، فاستتابهم، فتابوا، فضربهم ثمانين ثمانين.

وأخرج أبو داود، والنسائيّ من حديث عبد الرحمن بن أزهر، في قصة الشارب الذي ضربه النبيّ صلى الله عليه وسلم بِحُنَين، وفيه: فلما كان عمر كتب إليه خالد بن الوليد: إن الناس قد انهمكوا في الشرب، وتحاقروا العقوبة، قال: وعنده المهاجرون، والأنصار، فسألهم، واجتمعوا على أن يضربه ثمانين، وقال عليّ، فذكر مثله.

وأخرج عبد الرزاق، عن ابن جريج، ومعمر، عن ابن شهاب، قال: فرض أبو بكر في الخمر أربعين سوطًا، وفرض فيها عمر ثمانين.

قال الطحاويّ: جاءت الأخبار متواترة عن عليّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يَسُنّ في الخمر شيئًا، ويؤيده. . . فذكر الأحاديث التي ليس فيها تقييد بعدد: حديثَ أبي هريرة، وحديثَ عقبة بن الحارث المتقدمين، وحديثَ عبد الرحمن بن أزهر:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أُتِي برجل قد شرب الخمر، فقال للناس: اضربوه، فمنهم من ضربه بالنعال، ومنهم من ضربه بالعصا، ومنهم من ضربه بالجريد، ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ترابًا، فرمى به في وجهه".

وتُعُقِّب بأنه قد ورد في بعض طرقه ما يخالف قوله، وهو ما عند أبي داود، والنسائيّ في هذا الحديث:"ثم أتي أبو بكر بسكران، فتوخى الذي كان مِنْ ضَرْبهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضربه أربعين، ثم أُتي عمر بسكران، فضربه أربعين"، فإنه يدلّ على أنه وإن لم يكن في الخبر تنصيص على عدد معين، ففيما اعتمده أبو بكر حجة على ذلك، ويؤيده ما أخرجه مسلم من طريق حُضين - بمهملة، وضاد معجمة، مصغرًا - ابن المنذر: "أن عثمان أمر عليًّا بجلد

ص: 628

الوليد بن عقبة في الخمر، فقال لعبد الله بن جعفر: اجْلِدْه، فجلده، فلما بلغ أربعين قال: أمسك، جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكلٌّ سُنَّة، وهذا أحب إليّ"، فإن فيه الجزم بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم جلد أربعين، وسائر الأخبار ليس فيها عدد، إلا بعض الروايات الماضية عن أنس، ففيها: "نحو الأربعين".

والجمع بينها أن عليًّا أطلق الأربعين، فهو حجة على من ذكرها بلفظ التقريب.

وادَّعَى الطحاويّ أن رواية أبي ساسان هذه ضعيفة؛ لمخالفتها الآثار المذكورة، ولأن راويها عبد الله بن فيروز المعروف بالداناج - بنون، وجيم - ضعيف.

وتعقبه البيهقيّ بأنه حديث صحيح، مخرَّج في المسانيد، والسنن، وأن الترمذيّ سأل البخاريّ عنه، فقوّاه، وقد صححه مسلم، وتلقاه الناس بالقبول.

وقال ابن عبد البر: إنه أثبت شيء في هذا الباب، قال البيهقيّ: وصحة الحديث إنما تُعرف بثقة رجاله، وقد عرفهم حفاظ الحديث، وقبلوهم، وتضعيفه الداناج لا يُقْبَل؛ لأن الجرح بعد ثبوت التعديل لا يُقبل إلا مفسَّرًا، ومخالفة الراوي غيره في بعض ألفاظ الحديث لا تقتضي تضعيفه، ولا سيما مع ظهور الجمع.

قال الحافظ: وَثَّقَ الداناج المذكورَ: أبو زرعة، والنسائيّ، وقد ثبت عن عليّ في هذه القصة من وجه آخر أنه جلد الوليد أربعين، ثم ساقه من طريق هشام بن يوسف، عن معمر، وقال: أخرجه البخاريّ، وهو كما قال، وقد تقدم في مناقب عثمان، وأن بعض الرواة قال فيه:"إنه جلد ثمانين"، وذكرت ما قيل في ذلك هناك

(1)

.

وطَعَن الطحاويّ ومن تبعه في رواية أبي ساسان أيضًا بأن عليًّا قال: "وهذا أحبّ إليّ"؛ أي: جلد أربعين، مع أن عليًّا جلد النجاشي الشاعر في

(1)

الذي تقدّم له هناك توهيم رواية: "جلد ثمانين"، وأن بعض الرواة أخطأ فيه، والصواب رواية:"جلد أربعين".

ص: 629

خلافته ثمانين، وبأن ابن أبي شيبة أخرج من وجه آخر، عن علي:"أن حد النبيذ ثمانون".

والجواب عن ذلك من وجهين:

أحدهما: أنه لا تصح أسانيد شيء من ذلك عن عليّ رضي الله عنه.

والثاني: على تقدير ثبوته، فإنه يجوز أن ذلك يختلف بحال الشارب، وأن حدّ الخمر لا ينقص عن الأربعين، ولا يزاد على الثمانين، والحجة إنما هي في جزمه بأنه صلى الله عليه وسلم جلد أربعين.

وقد جَمَع الطحاويّ بينهما بما أخرجه هو والطبريّ من طريق أبي جعفر محمد بن عليّ بن الحسين أن عليًّا جلد الوليد بسوط له طرفان، وأخرج الطحاويّ أيضًا من طريق عروة مثله، لكن قال: له ذَنَبان، أربعين جلدة في الخمر في زمن عثمان، قال الطحاويّ: ففي هذا الحديث أن عليًّا جلده ثمانين؛ لأن كل سوط سوطان.

وتُعُقّب بأن السند الأول منقطع، فإن أبا جعفر وُلد بعد موت عليّ بأكثر من عشرين سنة، وبأن الثاني في سنده ابن لَهِيعة، وهو ضعيف، وعروة لم يكن في الوقت المذكور مميِّزًا، وعلى تقدير ثبوته فليس في الطريقين أن الطرفين أصاباه في كل ضربة.

وقال البيهقيّ: يَحْتَمِل أن يكون ضَرَبه بالطرفين عشرين، فأراد بالأربعين ما اجتَمَع من عشرين وعشرين، وبوضّح ذلك قوله في بقية الخبر:"وكلٌّ سُنَّةٌ، وهذا أحب إليّ"؛ لأنه لا يقتضي التغاير، والتأويل المذكور يقتضي أن يكون كلٌّ من الفريقين جَلَد ثمانين، فلا يبقى هناك عدد يقع التفاضل فيه.

وأما دعوى من زعم أن المراد بقوله: "هذا" الإشارة إلى الثمانين، فيلزم من ذلك أن يكون عليّ رجَّح ما فَعَلَ عمر على ما فَعَلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وهذا لا يُظَنّ به، قاله البيهقيّ.

واستَدَلّ الطحاويّ لِضَعف حديث أبي ساسان بما تقدَّم ذكره من قول عليّ: "إنه إذا سَكِر هَذَى. . . إلخ"، قال: فلما اعتَمَد عليّ في ذلك على ضرب المِثل، واستخرج الحدّ بطريق الاستنباط دلّ على أنه لا توقيف عنده من الشارع في ذلك، فيكون جزمه بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم جَلَد أربعين غلطًا من الراوي؛ إذ

ص: 630

لو كان عنده الحديث المرفوع لم يَعْدِل عنه إلى القياس، ولو كان عند من بحضرته من الصحابة كعمر، وسائر من ذُكِر في ذلك شيء مرفوع لأنكروا عليه.

وتُعُقّب بأنه إنما يتجه الإنكار لو كان المنزع واحدًا، فأما مع الاختلاف فلا يتجه الإنكار، وبيان ذلك أن في سياق القصة ما يقتضي أنهم كانوا يعرفون أن الحدّ أربعون، وإنما تشاوروا في أمر يحصل به الارتداع، يزيد على ما كان مقرّرًا، ويشير إلى ذلك ما وقع من التصريح في بعض طرقه أنهم احتقروا العقوبة، وانهمكوا، فاقتضى رأيهم أن يُضيفوا إلى الحدّ المذكور قَدْره، إما اجتهادًا بناءً على جواز دخول القياس في الحدود، فيكون الكلّ حدًّا، أو استنبطوا من النص معنى يقتضي الزيادة في الحدّ، لا النقصان منه، أو القدرُ الذي زادوه كان على سبيل التعزير؛ تحذيرًا وتخويفًا؛ لأن من احتَقَر العقوبة إذا عرف أنها غُلِّظت في حقه كان أقرب إلى ارتداعه، فَيَحْتَمِل أن يكونوا ارتدعوا بذلك، ورجع الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك، فرأى عليّ الرجوع إلى الحدّ المنصوص، وأعرض عن الزيادة لانتفاء سببها.

ويَحْتَمِل أن يكون القَدْر الزائد كان عندهم خاصًّا بمن تمرّد، وظهرت منه أمارات الاشتهار بالفجور، ويدلّ على ذلك أن في بعض طرق حديث الزهريّ، عن حميد بن عبد الرحمن، عند الدارقطنيّ وغيره: فكان عمر إذا أُتي بالرجل الضعيف تكون منه الزلّة جلده أربعين، قال: وكذلك عثمان جلد أربعين وثمانين.

وقال المازريّ: لو فَهِمَ الصحابة رضي الله عنهم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حَدّ في الخمر حدًّا معيَّنًا، لَمَا قالوا فيه بالرأي، كما لم يقولوا بالرأي في غيره، فلعلهم فَهِمُوا أنه ضرب فيه باجتهاده في حقّ من ضربه. انتهى.

وقد وقع التصريح بالحدّ المعلوم، فوجب المصير إليه، ورُجِّح القولُ بأن الذي اجتهدوا فيه زيادة على الحدّ إنما هو التعزير، على القول بأنهم اجتهدوا في الحدّ المعيّن؛ لِمَا يلزم منه من المخالفة التي ذكرها، كما سبق تقريره.

وقد أخرج عبد الرزاق، عن ابن جريج، أنبأنا عطاء، أنه سمع عُبيد بن عُمير يقول: "كان الذي يَشرب الخمر يضربونه بأيديهم، ونعالهم، فلما كان

ص: 631

عمر فعل ذلك حتى خَشِي، فجعله أربعين سوطًا، فلما رآهم لا يتناهون جعله ثمانين سوطًا، وقال: هذا أخف الحدود".

والجمع بين حديث عليّ رضي الله عنه المصرِّح بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم جلد أربعين، وأنه سُنَّة، وبين حديثه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يَسُنّه بأن يُحْمَل النفي على أنه لم يحدّ الثمانين؛ أي: لم يسنّ شيئًا زائدًا على الأربعين.

ويؤيده قوله: "وإنما هو شيء صنعناه نحن"، يشير إلى ما أشار به على عمر، وعلى هذا فقوله:"لو مات لَودَيْته"؛ أي: في الأربعين الزائدة، وبذلك جزم البيهقي، وابن حزم.

ويَحْتَمِل أن يكون قوله: "لم يَسُنَّه"؛ أي: الثمانين؛ لقوله في الرواية الأخرى: "وإنما هو شيء صنعناه"، فكأنه خاف من الذي صنعوه باجتهادهم أن لا يكون مطابقًا، واختَصَّ هو بذلك؛ لكونه الذي كان أشار بذلك، واستَدَلّ له، ثم ظهر له أن الوقوف عند ما كان الأمر عليه أوّلًا أَوْلى، فرجع إلى ترجيحه، وأَخبر بأنه لو أقام الحد ثمانين، فمات المضروب، وَدَاه؛ للعلة المذكورة.

ويَحْتَمِل أن يكون الضمير في قوله: "لم يَسُنَّه" لصفة الضرب، وكونها بسوط الجلد؛ أي: لم يُسنّ الجلد بالسوط، وإنما كان يُضرب فيه بالنعال وغيرها، مما تقدم ذِكره، أشار إلى ذلك البيهقيّ.

وقال ابن حزم أيضًا: لو جاء عن غير عليّ من الصحابة في حكم واحد أنه مسنون، وأنه غير مسنون لوجب حَمْل أحدهما على غير ما حُمِل عليه الآخر فضلًا عن عليّ، مع سعة علمه، وقوّة فهمه، وإذا تعارض خبر عُمير بن سعيد، وخبر أبي ساسان، فخبر أبي ساسان أولى بالقبول؛ لأنه مصرَّح فيه برفع الحديث عن عليّ، وخبر عُمير موقوف على عليّ، وإذا تعارض المرفوع والموقوف قُدِّم المرفوع.

وأما دعوى ضعف سند أبي ساسان فمردودة، والجمع أَولى مهما أمكن من توهين الأخبار الصحيحة، وعلى تقدير أن تكون إحدى الروايتين وَهْمًا، فرواية الإثبات مقدَّمة على رواية النفي، وقد ساعدتها رواية أنس على اختلاف

ص: 632

ألفاظ النَّقَلَة عن قتادة، وعلى تقدير أن يكون بينهما تمام التعارض، فحديث أنس سالم من ذلك.

واستُدِلّ بصنيع عمر في جلد شارب الخمر ثمانين على أن حد الخمر ثمانون، وهو قول الأئمة الثلاثة، وأحد القولين للشافعيّ، واختاره ابن المنذر، والقول الآخر للشافعيّ، وهو الصحيح أنه أربعون، وجاء عن أحمد كالمذهبين.

قال القاضي عياض: أجمعوا على وجوب الحدّ في الخمر، واختلفوا في تقديره، فذهب الجمهور إلى الثمانين، وقال الشافعيّ في المشهور عنه، وأحمد في رواية، وأبو ثور، وداود: أربعين.

قال الحافظ: وتبعه على نقل الإجماع ابن دقيق العيد، والنوويّ، ومَنْ تَبِعهما، وتُعُقّب بأن الطبريّ وابن المنذر، وغيرهما حَكَوا عن طائفة من أهل العلم أن الخمر لا حدّ فيها، وإنما فيها التعزير، واستدلوا بأحاديث الباب، فإنها ساكتة عن تعيين عدد الضرب، وأصرحها حديث أنس، ولم يجزم فيه بالأربعين في أرجح الطرق عنه.

وقد قال عبد الرزاق: أنبأنا ابن جريجِ ومعمر: سئل ابن شهاب: كم جَلَد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر؟ فقال: لم يكن فرَض فيها حدًّا، كان يأمر من حضره أن يضربوه بأيديهم ونعالهم، حتى يقول لهم: ارفعوا.

وورد أنه لم يضربه أصلًا، وذلك فيما أخرجه أبو داود، والنسائيّ بسند قويّ عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوقّت في الخمر حدًّا، قال ابن عباس: وشَرِب رجل، فسَكِر، فانطُلِق به إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما حاذى دار العباس انفلَتَ، فدخل على العباس، فالتزمه، فذكِر ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فضَحِك، ولم يأمر فيه بشيء.

وأخرج الطبريّ من وجه آخر عن ابن عباس: "ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر إلا أخيرًا، ولقد غزا تبوك، فغَشِي حجرته من الليل سكران، فقال: ليقم إليه رجل، فيأخذ بيده حتى يردّه إلى رحله".

والجواب أن الإجماع انعقد بعد ذلك على وجوب الحدّ؛ لأن أبا بكر

ص: 633

تحرَّى ما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ضَرَب السكران، فصيّره حدًّا، واستمرّ عليه، وكذا استمرّ مَنْ بعده، وإن اختلفوا في العدد.

وجَمَع القرطبيّ بين الأخبار بأنه لم يكن أوّلًا في شُرب الخمر حدّ، وعلى ذلك يُحْمَل حديث ابن عباس في الذي استجار بالعباس، ثم شُرع فيه التعزير، على ما في سائر الأحاديث التي لا تقدير فيها، ثم شُرع الحدّ، ولم يطّلع أكثرهم على تعيينه صريحًا مع اعتقادهم أن فيه الحدّ المعيَّن، ومِن ثَمّ توخى أبو بكر ما فُعل بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فاستَقَرّ عليه الأمر، ثم رأى عمر، ومن وافقه الزيادة على الأربعين، إما حدًّا بطريق الاستنباط، وإما تعزيرًا.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا المسلك الذي سلكه القرطبيّ رحمه الله في الجمع مسلك واضح، فتأمله بإمعان، والله تعالى أعلم.

واحتَجّ من قال: إن حده ثمانون بالإجماع في عهد عمر، حيث وافقه على ذلك كبار الصحابة.

وتُعُقّب بأن عليًّا أشار على عمر بذلك، ثم رجع عليّ عن ذلك، واقتصر على الأربعين؛ لأنها القَدْر الذي اتفقوا عليه في زمن أبي بكر، مستندِين إلى تقدير ما فُعِل بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأما الذي أشار به فقد تبيَّن من سياق قصته أنه أشار بذلك رَدْعًا للذين انهمكوا؛ لأن في بعض طرق القصة كما تقدم أنهم احتقروا العقوبة، وبهذا تمسّك الشافعية، فقالوا: أقل ما في حدّ الخمر أربعون، وتجوز الزيادة فيه إلى الثمانين، على سبيل التعزير، ولا يُجاوز الثمانين، واستندوا إلى أن التعزير إلى رأي الإمام، فرأى عمر فعله بموافقة عليّ، ثم رجع عليّ، ووقف عند ما فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، ووافقه عثمان على ذلك، وأما قول عليّ:"وكلٌّ سُنَّةٌ"، فمعناه: أن الاقتصار على الأربعين سُنَّة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فصار إليه أبو بكر، والوصول إلى الثمانين سُنَّةُ عمر؛ ردعًا للشاربين الذين احتقروا العقوبة الأولى، ووافقه من ذُكِر في زمانه للمعنى الذي تقدّم. وسَوَّغ لهم ذلك، إما اعتقادهم جواز القياس في الحدود، على رأي من يجعل الجميع حدًّا، وإما أنهم جعلوا الزيادة تعزيرًا؛ بناءً على جواز أن يُبْلَغ بالتعزير قَدْر الحدّ، ولعلهم لم يبلغهم الخبر الآتي في باب

ص: 634

التعزير

(1)

، وقد تمسّك بذلك من قال بجواز القياس في الحدود، وادَّعَى إجماع الصحابة، وهي دعوى ضعيفة؛ لقيام الاحتمال.

وقد شَنَّع ابن حزم على الحنفية في قولهم: إن القياس لا يدخل في الحدود والكفارات، مع جزم الطحاويّ ومن وافقه منهم بأن حدّ الخمر وقع بالقياس على حدّ القذف، وبه تمسّك من قال بالجواز من المالكية، والشافعية.

واحتَجّ من منع ذلك بأن الحدود والكفارات شُرعت بحسب المصالح، وقد تشترك أشياء مختلفة، وتختلف أشياء متساوية، فلا سبيل إلى عِلْم ذلك إلا بالنص.

وأجابوا عما وقع في زمن عمر بأنه لا يلزم من كونه جَلَد قَدْر حدّ القذف أن يكون جعل الجميع حدًّا، بل الذي فعلوه محمول على أنهم لم يبلغهم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حدَّ فيه أربعين؛ إذ لو بلغهم لَمَا جاوزوه، كما لم يجاوزوا غيره من الحدود المنصوصة، وقد اتفقوا على أنه لا يجوز أن يُستنبَطَ من النص معنى يعود عليه بالإبطال، فرَجَح أن الزيادة كانت تعزيرًا. ويؤيده ما أخرجه أبو عبيد في "غريب الحديث" بسند صحيح، عن أبي رافع:"عن عمر أنه أُتي بشارب، فقال لمطيع بن الأسود: إذا أصبحت غدًا فاضربه، فجاء عمر، فوجده يضربه ضربًا شديدًا، فقال: كم ضربته؟ قال: ستين، قال: اقتَصَّ عنه بعشرين"، قال أبو عبيد: يعني اجعل شدّة ضربك له قِصاصًا بالعشرين التي بقيت من الثمانين. قال أبو عبيد: فيؤخذ من هذا الحديث أن ضرب الشارب لا يكون شديدًا، وأن لا يُضْرَب في حال السُّكر؛ لقوله: إذا أصبحت فاضربه.

قال البيهقيّ: ويؤخذ منه أن الزيادة على الأربعين ليست بحدّ؛ إذ لو كانت حدًّا لَمَا جاز النقص منه بشدة الضرب؛ إذ لا قائل به.

وقال صاحب "المفهم" ما ملخصه - بعد أن ساق الأحاديث الماضية -: هذا كله يدلّ على أن الذي وقع في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم كان أدبًا وتعزيرًا، ولذلك قال عليّ رضي الله عنه: فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يَسُنَّه، فلذلك ساغ للصحابة الاجتهاد فيه،

(1)

يعني به: الحديث الآتي في الباب التالي عن أبي بردة بن نيار رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يُجلَد أحدٌ فوق عشرة أسواط إلا في حدّ من حدود الله".

ص: 635

فألحقوه بأخف الحدود، وهذا قول طائفة من علمائنا، وَيرِدُ عليهم قول عليّ: جَلَد النبيّ صلى الله عليه وسلم أربعين، وكذا وقوع الأربعين في عهد أبي بكر، وفي خلافة عمر أوّلًا أيضًا، ثم في خلافة عثمان، فلولا أنه حدّ لاختلف التقدير، ويؤيده قيام الإجماع على أن في الخمر الحدّ، وإن وقع الاختلاف في الأربعين والثمانين، قال: والجواب أن النقل عن الصحابة اختَلَف في التحديد والتقدير، ولا بدّ من الجمع بين مختلِف أقوالهم، وطريقه أنهم فَهِمُوا أن الذي وقع في زمنه صلى الله عليه وسلم كان أدبًا من أصل ما شاهدوه من اختلاف الحال، فلما كَثُر الإقدام على الشرب ألحقوه بأخف الحدود المذكورة في القرآن، وقَوَّى ذلك عندهم وجود الافتراء من السُّكر، فاثبتوها حدًّا، ولهذا أَطلق عليّ أن عمر جلد ثمانين، وهي سُنَّة، ثم ظهر لعليّ أن الاقتصار على الأربعين أَولى؛ مخافة أن يموت، فتجب فيه الدية، ومراده بذلك الثمانون، وبهذا يُجمع بين قوله:"لم يَسُنَّه"، وبين تصريحه بأنه صلى الله عليه وسلم جلد أربعين. قال: وغاية هذا البحث أن الضرب في الخمر تعزير، يمنع من الزيادة على غايته، وهي مختلَف فيها، قال: وحاصل ما وقع من استنباط الصحابة أنهم أقاموا السُّكر مقام القذف؛ لأنه لا يخلو عنه غالبًا، فأعطوه حكمه، وهو من أقوى حجج القائلين بالقياس، فقد اشتهرت هذه القصة، ولم ينكرها في ذلك الزمان منكِر، قال: وقد اعترض بعض أهل النظر بأنه إن ساغ إلحاق حدّ السُّكر بحدّ القذف، فليُحْكَم له بحُكم الزنا والقتل؛ لأنهما مظنته، وليقتصروا في الثمانين على من سَكِر لا على من اقتصر على الشرب، ولم يَسْكَر. قال: وجوابه أن المظنة موجودة غالبًا في القذف، نادرة في الزنا والقتل، والوجود يُحقق ذلك، وإنما أقاموا الحدّ على الشارب، وإن لم يَسْكَر مبالغةً في الردع؛ لأن القليل يدعو إلى الكثير، والكثير يُسكر غالبًا، وهو المظنة، ويؤيده أنهم اتفقوا على إقامة الحدّ في الزنا بمجرد الإيلاج، وإن لم يتلذذ، ولا أنزل، ولا أكمل.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي حقّقه القرطبيّ رحمه الله قد تقدّم أنه ما رجّحته، وهو حقيق بذلك؛ فتأمله بإمعان، والله تعالى أعلم.

قال الحافظ رحمه الله: والذي تحصّل لنا من الآراء في حدّ الخمر ستة أقوال:

ص: 636

الأول: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يجعل فيها حدًّا معلومًا، بل كان يقتصر في ضرب الشارب على ما يليق به، قال ابن المنذر: قال بعض أهل العلم: أُتِي النبيّ صلى الله عليه وسلم بسكران، فأمرهم بضربه، وتبكيته، فدلّ على أن لا حدّ في السُّكر، بل فيه التنكيل والتبكيت، ولو كان ذلك على سبيل الحدّ لبيّنه بيانًا واضحًا، قال: فلمّا كَثُر الشراب في عهد عمر استشار الصحابة، ولو كان عندهم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم شيء محدود لَمَا تجاوزوه، كما لم يتجاوزوا حدّ القذف، ولو كَثُر القاذفون، وبالغوا في الفحش، فلما اقتضى رأيهم أن يجعلوه كحدّ القذف، واستدَلّ عليّ بما ذَكَر من أن في تعاطيه ما يؤدي إلى وجود القذف غالبًا، أو إلى ما يُشبه القذف، ثم رجع إلى الوقوف عند تقدير ما وقع في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم دلّ على صحة ما قلناه؛ لأن الروايات في التحديد بأربعين اختَلَفت عن أنس، وكذا عن عليّ، فالأَوْلى أن لا يتجاوز أقل ما ورد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ضربه؛ لأنه المحقَّق، سواء كان ذلك حدًّا أو تعزيرًا.

الثاني: أن الحد فيه أربعون، ولا تجوز الزيادة عليها.

الثالث: مثله، لكن للإمام أن يبلغ به ثمانين، وهل تكون الزيادة من تمام الحدّ، أو تعزيرًا؟ قولان.

الرابع: أنه ثمانون، ولا تجوز الزيادة عليها.

الخامس: كذلك، وتجوز الزيادة تعزيرًا، وعلى الأقوال كلها، هل يتعيَّن الجلد بالسوط، أو يتعيَّن بما عداه، أو يجوز بكل من ذلك؟ أقوال.

السادس: إن شرب، فجُلد ثلاث مرات، فعاد الرابعة وجب قتله، وقيل: إن شرب أربعًا، فعاد الخامسة وجب قتله.

قال الحافظ: وهذا السادس في الطرف الأبعد من القول الأول، وكلاهما شاذّ، وأظن الأول رأي البخاريّ، فإنه لم يُترجم بالعدد أصلًا، ولا أَخْرَج هنا في العدد الصريح شيئًا مرفوعًا.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن المذهب الأول هو الأوضح، والأرجح، كما هو ظاهر مذهب الإمام البخاريّ، فتأمله بالإمعان، ولا يتعارض هذا مع ما قدّمته من ترجيح قول القرطبيّ؛ لأن قوله موافق لهذا القول، فتأمل، والله تعالى أعلم.

ص: 637

قال: وتمسَّك من قال: لا يزاد على الأربعين، بأن أبا بكر تحرى ما كان في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فوجده أربعين، فَعَمِل به، ولا يُعلم له في زمنه مخالف، فإن كان السكوت إجماعًا فهذا الإجماع سابق على ما وقع في عهد عمر، والتمسك به أولى؛ لأن مستنَده فِعْل النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن ثَمّ رجع إليه عليّ، ففعله في زمن عثمان بحضرته، وبحضرة من كان عنده من الصحابة، منهم عبد الله بن جعفر الذي باشر ذلك، والحسن بن عليّ، فإن كان السكوت إجماعًا فهذا هو الأخير، فينبغي ترجيحه.

وتمسَّك من قال بجواز الزيادة بما صُنع في عهد عمر من الزيادة، ومنهم من أجاب عن الأربعين بأن المضروب كان عبدًا، وهو بعيد، فاحتمل الأمر أن يكون حدًّا، أو تعزيرًا.

وتمسَّك من قال بجواز الزيادة على الثمانين تعزيرًا بما تقدم في "الصيام" أن عمر حَدَّ الشارب في رمضان، ثم نفاه إلى الشام، وبما أخرجه ابن أبي شيبة أن عليًّا جلد النجاشيّ الشاعر ثمانين، ثم أصبح فجلده عشرين بجراءته بالشرب في رمضان.

وتمسَّك من قال: يُقتَل في الرابعة، أو الخامسة بما سيأتي في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

وقد استقرّ الإجماع على ثبوت حدّ الخمر، وأن لا قَتْل فيه، واستمر الاختلاف في الأربعين والثمانين، وذلك خاص بالحرّ المسلم، وأما الذميّ فلا يُحدّ فيه، وعن أحمد رواية أنه يحدّ، وعنه إن سَكِر، والصحيح عندهم كالجمهور، وأما من هو في الرقّ فهو على النصف من ذلك، إلا عند أبي ثور، وأكثر أهل الظاهر، فقالوا: الحر والعبد في ذلك سواء، لا ينقص عن الأربعين، نقله ابن عبد البر وغيره عنهم، وخالفهم ابن حزم، فوافق الجمهور. انتهى ما في "الفتح"

(1)

، وهو تحقيق مفيد جدًّا، وإن كان فيه طول، لكنه يُغتفر لغزارة فوائده، وكثرة عوائده، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

راجع: "الفتح" 15/ 526 - 536، كتاب "الحدود"(6779).

ص: 638

(المسألة الخامسة): في ذِكْر الأحاديث الواردة في قتل شارب الخمر في المرّة الرابعة:

أخرج الشافعيّ في رواية حرملة عنه، وأبو داود، وأحمد، والنسائيّ، والدارميّ، وابن المنذر، وصححه ابن حبان، كلهم من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، رفعه:"إذا سَكِر فاجلدوه، ثم إذا سَكِر فاجلدوه، ثم إذا سكر فاجلدوه، ثم إذا سكر فاقتلوه"، ولبعضهم:"فاضربوا عنقه"، وله من طريق أخرى، عن أبي هريرة، أخرجها عبد الرزاق، وأحمد، والترمذيّ تعليقًا، والنسائيّ، كلهم من رواية سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عنه، بلفظ:"إذا شربوا فاجلدوهم ثلاثًا، فإذا شربوا الرابعة فاقتلوهم"، ورَوَى عن عاصم بن بَهْدَلة، عن أبي صالح، فقال أبو بكر بن عياش عنه، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، كذا أخرجه ابن حبان، من رواية عثمان بن أبي شيبة، عن أبي بكر، وأخرجه الترمذيّ، عن أبي غريب، عنه، فقال: عن معاوية، بدل أبي سعيد، وهو المحفوظ، وكذا أخرجه أبو داود، من رواية أبان العطار، عنه، وتابعه الثوريّ، وشيبان بن عبد الرحمن، وغيرهما عن عاصم، ولفظ الثوريّ، عن عاصم:"ثم إن شرب الرابعة، فاضربوا عنقه"، ووقع في رواية أبان عند أبي داود:"ثم إن شربوا فاجلدوهم ثلاث مرات بعد الأُولى"، ثم قال:"إن شربوا، فاقتلوهم"، ثم ساقه أبو داود من طريق حميد بن يزيد، عن نافع، عن ابن عمر، قال: وأحسبه قال في الخامسة: "ثم إن شربها فاقتلوه"، قال: وكذا في حديث غُطيف في الخامسة، قال أبو داود: وفي رواية عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، وسهيل بن أبي صالح، عن أبيه كلاهما عن أبي هريرة: في الرابعة، وكذا في رواية ابن أبي نُعْم، عن ابن عمر، وكذا في رواية عبد الله بن عمرو بن العاص، والشريد، وفي رواية معاوية:"فإن عاد في الثالثة، أو الرابعة فاقتلوه"، وقال الترمذي بعد تخريجه: وفي الباب عن أبي هريرة، والشريد، وشُرحبيل بن أوس، وأبي الرمداء، وجرير، وعبد الله بن عمرو.

قال الحافظ: وقد ذكرتُ حديث أبي هريرة، وأما حديث الشريد، وهو ابن أوس الثقفيّ، فأخرجه أحمد، والدارميّ، والطبرانيّ، وصححه الحاكم،

ص: 639

بلفظ: "إذا شرب فاضربوه، - وقال في آخره - ثم إن عاد الرابعة فاقتلوه".

وأما حديث شُرَحبيل، وهو الكنديّ، فأخرجه أحمد، والحاكم، والطبرانيّ، وابن منده في "المعرفة"، ورواته ثقات، نحو رواية الذي قبله، وصححه الحاكم من وجه آخر.

وأما حديث أبي الرمداء - وهو بفتح الراء، وسكون الميم، بعدها دال مهملة، وبالمد، وقيل بموحدة، ثم ذال معجمة - وهو بلويّ نزل مصر، فأخرجه الطبرانيّ، وابن منده، وفي سنده ابن لَهِيعة، وفي سياق حديثه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بالذي شَرِب الخمر في الرابعة أن تُضرب عنقه، فضُربت"، فأفاد أن ذلك عُمِل به قبل النسخ، فإن ثبت كان فيه ردّ على من زعم أنه لم يُعمل به.

وأما حديث جرير، فأخرجه الطبرانيّ، والحاكم، ولفظه:"من شرب الخمر فاجلدوه، وقال فيه: فإن عاد في الرابعة فاقتلوه".

وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، فأخرجه أحمد، والحاكم من وجهين عنه، وفي كلٍّ منهما مقال، ففي رواية شهر بن حوشب عنه:"فإن شربها الرابعة فاقتلوه".

قال الحافظ: ورويناه عن أبي سعيد أيضًا كما تقدم، وعن ابن عمر، وأخرجه النسائيّ، والحاكم، من رواية عبد الرحمن بن أبي نُعْم، عن ابن عمر، ونفر من الصحابة بنحوه، وأخرجه الطبرانيّ موصولًا من طريق عياض بن غُطيف، عن أبيه، وفيه:"في الخامسة"، كما أشار إليه أبو داود، وأخرجه الترمذي تعليقًا، والبزار، والشافعيّ، والنسائيّ، والحاكم، موصولًا من رواية محمد بن المنكدر، عن جابر، وأخرجه البيهقيُّ، والخطيب في "المبهمات" من وجهين آخرين عن ابن المنكدر، وفي رواية الخطيب:"جلد"، وللحاكم من طريق يزيد بن أبي كبشة: سمعت رجلًا من الصحابة يحدث عبد الملك بن مروان، رفعه بنحوه:"ثم إن عاد في الرابعة فاقتلوه"، وأخرجه عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن المنكدر مرسلًا، وفيه:"أُتي بابن النعيمان بعد الرابعة، فجلده"، وأخرجه الطحاويّ من رواية عمرو بن الحارث، عن ابن المنكدر: أنه بلغه، وأخرجه الشافعيّ، وعبد الرزاق، وأبو داود، من رواية الزهريّ، عن قَبِيصة بن ذُؤيب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شَرِب الخمر فاجلدوه - إلى

ص: 640

أن قال -: ثم إذا شرب في الرابعة فاقتلوه، قال: فأتي برجل قد شَرِب فجلده، ثم أُتي به قد شرب فجلده، ثم أُتي به وقد شرب فجلده، ثم أُتي به في الرابعة قد شرب فجلده، فرُفع القتل عن الناس، وكانت رخصة"، وعَلَّقه الترمذيّ، فقال: رَوَى الزهريّ، وأخرجه الخطيب في "المبهمات" من طريق محمد بن إسحاق، عن الزهريّ، وقال فيه: "فأُتي برجل من الأنصار، يقال له: نعيمان، فضربه أربع مرات، فرأى المسلمون أن القتل قد أُخِّر، وأن الضرب قد وجب"، وقَبِيصة بن ذُؤيب من أولاد الصحابة، ووُلد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع منه، ورجال هذا الحديث ثقات، مع إرساله، لكنه أُعِلّ بما أخرجه الطحاويّ، من طريق الأوزاعيّ، عن الزهريّ، قال: "بلغني عن قَبيصة"، ويعارض ذلك رواية ابن وهب، عن يونس، عن الزهريّ أن قَبيصة حدثه، أنه بَلَغه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا أصحّ؛ لأن يونس أحفظ لرواية الزهريّ من الأوزاعيّ، والظاهر أن الذي بَلَّغَ قبيصةَ ذلك صحابيّ، فيكون الحديث على شرط الصحيح؛ لأن إبهام الصحابيّ لا يضرّ، وله شاهد أخرجه عبد الرزاق، عن معمر، قال: حَدَّثت به ابن المنكدر، فقال: تُرِك ذلك، قد أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن نعيمان، فجلده ثلاثًا، ثم أُتي به في الرابعة، فجلده، ولم يزده.

ووقع عند النسائي من طريق محمد بن إسحاق، عن ابن المنكدر، عن جابر:"فأُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل منا قد شرب في الرابعة، فلم يقتله"، وأخرجه من وجه آخر عن محمد بن إسحاق، بلفظ:"فإن عاد الرابعة فاضربوا عنقه، فضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع مرات، فرأى المسلمون أن الحدّ قد وقع، وأن القتل قد رُفِع".

قال الشافعيّ بعد تخريجه: هذا ما لا اختلاف فيه بين أهل العلم عَلِمته، وذكره أيضًا عن أبي الزبير مرسلًا، وقال: أحاديث القتل منسوخة، وأخرجه أيضًا من رواية ابن أبي ذئب، حدّثني ابن شهاب:"أُتي النبيّ صلى الله عليه وسلم بشارب فجلده، ولم يضرب عنقه".

وقال الترمذيّ: لا نعلم بين أهل العلم في هذا اختلافًا في القديم والحديث، قال: وسمعت محمدًا يقول: حديث معاوية في هذا أصحّ، وإنما كان هذا في أول الأمر، ثم نُسِخ بعدُ، وقال في "العلل" آخر الكتاب: جميع

ص: 641

ما في هذا الكتاب قد عَمِل به أهل العلم، إلا هذا الحديث، وحديث الجمع بين الصلاتين في الحضر.

وتعقبه النوويّ

(1)

، فسَلَّم قوله في حديث الباب دون الآخَر.

ومال الخطابيّ

(2)

إلى تأويل الحديث في الأمر بالقتل، فقال: قد يَرِد الأمر بالوعيد، ولا يُراد به وقوع الفعل، وإنما قُصِد به الردع والتحذير، ثم قال: ويَحْتَمِل أن يكون القتل في الخامسة كان واجبًا، ثم نُسخ بحصول الإجماع من الأمة على أنه لا يُقتل، وأما ابن المنذر فقال: كان العمل فيمن شرب الخمر أن يُضْرَب، ويُنَكَّل به، ثم نُسِخ بالأمر بجَلده، فإن تكرر ذلك أربعًا قُتِل، ثم نُسخ ذلك بالأخبار الثابتة، وبإجماع أهل العلم إلا من شذّ ممن لا يُعَدّ خلافه خلافًا. قال الحافظ: وكأنه أشار إلى بعض أهل الظاهر، فقد نُقِل عن بعضهم، واستمرّ عليه ابن حزم منهم، واحتَجّ له، وادَّعَى أن لا إجماع، وأورد من مسند الحارث بن أبي أسامة ما أخرجه هو والإمام أحمد، من طريق الحسن البصريّ، عن عبد الله بن عمرو، أنه قال: ائتوني برجل أُقيمَ عليه الحدّ - يعني: ثلاثًا - ثم سَكِر، فإن لم أقتله فأنا كذّاب. وهذا منقطع؛ لأن الحسن لم يسمع من عبد الله بن عمرو، كما جزم به ابن المدينيّ وغيره، فلا حجة فيه، وإذا لم يصح هذا عن عبد الله بن عمرو لم يبق لمن رَدّ الإجماع على ترك القتل متمسَّك، حتى ولو ثبت عن عبد الله بن عمرو لكان عُذْره أنه لم يبلغه النسخ، وعُدّ ذلك من نزره المخالف.

وقد جاء عن عبد الله بن عمرو أشدّ من الأول، فأخرج سعيد بن منصور عنه، بسند لَيِّن قال: لو رأيت أحدًا يشرب الخمر، واستطعت أن أقتله لقتلته.

وأما قول بعض من انتصر لابن حزم، فطعن في النسخ بأن معاوية إنما أسلم بعد الفتح، وليس في شيء من أحاديث غيره الدالة على نسخه التصريح بأن ذلك متأخر عنه.

وجوابه أن معاوية أسلم قبل الفتح، وقيل: في الفتح، وقصة ابن النعيمان كانت بعد ذلك؛ لأن عقبة بن الحارث حضرها، إما بحُنَيْن، وإما بالمدينة،

(1)

"شرح مسلم" 11/ 216.

(2)

"معالم السنن" 3/ 293.

ص: 642

وهو إنما أسلم في الفتح، وحُنَيْن، وحضور عقبة إلى المدينة كان بعد الفتح جزمًا، فثبت ما نفاه هذا القائل.

وقد عَمِل بالناسخ بعض الصحابة، فأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" بسند لَيِّن عن عمر بن الخطاب أنه جلد أبا مِحْجَن الثقفيّ في الخمر ثمان مرار، وأورد نحو ذلك عن سعد بن أبي وقاص، وأخرج حماد بن سلمة في "مصنفه" من طريق أخرى رجالها ثقات، أن عمر جلد أبا محجن في الخمر أربع مرار، ثم قال له: أنت خليع، فقال: أما إذ خلعتني فلا أشربها أبدًا. انتهى ما في "الفتح"، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من التحقيقات أن ما ذهب إليه الجمهور من نسخ قتل شارب الخمر في المرّة الرابعة، أو الخامسة هو الصحيح؛ لوضوح حجته، من الأدلّة التي تقدّم بيانها، فتأملها بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4450]

(1707 م) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ الضَّرِيرُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: مَا كُنْتُ أُقِيمُ عَلَى أَحَدٍ حَدًّا، فَيَمُوتَ فِيه، فَأَجِدَ مِنْهُ فِي نَفْسِي إِلَّا صَاحِبَ الْخَمْرِ؛ لأَنَّهُ إِنْ مَاتَ وَدَيْتُهُ؛ لأَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسُنَّهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ الضَّرِيرُ) التميميّ، أبو عبد الله، أو أبو جعفر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 231)(خ م دس) تقدم في "الإيمان" 60/ 336.

2 -

(يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ) تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(أَبُو حَصِينٍ) - بفتح الحاء، وكسر الصاد المهملتين - عثمان بن عاصم بن حصين الأسديّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنّيّ، وربما دلّس [4](ت 127) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

ص: 643

5 -

(عُمَيْرُ بْنُ سَعِيدٍ) النخعيّ الصَّهبانيّ - بضمّ الصاد المهملة، وسكون الهاء، بعدها موحّدة - أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ [3].

رَوَى عن عليّ، وأبي موسى، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، والحسن بن عليّ، وعلقمة، ومسروق، وغيرهم.

وروى عنه الشعبيّ، والسَّبِيعيّ، والأعمش، وأبو حَصِين، والزبير بن عديّ، وطلحة بن مصرِّف، ومطرف بن طريف، وفِطر بن خليفة، وغيرهم.

قال شعبة عن الحكم بن عتيبة: قال عُمير بن سعيد، وحسبك به

(1)

، وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقة، وقال العجليّ: عُمير بن سعد ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة سبع ومائة في ولاية ابن هُبيرة، وقال ابن سعد: كان ثقةً، وله أحاديث، ومات سنة (115).

أخرج له البخاريّ، والمصنف، وأبو داود، والنسائيّ في "مسند عليّ"، وابن ماجه، وليس له عندهم إلا هذا الحديث.

و"عليّ بن أبي طالب" رضي الله عنه ذُكر قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه مسلسل بالكوفيين، غير الأوَّلَيْن، فبصريّان، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَعِيدٍ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع نسخ مسلم:

(1)

قال الحافظ رحمه الله في "تهذيب التهذيب 8/ 129": وأفرط أبو محمد بن حزم في الكلام على الملائكة من كتاب "الملل والنحل"، فقال: إنه مجهول، وإنه روى حديثين عن علي، ما نعلم له غيرهما، أحدهما في ذِكر شارب الخمر؛ يعني: الذي أخرجه البخاريُّ، والآخر في قصة هاروت وماروت، وقال: وكلاهما كذب، كذا قال، ولقد استعظمت هذا القول، ولولا شَرْطي في كتابي هذا ما عرّجت عليه، فإنه من أشنع ما وقع لابن حزم سامحه الله، وقد وقفنا له عن عليّ على حديث آخر أنه كبَّر على يزيد بن المكفف أربعًا، وله روايات عن غير عليّ، فما أدري هذا الجزم من ابن حزم. انتهى.

ص: 644

"عُمير بن سعيد" بالياء في عمير، وفي سعيد، وهكذا هو في "صحيح البخاريّ"، وجميع كتب الحديث، والأسماء، ولا خلاف فيه، ووقع في "الجمع بين الصحيحين":"عُمير بن سَعْد" بحذف الياء من سعيد، وهو غلط، وتصحيف، إما من الحميديّ، وإما من بعض الناقلين عنه، ووقع في "المهذب" من كُتب أصحابنا في المذهب في باب التعزير: عُمَر بن سَعْد بحذف الياء من الاثنين، وهو غلط فاحش، والصواب إثبات الياء فيهما، كما سبق. انتهى

(1)

.

وقال الحافظ في "الفتح": ووقع في بعض النسخ من البخاري كما ذكر الحميديّ، ثم رأيته في تقييد أبي عليّ الجيانيّ منسوبًا لأبي زيد المروزيّ، قال: والصواب سعيد، وجزم بذلك ابن حزم، وأنه في البخاريّ: سعد بسكون العين، فلعله سلف الحميديّ، ووقع للنسائيّ، والطحاويّ عُمَر - بضم العين، وفتح الميم - كما في "المهذب"، لكن الذي عندهما في أبيه سعيد، ووقع عند ابن حزم في النسائيّ عَمْرو - بفتح أوله، وسكون الميم - والمحفوظ عُمير كما قال النوويّ، وقد أَعَلّ ابن حزم الخبر بالاختلاف في اسم عمير، واسم أبيه، وليست بعلة تقدح في روايته، وقد عَرَفه، ووثَّقه مَن صحح حديثه، وقد عُمِّر عُمير المذكور، وعاش إلى سنة خمس عشرة ومائة. انتهى

(2)

.

(عَنْ عَلِيِّ) بن أبي طالب رضي الله عنه أنه (قَالَ: مَا كُنْتُ أُقِيمُ) وفي رواية البخاريّ: "لأقيم"، باللام، وهي لتأكيد النفي، كما في قوله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143](عَلَى أَحَدٍ حَدًّا، فَيَمُوتَ فِيه، فَأَجِدَ مِنْهُ) بنصب "يموتَ"، و"أجد" بـ "أن" مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية في جواب النفي، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ فَا جَوَابِ نَفْيٍ أَوْ طَلَبْ

مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهُ حَتْمٌ نَصَبْ

وقوله: "فيه"؛ أي: بسببه، فـ "في" سببيّة، وقوله:"منه"؛ أي: بسببه، فـ "من" سببيّة أيضًا.

وقال في "الفتح": قوله: "فيموتَ، فأجدَ" بالنصب فيهما، ومعنى "أَجِد"

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 220 - 221.

(2)

"الفتح" 15/ 523 - 524، كتاب "الحدود" رقم (6778).

ص: 645

من الوَجْد، وله معان، اللائق منها هنا الحزن، وقوله:"فيموت" مسبَّب عن "أقيم"، وقوله:"فأجد" مسبَّب عن السبب والمسبب معًا. انتهى

(1)

.

وقوله: (فِي نَفْسِي) متعلّق بـ "أَجِدَ"، (إِلَّا صَاحِبَ الْخَمْرِ)؛ أي: شاربها، وهو بالنصب، ويجوز الرفع، والاستثناء منقطع؛ أي: لكن أجد مِن حدّ شارب الخمر إذا مات، ويَحْتَمِل أن يكون التقدير: ما أجد من موت أحد يقام عليه الحدّ شيئًا، إلا من موت شارب الخمر، فيكون الاستثناء على هذا متصلًا، قاله الطيبيّ

(2)

.

(لأنَّهُ إِنْ مَاتَ وَدَيْتُهُ) بتخفيف الدال؛ أي: غَرِمتُ ديته لمن يستحقّ قبضها، وقد جاء مفسرًا من طريق أخرى أخرجها النسائيّ، وابن ماجه، من رواية الشعبيّ، عن عمير بن سعيد، قال: سمعت عليًّا يقول: "من أقمنا عليه حدًّا فمات، فلا دية له، إلا من ضربناه في الخمر".

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "لأنه إن مات وديته": قال بعض العلماء: وجه الكلام أن يقال: "فإنه إن مات وديته" بالفاء، لا باللام، وهكذا هو في رواية البخاريّ بالفاء. انتهى

(3)

.

وقوله: (لأَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسُنَّهُ) تعليل لأدائه الدية لمن مات مِن حدّ الشرب، يعني: أنه صلى الله عليه وسلم لم يَسُنّ فيه عددًا معيّنًا، وفي رواية شريك:"فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستنّ فيه شيئًا"، ووقع في رواية الشعبيّ:"فإنما هو شيء صنعناه".

قال النوويّ رحمه الله: أجمع العلماء على أن من وجب عليه الحدّ، فجَلَده الإمام، أو جَلّاده الحدَّ الشرعيَّ، فمات فلا دية فيه، ولا كفارة، لا على الإمام، ولا على جلّاده، ولا في بيت المال، وأما من مات من التعزير فمذهبنا وجوب ضمانه بالدية، والكفارة، وفي محل ضمانه قولان للشافعيّ: أصحهما تجب ديته على عاقلة الإمام، والكفارة في مال الإمام، والثاني تجب الدية في

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2543.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2543.

(3)

"شرح النوويّ" 11/ 221.

ص: 646

بيت المال، وفي الكفارة على هذا وجهان لأصحابنا: أحدهما: في بيت المال أيضًا، والثاني: في مال الإمام، هذا مذهبنا، وقال جماهير العلماء: لا ضمان فيه، لا على الإمام، ولا على عاقلته، ولا في بيت المال، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": اتفقوا على أن من مات من الضرب في الحدّ لا ضمان على قاتله، إلا في حدّ الخمر، فعن عليّ رضي الله عنه ما تقدم، وقال الشافعيّ: إن ضُرب بغير السوط فلا ضمان، وإن جُلد بالسوط ضُمِن، قيل: الدية، وقيل: قَدْر تفاوت ما بين الجلد بالسوط وبغيره، والدية في ذلك على عاقلة الإمام، وكذلك لو مات فيما زاد على الأربعين. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قول عليّ رضي الله عنه: "ما كنت لأقيم على أحد حدًّا. . . إلخ" يدلُّ على أن ما كان فيه حدٌّ محدود، فأقامه الإمام على وجهه، فمات المحدود بسببه؛ لم يلزم الإمام شيء، ولا عاقلته، ولا آل بيت المال، وهذا مجتمعٌ عليه؛ لأنَّ الإمام قام بما وجب عليه، والميت قتيل الله، وأمَّا حدّ الخمر فقد ظهر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحدّ فيه حدًّا، فلمّا قَصَرته الصحابة رضي الله عنهم على عدد محدود، وهو الثمانون، وجد عليّ رضي الله عنه في نفسه من ذلك شيئًا، فصرَّح بالتزام الدِّية إن وقع له موت المجلود احتياطًا، وتوقيًّا، لكن ذلك - والله أعلم - فيما زاد على الأربعين إلى الثمانين، وأمَّا الأربعون: فقد صرَّح هو على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر جلداها، وسَمَّى ذلك سُنَّة، فكيف يخاف من ذلك؟.

وهذا هو الذي فهمه الشافعيّ من فِعل عليّ رضي الله عنه هذا، فقال: إن حُدَّ أربعين بالأيدي، والنعال، والثياب فمات؛ فالله قتله، وإن زِيدَ على الأربعين بذاك، أو ضُرب أربعين بسوط فمات؛ فَدِيَتُه على عاقلة الإمام.

قال القرطبيّ رحمه الله: ويظهر لي مِن فِعل عمر رضي الله عنه خلافُ ذلك: إنه لمّا شُهِدَ على قُدامة بشُرب الخمر استشار من حضره في جَلْدِه، فقال القوم: لا

(1)

"شرح النوويّ" 11/ 221.

(2)

"الفتح" 15/ 524، كتاب "الحدود" رقم (6778).

ص: 647

نرى أن تَجْلِدَه ما دام وَجِعًا، فسكت عمر عن جلده أيامًا، ثم أصبح يومًا وقد عزم على جلده، فاستشارهم، فقالوا: لا نرى أن تجلده ما دام وَجِعًا، فقال عمر رضي الله عنه: والله لأن يلقى الله تحت السياط أحبُّ إليَّ من أن ألقى الله وهي في عنقي، والله لأجلدنَّه، فجلده بسوط بين سوطين. وهذا يدلُّ على أنَّه لا يلزم في ذلك دية لا على العاقلة، ولا في بيت المال؛ لأنَّ عمر سلك في حد الخمر مسلك الحدود المحدودة بالنصّ، وأمَّا حدّ عمر لقدامة على ما ذكروا له من وَجَعِه، فكأنه فَهِم أن وجعه لم يكن بحيث يبالى به، ولا يُخاف منه، وكأنهم اعتذروا به ليتأخر ضَرْبه شفقةً عليه، وحُنُوًّا، وقد ظهر ذلك منهم لمّا أَتَوه بسوطٍ دقيق صغير، فقال لِأَسْلَم: أخذتك دِقْرارة أهلك؛ أي: حميّتهم الحاملة على المخالفة.

واختلفوا فيمن مات من التعزير، فقال الشافعي: عَقْلُه على الإمام، وعليه الكفارة، وقيل: على بيت المال، وجمهور العلماء: على أنَّه لا شيء عليه. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما ذهب إليه الجمهور، من عدم وجوب شيء في موت من مات في التعزير هو الأرجح عندي؛ لأن هذا التعزير بأمر الشارع، وإن لم يكن محدّدًا، فكيف يجب عليه الضمان في المأذون له؟ فليُتأمّل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 4450 و 4451](1707)، و (البخاريّ) في "الحدود"(6778)، و (أبو داود) في "الحدود"(4486)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5271 و 5272)، و (ابن ماجه) في "الحدود"(2569)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 26)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(7/ 378 و 9/ 457)، و (ابن

(1)

"المفهم" 5/ 137 - 138.

ص: 648

أبي شيبة) في "مصنفه"(5/ 427)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 125 و 130)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 151 - 152)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1/ 281)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 123 و 8/ 321)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4451]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَن، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

وقد ذُكروا في الباب، غير ابن مهديّ، فتقدّم قريبًا.

[تنبيه]: رواية عبد الرحمن بن مهديّ، عن سفيان الثوريّ هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(5271)

- أخبرنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي حَصِين، عن عُمير بن سعيد النخعيّ، قال: قال عليّ: "ما من رجل أقمت عليه حدًّا فمات، فأجد في نفسي إلا الخمر، فإنه إن مات فيه وَدَيْته، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَسُنّه". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(10) - (بَابُ قَدْرِ أَسْوَاطِ التَّعْزِيرِ)

" التعزير": مصدر عَزّر، يُعزِّر، وهو في الشرع: التأديب دون الحدّ

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4452]

(1708) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْب، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ، قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، إِذْ جَاءَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَابِرٍ، فَحَدَّثَهُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا سُلَيْمَانُ، فَقَالَ: حَدَّثَني عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْن

(1)

"السنن الكبرى" 3/ 249.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 407.

ص: 649

جَابِرٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ الأنصَارِيِّ، أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"لَا يُجْلَدُ أَحَد فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ، إِلا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى) المصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله الحافظ المصريّ، تقدّم قبل بابين.

3 -

(عَمْرُو) بن الحارث بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ [7] مات قبل (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.

4 -

(بُكَيْرُ بْنُ الأَشَجِّ) هو: بُكير بن عبد الله بن الأشجّ المدنيّ، ثم المصريّ، تقدّم قريبًا.

5 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ) المدنيّ الفقيه، تقدّم أيضًا قريبًا.

6 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَابِرٍ) بن عبد الله الأنصاريّ السَّلَميّ، أبو عتيق المدنيّ، ثقةٌ لم يُصب ابن سعد في تضعيفه [3].

روى عن أبيه، وأبي بردة بن ييار، وحزم بن أبي كعب.

وروى عنه سليمان بن يسار، ومسلم بن أبي مريم، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن محمد بن عَقِيل، وآخرون.

قال العجليّ، والنسائيّ: ثقة، وقال ابن سعد: في روايته ورواية أخيه ضَعف، وليس يُحتج بهما، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له الجماعة، وله عندهم هذا الحديث، وعند أبي داود آخر أيضًا.

7 -

(أَبُوهُ) جابر بن عبد الله بن عمرو بن حَرَام الصحابيّ المشهور رضي الله عنه، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

8 -

(أَبُو بُرْدَةَ الأنصَارِيُّ) هو: أبو بُرْدة بن نِيار - بكسر النون، بعدها تحتانيّة خفيفة - الْبَلَويّ، حَلِيف الأنصار، وخال البراء بن عازب، وقيل: عمّه، صحابيّ شَهِدَ بدرًا، وما بعدها، واسمه: هانئ بن نِيَار بن عمرو، وقيل: الحارث بن عمرو، وقيل: مالك بن هُبيرة، والأول هو الأصحّ.

روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه البراء بن عازب، وجابر، وابن أخيه سعيد بن عُمير بن عقبة بن نيار، وعبد الرحمن بن جابر بن عبد الله، وبُشَير بن يسار، وغيرهم.

ص: 650

قيل: مات سنة إحدى، وقيل: اثنتين وأربعين، وقيل: خمس وأربعين، وقال الواقديّ: تُوُفّي في أول خلافة معاوية بعد شهوده مع على حروبه كلها.

أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب، وكذا عند البخاريّ إلا هذا الحديث.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أن نصفه الأول مسلسل بالمصريين، والثاني بالمدنيين، وفيه ثلاثة من التابعين المدنيين روى بعضهم عن بعض: بكير، عن سليمان، عن عبد الرحمن بن جابر، وفيه رواية صحابيّ، عن صحابي، والابن عن أبيه، وأن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب الستة إلا خمسة أحاديث، هذا عندهم جميعًا، وآخر عند الترمذيّ، والنسائيّ في الرجل الذي تزوّج امرأة أبيه، والبقيّة عند النسائيّ، اثنان في "السنن": حديث ذبح الأضحيّة، قبل الإمام، وحديث:"اشربوا في الظروف، ولا تَسْكروا"، وواحد في "عمل اليوم والليلة" في الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم، راجع:"تحفة الأشراف"

(1)

، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ بُكَيْرِ بْن الأَشَجِّ) هو: بُكير بن عبد الله بن الأشجّ، أنه (قَالَ: بَيْنَا) هي "بين" الظرفيّة أُشبعت فَتْحتها، فتولّدت منها الألف، ويقال أيضًا:"بينما"، (نَحْنُ عِنْدَ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، إِذْ جَاءَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَابِرٍ)"إذ" هي الْفُجائيّة؛ أي: ففاجأه مجيء عبد الرحمن (فَحَدَّثَهُ)؛ أي: بالحديث الآتي، (فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا سُلَيْمَانُ) بن يسار (فَقَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَابِرٍ، عَنْ أَبِيهِ) جابر بن عبد الله رضي الله عنهما (عَنْ أَبِي بُرْدَةَ الأنصَارِيِّ) رضي الله عنه، تقدّم الخلاف في اسمه.

[تنبيه]: قال في "الفتح": قوله: "عن أبي بُردة" في رواية عليّ بن إسماعيل بن حماد، عن عمرو بن عليّ، شيخ البخاريّ فيه، بسنده إلى عبد الرحمن بن جابر، قال:"حدّثني رجل من الأنصار"، قال أبو حفص

(1)

"تحفة الأشراف" 9/ 65 - 68.

ص: 651

- يعني: عمرو بن عليّ المذكور - هو أبو بردة بن نيار، أخرجه أبو نعيم، وفي رواية عمرو بن الحارث:"حدّثني عبد الرحمن بن جابر، أن أباه حدّثه، أنه سمع أبا بردة الأنصاري"، ووقع في الطريق الثانية من رواية فضيل بن سليمان، عن مسلم بن أبي مريم:"حدّثني عبد الرحمن بن جابر، عمن سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وقد سمّاه حفص بن ميسرة، وهو أوثق من فضيل بن سليمان، فقال فيه:"عن مسلم بن أبي مريم، عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه"، أخرجه الإسماعيليّ، قال الحافظ: قد رواه يحيى بن أيوب عن مسلم بن أبي مريم مثل رواية فضيل، أخرجه أبو نعيم في "المستخرج"، قال الإسماعيليّ: ورواه إسحاق بن راهويه، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن مسلم بن أبي مريم، عن عبد الرحمن بن جابر، عن رجل من الأنصار، قال الحافظ: وهذا لا يعيّن أحد التفسيرين، فإن كلًّا من جابر، وأبي بردة أنصاريّ.

قال الإسماعيليّ: لم يُدْخِل الليث عن يزيد بين عبد الرحمن وأبي بردة أحدًا، وقد وافقه سعيد بن أبي أيوب، عن يزيد، ثم ساقه من روايته كذلك.

وحاصل الاختلاف: هل هو عن صحابيّ مبهم، أو مسمى؟ الراجح الثاني، ثم الراجح أنه أبو بردة بن نيار، وهل بين عبد الرحمن وأبي بردة واسطة، وهو جابر أو لا؟ الراجح الثاني أيضًا.

وقد ذكر الدارقطنيّ في "العلل" الاختلاف، ثم قال: القول قول الليث ومن تابعه، وخالف ذلك في "كتاب التتبع"، فقال: القول قول عمرو بن الحارث، وقد تابعه أسامة بن زيد.

قال الحافظ: ولم يقدح هذا الاختلاف عن الشيخين في صحة الحديث، فإنه كيفما دار يدور على ثقة، ويَحْتَمِل أن يكون عبد الرحمن وقع له فيه ما وقع لبكير بن الأشج في تحديث عبد الرحمن بن جابر لسليمان بحضرة بكير، ثم تحديث سليمان بكيرًا به، عن عبد الرحمن، أو أن عبد الرحمن سمع أبا بردة لَمّا حَدّث به أباه، وثَبَّته فيه أبوه، فحدَّث به تارةً بواسطة أبيه، وتارةً بغير واسطة.

وادَّعَى الأصيليّ أن الحديث مضطرب، فلا يُحتج به؛ لاضطرابه.

وتُعُقّب بأن عبد الرحمن ثقة، فقد صَرَّح بسماعه، وإبهام الصحابيّ لا

ص: 652

يضرّ، وقد اتَّفَق الشيخان على تصحيحه، وهما العمدة في التصحيح.

قال الحافظ: وقد وجدت له شاهدًا بسند قويّ، لكنه مرسل، أخرجه الحارث بن أبي أسامة، من رواية عبد الله بن أبي بكر بن الحارث بن هشام، رفعه:"لا يَحِلّ أن يُجْلَد فوق عشرة أسواط، إلا في حدّ"، وله شاهد آخر عن أبي هريرة، عند ابن ماجه، ستأتي الإشارة إليه. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يُجْلَدُ) - بضم أوله - بصيغة النفي، ولبعضهم بالجزم، ويؤيده ما وقع في رواية للبخاريّ بصيغة النهي:"لا تجلدوا"، (أَحَدٌ) مرفوع على أنه نائب الفاعل، (فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ) بنصب "فوقَ" على الظرفيّة لـ "يُجلَدُ"، وفي رواية يحيى بن أيوب، وحفص بن ميسرة:"فوق عشر جَلَدات"، وفي رواية عليّ بن إسماعيل بن حماد:"لا عقوبة فوق عشر ضَرَبات"

(2)

. (إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ") قال في "الفتح": ظاهره أن المراد بالحدّ ما ورد فيه من الشارع عدد من الجلد، أو الضرب مخصوص، أو عقوبةٌ مخصوصةٌ، والمتفق عليه من ذلك أصل الزنا، والسرقة، وشرب المُسْكر، والْحِرابة، والقذف بالزنا، والقتل، والقصاص في النفس، والأطراف، والقتل في الارتداد، واختُلِف في تسمية الأخيرين حدًّا، واختُلِف في أشياء كثيرةً، يَستحق مرتكبها العقوبةَ، هل تسمى عقوبته حدًّا أو لا؟ وهي: جحد العارية، واللواط، وإتيان البهيمة، وتحميل المرأة الفحل من البهائم عليها، والسِّحاق، وأكل الدم، والميتة في حال الاختيار، ولحم الخنزير، وكذا السحر، والقذف بشرب الخمر، وترك الصلاة تكاسلًا، والفطر في رمضان، والتعريض بالزنا.

وذهب بعضهم إلى أن المراد بالحدّ في حديث الباب حقّ الله تعالى، قال ابن دقيق العيد: بلغني أن بعض العصريين قرر هذا المعنى بأن تخصيص الحدّ بالمقدَّرات المقدَّم ذِكْرها أمر اصطلاحيّ من الفقهاء، وأن عُرف الشرع أوَّلَ الأمر كان يُطلق الحدّ على كل معصية كبرت أو صغرت.

(1)

"الفتح" 15/ 697 - 698، كتاب "الحدود" رقم (6848).

(2)

"الفتح" 15/ 697 - 698، كتاب "الحدود" رقم (6848).

ص: 653

وتعقبه ابن دقيق العيد أنه خروج عن الظاهر، ويحتاج إلى نقل، والأصل عدمه، قال: وَيرِدُ عليه أنا إذا أجزنا في كل حقّ من حقوق الله أن يزاد على العشر لم يبق لنا شيء يختص المنع به؛ لأن ما عدا الحرمات التي لا يجوز فيها الزيادة، هو ما ليس بمحرم، وأصل التعزير أنه لا يُشْرَع فيما ليس بمحرّم، فلا يبقى لخصوص الزيادة معنى.

قال الحافظ: والعصري المشار إليه أظنه ابن تيمية، وقد تقلد صاحبه ابن القيّم المقالة المذكورة، فقال: الصواب في الجواب: أن المراد بالحدود هنا: الحقوق التي هي أوامر الله، ونواهيه، وهي المراد بقوله:{وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229]، وفي أخرى:{فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة: 231]، وقال:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187]، وقال:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا} [النساء: 14]، قال: فلا يزاد على العشر في التأديبات التي لا تتعلق بمعصية، كتأديب الأب ولده الصغير.

قال الحافظ: ويَحْتَمِل أن يفرّق بين مراتب المعاصي، فما ورد فيه تقدير لا يزاد عليه، وهو المستثنى في الأصل، وما لم يرد فيه تقدير، فإن كان كبيرة جازت الزيادة فيه، وأطلق عليه اسم الحدّ، كما في الآيات المشار إليها، والتحق بالمستثنى، وإن كان صغيرة فهو المقصود بمنع الزيادة، فهذا يدفع إيراد الشيخ تقيّ الدين على العصريّ المذكور، إن كان ذلك مراده.

وقد أخرج ابن ماجه من حديث أبي هريرة بالتعزير بلفظ: "لا تُعَزِّروا فوق عشرة أسواط". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألةة الأولى): حديث أبي بردة بن نيار الأنصاريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"الفتح" 15/ 698 - 699، كتاب "الحدود" رقم (6848).

ص: 654

أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 4452](1708)، و (البخاريّ) في "الحدود"(6848 و 6849 و 6850)، و (أبو داود) في "الحدود"(4491 و 4492)، و (الترمذيّ) في "الحدود"(1463)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 320)، و (ابن ماجه) في "الحدود"(2601)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(13677)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 107)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 466 و 4/ 45)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4452 و 4453)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(3/ 164)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(22/ 515 و 516)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 216)، (والدارقطنيّ) في "سننه"(3/ 207)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 152)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 369 - 370)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 327)، و (البغويّ) في "شرح السُّنّة"(2609) والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في العمل بهذا الحديث:

قال في "الفتح": قد اختَلَف السلف في مدلول هذا الحديث، فأخذ بظاهره الليث، وأحمد في المشهور عنه، وإسحاق، وبعض الشافعية، وقال مالك، والشافعيّ، وصاحبا أبي حنيفة: تجوز الزيادة على العشر، ثم اختلفوا، فقال الشافعيّ: لا يُبلغ أدنى الحدود، وهل الاعتبار بحد الحرّ، أو العبد؟ قولان، وفي قول، أو وجه يستنبط: كلُّ تعزير من جنس حدّه، ولا يجاوزه، وهو مقتضى قول الأوزاعيّ: لا يبلغ به الحدّ، ولم يُفَصِّل، وقال الباقون: هو إلى رأي الإمام بالغًا ما بلغ، وهو اختيار أبي ثور، وعن عمر: أنه كتب إلى أبي موسى: لا تَجْلد في التعزير أكثر من عشرين، وعن عثمان: ثلاثين، وعن عمر: أنه بلغ بالسوط مائة، وكذا عن ابن مسعود، وعن مالك، وأبي ثور، وعطاء: لا يعزّرَ إلا من تكرَّر منه، ومن وقع منه مرة واحدة معصيةٌ لا حدّ فيها فلا يُعَزَّر، وعن أبي حنيفة: لا يبلغ أربعين، وعن ابن أبي ليلى، وأبي يوسف: لا يزاد على خمس وتسعين جلدة، وفي رواية عن مالك، وأبي يوسف: لا يبلغ ثمانين.

وأجابوا عن الحديث بأجوبة منها ما تقدم.

ومنها: قَصْره على الجلد، وأما الضرب بالعصا مثلًا، وباليد فتجوز

ص: 655

الزيادة، لكن لا يجاوز أدنى الحدود، وهذا رأي الإصطخريّ من الشافعية، وكأنه لم يقف على الرواية الواردة بلفظ الضرب.

ومنها: أنه منسوخٌ دلَّ على نسخه إجماع الصحابة.

ورُدّ بأنه قال به بعض التابعين، وهو قول الليث بن سعد، أحد فقهاء الأمصار.

ومنها: معارضة الحديث بما هو أقوى منه، وهو الإجماع على أن التعزير يخالف الحدود، وحديث الباب يقتضي تحديده بالعشر فما دونها، فيصير مثل الحدّ، وبالإجماع على أن التعزير موكول إلى رأي الإمام فيما يرجع إلى التشديد والتخفيف، لا من حيث العدد؛ لأن التعزير شُرع للردع، ففي الناس من يَرْدَعُهُ الكلام، ومنهم من لا يَرْدَعه الضرب الشديد، فلذلك كان تعزير كلِّ أحدٍ بحَسَبه.

وتُعُقِّب بأن الحدّ لا يزاد فيه، ولا يُنقص فاختلفا، وبأن التخفيف والتشديد مسلَّم، لكن مع مراعاة العدد المذكور، وبأن الردع لا يُرَاعَى في الأفراد، بدليل أن من الناس من لا يردعه الحدّ، ومع ذلك لا يُجمع عندهم بين الحد والتعزير، فلو نُظِر إلى كل فرد لقيل بالزيادة على الحدّ، أو الجمع بين الحد والتعزير.

ونقل القرطبيّ أن الجمهور قالوا بما دلّ عليه حديث الباب، وعَكَسه النوويّ، وهو المعتمَد، فإنه لا يُعرف القول به عن أحد من الصحابة، واعتذر الداوديّ، فقال: لم يبلغ مالكًا هذا الحديث، فكان يرى العقوبة بقَدْر الذنب، وهو يقتضي أنه لو بلغه ما عدل عنه، فيجب على من بلغه أن يأخذ به. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي العمل بمقتضى حديث الباب - كما هو رأي جماعة - هو الحقّ؛ لظهور دلالته، وعدم معارِض صحيح له، فوجب العمل به.

والحاصل أنه لا يزاد في التعزير على عشرة أسواط، كما دلّ عليه النصّ

(1)

"الفتح" 15/ 699 - 700، كتاب "الحدود" رقم (6848).

ص: 656

الصحيح الصريح، فكن مع الأدلّة، وإن كان القائلون بها قِلّة، ولا تكن مع الآراء، وإن رآها الأئمة الكبراء، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(11) - (بَابٌ الْحُدُودُ كَفَّارَاتٌ لأَهْلِهَا)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4453]

(1709) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ - وَاللَّفْظُ لِعَمْرٍو - قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزهْرِيّ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ

(1)

، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِت، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَجْلِسٍ، فَقَالَ:"تُبَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقّ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى الله، وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَعُوقِبَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَسَتَرَهُ اللهُ عَلَيْه، فَأَمْرُهُ إِلَى الله، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(أَبُو إِدْرِيسَ) عائذ الله بن عبد الله الْخَوْلانيّ، وُلد في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم حُنين، وسَمِع من كبار الصحابة، ومات سنة ثمانين (ع) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.

2 -

(عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.

والباقون تقدّموا في الأبواب الخمسة الماضية.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ) زاد في بعض النسخ: "الْخَوْلانيّ"، وهو نسبة إلى خَوْلان، بفتح، فسكون: أبو قبيلة مشهورة، نزلت الشام، وهو: خولان بن

(1)

وفي نسخة: "عن أبي إدريس الخولانيّ".

ص: 657

عمرو بن مالك بن الحارث بن مُرّة بن أُدَد بن يَشجب بن عَرِيب بن زيد بن كهلان بن سبأ، قاله في "اللباب"

(1)

.

(عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَجْلِسٍ، فَقَالَ:"تُبَايِعُونِي) بصيغة المضارع، وهو بمعنى الأمر، ففي الرواية الأخرى: "بايعوني" بصيغة الأمر، والمبايعة: عبارة عن المعاهدة، سُمِّيت بذلك؛ تشبيهًا بالمعاوضة المالية، كأن كلّ واحد منهما يبيع ما عنده من صاحبه، فمن طَرَف النبيّ صلى الله عليه وسلم وعدُ الثواب، ومن طرفهم التزام الطاعة

(2)

، وهذا كما في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111].

(عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا)؛ أي: لا تعبدوا معه أحدًا، أيًّا كان، وهذا هو أصل الإيمان، وأساس الإسلام، فلذلك قدّمه على أخواته

(3)

. (وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَسْرِقُوا) حذف مفعوله؛ ليدلّ على العموم، (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ)؛ أي: إلا بالأمر الذي يوجب قتلها، كالقصاص، ورجم المحصن، ونحو ذلك. (فَمَنْ وَفَى)؛ أي: فَعَل ما أُمر به، وانتهى عما نُهي عنه، وثبت على ذلك، و"وفى" هنا بتخفيف الفاء، وتشديدها، ويقال أيضًا: أوفى، قال الفيّوميّ رحمه الله: وَفَيْتُ بالعهد، والوعد أَفِي به وَفَاءً، والفاعل: وَفِيٌّ، والجمع: أَوْفِيَاءُ، مثل صَدِيق وأصدقاء، وأَوْفَيْتُ به إِيْفَاءً، وقد جمعهما الشاعر فقال [من البسيط]:

أَمَّا ابْنُ طَوْقٍ فَقَدْ أَوْفَى بِذِمَّتِهِ

كَمَا وَفَى بِقِلاصِ النَّجْمِ حَادِيهَا

وقال أبو زيد: أَوْفَى نذره: أحسنَ الإيفاء، فجعل الرباعيَّ يتعدى بنفسه، وقال الفارابي أيضًا: أَوْفَيْتُهُ حقَّه، ووَفَّيْتُهُ إياه بالتثقيل، وأَوْفَى بما قال، ووَفَّى: بمعنى، وأَوْفَى على الشّيء: أشرف عليه، وتَوَفَّيْتُهُ، واسْتَوْفَيْتُهُ بمعنى، وتَوَفَّاهُ الله: أماته، والوَفَاةُ: الموت، وقد وَفَى الشيءُ بنفسه يَفِي: إذا تمّ، فهو وَافٍ، ووَافَيْتُهُ مُوَافَاةً: أتيته. انتهى

(4)

.

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 472.

(2)

"عمدة القاري" 1/ 250.

(3)

"عمدة القاري" 1/ 250.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 667.

ص: 658

(مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ)؛ أي: إن الله يُنجيه من عذابه، وإهانته، ويوصله إلى جنته، وكرامته.

وقال في "الفتح": أطلق هذا على سبيل التفخيم؛ لأنه لَمّا أن ذكر المبايعة المقتضية لوجود العِوَضين أثبت ذِكر الأجر في موضع أحدهما، وأفصح في رواية الصُّنابحيّ، عن عبادة في هذا الحديث في "الصحيحين" بتعيين العِوَض، فقال:"بالجنة"، وعَبّر هنا بلفظ "على" للمبالغة في تحقق وقوعه كالواجبات، ويتعيَّن حمله على غير ظاهره؛ للأدلة القائمة على أنه لا يجب على الله شيء.

وقد مرّ في "كتاب الإيمان"، في حديث معاذ في تفسير حقّ الله على العباد تقرير هذا.

[فإن قيل]: لِمَ اقتصر على المنهيات، ولم يذكر المأمورات.

[فالجواب]: أنه لم يُهملها، بل ذكرها على طريق الإجمال في قوله في رواية الصنابحي الآتية:"ولا نعصي"؛ إذ العصيان مخالفة الأمر، والحكمة في التنصيص على كثير من المنهيات دون المأمورات، أن الكفّ أيسر من إنشاء الفعل؛ لأن اجتناب المفاسد مقدَّم على اجتلاب المصالح، والتخلِّي عن الرذائل قبل التحلي بالفضائل، أفاده في "الفتح"

(1)

.

قوله: "ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب": زاد أحمد في روايته: "به".

(وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا) هو عامّ؛ لأنه نكرة في سياق الشرط، وصرّح ابن الحاجب بأنه كالنفي في إفادة العموم، كنكرة وقعت في سياقه

(2)

. وقوله: (مِنْ ذَلِكَ)"من" تبعيضيّة، (فَعُوقِبَ بِه)؛ أي: بسبب ما ارتكبه من الذنبِ.

قال في "الفتح": قوله: "فعوقب به" أعم من أن تكون العقوبة حدًّا، أو تعزيرًا، قال ابن التين: وحُكِي عن القاضي إسماعيل وغيره أن قَتْل القاتل إنما هو رادع لغيره، وأما في الآخرة فالطلب للمقتول قائم؛ لأنه لم يصل إليه حقّ، قال الحافظ: بل وصل إليه حقّ، وأيُّ حقّ، فإن المقتول ظلمًا تُكَفَّر عنه ذنوبه

(1)

راجع: "الفتح" 1/ 126، كتاب "الإيمان" رقم (18).

(2)

راجع: "عمدة القاري" 1/ 251.

ص: 659

بالقتل، كما ورد في الخبر الذي صححه ابن حبان وغيره:"إن السيف مَحَّاء للخطايا"، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال:"إذا جاء القتل محا كلَّ شيء"، رواه الطبرانيّ، وله عن الحسن بن عليّ نحوه، وللبزار عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا:"لا يَمُرّ القتل بذنب إلا محاه"، فلولا القتل ما كُفّرت ذنوبه، وأيُّ حقّ يصل إليه أعظم من هذا، ولو كان حدّ القتل إنما شُرع للردع فقط لم يشرع العفو عن القاتل.

وهل تدخل في العقوبة المذكورة المصائبُ الدنيوية، من الآلام، والأسقام، وغيرها؟ فيه نظر، ويدلّ للمنع قوله:"ومن أصاب من ذلك شيئًا، ثم ستره الله"، فإن هذه المصائب لا تنافي الستر، ولكن بَيَّنت الأحاديث الكثيرة أن المصائب تُكَفِّر الذنوب، فَيَحْتَمِل أن يراد أنها تكفِّر ما لا حدّ فيه، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(فَهُوَ)؛ أي: العقاب، فالضمير يرجع إلى المفهوم من قوله:"فعوقب"، وهو نظير قوله تعالى:{اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، فإنه يرجع إلى العدل الذي دلّ عليه {اعْدِلُوا}. (كَفَّارَةٌ لَهُ) زاد في رواية للبخاريّ:"وطهورُ"، والكفّارة هي الفعلة التي من شأنها أن تكفّر الخطيئة؛ أي: تسترها، يقال: كَفَرت الشيءَ أكفِره بالكسر كَفْرًا: إذا سترته، ورَماد مكفورٌ: إذا سَفّت الريح التراب عليه، حتى غطَّته، ومنه الكافر؛ لأنه سَتَر الإيمان وغطّاه، قاله في "العمدة"

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: عموم هذا الحديث مخصوص بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الآية [النساء: 48]، فالمرتد إذا قُتل على ارتداده لا يكون القتل له كفارة.

قال الحافظ: وهذا بناء على أن قوله: "من ذلك شيئًا" يتناول جميع ما ذُكِر، وهو ظاهر، وقد قيل: يَحْتَمِل أن يكون المراد: ما ذُكِر بعد الشرك، بقرينة أن المخاطَب بذلك المسلمون، فلا يدخل حتى يُحتاج إلى إخراجه،

(1)

"الفتح" 1/ 131، كتاب "الإيمان" رقم (18).

(2)

"عمدة القاري" 1/ 251.

ص: 660

ويؤيده رواية مسلم من طريق أبي الأشعث، عن عبادة في هذا الحديث:"ومن أتى منكم حدًّا"؛ إذ القتل على الشرك لا يسمى حدًّا، لكن يَعْكُر على هذا القائل أن الفاء في قوله:"فمن" لترتّب ما بعدها على ما قبلها، وخطاب المسلمين بذلك لا يمنع التحذير من الإشراك، وما ذُكر في الحدّ عرفيّ حادث، فالصواب - ما قال النوويّ رحمه الله.

وقال الطيبيّ: الحقّ أن المراد بالشرك: الشرك الأصغر، وهو الرياء، ويدلّ عليه تنكير "شيئًا"؛ أي: شركًا أيًّا ما كان.

وتُعُقّب بأن عُرف الشارع إذا أَطلق الشرك إنما يريد به ما يقابل التوحيد، وقد تكرر هذا اللفظ في الكتاب، والأحاديث، حيث لا يراد به إلا ذلك.

ويجاب بأن طلب الجمع يقتضي ارتكاب المجاز، فما قاله مُحْتَمِلٌ، وإن كان ضعيفًا، ولكن يَعْكُر عليه أيضًا أنه عَقَّب الإصابةَ بالعقوبة في الدنيا، والرياء لا عقوبة فيه، فَوَضَح أن المراد: الشرك، وأنه مخصوص

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر أن الشرك هنا هو المقابل للتوحيد، فتأمله، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فهو كفارته": هذا حجَّة واضحة لجمهور العلماء على أن الحدود كفارات، فمن قَتَل فاقتُصَّ منه لم يبق عليه طِلْبَةٌ في الآخرة؛ لأنَّ الكفارات ماحيةٌ للذنوب، ومصَيِّرةٌ لصاحبها كأن ذنبه لم يكن. وقد ظهر ذلك في كفارة اليمين والظِّهار وغير ذلك. فإن بقي مع الكفارة شيء من آثار الذنب لم يَصْدُق عليها ذلك الاسم. وقد سمعنا من بعض مشايخنا: أن الكفارة إنَّما تكفّر حقّ الله تعالى، ويبقى على القاتل حق المقتول يطلبه به يوم القيامة. وتَطَّرِدُ هذه الطريقة في سائر حقوق الآدميين.

قلت

(2)

: وهذا ليس بصحيح؛ لأنَّه تخصيص لعموم ذلك الحديث بغير دليل، وما ذكره من اختلاف الحقوق صحيحٌ، غير أنَّه لمّا أباح الله دم القاتل بسبب جريمته، وقُتِل، فقد فُعِل به مثل ما فَعَل من إيلام نفسه، واستباحة دمه،

(1)

"الفتح" 1/ 126 - 127، كتاب "الإيمان" رقم (18).

(2)

القائل هو القرطبيّ رحمه الله.

ص: 661

فلم يبق عليه شيء. وهذا معنى القصاص. انتهى

(1)

.

(وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ)؛ أي: من الذنوب المذكورة، (فَسَتَرَهُ اللهُ عَلَيْه، فَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) قال المازريّ

(2)

: فيه ردٌّ على الخوارج الذين يُكَفِّرون بالذنوب، وردٌّ على المعتزلة الذين يوجبون تعذيب الفاسق إذا مات بلا توبة؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَخبر بأنه تحت المشيئة، ولم يقل: لا بُدَّ أن يعذبه. وقال الطيبيّ: فيه إشارة إلى الكفّ عن الشهادة بالنار على أحد، أو بالجنة لأحد، إلا من ورد النص فيه بعينه.

قال الحافظ: أما الشق الأول فواضح، وأما الثاني فالإشارة إليه إنما تُستفاد من الحمل على غير ظاهر الحديث، وهو متعيّن. انتهى

(3)

.

(إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ") قال القرطبيّ رحمه الله: يعني: إذا مات عليه، ولم يَتُب منه. فأمَّا لو تاب منه لكان كمن لم يُذنب؛ بنصوص القرآن والسُّنَّة كما قد تقدم. وهذا تصريحٌ بأن ارتكاب الكبائر ليس بكفر؛ لأنَّ الكفر لا يُغْفَر لمن مات عليه بالنصّ والإجماع. وهي حجَّة لأهل السُّنَّة على الْمُكَفِّرة بالذنوب، وهم الخوارج، أهل البدعة. انتهى

(4)

.

وقال في "الفتح": قوله: "إن شاء عفا عنه. . . إلخ": هذا يَشْمَل من تاب من ذلك، ومن لم يَتُب، وقال بذلك طائفة، وذهب الجمهور إلى أن من تاب لا يبقى عليه مؤاخذة، ومع ذلك فلا يَأْمَن مكر الله؛ لأنه لا اطلاع له: هل قُبلت توبته أو لا؟ وقيل: يُفَرّق بين ما يجب فيه الحدّ، وما لا يجب، واختُلِف فيمن أتى ما يوجب الحدّ، فقيل: يجوز أن يتوب سرًّا، ويكفيه ذلك، وقيل: بل الأفضل أن يأتي الإمام، ويعترف به، ويسأله أن يقيم عليه الحدّ، كما وقع لماعز، والغامدية، وفَصَّل بعض العلماء بين أن يكون مُعلنًا بالفجور، فيستحب أن يُعْلِن بتوبته، وإلا فلا، قاله في "الفتح"

(5)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"المفهم" 5/ 141 - 142.

(2)

"المُعْلِم" 2/ 261.

(3)

"الفتح" 1/ 131، كتاب "الإيمان" رقم (18).

(4)

"المفهم" 5/ 142.

(5)

"الفتح" 1/ 132، كتاب "الإيمان" رقم (18).

ص: 662

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 4453 و 4454 و 4455 و 4456](1709)، و (البخاريّ) في "الإيمان"(18) و"المناقب"(3892) و"التفسير"(4894) و" الحدود"(6784) و"الأحكام"(7213) و"التوحيد"(7468)، و (الترمذيّ) في "الحدود"(1439)، و (النسائيّ) في "البيعة"(7/ 141 - 142) و"الكبرى"(4/ 424)، و (ابن ماجه) في "الحدود"(2603)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 187 - 188)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(6/ 4 و 11/ 464)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 79)، و (الحميديّ) في "مسنده"(387)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 320)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 220)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(803)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 153 و 154)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4405)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(3/ 214)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 108 - 109)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(29)، والله تعالى أعلم. .

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن الحدود كفّارات لأهلها، ويؤيد ذلك ما رواه من الصحابة غير واحد: منهم: عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وأبو تميمة الجهنيّ، وخزيمة بن ثابت، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، وسيأتي بيان رواياتهم في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

2 -

(ومنها): مشروعيّة المبايعة على الأمور المذكورة في الحديث.

3 -

(ومنها): أن هذه البيعة تُسمّى بيعة النساء؛ لأنه ليس فيها ذكر الجهاد.

4 -

(ومنها): أن إقامة الحدّ كفارة للذنب، ولو لم يَتُب المحدود، وهو قول الجمهور، وقيل: لا بدّ من التوبة، وبذلك جزم بعض التابعين، وهو قول للمعتزلة، ووافقهم ابن حزم، ومن المفسرين البغويّ، وطائفة يسيرة، واستدلُّوا باستثناء من تاب في قوله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ}

ص: 663

[المائدة: 34]، والجواب في ذلك أنه في عقوبة الدنيا، ولذلك قُيِّدت بالقدرة عليه، قاله في "الفتح"

(1)

.

5 -

(ومنها): أن آخر الحديث يدلّ على أن الله لا يجب عليه عقاب عاص، وإذا لم يجب عليه هذا لا يجب عليه ثواب مطيع أصلًا؛ إذ لا قائل بالفصل.

6 -

(ومنها): أن معنى قوله: "فهو إلى الله"، أي: حُكمه من الأجر والعقاب مفوَّض إلى الله تعالى، وهذا يدل على أن من مات من أهل الكبائر قبل التوبة إن شاء الله عفا عنه، وأدخله الجنة أوَّل مرة، وإن شاء عذبه في النار، ثم يدخله الجنة، وهذا مذهب أهل السُّنَّة والجماعة، وقالت المعتزلة: صاحب الكبيرة إذا مات بغير التوبة لا يُعْفَى عنه، فيُخَلَّد في النار، وهذا الحديث حجة عليهم.

7 -

(ومنها): ما قال الطيبيّ رحمه الله: فيه إشارة إلى الكفّ عن الشهادة بالنار على أحد، وبالجنة لأحد إلا من ورد النص فيه بعينه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): قال القاضي عياض رحمه الله: ذهب أكثر العلماء أن الحدود كفاراتٌ، واستدلوا بهذا الحديث، ومنهم مَن وَقَفَ؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا أدري، الحدود كفارة لأهلها أم لا؟ "، لكن حديث عبادة أصحّ إسنادًا.

ويمكن - يعني: على طريق الجمع بينهما - أن يكون حديث أبي هريرة وَرَد أوّلًا قبل أن يُعْلِمه الله، ثم أعلمه بعد ذلك.

قال الحافظ رحمه الله: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه الحاكم في "المستدرك"، والبزار، من رواية معمر، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو صحيح على شرط الشيخين، وقد أخرجه أحمد، عن عبد الرزاق، عن معمر، وذكر الدارقطنيّ أن عبد الرزاق تفرّد بوصله، وأن هشام بن يوسف رواه عن معمر، فأرسله.

(1)

"الفتح" 1/ 131 رقم (18).

ص: 664

قال الحافظ: وقد وصله آدم بن أبي إياس، عن ابن أبي ذئب، وأخرجه الحاكم أيضًا، فقَوِيَت رواية معمر، وإذا كان صحيحًا فالجمع الذي جَمَع به القاضي عياض حسن، لكن القاضي ومن تبعه جازمون بأن حديث عبادة هذا كان بمكة ليلة العقبة لَمّا بايع الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعة الأولى بمنى، وأبو هريرة إنما أسلم بعد ذلك بسبع سنين عام خيبر، فكيف يكون حديثه متقدمًا؟ وقالوا في الجواب عنه: يمكن أن يكون أبو هريرة ما سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما سمعه من صحابي آخر، كان سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم قديمًا، ولم يسمع من النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أن الحدود كفارة، كما سمعه عبادة.

قال الحافظ: وفي هذا تعسُّفٌ، ويُبطله أن أبا هريرة صرَّح بسماعه، وأن الحدود لم تكن نزلت إذ ذاك، والحقّ عندي أن حديث أبي هريرة صحيح، وهو ما تقدم على حديث عبادة، والمبايعة المذكورة في حديث عبادة على الصفة المذكورة لم تقع ليلة العقبة، وإنما كان ليلة العقبة ما ذَكَرَ ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لمن حضر من الأنصار:"أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم، وأبناءكم"، فبايعوه على ذلك، وعلى أن يَرْحَل إليهم هو وأصحابه، وفي حديث عبادة أيضًا قال:"بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في العُسر واليُسر، والمَنْشِط والمَكرَه. . ." الحديث.

وأصرح من ذلك في هذا المراد ما أخرجه أحمد، والطبرانيّ من وجه آخر عن عبادة، أنه جرت له قصة مع أبي هريرة عند معاوية بالشام، فقال: يا أبا هريرة إنك لم تكن معنا إذ بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في النَّشاط والكسل، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول بالحقّ، ولا نخاف في الله لومة لائم، وعلى أن ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قَدِم علينا يثرب، فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا، وأزواجنا، وأبناءنا، ولنا الجنة، فهذه بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي بايعناه عليها، فذكر بقية الحديث، وعند الطبرانيّ له طريق أخرى، وألفاظ قريبة من هذه.

وقد وَضَح أن هذا هو الذي وقع في البيعة الأولى، ثم صدرت مبايعات أخرى، منها هذه البيعة التي في حديث الباب في الزجر عن الفواحش المذكورة. والذي يُقَوِّي أنها وقعت بعد فتح مكة، بعد أن نزلت الآية التي في

ص: 665

"الممتحنة"، وهي قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} الآية [الممتحنة: 12]، ونزول هذه الآية متأخِّر بعد قصة الحديبية بلا خلاف، والدليل على ذلك ما عند البخاريّ في "كتاب الحدود" من طريق سفيان بن عيينة، عن الزهريّ، في حديث عبادة هذا: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بايعهم قرأ الآية كلها، وعنده في "تفسير الممتحنة" من هذا الوجه، قال: قرأ آية النساء، ولمسلم من طريق معمر، عن الزهريّ، قال:"فتلا علينا آية النساء، قال: أن لا تشركن بالله شيئًا"، وللنسائيّ من طريق الحارث بن فضيل، عن الزهريّ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألَا تبايعونني على ما بايع عليه النساء، أن لا تشركوا بالله شيئًا. . ." الحديث، وللطبرانيّ من وجه آخر، عن الزهريّ بهذا السند:"بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما بايع عليه النساء يوم فتح مكة"، ولمسلم من طريق أبي الأشعث، عن عبادة في هذا الحديث:"أَخَذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء".

فهذه أدلة ظاهرة في أن هذه البيعة إنما صدرت بعد نزول الآية، بل بعد صدور البيعة، بل بعد فتح مكة، وذلك بعد إسلام أبي هريرة رضي الله عنه بمدّة، ويؤيد هذا ما رواه ابن أبي خيثمة في "تاريخه" عن أبيه، عن محمد بن عبد الرحمن الطُّفَاويّ، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبايعكم على أن لا تشركوا بالله شيئًا. . ."، فذكر نحو حديث عبادة، ورجاله ثقات.

وقد قال إسحاق بن راهويه رحمه الله: إذا صح الإسناد إلى عمرو بن شعيب، فهو كأيوب، عن نافع، عن ابن عمر. انتهى.

وإذا كان عبد الله بن عمرو أحدَ من حضر هذه البيعة، وليس هو من الأنصار، ولا ممن حضر بيعتهم، وإنما كان إسلامه قرب إسلام أبي هريرة، وَضَح تغاير البيعتين: بيعة الأنصار ليلة العقبة، وهي قبل الهجرة إلى المدينة، وبيعة أخرى وقعت بعد فتح مكة، وشهدها عبد الله بن عمرو، وكان إسلامه بعد الهجرة بمدّة طويلة.

ومثل ذلك ما رواه الطبرانيّ من حديث جرير، قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مثل ما بايع عليه النساء، فذكر الحديث، وكان إسلام جرير متأخرًا عن إسلام أبي هريرة على الصواب.

ص: 666

وإنما حصل الالتباس من جهة أن عبادة بن الصامت حضر البيعتين معًا، وكانت بيعة العقبة من أجل ما يتمدح به، فكان يذكرها إذا حدَّث تنويهًا بسابقيّته، فلمّا ذكر هذه البيعة التي صدرت على مثل بيعة النساء عَقِب ذلك توهّم من لم يقف على حقيقة الحال أن البيعة الأولى وقعت على ذلك.

ونظيره ما أخرجه أحمد، من طريق محمد بن إسحاق، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن أبيه، عن جدّه، وكان أحد النقباء، قال:"بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الحرب، وكان عبادة من الاثني عشر الذين بايعوا في العقبة الأولى على بيعة النساء، وعلى السمع والطاعة، في عسرنا ويسرنا" الحديث، فإنه ظاهر في اتحاد البيعتين، ولكن الحديث في "الصحيحين" كما عند البخاريّ في "الأحكام" ليست فيه هذه الزيادة، وهو من طريق مالك، عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن عبادة بن الوليد، والصواب أن بيعة الحرب بعد بيعة العقبة؛ لأن الحرب إنما شُرع بعد الهجرة.

ويمكن تأويل رواية ابن إسحاق، وردّها إلى ما تقدم، وقد اشتَمَلت روايته على ثلاث بيعات: بيعة العقبة، وقد صَرَّح أنها كانت قبل أن يُفْرَض الحرب، في رواية الصنابحيّ، عن عبادة، عند أحمد، والثانية: بيعة الحرب، وكانت على عدم الفرار، والثالثة بيعة النساء؛ أي: التي وقعت على نظير بيعة النساء، والراجح أن التصريح بذلك وَهَمٌ من بعض الرواة، والله أعلم.

وَيعْكُر على ذلك التصريح في رواية ابن إسحاق، من طريق الصنابحيّ، عن عبادة: أن بيعة ليلة العقبة كانت على مثل بيعة النساء، واتَّفَق وقوع ذلك قبل أن تنزل الآية، وإنما أضيفت إلى النساء؛ لِضَبْطها بالقرآن.

ونظيره ما وقع في "الصحيحين" أيضًا من طريق الصنابحيّ، عن عبادة، قال:"إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وقال:"بايعناه على أن لا نشرك بالله شيئًا"، الحديث، فظاهر هذا اتحاد البيعتين، ولكن المراد ما قررته أن قوله:"إني من النقباء الذين بايعوا"؛ أي: ليلة العقبة على الإيواء والنصر، وما يتعلق بذلك، ثم قال:"بايعناه. . . إلخ"؛ أي: في وقت آخر، ويشير إلى هذا الإتيان بالواو العاطفة في قوله:"وقال: بايعناه"، وعليك بردّ ما أتى من الروايات مُوهِمًا بأن هذه البيعة كانت ليلة العقبة إلى هذا التأويل الذي نَهَجت

ص: 667

إليه، فيرتفع بذلك الإشكال، ولا يبقى بين حديثي أبي هريرة وعبادة تعارض، ولا وجه بعد ذلك للتوقف في كون الحدود كفارة. انتهى.

[تنبيه]: اعلم أن عبادة بن الصامت رضي الله عنه لم ينفرد برواية هذا المعنى، بل روى ذلك عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو في الترمذيّ، وصححه الحاكم، وفيه:"من أصاب ذنبًا، فعوقب به في الدنيا، فالله أكرم من أن يثنّي العقوبة على عبده في الآخرة"، وهو عند الطبراني بإسناد حسن، من حديث أبي تميمة الْهُجَيميّ رضي الله عنه، ولأحمد من حديث خزيمة بن ثابت رضي الله عنه بإسناد حسن، ولفظه:"من أصاب ذنبًا، أقيم عليه حدّ ذلك الذنب، فهو كفارة له"، وللطبرانيّ عن ابن عمرو مرفوعًا:"ما عوقب رجل على ذنب إلا جعله الله كفارةً لِمَا أصاب من ذلك الذنب".

قال الحافظ رحمه الله: وإنما أطلت في هذا الموضع لأنني لم أر من أزال اللَّبس فيه على الوجه المَرضيّ والله الهادي. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لقد أجاد الحافظ رحمه الله، وأفاد، وللعينيّ كعادته المستمرّة تعقّبات من تأمَّلها عَلِم أن معظمها تعصّبات، والله المستعان.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4454]

(. . .) - (حَدَّثنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ: "فَتَلَا عَلَيْنَا آيَةَ النِّسَاءِ: {أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} الآيَةَ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلّهم تقدّموا قبل ثلاثة أبواب.

[تنبيه]: رواية معمر، عن الزهريّ هذه ساقها عبد الرزّاق رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:

(21019)

- أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهريّ، عن أبي إدريس الخولانيّ، عن عبادة بن الصامت، قال: بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم نفرًا،

(1)

"الفتح" 1/ 127 - 130، كتاب "الإيمان" رقم (18).

ص: 668

أنا فيهم، فتلا علينا آية النساء:{وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ} الآية [النساء: 36])، ثم قال:"من وفى فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا، فعوقب به في الدنيا، فهو له طهرة - أو قال: كفارة - ومن أصاب من ذلك شيئًا، فسَتَره الله عليه، فأمْره إلى الله، إن شاء غَفر له، وإن شاء عَذّبه". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4455]

(. . .) - وَحَدَّثَني إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا خَالِدٌ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِت، قَالَ: أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا أَخَذَ عَلَى النِّسَاءِ: أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللهِ شَيْئًا، وَلَا نَسْرِقَ، وَلَا نَزْنِيَ، وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا، وَلَا يَعْضَهَ بَعْضُنَا بَعْضًا، "فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى الله، وَمَنْ أَتَى مِنْكُمْ حَدًّا، فَأُقِيمَ عَلَيْهِ فَهُوَ كَفَّارَتُهُ، وَمَنْ سَتَرَهُ اللهُ عَلَيْه، فَأَمْرُهُ إِلَى الله، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ) الصائغ البغداديّ، نزيل مكة، ثقةٌ [10](م) من أفراد المصنّف تقدم في "الحيض" 10/ 748.

2 -

(هُشَيْمُ) بن بَشِير الواسطيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(خَالِدُ) بن مِهْران الْحَذّاء، أبو المنازل البصريّ، ثقة يرسل، ويقال: تغيّر في الآخر [5](ت 1 أو 142)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.

4 -

(أَبُو قِلَابَةَ) عبد الله بن زيد بن عمرو الْجَرميّ، تقدّم قريبًا.

5 -

(أَبُو الأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيُّ) شَرَاحيل بن آدة، ثقةٌ [2](بخ م 4) تقدم في "البيوع" 36/ 4054.

و"عبادة بن الصامت رضي الله عنه" ذُكر قبله.

وقوله: (كَمَا أَخَذَ عَلَى النِّسَاءِ)؛ أي: بايعنا على بيعة النساء، وهي التي بيَّنها بقوله:"أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللهِ شَيْئًا. . . إلخ".

وقوله: (وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا) قال محمد بن إسماعيل التيميّ وغيره: خَصّ

(1)

"مصنف عبد الرزاق" 11/ 464.

ص: 669

القتل بالأولاد؛ لأنه قتلٌ وقطيعةُ رَحِمٍ، فالعناية بالنهي عنه آكد، ولأنه كان شائعًا فيهم، وهو وأد البنات، وقتل البنين؛ خشيةَ الإملاق، أو خصَّهم بالذِّكر؛ لأنهم بصدد أن لا يَدفعوا عن أنفسهم. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَلَا يَعْضَهَ بَعْضُنَا بَعْضًا) - بفتح الياء، والضاد المعجمة -؛ أي: لا يَسْحَر، وقيل: لا يأتي ببهتان، وقيل: لا يأتي بنميمة، قاله النوويّ.

وقال المجد رحمه الله: وعَضَهَ، كمَنَعَ عَضْهًا، ويُحرَّك، وعَضِيهةً، وعِضْهَةً بالكسر: كَذَبَ، وسَحَرَ، ونَمَّ، والبعيرُ عَضْهًا: أكل الْعِضَاهَ، وكَفِرحَ: اشتكى مِنْ أَكْلها، أو رعاها، وجاء بالإفك، والبُهتان، كأَعْضَه، وفلانًا: بَهَته، وقال فيه ما لم يكن. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ولا يَعْضَهَ بعضُنا بعضًا" هكذا رواية الجماعة، وقيل: فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه السِّحر؛ أي: لا يسحر بعضنا بعضًا، والعَضْهُ، والعَضِيهَة: السِّحر. والعاضِهُ: السَّاحر. والعاضِهَةُ: السَّاحرة.

والثاني: أنَّه النَمِيمَة والكذب.

والثالث: البُّهْتان.

قال: وهذه الثلاثة متقاربة في المعنى؛ لأنَّ الكل كذبٌ وزور. ويقال لكلِّها عَضْةٌ، وعَضِيهةٌ. ويُصَرَّف فعلها كما سبق، وقد روى العذري هذه اللفظة:"ولا يَعْضِي بعضنا بعضًا" - بالياء مكان الهاء - على وزن: يقضي، ويكون من التعضية، وهي التفريق والتجزئة. ومنه قوله تعالى:{الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر: 91]، قال ابن عباس: فرَّقوه فآمنوا ببعضه، وكفروا ببعض. وعلى هذا: فيكون عضين: جمع عِضَه. يكون منقوضًا؛ لأنَّ أصله: عِضْوةٌ، فحذفوا الواو، ونقلوا حركتها إلى الساكن قبلها، كما فعلوه في عِزَةٍ، فيكون معناه في الحديث: لا تَكْذب عليه فتبهته بأنواع من البهتان والكذب، فتفرّقها عليه في أوقات، وتنسبها إليه في حالات. ورواية الجماعة أوضح. انتهى

(3)

.

(1)

"الفتح" 1/ 125 رقم (18).

(2)

"القاموس المحيط" ص 883.

(3)

"المفهم" 5/ 140.

ص: 670

وقوله: (وَمَنْ أتَى مِنْكُمْ حَدًّا)؛ أي: ما يوجب الحدّ.

وقوله: (فَأُقِيمَ عَلَيْهِ فهُوَ كَفَّارَتُهُ) قال ابن العربيّ رحمه الله: دخل في عموم قوله المُشْرك، أو هو مستثنى، فإن المشرك إذا عوقب على شِرْكه لم يكن ذلك كفارة له، بل زيادة في نكاله.

قال الحافظ: وهذا لا خلاف فيه.

قال: وأما القتل فهو كفارة بالنسبة إلى الوليّ المستوفي للقصاص في حقّ المقتول؛ لأن القصاص ليس بحقّ له، بل يبقى حقّ المقتول، فيطالبه به في الآخرة، كسائر الحقوق.

قال الحافظ: والذي قاله في مقام المنع، وقد نقلت في الكلام على قوله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93] قول من قال: يبقى للمقتول حقّ التشفي، وهو أقرب من إطلاق ابن العربي هنا.

قال: وأما السرقة فتتوقف براءة السارق فيها على ردّ المسروق لمستحقه، وأما الزنا فأطلق الجمهور أنه حقّ الله، وهي غفلة؛ لأن لآل المَزْنيّ بها في ذلك حقًّا لِمَا يلزم منه من دخول العار على أبيها، وزوجها، وغيرهما، ومحصّل ذلك أن الكفارة تختص بحقّ الله تعالى، دون حقّ الآدمي في جميع ذلك. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: تكلّم الحافظ أبو الفضل بن عمّار الشهيد في هذا الحديث، في "العلل" فقال: ووجدت فيه لهشيم، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن عبادة، قال: أَخَذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء، قال أبو الفضل: هذا حديث اختُلِف فيه على خالد، فرواه جماعة عن خالد هكذا، وقال آخرون: عن خالد، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن عبادة، والاضطراب إنما هو من خالد، ورواه محمد بن المنهال الضرير، عن يزيد بن زريع، قال: قلت لخالد - يعني: في هذا الحديث - كنتَ حدّثتنا عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، قال: غَيِّرْه، واجعله عن أبي أسماء، عن عبادة، أخبرنا أبو المثنى معاذ بن المثنى، عن محمد بن المنهال الضرير، حدّثنا يزيد بن

(1)

راجع: "الفتح" 15/ 550 - 551، كتاب "الحدود" رقم (6784).

ص: 671

زريع، حدّثنا خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء الرَّحَبيّ، قال محمد: قال يزيد بن زريع: وكان حدّثنا به قبل ذلك، عن أبي الأشعث الصنعانيّ، قال: قلت لخالد الحذاء: كنت حدثتنا به عن أبي الأشعث الصنعانيّ، قال: غَيِّرْه، واجعله عن أبي أسماء، عن عبادة بن الصامت، قال: أَخَذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء ستًّا، وقال:"من أصاب منكم حدًّا عُجِّلت عقوبته فهو كفارة له، ومن أُخِّر عنه فأمْره إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء رَحِمه". انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لم أجد من تكلم في رواية أبي أسماء الرحبيّ، عن عبادة هذه، غير أبي الفضل، ولم أر أيضًا من أخرجها سوى ما ذكره هنا، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

والحديث بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى تمام البحث فيه قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4456]

(. . .) - (حَدَّثنَا قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْر، عَنِ الصُّنَابِحِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِت، أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي لَمِنَ النَّقَبَاءِ

(2)

الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللهِ شَيْئًا، وَلَا نَزْنيَ، وَلَا نَسْرِقَ، وَلَا نَقْتُلَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلَا نَنْتَهِبَ، وَلَا نَعْصِيَ، فَالْجَنَّةُ إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ، فَإِنْ غَشِينَا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، كَانَ قَضَاءُ ذَلِكَ إِلَى الله، وَقَالَ ابْنُ رُمْحٍ: كَانَ قَضَاؤُهُ إِلَى اللهِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ) أبو رجاء المصريّ، ثقة فقيه، يرسل [5](ت 128) وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

(1)

"علل الحديث في كتاب الصحيح" 1/ 102 - 103.

(2)

وفي نسخة: "إني من النقباء".

ص: 672

2 -

(أَبُو الْخَيْرِ) مرثد بن عبد الله الْيَزَنيّ المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ [3](ت 90)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

3 -

(الصُّنَابِحِيُّ) عبد الرحمن بن عُسيلة المراديّ، أبو عبد الله، ثقة، من كبار التابعين، قدم المدينة بعد موت النبيّ صلى الله عليه وسلم بخمسة أيام [2] مات في خلافة عبد الملك (ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 150.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل خمسة أبواب.

وقوله: (إِنِّي لَمِنَ النُّقَبَاءِ) وفي بعض النسخ: "من النقباء" بحذف اللام، وهو بضمِّ النون: جمع نقيب، وهو الناظر على القوم، وضمينهم، وعَريفهم، يقال: نَقَبَ على قومه ينقُب نِقابةً، مثل كتب يكتُب كتابةً: إذا صار نقيبهم، وهو العريف

(1)

.

وقوله: (وَلَا نَنْتَهِبَ) الانتهاب هو: الغلبة على المال والقهر، وقال ابن بطال رحمه الله في تفسير حديث:"نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن النُّهْبَى": الانتهاب المحرَّم هو ما كانت العرب عليه من الغارات، وعليه وقعت البيعة في حديث عبادة رضي الله عنه.

وقال ابن المنذر رضي الله عنه: النهبة المحرّمة أن ينهب مالَ الرجل بغير إذنه، وهو له كاره، وأما المكروه فهو ما أَذِن صاحبه للجماعة، وأباحه لهم، وغرضهم تساويهم فيه، أو تقاربهم، فيغلب القويّ على الضعيف.

وقال الخطابيّ رحمه الله: معلوم أن أموال المسلمين محرمة، فيُؤَوَّل هذا في الجماعة يغزون، فإذا غَنِموا انتهبوا، وأَخَذ كل واحد ما وقع بيده مستأثِرًا به، من غير قسمة، وقد يكون ذلك في الشيء تشاع الهبة فيه، فينتهبون على قدر قوتهم، وكذلك الطعام يُقَدَّم إليهم، فلكل واحد أن يأكل مما يليه بالمعروف، ولا ينتهب، ولا يستلب من عند غيره، وكذلك كَرِهَ من كره أخذ النثار في عقود الأملاك ونحوه.

وقال الحسن، والنخعيّ، وقتادة: معنى الحديث: النهبة المحرَّمة، وهي أن ينتهب مال الرجل بغير إذنه.

واختَلَف العلماء فيما يُنْثَر على رؤوس الصبيان، وفي الأعراس، فتكون

(1)

راجع: "عمدة القاري" 1/ 250.

ص: 673

فيها النهبة، فكرهه مالك، والشافعيّ، وأجازه الكوفيون، وإنما كُرِه؛ لأنه قد يأخذ منه من لا يحبّ صاحب الشيء أَخْذه، ويجب أخْذ غيره، وما حُكِي عن الحسن أنَّه كان لا يرى بأسًا بالنهب في العرسات، والولائم، وكذلك الشعبيّ فيما رواه ابن أبي شيبة عنه، فليس من النهبة المحرَّمة، وكذا حديث عبد الله بن قُرْط عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال في البُدن التي نَحَرها:"من شاء اقتَطَعَ"

(1)

. قال الشافعيّ: صار ملكًا للفقراء؛ لأنه خلى بينه وبينهم.

وأما ما رُوي عن عون بن عمارة، وعصمة بن سليمان، عن لِمَازة بن المغيرة، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان في إملاك، فجاءت الجواري معهنّ الأطباق، عليها اللوز والسكر، فأمسك القوم أيديهم، فقال:"ألا تنتهبون؟ " قالوا: إنك كنت نهيتنا عن النُّهبة، قال:"تلك نُهبة العساكر، فأما العرسان فلا"، قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاذبهم، ويجاذبونه.

فقال البيهقيّ: عون، وعصمة لا يُحتج بحديثهما، ولِمَازة مجهول، وابن معدان عن معاذ منقطع.

وقال الشافعيّ: فان أخذ آخذ لا تُجرح شهادته؛ لأنَّ كثيرًا يزعم أن هذا مباح؛ لأنَّ مالكه إنما طرحه لمن يأخذه، وأما أنا فأكرهه لمن أخذه، وكان أبو مسعود الأنصاريّ يكرهه، وكذلك إبراهيم، وعطاء، وعكرمة، ومالك، وذكر ابن قدامة أنَّه يجب القطع على المنتهب قبل القسمة، وحُكِي عن داود أنَّه يرى القطع على من أخذ مال الغير، سواء أخذه من حرز، أو من غير حرز، أفاده في "العمدة"

(2)

.

وقوله: (وَلَا نَعْصِيَ) بالعين، والصاد المهملتين، قال في "الفتح": وقع في بعض النسخ: "ولا نقضي" بقاف وضاد معجمة، وهو تصحيف، وقد تكلف بعض الناس في تخريجه، وقال: إنه نهاكم عن ولاية القضاء، ويبطله أن

(1)

حديث صحيح: أخرجه أبو داود في "سننه" 2/ 148.

(2)

راجع: "عمدة القاري" 13/ 35، كتاب "المظالم" رقم (2474).

ص: 674

عبادة رضي الله عنه ولي قضاء فلسطين في زمن عمر رضي الله عنه، وقيل: إن قوله: "بالجنة" متعلق بـ"نقضي"؛ أي: لا نقضي بالجنة لأحد معيّن.

قال الحافظ: لكن يبقى قوله: "إن فعلنا ذلك" بلا جواب، ويكفي في ثبوت دعوى التصحيف فيه رواية مسلم عن قتيبة بالعين والصاد المهملتين، وكذا الإسماعيليّ عن الحسن بن سفيان، ولأبي نعيم من طريق موسى بن هارون، كلاهما عن قتيبة، وكذا هو عند البخاريّ أيضًا في هذا الحديث في "الديات"، عن عبد الله بن يوسف، عن الليث، في معظم الروايات، لكن عند الكشميهنيّ بالقاف والضاد أيضًا، وهو تصحيف، كما بيّنّاه، وقوله:"بالجنة" إنما هو متعلّق بقوله في أوله: "بايعناه"، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقوله: (فَالْجَنَّةُ) مبتدأ خبره محذوف؛ أي: فلنا الجنّة (إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ) جواب الشرط مقدّر دلّ عليه ما قبله؛ أي: فلنا الجنة.

وتقدّم أنَّه وقع في رواية البخاريّ في "المناقب" بلفظ: "بالجنّة إن فعلنا ذلك"، وعليه فالجارّ والمجرور متعلّق بـ"بايعناه" أول الحديث.

وقوله: (فَإِنْ غَشِينَا) بكسر الشين، من باب تَعِب؛ أي: إن فعلنا من هذه الأشياء شيئًا.

وقوله: (كَانَ قَضَاءُ ذَلِكَ إِلَى اللهِ)؛ يعني: كان حكمه إلى الله، وهو بمعنى قوله الماضي:"فأمْره إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذّبه".

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(12) - (بَابٌ جَرْحُ الْعَجْمَاء، وَالْمَعْدِن، وَالْبِئْرِ جُبَارٌ)

" الْعَجْماء" - بفتح العين المهملة، وسكون الجيم - تأنيث الأعجم، وهي البهيمة، ويقال أيضًا لكل حيوان غير الإنسان، ويقال لمن لا يُفصِح، والمراد هنا الأوّل، وسُمّيت البهيمة عجماء؛ لأنها لا تتكلّم

(2)

.

(1)

"الفتح" 1/ 132، كتاب "الإيمان" رقم (18).

(2)

"الفتح" 4/ 363، كتاب "الزكاة" رقم (1499).

ص: 675

و"المعدن" - بفتح الميم، وكسر الدال - كمَجلِسٍ: مَنْبِتُ الجواهر، من ذَهَب ونحوه، سمّي به لإقامة أهله فيه دائمًا، أو لإنبات الله تعالى إياه فيه، ومكان كلّ شيء فيه أصله، أفاده في "القاموس"

(1)

.

وفي "المصباح": عَدَنَ بالمكان عَدْنًا، وعُدُونًا، من بابي ضرب، وقَعَد: أقام، ومنه:{جَنَّاتُ عَدْنٍ} [الرعد: 23]؛ أي: جنّات إقامة، واسم المكان مَعْدِنٌ، مثالُ مَجْلِسٍ؛ لأنَّ أهله يُقيمون عليه الصيف والشتاء، أو لأنَّ الجوهر الذي خلقه الله فيه عَدَنَ به. قال في "مختصر العين": مَعْدِنُ كلّ شيءٍ حيث يكون أصله. وعَدَنت الإبل تَعْدِنُ، وتَعْدُنُ: أقامت ترعى الْحَمْضَ، وعَدَن - بفتحتين -: بلدٌ باليمن، مشتقّ من ذلك، وأُضيف إلى بانيه، فقيل: عدنُ أَبْيَن. انتهى

(2)

.

و"الركاز" - بكسر الراء، وتخفيف الكاف، وآخره زايٌ -: المال المدفون في الجاهليّة، فِعَالٌ بمعنى مفعولٍ، كالبساط بمعنى المبسوط، والكتاب بمعنى المكتوب، وهو مأخوذ من الرَّكْز - بفتح الراء - يقال: رَكَزَ الرمحَ رَكْزًا، من باب قتل: أثبته في الأرض، فارتكز، والْمَرْكِزُ وزان مسجد: موضع الثبوت؛ أي: كنوز الجاهليّة المدفونة في الأرض، أفاده في "المصباح"

(3)

.

وقال في "الصحاح": دَفِين أهل الجاهلية، كأنه رُكز في الأرض؛ أي: غُرِز. وقال في "المحكم": قِطَعُ ذهب وفضّة، تُخرَج من الأرض، أو المعدن. وقال في "المشارق": وهو عند أهل الحجاز من الفقهاء، واللغويين: الكنوز، وعند أهل العراق: المعادن؛ لأنها رُكزت في الأرض؛ أي: ثَبَتت.

وقال الإمام الهرويّ في "غريبه": اختَلَف أهل العراق، وأهل الحجاز في تفسير الركاز، قال أهل العراق: هو المعادن، وقال أهل الحجاز: هو كنوز أهل الجاهليّة، وكلٌّ محتمَل في اللغة. انتهى.

وقال في "النهاية": الركاز عند أهل الحجاز: كنوز الجاهليّة المدفونة في الأرض، وعند أهل العراق: المعادن، والقولان تحتملهما اللغة؛ لأنَّ كلًّا

(1)

"القاموس المحيط" ص 848.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 397.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 237.

ص: 676

منهما مركوز في الأرض؛ أي: ثابت، يقال: ركزه يَرْكُزُه رَكْزًا: إذا دفنه، والحديث إنما جاء في التفسير الأوّل، وهو الكنز الجاهليّ، وإنما كان فيه الخُمس؛ لكثرة نفعه، وسهولة أخذه. انتهى.

وقال ابن العربيّ: حقيقة الركز الإثبات، والمعدن ثابت خلقةً، وما يُدفن ثابثٌ بتكلّف مُتَكَلِّف.

وقال الحافظ وليّ الدين: هذا الحديث يدلّ على إرادة دَفِين الجاهليّة أيضًا؛ لكونه صلى الله عليه وسلم عطف الركاز على المعدن، وفرَّق بينهما، وجعل لكلّ منهما حُكمًا، ولو كانا بمعنى واحد لجَمع بينهما، وقال: والمعدن جُبار، وفيه الخُمس، وقال: والركاز جُبار، وفيه الخمس، فلمّا فرّق بينهما دلّ على تغايرهما. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن جمهور أهل العلم على أن الركاز هو دِفنُ الجاهليّة، وفيه الخمس، وأما المعدن ففيه الزكاة إذا بلغ نصابًا، وسيأتي البحث عنه فيه قريبًا - إن شاء الله تعالى -.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4457]

(1710) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّب، وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

وكلّهم تقدّموا قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيَّين، هما من الفقهاء السبعة، وفيه أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا.

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 4/ 20 - 21.

ص: 677

شرح الحديث:

(عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّب، وَأَبِي سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف، قال في "الفتح": كذا جمعهما الليث، ووافقه الأكثر، واقتَصَر بعضهم على أبي سلمة. ووقع عند البخاريّ في "الزكاة" من رواية مالك، عن ابن شهاب، فقال: عن سعيد بن المسيِّب، وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وهذا قد يُظَنُّ أنَّه عن سعيد مرسل، وعن أبي سلمة موصول، وقد أخرجه مسلم، والنسائيّ، من رواية يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيِّب، وعبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة، قال الدارقطنيّ: المحفوظ عن ابن شهاب، عن سعيد وأبي سلمة، وليس قول يونس بمدفوع.

قال الحافظ: قد تابعه الأوزاعيّ، عن الزهريّ في قوله: عن عبيد الله، لكن قال: عن ابن عباس بدل أبي هريرة، وهو وَهَمٌ من الراوي عنه يوسف بن خالد، كما نبَّه عليه ابن عديّ.

وقد رَوَى سفيان بن حسين، عن الزهريّ، عن سعيد وحده، عن أبي هريرة شيئًا منه.

ورَوَى بعض الضعفاء عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، عن أنس بعضه، ذكره ابن عديّ، وهو غلط.

وأخرج مسلم الحديث بتمامه من رواية الأسود بن العلاء، عن أبي سلمة.

وقد رواه عن أبي هريرة جماعة غيرُ من ذُكِر، منهم: محمَّد بن زياد كما عند البخاريّ في "الديات"، وهمام بن منبه. أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائيّ. انتهى

(1)

.

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا) قال صاحب "النهاية": هو هنا - بفتح الجيم - على المصدر، لا غيرُ، قاله الأزهريّ، فأما الْجُرح بالضمّ فهو الاسم. انتهى

(2)

.

(1)

"الفتح" 16/ 117 - 118، كتاب "الديات" رقم (6912).

(2)

"النهاية" 1/ 255.

ص: 678

وقال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: يجوز في إعراب قوله: "الْعَجْماءُ جرحها جُبَار" وجهان:

أحدهما: أن يكون قوله: "جَرْحُها جُبَار" جملةً من مبتدإ وخبر، وهي خبر عن المبتدإ الذي هو "العجماءُ".

والثاني: أن يكون قوله: "جَرْحُها" بدلًا من "المعجماء"، وهو بدل اشتمال، والخبر قوله:"جُبَار"، والكلام جملة واحدة، والمصدر في قوله:"جَرْحها" مضاف للفاعل؛ أي: كون العجماء تَجْرح غير مضمون. انتهى

(1)

.

والمراد بجَرحها ما يحصل من تعدّي العجماء من الجراحة، وليست الجراحة مخصوصة بذلك، بل كل الإتلافات ملحقة بها، قال القاضي عياض

(2)

وجماعة: إنما عبّر بالجرح؛ لأنه الأغلب، أو هو مثالٌ نَبَّهَ به على ما عداه، والحكم في جميع الإتلاف بها سواء كان على نَفْس، أو مال سواءٌ.

(جُبَارٌ) - بضم الجيم، وتخفيف الموحدة - هو الْهَدَر الذي لا شيء فيه، كذا أسنده ابن وهب، عن ابن شهاب، وعن مالك: ما لا دية فيه، أخرجه الترمذيّ، وأصله أن العرب تُسَمِّي السيل جُبَارًا؛ أي: لا شيء فيه، وقال الترمذيّ: فَسَّر بعض أهل العلم، قالوا: العجماء الدابة المنفلتة من صاحبها، فما أصابت من انفلاتها فلا غُرْم على صاحبها، وقال أبو داود بعد تخريجه: العجماء التي تكون مُنفلتة لا يكون معها أحد، وقد تكون بالنهار، ولا تكون بالليل.

ووقع عند ابن ماجه في آخر حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: "والعجماء: البهيمة من الأنعام وغيرها، والْجُبَار: هو الهدر الذي لا يُغْرَم، كذا وقع التفسير مُدرجًا، وكأنه من رواية موسى بن عقبة.

قال الحافظ العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذيّ": وليس ذِكر الجرح قيدًا، وإنما المراد به إتلافها بأيّ وجه، سواء كان بجرح، أو غيره.

وفي رواية البخاريّ من طريق محمَّد بن زياد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 4/ 17.

(2)

"الإكمال" 5/ 553.

ص: 679

النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"العجماء عَقْلُها جُبار. . ." الحديث، والمراد بالعقل: الدية؛ أي: لا دية فيما تُتْلِفُه.

وذكر ابن العربيّ أن بناء (ج ب ر) للرفع، والإهدار، من باب السلب، وهو كثير، يأتي اسم الفعل، والفاعل لسلب معناه، كما يأتي لإثبات معناه.

وتعقبه العراقيّ في "شرح الترمذيّ" بأنّه للرفع على بابه؛ لأنَّ إتلافات الآدميّين مضمونة مقهور مُتلِفها على ضمانها، وهذا إتلاف قد ارتفع عن أن يؤخذ به أحد. انتهى

(1)

.

(وَالْبِئْرُ جُبَارٌ) في رواية الأسود بن العلاء الآتية: "والبئر جرحها جبار"، أما البئر فهي بكسر الموحدة، ثمَّ ياء ساكنة مهموزة، ويجوز تسهيلها، وهي مؤنثة، وقد تُذَكَّر على معنى القَلِيب، والطُّوَى، والجمع أبؤر، وآبار بالمد والتخفيف، وبهمزتين بينهما موحدة ساكنة، قال أبو عبيد: المراد بالبئر هنا: العادية القديمة التي لا يُعْلَم لها مالك، تكون في البادية، فيقع فيها إنسان، أو دابة فلا شيء في ذلك على أحد، وكذلك لو حَفَر بئرًا في مُلكه، أو في موات فوقع فيها إنسان، أو غيره فتَلِف فلا ضمان، إذا لم يكن منه تسبّب إلى ذلك، ولا تغريرٌ، وكذا لو استأجر إنسانًا؛ ليحفر له البئر، فانهارت عليه فلا ضمان، وأما من حفر بئرًا في طريق المسلمين، وكذا في مُلك غيره بغير إذن فتلف بها إنسان، فإنَّه يجب ضمانه على عاقلة الحافر، والكفارة في ماله، وإن تلف بها غير آدميّ وجب ضمانه في مال الحافر، ويلتحق بالبئر كل حُفْرة على التفصيل المذكور، قاله في "الفتح".

قال ابن بطال رحمه الله

(2)

: وخالف الحنفية في ذلك، فضمَّنوا حافر البئر مطلقًا؛ قياسًا على راكب الدابة، ولا قياس مع النصّ، وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة السادسة - إن شاء الله تعالى -.

وقال ابن العربيّ رحمه الله: اتَّفَقَت الروايات المشهورة على التلفظ بالبئر، وجاءت رواية شاذّة بلفظ:"النار جُبار" بنون، وأَلِف ساكنة قبل الراء، ومعناه

(1)

راجع: "طرح التثريب" 4/ 17.

(2)

"شرح البخاريّ" لابن بطال رحمه الله 8/ 559.

ص: 680

عندهم: أن من استوقد نارًا مما يجوز له، فتعدَّت حتى أتلفت شيئًا فلا ضمان عليه، قال: وقال بعضهم: صحَّفها بعضهم؛ لأنَّ أهل اليمن يكتبون النار بالياء، لا بالألف، فظَنّ بعضهم البئر الموحدة النار بالنون، فرواها كذلك.

قال الحافظ: هذا التأويل نقله ابن عبد البر وغيره عن يحيى بن معين، وجزم بأن معمرًا صحَّفه، حيث رواه عن همام، عن أبي هريرة، قال ابن عبد البرّ: ولم يأت ابن معين على قوله بدليل، وليس بهذا تُرَدُّ أحاديث الثقات.

قال الحافظ: ولا يُعْتَرَض على الحفاظ الثقات بالاحتمالات، ويؤيد ما قال ابن معين اتفاق الحفاظ من أصحاب أبي هريرة على ذكر البئر دون النار، وقد ذكر مسلم رحمه الله في "مقدّمة صحيحه" أن علامة المنكَر في حديث المحدِّث أن يَعْمِد إلى مشهور بكثرة الحديث والأصحاب، فيأتي عنه بما ليس عندهم، وهذا من ذاك، ويؤيده أيضًا أنَّه وقع عند أحمد من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ:"والْجُبّ جُبار" بجيم مضمومة، وموحدة ثقيلة، وهي البئر، وقد اتفق الحفاظ على تغليط سفيان بن حسين حيث رَوَى عن الزهريّ في حديث الباب:"الرِّجْل جُبَار" بكسر الراء، وسكون الجيم، وما ذاك إلا أن الزهري مُكثِر من الحديث والأصحاب، فتَفَرَّد سفيانُ عنه بهذا اللفظ، فَعُدَّ منكرًا، وقال الشافعيّ: لا يصحّ هذا، وقال الدارقطنيّ: رواه عن أبي هريرة: سعيد بن المسيِّب، وأبو سلمة، وعبيد الله بن عبد الله، والأعرج، وأبو صالح، ومحمد بن زياد، ومحمد بن سيرين، فلم يذكروها، وكذلك رواه أصحاب الزهريّ، وهو المعروف.

نَعَمْ الحُكم الذي نقله ابن العربي صحيح، ويمكن أن يتلقى من حيث المعنى من الإلحاق بالعجماء، ويلتحق به كل جماد، فلو أن شخصًا عَثَرَ فوقع رأسه في جدار فمات، أو انكسر، لم يجب على صاحب الجدار شيء. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي في اعتراض الحافظ على الإمام

(1)

"الفتح" 16/ 119، كتاب "الديات" رقم (6912).

ص: 681

ابن عبد البرّ رحمه الله في تعقّبه ابنَ معين، بما نقله عن الإمام مسلم نظرٌ، وذلك لأنه لم يَنقُل كلام الإمام مسلم رحمه الله على وجهه، فوقع على غير ما أراده مسلم، ودونك ملخّص عبارته في "صحيحه"، قال:

"وعلامة المنكَر في حديث المحدِّث إذا ما عُرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا، خالفت روايته روايتهم، أو لم تكد توافقها، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث، غير مقبوله، ولا مُستَعمَلِه، إلى أن قال: لأنَّ حُكم أهل العلم، والذي نَعرِف من مذهبهم في قبول ما يتفرّد به المحدِّث من الحديث أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم، والحفظ في بعض ما رووا، وأمعن في ذلك على الموافقة لهم، فإذا وُجد كذلك، ثمَّ زاد بعد ذلك شيئًا ليس عند أصحابه، قُبلت زيادته، فأما من تراه يَعمِد لمثل الزهريّ في جلالته، وكثرة أصحابه الحفّاظ المتقنين لحديثه، وحديث غيره، أو لمثل هشام بن عروة، وحديثُهما عند أهل العلم مبسوطٌ، مشتركٌ، قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثره، فيروي عنهما، أو عن أحدهما العدَدَ من الحديث، مما لا يعرفه أحدٌ من أصحابهما، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح، مما عندهم فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس". انتهى كلام مسلم رحمه الله باختصار.

فأنت ترى أن مسلمًا شَرَط ليكون ما يتفرّد به الراوي منكَرًا أن يكون المتفرّد ممن ليس يشارك الثقات في روايات ما يروونه من الصحيح، فهذا هو الذي يكون منكرًا، وأما إذا كان يشارك الثقات فيما يروونه، أو في بعضه، فإن ما يتفرّد به على أصحابه يكون مقبولًا، ومعلوم أن معمرًا أحد الأثبات المتقنين الذين رووا عن الزهريّ، ويشارك أصحابه الأثبات في رواياتهم عنه، فإذا انفرد عن أصحابه بشيء، فإنَّه يكون مقبولًا، على ما أوضحه الإمام مسلم، في كلامه المذكور.

والحاصل أنّ معمرًا من الصنف الثاني، لا من الأوّل، فلا يكون ما تفرّد به منكرًا.

ومن الغريب تشبيهه مخالفةَ معمر بمخالفة سفيان حسين، فإن معمرًا من الحفّاظ المتقنين من أصحاب الزهريّ، كما بيّناه آنفًا، وسفيان من ضعفاء

ص: 682

أصحابه بالاتّفاق، فكيف يُشبّه أحدهما بالآخر، إن هذا لشيء عجيبٌ.

والحاصل أن ما قاله الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله له وجه وجيه فيما أراه، والله تعالى أعلم.

(وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ)؛ أي: هَدَرٌ، وليس المراد أنَّه لا زكاة فيه، وإنما المعنى أن من استأجر رجلًا للعمل في معدن مثلًا، فهلك فهو هَدَرٌ، ولا شيء على من استأجره.

ووقع في رواية الأسود بن العلاء الآتية: "والمعدن جَرْحها جُبار"، والحكم فيه ما تقدم في البئر، لكن البئر مؤنثة، والمعدن مذكَّر، فكأنه ذَكَرَه بالتأنيث للمؤاخاة، أو لملاحظة أرض المعدن، فلو حَفَر معدنًا في مُلكه، أو في موات، فوقع فيه شخص فمات، فدمه هَدَرٌ، وكذا لو استأجر أجيرًا يَعْمَل له، فانهار عليه فمات، ويلتحق بالبئر والمعدن في ذلك كل أجير على عمل، كمن استؤجر على صعود نخلة، فسقط منها فمات.

وقال ابن قُدامة رحمه الله: اشتقاق المعدن، من عَدَن بالمكان يَعدِنُ: إذا أقام به، ومنه سمِّيت الجنّة جنّة عدن؛ لأنها دار إقامة، وخلود. قال أحمد: المعادن: هي التي تُستَنبَط، ليس هو شيء دُفِن. وقال أيضًا: هو كلّ ما خرج من الأرض، مما يُخلق فيها، مما له قيمة، كالذهب، والفضّة، والرصاص، والصُّفْر، والحديد، والياقوت، والزبرجد، والْبِلَّوْر، والعقيق، ونحوها، وكذلك المعادن الجارية، كالقار، والنفط، والكبريت، ونحو ذلك.

فمن أخرج شيئًا من ذلك فعليه الزكاة من وقته، عند أحمد، وقال مالك، والشافعيّ: لا تتعلّق الزكاة إلا بالذهب والفضّة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا زكاة في حَجَر".

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه أحمد هو الأرجح عندي؛ لعموم قوله تعالى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} الآية [البقرة: 267]، والحديث الذي احتجّ به مالكٌ، والشافعيّ ضعيف، لا يصلح للاحتجاج به؛ لأنه رواه عن عمرو بن شعيب، كلٌّ من عُمَر بن أبي عمر الكَلَاعِيّ، وعثمان بن عبد الرحمن الوقّاصيّ، ومحمد بن عبيد الله العَرْزَميّ، وكلهم ضعفاء. وأوجب الحنفيّة في المعدن الخُمس؛ لأنه عندهم ركاز، والصحيح أن

ص: 683

الواجب فيه الزكاة، كما هو قول الجمهور؛ لأنَّ الحديث فرَّق بينهما، فجعل لكلّ منهما حُكمًا ليس للآخر، فلا يكون أحدهما بمعنى الآخر، كما سيأتي بيان ذلك قريبًا، فتنبّه.

(وَفِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ")"الركاز" - بكسر الراء، وتخفيف الكاف، وآخره زاي -: المال المدفون، مأخوذ من الرَّكْز - بفتح الراء - يقال: رَكَزه يَرْكُزُه رَكْزًا - من باب نصر -: إذا دفنه، فهو مركوز، قاله في "الفتح"

(1)

.

فقوله: (الْخُمْسُ) مبتدأ مؤخّر، خبره الجارّ والمجرور قبله؛ أي: الخمس واجب في الموجود في القرية الغير العامرة، وفي الكنوز التي دفنها أهل الجاهليّة، وإنما وجب الخمس فيهما لكثرة نفعهما، وسُهولة أخذهما.

وقال في "الفتح": ذهب الجمهور إلى أن الركاز هو المال المدفون، لكن حصره الشافعية فيما يوجد في الموات، بخلاف ما إذا وجده في طريق مسلوك، أو مسجد فهو لقطة، وإذا وجده في أرض مملوكة، فإن كان المالك الذي وجده فهو له، وإن كان غيره فإن ادَّعاه المالك فهو له، وإلا فهو لمن تلقاه عنه إلى أن ينتهي الحال إلى من أحيى تلك الأرض، قال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد رحمه الله: من قال من الفقهاء بأن في الركاز الخمس إما مطلقًا، أو في أكثر الصور فهو أقرب إلى الحديث، وخصّه الشافعيّ أيضًا بالذهب والفضة، وقال الجمهور: لا يختص، واختاره ابن المنذر، واختلفوا في مصرفه، فقال مالك، وأبو حنيفة، والجمهور: مصرفه مصرف خُمس الفيء، وهو اختيار المزنيّ، وقال الشافعيّ في أصح قوليه: مصرفه مصرف الزكاة، وعن أحمد روايتان، وينبني على ذلك ما إذا وجده ذميّ فعند الجمهور يُخرج منه الخمس، وعند الشافعيّ لا يؤخذ منه شيء، واتفقوا على أنَّه لا يشترط فيه الحول، بل يجب إخراج الخمس في الحال، وأغرب ابن العربيّ في "شرح الترمذيّ، فحَكَى عن الشافعيّ الاشتراط، ولا يُعرف ذلك في شيء من كُتبه، ولا من كُتب أصحابه. انتهى

(2)

.

(1)

"الفتح" 4/ 361.

(2)

"الفتح" 4/ 363 - 364، كتاب "الزكاة" رقم (1499).

ص: 684

وقال ابن قُدامة رحمه الله: والأصل في صدقة الركاز هذا الحديث المتّفق عليه، قال: وهو أيضًا مجمع عليه، قال ابن المنذر: لا نعلم أحدًا خالف هذا الحديث، إلا الحسن، فإنَّه فرَّق بين ما يوجد في أرض الحرب، وأرض العرب، فقال: فيما يوجد في أرض الحرب الخُمس، وفيما يوجد في أرض العرب الزكاة، وأوجب الخمس في الجميع: الزهريّ، والشافعيّ، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأبو ثور، وابن المنذر، وغيرهم. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 4457 و 4458 و 4459 و 4460 و 4461](1710)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1499) و"الشرب"(2355) و"الديات"(6912)، و (أبو داود) في "الإمارة"(3085)، و (الترمذيّ) في "الزكاة"(642) و"الأحكام"(1377)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(5/ 45) و"الكبرى"(2/ 23 - 24 و 3/ 423 - 424)، و (ابن ماجه) في "الديات"(2673)، و (مالك) في "الموطّأ"(677)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 248)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2305)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(18373)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(9/ 271)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1079)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 495 و 501)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 137 و 440)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 393 و 2/ 196)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2326)، و (ابن حبَّان) في "صحيحه"(6005 و 6006)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1157)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 168 و 201)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 437 و 459 و 461)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 203)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 156 و 157 و 158 و 159)، و (الدارقطنيّ) في

(1)

"المغني" لابن قُدامة 5/ 231 - 232.

ص: 685

"سننه"(3/ 149 - 150)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 155 و 8/ 110)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1586)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن ما أتلفته البهائم لا شيء فيه، على تفصيل للعلماء فيه، سيأتي.

2 -

(ومنها): أن من حفر بئرًا في مُلكه، أو في محلّ مباح، كالموات، فتَلِف إنسان، أو نحوه، فلا ضمان عليه.

3 -

(ومنها): أن من استخرج معدنًا من محلّ يباح له، فتلف بسببه إنسان، أو نحوه فلا ضمان عليه.

4 -

(ومنها): أن من وجد ركازًا وجب عليه أداء خُمسه، ثمَّ الباقي له، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): ظاهر الحديث أنَّه لا فرق بين أن تكون البهيمة منفردةً، أو معها صاحبها، وبهذا أخذ أهل الظاهر، فلم يُضمِّنوا صاحبها ولو كان معها، إلا إن كان الفعل منسوبًا إليه بأن حملها على ذلك الفعل فيما إذا كان راكبًا، أو قادها حتى أتلفت ما مشت عليه فيما إذا كان قائدًا، أو حملها عليه بضرب، أو نَخْس، أو زَجْر فيما إذا كان سائقًا، فإن أتلفت شيئًا برأسها، أو بعَضِّها، أو ذَنَبها، أو نفحتها بالرِّجل، أو ضربت بيدها في غير المشي، فليس من فعله، فلا ضمان عليه.

وقال الشافعية: متى كان مع البهيمة شخصٌ، فعليه ضمان ما أتلفته، من نفس، أو مالٍ، سواء أتلفت ليلًا أو نهارًا، وسواء كان سائقها، أو قائدها، أو راكبها، وسواء كان مالكها، أو أجيره، أو مستأجِرًا، أو مستعيرًا، أو غاصبًا، وسواء أتْلَفت بيدها، أو برجلها، أو عَضِّها، أو ذَنَبها.

وقال مالك: القائد، والسائق، والراكب، كلهم ضامنون لِمَا أصابت الدّابّة إلا أن تَرْمَحَ الدابّة من غير أن يُفعل بها شيء ترمح له. وحكاه ابن عبد البرّ عن جمهور العلماء.

وقال الحنفيّة: إن الراكب، والقائد لا يضمنان ما نفحت الدابّة برجلها، أو ذَنَبها، إلا إن أوقفها في الطريق، واختلفوا في السائق، فقال القُدُوريّ،

ص: 686

وآخرون: إنه ضامن لِمَا أصابت بيدها، أو رجلها؛ لأنَّ النفحة بمرأى عينه، فأمكنه الاحتراز عنها. وقال أكثرهم: لا يضمن النفحة أيضًا، وإن كان يراها؛ إذ ليس على رجلها ما يمنعها به، فلا يمكنه التحرّز عنه، بخلاف الْكَدْم؛ لإمكان كبحِهَا بلجامها. وصححه صاحب "الهداية". وكذا قال الحنابلة: إن الراكب لا يضمن ما تُتلفه البهيمة برجلها.

وحكى ابن حزم نفي الضمان من النفحة عن شُريح القاضي، والحسن البصريّ، وإبراهيم النخعيّ، ومحمد بن سيرين، وعطاء بن أبي رَبَاح، وعن الحَكَم، والشعبيّ: يضمن، لا يَبْطُل دم المسلم.

وتمسّك من نَفَى الضمان من النفحة بعموم هذا الحديث، مع الرواية التي فيها:"الرِّجْلُ جُبار". لكنه ضعيف؛ لتفرّد سفيان بن حسين، عن الزهريّ، وهو ضعيف في الزهريّ، ولا سيّما مع مخالفته للحفاظ، فقد خالف أبا صالح، السمّان، وعبد الرحمن الأعرج، وابن سيرين، ومحمد بن زياد، وغيرهم، فإنهم لم يذكروا الرِّجْل.

وذكروا أيضًا من حيث المعنى أنَّه لا اطلاع له على رَمْحِها، ولا قدرة له على دفعه.

ومن أوجب الضمان قال: باب الإتلاف لا فرق فيه بين العمد وغيره، ومن هو مع البهيمة حاكم لها، فهي كالآلة بيده، فَفِعلها منسوب إليه، حَمَلَها عليه، أم لا، عَلِمَ به، أم لم يعلم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه الظاهرية أرجح؛ لظهور حديث الباب في الدلالة عليه.

وحاصله أن ما أتلفته البهيمة لا يُضمَن، سواء كان صاحبها معها، أم لا، إلا إذا كان الفعل منسوبًا إليه، بأن حَمَلها على ذلك الفعل بضرب، أو نَخْسٍ، أو زَجْر، أو نحو ذلك، فأما إذا أتلفت شيئًا برأسها، أو بعَضِّها، أو ذَنَبها، أو نَفْحَتها بالرجل، أو ضربت بيدها في غير المشي، فليس من فعله، فلا ضمان عليه؛ لكونه جُبَارًا بنصّ الشَّارع، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): استُدِلّ بهذا الحديث على أنَّه لا فرق في إتلاف

ص: 687

البهيمة للزروع، وغيرها من الأموال بين أن يكون ذلك ليلًا أو نهارًا، وهو قول الحنفيّة، والظاهريّة.

وقال الجمهور: إنما يسقط الضمان إذا كان ذلك نهارًا، وأما بالليل، فإن عليه حفظها، فإذا أتلفت بتقصير منه وجب عليه ضمان ما أتلفت.

ودليل هذا التخصيص ما أخرجه الشافعيّ، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه كلهم من رواية الأوزاعيّ، والنسائيُّ أيضًا، وابن ماجه من رواية عبد الله بن عيسى، والنسائيُّ أيضًا من رواية محمَّد بن ميسرة، وإسماعيل بن أميّة، كلهم عن الزهريّ، عن حرام بن مُحَيِّصة الأنصاريّ، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: كانت له ناقةٌ ضارية، فدخلت حائطًا، فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها، وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها، وأن على أهل المواشي ما أصابت ماشيتهم بالليل".

وأخرج ابن ماجه أيضًا من رواية الليث، عن الزهريّ، عن ابن محيّصة: أن ناقة للبراء، ولم يسمّ حَرَام.

وأخرج أبو داود من رواية معمر، عن الزهريّ، فزاد فيه رجلًا، قال:"عن حرام بن محيّصة، عن أبيه". وكذا أخرجه مالكٌ، والشافعيّ عنه، عن الزهريّ، عن حرام بن سَعْد بن محيّصة أن ناقة.

وأخرجه الشافعيّ في رواية المزنيّ، في "المختصر" عنه، عن سفيان، عن الزهريّ، فزاد مع حرام سعيدَ بنَ المسيّب، قالا:"إن ناقة للبراء". وفيه اختلاف آخر أخرجه البيهقيّ من رواية ابن جُريج، عن الزهريّ، عن أبي أمامة بن سهل، فاختُلِفَ فيه على الزهريّ على ألوان، والْمُسنَد منها طريق حرام، عن البراء.

وحرام - بمهملتين - اختُلِف، هل هو ابن محيّصة نفسه، أو ابن سَعْد بن محيّصة؟ قال ابن حزم: وهو مع ذلك مجهول، لم يرو عنه إلا الزهريّ، ولم يوثَّق.

قال الحافظ: قلت: قد وثّقه ابن سعد، وابن حبَّان، لكن قال: إنه لم يسمع من البراء. انتهى.

وعلى هذا فيحتمل أن يكون قول من قال فيه: "عن البراء"؛ أي: عن

ص: 688

قصّة ناقة البراء، فتجتمع الروايات. ولا يمتنع أن يكون للزهريّ فيه ثلاثة أشياخ.

وقد قال ابن عبد البرّ: هذا الحديث، وإن كان مرسَلًا، فهو مشهور، حدّث به الثقات، وتلقّاه فقهاء الحجاز بالقبول. وأما إشارة الطحاويّ إلى أنَّه منسوخ بحديث الباب، فقد تعقّبوه بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، مع الجهل بالتاريخ.

وأقوى من ذلك قول الشافعيّ: أخذنا بحديث البراء لثبوته، ومعرفة رجاله، ولا يخالفه حديث:"العجماءُ جرحها جُبَار"؛ لأنه من العامّ المراد به الخاصّ، فلما قال:"العجماء جبار"، وقضى فيما أفسدت العجماء بشيء في حال دون حال، دلّ ذلك على أن ما أصابت العجماء من جرح وغيره في حالٍ جُبَار، وفي حال غير جُبار.

ثمَّ نقض على الحنفيّة أنهم لم يستمرّوا على الأخذ بعمومه في تضمين الراكب بحديث: "الرِّجْلُ جبار" مع ضعف راويه، كما تقدَّم.

وتَعَقَّب بعضهم على الشافعيّة قولَهُم: إنه لو جرت عادة قوم بإرسال المواشي ليلًا، وحبسها نهارًا انعكس الحكم على الأصحّ.

وأجابوا بأنهم اتبعوا المعنى في ذلك، ونظيره القَسْم الواجب للمرأة لو كان يكتسب ليلًا، ويأوي إلى أهله نهارًا لانعكس الحكم في حقّه، مع أن عماد القَسْم بالليل. نعم لو اضطربت العادة في بعض البلاد، فكان بعضهم يرسلها ليلًا، وبعضهم يرسلها نهارًا، فالظاهر أنَّه يُقضى بما دلّ عليه الحديث. ذكره في "الفتح".

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه الجمهور هو الأرجح عملًا بالحديثين، وحديث البراء، وإن كان الأصحّ أنَّه مرسل، إلا أنَّه اعتضد بتلقّي الناس له بالقبول - كما تقدَّم عن الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله فتقوّى بذلك، ألا ترى أن الإمام الشافعيّ رحمه الله، مع كونه لا يرى الاحتجاج بالمرسل، احتجّ به؛ لاعتضاده بما ذُكر، فَيُخَصّ به عموم حديث الباب:"العجماء جرحها جبار".

والحاصل أن البهائم إذا أفسدت بالليل، فإن أصحابها يَضْمَنون، وإذا

ص: 689

أفسدت بالنهار لا يضمنون، لحديث البراء رضي الله عنه المذكور، وهذا الجمع أولى من إلغاء أحد الحديثين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): فيما يتعلّق بقوله: "وفي الركاز الخمس"، وفيه مباحث:

(الأوّل): أن الركاز الذي يتعلّق به وجوب الخُمس هو ما كان من دِفْن الجاهليّة، هذا قول الحسن، والشعبيّ، ومالك، والشافعيّ، وأبي ثور، ويُعتبر ذلك بأن تُرى عليه علاماتهم؛ كأسماء ملوكهم، وصُوَرهم، وصُلُبهم، وصور أصنامهم، ونحو ذلك، فإن كان عليه علامات الإِسلام، أو اسم النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو أحدٌ من خلفاء المسلمين، أو وَالٍ لهم، أو آية من القرآن، ونحو ذلك، فهو لُقَطة؛ لأنه مُلك مسلم، لم يُعلَم زواله عنه، وإن كان على بعضه علامة الإِسلام، وعلى بعضه علامة الكفر، فكذلك، كما نَصّ عليه أحمد في رواية عنه؛ لأنَّ الظاهر أنَّه صار إلى مسلم، ولم يُعلم زواله عن ملك المسلمين، فأشبه ما على جميعه علامة المسلمين. ذكره ابن قدامة رحمه الله، والله تعالى أعلم.

(الثاني): الكلام في موضع الركاز: وذلك أن موضعه لا يخلو من أربعة أقسام:

(أحدهما): أن يجده في موات، أو ما لا يُعلم له مالك، مثل الأرض التي يوجد فيها آثار المُلْك، كالأبنية القديمة، والتُّلُول، وجُدْران الجاهليّة،

وقبورهم. فهذا فيه الخمس بغير خلاف، سوى ما سبق عن الحسن.

(ثانيها): أن يجده في ملكه المنتَقِلِ إليه، فهو له في إحدى الروايتين عن أحمد، لأنه مال كافر مظهورٌ عليه في الإِسلام، فكان لمن ظهر عليه كالغنائم.

والرواية الثانية أنَّه للمالك قبله، إن اعترف به، وإن لم يعترف به فللذي قبله، إلى أول مالك، وهو مذهب الشافعيّ؛ لأنَّ يده كانت على الدار، فكانت على ما فيها.

(ثالثها): أن يجده في مُلك آدميّ مسلم معصوم، أو ذميّ. فعن أحمد ما يدلّ على أنَّه لصاحب الدار، وهو قول أبي حنيفة، ومحمد بن الحسن. ونُقل عن أحمد ما يدلّ على أنَّه لواجده، وهو قول الحسن بن صالحٍ، وأبي ثور، واستحسنه أبو يوسف. وقال الشافعيّ: هو لمالك الدار، إن اعترف به، وإلا فلأول مالك؛ لأنه في يده.

ص: 690

(رابعها): أن يجده في أرض الحرب، فإن لم يَقْدِر عليه إلا بجماعة من المسلمين، فهو غنيمة لهم، وإن قَدَر عليه بنفسه، فهو لواجده، وهذا مذهب أحمد؛ لأنه ليس لموضعه مالك محترم، فأشبه ما لو لم يُعرَف مالكه. وقال أبو حنيفة، والشافعيّ: إن عُرف مالك الأرض، وكان حربيًّا، فهو غنيمة أيضًا؛ لأنه في حرزِ مالك معيّن، فأشبه ما لو أخذه من بيت، أو خزانة. والله تعالى أعلم بالصواب.

(الثالث): في صفة الركاز الذي فيه الخُمس:

هو كلّ ما كان مالًا على اختلاف أنواعه، من الذهب، والفضّة، والحديد، والرصاص، والصفر، والنحاس، والآنية، وغير ذلك. وهو قول إسحاق، وأبى عُبيد، وابن المنذر، وأصحاب الرأي، وإحدى الروايتين عن مالك، وأحد قولي الشافعيّ، والقول الآخر: لا تجب إلا في الأثمان.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الجمهور هو الأرجح؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "وفي الركاز الخمس"، والله تعالى أعلم بالصواب.

(الرابع): في حكم الخمس المتعلّق به:

(اعلم): أنَّه يخمَّس قليل الركاز، وكثيره. وهو قول أبي حنيفة، ومالك، وأحمد، وهو قول قديم للشافعيّ، ومن أصحابه من لم يُثبته. وحكاه ابن المنذر عن إسحاق، وأبي عبيد، وأصحاب الرأي. وقال الشافعيّ في الجديد: يُعتبر فيه النصاب، فلا تجب الزكاة فيما دونه، إلا إذا كان في مُلكه ما يكمّله من جنس النقود الموجود. قال ابن المنذر: القول الأوّل أولى بظاهر الحديث، وبه قال جلّ أهل العلم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله ابن المنذر حسنٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(الخامس): في قَدْر الواجب في الركاز، ومصرفه:

أما قدره فهو الخمس؛ للحديث السابق، وللإجماع، وأما مصرفه، فقيل: هم مصارف الزكاة، وبه قال أحمد، والشافعيّ. وقيل: مصرفه مصرف الفيء، وهي رواية عن أحمد، قال ابن قُدامة: وهذه الرواية أصحّ، وأقْيَس على مذهبه.

ص: 691

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وهو الذي يترجّح عندي؛ لإطلاق اسم الخمس عليه، والله تعالى أعلم بالصواب.

(السادس): فيمن يجب عليه الخمس:

هو كلّ مَنْ وجده مِنْ مسلم، وذميّ، وحرّ، وعبد، ومكاتَب، وكبير، وصغير، وعاقل، ومجنون. وهو قول أكثر أهل العلم. قال ابن المنذر: أجمع كلّ من نحفظ عنه العلم على أنّ على الذميّ في الركاز يجده الخمسَ.

قاله مالكٌ، وأهل المدينة، والثوريّ، والأوزاعيّ، وأهل العراق، من أصحاب الرأي، وغيرهم. وقال الشافعيّ: لا يجب الخُمس إلا على من تجب عليه الزكاة؛ لأنه زكاة. وحُكي عنه في الصبيّ، والمرأة أنهما لا يملكان الركاز. وقال الثوريّ، والأوزاعيّ، وأبو عبيد: إذا كان الواجد له عبدًا يُرضَخ له منه، ولا يعطاه كلّه.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: المذهب الأوّل هو الأرجح عندي؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "وفي الركاز الخمس"، فإنَّه يدلّ بعمومه على وجوب الخمس في كلّ ركاز، وأن باقيه لواجده، أيًّا كان، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4458]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعبد الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ، كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ - يَعْنِي: ابْنَ عِيسَى - حَدَّثَنَا مَالِكٌ، كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيّ، بِإِسْنَادِ اللَّيْث، مِثْلَ حَدِيثِهِ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدَّم قبل بابين.

2 -

(عبد الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ) الباهليّ مولاهم، أبو يحيى البصريّ المعروف بالنَّرْسيّ، ثقةٌ من كبار [10](ت 6 أو 237)(خ م د) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدَّم قريبًا.

4 -

(إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى) بن نَجِيح البغداديّ، أبو يعقوب ابن الطبّاع،

ص: 692

سكن أَذَنَةَ، صدوقٌ [9](ت 214) أو بعدها بسنة (م ت س ق) تقدم في "الكسوف" 3/ 2110.

5 -

(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، تقدَّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ) يعني: أن شيوخه الأربعة رووا هذا الحديث عن سفيان بن عيينة.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ) ضمير التثنية لسفيان بن عيينة، ومالك بن أنس.

[تنبيه]: رواية ابن عيينة، عن الزهريّ، ساقها أبو داود رحمه الله في "سننه"، فقال:

(4593)

- حدّثنا مسدّد، ثنا سفيان، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيِّب وأبي سلمة، سمعا أبا هريرة يحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"العجماء جَرْحها جبار، والمعدن جبار، والبئر جبار، وفي الركاز الخمس".

قال أبو داود: العجماء: المنفلتة التي لا يكون معها أحد، وتكون بالنهار لا تكون بالليل. انتهى

(1)

.

وساقها أيضًا ابن الجارود رحمه الله في "المنتقى"، ولفظه:

(372)

- حدّثنا ابن المقرئ، قال: ثنا سفيان، قال: أوّلَ ما رأيت الزهريّ سألته عن هذا الحديث، فحدَّثني، قال: ثني سعيد، وأبو سلمة، أنهما سمعا أبا هريرة رضي الله عنه يحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"العجماء جرحها جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس". انتهى

(2)

.

وأما رواية مالك عن الزهريّ، فساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(1428)

- حدّثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيِّب، وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"العجماء جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس". انتهى

(3)

، الله تعالى أعلم.

(1)

"سنن أبي داود" 4/ 196.

(2)

"المنتقى" لابن الجارود 1/ 101.

(3)

"صحيح البخاري" 2/ 545.

ص: 693

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4459]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، وَحَرْمَلَةُ، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّب، وَعُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الله، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

وكلهم تقدّموا قريبًا، و"يونس" هو: ابن يزيد الأيليّ، و"عبيد الله بن عبد الله" هو: ابن عتبة بن مسعود.

[تنبيه]: رواية يونس بن يزيد، عن الزهريّ هذه ساقها الدارقطنيّ رحمه الله في "سننه"، فقال:

(207)

- نا أبو بكر النيسابوريّ، نا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، حدثني عمي (ح) ونا أبو بكر، نا يونس بن عبد الأعلى، نا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن ابن المسيِّب، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"العجماء جرحها جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس".

قال ابن شهاب: والجبار: الْهَدَرُ، والعجماء: البهيمةُ، قال أبو بكر: لا أعلم أحدًا ذكر في إسناده عبيد الله بن عبد الله غير يونس بن يزيد. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد أشبع الدارقطنيّ رحمه الله الكلام في هذه الرواية في كتابه "العلل"، ودونك نصّه:

(1814)

- وسئل عن حديث سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"العجماء جرحها جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس".

فقال: يرويه الزهريّ، واختُلف عنه، فرواه ابن جريج، وليث بن سعد، وسفيان بن عيينة، عن الزهريّ، عن أبي سلمة وحده، عن أبي هريرة، وقيل: عنه، عن الزهريّ، عن سعيد، وكذلك قال زمعة بن صالح، والزُّبيديّ، واختُلِف عن يونس بن يزيد، فرواه شبيب بن سعيد، عن يونس، عن الزهريّ

(1)

"سنن الدارقطنيّ" 3/ 151.

ص: 694

عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة، وخالفه ابن وهب، رواه عن يونس، عن الزهريّ، عن سعيد وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي هريرة، ورواه إسحاق بن راشد، عن الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله وحده، عن أبي هريرة، والصحيح عن الزهريّ، عن سعيد وأبي سلمة، وحديثه عن عبيد الله غير مدفوع؛ لأنه قد اجتَمَع عليه اثنان، والله أعلم.

ثنا ابن مبشر، ثنا أحمد بن سنان القطان، ثنا موسى بن داود (ح) وثنا النيسابوريّ، ثنا محمَّد بن عبد الله بن عبد الحكم، أخبرني أبي، وشعيب بن الليث (ح) وثنا النيسابوريّ، حدّثني يوسف بن سعيد، ثنا حجاج، قالوا: ثنا الليث، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيِّب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"العجماء جرحها جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس".

قال النيسابوريّ في حديثه: حدّثني ابن شهاب، ثنا إبراهيم بن حماد، ثنا محمَّد بن جوان، ثنا خالد بن مخلد، ثنا مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيِّب، وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"جرح العجماء جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس".

ثنا النيسابوريّ، ثنا الربيع بن سليمان، أنبأ الشافعيّ، أنبأ مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيِّب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بنحوه.

ثنا إبراهيم بن حماد، قال: ثنا أبو عتبة أحمد بن الفرج، حدّثني الزُّبيديّ، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"العجماء جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس".

ثنا أبو بكر النيسابوريّ، ثنا يونس بن عبد الأعلى، أنبا ابن وهب، أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن ابن المسيِّب، وعبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"العجماء جَرْحها جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس".

قال ابن شهاب: الْجُبَار: الْهَدَر، والعجماء: البهيمة.

ص: 695

فقال: يرويه يزيد بن إبراهيم التستريّ، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة، وقال ذلك عبد الوهاب الثقفيّ، عن يزيد، ولا يصح عن أبي هريرة، وإنما رواه محمَّد بن سيرين، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، قال ذلك عبد الوهاب الثقفيّ، ومعتمر، عن أيوب، وغيرهما يرويه عن ابن سيرين، عن أبي بكرة، وحديث أبي بكرة هو المحفوظ. انتهى كلام الدارقطنيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث مفيد جدًّا، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4460]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِر، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ الْعَلَاء، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عبد الرَّحْمَن، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "الْبِئْرُ جَرْحُهَا جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جَرْحُهُ جُبَارٌ، وَالْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ، وَفِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى) الأمويّ، أبو موسى المكيّ، تقدَّم قريبًا.

2 -

(الأَسْوَدُ بْنُ الْعَلَاءِ) بن جارية - بالجيم - الثقفيّ، ويقال له: سويد، ثقةٌ [6].

رَوَى عن أبي سلمة، وعمرة بنت عبد الرحمن، ومولى لسليمان بن عبد الملك.

وروى عنه أيوب بن موسى، وجعفر بن ربيعة، وعبد الحميد بن جعفر، وابن أبي ذئب.

قال أبو زرعة: شيخ، ليس بالمشهور، وقال النسائي في "التمييز": ثقةٌ، وكذا قال العجليّ، وذكره ابن حبَّان في "الثقات"، وقال: من قال العلاء بن الأسود بن جارية فقد وَهِمَ، يشير إلى أن بعضهم قَلَبه، وأشار البخاريّ في "التاريخ" إلى أنَّه يقال له أيضًا: سُوَيد.

تفرّد به المصنّف، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا حديثان فقط،

(1)

"العلل الواردة في الأحاديث النبوية" للدارقطنيّ 9/ 387، 10/ 26.

ص: 696

هذا برقم (1710)، وحديث (2907):"لا يذهب الليل والنهار حتى تُعبد اللات. . .".

والباقون ذُكروا في الباب.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديثين، ولله الحمد والمنة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:

[4461]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلَّامٍ الْجُمَحِيُّ، حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ - يَعْنِي: ابْنَ مُسْلِمٍ - (ح) وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلَّامٍ الْجُمَحِيُّ) مولاهم، أبو حرب البصريّ، صدوقٌ [10](ت 231) أو بعدها (م) من أفراد المصنّف تقدم في "الإيمان" 100/ 526.

2 -

(الرَّبِيعُ بْنُ مُسْلِمٍ) الْجُمحيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [7](167)(بخ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 100/ 526.

3 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) العنبريّ البصريّ، تقدَّم قريبًا.

4 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ العنبريّ البصريّ، تقدَّم أيضًا قريبًا.

5 -

(مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ) الْجُمحيّ مولاهم، أبو الحارث المدنيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ ثبتٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 92/ 500.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل بابين.

[تنبيه]: رواية الربيع بن مسلم، عن محمَّد بن زياد ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(6353)

- حدّثنا الفضل بن الْحُبَاب، قثنا عبد الرحمن بن بكر بن الربيع بن مسلم، قال: سمعت الربيع بن مسلم يقول: سمعت محمَّد بن زياد يقول: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "العجماء جبار، والبئر

ص: 697

جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس". انتهى

(1)

.

ورواية شعبة، عن محمَّد بن زياد ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(9883)

- حدّثنا محمَّد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن محمَّد بن زياد، قال: سمعت أبا هريرة يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العجماء جَرحها جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس". انتهى

(2)

.

وقال أحمد أيضًا:

(9858)

- حدّثنا حجاج، ثنا شعبة، عن محمَّد بن زياد، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "العجماء جرحها جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس".

قال شعبة: ما سمعت أحدًا يقول: "الركائز" غيره. انتهى

(3)

.

وساقها البخاريّ أيضًا في "صحيحه"، لكن بلفظ:"العجماء عَقْلُها جبار"، فقال:

(6515)

- حدّثنا مسلم، حدّثنا شعبة، عن محمَّد بن زياد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"العجماء عَقْلُها جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس". انتهى

(4)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمَّد ابن الشيخ العلامة عليّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة:

قد انتهيتُ من كتابة الجزء التاسع والعشرين من "شرح صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحرَ المحيطَ الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج"

(1)

"مسند أبي عوانة" 4/ 156.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 456.

(3)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 454.

(4)

"صحيح البخاريّ" 6/ 2533.

ص: 698

وقت الضحى يوم الجمعة المبارك، وهو اليوم الثالث عشر من شهر شوال المبارك (13/ 10/ 1430 هـ) الموافق (2 أكتوبر 2009 م).

أسأل الله العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رءوف رحيم.

وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية [الأعراف: 43].

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180: 182].

"اللهم صلّ على محمَّد، وعلى آل محمَّد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمَّد، وعلى آل محمَّد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام على النبيّ ورحمة الله وبركاته".

ويليه - إن شاء الله تعالى - الجزء الثلاثون مفتتحًا بـ 29 - (كِتَابُ الأَقْضِيَةِ)، (1) - (بَابٌ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ) رقم [4462](1711).

"سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".

ص: 699